مفرج الكروب في أخبار بني أيوب

ابن واصل

مقدمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدّمة الناشر (1) ترجع صلتى بهذا الكتاب «مفرّج الكروب» إلى سبعة عشر عاما مضت منذ عرّفنى به ولفت نظرى إلى أهميته أستاذى المؤرخ المحقق الدكتور محمد مصطفى زيادة عند ما كنت أعدّ بحثا تحت إشرافه موضوعه «تاريخ اليمن تحت حكم بنى أيوب (¬1)» ثم شغلت عن الكتاب والبحث مؤقتا بأعمال علمية أخرى، ولكننى كنت دائم الرجوع إليه والإقبال على قراءته والإفادة منه، وفى كل مرة كنت أرجع إليه فيها كانت تتأكد لدى أهميته القصوى كمصدر أساسى لدراسة تاريخ بنى أيوب بصفة خاصة ودراسة تاريخ الشرق الأدنى ودوله جميعا في القرنين السادس والسابع بصفة عامة وهما قرنان حافلان بالأحداث العالمية الهامة وخاصة الحروب الصليبية وغارات التتار. وكانت تداعب مخيلتى دائما أمنية عزيزة هى أن أتمكن يوما ما من التوفر على دراسة هذا الكتاب وإعداده للنشر، فلما حصلت على الماجستير، وبدأت أتخير موضوع بحثى الذى أعدّه للدكتوراه اتجه ذهنى في الحال إلى «مفرّج الكروب» وكان أن أعددت بحثى للحصول على هذه الدرجة العلمية وعنوانه «جمال الدين بن واصل وكتابه مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب»، وقمت فيه بدراسة حياة هذا المؤرخ الكبير وجهوده العلمية دراسة تحليلية دقيقة مع العناية بوجه خاص بكتابه «مفرّج الكروب». ¬

(¬1) أرجو أن أوفق لاخراج هذا البحث قريبا.

فلما انتهيت من هذه الدراسة بدأت أفرغ لتحقيق أمنيتى القديمة وهى إعداد النص نفسه للنشر، وها أنذا اليوم أقدّم للقارئ الجزء الأوّل من هذا التاريخ الكبير الهام. (2) ولا ينتظرنّ القارئ منى هنا أن أقدّم له تلك الدراسة التحليلية التي أعددتها عن المؤرخ والكتاب، فسيكون موضعها بإذن الله المجلد الأخير من هذه النشرة، وإنما أنا سأوجز هنا فكرة سريعة للتعريف بابن واصل ولبيان موضوعات هذا الجزء الأوّل ولشرح منهجى الذى التزمته في نشر الكتاب. جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل المازنى التميمى الحموى الشافعى مؤرخ كبير من مؤرخى القرن السابع الهجرى (13 م) ولد مع مولد هذا القرن، وتوفى قبيل نهايته (604 - 697 هـ‍ - 1208 - 1298 م). وطنه الأصلى حماة، ولكنه طوّف في بلدان الشرق الأدنى الكبرى وعواصمه، وخاصة دمشق وبيت المقدس وحلب والكرك وبغداد ومكة والمدينة والقاهرة، وأقام في عاصمة مصر سنوات طويلة في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، وشهد أثناء مقامه في مصر حملة لويس التاسع الصليبية عليها، واحتضار الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك، وما عاصر ذلك من غزوات التتار للعراق والشام وسقوط بغداد، وانتهاء الخلافة العباسية على أيديهم، ثم انتقالها إلى القاهرة؛ ثم اتصل بالظاهر بيبرس وأرسل سفيرا عنه إلى منفرد بن فردريك الثانى ملك الصقليتين وامبراطور الدولة الرومانية المقدسة. ولابن واصل مؤلفات كثيرة في الأدب والهندسة وعلم الهيئة والطب والتاريخ، ضاع معظمها وبقى بعضها مبعثرا في مكتبات العالم المختلفة ينتظر من يعنى بدراسته وإحيائه؛ ولعل أهم مؤلفاته جميعا - ما ضاع منها وما بقى - كتابه التاريخى الكبير «مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب» الذى أرّخ فيه للدولة الأيوبية منذ قيامها إلى نهايتها في تفصيل واف وتحقيق شامل دقيق، ولا غرو فقد اتصل بمعظم ملوكهم في الشام ومصر، وبمعظم رجال الدولة وأدبائها وعلمائها في القطرين؛ فالحوادث التي يرويها - وخاصة في القسم الثانى من الكتاب - يرويها عن مشاهدة حينا

وعن مشاركة فيها حينا آخر؛ ولهذا كان كتابه الأصل والمرجع الذى أخذ عنه كل المؤرخين اللاحقين له في القرون التالية (الثامن والتاسع والعاشر) عند تأريخهم للدولة الأيوبية. (3) وموضوع كتاب «مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب». كما يتضح من عنوانه ومحتوياتها التأريخ لدولة بنى أيوب منذ قيامها إلى زوالها، وقد أرّخ لصدر الدولة وسنواتها الأولى مؤرخون سابقون لابن واصل، كما أرّخ لها حتى نهايتها مؤرخون معاصرون له، فما قيمة «مفرّج الكروب» وما مكانته بين تلك الكتب؟ أرّخ لصدر الدولة من المؤرخين السابقين: القاضى الفاضل في مياوماته (أو متجدّداته)، وفى رسائله. والعماد الكاتب الأصفهانى في: الفتح القسى في الفتح القدسى، والبرق الشامى، والعتبى والعقبى، وخطفة البارق وعطفة الشارق. وعز الدين بن الأثير في الكامل في التاريخ. وبهاء الدين بن شداد في السيرة اليوسفية. وابن أبى الدم في التاريخ المظفرى. وأرّخ للدولة - حتى سنواتها الأخيرة، أو حتى نهايتها - من المؤرخين المعاصرين لابن واصل: سبط ابن الجوزى في مرآة الزمان. وكمال الدين بن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب. وأبو شامة في الروضتين في أخبار الدولتين، والذيل على الروضتين. وكتاب «مفرّج الكروب» لابن واصل يمتاز - كتاريخ كامل لبنى أيوب - عن هذه الكتب جميعا، وذلك لأن بعض هذه الكتب أرّخ لصدر الدولة وسنواتها الأولى، أو لمنشئها ومؤسسها، أو للنصف الأوّل منها فحسب؛ والبعض الآخر لم يقصد مؤلفوه إلى التأريخ لبنى أيوب قصدا، وإنما هى تواريخ عامة، أو تواريخ

مدن، منهجها التأريخ للعالم الإسلامى جملة، سنة بعد سنة، وما تضمنته من تاريخ بنى أيوب جزء من كل. وكتاب «مفرّج الكروب» كتاب ضخم مفصل كل التفصيل، فهو بحق أوفى تاريخ لدولة بنى أيوب، وهو إلى هذا قد أفاد من معظم من كتبوا قبله عن هذه الدولة، كما أنه أضاف - وخاصة عند كتابته عن النصف الثانى من تاريخ الدولة - الكثير من مشاهداته وتجاريبه ورواياته عن المعاصرين. وقد أرّخ لبنى أيوب مؤرخون آخرون لاحقون لابن واصل، نعرف منهم مؤرخين اثنين: أولهما مجهول الاسم، عاش في القرن الثامن الهجرى، وعنوان كتابه: «غاية المطلوب في تاريخ بنى أيوب»، وهو مفقود، وإنما يوجد ملخص له عنوانه: «تاريخ نزهة الناظر وراحة الخاطر»، والملخص مجهول أيضا، وإنما يتبين من كتابه أنه ألفه بعد سنة 778 هـ‍ (1376) (¬1)، وعنى فيه عناية خاصة بالتأريخ لملوك بنى أيوب أصحاب حصن كيفا، وأنه اعتمد فيه كثيرا على مفرّج الكروب لابن واصل. وأما الثانى فهو قاضى القضاة عز الدين أبو البركات أحمد بن ابراهيم ابن نصر الله ابن أحمد الكنانى العسقلانى المصرى الحنبلى، ولد بالقاهرة في السادس من ذى القعدة سنة 800 هـ‍، وأخذ التاريخ عن المقريزى والعينى، وتوفى سنة 876 هـ‍ (¬2)، وعنوان كتابه: «شفاء القلوب في مناقب بنى أيوب» ألفه لمن يسمى العادل من ملوك الأيوبيين المتأخرين في حصن كيفا، وهو يختلف عن «مفرّج الكروب» في ترتيبه ومنهجه، لأنه جعله كتاب تراجم لا حوليات، فقسم ملوك بنى أيوب طبقات، وترجم لهم طبقة بعد طبقة، وقد شرح طريقته في مقدّمة كتابه، قال: «قاعدة الكتاب: أذكر أوّلا أصل البيت الأيوبى. . . ثم نتبعه بذكر التراجم على الطبقات، فالطبقة الأولى أولاد شادى، والثانية أولاد أولاده، والثالثة أولاد أولاد أولاده، ¬

(¬1) توجد من «نزهة الخاطر» نسخة مخطوطة في Viennc,MX +325 : انظر: Cahen : La Syrie du nord . . .etc . P. 88. (¬2) انظر ترجمته في: (السخاوى: الضوء اللامع، ج 1، ص 205 - 207) و (الدكتور مصطفى جواد: مؤرخون مصريون مجهولون، مجلة المستمع العربى، المجلد السادس، العدد 8، سنة 1945).

وكذا إلى آخر الكتاب؛ وأقدم من الأخوة أسبقهم موتا، ثم أتبعهم بمن لم أعلم وفاته، ثم أتبعهم بأخوتهم النساء كذلك، ثم أذكر أولادهم في الطبقة التي تلى طبقتهم على حسب ترتيب أصولهم كذلك، وكذا إلى آخر الكتاب. . .» (¬1) وهذا أيضا قد اعتمد اعتمادا كبيرا على ابن واصل. فهذان الكتابان ولو أنهما يؤرخان للدولة الأيوبية كمفرّج الكروب، إلا أنهما لاحقان له ومتأخران عنه، فهما لا يتطاولان إلى مرتبته، لأبن ابن واصل معاصر، وهذان غير معاصرين، ولأن ابن واصل مفصل وهما موجزان، ولأن ابن واصل الأصل، وهما الفرع، وعنه يأخذان، وعليه يعتمدان اعتمادا كبيرا؛ وكل ما لهذين التاريخين المتأخرين عليه من مميزات أنهما يتضمنان الترجمة لبقايا بنى أيوب الذين ظلوا يحكمون في حماة أو في حصن كيفا في القرنين الثامن والتاسع. ومن هذه المقارنات جميعا يتضح لنا أن مكانة مفرّج الكروب بين الكتب التي أرّخت لبنى أيوب قبل ابن واصل وبعده لا يمكن أن تدانيها مكانة كتاب آخر من هذه الكتب. وتزداد معرفتنا بقيمة «مفرّج الكروب» إذا علمنا أن جميع المؤرخين المتأخرين الذين عاشوا بعد القرن السابع الهجرى أمثال: بيبرس المنصورى، واليونينى، وشافع بن على، وقرطائى العزى الخازندارى، وأبى الفدا، والنويرى، والذهبى، وابن الفرات، والمقريزى، والعينى، وابن تغرى بردى، والنعيمى، قد اعتمدوا عليه عند التأريخ لبنى أيوب اعتمادا كبيرا، ونقلوا عنه النصوص الكثيرة مع التصريح بالأخذ عنه أحيانا، والسكوت عن ذلك أحيانا أخرى. (4) ذكر هذا الكتاب الصفدى في «نكت الهميان» (¬2)، والسيوطى في «بغية الوعاة» (¬3) تحت عنوان: «مفرّج الكروب» في دولة بنى أيوب» وذكره أبو الفدا في: «المختصر في أخبار البشر» (¬4) وحاجى خليفة في «كشف الظنون» (¬5) ¬

(¬1) شفاء القلوب، صور شمسية بمكتبة جامعة فؤاد الأول، رقم 24030، ص 3 ب. (¬2) ص 250 (¬3) ص 44 (¬4) ج 4، ص 38 (¬5) ج 2، ص 772 ا.

المعروف حتى الآن أنه يوجد من هذا الكتاب فى مكتبات العالم أربع نسخ خطية

والزركلى في «الاعلام» (¬1)، وبروكلمان في «تاريخ الآداب العربية» (¬2) تحت عنوان «مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب». والعنوان الثانى هو الصحيح، لأنه هو الذى اختاره ابن واصل لكتابه، فقد قال في المقدمة: «وسميته مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب» (¬3). وقد عرف هذا الكتاب في بعض المؤلفات الحديثة باسم «تاريخ الواصلين»، وهو عنوان خاطئ تحمله نسخة باريس رقم 1702، وسنناقش هذه التسمية الخاطئة فيما يلى عند تحليلنا لنسخ الكتاب. (5) المعروف حتى الآن أنه يوجد من هذا الكتاب في مكتبات العالم أربع نسخ خطية: 1 - نسخة مكتبة جامعة كمبروج رقم 1079 وتوجد منها صور شمسية بمكتبة جامعة فؤاد الأوّل رقم 24050، (وقد رمزنا لها في هذه النشرة بالحرف ك)، وتتكوّن من مجلد واحد يشتمل على الجزء الأوّل من الكتاب، فقد كتب على الصفحة الأولى منه: الجزء الأوّل من مفرج الكروب في تواريخ بنى أيوب ويلى العنوان سطر كان يحمل اسم المؤلف، غير أنه يبدو أن ورقة صغيرة قد ألصقت عليه لإخفائه، وتحت هذا السطر «رحمه الله تعالى» مما يجعلنا نرجح أن هذه النسخة قد كتبت قطعا بعد وفاة المؤلف أي في القرن الثامن الهجرى. ¬

(¬1) ج 3، ص 897 (¬2) Vol .I,P 322. (¬3) مقدمة نسخة كامبردج، ولاحظ أن كاتب هذه النسخة قد أحدث تغييرا بسيطا في العنوان عند إثباته على الغلاف فكتبه هكذا «مفرج الكروب في تواريخ بنى أيوب». أما العنوان في نسخة مللا جلبى فهو «مفرج الكروب في أخبار ملوك بنى أيوب».

2 - نسخة باريس رقم 1702

وجاء في ص 600 وهى آخر صفحة في هذا المجلد: «وبذلك تم الجزء الأول من مفرّج الكروب في تاريخ بنى أيوب»، ولم يثبت الناسخ بعد هذا تاريخ الانتهاء من كتابة هذا الجزء، إذ العادة أن يثبت التاريخ في نهاية الجزء الأخير من الكتاب. ويتكوّن هذا المجلد من 600 صفحة، بطول 18 سم وعرض 14 سم، وعدد السطور في كل صفحة 21 سطرا. وهذه النسخة كاملة منتظمة الترتيب لا خرم فيها، تشتمل على الحوادث متتابعة سنة بعد أخرى، وتنتهى بالانتهاء من حوادث سنة 616 هـ‍ (أي السنة التي مات فيها العادل الأوّل، وتولى فيها الكامل محمد حكم مصر). وتمتاز هذه النسخة على غيرها من النسخ الأخرى باحتوائها على مقدّمة المؤلف نفسه، ومنها عرفنا منهجه في تأليف هذا الكتاب والسبب الذى دفعه إلى تأليفه، ولمن ألفه. وهذه النسخة هى الأصل الذى اعتمدناه هنا لنشر هذا الجزء الأوّل من الكتاب. 2 - نسخة باريس رقم 1702 وتوجد منها صور شمسية بدار الكتب المصرية بالقاهرة، رقم 5319، وصور أخرى بمكتبة جامعة الاسكندرية رقم 64 وقد رجعنا إلى صفحات منها لضبط النص وتصحيحه عند نشر هذا الجزء الأوّل المطبوع من الكتاب ورمزنا لها بالحرف (س). وهذه النسخة تشتمل على الكتاب كله - عدا ما بها من خروم - وتتكوّن من مجلدين، ولا ذكر فيها لتقسيم الكتاب إلى أجزاء، وإنما هذا تقسيم المجلد لضخامة الكتاب، وتحتوى هذه النسخة على 442 ورقة (أي 884 صفحة) قسمت مناصفة على المجلدين، فكل منهما يحتوى على 221 ورقة، طول كل صفحة 17 سم، وعرضها 12 سم، وعدد السطور في كل صفحة 21 سطرا. وهذه النسخة أحدث النسخ جميعا تاريخا، فقد كتبت في القرن التاسع الهجرى (سنة 821 هـ‍)، وهى أقلها جميعا قيمة لما بها من خروم أضاعت من النص صفحات كثيرة، ولما أصاب الصفحات الباقية عند تجليدها وترقيمها من اضطراب غريب يجعل متابعة النص أمرا عسيرا جدا، وهى أخيرا قد خضعت لتغييرات كثيرة،

أحدثها - فيما نرجح - كاتب النسخة؛ وقد أصابت هذه التغييرات العنوان؛ والمقدمة، والمتن. أما العنوان فهو في هذه النسخة: تاريخ الواصلين في أخبار الخلفاء والملوك والسلاطين تأليف كاتبه ومؤلفه ويلى هذا السطر الأخير سطران آخران يحملان اسم المؤلف ووظيفته، وقد امحت معظم حروفهما، وقد استطعنا قراءتهما فإذا بهما «شمس الدين كاتب السر»، وهو نفس الاسم الوارد في حرد الكتاب في آخر صفحة من هذه النسخة، فالنص هناك: «. . . وكان الفراغ منه يوم الخميس المبارك حادى عشر محرم سنة إحدى وعشرين [و] ثمانمائة، ختمت بالخير والحسن على يد الفقير شمس الدين أحمد بن أحمد بن محمد الزينى، كاتب السر لحضرة مولا [نا] السلطان برقوق أدام الله عزه وأنصاره». وقد لاحظت أن الخط الذى كتب به لفظا «تاريخ الواصلين» على الغلاف يختلف عن الخط الذى كتب به بقية العنوان واسم المؤلف؛ فالخط الذى كتب البيانات الأخيرة أحدث من الخط الذى كتب اللفظين الأوّلين، مما جعلنى أرجح أن هذه البيانات أضيفت عند ضم الكتاب إلى المكتبة الأهلية بباريس، وأن مضيفها أخذها عن المقدّمة والخاتمة، فقد ظن - اعتمادا على ما جاء في الخاتمة - أن كاتب النسخة هو مؤلفها. أما المقدّمة فتوحى بشئ آخر، توحى بأن كاتب النسخة أراد أن ينسب الكتاب لنفسه، فغير العنوان الأصلى «مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب»، واختار له عنوانا جديدا هو «تاريخ الواصلين في أخبار الخلفاء والملوك والسلاطين» - وهو العنوان الذى أضافه المضيف على الغلاف -. وأبعد هذا المغتصب مقدّمة المؤلف، وحذف القسم الأوّل من الكتاب الخاص بدولة الأتابكة، وأوضح أن منهجه التأريخ للحوادث من سنة 530 إلى سنة 680، ولست أدرى لم اختار سنة 530 بالذات بدءا لتاريخه. وقد أوضح هذا كله في مقدمته التي اصطنعها للكتاب مكان مقدّمة المؤلف، قال: «. . . وبعد، فهذا كتاب جمعت فيه أخبار الملوك والخلفاء والسلاطين، وما حدث في أيامهم وأوقاتهم ودولتهم

من النصارى واليهود والفرس والروم، مبينا ذلك بالتفصيل والقول الصحيح، وسميته: «تاريخ الواصلين في أخبار الخلفاء الملوك والسلاطين»، مبتديا من سنة ثلاثين بعد الخمسمائة إلى ثمانين وستمائة، وهو نعم الوكيل. . .» (¬1). والعجيب أن موضوع الكتاب لا يحقق هذه الأهداف التي أعلنها الناسخ في مقدمته، فهو أوّلا وأخيرا تاريخ لملوك بنى أيوب. وقد أردت بعد هذا التعرف على شخصية هذا الناسخ المغتصب فأعيانى البحث، بل لقد أثار البحث أمامى مشكلات جديدة. فالمؤرخ - كما يتضح من حرد الكتاب - من رجال القرن التاسع الهجرى، فمن المرجح إذن أن يكون قد ترجم له السخاوى في «الضوء اللامع» لأنه كان يشغل وظيفة هامة من وظائف الدولة - وهى كتابة السر -، والسخاوى يترجم للكثيرين ممن لم يكن لهم ذكر أو شأن كالتجار والصناع والفقراء والصوفية وغيرهم. ومع هذا فلم أجد لشمس الدين أحمد ابن أحمد الزينى ترجمة في الضوء اللامع. ورجعت إلى قائمة كتاب السر التي أوردها كاملة القلتشندى (¬2)، وابن تغرى بردى (¬3)، فلم أجد بها ذكرا لهذا الرجل؛ وإنما جاء بها أن الذى تولى كتابة السر من سنة 816 إلى سنة 823 هو ناصر الدين محمد البارزى، وكذلك نص كاتب النسخة شمس الدين على أنه فرغ من كتابتها في المحرم سنة 821 هـ‍ ثم أتبع اسمه بقوله: «كاتب (¬4) السر لحضرة مولانا السلطان برقوق» ثم دعا للسلطان بقوله: «أدام الله عزه وأنصاره» مما يفهم منه أن السلطان برقوق كان لا يزال حيا في تلك السنة (821)، وقد بدا لنا هذا أمرا عجيبا حقا، فإن السلطان الملك الظاهر برقوق حكم مصر من سنة 784 إلى سنة 801، والسلطان الذى كان يحكم مصر في سنة 821 هو المؤيد شيخ فقد حكم بين سنتى 815 و 824 ¬

(¬1) انظر المقدمة الأصلية للمؤلف والأجزاء الأولى التي أسقطها الناسخ من الكتاب الأصلى، فهذه جميعا تكون الصفحات 1 - 38 من نسخة ك، والصفحات 1 - 65 من هذا الجزء الأول المطبوع. انظر ما بلى هنا ص 65، هامش 1، وص 69، هامش 2 (¬2) صبح الأعشى، ج 1، ص 99 - 100 (¬3) النجوم الزاهرة، ج 7، ص 340 - 341 (¬4) كاتب السر هو من كان يسمى قديما كاتب الانشاء أو صاحب ديوان الانشاء، وقد غير هذا اللقب إلى «كاتب السر» منذ عهد المنصور قلاوون. انظر: (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 7، ص 333 وما بعدها).

3 - نسخة باريس رقم 1703

3 - نسخة باريس رقم 1703 وتوجد منها صور شمسية بمكتبة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية وتقع في 216 ورقة (432 صفحة)، ومتوسط عدد سطور الصفحة 23 سطرا. وتبدأ هذه النسخة بعنوان نصه «ذكر وفاة السلطان الملك الكامل رحمه الله»، أي ببعض حوادث سنة 635 هـ‍. وتنتهى بحوادث سنة 659 هـ‍ وذلك في ص 72 ا، وجاء في ختامها: «. . . وأشار على الملك الظاهر أن يولى القضاء بدمشق للقاضى شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله - وكان ينوب عن القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن قاضى الديار المصرية بالقاهرة؛ حين كان القاضى بدر الدين متوليا للقضاء بالديار المصرية؛ فأجاب الملك الظاهر إلى ذلك، وتقدّم بأن يسافر القاضى شمس الدين ابن خلكان صحبته، وفى هذه الأيام ولى الملك الظاهر القاضى برهان الدين الخضر ابن الحسن أخا (172 ا) القاضى بدر الدين بمدينة مصر وعملها - وهو الوجه القبلى - وبقيت القاهرة وعملها - وهو الوجه البحرى - في ولاية القاضى تاج الدين المعروف بابن بنت الأعز؛ والله ولى التوفيق». أما الصفحات الباقية من هذه النسخة (172 ا - 216 ا) فتتضمن ذيلا لمفرّج الكروب كتبه أحد تلاميذ ابن واصل ومواطنيه واسمه: «على بن عبد الرحيم بن أحمد الكاتب الملكى المظفرى» وكان كاتبا للانشاء في مملكة حماة على عهد المظفر الثالث، وقد بدأ هذا الذيل بالتأريخ لحوادث سنة 660 هـ‍ وختمه بحوادث سنة 695 هـ‍، وافتتحه بقوله: «. . . انتهى إلى هاهنا ما أملاه القاضى الإمام جمال الدين محمد بن سالم ابن واصل. . . متع الله بحياته، ولم يستوعب حوادث سنة تسع وخمسين وستمائة، وكانت المتجدّدات في هذه السنوات كثيرة جدا من تنقل التتار في الأطراف المجاورة للشام، واضطراب الناس وانتزاحهم من أوطانهم. . . واستيعاب هذه الأحوال على حقيقتها يطول، وليس ذلك مما نحن بصدده، لأن الغرض حصول الفائدة، وهذا يتفق إن شاء الله بالقول المختصر. ودخلت سنة ستين وستمائة. . . الخ».

4 - نسخة استانبول، مكتبة ملا جلبى رقم 119

ولم يسجل على هذه النسخة تاريخ كتابتها، وإنما سجل أحد مالكيها على الصفحة الأخيرة تاريخ تملكه لها، وهو: «انتقل بالمبيع الشرعى إلى أفقر عباد الله إلى رحمته الفقير محمد بن أحمد بن إسماعيل البعنى الدمشقى الكنعانى المقدسى في سنة 1019 تسعة عشر وألف، بثمن قدره عشرين غروش». ومع هذا فأنا أرجح أن هذه النسخة كتبت في القرن الثامن الهجرى، وبعد وفاة المؤلف والمذيل بقليل. ولا يفوتنى أن أشير هنا إلى أن نسخة باريس السابقة (1702) تحتوى أيضا على هذا الذيل، ولكن يبدو أن كاتب النسخة أجرى قلمه في هذا الذيل بالتعديل والتغيير فأفسده كما أفسد مقدمة الكتاب الأصيل وعنوانه من قبل، فهو قد نص على أن ابن واصل قد انتهى في مفرّج الكروب بالتأريخ لحوادث سنة 661 (لا سنة 659)، والذيل في هذه النسخة أيضا ينتهى بحوادث سنة 680 (لا سنة 695) - كما نص على ذلك كاتب النسخة السابقة (1702) في مقدّمته - فهذه النسخة الأخيرة إذن تفضل سابقتها في كثير. 4 - نسخة استانبول، مكتبة ملا جلبى رقم 119 (¬1) ومنها صور شمسية بمكتبة جامعة الاسكندرية، رقم 498، وتقع في 200 ورقة (أي 400 صفحة)، ومتوسط عدد السطور في الصفحة الواحدة 24 سطرا. وهذه النسخة أقدم النسخ جميعا وأقيمها لولا أنه ينقصه أوائل الكتاب وخواتيمه، فهى تحتوى على أواسط الكتاب وتبدأ بالتأريخ للحوادث بعد وفاة صلاح الدين سنة 589 هـ‍، وتنتهى بحوادث سنة 635 هـ‍ بالحديث عن وفاة الملك الأشرف موسى ابن العادل. وتبدأ النسخة بهذا العنوان: «ذكر ما استقرت الحال عليه من الممالك بعد وفاة السلطان رحمة الله» ولا تحمل الصفحة الأخيرة (ص 200 ب) أي علامة من علامات الانتهاء أو الفراغ من الكتاب مما يدل على أنه كان لهذه النسخة بقية متصلة بها اتصالا تاما، ولكنها ¬

(¬1) أنتهز هذه الفرصة لأقدم الشكر إلى المستشرق المعروف الأستاذ ريتر Ritter ، فهو الذى أرشدنى إلى وجود هذه النسخة، وهو الذى قام بتصويرها لمكتبة جامعة الاسكندرية إجابة لتوصيتى.

انتزعت منها أو ضاعت، بدليل أن النص متصل في هذه الصفحة إلى السطر الأخير منها، وهذه آخر جملة وردت بهذه النسخة: «وكان في خدمته (أي الأشرف) جماعة من الأماثل وأهل الفضل، منهم شيخنا في العلوم الرياضية علم الدين قيصر بن أبى القسم بن عبد الغنى، وكان عظيما في العلوم الرياضية، وعمر له مواضع حسنة، منها الجوسق المعروف ىطىحه (كذا) في مدينة رأس عين، في غاية الحسن، على شكل مثمن، وبإزائه نهر يتصل ببلاد الخابور». والصفحة الأولى من هذه المخطوطة تحمل الدليل على منهج المؤلف في تجزيىء الكتاب، فيها ما يشير إلى أن هذه النسخة هى الجزء الثانى، وهذا هو نص العنوان الذى تحمله هذه الصفحة الأولى: الجزء الثانى من كتاب مفرّج الكروب في أخبار ملوك بنى أيوب رحمهم الله تعالى وإنى لأرجح أن هذه النسخة هى نسخة المؤلف نفسه أو أنها على الأقل كتبت أثناء حياته. فقد كتب اسم المؤلف على الصفحة الأولى وتحته «عفا الله عنه» والعادة أن الناسخ إذا كتب الكتاب بعد وفاة مؤلفه أن يدعو له بالرحمة، فيتبع اسمه بالدعاء المعروف «رحمه الله». أما النص تحت العنوان فهو: «تأليف الفقير إلى رحمة الله تعالى محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل، عفا الله عنه». ومما يرجح هذا الظن أن نفس الصفحة تحمل بعد ذلك اسم مواطن للمؤلف من حماة تملك النسخة بعد وفاة المؤلف بخمس وأربعين سنة فقط، كما تحمل اسم عالم آخر قريب للسابق نص على قراءته للنسخة في سنة 784 هـ‍ أي بعد وفاة المؤلف بسبع وثمانين سنة. وهذان هما النصان: «كان في يد على بن الحسن بن على بن عبد الوهاب الحموى؛ ابتاعه بالقاهرة في جمادى الآخرة سنة اثنين وأربعين وسبعمائة»

«طالع مفرّج الكروب من أوله إلى آخره أقل عبيد. . . . . . بهم إلى رحمته أيوب بن حسن بن على بن عبد الوهاب، عفا الله عنه وتاب عا. . . . . . رحم عليه وعلى والديه ودعا له بخاتمة الخير، وذلك في شهر ذى الق‍ (عدة سنة) أربعة (وثمان‍) ين وسبعمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا. . . . . . به وسلم تسليما كثيرا. (6) من هذا العرض كله يتضح أنه لم تصلنا نسخة واحدة كاملة من مفرّج الكروب، وإنما نحن نجد لحسن الحظ أن هذه النسخ الأربع تكوّن نسخة كاملة يمكن الاعتماد عليها عند النشر. فالنسخة الأولى - نسخة كمبردج - تحتوى على الجزء الأوّل في ترتيب متسق وتنتهى بحوادث سنة 616 هـ‍. والنسخة الرابعة - نسخة استانبول - تؤرخ للحوادث بعد وفاة صلاح الدين سنة 589 هـ‍ وتنتهى بحوادث سنة 635 هـ‍. وبذلك يمكن عند نشر الأجزاء المتضمنة للسنوات من سنة 617 إلى سنة 635 الاعتماد على هاتين النسختين. والنسخة الثالثة (نسخة باريس 1703) تتضمن السنوات من 635 (حيث تنتهى نسخة استانبول) إلى 659 أي إلى نهاية الكتاب والحوادث في هذه النسخ الثلاث متسقة الترتيب لا اضطراب ولا خلط فيها ولا يشوبها أي نقص أو خرم. أما نسخة باريس الأولى (1702) فيمكن - رغم ما يشوبها من عيوب كثيرة - أن يرجع إليها دائما حيث يتفق النص فيها مع النص في أي نسخة أخرى من النسخ الثلاث لضبطه وتقويمه وتصحيحه. وهذا ما فعلناه عند إخراج هذا الجزء الأول من الكتاب، وقد تبين لنا أنه على الرغم من أفضلية نسخة (ك) فقد ساعدت نسخة (س) كثيرا على ضبط النص أو توضيحه أو إثبات جمل قصيرة أسقطها ناسخ (ك) (¬1). (7) وهذا الجزء الأوّل من الكتاب الذى نقدّمه اليوم للقارئ، قد بدأ المؤلف فيه بذكر نسب بنى أيوب، ثم أرّخ بعد ذلك - في إيجاز غير مخل - لدولة الأتابكة مع العناية بعلاقاتها بالدول المجاورة، وخاصة الخلافتين: العباسية، والفاطمية، ¬

(¬1) انظر مثلا فيما يلى هنا: ص 74/ 5 و 78/ 4 و 145/ 2 و 147/ 8 و 221/ 1 و 243/ 5.

والإمارات الصليبية، ثم انتقل إلى الموضوع الأصيل فبدأ بالتاريخ لنشأة الدولة الأيوبية وعرض أثناء ذلك للدولة الفاطمية في مصر في أواخر أيامها وللصراع العنيف بين قوى الصليبيين وقوى نور الدين في سبيل الاستيلاء على مصر، ولجهود صلاح الدين وأفراد أسرته وقواده التي بذلت للقضاء على المؤامرات الداخلية والخارجية، ولفتح بلاد النوبة واليمن. ووقفنا في هذا الجزء عند وفاة نور الدين محمود بن زنكى سنة 569؛ أما الجزء الثانى فسيشتمل بإذن الله على عصر صلاح الدين كله وينتهى بانتهاء حياته سنة 589 هـ‍. (8) وقد اعتمدنا عند نشر هذا الجزء على نسخة كمبردج (ك) واتخذناها أصلا للنشر ثم قارنا بينها وبين نسخة باريس رقم 1702 (س) في الصفحات التي لها مثيل في هذه النسخة الأخيرة. ومع هذا فقد استعنا لضبط النص وتصحيحه بالمراجع الكثيرة الأخرى المعاصرة وغير المعاصرة؛ وخاصة تلك التي نقل عنها المؤلف؛ وقد نص ابن واصل أحيانا على المراجع التي نقل عنها. ونقل دون نص أحيانا أخرى، ومن المراجع التي نص على نقله عنها: البرق الشامى للعماد الاصفهانى، والسيرة اليوسفية لابن شداد، والروضتين لأبى شامة، والكامل لابن الأثير. الخ. وقد طبعت أسماء المؤلفين والمراجع التي نص المؤلف على الأخذ عنها بحروف الرقعة ليمكن للقارئ متابعتها. وأكثر نقوله هنا عن ابن الأثير، وقد لاحظت عند المقارنة بين النصين أن نص ابن واصل كثيرا ما يتفق ونص ابن الأثير اتفاقا يكاد يكون تاما (انظر ص 93 هامش 4)، كما لاحظت أنه يختلف عنه - أحيانا أخرى - إيجازا أو إطنابا، فرواية ابن واصل في بعض الأوقات أكثر تفصيلا من رواية ابن الأثير مما يجعل لها قيمة خاصة ومما يرجح ظننا أن المؤرخين كانا ينقلان عن مراجع أخرى لم يذكراها، وقد استطعت أن أتعرّف على مرجع من هذه المراجع وهو «تاريخ ميا قارقين وآمد» لأحمد بن يوسف بن على بن الأزرق الفارقى» (¬1)، ¬

(¬1) توجد من هذا الكتاب نسختان في مكتبة المتحف البريطانى. الأولى قطعة صغيرة منه كتبت في سنة 560 هـ‍ أي في حياة المؤلف ورقمها 6310، والثانية أكبر وأوفى من الاولى بل تكاد تكون نسخة كاملة، كتبت سنة 572 هـ‍ ورقمها 5803، وقد نشر آمدروز أجزاء كثيرة منه في هوامش (الذيل على تاريخ دمشق لابن القلانسى) وللتعريف بالفاوقى وكتابه انظر مقالا في J .R .A .S .1902. P. 785 .

وقد أثبت بالمقارنة بين نص ابن واصل والفقرات المنقولة عن الفارقى في هوامش ابن القلانسى أن تاريخ الفارقى كان من مراجع ابن واصل التي نقل عنها دون الإشارة اليها (¬1). وكنت ألاحظ أحيانا أن نص ابن واصل مختصر اختصارا يبهم المعنى؛ بينما تزدحم المراجع الأخرى التي يختصر عنها أو التي تناولت الموضوع ولم ينقل عنها بالتفصيلات الهامة الموضحة فكنت أنقل في الهوامش فقرات من هذه المراجع لأمكن الدارسين والباحثين من فهم النص فهما واضحا لا لبس فيه (¬2). وهذا الجزء الأول يشتمل على عدد من الوثائق الرسمية الهامة من رسائل ومناشير وسجلات وتواقيع. . الخ، وقد أثبت المؤلف بعض هذه الوثائق بنصها الكامل ولكنه اكتفى عند الإشارة إلى البعض الآخر بنقل الفقرات الهامة فيها، وقد وردت بعض هذه الوثائق في المراجع التاريخية الأخرى فعارضنا النص هنا عليها لتصحيحها وضبطها (¬3). وانفرد ابن واصل مع هذا بذكر وثائق لم تعن المراجع الأخرى بإثباتها وبعض هذه الوثائق هام غاية الأهمية، وخير مثل لها التواقيع التي أصدرها نور الدين لإلغاء المكوس بجميع أنحاء مملكته، فهى تقدم للباحث ثبتا هاما بالمدن والأقسام الإدارية المكونة لمملكة نور الدين وبالمبالغ التي كانت بحبى من ضريبة واحدة وهى ضريبة المكوس (¬4). أما الوثائق التي اقتصر ابن واصل على نقل فقرات منها ووجدنا نصوصها كاملة في مراجع أخرى ففى العزم - إن شاء الله - أن ننشر هذه النصوص الكاملة ملحقة بالجزء الثانى. وينفرد هذا الجزء أيضا بإيراد نصوص نادرة تلقى أضواء جديدة على بعض الموضوعات التاريخية وبعض نظم الحكم، ففى ص 61 مثلا نص يبين مدى ما وصل إليه مركز الخليفة العباسى في العهد السلجوقى، فقد سلبت منه كل السلطات ¬

(¬1) انظر مثلا ص 58 - 71 فيما يلى هنا. (¬2) انظر مثلا فيما يلى هنا: ص 85 هامش 3 وص 169 هامش 1 وص 201 هامش 3 وص 229 هامش 1 وص 237 هامش 2 وص 240 هامش 5 (¬3) انظر فيما يلى هنا: ص 164 و 165 و 170 و 225 و 235 الخ. (¬4) انظر فيما يلى هنا: ص 271 - 279

الزمنية، وأصبح عليه - كما يقول النص هنا - أن «لا يدخل نفسه في غير أمر الدين». وفى ص 150 و 280 نصان هامان يعينان على فهم نظام الإقطاع في عهد نور الدين بصفة خاصة وفى عهد الأتابكة بصفة عامة. وفى ص 211 نص هام آخر ذكر فيه المؤلف بعض الحقائق النادرة عن بقايا الأسرة الفاطمية الذين عاشوا في الأسر أو مختفين حتى أواخر الدولة الأيوبية، بل وأشار إلى أنه قابل واحدا منهم في سجنه بقلعه الجبل بالقاهرة وتحدث إليه؛ وقد اعتمد الأستاذ كازانوثا (Casanova) على هذا النص عند كتابة بحثه القيم عن بقايا الأسرة الفاطمية الذى نشره منذ سنوات طويلة في مجلة المعهد الفرنسى بالقاهرة (¬1). وهذا الجزء مملوء بالمصطلحات الإدارية والحربية والاجتماعية التي كانت مستعملة في تلك العصور التي يؤرخ لها الكتاب، ومعظم هذه المصطلحات مأخوذ عن لغات غير عربية كالتركية والفارسية واليونانية وغيرها مثل: الدركاه (ص 102 هامش 1) والخشكنانج (ص 102 هامش 3) واللت (ص 140 هامش 1) والجامكية (ص 150 هامش 3) والمنجنيق (ص 180 هامش 2) والقنطارية (ص 183 هامش 2) والممزج (ص 203 هامش 3) والبرواناه (ص 234 هامش 4) والقبق (ص 260 هامش 8) والجوكان (ص 267 هامش 1) والتركش (ص 279 هامش 5) الخ. وقد شرحنا هذه المصطلحات في الهوامش شرحا وافيا بقدر ما سمحت لنا به المراجع، وأشرنا إلى هذه المراجع في نهاية الشرح ليرجع إليها من أراد؛ وفى رأيى أن العناية بشرح هذه المصطلحات عند نشر الأصول التاريخية القديمة أمر واجب لأن هذه المصطلحات من الأدوات الهامة التي لا يمكن لمن يريد التأريخ لنظم الحكم في العالم الإسلامى على تلك العصور الاستغناء عنها. وأرجو أن أوفق لإفراد فهرس خاص بهذه المصطلحات في نهاية الجزء الثانى من هذا الكتاب. وميزة أخرى نذكرها لهذا الكتاب، وذلك أنه يعتبر مرجعا هاما لدراسة تاريخ مدن الشام الكبيرة في العصور الوسطى، فقد اعتاد المؤلف أن يقف طويلا وأن يتحدّث تفصيلا كلما ورد ذكر مدينة من مدن الشام، وخاصة المدن الهامة الثلاثة: حماة - وطنه الأصلى - وحمص وحلب (¬2). ¬

(¬1) انظر قائمة المراجع غير العربية. (¬2) انظر ص 72، هامش 1

وفى هذا الجزء نصوص تساعد الباحث على تحديد تاريخ تأليف الكتاب، أو على الأقل تحديد التاريخ الذى بدأ فيه المؤلف تأليف كتابه: - فهو يقول مثلا عند حديثه عن مقتل عماد الدين زنكى: «فحكى ابن الأثير رحمه الله. . الخ» ولهذا الدعاء أهمية خاصة فهو يدل على أن المؤلف كان يكتب هذا الجزء من كتابه بعد سنة 630 هـ‍ وهى السنة التي توفى فيها ابن الأثير (¬1). - وفى ص 113 يشير إلى وفاة شاهنشاه بن أيوب، ثم يعرّف به بقوله: «وهو جد مولانا السلطان الملك المنصور - صاحب حماة - خلّد الله سلطانه» وهذا الدعاء يدل على أنه كان يكتب هذا الفصل من كتابه بعد سنة 642 هـ‍ وهى السنة التي ولى فيها المنصور الثانى حكم حماة (¬2). - وفى ص 154 عند حديثه عن إربل يقول: «وملكها المستعصم بالله إلى أن ملكها التتر الملاعين حين ملكوا البلاد». وهذا النص يدل على أنه كان يكتب هذا الفصل بعد سنة 656 هـ‍ وهى السنة التي استولى فيها هولاكو على بغداد وقتل المستعصم وأرسل قائدا من قواده للاستيلاء على إربل. وهكذا. وهذا الجزء أخيرا يعتبر مرجعا هاما لدراسة سيرة المؤلف نفسه فهو يشير في أكثر من موضع إلى بعض حوادث هذه السيرة: - فهو يشير مثلا في ص 74 إلى أنه كان بالقدس في سنة 623 هـ‍. - ويشير في ص 204، 236 إلى كتاب له آخر في التاريخ اسمه التاريخ الكبير. - وفى ص 210 يشير إلى أنه سافر إلى مصر سنة 641 هـ‍. - وفى ص 231 يشير إلى أنه حج إلى مكة وزار المدينة سنة 649 هـ‍ إلخ. ولا يفوتنى أن أشير إلى أننى بذلت غاية جهدى لضبط النص وتقويمه فضبطت الآيات القرآنية بالشكل وحدّدت أرقامها وسورها في الهوامش وكذلك فعلت بالشعر فضبطه بالشكل وقارنته بأصوله في الدواوين إن وجدت وبالمراجع الأخرى إن ذكرته (¬3). ¬

(¬1) انظر ص 99، هامش 4 ا. (¬2) ص 113 هامش 3 (¬3) لم أقنع بهذه المقارنات، وإنما عرضت الشعر الوارد في هذا الجزء عند طبعه على صديقى الأستاذ الدكتور طه الحاجرى فتفضل بتقويم المعوج منه فلحضرته منى أجزل الشكر.

أما الأعلام وأسماء المواقع والبلدان فقد دأبت على التعريف بها في الحواشى ما استطعت إلى ذلك سبيلا مع الإشارة إلى المراجع التاريخية والجغرافية التي أفدت منها ليرجع إليها من يريد التثبت أو الاستزادة، وأما الفهارس الأبجدية التفصيلية فقد أرجأتها مؤقتا لتشمل الجزء الثانى وتنشر في نهايته. (9) وبعد فهذا هو الجزء الأول من كتاب «مفرّج الكروب» وهذا هو منهجنا في نشره، قد بذلنا السنوات الطوال في دراسته وإعداده للنشر حتى كلّ منا البصر واحتجنا إلى علاجه، والله نسأل أن يهبنا القوّة والصحة لإكماله، وأن ييسر مواطنينا في مصر والشرق للافادة منه. وكتاب له هذه المميزات كان حريا أن ينال حظا أوفر من عناية الباحثين والمؤرخين، وكان حريا أن ينشر بعضه أو كله منذ سنوات، ولكنا مع هذا نجده قد بقى مخطوطا إلى اليوم، وإنه لمما يبعث العجب حقا أن نجد جماعة العلماء الذين عنوا بنشر النصوص العربية الخاصة بالحروب الصليبية في مجموعة المؤرخين الصليبيين Recueil des Historiens des Croisades قد نشروا منتخبات من الكامل لابن الأثير، والروضتين لأبى شامة، وتاريخ حلب لابن العديم، والمختصر في أخبار البشر لأبى الفدا، وعقد الجمان للعينى. . . إلخ، ومع هذا فقد أهملوا مفرّج الكروب لابن واصل إهمالا تاما. وقد بدأ المستشرقون المعاصرون يدركون ما لهذا الكتاب من قيمة كبرى وما للتقصير في نشره حتى اليوم من أثر، وعبّر أحدهم وهو الأستاذ كلود كاهن (C .Cahen) عن هذا في كتابه القيم (سوريا الشمالية في عصر الحروب الصليبية La Syrie du nord a l'Epoque de Croisades فقال بعد الفراغ من حديثه عن مفرّج الكروب في فصل المراجع: «وهو كتاب ذو قيمة كبيرة، وإلى هذا فهو ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزى مرجعنا الأساسى الذى أخذ عنه المؤرخون اللاحقون عند تأريخهم للدولة الأيوبية وقد كان يبدو أن تهيأ لمفرّج الكروب مكانة ممتازة عند المؤرخين المحدثين لكثرة ماله من ميزات جعلت الكثيرين يعتمدون عليه ويأخذون عنه، ولكن شيئا من هذا لم يحدث.

ومع أنه يوجد لهذا الكتاب مخطوطات صالحة وسهل الحصول عليها، فقد بقى حتى الآن دون أن ينشر أو يستفاد منه، وفى هذا فضيحة علمية لا نعتقد أنه من اليسير التغلب عليها قبل مضى وقت طويل: " C'est un euvre de haute valenr .C'est du plus,avee le (mira az - zaman) de Sibt Ibn Al - Djauzi,notre source principale,indefini - ment reproduite dms l'historio graphic posterieure,pour l'histoire des Ayyoubides .ll semblerait que tant de titres fussent assez pour avoir assure au moufarridj une place d'honneur aupres des historiens modernes .Il n'en est rien,et l'Oeuvre,dont il existe pourtant des manuscrits tres convenables et fort accessibles,reste inedite et presque inutilisee .Il y a la scandale qui ne saurait trop tot cesser" La Syrie du Nord . . .etc . P. 70 وعندما علم هذا الأستاذ الحجة في تاريخ الحروب الصليبية بعزمى على نشر مفرج الكروب كتب إلى خطابا خاصا قال فيه: حضرة الزميل العزيز دعنى أعبر لك عن ارتياحى الكلى لعلمى أنه وجد أخيرا من يأخذ على عاتقه مهمة العمل لنشر ابن واصل. إنه من العسير أن أتصوّر أنه كان من الواجب الانتظار حتى سنة 1947 ليحدث هذا؛ كم من الوقت تظن أنه يجب عليك أن تتوفر لإنجاز هذا العمل الكبير الضخم. . . الخ. Monsieur et cher collegue . Laissez - moi d'abors vous exprimer toute ma satisfaction d'app-endre qu'enfin quelqu'un s'occupe d'editer Ibn Wacil;il est difficile de comprendre comment il a fallu attendre 1947 pour cela. Combien de temps pensez-vous devoir consacrer a ce travail evidemment gros? ووصلتنى خطابات مماثلة من كثير من المستشرقين الأساتذة بجامعات أوربا وأمريكا أذكر من حضراتهم: الأساتذة برنارد لويس بجامعة لندن، وجب بجامعة أوكسفورد، وماسينيون بالكوليج دى فرانس، وفيليب حتى بجامعة برنستون، وجميعهم يؤكدون نفس المعنى ويستنجزوننى بين الحين والحين الوعد أن أعمل على الإسراع بإخراج الكتاب.

وكذلك وصلتنى رسائل كثيرة من المشرق من الأساتذة: المرحوم محمد كرد على بدمشق، والدكتور مصطفى جواد الأستاذ بكلية المعلمين ببغداد، والشيخ طاهر النعسانى من علماء حلب، والسيد قدرى كيلانى من علماء حماة وغيرهم؛ ورسائلهم كلها تؤكد المعنى السابق، فمما قاله الدكتور مصطفى جواد: «. . . وسررتمونى بعزمكم على إخراج التاريخ الحافل الجليل - مفرّج الكروب - لابن واصل الحموى، فإن هذا المسعى الذى أنتم ساعوه في نشره يغطى على غيره من المساعى؛ وتاريخ الواصلين هذا أسميه «فخر التواريخ» لإحاطته بالحوادث واستيعابه الأحداث، واعتداله في الإصدار بعد الإيراد. . . الخ». فلهؤلاء الأساتذة الأجلاء جميعا شكرى القلبى الخالص، فقد استعنت بكلماتهم المشجعة الحاثة على التغلب على جميع الصعاب التي اعترضتنى. وشكرى القلبى الصادق كذلك لأستاذى الدكتور محمد مصطفى زيادة فقد كان له - كما سبق أن أبنت - فضل تعريفى بهذا الكتاب، ثم ظل يوالينى بالتشجيع الدائم على العمل فيه، ثم تفضل أخيرا بمراجعة هذا الجزء قبل تقديمه للمطبعة. والله أسأل أخيرا أن يوفقنى للعمل الصالح ولخدمة هذا الوطن العزيز وتاريخه. القاهرة في 23 رمضان 1372 - 5 يونيه 1953 جمال الدين الشيال

مراجع التحقيق

مراجع التحقيق (أ) المراجع العربية ابن أبى أصيبعة (موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم). - طبقات الأطباء، جزءان، المطبعة الوهبية بالقاهرة، 1299 (1882). ابن أبى الوفاء (محيى الدين أبو محمد عبد القادر). - الجواهر المعنية في طبقات الحنفية، جزءان، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر أباد الدكن، 1332 هـ‍. ابن الأثير (عز الدين أبو الحسن على). - الكامل في التاريخ، 12 جزءا، المطبعة الأزهرية بالقاهرة، 1301 هـ‍. - اللباب في تهذيب الأنساب، 3 أجزاء، القاهرة، 1357 - 1369. الادفوى (كمال الدين أبو الفضل جعفر بن ثعلب). - الطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد. القاهرة، 1332 (1914). ابن الأكفانى (محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصارى السنجارى). - نخب الذخائر في أحوال الجواهر، نشره الأب أنستاس مارى الكرملى، القاهرة، 1939؛ (ونشره قبل ذلك الأب لويس شيخو في مجلة المشرق، السنة 11). أفرام (الأب أغناطيوس الأوّل). - الألفاظ السريانية في المعاجم العربية، بحث في مجلة المجمع العربى بدمشق، أعداد سنة 1950

بامخرمة (أبو محمد عبد الله الطيب بن عبد الله بن أحمد). - تاريخ ثغرعون، مع نخب من تواريخ ابن المجاور والجندى والأهدل، نشره Oscar Lofgren جزءان، ليدن، 1936 بدر (الدكتور مصطفى طه). - محنة الإسلام الكبرى، أو زوال الخلافة العباسية على أيدى المغول، القاهرة، 1947 البستانى - محيط المحيط، جزءان، بيروت، 1867 - 1870 البيرونى (أبو الريحان محمد بن أحمد). - كتاب الجماهر في معرفة الجواهر، مطبعة جميعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1355 هـ‍ بينز (نورمان). - الامبراطورية البيزنطية، الترجمة العربية للدكتور حسين مؤنس ومحمود يوسف زايد، القاهرة، 1950 ابن تغرى بردى (جمال الدين أبو المحاسن يوسف). - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ظهر منه 10 أجزاء، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1929 - 1949 تيمور (أحمد باشا). - لعب العرب، القاهرة، 1948 ثابت (نعمان). - الجندية في الدولة العباسية، بغداد، 1358 (1939). ابن جبير (أبو الحسين محمد بن أحمد). - الرحلة، الطبعة الثانية، ليدن، 1907 الجاحظ. - البخلاء، نشر الدكتور طه الحاجرى، القاهرة، 1948

الجواليقى (أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد الخضر). - المعرّب من الكلام الأعجمى على حروف المعجم، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1361 هـ‍. ابن الجوزى (أبو الفرج عبد الرحمن بن على). - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، الأجزاء 5 - 10، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد الدكن، 1357 - 1358 هـ‍. ابن حاتم (بدر الدين محمد). - السمط الغالى الثمن في أخبار الملوك من الغز باليمن. مخطوطة بدار الكتب المصرية رقم 2411، وتوجد منه صور شمسية بمكتبة جامعة فؤاد الأوّل بالقاهرة، رقم 26133 حبشى (حسن). - الحرب الصليبية الأولى، القاهرة، 1947 - نور الدين والصليبيون، القاهرة، 1948 أبو حديد (محمد فريد). - صلاح الدين الأيوبى وعصره، القاهرة، 1927 حسن (الدكتور حسن إبراهيم). - الفاطميون في مصر، القاهرة، 1932 الحسن بن عبد الله. - آثار الأول في ترتيب الدول، بولاق، 1295 هـ‍. حسين (محمد أحمد). - أسامة بن منقذ، القاهرة، 1946 حسين (الدكتور محمد كامل). - في أدب مصر الفاطمية، القاهرة، 1950 حمزة (الدكتور عبد اللطيف). - حكم قراقوش، القاهرة، 1945

الحنبلى (أحمد بن إبراهيم بن نصر الله). - شفاء القلوب في مناقب بنى أيوب، صور شمسية بمكتبة جامعة فؤاد الأوّل بالقاهرة، رقم 24030 (والأصل مخطوطة بالمتحف البريطانى رقم 7311). ابن حوقل (أبو القاسم محمد). - المسالك والممالك والمفاوز والمهالك، ليدن، 1822 ابن خلكان (شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد). - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 3 أجزاء، القاهرة، 1299 هـ‍. و6 أجزاء، طبعة محيى الدين عبد الحميد، القاهرة، 1948 الخوارزمى (أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف). - مفاتيح العلوم، القاهرة، 1349 (1930). دائرة المعارف الإسلامية (الترجمة العربية). مادة: أتابك، إربل، ألموت، جريب. ابن الدبيثى (محمد بن سعيد بن محمد). - تاريخه - باختصار الذهبى - نشره الدكتور مصطفى جواد، الجزء الأوّل، بغداد، 1371 (1951). الدجيلى (قاسم). - بحث في مجلة لغة العرب، الأجزاء 1 و 2 و 3 سنة 1901 ابن دحية (أبو الخطاب عمر بن أبى على). - النبراس في تاريخ خلفاء بنى العباس نشره عباس العزاوى، بغداد، 1365 (1946). ابن دقماق (إبراهيم بن محمد بن أيدمر العلائى). - الانتصار لواسطة عقد الأمصار، الجزءان 4 و 5، بولاق، 1309 هـ‍. الذهبى (شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان). - تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام (ظهر منه حتى الآن 4 أجزاء)، مكتبة القدسى، القاهرة 1367 - 1369

زامباور. - معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامى، الترجمة العربية للدكتور زكى محمد حسن وحسن أحمد محمود وآخرين، جزءان، مطبعة جامعة فؤاد الأوّل، القاهرة، 1951 - 1952 الزركلى. - الأعلام، 3 أجزاء، القاهرة، 1347 (1928). زكى (محمد أمين). - خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، ترجمه إلى اللغة العربية محمد على عونى، القاهرة، 1936 زيادة (الدكتور محمد مصطفى). - المؤرخون في مصر في القرن الخامس عشر الميلادى، القاهرة، 1949 ابن الساعى (أبو طالب على بن أنجب تاج الدين). - الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير، الجزء التاسع، نشره الدكتور مصطفى جواد، بغداد، 1934 سبط بن الجوزى. - مرآة الزمان، الجزء الثامن، القسمان الأوّل والثانى في مجلدين، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1370 (1951). السبكى (تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن تقى الدين). - طبقات الشافعية، 6 أجزاء، القاهرة، 1324 هـ‍. سركيس (يوسف اليان). - معجم المطبوعات العربية والمعربة، القاهرة، 1346 (1928). ابن سيده (أبو الحسن على بن اسماعيل). - المخصص، 17 جزءا، بولاق، 1316 - 1321 السيوطى (جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر). - تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين، القاهرة، 1351 هـ‍.

- حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، جزءان، القاهرة، 1327 ابن شاكر الكتبى (محمد بن أحمد). - فوات الوفيات، طبعة محمد محيى الدين عبد الحميد، جزءان، القاهرة، 1951 أبو شامة (شهاب الدين أبو محمد عبد الرحمن بن اسماعيل بن إبراهيم المقدسى). - كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، جزءان، مطبعة وادى النيل بالقاهرة، 1287 - 1288 هـ‍. ابن الشحنة (محب الدين أبو الفضل محمد). - الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب، نشره يوسف بن اليان سركيس، بيروت، 1909 ابن شداد (بهاء الدين). - النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية القاهرة 1346 هـ‍. شرف (الدكتور طه). - دولة النزارية أجداد أغاخان كما أسسها الحسن الصباح، القاهرة، 1950 الشيال (الدكتور جمال الدين). - الاسكندرية، طبوغرافية المدنية وتطورها من أقدم العصور إلى الوقت الحاضر، القاهرة، 1952 - جمال الدين بن واصل وكتابه مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب، بحث لم ينشر بعد. - معجم السفن العربية، مخطوطة لم تطبع بعد. الصابونى (أحمد بن إبراهيم). - تاريخ حماة، حماة، 1332 الصفدى (صلاح الدين خليل بن أيبك). - الوافى بالوفيات، نشر المستشرق هـ‍. ريتر، الجزء الأوّل، مطبعة الدولة باستانبول، 1931

ابن طباطبا (محمد بن على). - الفخرى في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، القاهرة، 1923 ابن العماد (أبو الفلاح عبد الحى). - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 12 جزءا، القاهرة، 1350 - 1353 العماد الكاتب الأصفهانى (أبو عبد الله محمد بن محمد). - خريدة القصر وجريدة العصر، القسم الأوّل - شعراء مصر - في جزأين، نشره أحمد أمين وشوقى ضيف وإحسان عباس، القاهرة، 1951 - 1952 - الفتح القسى في الفتح القدسى، القاهرة، 1321 هـ‍. عمارة (نجم الدين أبو محمد اليمنى). - تاريخ اليمن، نشره كاى، لندن 1309 (انظر المراجع غير العربية). - النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية، 3 أجزاء، نشره درنبرج، شالون 1897 عنان (محمد عبد الله). - تراجم إسلامية (شرقية وأندلسية) القاهرة، 1947 أبو الفدا (الملك المؤيد إسماعيل صاحب حماة). - المختصر في أخبار البشر، 4 أجزاء، المطبعة الحسينية، القاهرة، 1325 هـ‍. ابن الفوطى (أبو الفضل عبد الرزاق البغدادى). - الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة، نشره الدكتور مصطفى جواد، بغداد، 1351 هـ‍. ابن قتيبة (أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينورى). - المعارف، القاهرة، 1935 ابن قلاقس (أبو الفتوح نصر الله بن عبد الله). - الديوان، نشر خليل مطران، مطبعة الجوائب، القاهرة، 1323 هـ‍.

ابن القلانسى (أبو يعلى حمزة). - ذيل تاريخ دمشق، نشره مع مقدّمة انجليزية آمدروز، بيروت، 1908 القلقشندى (أبو العباس أحمد). - صبح الأعشى في صناعة الإنشا، 4 أجزاء، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1913 - 1919 ابن كثير (عماد الدين أبو الفدا إسماعيل بن عمر). - البداية والنهاية، 4 أجزاء، القاهرة، 1358 هـ‍. كرد على (محمد). - خطط الشام، 6 أجزاء، دمشق 1925 - 1928 الكرملى (الأب أنستاس مارى). - ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب، بحث في مجلة الرسالة، العدد 411، 19 مايو سنة 1941 ابن مالك (محمد بن أبى الفضائل الحمادى اليمنى). - كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة، القاهرة، 1939 ابن مماتى (الأسعد بن مليح). - قوانين الدواوين، مطبعة الوطن بالقاهرة، 1299 هـ‍، ونشره الدكتور عزيز سوريال عطيه، مطبعة مصر بالقاهرة، 1943 م. ابن منظور (أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الإفريقى المصرى). - لسان العرب، 20 جزءا، بولاق، 1302 - 1307 هـ‍. ابن ناصر (صدر الدين أبو الحسن على). - أخبار الدولة السلجوقية، نشر محمد إقبال، لاهور، 1933 النعيمى. - الدارس في المدارس، نشر جعفر الحسنى، دمشق، 1948 الماوردى (أبو الحسن على بن محمد). - الأحكام السلطانية، القاهرة، 1298

مبارك (الدكتور زكى). - الأخلاق عند الغزالى، القاهرة (بدون تاريخ). مبارك (على باشا). - الخطط التوفيقية الجديدة، 20 جزءا، القاهرة، 1304 - 1306 هـ‍. مرضى بن على بن مرضى الطرطوسى. - تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة في الحروب من الأسواء، نشر أجزاء منها مع ترجمة فرنسية وتعليقات الأستاذ كلود كاهن. (انظر قائمة المراجع غير العربية). المسعودى (أبو الحسن على بن الحسين). - التنبيه والإشراف، القاهرة، 1938 مصلحة المساحة المصرية. - فهرس مواقع الأمكنة، بولاق، 1932 المقريزى (تقى الدين أحمد بن على). - اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا، نشر الدكتور جمال الدين الشيال، القاهرة، 1948 - إغاثة الأمة بكشف الغمة، نشر الدكتورين محمد مصطفى زيادة وجمال الدين الشيال، القاهرة، 1940 - السلوك لمعرفة دول الملوك، نشر الدكتور محمد مصطفى زياده (ظهر منه الجزء الأوّل في 3 مجلدات والجزء الثانى في مجلدين ولم يتم)، القاهرة، 1934 - 1942 - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، 4 أجزاء، مطبعة النيل بالقاهرة، 1324 - 1326 هـ‍. - نحل عبر النحل، نشر الدكتور جمال الدين الشيال، القاهرة، 1946

النعسانى (الشيخ طاهر). - أسامة بن منقذ، محاضرة ألقيت في المجمع العلمى العربى بدمشق، 1925، طبعت في حماة (بدون تاريخ). ابن هشام (أبو محمد عبد الملك). سيرة النبى عليه الصلاة والسلام، جزءان، القاهرة، 1346 هـ‍. ابن واصل (جمال الدين محمد بن سالم). - شرح كتاب الأغانى المعروف باسم تجريد الأغانى من المثالث والمثانى، نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 3 مجلدات؛ رقم 5071 أدب، وصور شمسية بمكتبة كلية الآداب بجامعة الاسكندرية رقم 2311 - التاريخ الصالحى. صور شمسية بمكتبة كلية الآداب بجامعة الاسكندرية. ياقوت (شهاب الدين أبو عبد الله الحموى). - معجم البلدان؛ ليبزج، 1870 - معجم الأدباء، طبعة فريد رفاعى، 20 جزءا، القاهرة، 1936 (ب) المراجع غير العربية

[مقدمه المؤلف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [رب يسّر] [مقدمه المؤلف] الحمد لله العزيز الغفّار، القوى القهّار، المتعالى عن أن تدركه الأبصار، أو تحيط به الخواطر والأفكار، أحمده على أنعمه المتوالية الغزار، وأصلّى على رسوله محمد المنتجب من أشرف نجار (¬1)، المخصوص بأعظم فخار، وعلى آله الأكرمين الأطهار، وأصحابه البررة الأخيار. وبعد؛ فهذا كتاب أوردت فيه أخبار ملوك بنى أيوب، وجملة من محاسنهم ومناقبهم، إذ كانوا أعظم ممن تقدمهم من الملوك شأنا، وأجلهم سلطانا؛ فتح الله تعالى بهم القدس الشريف من أيدى الكافرين، وأذل بسيوفهم أعناق الملحدين، وطهّروا الديار المصرية من بدع الباطنية (¬2)، وشيّدوا بها أركان الملة الحنفية، فشكر الله سبحانه سعيهم، وقدّس أرواحهم الشريفة، وأنالهم من الآخرة أعلا الرتب المنيفة. وخدمت به خزانة الجناب (¬3) الكريم المولوى الأميرى الكبيرى العضدى ¬

(¬1) النجار الأصل، ويوجد أمام هذا اللفظ في الهامش مايلى: نجار: Color,Natura, Radix,Diversitas ، ويبدو أن أحد المستشرقين الذين اطلعوا على هذه النسخة في مكتبة جامعة كمبردج استعصى عليه فهم لفظ «نجار» فكتب أمامها معانيها المختلفة في اللغة اللاتينية. (¬2) يقصد المؤلف أن الأيوبيين قضوا على الدولة الفاطمية الشيعية التي ظلت تحكم مصر نحو قرنين من الزمن. (¬3) كان للألقاب الاسلامية في العصر المملوكى خاصة نظام دقيق عرفه ديوان الانشاء وحذقه كتابه، وأفرد القلقشندى الجزء السادس من كتابه صبح الأعشى للحديث عن هذا النظام، وقسمها ابتداء من ص 130 إلى خمس درجات: الدرجة الأولى درجة المقر، والدرجة الثانية درجة الجناب، وأورد أمثلة مما كان يكتب لنواب الشام مما يبدأ بلفظ جناب، وهى لا مختلف كثيرا عن هذه الألقاب التي لقب بها المؤلف هنا الملك المنصور صاحب حماة الذى ألف الكتاب باسمه.

النصيرى الاسفهسلارى (¬1) العالمى العادلى المظفرى المؤيدى، ملك الأمراء، مقدّم الجيوش، مبارز الدين، سيد الغزاة والمجاهدين، الملكى المنصورى (¬2) أعز الله أنصاره، وضاعف اقتداره؛ إذ كان الله سبحانه قد خصّه من بين سائر أمراء عصره بالرأى الصائب، والفكر الثاقب، والفضل الغزير الباهر، والعقل الرصين الوافر، والأخلاق الكاملة الرضية، والمحاسن الجميلة السنية، ومحبة العلم والعلماء، وإيثار الفضيلة والفضلاء؛ وسمّيته: «مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب» وبالله المستعان، وعليه التكلان. ¬

(¬1) اسفهسلار كلمة مكونة من لفظين، أحدهما فارسى وهو «أسفه» ومعناه المقدم، والثانى تركى وهو «سلار» ومعناه العسكر؛ فكأن معناها: «مقدم العسكر»، وقد استعمل هذا المصطلح في مصر في عهد الدولة الفاطمية، وكان حامله صاحب وظيفة تلى صاحب الباب وهو كما ذكر (القلقشندى: ج 3، ص 483): «زمام كل زمام، وإليه أمر الأجناد والتحدث فيهم، وفى خدمته وخدمة صاحب الباب تقف الحجاب على اختلاف طبقاتهم»، ثم أصبح هذا اللقب في العصر المملوكى مما يختص به أمراء الطبلخاناة أو من هم في مرتبتهم، ويذكر القلقشندى أن الأمراء في زمانه تركوا استعمال هذا اللقب لأن العامة اعتادوا أن يقولوا لبعض من يقف بباب السلطان من الأعوان «اسباسلار» فكره الأمراء «مشاركة بعض الأعوان فيه، فأضربوا عنه لذلك، أو لم يفهموا معناه فتركوه». (صبح الأعشى: ج 6، ص 7 و 8). (¬2) هو الملك المنصور الثانى سيف الدين محمد صاحب حماة، من نسل الملك المظفر الأول تقى الدين عمر بن شاهنشاه - ابن أخى صلاح الدين -؛ ولى المنصور الثانى حكم حماة سنة 642 هـ‍ وظل على عرشها إلى أن توفى سنة 683، وكان عالما محبا للعلماء، فعاش ابن واصل سنين طويلة في كنفه، وله ألف كتابين من أهم كتبه: مفرج الكروب هذا - كما يتضح من النص -، وشرح كتاب الأغانى.

ذكر نسب بنى أيوب

ذكر نسب بنى أيوب لا خلاف في أن الملك الأفضل نجم الدين أيوب - رحمه الله - والد الملوك، وأخاه الملك المنصور أسد الدين شيركوه، وهما ابنا شاذى (¬1) بن مروان، ثم قيل إن مروان هو ابن محمد بن يعقوب، وقيل مروان هو ابن يعقوب نفسه. واختلف في أصلهم: فذكر عز الدين بن الأثير - المؤرخ الموصلى - أن أصلهم من الأكراد الرّواديّة (¬2)، وهم فخذ من الهذبانيه. وأنكر جماعة من ملوك بنى أيوب النسبة إلى الأكراد، وقال: «إنما نحن عرب، نزلنا عند الأكراد وتزوجنا منهم» [2]. وادعى بعضهم النسب إلى بنى أمية. وكان الملك المعز إسماعيل (¬3) بن سيف الإسلام ظهير الدين ¬

(¬1) هكذا ضبطه (ابن خلكان: الوفيات، ج 1، ص 152)، وقال إن هذا الاسم عجمى ومعناه بالعربى فرحان. (¬2) في الأصل: «الردادية»، وقد صحح اللفظ بعد مراجعة: (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 128) و (أبو شامه: الروضتين، ج 1، ص 129) و (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 4) و (ابن تغرى بردى: النجوم، ج 6، ص 4)، والحديث عن نسب بنى أيوب وأصلهم الكردى أو الأهوى العربى طويل، أنظر لهذا ولذاك: (ابن حوقل: المسالك والممالك، ص 187) و (المسعودى: التنبيه والاشراف، ص 89) و (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 13 - ب) و Enc .Isl .Art .Kurds . (¬3) خرج من مصر في أوائل عهد صلاح الدين (569 - 1173) جيش أيوبى لفتح اليمن، وقد تولى هذا الفتح الملك المعظم تورانشاه الأخ الأكبر لصلاح الدين، وقد تولى هذا الملك حكم اليمن بعد فتحها (569 - 577 - 1173 - 1181) ثم خلفه أخ آخر هو سيف الاسلام طغتكين (577 - 593 - 1181 - 1196)، وبعد موته خلفه ابنه الملك المعز إسماعيل (593 - 598 - 1196 - 1201). أنظر: Lane - Poole : Nohammadan Dynasties, P. 98. Zambaur : Manuel de Genealogie et de Chronologie pour l'Histoire de l'IslaM . P. 98. وسيؤرخ ابن واصل فيما يلى لفتح اليمن ولكل ملك من هؤلاء في شىء من التفصيل.

طغتكين (¬1) بن أيوب - صاحب اليمن بعد أبيه سيف الإسلام ظهير الدين - يدّعى ذلك، وسمى نفسه: «المعز لدين الله»، وخطب لنفسه بالخلافة (¬2) في اليمن، وذلك في أيام عمه الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب، فأنكر ذلك الملك العادل - رحمه الله - وقال: «لقد كذب إسماعيل، ما نحن من بنى أمية أصلا». والذين ادّعوا هذا النسب قالوا: «أيوب، بن شاذى، بن مروان، بن الحكم، ابن عبد الرحمن، بن محمد، بن عبد الله، بن محمد، بن محمد، بن عبد الرحمن، ابن الحكم، بن هشام، بن عبد الرحمن الداخل، بن معاوية، بن هشام، ابن عبد الملك، بن مروان، بن الحكم، بن أبى العاص، بن أمية، بن عبد شمس، ابن عبد مناف»؛ وفى عبد مناف يجتمع نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونسب بنى أمية. فهذا قول من جعل نسبهم في بنى أمية. وجماعة آخرون أثبتوا نسبهم في بنى مرة بن عوف؛ وممن أثبت ذلك الحسن ابن غريب [بن عمران] الحرسى (¬3)، فإنه أوصل نسبهم إلى على بن أحمد ¬

(¬1) ضبط هذا اللفظ بعد مراجعة: (ابن خلكان: الوفيات، ج 1، ص 425 - 26) ولكنه لم يعرفه وإنما قال: «وهو اسم تركى»، وقد ضبطه صاحب (شفاء القلوب ص 54 ب): «طغتكين» وذكر أنه يقال له أيضا «طغدكين». (¬2) ذكر هذه الحقيقة عنه كثرة المؤرخين، فمما ذكره (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 74 ا) مثلا أنه «ادعى أنه أموى، ورام الخلافة، ولبس ثيابها، وكان طول الكم نحو عشرين ذراعا، وسمى نفسه المهدى، وأرسل إليه عمه العادل ينهاه عن ذلك، وينكر فعله، وقيل إنه ادعى النبوة». انظر أيضا: (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 471 - ترجمة صلاح الدين)، (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 42). (¬3) في الأصل: «حسن بن عريب الخريثى»، وفى (شفاء القلوب، ص 3 ا - ب): «ابن غريب» فقط، وقد صحح الأسم وأضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة: (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 471) فهو أول من نقل هذا النسب عن هذا المؤرخ النسابة، الحسن بن غريب حيث قال: «ورأيت مدرجا رتبه الحسن بن غريب الحرسى يتضمن أن أيوب ابن شادى بن مروان. . . الخ» وعن ابن خلكان نقل هذا النسب المؤرخون اللاحقون كابن واصل وغيره، هذا ولم أعثر فيما بين يدى من مراجع على ترجمة أو تعريف للحسن بن غريب =

المرّى (¬1) الذى امتدحه المتنبى بقوله: شرق الجوّ بالغبار إذا سا ... ر علىّ بن أحمد القمقام وأحضر هذا النسب إلى الملك المعظم شرف الدين عيسى، بن الملك العادل - صاحب دمشق -، فسمع النسب عليه، وأسمعه ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، في سنة تسع عشرة وستمائة. والنسب هو هذا: «أيوب، بن شاذى، بن مروان، بن أبى على، بن عثيرة (¬2)، بن الحسن، ابن على، [بن أحمد بن على] (¬3)، بن عبد العزيز، بن هدبة، بن الحصين، ابن الحرث، بن سنان، بن عمرو، بن مرّة، بن عوف». ثم اختلف النسابون بعد ذلك، فالأكثرون قالوا: «عوف، بن سعد، بن ذبيان، بن بغيض، بن ريث، بن غطفان، بن سعد، ابن قيس [بن] عيلان (¬4)، [بن إلياس] (¬5)، بن مضر، بن نزار، بن معدّ، ابن عدنان» وبعضهم قالوا: ¬

= الحرسى هذا. ثم قال ابن خلكان بعد أن ذكر الخبر والنسب: «هذا آخر ما ذكره في المدرج، وكان قد قدمه إلى الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق، وسمعه عليه هو وولده الملك الناصر صلاح الدين أبو المفاخر داود بن الملك المعظم، وكتب لهما بسماعهما عليه في آخر رجب سنة تسع عشرة وستمائة». (¬1) لعله يقصد أنه ينتمى بنسبه إلى مرة بن عوف، وإلا فان نص ابن خلكان - وهو المصدر الذى ينقل عنه ابن واصل هنا - هو: «إن على بن أحمد بن على بن عبد العزيز يقال إنه ممدوح المتنبى ويعرف بالخراسانى، وفيه يقول من جملة قصيدة. . الخ». (¬2) كذا في الأصل، وفى (شفاء القلوب، ص 3 ا): «عتيرة»، وفى (ابن خلكان: الوفيات، ج 3 ص 471): «عنترة»؛ أنظر أيضا: (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 6، ص 13 هامش 3). (¬3) في الأصل: «ابن الحسن بن أبى على بن عبد العزيز» وقد صححت وأضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة: (ابن خلكان) و (النجوم الزاهرة)، الاجزاء والصفحات المذكورة في الهامش السابق. (¬4) في الاصل: «قيس غيلان» وقد صححت بعد مراجعة: (ابن خلكان، الوفيات) و (ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة). (¬5) ما بين الحاصرتين عن الوفيات والنجوم.

«عوف، بن لؤى، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر - وهو الذى ينتمى إليه نسب قريش كلهم - ابن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، ابن نزار، بن معدّ، بن عدنان». والنسابون مختلفون فيما وراء ذلك، أي عدنان. والذى ذكره صاحب السيرة، أنه: «عدنان، بن أدد، بن مقوّم، [بن ناحور] (¬1)، بن تيرح (¬2)، بن يعرب، بن يشجب (¬3)، بن نابت، ابن إسماعيل [3]، بن ابراهيم الخليل - صلوات الله عليهما - بن تارخ. وهو آزر، ابن ناحور، بن شاروخ، بن أرغو، بن فالغ، بن عابر، بن أرفخشذ، بن سام، ابن نوح - عليه السلام - بن لمك، بن متوشلخ، بن أخنوخ - وهو إدريس عليه السلام - بن يرد (¬4)، بن مهليل (4)، بن قينان، بن أنوش، بن شيث، ابن آدم - أبى البشر عليه السلام -». فهذا جملة ما قيل في نسبهم (¬5)، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة: (السيرة لابن هشام، ص 5؛ ابن قتيبة: المعارف، ص 29؛ الذهبى: تاريخ الاسلام، ج 1، ص 19؛ انقلقشندى: صبح الأعشى، ج 1، ص 306 - 307). (¬2) في الاصل: «نبرح» وقد صححت بعد مراجعة المراجع المذكورة في الهامش السابق. (¬3) في الاصل: «يشخب»، وقد صححت بعد مراجعة المراجع السابقة. (¬4) في الاصل: «بن البارد بن مهلاييل» والتصحيح عن المراجع السابقة. (¬5) واضح من دراسة موطن الأيوبيين الأصلى ونشأتهم الأولى أنهم أكراد الجنس؛ أما نسبتهم إلى أصل عربى فواضح أيضا أنها مسألة طارئة جدت بعد قيام دولتهم وإقامة ملكهم، يؤيد هذا أسانيد تاريخية كثيرة، منها ما يرويه ابن خلكان عن شيخه وأستاذه بهاء الدين بن شداد - مؤرخ صلاح الدين - فقد ذكر أنه سمع شيخه بهاء الدين بحكى عن السلطان صلاح الدين أنه عندما سمع هذا النسب العربى أنكره، وقال: «ليس لهذا أصل أصلا» ومنها ما ذكره (المقريزى، الخطط، ج 3، ص 378) فقد سرد هذا النسب العربى المدعى ثم علق عليه بقوله: «وهذه أقوال الفقهاء لهم ممن أراد الحظ لديهم لما صار الملك إليهم»؛ أنظر أيضا: (الدكتور محمد مصطفى زياده، المؤرخون في مصر في القرن 15، ص 11).

ذكر ابتداء أمر نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه

ذكر ابتداء أمر نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه كان أسد الدين شيركوه (¬1) أكبر سنا من نجم الدين أيوب، وكانا من أهل مدينة دوين (¬2) - وهى بلد من بلاد العجم قريب من أخلاط (¬3) - فاتفق أنهما سافرا منها، وقصدا العراق، وخدما الأمير مجاهد الدين بهروز (¬4) الخادم، وكان شحنة (¬5) ببغداد من قبل السلاطين السلجوقية؛ وكانت تكريت (¬6) ¬

(¬1) شيركوه كلمة فارسية تتكون من لفظين: شير ومعناها أسد، وكوه ومعناها جبل؛ فالكلمة في جملتها تعنى أسد الجبل. (¬2) هكذا ضبطها (ياقوت، معجم البلدان) وعرفها بأنها بلدة من نواحى ارّان في آخر حدود أذربيجان بقرب من تفليس، منها ملوك الشام بنو أيوب؛ ولكن (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 470) ضبطها دوين. وعرفها بما لا يختلف كثيرا عن ياقوت، قال: هى بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج. (¬3) هكذا ضبطها (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 4، ص 353)، ويقال فيها أيضا خلاط، وهى إحدى مدن إرمينية الكبرى. (¬4) هكذا ضبطه (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 472). وقال إنه لفظ عجمى معناه يوم جيد على التقديم والتأخير على عادة كلام العجم، وذلك أن به معناها جيد، وروز معناها يوم؛ وقد كان مجاهد الدين بهروز بن عبد الله الغياثى خادما روميا أبيض اللون، تولى شحنة بالعراق من جهة السلطان مسعود السلجوقى. وكان صاحب همة في عمل المصالح الجليلة وعمارة البلاد، واسع الصدر والصبر في البذل والانفاقات والمطاولة والمراجعة إذا امتنع عليه الغرض، وبنى في بغداد رباطا وقف عليه وقفا جيدا، ومات في رجب سنة 540 (¬5) جاء في اللسان: «وشحن البلد بالخيل ملأه، وبالبلد شحنة من الخيل أي رابطة، قال ابن برى: وقول العامة في الشحنة إنه الأمير غلط» غير أن هذا الغلط هو ما كان يستعمله الناس دائما ويتردد في كتب التاريخ العربية في العصور الوسطى، فالشحنة - ويقال الشحنسكية - رياسة الشرطة، أو محافظ المدينة أو الأمير المشرف على حراستها؛ ويجمع هذا اللفظ على: شحن، وشحانى. انظر أيضا: (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 36، 35، 979، 982؛ Dozy : Sup .Dict .Arab). (¬6) هكذا ضبطها ياقوت، وقال: والعامة تقول: تكريت، وذكر أنها بلدة مشهورة بين بغداد والموصل، وهى إلى بغداد أقرب، ولها قلعة حصينة في طرفها الأعلى راكبة على دجلة، وهى غربى دجلة.

إقطاعه فتقدما عند مجاهد الدين، وفوّض [مجاهد الدين] إلى نجم الدين أيوب دزداريّة (¬1) تكريت، فسارا إليها، ونزلا بقلعتها، فأقاما بها مدة. ولما وقعت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله (¬2) والأمير عماد الدين زنكى ابن آق سنقر سنة ست وعشرين وخمسمائة - على ما سنذكره - وكسر الخليفة عماد الدين زنكى، خدم نجم الدين أيوب أتابك زنكى، وأقام له السفن حتى عبر هناك دجلة، واتبعه أصحابه، وأحسن نجم الدين أيوب وأخوه (¬3) أسد الدين شيركوه صحبته. وكان هذا أول المعرفة بين عماد الدين زنكى وبين نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه، ومبدأ سعادتهما، ولكل شىء سبب. ثم جرى لنجم الدين أيوب ما أوجب صرفه عن ولاية تكريت، فقيل: كان السبب أن أسد الدين شيركوه قتل إنسانا بتكريت ظلما، فعزل مجاهد الدين أخاه [نجم الدين] (¬4) لذلك؛ وقيل: إن نجم الدين أيوب رمى مملوكا من مماليك مجاهد الدين بهروز بسهم فقتله، فخشى نجم الدين، فتوجّه نحو الموصل ومعه أخوه أسد الدين، فخدما عماد الدين زنكى بن آق سنقر - صاحب الموصل - فأحسن إليهما، وقربهما، ورعى لهما خدمتهما له، وبالغ في إكرامهما، وأقطعهما إقطاعات جليلة وترقّت [4] أحوالهما عنده، فلما فتح عماد الدين زنكى بعلبك، جعل نجم الدين أيوب ¬

(¬1) كلمة فارسية مكونة من لفظين: دز - ويقال دز - أي قلعة، ودار الحافظ أو الممسك، فكأن معناها صاحب القلعة أو متوليها؛ انظر: (الجواليقى: المعرب، ص 267؛ ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 472؛ Dozy : Sup .Dict .Arab). (¬2) المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله (512 - 529)؛ انظر تفاصيل هذه الحرب بينه وبين زنكى في: (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 26؛ ابن الأثير: الكامل، ج 10، ص 289؛ السيوطى: تاريخ الخلفاء، ص 286 - 287). (¬3) في الأصل: «وأخاه». (¬4) أضفنا ما بين الحاصرتين ليتضح المعنى.

دزدارا فيها، فلم يزل متوليها إلى أن قتل عماد الدين زنكى على قلعة جعبر سنة إحدى (¬1) وأربعين وخمسمائة - على ما سنذكره. وكان صاحب دمشق إذ ذاك مجير الدين أبق (¬2)، بن جمال الدين محمد، ابن تاج الملوك بورى (¬3)، بن ظهير الدين طغتكين؛ وكان طغتكين هذا أتابك الملك شمس الملوك دقاق، بن تاج الدولة تتش، بن السلطان ألب أرسلان السلجوقى؛ فلما مات دقاق استقل طغتكين بملك دمشق، وملك بعده ابنه تاج الملوك بورى، ثم ملك بعد تاج الملوك ابنه شمس الملوك إسماعيل، فقتلته والدته، وملّكت أخاه شهاب الدين محمود، بن بورى (3)؛ ثم قتل شهاب الدين، وولى أخوه جمال الدين محمد؛ ثم توفى جمال الدين، وملك بعده ولده مجير الدين أبق (2)، وكان أتابكه والقيّم بأمره معين الدين أنر (¬4) - مملوك جده طغتكين -. فلما قتل عماد الدين زنكى على قلعة جعبر، راسل مجير الدين وأتابكه معين الدين نجم الدين أيوب ليسلم إليهما بعلبك، على أن يعطوه إقطاعا جليلا بدمشق، فأجابهما إلى ذلك، وسلّم إليهما بعلبك، ونزل نجم الدين أيوب بدمشق، وتسلم الإقطاع الذى عيّن له؛ وقد ذكر أن تسليم نجم الدين أيوب بعلبك ¬

(¬1) في الاصل: «أحد». (¬2) في الاصل: «أتق»، وقد صحح الاسم بعد مراجعة: (Zambaur,Op .CiT .P ,225) ومجير الدين أبق هو سادس وآخر من حكم دمشق من بنى بورى، حكمها في سنة 534، وظل يحكمها إلى أن عزله عنها نور الدين محمود بن زنكى في سنة 549. (¬3) في الاصل «نورى». (¬4) تكاد تجمع المراجع على ضبط هذا الاسم هكذا «أنر» ولكن الذهبى انفرد بضبطه كما في المتن ونص عليه «على الالف ضمة وفتح النون» وقد توفى معين الدين أنر في سنة 544، ودفن بدمشق بقبته بين دار البطيخ والشامية، وبنى في دمشق مدرسته المعينية لتدريس المذهب الحنفى. انظر: (النعيمى: الدارس في المدارس، ج 1، ص 588؛ Zambaur : Op Cit .P . 30,225).

إلى صاحب دمشق كان سببه أنه راسل الأمير سيف الدين غازى بن عماد الدين زنكى - وهو أكبر من أخيه نور الدين محمود - رحمه الله - ليسلم إليه بعلبك ويرسل إليه من يحفظها، فأبطأ عليه بسبب اشتغال سيف الدين بترتيب الممالك الشرقية، وخاف نجم الدين أن تؤخذ منه عنوة، ويناله أذى، فسلّمها إلى صاحب دمشق بسبب ذلك. واتصل الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذى - أخو نجم الدين أيوب - بخدمة نور الدين محمود، بن عماد الدين زنكى، وصار من أخص أصحابه، ومقدما على سائر أمرائه، لما عرفه من شهامته وشجاعته، وإقدامه في الحرب على ما لا يقدم عليه غيره؛ ولم يزل حاله ينمو عنده إلى أن أقطعه مدينتى حمص والرحبة. ولما قويت أطماع نور الدين محمود بن زنكى في ملك دمشق [5] وأخذها من صاحبها مجير الدين أبق بن محمد، أمر أسد الدين شيركوه بمكاتبة أخيه نجم الدين أيوب، وكان بها مقيما، وطلب منه مساعدته على ما هو بصدده، فطلب هو وأخوه نجم الدين أيوب من الإقطاع شيئا كثيرا ببلد دمشق، فبذل لهما نور الدين ما طلبا، وحلف لهما على ذلك فساعد نجم الدين في تسليم البلد إلى نور الدين، فتسلمه، ووفى لهما بما حلف لهما عليه، وصارت منزلتهما عنده في أعلا الرتب؛ وصار أسد الدين شيركوه مقدم جيوشه وعساكره ثم كان من قصد أسد الدين الديار المصرية بعساكر نور الدين ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولما كان ابتداء أمر نجم الدين وأخيه أسد الدين مبنيا على الدولة الأتابكية كان الأولى الابتداء بذكر الدولة الأتابكية.

ذكر ابتداء الدولة الأتابكية

ذكر ابتداء الدولة الأتابكية كان قسيم الدولة آق سنقر الحاجب. جدّ نور الدين محمود بن زنكى - مملوكا للسلطان العادل عضد الدولة ألب أرسلان، بن داود، بن ميكاييل، بن سلجوق، فربى مع ولده السلطان العادل جلال الدولة ملكشاه، واستمر في صحبته إلى حين كبره، وإفضاء السلطنة إليه، فجعله من أعيان دولته، وأكابر أمرائه، وأخص أوليائه، واعتمد عليه في أموره كلها، وعلت مرتبته ومنزلته إلى أن لقّب: «قسيم الدولة». وفى سنة ست وسبعين وأربعمائة سيّر السلطان جلال الدولة [ملكشاه] فخر الدولة بن جهير (¬1) إلى ديار بكر ليتسلمها، وأعطاه الكوسات (¬2)، وسيّر معه العساكر، فسار إليها، ونزل بنواحى آمد. وفى سنة سبع وسبعين وأربعمائة أردفه السلطان بجيش كثيف من جملتهم الأمير أرتق بن أكسب (¬3) - أبو الملوك الأرتقية - وكان صاحبها وهو ابن مروان ¬

(¬1) هو أبو نصر فخر الدولة محمد بن محمد بن جهير، ولى الوزارة للخليفتين القائم والمقتدى، وتوفى سنة 483؛ انظر أخباره في: (ابن الجوزى: المنتظم، ج 9، ص 2 وما بعدها؛ ابن طباطبا: الفخرى، ص 260 - 264). (¬2) عرفها (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 4، ص 9 و 13) بأنها صنوجات من نحاس شبه الترس الصغير، يدق بأحدها على الآخر بايقاع مخصوص، ومن يتولى ذلك يسمى الكوسى؛ ويشبه أن يكون المقصود بها موسيقى الجيش أو (الطبلخاناة) - كما كانت تسمى في مصطلح العصور الوسطى -؛ وفى (المنتظم: ج 9، ص 6) جملة توضح هذا المعنى وتؤكده، قال: «وعقد للوزير فخر الدولة على ديار بكر، وخلع عليه الخلع، وأعطى الكوسات، وأذن له في ضربها أوقات الصلوات الخمس بديار بكر، والصلوات الثلاث: الفجر والمغرب والعشاء في المعسكر السلطانى». (¬3) في الأصل: «أكشت»، وقد ضبط الاسم بعد مراجعة (ابن خلكان: الوفيات، ج 1، ص 107؛ ابن الأثير: الكامل، ج 10، ص 54؛ Lane - Poole : M . Dynasties, P. 661) وذكر ابن خلكان أنه يقال فيه أيضا: «أكسك» وبهذا النطق أخذ (Zambaur : Op .Cit . P. 230) فرسمه هكذا: «Ortoq b .Eksek» ؛ أنظر ترجمة حياته وبيانا بأفراد أسرته في هذه المراجع جميعا نفس الأجزاء والصفحات.

الكردى (¬1) - لما نازلته العساكر السلطانية قد مضى إلى الأمير شرف الدولة مسلم ابن قريش بن بدران العقيلى - صاحب الموصل - راغبا في أن ينصره ويساعده على من قصده، على أن يسلم إليه آمد، فأجابه إلى ذلك، واتفقا عليه، وتحالفا، واجتمعا على حرب فخر الدولة بن جهير. فلما رأى فخر الدولة اجتماعهما مال إلى الصلح، وقال: «لا أوثر [6] أن يحل بالعرب بلاء على يدى.» فعلم التركمان ما قد عزم عليه، فركبوا ليلا، وأتوا إلى العرب، واحتاطوا بهم، وذلك في ربيع الأول من هذه السنة؛ والتحم القتال واشتد، وانهزمت العرب، ولم يحضر هذه الوقعة فخر الدولة، ولا أرتق؛ وغنم التركمان حلل العرب ودوابهم، وانهزم شرف الدولة، وحمى نفسه حتى دخل إلى آمد، فانحصر فيها، ونازله فخر الدولة ومن معه، فراسل شرف الدولة [مسلم بن قريش] الأمير أرتق، وبذل له مالا، وسأله أن يمن عليه بنفسه (¬2) ويمكنه من الخروج [من آمد (¬3)] وكان هو على حفظ الطرق [والحصار (3)]، فأذن له في الخروج، فخرج لتسع (¬4) بقين من ربيع الأول، وقصد الرقة وأرسل إلى الأمير أرتق ¬

(¬1) ابن مروان المذكور هنا هو واحد من بنى مروان حكام ميافارقين وآمد في القرن الخامس الهجرى، وهو أبو المظفر منصور بن نظام الدين أبو القاسم نصر بن نصر الدولة أبى نصر أحمد بن مروان الكردى، حكم ميافارقين وآمد في المدة بين سنتى 472 و478، (Zambaur : Op .Cit . P. 136). (¬2) في الأصل: «أن يمن على نفسه»، وما هنا عن (ابن الأثير: الكامل، ج 10، ص 54). ويلاحظ أن المؤلف ينقل هذه الحوادث عن ابن الأثير نقلا حرفيا في معظمه وبايجاز يسير في أقله دون أن ينص على ذلك؟ والرأى عندى أن ابن واصل إما أنه ينقل عن ابن الأثير للتشابه التام بين النصين وإما أنه ينقل عن المرجع الذى أخذ عنه ابن الأثير، وذلك لأن ابن الأثير لم يكن معاصرا لهذه الحوادث. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادات عن ابن الأثير للايضاح. (¬4) في ابن الأثير: «فخرج منها في الحادى والعشرين من ربيع الأول»، وما فعله ابن واصل في المتن نموذج لأسلوبه في الايجاز عن ابن الأثير أو عن مرجع ابن الأثير.

ابن أكسب بما [كان (¬1)] وعده [به (1)]، ثم سار فخر الدولة بن جهير إلى ميافارقين، ومعه الأمير بهاء الدولة [منصور (1)] بن مزيد - صاحب الحلة - وابنه الأمير سيف الدولة صدقة، ففارقوه، وعاد إلى العراق. ثم نازل فخر الدولة خلاط. ولما بلغ السلطان جلال الدولة (ملكشاه) انهزام شرف الدولة وحصره بآمد، لم يشك في أسره، فخلع على الوزير عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير، وسيّره في جيش كثيف إلى الموصل، وسيّر معه من الأمراء: الأمير قسيم الدولة آق سنقر الحاجب - المقدم ذكره -؛ وكان الأمير أرتق قد رجع إلى السلطان، وعاد صحبته (¬2) عميد الدولة من الطريق، ونازلوا الموصل وأرسلوا إلى أهلها يشيرون عليهم بطاعة السلطان، ففتحوا البلد وسلموه إليهم؛ وسار السلطان بنفسه إلى بلاد شرف الدولة ليملكها، (¬3) وكانت بلاده الموصل، وديار ربيعة أجمع، ومدينة حلب، ومنبج، وما بينهما من البلاد الجزيرية والفراتية (3)؛ فأتاه الخبر بحركة أخيه تكش بخراسان، ورأى شرف الدولة قد خرج من الحصر، فأرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة - وهو مقابل الرحبة - فأعطاه العهود والمواثيق، فحضر إلى عند السلطان - وهو بالبوازيج (¬4) - فخلع عليه، وذلك سلخ رجب، وكانت أمواله قد ذهبت، فاقترض ما خدم به [7]، وحمل للسلطان خيلا رائقة (¬5)، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادات عن ابن الاثير للايضاح. (¬2) في الأصل: «وحاد عن صحبه عميد الدولة». والتصحيح عن: (ابن الأثير: ج 10، ص 54 - 55). (¬3) هذه الجملة غير موجودة في ابن الأثير، وإنما أضافها ابن واصل للايضاح، وهكذا اعتاد عند ذكر أسماء الأعلام والبلدان أن يضيف اليها ما يعرف بها. (¬4) في الأصل: «البواريج»، وقد ضبطت بعد مراجعة ابن الأثير وياقوت، وقد عرفها الأخير في (معجم البلدان) بأنها بلد قرب تكريت على فم الزاب الأسفل حيث يصب في دجلة، ويقال لها بوازيج الملك وهى من اعمال الموصل؛ ثم قال: وبوازيج الأنبار موضع آخر. (¬5) في الأصل: «رابعة»، والتصحيح عن ابن الأثير.

من جملتها فرسه بشار - وهو فرسه المشهور الذى نجّاه من المعركة على ما هو مذكور في أخباره - وكان لا يجارى؛ فأمر السلطان أن يسابق به الخيل، فجاء سابقا لها كلها، فقام السلطان قائما لما تداخله من العجب. وأقر السلطان شرف الدولة على بلاده، وأعاد إليه الموصل، وهذا كله مذكور في موضع آخر يليق به، وإنما سقناه هنا لتتصل أخبار آق سنقر التي نحن بصددها. وكان صاحب قونية وأقصرا وما يتصل بهما من البلاد الرومية الملك سليمان ابن قطلمش - وهو ابن عم السلطان جلال الدولة ملكشاه - فقصد في هذه السنة - أعنى سنة سبع وسبعين وأربعمائة - مدينة أنطاكية وهى بيد الروم - وكان ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة -. وكان صاحبها الفردوس الرومى قد سار عنها إلى بلاد الشام، ورتّب فيها شحنة، - وكان الفردوس سيىء السيرة في رعيته وفى جنده جدا -، وكاتب (سليمان) الشحنة وابن الفردوس. لأن أباه (الفردوس) كان قد حبسه؛ فكاتبهما سليمان ليسلموا البلد إليه، وركب البحر وقصدها في ثلاثمائة فارس، وراجل كثير، ثم خرج من البحر، وسار في جبال وعرة ومضايق شديدة حتى وصل إليها للموعد. فنصب عليها السلاليم باتفاق من الشحنة وابن الفردوس، وصعد السور، واجتمع بالشحنة، ودخل البلد، وذلك في شعبان، فقاتله أهلها، فهزمهم (مرة) بعد أخرى، وقتل كثير من أهلها، ثم عفا عنهم، وتسلم القلعة المعروفة بالقسيّان (¬1)، وأخذ من الأموال ما يجاوز الإحصاء وأحسن إلى الرعية وعدل فيهم، وأمر بعمارة ما خرّب، ومنع أصحابه من النزول في دورهم ومخالطتهم، وأرسل إلى السلطان جلال الدولة ملكشاه يبشره بذلك. ¬

(¬1) هكذا ضبطها ياقوت وقال إنها واد ولم يزد.

وأرسل الأمير شرف الدولة [مسلم بن قريش (¬1)]- صاحب حلب والموصل - إلى الملك سليمان يطلب منه ما كان الفردوس يحمله من المال، ويخوّفه معصية السلطان، فأجابه: «أما الطاعة للسلطان فهى شعارى ودنارى، والخطبة له والسكة في بلادى [8] وقد كاتبته بما فتح الله على يدى بسعادته من هذا البلد [وأعمال الكفار (1)]، وأما المال الذى كان يحمله صاحب أنطاكية [قبلى (1)] فهو كان كافرا، وكان يحمل جزيته وجزية أصحابه، وأنا بحمد الله مؤمن، ولا أحمل شيئا»، فنهب شرف الدولة بلد أنطاكية، فنهب سليمان بلد حلب؛ ووقعت بينهما فتنة (¬2) اقتضت أنهما التقيا في يوم الجمعة الرابع والعشرين من صفر في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فانهزم شرف الدولة وأصحابه بعد أن قتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب [ثم قتل شرف الدولة مسلم بن قريش في نفس اليوم - الرابع والعشرين من صفر (3) -]. [ولما قتل شرف الدولة سار سليمان بن قتلمش إلى حلب]، فحصرها إلى خامس ربيع الآخر، فلم يبلغ منها غرضا، فرحل عنها. وكان [سليمان بن قتلمش (¬3)] ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادات عن ابن الأثير للايضاح. (¬2) انظر تفاصيل هذه الفتنة في (ابن الاثير: الكامل، ج 10، ص 56) فقد تجاوز ابن واصل عنها هنا إيجازا. (¬3) النص هنا لا يستقيم مع المعنى، لأن شرف الدولة قتل في هذه السنة بعد هزيمته مباشرة، والذى تولى حصار حلب بعد موته هو سليمان بن قتلمش؛ والراجح عندى أن المؤلف لم يلتفت إلى هذا الخلط وهو يوجز عن ابن الأثير، أو أن هنا سقطا من عمل الناسخ سبب هذا الاضطراب في المعنى، وقد أضفنا ما بين الحاصرتين للتصحيح والايضاح بعد مراجعة (ابن الأثير: ج 10، ص 57)، وقد ترجم هناك لشرف الدولة بعد ذكر موته ترجمة مختصرة مفيدة نؤثر نقلها هنا إتماما للفائدة، قال: «وكان أحول، وكان قد ملك من السندية التي على نهر عيسى إلى منبج من الشام وما والاها من البلاد، وكان في يده ديار ربيعة ومضر من أرض الجزيرة والموصل وحلب، وما كان لأبيه وعمه قرواش، وكان عادلا حسن السيرة، والأمن في بلاده عام والرخص شامل، وكان يسوس بلاده سياسة عظيمة بحيث يسير الراكب =

قد أرسل إلى ابن الحتيتى (¬1) العباسى - مقدم حلب - يطلب منه تسليمها إليه، فأنفذ إليه مالا، واستمهله إلى أن يكاتب السلطان جلال الدولة ملكشاه، وأرسل ابن الحتيتى إلى الملك تاج الدولة تتش ابن السلطان العادل عضد الدولة ألب أرسلان - أخى السلطان - وهو يومئذ صاحب دمشق، يعده أن يسلم إليه حلب، فسار تاج الدولة [تتش] طالبا حلب، وذلك في (¬2) سنة تسع وسبعين وأربعمائة، فسار إليه ابن عمه سليمان بن قطلمش (¬3)، ومع تاج الدولة الأمير أرتق بن أكسب، وكان قد فارق ابن جهير خوفا أن ينهى إلى السلطان إطلاق شرف الدولة من آمد - كما ذكرنا - وصار إلى خدمة تاج الدولة، فأقطعه البيت المقدس وما يتصل به. ثم التقى العسكران، فانهزم أصحاب الملك سليمان، وثبت هو في القلب، فلما رأى انهزام عساكره قيل إنه أخرج سكينا [كانت] معه فقتل بها نفسه، وقيل بل قتل في المعركة، واستولى تاج الدولة على معسكره. وكان سليمان في السنة الماضية - في صفر - أنفذ جثة شرف الدولة ملفوفة في إزار على بغل، وطلب من أهل حلب أن يسلموها إليه، وفى هذه السنة - في صفر - أرسل الملك تاج الدولة جئة الملك سليمان في إزار على بغل، وطلب من أهل حلب أن يسلموها إليه، فأجابه [ابن] الحتيتى أنه يكاتب السلطان، ومهما أمره فعل، فحصر تاج الدولة البلد، وضيّق على أهله، وسلم ابن الحتيتى كل برج من أبراجها ¬

= والراكبان فلا يخافان شيئا، وكان له في كل بلد وقرية عامل وقاض وصاحب خبر بحيث لا يتعدى أحد على أحد». أنظر أيضا: (Zambaur : Op .Cit . P. 135). (¬1) في الأصل: «الخيتى» والتصحيح عن ابن الأثير. (¬2) في الأصل: «وذلك في» وبها انتهى السطر، ثم بدأ السطر التالى بقوله: «وفى سنة تسع وسبعين الخ» وقد صححت بعد مراجعة (ابن الأثير: الكامل، ج 10، ص 60). (¬3) رسم هذا اللفظ في الأصل تارة بالتاء وتارة بالطاء.

إلى رجل من أعيان البلد ليحفظه، [9] وسلّم برجا من أبراجها إلى إنسان يعرف بابن الراعونى (¬1). ثم إن ابن الحتيتى أوحش هذا الرجل بكلام أغلظ له فيه، وكان شديد القوة، ورأى ما الناس فيه من ضيق الحصار، فراسل تاج الدولة يستدعيه، وواعده ليلة برفع الرجال إلى السور في الحبال، فأتى تاج الدولة [تتش (¬2)] للميعاد، فأصعد الرجال في الحبال والسلالم، وملك تاج الدولة البلد. واستجار ابن الحتيتى بالأمير أرتق فشفع فيه، وكان بالقلعة سالم بن مالك ابن بدران العقيلى - وهو ابن عم شرف الدولة [مسلم بن قريش (2)]- فأقام تاج الدولة يحصر القلعة سبعة عشر يوما، ثم بلغه وصول مقدمة أخيه السلطان، فرحل عنها إلى دمشق. وكان ابن الحتيتى قد كاتب السلطان [ملكشاه (2)] ليسلم إليه حلب، فسار إليه من أصفهان، وعلى مقدمته الأمير برسق، وبزان (¬3)، وغيرهما من الأمراء؛ وجعل طريقه على الموصل، فوصلها في رجب، وسار عنها ووصل إلى حرّان فسلمها إليه ابن الشاطر، فأقطعها الأمير محمد بن شرف الدولة بن بدران، ثم سار إلى الرّها - وهى بيد الروم - فحصرها وملكها، وكانوا قد اشتروها من ابن عطير. ثم سار إلى قلعة جعبر، فحصرها يوما وليلة وملكها، وقتل جمعا من بنى قشير (¬4)، وأخذ جعبرا صاحب القلعة (¬5) - وكان شيخا أعمى - وولدين له، وكانوا يقطعون الطريق ويخيفون السبيل، ثم عبر منها الفرات، فملك مدينة منبج في طريقه. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى ابن الأثير: «ابن الرعوى». (¬2) أضفنا ما بين الحاصرتين للايضاح. (¬3) كذا في الأصل، وفى ابن الأثير: «بوزان». (¬4) في الأصل: «بشير»، والتصحيح عن: (ياقوت: معجم البلدان، مادة جعبر). (¬5) ذكر (ياقوت: معجم البلدان) أن جعبر قلعة على الفرات بين بالس والرّقة قرب صفين، وكانت قديما تسمى «دوسر» فملكها رجل من بنى قشير أعمى يقال له جعبر بن مالك، ولما قصد السلطان جلال الدين ملك شاه بن أرسلان ديار ربيعة ومضر نازلها وأخذها من جعبر ونفى عنها بنى قشير.

ولما قارب حلب رحل أخوه تاج الدولة - كما ذكرنا - على البريّة، ومعه الأمير أرتق، وكان أشار أرتق على تاج الدولة أن يكبس السلطان، وكانوا قد وصلوا، وبهم وبدوابهم من التعب ما لم يبق معه امتناع، ولو فعل لظفر بهم؛ فقال تاج الدولة: «لا أكسر جاه أخى الذى أنا مستظل بظله، فإنه يعود علىّ بالوهن أولا». وسار إلى دمشق. ولما وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة، وسلم إليه شمس الدولة سالم ابن مالك (¬1) بن بدران القلعة على أن يعوّضه عنها قلعة جعبر، وكان قد امتنع بالقلعة أولا [10] فأمر السلطان أن يرمى إليه بالنشاب رشقا واحدا، فرمى الجيش كله عن يد واحدة، فكادت الشمس أن تحتجب من كثرة النشاب فعوضه السلطان عنها قلعة جعبر، ولم تزل بيده ويد أولاده إلى أن أخذها منهم الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى (¬2) - رحمهم الله - على ما سنذكره. وأرسل الأمير نصر (¬3) بن على بن منقذ الكنائى - صاحب شيزر - إلى السلطان، ودخل في طاعته، وسلم إليه اللاذقية، وكفرطاب، وفامية، [فأجابه إلى المسالمة، وترك قصده، وأقرّ عليه شبزر (¬4)]. ¬

(¬1) في الأصل «مالك بن سالم»، والتصحيح عن ابن الأثير و (Zambaur : Op .Cit . P. 135). (¬2) ولى شمس الدولة سالم بن مالك بن بدران العقيلى قلعة جعبر من سنة 479 إلى 519، ثم وليها من بعده شهاب الدولة مالك بن على بن سالم إلى سنة 564 حيث ملكها نور الدين محمود، أنظر: (Zambaur : Op .Cit . P. 135). (¬3) في الأصل: «نصير» وهو الأمير عز الدولة أبو مرهف نصر بن على بن نصر بن منقذ (Zambaur : Op .Cit . P. 104). (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن ابن الأثير للايضاح، وقد أسقطها المؤلف عند الاختصار، هذا وفى ابن الأثير فقرة أخرى - أسقطها المؤلف أيضا - تشير إلى مصير ابن الحتيتى، وقد آثرنا ذكرها هنا لتتم الفائدة، قال: «وأما ابن الحتيتى فكان واثقا باحسان السلطان ونظام الملك اليه، فانه استدعاهما، فلما ملك السلطان البلد طلب أهله أن يعفيهم من ابن الحتيتى، فأجابهم إلى ذلك واستصحبه معه، وأرسله إلى ديار بكر، فافتقر وتوفى بها على حال شديدة من الفقر، وقتل ولده بأنطاكية، قتله الفرنج لما ملكوها».

ذكر استيلاء الأمير قسيم الدولة آق سنقر الحاجب على مدينة حلب

ذكر استيلاء الأمير قسيم الدولة آق سنقر الحاجب على مدينة حلب ولما تسلم السلطان حلب سلمها إلى حاجبه الأمير قسيم الدولة آق سنقر في هذه السنة - أعنى سنة تسع وسبعين وأربعمأئة - وقيل بل سلّمها إليه سنة ثمانين، فاستولى عليها وعلى أعمالها: كمنبج، واللاذقية، وكفر طاب؛ وأقطع السلطان مدينة الرّها مجاهد الدولة بزان (¬1)، وأقطع أنطاكية الأمير ياغى سيان (¬2)؛ وظهرت كفاية الأمير قسيم الدولة وحمايته، وعظمت هيبته في جميع بلاده. ثم إن السلطان استدعاه إلى العراق فقدم عليه في تجمل عظيم، ولم يكن في عسكر السلطان من يقاربه، فاستحسن ذلك منه، وعظم محله عنده، ثم أمره بالعود إلى حلب، فعاد إليها، ورخصت الأسعار في أيام الأمير قسيم الدولة، وأقيمت الحدود الشرعية، وعمرت الطرقات، وأمنت السبل، وقتل المفسدون بكل فج، وكان كلما سمع يفسد أو بقاطع طريق أمر بصلبه على أبواب المدينة. وفى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة جمع الأمير قسيم الدولة عسكره، وقصد شيزر وحاصرها وصاحبها نصر بن على بن منقذ، وضايقها ونهب ربضها، ثم صالحه صاحبها وعاد إلى حلب. ¬

(¬1) هو أبو الفوارس مجاهد الدين بوزان بن مامين الكردى، توفى سنة 555؛ أنظر أخباره وترجمته في: (ابن القلانسى: ذيل تاريخ دمشق، ص 359 والصفحات المذكورة في الفهرس الأبجدى). (¬2) في الأصل: «باغى سيار»، وقد ضبط الاسم بعد مراجعة: (ابن القلانسى: ذيل تاريخ دمشق، ص 217)، وهو في (ابن الأثير: ج 10، ص 113): «باغيسيان» وفى (ياقوت: معجم البلدان، مادة أنطاكية): «بغيسغان»، وعن أخباره واستيلاء الفرنج على أنطاكية أثناء حكمه لها أنظر: (حسن حبشى: الحرب الصليبية الأولى، ج 48 وما بعدها وما به من مراجع).

منازلة قسيم الدولة حمص واستيلاؤه عليها

وفى سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة أسس القاضى أبو الحسن بن الخشاب (¬1) منارة حلب، وكان بحلب بيت معبد نار، قديم العمارة، وصار بعد ذلك أتون حمّام، فأخذ ابن الخشاب حجارته، وبنى بها المنارة، فأنهى بعض حسّاده إلى الأمير قسيم الدولة خبره، فغضب على القاضى ابن الخشاب، فاستحضره وقال: «هدمت معبدا هو لى وملكى». فقال: «أيها الأمير، هذا معبد للنار، وقد صار أتونا [11] فأخذت حجارته لأعمّر بها معبدا للإسلام، يذكر فيه الله وحده لا شريك له، وكتبت اسمك عليه، وجعلت الثواب لك، فإن رسمت غرمت ثمنه لك (¬2)، ويكون الثواب لى، فعلت». فأعجب الأمير كلامه، واستصوب رأيه، وقال: «بل الثواب لى، وافعل ما تريد». فشرع في عمارة المنارة وانتهى في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. منازلة قسيم الدولة حمص واستيلاؤه عليها في هذه السنة نازل الملك جلال الدولة تتش بن السلطان ألب أرسلان، والأمير قسيم الدولة آق سنقر، والأمير مجاهد الدولة بزان (¬3) - صاحب الرّها - حمص، وسبب ¬

(¬1) هو القاضى أبو الحسن محمد بن يحيى بن محمد بن الخشاب؛ والمؤلف لا ينقل هنا عن ابن الأثير، وإنما ينقل قطعا عن تاريخ حلب لابن العديم، فقد نقل هذا النص عنه ابن الشحنة في: (الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب، ص 66 - 67)، وعليه راجعنا النص هنا وصححناه لأننا لم نتمكن من مراجعة تاريخ ابن العديم فاته لم يطبع بعد؛ وأنظر ترجمة القاضى أبى الحسن في: (ابن الشحنة، ص 68). (¬2) النص في ابن الشحنة: «فان رسمت لى أن أغرم ثمن الأحجار ويكون الثواب لى فعلت» وانظر هناك أخبارا تفصيلية عن هذه المنار وتاريخها. (¬3) في الأصل: «مجاهد الدولة بن ألب أرسلان» وهو خطأ، والصحيح ما ذكرناه بعد مراجعة: (ابن الأثير: ج 10، ص 83) أنظر أيضا ما فات، ص 19، هامش 1

ذلك أنها كانت بيد سيف الدولة خلف بن ملاعب الأشهبى (¬1)، فأساء السيرة، ونزل على سلمية، وأخذ الشريف إبراهيم الهاشمى، ورماه بالمنجنيق إلى برج سلمية، وأخذ قوما من بنى عمه مأسورين، فمضى من بقى منهم واستغاثوا إلى السلطان جلال الدولة ملكشاه، فخرج أمر السلطان إلى أخيه تاج الدولة - صاحب دمشق - وقسيم الدولة - صاحب [حلب - ومجاهد الدولة بزان - صاحب (¬2)] الرّها - بالنزول على حمص، والقبض على ابن ملاعب وتسييره؛ فنزلوا على حمص وحاصروها، وأخذوه وسيّروه إلى السلطان، فأقام في الحبس إلى أن توفى السلطان، فأطلقته خاتون زوجة السلطان. وتسلم آق سنقر قلعة حمص ومدينتها، ولما خلص ابن ملاعب من الحبس صار إلى مصر ثم عاد منها وتسلم حصن أفامية، وبقيت في يده سبع عشرة سنة وكان مدة ملكه بحمص سبع عشرة سنة. وفى سنة أربع وثمانين وأربعمائة تسلم قسيم الدولة حصن أفامية. ثم سار تاج الدولة، ومعه قسيم الدولة آق سنقر، إلى طرابلس، فحاصرها، وبها صاحبها جلال الملك بن عمار، فرأى جيشا لا يدفع بحيلة، ولم يرفيهم مطمعا، وكان مع الأمير قسيم الدولة آق سنقر وزير (¬3) فراسله ابن عمار، فرأى فيه لينا، فأتحفه وأعطاه، فسعى مع صاحبه قسيم الدولة في إصلاح حاله، ليدفع عنه، ويحمل إليه ثلاثين ألف دينار وتحفا بمثلها، وعرض عليه [12] المناشير التي بيده ¬

(¬1) كذا بالأصل، ولم أجد أحدا من المؤرخين نعته هذا النعت غير ابن واصل، وإنما اتفقوا جميعا على تسميته بخلف بن ملاعب الكلابى، أنظر: (ابن القلانسى، ص 115، 116، 120، 149) و (ابن الأثير: ج 10، ص 83 وما بعدها) و (كرد على: خطط الشام، ج 1، ص 269 وما بعدها). (¬2) ما بين الحاصرتين ورد بهامش الأصل، وأشير إلى مكانه بعلامة في المتن. (¬3) في الأصل: «وزيرا» وقد ذكر (ابن الاثير: ج 10، ص 83) أن هذا الوزير كان اسمه: «زرين كمر (؟)».

من السلطان بالبلد، والتقدم إلى النواب بتلك البلاد بمساعدته، والشدّ معه (¬1) والتحذير من مخالفته؛ فقال قسيم الدولة لتاج الدولة: «لا أقاتل من هذه المناشير بيده». فأغلظ له تاج الدولة، وقال: «هل أنت إلا تابع لى؟» فقال قسيم الدولة: «أنا أتابعك، إلا في معصية السلطان فلا». ورحل من الغد عن موضعه، فاضطر تاج الدولة إلى الرحيل، فرحل غضبان، وعاد مجاهد الدولة بزان إلى بلاده. وفى سنة خمس وثمانين وأربعمائة اجتمع مع الأمير شرف الدين إبراهيم ابن قريش بن بدران العقيلى - صاحب الموصل - عرب كثير، وكان معتقلا في قبضة أخيه، فلما قتل استبد بالأمر، وانضاف إليه خلق كثير من العرب، وكان محبوبا كريما، فلقيه الملك جلال الدولة، والأمير قسيم الدولة، فهزموه، ونهبوا من معه من العرب، وسبوا نساءهم (¬2). وفى هذه السنة توفى السلطان جلال الدولة ملكشاه ببغداد، فطمع أخوه (¬3) تاج الدولة - صاحب دمشق - في السلطنة، واستمال قسيم الدولة - صاحب حلب -، ومجاهد الدولة بزان - صاحب الرّها -، وكان تاج الدولة - قبل ذلك - في خدمة أخيه ببغداد، فلما انفصل راجعا إلى بلاده، بلغته وفاة أخيه وهو بهيت، فسار إلى دمشق، وتجهز وجمع العساكر، وأنفق الأموال، وسار نحو حلب، فخرج قسيم الدولة إلى خدمته، ودخل في طاعته، وأرسل إلى ياغيسيان (¬4) - صاحب أنطاكيه -، وبزان - صاحب الرّها - وأشار عليهما بالدخول في طاعة السلطان تاج الدولة حتى يروا ما يكون من أولاد السلطان ملكشاه، ¬

(¬1) في الأصل: «منه»، والتصحيح عن ابن الأثير. (¬2) أنظر أخبار ابراهيم بن قريش بن بدران العقبلى التفصيلية من سنة 482 إلى أن تمت عليه الهزيمة في هذه السنة 485 في: (ابن الأثير: ج 10، ص 91). (¬3) في الأصل: «أخاه». (¬4) في الأصل: «باغى سيار»؛ أنظر ما فات، ص 19، هامش 2

فإنه كان بينهم يومئذ حلف كبير، ففعلوا ذلك، ودخلوا تحت طاعته، واتفقوا على الخطبة له على منابر بلادهم، ثم قصدوا الرحبة، وحاصروها، وملكوها في المحرم (¬1) سنة ست وثمانين وأربعمائة، وخطب لنفسه بالسلطنة، ثم سار إلى نصيبين - وبها نواب إبراهيم بن قريش بن بدران العقيلى - صاحب الموصل - فحصرها وفتحها عنوة [13] وقتل من أهلها خلقا كثيرا، ونهب الأموال، وفعل الأفعال القبيحة، ثم سلمها إلى الأمير محمد بن شرف الدولة بن بدران، وسار يريد الموصل. وكان الأمير إبراهيم بن قريش بن بدران قد استدعاه السلطان ملكشاه سنة اثنتين وثمانين ليحاسبه، فلما حضر عنده اعتقله، وأنفذ فخر الدولة بن جهير إلى البلاد، فملك الموصل وغيرها، وبقى إبراهيم مع ملكشاه، وسار معه إلى سمرقند، وعاد إلى بغداد، فلما مات السلطان [ملك شاه] أطلقته زوجته تركان (¬2) خاتون، فسار إلى الموصل. وكانت صفية - عمة السلطان [ملكشاه (¬3)] وزوجة شرف الدولة (¬4)، [ولها منه ابنه (¬5)] على - ثم تزوجت بعد شرف الدولة بأخيه إبراهيم، فأقطعها ¬

(¬1) يتفق هذا التاريخ مع ما جاء في (ابن الأثير: ج 10، ص 91) فهو ينقل عنه نقلا يكاد يكون حرفيا، أما (Zambaur,Op .Cit . P. 30) فيذكر أن السلاجقة استولوا على الرحبة ونصيبين في سنة 485. (¬2) في الأصل: «بركات»، والتصحيح عن: (ابن الأثير: ج 10، ص 91) و (أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر، ج 2، ص 203). (¬3) أضفنا ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير للايضاح. (¬4) في الأصل: «شرف الدين» والتصحيح عن ابن الأثير، أنظر أيضا السطور التالية هنا. (¬5) في الأصل: «وابنه على» وبها يفسد المعنى، والتصحيح عن: (ابن الأثير: ج 10، ص 91) حيث ينقل عنه ابن واصل هنا نقلا يكاد يكون حرفيا.

السلطان [مدينة (¬1)] بلد؛ فلما مات السلطان قصدت الموصل ومعها ابنها على، فقصدها محمد بن شرف الدولة، وأراد أخذ الموصل، فافترق العرب فرقتين: فرقة معه، وفرقة مع صفية - عمة السلطان - وابنها على؛ فاقتتلوا بالموصل عند الكناسة، فظهر (¬2) على، وانهزم محمد، وملك سعد الدولة على بن شرف الدولة الموصل. فلما وصل إبراهيم إلى جهينة - وبينه (¬3) وبين الموصل أربعة فراسخ - سمع أن الأمير عليا - ابن أخيه - قد ملك الموصل، ومعه أمه صفية خاتون - عمة السلطان [ملكشاه (1)]-، فأقام مكانه، وراسل صفية، وترددت الرسل بينهما، فسلمت إليه البلد، فأقام به، فلما ملك تاج الدولة [تتش (1)] نصيبين، أرسل إليه يأمره أن يخطب له بالسلطنة، ويعطيه طريقا إلى بغداد لينحدر إليها، [ويطلب الخطبة بالسلطنة (1)] فامتنع إبراهيم من ذلك، فسار إليه تاج الدولة، وتقدم [إبراهيم أيضا (¬4)] نحوه، فالتقوا بالمضيع (¬5) - من أعمال الموصل - في ربيع الأول؛ وكان إبراهيم في ثلاثين ألفا، وتاج الدولة في عشرة آلاف؛ وكان قسيم الدولة في الميمنة، وبزان في الميسرة، فتمت الهزيمة على العرب، وأسر إبراهيم، وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبرا، وأخذت أموالهم، وسبيت نساؤهم، وقتل كثير من نساء العرب أنفسهن، خوفا من الفضيحة. وملك تاج الدولة [تتش] الموصل، وولاها للأمير سعد الدولة على بن شرف الدولة - ابن عمته -، وأرسل إلى بغداد يطلب من الخليفة المقتدى ¬

(¬1) أضفنا ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير للايضاح. (¬2) في ابن الاثير «فظفر». (¬3) في الأصل: «وبينها»، والتصحيح عن ابن الأثير. (¬4) في الأصل: «تاج الدولة» ولا يستقيم المعنى به، والتصحيح عن ابن الأثير. (¬5) في الأصل: «بالمصنع» وما هنا عن ابن الأثير، ولم أجد لهذا المكان تعريفا فيما بين يدى من مراجع.

ذكر مقتل الأمير قسيم الدولة آق سنقر

بأمر الله الخطبة [14] له بالسلطنة، - وكان الشحنه ببغداد كوهرائين - (¬1) وقيل لرسوله: «إنا ننتظر وصول الرسل من العسكر». وعاد إلى تاج الدولة الجواب. ثم سار السلطان تاج الدولة تتش فملك ميّافارقين، وديار بكر أجمع، وقويت شوكته، وعظم أمره، وسار إلى أذربيجان؛ وكان ابن أخيه - السلطان ركن الدين بركيارق بن ملكشاه - قد قوى، وصارت بيده الرىّ وهمذان وما يليهما، فسار بالعساكر ليمنع عمه من البلاد، ففارق قسيم الدولة آق سنقر ومجاهد الدين يزان تاج الدولة، وانحازا إلى السلطان ركن الدين بركيارق، فعاد تاج الدولة إلى الشام. ذكر مقتل الأمير قسيم الدولة آق سنقر ولما عاد السلطان تاج الدولة من أذربيجان لم يزل يجمع العساكر حتى عظمت جموعه، وكثر حشده، فسار في جمادى الأولى (¬2) سنة سبع وثمانين وأربعمائة [عن دمشق (3)] نحو حلب، فحشد الأمير قسيم الدولة والأمير مجاهد الدين [بوزان (¬3)]- صاحب الرّها - وأمدهما السلطان بركيارق بالأمير كربوقا (¬4)، ¬

(¬1) في الأصل: «كوهراوتين»، والتصحيح عن ابن الأثير؛ وقد رسم هذا الاسم في (صدر الدين أبو الحسن على بن ناصر: أخبار الدولة السلجوقية، نشر محمد إقبال، ص 51، 54، 72) «كهرائين»، أنظر ترجمة سعد الدولة الكوهرائين بالتفصيل في: (ابن الجوزى: المنتظم، ج 9، ص 115 - 116). (¬2) في الأصل: «جمادى الآخر»، والتصحيح عن (ابن الاثير، ج 10، ص 95) فهو الاصل الذى ينقل عنه ابن واصل. أنظر أيضا ما يأتى ص 26. (¬3) ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير للايضاح. (¬4) في الأصل: «كرنوقا» والتصحيح عن ابن الاثير، وهو أبو سعيد قوام الدولة كربوقا أو كربوغا حاكم الموصل، أنظر أخباره في: (ابن القلانسى، ص 126، 127، 134، 140) و (Zambaur,Op .Cit . P. 38) وقد توفى كربوقا سنة 494.

فالتقى الجمعان بمكان يعرف بنهر سبعين (¬1)، قريبا من تل السلطان (¬2)، بينه وبين حلب ستة فراسخ، فاقتتلوا قتالا شديدا، فخامر بعض العسكر الذين مع قسيم الدولة، فانهزموا، وتمت الهزيمة بسبب انهزامهم؛ وأخذ آق سنقر أسيرا، وأحضر بين يدى السلطان تاج الدولة، فقال: «لو ظفرت بى ما كنت صنعت بى؟» قال: «كنت أرى قتلك». قال: «فأنا أحكم عليك بما كنت تحكم علىّ»، فقتله صبرا. وسار [تاج الدولة] نحو حلب، وكان قد دخلاها (¬3): كربوقا، وبزان (¬4)، فحفظاها، فحصرها تاج الدولة، ولجّ في حصرها، فسلمها إليه المقيم بقلعة الشريف (¬5)، ومنها دخل البلد؛ وكانت الوقعة التي قتل فيها قسيم الدولة يوم السبت لتسع مضين من جمادى الأول، وكان نزوله على حلب يوم الأحد غد هذا اليوم، ومعه رأس قسيم الدولة، وتسلمها العصر من ذلك اليوم، وبات بقلعة الشريف، وتسلم قلعة حلب يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة مضت من جمادى [الأولى]، وأخذ بزان ¬

(¬1) ضبط هذا اللفظ بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان)، ولكنه لم يذكر أنه نهر، وإنما عرفه بقوله: سبعين قرية بباب حلب كانت إقطاعا المتنبى من سيف الدولة. (¬2) كان يعرف هذا المكان قبل بالمرج الأحمر، وإنما عرف بتل السلطان بعد ذلك لأن السلطان ألب أرسلان السلجوقى خيم به مدة فنسب إليه، هكذا ذكر (ابن الشحنة: الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب، ص 136). (¬3) كذا في الأصل، ويلاحظ أن ابن واصل كثيرا ما يلتزم مذهب «أكلونى البراغيث» فيستعمل الفعل المثنى والفعل الجمع مع وجود الفاعل، ولم نشأ نحن أن نغير ما التزمه المؤلف محافظة على أسلوبه. (¬4) في الاصل: «كرنوقا ونزاب» والتصحيح عن (ابن الاثير، ج 10 ص 96) أنظر أيضا ما فات. (¬5) لم أجد لهذا المكان تعريفا في المراجع التي بين يدى، والظاهر أنها كانت إحدى القلاع الهامة القائمة في حلب وقتذاك، فقد قال (ابن القلانسى، ص 118) في حوادث سنة 478: «وفيها شرع في عمارة القلعة الشريف بحلب وترميم ما كان هدم منها وإعادتها إلى ما كانت عليه في حال عمارتها».

ذكر سيرة الأمير قسيم الدولة - رحمه الله -

وكربوقا [15] أسيرين، وبعث إلى حرّان والرّها، - وكانتا لبزان - أن [يسلمهما من بهما (¬1)] إليه، فامتنع أهلها من التسليم، فقتل بزان، وأنفذ رأسه إليهم، وتسلم البلدين، وبعث كربوقا إلى حمص، فحبس بها، وكانت لآق سنقر، فتسلمها، وسلّمها إلى جناح الدولة حسين أتابك ولده الملك فخر الملك رضوان، فلما قتل تاج الدولة أخرج الملك رضوان كربوقا من الحبس. ذكر سيرة الأمير قسيم الدولة (¬2) - رحمه الله - [كان] أميرا عادلا، حسن السيرة، جميل السياسة، وكان شرط على أهل كل قرية من بلاده أنهم متى أخذ عندهم قفل أو أحد من الناس، غرّمهم جميع ما يؤخذ من الأموال - قليل أو كثير -، فكانت السيّارة إذا بلغوا قرية من بلاده، ألقوا رحالهم، وناموا، وحرسهم أهل تلك القرية إلى أن يرحلوا، فأمنت السبل. وكان عنده وفاء عظيم وحسن عهد، ومروءة غزيرة، وإنما كان قتله وفاء لسلطانه ورب نعمته جلال الدولة، وحفظا لولده من بعده، وإنما صار مع تاج الدولة في تلك المدة خوفا منه، ولأن بنى صاحبه لم يكن بينهم اتفاق، فلما استفحل أمر السلطان بركيارق - ولد صاحبه - انحاز إليه وقتل في هواه. ¬

(¬1) في الأصل: «وكاتب لبزان أن يسلمها إليه»، وهو خطأ فضلا عن أنه اختصار مخل بالمعنى، وقد صححت العبارة وأضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة ابن الأثير. (¬2) أنظر ترجمته في: (ابن خلكان: ج 1، ص 139).

ذكر أخبار عماد الدين زنكى ابن قسيم الدولة آق سنقر - رحمه الله -

ذكر أخبار عماد الدين زنكى ابن قسيم الدولة آق سنقر - رحمه الله - لم يخلف [آق سنقر] من الولد غير أتابك زنكى، وكان عمره حين توفى والده عشر سنين، فاجتمع عليه مماليك والده وأصحابه، وفيهم الأمير زين الدين على كوجك بن بكتكين (¬1)، وهو صبي أيضا؛ ولما تخلص كربوقا من سجن حمص - بعد مقتل تاج الدولة تتش - توجه إلى حرّان، واجتمع إليه جماعة، فملكها، وملك نصيبين، ثم ملك الموصل وماردين، وعظم شأنه وأحضر مماليك قسيم الدولة آق سنقر، وأمرهم بإحضار عماد الدين زنكى، وقال: «هو ابن أخى، وأنا أولى الناس به وبتربيته». فأحضروه عنده، وأقطعهم الإقطاعات السنية، وجمع عماد الدين زنكى مماليك أبيه، واستعان بهم في حروبه، وأقام عماد الدين في صحبة كربوقا إلى أن توفى في سنة أربع وتسعين وأربعمائة. وملك الموصل موسى التركمانى (2)، ثم شمس الدولة جكرمش (¬2) - أحد مماليك السلطان [16] جلال الدولة ملكشاه - فقرّب عماد الدين زنكى، واتخذه ولدا إلى أن توفى جكرمش في سنة خمسمائة. ثم ولى بعد جكرمش جاولى سقّا، واتصل به عماد الدين زنكى. ¬

(¬1) في الأصل هنا وفيما يلى دائما «على كوجل بن بلتكين» وقد ضبط الاسم بعد مراجعة: (ابن القلانسى، ص 281، 285، 307، 337، 316) و (Zambaur,Op .Cit . P. 83) وسنو إلى ضبط الاسم كما بالمتن كلما ورد ذكره بعد ذلك دون الاشارة. (¬2) ملك الموصل ستة شهور من سنة 495، ثم أخذها منه جكرمش (Djekermish) في ذى الحجة من نفس السنة وظل يتولاها إلى سنة 500؛ أنظر: (Zambaur,Op .Cit. P. 38).

ثم ولى الموصل الأمير مودود (¬1) - من نسل السلطان غياث الدين محمد ابن ملكشاه - وصحبه عماد الدين زنكى، وحضر معه حروبه. ثم قتل مودود بدمشق، فأقطع السلطان الموصل لجيوش بك، وسيّر معه الملك مسعود - ولده -، وسيّر قسيم الدولة اسباسلار (¬2) البرسقى (¬3) آق سنقر في الجيوش لقتال الفرنج (¬4)، وكانوا قد ملكوا سواحل الشام وفتحوا البيت المقدس؛ فسار وصحبته عماد الدين زنكى، فحاصروا الرّها، وأخربوا بلاد سرّوج وسنجار وسميساط، ثم عادوا، وأقام عماد الدين زنكى بالموصل في صحبة الملك مسعود بن السلطان محمد، والأمير جيوش بك. وفى سنة إحدى عشرة وخمسمائة ولد نور الدين محمود بن عماد الدين زنكى، وفيها توفى السلطان محمد، فأقر ولده السلطان محمود بن محمد أخاه مسعودا (¬5) بالموصل مع جيوش بك. وفى سنة أربع عشرة وخمسمائة خرج مسعود عن طاعة أخيه السلطان محمود، فخطب لنفسه بالسلطنة، ثم التقى الاخوان، فكسر مسعود، وأمّنه السلطان، وأمّن جيوش بك، وأقطع الموصل قسيم الدولة آق سنقر البرسقى سنة خمس عشرة ¬

(¬1) وليها من سنة 502 إلى سنة 507؛ أنظر المرجع بالهامش الثانى من الصفحة السابقة. (¬2) أنظر ما فات ص 2 هامش 1. (¬3) في الاصل هنا وفيما يلى: «البرسيقى» وقد ضبط الاسم بعد مراجعة: (ابن خلكان، الوفيات، ج 1، ص 140)، وهو أبو سعيد سيف الدين قسيم الدولة آق سنقر البرسقى: صاحب الموصل، ملكها بعد قتل الأمير مودود سنة 507، وقتل البرسقى سنة 520 فملك الموصل بعده ابنه عز الدين إلى أن مات في سنة 521 فملكها بعده عماد الدين زنكى، وسيضبط الاسم فيما يلى دون الاشارة إلى ذلك في الهوامش. (¬4) في الأصل: «لقتال آق سنقر الفرنجى» وهو لا شك خطأ من الناسخ. (¬5) في الأصل: «مسعود».

وخمسمائة، وأمر السلطان آق سنقر [البرسقى] بحفظ عماد الدين زنكى وتقديمه والوقوف عند إشارته، ففعل ذلك. وفى سنة ست عشرة وخمسمائة أقطع عماد الدين زنكى شحنكيّة (¬1) البصرة وواسط، وعظم شأنه، وهابه الأمير دبيس بن صدقة - صاحب الحلة - وهمّ دبيس بقصد بغداد، فسار إليه آق سنقر البرسقى بنفسه، وتبعه الخليفة المسترشد بالله، فانهزم عسكر دبيس، وقتل منهم وأسر خلق كثير، وكان لعماد الدين أثر حسن في هذه الوقعة، وذلك في أول المحرم سنة سبع عشرة وخمسمائة ولحق دبيس بالسلطان طغرل بن السلطان محمد، [17] وكان معه عاصيا على السلطان محمود، وأمر السلطان لآق سنقر البرسقى أن يرجع إلى الموصل فعاد، فقال عماد الدين لأصحابه: «قد ضجرنا مما نحن فيه، كل يوم يملك البلد أمير، ويؤمر بالتصرف على اختياره وإرادته، فتارة نحن بالعراق، وتارة بالشام، وتارة بالموصل، وتارة بالجزيرة». فسار من البصرة إلى السلطان محمود، وأقام عنده، فكان يقف إلى جانب تخت الملك عن يمينه، لا يتقدم عليه أحد، وهو مقام والده قسيم الدولة [آق سنقر] من قبله، وبقى لعقبه من بعده. ثم بلغ السلطان أن العرب قد اجتمعت، ونهبت البصرة، فأعلم عماد الدين زنكى بالمسير إليها، وأقطعه إياها، لما بلغه عنه من الحماية لها في العام الماضى وقت اختلاف العساكر والحروب، ففعل ذلك، فعظم عند السلطان، وزاد محله عنده، وكان جرى بين برتقش (¬2) الزكوى - شحنة (1) بغداد - وبين الخليفة المسترشد بالله نفرة، فتهدده المسترشد، فسار عن بغداد إلى السلطان شاكيا ¬

(¬1) أنظر ما فات، ص 7، هامش 5 (¬2) كذا في الأصل، وفى (ابن الجوزى: المنتظم، ج 9، ص 249): «برنقش».

ذكر تولى الأمير عماد الدين زنكى شحنكية بغداد

من المسترشد، وحذّر السلطان جانبه، وأعلمه أنه قد جمع العساكر عازما على منعه من العراق، فسار السلطان إلى بغداد، وجرت حروب ووقائع، ليس هذا موضع (¬1) ذكرها. ذكر تولى الأمير عماد الدين زنكى (¬2) شحنكية (¬3) بغداد ثم نظر السلطان محمود بن محمد فيمن يصلح لشحنكيّة العراق، بحيث يأمن معه من الخليفة، ويضبط الأمور، فرأى أن زنكى أصلح الناس لذلك، فولاّه الشحنكية - مضافا إلى ما بيده من البلاد والإقطاع - وسار السلطان من بغداد. وفى سنة عشرين وخمسمائة قتل آق سنقر البرسقى، قتلته الباطنية (¬4)، وكانت بيده الموصل وحلب. ذكر استيلاء عماد الدين زنكى على الموصل لما توفى البرسقى فوّض السلطان الأمر بعده بالموصل إلى ولده الأمير عز الدين مسعود بن آق سنقر [البرسقى]، فلم تطل أيامه، وتوفى في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، وولى بعده أخ له، وقام بتدبير أمره مملوك لأبيه، يقال له جاولى، فأرسل إلى السلطان محمود [18] يطلب تقرير البلاد على ولد آق سنقر البرسقى، ¬

(¬1) أنظر تفاصيل هذه الحروب والوقائع في (ابن الجوزى: المنتظم، ج 9، ص 249 وما بعدها). (¬2) أنظر ترجمته في: (ابن خلكان: الوفيات ج 1، ص 343 - 344) و (أبو شاهة: الروضتين، ج 1، ص 27 وما بعدها). (¬3) أنظر ما فات، ص 7، هامش 5 (¬4) أنظر تفاصيل قتله في: (ابن خلكان: الوفيات، ج 1، ص 140).

وبذل الأموال الكثيرة على ذلك، وكان الرسول في ذلك القاضى بهاء الدين أبو الحسن على بن القاسم الشهرزورى، وصلاح الدين محمد الياغيسيانى (¬1) - أمير حاجب البرسقى - فحضرا دركاة (¬2) السلطان ليخاطباه في ذلك، وكانا يخافان (¬3) جاولى ولا يرضيان بطاعته، فاجتمع صلاح الدين [محمد الياغيسيانى] ونصير الدين جقر (¬4)، وكانت بينهما مصاهرة، وذكر له صلاح الدين ما ورد فيه، وأفشى (¬5) إليه سره، فخوّفه نصير الدين [من (¬6)] جاولى، وقبّح عنده طاعته، وقرّر في نفسه [أنه (6)] إنما أبقاه وأمثاله لحاجته إليهم، ومتى أجيب إلى مطلوبه لا يبقى على أحد منهم. وتحدث معه صلاح الدين في أن يخاطب السلطان في ولاية عماد الدين زنكى، وضمن له الولايات والإقطاع الكثير، وكذلك للقاضى بهاء الدين بن الشهرزورى، وخاطباه في ذلك، وضمنا له كلما أراده، فوافقهما على ما طلبا. وركب هو وصلاح الدين إلى دار الوزير شرف الدين أنوشروان [بن (¬7)] خالد، فقالا: «إنه قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمكن الفرنج منها، ¬

(¬1) في الأصل: «الباعنسانى»، أنظر ما فات ص 19، هامش 2 (¬2) الدركاة - والجمع دركاوات - عرفها (Dozy,Supp Dict Arab) فقال إنها لفظ فارسى معناه الفضاء أو الممر المؤدى إلى مدخل قصر أو بناء كبير: (Cour devant un palais,vestibule,portique,porte). (¬3) في الأصل: «يخافا». (¬4) هو نصير الدين جقر بن يعقوب نائب عماد الدين زنكى على الموصل إلى سنة 539 حيث قتل، وقد رسم هذا الاسم في (Zambaur,Op .Cit . P. 38) هكذا: «نصير الدين تشغرا Nasiraddin Tschaghra» ، أنظر بعض أخباره في: (ابن القلانسى: ص 217، 263، 280، 281). (¬5) في الأصل: «وأفشا» بالألف. (¬6) أضفنا ما بين الحاصرتين عن: (ابن الأثير: الكامل، ج 10، ص 274) وذلك للايضاح. (¬7) ما بين الحاصرتين عن ابن الاثير، نفس الجزء والصفحة، وهو شرف الدين أنو شروان ابن خالد بن محمد الكاشانى، ولى الوزارة للسلطان محمود السلجوقى في العراق من ربيع الثانى سنة 521 إلى رجب سنة 522، أنظر: (Zambaur,Op .Cit . P. 225).

وقد قويت شوكتهم فاستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدّ ماردين إلى عريش مصر - ما عدا البلاد الباقية بيد المسلمين -، وقد كان البرسقى - مع شجاعته - يكفّ بعض عاديتهم، فمذ قتل زاد طمعهم، وولده طفل، ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع ذى (¬1) رأى وتجربة يذبّ عنها ويحمى حوزتها، وقد أنهينا الحال إليك لئلا يجرى خلل أو وهن على المسلمين، فيختص اللوم بنا، ويقال لنا: لم لا أنهيتم إلينا جلية الحال». فأنهى الوزير ذلك إلى السلطان، فشكرهما عليه، وأحضرهما، واستشارهما (¬2) فيمن يصلح للولاية، فذكرا (¬3) جماعة، منهم: عماد الدين زنكى، وبذلا عنه - تقربا إلى خزانة السلطان - مالا جليلا، فأجاب [السلطان] إلى ذلك، لما يعلمه من كفايته لما يليه؛ وولاّه البلاد كلها، وكتب منشوره بذلك (¬4) وضم إليه ولده الملك ألب أرسلان - المعروف بالخفاجى - وجعله أتابكه، فمن ثم قيل لزنكى: «أتابك (¬5)»، فسار أتابك زنكى (4). ¬

(¬1) في الأصل: «ذو». (¬2) في الأصل: «واستشاره» والتصحيح عن ابن الأثير حيث ينقل عنه هنا ابن واصل نقلا يكاد يكون حرفيا مع تغييرات طفيفة في اللفظ دون المعنى. (¬3) في الأصل: «فذكروا» والتصحيح عن ابن الأثير. (¬4) هذه الجملة لا توجد في ابن الاثير وإنما أضافها ابن واصل من عنده للايضاح، وهو إيضاح له أهميته لتحديد التاريخ الذى لقب فيه عماد الدين بلقب أتابك وهو اللقب الذى ميز الدولة التي حكمت من نسله. (¬5) «أتابك» لقب يتكون من لفظين تركيين: أطا بمعنى أب، وبك بمعنى أمير؛ وذكر صاحب (صبح الأعشى، ج 4، ص 18) أن أول من لقب بهذا اللقب هو نظام الملك وزير ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقى (465 - 485 هـ‍) حين فوض اليه ملكشاه تدبير المملكة؛ ثم أصبح ملوك السلاجقة يطلقون هذا اللقب على كبار قواد جيشهم الذين يولونهم الوصاية على أبنائهم القاصرين. وكثيرا ما كان الأمير الأتابك يتزوج أم الطفل الموصى به، وبذلك تصبح العلاقة بينه وبين هذا السلطان القاصر علاقة شبه أبوية. أنظر أيضا: (Demombynes : La Syrie a l'Epoque des Mamlouks,Pref P. XXVII,LVI) و (دائرة المعارف الاسلامية: مادة أتابك).

ذكر استيلاء عماد الدين على جزيرة ابن عمر

وبدأ بالبوازيج (¬1) [19] فملكها، وتقوى بها، وجعلها وراء ظهره، لأنه خاف من جاولى أنه ربما صدّه عن البلاد، ثم سار من البوازيج إلى الموصل، فلما سمع جاولى بقربه من البلد، خرج إلى تلقيه، ومعه سائر العسكر، فلما رآه جاولى نزل عن فرسه، وقبّل الأرض بين يديه، وعاد في خدمته إلى الموصل، فدخلها في رمضان، وأقطع [عماد الدين زنكى] جاولى الرحبة، وسيّره إليها، وأقام بالموصل يصلح أمورها ويقرر قواعدها، وولّى نصير الدين جقر دزدارية (¬2) [القلعة (¬3)] بالموصل، وجعل إليه دزدارية سائر القلاع، وجعل صلاح الدين محمدا أميرا حاجبا (¬4)، وبهاء الدين قاضى القضاة في البلاد جميعها. ذكر استيلاء عماد الدين على جزيرة ابن عمر (¬5) ثم سار عماد الدين إلى جزيرة ابن عمر، وبها مماليك البرسقى، فامتنعوا من التسليم، فحصرهم وراسلهم، وبذل لهم البذول الكثيرة على أن يجيبوه، فلم يجيبوا، فجدّ في قتالها، وبينه وبين البلد دجلة، فأمر الناس بالقاء أنفسهم في الماء، ليعبروا إلى البلد، ففعلوا، وعبر بعضهم سباحة، وبعضهم في السفن، ¬

(¬1) عرفها (ياقوت: معجم البلدان) بأنها بلد قرب تكريت على فم الزاب الأسفل حيث يصب في دجلة، ويقال لها بوازيج الملك، وهى الآن (أي في زمن ياقوت) من أعمال الموصل؛ ثم قال: وبوازيج الأنبار موضع آخر. (¬2) أنظر ما فات ص 8، هامش 1 (¬3) ما بين الحاصرتين عن (ابن الاثير، ج 10، ص 275). (¬4) في الاصل: «أمير حاجب» والتصحيح عن ابن الاثير. (¬5) عرفها (ياقوت: معجم البلدان) بأنها بلدة فوق الموصل بينهما ثلاثة أيام تحيط بها دجلة إلا من ناحية واحدة شبه الهلال، ثم قال: وأحسب أن أول من عمرها الحسن بن عمر ابن الخطاب التغلبى وكانت له امرأة بالجزيرة.

استيلاء عماد الدين زنكى على نصيبين

وبعضهم في الأكلاك (¬1)، وتكاثروا على أهل الجزيرة، وكانوا قد خرجوا من الجزيرة إلى أرض بين الجزيرة ودجلة، تعرف بالزلاّقة، ليمنعوا من يريد عبور دجلة، فلما عبر العسكر إليهم قاتلوهم ومانعوهم، فتكاثر عسكر عماد الدين عليهم، فانهزم أهل البلد، وتحصنوا بأسواره، واستولى عماد الدين على الزلاّقة، فلما رأى ذلك أهل البلد علموا أن لاخلاص لهم منه، فسلموا إليه البلد بالأمان، فدخل إليه هو وعسكره، وزادت دجلة في تلك الليلة زيادة منكرة، بحيث لحقت (¬2) سور البلد، وامتلأت الزلاّقة ماء، ولو أنهم أقاموا ذلك اليوم، ولم يتفق لهم الدخول للبلد، لغرقوا ولم يسلم منهم أحد، فعلم الناس أن ذلك بداية سعادة، وأن أمر هذه الدولة لعظيم. استيلاء عماد الدين زنكى على نصيبين ثم سار عماد الدين زنكى إلى نصيبين، وكانت للأمير حسام الدين تمرتاش ابن إيلغازى ابن أرتق (¬3) - صاحب ماردين - فلما نازلها سار حسام الدين إلى ابن عمه ركن الدولة (¬4) داوود ابن معين [20] الدين [سقمان (¬5)] بن أرتق ¬

(¬1) الكلك - والجمع كلكات أو أكلاك - لفظ فارسى معناه السفينة الصغيرة وجاء في (محيط المحيط): «الكلك مركب يركب في أنهر العراق ويعرف بالطوف» أنظر أيضا: (Dozy : Supp,Dict .Arab) حيث ذكر أن هذا اللفظ استعمل في قصة السندباد البحرى، وللايضاح كذلك أنظر: (قاسم الدجبلى في مجلة لغة العرب، الأجزاء 1 و 2 و 3 سنة 1901) و (Kindermann : Schiff im Arabischen) وما به من مراجع. وراجع أيضا: (البطريرك أغناطيوس أفرام الأول: الألفاظ السريانية في المعاجم العربية. بحث نشر في مجلة المجمع العلمى العربى بدمشق، أعداد سنة 1950) حيث يرى أن اللفظ من أصل سريانى. (¬2) في س «أخفت»، وما هنا من ابن الأثير. (¬3) في الأصل «يرتق»، وقد صححت بعد مراجعة (Zambaur,Op .Cit . P. 228,230) وقد حكم حسام الدين هذا ماردين من سنة 516 إلى 547 هـ‍. (¬4) في الأصل: «الدين» والتصحيح عن: (ابن الأثير، ج 10، ص 275) و (Zambaur . P. 228) . (¬5) في الأصل: «شهاب الدين بن أرتق» والتصحيح عن المرجعين المذكورين في الهامش السابق. وقد حكم ركن الدولة داود هذا حصن كيفا من سنة 502 إلى سنة 539 هـ‍.

استيلاء عماد الدين زنكى على سنجار والخابور

صاحب حصن كيفا، فوعده النجدة، وجمع العسكر، وعاد حسام الدين إلى ماردين، وأرسل رقاعا على جناح طائر إلى نصيبين، يعرّف من بها من العسكر أنه وابن عمه سائران إليهم في العسكر الكثير، ويأمرهم بحفظ البلد خمسة أيام؛ فسقط الطائر على خيمة عماد الدين، فقرأها، وأمر أن يكتب بطاقة غيرها، مضمونها: إنى قصدت ابن عمى ركن الدولة (¬1)، وقد وعدنى النصرة، وجمع العساكر، وما نتأخر عن الوصول أكثر من عشرين يوما، ويأمرهم بحفظ البلد هذه المدة إلى أن يصل، وجعل البطاقة في الطائر وأرسله، فوقع بنصيبين، فلما وقف أهل البلد على البطاقة أسقط في أيديهم، وعلموا عجزهم عن حفظ البلد هذه المدة، فسلموا البلد إلى عماد الدين، فتسلمه، وهذا من غرائب الاتفاق. استيلاء عماد الدين زنكى على سنجار والخابور ثم سار إلى سنجار، فامتنع من بها عليه، ثم صالحوه، وسلموها إليه، وسيّر منها الشّحن إلى الخابور، فملكه جميعه، ثم سار إلى حرّان. استيلاؤه على حرّان ولما قاربها، خرج أهلها مذعنين له بالطاعة، لأنهم كانوا في ضرر عظيم وضيق من الفرنج - لعنهم الله - فإنه كانت بأيديهم يومئذ الرّها وسرّوج والبيرة، وتلك البلاد، وتلك النواحى جميعها. ولما ملك حرّان أرسل إلى جوسلين - صاحب الرّها وتلك البلاد - وهادنه مدة يسيرة، ليتفرغ لإصلاح البلاد، وتجنيد الأجناد، وكان أهم الأمور إليه أن يعبر الفرات ويملك البلاد الشامية. ¬

(¬1) في الأصل: «الدين» أنظر ما فات ص 35، هامش 4

ذكر استيلاء الشهيد عماد الدين زنكى على مدينة حلب

ذكر استيلاء الشهيد عماد الدين زنكى على مدينة حلب وكان آق سنقر البرسقى قد ملك حلب، فلما قتل آق سنقر [هذا (¬1)] بالموصل كان ولده عز الدين مسعود بقلعتها (¬2) فسار إلى الموصل وملكها، واستناب بقلعتها رجلا يقال له: «قومان (¬3)»، ولما استتب أمره (¬4) سار إلى الرحبة ليحاصرها. وورد إلى حلب غلام السلطان محمود، يقال له: «ختلغ أبه (¬5)» أتى بتوقيع من الأمير عز الدين يتضمن تسليم حلب إليه، وصحبته سنقر [21] الطويل الملقب عمدة الدين - صاحب حرّان - المعروف بدران (¬6)، فسلّم التوقيع إلى قومان (3)، فلم يقبل واحتج بعلامة بينه وبين عز الدين لم يتضمنها التوقيع، واعترف بالخط، وكان بينهما العلامة صورة غزال، لأن عز الدين كان أحسن الناس نقوشا وتصاوير، وكان مفرط الذكاء، وطال الأمر على ختلغ أبه، ولم يسلم إليه البلد، فأشير إليه بالعود، فعاد، وكان عز الدين محاصرا الرحبة، فوصل [ختلغ (1)] في خمسة أيام، فوجد مسعودا قد مات، وهو مطروح على قطعة بساط، والعسكر مشغولون عن دفنه، ¬

(¬1) أضفنا ما بين الحاصرتين للايضاح. (¬2) الضمير هنا يعود على حلب. (¬3) في الأصل: «تومان»، والتصحيح عن (ابن الأثير) و (Zombaur : Op .Cit . P. 34) (¬4) الضمير هنا عائد على عز الدين مسعود بن آق سنقر البرسقى صاحب حلب. (¬5) كذا في الأصل، ويرسم أيضا «قتلغ» أنظر المرجعين بهامش 3 (¬6) كذا في الأصل، ولم أستطع تحقيق الاسم بعد مراجعة المراجع المتداولة هنا في الحواشى، ويلاحظ أن ابن واصل لا ينقل في هذا الجزء عن ابن الأثير، وفيما أورده هنا عن الاستيلاء على حلب تفاصيل كثيرة لا توجد في الكامل لابن الأثير أو ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسى أو المختصر لأبى الفدا. وأغلب الظن أنه ينقل هنا عن تاريخ حلب لابن العديم وإن كنت لم أطلع عليه فهو لا يزال مخطوطا، وهذا الاختلاف حينا والاتفاق حينا آخر بين النصين يؤكد ما ذهبنا إليه من أن المؤرخين يأخذان عن مرجع واحد.

وقد نهب بعضهم بعضا، فعاد ختلغ أبه إلى حلب في ثلاثة أيام، وعرّف الناس موته، فأدخله الرئيس فضائل بن بديع - رئيس حلب - المدينة، واستنزلوا قومان من القلعة بعد ما صح عنده وفاة صاحبه، فصانعهم على ألف دينار، وسلّم القلعة إلى ختلغ أبه، واستحلفه الحلبيون، واستوثقوا منه. وطلع [خلتغ] إلى القلعة لست بقين من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وخمس مائة، فبقى أياما يظهر منه شر عظيم وفسق كبير، فتشوشت قلوب الرعايا منه، وحمله قوم على الطمع، فصار يختم على تركة من يموت، ويرفعها إليه، ولا يكشف: هل له ورثة أم لا؟ فاشتدت نفرة الناس منه وعرف الرئيس فضائل والأمير بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق - الذى كان قبل ذلك صاحب حلب - أنه قد عزم على قبضهما، فتحالفا: واتفقا، واتفق معهما أحداث حلب، فثاروا ليلة الثلثاء ثانى شوال من هذه السنة، وكان ختلغ أبه وحجابه وخواصه في قلة، وكلهم يشربون في البلد عند أصحابهم، لأنه عشية يوم العيد، ففبض عليهم الحلبيون، وملأوا منهم الحبوس والمساجد ودار ابن الاقريطشى، وقيدوهم، وزحف الناس إلى باب القلعة، وحاصروها، فقاتلوهم النهار أجمع، ولما كان الليل نزل وأحرق القصر، فتلفت سقوفه وأبوابه، وذهبه وأخشابه ورخامه. وهجم الناس [22] صبيحة تلك الليلة، وأخذوا منه ما قدروا عليه، وقتل خلق كثير من الناس، ووصل الأميران حسن وحسّان - ابنا البعلبكى صاحبا منبج - من بزاعة (¬1) سابع شوال، فساماه الخروج، فأبى، ثم وصل الجوسلين - ملك الفرنج - في مائتى فارس إلى بانقوسا، ونفذ رسوله يصانعوه فدفعوه. ¬

(¬1) في (ابن الأثير، ج 10، ص 276): «فوصل إلى حلب حسان صاحب منبج وحسن صاحب بزاعة».

وفى آخر شوال وصل الملك إبراهيم بن رضوان بن تاج الدولة تتش، فأدخله أهل حلب البلد، ونادوا بشعاره، ثم وصل بيمند الأفرنجى - صاحب أنطاكية - وضايق البلد، فركب الملك إبراهيم وبدر الدولة سليمان بن أرتق والرئيس فضائل ابن ربيع في خلق من الحلبيين، وترددت الرسل بينهم حتى استقر الأمر على الهدنة مدة، وحمل إلى بيمند ما اقترحه بعد أن أشرف البلد على الهلاك. وطال الحصار على ختلغ أبه إلى نصف ذى الحجة، فوصل الأمير سنقر دراز والأمير حسن قراقوش، ومع سنقر وحسن توقيع سلطانى لعماد الدين زنكى بالموصل والجزيرة والشام، ومعهما جماعة من الأمراء، واتفق الأمر على أن يسير ختلغ أبه وبدر الدولة [بن عبد الجبار] إلى الأمير عماد الدين زنكى فلمن ولى استقر الأمر (¬1)؛ فمضيا إلى باب عماد الدين، وبقى في البلد حسن قراقوش واليا ولاية مستعارة. ولما مضى بدر الدولة وختلغ أبه إلى عماد الدين أصلح بينهما، ولم يوقع لأحد، وطمع في البلد، وسيّر جيشا مع الأمير صلاح الدين الياغيسيانى - حاجبه - فصعد إلى قلعة حلب، ورتّب الأمور فيها. ثم سار الأمير عماد الدين إلى الشام - في جيوشه وعساكره - فملك بزاعة ومنبج في طريقه، وخرج أهل حلب إليه، فالتقوه واستبشروا بقدومه، ودخل البلد، واستولى عليه، ورتّب أموره، ثم قبض على ختلغ أبه، وسلّمه إلى ابن بديع، فكحله (¬2) بداره بحلب، فمات، فاستوحش ابن بديع، فهرب إلى قلعة جعبر، واستجار بصاحبها فأجاره. ¬

(¬1) كذا في الأصل، والمعنى غير واضح، والمقصود أن أي الرجلين يولى عماد الدين يستقر له الأمر. (¬2) في الأصل: «فسلمه» والتصحيح عن (ابن الأثير: ج 10، ص 277) حيث يعود النص هنا فيتفق ونص ابن الأثير اتفاقا كبيرا.

وولّى عماد الدين رياسة حلب أبا الحسن على بن عبد الرزاق، وكان دخول عماد الدين مدينة حلب واستقراره بها في [23] جمادى الآخرة من سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. ثم سار من حلب إلى خدمة السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه - في تجمل عظيم -، وعاد من عنده إلى الموصل في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، ومعه منشوره بالجزيرة والشام وما اتصل بهما، بعد أن يحمل إلى السلطان وأصحابه ما يزيد على مائة ألف وعشرين ألف دينار. وفى مستهل رجب سنة أربع وعشرين وخمسمائة وصل عماد الدين زنكى إلى الفرات، وفتح قلعة السن (¬1)، وسيّر عسكرا أغاروا على بلد عزاز (¬2) - وهى للفرنج - وعاثوا في بلد جوسلين، وذلك لليلتين بقيتا من رجب؛ وخيّم عماد الدين ظاهر حلب، وترددت الرسل بينه وبين الفرنج، واصطلحوا مدة؛ ولعشر بقين من شعبان تزوج الأمير عماد الدين خاتون بنت الملك رضوان ابن تتش. ¬

(¬1) كذا في الأصل، ولم أستطع تحقيق هذا الموقع لأن أخبار استيلاء عماد الدين على هذه القلعة وعلى عزاز ثم خبر زواجه لم ترد جميعا في حوادث سنة 524 في المراجع الكثيرة المتداولة في هذه الحواشى، ولعل المقصود قلعة البيرة فهى واقعه على الفرات. (¬2) عزاز - وربما قيلت بالألف في أولها - بليده فيها قلعة ولها رستاق شمال حلب، بينهما يوم. (ياقوت: معجم البلدان).

ذكر استيلاء الأمير عماد الدين على مدينة حماة

ذكر استيلاء الأمير عماد الدين على مدينة حماة وكانت حماة للأمير ظهير الدين (¬1) أتابك طغتكين - صاحب دمشق - قد تسلمها عقيب موت صاحبها شهاب الدين محمودين قراجا (¬2) سنة سبع عشرة وخمسمائة، ثم سلّمها الأمير ظهير الدين إلى الأمير بهاء الدين إبراهيم بن سوّار، ثم توفى إبراهيم بعد موت ظهير الدين، فولّى تاج الملوك بورى بن طغتكين - صاحب دمشق - حماة ولده بهاء الدين سونج بن بورى. ولما كانت هذه السنة - أعنى سنة أربع وعشرين وخمسمائة - أرسل عماد الدين زنكى إلى تاج الملوك بورى بن طغتكين - صاحب دمشق - يستنجده على الفرنج، وأظهر العزم على الجهاد، فأجابه إلى ذلك، وأرسل من أخذ له العهود والمواثيق، ثم جرّد عسكرا من دمشق مع جماعة من الأمراء، وأرسل إلى ابنه سونج - صاحب حماة - يأمره بالتقدمة على العسكر والمسير بهم إلى خدمة عماد الدين زنكى، فساروا بأجمعهم إليه، فأكرمهم وأحسن ملتقاهم؛ وكان عنده الأمير صمصام الدولة خترخان (¬3) ¬

(¬1) هو أبو سعيد سيف الاسلام ظهير الدين معتمد الدولة طغتكين - أتابك دقاق بن تتش - توفى في صفر سنة 522 هـ (Zambour,Op .Cit . P. 225). (¬2) ترجم لهذا الحاكم (ابن القلانسى، ص 210) في شىء من التفصيل، قال في حوادث سنة 517: «وفى هذه السنة ورد الخبر بأن محمود بن قراجه (كذا) والى حماة خرج في رجاله، وقصد ناحية أفامية وهجم ربضها، فأصابه سهم من الحصن في يده، ولما قلع منه عملت عليه وتزايد أمرها فمات منه؛ وكان عاهرا ظالما متمردا، وقتل جماعة من أعيان حماة ظلما وتعديا بسعاية بعضهم على بعض، ولما عرف ظهير الدين ذلك أنهض إلى حماة من تسلمها وتولى أمرها من ثقاته. (¬3) كذا في الأصل، وقد أورد (ابن القلانسى، ص 182، 191، 209، 228، 252) هذا الاسم على أشكال ثلاث: (خترخان، خيرخان، قرخان)، وهو في (ابن الأثير: ج 10، ص 281): «قرجان»، ولقبه صمصام الدين أو الدولة، وقد ولى حمص بعد وفاة أبيه قراجا في سنة 505 هـ‍.

ابن قراجا - صاحب حمص - فحسّن لعماد الدين الغدر ببهاء الدين سونج، والقبض عليه وعلى أصحابه، وأخذ حماة (¬1)، ففعل ذلك، وارتكب أمرا قبيحا أنكره الناس عليه، ولا شىء أقبح من الغدر؛ [24] ولما عزم على تلك الفعلة الشنعاء استفتى الفقهاء في ذلك، فأفتاه منهم من لا دين له، وجوّز له ما لا يحل ولا يحسن شرعا وعرفا، فقبض على بهاء الدين وعلى جماعته، وأنهب الخيل والخيم، وقبض على جميع أصحابه، واعتقل الأمراء بالقلعة والجند بحلب. ثم سار في العشر الأول من شوال إلى حماة وتسلمها، ثم غدر بصمصام الدين خترخان، وسيّره إلى حلب، وحبس بقلعتها. وسار إلى حمص فنازلها، وطلب عماد الدين من أولاد صمصام الدين خترخان تسليم قلعة حمص، فامتنعوا، فألحّ في حصارها، ونقب النقابون القلعة، فبطل عليهم النقب، وأمر بنصب المجانيق عليها فبطلت، وطالت مدة الحصار، وهجم الشتاء، فعاد بالعسكر إلى حلب، وترددت الرسل بين تاج الملوك بورى - صاحب دمشق - وعماد الدين زنكى في إطلاق ولده بهاء الدين سونج وأصحابه، فاستقر الأمر على خمسين ألف دينار، فأجاب تاج الملوك إلى حملها، ولم ينتظم بينهم أمر. وفى منتصف ذى الحجة من هذه السنة سيّر عماد الدين زنكى ألفى فارس، وهجمت معرّة مصرين (¬2) - وهى للفرنج - ونهبت وقتل من فيها، وشنّ الغارة على تل ¬

(¬1) حديث ابن واصل هنا عن أخذ عماد الدين لحماة فيه إسهاب وتفصيل أكثر مما ورد في المراجع المختلفة المتداولة في هذه الحواشى كابن القلانسى وابن الأثير وأبى الفدا. . . الخ ولا عجب فحماة وطن ابن واصل ومسقط رأسه، وسنلاحظ عنايته الدائبة بذكر تاريخها مفصلا كلما ورد ذكرها فيما يلى. (¬2) ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها بليدة وكورة بنواحى حلب ومن أعمالها، بينهما نحو خمسة فراسخ؛ أنظر أيضا: (ابن الشحنة: الدر المنتخب، الصفحات المذكورة بالفهرس).

ذكر قبض الأمير عماد الدين على دبيس بن صدقة المزيدى صاحب الحلة

باشر (¬1) والأثارب (¬2)، وأوقع بخيل من الأثارب، فقتل منهم جماعة كبيرة، وذكر ابن الأثير (¬3) أنه فتح في هذه السنة حصن الأثارب. وفى المحرم سنة خمس وعشرين وخمسمائة توجه الأمير عماد الدين زنكى راجعا إلى الموصل، وفى ربيع الآخر من هذه السنة رد السلطان محمود أمر العراق إلى عماد الدين مضافا إلى ما بيده من الشام والموصل والجزيرتين؛ وفى هذه السنة فتح الأمير عماد الدين قلعة للأكراد حصينة يقال لها مجهيمر (¬4). ذكر قبض الأمير عماد الدين على دبيس بن صدقة المزيدى (¬5) صاحب الحلّة (¬6) وكان السلطان محمود قدم بغداد سنة ثلاث وعشرين من عند عمه السلطان سنجر بن ملكشاه - صاحب خراسان -، ومعه الأمير دبيس بن صدقة، ليصلح ¬

(¬1) ذكر (ابن الشحنة، ص 169) أنها كانت من أعمال حلب ولها قلعة معمورة وبساتينها كثيرة. (¬2) ذكر (ياقوت: معجم البلدان) أنها كانت قلعة معروفة بين حلب وأنطاكية، بينها وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ، ثم قال: وهذه القلعة الآن (القرن السابع الهجرى) خراب وتحت جبلها قرية تسمى باسمها. (¬3) هذه ثانى مرة يشير فيها ابن واصل إلى مرجع من المراجع التي أخذ عنها، انظر ما فات هنا ص 3، وفى (ابن الأثير: ج 10، ص 282) تفاصيل وافية عن فتح عماد الدين زنكى لحصن الأثارب في سنة 524 هـ‍. (¬4) لم تشر المراجع المختلفة إلى استيلاء عماد الدين على هذه القلعة، ولهذا لم أتمكن من ضبطها. (¬5) في الأصل: «الزيدى»، وقد ضبط الاسم كله بعد مراجعة: (ابن القلانسى، ص 202، 205 - 210، 230، 251) و (Zambour .Op .Cit . P. 137) وقد حكمت أسرة مزيد الأسدى مدينة الحلة ابتداء من سنة 403، أما دبيس المذكور هنا فهو نور الدولة دبيس الثانى أبو العز بن سيف الدولة صدقة الأول المزيدى، حكم الحلة من سنة 501 إلى ذى الحجة سنة 529، وقد قتل في أوائل سنة 530، قتله السلطان مسعود بن محمد السلجوقى. (¬6) عرفها (ياقوت: معجم البلدان) بقوله: الحلة علم لعدة مواضع، وأشهرها حلة بنى مزيد، مدينة كبيرة بين الكوفة وبغداد، كانت قبل تسمى الجامعين، وكان أول من عمرّها ونزلها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن على بن مزيد الأسدى.

بينه وبين الخليفة المسترشد بالله، فتأخّر دبيس عن السلطان، ثم وصل دبيس، ونزل بدار السلطان، فاسترضى السلطان الخليفة عنه، فامتنع أن يولّى دبيس [25] شيئا من الأعمال، وبذل الخليفة للسلطان مائة ألف دينار لأجل ذلك، وبلغ الأمير عماد الدين أتابك زنكى أن السلطان قد عزم على تولية دبيس الموصل، فسافر إلى خدمة السلطان - كما قدمنا -، ولم يشعر السلطان به إلا وهو عند الستر، وبذل الجملة العظيمة التي ذكرناها، وخلع عليه، وأعيد إلى بلاده - كما ذكرنا -. ثم رحل السلطان عن بغداد، ومرض، وبلغ دبيسا (¬1) مرضه، فطمع وجمع جمعا كثيرا، وقصد الحلّة، وكان بها بهروز - شحنة بغداد -، فهرب، ودخلها دبيس، فعاث في البلاد، فسيّر إليه السلطان [آق سنقر (¬2)] الأحمد يلى ليكف شره، فأرسل دبيس يستعطف الخليفة، وقال: «إن رضيت عنى رددت أضعاف ما أخذته»، وترددت الرسل في ذلك، ودبيس يجمع ويحشد، فاجتمع إليه عشرة آلاف فارس؛ ثم سار السلطان إلى بغداد فأهدى له دبيس هدايا جليلة، من جملتها ثلاثمائة حصان منعولة بالذهب، ومائتا ألف دينار ليرضى عنه الخليفة والسلطان، فلم يجب إلى ذلك. ولما دخل السلطان بغداد قصد دبيس البصرة، وأخذ منها أموالا جليلة، فسيّر إليه [السلطان] عشرة آلاف فارس، ففارق البصرة، ودخل البرية، وسار متوجها إلى الشام، فقيل إنه قصد قلعة صرخد، لأن سريّة (¬3) لصاحبها ¬

(¬1) في الاصل: «دبيس». (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين عن (ابن القلانسى، ص 238). (¬3) ذكر (ابن الأثير: ج 10، ص 284) أن صاحب صرخد توفى في هذه السنة وكان خصيا، وخلف جارية سرية له فاستولت على القلعة وما فيها، وعلمت أنها لا يتم لها ذلك إلا بأن تتصل برجل له قوة ونجدة، فوصف لها دبيس بن صدقة وكثرة عشيرته، وذكر لها حاله وما هو عليه بالعراق، فأرسلت تدعوه إلى صرخد لتتزوج به وتسلم القلعة وما فيها من مال وغيره إليه، فأخذ الأدلاء معه وسار من العراق إلى الشام، فضل به الأدلاء بنواحى دمشق.

كتبت إليه وأطمعته فيها، وضلّ به الأدلاء الطريق بنواحى دمشق، فنزلت (¬1) بناس من كلب كانوا شرقى الغوطة، فقبضوا عليه، وحملوه إلى تاج الملوك بورى ابن طغتكين - صاحب دمشق - فحبسه عنده، وبلغ ذلك عماد الدين زنكى، فأرسل إلى تاج الملوك يطلب دبيسا، على أن يطلق ولده بهاء الدين سونج ومن عنده من المأسورين، فإنه إن امتنع من تسليمه سار إلى دمشق وحصرها، فأجابه تاج الملوك إلى ذلك، فأرسل دبيسا، وأرسل إليه عماد الدين بهاء الدين سونج وأصحابه، وتسلّم عماد الدين دبيس بن صدقة، فأحسن إليه عماد الدين، ودفع إليه من الأموال والسلاح ما لم يكن في ظن دبيس. فأرسل [26] الخليفة المسترشد بالله لما سمع بالقبض على دبيس سديد الدولة ابن الأنبارى (¬2) وأبا بكر بن بشر الجزرى (¬3)، يطلبان من تاج الملوك دبيسا، لما بينه وبين الخليفة من العداوة، فسمع سديد الملك - وهو في الطريق - بمصير دبيس إلى عماد الدين، فسار إلى دمشق ولم يرجع، ووقع في عماد الدين وذمّه، واستخف به، وبلغ ذلك عماد الدين فأرسل إلى طريقه من يأخذهما إذا عادا، فلما رجعا من دمشق قبضوا عليه (¬4) وعلى ابن بشر، وحملوها إليه فأطلق ابن بشر، وسجن ابن الأنبارى ثم أطلقه. وكان مصير دبيس إلى عماد الدين سنة خمس وعشرين وخمسمائة. وفيها مات السلطان محمود بن محمد. ¬

(¬1) الضمير هنا يعود على الأدلاء. (¬2) هو سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم بن الأنبارى، كان كاتبا للخليفة المسترشد؛ أنظر: (ابن القلانسى، ص: 231، 232، 249، 250، 260). (¬3) ذكر (ابن الأثير: ج 10، ص 285) أنه سمى هكذا نسبة إلى موطنه جزيرة ابن عمر. (¬4) الضمير هنا عائد على ابن الأنبارى.

وكان الأمير عماد الدين زنكى قد عبر الفرات (¬1)، ووصل إلى مدينة حلب في أول شوال، ثم توجه إلى حمص، فحاصرها يوما واحدا، وتوجه نحو أطراف الشام، وتسلم دبيسا، وأطلق سونج - كما ذكرنا - وبلغه وفاة السلطان وهو بالقريتين (¬2) - من عمل حمص - لأربع عشرة بقيت من شوال، فسمع عماد الدين ودبيس بن صدقة - (7) وكان عنده ولدان للسلطان (¬3) محمود - أحدهما ألب أرسلان الخفاجى ويكنى أبا طالب وهو الذى جعله (¬4) السلطان أتابكه - وقد ذكرناه (¬5) - والآخر (¬6) عند دبيس (¬7). فأرسل الأمير عماد الدين إلى الخليفة المسترشد بالله يسومه أن يخطب ببغداد لأبى طالب ألب أرسلان بن السلطان محمود، فاعتذر المسترشد بالله بأنه صبى، وأن السلطان عهد بالسلطنة لولده داوود بن محمود - وهو بأصبهان - وقد وردت رسل الأطراف بالخطبة له، ونحن منتظرون كتاب السلطان سنجر بن ملكشاه، فإنه عمّ القوم. ¬

(¬1) في الأصل «الفراة». (¬2) «القريتان» قرية كبيرة من أعمال حمص في طريق البرية بينها وبين سخنة وأرك، أهلها كلهم نصارى (ياقوت: معجم البلدان). (¬3) في الأصل: «السلطان» وقد صححت كما بالمتن ليتضح المعنى. (¬4) الضمير هنا عائد على عماد الدين زنكى، والمقصود أن السلطان جعل عماد الدين أتابكا لابنه أبى طالب ألب أرسلان الخفاجى. (¬5) أنظر ما فات، ص 33 (¬6) لم يذكر اسم الابن الثانى، والمعروف أن السلطان محمودا كان له أولاد خمسة: ألب أرسلان وفروخ زاد، وداود، وملك شاه الثانى، ومحمد. أنظر القوائم الملحقة بكتاب (Zambaur) . (¬7) هذه الجملة لا زالت مضطربة المعنى، ولم أستطع تقويمها أكثر من ذلك، فهى مما اعتاد ابن واصل زيادته عند النقل عن غيره رغبة في التعريف والايضاح.

ذكر الوقعة الكائنة بين الخليفة المسترشد بالله وبين عماد الدين زنكى

ذكر الوقعة الكائنة بين الخليفة المسترشد بالله وبين عماد الدين زنكى لما مات السلطان محمود خطب بهمذان وأصفهان والجبال وأذربيجان لولده السلطان داوود، وسار من همذان إلى رمكان (¬1)، وكان عمه السلطان مسعود ابن محمد قد سار من جرجان ووصل إلى تبريز (¬2)، فاستولى عليها، فسار إليه داوود في ذى [27] القعدة من هذه السنة - أعنى سنة خمس وعشرين وخمسمائة -، وحصره بها، وجرى بينهما قتال إلى سلخ المحرم سنة ست وعشرين وخمسمائة، ثم اصطلحوا وتأخر داوود مرحلة، وخرج السلطان مسعود من تبريز (2) واجتمعت إليه العساكر، وسار إلى همذان. وكانت رسل داوود تقدمت في طلب الخطبة، فأجاب الخليفة: «إن [الحكم في (¬3)] الخطبة للسلطان سنجر، من أراد خطب له» وأرسل السلطان سنجر: أن لا يأذن لأحد في الخطبة، وأن الخطبة ينبغى أن تكون له وحده؛ وأرسل السلطان مسعود إلى عماد الدين زنكى يطلب مساعدته، فوعده النصرة. وسار السلطان سلجوق شاه - ومعه أتابكه قراجا الساقى صاحب بلاد فارس وخوزستان - في عسكر كثيف إلى بغداد، ونزل بدار السلطنة، فأكرمه الخليفة، ¬

(¬1) ضبطت هكذا بعد مراجعة ياقوت، ولم يعرفها بأكثر من قوله إنها موضع، وفى (ابن الأثير، ج 10، ص 287) أنه سار إلى زنجان لارمكان. (¬2) في الأصل: «تورين»، والتصحيح عن (ابن الأثير: ج 10، ص 287). (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين عن (ابن الأثير) للايضاح، ويلاحظ أن النص هنا يعود فيتفق كثيرا ونص ابن الأثير.

واستحلفه لنفسه؛ ثم وصل السلطان مسعود يطلب الخطبة، ويتهدده إن منعها، فلم يجب إلى ما طلب، فنزل عباسيّة (¬1) الخالص. وبرز الخليفة وسلجوق شاه وقراجا الساقى عازمين على قتال مسعود، وتوجه عماد الدين زنكى إلى بغداد - ومعه دبيس بن صدقة -، وكانت رسل السلطان سنجر قد وردت إلى عماد الدين بتوليته شحنكيّة بغداد، وإقطاع الحلّة لدبيس، وبلغ الخليفة وقراجا الساقى وصول عماد الدين إلى المعشوق (¬2)، فعبر قراجا إلى الجانب الغربى، وتقدم إلى الملك سلجوق شاه بمرافقة أخيه السلطان مسعود إلى أن يفرغا من حرب عماد الدين، وسار الخليفة في يوم وليلة إلى المعشوق، فواقع عماد الدين زنكى فهزمه، وأسر كثيرا من أصحابه. وسار عماد الدين إلى تكريت، وعبر منها دجلة، وكان الدزدار بتكريت يومئذ نجم الدين أيوب بن شادى - والد صلاح الدين يوسف - فأقام لعماد الدين المعابر (¬3)، فلما عبر أمن الطلب، وسار لإصلاح بلاده، فكان هذا الفعل من نجم الدين سببا ¬

(¬1) في الأصل: «عباسة» والتصحيح عن ابن الأثير، وقد ذكر ياقوت جملة مواضع تحمل اسم العباسية إحداها كانت محلة ببغداد بين الصراتين قرب المحلة المعروفة بباب البصرة وتنسب إلى العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وقد كنت أحسبها هذه، لولا أن الأستاذ المحقق الدكتور مصطفى جواد تفضل فكتب إلى: أن «عباسية الخالص» قرية على نهر الخالص في الجانب الشرقى من دجلة، وقد ذهب اسم القرية مع كثير من قرى الخالص، أما النهر فلا يزال من أنهار المقاطعات في شرقى بغداد، وإنى أنتهز هذه الفرصة لأشكر الدكتور مصطفى جواد لتفضله بتعريفى ببعض المواقع العراقية التي استفسرت منه عنها. (¬2) عرفه (ياقوت: معجم البلدان) بأنه قصر عظيم بالجانب الغربى من دجلة قبالة سامراء في وسط البرية، بينه وبين تكريت مرحلة، عمره المعتمد على الله، ولا تزال بقاياه قائمة حتى العصر الحاضر. (¬3) المعبر والمعبرة - والجمع معابر - من أسماء السفن العربية، وقد عرفه صاحب اللسان بأنه ما عبر به النهر من فلك أو سفينة أو قنطرة أو غيره. راجع كذلك: (ابن سيده: المخصص، ج 10، ص 26) ومخطوطتنا التي لم تطبع بعد (معجم السفن العربية) و (Kindermann, Schiff im Arabischen .pp .62,102) .

للسعادة التي آلت به إلى أن صار ولده ملوك الأرض، فلينظر العاقل إلى ثمرة الجميل وفعل الخير. وسار السلطان مسعود من العباسية إلى الملكية (¬1)، ووقعت الطلائع بعضها على بعض، وآل الأمر [28] إلى أن اصطلح الأخوان مسعود وسلجوق على أن تكون السلطنة لمسعود، وسلجوق ولى عهده، وأن العراق يكون للخليفة (¬2)، وتحالفوا على ذلك واتفقوا. وعاد السلطان مسعود إلى بغداد، ونزل بدار السلطنة، ونزل سلجوق بدار الشحنكية، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وخمسمائة. وأما السلطان سنجر فإنه سار من خراسان إلى همذان - وصحبته ابن أخيه السلطان طغرل بن محمد - مريدا تملكه، لأنه كان قد لازمه، فوصلا إلى الرىّ ثم إلى همذان، فلما بلغ ذلك الخليفة والسلطان مسعود، تجهزا وسارا إلى لقائه، ومعهما قراجا الساقى وسلجوق شاه، ثم تأخر عنهما الخليفة خوفا من عماد الدين زنكى، لما بلغهم أنه على قصد بغداد، فاستعد للمدافعة، وجنّد الأجناد، ومضى الباقون، فكانت الوقعة بينهم وبين السلطان سنجر بغولان (¬3) بقرب الدّينوز، فانكسر السلطان مسعود وأخوه سلجوق شاه، وأخذ قراجا الساقى أسيرا، فقتله السلطان سنجر صبرا، وأحضر ابن أخيه السلطان مسعود، فأكرمه، وعاتبه على مخالفته، ¬

(¬1) لم أجد لها تعريفا في المراجع الجغرافية، وإنما ذكر لى الدكتور مصطفى جواد في خطاب منه أن «الملكية» ضيعة من ضياع الخالص بشرقى دجلة قرب بغداد، وقد ذكرها ابن الأثير أيضا في حوادث سنة 614 مع مواضع الجانب الشرقى التي أغرقتها دجلة. (¬2) في (ابن الأثير، ج 10، ص 288): «وأن يكون العراق لوكيل الخليفة». (¬3) في الأصل «بنولان» وفى (ابن الأثير): «بعولان»، ولم يشر ياقوت إلى أيهما، وإنما ورد فيه «غولان» وعرفها بانها موضع ولم يزد.

وأعاده إلى كنجة (¬1)، وأجلس ابن أخيه السلطان طغرل بن محمد في السلطنة، وأمر بالخطبة له في جميع البلاد، وكانت هذه الوقعة في ثامن رجب سنة ست وعشرين وخمسمائة. ثم عاد السلطان سنجر إلى نيسابور، وكان السلطان سنجر قد كاتب الأمير عماد الدين ودبيس بن صدقة، وأمرهما بقصد العراق، فقصدا بغداد، وبلغ الخليفة المسترشد ذلك، فأسرع العود إليهما، وعبر إلى الجانب الغربى، وسار فنزل بالعباسية ونزل عماد الدين زنكى بالمنارية من دجيل، ثم التقيا في السابع والعشرين من رجب بمكان يقال له عقرقوف (¬2)، واقتتلوا قتالا كبيرا، فحمل الأمير عماد الدين على ميمنة الخليفة، - وفيها جمال الدين (¬3) إقبال - فانهزموا، وحمل نظر الخادم - وكان في ميسرة الخليفة - على [ميمنة] (¬4) عماد الدين ودبيس، وحمل [29] الخليفة بنفسه، واشتد القتال، فانهزم دبيس، ورأى الأمير عماد الدين تفرق الناس عنه، فانهزم، وقتل من العسكر جماعة، وأسر جماعة، وبات هناك الخليفة ليلة، وعاد إلى بغداد. حكى الأمير مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن على بن منقز في كتاب ألفه، وذكر فيه شهامة الخليفة المسترشد بالله وشجاعته، قال: «كان الإمام المسترشد بالله يلحق بالصدر الأول من سلفه في علو الهمة، وحسن السياسة، والإقدام العظيم، فإنه لما التقى هو وعماد الدين زنكى بن آق سنقر في المصاف بعقرقوف وأنا حاضر المصاف، ضرب له خيمة أطلس أسود، ووضع له فيها تخت، وجلس عليه، ¬

(¬1) عرفها (ياقوت) بأنها مدينة عظيمة وهى قصبة بلاد أرّان، وهى من نواحى لرستان بين خوزستان وأصبهان، وأهل الأدب يسمونها جنزة. (¬2) قرية من قرى دجيل بينها وبين بغداد أربعة فراسخ (ياقوت). والذى ذكره (ابن الأثير، ج 10، ص 289) أنهما التقيا بحصن البرامكة. أنظر خريطة العراق الحديث (¬3) في ابن الأثير: «جمال الدولة». (¬4) ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير.

والخيل تطرد، فكسر عسكر أتابك، وذلك يوم الاثنين السابع والعشرين من رجب سنة ست وعشرين وخمسمائة، فاستولى على كل ما فيه، وانهزم أتابك زنكى إلى الموصل، وذلك الإقدام العظيم كان سبب تلفه». قلت: إن الخلفاء كان قد ضعف أمرهم من أيام المتقى بالله (¬1)، واستولت عليهم الملوك، خصوصا في أيام المستكفى بالله (¬2)، فإن بنى بويه الديلم ملكوا العراق وغيرها من الممالك، وصارت الخلفاء تحت حجرهم، ثم ظهرت السلاطين السلجوقية، فتغلبوا أيضا وتحكموا، وهلم جرا إلى أيام المسترشد، فاتفق وقوع الخلف بين السلاطين السلجوقية، واغتنم ذلك الخليفة المسترشد، فكانت نفسه أبية، وشجاعته عظيمة، فجنّد الجنود، وباشر القتال بنفسه، وأدى ذلك إلى أن أسره السلطان مسعود، وقتل في معسكره - كما سنذكره إن شاء الله تعالى -. وبويع ببغداد لولده الراشد، ووصل السلطان إلى بغداد، فهرب الراشد، وأقعد السلطان عمه المقتفى، وحكم عليه إلى أن مات السلطان مسعود، ثم بعد ذلك قوى المقتفى، وملك العراق، وقامت حشمة الدولة العباسية، واستمرت قوتها إلى أن زالت بالتتار الملاعين سنة ست وخمسين وستمائة، وللمسترشد بالله شعر يدل [30] على قوة نفسه وبعد همته، وهو: أنا الأشقر الموعود بى في الملاحم ... ومن يملك الدّنيا بغير مزاحم ستبلغ أرض الرّوم خيلى وتنتهى (¬3) ... بأقصى (¬4) بلاد الصّين بيض صوارمى ¬

(¬1) حكم بين سنتى 329 و 333 (940 - 944). (¬2) ولى بعده من 333 إلى 334 (944 - 946). (¬3) في (السيوطى، تاريخ الخلفاء، ص 287): «وتنتضى». (¬4) في الأصل: «بأقصا».

ذكر منازلة الخليفة المسترشد بالله مدينة الموصل

وكان الأمير إبراهيم (¬1) بن سقمان بن أرتق - صاحب حصن كيفا - لما سمع بقصد عماد الدين بغداد قد خرج من حصن كيفا نجدة للخليفة، في جمع كثير، وأغار على نصيبين. ذكر منازلة الخليفة المسترشد بالله مدينة الموصل وفى العشرين من رمضان سنة سبع وعشرين وخمسمائة، حصر الإمام المسترشد بالله مدينة الموصل، وكان السبب في ذلك ما تقدم من الفتنة بينه وبين عماد الدين، فقصد باب الخليفة المسترشد - رحمه الله - جماعة من الأمراء السلجوقية، وخدموه، وقوى بهم لا سيما واتفق اشتغال السلاطين بالخلف الواقع بينهم، فأرسل الخليفة الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الاسفرايينى - الواعظ - إلى عماد الدين برسالة فيها خشونة، وزادها أبو الفتوح - زيادة في الحجة - ثقة بقوة الخليفة وناموس الخلافة، فقبض عليه عماد الدين زنكى، وأهانه ولقّاه ما يكره. ولما كان في شعبان سار الخليفة عن بغداد في ثلاثين ألف مقاتل، فلما قرب من الموصل فارقها عماد الدين زنكى ببعض عسكره، وترك الباقى بها مع نائبه نصير الدين جقر - دزدارها والحاكم في دولته - فنازلها الخليفة، وضيّق على من بها، وسار عماد الدين إلى سنجار، وكان يركب في كل ليلة، ويقطع الميرة عن العسكر، ومتى ظفر بأحد من العسكر أخذه ونكّل به، فضاقت على العسكر الأمور، وتواطأ جماعة من الجصاصين (¬2) بالموصل على تسليم البلد، فسعى بهم، ¬

(¬1) حكم حصن كيفا بعد أبيه سقمان، وذلك من سنة 498 إلى سنة 502؛ وقد ظل حصن كيفا تحت حكم الأرتقيين إلى أن استولى عليه الملك الكامل محمد الأيوبى في سنة 629، أنظر (Zambaur,Op .Cit . P. 228,230) و (ابن القلانسى، ص 137 - 138 نقلا عن الفارقى). (¬2) في (ابن الأثير، ج 11، ص 2): «الخصاصين».

استيلاء شمس الملوك صاحب دمشق على حماة وأخذها من عماد الدين

فأخذوا وصلبوا، ودام الحصار نحو ثلاثة أشهر فلم يظفر الخليفة منها بشىء، فعاد إلى بغداد، وقيل كان سبب رحيله أنه بلغه أن السلطان مسعودا (¬1) قصد بغداد، فعاد لذلك، والله أعلم. استيلاء شمس الملوك صاحب دمشق على حماة وأخذها من عماد الدين وفى هذه السنة - أعنى سنة [31] سبع وعشرين وخمسمائة - قصد شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بورى - صاحب دمشق - مدينة حماة، وكان والده تاج الملوك قد توفى سنة ست وعشرين، وجلس [هو] في الأمر مكانه. وكنا قد ذكرنا أن حماة كانت لبهاء الدين سونج - أخى شمس الملوك - وأن عماد الدين قبض عليه وأخذ منه حماة، فلما نزل شمس الملوك على حماة حاصرها، وذلك في العشر الأخر من رمضان من هذه السنة، وكان الوالى بها، وهو سنقر - غلام صلاح الدين محمد بن الياغسيانى (¬2) - مقطعها قد سمع الخبر، فاستكثر من الرجال والذخائر، فزحف إليها شمس الملوك يوم العيد، ثم عاد عنها ذلك اليوم، وزحف إلى البلد من جميع جوانبه، فملكه قهرا، وأمّن أهله، وحصر القلعة، ولم تكن يومئذ حصينة على ما هى اليوم، وإنما عمّرها بعد ذلك الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، فعجز الوالى عن حفظ القلعة، فسلّمها إليه، ثم رحل عنها إلى شيزر فحصرها، ونهب بلدها، فصانعه صاحبها ابن منقذ (¬3) بمال، فرجع. ¬

(¬1) في الأصل: «مسعود». (¬2) في الأصل: «الباغستانى»، أنظر ما سبق هنا، ص 19، هامش 2 (¬3) كان صاحب شيزر في تلك السنة هو مجد الدين أبو سلامة مرشد بن على بن مقلد بن نصر ابن منقذ - والد المؤرخ المشهور أسامة - ولد سنة 460 وتوفى سنة 531؛ انظر: (محمد أحمد حسين: أسامة بن منقذ، ص 7 وما بعدها) و (Zambaur,Op .Cit,P ,104) .

ذكر الوقعة بين عماد الدين وصاحب حصن كيفا سنة ثمان وعشرين وخمسمائة

ذكر الوقعة بين عماد الدين وصاحب حصن كيفا سنة ثمان وعشرين (¬1) وخمسمائة اجتمع الأمير عماد الدين أتابك زنكى والأمير حسام الدين تمرتاش بن إيلغازى ابن أرتق [صاحب ماردين (¬2)] وقصدا مدينة آمد وحاصراها، فأرسل صاحبها - وهو [سعد الدولة أبو منصور ايكلدى بن فخر الدولة إبراهيم (¬3)] إلى الأمير ركن الدين [داود (¬4)] بن سقمان بن أرتق يستنجده، فجمع العساكر، وسار ليرحلهما عنها، فالتقوا على باب آمد، واقتتلوا، فانهزم ركن الدين، وعاد مغلولا، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، وأقام عماد الدين [زنكى] وحسام الدين [تمرتاش] على آمد محاصرين لها، وقطعا الشجر، وشعّثا البلد، ثم عادا عنها من غير بلوغ غرض. (5) استيلاء عماد الدين على قلعة الصور ثم قصد عماد الدين قلعة الصور من ديار بكر، فحاصرها وضايقها، ثم ملكها في رجب من هذه السنة (¬5) ¬

(¬1) في الأصل: «وخمسين» وهو خطأ واضح. (¬2) في الأصل: «يرتق»، وقد صححت وأضيف ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير. (¬3) في الأصل: «ابن ابراهيم بن كيكلدى» وقد صحح الاسم بعد مراجعة (Zambaur, Op .Cit . P. 139) وقد حكم سعد الدولة هذا حصن آمد من سنة 503 إلى سنة 536 (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين عن (ابن الأثير، ج 11، ص 5) للايضاح. (¬5) ما بين القوسين ورد في الهامش وأشير إلى مكانه في المتن بعلامة.

استيلاء عماد الدين على قلاع [الأكراد] الحميدية

استيلاء عماد الدين على قلاع [الأكراد (¬1)] الحميديّة (2) وفى هذه السنة تملك عماد الدين قلعة العقر (¬2)، وقلعة شوش (¬3)، وغيرهما، وكان عماد الدين قد أقرّ الأمير عيسى الحميدى - صاحب هذه القلاع - عليها، لما ملك البلاد، فلما نازل الخليفة المسترشد بالله الموصل، نزل عيسى إلى خدمة الخليفة، وحشد له [32] الأكراد، فلما رحل الخليفة أمر عماد الدين بمنازلة القلاع، فنوزلت وملكت في هذه السنة. استيلاء عماد الدين على قلاع الهكّاريّة (¬4) كان صاحب هذه القلاع الأمير أبا الهيجاء بن عبد الله وكانت له آشب (¬5) والجديدة (¬6) وتوشى (¬7) وجبل لهيجة، فأرسل عماد الدين من استحلفه وحمل إليه مالا، ثم سافر عماد الدين، وأخرج معه من آشب ولده أحمد - وهو والد الأمير سيف الدين على بن أحمد المشطوب الذى سنذكره في أخبار صلاح الدين رحمه الله - ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين عن (ابن الأثير، ج 11، ص 5) للايضاح. (¬2) بغير ضبط في الأصل، وقد ذكر (ياقوت) أكثر من مكان كان يسمى بالعقر، أحدها هو المقصود هنا، وعرفه بقوله: العقر قلعة حصينة في جبال الموصل أهلها أكراد وهى شرقى الموصل، تعرف بعقر الحميدية، أي انها تنسب إلى الحميدية وهم طائفة من الأكراد. (¬3) شوش قلعة عظيمة عالية جدا قرب عقر الحميدية من أعمال الموصل، قيل هى أعلى من العقر وأكبر ولكنها في القدر دونها. (ياقوت: معجم البلدان). (¬4) طائفة من أكبر طوائف الأكراد. (انظر عباس العزاوى: العشائر الكردية). (¬5) بدون ضبط في الأصل، وهى قلعة قديمة للأكراد، عمرها عماد الدين زنكى في سنة 537 فنسبت إليه وسميت منذ ذاك بالعمادية، وهى - كما وصفها ياقوت - قلعة حصينة مكينة في شمالى الموصل، ومن أعمالها. (¬6) ضبطت بعد مراجعة ياقوت حيث عرفها بأنها قلعة في كورة بين النهرين التي بين نصيبين والموصل، وأكثر ما تكون لصاحب الموصل، وأعمالها متصلة بأعمال حصن كيفا. (¬7) في الأصل: «بوشى» وفى (ابن الأثير): «نوشى»، وقد ضبطت بعد مراجعة: (محمد أمين زكى: خلاصة تاريخ الكرد وكردستان، ص 154).

وإنما فعل ذلك خوفا من أن يتغلب عليها، وأعطاه توشى، واستخلف أبو الهيجا بآشب كرديا يقال له باو الأرجبى (¬1). ولما قدم أبو الهيجا على عماد الدين توفى عنده بالموصل، فسار من توشى إلى آشب ليملكها، فمنعه باو وأراد حفظها لولد صغير لأبى الهيجا اسمه على، ثم نازل عماد الدين آشب فملكها، وذلك أنه استجرّهم (¬2) لما نازلهم، وانهزم من بين أيديهم حتى أبعدوا عن القلعة، ثم عطف عليهم فانهزموا، فوضع السيف فيهم، وأكثر القتل والسبى، ثم سار عنها. وفى غيبته استولى نائبه نصير الدين [جقر (¬3)] على جبل لهيجة وتوشى وقلعة الجلاّب (¬4)، وحاصر جميع حصون الهذبانيّة (¬5): وهى قلعة الشعبانى (¬6)، وقرح، وكواشى (¬7)، والزعفرانى، وغيرها (¬8) فملك الجميع، واستقام الجبل، وأمنت الرعايا بأمن الأكراد، فإنهم كانوا معهم في ضر عظيم. ¬

(¬1) في الأصل: «باد» وما هنا عن (ابن الأثير، ج 11، ص 5). (¬2) الضمير هنا عائد على أهل آشب، وصيغة ابن الأثير أكثر وضوحا وهى: «وسبب ملكها أن أهلها نزلوا كلهم إلى القتال فتركهم زنكى حتى قاربوه واستجرهم حتى أبعدوا عن القلعة ثم عطف عليهم فانهزموا. . . الخ». (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير للايضاح. (¬4) ضبطت بعد مراجعة ياقوت، قد ذكر أن جلاب اسم نهر بمدينة حران التي بالجزيرة مسمى باسم قرية يقال لها جلاب. (¬5) فرقة أخرى من أكبر فرق الأكراد. (¬6) ذكرها (محمد أمين زكى: خلاصة تاريخ الكرد وكردستان، ص 154 و 390) وذكر لى الدكتور مصطفى جواد في خطابه أن مؤلف (إجابة السائل) المخطوط بباريس ذكرها باسم «الشعبانية». (¬7) في ابن الأثير: «كوشر»، وما هنا هو الصحيح، والضبط عن ياقوت، حيث ذكر أنها قلعة حصينة في الجبال التي في شرقى الموصل ليس إليها طريق إلا لراجل واحد وكانت قديما تسمى «أردمشت». (¬8) أردف ابن الاثير هذه الاسماء بقوله: «وهى حصون المهرانية»، والمهرانية قبيلة من قبائل الأكراد.

منازلة عماد الدين دمشق

وباقى بلاد الهكّاريّة فتحها قراجانجنا (¬1) صاحب العمادية بعد قتل عماد الدين وهذا قراجا أقطعه الأمير زين الدين بلاد الهكّاريّة بعد زنكى، ولما فتح عماد الدين آشب بنى قلعة العمادية، وهى التي كانت تسمى قليعة الجلاّب، وإنما سميت العمادية (¬2) نسبة إلى عماد الدين. منازلة عماد الدين دمشق وسبب ذلك أن صاحب دمشق شمس الملوك إسماعيل بن بورى بن طغتكين كان ظالما سيئ السيرة إلى الغاية القصوى، مع بخل زائد ودناءة نفس، فكرهه أصحابه وأهله ورعيته، ولما استشعر بغض أصحابه له، وخاف منهم راسل الأمير عماد الدين زنكى يحثه على سرعة [33] الوصول إلى دمشق ليسلمها إليه، وأخلى (¬3) المدينة من الذخائر والأموال، وحملها إلى صرخد، وتابع الرسل إلى عماد الدين يحثه على الوصول، ويقول: «إن أهملت المجئ سلمت المدينة إلى الفرنج». وتحقق ذلك أصحابه، فواطأوا أمه على قتله فقتلته وانضاف إلى ذلك سبب (¬4) آخر هو مذكور في أخباره، ولما قتلته أمه أقامت في الأمر بعده أخاه شهاب الدين محمود بن بورى، وحلّفت الناس له. ووصل عماد الدين زنكى إلى دمشق، ونازلها في جمادى الأولى [سنة تسع وعشرين وخمسمائة] (¬5)، وكان لما عبر الفرات أرسل رسلا في تقرير ¬

(¬1) كذا في الاصل، وهو في ابن الاثير: «قراجا» فقط، ولم أتمكن من ضبط الاسم الثانى. (¬2) هذا يختلف مع تعريف ياقوت للعمادية وآشب، انظر ما فات، ص 55، هامش 5 (¬3) في الأصل: «اخلا». (¬4) ذكر هذا السبب الآخر (ابن الاثير: ج 11، ص 8) وخلاصته أن أم شمس الملوك اتهمت باتصالها بأحد القواد فأزمع شمس الملوك قتلها فأسرعت هى بقتله. (¬5) أضيف ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير للايضاح.

ذكر مقتل المسترشد وخلافة الراشد بالله

قواعد التسليم، فرأوا الأمر قد فات فسار إلى دمشق فحصرها، وكان نزوله أولا من شماليها، ثم انتقل إلى ميدان الحصى (¬1)، وزحف وقاتل، فرأى قوة ظاهرة وشجاعة عظيمة، وكان القائم بأعباء هذه الحروب معين الدين أثر (¬2) مملوك طغتكين، فقام في حفظ البلد قياما مشهودا. وبينما عماد الدين يحاصر البلد إذ ورد عليه أبو بكر بن بشر الجزرى رسولا من الراشد بالله بن المسترشد، ليتوجه إليه وينجده على السلطان مسعود، ويأمره بصلح صاحب دمشق، والرحيل عنها، فصالحهم، وخطبوا بدمشق للملك ألب أرسلان بن السلطان محمود، وكانت الخطبة له في جميع بلاد عماد الدين. ذكر مقتل المسترشد وخلافة الراشد بالله حكى الأمير مؤيد الدين سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم ابن الأنبارى (¬3) - كاتب الانشاء - قال: كان وقع بين السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه وبين الخليفة المسترشد بالله خلف، وخرج الخليفة لقتاله مرتين وكسر، فلما مات السلطان محمود وولى السلطنة أخوه السلطان مسعود بن محمد، استطال نوابه بالعراق، وعارض الخليفة في إقطاعه، فوقعت بينهما وحشة، فتجهز المسترشد بالله وعزم على الخروج، وجدّ في ذلك، ¬

(¬1) في الأصل: «الحصا». (¬2) في الأصل: «أتز»، انظر ما فات ص 9، هامش 4 (¬3) عاش ابن الأنبارى بين سنتى 469 و 558 (1076 - 1163)، وأقام كاتبا للانشاء نيفا وخمسين سنة، وناب في الوزارة، وبعث رسولا إلى الملك سنجر وغيره، وكان بينه وبين الحريرى صاحب المقامات مكاتبات ومراسلات. أنظر ترجمته في: (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 206؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 247؛ وابن تغرى بردى: النجوم، ج 5، ص 564؛ والزركلى: الأعلام، ج 3، ص 919)، ولا يعرف عن ابن الانبارى أنه ألف في التاريخ أو غيره، وأغلب الظن أن هذا الخبر روى عنه شفاها.

فدخل إليه الوزير شرف الدين على بن طراد الزينبى (¬1) وكمال الدين (¬2) صاحب المخزن (¬3)، وأنا معهما، وكان المسترشد قد طرد نواب السلطان عن البلاد، ورتّب صاحب المخزن للنظر في المظالم (¬4)، فقال له الوزير شرف الدين: «يا مولانا، في نفس المملوك [34] شئ، فهل يؤذن له في المقال؟» فقال: «قل»، فقال: «إلى أين نمضى وبمن نعتضد وإلى من نلتجئ ومقامنا ببغداد أمكن لنا، ولا يقصدنا أحد، والعراق ففيه لنا الكفاية، فإن الحسين بن على - عليهما السلام - لما خرج إلى العراق جرى عليه ما جرى، ولو أقام بمكة ما اختلف عليه أحد من الناس؟». فقال لى الخليفة: «ما تقول يا كاتب؟» فقلت: «يا مولانا، الصواب المقام، وما رآه الوزير فهو الرأى، ولا يقدم علينا أحد، وليت العراق يبقى لنا». فقال لصاحب المخزن: «يا وكيل، ما تقول؟» فقال: «في نفسى ما في نفس مولانا». فأنشد الخليفة قول المتنبى: وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جبانا ثم إنه تجهّز وجمع وحصل في خدمته جماعة من أمراء الأتراك، فأعطاهم مالا عظيما، ثم خرج، وخرجنا معه، فلما قاربنا همذان، وقع المصاف بين الخليفة ¬

(¬1) هو وزير المسترشد والمقتفى، انظر ترجمته في: (ابن طباطبا: الفخرى، ص 271، 275). (¬2) في الفارقى (بهامش ابن القلانسى، ص 250): «جمال الدين طلحة». (¬3) لم أعثر على تعريف لهذه الوظيفة، وإنما سمى متوليها في (ابن الساعى: الجامع المختصر) بصدر المخزن المعمور وذكر هناك في أكثر من موضع أنه عند توليها كان يخلع عليه قميص أطلس نفطى وبقيار بمغربى، ويحمل وراءه ثلاثة أسياف على أيدى مماليك ترك رجالة ويركب في جمع كثير من حجاب الديوان العزيز وحاشية المخزن المعمور (المرجع المذكور ص 143، 144، 220). ويبدو من النص هنا أنها كانت وظيفة كبيرة تلى في الأهمية وظيفتى الوزارة وكتابة الانشاء. (¬4) للتعريف بهذه الوظيفة انظر: (الماوردى: الأحكام السلطانية، ص 64، والقلقشندى: صبح الأعشى، ج 3، ص 277).

المسترشد بالله والسلطان مسعود بن محمد بمكان يسمى وادى مرك (¬1) - وهو قريب من جبل بهستون (¬2) بالقرب من همذان -، فلما اصطفت العساكر فرّ من معسكرنا جميع الأتراك، ومالوا إلى ناحية السلطان، ثم وقع القتال، فانهزم الخليفة ومن بقى معه، ونهب عسكره، وقبض على الخليفة وأرباب المناصب، وحمل الوزير وصاحب المخزن وأنا ونقيب العلويين إلى قلعة سرجهان (¬3) - بالقرب من قزوين والرى - وبقى الخليفة مع السلطان وسار معه في بلاد أذربيجان إلى أن وصلوا إلى مراغة؛ وهجم على الخليفة ثلاثة نفر من الملاحدة الباطنية، وهو في خيمته، فقتلوه، وقتلوا معه [أبا عبد الله (¬4)] ابن سكينه - وكان يصلى به -، وذلك يوم الخميس لأربع بقين من ذى القعدة (¬5) سنة تسع وعشرين وخمسمائة (¬6). ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى (ابن الأثير: ج 11، ص 10): «دايمرج» ولم يرد لها ذكر في ياقوت. (¬2) هكذا ضبطها ياقوت وقال إنها قرية وجبل، أما القرية فبين همذان وحلوان، تبعد عن همذان أربع مراحل، أما الجبل فمرتفع ممتنع لا يرتقى إلى ذروته لأنه أملس كأنه منحوت. (¬3) هكذا ضبطها ياقوت وقال إنها قلعة حصينة على طرف جبال الديلم تشرف على قاع قزوين وزنجان وأبهر، ونص على أنه رآها فوجدها من أحصن القلاع. (¬4) ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير وابن الجوزى. (¬5) كذا في الأصل، وفى (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 49)؛ (وابن الأثير، ج 11، ص 10) أنه قتل يوم الخميس سابع عشر ذى القعدة. (¬6) انفرد ابن واصل بنقل هذا الحديث - هنا وفيما يلى - عن ابن الأنبارى كاتب إنشاء المسترشد، ولهذا الحديث أهمية خاصة لأن ابن الأنبارى كان شاهد عيان لهذه الحوادث جميعا كما أنه شارك فيها، ولم يرد لهذا الحديث أي ذكر أو إشارة في كل المراجع الهامة التي كتبت عن هذا العصر والتي أشير إليها دائما في هذه الحواشى، وهى المنتظم لابن الجوزى، والكامل لابن الأثير، والبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الخلفاء للسيوطى؛ وإنما استطعت أن أحقق أنه نقله عن تاريخ الفارقى، فقد نقل نصه عنه آمدروز في هوامش كتاب (ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسى، ص 250 - 251) وعليه عارضنا نص ابن واصل لتصحيحه، وقد نص الفارقى على أن هذا الحديث جرى بينه وبين ابن الانبارى، قال: «ولقد سألت السعيد مؤيد الدين أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم الأنبارى رحمه الله في سنة 534 ببغداد حين نزلت إليه في هذه السنة عن حال المشترشد والوقعة وما جرى، فقال رضى الله عنه: إلخ» ثم روى الحديث كما جاء هنا.

قلت (¬1): وصل في اليوم الذى قتل فيه الخليفة رسول إلى السلطان مسعود من عمه السلطان سنجر شاه بن ملكشاه - صاحب خراسان - برسالة ظاهرها التقدم إليه بتعظيم الخليفة ورده إلى سرير ملكه، وباطنها التدمير عليه والراحة منه، ووردت الملاحدة صحبة الرسول، فلما قتل الخليفة أظهر [35] السلطان مسعود الجزع العظيم والحزن الكثير، ودفن الخليفة بمراغة. ووصل الخبر بذلك إلى العراق، فحزن الناس عليه حزنا عظيما وبويع بالخلافة ولده الراشد بالله ببغداد، واستقرت خلافته بها؛ ثم قدم السلطان وضرب عنق دبيس ابن مزيد صاحب الحلّة. قال مؤيد الدين سديد الدولة بن الأنبارى: (لما قتل الخليفة المسترشد بالله أحضرنا السلطان مسعود - وكان نقيب العلويين قد مات بقلعة سرجهان، ودفن هناك - فلما حضرنا عنده، قال: «ما الرأى وما التدبير في أمر الخلافة، ومن ترون؟» فقالوا: «يا مولانا، الخلافة لولى العهد - يعنى الراشد بالله -، وقد بايعه الناس ببغداد، وجلس واستقر، وبويع له من قبل قتل أبيه بولاية العهد، وبويع له الآن بالخلافة». فقال السلطان: «ما إلى هذا سبيل، ولا أقره عليها، فإنه يحدث نفسه بالخروج مثل أبيه المسترشد، ومن حين تولى أبيه لم يترك الخروج علينا؛ كان قد خرج على أخى محمود مرتين، وعلىّ مرة، وهذه أخرى، وتم عليه ماتم، وبقيت علينا شناعة عظيمة وسبة إلى آخر الدهر، فإنه يقال: قتلوا الخليفة، وهم كانوا السبب في عود الخلافة إلى هذا البيت، ولا أريد يلى الأمر إلا رجل لا يدخل نفسه في غير أمور الدين (¬2)، ولا يجند، ولا يجمع ولا يخرج علىّ ¬

(¬1) هذا تعليق من المؤلف قطع به حديث ابن الانبارى، وسيعود إليه مرة ثانية. (¬2) هذا نص واضح يدل على مبلغ ما وصلت إليه مكانة الخليفة العباسى في ذلك العهد السلجوقى أن «لا يدخل نفسه في غير أمر الدين».

ولا على أهل بيتى، وفى دار الخلافة جماعة، فاعتمدوا على شيخ منهم صاحب عقل ورأى وتدبير، يلزم نفسه ما يجب من طاعتنا، ولا يخرج من داره؛ ولا تعرّجوا عن هارون بن المقتدى بأمر الله، فهو شيخ كبير، ولا يرى الفتنة، وقد أشار به عمى سنجر». وكان في دار الخلافة في ذلك الوقت سبعة من أولاد المقتدى بأمر الله، وهم أعمام المسترشد بالله بن المستظهر بالله بن المقتدى بأمر الله، وبقى من السبعة من هو حى إلى سنة نيف وخمسين وخمسمائة؛ وكان في الدار من أولاد المستظهر بالله - أخوة المسترشد بالله - سبعة، وهم: الأمير أبو عبد الله محمد، وأبو طالب، وأبو نصر، وأبو القسم، وأبو على، وإسماعيل، ويحيى؛ ولهم أولاد جماعة؛ وكان للمسترشد أولاد جماعة، منهم الراشد بالله؛ وللراشد نيف وعشرون ولدا، أكبرهم [36] حملت أمه به وعمر الراشد تسع سنين، وهذا من أعجب الأشياء؛ فحكى عن من كان يدخل إلى دار الخلافة، ويطلع على أسرارهم أن الخليفة المسترشد أعطى لولده الراشد - وعمره أقل من تسع سنين - عدة جوار، وأمرهن أن يلاعبنه ويمكّنه من أنفسهن، وكان فيهن جارية صفراء حبشية، فحملت من الراشد، فلما ظهر الحمل، وبلغ ذلك المسترشد أنكره، فأحضرها وتهددها، فقالت: «والله ما تقدم إلىّ سواه، وأنه قد بلغ الحلم»، فسأل عن ذلك بقية الجوارى، فقلن مثل ذلك؛ فأمر أن تحمّل الجارية قطنا، ثم وطئها الراشد، فلما قام عنها أخرج القطن والمنى عليه، وفعل ذلك ببقية الجوارى، فخرج وعليه المنى، ففرح المسترشد بذلك، ووضعت الجارية ابنا، فسماه المسترشد «أمير الجيش»، وسر به سرورا شديدا. وهذا لم يسمع بمثله إلا في الحجاز، فإنه قيل إن نساء تهامة يحضن لتسع، وتبلغ صبيانها لتسع، وروى أن عمرو بن العاص كان أكبر من ابنه عبد الله بإثنى عشر.

قال ابن الأنبارى: «وأرسل السلطان مسعود إلى عمه السلطان [سنجر] (¬1) يستشيره فيمن يولى الخلافة، فأرسل إليه يقول: «لا تولى إلا من يضمنه الوزير وصاحب المخزن وابن الأنبارى»، فلما وصل السلطان إلى همذان اجتمع بنا، وأشار بهارون بن المقتدى، وعرفنا ما أمر به عمه السلطان سنجر، فقال الوزير: «إذا كان الأمر يلزمنا، فنحن نولى من نريد، وهو الزاهد الدّين الذى ليس في الدار مثله»، فقال السلطان: «من هو؟» فقال: «الأمير أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله»، فقال: «وتضمن ما يجرى منه؟» فقال الوزير: «نعم»، وكان الأمير [أبو] (1) عبد الله صهر الوزير على ابنته، فإنها دخلت يوما الدار في خلافة المستظهر بالله، فرآها الأمير أبو عبد الله، فطلب من أبيه تزويجها، فزوجه بها، فدخل بها وبقيت عنده، ثم توفيت، فقال السلطان: «ذلك إليكم»، وكتموا الحال لئلا يشتهر الأمر، فيقتل الراشد بالله عمه الأمير أبا عبد الله، ثم رحل السلطان والجماعة نحو بغداد (¬2). وأما الراشد فإنه لما بويع له ببغداد بالخلافة [37] بعد مقتل أبيه المسترشد بالله. أرسل إلى الأمير عماد الدين زنكى بن آق سنقر يستدعيه لنجدته، وضمن له أن يكون السلطنة والملك للملك ألب أرسلان بن محمود بن محمد بن ملكشاه الذى عند أتابك، وأن تكون أتابكية السلطنة والخلافة بحكم عماد الدين، فوردت الرسالة على عماد الدين زنكى بذلك، وهو بظاهر دمشق محاصرها، وبها شهاب الدين محمود بن بورى، فصالحه عماد الدين زنكى، ورحل عنها، ووصل إلى حماة، وبها شمس الخواص اليتاش (¬3) - نائب صاحب دمشق - وكان قد نزع يده من طاعة صاحب دمشق، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن الفارقى (ذيل تاريخ دمشق، ص 251، الهامش). (¬2) بهذا اللفظ ينتهى حديث ابن الأنبارى كما رواه الفارقى وعنه ابن واصل. (¬3) كذا في الأصل، وهو في (ابن القلانسى، ص 248): «شمس الخواص» فقط.

فالتجأ إلى عماد الدين، فقبض عليه عماد الدين، وأخذ منه حماة، وسلّمها إلى صاحبه صلاح الدين الياغيسيانى، فاستناب فيها ولده شهاب الدين أحمد. ثم توجه عماد الدين زنكى إلى بغداد لنصرة الراشد بالله، وورد إلى بغداد جماعة من ملوك الأطراف متفقين على قتال السلطان مسعود، ونصرة الراشد، وهم: السلطان داود بن محمود (¬1) بن ملكشاه - صاحب أذربيجان -، وبرنقش - صاحب قزوين -، والبقش الكبير - صاحب أصفهان -، وصدقة بن دبيس - صاحب الحلّة - الذى قتل السلطان أباه دبيسا، ومعه عنتر بن أبى العسكر، يدبره - لصباه - وورد أيضا ابن الأحمديلى، وانضاف إلى هؤلاء مقدمو (¬2) عساكر بغداد، وهم: كج أبه، وطرنطاى، وغيرهما؛ واضطربت بغداد، ونقلوا أموالهم إلى دار الخلافة. وأمر الخليفة أن يخطب بالسلطنة بعده للسلطان داوود، وتحالف الخليفة والسلطان داوود والأمير عماد الدين زنكى، وأرسل الخليفة الراشد إلى عماد الدين ثلاثين (¬3) ألف دينار، ووصل بعد ذلك سلجوق شاه بن محمد - أخو السلطان مسعود - إلى واسط، وقبض على الأمير بك أبه، ونهب ماله، فانحدر إليه عماد الدين زنكى، فدفعه عنها، ثم اصطلحا، وعاد عماد الدين إلى بغداد. ¬

(¬1) في الأصل: «محمد» والصحيح ما ذكرناه. (¬2) في الأصل: «مقدمين». (¬3) في (ابن الأثير، ج 11، ص 14): «مائتى ألف دينار». ولاحظ أن نص ابن واصل يعود فيتفق ونص ابن الأثير، وأغلب الظن أن المؤرخين ينقلان عن الفارقى.

ذكر قدوم السلطان محمود بن مسعود بن محمد إلى بغداد وهروب الراشد بالله وعماد الدين زنكى إلى الموصل

ذكر قدوم السلطان محمود بن مسعود بن محمد إلى بغداد وهروب الراشد بالله وعماد الدين زنكى إلى الموصل ثم عبر الأمير عماد الدين زنكى إلى خراسان، وحثّ على جمع العساكر للقاء السلطان مسعود، وسار السلطان داوود [38] نحو طريق خراسان، وأظهر أنه يمضى إلى مراغة، ثم عاد عماد الدين إلى بغداد، (¬1) وبرز الراشد بالله إلى ظاهر بغداد أول شهر رمضان سنة ثلاثين وخمسمائة، وسار على طريق خراسان ثلاثة أيام، ثم عاد ونزل عند جامع السلطان، ثم دخل بغداد، وراسل العسكر وسائر الأمراء؛ وأمرهم بالعود، فعادوا، ونزلوا في الخيام، واتفقت كلمتهم على قتال السلطان مسعود. ثم قدم السلطان مسعود في العساكر الكثيرة إلى بغداد، ونزل بالملكية، وشارف بعض العسكر البغدادى عسكره، وطاردوهم، ثم نزل السلطان بغداد، وحاصرها نيفا وخمسين يوما، فلم يظفر بطائل، فعاد إلى النهروان عازما على العود، فوصله طرنطاى - صاحب واسط -، ومعه سفن كثيرة، فعاد إليها، وعبر إلى غربى دجلة، واختلفت كلمة العساكر الذين ببغداد، وعاد السلطان داوود إلى بلاده. ولما أحس الخليفة الراشد بالله بقوة السلطان مسعود، وعلم أنه لا بد أن يولى الخلافة غيره جمع الأمراء من أهل بيته - الذين هم في الدار -، وجمعهم في سرداب، ¬

(¬1) هنا تبدأ نسخة س، فقد نص كاتها على أنه سيبدأ الكتاب بالتأريخ لحوادث سنة 530 هـ‍، غير أن نص س في أوله مختصر كثيرا عن نص ك. وفيما يلى نص السطور الواردة في (اب) من نسخة س وهى المقابلة للفقرة المذكورة هنا بين الرقمين: «سنة ثلاثين وخمسمائة، وما وقع فيه (كذا) من الحوادث والاخبار: استهلت هذه السنة والخليفة هو المقتفى بأمر الله ابن المستظهر بالله، وسلطان الوقت هو السلطان مسعود زنكى (كذا)؛ قال بدر الدين بن الأنبارى: «في هذا العام برز الراشد بالله لظاهر بغداد، وسار على طريق خراسان ثلاثة =

وتقدم بأن يطبق عليهم؛ فحكى أبو القاسم (1) على - المعروف بحاجب الباب (¬1) -: «أنه لما جمعهم الراشد في السرداب استدعانى، وأشار إلى سيف بين يديه، وقال: «يا على، خذ هذا السيف» وأخذ بيده سيفا آخر، وقال: «إحذر أن يسبق سيفى سيفك، فإنى أريد أن أخرج كل من في السرداب، وأقتل الجميع، حتى لا يبقى من يصلح للخلافة، فإن هؤلاء ربما دخلوا وولوا غيرى»؛ ثم أمر بفتح السرداب، وإذا الخبر قد جاءه أن عماد الدين أتابك زنكى قد هرب ونهب الحريم الطاهرى (¬2)، وتوجه إلى الموصل، فرمى السيف من يده، ودخل الدار، وأخرج معه من الجواهر ما لا يعرف قيمته، وأعطانى مثل ذلك، وأخرج معه [قاضى القضاة (¬3)] الزينبى، وجلال الدين أبا الرضا بن صدقة، - وكان قد استوزره - وخرجت معه، ولحقنا بعماد الدين زنكى على طريق الموصل، ووصل الراشد، وصحبته عماد الدين زنكى إلى الموصل. ¬

= أيام، ورجع ثانيا، وكاتب العساكر، وأمرهم فعادوا، وجاء السلطان مسعود إلى بغداد وحاصرها سبع (كذا) وخمسين (؟)، ثم رجع إلى النهروان واستعد، وعاد وفعل بها ال‍؟؟؟ جب، فلما أحس به الراشد، قام وجمع الأمراء في سرب (كذا) وقتلهم، قال أبو القاسم المعروف بحاجب الباب: «وكتبت عنده اذ ذاك - فأحلفنى، ومضيت إلى منزلى، وأرسل ثانيا وطلبنى، وقال: أما تدرى أن المقتفى مخبأ في بيت الرجل لذى كان عندنا؟» هذا هو نص س المقابل لهذه الفقرة هنا، والفرق واضح بينهما إيجازا وتفصيلا، وبنهاية النص تنتهى ص (اب)، وهناك سقط بينها وبين أول ص (2 ا) فان المعنى غير متصل، أنظر ما يلى، ص 69 (¬1) مما يؤكد ترجيحنا السابق أن تاريخ الفارقى هو المرجع الذى يأخذ عنه كل من ابن الأثير وابن واصل أن هذه القصة لم ترد في ابن الأثير، وإنما بقلها آمدروز عن الفارقى في (ابن القلانسى. ذيل تاريخ دمشق، ص 259 - 261، الهوامش). ولقد نص الفارقى على أن هذه القصة مما حدثه به زين الدوله أبو القاسم على حاجب الباب. (¬2) في الأصل: «الظاهرى» وفى الفارقى (الطاهر)؛ وما هنا عن (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنه بأعلى مدينة السلام بغداد في الجانب الغربى، منسوب إلى طاهر بن الحسين، وبه كانت منازلهم، وكان من لجأ إليه أمن، فلذلك سمى الحريم وكان اول من جعلها حريما عبد الله بن طاهر بن حسين. (¬3) ما بين الحاصرتين عن الفارقى.

ذكر البيعة بالخلافة للمقتفى لأمر الله بن المستظهر بالله

ذكر البيعة بالخلافة للمقتفى لأمر الله بن المستظهر بالله [39] قال مؤيد الدين بن الأنبارى (¬1). كاتب الانشاء: - «لما كان هذا اليوم - وهو يوم الأحد سابع عشر (¬2) ذى القعدة - من هذه السنة - أعنى سنة ثلاثين وخمسمائة - مضى الوزير شرف الدين على بن طراد الزينبى إلى دار السلطان ونحن معه، وأخذ السلطان خط الوزير وخطوطنا بالضمان، ثم صرنا إلى دورنا، وأصبحنا يوم الاثنين فحضرنا عند الأمير أبى عبد الله محمد بن المستظهر بالله، وتحدث الوزير معه، وتحدثنا معه، وشرطنا عليه القيام بأمر الخلافة وطاعة السلطان، وأعلمناه أننا قد ضمنا للسلطان جميع ما اقترحه علينا، فرضى بذلك، وانفصلنا عنه، ومضينا إلى السلطان، وأعلمناه ما جرى، وأنه رضى بما اشترطنا عليه، فقال السلطان: «إذا كان كما قلتم فبايعوه»، فلما كان الغد صعدنا إلى الدار فأخرجنا منها أشياء من الآلات التي تصلح للغناء، وأشياء لا تليق، وشهد جماعة من أهل الدار أن الراشد كان يشرب الخمر، فأفتى العلماء بخلعه، وحكم القضاة بذلك، فخلعوه من الخلافة. ودخلت إلى الأمير عبد الله محمد، أنا والوزير وصاحب المخزن، وتحدثنا معه، وناولته رقعة (¬3) مما يلقب به، فكان فيها: المقتفى بأمر الله، والمستضئ بنور الله، ¬

(¬1) هذا الحديث منقول أيضا عن الفارقى. (¬2) في الفارقى: «عاشر ذى القعدة»، وهو خطأ واضح لأنه قال بعد ذلك: «وأصبحنا يوم الاثنين سابع عشر ذى القعدة. .». (¬3) الفارقى: «رقعة فيها ما يسمى به من اللقب».

والمستجير بالله (¬1)، فقال الخليفة: «ذلك إليكم»، ثم قال لى الخليفة: «ماذا ترى؟» فقلت: «المقتفى لأمر الله» فقال: «مبارك» ثم مد يده، فأخذها الوزير وقبلها، وقال: «بايعت سيدنا ومولانا الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واجتهاده»؛ ثم أخذها صاحب المخزن وقبلها، وباي‍عه على مثل ذلك، ثم أخذت يده، وقلت بعد أن قبلتها: «بايعت سيدنا ومولانا الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين على ما بايعت عليه أباه وأخاه وابن أخيه في ولاية عهده -، وكنت بايعت الإمام المستظهر بالله لما خدمته في وكالة الدار سنة اثنتين (¬2) وتسعين وأربعمائة، وبقيت إلى سنة سبع وخمسمائة (¬3) وبايعت المسترشد، وبايعت الراشد بولاية العهد -[40] قال: ثم قمت من عنده، ودخل أمراء الدار وبايعوه، ودخل العلماء والقضاة والفقهاء وأكابر الناس أجمع فبايعوه، ثم حضر السلطان مسعود عنده، وكلمه المقتفى بالله بكلام وعظه فيه وعرفه ما يلزمه من طاعة الخلافة، وأمره بالرفق بالرعية، والإحسان إليهم، وخوّفه عاقبة الظلم، فبايعه السلطان، وقبل يد الخليفة، ورجع إلى دار السلطنة. وأما الراشد بالله فإنه أقام بالموصل مع عماد الدين أتابك زنكى، والخطبة بالموصل وسائر بلاد عماد الدين للراشد بالله، ثم أرسل عماد الدين زنكى إلى بغداد القاضى كمال الدين محمد بن عبد الله بن الشهرزورى وصحبته رسول الراشد بالله، فأما رسول الراشد فلم تسمع رسالته، وأما كمال الدين فأحضر في الديوان وسمعت رسالته، ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى الفارقى: «والمستنجد بالله». (¬2) الفارقى: «سنة 90» فقط. (¬3) في الأصل: «وخمسين» والتصحيح عن الفارقى.

فحكى عن كمال الدين (¬1) أنه قال: «لما حضرت الديوان قيل لى: «تبايع أمير المؤمنين؟» فقلت: «أمير المؤمنين عندنا بالموصل (¬2)، وله في أعناق الخلق بيعة متقدمة». وطال الكلام وعدت إلى منزلى، فلما كان الليل جاءتنى امرأة عجوز سرا (¬3)، فاجتمعت بى وأبلغتنى رسالة عن الخليفة المقتفى لأمر الله، مضمونها (¬4) عتابى على ما قلت، واستنزالى عنه، فقلت: «غدا أخدم (¬5) خدمة يظهر أثرها»؛ فلما كان الغد أحضرت (¬6) الديوان، وقيل لى في معنى البيعة، فقلت: «أنا رجل فقيه قاضى، ولا يجوز لى أن أبايع لخليفة إلا أن يثبت عندى خلع المتقدم». فأحضروا الشهود وشهدوا عندى بالديوان بما أوجب خلعه، فقلت: «هذا ثابت لا كلام (¬7) فيه، ولكن لا بد لنا في هذه الدعوة من نصيب، لأن أمير المؤمنين قد حصل له خلافة الله في أرضه، والسلطان فقد استراح ممن كان يقصده، فنحن بأى شىء نعود؟» فرفع الأمر إلى الخليفة فأمر أن يقطع عماد الدين زنكى صريفين (¬8) ¬

(¬1) هذا الحديث يرويه ابن واصل عن ابن الأثير، فقد ذكره الأخير مرويا عن أبيه حيث قال (ج 11، ص 17): «حكى لى والدى عنه - أي عن كمال الدين -». (¬2) عند هذا اللفظ يبدأ الاتفاق ثانيه بين نصى (س)، (ك)، فان ص (12) من نسخة س تبدأ بهذين اللفظين: «عندنا بالموصل. . . الخ»، ويلاحظ هنا أيضا أن الخلاف لا زال واضحا بين نصى النسختين، فان ما هنا - أي نص ك - مفصل، وما في س ملخص عنه. (¬3) في (س): «شريفة»، وما هنا هو الصحيح لاتفاقه مع نص ابن الأثير وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هذا الحديث. (¬4) في (س): «تتضمن» وهذا مثل يدل على الطريقة التي يتبعها كاتب هذه النسخة عند الاختصار. (¬5) في (س): «أخدمه»، وما هنا هو الصحيح لاتفاقه مع ابن الأثير. (¬6) في (س): «أحضرت إلى الديوان»، وفى (ابن الأثير): «حضرت إلى الديوان». (¬7) في (س): «لا كلام لأحد فيه ولا بد»، وما هنا يتفق ونص ابن الأثير. (¬8) في (س): «عبر نفس» بدون نقط، وصريفين - أو صريفون كما رسمها ياقوت - في سواد العراق في موضعين: أحدهما قرية كبيرة قرب عكبراء وأوانا على ضفة نهر دجيل والثانية من قرى واسط؛ أنظر (ياقوت: معجم البلدان).

ودرب (¬1) هرون وحزمى (¬2) مالكا - وهى من خاص الخليفة - وأمر بأن يزاد في ألقابه (¬3)، وقال: «هذه قاعدة لم يسمح لأحد بها من زعماء الأطراف أن يكون له نصيب [41] في خاص الخليفة». فبايعت وعدت مقضى الحوائج، وقد حصلت (¬4) على جملة صالحة من الأموال والتحف، وكانت بيعة القاضى كمال الدين للخليفة المقتفى لأمر الله (¬5) سنة إحدى وثلاثين وخمس مائة. ولما عاد كمال الدين [الشهرزورى] (¬6) سيّر على يده المحضر يخلع الراشد، فحكم به قاضى القضاة الزينبي بالموصل - وكان عند عماد الدين (¬7) - وخطب للمقتفى بالموصل وسائر البلاد العمادية، ثم فارق الراشد بالله الموصل، وسار نحو الرى، ثم توجه نحو همذان، ولم تزل الأحوال تترامى به إلى أن عرض له مرض شارف به التلف، ثم وثب عليه جماعة من الباطنية في يوم الثلاثاء سادس شهر رمضان سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة، فقتلوه ودفن بشهرستان في جامعها (¬8). ¬

(¬1) في الأصل: «وصرف» والتصحيح عن (ابن الأثير)، (س)، هذا ولم يوفق الناشر لتحقيق موضع هاتين الجهتين، وإنما عاد ابن الأثير إلى ذكرهما مرة ثانية في حوادث سنة 568، وذلك في (ج 11، ص 148)، قال: «وفيها أرسل نور الدين محمود رسولا إلى الخليفة. . . يطلب تقليدا بما بيده من البلاد. . . وأن يعطى من الاقطاع بسواد العراق ما كان لأبيه زنكى وهو: صريفين ودرب هارون، والتمس أرضا على شاطىء دجلة يبنيها مدرسة للشافعية ويوقف عليها صريفين ودرب هارون. . .». (¬2) كذا في الأصل، وفى (ابن الأثير، ج 11؛ ص 17): «وجرى ملكا» وفى (س): «وحرص مالكا». (¬3) في (ابن الأثير): «ويزداد في ألقابه» وفى (س): «وأمر أن يزاد في الغاية». (¬4) في (س): «خلصت». (¬5) في الأصل: «بالله» وما هنا عن (س) وهو الصحيح. (¬6) ما بين الحاصرتين عن: (ابن الأثير). (¬7) هنا ينفصل ابن الأثير عن ابن واصل، ويورد تفاصيل مختلفة عن حوادث أخرى. (¬8) ورد تاريخ قتل الراشد في نسخة (س) متأخرا عن الخبر ومكان الدفن، وهو هنا متقدم.

منازلة عماد الدين مدينة حمص

وفى (¬1) سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة نازل عماد الدين دقوقاء (¬2) وملكها بعد أن قاتل على قلعتها قتالا شديدا. منازلة عماد الدين مدينة حمص (¬3) قد ذكرنا أن حمص كانت لصمصام الدين خترخان بن قراجا، وأن عماد الدين قبض عليه سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وحبسه في قلعة حلب، ثم نقله إلى الموصل فحبسه بها، وقتل في الحبس سنة تسع وعشرين وخمسمائة، فولى حمص بعده ولده عين الدولة إيلخان (¬4) بن خترخان، والمدبر لأمره اسباسلار خمرتاش - مملوك أبيه -. ولما كان في سنة ست وعشرين وخمسمائة وثب على عين الدولة مملوكه [ومملوك أبيه (¬5)] بزغش فقتله، وكان بالقلعة زوج لجارية خترخان، ومعه ابن لخترخان، فقتل بزغش، وأجلس في الأمر قريش بن خترخان (¬6)، والمدبر لأمره اسباسلار خمرتاش، ثم سلم خمرتاش حمص الأمير شمس الملوك إسماعيل بن بورى - صاحب دمشق - وأخذ منه عوضا اقترحه عليه، فلما قتل شمس الملوك، وولى أخوه ¬

(¬1) قبل هذا الخبر في (س) ورد هذا اللفظان: «قال الراوى» دون أن يحدد من هو وأغلب الظن أن كاتب نسخة (س) كتبها بالاملاء عن غيره، وأن هذين اللفظين كانا من مستلزمات المملى. (¬2) في الأصل: «دقوقا» وقد ضبط اللفظ بعد مراجعة ياقوت حيث ذكر أنها مدينة بين إربل وبغداد. (¬3) هذا العنوان غير موجود في (س) والكلام هناك متصل. (¬4) رسم هذا اللفظ في الأصل هكذا: «أي لخان» وهو في (س): «أبى طان». (¬5) ما بين الحاصرتين عن: (س) ص 2 ب. (¬6) في الأصل: «ختلخان»، والتصحيح يقتضيه النص.

ذكر فتح قلعة بارين وكسر الفرنج - لعنهم الله -

شهاب الدين محمود بن بورى (¬1) سلم حمص للأمير معين الدين أنر (¬2) - مملوك جده طغتكين -، فلما كانت هذه السنة - سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة - توجه الأمير عماد الدين من الموصل إلى حمص، وحصرها، وقبل وصوله إليها نازلها حاجبه [42] الأمير صلاح الدين محمد بن أيوب الياغيسيانى - صاحب حماة، وهو أكبر أمرائه -، وكان ذا مكر وحيل، أرسله عماد الدين (¬3) ليتوصل مع من فيها ليسلموها إليه، فوصل إليها وفيها الأمير معين الدين أنر (2) - وهو أكبر أمراء دمشق وإقطاعه حمص -، فلم ينفذ فيه مكره، ثم وصل عماد الدين فحصرها، وعاود معين الدين في تسليم البلد غير مرة، تارة بالوعد وتارة بالوعيد، فاحتج بأنها ملك شهاب الدين، وأنها بيده أمانة لا يسلمها إلا عن غلبة (¬4)، فأقام عليها إلى العشرين من شوال، ثم رحل عنها من غير بلوغ غرض. ذكر فتح قلعة بارين (¬5) وكسر الفرنج - لعنهم الله - ثم سار الأمير عماد الدين من حمص ونازل بارين - وهى للفرنج بالقرب من مدينة حماة -، وزحف إليها، فحشد الفرنج فارسهم وراجلهم، وساروا إلى عماد الدين ¬

(¬1) هذه الفقرة السابقة لهذا الرقم كلها استطراد من ابن واصل لتفصيل هذه الحقبة من تاريخ حمص، وهو استطراد هام للغاية إذ لا يوجد له شبيه في كل المراجع التي تؤرخ لهذا العصر، وهذه ميزة لابن واصل ولكنا به فقد اعتاد أن يقف طويلا وأن يتحدث تفصيلا كلما ورد ذكر مدينة من مدن الشام الشمالية، وخاصة المدن الهامة الثلاثة: حماة - وطنه الأصلى -، وحمص، وحلب. (¬2) في الأصل: «أتز» أنظر ما فات هنا، ص 9، هامش 4 (¬3) في (س): «عماد الدين إليها ليسلموها»، وما هنا يتفق ونص ابن الأثير (ج 11، ص 19) (¬4) في (س): «عن إذنه» وما هنا يتفق ونص ابن الأثير. (¬5) في الأصل: «ماردين» وهو خطأ، والتصحيح عن: (س) و (ابن الأثير)؛ أنظر أيضا النص فيما يلى. وهى في (ابن الأثير، ج 11 ص 20): «بعرين»؛ والرسمان صحيحان، وإنما بعرين هو ما تستعمله العامة، وبارين تقع بين حماة وحلب، (ياقوت: معجم البلدان).

في ملوكهم وقمامصتهم (1) وكنودهم (¬1) ليرحلوه عن بارين فلقيهم وقاتلهم أشد قتال، وصبر الفريقان، فهزم الفرنج، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب، فاحتمى ملوكهم وفرسانهم بحصن بارين - لقربه منهم -، فحصرهم المسلمون، ومنع عماد الدين منهم كل شىء، وتعذر وصول الأخبار إليهم، ودخلت القسوس والرهبان بلاد الروم والفرنج وما والاها من بلاد النصرانية، مستنصرين على المسلمين، وأعلموهم أن زنكى إن أخذ حصن بارين ومن فيها من الفرنج ملك جميع بلادهم في أسرع وقت لعدم المحامى عنها، وأن همة المسلمين مصروفة إلى فتح بيت المقدس، فحشدت النصرانية وجمعت، وقصدوا الشام مع ملك قسطنطينية. وجدّ عماد الدين في حصار بارين، وعدمت عندهم الذخائر حتى أكلوا الدواب، فأذعنوا بالتسليم ليؤمنهم ليعودوا إلى بلادهم، فلم يجبهم [إلى ذلك (¬2)] فلما سمع بقرب ملك الروم واجتماعه بمن بقى من الفرنج أعطاهم الأمان، وتسلم منهم الحصن، ¬

(¬1) يتردد ذكر «القومص» كثيرا في الكتب العربية التي أرخت للحروب الصلبية كالروضتين لابى شامة والكامل لابن الأثير، وهو تعريب حرفى للفظة اللاتينية (Comes) أي الأمير، ومعناها الأصلى في اللاتينية «الرفيق» لأنه كان في بادىء الأمر يرافق الملك في حروبه وتنقلاته، ثم سمى بالأمير، وقد تختلف المراجع في رسم هذا للفظ، فهو القمّس، أو القومس أو القمّص، أو القومص؛ وهم تارة يؤنثونه فيقولون: القومصيّة، أو القومصة، وكما اختلفت المراجع في رسم المفرد اختلفت أيضا في رسم الجمع، فهو عندهم: قمامس، وقمامسة، وقمامصة، وقوامص؛ ولفظة (Comes) هى التي حورت في اللغة الفرنسية إلى (Comte) وهذه هى ما اعتادت نفس المراجع أن تعربها إلى «كد»؛ واختلفوا في رسم هذا اللفظ أيضا فهو عندهم: كند، وقند، وهم يجمعونهم على كنود. وهو عين اللفظ الذى اعتاد الكتاب المحدثون أن يرسموه هكذا «كنت» أو «كونت»، ومعنى اللفظين واحد وهو الأمير، وإنما الأول مأخوذ عن اللاتينية (Comes) والثانى عن الفرنسية (Comte) أنظر: (الأب انستاس مارى الكرملى: ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب، مجلة الرسالة، العدد 411، 19 مايو سنة 1941). (¬2) ما بين الحاصرتين عن (س) و (ابن الأثير).

ذكر فتح المعرة وكفر طاب

وقرر عليهم خمسين ألف دينار [43] يحملونها (¬1) إليه، ووقعت الإجابة إلى ذلك، فلما فارقوا الحصن وتحققوا خروج ملك الروم لنصرتهم ندموا حيث لم ينفعهم الندم (¬2) ذكر فتح المعرّة وكفر طاب وفى مدة حصار بارين تسلم عماد الدين - رحمه الله - المعرّة وكفر طاب من الفرنج (¬3)، وكان الضرر يلحق المسلمين بالفرنج الذين فيهما لتوسطهما البلاد الإسلامية (3)، ولقد سلك الأمير عماد الدين من العدل في أهل المعرة لما استنقذها من الفرنج طريقة لم يسلكها أحد قبله، سمعت (¬4) والدى - رحمه الله - يقول - ونحن بالبيت المقدس سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وكان الملك المعظم شرف الدين عيسى بن أبى بكر بن أيوب قد قدم إليها فاجتمع به والدى بالحرم الشريف - قال: «سألنى اليوم السلطان الملك المعظم: هل كان للمعرّة سور؟ قلت: «نعم»، قال: «فمن هدمه؟» قلت: «أتابك زنكى لما ملك المعرّة واستنقذها من الفرنج»، ثم ذكرت له عدل أتابك زنكى، وقلت له: إنه كان حنفى المذهب، ومن مذهب أبى حنيفة - رحمه الله - أن الكفار إذا استولوا على بلد وفيه أملاك للمسلمين خرجت تلك الأملاك عن ملك أصحابها (5) لصيرورة البلد دار حرب (¬5)، فإذا عاد البلد ¬

(¬1) في الأصل: «يحملوها» وما هنا عن: (س) و (ابن الأثير) وهو الصحيح. (¬2) هذه الحوادث رواها ابن الأثير أكثر تفصيلا، والنصان متفقان في اللفظ في أكثر من موضع. (¬3) نص (س) يختلف عما هنا بعض الشىء وهو: «وكان الضرر بالأفرنج الذين فيهما على المسلمين عظيما لتوسطهما البلاد الاسلامية». (¬4) هذه فقرة من الفقرات الكثيرة الهامة التي يشير فيها ابن واصل إلى أبيه وإلى نفسه، ومن هذه الفقرات استطعنا أن نعرف الشىء الكثير عن حياة ابن واصل وحياة أبيه مما لم تتضمنه كتب التراجم. (¬5) هذه الجملة ساقطة من (س).

بعد ذلك إلى المسلمين كانت تلك الأملاك لبيت المال، فلما فتح أتابك المعرة جاءه (¬1) المعريون يطلبون تسليم أملاكهم إليهم، فاستفتى أتابك الفقهاء [على] (¬2) ذلك، فأفتوه بما يقتضيه مذهبهم، وهو أن الأملاك لبيت المال، ولا حظّ لأصحابها فيها، فقال رحمه الله: إذا كان الفرنج يأخذون أملاكهم (¬3)، ونحن نأخذ أملاكهم، فأى فرق بيننا وبين الفرنج؟ كل من أتى (¬4) بكتاب يدل على أنه مالك لأرض فليأخذها، فرد إلى الناس جميع أملاكهم، ولم يعترض لشىء منها. وقال: «فاستحسن [السلطان] (¬5) الملك المعظم هذه الفعلة». قلت (¬6): وأما ابن الأثير (¬7) فإنه في تاريخه روى ذلك على غير هذه الصورة، وقال: «إن الفرنج لما ملكوا المرة أخذوا أملاك أهلها، فلما فتحها [عماد الدين] (¬8) زنكى، حضر من بقى من أهلها ومعهم أعقاب من هلك، فطلبوا [44] أملاكهم، فطلب منهم كتبها، فقالوا: إن الافرنج أخذوا كل ما لنا، وذهبت الكتب التي للأملاك (¬9)؛ فقال لأصحابه: «اطلبوا دفاتر ديوان حلب، فكل من عليه خراج على ملك يسلم إليه»، ففعلوا ذلك، وعاد الناس إلى أملاكهم (¬10)؛ وهذا من أحسن الأفعال وأعدلها» - رحمه الله وقدس روحه -. ¬

(¬1) في الأصل: «جاءوا» وما هنا عن س. (¬2) ما بين الحاصرتين عن (س). (¬3) في (س): أملاكهم ولا نردها نحن، فأى فرق. . . الخ». (¬4) في الأصل: «أتا» بالألف. (¬5) ما بين الحاصرتين عن (س). (¬6) مكان هذا اللفظ في س: «قال صاحب الكتاب القاضى جمال الدين بن واصل قاضى القضاة بحماة». (¬7) هذا مثل من أمثلة كثيرة ستأتى فيما بعد تدل على أن ابن واصل لم يكن يقنع بالرواية الواحدة حتى ولو كان راويها أبوه نفسه، بل كان يقارن بين روايات المؤرخين المختلفين كلما وجد خلافا بين هذه الروايات. (¬8) ما بين الحاصرتين عن (س) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 20). (¬9) نص ابن الأثير: «كل ما لنا والكتب التي للأملاك فيها». (¬10) نص ابن الأثير: «وأعاد على الناس أملاكهم».

ذكر خروج ملك الروم إلى بلاد الإسلام

ذكر خروج ملك الروم إلى بلاد الإسلام لما مضت القسوس والرهبان إلى بلاد الروم واستنفروهم على المسلمين بسبب عماد الدين ومنازلته بارين، وخوّفوهم من أخذها واستئصال من فيها، فتجهز الروم وركبوا في البحر من قسطنطانية، وساروا إلى أنطاكية، وهى لهم يومئذ، فأرسوا بها منتظرين المراكب التي فيها الأثقال والسلاح، فلما وصلت ساروا إلى مدينة نيقية فنازلوها وحاصروها، ثم صولحوا على مال يؤدى إليهم، ثم ساروا إلى مدينة أذنه والمصيصة، - وهما لابن ليون (¬1) الأرمنى - فحصرهما ملك الروم وملكهما، ثم نازل عين زربى (¬2)، فملكها عنوة، وملك تل حمدون؛ وحمل ملك الروم أهله إلى جزيرة قبرس، ثم وصل إلى الشام فحصر مدينة أنطاكية في ذى القعدة من هذه السنة - أعنى سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة -، وضيّق على أهلها، وبها بيمند الافرنجى، ثم اصطلحا، ورحل إلى بغراس، ثم دخل بلد ابن ليون، فبذل له ابن ليون مالا، ودخل في طاعته. ذكر استيلاء عماد الدين على حمص (¬3) ولما فرغ عماد الدين من بارين سار إلى حماة، ثم سار إلى بقاع بعلبك، فملك حصن المجدل - وهو لصاحب دمشق - وأطاعه مستحفظ بانياس ¬

(¬1) هو ليون الثانى Lion II ملك أرمينية في تلك السنة. وتسميه مراجع العصر العربية أيضا «ابن لاون»، أنظر: دائرة المعارف الاسلامية، مادة «أرمينية». (¬2) في الأصل: «عين رزية»، وفى س «عين رومه»، وفى (ابن الأثير، ج 11، ص 20): «عين زربة» والتصحيح عن معجم البلدان لياقوت حيث عرفها بأنها بلد بالثغر من نواحى المصيصة، ثم ذكر أنها بقيت بيد المسلمين إلى أن استولى عليها الروم في أيام سيف الدولة الحمدانى، ثم قال: «وهى في أيديهم إلى الآن، وأهلها اليوم أرمن، وهى من أعمال ابن ليون». (¬3) هذا العنوان غير موجود في س.

ذكر منازلة الروم حلب ثم شيزر

- وهى لصاحب دمشق أيضا (¬1) -، ثم سار إلى حمص فحصرها، فلما نازل ملك الروم حلب - على ما نذكره - رحل عن حمص ونزل على سلمية، ثم نزل على حماة - على ما نذكره -، فلما انحلت قضية الروم عاد إلى حمص فنازلها، ثم وقعت بينه وبين شهاب الدين [صاحب دمشق (¬2)] مراسلة، فانتهى الأمر إلى الصلح، وسلم إليه حمص، وخطب زمرد خاتون - أم شهاب الدين (¬3) -[45] وهى التي ذكرنا أنها قتلت ولدها شمس الملوك، وزفت إليه في رمضان سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة واعتقد [عماد الدين] أنه إذا تزوجها كان ذلك طريقا إلى تملكه دمشق، فلما لم يحصل له ذلك أعرض عنها. ذكر منازلة الروم حلب ثم شيزر (¬4) ثم لما صالح ملك الروم ابن ليون قصد بزاعة (¬5) فحصرها، فسيّر عماد الدين جماعة من العسكر إلى حلب ليمنعوها من الروم إن قصدوها، ثم ملك ملك الروم بزاعة ¬

(¬1) هذه الجملة في س مضطربة الألفاظ والمعنى، ونصها: «وأطاعه وهو مستحفظ باياس وهو لصاحب دمشق ايضا». (¬2) أضفنا ما بين الحاصرتين عن: (ابن الأثير، ج 11، ص 21) وذلك للايضاح. (¬3) هذان اللفظان لم يذكرا في س، وقد أضاف ابن الأثير للتعريف بهذه السيدة قوله: «وهى التي بنت المدرسة بظاهر دمشق المطلة على وادى شقرا ونهر بردى». وهذه المدرسة هى المعروفة باسم «المدرسة الخاتونية البرانيه»، بنتها للحنفية، وأوقفت عليها الأوقاف في سنة 526؛ وزمرد خاتون هى صفوة الملوك ابنة الأمير جاولى، أخت دقاق لأمه، وزوجة تاج الملوك بورى، وأم ولديه: شمس الملوك إسماعيل، ومحمود، وقد تزوجها فيما بعد أتابك عماد الدين زنكى، فبقيت معه تسع سنين، فلما قتل حجت وجاورت بالمدينة المنورة إلى أن ماتت ودفنت هناك بالبقيع في سنة 557، أنظر أيضا: (النعيمى: الدارس في المدارس، نشر جعفر الحسنى، ج 1، ص 502 - 507). (¬4) هذا العنوان غير موجود أيضا في س، ويلاحظ أن النص متصل دائما في نسخة س، وأن العناوين الموضحة قليلة، وسنكتفى بهذه الاشارة وما سبقها إلى هذه الظاهرة ثم نسكت عنها بعد ذلك لتكرارها في معظم الصفحات والموضوعات. (¬5) نص (ابن الأثير، ج 11، ص 21) فيه زيادة للتعريف بالمدينة، قال: «وهى مدينة لطيفة على ستة فراسخ من حلب».

بعد أن نصب على أهلها المنجنيقات، وضيّق عليهم، فسلموها إليه بالأمان في الخامس والعشرين من رجب سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة، وقتل وأسر وسبا، وكان عدة من خرج إليه من أهلها خمسة آلاف وثمانمائة نفس؛ وتنصّر قاضيها وجماعة من أعيانها - نحو أربعمائة نفس - وأقام الروم عشرة أيام يطلبون من اختفى، فقيل لهم: «إن جماعة نزلوا في المغارات»، فسّخنوا عليهم، فهلكوا في المغاير. ثم (¬1) رحل ملك الروم إلى حلب، فنزل على نهر قويق ومعه الفرنج الذين بساحل الشام، وزحفوا إلى حلب بخيلهم ورجلهم، فخرج إليهم أحداث حلب، فقاتلوهم قتالا شديدا، فقتل من الروم وجرح خلق كثير، وقتل بطريق عظيم القدر عندهم، فأقاموا [على حلب (¬2)] ثلاثة أيام؛ ولم يظفروا بطائل، فرحلوا إلى قلعة الأثارب، فهرب من بها من المسلمين، فملكوها الروم تاسع شعبان وتركوا (¬3) بها سبى بزاعة والأسرى، ثم رحلوا عنها، فلما سمع برحيلهم ابن سوار - نائب عماد الدين بحلب - رحل فيمن معه من العسكر، فأوقع بمن في الأثارب من الروم، وخلص الأسرى والسبى، وعاد إلى حلب. ونزل عماد الدين سلمية - كما ذكرنا - وعبر ثقله الفرات، وأقام بسلمية جريدة، ليتبع الروم ويقطع عنهم الميرة. ثم قصد الروم قلعة شيزر - وصاحبها الأمير أبو العساكر [سلطان بن على ابن مقلد بن نصر بن منقذ الكنانى (¬4)]- فنازلوها ونصبوا عليها ستة عشر منجنيقا، فسار عماد الدين ونزل على النهر المعروف بالعاصى [46]- بينها وبين حماة - ¬

(¬1) قبل هذا اللفظ في س (ص 4 ب) عنوان كبير هو: (ذكر منازلة ملك الروم حلب). (¬2) ما بين الحاصرتين عن س. (¬3) في الأصل: «ونزلوا» والتصحيح عن س (ص 4 ب) و (ابن الأثير، ج 11، ص 22). (¬4) ما بين الحاصرتين عن: (س، ص 4 ب)، (ابن الأثير، ج 11، ص 22).

ذكر توجه القاضى كمال الدين بن الشهرزورى إلى السلطان مسعود فى معنى الروم واستنجاده [به] عليهم

وكان [عماد الدين] كل يوم يركب هو وعسكره ويسيرون إلى شيزر، ويقفون بحيث يراهم الروم، ويرسل السرايا فتأخذ من ظفر به منهم. ذكر توجه القاضى كمال الدين بن الشهرزورى إلى السلطان مسعود في معنى الروم واستنجاده [به (¬1)] عليهم ولما كان الروم على بزاعة أرسل الأمير عماد الدين زنكى القاضى كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزورى إلى السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه يستنجده ويطلب منه العساكر، فقال [القاضى (1)] لعماد الدين حين أرسله: «أخاف (¬2) أن تخرج البلاد من أيدينا ويجعل السلطان هذا حجة [علينا (1)]، وينفذ العساكر، فإذا توسطوا البلاد ملكوها». فقال الأمير عماد الدين: «إن هذا العدو قد طمع في البلاد، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام، وعلى كل حال فالمسلمون أولى من الكفار بها» قال كمال الدين: [فسرت طالب بغداد، وجديت في السير (¬3)]، فلما وصلت بغداد [وحضرت قدام السلطان (3)] وأديت الرسالة بإنفاذ العساكر، وأنا أخاطب ولا أزاد على الوعد [شيئا (3)]، فلما رأيت قلة اهتمام السلطان بهذا الأمر العظيم أحضرت فلانا - وهو فقيه كان ينوب عنى في القضاء - فقلت [له]: «خذ هذه الدنانير وفرقها في جماعة من أوباش بغداد والأعاجم، وإذا كان يوم الجمعة وصعد الخطيب المنبر بجامع القصر قاموا وأنت معهم واستغاثوا بصوت واحد: «وا إسلاماه! وا دين محمداه!» ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (ص 4 ب). (¬2) هذا الحديث بين القاضى وعماد الدين غير مثبت في (ابن الأثير) ويلاحظ أن نصى ابن واصل وابن الأثير ينفقان في معظمهما، وقد يختلفان إيجازا وإطنابا، وسقوط هذا الحديث مثل لذلك. والأمثلة بعد هذا كثيرة مما يرجح رأينا أن المؤرخين ينقلان عن مرجع آخر لا نعرفه. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادات عن: س (ص 5 ا).

ويخرجون من الجامع ويقصدون دار السلطان مستغيثين؛ ثم وضعت إنسانا آخر فعل ذلك في جامع السلطان؛ فلما كانت الجمعة وصعد الخطيب المنبر قام ذلك الفقيه وشق ثوبه وألقى عمامته عن رأسه، وصاح، وتبعه ذلك النفر بالصياح والبكاء، فلم يبق في الجامع إلا من قام وبكى، وبطلت الخطبة، وسار الناس كلهم إلى دار السلطان؛ وقد فعل أولئك الذين بجامع السلطان مثلهم، فاجتمع أهل بغداد وكل من بالعسكر عند دار السلطان يبكون ويصرخون ويستغيثون، وخرج الأمر عن الضبط، وخاف السلطان في داره [47] وقال: «ما الخبر؟» فقيل: «إن الناس قد ثاروا حيث لم ترسل العساكر إلى الغزاة (¬1)»، فقال: «أحضروا [القاضى] ابن الشهرزورى»، قال: فحضرت عنده وأنا خائف منه، إلا أننى قد عزمت على صدقه وقول الحق. فلما دخلت قال: «يا قاضى، ما هذه الفتنة؟» فقلت: «إن الناس قد فعلوا هذا خوفا من الفتنة والشر، ولا شك أن السلطان لم يعلم كم بينه وبين العدو، وإنما بينكم نحو أسبوع، وإن أخذوا حلب انحدروا إليكم في الفرات وفى البر، وليس بينكم بلد يمنعهم عن بغداد»، وعظّمت الأمر عليه حتى كأنه ينظر إليه؛ فقال: «اردد هؤلاء العامة عنا، وخذ من العساكر ما شئت، والأمداد تلحقك». قال: «فخرجت إلى العامة ومن انضم إليهم، وعرفتهم الحال، وأمرتهم بالعود، فعادوا وتفرقوا، وانتخبت (¬2) من عسكره عشرة آلاف فارس [من خيار العسكر (¬3)]، وكتبت إلى الشهيد أعرفه الخبر وأنه لم يبق غير المسير، وأجدد استئذانه في ذلك، فأمرنى بتسييرهم والحث على ذلك، وعبرت بالعساكر الجانب الغربى، فبينما نحن ¬

(¬1) في س (ص 5 ب): «العراق» وهو خطأ واضح. (¬2) في الأصل: «وانتخب»، وما هنا عن س. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ص 5 ب).

ذكر تخذيل عماد الدين بين الفرنج والروم حتى رحلوا خائبين

نتجهز للحركة، وإذا قد وصل نجّاب من الشهيد يخبر بأن الروم والفرنج رحلوا عن حلب خائبين لم ينالوا منها غرضا، ويأمرنى بترك استصحاب العساكر؛ فلما خاطبت السلطان في ذلك أصرّ على إنفاذ العساكر إلى الجهاد وقصد بلاد الفرنج وأخذها، وكان قصده أن تطأ عساكره البلاد ويملكها، ولم أزل أتوصل مع الوزير وأكابر الدولة حتى أعدت العساكر إلى الجانب الشرقى، وسرت إلى الشهيد». ذكر تخذيل (¬1) عماد الدين بين الفرنج والروم حتى رحلوا خائبين قد ذكرنا منازلة الروم والفرنج شيزر، ونزول عماد الدين زنكى - رحمه الله - على العاصى بالقرب منهم، ثم إنه أرسل إلى ملك الروم يقول له: «إنكم قد تحصنتم منى بهذه الجبال، فانزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقى، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم، وإن ظفرتم بى استرحتم وأخذتم شيزر وغيرها»؛ ولم يكن لعماد (1) (¬2) الدين بهم طاقة ولا قوة، وإنما كان يوهمهم بهذا القول وأشباهه، فأشار الفرنج على ملك الروم بمصافقته (¬3) [48] وهوّنوا أمره عليهم، فلم يفعل، وقال: «أتظنون أنه ليس له من العسكر إلا ما ترون؟ وإنما يريد أنكم تلقونه فيجىء إليه من [نجدات] (¬4) المسلمين ما لاحد عليه». وكان أيضا عماد الدين يرسل إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه، فلو فارق مكانه لتخلوا عنه، ويرسل إلى فرنج الشام يخوّفهم من ملك الروم، ويقول لهم: ¬

(¬1) في س: «تحديد». (¬2) في الأصل: «بعماد»، وما هنا عن س (ص 6 ا). (¬3) في (اللسان): «أصفقوا على الأمر اجتمعوا عليه، وأصفقوا على الرجل كذلك». (¬4) ما بين الحاصرتين عن: س (ص 16)، (ابن الأثير، ج 11، ص 22).

«إن ملك بالشام حصنا واحدا ملك بلادكم جميعا»؛ فاستشعر كلّ من صاحبه، فرحل ملك الروم (¬1) من شيزر في هذه السنة، وترك المجانيق وآلات الحصار بحالها، فاتبع عماد الدين ساقة العسكر، فظفر بجماعة منهم، وأخذ جميع ما تركوه، ورجع ملك الروم خائبا إلى بلاده. وفى خروج ملك الروم إلى الشام وحلب وعوده عنها خائبا يقول المسلم (¬2) ابن خضر بن قسيم الحموى قصيدة يمدح بها الأمير عماد الدين زنكى - رحمه الله -. أولها: بعزمك أيّها الملك الرّحيم ... تذلّ لك الصّعاب وتستقيم [ومنها يقول (¬3)]: ألم تر أنّ كلب الرّوم لمّا ... تبيّن أنّك الملك الرّحيم فجاء يطبّق الفلوات جيشا (¬4) ... كأنّ الجحفل اللّيل البهيم وقد نزل الزّمان على رضاه ... وكان (¬5) لخطبه الخطب العظيم فحين رميته بك (¬6) في خميس ... تيقّن أنّ ذلك لا يدوم ¬

(¬1) كان امبراطور الدولة البيزنطية في هذه السنة (532 - 1138) هو الامبراطور يوحنا الثانى كالوجوهانيز Calojohannes [1118 - 1543] ؛ انظر كتاب (الامبراطورية البيزنطية، تأليف نورمان بينز، وترجمة الدكتور حسين مؤنس، والأستاذ محمود يوسف زايد، ص 401). (¬2) لم أعثر على ترجمة مفصلة لهذا الشاعر، وإنما ذكر (الصابونى، تاريخ حماة، ص 100) أنه كان من الشعراء المجيدين، وأنه توفى سنة 534، ثم استشهد بهذه الأبيات المذكورة هنا. (¬3) ما بين الحاصرتين عن: س (ص 6 ا)، (ابن الأثير، ج 11، ص 23). (¬4) كذا في الأصل، وهى في: س (ص 6 ا): «حينا»، وفى (ابن الأثير): «خيلا». (¬5) كذا في الأصل وفى س، وهى في (ابن الأثير): «ودان». (¬6) كذا في الأصل وفى ابن الأثير، وهى في س: «لك».

وأبصر في المفاضة منك ليثا (¬1) ... فأخرق لا يسير ولا يقيم كأنّك في العجاج شهاب نور ... توقّد وهو شيطان رجيم أراد بقاء مهجته فولّى ... وليس سوى الحمام له حميم ولما رجع ملك الروم وصل إلى عماد الدين زنكى رسول الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وهو مؤيد الدين سديد الدولة بن الأنبارى - كاتب الإنشاء ورسول السلطان مسعود - بالخلع، فلبس خلعة الخليفة والسلطان وركب بهما، وذلك بظاهر مدينة حمص يوم عرفة [49] من هذه السنة - أعنى سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة - ودخل بزمرد خاتون أم الأمير شهاب الدين محمود، صاحب دمشق - كما تقدم -. وفى المحرم سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة وصل الأمير عماد الدين - رحمه الله - إلى حلب، واستقر أهلها وأهل حماة وأهل منبج على حصن بزاعة حتى فتحه بالسيف [وقتل كل من فيه من الروم والفرنج (¬2)] وجمعت رؤوس القتلى وبنيت منها منارة أذّن عليها؛ ثم تحول بالعسكر إلى حصار قلعة الأثارب ففتحها في صفر، ثم توجه إلى البلاد الشرقية. وفى هذه السنة نازل عماد الدين قلعة دارا، وهى للأمير حسام الدين تمرتاش [ابن] ايلغازى بن أرتق (¬3) [فلم ينل منها طائلا، وخاف على المسلمين، ثم رحل منها إلى حرّان (2)]. ¬

(¬1) في س: «ليث» ومعظم الكلمات الأخرى غير منقوطة، أما في (ابن الأثير) فالنص يختلف، وهو: وأبصر في المغاضة منك جيشا فاحرب لا يسير ولا يقيم (¬2) ما بين الحاصرتين زيادات عن س (ص 6 ب). (¬3) في الأصل: «برتق» والتصحيح عن س، وحسام الدين ثانى أمير من فرع الأراتقة الذين حكوا ماردين، وليها من سنة 516 إلى سنة 547. أنظر: (Zambaur. Manuel de Genealogie et de Chronologie pour l'Histoire de l'Islam . P. 228).

ذكر استيلاء عماد الدين زنكى على حران ثانيا

ذكر استيلاء عماد الدين زنكى على حرّان ثانيا كنا قد ذكرنا أن عماد الدين ملك حرّان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولما ملكها أقطعها سودكين الكرجى، فعصى عليه وانضاف إلى عسكر الخليفة المسترشد بالله لما نازل الموصل، وسار معه حين رحل عن الموصل، وترك فيها واليا من قبله؛ ثم مات [بعد ذلك] (¬1) سودكين فنازلها في هذه السنة عسكر عماد الدين، فتسلم المدينة، وبقيت القلعة وفيها الوالى، ثم تسلم عماد الدين القلعة في منتصف ذى القعدة من هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة -. ذكر استيلاء عماد الدين زنكى على شهرزور وأعمالها كانت شهرزور (¬2) وما يضاف إليها من الأعمال في يد قفجاق بن أرسلان باش التركمانى، وكان نافذ الحكم على قاصى التركمان ودانيهم، وكان الملوك يتحامون قصد ولايته لحصانتها، فعظم شأنه وازداد جمعه، فقصده عماد الدين، وهزم عسكره، وملك بلاد شهرزور وغيرها، وأضافها إلى ولايته، وأصلح أحوالها، وخفّف عنهم ما كانوا يلقونه من التركمان. وفى ذى الحجة من هذه السنة رجع عماد الدين إلى الشام، ونزل بظاهر حلب على قويق، ثم رحل إلى أرض حماة، واستصحب من أهل حماة تسعة آلاف راجل يخدمون الركاب. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادات عن س (ص 6 ب). (¬2) هكذا ضبطها ياقوت في معجم البلدان، وقال إنها كورة واسعة في الجبال بين أربل وهمذان، أحدثها زور بن الضحاك، ومعنى شهر بالفارسية المدنية.

ذكر استيلاء عماد الدين زنكى على بعلبك

وفى هذه السنة قتل الأمير شهاب الدين محمود (¬1) بن بورى بن طغتكين صاحب دمشق، وذلك في ليلة الجمعة [50] لثلاث بقين من شوال، قتله [ثلاثة من غلمانه] (¬2): البقش، ويوسف الخادم، والفراش الخركاوى (¬3)، وصبيحة قتله وصل أخوه الأمير جمال الدين محمد بن بورى، وملك دمشق، وقام بتدبير دولته الأمير معين الدين أنر (¬4)، مملوك جده طغتكين. ذكر استيلاء عماد الدين زنكى على بعلبك كان السبب في ذلك أن شهاب الدين محمودا (¬5) لما قتل بدمشق حزنت عليه أمه زمرد خاتون حزنا شديدا، فحملت عماد الدين على قصد دمشق والطلب بثأر (¬6) ولدها شهاب الدين، فتحرك لقصد دمشق، فاستعد معين الدين بدمشق، واستكثر ¬

(¬1) حكم دمشق من سنة 529 إلى سنة 533؛ أنظر: (Zambaur,Op .Cit . P. 30) (¬2) في الأصل وفى س: «غلامه» وما هنا عن: (ابن الأثير، ج 11، ص 26) فان النص فيا يلى يقتضيه. (¬3) فصل (ابن القلانسى، ذيل تاريخ دمشق، ص 268 - 269) الحديث عن قتل شهاب الدين محمود بن بورى وعن قتلته، وقد آثرنا نقل حديثه هنا للايضاح، قال: «وفى يوم الجمعة الثالث والعشرين من شوال من السنة في غداته ظهرت الحادثة المدبرة على الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بن ظهير الدين أتابك، وقتله في فراشه وهو في نومه في ليلة الجمعة المذكورة، بيد غلمانه الملاعين. البغش الأرمني الذى اصطنعه وقربه إليه واعتمد في أشغاله عليه، ويوسف الخادم الذى وثق به في نومه لديه، والخركاوى الفراش الراقد حواليه. . . وكان هؤلاء الثلاثة النفر الجناة الملاعين يبيتون حول سريره، وتحققوا نومه ووثبوا عليه فقتلوه في فراشه على سريره، وصاح فراش آخر كان معهم فقتلوه أيضا، ودبروا أمرهم بينهم وأخفوا سرهم بحيث خرجوا من القلعة، وظهر الأمر، وطلب البغش لعنه الله فهرب ونهب بيته، ومسك الآخران فصلبا على سور باب الجابية. . . إلخ». (¬4) في الأصل، وفى س، وفى ابن الاثير: «أنز» والصحيح ما أثبتناه هنا، وهكذا ضبطه الذهبى. انظر: (النعيمى، الدارس في تاريخ المدارس، نشر جعفر الحسنى، ج 1، ص 588). (¬5) في الأصل «محمود». (¬6) أنظر تفصيل ذلك في (ابن القلانسى، ص 269).

من الذخائر والعدد والرجال، ولم يتركوا شيئا يحتاجون إليه إلا وبذلوا الجهد في تحصيله، وأقاموا ينتظرونه، ووصل عماد الدين إلى بحيرة قدس، ثم سار منها إلى بعلبك فنازلها. وكان الأمير جمال الدين محمد بن بورى لما ملك دمشق بعد أخيه شهاب الدين قد أقطع بعلبك لمعين الدين، فاستناب فيها معين الدين [من يثق إليه] (¬1)، فجدّ عماد الدين في محاصرتها، ونصب عليها أربعة عشر منجنيقا ترمى ليلا ونهارا، فأشرف من بها على الهلاك، فطلبوا الأمان وسلموا إليه المدينة، وبقيت القلعة وفيها جماعة من الشجعان، فقاتلهم فلما يئسوا من النصر طلبوا الأمان، فأمّنهم، فسلّموا إليه القلعة، فلما سلّموها إليه عذبهم، وأمر بصلبهم فصلبوا، ولم ينج منهم إلا القليل، فاستقبح الناس منه ذلك، واستعظموه وخافوه وحذروه، ولا سيما أهل دمشق، فإنهم قالوا: «لو ملكنا لفعل بنا كذلك»، فجدّوا في محاربته. وكان لمعين الدين جارية يهواها، فلما تزوج أمّ جمال الدين محمد بن بورى صاحب دمشق سيّرها (¬2) إلى بعلبك، فلما ملك عماد الدين بعلبك أخذ الجارية [فتزوجها] (¬3) بحلب، فلم تزل بها إلى أن قتل [عماد الدين] (¬4) فسيّرها ابنه نور الدين محمود - رحمهم الله تعالى - إلى معين الدين، وهى كانت سبب الود بينهما؛ وكان فتح بعلبك رابع صفر (¬5) سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (ص 7 ا). (¬2) الضمير هنا عائد على الجارية. (¬3) في الأصل، وفى س: «وتركها»، والصحيح وما يستقيم به المعنى ما ذكرناه هنا نقلا عن (ابن الأثير، ج 11، ص 27). (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (ص 7 ب). (¬5) لم يذكر اليوم والشهر في س.

ذكر منازلة عماد الدين زنكى دمشق

ذكر منازلة عماد الدين زنكى دمشق (¬1) ولما فرغ عماد الدين من بعلبك سار إلى دمشق، وذلك في ربيع الأول (¬2) من هذه [51] السنة - أعنى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة (¬3) - فنزل بالبقاع وسيّر إلى جمال الدين محمد يبذل له بلدا يقترحه ليسلم إليه دمشق، فلم يجبه إلى ذلك، فرحل [عماد الدين] إلى دمشق، ونزل داريا ثالث عشر ربيع الأول (¬4)، والتقت الطلائع واقتتلوا، فكان الظفر لعماد الدين، فانهزم الدمشقيون وأخذهم السيف، وقتل جمع كثير، ثم تقدم عماد الدين زنكى إلى المصلى، فنزل هناك، ولقيه جند دمشق وأحداثها ورجّالة الغوطة، فقاتلوه، فانهزموا، وقتل منهم وأسر وجرح جماعة، وأشرف البلد ذلك اليوم على التسليم، فأمسك عماد الدين عن القتال عدة (¬5) أيام وراسل جمال الدين صاحب دمشق، وبذل له بعلبك وحمص وغيرهما مما يختار من البلاد، فامتنع أصحابه من ذلك، وخوّفوه عاقبة غدره كما فعل بأهل بعلبك؛ ثم عاود [عماد الدين] الزحف، واستمر القتال والحصار إلى شعبان من هذه السنة. ولما كانت ليلة الجمعة ثامن شعبان توفى جمال الدين محمد بن بورى صاحب دمشق - وعماد الدين محاصر البلد - فأجلس في الملك بعده ولده الأمير مجير الدين آبق (¬6) بن محمد - وهو آخر ملوك دمشق من بيت طغتكين -، وقام بتدبير ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في س، وإنما مكانه هناك هذان اللفظان: (قال الراوى). (¬2) في س: «ربيع الآخر»، أما ابن الأثير فمتفق مع المتن هنا. (¬3) لم ينص على السنة في س. (¬4) كذا في الأصل وفى ابن الأثير، وفى ابن القلانسى: «ربيع الآخر». (¬5) في س «مدة»، وفى (ابن الأثير، ج 11، ص 28): «عشرة». (¬6) في الأصل: «اتق»، وقد صحح الاسم بعد مراجعة: (ابن القلانسى، ص 271) و (ابن الأثير ج 11، ص 28) و (Zambaur,Op .Cit . P. 30) .

دولته معين الدين أنر، فطمع عماد الدين في البلد وزحف إليه زحفا شديدا ظنا منه أنه ربما يقع بين المقدمين والأمراء اختلاف، فيملك البلد، فخاب أمله، وراسل (¬1) معين الدين الفرنج، واستدعاهم إلى نصرته، وبذل لهم بذولا، ومن جملتها أنه يحصر بانياس ويأخذها ويسلمها إليهم، وخوّفهم من عماد الدين أنه إن ملك دمشق يملك البيت المقدس، ولا يترك لهم بلدا بالساحل؛ فأجمع (¬2) الفرنج وعزموا على المسير إلى دمشق ليجتمعوا مع صاحبها على قتال عماد الدين زنكى، وعلم عماد الدين ذلك، فسار عماد الدين إلى حوران - خامس رمضان - عازما على لقاء الفرنج قبل أن يجتمعوا مع الدمشقيين على قتاله، فلما سمع (2) الفرنج خبره لم يفارقوا بلادهم، فعاد عماد الدين إلى حصر دمشق، فنزل بعذرا (¬3)، وذلك سادس (¬4) شوال من هذه السنة، وأحرق عدة قرى من المرج [52] والغوطة، ورحل عائدا إلى بلاده، ووصل الفرنج إلى دمشق، واجتمعوا بصاحبها. وسار معين الدين بعسكر دمشق إلى بانياس - وهى في طاعة عماد الدين - ليحصرها ويسلمها إلى الفرنج، وكان صاحبها قد جمع جمعا، وسار إلى صور للغارة على بلده (¬5)، فصادفه صاحب أنطاكية وهو قاصد إلى دمشق نجدة لصاحبها ¬

(¬1) كان رسول معين الدين إلى الفرنج هو أسامة بن منقذ الشاعر المعروف، أرسله إلى فولك الخامس ملك بيت المقدس (1131 - 1142)، وقد تقدم هذا الملك وحده أول الأمر لمساعدة معين الدين والدماشقة، فلما هزموا انضم إليهم ريمون صاحب أنطاكية وجوسلين الثانى صاحب الرها. أنظر: (حسن حبشى: نور الدين والصليبيون، ص 29 - 32، وما به من مراجع). (¬2) في س (8 ا): «فاجتمعوا» و «سمعوا». (¬3) ذكر (ابن الأثير، ج 11، ص 28) أنها شمال دمشق. (¬4) كذا في الأصل وفى ابن الأثير، وفى (ابن القلانسى، ص 272): «يوم الأربعاء لست بقين من شوال» (¬5) في الأصل، وفى س: «بلدها»، وهذا خطأ يعكس المعنى، وقد صحح بعد مراجعة (ابن الأثير، ج 11، ص 28) ونصه هناك واضح مفهوم وهو: (وكان واليها - أي والى بانياس - قد سار قبل ذلك منها بجمعة إلى مدينة صور للاغارة على بلاده).

على عماد الدين، فاقتتلا، فانهزم المسلمون، وأخذ صاحب (¬1) بانياس، فقتل من قتل، ونجا من نجا إلى بانياس (¬2)؛ وجمعوا جمعا كثيرا من أهل البقاع، وحفظوا القلعة، فثار لها (¬3) معين الدين - ومعه الفرنج - فتسلمها وسلّمها للفرنج، ولما سمع عماد الدين حصر بانياس عاد إلى بعلبك ليدفع عن بانياس من يحصرها، فأقام فيها. فلما عاد عسكر دمشق - بعد ملك بانياس وتسليمها للفرنج - فرّق عماد الدين عسكره في الإغارة على حوران وأعمال دمشق، وسار جريدة، فنزل على دمشق سحرا (¬4)، ولم يعلم به أحد، فلما أصبح الناس ورأوا عسكره، خافوا وارتج البلد، واجتمع العسكر والعامة على السور، وفتحت الأبواب، وخرج أهل البلد إليه، وقاتلوه، فلم يكن الأمير عماد الدين عسكره من الإقدام عليهم، لغيبة أكثر عسكره في الإغارة وتفرقهم. ثم توجه عماد الدين إلى مرج راهط، وقد أقام ينتظر عود عسكره، فعادوا إليه وقد ملؤوا أيديهم من الغنائم، فلما اجتمعوا عنده رحل عائدا إلى بلاده (¬5). وفى سنة خمس (¬6) وثلاثين وخمسمائة جرت وقعة بين عماد الدين والأمير ركن الدين داوود بن سقمان بن أرتق - صاحب حصن كيفا - فانهزم ركن الدين، وملك عماد الدين بهمرد (¬7)، وأدركه الشتاء فعاد إلى الموصل. ¬

(¬1) كان صاحب بانياس هو (إبراهيم بن طرغت)، انظر: (ابن القلانسى، ص 272). (¬2) في س (8 ا): «فقتل جميع من نجا إلى بانياس». (¬3) في س (8 ا): «فنادى معين الدين». (¬4) في الأصل: «سجر»، وفى س (8 ا): «سحر»، والتصحيح عن: (ابن الأثير ج 11، ص 29). (¬5) المعنى متفق في الفصول السابقة بين النص هنا وبين الأثير، ولكن المؤرخين - كما سبق أن ذكرنا - يختلفان إيجازا وإطنابا، تقديما للحوادث وتأخيرا لها. (¬6) في الأصل، وفى س (8 ب): «خمسة» والصحيح ما أثبتناه. (¬7) كذا في الأصل، وهى في س (8 ب): «بهرد» وفى (ابن الأثير، ج 11، ص 30): «بهمود».

ذكر الاتفاق بين السلطان مسعود بن محمد وبين عماد الدين زنكى

وفى سنة ست وثلاثين وخمسمائة ملك عماد الدين الحديثة، ونقل من كان بها [من آل مهراش] (¬1) إلى الموصل، ورتّب أصحابه بها. وفى هذه السنة خطب لعماد الدين بآمد، وصار صاحبها في طاعته، وكان قبل ذلك موافقا لركن الدين داوود - صاحب الحصن - على عماد الدين، فلما رأى قوة عماد الدين صار معه. وفيها أغار عسكر عماد الدين - المقيمون بحلب - على بلد الفرنج [53] فنهبوا وظفروا بسرية للفرنج، فقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل (¬2). وفى سنة سبع وثلاثين وخمسمائة ملك عماد الدين قلاع الهكاريّة، وقد ذكرناه لتعلقه بما كان قبله. ذكر الاتفاق بين السلطان مسعود بن (¬3) محمد وبين عماد الدين زنكى كان السلطان مسعود قد حقد على عماد الدين حقدا شديدا، وكان (¬4) ينسب خروج أصحاب الأطراف عليه إلى ذلك بمواطأة من عماد الدين، وأنهم إنما يصدرون عن رأيه، وكان عماد الدين يفعل ذلك لئلا يخلوا السلطان مسعود فيتفرغ لقصده (¬5). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن (ابن الأثير، ج 11، ص 24). (¬2) في س: «فارس». (¬3) في الأصل: «مسعود وبين محمد». (¬4) كذا في الأصل. وفى س (8 ب): «لأنه كان ينسب خروج أصحاب الأطراف عليه بمواطأة من عماد الدين، بينهم إنما يريدون عن رأيه». (¬5) في الأصل، وفى س (8 ب): «لئلا يزال السلطان مسعود مشغولا عنه فلا يتفرغ لقصده» وهو نص مضطرب المعنى، وقد صحح بعد مراجعة: (ابن الأثير، ج 11 ص 31).

ففى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة رحل السلطان إلى بغداد، وجمع العساكر، وتجهز لقصد عماد الدين زنكى، فأرسل إليه عماد الدين يستعطفه ويستميله، فأرسل إليه السلطان أبا عبد الله بن الأنبارى في تقرير القواعد، فاستقرت القاعدة على مائة ألف دينار يحملها عماد الدين، فحمل إليه عشرين ألف دينار، أكثرها عروض، وتنقلت الأحوال بالسلطان إلى أن احتاج إلى مداراة عماد الدين، فأطلق له الباقى مداراة واستمالة له، وحفظا لقلبه. وكان عماد الدين عنده من الدهاء والمكر شىء كثير، فمن جملة ما فعله: أنه كان ولده الأكبر سيف الدين غازى لا يزال في خدمة السلطان مسعود - سفرا وحضرا - نائبا عن أبيه في الخدمة، فأرسل إليه يأمره بالهرب (¬1) من السلطان [مسعود] إلى الموصل، وأرسل إلى نائبه نصير الدين جقر بالموصل يأمره بمنع سيف الدين من الدخول إلى الموصل والوصول إليه، فهرب سيف الدين غازى ووصل إلى الموصل، فمنعه نصير الدين من الدخول إلى الموصل (¬2)، ولما بلغ الخبر إلى والده أرسل إليه يأمره بالعود إلى السلطان، ولم يجتمع به، وأرسل معه رسولا إلى السلطان يقول له: «إن ولدى هرب [خوفا] (¬3) لما رأى تغير السلطان علىّ، وقد أعدته إلى الخدمة، ولم أجتمع به، فإنه مملوكك، والبلاد لك». فحلّ هذا عند السلطان محلا عظيما. ¬

(¬1) في س (9 ا): «بالقرب»، وما هنا هو الصحيح. (¬2) في الأصل بعد لفظ «الموصل»: «إلى والده» وهما لفظان زائدان لا يستقيم بهما المعنى، فحذفناهما، ولا وجود لهما في س؛ وفى (ابن الأثير، ج 11، ص 36): «الدخول إلى الموصل الوصول إليه». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن: س (ص 9 ا)، وابن الأثير.

وفى هذه السنة سار عماد الدين إلى ديار بكر، ففتح طنزة (¬1)، وأسعرد (¬2)، والمعدن (¬3)، وحيزان (¬4)، وحصن [54] الروق (¬5)، وفطليس (¬6)، وباناسا (¬7) وحصن ذى القرنين (¬8)، وغير ذلك؛ وملك من [بلد ماردين مما هو بيد] (¬9) الفرنج يومئذ جملين، والموزّز (¬10)، وتل موزن، وغيرها من حصون شبختان (¬11)، وقصد مدينة آمد، وحانى (¬12)، وحصرهما، فلم ينل غرضا فرحل عنهما. وفيها سيّر عماد الدين عسكرا إلى عانة ففتحوها. ¬

(¬1) هكذا ضبطها ياقوت، وقال إنها بلد بجزيرة ابن عمر من ديار بكر، وهى عند (الفارقى، هامش ص 137 من ابن القلانسى): «طنزى». (¬2) كذا في الأصل وفى ابن القلانسى وابن الأثير، وقد رسمها ياقوت: «إسمرت» و «سعرت» وقال إنها مدينة بديار بكر قرب أرزن الروم وحيزان. (¬3) لم يذكرها ياقوت، وإنما أشار (الفارقى، هامش ص 274 من ابن القلانسى) إلى أنها إحدى مدن ديار بكر. (¬4) هكذا ضبطها ياقوت، وقال إنها بلد قرب إسعرت من ديار بكر. (¬5) كذا في الأصل، وفى (ابن الأثير، ج 11، 36): «حصن الدوق». (¬6) كذا في الأصل وعند الفارقى (هامش ص 274 من ابن القلانسى)، وهى في (ابن الأثير، ج 11، ص 36): «مطليس»؛ ولم يستطع الناشر تحقيق اللفظ أو التعريف به. (¬7) كذا في الأصل، وفى (ابن الأثير): «حصن بانسية». (¬8) في الأصل: «ذى العرقين»، وقد صححت بعد مراجعة (ياقوت) و (ابن الأثير) و (الفارقى)، وقد ذكر ياقوت أنه حصن بقرب آمد. (¬9) في الأصل: «وملك من بلاد الفرنج»، وما هنا صيغة ابن الأثير وهى أوضح. (¬10) هكذا ضبطها ياقوت وقال إنها كورة بالجزيرة منها نصيبين الروم. (¬11) ضبطت بعد مراجعة ياقوت، فقد قال عند تعريف «تل بسمة» إنه بلد له ذكر من نواحى ديار ربيعة ثم ناحية شبختان. (¬12) ذكر ياقوت أنها مدينة معروفة بديار بكر فيها معدن الحديد.

ذكر فتح الرها

ذكر فتح الرّها كان الفرنج - لعنهم الله - قد عظم (¬1) شرهم بالبلاد الجزرية، وامتدت غاراتهم إلى أقاصيها وأدانيها، وبلغت إلى آمد ورأس عين ونصيبين والرقة، وكانت لهم الرّها وسروج والبيرة وغير ذلك، وكانت جميع هذه الأعمال لجوسلين، وكان صاحب رأى الفرنج والمقدم على عساكرهم؛ وكان عماد الدين يعلم أنه متى قصد حصن الرّها اجتمع بها من الفرنج من يمنعها، فيتعذر فتحها لما هى عليه من الحصانة، فاشتغل بقصد ديار بكر ليوهم الفرنج أنه غير متفرغ لقصدهم، فاطمأنوا لذلك، وفارق جوسلين (¬2) الرّها، وعبر الفرات إلى بلاده الغربية - وكانت له تل باشرو وغيرها - وجاءت عيون (¬3) الأمير عماد الدين إليه بذلك، فنادى في العسكر بالرحيل وأن لا يتخلف عن الرّها أحد من غد يومه، وجمع الأمراء عنده، ومدّ السماط، وقال: «لا يأكل معى على مائدتى هذه إلا من يطعن معى غدا باب الرّها»، فلم يتقدم إليه غير أمير واحد وصبى لا يعرف، لما يعلمون من إقدامه وشجاعته، وأن أحدا لا يقدر على مساواته في الحرب. فقال الأمير لذلك الصبى: «ما أنت وهذا المقام؟» فقال [عماد الدين]: «دعه، فإنى أرى والله وجها لا يتخلف عنى (¬4)». ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى س (ص 9 ا): «عبر»، وفى (ابن الأثير، ج 11، ص 37): «عمّ». (¬2) هو جوسلين الثانى صاحب الرها في ذلك الحين، وكان على جانب كبير من الرعونة منكبا على ملذاته الخاصة، مما دفعه إلى إيثار الاقامة في تل باشر وترك الرها في حماية جماعة من الأرمن والسوريان غير القادرين على حمايتها. (¬3) كان على رأس هؤلاء العيون فضل الله بن جعفر نائب عماد الدين على حران، أنظر (حبشى: نور الدين والصليببون، ص 35). (¬4) النص هنا وفيما يلى من حوادث استعادة الرها يتفق مع نص (ابن الأثير، ج 11، ص 37 وما بعدها) اتفاقا يكاد يكون تاما.

وسار عماد الدين في العساكر - وذلك في جمادى الأول سنة تسع وثلاثين وخمسمائة - فكان عماد الدين أول من حمل على الفرنج - ومعه ذلك الصبى -، وحمل فارس من خيّالة الفرنج على عماد الدين عرضا، فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله، وسلم عماد الدين، ونازل البلد محاصرا له ثمانية وعشرين يوما، وزحف إليه عدة دفعات، ونقب النقّابون سور البلد فسقطت البدنة، وملك البلد عنوة وقهرا، وحصر القلعة فملكها وذلك لأربع عشرة بقيت (¬1) من جمادى الآخرة من هذه [55] السنة، ونهب الناس الأموال، وسبوا الذرية، وقتلوا الرجال. ورأى الأمير عماد الدين البلد فأعجبه، ورأى أنه لا يجوز في السياسة (¬2) تخريب مثله، فنودى في العسكر برد ما أخذ من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم وإعادة ما اغتنموا من أثاثهم وأمتعتهم، فردوا الجميع عن آخره، ولم يفقد إلا النادر، وعاد البلد إلى حاله، ثم تسلم سروج (¬3) وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقى الفرات ما عدا البيرة، ثم سار إلى البيرة (¬4) فحصرها، وكان الفرنج قد أكثروا ميرتها ورجالها. ¬

(¬1) في س (9 ا): «خلت»، وعن تحقيق التاريخ انظر: (ابن القلانسى: الذيل، ص 279) حيث يذكر أن المدينة سقطت في السادس والعشرين من جمادى الآخرة. (¬2) في س (9 ا): «ورأى الناس يدرو في السياسة. . . إلخ». (¬3) هكذا ضبطها (ياقوت: معجم البلدان) وقال إنها بلدة قريبة من حرّان من ديار مضر. أنظر أيضا: (R .Dussaud,Topographie Historique de La Syrie Antique et Medievale .. Paris,1927. P. P .241,480,519,522). (¬4) إلى هنا تنتهى ص 9 ب من نسخة س وبنهايتها ينتهى الاتفاق بين النسختين، وبين ص 9 ب وص 10 اسقط يتضمن الحوادث التالية. والبيرة المشار إليها هنا بلد قرب سميساط بين حلب والثغور الرومية وهى قلعة حصينة. أنظر: (ياقوت: معجم البلدان) و (ابن الشحنة: الدر المنتخب، ص 157، 217).

ذكر مقتل نصير الدين جقر النائب بالموصل

(¬1) ذكر مقتل نصير الدين جقر النائب بالموصل كان الملك ألب أرسلان بن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه عند عماد الدين بالموصل وهو (¬2) أتابكه، وقد تقدم ذكر ذلك، وكان عماد الدين يظهر للخلفاء والسلاطين وأصحاب الأطراف أن البلاد للملك ألب أرسلان، وهو نائبه بها، والخطبة له في جميع بلاده، وكان ينتظر وفاة الملك مسعود ليخطب له (¬3) بالسلطنة، ويملك بغداد وسائر الممالك باسمه؛ وكان نصير الدين النائب كل يوم يقصده ليقوم بخدمة إن عرضت له، فحسّن بعض المفسدين للملك ألب أرسلان قتل نصير الدين، وقال: «إن قتلته ملكت الموصل وغيرها، ولا يبقى مع أتابك زنكى فارس واحد». فصدّق هذا القول ووقع في نفسه، وواطأ على ذلك جماعة من الأجناد، فلما دخل نصير الدين عليه للعادة وثبوا عليه فقتلوه، وألقوا رأسه إلى أصحابه، ظنا منهم أن أصحابه إذا رأوا ذلك يتفرقون، ويخرج الملك ألب أرسلان ويملك البلاد. فلما رأى أصحاب نصير الدين الرأس قاتلوا من بالدار، واجتمع عليهم خلق كثير من أصحاب عماد الدين وأكابر دولته، ثم دخل القاضى تاج الدين يحيى ابن الشهرزورى إلى الملك وخدعه، وقال له: «يا مولانا، لم تحرد من هذا الكلب؟ هو وأستاذه مماليك، والحمد لله الذى أراحنا منه ومن صاحبه على يدك، وما الذى يقعدك في هذه الدار؟ قم لتصعد إلى القلعة وتأخذ الأموال والسلاح، وتملك البلد، وتجمع لك الجند، وليس دون البلاد بعد الموصل مانع». فقام معه وركب، وصعد ¬

(¬1) ما يقابل هذه الصفحة وما يليها مفقود في س، ولتصحيح النص سنقارن بينه وبين ما ورد في ابن الأثير. (¬2) الضمير هنا يعود على عماد الدين أي أن عماد الدين كان أتابكا للملك ألب أرسلان ولكن السلطة الحقيقية كلها كانت بيد عماد الدين. (¬3) الضمير هنا يعود على الملك ألب أرسلان.

ذكر رحيل عماد الدين عن البيرة وتملك المسلمين لها

إلى القلعة، وتقدم تاج الدين إلى النقيب بها والأجناد أن يفتحوا الباب ويتسلموه، [56] ويعتقلوه، ففتحوا الباب، ودخل الملك والقاضى إليهم، ومعهما من أعان على قتل نصير الدين، فسجنوا، واعتقل الملك ألب أرسلان بالقلعة. ذكر رحيل عماد الدين عن البيرة وتملك المسلمين لها ولما بلغت الأخبار إلى عماد الدين زنكى بقتل نائبه نصير الدين وهو يحاصر قلعة البيرة وقد أشرف على أخذها، خاف أن تختلف عليه البلاد الشرقية بعد قتل نصير الدين، فرحل عن البيرة، وأرسل الأمير زين الدين على كوجك (¬1) بن بكتكين (¬2) إلى قلعة الموصل نائبا عنه بها موضع نصير الدين، وأقام عماد الدين ينتظر الخبر، فخاف من بالبيرة من الفرنج أن يعود (¬3) إليهم، وكانوا يخافونه خوفا شديدا، فكاتبوا صاحب ماردين، وسلموها إليه، فملكها المسلمون، ولم يبق شىء مما هو شرقى الفرات بيد الافرنج، ولما تولى زين الدين على كوجك الموصل عدل في الناس وأحسن السيرة، وسلك غير طريقة نصير الدين، فاطمأن الناس، وأمنوا، وازدادت البلاد عمارة، وكانت بيده مدينة إربل، فلنذكر صيرورتها إليه. ¬

(¬1) في الأصل هنا وفيما يلى: «على كوجل بن بلتكين»، وقد صحح الاسم بعد مراجعة (ابن القلانسى: الذيل، ص 281، 285، 307، 337، 358) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 41) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 39). وسيد أب الناشر على تصحيح الاسم فيما يلى دون الاشارة إلى ذلك. وقد ذكر (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 270) أن زين الدين كان قصيرا، ولهذا قيل له «كجك» وهو لفظ عجمى معناه بالعربى صغير، أي صغير القدر. (¬2) ضبط هذا اللفظ بعد مراجعة (ابن خلكان: الوفيات، طبعة محيى الدين عبد الحميد، ج 3، ص 277). (¬3) في الأصل: «أن يعودوا إليهم وكانوا يخافون خوفا شديدا» ولا يستقيم المعنى بهذا النص وقد صحح بعد مراجعة (ابن الأثير، ج 11، ص 39).

ذكر استيلاء زين الدين على كوجك على إربل

ذكر استيلاء زين الدين على كوجك على إربل كانت إربل وأعمالها لأبى الهيجا الكردى الهذبانى ولورثته من بعده، ثم تغلبت دولة الأتراك السلجوقية عليها وعلى غيرها من البلاد، وتنقلت إلى أن صارت للسلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه، وهو يومئذ صاحب مراغة، قبل أن تصير السلطنة إليه، وله فيها نائب من قبله، فسار إليها الأمير عماد الدين زنكى ونازلها في سنة ست وعشرين وخمسمائة، وهجم البلد وامتنعت عليه القلعة، فأقام يحاصرها، فسار إليه السلطان مسعود من مراغة، فرحل عنها عماد الدين ونزل الزاب، واندفعت الأثقال إلى الموصل، وأقام غربى الفرات، ونوابه يحفظون المخايض، فترددت الرسل بينهم إلى أن استقرّ أن يسير عماد الدين في خدمة السلطان ليجلسه في السلطنة، ويكلف الإمام المسترشد بالله أن يخطب له في بغداد، وفى البلاد، ويسلم إليه إربل، فلما تقررت القاعدة، وجرت بينهما الأيمان سلم إليه إربل، فتسلمها الأمير عماد الدين، وسلمها إلى الأمير زين الدين على كوجك، [57] ثم سار عماد الدين إلى بغداد غربى المآء، وسار السلطان مسعود شرقى المآء، وتواعدا أن يلتقيا ببغداد، فوصل من بغداد قراجا الساقى وكبس عماد الدين، فكسر العسكر وأسر كل من فيه، ولم ينج سوى عماد الدين، قطع الشط في زورق وهو مجروح، ووصل إلى الموصل، ولم تزل إربل في يد زين الدين على وولده بعده إلى آخر أيام الملك المعظم مظفر الدين كوكبورى (¬1) بن زين الدين. ¬

(¬1) ضبط الاسم بعد مراجعة (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 277) وهو لفظ تركى معناه الذئب الأزرق. انظر ترجمته في نفس المرجع، وللاستزادة من أخبار الدويلة التي أنشأها زين الدين على كوجك في إربل وما حولها والتي حكمها أولاده من بعده أنظر: (دائرة المعارف الاسلامية، مادة «إربل»).

ذكر منازلة عماد الدين قلعة جعبر

ذكر منازلة عماد الدين قلعة جعبر قد ذكرنا أن السلطان جلال الدولة ملكشاه لما تسلم حلب عوّض صاحبها عنها - سالم بن مالك بن بدران العقيلى ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش - قلعة جعبر، وكان قد ملك قلعة جعبر - كما تقدم ذكره -، فتسلم سالم بن مالك قلعة جعبر، وبقيت في يده ويد ولده. فلما كانت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة قصد عماد الدين قلعة جعبر - وصاحبها يومئذ مالك بن سالم بن مالك بن بدر العقيلى - وحاصرها، وسيّر جيشا إلى قلعة فنك (¬1) فحصرها - وصاحبها يومئذ الأمير حسام الدين الكردى البشنوى، وكانت بيد البشنوية من مدة تزيد على ثلثمائة سنة - وكان قصد عماد الدين بأن لا يترك قلعة في أعماله متوسطة في بلاده إلا ويستولى عليها مبالغة في الحزم والاحتياط، وطالت مدة حصره لقلعة جعبر ولم يتيسر له فتحها، فسيّر إلى صاحبها رسولا الأمير حسّان صاحب منبسج لمودة كانت بينهما في معنى تسليمها، وقال: «تضمن له الإقطاع الكبير والمال الجليل الجزيل فإن أجاب إلى التسليم، وإلا قل له: والله لأقيمن عليها إلى أن أملكها عنوة، ثم لا أبقى عليك، ومن الذى يمنعك منى». فصعد حسّان إلى القلعة، وأدى رسالة عماد الدين إليه، ووعده التعويض عنها وأرغبه، فامتنع من التسليم، فقال له حسّان إلى قوله: «وهو يقول لك من يمنعك منى؟»، فقال: «يمنعنى منه الذى منعك من الأمير بلك (¬2). ويشير إلى منازلة بلك ¬

(¬1) هكذا ضبطها ياقوت، وقال إنها قلعة حصينة منيعة للأكراد البشنوية قرب جزيرة ابن عمر بينهما نحو من فرسخين. (¬2) هو نور الدولة بلك بن بهرام بن أرتق، وقد ضبط هكذا (Balyg) في: (Zambaur, P. Cit .Op .230) ولكنه عند (Amedroz) في مقدمة ابن القلانسى (Bulak) .

ذكر مقتل الشهيد عماد الدين أتابك زنكى ابن آق سنقر - رحمه الله -

ابن بهرام بن أرتق منبج بعد أن أسر حسّان صاحبها ولم يبق إلا أخذها، فجاء سهم غرب (¬1) فوقع في نحر بلك فأهلكه، وخلص حسّان منه؛ وكانت واقعة عماد الدين شبيهة بواقعة بلك [58] ومن تعالى (¬2) على الله تعالى أكذبه، وقد ورد حكاية عن الله تعالى: «أنا الله ربّ مكة لا أتممت لمقدّر أمرا». فعاد حسّان إلى عماد الدين وأخبره بامتناعه، ولم يذكر له حديث بلك. ذكر مقتل الشهيد عماد الدين أتابك زنكى ابن آق سنقر - رحمه الله - ولما كانت ليلة الأحد لست مضين من ربيع الآخر من هذه السنة - أعنى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة - دخل على أتابك عماد الدين صبى من غلمانه أفرنجى - إسمه برنقش (¬3) - وجماعة من المماليك، فقتلوه على فراشه، وهربوا إلى قلعة جعبر، وأخبروا أهلها بقتله، ففرحوا بذلك، وصاحوا على شرافات القلعة، وأخبروا بقتله العسكر، فدخل أصحابه إليه وبه رمق، فحكى ابن الأثير - رحمه الله (2) - عن أبيه، عن بعض خواص عماد الدين (¬4)، قال: «دخلت إليه في الحال وهو حى، ¬

(¬1) جاء في اللسان: «أصابه سهم غرب وغرب إذا كان لا يدرى من رماه، وقيل إذا أتاه من حيث لا يدرى، وقيل إذا تعمد به غيره فأصابه». (¬2) في الأصل: «تالى» وما هنا قراءة ترجيحية. (¬3) كذا في الأصل، وهو في (ابن القلانسى، ص 284 و 288): «يرنقش»؛ وفى (أبو شامة: الروضتين، ص 42 و 46): «برتقش»؛ أما ابن الأثير وسبط ابن الجوزى فلم ينصا على اسمه. أنظر أيضا: (حسن حبشى: ثور الدين والصليبيون، ص 40). ويبدو أن صاحب جعبر هو الذى حرض على قتله بدليل أن قتلته فروا إلى قلعة جعبر بعيد قتله مباشرة. (¬4) لهذا الدعاء أهمية خاصة، فهو يحدد تاريخ البدء في تأليف هذا الكتاب ويجعله بعد سنة 630 هـ‍ وهى السنة التي توفى فيها ابن الأثير المؤرخ.

ذكر سيرته وصفته - رحمه الله -

فحين رآنى ظن أنى أريد قتله، فأشار إلىّ بأصبعه السبابة يستعطفنى، فوقفت (¬1) من هيبته، وقلت يا مولانا: من فعل بك هذا؟ فلم يقدر على الكلام، وفاضت نفسه لوقته». قال الأمير مؤيد الدولة بن منقذ: «فكأن الشاعر - وهو المتنبى - عناه بقوله: وقد قابل الأقران حتى قتلنه ... بأضعف قرن في أذلّ مكان ذكر (¬2) سيرته وصفته - رحمه الله - كان حسن الصورة، أسمر اللون، حسن العينين، قد وخطه الشيب، وكان عمره قد زاد على ستين سنة، وكان صارما حازما شجاعا شهما مقداما، عظيم الهمة أبىّ النفس، قد خافه الملوك، وارتاع لذكره أصحاب الأطراف، وكان الخليفة والسلطان يجاور بلادهما بلاده، وكان يجاوره ابن سكمان صاحب خلاط، وداود ابن سقمان صاحب حصن كيفا، وصاحب آمد، وصاحب ماردين، والفرنج، وصاحب دمشق، وقد أحاطت هذه الممالك بمملكته من سائر جهاتها، ومع هذا مرة يقصد هذا، ومرة يأخذ من هذا، ومرة يصانع هذا إلى أن ملك من كل من (¬3) يليه طرفا، وكان الكل يتقونه ويدارونه، ويخافون منه، وكان شديد الهيبة على رعيته وعساكره، عظيم الهيبة في صدورهم حسن السياسة، لا يقدر القوى على ظلم ¬

(¬1) نص (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 42) وهو الذى ينقل عنه هنا: «فوقعت» وهى أكثر اتساقا مع المعنى. (¬2) هنا يلتقى النص مرة أخرى مع نسخة س، وإنما في ص (108 ا) من تلك النسخة. (¬3) في الأصل: «في كل ممن يليه» ولا يستقيم بها المعنى، والتصحيح عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 42).

الضعيف، وكانت البلاد [59] خرابا قبل أن يملكها فعمّها العدل (¬1)، وعمرت لما ملكها، وقد ذكر أنه كان عنده في مبدأ أمره ظلم، فسمع ليلة وهو نازل بحماة شخصا يغنى على شط العاصى: «اعدلوا ما دام أمركم ... نافذا في النفع والضرر واحفظوا أيام دولتكم ... إنكم منها على خطر» فبكى وتبدلت نيته في الظلم، وأخذ نفسه من حينئذ بالعدل. ومما يحكى عنه: أنه دخل مرة الجزيرة في الشتاء، ومعه أمير من أكبر أمرائه يقال له عز الدين الدبيسى (¬2)، كان من جملة إقطاعه مدينة دقوقا (¬3)، فنزل في دار إنسان يهودى من أهل الجزيرة، فاستغاث [اليهودى] إلى عماد الدين، وأنهى حاله إليه، فنظر إلى الدبيسى، فتأخر ودخل البلد وأخرج بركه (¬4) وخيامه، قال الحاكى لهذه الحكاية «فلقد رأيت غلمانه ينصبون خيامه في الوحل، وقد جعلوا على الأرض تبنا يقيهم (¬5) الطين، وخرج فنزلها». وكان [عماد الدين] ينهى أصحابه عن اقتناء الأملاك، ويقول: «مهما كانت البلاد لنا فأى حاجة لكم إلى الأملاك؟ فإن الإقطاعات تغنى عنها، وإن خرجت البلاد عن أيدينا فإن الأملاك تذهب معها، ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية، وتعدّوا عليهم، وغصبوهم أملاكهم». ¬

(¬1) في س (ص 108 ا): «فلما ملكها عمها بالعدل، وعمرت لما ملكها». (¬2) في الأصل: «الديسنى»، وهى كذلك في س (108 ا) وإنما بدون نقط، وقد ضبط الاسم بعد مراجعة مصدر هذه القصة وهو (ابن الأثير، ج 11، ص 42). (¬3) هكذا ضبطها ياقوت، ويقال لها أيضا «دقوقاء»، وهى مدينة بين إربل وبغداد. (¬4) البرك المتاع الخاص من ثياب وقماش. انظر (Dozy : Supp Dict .Arab) . (¬5) في الأصل: «يقيها» والتصحيح عن ابن الأثير.

وكان شديد العناية بأخبار الأطراف وما يجرى لأصحابها حتى في خلواتهم، وكان له في دركاة (¬1) السلطان من يطالعه ويكتب إليه بكل ما يفعله السلطان في ليله ونهاره من حرب وسلم وهزل وجد، وكان يغرم على ذلك الأموال الجليلة، وكان يصل (¬2) إليه كل يوم من عيونه عدة قاصدين، وكان مع اشتغاله بالأمور الكبار من أمور الدولة لا يهمل الاطلاع على الصغير، وكان يقول: «إذا لم يعرف الصغير ليمنع صار كبيرا»، وكان لا يمكّن رسول ملك يعبر في بلاده بغير إذنه، وإذا استأذنه رسول في العبور في بلاده أذن له، وأرسل إليه من يسيّره، ولا يتركه يجتمع بأحد [60] من الرعيّة ولا غيرهم، فكان الرسول يدخل بلاد ويخرج منها ولا يعلم من أحوالها شيئا البتة. وكان يتعهد أصحابه ويمتحنهم، فسلّم يوما خشكنانكه (¬3) إلى طشت دار (¬4) له، وقال: «إحفظ هذه». فبقى نحو سنة لا تفارقه الخشكنانكه خوفا أن يطلبها منه، فلما كان بعد ذلك، قال له: «أين الخشكنانكه؟» فأخرجها من منديل وقدّمها ¬

(¬1) دركاه - والجمع دركاوت - من أصل فارسى «دركاء» وقد عرفها (Dozy : Supp. Dict .Arab) بأنها: الساحة أمام قصر السلطان أو الدهليز أو الرواق أو المدخل (Coar devant un palais,vestibule,portique,porte,etc). (¬2) في س (108 ب): «وكان ينهى إليه». (¬3) خشكنانك أو خشكنانج من أصل فارسى، نوع من الأطعمة عرفه (Dozy : Supp. Dict .Arab) بأنه نوع من الفطير المصنوع من الزبد والسكر والجوز أو الفستق، ويكون على هيئة الهلال. أنظر أيضا: (الجواليقى: المعرب، ص 134) و (الجاحظ: البخلاء، طبعة الدكتور طه الحاجرى، ص 110 و 333). (¬4) الطشت لفظ عامى، وصوابه الطست، وهو معرب عن اللفظ الفارسى «تست» والطشت دار أحد الغلمان المشرفين على الطشت خاناه، وهى كما عرف (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 4، ص 10 - 11) «بيت الطشت، سميت بذلك لأن فيها يكون الطشت الذى تغسل فيه الأيدى، والطشت الذى يغسل فيه القماش السلطانى. . . وفيه ما يلبسه السلطان من الكلوته والأقبية وسائر الثياب، والسيف والخف والسرموزة. . . الخ» أنظر أيضا: (نفس المرجع، ج 5، ص 469) و (محيط المحيط).

بين يديه؛ فاستحسن ذلك منه، وقال: «مثلك ينبغى أن يكون مستحفظا بحصن»، وأمر له بدزدارية قلعة كواشى (¬1)، فبقى فيها إلى أن قتل عماد الدين. وكان لا يمكّن أحدا (¬2) من خدمه من مفارقة بلاده ويقول: «إن البلاد كبستان عليه سياج، فمن هو خارج السياج يهاب الدخول، فإذا خرج منها من يدل على عورتها ويطمع العدو فيها زالت الهيبة، وتطرّقت (¬3) الخصوم إليها». ومن جميل سيرته أنه أسكن الأمير بهاء الدين ياروق التركمانى وأصحابه (¬4) بولاية حلب، وأمرهم بجهاد الفرنج، وملّكهم ما استنقذوه من البلاد التي للفرنج، فكانوا يراوحون الفرنج القتال ويغادونهم، وسدّوا ذلك الثغر (¬5)، ولم يزالوا على ذلك إلى سنة ستمائة. وكانت تضرب بشجاعته الأمثال، ومما يحكى عنه: أنه حضر مع الأمير مودود صاحب الموصل - قبل أن يملك - حصار طبرية وهى للفرنج، ووصلت طعنته إلى باب البلد وأثرّت فيه؛ وحمل أيضا على قلعة عقر الحميدية (¬6)، وهى على جبل عال، فوصلت طعنته إلى سورها. ¬

(¬1) هكذا ضبطها ياقوت، وقال إنها قلعة حصينه في الجبال التي في شرقى الموصل ليس إليها طريق إلا لراجل واحد، وكانت قديما تسمى «أردمشت» وكواشى اسم لها محدث. (¬2) في الأصل، وفى س (108 اب): «أحد»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 1، ص 43). (¬3) في س: «تفرقت»، وما هنا أصح، وهو متفق مع ما في الروضتين. (¬4) كذا في الأصل، وفى س، وفى (الروضتين، ج 1، ص 43) جملة توضح من هم هؤلاء الأصحاب وهى: «ومن صائب رأيه وجيده أن سير طائفة من التركمان الايوانية مع الأمير الميارق (؟) إلى الشام، وأسكنهم بولاية حلب. . . إلخ». (¬5) في الأصل: «وشددوا ذلك» وقد صحح بعد مراجعة س (109 ا) و (الروضتين، ج 1، ص 44). (¬6) ذكر ياقوت أنها قلعة حصينة في جبال الموصل أهلها أكراد وهى شرقى الموصل.

وكان شديد الغيرة، لا سيما على نساء الأجناد، وكان التعرض إليهن من الذنوب التي لا تغتفر، وكان يقول: «إن جندى لا يفارقونى في أسفارى، وقل ما يقيمون عند أهلهم، فإن نحن لم نمنع من التعرض إلى حرمهم هلكن وفسدن»؛ وكان قد ولّى قلعة الجزيرة دزدارا يقال له نور الدين حسن البربطى (¬1)، وكان من خواصه، وكان غير مرضى السيرة، فبلغه أنه يتعرض للحرم، فأمر حاجبه صلاح الدين محمد ابن أيوب الياغيسيانى (¬2) - صاحب حماة - أن يسير مجدّا، ويدخل الجزيرة بغتة، فإذا دخلها أخذ البربطى وقطع ذكره [61] وقلع عينيه، عقوبة له لنظره بهما إلى الحرم، ثم يصلبه؛ فسار صلاح الدين مجدّا، فلم يشعر البربطى (1) به، إلا وهو على باب البلد، فخرج إلى لقائه، فأكرمه صلاح الدين ودخل معه البلد، وقال له: «المولى أتابك يسلم عليك، ويريد أن يعلى قدرك ويرفع منزلتك، ويسلم إليك قلعة حلب، ويوليك جميع البلاد الشامية، لتكون هناك مثل نصير الدين، فتتجهز (¬3) وتحدر مالك في الماء إلى الموصل، وتسير إلى خدمته، ففرح بذلك، ولم يترك له من أمواله شيئا إلا نقله إلى السفن ليحدرها إلى الموصل في دجلة، فحين فرغ من جميع ذلك أخذه صلاح الدين وأمضى فيه ما أمر به، وأخذ جميع ماله، ولم يجسر أحد بعده على أفعاله القبيحة. ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى (الروضتين، ج 1، ص 44) وهو في س (109 ا): «البويطى». (¬2) في الأصل: «الباغيسانى»، وفى س (109 ا): الباغيشانى»، وفى (الروضتين، ج 1، ص 44): «الباغيسالى»، وما هنا عن: (ابن القلانسى: ذيل تاريخ دمشق، ص 217)، وهو في ذيل تلك الصفحة نقلا عن (الفارقى): «اليغصيانى». أنظر أيضا: (Ibn AL - Qalanisi;Traduction Francaise par : Roger Le Tourneau. PP. 20,23,41,129) انظر أيضا ما فات هنا ص 19، هامش 2. (¬3) في س، وفى الروضتين: «فتجهز». وحدر السفينة يحدرها أرسلها إلى أسفل (اللسان).

وكان - رحمه الله - كثير الصدقات، وكان يتصدق في كل جمعة بمائة دينار أميرى [ظاهرا (¬1)] ويتصدق فيما عداه من الأيام سرا مع من يثق به، وركب يوما فعثرت به دابته، فكاد يسقط عنها، فاستدعى أميرا كان معه، وقال له كلاما لم يفهمه، ولم يجسر أن يستفهمه عنه، فعاد إلى بيته، وودّع أهله عازما على الهرب، فقالت زوجته: «ما ذنبك وما حملك على الهرب؟» فذكر لها الحال، فقالت له: «إن نصير الدين له بك عناية، فاذكر له قصتك، وافعل ما يأمرك به». فقال: «أخاف أن يمنعنى من الهرب وأهلك». فلم تزل به زوجته تراجعه، وتقوى عزمه إلى أن عرّف نصير الدين حاله، فضحك منه، وقال له: «خذ هذه الصرة الدنانير واحملها إليه، فهى التي أراد». فقال: «الله؛ الله (¬2) في دمى ونفسى». فقال: «لا بأس عليك، فإنه ما أراد غير هذه الصرة». فحملها إليه، فحين رآه قال: «أمعك شىء»؟ قال: «نعم»، فأمره أن يتصدق [به]، فلما فرغ من الصدقة، قصد نصير الدين وشكره، وقال: «من أين علمت أنه أراد الصرة؟» فقال: «إنه يتصدق بمثل هذا القدر كل يوم، يرسل إلىّ يأخذه من الليل، وفى يومنا هذا لم يأخذه، ثم بلغنى أن دابته عثرت به حتى كاد يسقط إلى الأرض، فأرسلك إلىّ، فعلمت أنه ذكر الصدقة». ولقد حكى من هيبته ما هو أشد من هذا: أنه خرج يوما من قلعة الجزيرة [62] من باب السر خلوة وملاّحه نائم، فأيقظه بعض الجاندارية، وقال له: «إقعد». فحين رأى عماد الدين سقط إلى الأرض، فحركوه فوجدوه ميتا. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين إضافة عن الروضتين. (¬2) ذكر لفظ الجلالة في الأصل مرة واحدة، ولكنه كرر في س (109 ب)، وفى (الروضتين، ج 1، ص 44).

ذكر ما كان من الملك ألب أرسلان الخفاجى ولد السلطان بعد قتل عماد الدين

ومن جميل أوصافه وحسنها أنه كان بطئ التلون بعيد التغير، (1) لم يتغير على أحد من أصحابه منذ ملك إلى أن قتل [إلا] بذنب عظيم يوجب التغير (1)، وأن الأمراء الذين كانوا معه أولا [هم الذين] (¬1) بقوا معه إلى آخر وقت، إلا من اخترمه الموت منهم، ولهذا كانوا ينصحونه ويبذلون نفوسهم له، وكان يخطب الرجال ذوى الهمم العالية، والآراء الصائبة، ويوسّع عليهم في أرزاقهم، فيسهل عليهم فعل الجميل، فلهذا كان إذا قدم إنسان عسكره لم يكن غريبا: إن كان جنديا اشتمل عليه الأجناد وأضافوه، وإن كان صاحب ديوان قصد أهل (¬2) الديوان، وإن كان عالما قصد القضاة والفقهاء من أصحابه فيؤانسونه (¬3) ويحسنون إليه. ذكر ما كان من الملك ألب أرسلان الخفاجى (¬4) ولد السلطان بعد قتل عماد الدين قد تقدم ذكرنا أن الملك ألب أرسلان بن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوقى - الذى كان عماد الدين أتابكة - قتل نصير الدين في الموصل، وطمع في الاستيلاء على البلاد، وأن القاضى تاج الدين بن الشهرزورى خدعه حتى صعد ¬

(¬1) ما بين الرقمين ساقط من س، وقد أضيف ما بين الحاصرتين ليستقيم به المعنى بعد مراجعته على: (الروضتين، ج 1، ص 44). (¬2) في س: «أصحاب». (¬3) في الأصل: «فيواسونه»، وما هنا عن س (110 ا) و (الروضتين، ج 1، ص 44). (¬4) يذكر صاحب الروضتين (ج 1، ص 41) تصحيحا لهذا الاسم فيقول: «وقد وهم (أي ابن الأثير) في قوله: ألب آرسلان المعروف بالخفاجى، فالخفاجى غير ألب آرسلان على ما ذكره العماد الكاتب في كتاب السلجوقية، فانه قال: كان مع زنكى ملكان من أولاد السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، أحدهما يسمى ألب آرسلان وهو في معقل من معاقل سنجار، والآخر يسمى فرخشاه ويعرف بالملك الخفاجى وهو بالموصل. . . إلخ».

إلى القلعة واعتقل بها، فلما قتل عماد الدين كان في صحبة الملك ألب أرسلان فركب واجتمعت العساكر عليه وخدموه، فأرسل الوزير جمال الدين الأصفهانى إلى الأمير صلاح الدين الياغيسيانى (¬1) يقول: «المصلحة أن نترك ما كان بيننا وراء ظهورنا - وكان بينهما مشاحنة - ونسلك طريقا تبقى به البلاد والملك في أولاد صاحبنا، فإن الملك ألب أرسلان قد طمع في البلاد، واجتمعت عليه العساكر، وإن لم نتلاف هذا الأمر في أوله ونتداركه في ابتدائه اتسع الخرق، ولم يمكن رقعه» (¬2) فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، فركب الوزير جمال الدين [63] إلى الملك [ألب أرسلان] (¬3)، وضمن له فتح البلاد، وأطمعه فيها ومعه صلاح الدين، وقالا له: «إن [عماد الدين] أتابك كان نائبا عنك في البلاد، وباسمك كنا نطيعه». فصدقهما، وقربهما طمعا في أن يكونا عونا له على تحصيل غرضه، وأرسلا إلى الأمير زين الدين على كوجك بن بكتكين صاحب إربل - وهو النائب عن عماد الدين بالموصل - يعرفانه قتل الشهيد عماد الدين، ويأمرانه أن يرسل إلى الأمير سيف الدين غازى بن زنكى وهو ولده الأكبر - وكان بشهرزور وهى إقطاعه من أبيه - ليحضر إلى الموصل ويملكها (¬4)، ففعل زين الدين ذلك، وأرسل إلى سيف الدين واستقدمه، فقدم إلى الموصل وتسلمها (4). وكان نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكى لما قتل أبوه في العسكر (¬5) أخذ خاتمه من يده، وسار إلى حلب فملكها، واتفق صلاح الدين الياغيسيانى - صاحب حماة - والوزير جمال الدين محمد بن على الأصفهانى على حفظ دولة ولد عماد الدين، ¬

(¬1) في الأصل: «الباغيسانى»، أنظر ما فات، ص 104، هامش 2 (¬2) في س (110 ا): «رفوه». (¬3) ما بين الحاصرتين عن س (110 ب). (¬4) هذا اللفظ ساقط من س. (¬5) في س (110 ب): «المعسكر».

والمكر بالملك ألب أرسلان السلجوقى، وحسّنا له الاشتغال بالشرب والمغنيات، وقال جمال الدين للملك [ألب أرسلان (¬1)]: «إن من الرأى أن تسيّر الصلاح إلى مملوكك نور الدين بحلب يدبّر أمره»، فأذن له [فسار (1)]، وبقى جمال الدين وحده مع الملك فأخذه وقصد [به (1)] الرقة، واشتغل فيها بشرب الخمر والخلوة بالنساء والمغنيات؛ وأراد أن يعطى الأمراء شيئا فمنعه خوفا أن تميل قلوبهم إليه، وقال (¬2): «لهم منك الإقطاع الجزيل والنعم الوافرة». وشرع جمال الدين يستميل العسكر (¬3) ويحلفهم لسيف الدين غازى بن عماد الدين واحدا بعد واحد، وكل من حلف يأمره بالمسير إلى الموصل هاربا من الملك، وأقام الملك بالرقة عدة أيام، ثم سار إلى ماكسين، فتركه (¬4) بها عدة أيام مشتغلا بلذاته عن طلب الملك، ثم سار به نحو سنجار، ولما استقر قدم سيف الدين بالموصل قوى جنان جمال الدين، ووصل هو والملك ألب أرسلان إلى سنجار، وأرسل إلى دزدارها وقال له: [64] «لا تسلم البلد، ولا تمكن أحدا من دخوله، ولكن أرسل إلى الملك وقل له: «أنا تبع الموصل، فمتى دخلت الموصل سلمت إليك». ففعل الدزدار ذلك. وقال جمال الدين للملك [ألب أرسلان]: «المصلحة أنا نسير إلى الموصل، فإن مملوكك غازى إذا سمع بقربنا منه خرج إلى الخدمة، فحينئذ نقبض عليه ونتسلم البلاد»، فساروا عن سنجار، وكثر رحيل العسكر إلى الموصل هاربين من الملك، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س. (¬2) كذا في الأصل، وفى (الروضتين، ج 1، ص 47)، أما نص س (110 ب فمختلف قليلا وهو: «. . . قال: فطلبوا الامرا من الملك ألب أرسلان مال (كذا)، قال: وجعل يقول للأمراء: لكم الاقطاع والنعم الوافرة». (¬3) في س: «قلوب العساكر». (¬4) في س (111 ا): «فنزل».

ذكر أخبار الأيام النورية

فبقى في قلة من العسكر، فساروا (¬1) إلى [مدينة (¬2)] بلد، وعبر الملك ألب أرسلان دجلة من هناك، ودخل الوزير جمال الدين الموصل، وأرسل الأمير عز الدين أتابك الدبيسى (¬3) في عسكر إلى الملك ألب أرسلان - وهو في نفر يسير - فأخذه وأدخله الموصل، فكان آخر العهد به، فذكر أنه خنق بوترقوس. واستقر الملك بالموصل لسيف الدين غازى بن زنكى، وأقر الأمير زين الدين على كوجك (¬4) على ما كان عليه من ولاية الموصل، ومعه جمال الدين محمد بن على - وزيره -، وأرسلوا إلى السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه، فاستحلفوه لسيف الدين [غازى]، فحلف له وأقرّه على البلاد، وأرسل إليه الخلع؛ وقد ذكرنا أنه كان في خدمته في حياة أبيه، وكان السلطان مسعود يحبه ويأنس به، فلم يتوقف في تقرير البلاد له والحلف له. ذكر أخبار الأيام النورية قد ذكرنا مقتل الأمير عماد الدين وتملك ولده سيف الدين غازى الأكبر الموصل، وتملك ولده نور الدين محمود حلب، وكانت بعلبك قد ملكها الشهيد، واستناب بها الأمير نجم الدين أيوب بن شاذى والد الملك الناصر [صلاح الدين (¬5)]، ¬

(¬1) في الأصل: «فسار»، وقد صححت، بعد مراجعة س (111 ا) و (الروضتين، ج 1، ص 47). (¬2) ما بين الحاصرتين عن الروضتين؛ والنص في س: «إلى بلد الموصل» وهو خطأ، وبلد - ويقال بلط - مدينة قديمة على دجلة فوق الموصل بينهما سبعة فراسخ؛ (ياقوت: معجم البلدان). (¬3) في الأصل، وفى س: «الديسنى»، أنظر ما فات، ص 101، هامش 2 (¬4) في الأصل: «كوجل»، أنظر ما فات، ص 28، هامش 1 (¬5) ما بين الحاصرتين عن س.

ذكر عصيان الرها وعودها إلى المسلمين

فلما بلغه وفاة الشهيد كاتبه الأمير مجير الدين آبق (¬1) بن محمد بن بورى بن طغتكين - صاحب دمشق - في تسليمها، وبذل له أموالا [كثيرة (¬2)] وقرايا من أعمال دمشق، فسلّمها إليه، وانتقل نجم الدين أيوب إلى دمشق، وأقام بها، وذلك لأربع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة - أعنى سنة إحدى وأربعين [65] وخمسمائة - وتسلم نور الدين من حاجب أبيه صلاح الدين محمد بن أيوب الياغيسيانى (¬3) حماة، وعوضّه عنها مدينة حمص وقلعتها، قلت: وهكذا ذكر ابن منقذ؛ وذكر ابن الاثير: أن حمص كانت بيد الأمير سيف الدين غازى، وإنما تسلمها نور الدين بعد، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عصيان الرّها (¬4) وعودها إلى المسلمين وكنا قد ذكرنا افتتاح الرّها، افتتحها الأمير عماد الدين زنكى من الإفرنج، وكانت لجوسلين بن جوسلين (5)، وكانت له أيضا من غربى الفرات تل باشر، فلما قتل الشهيد راسل جوسلين (¬5) أهل الرّها، وعامتهم من الأرمن، وحملهم على العصيان على المسلمين وتسليم البلد إليه، فأجابوه إلى ذلك، وواعدهم (¬6) ¬

(¬1) في الأصل: «أتق» وصحة الاسم «آبق Abaq» أنظر: (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 5، ص 381) (Zambaur , Op .Cit . P. 225) وقد حكم مجير الدين أبق مدينة دمشق من سنة 534 إلى سنة 549 حيث انتقل ملكها إلى نور الدين محمود بن زنكى وتوفى مجير الدين سنة 564 وهو آخر من حكم دمشق من الأسرة البورية. هذا وسيصحح اسمه فيما يلى دون الاشارة إلى ذلك. (¬2) ما بين الحاصرتين عن س. (¬3) في الأصل، وفى س: «الباغيسانى»؛ أنظر ما فات، ص 104، هامش 2 (¬4) في س (111 ب): «أهل الرها». (¬5) في س (111 ب): «لجوسلين الفرنجى». (¬6) في س: «وواعدوه يوما».

يوما يصل إليهم فيه، وسار في عساكره إلى الرها، فملك البلد، وعصت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين، فقاتلهم، وبلغ ذلك ثور الدين - رحمه الله - وهو بحلب، فسار مجدا إليها بعسكره، فلما قاربها خرج جوسلين منها هاربا إلى بلده، ودخل نور الدين المدينة فنهبها وسبى أهلها (¬1)، فخلت منهم ولم يبق بها إلا القليل، ولما بلغ خبر الفرنج إلى سيف الدين بالموصل (¬2) جهّز العساكر إلى الرّها فوصلت وقد ملكها نور الدين، فبقيت في يده، ولم يعارضه فيها أخوه سيف الدين. وفى هذه السنة رحل الأمير سيف الدين إلى الشام، وكان أخوه نور الدين قد خافه واستشعر منه، وأخوه سيف الدين يكاتبه ويستميله، فلما وصل سيف الدين إلى الشام استقرت القاعدة بينهما على أن يجتمعا خارج العسكر السيفى، ومع كل واحد منهما خمسمائة فارس، فلما كان يوم الميعاد سار نور الدين من حلب في خمسمائة فارس، وسار سيف الدين من معسكره في خمسة فوارس، فلم يعرف نور الدين سيف الدين حتى قرب منه، فحين عرفه ترجّل له، وقبّل الأرض بين يديه، وأمر أصحابه بالعود عنه، فعادوا، وقعد سيف الدين ونور الدين بعد أن اعتنقا وبكيا، فقال له سيف الدين: «لم امتنعت من المجئ إلىّ، كنت تخافنى على نفسك؟ [66] والله ما خطر ببالى ما تكره (¬3)، فلمن أريد البلاد، ومع من أعيش، وبمن اعتضد، إذا فعلت السوء مع أخى وأحب الناس إلىّ؟» فاطمأن نور الدين، ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى س (111 ب): «فنهبها وقتل رجالها من الأرمن، وسبا نساها». (¬2) إلى هنا تنتهى (ص 111 ب) من نسخة س، وبانتهائها تضطرب الصفحات مرة أخرى في تلك النسخة، وتنقطع الصلة بين (ص 111 ب) و (ص 112 ا) وبالتالى بين النص هنا وبينه هناك في تلك النسخة. (¬3) في الأصل: «تذكره» والتصحيح عن: (الروضتين، ج 1، ص 48).

وسكن روعه، وعاد إلى حلب، وتجمل (¬1) وعاد بعسكره إلى خدمة أخيه سيف الدين، فأمره سيف الدين بالعود وترك عسكره عنده، وقال له: «لا غرض لى في مقامك عندى، وإنما غرضى أن تعلم الملوك والفرنج اتفاقنا، فمن يريد السوء بنا يكفّ عنه»، فلم يرجع نور الدين ولزمه إلى أن قضيا ما كانا عليه، وعاد كل منهما إلى بلده. وفى سنة اثنين وأربعين وخمسمائة دخل نور الدين بلد الفرنج، ففتح مدينة أرتاح (¬2) وعدة حصون. وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة نازل ملك الألمان (¬3) بجموعه، ومن انضم إليه من فرنج الساحل مدينة دمشق - وصاحبها مجير الدين آبق بن محمد، والقيّم بأمر دولته معين الدين أنر مملوك جده طغتكين - فزحفوا إلى البلد سادس ربيع الأول، وقاتلوا أهله قتالا شديدا؛ ثم نزل الفرنج على الميدان الأخضر (¬4)، وضاق الأمر على أهل البلد، وأيقنوا أن العدو يملكه، وراسل الأمير معين الدين سيف الدين غازى بن زنكى صاحب الموصل يدعوه إلى نصرة المسلمين، فسار إلى الشام، واستصحب أخاه نور الدين محمود بن زنكى - صاحب حلب - فنزلوا بمدينة حمص، وأرسل سيف الدين إلى معين الدين يقول له: «قد حضرت ومعى ¬

(¬1) في الروضتين: «فتجهز». (¬2) هكذا ضبطها (ياقوت، معجم البلدان)، وقال إنها حصن منيع من أعمال حلب، وفى (Dussand , T .H .223 - 228) أنها موقع يبعد 15 كيلومترا إلى الشرق من بحيرة أنطاكية أنظر أيضا: (CL .Cahen,La Syrie du Nord .PP 141 - 148) (¬3) هو «كونراد الثالث Conrad III» امبراطور المانيا وقد اشترك معه في قيادة الحملة الصليبية المعروفة بالثانية لويس السابع ملك فرنسا. أنظر (Stevenson,Crusaders in the East) و (حسن حبشى، نور الدين والصليبيون). (¬4) كان هذا الميدان يقع غربى المدينة. أنظر: (Ibn El Qalanisi,Trad .Fran per Roger Le Tourneau, P. 125) .

كل من يحمل السلاح في بلادى، فأريد أن تكون نوابى بمدينة دمشق لأحضر وألقى الفرنج، فإن انهزمت دخلت أنا وعسكرى البلد، واحتمينا به، وإن ظفرنا فالبلد لكم لا ينازعكم فيه أحد.» وأرسل إلى الفرنج يتهددهم إن لم يرحلوا عن البلد وإلا أتيتهم. فكفّ الفرنج عن القتال، وقوى أهل البلد على حفظه، واستراحوا من الحرب. وأرسل معين الدين إلى الفرنج الغربا يقول لهم: «إن ملك الشرق قد حضر، فإن رحلتم وإلا سلمت البلد إليه، وحينئذ تندمون». [67] وأرسل إلى أهل الساحل ويقول لهم: «بأى عقل تساعدون هؤلاء علينا وأنتم تعلمون أنهم إن ملكوا مدينة دمشق أخذوا ما بأيديكم من البلاد الساحلية، وأما أنا إن رأيت الضعف عن حفظ البلد سلمته إلى سيف الدين، وأنتم تعلمون أنه إن ملك دمشق لا يبقى لكم معه مقام بالشام». فأجابوا بالتخلى عن ملك الألمان، وبذل لهم حصن بانياس، فاجتمعت الفرنج الساحلية بملك الألمان وخوّفوه من استيلاء سيف الدين على دمشق، وأنه إن ملكها لا يكون لهم به طاقة، ولم يزالوا به حتى رحل عن دمشق، وتسلموا بانياس، ورجع ملك الألمان إلى بلاده، وقد ذكرناه. وفى هذه النوبة قتل شاهنشاه بن نجم الدين (¬1) أيوب جد جد مولانا السلطان الملك المنصور (¬2) - صاحب حماة، خلّد الله سلطانه (¬3) - على باب دمشق، قتلته الفرنج المحاصرون للبلد، ودفن بالشرف ظاهر مدينة دمشق، وخلّف ولدين، ¬

(¬1) في الأصل: «جمال الدين» وهو خطأ واضح. (¬2) هو الملك المنصور الثانى حكم حماة من سنة 642 إلى سنة 683. وقد خدمه مؤلف هذا الكتاب وعين قاضيا لقضاة حماة في عهده، وله ألف هذا الكتاب. (¬3) لهذا الدعاء أهمية خاصة فهو يعين على تحديد تاريخ تأليف هذا الكتاب، ومنه نستبين أن هذا الجزء من الكتاب كتب بعد سنة 642 وهى السنة التي ولى فيها المنصور الثانى حكم حماة؛ أنظر ما فات ص 2، هامش 2 وص 99 هامش 4

ذكر استيلاء نور الدين محمود بن زنكى - رحمه الله - على حصن العزيمة

هما: الملك المظفر تقى الدين عمر، والملك المنصور عز الدين فروخ شاه، وهو أبو الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه - صاحب بعلبك -. ذكر استيلاء نور الدين محمود بن زنكى - رحمه الله - على حصن العزيمة لما خرج ملك الألمان إلى دمشق كان معه ولد الأدفونش (¬1) وكان جده هو الذى فتح طرابلس الشام، فأخذ ولد الأدفونش حصن العزيمة، وأظهر أنه يريد أخذ طرابلس، فأرسل القومص إلى نور الدين محمود ومعين الدين يدعوهما إلى قصد العزيمة وأخذها، فقصداها من دمشق، واستمدا سيف الدين غازى، فأمدهما بعسكر كبير مع الأمير عز الدين الدبيسى فقطع جزيرة ابن عمر، فنازلوا حصن العزيمة وبه ابن الأدفونش وضايقوه، وتقدم إليه النقابون فنقبوه، وتسلموا الحصن، وأخذوا ابن الأدفونش وكل من بالحصن، وأخربوه وعادوا عنه. كسرة الفرنج بيغرى (¬2) وفى هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة - تجمع الفرنج بمكان يقال له يغرى ليقصدوا أعمال حلب، فقصدهم نور الدين محمود بن زنكى، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فكسر الفرنج كسرة قبيحة، وقتل أكثرهم، وأسر جماعة [68] من مقدميهم، ولم ينج منهم إلا القليل، وأرسل من الغنيمة والأسرى ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 50): «ولد الفنش صاحب طليطلة وهو من أولاد أكابر ملوك الفرنج وكان جده هو الذى أخذ طرابلس الشام من المسلمين»، والاسم عند ابن الأثير أقرب إلى الصحة فهو تعريب (Alfonso) . (¬2) ذكر: (Dussaud : T .H . P. 436) أنها تقع إلى الشرق من دربساك.

إلى أخيه سيف الدين غازى وإلى الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله، وللسلطان مسعود ابن محمد بن ملكشاه. وفى هذه الوقعة قال أبو عبد الله محمد بن صغير بن القيسرانى قصيدة يمدح بها نور الدين محمود - رحمه الله -. أولها: يا ليت أنّ الصدّ مصدود! ... أولا، فليت النوم مردود إلى متى تعرض عن مغرم ... في خدّه للدمع أخدود ومنها: وكيف لا يثنى (¬1) على عيشنا ال‍ ... ـمحمود، والسلطان محمود وصارم الإسلام لا ينثنى ... إلا وشلو الكفر مقدود مناقب لم تك (¬2) موجودة ... إلا ونور الدين موجود وكم له من وقعة يومها ... - عند ملوك الشرك - مشهود والقوم: إما مرهق صرعة، ... أو موثق بالقدّ مشدود حتى إذا عادوا إلى مثلها ... قالت لهم هيبته: عودوا وفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة قصد سيف الدين غازى بن زنكى - صاحب الموصل - دارا، وكانت لوالده عماد الدين، فلما قتل أخذها الأمير حسام الدين تمرتاش بن إيل غازى بن أرتق - صاحب ماردين -، ولما دخلت هذه السنة قصدها سيف الدين فملكها، واستولى على كثير من بلد ماردين بسببها، ثم قصد ماردين وحصرها، ثم راسله صاحب ماردين وزوّجه ابنته، فرحل سيف الدين عن ماردين، وعاد إلى الموصل، وجهّزت الخاتون ابنة حسام الدين، وسفّرت إليه، فوصلت إلى الموصل وهو مريض، فتوفى ولم يدخل بها. ¬

(¬1) في الأصل: «تنثنى» والتصحيح عن (ابن الأثير، ج 11، ص 51)، وفى (الروضتين، ج 1، ص 55): «نثنى»، وانظر أبياتا أخرى من القصيدة في المرجعين السابقين. (¬2) في الأصل: «لم تكن».

ذكر وفاة سيف الدين غازى بن زنكى ابن آق سنقر - رحمه الله -

ذكر وفاة سيف الدين غازى بن زنكى ابن آق سنقر - رحمه الله - لما عاد سيف الدين إلى الموصل عرض له مرض حاد، فاستدعى له من بغداد أوحد الزمان أبو البركات البغدادى (¬1) - صاحب المعتبر في الحكمة - فحضر عنده، ورأى شدة مرضه، فعالجه فلم ينجع له فيه دواء، فتوفى آخر جمادى الآخرة من هذه السنة [69]- أعنى سنة أربع وأربعين وخمسمائة - فكانت مدة ولايته ثلاث سنين وشهرا وعشرين يوما، وكان جميل الصورة، وكان عمره نحوا من أربع وأربعين سنة، لأن مولده كان سنة خمسمائة، ودفن بالمدرسة التي بناها بالموصل، وخلّف ولدا ذكرا ربّاه عمه نور الدين محمود، وزوّجه ابنة أخيه قطب الدين مودود بن زنكى، فتوفى ولد سيف الدين شابا، وانقرض عقبه. ذكر سيرة سيف الدين - رحمه الله - كان جوادا كريما شجاعا، وهو الذى بنى المدرسة الأتابكية بالموصل، وقفها على الفريقين الحنفية والشافعية، بنى رباطا للصوفية، وكان مقصدا للشعراء، فقصده شهاب الدين الحيص بيص (¬2)، وامتدحه بقصيدة أولها: ¬

(¬1) هو أوحد الزمان أبو البركات هبة الله بن على بن ملكا البلدى لأن مولده ببلد، البغدادى لاقامته في بغداد، كان يهوديا وأسلم. أنظر ترجمته في: (ابن أبى أصيبعة: طبقات الأطباء، ج 1، ص 278 - 280). (¬2) هو شهاب الدين أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن صيفى التميمى المعروف بحيص بيص، شاعر مشهور، توفى في بغداد ليلة الأربعاء سادس شعبان سنة 574 هـ‍، ويقال إنه سمى حيص بيص لأنه رأى الناس يوما في حركة مزعجة وأمر شديد، فقال: ما للناس في حيص بيص، فبقى عليه هذا اللقب، ومعنى هذين اللفظين الشدة والاختلاط. أنظر ترجمته في: (ابن خلكان: الوفيات، ج 2، ص 106 - 108).

ذكر استيلاء قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى على الموصل

إلام يراك المجد (¬1) في زىّ شاعر ... وقد نحلت شوقا فروع المنابر فوصله بألف دينار سوى الخلع. وكان سيف الدين يحمل على رأسه السنجق (¬2)، ولم يكن يفعل ذلك أبوه ولا أحد من أصحاب الأطراف، فلما فعل ذلك اقتدى به غيره، وألزم الجند أن لا يركب أحد إلا بالسيف في وسطه، والدبوس (¬3) تحت ركبه. ذكر استيلاء قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى على الموصل لما توفى سيف الدين غازى كان قطب الدين مودود مقيما بالموصل، فاتفق الوزير جمال الدين محمد بن على الأصفهانى والأمير زين الدين على كوجك صاحب إربل والمقدّم على الجيوش على تمليك قطب الدين، فاستحلفوه وحلفوا له، وأركبوه إلى دار السلطنة، وزين الدين ماش في ركابه، وتسلّم جميع ما كان بيد سيف الدين من البلاد، وتزوج الخاتون (¬4) ابنة حسام [الدين] تمرتاش بن إيلغازى بن أرتق صاحب ماردين، ¬

(¬1) في الأصل: «الدهر»، والتصحيح عن: (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 52) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 65). (¬2) السنجق راية صغيرة صفراء، وقد أصبح هذا التقليد الذى استنه سيف الدين غازى، وهو رفع السنجق على رأس الملك، من رسوم الملك في مصر في عهدى الأيوبين والمماليك. أنظر: (صبح الأعشى، ج 4، ص 8). (¬3) الدبوس - والجمع دبابيس - آلة حربية، عرفها صاحب (محيط المحيط) بأنها «هراوة مدملكة الرأس، وكالابرة من النحاس في طرفها كتلة صغيرة»، وقد وصفها (Dozy : Supp .Dict .Arab) وصفا أقرب إلى الدقة هو (massue,casse - tete,longue d'environ deux pieds et terminee par une tete revetue de fer,qui a environ trois pouces de diametre) . (¬4) هى نفس الخاتون التي كان قد خطبها سيف الدين غازى ومات قبل أن يدخل بها فتزوجها أخوه قطب قطب الدين مودود.

ذكر استيلاء نور الدين محمود بن زنكى على سنجار

فولد له منها سيف الدين غازى وعز الدين مسعود وغيرهما، وكانت هذه المرأة يحل لها أن تظهر بخمسة عشر ملكا من أبائها وأجدادها وأخوتها وبنى أخوتها وأزواجها وأولادها وأولاد أولادها، وأشبهت من النساء في ذلك في الزمن القديم عاتكه بنت يزيد بن معاوية، فإنه كان يحل لها أن تظهر لثلاثة عشر خليفة ما بين أب وجد وأخ وابن أخ وولد أخ وزوج، وفى زمننا [70] هذا ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب لم تمت حتى رأت من أولاد أخيها جماعة كبيرة كل منهم ملك على طرف من الأطراف. ذكر استيلاء نور الدين محمود بن زنكى على سنجار لما ملك قطب الدين الموصل كان أخوه نور الدين بحلب، وهو أكبر منه، فكاتبه بعض الأمراء وطلبوه إليهم، منهم المقدّم والد شمس الدين بن المقدّم، وكان دزدارا بسنجار (¬1) فسار نور الدين جريدة في سبعين فارسا من أكابر دولته، منهم الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذى، ومجد الدين أبو بكر بن الداية، فوصل إلى ماكسين (¬2) في ستة أنفس في يوم شديد المطر، ولم يعرفه الذين بالباب، فأرسلوا إلى الشحنة، وأخبروه أنه وصل نفر من الأجناد كأنهم تركمان، فلم يتم القاصد كلامه حتى وصل نور الدين، فحين رآه الشحنة قبّل يده وخرج عن الدار، فنزلها نور الدين حتى لحق به أصحابه، فسار مجدا إلى سنجار، فوصلها وليس معه إلا نفر يسير، ونزل ظاهر البلد وألقى نفسه على محفورة صغيرة من شدة تعبه، وأرسل إلى المقدّم دزدار القلعة يعرفه بوصوله، وكان المقدّم قد استدعى من الموصل، لأن ¬

(¬1) ذكر ياقوت أنها مدينة مشهورة من نواحى الجزيرة بينها وبين كل من الموصل ونصيبين ثلاثة أيام، وهى في لحف جبل عال وفى وسطها نهر جار. (¬2) بلد بالخابور قريب من رحبة مالك بن طوق من ديار ربيعة. (ياقوت: معجم البلدان).

ذكر الصلح بين قطب الدين وأخيه نور الدين ورد سنجار إلى قطب الدين

مكاتبته لنور الدين كانت قد بلغتهم، فأرسلوا إليه، فتوقف عدة أيام فلم يصل إليه نور الدين، فسار إلى الموصل وترك ابنه شمس الدين محمد بسنجار، وقال له: «أنا أتأخر في الطريق، فإن وصل نور الدين فأرسل من يعلمنى»، فلما فارق سنجار وصل نور الدين، فلما علم شمس الدين بوصوله أرسل قاصدا إلى أبيه بالخبر، وأنهى الحال إلى نور الدين، فخاف فوات الأمر ووصل القاصد الذى سيّره شمس الدين ابن المقدّم إلى أبيه، فأدركه بتلّ يعفر (¬1)، فعاد إلى سنجار وسلمها إلى نور الدين، وكاتب الأمير فخر الدين قر أرسلان بن داوود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا (¬2) يستنجده، وبذل له قلعة الهيثم، فسار إليه، فلما سمع قطب الدين الخبر جمع العساكر، وسار نحو سنجار، ونزل بتل يعفر. ذكر الصلح بين قطب الدين وأخيه نور الدين ورد سنجار إلى قطب الدين [71] ولما نزل قطب الدين بتل يعفر راسل زين الدين على كوجك وجمال الدين - وزير قطب الدين - نور الدين أخاه، وأنكروا عليه إقدامه على أخذ ما ليس له، وتهددوه بقصده، وأخذ البلاد من يده قهرا إن لم يرجع اختيارا، فأجاب: «إننى أنا الأكبر وأنا أحق أن أدبر أخى منكم، وما جئت إلا لما تتابعت إلىّ كتب الأمراء يذكرون كراهتهم لولايتكم عليه، فخفت أن يحملهم الغيظ والأنفة على أن يخرجوا البلاد من أيدينا، وأما تهديدكم إياى بالقتال ¬

(¬1) هكذا تسميه الخاصة، وتسميه العامة «تل أعفر»، وقيل إن أصله «التل الأعفر» للونه فغير بكثرة الاستعمال وطلب الخفة. وهو قلعة وربض بين سنجار والموصل في وسط واد فيه نهر جار. (ياقوت: معجم البلدان). (¬2) قال ياقوت إنها بلدة وقلعة عظيمة مشرفة على دجلة بين آمد وجزيزة ابن عمر من ديار بكر، وهى كانت ذات جانبين وعلى دجلتها قنطرة.

ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية وكسرة الفرنج

فأنا ما أقاتلكم إلا بجندكم»، وكان قد هرب إليه جماعة من الأجناد فخافوا من مخامرة الأمراء عليهم إذا لقوه، فأشار الوزير جمال الدين بالصلح، وقال: «نحن نظهر للسلطان والخليفة أننا تبع لنور الدين، ونور الدين يظهر للفرنج أنه يحكمنا، ويتهددهم بنا، فإن كاشفناه وحاربناه، فإن ظفر بنا طمع فينا السلطان، وإن ظفرنا به طمع فيه الفرنج، ولنا بالشام حمص، وله عندنا سنجار، فهذه أنفع لنا من تلك، وتلك أنفع له من هذه، والرأى تسليم حمص إليه، وأخذ سنجار منه». فاتفق رأى الجماعة على ذلك، وسار جمال الدين إلى نور الدين، فأبرم معه الأمر، وتسلم حمص، وسلّم سنجار إلى أخيه، وعاد نور الدين إلى الشام، فأخذ ما كان له بسنجار من المال. ولما تسلّم قطب الدين سنجار أقطعها لزين الدين على كوجك، واتفقت كلمتهم، واتحدت آراؤهم، وطلب نور الدين جمال الدين فامتنع، واعتذر باحتياج قطب الدين إليه، واستغنى نور الدين عنه برأيه ومعرفته، فأطلق له نور الدين عشرة آلاف دينار كل سنة تحمل إليه ليصرفها في مصالحه، فكان نائبه بالشام يقبضها كل سنة، ويشترى له بها أسرى من الفرنج ويطلقهم. ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية وكسرة الفرنج وفى هذه السنة - سنة أربع وأربعين وخمسمائة - قصد نور الدين الدين بن زنكى - رحمه الله - حصن حارم - وهو للفرنج - فخرّب ربضه، ونهب سواده، ثم رحل إلى إنّب (¬1) فحاصره، فحشد البرنس صاحب أنطاكية (¬2)، فلقيه نور الدين. ¬

(¬1) في الأصل: «انت» وقد صححت وضبطت بعد مراجعة ابن القلانسى، وذكر ياقوت إنها حصن من أعمال عزاز من نواحى حلب. (¬2) هو «ريمون دى بواتييه».

[72] واقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم خلق كثير، وأسر مثلهم، وقتل البرنس صاحب أنطاكية، وكان عاتيا من عتاة الفرنج، وعظيما من عظمائهم، فملك بعده ولده بيمند (¬1) - وهو طفل - فتزوجت أمه (¬2) برجل من الفرنج ليدبر ولدها الطفل إلى أن يكبر؛ ثم قصد نور الدين الفرنج مرة [أخرى]، فجمعوا ولقوه فقتل منهم وأسر، فكان من جملة الأسرى زوج أم بيمند، فمدح الشعراء نور الدين، فممن مدحه: أبو عبد الله محمد بن صغير بن القيسرانى بقصيدة أولها: هذى العزائم لا ما تدّعى القضب ... وذى المكارم لا ما قالت الكتب وهذه الهمم اللائى إذا خطبت ... تعثرّت خلفها الأشعار والخطب صافحت يا بن عماد الدين ذروتها ... براحة للمساعى دونها التعب ما زال جدّك يبنى كل شاهقة ... حتى بنى قبة أوتادها الشهب أغرت (¬3) سيوفك في الأفرنج راجفة ... فؤاد رومية الكبرى لها يجب ضربت كبشهم منها بقاصمة ... أودى لها الصلب وانحطت لها الصلب طهّرت أرض الأعادى من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها (¬4) جنب حتى استطار (¬5) شرار الزند قادحه ... فالحرب تضرم والآجال تحتطب من كان يغزو بلاد الشرك مكتسبا ... من الملوك، فنور الدين محتسب ¬

(¬1) في الأصل «سمد» بدون نقط، وما هنا عن: (الروضتين، ج 1، ص 58) وهو بوهمند الثالث. (¬2) هى «كونستانس» وقد تزوجت فتى مغامرا اسمه «رينو دى شاتيون». أنظر: (حبشى: نور الدين والصليبيون، ص 84). (¬3) في الأصل: «أغرب سيوفك في الافرنج راجعة» والتصحيح عن: (الروضتين، ج 1، ص 59). (¬4) في الأصل: «عنهما»، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬5) الأصل: «استطارت» والتصحيح عن المرجع السابق.

ذكر فتح أفامية

ذو غرّة ما سمت والليل معتكر ... إلا تمزق عن شمس الضحى الحجب أفعاله كاسمه في كل حادثة ... ووجهه نائب عن وصفه اللقب ومدحه آخر (¬1) بقصيدة أولها: أقوى الضلال وأقفرت عرصاته ... وعلا الهدى وتبلجت قسماته (¬2) وانتاش دين محمد محموده ... من بعد ما غلبت (¬3) دما عبراته ردّت على الإسلام عصر شبابه ... وثباته من دونه، وثباته [73] أرسى قواعده ومدّ عماده ... صعدا وشيّد سوره سوراته وأعاد وجه الحق أبيض ناصعا ... أصلاته، وصلاته، وصلاته وفى هذه السنة توفى معين الدين أنر القيّم بتدبير دولة مجير الدين آبق بن محمد - صاحب دمشق -. ذكر فتح أفامية وفى سنة خمس وأربعين وخمسمائة سار نور الدين محمود بن زنكى - رحمه الله - إلى حصن أفامية - وهو للفرنج - فقاتل من به، وضيّق عليهم، فاجتمع الفرنج وساروا نحوه ليرحلوه عنه، فلم يصلوا إلا وقد ملكه وملأه ذخائر وسلاحا ورجالا وجميع ما يحتاج إليه، فلما بلغه سير الفرنج رحل عنه، وقد فرغ من أمره، وسار للقائهم، فحين رأوا قوة عزمه، وأن الحصن قد ملك، عدلوا عن طريقه، ودخلوا بلادهم. ¬

(¬1) هو الشاعر أحمد بن منير. أنظر: (الروضتين، ج 1، ص 60). (¬2) الأصل: «نسماته» والتصحيح عن المرجع السابق. (¬3) كذا في الأصل، ولعلها «هملت».

ذكر انهزام نور الدين من الفرنج

ذكر انهزام نور الدين من الفرنج في سنة ست وأربعين وخمسمائة جمع نور الدين - رحمه الله - عساكره، وسار إلى بلاد جوسلين بن جوسلين صاحب تل باشر وعين تاب وعزاز، وكان جوسلين أشد الفرنج شجاعة وأقواهم بأسا وأصحهم رأيا وأعظمهم مكيدة، فجمع جمعا كثيرا من الفرنج وسار نحو نور الدين، فالتقوا، فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر خلق كثير، وكان من جملة الأسرى سلاح دار (¬1) نور الدين، فأخذه جوسلين ومعه سلاح نور الدين، وسيّره إلى الملك مسعود (¬2) بن قلج أرسلان بن سليمن ابن قطلمش السلجوقى - صاحب بلاد الروم - وقال له: «هذا سلاح زوج ابنتك وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه»، وبلغ ذلك نور الدين فعظم عليه. ذكر وقوع جوسلين في أسر نور الدين - رحمه الله - ثم شرع نور الدين في إعمال الحيلة على جوسلين، فأرغب جماعة ممن معه من التركمان، ووعدهم الوعود الجميلة إن أتوه بجوسلين أسيرا أو عقيرا (¬3)، فأدلوا عليه العيون، فاتفق أنه خرج متصيدا فظفر به طائفة منهم فوعدهم بمال جزيل إن أطلقوه، فأجابوه إلى الاطلاق إن حضر المال، فأرسل في إحضاره، فمضى بعضهم [74] إلى الأمير مجد الدين بن الداية - النائب بحلب - وأعلمه الحال، فسيّر عسكرا، فكبسوا أولئك التركمان ومعهم جوسلين، فأخذوه أسيرا وأحضروه إلى نور الدين. ¬

(¬1) سلاح دار أي ممسك أو صاحب سلاح السلطان، وله الاشراف على السلاح خاناه السلطانية، ويختار عادة من بين الأمراء المقدمين. (صبح الأعشى، ج 4، ص 18). (¬2) حكم بين سنتى 510 و 551. أنظر: (Zambaur Op .Cit . P. 143) . (¬3) «عقير» أي جريح. (اللسان).

ذكر فتح تل باشر

وذكر الأمير مؤيد الدولة بن منقذ أن أسر جوسلين إنما كان في سنة خمس وأربعين وخمسمائة، وذكر أن صورة أسره أنه خرج من مدينة تل باشر، وسار في الليل فأدركه النوم، فنزل ومعه نفر يسير من أصحابه، وقال لباقى أصحابه: «انطلقوا فأنا ألحقكم» ونزل فنام، فمرت به سريّة من التركمان اتفاقا، فانهزم أصحابه، وأخذ جوسلين أسيرا، وهم لا يعرفونه، فاجتازوا به من الغد على رجل أرمنى، فجاء وقبّل يده، فقالوا له التركمان: «من هذا؟» فقال: «هذا جوسلين صاحب تل باشر»، فلما عرفوه احتفظوا به؛ وبلغ خبره إلى مجد الدين أبى بكر بن الداية - النائب بحلب - فأحضر التركمان وأعطاهم حتى أرضاهم، وأخذ جوسلين وتركه عنده، فلما وصل نور الدين إلى حلب كحل جوسلين وأهلكه. ذكر فتح تل باشر وكاتب النواب بتل باشر في هذه السنة نور الدين - أعنى سنة ست وأربعين وخمسمائة - في أن يتسلمها، وكان نور الدين - رحمه الله - نازلا بدمشق، فكتب إلى مجد الدين أبى بكر بن الداية ليمضى إليها ويتسلمها، فمضى إليها وتسلمها يوم الخميس لخمس بقين من ربيع الأول من السنة؛ ثم تسلم عين تاب وعزاز وتل خالد وقورس والراوندان وبرج الرصاص وحصن البارة وكفر سود وكفرلاثا (¬1) في مدة قريبة، وسنذكر ذلك. وفى أسر جوسلين يقول محمد بن صغير بن القيسرانى من قصيدة: كما أهدت الأقدار للقمص أسره ... وأسعد قرن من حواه لك الأسر ¬

(¬1) هذه كلها هى القلاع والمدن والحصون المحيطة بتل باشر من أملاك جوسلين. وقد أضاف إليها (ابن الأثير، ج 11، ص 58): «دلوك ومرعش ونهر الجوز وغير ذلك من أعماله». وللتعريف بها جميعا انظر: (ياقوت، معجم البلدان).

ذكر كسرة الفرنج بدلوك وفتحها

طغى وبغى (¬1) عدوا على غلوائه ... فأورثه البغى العداوة والكفر وأمست عزاز كاسمها بك عزة ... تشق على النّسرين لو أنها وكر كأنى بهذا العزم لا فلّ حدّه ... فأقصاه بالأقصى وقد قضى الأمر [75] فسروا ملك (¬2) الدنيا ضياء وبهجة ... فبالأفق الداجى [إلى (¬3)] اذا السنا فقر وقد أصبح البيت المقدس طاهرا ... وليس سوى جارى الدماء له طهر ذكر كسرة الفرنج بدلوك (¬4) وفتحها وفى سنة سبع وأربعين وخمسمائة تجمعت الفرنج وحشدت فارسهم وراجلهم وساروا نحو نور الدين محمود بن زنكى - رحمه الله - وهو ببلاد جوسلين ليمنعوه من تملكها وأخذها، فوصلوا إليه وهو بدلوك، فوقع المصاف بها، واقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان عليه، فانكسر الفرنج، وقتل منهم وأسر عدد كثير، وملك دلوك واستولى عليها. ذكر استيلاء محمود بن زنكى على مدينة دمشق وخروج الملك عن بيت طغتكين آخر من ملك دمشق من بيت الأمير ظهير الدين أتابك طغتكين الأمير مجير الدين آبق بن جمال الدين محمد بن تاج الملوك (¬5) بورى بن طغتكين، وكان القيّم ¬

(¬1) الأصل: «طغا وبغا». (¬2) كذا في الأصل، ولعلها: «واملأ». (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة: (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 58). (¬4) هكذا ضبطها ياقوت وقال إنها بليدة من نواحى حلب بالعواصم، (¬5) في الأصل لفظ «بن» زائدة بين «تاج الملوك» و «بورى».

بتدبير أمره معين الدين أنر مملوك جده، وكان الحكم له، وليس لمجير الدين إلا مجرد الاسم، ثم توفى معين الدين سنة أربع وأربعين وخمسمائة. ولما كانت هذه السنة - وهى سنة سبع وأربعين وخمسمائة - نازل الفرنج عسقلان - وهى للمصريين - فأخذوها وكان نور الدين لما نازل العدو عسقلان يتأسف إذ لا يمكنه الوصول إليهم، ودفعهم عنها بسبب توسط دمشق بينه وبينهم، فلما ملكها العدو وقووا وطمعوا في ملك دمشق، واستضعفوا مجير الدين، وتابعوا الغارة على أعماله، وأكثروا القتل بها والنهب والسبى، وأفضى الأمر بالمسلمين إلى أن جعل الفرنج على دمشق قطيعة في كل سنة، وكان رسولهم يجئ ويجبيها من البلاد؛ ثم اشتد البلاء حتى أرسل الفرنج واستعرضوا عبيدهم وإماءهم الذين نهبوا من سائر بلاد النصرانية، وخيّروهم بين المقام عند مواليهم والعود إلى أوطانهم، فمن أحب المقام تركوه، ومن أحب وطنه سار إليه، وقلّت حرمة مجير الدين عند أهل دمشق إلى أن حصروه في القلعة مع إنسان من أكابر أهل البلد يقال له مؤيد الدين ابن الصوفى. ولما اتصل ذلك بنور الدين لحقته الحميّة، وخاف من [76] استيلاء العدو على بلاد المسلمين، وأهمّه أهل دمشق، وعمل الحيلة في ملكها حيث علم أنه إن قصدها ورام أخذها بالغلبة استمال صاحبها الفرنج واستعان بهم على حربه، فاستمال نور الدين حينئذ مجير الدين صاحبها ولاطفه وأظهر مودته وواصله بالهدايا والتحف حتى وثق به، ثم كان في بعض الأحيان يقول له: «إن فلانا من الأمراء قد كاتبنى في تسليم البلد إلىّ»، فيبعد مجير الدين ذلك الأمير ويأخذ إقطاعه، وفعل ذلك مرارا حتى أبعد مجير الدين عنه أكثر الأمراء، وبقى عنده أمير يقال له عطاء بن حفاظ السلمى، وكان شهما شجاعا، ففوّض إليه مجير الدين أمر دولته؛ وكان نور الدين

ذكر منازلة نور الدين - رحمه الله - حارم

لا يتمكن معه مما يريد، فاتفق أن مجير الدين قبض عليه وقتله، فتم غرض نور الدين إلى دولته، وكاتب الأحداث بدمشق ووعدهم الإحسان إليهم واستمالهم إليه، ثم سار إلى دمشق وحصرها، فأرسل مجير الدين إلى الفرنج وبذل لهم الأموال، ووعدهم تسليم بعلبك إليهم إن نجدوه ورحّلوا نور الدين عنه؛ فجمعوا فارسهم وراجلهم، ولم يجتمع جمعهم إلا وقد تسلّم نور الدين البلد. وكان صورة تسلمه له أن الأحداث ثاروا وفتحوا الباب الشرقى فدخله نور الدين وملك البلد، وحصر مجير الدين في القلعة، وراسله في التسليم، وبذل له إقطاعا من جملته حمص، فأجاب إلى ذلك، وسلم قلعة دمشق إلى نور الدين، وسار إلى حمص ثم إنه راسل أهل دمشق ليسلموا إليه البلد، وعلم نور الدين بذلك، فأخذ منه حمص، وسلّم إليه بالس، فلم يرضها، وسار عنها إلى بغداد وأقام بها، وابتنى دارا بالقرب من مدرسة النظامية، وتوفى بها، وصفت الممالك بالشام لنور الدين. وذكر ابن الأثير أن فتح تل باشر كان في هذه السنة، وأن نور الدين بعث إلى حسّان - صاحب منبج - في أن يتسلمها فتسلمها. وكنا حكينا عن ابن منقذ أن تسلمها كان في سنة ست وأربعين، وما ذكره ابن الأثير هو الأصح، فإنه ذكر أنه لما ورد عليه رسل النواب بتل باشر يبذلون التسليم إليه كان نور الدين نازلا على دمشق، ومنازلة الماء كانت في هذه السنة. ذكر منازلة نور الدين - رحمه الله - حارم [77] وفى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة حاصر نور الدين محمود بن زنكى - رحمه الله - قلعة حارم وهى لبيمند - صاحب أنطاكية -؛ فجمع الفرنج وسار إلى لقائه، فمنعوها منه، وكان في الحصن رجل من دهاة الأفرنج يرجعون إلى رأيه

ذكر استيلاء نور الدين على بعلبك

وعقله، فأرسل إليهم يقول لهم: «إننا نقدر على حفظ القلعة، وليس بنا ضعف، فلا تخاطروا باللقاء، فإنه إن هزمكم أخذها وغيرها، والرأى مطاولته، فأرسلوا إليه وصالحوه على أن تعطوه نصف أعمال حارم». واصطلحوا على ذلك ورحل عنهم. وفى سنة اثنين وخمسين وخمسمائة كانت الزلزلة العظيمة التي هدمت حماة وشيزر، وهلك تحت الردم بنو منقذ (¬1) الكنانيون - أصحاب شيزر - فبادر إليها نور الدين فملكها، وأضافها إلى ممالكه، وكانت هذه الزلزلة عظيمة جدا، أهلكت حماة وشيزر، وذكر بعض من أدركها أنه قال بعض معلمى الكتاب: «كان عندى خلق من الصبيان هلكوا كلهم، فما جاء أحد من أقاربهم سأل عن هلاك من هلك له»، وهذا يدل على أنها أهلكت أقارب أولئك الصبيان كلهم، وكانوا بنو منقذ اجتمعوا ذلك اليوم في مكان، وعندهم قرد يلعب بين أيديهم، فوقع البناء عليهم فأهلكهم كلهم، ولم يسلم إلا ذلك القرد، فإنه هرب إلى بستان هناك من شباك الدار التي كانوا فيها، فسلم وحده، وارتدم الحصن الذى لهم حتى كأنه لم يكن. ذكر استيلاء نور الدين على بعلبك وفى هذه السنة - سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة - ملك نور الدين بعلبك، وقد ذكرنا تملك عماد الدين بن زنكى لها، تم تسليم نائبه بها نجم الدين أيوب بن شاذى بعلبك إلى صاحب دمشق، فاستناب بها رجلا يقال له ضحّاك البقاعى (¬2)، فلما ملك ¬

(¬1) لاستيفاء أخبار شيزر وحصنها وأخبار الزلزال وأخبار بنى منقذ أنظر: (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 82 - 83) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 104 - 105) و (محمد حسين: أسامة بن منقذ) و (طاهر النعسانى: أسامة بن منقذ). (¬2) نسبة إلى بقاع بعلبك. (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 85).

ذكر استيلاء نور الدين على مدينتى بصرى وصرخد

نور الدين دمشق امتنع ضحّاك ببعلبك، ولم يمكن نور الدين محاصرتها لقربها من الفرنج، وخاف إن حاصرها يسلمها ضحّاك إليهم، فتلطف الحال معه إلى أن عوّضه عنها وتسلّمها، وفى ذى الحجة من هذه السنة توفى عز الدين الدبيسى صاحب جزيرة ابن عمر، وهو من أكبر الأمراء العمادية. [78] ذكر استيلاء نور الدين على مدينتى بصرى وصرخد كانت صرخد بيد الأمير أمين الدولة كمشتكين (¬1) من جهة الأمير ظهير الدين أتابك طغتكين، وكان ببصرى التيتاش (¬2) غلام أمين الدولة، فتوفى أمين الدولة في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فصار غلامه التيتاش إلى صرخد فملكها، واجتمعت له بصرى وصرخد، وأظهر المشاقة لصاحب دمشق، وسار إلى الفرنج يستنجد بهم، فسار الأمير معين الدين أنر مقدم الجيوش بدمشق إلى تلك الناحية، فلما خرج الفرنج لنصرة التيتاش، وهو معهم، سار إليهم معين الدين فكسرهم، وعادوا مخذولين إلى بلادهم، ومعهم التيتاش، ونزل الأمير معين الدين على صرخد وبصرى في ذى القعدة سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وأقام محاصرا لها شهرين فملكها، وانفصل التيتاش عن الفرنج، وعاد إلى دمشق بغير أمان، وكان في أيام ولايته قد قبض على أخيه خطلخ فكحله، وأخرجه من عنده، فلما وصل التيتاش إلى دمشق حاكمه أخوه خطلخ وكحله بالشرع قصاصا، ولما ملك الأمير معين الدين قلعتى بصرى وصرخد، سلم صرخد إلى الأمير مجاهد الدين ¬

(¬1) أمين الدولة كمشتكين نائب قلعتى بصرى وصرخد، ولاه عليهما الأتابك طغتكين؛ أنشأ المدرسة الأمينية في دمشق للفقهاء الشافعية، توفى سنة 541 هـ‍. أنظر: (النعيمى، الدارس في تاريخ المدارس، ص 178 وما بعدها). (¬2) كذا في الأصل، وهو في (ابن القلانسى: ذيل تاريخ دمشق): «التونتاس» و «اليونياس»؛ وفى: (الروضتين، ج 1، ص 50): «التونتاش».

ذكر خروج أمير أميران بن زنكى على أخيه نور الدين

بزان بن يامين (¬1) الكردى، وسلّم بصرى إلى حاجبه فارس الدولة صرخيك (¬2)، ثم توفى مجاهد الدين بزان بصرخد ليلة ثانى صفر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فملكها بعده ولده سيف الدين محمد بن بزان، فأخذها منه نور الدين - رحمه الله - بعد امتناع، وعوّضه عنها حصن أبى قبيس، وقتل فارس الدولة صرخيك صاحب بصرى في المحرم سنة خمسين وخمسمائة، قتله ابن الحاجب جواه (¬3) زوج ابنته، فأخذها نور الدين - رحمه الله - وولّى فيها نوابه. ذكر خروج أمير أميران (¬4) بن زنكى على أخيه نور الدين وفى سنة أربع وخمسين وخمسمائة مرض نور الدين - رحمه الله - بقلعة حلب، واشتد مرضه، وأرجف الناس بموته، فجمع أخوه الأصغر أمير أميران بن زنكى الناس، وحصر قلعة حلب، وكان الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذى بحمص، وهو مقطعها، فسار إلى [79] دمشق ليتغلب عليها، وبها أخوه (¬5) نجم الدين أيوب ابن شاذى، فأنكر عليه نجم الدين ذلك وقال: «أهلكتنا، والمصلحة أن تعود ¬

(¬1) في الأصل هنا وفيما يلى: «بران بن مامين»، والتصحيح هنا عن: (النعيمى: الدارس، ج 1، ص 451، هامش 2) حيث ذكر الناشر أن الاسم صحح بعد مراجعة الكتابة المنقوشة على عتبة باب المدرسة المجاهدية الجوانية التي أنشأها باسمه في دمشق. وهو مجاهد الدين أبو الفوارس بزان بن على بن محمد من الأكراد الجلالية وهى طائفة منهم، بلادهم في العراق بنواحى دقوقا من أعمال بغداد، وكان أحد مقدمى الجيش بالشام في دولة نور الدين وناب بصرخد، وتوفى سنة 555 هـ‍. أنظر ترجمته في: (المرجع السابق) و (ابن القلانسى: الذيل، ص 359) و (الروضتين، ج 1، ص 123). (¬2) كذا في الأصل، وفى: (النعيمى: المرجع السابق، ص 452): «صرخك» ولم يستطع الناشر ضبط الاسم. (¬3) كذا في الأصل ولم يستطع الناشر ضبط الاسم. (¬4) هو نصرة الدين محمد بن زنكى، ويقال له أيضا «أمير ميران». (¬5) في الأصل: «أخيه».

ذكر وفاة المقتفى لأمر الله وسيرته

إلى حلب مجدا، فإن كان نور الدين حيّا خدمته في هذا الوقت، وإن كان قد مات فأنا في دمشق تفعل ما تريد من تملكها»؛ فعاد إلى حلب مجدا وصعد القلعة، وأجلس نور الدين في شباك يراه الناس، وكلّمهم فلما رأوه حيّا تفرقوا عن أخيه أمير أميران، فسار إلى حران فملكها، فلما عوفى نور الدين قصد حران فهرب أخوه أمير أميران وترك أولاده بالقلعة، فملكها نور الدين وسلمها إلى الأمير زين الدين على كوجك بن بكتكين - صاحب إربل ونائب أخيه قطب الدين مودود ابن زنكى بالموصل -. ثم سار نور الدين إلى الرقة، وبها أولاد أميرك الجاندار، وهو من أعيان الأمراء العمادية، وكان قد توفى وبقى أولاده، فشفع فيهم جماعة من الأمراء، فغضب، وقال: «هلا شفعتم (¬1) في أولاد أخى لما أخذت منهم حرّان، وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلىّ»، ولم يشفعهم وأخذها منهم. ذكر وفاة المقتفى (¬2) لأمر الله وسيرته قد ذكرنا خلع السلطان مسعود للراشد بالله، وإقامة المقتفى لأمر الله للخلافة، ولما تولى الخلافة أحسن السيرة ولم يتعرض لمحاربة أحد، ولا لتجنيد أجناد، حسب ما اشترطه السلطان مسعود عليه، ثم راسله السلطان ليتصل بأخته فاطمة بنت محمد بن ملكشاه، فأجابه إلى ذلك، وعقد العقد بدار الخلافة على صداق مبلغه مائة ألف دينار، ثم حملت الجهة من همذان إلى بغداد، وصحبتها قاضى القضاة، ¬

(¬1) في الأصل: «تشفعوا» والتصحيح عن: (ابن الأثير، ج 11، ص 95). (¬2) انظر ترجمته في: (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 197) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 96) و (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق 1، ص 234 - 235) و (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 5، ص 332) و (السيوطى: تاريخ الخلفاء، ص 290 - 293).

واستوزر المقتفى يحيى بن هبيرة، فأقام حشمة الدولة؛ ثم توفى السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بباب همذان يوم الأربعاء تاسع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وخمسمائة، فاضطربت الدولة السلجوقية بموته، وكثر الخلف بين ملوكها، فحينئذ تفرد الخليفة المقتفى لأمر الله بأمر العراق، وطرد عنه نواب السلجوقية، وبنى سور بغداد، وجنّد الجنود، وجمع العساكر، وقام وزيره [80] عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة بأعباء مملكته حق القيام، فقصد بغداد السلطان محمد شاه ابن محمود بن ملكشاه طالبا من الخليفة أن يخطب له بالسلطنة، فامتنع الخليفة من ذلك فجمع السلطان الجموع من الأطراف، واستعان بالأمير قطب الدين مودود ابن عماد الدين زنكى - صاحب الموصل -، فسير إليه عسكرا مقدمهم زين الدين على كوجك بن بكتكين صاحب إربل، فنازل السلطان محمد شاه بغداد من يوم السبت ثانى عشر المحرم سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة إلى يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول من هذه السنة؛ ونصب على بغداد المنجنيقات والسلالم، فلم ينل غرضا، وظهر من الخليفة المقتفى لأمر الله من الشجاعة والثبات وبذل العطاء مالا مزيد عليه، ولما طال الحصار ولم ينل السلطان محمد شاه غرضا رحل عن بغداد خائبا، واتفقت وفاة السلطان سنجر بن ملكشاه - عم القوم - صاحب خراسان، وكانت الخطبة مستمرة له ببغداد، فقوى أمر الخليفة بالعراق، وقامت حشمة الدولة العباسية، ورجعت إلى أحسن ما كانت عليه؛ وكان المقتفى لأمر الله فاضلا حسن العقيدة، وله شعر حسن من جملته: قالت أحبك، قلت: كاذبة، ... غرّى بذا من ليس ينتقد لو قلت لى: أشناك، قلت: أجل، ... الشيخ ليس يحبه أحد

وروى أنه وقف يوما على ظاهر مشهد على بن أبى طالب - رضى الله عنه - بالنجف، وكان قد عزم على الدخول إليه لزيارته، فمنعه وزيره عون الدين بن هبيرة (¬1) من ذلك، وصدفه عنه بأقوال قالها له، فتمثل المقتفى بأبيات منجم بن نويرة، وأشار إلى جهة القبر، وهو واقف خارج سور المشهد: لقد لامنى عند القبور على البكا ... رفيقى لتذراف (¬2) الدموع السوافك وقال: أتبكى كلّ قبر رأيته ... لقبر نوى بين اللوى (¬3) فالدّكادك؟ أمن أجل ميت واحد أنت نائح ... على كل قبر أو على كل هالك فقلت له: إن الأسى يبعث الأسى، ... ذرونى، فهذا كله قبر مالك ثم قال مشيرا بأصبعه إلى القبر: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، [81] اللهم أنت قلت وقولك الحق: «وأتوا البيوت من أبوابها»، وهذا باب من أبوابك، اللهم فاغفر لى به كل خطية، واقض لى به كل حاجة، وأكفنى ببركة كل منهم، رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت»، وانصرف. وكانت وفاة المقتفى لأمر الله يوم الأحد ثانى ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وكانت مدة خلافته أربعا وعشرين سنة، وثلاثة أشهر، واثنين (¬4) وعشرين يوما؛ وعمره ست وستون سنة. ¬

(¬1) هو عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة، توفى سنة 560؛ انظر ترجمته في: (ابن طباطبا: الفخرى، ص 276 - 279) (¬2) في الأصل: «بتذراف». (¬3) في الأصل: «بين الثرى والدكادك». (¬4) في (ابن الأثير، ج 11، ص 96) و (ابن الجوزى: المرجع السابق): «وستة عشر يوما».

ذكر بيعة المستنجد بالله

ذكر بيعة المستنجد بالله وفى هذا اليوم بويع ببغداد للخليفة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفى، بنص من أبيه عليه، وبايعه عمومته وبنو عمه، وأقرّ الوزير عون الدين أبا المظفر يحيى بن هبيرة على وزارته، وكان له معظما مكرما لأن والده أوصى إليه بذلك، وبلغ من تقريبه أن بعضهم حكى، قال: «دخلت الدار فوجدت الخليفة المستنجد بالله، وبين يديه وزيره يحيى بن هبيرة، والخليفة ينشده شعرا لنفسه يمدح به وزيره، وهو: صفت نعمتان، خصّتاك وعمّتا، ... فذكرهما حتى القيامة يذكر: (¬1) وجودك والدنيا إليك فقيرة، ... وجودك والمعروف في الناس ينكر فلو رام يا يحيى مقامك جعفر ... ويحيى لكفا عنه يحيى وجعفر ولم أر من ينوى لك الشرّ يا أبا ال‍ ... مظفّر إلا كنت أنت المظفّر ذكر حصر نور الدين مدينة حارم وفى سنة سبع وخمسين وخمسمائة جمع نور الدين محمود بن زنكى - رحمه الله - العساكر وسار بهم إلى حارم، فحصرها وجدّ في قتالها، فامتنعت عليه لحصانتها وكثرة من بها من فرسان الفرنج وشجعانهم ومقاتيلهم، ولما علم الفرنج منازلة نور الدين حارم جمعوا فارسهم وراجلهم واستعدوا وحشدوا، وساروا نحوه ليرحلّوه عنها، فلما قاربوه طلب منهم المصاف، فلم يجيبوا إليه، وراسلوه، وتلطفوا معه الحال، فلما رأى عجزه عن أخذ الحصن وأنهم (¬2) لا يجيبونه إلى المصاف عاد إلى بلاده. ¬

(¬1) في (ابن الجوزى، ج 10، ص 214): «ينشر». (¬2) في الأصل: «وأنه».

ذكر هزيمة نور الدين من الفرنج

ذكر هزيمة نور الدين من الفرنج وفى سنة ثمانية وخمسين وخمسمائة [82] جمع نور الدين - رحمه الله - العساكر، فنزل بالبقيعة، تحت حصن الأكراد، عازما على دخول بلادهم، ومنازلة اطرابلس؛ فبينا الناس في بعض الأيام في خيامهم وإذا بصلبان الفرنج وراء الجبل الذى عليه الحصن، فكبسوا المسلمين، ووضعوا فيهم السيف، وأكثروا فيهم القتل والأسر، وقصدوا خيمة نور الدين محمود، فخرج من ظهر خيمته عجلا بغير قباء، فركب فرسا (¬1) هناك للنوبة، ولسرعته ركبه وفى رجله الشبحة (¬2)، فنزل إنسان من الأكراد فقطعها، فنجا نور الدين، وقتل الكردى، فسأل نور الدين من بعد ذلك عن مخلفيه فأحسن إليهم جزاء الفعلة. وكان أكثر القتل في السوقة، وسار نور الدين إلى حمص، فنزل ظاهرها، وأحضر ما يحتاج إليه من الخيام فنصبها على بحيرة قدس، وكان الناس يظنون أنه لا يقف دون حلب، واجتمع إليه كل من نجا من المعركة، وأرسل إلى دمشق، وأحضر الأموال والدواب والأسلحة والخيام وجميع ما يحتاج إليه، وفرّق ذلك على من سلم، ومن قتل أقرّ إقطاعه على أولاده، ومن لم يكن له أولاد فعلى بعض أهله، فعاد العسكر (¬3) في مدة قريبة كأنه لم يفقد منه أحد؛ فرحمه الله وقدّس روحه، وهكذا فلتكن الملوك. ¬

(¬1) في الأصل: «فرس». (¬2) كذا في الأصل، وفى (اللسان): «الشبحة العود»، ولعل المقصود أن رجل الفرس كانت لا تزال مربوطة إلى الوتد. (¬3) بعد هذا اللفظ في الأصل: «كأنه لم يفقد منه أحد» وقد حذفها الناشر لأنها تكرار من الناسخ يخل بالمعنى.

ولما انهزم العسكر الإسلامى عن الفرنج - لعنهم الله - ظنوا أنهم لا يقوم لهم قائمة بعدها، وصمموا على قصد حمص وأخذها، فلما بلغهم مقام نور الدين عندها، قالوا: «لم يفعل هذا إلا وعنده من القوة أن يمنعنا»؛ وأكثر نور الدين من الخرج، فذكر أنه قسّم في يوم واحد مائتى ألف دينار سوى غيرها من الدواب والسلاح والخيام، وتقدم إلى الديوان أن يحصروا الجند، ويسألوا كل واحد عن الذى أخذ منهم، فكلما ذكر شيئا أعطوه عوضه، فحضر بعض الجند وادعى شيئا كثيرا علم بعض النواب كذبه فيما ادعاه لمعرفتهم بحاله، فأرسلوا إلى نور الدين وأنهوا إليه القضية واستأذنوه في تحليفه على ما ادعاه، فخرج الجواب: «لا تكدروا عطاءنا، فإنى أرجو الأجر والثواب [83] على قليله وكثيره». ومن أحسن ما يؤثر عنه أنه قال له أصحابه: «إن لك في بلادك إدرارات كثيرة وصلات عظيمة للفقهاء والفقراء والصوفية والقراء، فلو استعنت الآن بها لكان أمثل»، فغضب وقال: «والله إنى لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عنى وأنا نائم في فراشى بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عنى إلا إذا رآنى، بسهام قد تخطئ وتصيب؟ ثم هؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال أصرفه إليهم، كيف أعطيه غيرهم؟» فسكتوا. وراسلت الفرنج نور الدين في معنى المهادنة، فامتنع، فتفرقوا في بلادهم؛ وفى هذه الوقعة يقول مهذب الدين بن أسعد الموصلى (¬1) المدرس بحمص قصيدة منها: ¬

(¬1) هو أبو الفرج عبيد الله بن أسعد بن على بن عيسى الموصلى الحمصى المعروف بابن الدهان. الفقيه الشافعى الشاعر وينعت بمهذب الدين، توفى سنة 559 هـ‍. ترجم له (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 5، ص 365 - 366) قال: «كان فصيحا فقيها فاضلا أديبا شاعرا غلب عليه الشعر واشتهر به، وله ديوان صغير وكله جيد، ورحل البلاد ومدح بمصر الوزير الصالح طلائع بن رزيك وغيره»، أنظر أيضا: (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 128).

ذكر مسير أسد الدين شيركوه الأول إلى مصر

ظبى (¬1) المواضى وأطراف القنا الذبل ... ضوامن لك ما حازوه من نفل وكافل لك كاف ما تحاوله ... عز وحزم (¬2) وبأس غير منتقل (¬3) وما يعيبك ما نالوه (¬4) من سلب ... بالختل، قد تؤسر الأساد بالحيل وإنما أخلدوا حينا إلى خدع ... إذ لم يكن لهم بالجيش من قبل واستيقظوا، وأراد الله غفلتكم ... لينفذ القدر المحتوم في الأزل قنا لقا، وقسىّ غير موترة ... والخيل عارية (¬5) ترعى مع الهمل ما يصنع الليث - لا ناب ولا ظفر - ... بما حواليه: من عفر ومن وعل هلا وقد ركب الأسد الهصور وقد ... سلّو الظبى تحت غابات من الأسل ذكر مسير أسد الدين شيركوه الأوّل إلى مصر ولما كانت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وصل أمير الجيوش أبو (¬6) شجاع شاور ابن مجير السعدى إلى دمشق، وذلك لست مضين من ربيع الأول، مستنصرا بنور الدين على ضرغام بن سوّار الملقب بالمنصور، وكان تغلب على الوزارة وأخرج شاورا منها، وقتل ولده طيّا، والخليفة يومئذ العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله بن يوسف ابن أبى الميمون عبد المجيد [84] الحافظ لدين الله. والحكم للوزراء، من قهر ¬

(¬1) في الأصل: «ظبا». (¬2) في (الروضتين، ج 1، ص 128): «وعزم». (¬3) في المرجع السابق: «منتحل». (¬4) في نفس المرجع: «ما حازوه». (¬5) في: (الروضتين، ج 1، ص 128): «عازبة». (¬6) في الأصل: «نصر بن شجاع، وهو خطأ واضح، واسمه بالكامل: «أبو شجاع شاور بن مجير ابن نزار بن عشائر بن شاس السعدى» انظر ترجمته في: (ابن خلكان: الوفيات ج 2، ص 156 - 160).

بالسيف أخذها، والخلفاء بمصر تحت قهرهم؛ وكان الأمر كذلك من أيام المستنصر بالله معدّ بن الظاهر. وشرط شاور لنور الدين أنه إن سيّر معه العسكر ليقوى بهم على خصمه ضرغام، وينتزع الوزارة منه، أن يكون لنور الدين حصة من البلاد، ويكون شاور متصرفا تحت أمره ونهيه واختياره، فتردد نور الدين - رحمه الله - في إجابته، فتارة يقوى عزمه على ذلك طلبا للزيادة في الملك وليقوى على عدو الدين، فإن لم يكن له - رحمه الله - همة إلا جهادهم؛ وتارة يثنى عزمه خوفا على العساكر من خطر الطريق بسبب توسط الفرنج بينه وبين الديار المصرية. ثم إنه قوى عزمه، وصمم على إجابة شاور إلى ملتمسه، واستخار الله سبحانه في ذلك، فتقدم إلى أسد الدين بالتجهيز للمضى مع شاور، واستصحب معه العساكر، وسارو في صحبته شاور، وسار معهما نور الدين إلى طرف بلاد الإسلام مما يلى بلد الأفرنج في بقية العسكر، ليشغلهم عن التعرض لأسد الدين. وكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين، ثم فارق أسد الدين نور الدين، وسار بمن معه إلى الديار المصرية، وكانت الطريق إذ ذاك شرقى الكرك والشّوبك، على عقبة أيلة (¬1) إلى صدر (¬2) وسويس، ثم إلى البركة (¬3) التي على باب القاهرة. ¬

(¬1) مدينة على ساحل بحر القلزم وهى المعروفة اليوم باسم العقبة اختصارا. انظر أخبارها في: (ياقوت: معجم البلدان) و (المقريزى: الخطط، ج 1، ص 298 - 300). (¬2) هكذا ضبطها ياقوت، وقال إنها قلعة خراب بين القاهرة وأيلة. (¬3) هى بركة الجب، وقد عرفها (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 265 - 267) بقوله: «هذه البركة في الجهة البحرية من القاهرة على نحو بريد منها، عرفت أولا بجب عميرة، ثم قيل لها أرض الجب، وعرفت اليوم ببركة الحجاج من أجل نزول حجاج البر بها عند مسيرهم من القاهرة وعند عودهم. . . إلخ».

ذكر وصول الفرنج إلى الديار المصرية ومحاصرتهم أسد الدين ببلبيس

ولما قارب أسد الدين مصر خرج إلى لقائه ناصر الدين أخو الضرغام بعساكر مصر، فلقيهم، فانهزم ناصر الدين وعاد إلى القاهرة مهزوما، ووصل أسد الدين فنزل على القاهرة في أواخر جمادى الأول سنة تسع وخمسين وخمسمائة، فخرج الضرغام من القاهرة سلخ الشهر، فأدرك وقتل عند مشهد السيدة نفيسة بنت الحسن ابن زيد بن الحسن بن على - رضوان الله عليهم -، وبقى مطروحا يومين، ثم حمل ودفن بالقرافة، وقتل أخوه أيضا. وخلع على شاور خلع الوزارة في مستهل رجب من السنة المذكورة، وأعيد إلى الوزارة وتمكّن منها، وأقام أسد الدين [85] بظاهر القاهرة، وغدر به شاور، ورجع عما كان وافق نور الدين عليه، وأرسل إليه يطلب منه الرجوع إلى الشام، فامتنع أسد الدين، وطلب منه ما وقع الاستقرار عليه، فلم يجبه شاور، فلما رأى أسد الدين إصرار شاور على الغدر، وأرسل نوابه إلى مدينة بلبيس، فتسلموها، وحكم على الأعمال الشرقية، فأرسل شاور حينئذ إلى الفرنج يستمدهم، ويخوفهم من نور الدين إن ملك الديار المصرية ما يطيب لهم معه مقام، وكان الفرنج لما سمعوا بتوجه عساكر نور الدين إلى الديار المصرية قد خافوا خوفا شديدا، وأيقنوا بالهلاك، وأن بلادهم تستأصل، فلما وصلتهم رسل شاور يدعوهم إلى مساعدتهم سروا بذلك، وبادروا إليه. ذكر وصول الفرنج إلى الديار المصرية ومحاصرتهم أسد الدين ببلبيس فسارعوا إلى تلبية شاور، وطمعوا في الديار المصرية، وتجهزوا - بعد وقوع الاتفاق بينهم وبين شاور - على مال كثير يحمله إليهم إن رحّلوا عسكر نور الدين عن البلاد.

ذكر وقوع الصلح بين أسد الدين والمصريين والفرنج

ولما بلغ نور الدين - رحمه الله - توجّه الفرنج إلى مصر سار بالعسكر إلى طرف بلادهم ليمتنعوا عن المسير، فلم يمنعهم ذلك، لعلمهم أن الخطر في تملك أسد الدين مصر أكثر، فتركوا في بلادهم من يحفظها من نور الدين، وتوجّه ملك القدس في بقية عساكره إلى ديار مصر، واستعان بجمع كثير من الفرنج الذين كانوا قد وصلوا لزيارة البيت المقدس، فلما قارب الفرنج مصر قصد أسد الدين شيركوه مدينة بلبيس وأقام بها هو وعسكره، وتحصّن بها، واجتمعت العساكر المصرية والفرنج، ونازلوا بلبيس وحصروها، وحماها أسد الدين وعسكره ثلاثة شهور، مع أن سورها من طين، وليس لها خندق يحميها، وجدّ في قتالهم بكرة وعشية، فلم ينالوا منها غرضا. ذكر وقوع الصلح بين أسد الدين والمصريين والفرنج فبيناهم يجدّون في حصار بلبيس إذ أتاهم الجند بكثرة الفرنج على حارم، وتملك [86] نور الدين لها، ومسيره بعد ذلك إلى بانياس لأخذها، فعظم ذلك عليهم، وخافوا على البلاد فراسلوا أسد الدين في الصلح وتسليم ما أخذه من البلاد إلى المصريين، ففعل ذلك، لأن الأقوات قلّت عليه، وعلم عجزه عن مقاومة الفريقين؛ فصالحهم، وخرج من بلبيس في ذى الحجة من هذه السنة، فذكر من شجاعته وشهامته التي لم يسمع بمثلها أن أصحابه خرجوا بين يديه، وخرج خلفهم وبيده لتّ (¬1) حديد، وهو يحمى ساقتهم، والمسلمون من المصريين، والفرنج، ينظرون إليه ويتعجبون منه، فأتاه إفرنجى من الغربا (¬2)، وقال: «أما تخاف ¬

(¬1) لفظ فارسى، وجمعه «لتوت»، ومعناه القدوم أو الفأس الكبيرة. انظر: (محيط المحيط) و (Dozy : Supp .Dict .Arab) . (¬2) يقصد أنه افرنجى من الوافدين من أورباء لا من الفرنج المستقرين في الشام.

أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك، فلا يبقى منكم بقية». فقال أسد الدين: «ليتهم، لو فعلوا حتى كنت ترى ما أفعل، كنت والله أضع فيهم السيف، فلا يقتل منا رجل حتى يقتل رجلا، وحينئذ يقصدهم نور الدين وقد ضعفوا وفنيت شجعانهم، فيملك بلادهم، ويهلك من بقى منهم، والله لو أطاعونى هؤلاء لخرجت إليكم أول يوم، ولكنهم امتنعوا»، فصلّب الفرنجى على وجهه وقال: «كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في وصفك وخوفهم منك، والآن فقد عذرناهم». ثم سار أسد الدين إلى الشام سالما، وكان الفرنج قد وضعوا له في الطريق رصدا ليأخذوه، فعلم بذلك، فعاد عن تلك الطريق، ففى ذلك يقول عمارة يمدحه من قصيدة: أخذتم على الإفرنج كلّ ثنيّة ... وقلتم لأيدى الخيل مرّى على مرّى لئن نصبوا في البرّ جسرا فإنّكم ... عبرتم ببحر من حديد على الجسر (¬1) ووصل أسد الدين إلى نور الدين، وفى عود الوزارة إلى شاور بعد عزله عنها يقول عمارة بن على اليمنى، يمدحه من قصيدة: فنصرت في الأولى بضرب (¬2) زلزل ال‍ ... ـلأقدام، وهى شديدة الإقدام ونصرت في الأخرى بضرب صادق ... أضحى يطير به غراب الهام [87] أدركت ثأرا، وارتجعت وزارة ... نزعا بسيفك من يدى ضرغام وفى حصار بلبيس والانتصار على أسد الدين شيركوه، يقول عمارة من قصيدة يمدح بها العاضد ووزيرة شاور أولها: إنّ السعادة قد أظل زمانها ... وافترّ عن ثغر الهنا ألوانها ¬

(¬1) ورد هذان البيتان في: (عمارة: النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية، ج 1، ص 80). (¬2) في (المرجع السابق، ص 89): «برعب». وهناك أبيات كثيرة أخرى هى بقية القصيدة.

وافاك أول عامها بمسرّة ... لا الفطر أهداها ولا رمضانها مجدا بنى عبد المجيد فإنكم ... من دوحة نبويّة أغصانها كم آية رويت، لكم أسرارها ... آل الوصىّ، وللورى إعلانها وهب الخلافة شاركوكم في اسمها ... أو ليس فرّق بينكم فرقانها فكأنما تأويلكم أرواحها ... وكأنما تفسيركم أبدانها نطقت بآية نصركم من شيركوه (¬1) ... سير يزيد على السماع عيانها أخبرتمونا عنه قبل مجيئه ... أخبار صدق صحّ عنه بيانها وكأنّ علم الحادثات (¬2) وديعة ... مخزونة، وصدوركم خزّانها تأتى الأمور وقد سطرتم ذكرها ... فيكون بعد حديثكم حدثانها ومنها (¬3) في مدح شاور: ولقد دفعت إلى ثلاث (¬4) نوائب ... كادت تشيب لهولها ولدانها فعصابة غزيّة غادرتها ... وأجلّ ما ترجوه منك أمانها وعصابة روميّة عاشرتها ... فتأدّبت وتهذّبت أذهانها وعصابة مصريّة بك (¬5) أصبحت ... فوق البريّة راجحا ميزانها خلّصت كلّ قبيلة من ضدّها ... لما التوت وتعقدت عقدانها (¬6) أشبهت نوحا مدة وهداية ... في أمة متزايد طغيانها ¬

(¬1) في الأصل: «في شيركو» والتصحيح عن: (ديوان عمارة، ص 368). (¬2) في الديوان: «الكائنات». (¬3) بهذا اللفظ يتقابل النص مرة أخرى مع نسخة س في أول (ص 27 ا). (¬4) في س (ص 27 ا): «سكـ» بدون نقط والتصحيح عن: (ديوان عمارة، ص 369). (¬5) في س (ص 27 ا) «لك». (¬6) في: (عمارة: النكت العصرية، ج 1، ص 83): «اشطانها».

ذكر فتح حارم وكسر الفرنج

وتداركت بلبيس منك عواطف ... يسع الزمان وأهله غفرانها [88] أقسمت لولا حسن رأيك لاغتدى ال‍ ... ـناقوس في بلبيس وهو أذانها بلد لو انهدمت قواعد سوره (¬1) ... بيد النصارى لم يعد بنيانها ومنها في عود الوزارة إليه: كانت وزارتك القديمة مشرعا ... صفوا، ولكن كدّرت غدرانها غصبت رجال تاجه وسريره ... من بعد ما سجدت له تيجانها أخلى لهم (¬2) دست الوزارة عالما ... أن سوف ينزغ بينهم شيطانها (2) قد كان أودع (¬3) في الرقاب صنائعا ... كفرت به، فأبادها (¬4) كفرانها ذكر فتح حارم وكسر الفرنج لما قصد الفرنج ديار مصر - كما تقدم ذكره - أراد نور الدين - رحمه الله - قصد بلاد الفرنج ليعودوا عن مصر، فاستعد للجهاد، وكاتب أخاه قطب الدين مودود ابن عماد الدين زنكى - صاحب الموصل - وقرا أرسلان (¬5) بن داوود بن سقمان بن أرتق - صاحب حصن كيفا والديار الجزيرية -، ونجم الدين ألب أرسلان بن تمرتاش ابن إيلغازى بن أرتق - صاحب ماردين - وأصحاب الأطراف يدعوهم إلى مساعدته على الجهاد، فجمع قطب الدين مودود عساكره وسار إلى نجدة أخيه؛ وأما فخر الدين ¬

(¬1) في س: «سورها». (¬2) في س: «احلاهم» «وبسطانها». (¬3) في س: «أصنع». (¬4) في الأصل: «فأوداها به»، والتصحيح عن: (المرجع السابق، ص 84). والذى رواه المؤلف هنا أبيات مختارة، والقصيدة في (الديوان) و (النكت) أكثر أبياتا، فانظرها هناك. (¬5) في الأصل: «قرأ رسلان»، وما هنا عن: س (ص 27 ا)

صاحب الحصن فقال له ندماؤه وخواصه: «على أي شئ عزمت (¬1)؟» فقال: «على القعود؛ فإن نور الدين قد تحشف (¬2) من كثرة الصوم والصلاة، فهو كل يوم يلقى نفسه في وقعة، والناس معه في المهالك»؛ فوافقه أصحابه على هذا الرأى؛ فلما كان الغد أمر أصحابه بالتجهز للغزاة، فقال له أصحابه: «ما عدا مما (¬3) بدا؟ فارقناك بالأمس على حال ونرى منك اليوم على (¬4) ضدها»؛ فقال: «اعلموا أن نور الدين قد سلك معى طريقا إن لم أنجده خرج أهل بلادى عن طاعتى، وأخرج البلاد عن يدى، فإنه قد كاتب زهّادها وعبّادها يذكر لهم ما لقى المسلمون (¬5) من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر، ويستمدهم الدعاء، وطلب منهم أن يحثّوا المسلمين على الغزاة؛ [89] وقد قعد (¬6) كل واحد منهم ومعه أصحابه وأتباعه يقرأون كتب نور الدين ويبكون، ويلعنونى ويدعون علىّ، ولا بد من المسير إليه» ثم إنه تجهز وسار إليه. وأما صاحب ماردين فإنه سيّر إليه عسكرا [وكذلك سار إليه كل من كاتبه] (¬7)، ولما اجتمعت العساكر عند نور الدين - رحمه الله - نازل حازم ونصب عليها المجانيق، فاجتمع من بقى في الساحل من الفرنج، وجاؤوا إليه في جموعهم، ومعهم بمند صاحب أنطاكية وابن جوسلين وغيرهما، وقصدوا نور الدين - رحمه الله - فرحل عن حارم إلى أرتاح، وطمع في أن يتبعوه فيتمكن منهم ببعدهم عن بلادهم ¬

(¬1) في س (27 ب): «قد عولت». (¬2) في س: (27 ب): «نشف». (¬3) في س: «فيما». (¬4) في س: «الآن ضدها». (¬5) في الأصل وفى (س): «المسلمين». (¬6) في س (ص 27 ب): «مدمعه» بدون نقط. (¬7) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ص 27 ب).

إذا لقوه، فساروا ونزلوا على عمّ (¬1)، ثم علموا عجزهم عن لقائه، فعادوا إلى حارم، فتبعهم نور الدين في عساكره، فلما تقاربوا اصطفوا للقتال، فحمل الفرنج على ميمنة المسلمين - وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن - فانهزموا، وتبعهم الفرنج، فأبعدوا عن راجلهم، فحينئذ عطف الأمير زين الدين على كوجك في عساكر الموصل على راجل الإفرنج فأفناهم قتلا وأسرا، فعادت خيّالتهم الذين ساقوا وراء المنهزمين خوفا على راجلهم، فلما عادوا عاد المنهزمون، وحملوا على الإفرنج، وأحدق المسلمون بهم من كل جانب، واشتدت الحرب، وقامت على ساق، فتمت الهزيمة على الفرنج، وأنزل الله سبحانه [وتعالى] نصره على المسلمين وأسر من الفرنج ما لا يحد، ومن جملة الأسرى: صاحب أنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، وابن جوسلين؛ وقتل منهم ما يزيد على عشرة آلاف [فارس وراجل (¬2)]. وسار نور الدين - رحمه الله - إلى حارم، فتسلمها لتسع بقين من رمضان من هذه السنة، - أعنى سنة تسع وخمسين وخمسمائة - وأشار عليه أصحابه بالمسير إلى أنطاكية ليملكها، لخلوها ممن يحميها ويدفع عنها، فامتنع، وقال: «أما المدينة فأمرها سهل، وأما القلعة فهى منيعة لا تؤخذ إلا بعد حصار طويل، وإذا ضيّقنا عليهم أرسلوا إلى صاحب القسطنطينية فيسلموها إليه، ومجاورة بيمند أحب إلينا من جوار ملك الروم». ثم أطلق نور الدين بيمند صاحب أنطاكية على أن يحمل أموالا كثيرة وأسرى من المسلمين أطلقهم. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وهى في س (27 ب): «غم»، وعم قرية من أعمال حارم وتقع في منتصف الطريق تقريبا بين حلب وأنطاكية، انظر: (ياقوت: معجم البلدان) و (ابن الشحنة: تاريخ مملكة حلب، ص 167). (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ص 28 ا).

ذكر فتح بانياس

وفى هذه السنة توفى جمال الدين محمد بن [90] على الأصفهانى (¬1) وزير قطب الدين مودود بن [عماد الدين (¬2)] زنكى - صاحب الموصل -، وكان عظيم القدر جوادا حسن السيرة؛ ولما توفى حمل إلى مكة - حرسها الله تعالى - وطيف بنعشه حول الكعبة المعظمة، ثم حمل إلى المدينة فدفن بها في تربة بنيت له قريبا من الحجرة المقدسة - على ساكنها [أفضل (2)] الصلاة والسلام -. (3) ذكر فتح بانياس كانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة - كما ذكرنا (¬3) -، ولما فتح نور الدين - رحمه الله - حارم أذن للعساكر الموصلية والديار بكرية بالعود إلى بلادهم، وأظهر أنه يقصد طبرية، فجعل الفرنج همتهم حفظها، فسار مجدّا إلى بانياس لعلمه بقلة المانعين لها، فنازلها وضايقها، ومعه أخوه الأمير نصرة الدين أمير أميران بن [عماد الدين (4)] زنكى، -[وكان قد عاد إلى خدمة أخيه نور الدين، وقد رضى عنه نور الدين وأعطاه ما أراد (¬4)]- فأصابه سهم أذهب إحدى عينيه، فقال له نور الدين: «لو كشف لك عن الأجر الذى أعدّ لك لتمنيت ذهاب الأخرى». وجدّ - رحمه الله - في حصارها، فحشد الفرنج وجمعوا ليمنعوه منها، ففتحها قبل أن يتكامل جمعهم، وملك القلعة وملأها ذخائر ورجالا، ثم عاد إلى دمشق، وكان في يده خاتم يسمى الجبل بفص ياقوت من أحسن الجوهر لكبره وحسنه، فسقط من يده في شعرا بانياس، وهى كثيرة الأشجار، ملتفة الأغصان، فلما أبعدوا ¬

(¬1) انظر ترجمته في: (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 115). (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن: س (ص 28 ا). (¬3) ما بين الرقمين غير موجود في س. (¬4) ما بين الحاصرتين زيادات عن: س (ص 28 ب).

عن المكان الذى ضاع فيه [الخاتم (1)] علم به [نور الدين (1)]، فأعاد بعض أصحابه في طلبه، ودلّهم على المكان الذى كان آخر علمه وعهده به، فعادوا فوجدوه، فقال بعض الشعراء يمدحه من قصيدة [أولها (¬1)]: إن يمترى الشّكّاك فيك بأنك ال‍ ... ـمهدىّ مطفى (¬2) جمرة الدجّال فلعودة الجبل الذى أضللته ... بالأمس بين غياطل وجبال لم يعطها إلا سليمان، وقد ... نلت المنى (¬3) بموشك (¬4) الإعجال زجر جرى لسرير مالك إنه ... كسريره عن كل جذع (¬5) عال فلو البحار السبعة استهوينه ... وأمرتهن (¬6)، قذفنه في الحال [قال: وفى سنة ستين وخمسمائة مات الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة، ذكر القاضى شهاب الدين (¬7) في تاريخه، قال: كان الوزير ابن هبيرة عالما ورعا عفيفا محبا لأهل العلم محسنا إليهم، وزير الخليفتين] (¬8). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادات عن: س (ص 28 ب). (¬2) في الأصل: «فتطفى» وفى س (28 ب): «وتطفى»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 1، ص 140). (¬3) في الروضتين: «الرقاء»، وفى (ابن الأثير، ج 11، ص 114): «نبت الربا بموشك الاعجال». (¬4) في الأصل وفى (س): «بموسك» وما هنا عن الروضتين. (¬5) في الأصل: «جد» وفى الروضتين: «جدر»، وما هنا عن (س). (¬6) في الأصل وفى (س): «وأمرته لقذفنه»، والتصحيح عن الروضتين. (¬7) القاضى شهاب الدين هو شهاب الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسى أبو شامة، وتاريخه هو «كتاب الروضتين في أخبار الدولتين». انظر ترجمة ابن هبيرة بهذا التاريخ (ج 1، ص 141). (¬8) ما بين الحاصرتين زيادة أضفناها عن س (ص 28 ب)، وبها تنتهى الصفحة ويضطرب النص مرة أخرى في تلك النسخة، وبالتالى تنقطع الصلة بينه وبين نص النسخة الأصلية (ك).

ذكر فتح حصن المنيطرة

[91] ذكر فتح حصن المنيطرة وفى سنة إحدى وستين وخمسمائة فتح الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى - رحمهما الله - حصن المنيطرة، وكان بيد الفرنج، سار إليه جريدة، وانتهز (¬1) الفرصة فيه، وجدّ في قتاله عنوة وقهرا، وقتل من به، وسبى (¬2) وغنم غنيمة كثيرة، وذكر القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - أن الواقعة كانت سنة اثنتين وستين وخمسمائة. ذكر مسير أسد الدين شيركوه بن شاذى المسير الثانى إلى مصر وفى سنة اثنتين وستين وخمسمائة سيّر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى - رحمة الله عليهما - أسد الدين شيركوه إلى مصر ليملكها، وذلك لما ثبت في نفسه من غدر شاور به ورجوعه عما كان وقع من العهد والاتفاق عليه، وسيّر معه جمعا من الأمراء، فبلغت عدتهم ألفى فارس، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة، وسار معه نور الدين إلى أطراف البلاد خوفا من معرة «كذا (¬3)» الافرنج. ¬

(¬1) أمام هذا اللفظ بالهامش معناه باللغة اللاتينية (captavit occasionem) ويبدو أن كاتبها واحد من المستشرقين الذين قرأوا هذه النسخة بمكتبة جامعة كامبردج. (¬2) في الأصل: «سبا». (¬3) كذا في الأصل، ولا يستقيم بها المعنى، وصيغة (ابن الأثير): «خوفا من حادث يتجدد عليهم فيضعف الاسلام».

وكان صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أيوب بن شاذى مع عمه أسد الدين في هذه السفرة؛ وفى ذلك يقول عرقلة (¬1) الدمشقى يمدح صلاح الدين، وجرى بملكه الفال، والفال موكل بالمنطق: أقول والأتراك قد أزمعت ... مصر إلى حرب الأعاريب ربّ كما ملّكتها يوسف ال‍ ... صدّيق من أولاد يعقوب يملّكها في عصرنا يوسف ال‍ ... صادق من أولاد أيوب من لم يزل ضرّاب هام العدى ... حقا، وضرّاب العراقيب ثم سار أسد الدين - رحمه الله - إلى الديار المصرية (وترك بلاد الافرنج عن يمينه فوصل الديار المصرية) (¬2)، وعبر النيل عند أطفيح (¬3) بالجانب الغربى، ونزل بالبلاد الجيزية، وتصرف في البلاد، وأقام بها نيفا وخمسين يوما. وأرسل شاور - وزير العاضد - يستنجد بالفرنج، فأتوه على الصعب والذلول، وحملهم على ذلك أمران: أحدهما الطمع في تملك الديار المصرية، والثانى الخوف من تملك العساكر النورية لها؛ وعلموا أنه إن ملكها نور الدين - رحمه الله - واستضافها إلى [92] البلاد الشامية لم يبق لهم بالبيت المقدس والشام مقام، وأنه يستأصلهم وتصير بلادهم في وسط بلاده؛ ولما وصلوا مصر اجتمعوا بالعساكر المصرية وعبروا إلى الجانب الغربى. ¬

(¬1) هو حسان بن نمير الكلبى أبو الندى الشاعر المعروف بعرقلة الدمشقى، كان شيخا خليعا أعور مطبوعا لطيفا ظريفا، اختص بالسلطان صلاح الدين وله فيه مدائحه، توفى سنة 567 هـ‍. انظر: (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 6، ص 64) و (سبط بن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق 1، ص 286 - 287). (¬2) هذه الجملة كتبت في هامش الأصل وأشير إلى مكانها بالمتن بعلامة. (¬3) اطفيح حاليا قرية من قرى مركز الصف بمديرية الجيزة، وهى مدينة قديمة كانت تسمى في العصر اليونانى «افروديتوبوليس». انظر: (مصلحة المساحة: فهرس مواقع الأمكنة) و (على مبارك: الخطط، ج 8، ص 77 - 78).

ذكر واقعة البابين

ذكر واقعة البابين وكان أسد الدين شيركوه قد سار بالعساكر في الصعيد إلى أن بلغ إلى مكان يعرف بالبابين (¬1)، فسارت الفرنج والمصريون خلفه، فأدركوه به في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة؛ وكانت جواسيسه قد أخبروه بكثرة عدد الفرنج والمصريين وقوتهم؛ فجمع أصحابه واستشارهم، فكلهم أشاروا عليه بعبور بحر النيل إلى الجانب الشرقى والعود إلى الشام، وقالوا: «إن نحن انهزمنا فإلى من نلتجئ وبمن نحتمى، وكل من في هذه الديار من جندى وفلاح عدو لنا». فقام أمير من مماليك نور الدين يقال له شرف الدين برغش - صاحب الشقيف - وكان شجاعا وقال: «من يخاف القتل والأسر فلا يخدم الملوك، بل يكون في بيته مع امرأته، والله لئن عدنا إلى نور الدين من غير غلبة وبلاء نعذر فيه ليأخذن أموالنا وما معنا من الإقطاع (¬2) والجامكية (¬3)، وليعودن علينا بجميع ما أخذناه منه من يوم خدمناه وإلى يومنا هذا، ويقول: تأخذون أموال المسلمين وتفرون عن عدوهم، وتسلمون مثل مصر إلى الكفار». فقال أسد الدين: «هذا الرأى، وبه أعمل». وقال ابن أخيه صلاح الدين يوسف ابن أيوب مثله؛ وكثر الموافقون، واجتمعت الكلمة على القتال، وأقاموا بمكانهم حتى وصل الفرنج والمصريون وهم على تعبيتهم، فجعل أسد الدين الأثقال في القلب، لا ليتكثر بها لأنه لا يمكنه تركها في مكان آخر خوفا من أن تنهب؛ وجعل صلاح الدين في القلب وقال له ولمن معه: «إن المصريين والفرنج يجعلون حملتهم على القلب، فإذا حملوا عليكم ¬

(¬1) قرية كانت تقع جنوب مدينة المنيا. (¬2) هذا نص قيم له فائدته عند دراسة نظام الاقطاع في عهد نور الدين وعند الأتابكة عموما. (¬3) الجامكية - والجمع جامكيات وجوامك - الراتب. انظر: (Dozy : Supp .Dict .Arab) .

ذكر استيلاء أسد الدين شيركوه على الاسكندرية

فلا تصدقوهم القتال، ولا تهلكوا أنفسكم، واندفعوا من بين أيديهم، فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابهم»؛ واختار هو من شجعان عسكره جمعا يثق بهم، ويعرف [93] صبرهم في الحرب، ووقف بهم في الميمنة، فما اصطفوا للحرب، حمل الفرنج على القلب، فقاتلهم من به قتالا يسيرا، ثم انهزموا بين أيديهم غير متفرقين، وتبعهم الفرنج، وحينئذ حمل أسد الدين بمن معه على من تخلّف من الذين حملوا من المسلمين والفرنج - الفارس والراجل - فهزمهم، ووضع السيف فيهم، وأثخن وأكثر من القتل والأسر. فلما عاد الفرنج من أثر المنهزمين، ورأوا عسكرهم مهزوما، والأرض منهم قفرا انهزموا أيضا، ونصر الله المسلمين. ذكر استيلاء أسد الدين شيركوه على الاسكندرية ثم سار أسد الدين - رحمه الله - إلى ثغر الاسكندرية، وجبى ما في طريقه من القرى، ووصل إلى الاسكندرية، فسلمها أهلها إليه - لميلهم إلى مذهب السنة وكراهتهم لرأى المصريين -، فاستناب بالاسكندرية ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعاد إلى الصعيد، فملكه وجبا أمواله، وأقام به حتى صام شهر رمضان. ذكر محاصرة الفرنج لصلاح الدين يوسف بالاسكندرية وعاد الفرنج والمصريون بعد الوقعة إلى القاهرة، وأصلحوا عساكرهم، وجمعوا ثم ساروا إلى الإسكندرية فحصروا صلاح الدين، واشتد الحصار وقل الطعام بها، فصبر أهلها على ذلك، ولما بلغ ذلك أسد الدين سار من الصعيد إليهم، وكان شاور قد أفسد بعض من معه من التركمان.

ذكر وقوع الصلح بين أسد الدين والفرنج والمصريين

ذكر وقوع الصلح بين أسد الدين والفرنج والمصريين ثم راسل المصريون والفرنج أسد الدين يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن الفرنج لا يقيمون في البلاد، ولا يتملكون منها قرية واحدة، فأجابوا إلى ذلك واصطلحوا، وعاد إلى الشام. وتسلم المصريون الاسكندرية في منتصف شوال، وعاد أسد الدين إلى دمشق لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة، واستقر بين الفرنج والمصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها مع فرسانهم وبأيديهم، ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر إليهم (¬1)، ثم عاد الفرنج [94] إلى بلادهم، وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم. وكان الكامل شجاع بن شاور قد أرسل إلى نور الدين مع بعض الأمراء ينهى محبته وولاءه، ويسأله الدخول في طاعته، وضمن عن نفسه أنه يجمع بمصر الكلمة على طاعته، وبذل له مالا يحمله كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فحمل إلى نور الدين مالا جزيلا. ذكر فتح صافيثا والعزيمة وفى هذه السنة - أعنى سنة اثنتين وستين وخمسمائة - سار قطب الدين مودود ابن عماد الدين زنكى إلى أخيه الملك العادل نور الدين محمود، وجمعا العساكر ¬

(¬1) أضاف (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 122) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1 ص 143) نصا آخر هاما من نصوص هذه المعاهدة، وهو: «ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار».

ودخلا بلاد الفرنج، فاجتازوا على حصن الأكراد (¬1)، فأغاروا ونهبوا وسبوا، ونزلوا عرقة، وحاصروا حلبة، وأخذوها وخربوها، وسارت العساكر إلى بلادهم يمينا وشمالا تغير وتخرب؛ وفتحوا العزيمة وصافيثا، وعادوا إلى حمص، فصاموا بها رمضان، ثم ساروا إلى بانياس، وقصدوا حصن هونين، فانهزم الفرنج عنه، فأخربوه، فوصل إليه نور الدين من الغد، فهدم سوره جميعه، وأراد الدخول إلى بيروت، فتجدد في العساكر خلف أوجب التفرق؛ وعاد قطب الدين إلى الموصل فأعطاه نور الدين الرقة. وفى هذه السنة عصى غازى بن حسّان المنبجى بمنبج (¬2)، وكانت قد صارت له بعد أبيه إقطاعا من نور الدين، فسيّر إليه عسكرا فحصروه، وأخذها منه، وأقطعها أخاه قطب الدين، فأعطاها ينال بن حسّان، فبقى فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وفيها توفى فخر الدين قرا أرسلان (¬3) بن داوود بن سقمان بن أرتق - صاحب حصن كيفا - وأكبر ديار بكر، ولما اشتد مرضه أرسل إلى الملك العادل نور الدين يقول له: «بيننا صحبة في جهاد الكفار، أريد أن ترعى بها ولدى»؛ ثم توفى ¬

(¬1) حصن منيع على الجبل الذى يقابل حمص من جهة الغرب وهو جبل الجليل، وذكر (ياقوت) أن بعض أمراء الشام كان قد بنى في موضعه برجا وجعل فيه قوما من الأكراد طليعة بينه وبين الفرنج، وأجرى لهم أرزاقا، فتدبروها بأهاليهم ثم خافوا على أنفسهم في غارة فجعلوا يحصنونه إلى أن صار قلعة حصينة منعت الفرنج عن كثير من غاراتهم فنازلوه فباعه الأكراد منهم ورجعوا إلى بلادهم وملكه الفرنج. ثم يقول: وبينه وبين حمص يوم. انظر أيضا: (G .Demombynes : La Syrie a l'Epoque des Mamelouks . P. 112). (¬2) إحدى مدن العواصم، وذكر (ياقوت) أنها مدينة كبيرة كان عليها سور مبنى بالحجارة بينها وبين الفرات ثلاثة فراسخ وبينها وبين حلب عشرة فراسخ. (¬3) ولى حكم حصن كيفا من سنة 539 إلى سنة 562 هـ‍. انظر: (Zambaur : Op.Cit . P. 228) .

ذكر فراق الأمير زين الدين على كوجك قطب الدين مودود ابن زنكى صاحب الموصل

فملك بعده ولده نور الدين (¬1) محمود بن قرا أرسلان، فقام الملك العادل نور الدين بنصرته والذبّ عنه، فأراد قطب الدين مودود بن زنكى - صاحب الموصل - قصده، فأرسل إليه أخوه نور الدين ومنعه، وقال: «إن قصدته أو تعرضت إلى بلاده منعتك قهرا»، فامتنع من قصده. ذكر فراق الأمير زين الدين على كوجك قطب الدين مودود ابن زنكى صاحب الموصل [95] كان زين الدين على كوجك بن بكتكين هو النائب عن قطب الدين بالموصل والمتحكم في دولته، وكانت بيده إربل، وفيها بيته وأولاده وخزائنه، وكانت أيضا بيده شهرزور وجميع القلاع التي معها، وجميع قلاع الهكّارية، ومنها قلعة العمادية، وبلد الحميدية، وتكريت، وسنجار، وحران، فأصابه طرش وعمى في سنة ثلاث وستين وخمسمائة، فلما عزم على مفارقة الموصل إلى إربل سلم جميع ما كان بيده من الأعمال إلى قطب الدين، وبقى معه إربل حسب؛ وكان شجاعا عادلا حسن السيرة ميمون النقيبة، لم ينهزم في حرب قط، وكان كريما كثير العطاء للجند؛ ولما توجه إلى إربل توفى في هذه السنة، وصارت إربل بعده لولده زين الدين، ثم توفى على مرج عكا وهو في خدمة السلطان الملك الناصر صلاح الدين، فملكها بعده أخوه مظفر الدين كوكبورى إلى سنة ثلاثين وستمائة، فملكها الخليفة المستنصر بالله، وصارت نوابه فيها، وملكها المستعصم بالله، إلى أن ملكها التتر (¬2) الملاعين حين ملكوا البلاد. ¬

(¬1) ولى الحكم في حصن كيفا من سنة 562 - 581 هـ‍. انظر المرجع السابق. (¬2) لهذا النص أهمية خاصة، فهو يدل على أن المؤلف كان يكتب هذا الجزء من كتابه بعد سنة 656 هـ‍ وهى السنة التي استولى فيها هولاكو على بغداد وقتل الخليفة المستعصم، ثم أرسل قائدا من قواده لمهاجمة إربل والاستيلاء عليها؛ انظر: (دائرة المعارف الاسلامية - الترجمة العربية -، مادة إربل، وما بها من مراجع).

ذكر استيلاء الملك العادل نور الدين على قلعة جعبر

ذكر استيلاء الملك العادل نور الدين على قلعة جعبر كان السبب في تملك نور الدين لها أن صاحبها شهاب الدين مالك العقيلى نزل يتصيّد فأخذه بنو كلب أسيرا، فحملوه إلى نور الدين - رحمه الله - في رجب سنة ثلاث وستين وخمسمائة، فاعنقله وأحسن إليه، ورغّبه في المال والإقطاع ليسلم إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف وتهدده، فلم يفعل، فسير إليها نور الدين الأمير فخر الدين مسعود بن على بن الزعفرانى، فحصرها مدة، فلم يظفر بطائل، فأمدهم بعسكر، وجعل على الجميع مجد الدين أبا بكر بن الداية، فلم يحصل على غرض، فأخذ صاحبها بطريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ عوضا عنها، فقبل ذلك، وتسلّمها، وتسلّم سرّوج وأعمالها، والملاحة التي في بلد حلب، وباب، وبزاعة (¬1)، وعشرين ألف دينار معجلة؛ وكانت قلعة جعبر بيد هؤلاء القوم من حين سلمها إليهم جلال الدولة ملكشاه، وقد ذكرناه في موضعه، وكان استيلاء نور الدين عليها سنة أربع وستين وخمسمائة. ذكر مسير أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية [96] المسير الثالث وكان السبب في ذلك أن الفرنج كانوا قد دخلوا ديار مصر مرتين، واطلعوا على عوراتها، وكان لهم بالقاهرة شحنة، وأبوابها مسلمة إليهم، وبالقاهرة جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم، فحكموا على المسلمين حكما جائرا، وركبوهم بالأذى الشديد، فلما رأوا تمكنهم من البلاد، وأنه ليس بها راد ولا عن أخذها صاد كاتب ¬

(¬1) جاء في (ابن الشحنة: الدر المنتخب، ص 172) أن «الباب» و «بزاعة» قريتان عظيمتان بل مدينتان صغيرتان في كل واحدة منهما منبر وخطيب، وهما من أعمال حلب، أما الباب فهى أكثر عمارة من بزاعة.

الفرنج الذين بالقاهرة ملكهم بالشام المعروف بمرّى (¬1)، وكان ذا شجاعة ومكرودهاء، يستدعونه لتملكها، وأعلموه خلوها من الممانع، وهوّنوا أمرها عليه؛ وكاتبه أيضا جماعة من أعيان المصريين كانوا أعداء لشاور؛ منهم: ابن الخياط (¬2)، وابن قرجلّه (¬3)، فشاور الملك فرسان الفرنج وذوى الرأى منهم، فكل منهم أشار بقصدها وملكها، فقال لهم: «الرأى أنا لا نقصدها، فإنها طعمة لنا، وأموالها تساق إلينا، نتقوى بها على نور الدين، وإن نحن قصدناها لنملكها فإن صاحبها وعساكره وعامة بلاده وفلاحيها لا يسلموها إلينا، ويقاتلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا على تسليمها لنور الدين، ولئن أخذها وصار له فيها مثل أسد الدين فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام». فلم يقبلوا قوله، وقالوا: «إنه لا مانع منها ولا محامى، وإلى أن يتجهز نور الدين ويسير إليها نكون نحن قد ملكناها وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين السلامة». فوافقهم على كره، وتجهز للسفر، وأظهروا أنهم يريدون قصد حمص. وسمع نور الدين بتجهيزهم فجمع عساكره، وتجهز للقائهم وتأهب، ثم سار الفرنج من عسقلان إلى الديار المصرية. ¬

(¬1) هو «أملريك الأول Amalric I» ملك بيت المقدس، وتسميه المراجع العربية. «مرّى» أو «عمورى»، وقد ولى الملك بعد وفاة أخيه «بلدوين الثالث Baldwin III» الذى لم يعقب. انظر (Ranciman : A History of the Crusades .Vol .2. The Kingdom of Jerusalem and the Frankish East .1100 - 1187. PP .362.ff) . (¬2) هو يحيى بن الخياط، كان من قواد الدولة في عهد وزارة الصالح طلائع بن رزيك، ثم أصبح من رجال شاور: بل أصبح اسفهسلار العساكر في أول عهده، ولكنه اختلف معه في عهد وزارته الثانية وخرج عليه في قوص يطلب الوزارة لنفسه، فأخضع حركته الكامل بن شاور. انظر: (عمارة، النكت العصرية، ص 35 و 69 و 78 و 319 و 348)، (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 226). (¬3) ورد ذكره في (النكت العصرية ص 495) عند الحديث عن المؤامرة الكبرى ضد صلاح الدين التي اشترك فيها عمارة، قال: «وكاتبوا سنانا صاحب الحشيشية بأن الدعوة واحدة والكلمة واحدة. . . وكان الرسول خال ابن قرجلة» أنظر أيضا: (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 170).

ذكر منازلة الفرنج بلبيس وملكهم لها

ذكر منازلة الفرنج بلبيس وملكهم لها فوصلوا إلى مدينة بلبيس فنازلوها وملكوها غرة صفر من هذه السنة - سنة أربع وستين وخمسمائة - فنهبوا أهلها، وقتلوا وسبوا وأسروا، ثم رحلوا عنها. ذكر منازلة الفرنج القاهرة ونازلوا القاهرة عاشر صفر وحصروها، فامتنع أهل البلد واستحصنوا خوفا أن تملكها [97] الفرنج، فيسيروا فيهم سيرتهم في أهل بلبيس، فقاتلوا، وبذلوا الجهد في الحفظ. ذكر إحراق مصر وأمر شاور بإحراق مصر، وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة، وأن ينهب البلد، فانتقلوا، وبقوا على الطرق، ونهبت مصر، وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم ونعمهم، وذلك في تاسع صفر قبل نزول الفرنج على القاهرة بيوم واحد؛ فبقيت النار تعمل في مصر أربعة وخمسين يوما إلى خامس ربيع الآخر، واشتد الأمر، وعظم الخطب، وضاق الحصار، وخيف البوار، وعلم شاور عجزه وضعفه، وأن البلاد ذاهبة لا محالة، فسلك طريق التمحل، وأرسل إلى ملك الإفرنج مرّى يذكر له مودته ومحبته، وأن هواه معه، وتخوفه من نور الدين، وأن المسلمين لا يوافقونه على التسليم، ويشير بالصلح وأخذ مال، لئلا يسلم البلاد إلى نور الدين.

ذكر وقوع الصلح بين شاور والفرنج

ذكر وقوع الصلح بين شاور والفرنج فأجابه مرّى إلى الصلح على ألف ألف دينار، يعجل البعض ويؤخر الباقى؛ ورأى الفرنج أن المصلحة في ذلك لئلا يتدارك نور الدين البلاد ويأخذها، فعجّل لهم شاور مائة ألف دينار، وماطل بالباقى خداعا ومكرا، وسيّر الكتب إلى نور الدين مسوّدة وفى طيها ذوائب نساء أهل القصر مجزوزة، وواصل الكتب إليه مستفزا ومستنصرا، ويقول: «إن لم تبادر ذهبت البلاد»، وأرسلها مع نجابين - يتلو بعضهم بعضا - وأقام منتظرا ما يرد عليه من نور الدين، وهو مع ذلك يدافع الفرنج ويماطلهم. ووردت مكاتبة العاضد لدين الله إلى نور الدين في هذا المعنى، وبذل له - إن وصل - ثلث البلاد، وأن يكون أسد الدين شيركوه مقيما عنده في عسكر، وإقطاعهم عليه خارجا عن الثلث الذى لنور الدين. ولما وردت الرسل إلى نور الدين بذلك كان بحلب، فأرسل إلى أسد الدين شيركوه - وكان بحمص، وهى إقطاعه - يستدعيه، فلما خرج القاصد من حلب متوجها إلى أسد الدين وجده قد وصل إلى حلب، لأنه كان أيضا قد أتته كتب المصريين يحثّونه على سرعة الوصول إليهم، فلحرص أسد الدين على التجهز إلى الديار المصرية سار من حمص إلى حلب، فوصلوا في ليلة واحدة، فأمره نور الدين بالتجهيز [98] إلى مصر والسرعة في ذلك، وأعطاه مائتى ألف دينار سوى الثياب والدواب والآلات والأسلحة، وحكّمه في العساكر والخزائن، فاختار من العسكر ألفى فارس، وجمع من التركمان ستة آلاف فارس.

وندب الملك العادل نور الدين صلاح الدين أبا المظفر يوسف بن أيوب ابن شاذى أن يمضى مع عمه إلى الديار المصرية، فكره ذلك صلاح الدين، فروى عنه القاضى بهاء الدين بن شداد - قاضى حلب رحمه الله - قال: لقد قال لى السلطان - يعنى صلاح الدين - «كنت أكره الناس في الخروج في هذه الوقعة، وما خرجت مع عمى باختيارى»، قال: وهذا معنى قوله سبحانه {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. قال عز الدين بن الأثير - رحمه الله - في تاريخه الأصل: «أحب نور الدين مسير صلاح الدين، وفيه ذهاب بيته؛ وكره صلاح الدين المسير، وفيه سعادته وملكه» قال: «فلقد حكى لى صلاح الدين، قال: لما وردت الكتب من مصر إلى الملك العادل نور الدين - رحمه الله - أحضرنى وأعلمنى الحال، وقال: تمضى إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسول إليه تأمره بالحضور، وتحثّه أنت على الإسراع، فما يحتمل الأمر التأخير. قال: ففعلت، فلما فارقت حلب، على ميل منها، لقيناه قادما في هذا المعنى، فقال له نور الدين: تجهّز للمسير؛ فامتنع خوفا من غدرهم أولا وعدم ما ينفقه في العساكر ثانيا؛ فأعطاه نور الدين الأموال والرجال، وقال له: إن تأخرت عن المسير إلى مصر، فالمصلحة تقتضى أن أسير أنا بنفسى إليها، فإننا إن أهملنا أمرها ملكها الفرنج، ولا يبقى معهم مقام بالشام ولا غيره؛ قال: فالتفت إلىّ عمى أسد الدين وقال: تجهّز يا يوسف؛ قال: فكأنما ضرب قلبى بسكين؛ فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالاسكندرية من المشاق بها ما لا أنساه أبدا؛ فقال عمى لنور الدين: لا بد من مسيره معى، فترسم له، فأمرنى نور الدين وأنا استقيله؛ فانقضى المجلس، ثم جمع أسد الدين العساكر

ذكر قدوم أسد الدين شيركوه مصر ورحيل الفرنج عنها

من التركمان وغيرهم، ولم يبق [99] غير المسير، فقال لى نور الدين: ولا بد من مسيرك مع عمك، فشكوت إليه الضائقة وقلة الدواب وما احتاج إليه، فأعطانى ما تجهزت به، وكأنما أساق إلى الموت؛ - وكان نور الدين مهيبا مخوفا مع لينه ورحمته -، فسرت معه. فلما توفى أعطانى الله من الملك ما كنت أتوقعه». ثم سار نور الدين وأسد الدين من حلب إلى دمشق فوصلاها سلخ صفر، ثم رحلا إلى رأس الماء، وأنفق نور الدين لكل فارس عشرين دينارا، وأضاف إلى أسد الدين جماعة من الأمراء، ومنهم مملوكه عز الدين جورديك - وهو الذى لما توفى نور الدين كان نائبا عنه بقلعة حماة -، والأمير غرس الدين قلج - والد الأمير سيف الدين وعماد الدين -، وشرف الدين برغش، وعين الدولة الياروقى، وقطب الدين ينال بن حسان - صاحب منبج -، وغيرهم. ثم (¬1) سار أسد الدين شيركوه من رأس الماء منتصف ربيع الأول. ذكر قدوم أسد الدين شيركوه مصر ورحيل الفرنج عنها ولما قرب أسد الدين - رحمه الله - من الديار المصرية رحل الفرنج عنها خائبين، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم، لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، ووصلت الأخبار بذلك إلى نور الدين - رحمه الله -، فأمر بضرب البشائر (¬2) في البلاد الإسلامية، فإنها كانت أجل الفتوح (¬3) وأعظمها، إذ لو استولى العدو - لعنه الله - على الديار المصرية لاستولى على سائر الخطة الإسلامية. ¬

(¬1) بهذا اللفظ تبدأ (ص 116 ا) من نسخة س، وبذلك نعود للمقارنة بين نصى النسختين. (¬2) في الأصل: «العشاير» وما هنا عن: س (ص 116 ا). (¬3) في س: «الفتوحات».

ذكر مقتل شاور

وكان وصول أسد الدين - رحمه الله - إلى القاهرة لأربع مضين من ربيع الآخرة من هذه السنة، - أعنى سنة أربع وستين وخمسمائة -، ودخل إلى القصر، واجتمع بالعاضد (¬1) لدين الله، وخلع عليه، وعاد إلى مخيمه بالخلعة العاضدية، وفرح به أهل مصر، وأجريت عليه وعلى عساكره الجرايات الكثيرة والإقامات الوافرة. ذكر مقتل شاور (¬2) وأقام شاور يتردد إلى أسد الدين شيركوه، وكان قد وعده بمال في مقابلة ما خسره من النفقة، فلم يوصل إليه شيئا، وقيل إنه ماطله في تقرير ما بذل (¬3) له من المال والإقطاع [100] للعساكر، وإفراد ثلث البلاد لنور الدين؛ وذكر أنه كان [شاور (¬4)] قد عزم على أن يعمل دعوة لأسد الدين ومن معه من الأمراء، ويقبض عليهم [فيها (4)]، فنهاه ابنه الكامل، وقال: «والله لئن عزمت على هذا الأمر لأعرّفنّ أسد الدين». فقال أبوه: «والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعا»، قال: «صدقت، ولئن نقتل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل وقد ملكتها الفرنج، وليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على [أسد الدين (4)] شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل فارسا واحدا، ويملكون الفرنج البلاد». فترك [شاور (4)] ما كان عزم عليه واجتمع أسد الدين وأصحابه على الفتك بشاور لأنهم علموا أن الفرنج متى وجدوا فرصة ¬

(¬1) في س: «بالخليفة العلوى العاضد». (¬2) هذا العنوان غير موجود في س. (¬3) في س (ص 116 ا): «في الذى استقر بينهما من المال. . . الخ». (¬4) ما بين الحاصرتين عن س.

أخذوا البلاد، وإن ترددهم إليها في كل وقت لا يفيد، وإن شاور يلعب بنا (¬1) تارة وبالفرنج أخرى، وإنهم إن قتلوه واستولوا على البلاد حفظوها من عدو الدين، وقيل إن صلاح الدين وعز الدين جرديك اتفقا على ذلك، وشاورا أسد الدين في ذلك، فنهاهما عنه؛ وقيل إن أسد الدين سيّر الفقيه ضياء الدين عيسى (¬2) إلى شاور يشير عليه بالاحتراس (¬3)، وقال: «أخشى عليك ممن عندى من الناس»؛ فركب شاور منبسطا على عادته واسترساله؛ وكان يركب على قاعدة الوزراء بالطبل والبوق والعلم، وكان أسد الدين قد توجه لزيارة قبر الشافعى - رحمة الله عليه (¬4) - بالقرافة (¬5)، فقصد شاور مخيّم أسد الدين ليجتمع به على العادة، فصادفه صلاح الدين يوسف ابن أيوب والأمير عز الدين جرديك - رحمهم الله - ومعهم جمع من العسكر، فخدموه وأعلموه أن أسد الدين في الزيارة، فقال: «نمضى إليه»، فسار - وهما ¬

(¬1) في س: «بهم». (¬2) هو الفقيه أبو محمد ضياء الدين عيسى بن محمد بن عيسى الهكارى، كان في مبدأ أمره يشتغل بالمدرسة الزجاجية بحلب، ثم اتصل بالأمير أسد الدين شيركوه فعينه إماما له، وأتى معه إلى مصر وكانت لعيسى اليد الكبرى في إقناع أمراء الجيش النورى بمصر لتولية صلاح الدين الوزارة للعاضد بعد موت عمه أسد الدين، وأصبح منذ ذلك الحين واحدا من كبار الأمراء الصلاحية، وكان عيسى فقيها وجنديا مجاهدا، يلبس زى الأجناد ويعتم بعمامة الفقهاء، وقد أسره الفرنج وبقى في الأسر إلى أن افتداه صلاح الدين بمبلغ كبير من المال. وتوفى في ذى القعدة سنة 585 هـ‍. انظر: (ابن خلكان، الوفيات، ج 3، ص 165 - 166). (¬3) في س (116 ب): «بالاحتراز على نفسه». (¬4) في س: «رضى الله عنه». (¬5) خطة من خطط الفسطاط الأولى كانت لبنى غصن بن يوسف بن وائل من المعافر، وقرافة بطن من المعافر، نزلوها عند الفتح فسميت بهم، قال (ياقوت): وهى اليوم مقبرة أهل مصر وبها أبنية جليلة ومحال واسعة وسوق قائمة ومشاهد للصالحين وترب الأكابر مثل ابن طولون والماذرائى وبها قبر الامام أبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعى في مدرسة للفقهاء الشافعية. وقد أصبح هذا اللفظ علما يطلقه المصريون إلى اليوم على كل مقبرة لدفن الموتى في أي مكان وفى أي مدينة من مدنهم.

ذكر استيلاء أسد الدين شيركوه على الديار المصرية وتقلده وزارة العاضد

معه - قليلا، فأخذ صلاح الدين بتلابيبه (¬1)، وأمر العسكر أن يقبضوا على أصحابه، ففروا، ونهبهم العسكر، وألقى شاور عن فرسه، ولم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين، فذهبوا به إلى خيمة مفردة، فسجنوه بها، ووكل به من يحفظه بها؛ وعلم أسد الدين الحال فعاد من القرافة مسرعا، ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه، وجاء رسول العاضد لدين الله في الوقت، وهو أحد الخدم [101] الخواص (¬2)، ومعه (¬3) توقيع يتضمن: «[أنه (4)] لا بد من [أخذ (¬4)] رأسه»، جريا على عادتهم في وزرائهم، في تقرير قاعدة من قوى منهم على صاحبه؛ فضرب عنقه وحمل رأسه إلى القصر، وذلك سابع ربيع الآخر. ودخل أسد الدين القاهرة، ورأى من كثرة الخلق واجتماعهم ما خاف منه على نفسه، فقال لهم: «إن أمير المؤمنين قد أمركم بنهب دار شاور»، فقصدوها الناس فنهبوها، وتفرقوا عنه. ذكر استيلاء أسد الدين شيركوه على الديار المصرية وتقلده وزارة العاضد ثم خلع العاضد على أسد الدين خلع الوزارة، فلبسها، وسار، ودخل القصر، وفوضت إليه الوزارة والتقدم على الجيوش، ولقّب الملك المنصور أمير الجيوش؛ ¬

(¬1) كتب في هامش الأصل معنى هذه العبارة باللغة اللاتينية هكذا (Vestis quae circa Jugutu) . (¬2) إلى هنا تنتهى (ص 116 ب) من نسخة س، وبعدها يعود الاضطراب في ترتيب الصفحات. (¬3) بهذا اللفظ تبدأ (ص 29 ا) من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن س.

وقصد دار الوزارة (¬1) فنزلها، واستقر في الأمر، ولم يبق له منازع ولا مناوئ وكتب له منشور بالإنشاء الفاضلى أوله: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: من عبد الله ووليّه [عبد الله (¬2)] أبى محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل الملك المنصور سلطان الجيوش ولى الأئمة، مجير الأمة، أسد الدين، كافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين، أبى الحرث شيركوه - العاضدى - عضّد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته: سلام عليك، فإنه يحمد (¬3) إليك الله الذى لا إله إلا هو، ويسأله (3) أن يصلى على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين [صلى الله عليه (2)] وعلى آله الطاهرين، والأئمة المهديين، وسلّم تسليما [كثيرا (2)]». ثم مضمون بقية (¬4) المنشور تفويض أمور الخلافة إليه، والقيام بأعباء حفظها، والذبّ عنها، والتوصية بتقوى الله تعالى، والعمل بفرائضه، والانتهاء عن مناهيه، وإلى غير ذلك من الوصايا، أعرضنا عن ذكرها لطولها. ¬

(¬1) ذكر المقريزى، الخطط، ج 2، ص 301 - 304) أن هذه الدار أنشأها الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى، ولهذا كان يقال لها أيضا الدار الأفضلية، وكانت تقوم بجوار القصر الكبير الشرقى تجاه رحبة باب العيد، وما زال وزراء الفاطميين أرباب السيوف من عهد الأفضل يسكنون بدار الوزارة إلى أن زالت الدولة فاستقر بها الملك الناصر صلاح الدين ثم من تلاه من ملوك الأيوبيين وصاروا يسمونها الدار السلطانية، وأول من انتقل عنها وسكن بالقلعة الملك الكامل محمد، وجعلت منذ ذلك الحين منزلا لضيافة الرسل. (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن: (صبح الأعشى ج 10، ص 80). (¬3) في س (29 ا): «فانى أحمد»، «نسأله». (¬4) ورد نص هذا المنشور كاملا في: (صبح الأعشى، ج 10، ص 80 - 90) فراجعه هناك، وانظر أيضا نفس المرجع، ص 6؛ (ابن الحنبلى: شفاء القلوب، ص 18 - 10 ا).

وكتب العاضد في هذا (¬1) المنشور بخطه: «هذا عهد لم يعهد لوزير مثله، فتقلّد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلا لحملها (¬2)، والحجة عليك عند الله، بما (¬3) أوضحه لك من مراشد سبله (¬4)، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوّة النبوّة، واتخذه (¬5) للفوز سبيلا، و {لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [102] وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} (¬6)». ولما انتظمت الأمور لأسد الدين بالديار المصرية أقطع البلاد للعساكر التي (¬7) قدمت معه؛ وصلاح الدين - رحمه الله - ابن أخيه، مباشر الأمور مقرر لها، وبيده زمام الأمر والنهى. ومدح الشعراء أسد الدين، فممن مدحه عماد الدين أبو حامد محمد بن محمد (¬8) الأصفهانى الكاتب من قصيدة سيّرها إليه من الشام، وهو في خدمة نور الدين - رحمه الله -: بالجدّ أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم راحة جنيت من دوحة التعب ¬

(¬1) في س: «في طرة» وقد ورد نص هذا التوقيع في: (صبح الأعش ج 9، ص 406 - 407) (¬2) النص في: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 9، ص 406) هو: «وتقليد أمانة رآك الله تعالى وأمير المؤمنين أهلا لحمله». (¬3) في الاصل: «وبما» والتصحيح عن: (س) و (صبح الأعشى). (¬4) في س: «سبيله». (¬5) في: (صبح الأعشى، ج 9، ص 407) «واتخذ أمير المؤمنين». (¬6) السورة 16 (النحل)، الآية 91 (ك). (¬7) في الأصل: «الذى». (¬8) انظر ترجمته في: (ابن خلكان: الوفيات، ج 4، ص 233 - 238) و (الصفدى: الوافى بالوفيات، ج 1، ص 132 - 140) و (النعيمى: الدراس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 408 - 412) و (مقدمة خريدة القصر للعماد، الجزء الأول من القسم الأول - شعراء مصر - نشر أحمد أمين وشوقى ضيف وإحسان عباس).

يا شيركوه بن شاذى الملك دعوة من ... نادى فعرّف خير ابن بخير أب جرى الملوك، وما جازوا بركضهم ... من المدى في العلى ما حزت بالخبب تملّ من ملك مصر رتبة قصرت ... عنها الملوك فطالت سائر الرّتب فتحت مصر، وأرجو أن تصير بها ... ميسّرا فتح بيت القدس عن كثب قد أمكنت أسد الدين الفريسة من ... فتح البلاد، فبادر نحوها وثب أنت الذى هو فرد من بسالته، ... والدين من عزمه في جحفل لجب في حلق ذى الشرك من عدوى سطاك شجا، ... والقلب في شجن، والنفس في شجب زارت بنى الأصفر البيض التي لقيت ... حمر المنايا بها مرفوعة الحجب وإنها نقد (¬1) من خلفها أسد ... أرى سلامتها من أعجب العجب (¬2) لقد رفعنا إلى الرحمن أيدينا ... في شكرنا ما به الإسلام عنك (¬3) حبى يشكو (¬4) إليك بنو الإسلام يتمهم ... فقمت فيهم مقام الوالد الحدب في كل دار من الإفرنج نادبة ... بما دهاهم، فقد باتوا على ندب من شرّ شاور أنقذت العباد، فكم ... وكم قضيت لحزب الله من أرب هو الذى أطمع الأفرنج في بلد ال‍ ... إسلام حتى سعوا للقصد والطّلب وإنّ ذلك عند الله محتسب ... في الحشر من أفضل الطاعات والقرب [103] أذلّه الملك المنصور منتصرا، ... لما دعا الشرك: هذا قد تعزّز بى وما غضبت لدين الله منتقما ... إلا لنيل رضا الرحمن بالغضب وأنت من وقعت في الكفر هيبته ... وفى ذويه وقوع النار في الحطب وحين سرت إلى الكفار فانهزموا ... نصرت نصر رسول الله بالرعب ¬

(¬1) النقد جنس من الغنم تصار الأرجل قباح الوجوه تكون بالبحرين، وقيل هى غنم صفار حجازية، (اللسان). (¬2) بهذا اللفظ تنتهى (ص 29 ب) من نسخة ص، ثم يضطرب بعد ذلك ترتيب الصفحات في تلك النسخة وبالتالى تنقطع الصلة بين النص هناك وبين المتن هنا (نسخة ك). (¬3) في (الروضتين، ج 1، ص 159): «منك». (¬4) نص الروضتين: «شكا».

ذكر وفاة أسد الدين شيركوه بن شاذى - رحمه الله -

يا محيى الأمة الهادى بدعوته ... للرّشد كل غوى منهم وغبى لما سعيت لوجه الله مرتقبا ... ثوابه، نلت عفوا كلّ مرتقب أعدت نقمة مصر نعمة، فغدت ... تقول لكم نكث (¬1) لله في النّوب أركبت رأس سنان رأس ظالمها ... عدلا، وكنت لوزر غير مرتكب ردّ الخلافة عباسية، ودع ال‍ ... دّعىّ فيها يصادف شرّ منقلب لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها، ... فالحزم عندى: قطع الرأس والذّنب. وفى قتل شاور وتولى أسد الدين الوزارة يقول عرقلة الدمشقى الشاعر ويمدح صلاح الدين يوسف بن أيوب وأخاه الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب من قصيدة: لقد فاز بالملك العقيم خليفة ... له شيركوه العاضدىّ وزير كأنّ ابن شاذى والصلاح وسيفه ... علىّ، لديه شبّر وشبير (¬2) هو الأسد الضارى الذى جلّ خطبه، ... وشاور كلب للرجال عقور بغى وطغى، حتى لقد قال صحبه (¬3) ... على مثلها كان اللعين يدور فلا رحم الرحمن تربة قبره ... ولا زال فيها منكر ونكير ذكر وفاة أسد الدين شيركوه بن شاذى - رحمه الله - ذكر القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - في تاريخه أن أسد الدين كان كثير الأكل شديد المواظبة على اللحوم الغليظة، تتواتر عليه التخم والخوانيق، وينجو منها بعد معاناة شديدة عظيمة، فأخذه مرض شديد واعتراه خانوق (¬4) عظيم ¬

(¬1) كذا في الأصل، ولعلها: كم منن. (¬2) شبّر وشبير اسمان للحسن والحسين ولدى على بن أبى طالب، فقد جاء في (اللسان): شبر وشبير ومشبّر هم أولاد هارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومعناها بالعربية: حسن وحسين ومحسّن، وبها سمى على أولاده شبر وشبيرا ومشبرا يعنى حسنا وحسينا ومحسنا. (¬3) النص في (الروضتين، ج 1، ص 157): «قائل». (¬4) الخناق أن يحدث في المبلع ضيق، يقال له خوانيق، وهو مخنوق. (الخوارزمى: مفاتيح العلوم، ص 97).

ذكر استيلاء صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمه الله - على الديار المصرية، وتقلده وزارة العاضد.

فقتله؛ وقيل بل توفى فجأة، وكانت وفاته يوم السبت [104] لنمان بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة - سنة أربع وستين وخمسمائة - فكانت وزارته شهرين وخمسة أيام. ذكر استيلاء صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمه الله - على الديار المصرية، وتقلده وزارة العاضد ذكر القاضى بهاء الدين أن الوصية كانت إليه من عمه أسد الدين، وأنه لما فوض إليه الأمر تاب عن شرب الخمر، وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمّص لباس الجد والاجتهاد، وما عاد وما زاد إلا جدا إلى أن توفاه الله إلى رحمته. قال: «ولقد سمعته - رحمه الله - يقول: لما يسّر الله تعالى الديار المصرية علمت أنه أراد فتح الساحل، لأنه أوقع ذلك في نفسى». وذكر عن بهاء الدين أنه لما توفى أسد الدين كان بمصر جماعة من أكابر الأمراء النورية، منهم: عين الدولة الياروقى (¬1)، وقطب الدين خسرو بن التليل، - وهو ابن أخى ابن أبى الهيجا الهذبانى صاحب إربل وقد ذكرناه - وسيف الدين على بن أحمد المشطوب، - وكان جده صاحب قلاع الهكاريّة - وشهاب الدين الحارمى - خال صلاح الدين -، وكل منهم تطاول إلى الأمر ورام التقدم، فأرسل العاضد من القصر يستدعى صلاح الدين ليخلع عليه ويوليه الوزارة، وكان الذى حمل العاضد على ذلك ضعف صلاح الدين، وعلم أنه إذا ولى وليس له عسكر ولا رجال كان تحت يده وحكمه، ولا يجسر على المخالفة؛ وأنه يضع على العسكر الشامى من يستميلهم إليه، فإذا صار معه البعض أخرج الباقين، وتعود البلاد ¬

(¬1) لعل النسبة هنا إلى «الياروقية» وهى محلة بظاهر حلب. أنظر: (الروضتين، ج 1، ص 180).

إليه، وعنده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج ونور الدين، فامتنع صلاح الدين، وضعفت نفسه عن هذا المقام، فألزم به، وأحضر إلى القصر، وخلعت عليه خلع (¬1) الوزارة، ولقّب الملك الناصر، وعاد إلى دار الوزارة، وهى الدار التي كان بها عمه، فلم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء ولا خدموه، فقام بأمره الفقيه ضياء الدين عيسى الهكارى، وما زال بسيف الدين على بن أحمد المشطوب حتى أماله إليه، وقال: «إن هذا الأمر لا يصل إليك مع (¬2) وجود عين الدولة وشهاب الدين الحارمى وابن تليل»، ثم قصد به شهاب الدين وقال: «إن هذا صلاح الدين هو ابن أختك، وملكه لك، وقد استقام الأمر له، فلا تكن أول من يسعى [105] في إخراجه عنه، فلا يصل إليك»؛ ولم يزل به حتى استحلفه له. واجتمع بعد ذلك بقطب الدين وقال له: «إن صلاح الدين قد أطاعه الناس ولم يبق غيرك وغير الياروقى، وعلى كل حال فالجامع بينك وبين صلاح الدين أن أصله من الأكراد، فلا يخرج الأمر عنه إلى الأتراك»؛ ووعده زيادة في إقطاعه، فأجاب وحلف. ¬

(¬1) ورد في (الروضتين، ج 1، ص 173) وصف كامل لهذه الخلع التي خلعت على صلاح الدين عند توليته الوزارة، وقد آثرنا نقله هنا لأهميته: «وكانت خلعة الوزارة: عمامة بيضاء تنيسى بطرز ذهب، وثوب دبيقى بطرازى ذهب، وجبة تحتها سقلاطون بطرازى ذهب، وطيلسان دبيقى بطراز دقيق ذهب، وعقد جوهر قيمته عشرة آلاف دينار، وسيف محلى مجوهر قيمته خمسة آلاف دينار، وفرس حجر صفراء من مراكب العاضد قيمتها ثمانية ألف دينار لم يكن بالديار المصرية أسبق منها، وطوق، ومخت، وسرفسار ذهب مجوهر، وفى رقبة الحجر مشدة بيضاء، وفى رأسها مائتا حبة جوهر، وفى أربع قوائم الفرس أربع عقود جوهر، وقصبة ذهب في رأسها طالعة مجوهرة، وفى رأسها مشدة بيضاء بأعلام ذهب، ومع الخلعة عدة بقج، وعدة من الخيل، وأشياء أخر». (¬2) في الأصل: «إلا مع» وقد حذفت «إلا» ليستقيم المعنى. راجع: (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 17).

ثم اجتمع بالياروقى - وكان أكبر الجماعة وأكثرهم جمعا -، فلم ينفع فيه رقاه ولا نفث فيه سحره، وقال: «أنا لا أخدم يوسف أبدا». وعاد إلى نور الدين ومعه غيره، فأنكر عليهم فراقه له. وذكر عماد الدين الكاتب في كتابه المعروف بالبرق الشامى: «أن أسد الدين لما توفى ومضت له التعزية اختلفت آراء الأمراء واختلطت آراؤهم، ثم اجتمعت كلمتهم على عقد الأمر لصلاح الدين؛ وألزموا العاضد - صاحب القصر - بتوليته، فولاّه وزارته، وكتب له منشور (¬1) بالإنشاء الفاضلى، من جملته: «فأنت راضع درّه وناشئة حجره، وظهور الخيل مواطنك، وظلال الخيام مساكنك، وفى ظلمات قساطله (¬2) تجلى محاسنك. وفى أعقاب نوازلة تتلى مناقبك (¬3)، فشمّر له عن ساق من القنا، وخض فيه بحوافر (¬4) الظّبا، واحلل في عقد كلمة الله وثيقات الجبى (¬5)، وأسل الوهاد بدم العدا، وارفع برءوسهم الرّبا، حتى يأتى الله بالفتح الذى يرجو أمير المؤمنين أن يكون مذخورا لأيامك، ومشهودا لك يوم مقامك». وكتب العاضد لدين الله في طرته (¬6) بخطه: «هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عند الله سبحانه عليك، فأوف بعهدك ويمينك، وخذ كتاب أمير المؤمنين بيمينك، وبمن مضى بجدنا رسول الله ¬

(¬1) هذه فقرة قصيرة من المنشور، وقد أوردها بعينها (أبو شامة: الروضتين، ج 1 ص 161) أما نص المنشور كاملا فقد ورد في: (صبح الأعشى، ج 10، ص 91 - 98) فراجعه هناك فهو وثيقة هامة. وورد في: (الروضتين، ج 1، ص 173) أن منشور الوزارة هذا كان ملفوفا في ثوب من الأطلس الأبيض. (¬2) في صبح الأعشى: «مشاكله». (¬3) في صبح الأعشى: «ميامنك». (¬4) في المرجع السابق. «بحرا من». (¬5) في نفس المرجع: «واحلل فيه عقدة كلمات الله سبحانه وثيقات الحبى». (¬6) ورد نص ما كتبه العاضد في الطرة في: (الروضتين، ج 1، ص 161 - 162) و (صبح الأعشى، ج 9، ص 407).

- صلى الله عليه وسلم -[أحسن] (¬1) أسوة، [ولمن بقى بقربنا سلوة] (1) و {تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2). وهذا آخر منشور كتب عنهم، وانقرض أمرهم، وانفصمت عرى دولتهم. وفى هذا التاريخ ابتداء الدولة الأيوبية، وأخذت الدولة المصرية في الوهن والضعف والانحطاط إلى أن انقرضت بالكلية بعد سنتين على ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - ورثى عماد الدين الكاتب أسد الدين - رحمه الله - بقصيدة عزى بها أخاه نجم الدين [106] أيوب وولده الأمير ناصر الدين محمد بن شيركوه، وهنأهما بملك الملك الناصر صلاح الدين الديار المصرية: ما بعد يومك للمعنى المدنف ... غير العويل وحسرة المتأسّف ما أجرأ الحدثان! كيف عدا (¬3) على الأ ... سد المخوف سطا، ولم يتوقّف من ثابت دون الكماة سواه؟ إن ... زلّت بهم أقدامهم في الموقف من ذا رأى الأسد الهصور فريسة ... أم أبصر الصبح المنير وقد خفى؟ ما كان أسنى البدر لو لم يستتر! ... ما كان أبهى الشمس لو لم تكسف! أيام عمرك لم تزل مقسومة ... لله: بين تعبّدّ وتعرّف متهجدا لعبادة، أو تاليا ... من آية، أو ناظرا في المصحف فجع الندا والبأس منك بحاتم ... وبحيدر، والعلم منك بأحنف بالملك فزت، وحزته عن قدرة، ... ومضيت عنه بسيرة المتعفّف ووصفت يا أسدا لدين محمد ... مدحا بما ملك به لم يوصف ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة المرجعين السابقين. (¬2) السورة 28 (القصص)، الآية 83 ك. (¬3) في: (الروضتين، ج 1، ص 162) «سطا».

وقفوت آثار الشريعة كلّها، ... وقد اهتدى من للشريعة يقتفى أأنفت من دنياك حين عرفتها؟ ... فلويت وجه العارف المستنكف (¬1) يا ناصر الدين استعذ بتصبّر ... مدن إلى مرضاة ربّ مزلف وتعزّ نجم الدين عنه مهنأ ... أبد الزمان بملك مصر، ويوسف لا نستطيع سوى الدعاء؛ فكلنا ... - إلا بما في الوسع - غير مكلّف ولما ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمهما الله - مصر كتب إلى بعض أصدقائه وأودائه بالشام كتابا أوله: «أيها الغائبون عنى وإن كن‍ ... تم لقلبى بذكركم جيرانا إننى مذ فقدتكم لأراكم ... بعيون الضمير عندى عيانا» فأجابه، والشعر والترسل لعماد الدين الأصفهانى: [107] «أيها الظاعنون عنا (¬2) وقلبى ... معهم (¬3) ما يفارق الأشجانا (¬4) ملكوا مصر مثل قلبى، وفى هـ‍ ... ذا، وفى تلك (¬5) أصبحوا سكّانا فاعدلوا فيهما، فإنكم اليو ... م ملكتم عليهما سلطانا لا تروعوا بالهجر قلب محب ... أورئته أوصابه (¬6) الخفقانا حبذا معهد قضينا به العي‍ ... ـش، وكنا بربعه جيرانا (¬7) ¬

(¬1) في الروضتين: «المتنكف». (¬2) في الروضتين: «عنى». (¬3) في الروضتين: «لا». (¬4) في الروضتين «الاظعانا». (¬5) في الروضتين «وهاتيك». (¬6) في الروضتين: «روعاته». (¬7) هذه المقطوعة ينقصها بيتان يليان هذا البيت الأخير، أوردهما صاحب الروضتين (ج 1، ص 162)، وهما: إذ وجدنا من الحوادث أمنا وأخذنا من الخطوب أمانا ورتعنا من المنى في رياض وسكنا من المغانى جنانا

وبعد: فإن وفود الهناء، وأمداد الدعاء، متواصلة على الولاء، صادرة عن محض الولاء، إلى عالى جنابه المأنوس، ومنيع كنفه المحروس، فليهنه الظفران بالملك وبالعدو، وفرع هضاب المجد والعلو، وكيف لا يكون النصر مساوقا لدين هو صلاحه، والتأييد موافقا لعزم هو (¬1) تجاحه وفلاحه. فالشام يغبط مصرا مذ حللت بها ... كما الفرات عليكم يحسد النيلا نلتم من الملك عفوا ما الملوك به ... عنوا قديما وراموه فما نيلا» وثبتت قدم الملك الناصر صلاح الدين في الملك ورسخ ملكه، والخطبة مع ذلك على المنابر بالديار المصرية للخليفة العاضد، وبعده للملك العادل نور الدين؛ فالملك في الظاهر له، ولا يتصرف صلاح الدين إلا عن أمره، والمكاتبة ترد عليه من نور الدين: «بالأمير الاسفهسلار (¬2)»، ويكتب نور الدين اسمه قبل علامته (¬3) تعظيما لنفسه، ولا يفرده بالمكاتبة، بل يكتب إليه: «الأمير الاسفهسلار صلاح الدين، وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا». ¬

(¬1) الأصل: «موافقا به نجاحه»، والتصحيح عن الروضتين. (¬2) انظر ما فات هنا ص 2، هامش 1. (¬3) العلامة مصطلح خاص يكتبه الخليفة أو السلطان بيده على الرسائل أو الأوامر أو السجلات الصادرة عنه، ولا تصدر هذه الوثائق على اختلافها إلا بعد كتابة هذه العلامة، وكان كل خليفة أو سلطان أو ملك يتخذ لنفسه مصطلحا خاصا ليكون علامته، وقد يكون توقيعا باسمه أو آية قرآنية أو قولا مأثورا إلخ. . . وهذه العلامة هى التي تطورت في أواخر العصر المملوكى وفى العصر العثمانى فأصبحت تعرف «بالطغراء». أنظر: (المقريزى، الخطط، ج 3، ص 367 - 368) حيث يشير إلى «الطغرا» و «العلامة» بقوله: «وكان في الدولة السلجوقية يسمى ديوان الانشاء بديوان الطغرا، وإليه ينسب مؤيد الدين الطغرائى. والطغرا هى طرة المكتوب، فيكتب أعلى من البسملة بقلم غليظ ألقاب الملك، وكانت تقوم عندهم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب ويستغنى بها عن علامة السلطان، وهى لفظة فارسية». أنظر أيضا: (C .Cahen : La Tughra Seljukide .Journal Asiatique,1945 ;La Correspondance de Diya ad - Din Ibn al - Athir .B .S .O .S .V .XIV .Part 1) و (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 344، هامش 1).

ذكر وقعة السودان بالقاهرة

ثم شرع صلاح الدين في استمالة قلوب الناس إليه، ويبذل من الأموال ما كان أسد الدين جمعه، وطلب من العاضد شيئا يخرجه، فلم يمكنه منعه، فمال الناس إليه وأحبوه، وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر والثبات فيه، وضعف أمر العاضد. ثم بلغ نور الدين أن الفرنج قد اجتمعت لتسير إلى مصر، فأمد نور الدين صلاح (¬1) الدين بعسكر فيهم الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب - وهو أكبر من صلاح الدين - وقال له نور الدين لما أراد أن يسيره إلى أخيه: «إن كنت تسير إلى مصر [108] وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذى كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد، فلا تسر، فإنك تفسد البلاد، وأحضرك حينئذ وأعاقبك بما تستحقه، وإن كنت تنظر إليه أنه صاحب مصر وقائم فيها مقامى، وتخدمه بنفسك كما تخدمنى، فسر إليه، واشدد أزره، وساعده على ما هو بصدده»؛ فقال: «أفعل معه من الخدمة والطاعة ما يصل إليك إن شاء الله تعالى»، فكان كما قال. ذكر وقعة السودان بالقاهرة وكان بالقاهرة خصىّ يقال له مؤتمن الخلافة (¬2)، وكان متحكما في القصر، ولما ثقلت وطأة الملك الناصر على أهل القصر، وعلموا أن دولتهم زائلة بسببه، أحبوا الراحة منه، فأجمعوا على مكاتبة الفرنج ليصلوا إلى البلاد، فإذا خرج صلاح الدين إلى لقائهم قبضوا على من بقى من أصحابه بالقاهرة، واجتمعواهم والفرنج ¬

(¬1) في الاصل: «لصلاح». (¬2) اسمه الكامل: «مؤتمن الخلافة جوهر» وكان أحد الأستاذين المحنكين بالقصر. انظر: (المقريزى، الخطط، ج 3، ص 2).

على حربه وحرب أصحابه واستئصالهم، ويكون بعد ذلك البلاد بينهم وبين الفرنج يقتسمونها، فسيّر مؤتمن الخلافة رجلا وحملّه (¬1) كتابا إلى الفرنج، فخرز عليه نعله، وظنوا أن ذلك يخفى عن صلاح الدين والمسلمين (¬2)، {وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} (¬3)». فاتفق أن ذلك القاصد لما عبر بالبئر البيضاء (¬4) رآه رجل تركمانى وعلى القاصد خلقان، وفى يده النعلان اللذان (¬5) أخفيت فيهما المكاتبة، وليس فيهما أثر شىء، فأنكرهما التركمانى، فأخذهما، وأحضرهما إلى صلاح الدين، ففتقهما فوجد مكاتبة الفرنج فيهما من أهل القصر، فأخذ صلاح الدين الكتاب، وقال: «دلونى على كاتب هذا الخط»، فدلوه على رجل يهودى، فلما أحضروه ليسألوه ويعاقبوه ويقابلوه، نطق بالشهادتين واعتصم بهما، واعترف أنه كاتب الكتاب عن أهل القصر، فأخفى صلاح الدين الحال، واستشعر مؤتمن الخلافة، وخاف على نفسه، ولازم القصر لا يخرج منه، فإذا خرج لم يبعد، وصلاح الدين معرض عن ذكره البتة، مغض عنه، لا يأمر فيه ببسط ولا قبض، فاسترسل حينئذ وظن أنه لا يقدم عليه؛ وكان له قصر ¬

(¬1) في الأصل: «وأصحابه» ولا يستقيم المعنى بها، وقد صححت بعد مراجعة: (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 129) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 178). (¬2) بين كلمة «المسلمين» والآية القرآنية لفظ «دبابا» ولا معنى لها فحذفت. (¬3) السورة 9 (التوبة)، الآية 32 (م). (¬4) ذكر (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 2) أنها قريبة من بلبيس، هذا ويستفاد مما ورد في (صبح الأعشى، ج 14، ص 376) عند الكلام عن مراكز البريد وعن الطريق بين القاهرة وغزة أن هذه البئر كانت واقعة بين بلدتى الخانكة وبلبيس، وقد حقق المرحوم محمد رمزى بك موقعها، قال في: (النجوم الزاهرة، ج 8، ص 44، هامش 2): «وبالبحث عن موقعها تبين لى أن مكانها اليوم عزبة أبى حبيب الواقعة في حوض البيضاء بأراضى ناحية الزوامل بمركز بلبيس، ولا يزال اسم البيضاء والمنسوب إليه هذه البئر يطلق على الحوض المذكور». (¬5) في الأصل: «اللذين».

بقرية على شاطىء النيل بقرب قليوب تعرف [109] بالخرقانيّة (¬1)، ذات متنزه وبساتين، فخرج إليها للتنزه، فلما علم صلاح الدين أرسل إليه جماعة من أصحابه فاغتالوه من مأمنه، وقتلوه وأتوا برأسه، وذلك يوم الأربعاء لخمس بقين من ذى القعدة من هذه السنة - أعنى سنة أربع وستين وخمسمائة -. فلما قتل غار السودان (¬2) عبيد القصر وثاروا، وكانوا يزيدون على خمسين ألفا، وكانوا إذا قاموا على وزير قتلوه واجتاحوه؛ فلما ثاروا أنهض (¬3) إليهم الملك الناصر صلاح الدين أبا الهيجاء السمين، ووقعت الحرب بين الفريقين - بين القصرين بالقاهرة - واشتد القتال بين الفريقين، واستمر ذلك يومين، وصاروا كلما لجأوا إلى محلة أحرقت عليهم، وكانت لهم محلة عظيمة على باب زويلة، تعرف بالمنصورة، (¬4)، فأرسل صلاح الدين إليها من أوقع الحريق فيها على أموالهم وأولادهم وحريمهم، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين، وركبتهم السيوف، وأخذت عليهم ¬

(¬1) ذكر (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج 10، ص 97) أنها قرية صغيرة من مديرية القليوبية من قسم قليوب واقعة على الشط الشرقى للنيل في الشمال الغربى لقرية أبى الغيط بنحو نصف ساعة، ومنها إلى القناطر الخيرية نحو ثلثى ساعة، وأبنيتها ريفية وبها جامع بمنارة؛ وذكر أنها كانت تسمى في العصر الفاطمى «الخاقانية». (¬2) أشار (المقريزى في الخطط، ج 3، ص 3) إلى بعض الفرق السودانية التي شاركت في هذه الوقعة، وهى: «الطائفة الريحانية، والطائفة الجيوشية، والطائفة الفرحية، وغيرهم من الطوائف السودانية، ومن انضم إليهم بين القصرين». (¬3) في الأصل «نهض» ولا يستقيم بها المعنى، وقد صححت بعد مراجعة: (الروضتين، ج 1، ص 178)، فالنص هناك نقلا عن العماد: «فثار أصحاب صلاح الدين إلى الهيجا، ومقدمهم الأمير أبو الهيجا». (¬4) ذكر هذه المحلة (المقريزى في الخطط، ج 3، ص 29) باسم «الحارة المنصورية»، قال: «هذه الحارة كانت كبير. متسعة جدا، فيها عدة مساكن للسودان، فلما كانت واقعتهم في ذى القعدة سنة 564 مر صلاح الدين يوسف بن أيوب بتخريب المنصورة هذه وتعفية أثرها، فخربها خطلبا بن موسى الملقب صارم الدين، وعملها بستانا» ثم حدد مكانها في (ص 30) قال: «وكان موضع المنصورة على يمنة من لك في الشارع خارج باب زويلة، وهى إلى جانب الباب الحديد الذى يعرف اليوم بالقوس عند رأس المنتجبية فيما بينها وبين الهلالية.»

أفواه السكك، فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل، فأجيبوا إلى ذلك؛ وذلك يوم السبت ليلتين بقيتا من ذى القعدة، فمضوا إلى الجيزة، فعبر إليهم الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب - أخو السلطان - في طائفة من العسكر فأبادهم بالسيف، فلم يبق منهم إلا الشريد، وضعف أمر العاضد بالكلية وتلاشى أمره؛ وأمر صلاح الدين بتخريب محلة السودان، وأعفى أثرها، فخرّبها بعض الأمراء واتخذها بستانا؛ وأصبح أمر السودان كأن لم يكن قط (¬1)؛ ففى ذلك يقول عماد الدين الكاتب يمدح صلاح الدين، وسيّرها إليه من الشام: بالملك الناصر استنارت ... - في عصرنا - أوجه الفضائل علىّ من حقه فروض ... شكرا لما جاد من نوافل يوسف مصر الذى إليه ... تشدّ آمالنا الرواحل أجريت نيلين في ثراها: ... نيل نجيع، ونيل نائل وما نفيت السودان حتى ... حكّمت البيض في المقاتل [116] صيّرت رحب الفضاء ضيقا ... عليهم كفه بحائل (¬2) وكلّ رأى منهم كراء ... وأرض مصر كلام واصل وقد خلت منهم المغانى ... وأقفرت منهم المنازل ¬

(¬1) أورد المقريزى في كتابه (الخطط، ج 3، ص 29) نصا هاما يشير إلى مكانة السودانيين في الجيش الفاطمى ومبلغ ما كان لهم من نفوذ، وكيف تتبعهم صلاح الدين في الصعيد بعد هذه الوقعة إلى أن قضى على نفوذهم نهائيا، قال: «وكان للسودان بديار مصر شوكة وقوة، فتبعهم صلاح الدين ببلاد الصعيد حتى أفناهم بعد أن كان لهم بديار مصر في كل قرية ومحلة وضيعة مكان مفرد لا يدخله وال ولا غيره، احتراما لهم، وقد كانوا يزيدون على خمسين ألفا، وإذا ثاروا على وزير قتلوه، وكان الضرر بهم عظيما لامتداد أيديهم إلى أموال الناس وأهاليهم، فلما كثر بغيهم وزاد تعديهم أهلكهم الله بذنوبهم. . . الخ». (¬2) الأصل: «كفة لحابل»، وما هنا عن: (الروضتين، ج 1، ص 178)، وقد وردت هذه القصيدة أيضا في: (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 29 - 30)، وهى هناك أكثر أبياتا فانظرها

وما أصيبوا إلا بطلّ ... فكيف لو أمطروا بوابل! والسود بالبيض قد أبيحوا (¬1) ... فهى بواديهم نوازل مؤتمن القوم خان حتى ... غالته من شرّه غوائل عاملكم بالخنا فأضحى ... ورأسه فوق رأس عامل يا مخجل البحر بالأيادى ... قد آن أن تفتح السواحل فقدّس القدس من خباث ... أرجاس كفر غتم أراذل وذكر عماد الدين أنه وصل في هذه المدة كتاب من الملك الناصر صلاح الدين إلى بعض أصحابه بدمشق، وضمنه هذا البيت: وانثر درّ الدمع من قبل أبيضا ... وقد حال مذغبتم فأصبح ياقوتا فنظمت في الجواب أبياتا منها: هنيئا لمصر كون يوسف ملكها ... بأمر من الرحمن قد كان موقوتا وما كان فيها قتل يوسف شاورا ... يماثل إلا قتل داوود جالوتا وقلت لقلبى أبشر اليوم بالمنى ... فقد نلت ما أمّلت، بل حزت ما شيتا ولما وقعت هذه الواقعة تلاشى أمر العاضد خليفة مصر، إلا أن الخطبة باقية له، وبعده لنور الدين، فحكى لى الأمير حسام (¬2) الدين بن أبى على قال: «كان جدى في خدمة الملك الناصر صلاح الدين، فحكى أنه لما وقعت هذه الواقعة شرع صلاح الدين كل يوم يطلب من العاضد شيئا من الخيل والرقيق ¬

(¬1) الأصل: «ألجوا» وما هنا عن الروضتين، وفى الخطط: «تنحوا». (¬2) كان الأمير حسام الدين بن أبى على قائدا من كبار قواد الدولة في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب ونائب السلطنة في عهده، كما كان صديقا حميما للمؤلف ابن واصل، وسينقل عنه فيما يلى الكثير من أخبار الدولة وأسرارها وخاصة في عهد الصالح نجم الدين، وهذا أول حديث ينقله عنه، وهو من الأخبار التي ينفرد ابن واصل بايرادها، وقد نقله عنه (أبو المحاسن: النجوم الزاهرة، ج 5، ص 339).

ذكر منازلة الفرنج دمياط وعودتهم عنها خائبين

والأموال، ليقوى بذلك ضعفه، قال: فسيّرنى يوما إليه أطلب منه فرسا، ولم يبق عنده إلا فرس واحد، فأتيت [111] إليه وهو راكب في بستانه المعروف بالكافورى (¬1)، الذى يلى القصر الغربى (¬2)، فقلت: صلاح الدين يسلم عليك، ويطلب منك فرسا، فقال: ما عندى إلا الفرس الذى أنا راكبه؛ ونزل عنه، وشقّ خفّيه، ورمى بهما، وسلم إلىّ الفرس، فأتيت به صلاح الدين؛ ولزم العاضد بيته، ولم يعد لركوب حتى كان منه ما كان». ذكر منازلة الفرنج دمياط وعودتهم عنها خائبين ولما ملك صلاح الدين - رحمه الله - الديار المصرية، واستقرت قدمه بها، واستقرت بها العساكر النورية، أيقن الفرنج بالهلاك، وأيقنوا أن بلاد الساحل من المسلمين على شفا جرف هار، وأنهم إن لم يتداركوا الأمر وإلا ذهبت البلاد ¬

(¬1) ذكر هذا البستان (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 39) عند كلامه عن «خط الكافورى»، قال: «هذا الخط كان بستانا من قبل بناء القاهرة وتملك الدولة الفاطمية لديار مصر، انشأه الأمير أبو بكر محمد بن طغج الاخشيد، وكان بجانبه ميدان فيه الخيول وله أبواب من حديد، فلما قدم جوهر القائد إلى مصر جعل هذا البستان من داخل القاهرة وعرف ببستان كافور، وقيل له في الدولة الفاطمية البستان الكافورى، ثم اختط مساكن بعد ذلك. وقد حقق المرحوم محمد رمزى بك مكان هذا البستان في القاهرة الحالية في تعليقاته على كتاب النجوم الزاهرة (ج 4، ص 48، هامش 2) فقال إنه كان بستانا كبيرا واقعا قبل إنشاء القاهرة في المنطقة التي تحد اليوم من الشمال بشارع أمير الجيوش الجوانى، ومن الغرب بشارع الخليج المصرى، ومن الجنوب بشارع السكة الجديدة، ومن الشرق بشارع الخردجية وبين القصرين والنحاسين. ولما خرب هذا البستان وبنى في مكانه الدور والمساكن وغيرها أصبح خط الكافورى قاصرا فيما بعد على المنطقة التي تحد اليوم من الشمال بشارع أمير الجيوش الجوانى، ومن الغرب بشارع الشعرانى البرانى، ومن الجنوب بشارع الخرنفش، ومن الشرق بحارة برجوان. (¬2) كان موضعه حيث البيمارستان المنصورى (ومستشفى قلاوون للرمد يشغل جزءا منه الآن) وكل المساكن التي تجاوره إلى الخليج. انظر: (النجوم الزاهرة، ج 4، ص 66، هامش 1).

من أيديهم، فكاتبوا افرنج صقلية [والأندلس] (¬1) وغيرهم، واستمدوهم واستنصروهم لدين النصرانية، وأمدوهم بالأموال والرجال والسلاح، واعتدوا للنزول على دمياط، فوصل إلى دمياط الفرنج والروم من داخل البحر، واستصحبوا معهم المنجنيقات (¬2) والدّبابات (¬3) وآلات الحصار وغير ذلك، واشتد أمر الفرنج بالشام لما قدم فرنج ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن الكامل لابن الأثير، والروضتين. والمعروف أن أمورى عندما أدرك خطورة استيلاء نور الدين على مصر أرسل يستنجد بمسيحى أوربا جميعا. ولكنهم تقاعسوا عن نجدته لأسباب مختلفة. فلجأ إلى مانويل امبراطور الدولة البيزنطية، فلبى دعوته، ولهذا كانت الحملة على دمياط تتكون من جيش أمورى الصليبى وأسطول ببزنطى ضخم. لمعرفة أخبار هذه الاتصالات وموقف البيزنطيين في الحملة انظر: (حسن حبشى: نور الدين والصليبيون، ص 134 - 140). (¬2) المنجنيق - بفتح الميم وكسرها - أو المنجنوق، او المنجميق، والجمع: مجاثيق ومناجيق ومنجنيقات، لفظ أعجمى معرب فهو في اللاتينية، (Mangonellus) وفى الفرنسية (Mangonneou) وفى الانجليزية (Mangonel) ، وهو آلة من آلات الحصار في العصور الوسطى، يقوم مقام المدفع الحالى، وإن كانت قذائفه من الحجارة، وقد وصفه صاحب صبح الأعشى (ج 2، ص 144) بأنه «آلة من خشب له دفتان قائمتان بينهما سهم طويل رأسه ثقيل وذنبه خفيف، تجعل كفة المنجنيق التي يجعل فيها الحجر يجذب حتى ترفع أسافله الأعلى أعاليه، ثم يرسل فيرتفع ذنبه الذى فيه الكفة فيخرج الحجر منه، فما أصاب شيئا إلا أهلكه. وقد ذكر (مرضى بن على بن مرضى الطرطوسى) في مخطوطته «تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة في الحروب من الأسواء. . . الخ» التي آلفها خصيصا للسلطان صلاح الدين الأيوبى أن المنجنيقات على عهده كانت ثلاثة أنواع: «فمنها العربى وهو أيقن مصنوعاتها، وأوثق معمولاتها، ومنها التركى وهو أقلها كلفة وأحصرها مؤونة، ومنها الفرنجى» ثم وصف هذه الأنواع جميعا وصفا دقيقا مشفوعا بالرسوم. وقد نشر مقتطفات من هذه المخطوطة مع ترجمة فرنسية وتعليقات قيمه الأستاذ كلود كاهن. أنظر: (Claude Cahen : Un Traite D'Armurerie Compose pour Saladin .Extrait du Bulletin d'Etudes Orientales,Damas,Tome XII .1947 - 1948) هذا ويوجد ايضا في: (الحسن بن عبد الله: آثار الأول، ص 191 - 193) وصف ممتع للمنجنيق وطرق استعماله. انظر كذلك: (الجواليقى: المعرب، ص 305 - 307) و (نعمان ثابت: الجندية في الدولة العباسية، ص 190 - 193) و (المقريزى: اتعاظ الحنفا، نشر الشيال، ص 119، هامش 3). (¬3) جاء في (اللسان) أن «الدبابة آلة تتخذ من جلود وخشب، يدخل فيها الرجال ويقربونها من الحصن المحاصر لينقبوه وتقيهم ما يرمون به من فوقهم، سميت بذلك لأنها تدفع فتدبّ، وقد قرن (مرضى بن على) بينها وبين الأبراج والستائر، ووصفها جميعا وطرق صنعها في كتابه =

الغرب إلى دمياط، فسرقوا حصن عكار من المسلمين، وأسروا صاحبها، وكان مملوكا لنور الدين يقال له خطلخ (¬1) الجمدار؛ وكان وصول الفرنج إلى دمياط في صفر سنة خمس وستين وخمسمائة. وكان سبق إلى دمياط الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ابن أخى السلطان، وكذا شهاب الدين خاله، فدخلا دمياط، وتابع إليهما صلاح الدين الأمداد والنجد في البحر، وأمدهما بالسلاح والمال والذخائر، واتصل على دمياط حصار الفرنج وضايقوها، وتابع صلاح الدين رسله إلى الملك العادل نور الدين - رحمه الله - يشكو إليه ما هو فيه من المخاوف، وأنه إن تخلف عن دمياط ملكها الفرنج، وإن سار إليها خلفه المصريون في مخلفيه ومخلفى عسكره بالسوء، وخرجوا عن طاعته، وصار الفرنج أمامه والمصريون خلفه، فجهز إليه نور الدين العساكر أرسالا، كلما تجهزت طائفة أرسلها، فسارت إليه يتلو بعضها بعضا. ثم سار نور الدين فيمن عنده من العساكر ودخل بلاد الفرنج، [112] فنهبها وأغار عليها واستباحها، لتتحرك الفرنج إلى حفظ البلاد الشامية ويشتغلوا عن دمياط؛ وذكر أنه بلغ من اهتمام نور الدين بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قرئ ¬

= السالف الذكر، انظر: (C .Cahen : Op .Cit . P. 18 - 19) كذلك وصفها (الحسن عبد الله: آثار الأول، ص 192) بقوله: «هى آله سائرة تتخذ من الخشب الثخين المتلزز، وتغلف باللبود والجلود المنقعة في الخل لدفع النار، وتركب على عجل مستديرة، وتحرك فتنجر، وربما جعلت برجا من الخشب، ودبر فيها هذا التديير، وقد يدفعها الرجال فتندفع على البكر» وقد وصف (العماد الأصفهانى: الفتح القسى) باحدى دبابات الفرنج بأنها «كانت دبابة عظيمة هائلة ولها أربع طباق، وهى خشب ورصاص وحديد ونحاس». انظر المراجع المذكورة في الحاشية السابقة؛ (المقريزى في السلوك، ج 1، ص 96، حاشية 8) و (Dozy : Supp .Dict .Arab) هذا وقد كتب قارىء في هامش الأصل معنى هذا اللفظ باللاتينية وهو (mufculos machinas bellicas) . (¬1) في الاصل: «خلطلخ» وقد صحح الاسم بعد مراجعة (الروضتين، ج 1 ص 180) وهو يسميه هناك «العلمدار» لا «الجمدار».

بين يديه جزء من حديث كان له به رواية، فجاءه في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يتبسم ليتم السلسلة على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك، وقال: «إنى لأستحى من الله تعالى أن يرانى مبتسما والمسلمون محاصرون بالفرنج». وذكر أن إماما لنور الدين رأى ليلة رحل الفرنج عن دمياط في منامه النبى - صلى الله عليه وسلم - وقال له: «أعلم نور الدين أن الفرنج رحلوا عن دمياط في هذه الليلة»، قال: فقلت: «يا رسول الله لا يصدقنى، فاذكر لى علامة يعرفها»، [قال]: فقل له «بعلامة ما سجدت على تل حارم، وقلت: يا رب انصر دينك (¬1)، ولا تنصر محمودا؛ من محمود الكلب حتى ينصر؟!» قال: «فانتبهت، ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أن ينزل إليه بغلس، ولا يزال يركع فيه حتى يصلى الصبح»، قال: «فتعرضت له، فسألنى عن أمرى، فأخبرته بالمنام، وذكرت له العلامة كلها، إلا أننى لم أذكر لفظ الكلب»؛ فقال نور الدين: «اذكر العلامة كلها» وألحّ علىّ، فقلتها، فبكى، وصدّق الرؤيا. وأرخت تلك الليلة، فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة». ولما رأى الافرنج تتابع الأمداد إلى دمياط من القاهرة والشام، ودخول نور الدين إلى بلادهم ونهبها وإخرابها (¬2) رجعوا خائبين؛ وكان مدة مقامهم ¬

(¬1) في الأصل: «دبنك» وهو خطأ واضح، لم يكن تصحيحه يحتاج إلى الاشارة إليه في الهامش، لولا أن القارىء الفرنجى الذى اعتاد أن يسجل بعض شروحه باللاتينية على هوامش المخطوطة لم يفطن للقراءة الصحيحة للفظ، وفهمه على أنه «دبن»، وشرحه باللاتينية هكذا: (Caula gregis,mandre) ؛ وفى (اللسان): الدبن حظيرة من قصب تعمل للغنم، فان كانت من خشب فهى زرب. فتأمل!! (¬2) في الأصل: «وخربها» والتصحيح عن الروضتين.

على دمياط خمسين يوما، وكان رحيلهم لتسع بقين من ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وأنفق صلاح الدين في هذه النوبة أموالا عظيمة، وذكر عنه أنه قال: «ما رأيت أكرم من العاضد، أرسل إلىّ مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها»؛ وسيّرت الكتب إلى الشام بالبشارة برحيل الفرنج، فكتب نور الدين إلى العاضد صاحب مصر يهنئه برحيل الفرنج عن دمياط، وكان قد ورد عليه كتاب [113] من العاضد يستقيل فيه من الأتراك خوفا منهم، ويطلب الاقتصار على صلاح الدين وخواصه وألزامه؛ فكتب إليه (1) نور الدين بمدح (¬1) الأتراك، ويعلمه أنه ما أرسلهم واعتمد عليهم إلا لعلمه بأن قنطاريّات (¬2) الفرنج ليس لها إلا سهام الأتراك، وأن الفرنج لا يخافون إلا منهم، ولولاهم لزاد طمعهم في الديار المصرية، ولعل الله سبحانه وتعالى ييسّر بهم فتح بيت المقدس. ومما مدح به الملك الناصر صلاح الدين بعد رحيل الفرنج ما كتب إليه به عماد الدين الكاتب - رحمه الله - من قصيدة (¬3) مخلصها: كأنّ قلبى وحبّ مالكه ... مصر وفيها المليك يوسفها ¬

(¬1) في الأصل: «إلى» و «مدح»، والتصحيح عن: (الروضتين ج 1، ص 181). (¬2) القنطارية نوع من الرمح، وهى لفظ من أصل يونانى (Kontarion) وسميت هكذا لأنها تصنع من نوع من الخشب يحمل هذا الاسم باليونانية. وقد وصفها (مرضى بن على) وصفا دقيقا في كتابه السالف الذكر، قال: «وبنو الأصفر ومن جالسهم من الروم يعتدون وماحا من الخشب الزان والشوح وما شاكله ويسمونها القنطاريات، وليست بالطويلة، ويطعنون بها، ومن فرسانهم من تقربص بها، وهو أن يجعل طرفها في قربوص سرجه ويطعن، وأسنتها قصار عراض كهيئة البلطيّة وما جرى مجراها». أنظر: (C .Cahen : Un Traite D'Armurerie Composepour Saladin P. P 11,155) و (Dozy .Supp .Dict .Arab) . (¬3) وردت هذه الأبيات في: (الروضتين، ج 1، ص 182)، أما القصيدة كاملة فموجودة في: (العماد الأصفهانى: الخريدة، قسم شعراء مصر، ج 1 ص 9 - 11) وقد استعنا بهذين المرجعين لتصحيح الأبيات وضبطها وشرحها.

هذا بسلب الفؤاد يظلمنى، ... وهو بقتل الأعداء ينصفها الملك الناصر الذى أبدا ... بعزّ سلطانه يشرّفها قام بأحوالها، فدبّرها ... حسنا، وأثقالها يخفّفها بعدله والصّلاح يعمرها، ... وبالندى والجميل يكنفها من دنس الغادرين يرحضها، ... ومن خباث العدى ينظّفها وإنّه في السّماح حاتمها، ... وإنّه في الوقار أحنفها يوسف مصر التي (¬1) ملاحمها ... جاءت بأوصافه تعرّفها كتب التواريخ لا يزيّنها ... - إلا بأوصافه - مصنّفها وحطت (¬2) دمياط إذ أحاط بها ... من برجوم (¬3) البلاء يقذفها لاقت غواة الفرنج خيبتها ... فزاد - من حسرة - تأسّفها أوردت قلب (¬4) القلوب أرشية ... من القنا للدماء تنزفها (¬5) ولّيتها سفكها فعاملها ... عاملها (¬6) والسّنان مشرفها (¬7) يمضى لك الله في قتالهم ... عزيمة للجهاد ترهقها ¬

(¬1) في الأصل: «الذى». (¬2) في الأصل: «وحط»، والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬3) في الأصل: «ممن رجوم» والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬4) القلب جمع قليب وهو البئر؛ والأرشية الحبال، وهى جمع رشاء. (¬5) في الأصل: «تصرفها»، وما هنا عن المرجعين السابقين. (¬6) عامل الرمح صدره؛ والعامل الوالى. (¬7) مشرف الشىء ما يعلوه؛ والمشرف كذلك القائم على الأمر.

ذكر وصول الملك الأفضل نجم الدين أيوب بن شاذى والد السلطان إلى مصر

ذكر وصول الملك الأفضل نجم الدين أيوب بن شاذى والد السلطان إلى مصر [114] ثم أرسل السلطان الملك الناصر صلاح الدين إلى الملك العادل نور الدين - رحمه الله - يطلب أن يرسل إليه والده نجم الدين أيوب، فجهّزه نور الدين وسيّر معه عسكرا، واجتمع معهم من التجار خلق كثير، وانضاف إليهم من كان له مع صلاح الدين أنس وصحبة، ثم خاف نور الدين عليهم من الفرنج، فسار إلى الكرك في عساكره، فحصره وضيّق عليه، ونصب عليه المجانيق ليشغل الفرنج عنهم، فأتاه الخبر أن الفرنج قد جمعوا وحشدوا وساروا إليه، فسار نور الدين نحوهم، فرجعوا عنه القهقرى، وسلك نور الدين وسط بلادهم يحرق وينهب ما على طريقه من القرى؛ إلى أن وصل إلى عشترا (¬1)، فخيّم بها وأقام ينتظر حركة الفرنج ليلقاهم، فلم يبرحوا مكانهم، وأقام هو حتى أتاه خبر الزلزلة العظيمة التي وقعت في هذه السنة، فرحل. وهذه الزلزلة (¬2) هى المعروفة بزلزلة حلب التي هدت أكثر منازلها، وكانت عظيمة جدا، وكان تأثيرها في حلب وبلادها نظير تأثير الزلزلة التي كانت بحماة سنة اثنين وخمسين وخمسمائة - التي قدمنا ذكرها - ووصل الملك الأفضل نجم الدين أيوب - رحمه الله - إلى القاهرة في الرابع والعشرين من رجب من هذه السنة - أعنى سنة خمس وستين وخمسمائة -، وخرج العاضد - صاحب القصر - لاستقباله، وبالغ في احترامه والإقبال عليه. ¬

(¬1) هكذا ضبطها ياقوت وقال إنها موضع بحوران من أعمال دمشق. (¬2) حدثت هذه الزلزلة في ثانى عشر شوال. انظر أخبارها بالتفصيل في: (ابن الأثير: الكامل 2 ج 11، ص 132 - 133) و (الروضتين، ج 1، ص 184).

واتفق لأيوب مع ولده صلاح الدين يوسف شبيه ما اتفق ليعقوب مع ابنه يوسف - عليهما السلام - حين قدم على ولده، ووجده متملكا للديار المصرية، وقال: {اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (¬1)}». وذكر أنه لما خرج ولده الملك الناصر صلاح الدين والخليفة العاضد إلى لقائه، واجتمعا به قرأ بعض المقرئين: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ (¬2)}» - الآية - ولما اجتمع صلاح الدين بأبيه سلك معه من الأدب ما جرت به عادته، وفوّض إليه الأمر كله، فأبى ذلك عليه أبوه وقال له: «يا ولدى ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤله، فلا ينبغى أن تغير مواقع السعادة» [115] فحكّمه في الخزائن بأسرها، وأنزله اللؤلؤة (¬3) المطلة على خليج القاهرة، فأنشده يوما ابن أبى حصينة (¬4) وغضّ من خلفاء مصر: ¬

(¬1) السورة 12 (يوسف)، الآية 99 ك. (¬2) السورة 12 (يوسف)، الآية 100 ك. (¬3) اللؤلؤة منظرة من مناظر الفاطميين كانت تعرف بقصر اللؤلؤة، ويشرف من شرقيه على البستان الكافورى، ومن غريبه على الخليج؛ وصفه (المقريزى: الخطط، ج 2، ص 348 إلى 350) بأنه كان من أحسن القصور وأعظمها زخرفة، أنشأ هذه المنظرة العزيز بالله ثم هدمها الحاكم ثم جددها الظاهر؛ ومكانها اليوم تبعا لتحقيقات محمد رمزى (النجوم الزاهرة، ج 4، ص 46، هامش 2) مدرسة الفرير التي بشارع الشعرانى البرانى على رأس شارع الخرنفش بقسم الجمالية. أنظر أيضا: (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج 2، ص 128). (¬4) هو يحيى بن سالم بن أبى حصينة الأحدب، ترجم له (العماد الأصفهانى: الخريدة، قسم شعراء مصر، ج 2، ص 157) فقال إنه من أهل مصر، وجده من أهل المعرة بالشام، من نسب الشاعر المعروف، ثم أورد له بعض شعره، وقد ذكر ناشر الخريدة أن لهذا الشاعر ترجمة في (ابن سعيد: المغرب، الجزء الثانى، الورقة 173) و (ابن حجر: التجريد، الورقة 257). وقد ترجم صاحب الخريدة لأبيه سالم بن مفرج بن أبى حصينة في (نفس المرجع، ص 107 - 108). أنظر أيضا: (عمارة: النكت العصرية، ص 292)، وفى (النجوم الزاهرة، ج 5، ص 75) ترجمة لشاعر آخر من نفس الأسرة، فقد قال في وفيات سنة 456 هـ‍: «توفى الحسن بن عبد الله بن أحمد أبو الفتح الحلبى الشاعر المعروف بابن أبى حصينة، كان فاضلا شجاعا فصيحا يخاطب بالأمير».

يا مالك الأرض لا أرضى له طرفا ... منها، وما كان فيها لم يكن طرفا قد عجّل الله هذى الدار تسكنها، ... وقد أعدّ لك الجنّات والغرفا تشرّفت بك عمّن كان يسكنها ... فالبس بها العزّ، ولتلبس بك الشّرفا كانوا بها صدفا، والدار لؤلؤة، ... وأنت لؤلؤة صارت لها صدفا فرد عليه عمارة (¬1) بن على اليمنى الشاعر، وكان يتعصب لخلفاء مصر، لاصطناعهم إياه وإحسانهم إليه، فقال: أثمت (¬2) يا من هجا السادات والخلفا ... وقلت ما قلته في ثلبهم سخفا جعلتهم صدفا حلّوا بلؤلؤة ... والعرف: ما زال سكنى (¬3) اللؤلؤ الصّدفا وإنما هى دار، حلّ جوهرهم ... فيها، (¬4) وشفّ فأسناها الدى وصفا فقال: لؤلؤة! عجبا ببهجتها، ... وكونها حوت (¬5) الأشراف والشّرفا فهى بسكّانها (¬6) الآيات إذ سكنوا ... فيها، ومن قبلها قد أسكنوا الصّحفا والجوهر الفرد نور، ليس يعرفه ... - من البريّة - إلا كلّ من عرفا لولا تجسّمه فيهم (¬7) لكان على ... ضعف البصائر للأبصار مختطفا فالكلب - يا كلب - أسنى منك مكرمة، (¬8) ... لأنّ فيه حفاظا دائما ووفا ¬

(¬1) أشير إلى اسم الشاعر - في الأصل - بعلامة، وكتبت أمامه في الهامش هذه الجملة اللاتينية (Vide plura de hoc poeta infra pag .128) ويشير كاتب هذه الجملة من الفرنج إلى قصيدة أخرى لعمارة وردت في ص 128 من المخطوطة وهى القصيدة التي رثى بها عمارة الفاطميين. (¬2) في الأصل: «ألمت» والتصحيح عن: (عمارة: النكت العصرية، ص 292) و (المقريزى: الخطط، ج 2، ص 351). (¬3) في الأصل: «كن» والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬4) في الأصل: «بها»، والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬5) في الأصل: «حلت» والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬6) في الاصل: «فهم بسكنايها»؛ وفى الخطط «فهم بسكناهم»؛ وما هنا صيغة «النكت». (¬7) كذا في الاصل وفى (النكت)؛ وفى (الخطط): «فيه». (¬8) كذا في الاصل وفى (الخطط)؛ وفى (النكت): «معروفة».

ذكر وفاة قطب الدين مودود بن زنكى صاحب الموصل

وفى هذه السنة - أعنى سنة خمس وستين وخمسمائة - سار الأمير شهاب الدين محمد بن إلياس ابن إيلغازى بن أرتق - وكانت له البيرة - في عسكره، - وهم مائتا (¬1) فارس - إلى خدمة الملك العادل نور الدين محمود - رحمه الله -، وهو نازل بعشترا؛ فلما وصل إلى اللبوة من أعمال بعلبك، وكان قد ركب متصيّدا، فصادف ثلاثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للإغارة على بلاد الإسلام، فوقع بعضهم على بعض، واقتتلوا، وصبر الفريقان، وكثر القتل فيهم، فانهزم الفرنج، واستولى عليهم القتل والأسر، فلم يسلم منهم من يعتد به؛ ثم سار شهاب الدين بالأسرى ورؤوس القتلى إلى نور الدين، فركب هو وعسكره إلى لقائه، واستعرض الأسرى ورؤوس [116] القتلى، فرأى فيها رأس مقدّم الاسبتارية (¬2)، صاحب حصن الأكراد، وكان معظما عند الفرنج. ذكر وفاة قطب الدين مودود بن زنكى صاحب الموصل وفى ذى الحجة من هذه السنة توفى قطب الدين مودود بن زنكى بن آق سنقر - صاحب الموصل - وكان مرضه حادا، ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لولده عماد الدين زنكى بن مودود، فلم يتم أمره، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) في الاصل: «مايتى». (¬2) هذه هى التسمية العربية لطائفة الفرسان الهسبتاليين، وهو تحريف ظاهر للفظ الانجليزى (Hospitallers) أو الفرنسى، (Hospitalliers) وكان يطلق في عصر الحروب الصليبية على طائفة من الفرسان الدينيين، وقد أسس هذه الطائفة (Blessed Gerard) في سنة 1099 م بعد استيلاء الصليبيين على بيت المقدس. وكانت الدار التي يسكنها هؤلاء الرهبان (Hospice) موجودة قبل ذلك في بيت المقدس وتتخذ مأوى للحجاج والمرضى من المسيحيين، وتشبه هذه الطائفة في كثير طائفة فرسان المعبد (Templiers) التي عرفها العرب باسم «الداوية»، وقد لعب فرسان هاتين الطائفتين دورا خطيرا في الحروب الصليبية انظر: (King: Knights Hospitallers pp .1 - 33) و (محمد فريد أبو حديد: صلاح الدين الأيوبى وعصره، ص 104، هامش 1).

ذكر سيرته - رحمه الله -

ذكر سيرته - رحمه الله - كان من أحسن الملوك سيرة، وأعفهم عن أموال الرعية، محسنا إليهم، كثير الإنعام عليهم، محببا عند الصغير والكبير منهم، وكان سريع الانفعال للخير، بطيئا عن الشر، جم المناقب، قليل المعابث؛ وجرت واقعة عجيبة ينبغى أن نتعظ بها، حدّث الشيخ عز الدين بن الأثير عن والده، قال: «كنت أتولى جزيرة ابن عمر لقطب الدين كما علمتم، فلما كان قبل موته بيسير، أتانى كتاب من الديوان (¬1) بالموصل، يأمرون بمساحة جميع بساتين العقيمة، وهى قرية تحاذى الجزيرة وبينهما دجلة، ولها بساتين كثيرة، بعضها يمسح فيؤخذ منه عن كل جريب (¬2) شىء معلوم، وبعضها عليه خراج، وبعضها مطلق من الجميع، وكان لى فيها ملك»، فكتبت أقول: «إن المصلحة أن لا يغيّر على الناس شئ، وما أقول لأجل ملكى، فإننى أنا أمسح ملكى، وإنما أريد أن يدوم الدعاء من الناس لهذه الدولة»؛ فجاءنى كتاب النائب يقول: «لا بد من المساحة»؛ قال: فأظهرت الأمر، وكان بها قوم صالحون، لى بهم أنس، وبيننا وبينهم مودة، فجاءنى الناس كلهم، وأولئك معهم؛ يطلبون المراجعة، فأعلمتهم أننى راجعت، وما أجبت إلى ذلك؛ فجاءنى منهم رجلان أعرف صلاحهما، وطلبا منى معاودة المخاطبة ثانيا؛ ففعلت، ¬

(¬1) كان لفظ «الديوان» يطلق أحيانا في ذلك العصر على موظف أو موظفى الديوان كما يتضح من النص هنا. (¬2) الجريب هنا مقياس للأرض، ومقداره عشر قصبات في عشر قصبات، على أنه قد يختلف باختلاف المكان والزمان؛ والجريب في الأصل مكيال، وسعته ما يكفى من الحب لبذر مساحة معينة، ومن هنا سميت تلك المساحة باسم الجريب. انظر: (الماوردى: الأحكام السلطانية) و (المقريزى، إغاثة الأمة، ص 51 و 63) و (Enc .Isl .Art : Djarib) وما بها من مراجع.

ذكر استيلاء سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى على الموصل

فأصروا على المساحة، فعرفتهما الحال، قال: «فما مضى إلا عدة أيام وإذا قد جاءنى الرجلان، فلما رأيتهما ظننت أنهما يطلبان المعاودة، فعجبت منهما، وأخذت أعتذر إليهما، فقالا: ما جئنا إليك في هذا، وإنما جئنا نعرفك أن حاجتنا قد قضيت»؛ قال: «فظننت أنهما قد أرسلا إلى المحصل من يشفع لهما»؛ قلت: «من الذى خاطب في هذا [117] بالموصل؟» فقالا: «إن حاجتنا قد قضيت من السماء، ولكافة أهل العقيمة»، فظننت أن هذا مما حدثا به نفوسهما، ثم قاما عنى، فلم يمض غير عشرة أيام، وإذا قد جاء كتاب من الموصل، يأمرون فيه بإطلاق المحبسين والمساحة والمكوس، ويأمرون بالصدقة». ويقال إن قطب الدين - يعنى السلطان - مريض على حال شديدة، ثم بعد يومين أو ثلاثة جاءنا الكتاب بوفاته، فعجبت من قولهما، واعتقدته كرامة لهما، قال: فصار والدى بعد ذلك يكثر إكرامهما واحترامهما ويزورهما». ذكر استيلاء سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى على الموصل كان النائب بالموصل والقيّم بأمور الدولة بعد زين الدين على كوجك فخر الدين عبد المسيح، وكان خادما لقطب الدين، وكان يكره عماد الدين لأنه (1) كان طوع عمه (¬1) نور الدين، لكثرة مقامه عنده، ولأنه كان زوج ابنته؛ وكان نور الدين يبغض فخر الدين عبد المسيح؛ واتفق فخر الدين والخاتون (¬2) ابنة حسام الدين تمرتاش [بن] إيلغازى - والدة سيف الدين - على صرف الملك عن عماد الدين ¬

(¬1) الضمير هنا يعود على قطب الدين. (¬2) هى صفية خاتون وكانت زوجة لقطب الدين مودود، انظر عنها وعن أبيها: (Zambaur Op .Cit .PP .33,136. 227) .

ذكر استيلاء الملك العادل نور الدين - رحمه الله - على الموصل، وإقرار ابن أخيه سيف الدين عليها

إليه، فأجلس في الملك سيف الدين بن غازى بن قطب الدين مودود، ورحل عماد الدين زنكى بن مودود إلى عمه نور الدين مستنصرا به؛ وكان عمر قطب الدين لما توفى قريبا من أربعين سنة، ومدة ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا. وفى هذه السنة توفى الأمير مجد الدين بن الداية، وهو رضيع نور الدين، وكان أعظم الأمراء منزلة عنده، وكان له من الإقطاع حارم، وقلعة جعبر، فردّ ما كان إليه إلى أخيه شمس الدين بن الداية. ذكر استيلاء الملك العادل نور الدين - رحمه الله - على الموصل، وإقرار ابن أخيه سيف الدين عليها ولما بلغ نور الدين - رحمه الله - وفاة أخيه قطب الدين بالموصل، واستيلاء عبد المسيح واستبداده بالأمور أنف من ذلك وعظم عليه، وكان شديد البغض لعبد المسيح - كما ذكرنا - فقصد الرّقة، في سنة ست وستين وخمسمائة، فتسلمها على عوض أعطاه النائب بها. وحكى عماد الدين الكاتب - رحمه الله - قال: «استدعانى نور الدين - ونحن بظاهر الرّقة -، وقال لى: قد أنست بك، وأمنت إليك، وأنا غير مختار للفرقة، لكن المهم [118] الذى عرض لا يبلغ الغرض فيه غيرك، فتمضى إلى الديوان العزيز جريدة، وتنهى إليه أنى قصدت بيتى وبيت والدى، فأنا كبيره ووارثه، وتأخذ لى منه إذنا في ذلك، وأنا ممتثل لما يرد علىّ منه؛ وأمر الأمير ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه أن يسيّرنى إلى الرحبة في رجال من عنده،

وسرت منها إلى البرية غربى الفرات بخفير من بنى خفاجة، فوصلت، وقضيت الحاجة، ورجعت من عند الخليفة المستنجد بالله - وهو يحاصر سنجار -. ولما ملك نور الدين الرّقة سار إلى الخابور فملكه جميعه، ثم ملك نصيبين، وأقام بها بجميع العساكر، فأتاه نور الدين محمود بن قرا أرسلان الأرتقى - صاحب الحصن -، واجتمعت عليه العساكر؛ ثم سار إلى سنجار فحاصرها، ونصب عليها المجانيق، وكان بها عسكر كثير من الموصل، فكاتبه عامة الأمراء الذين بالموصل يحثونه على السرعة إليهم ليسلموا البلد إليه؛ وأشاروا بترك سنجار، فلم يقبل منهم، وأقام حتى ملك سنجار وسلمها إلى ابن أخيه عماد الدين زنكى بن مودود؛ ثم سار إلى الموصل فأنى إلى بلد، وعبر دجلة من مخاضة عندها إلى الجانب الشرقى، ثم سار حتى وصل شرقى الموصل على حصن نينوى، ودجلة بينه وبين الموصل؛ وبوصوله - أعنى وصول نور الدين - سقط من سور الموصل بدنة كبيرة. وكان فخر الدين عبد المسيح قد سيّره عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود إلى أتابك إيلدكز - صاحب بلاد الجبل وأذربيجان -، وأراد يستنجدوه، فأرسل إيلدكز رسولا إلى نور الدين ينهاه عن قصد الموصل، ويقول له: إن هذه البلاد للسلطان، ولا سبيل لك عليها، فلم يلتفت نور الدين إلى رسالته، وكان بسنجار، فسار إلى الموصل، وقال للرسول: «قل لصاحبك أنا أرفق ببنى أخى منك، فلا تدخل نفسك بيننا، وعند الفراغ من إصلاحهم يكون الحديث معك على باب همذان، فإنك قد ملكت نصف بلاد الإسلام، وأهملت الثغور، حتى غلب الكرج (¬1) عليها، ¬

(¬1) الكرج أمة من المسيحيين، كانت مساكنها بجبال القوقاز المجاورة لتفليس، ثم استولوا على تفليس من المسلمين سنة 515 هـ‍، ولم يزالوا متملكين لها إلى أن أغار عليهم جلال الدين خوارزمشاه سنة 621 هـ‍ واسترد تفليس منهم. انظر: (Allen : History of the Georgian People PP .85 - 112) .

ذكر وفاة الخليفة المستنجد بالله أبى المظفر يوسف بن المقتفى وسيرته

وبليت أنا بأشجع الناس - الفرنج -، وأخذت بلادهم، وأسرت ملوكهم، فلا يجوز لى أن أتركك على ما أنت عليه، فإنه يجب علينا الحفظ لما أهملت من بلاد الإسلام، وإزالة الظلم [119] عن المسلمين». وعاد الرسول بهذا الجواب. ثم إن الأمراء الذين بالموصل كاتبوا نور الدين وأعلموه عزمهم على الوثوب بعبد المسيح وتسليم البلد إليه، ولما علم عبد المسيح بذلك راسله في تسليم البلد إليه وتقريره على سيف الدين، ويطلب الأمان وإقطاعا يكون له، فأجابه إلى ذلك، وقال: «لا سبيل إلى لقائك بالموصل؛ بل تكون عندى بالشام، فإنى لم آت لآخذ البلاد من أولادى. وإنما جئت لأخلص الناس منك، وأتولى أنا تربية أولادى»؛ واستقرت القاعدة على ذلك؛ وتسلم نور الدين الموصل، ودخلها لثلاث عشرة ليلة مضت من جمادى الأولى من هذه السنة - أعنى سنة ست وستين وخمسمائة -، ونزل في القلعة، وولّى بالقلعة سعد الدين كمشتكين، وأبقى بالموصل سيف الدين غازى بن مودود، واسم الملك له، وقسّم تركة قطب الدين بين أولاده بمقتضى الفريضة. ذكر وفاة الخليفة المستنجد بالله (¬1) أبى المظفر يوسف بن المقتفى وسيرته كنا ذكرنا وفاة المقتفى لأمر الله في سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ومصير الخلافة إلى ولده المستنجد بالله أبى المظفر يوسف، وأنه أقام بوزارته عون الدين ¬

(¬1) أنظر ترجمته في: (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 192 - 194 و 236) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 134 - 135) و (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق ا، ص 282 - 283) و (ابن طباطبا: الفخرى، ص 279 - 282) و (السيوطى: تاريخ الخلفاء، ص 293 - 294) و (ابن دحية: النبراس، ص 158 - 159).

أبا (¬1) المظفر يحيى بن هبيرة (¬2) - وزير والده -، وكان عنده معظما كما كان عند والده، ثم بعد ذلك جرت مشاحنة بين الوزير عون الدين وأستاذ الدار عضد الدين محمد بن عبد الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء، واشتد الأمر بينهما (¬3)؛ وكان عضد الدين هذا متمكنا عند الخليفة المستنجد بالله، فبقى عون الدين مداريا له مستوحشا منه [وطلب الإقالة من الخليفة فأقاله، ولزم بيته (¬4)]، إلى أن توفى الوزير عون الدين ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الأول سنة ستين وخمسمائة. وكان من أعيان الوزراء، وكان إقطاعه في ديوان الخلافة (¬5) في كل سنة ما يقارب مائة ألف دينار، ومات وعليه ديون جمة، ولم يدخر ملكا ولا دينارا ولا درهما؛ وكان ابتاع دارا من (¬6) صدقة بباب العامة، فقيل له: باسم من تكتبه؟ فقال: باسم الوكلاء - أجلهم الله تعالى - يعنى وكلاء الخليفة؛ فقيل له في ذلك، فقال: «إن كنت في الوزارة فهذه الدار لى وغيرها، وإذا عزلت عنها فأرجو أن أمكّن من الإقامة ببعض المساجد». وكانت مدة وزارته للخليفتين المقتفى والمستنجد، ست (¬7) عشرة سنة (¬8). ¬

(¬1) في الأصل: «أبو». (¬2) أنظر ترجمته في: (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 214 - 217) و (ابن خلكان: الوفيات، ج 5، ص 274 - 287). (¬3) بهذا اللفظ تبدأ ص (30 ا) من نسخة س. وبذلك نعود للمقارنة بين نصى النسختين: (ك، س). (¬4) ما بين الحاصرتين زيادات عن س (ص 30 ا). (¬5) في س: «الخليفة». (¬6) في س: «دارين صدقة». (¬7) في س (30 ا): «سبع». (¬8) يوجد في س (ص 30 ا) بعد هذا اللفظ الجملة الآتية: «وقد ذكرناه في تاريخ القاضى شهاب الدين على غير هذه الصورة».

ذكر البيعة بالخلافة للمستضىء بنور الله ابن المستنجد بالله

ثم توفى الخليفة المستنجد [120] بالله يوم الجمعة سابع ربيع الآخر من هذه السنة - أعنى سنة ست وستين وخمسمائة - فكانت خلافته إحدى عشرة سنة، وشهرا، وأحد عشر يوما، وكان يقظا (¬1) شهما عادلا حسن السيرة، وله شعر حسن، ذكرنا بعضه، ومما أنشده وزيره عون الدين بن هبيرة له [من قصيدة يقول (¬2)]: كن عدوا مبرزا صفحته ... أو فسالمنى إذا لم تك قرنى في اشتباه الناس ود بينهم ... ومناوأة إليها سوء ضغن كم عدو زلّ (¬3) من ظهر أبى ... وصديق أمّه ما ولدتنى ذكر البيعة بالخلافة للمستضىء بنور الله ابن المستنجد بالله ولما توفى المستنجد بالله بويع بالخلافة ولده الإمام المستضىء بنور الله أبو محمد الحسن بن المستنجد [بالله (¬4)] بن المقتفى [لأمر الله (4)] بن المستظهر في عصر اليوم الذى توفى فيه أبوه - وهو يوم الجمعة سابع ربيع الآخر - البيعة الخاصة، وعمره إذ ذاك تسع (¬5) وعشرون سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام، لأن مولده في ثالث عشر شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة؛ وبويع يوم السبت غد هذا اليوم البيعة العامة، ¬

(¬1) مكان هذا اللفظ في س: «شجاعا». (¬2) ما بين الحاصرتين عن س. (¬3) س (ص 30 ا): «نازل». (¬4) ما بين الحاصرتين زيادات عن س. (¬5) في س (ص 30 ب): «سبع»، وما هنا هو الصحيح، فقد ولد المستضىء سنة 536، أنظر: المتن هنا و (السيوطى، تاريخ الخلفاء، ص 294).

وأخذ له البيعة على الناس وزيره (¬1) عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وأقطعه (¬2) المستضىء ما كان يجرى في إقطاع ابن هبيرة، وأقطع قايماز - مملوك والده (2) - الحلة وأعمالها، (2) وأقطع تتامش وأخاه أردن - نسيبى قايماز (¬3) - واسطا وقوشان؛ وطوّق (¬4) قايماز ولقّبه ملك العرب، وسوّره (4)؛ ولم يكتف لهم بذلك حتى حمل إليهم من الأموال ما زاد على أمانيهم وآمالهم (2). وبعث إلى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى خلعة - وكان بظاهر الموصل - فلبسها، ثم بعد دخوله الموصل خلعها على ابن أخيه سيف الدين. وأطلق نور الدين المكوس بالموصل كلها، وكذلك فعل في سائر ما فتحه من البلاد؛ وأمر بإنشاء الجامع النورى بالموصل؛ وأقطع جزيرة ابن عمر لابن أخيه سيف الدين غازى، وكان مدة مقام نور الدين بالموصل سبعة عشر يوما، ثم رحل إلى الشام، وفى صحبته فخر الدين عبد المسيح، فغير اسمه نور الدين، وسمّاه عبد الله. ووصل [121] [نور الدين] إلى حلب في شعبان، وزوّج سيف الدين غازى ابنته، وفوّض القضاء بسنجار ونصيبين والخابور إلى الشيخ شرف الدين عبد الله ابن أبى عصرون، فولى بها نوابه؛ ثم رحل نور الدين إلى دمشق وصام بها شهر رمضان من هذه السنة؛ ثم خرج بعد العيد إلى المخيم ثم سار إلى عشترا. ¬

(¬1) في الأصل: «وأخذ له البيعة على الناس كما كان وزيره ووزير أبيه بعده ابن هبيرة عضد الدين إلخ»، وفى س (ص 30 ب): «وأخذ له البيعة على الناس ووزيره ووزير أبيه عضد الدين الخ» وهو نص مضطرب المعنى في كليهما، وقد حذفنا بعض الألفاظ ليستقيم المعنى، أنظر ترجمة هذا الوزير في: (ابن طباطبا: الفخرى، ص 280 - 282)، واسمه بالكامل: «عضد الدين أبو الفرج محمد بن أبى الفتوح عبد الله بن رئيس الرؤساء». (¬2) ما بين الرقمين غير موجود في س. (¬3) أنظر أخبار قايماز وأقاربه في: (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 253 - 255). (¬4) أي ألبسه الطوق والسوار.

ذكر الأحداث الكائنة بمصر فى هذه السنة - أعنى سنة ست وستين وخمسمائة -

وقد ذكر عماد الدين [الكاتب] في البرق أن السرية (¬1) التي خرجت (¬2) لصاحب البيرة باللبوة كانت في هذه السنة بعد نزول نور الدين عشترا، وروى ابن الاثير أنها كانت في السنة الماضية، وكان هذا هو الأقرب. والله أعلم بالصواب. ذكر الأحداث الكائنة بمصر في هذه السنة - أعنى سنة ست وستين وخمسمائة - وفى هذه السنة حرر (¬3) صلاح الدين دارا كانت للمعونة (¬4) بمصر مدرسة للشافعية، ولم يكن بمصر للشافعية ولا لغيرهم مدرسة، لأن الدولة كانت إسماعيلية، ¬

(¬1) في س (ص 30 ب): «السيرة»، وما هنا هو الصحيح. (¬2) في الأصل: «جرت»، وما هنا عن س، أنظر أخبار هذه السرية بالتفصيل في: (ابن الأثير، ج 11، ص 132). (¬3) في س (30 ب): «خرب صلاح الدين دارا كانت للمعونة وبناها مدرسة للشافعية». (¬4) أشار المقريزى عند كلامه عن السجون إلى حبسين كان كل منهما يسمى «حبس المعونة» أو «دار المعونة»، الأول كان بالفسطاط: (الخطط، ج 3، ص 304)، والثانى كان بالقاهرة: (الخطط، ج 2، ص 342)، والأول هو المقصود هنا، وقد سميت هذه الدار بالمعونة لأنها بنيت بمعونة المسلمين ينزلها ولاتهم، ثم عرفت بدار الفلفل، وكان مكانها قبلى جامع عمرو بن العاص بالفسطاط، ثم جعلت دارا للشرطة واستمرت كذلك إلى أن حولها يانس العزيزى - صاحب الشرطة في عهد العزيز - إلى حبس عرف بالمعونة وذلك في سنة 381 هـ‍. ثم حوله صلاح الدين أول توليته على مصر إلى مدرسة للشافعية، وقد عرفت هذه المدرسة أول إنشائها «بالمدرسة الناصرية» نسبة إلى الناصر صلاح الدين، ثم عرفت باسم «بالمدرسة ابن زين التجار» وهو أول فقيه تولى التدريس بها، ثم عرفت بعد ذلك «بالمدرسة الشريفية» نسبة إلى الشريف القاضى شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين الأرموى قاضى العسكر، أحد من تولوا التدريس بها. انظر أخبار هذه المدرسة بالتفصيل في: (المقريزى: الخطط، ج 4، ص 193) و (ابن دقمان: الانتصار، ج 4، س 93)، وقال محمد رمزى في تحقيقاته في (النجوم الزاهرة، ج 5، ص 385، هامش 1) ابن هذه المدرسة زالت، ومحلها اليوم أرض فضاء في الجنوب الشرقى من جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة مشغولة بأقمان الجير والفواخير.

خروج الملك الناصر صلاح الدين إلى الغزاة

ولم يكن لهم ميل إلى شىء من هذه المذاهب؛ ثم بنى - رحمه الله - دار الغزل (¬1) مدرسة للمالكية. وفوّض القضاء بالديار المصرية إلى قاضى القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس الهذبانى (¬2) الشافعى، فجعل صدر الدين القضاة في سائر الديار المصرية شافعية، فاشتهر مذهب الشافعية (2) واندرس مذهب الإسماعيلية بالكلية، وانمحى أثره، ولم يبق أحد من أهل البلاد يمكنه التظاهر به. خروج الملك الناصر صلاح الدين إلى الغزاة ثم خرج صلاح الدين إلى جهاد الفرنج، وأغار على الرملة وعسقلان، وهجم ربض غزة، ثم عاد إلى القاهرة، ثم وصله الخبر بخروج قافلة من دمشق فيها أهله، فأشفق عليها (¬3) وخاف عليهم من الفرنج، فخرج في النصف من ربيع الأول، [فالتقى بالقافلة، وخفرهم إلى مصر بما معهم سالمين، ثم رد على عقبه (¬4)]. ¬

(¬1) ذكر (المقريزى: الخطط، ج 4، ص 193 - 194) أن موضع هذه المدرسة يعرف بدار الغزل لأنه كان قيسارية يباع فيها الغزل، ثم هدمها صلاح الدين وبنى مكانها مدرسة للفقهاء المالكية وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة أهمها ضيعة بالفيوم، كان يجمع منها قمح كثير يوزع على فقهاء المدرسة، ولهذا عرفت بعد ذلك «بالمدرسة القمحية». انظر عنها أيضا: (ابن دقماق: الانتصار، ج 4، ص 95). وقال محمد رمزى في تحقيقاته (المرجع السابق) إن هذه المدرسة زالت، ومكانها اليوم أرض فضاء في الجهة الشرقية من جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة بجوار أقمان الجير والفواخير. (¬2) هذه النسبة تدل على أن هذا القاضى كردى كصلاح الدين ومن نفس القبيلة التي ينتمى إليها، وتحويل القضاء في مصر إلى المذهب الشافعى وتعيين قاضى قضاة كردى - والخليفة الفاطمى - لا زال حيا - إجراء له دلالته السياسية الواضحة. (¬3) في س: «عليهم». (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (31 ا).

ذكر فتح قلعة أيلة

ذكر فتح قلعة أيلة وكانت بأيلة (¬1) قلعة في البحر قد حصّنها الكفار من الفرنج، فعمّر لها مراكب، وحملها إلى ساحل أيلة على الجمال، وركبها الصناع هناك، وشحنها بالمقاتلة، وزحف إلى القلعة، ففتحت في العشر الأول من ربيع الآخر، واستباح أهلها قتلا وأسرا، وملأها (¬2) بالعدد والعدد واجتمع (¬3) بأهله عليها، ثم سار بهم إلى القاهرة (3) فدخلها في السادس والعشرين من جمادى الأولى. ثم سار في [122] الثالث والعشرين من شعبان إلى الإسكندرية (¬4) ليشاهدها ويرتب قواعدها، وأمر بعمارة أسوارها وأبراجها. وفى النصف من شعبان في هذه السنة اشترى الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه (¬5) بن أيوب بن أخى صلاح الدين منازل العز (¬6) وجعلها مدرسة للشافعية، ووقف عليها وقوفا جليلة. ¬

(¬1) في س (31 ا): «أيلة». (¬2) في س: «وملأها من العدد والسلاح». (¬3) مقابل هذا النص في س: «ثم رجع إلى القاهرة». (¬4) عن الاسكندرية في عصر صلاح الدين انظر: (جمال الدين الشيال: الاسكندرية، طبوغرافية المدينة وتطورها، ص 221 - 226). (¬5) في الأصل: «شاهان شاه». (¬6) ذكر (المقريزى: الخطط، ج 2، ص 376) أن منازل العز بنتها السيدة تغريد أم العزيز بالله، ولم يكن بمصر أحسن منها، وكانت مطلة على النيل لا يحجبها شىء عن نظره، وما زال الخلفاء من بعد المعز يتداولونها وكانت معدة لنزهتهم. ثم قال عند كلامه عن «مدرسة منازل العز» في: (الخطط، ج 4، ص 194 - 195) ان تقى الدين عمر سكن منازل العز مدة ثم اشتراها من بيت المال في شعبان سنة 566، وبناها مدرسة للشافعية. وقال محمد رمزى في تحقيقاته: (النجوم الزاهرة، ج 5، ص 386، هامش 1) إن مكانها اليوم مجموعة المبانى التي تحد من الغرب بشارع مصر القديمة، ومن الجنوب مدخل شارع المرحومى، وحارة الشراقوة وعطفة زاهر، ومن الشرق جنينة الجعجعى وعطفة الأسرلى، ومن الشمال شارع القبوة، وأما المدرسة نفسها فتعرف اليوم باسم جامع شهاب الدين أحمد المرحومى الذى يتوسط هذه المنطقة بشارع المرحومى بمصر القديمة.

ذكر إقامة الدعوة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية بها

ذكر إقامة الدعوة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية بها كان الملك العادل نور الدين - رحمه الله - لما تحقق ضعف الدولة المصرية، وأنه لم يبق لهم منعة كتب إلى صلاح الدين يأمره أن يقطع خطبة العاضد ويخطب للخليفة من بنى العباس، فاعتذر (¬1) صلاح الدين بن أيوب بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك لميلهم إلى العلوية (1)، فلم يصغ نور الدين إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه ذلك إلزاما لا فسحة فيه؛ ثم اتفق مرض العاضد، فاستشار صلاح الدين الأمراء في قطع الخطبة له، وكيف يكون الابتداء بالخطبة العباسية، فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها، ومنهم من خاف من الإقدام على ذلك؛ إلا أنه لم يمكنه إلا امتثال [أمر (¬2)] نور الدين؛ وكان قد رحل إلى ديار مصر رجل أعجمى يعرف بالأمير العالم (¬3)، فلما رأى ما بهم من الإحجام، قال: «أنا أبتدى بها». ¬

(¬1) الصيغة في س (31 ب) تختلف قليلا عنها هنا، ونصها هناك: «فاعتذر صلاح الدين من وثوب أهل مصر عليه، وامتناعهم من ذلك لميلهم إلى العلويين». (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 1، ص 194). (¬3) ذكر (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 138) أن هذا الرجل هو أول من خطب للمستضىء وذكر أنه رآه بنفسه بعد ذلك في الموصل. أنظر أيضا: (الروضتين، ج 1، ص 194) ولكن (ابن الدبيثى: تاريخه باختصار الذهبى، ونشر الدكتور مصطفى جواد، ج 1، ص 142) ذكر أن أول من خطب للعباسيين رجل آخر اسمه «محمد بن المحسن بن الحسين ابن أبى المضاء البعلبكى أبو عبد الله» المتوفى سنة 572 هـ‍. فقد قال في ترجمته له: «وعاد إلى مصر، واتصل بصلاح الدين سلطان مصر، وهو الذى خطب للامام المستضىء بمصر، ونفذه صلاح الدين رسولا إلى بغداد، ثم رجع إلى دمشق فمات بها». أنظر أيضا: (الروضتين، ج 1، ص 193، 195) حيث أورد نص رسالة بقلم القاضى الفاضل، مرسلة من صلاح الدين إلى الخليفة المستضىء، ينبئه فيها باقامة الخطبة له بمصر وأن من قام بالخطبة هو حامل الرسالة الخطيب شمس الدين بن أبى المضاء. انظر أيضا: (النجوم الزاهرة، ج 5، ص 343) و (المقريزى، السلوك، ج 1، ص 60).

ذكر وفاة العاضد

فلما كان يوم الجمعة (¬1) من المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة صعد المنبر قبل الخطيب، ودعا للخليفة الإمام المستضىء بنور الله، فلم ينكر [ذلك (¬2)] أحد عليه، فلما كانت الجمعة الآتية أمر صلاح الدين بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد، وإقامة الخطبة للمستضىء بنور الله، ففعلوا ذلك، فلم يتحرك مخالف لذلك ولا منكر له، وانتظم الأمر، وكوتب الخطباء في ذلك في سائر الإقليم فخطبوا؛ وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أهله وأصحابه بذلك، وقالوا: «إن سلم فهو يعلم، فلا ينبغى أن ننغص عليه هذه الأيام التي قد بقيت من أجله (¬3)». ذكر وفاة العاضد ثم توفى العاضد [123] في يوم عاشوراء من السنة، وهو آخر خلفاء مصر، وانقضت مدتهم، ولكل شىء آخر، فسبحان المتفرد بالأزلية والأبدية. وذكر ابن الأثير أنه لما شتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ليوصيه، فظن أن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفى علم صدقه، فندم على تخلفه عنه. ¬

(¬1) في س (31 ب): «أول جمعة». وكذلك في الروضتين. (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 1، ص 194). (¬3) اختلفت الآراء في أسباب موت العاضد، وهل مات قبل أن تقطع الخطبة باسمه أم بعد ذلك وقد أورد (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 196) - نقلا عن ابن أبى طى - موجزا لهذه الآراء، قال: «. . . وقيل إن العاضد لما اتصل به ما فعل من قطع اسمه من الخطبة، قال: لمن خطب؟ قيل له: لم يخطب لأحد مسمى، قال: في الجمعة الأخرى يخطبون لرجل مسمى. واتفق أنه مات قبل الجمعة الثانية. قيل إنه افكر واستولى عليه الفكر والهم حتى مات. وقيل إنه لما سمع انه قطعت خطبته اهتم وقام ليدخل إلى داره فعثر وسقط، فأقام متعللا خمسة أيام ومات. وقيل إنه امتص فص خاتمه وكان تحته سم فمات. ولما اتصل موته بالملك الناصر قال: لو علمنا أنه يموت في هذه الجمعة ما غصصناه برفع اسمه من الخطبة، فحكى أن القاضى الفاضل قال للسلطان: لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة لم يمت، أشار إلى أن العاضد قتل نفسه. . .».

وأما مؤلف كتاب الروضتين (¬1) فإنه حكى في كتابه أنه اجتمع بالأمير أبى الفتوح ابن العاضد وهو محبوس مقيّد سنة ثمان وعشرين وستمائة، فأخبره أبو الفتوح أن أباه في مرضه استدعى صلاح الدين فحضر، قال: «وأحضرنا - يعنى أولاده - ونحن صغار، فأوصاه بنا، فالتزم إكرامنا واحترامنا»؛ ولما توفى العاضد جلس الملك الناصر للعزاء وأظهر البكاء والحزن عليه. ومشى في جنازته إلى قبره؛ ثم تسلم القصر بما فيه من الخزائن [والذخائر (¬2)]، والدفاتر والدواوين. وكان لمّا جرى لمؤتمن الخلافة ما جرى وقتل، وكّل صلاح الدين بالقصر الأمير بهاء الدين قراقوش (¬3) الأسدى، وجعله زمام القصر مقام مؤتمن الخلافة فترتب في القصر فما كان يدخل إلى القصر شىء ولا يخرج منه شىء إلا بمرأى منه ومسمع، فضاق خناق (¬4) أهل القصر بسببه؛ فلما مات العاضد احتيط على أهله وأولاده في موضع خارج القصر في مكان أفرد لهم (¬5)، وقرّر لهم شيئا برسم الكسوة والنفقة ¬

(¬1) انظر (الروضتين، ج 1، ص 194). (¬2) ما بين الحاصرتين عن س (32 ا). (¬3) قراقوش كلمة تركية معناها الطائر الأسود، وإن كان ابن خلكان قد ذكر أن معناها «العقاب»، أنظر ترجمته في: (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 254 - 255) و (ابن أبى الوفاء: الجواهر المضية في طبقات الحنفية، ج 2، س 443 - 444)، (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 176 - 178). و (الدكتور عبد اللطيف حمزة: كتاب حكم قراقوش) و (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 2 - 4). (¬4) كتب كاتب أمام هذا اللفظ بالهامش من الأصل معناه باللاتينية هكذا «خناق funis». (¬5) روى صاحب الروضتين (ج 1، ص 194) عن الأمير أبى الفتوح بن العاضد أن قراقوش «جعلهم في دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه بالقاهرة، وهى دار كبيرة واسعة، كان عيشهم فيها طيبا، ثم نقلوا بعد الدولة الصلاحية منها، وأبعدوا عنها».

وما يحتاجون إليه، وجمع الباقين من عمومتهم وعترتهم (¬1) في القصر في إيوان، واحترز عليهم في ذلك المكان، وأبعد عنهم النساء لئلا يتناسلوا، ثم عرض من بالقصر من الجوارى والعبيد والعدد والآلات والذخائر النفيسة، فأطلق من ثبتت حريته، ووهب الباقى من الرقيق، وأخلى الدور، وأغلق القصور، وأخذ ما صلح له ولأهله ولأمرائه وخواص مماليكه وأصحابه من نفائس الذخائر والملابس؛ ومن جملة ذلك: الدّرّة اليتيمة، والياقوتة الغالية القيمة، والمصنوعات العنبرية، والأوانى الفضية، والصوانى الصينية، والمنسوجات المغربية (¬2)، [124] والممزوجات (¬3) الذهبية، وغير ذلك مما لا يقع عليه الاحصاء؛ وأسرف في العطاء والبذل، وأطلق البيع بعد ذلك فيما دون ذلك، واستمر البيع مدة عشر سنين. وكانت خزانة الكتب (¬4) لهم تزيد على مائة ألف وعشرين ألف مجلدة، وفيها النفائس من الكتب التي لا يكاد يوجد مثلها، ومنها ما هو مكتوب بالخطوط المنسوبة التي لا توجد في خزانة أحد من الملوك، فحمل من الكتب إلى الشام ثمانية أحمال، وترك الباقى فبيع بعضه، وأطلق البعض لمن يختص به. وتملّك صلاح الدين الأملاك التي لهم، وضربت الألواح على رباعهم ودورهم، ¬

(¬1) كتب أمام هذا اللفظ بهامش الأصل معناه باللاتينية هكذا: «عترة proganies familia» (¬2) في س (32 ب): «الغربية». (¬3) في الأصل: «المهروجات» وما هنا عن: «الروضتين، ج 1، ص 194). والممزّج نوع من القماش الثمين المنسوج بالذهب. هكذا عرفه (Dozy : Supp,Dict .Arab) بأنه (nom d'une etoffe precieuse,brocarat d'or) . (¬4) لاستيفاء الكلام عن هذه المكتبة وقيمتها انظر: (المقريزى: الخطط، ج 2، ص 253 - 255) و (ابو شامة: الروضتين، ج 1، ص 200) و (الدكتور حسن ابراهيم حسن: الفاطميون في مصر، ص 140 - 141).

ثم ملك بعضها خاصته وأمراؤه، وبعضها أذن ببيعه، وتعفّت آثارهم بالكلية، إن في ذلك لموعظة وذكرى لأولى الألباب، [كما قال بعضهم (¬1)]: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق وكان جميع من ولى الخلافة منهم بمصر أحد عشر خليفة (¬2)، وولى منهم بالمغرب ثلاثة، فكانت عدتهم أربعة عشر خليفة (2)، عدة خلفاء بنى أمية بالمشرق. وقد تكلم الناس في أنسابهم فأكثروا وأطالوا، فمن مصحح ومبطل، والله أعلم بغيبه؛ وقد ذكرت ما قيل في ذلك في التاريخ الكبير (¬3)، إلا أن الذى اعتقدته وحققته من تواريخ كثيرة أن القوم أدعياء لاحظ لهم في النسب الهاشمى، فمن المؤرخين من قال إن جدهم يهودى (¬4)، ومنهم من قال إنه من الفرس؛ والنسابون ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (32 ب). (¬2) في الأصل: «رجلا»، وما هنا عن س. (¬3) المعروف أن ابن واصل ألف في التاريخ كتابين اثنين: أحدهما مفرج الكروب هذا، والثانى ألفه للملك الصالح نجم الدين أيوب، وسماه «التاريخ الصالحى» لأنه كان ينوى تقديمه اليه، والمرجع أن هذه الاشارة إلى التاريخ الكبير يقصد بها التاريخ الصالحى. وهو تاريخ عام مختصر أرخ فيه ابن واصل للعالم الاسلامى منذ عهد الرسول إلى سنة 637 هـ‍. وهى السنة التي تولى فيها الصالح عرش مصر. انظر: (الدكتور جمال الدين الشيال: جمال الدين بن واصل وكتابه مفرج الكروب). وهو بحث لم ينشر بعد. و (C .Cahen : La Syrie du nord a l'Epoque de Croisades . P. 70 - 71) . (¬4) تردد القول بانتساب الفاطميين إلى أصل يهودى في كثير من المصادر التاريخية القديمة وناقش هذا القول كثيرون من المؤرخين المحدثين، أنظر مثلا: (ابن مالك الحمادى اليمنى: كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة، ص 17 - 20) و (الجندى أخبار القرامطة - ضمن تاريخ اليمن لعمارة - ص 140) و (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 4، ص 75) و (السيوطى: تاريخ الخلفاء، ص 3) و (المقريزى: اتعاظ الحنفاء، نشر جمال الدين الشيال، ص 55 - 56) و (O'Leary : The Fatimid Caliphate .P ,33 - 34) و (B .Lewis : The Origins of Ismailism . P. 68) .

من الفاطميين قد أطنبوا في ذلك وذكروه في كتبهم، وكتب الشريف المرتضى (¬1) الموسوى نقيب العلويين وأخوه الرضى (¬2) خطهما بالقدح في نسبهم، وأنهم ليسوا من ولد على بن أبى طالب - رضوان الله عليهم -، وشهد بذلك أيضا جماعة من أكابر العلويين (¬3)، ومما يشهد بذلك أن القوم كانوا لا يوصلون نسبهم، بل ينسبون أنفسهم إلى عبيد الله المهدى، ثم يقولون: «ابن الأئمة المستورين»؛ ولو كان نسبهم صحيحا لصرّحوا كما صرّح بنو العباس بنسبهم، وأى حاجة بهم إلى الغمغمة؛ وغاية ما يقولون إن الثلاثة المستورين كانوا يسترون أنفسهم خوفا من بنى العباس، فهم لما ملكوا وقهروا وزال عنهم الخوف كان ينبغى [125] أن يصرحوا بأسماء أولئك ولا يكتموهم، إذ قد زالت العلة المقتضية للكتم، ولقد حكى أن رجلا رمى ورقة إلى بعض خلائفهم (¬4) وهرب فلم يعرف، وكان في الورقة: ¬

(¬1) أبو القاسم على الشريف المرتضى، ولد سنة 355 وتوفى سنة 436، تولى نقابة الطالبيين نيابة عن أبيه - مدة حياته - ثم وليها وحده سنة 406 بعد وفاة أخيه الشريف الرضى، كان شاعرا مجيدا كأخيه، وله ديوان ومؤلفات في المذهب الشيعى، انظر: (ابن خلكان؛ الوفيات، ج 3، ص 3 - 6) و (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 53) وانظر بيان مؤلفاته المطبوعة في: (معجم سركيس). (¬2) أبو الحسن محمد الشريف الرضى، ولد سنة 359 وتوفى سنة 406 ببغداد. كان شاعرا ممتازا، وطبع ديوانه مرتين. انظر ترجمته بالتفصيل في: (ابن خلكان: الوفيات، ج 4، ص 44 - 48) و (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 3 - 4) و (المقريزى: اتعاظ الحنفا، ص 38، هامش 1). (¬3) انظر اسماء الذين وقعوا على هذا المحضر العباسى بالقدح في نسب الفاطميين في: (المقريزى: اتعاظ الحنفا، نشر الشيال، ص 45 - 46). (¬4) حدث هذا في عهد الخليفة العزيز بالله، أول ولايته على مصر. انظر: (النجوم الزاهرة، ج 4، ص 116).

[إنا سمعنا نسبا منكرا ... يتلى على المنبر في الجامع] (¬1) إن كنت فيما تدّعى صادقا ... فاكشف لنا عن جدك السابع (¬2) [وإن ترد تحقيق ما قلته ... فانسب لنا نفسك كالطائع] (1) أو فذر (¬3) الأنساب مستورة ... وادخل بنا في النسب الواسع فإنّ أنساب بنى هاشم ... يقل (¬4) فيها طمع الطامع ولقد صدق كاتب هذه الورقة، فإنا نجد الأشراف من بنى هاشم والعباس (¬5) يصلون أنسابهم ويصرحون بها، وهؤلاء يكتمونها، فللكتمان علة لا محالة، وما أظن إلا أن غرضهم أنهم متى صرّحوا بالنسب بان زيفهم عند النقاد، فهذا ما يتعلق بنسبهم. و [أما (¬6)] مذاهبهم، فدعوتهم باطنية إسماعيلية، وعنهم انتشر دعاة الملاحدة الباطنية في الآفاق، وهذه المقالة معروفة في كتب المقالات والأصول، فلا معنى لإبداعها كتب التاريخ. ورأى القوم في الإمامة بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - لعلى بن أبى طالب - رضوان الله عليه - ثم للحسن بن على، ثم للحسين، ثم لعلى - بن الحسين - ¬

(¬1) أضفنا هذين البيتين عن: (ابن خلكان: وفيات الأعيان) و (النجوم، نفس الجزء والصفحة) وإضافتهما ضرورية إذ بهما يتضح المعنى المقصود من الأبيات مكتملة. (¬2) كذا في الأصل، والمقصود «بالسابع» هنا: الأئمة الثلاثة المستورين والأئمة الأربعة الذين حكموا في المغرب. وصيغة المرجعين السالفين: «فاذكر أبا بعد الأب الرابع» وهذه الصيغة فيما أرى أصح لأن آباء العزيز إلى الأب الرابع وهو المهدى معروفون، وقصد الشاعر أن يسأله عن الأئمة المستورين المجهولة أسماؤهم. (¬3) في النجوم: «فدع». (¬4) في النجوم: «يقصر عنها». (¬5) هذا اللفظ غير موجود في س. (¬6) ما بين الحاصرتين عن س (33 ا)، وهو ضرورى لايضاح المعنى.

زين العابدين، ثم لابنه محمد الباقر، - وفارقوا في ذلك الزيدية، الذاهبين إلى إمامة زيد -، ثم لابن محمد جعفر الصادق بن محمد، ثم لابنه إسماعيل بن جعفر -، وفارقوا بذلك الإمامية الاثنى عشرية القائلين بإمامة موسى بن جعفر، وغيرهم من أصناف الإمامية -، ثم لابن إسماعيل محمد بن إسماعيل، ثم أنهم اعتقدوا أن الإمامة صارت بعد محمد بن إسماعيل في ثلاثة يسمونهم أئمة ستر، ولا يبوحون بأسمائهم، ولا ينطقون بذكرهم، والثلاثة من ولد محمد بن إسماعيل؛ وقد اختلف في أسمائهم اختلافا كثيرا ثم إنهم قالوا: صارت بعد ذلك للمهدى عبيد الله (¬1) الظاهر بسجلماسة (¬2) من بلاد إفريقية، وقالوا إن بينه وبين محمد بن إسماعيل ثلاثة أباءهم أئمة الستر، لم يظهروا أمرهم خوفا من أعدائهم بنى العباس، ثم قالوا: إن الامامة صارت بعد ذلك لابنه القائم بأمر الله [126] أبى القسم محمد، ثم لابن القائم المنصور بالله إسماعيل؛ وتوفى المهدى وهذان بالمغرب، ثم صارت لابن المنصور المعز لدين الله أبى تميم معدّ (¬3)، وهو أول من ملك الديار المصرية منهم، دخلها غلامه جوهر في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وشرع في بناء القاهرة وقصور الخلافة بها. ثم قدم المعز من الغرب واستقر بقصره في القاهرة في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، ثم صارت بعده لابنه العزيز بالله أبى المنصور نزار بن معدّ، ثم لابنه الحاكم بأمر الله أبى على المنصور، ثم لابنه الظاهر لإعزاز دين الله أبى الحسن على، ثم لابنه المستنصر بالله أبى تميم معدّ بن الظاهر بن الحاكم؛ وطالت مدة خلافته حتى بلغت ستين سنة، ولم يل الخلافة أحد هذه المدة؛ وهؤلاء كلهم على عمود النسب ¬

(¬1) في س (33 ب): «ابن عبد الله»، وما هنا هو الصحيح. (¬2) ذكر (ياقوت: معجم البلدان) ان سجلماسة مدينة في جنوب المغرب في طرف بلاد السودان، بينها وبين فاس عشرة أيام. (¬3) في س: «بمصر» وما هنا هو الصحيح.

ثم اختلفت الباطنية من هنا وافترقوا، (1) وسبب افتراقهم (¬1) أن أحد الدعاة المسمى الحسن الصباح (¬2) قدم على المستنصر بالله بمصر، وطلب أن يكون داعيا له ببلاد العجم، فأجابه إلى ذلك، فسأله عن الإمام بعده، فذكر أنه قال: إنه ولده نزار؛ ولم يكن للمستعلى (¬3) إذ ذاك ولد، فمضى الحسن الصباح (2) إلى بلاد العجم فدعا للمستنصر وبعده لولده نزار، وبث دعوة الباطنية هناك، فلما توفى المستنصر كانت الدعوة ببلاد العجم لنزار بن المستنصر وتسمى هذه الفرقة من الباطنية «النزارية»، ودعوتهم ببلاد الآلموت (¬4) بالعجم، وببلاد الشام بمصياف (¬5) ¬

(¬1) ما بين الرقمين غير موجود في س. (¬2) في الأصل: «الحسن بن الصباح». أنظر: (الدكتور طه شرف: دولة النزارية أجداد أغا خان كما أسسها الحسن الصباح، القاهرة، 1950) و (محمد عبد الله عنان: تراجم إسلامية، شرقية وأندلسية، ص 42 - 60) و (Von Hammer: Geschiclte der Assassinen) ففيها جميعا صورة واضحة للحسن الصباح ودعوته وملكه وجهاده في سبيل نشر الدعوة وإقامة الملك. (¬3) كذا في الأصل، وهو غير واضح المعنى. إذ أن الحسن الصباح وصل إلى مصر سنة 469 هـ‍ وغادرها في أوائل سنة 472 هـ‍. وكان عمر المستعلى وقتذاك سنتين أو ثلاث (فقد ولد سنة 467 هـ‍) فكيف يكون له ولد أو لا يكون له في ذلك الحين. وإذا قرىء النص على أنه «ولم يكن المستعلى إذ ذاك ولد» فان المعنى يظل غامضا كذلك. (¬4) آلموت قلعة جبلية في الشمال الشرقى من بحر قزوين، ومعنى آلموت عش النسر. وكانت هذه القلعة مقر الاسماعيلية النزارية إلى أن قضى عليهم المغول هناك سنة 654 هـ‍. انظر (دائرة المعارف الاسلامية، مادة «ألموت»). (¬5) هى عند (ياقوت: معجم البلدان): «مصياب» ثم يقول: «وبعضهم يقول: مصياف» ويعرفها بأنها حصن حصين مشهور للاسماعيلية بالساحل الشامى قرب طرابلس. ولكن (R .Dussaud : Topographie Historique de la Syrie ... etc . P. 148 et suiv) يذكر أن الرسم «مصياب» الوارد في (ياقوت) وحده خطأ. إذ لم يشاركه فيه غيره؛ ولكنه اعتمادا على المراجع الجغرافية الأخرى وعلى النصوص والوثائق التاريخية يذكر أنها تنطق غالبا «مصياد masyad» ولكنها تكتب في أشكال مختلفة: «مصياث masyath» و «مصيات masyat».

وقلاعها لنزار بن المستنصر (1) وولده، وإمامهم الذى يعتقدون إمامته يقولون إنه من ولد نزار بن المستنصر (¬1)، والله أعلم بذلك ولم يزل هؤلاء الذين ينتسبون إلى نزار ببلاد العجم إلى أن انتهى الأمر إلى آخرهم، وهو ركن الدين خورشاه (¬2) بن علاء الدين محمد بن الحسن، فحاصره هلاووا (¬3) ملك التتار (1) - خذلهم الله تعالى - سنة خمس وخمسين وستمائة، ثم ظفر به هلاووا (1) فقتله، وقتل من معه من الباطنية الملاحدة، وبقيت لهم حصون بالشام، ففتحها السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس ملك الإسلام والمسلمين، وطهر البلاد منهم كما طهرها من سائر الشرك، وكان نزار [127] الذى تنسب إليه النزارية ظهر بعد أبيه بالاسكندرية، فقبض عليه وقتل. وأما الباطنية المصريون فخالفوا هؤلاء في الإمام بعد المستنصر، فقالوا: صارت الإمامة بعده للمستعلى بالله أبى القاسم محمد، ثم لابن المستعلى الآمر بأحكام الله أبى على المنصور، ثم لابن عمه الحافظ لدين الله أبى الميمون عبد المجيد بن أبى القاسم أحمد بن المستنصر، ثم لابن الحافظ الظافر بالله إسماعيل، ثم لابن الظافر الفائز بنصر الله عيسى، ثم لابن عمه العاضد لدين الله أبى محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ. ¬

(¬1) ما بين الرقمين غير موجود في س. (¬2) في الأصل: «خسرو» وقد صحح بعد مراجعة: (دائرة المعارف الاسلامية: مادة «الاسماعيلية»)، وركن الدين خورشاه هو ابن علاء الدين محمد الثالث بن جلال الدين حسن الثالث. وقد ولى الحكم في آلموت من ذى القعدة سنة 651 هـ‍ إلى سنة 654 هـ‍ (1256 م) حيث استولى المغول - أثناء تقدمهم نحو الخلافة العباسية - على ملكه، وقبضوا عليه وقتلوه في نفس السنة: انظر أيضا: (الدكتور مصطفى طه بدر: محنة الاسلام الكبرى أو زوال الخلافة العباسية على أيدى المغول، ص 108، 116)، (ابن الفوطى: الحوادث الجامعة، ص 312 - 314). (¬3) كذا في الأصل، والمقصود به «هولاكو» ويرسم هذا الاسم في بعض الكتب العربية الأخرى هكذا: «هلاون».

ثم لما توفى العاضد وزالت دولتهم قالت دعاتهم: إن الإمامة بعده لابنه داوود ابن العاضد، ولقبوه «الحامد لله (1)»؛ ثم توفى داوود هذا في أيام الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب في الحبس، ثم قالوا إنها صارت بعده لابنه سليمان (¬1) ابن داوود بن العاضد، وكان هذا سليمان قد أدخلت أمه إلى داوود في الحبس سرا فوطئها داوود فحبلت بسليمان، ثم حملت الجارية إلى الصعيد فولدت سليمان، وترعرع (¬2) وخفى أمره من الدولة الأيوبية عند بعض الدعاة، فأعلم السلطان به، وأظنه (¬3) الملك الكامل بن الملك العادل، فظفر به وحبسه بقلعة الجبل (¬4)، وسافرت إلى مصر سنة إحدى وأربعين وستمائة، وكان سليمان هذا حيا، وسمعت أن دعوة الإسماعيلية المصريين له، ولهم فيه اعتقاد عظيم، ورأيت من اجتمع به (5) وتحدث معه، فسألته عنه، فأخبر (¬5) أنه في غاية الجهل والغباوة؛ ثم توفى هذا سليمان بن داوود ابن العاضد بقلعة الجبل في شهر شوال سنة خمس وأربعين وستمائة في أيام السلطان الملك الصالح بن الكامل - رحمه الله - ولم يخلف ولدا ذكرا فيما نعلمه، وسمعت ¬

(¬1) لم تنته الأسرة الفاطمية بموت العاضد، بل بقى منها أفراد لبثوا زمنا في أسر الأيوبيين وهم يعتقدون بأحقيتهم في الخلافة، وللتعرف على هؤلاء الأفراد وعلى الجهود الفاشلة التي بذلت في سبيل إعادتهم للحكم في بعض الأحيان انظر: (Casanova : Les Derniers Fatimides .Memoires de La Mission Archeologique Francaise du Caire .Tome VI,1893. P. P .145 - 415) ; (S .M .Stern : The Succession of the Fatimid Imam Al - Amir,The Claims of the Later Fatimids to the Imamate,And the Rise of T ayyibi Ismailism .Oriens,Vol .4,no .2,P P. 193) (¬2) في الأصل: «ونزع»، وما هنا عن س (34 ا) (¬3) في س (34 ب): «وتطلبه». (¬4) في س (34 ب) قبل هذا اللفظ الجملة الآتية: «قال صاحب الكتاب جمال الدين ابن واصل قاضى القضاة بحماة المحروسة». (¬5) ما بين الرقمين يقابله في س: «وتحدثت معه فسألت عنه فأخبرت. . إلخ» وما هنا هو الصحيح إذ به يستقيم المعنى ولاحظ ما لهذه الجملة من أهمية، فهى تنص على وجود المؤلف في القاهرة في سنة 641 هـ‍، وزيارته للقلعة أثناء مقامه بها.

بعض من ينتمى إلى مذهبهم يدعى أن له ولدا ذكرا قد أخفى أمره حسب ما كان يخفى سليمان والده، والله أعلم بحقيقة ذلك. وبقى منهم رجلان محبوسان بقلعة الجبل بالقاهرة المحروسة، شيخان، جدهما (¬1) العاضد، [128] وكان أحدهما واسمه القاسم قد بلغه أنى صنفت تاريخا (¬2) للسلطان الملك الصالح، وذكرت فيه أخبار هؤلاء القوم وما قاله النسّابون فيهم، وأن بعضهم قال إن أصلهم من اليهود، فطلعت يوما إلى القلعة المحروسة، ودخلت على باب الحبس والقاسم بن ابن العاضد هذا قاعد على بابه، فسأل عنى، فعرّف بى، فاستدعانى، فأتيته، فقال: «أنت ذكرت أن نسبنا يرجع إلى اليهود؟» فخجلت منه، وما أمكننى له إلا الاعتراف بذلك، وأحلت الأمر على أقوال المؤرخين [فسكت (¬3)]. وبالجملة فمذاهب القوم رديئة مخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه السلف الصالح، واعتقادهم في الإلهيات ينزع إلى رأى المتفلسفة، وإنما سموا باطنية، لأنهم ينزلون القرآن على معان موافقة لرأيهم، ويصرفونه عن ظاهره، ولهم في هذا الباب حديث كثير وخبط طويل، وقد انتدب جماعة من أعيان العلماء للرد عليهم، منهم: الشيخ أبو حامد الغزالى - رحمه الله - ¬

(¬1) في الأصل وفى س (34 ب): «أحدهما»، وقد صححت كما بالمتن ليستقيم المعنى. وهذا نص نادر هام انفرد ابن واصل فيه بذكر بعض الحقائق عن بقايا الأسرة الفاطمية بعد زوال الدولة، وفى (الروضتين) و (الخطط للمقريزى) نصوص أخرى تتصل بالموضوع، وقد أفاد من هذه النصوص جميعا (Casanova) في بحثه السالف الذكر، (¬2) يشير إلى (التاريخ الصالحى) وهو الكتاب التاريخى الثانى للمؤلف. (¬3) ما بين الحاصرتين عن س (34 ب).

فإنه رد عليهم في كتاب له سمّاه: «المستظهرى (¬1)»، حكى فيه صورة مذهبهم، وبالغ في الرد عليهم والنقض لأقاويلهم. وكان عمارة بن على اليمنى شديد التعصب لهم، لأنه قدم عليهم من اليمن فأحسنوا إليه وخوّلوه، فرعى ذلك ووفى لهم، والإنسان - كما قيل - صنيعة الإحسان، ولم يكن على مذهبهم، وإنما كان شافعيا سنيا، فلما زال أمرهم رثاهم بأحسن (¬2) الشعر، وذبّ عنهم باللسان إذ لم يمكنه الذبّ عنهم باليد؛ ثم لما تحرك جماعة في عود الأمر إليهم، كان من جملة المساعدين على ذلك، شكرا لهم على إحسانهم إليه، فأدّى به ذلك إلى أن شنق - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى -، فمن جمله قوله فيهم يرثيهم بقصيدة (¬3)، ذكرتها بجملتها لفرط حسنها وهى: رميت يا دهر كفّ المجد بالشّلل ... وجيده بعد حسن الحلى بالعطل سعيت في منهج الرّأى العثور فإن ... قدرت من عثرات الدّهر (¬4) فاستقل ¬

(¬1) أبو حامد محمد بن محمد الغزالى، أصله من غزالة، قرية من أعمال طوس، وكان والده يغزل الصوف ويبيعه. توفى سنة 505 هـ‍. وله مؤلفات كثيرة، منها هذا الكتاب المشار إليه هنا واسمه: (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية) أو (المستظهرى)، أهداه إلى الخليفة المستظهر العباسى، وقد نشر الاستاذ كولدزيهر قطعة كبيرة منه ومعها مقدمة طويلة في المذهب الباطنى باللغة الألمانية (Goldziher : Streitschrift des Gazali Gegen die Batinija - Sekte .Leiden .1916) . وانظر أيضا ترجمة الغزالى في: (ابن خلكان: الوفيات) و (السبكى: طبقات الشافعية، ج 4، ص 101 وما بعدها) و (الدكتور زكى مبارك: الأخلاق عند الغزالى و (سركيس: معجم المطبوعات العربية). (¬2) في س: «بالشعر». (¬3) لتصحيح هذه القصيدة رجعنا إلى الكتب التاريخية المختلفة التي أوردتها، وخاصة: (ديوان عمارة) و (الروضتين لأبى شامة) و (صبح الأعشى للقلقشندى، ج 3، ص 526 وما بعدها). (¬4) في (الروضتين): «البغى».

جدعت مارنك الأقنى، فأنفك لا ... ينفكّ ما بين أمر (¬1) الشين والخجل [129] هدمت قاعدة المعروف عن عجل ... سقيت مهلا (¬2)، أما تمشى على مهل؟ لهفى ولهف بنى الآمال قاطبة ... على فجيعتها (¬3) في أكرم الدّول قدمت مصر فأولتنى خلائفها ... من المكارم ما أربى على أملى (¬4) قوم عرفت بهم كسب الألوف، ومن ... كمالها أنها جاءت ولم أسل وكنت من وزراء الدّست حيث سما (¬5) ... رأس الحصان بهاديه على الكفل ونلت من عظماء الجيش تكرمة ... وخلّة حرست من عارض الخلل يا عاذلى في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصّرت في عذلى بالله زر ساحة القصرين وابك معى ... عليهما (¬6)، لا على صفّين والجمل وقل لأهليهما: والله ما التحمت ... فيكم جروحى، ولا قرحى بمندمل ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة ... في نسل [آل] (¬7) أمير المؤمنين على؟ [هل كان في الأمر شىء غير قسمة ما ... ملكتمو بين حكم السّبى والنّفل (¬8)]؟ ¬

(¬1) في (الروضتين): «نقص». (¬2) المهل ما ذاب من صفر او حديد، وهكذا فسر في التنزيل. (اللسان)؛ وفى (صبح الأعشى): «شقيت» مهلا. . . الخ» وهو اجتهاد غير موفق في قراءة النص. (¬3) في (الروضتين): «فجيعتنا». (¬4) في (الروضتين): «على الأمل». (¬5) في س (35 ا): «أشا». (¬6) في الأصل: «ونح عليها» ولا يستقيم بها الوزن؛ وما هنا عن: (الروضتين) و (صبح الأعشى). (¬7) ما بين الحاصرتين عن س (35 ب)، و (الروضتين، ج 1، ص 224) و (صبح الأعشى). (¬8) هذا البيت غير وارد في الأصل، وإنما ورد في (الديوان) وفى (الروضتين) و (صبح الأعشى).

وقد حصلتم عليها واسم جدّكم ... محمد، وأبوكم خير منتعل (¬1) مررت بالقصر، والأركان خالية ... من الوفود، وكانت قبلة القبل فملت عنها بوجه (¬2)، خوف منتقد ... من الأعادى، ووجه الودّ لم يمل أسبلت من أسفى دمعى غداة خلت ... رحابكم، وغدت مهجورة السّبل أبكى على مأثرات (¬3) من مكارمكم، ... حال الزمان عليها، وهى لم تحل دار الضّيافة كانت أنس وافدكم ... واليوم أوحش من رسم ومن طلل وفطرة الصّوم إن أصغت (¬4) مكارمكم ... تشكو من الدّهر حيفا غير محتمل وكسوة الناس في الفصلين قد درست (¬5)، ... ورثّ منها جديد عنهم (¬6) وبلى وموسم كان في يوم (¬7) الخليج لكم ... يأتى تجمّلكم فيه على الجمل وأوّل العام والعيدين (¬8) كم لكم ... فيهنّ من وبل جود ليس بالوشل والأرض تهتزّ في يوم الغدير كما (¬9) ... بهتزّ ما بين قصريكم من الأسل [130] والخيل تعرض في وشى وفى شية (¬10) ... مثل العرائس في حلى وفى حلل ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى (صبح الأعشى): وفى (الديوان) و (الروضتين): «غير منتقل». (¬2) في «الروضتين»: «بوجهى». (¬3) في الأصل وفى «الروضتين» و «الديوان»: «ما تراءت»، وما هنا عن: «صبح الأعشى». (¬4) في «الصبح»: «إذا اضحت». (¬5) في س: «دنست». (¬6) في «الصبح»: «عندهم». (¬7) في «الروضتين»: «كسر». (¬8) في «الروضتين»: «والعيدان كان لكم». (¬9) في «الروضتين»: «عيد الغدير بما». (¬10) في «الروضتين»: «من وشى ومن شية».

وما حملتم (¬1) قرى الأضياف من سعة ال‍ ... أطباق إلا على الأكتاف والعجل وما خصصتم ببرّ أهل ملّتكم (¬2) ... حتى عممتم به الأقصى من الملل كانت رواتبكم للوافدين، (¬3) وللضي‍ ... ـف المقيم، وللطارى من الرسل ثم الطّراز بتنّيس الذى عظمت (¬4) ... منه الصلات لأهل الأرض والدّول وللجوامع من أحباسكم (¬5) نعم ... لمن تصدّر في علم وفى عمل وربّما عادت الدنيا، فمعقلها (¬6) ... منكم، وأضحت بكم محلولة العقل والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم، ... ولا نجا من عذاب النّار غير ولى ولا سقى الماء من حرّ ومن ظما ... من كفّ خير البرايا خاتم الرّسل [ولا رأى جنّة الله التي خلقت ... من خان عهد الإمام العاضد بن على (¬7)] أئمّتى، وهداتى، والذخيرة لى، ... إذا ارتهنت بما قدّمت من عمل تالله لم أوفهم (¬8) في المدح حقّهم ... لأنّ فضلهم كالوابل الهطل ولو تضاعفت الأقوال واستبقت ... ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل (¬9) باب النّجاة فهم، دنيا وآخرة ... وحبّهم فهو أصل الدّين والعمل ¬

(¬1) في (الروضتين): «ولا حملتم». (¬2) في (صبح الأعشى): «أهل مملكة». (¬3) في (الروضتين): «للذمتين». (¬4) في الأصل: «التي عظمت من»، وفى س (35 ب): «ببلبيس الذى»، وما هنا عن (الديوان) و (صبح الأعشى). (¬5) في (الديوان): «إحسانكم»، وفى (الصبح): «اخماسكم». (¬6) كذا في الأصل وفى (الصبح)، وفى (الديوان): «لمعقلها». (¬7) أضيف هذا البيت عن (الديوان). (¬8) في (الصبح): «والله لم نوفهم». (¬9) في س (36 ا): «كالخجل».

نور الهدى، ومصابيح الدّجى ومح‍ ... لّ الغيث إن ونت الأنواء في المحل أئمّة خلقوا نورا، فنورهم ... من نور خالص نور الله لم يغل والله لا زلت عن حبّى لهم أبدا ... ما أخّر الله لى في مدّة الأجل [عمارة قالها المسكين وهو على ... خوف من القتل، لا خوف من الزلل (¬1)] ولما وردت البشائر على الملك العادل نور الدين - رحمه الله - بالخطبة بمصر للإمام المستضىء بنور الله أمير المؤمنين سرّ بذلك، وكتب إلى سائر الأطراف بالبشارة، وندب القاضى شهاب الدين أبا المعالى المطهّر بن الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون بهذه البشارة إلى الديوان العزيز؛ وأمر كاتبه عماد الدين الأصفهانى بإنشاء بشارة تقرأ في سائر البلاد الإسلامية، وبشارة أخرى خاصة [131] تقرأ بحضرة الإمام في مدينة السلام. ونظم عماد الدين قصيدة مشتملة على ذكر الخطبة للدولة العباسية، ويمدح فيها الإمام المستضىء بنور الله: قد خطبنا للمستضىء بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر وخذلنا لنصرة العضد الع‍ ... ‍اضد (¬2) والقاصر الذى بالقصر واتبعنا بها شعار بنى العبّ‍ ... ‍اس، فاستبشرت وجوه النّصر وتركنا الدعىّ يدعو (¬3) ثبورا ... وهو بالذلّ تحت حجر وحصر (¬4) وتباهت منابر الدين بالخطـ ... ـبة للهاشمىّ في أرض مصر ¬

(¬1) أضيف هذا البيت عن (الديوان). (¬2) في س (36 ا): «العاضل والقاصر بالقصر». (¬3) في الأصل وفى س (36 ا): «يدعى» والتصحيح عن: (الروضتين، ج 1، ص 198). (¬4) في الأصل «وخسر»، وما هنا عن: (الروضتين).

ولدينا تضاعفت نعم الل‍ ... ـه، وجلّت عن كلّ عدّ وحصر واغتدى الدين ثابت الرّكن في مص‍ ... ـر محوط الحمى، مصون الثّغر واستنارت عزائم الملك العا ... دل نور الدين الكريم الأغرّ فبنو الأصفر القوامص (¬1) منه ... في وجوه - من المخافة - صفر عرف الحقّ أهل مصر، وكانوا ... قبله بين منكر ومقرّ هو فتح بكر، ودون البرايا ... خصّنا الله بافتتاح البكر وحصلنا بالحمد والأجر والنّصـ ... ـر وطيب الثّنا وحسن الذّكر ونشرنا أعلامنا السّود، قهرا ... للعدى الزّرق، بالمنايا الحمر واستعدنا من أدعياء حقوقا ... تدّعى بينهم لزيد وعمرو والذى يدّعى الإمامة بالقا ... هرة انحطّ في حضيض القهر خانه الدّهر في مناه، ولا يطـ ... ـمع ذو اللّب في وفاء الدهر ما يقام الإمام إلا بحقّ ... ما تحاز (¬2) الحسناء إلا بمهر خلفاء الهدى، سراة بنى العبّ‍ ... ‍اس، والطّيّبون أهل الطّهر بهم الدين ظافر مستقيم ... ظاهر قوّة، قوىّ الظّهر [132] كشموس الضحى، كمثل بدور ال‍ ... ـتّمّ، كالسّحب، كالنّجوم الزّهر قد بلغنا بالصّبر كلّ مراد، ... وبلوغ المراد عقبى الصّبر ليس مثرى الرجال من يملك الما ... ل، ولكنّما أخو اللّبّ مثرى ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى الروضتين؛ وهى في س (36 ب): «الفواجر». (¬2) في الأصل وفى س: «فخار»، وما هنا عن: (الروضتين، ج 1، ص 198).

ولهذا لم ينتفع صاحب القص‍ ... ر وقد شارف الدثور بدثر دام نصر الهدى بملك بنى العبّ‍ ... ‍اس حتى يقوم يوم الحشر ولما وصلت البشارة إلى الديوان العزيز النبوى قوبلت بالإكرام والإعظام والإنعام التام؛ وكان وصول البشارة بذلك يوم السبت لثمان بقين من المحرم من هذه السنة - أعنى سنة سبع وستين وخمسمائة -، فجلس الوزير عضد الدولة ابن رئيس الرؤساء في الديوان، واستحضر أرباب المناصب والدولة والخواص والأمراء وأشار إلى كاتب الإنشاء أبى الفرج ابن الأنبارى (¬1)، بقراءة مكتوب الملك العادل نور الدين، ثم ثنّى بمكتوب برز بخط الخليفة المستضىء بنور الله، يتضمن الشكر لله على ما أباحه من عودة الحق إلى مستقره. وكان مبدأ انقطاع الخطبة العباسية بها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وعادت الخطبة العباسية بها سنة سبع وستين وخمسمائة، فكان مدة انقطاع الخطبة العباسية بمصر نحو من مائتى سنة وتسع (¬2) سنين. ووصل إلى الشام جواب البشارة مع عماد الدين صندل (¬3) المقتفوى، وهو إذ ذاك أستاذ الدار العزيزة، ولم يرد من بغداد رسول مثله في جلالته وعظمة قدره؛ وورد صحبته التشريف الشريف لنور الدين مكملا بالأهبة (¬4) السود والحلل الموشية، والطوق الذهب الثقيل، واللواء (¬5) الجليل؛ وحضر الرسول عند نور الدين، وحضر أكابر الدولة والخواص، وكان يوما مشهودا؛ وقرأ موفق الدين خالد ¬

(¬1) انظر ما فات هنا، ص 58، هامش 3 (¬2) في س: «سبع»، وهو خطأ. (¬3) في (الروضتين، ج 1، ص 199): «عماد الدين بن صندل». (¬4) أهبة الحرب عدتها، والجمع أهب. (اللسان). (¬5) في س (37 ا): «اللؤلؤ» وما هنا هو الصحيح، انظر: الروضتين، ج 1، ص 199.

ابن محمد بن صغير القيسرانى (¬1) كتاب الديوان، ثم لبس نور الدين الفرجيّة (¬2)، وتقلد بالسيفين (¬3)، ووضع في عنقه الطوق (¬4)، وخرج راكبا من داخل القلعة واللواء الأسود منشور على رأسه، وقدّم له مركوبان، أحدهما ركبه، والآخر كان جنيبا [133] بين يديه، محلى بحليته، وجمع له بين تقليدى السيفين الإشعار بتقليده الاقليمين: الشام والديار المصرية، وخرج إلى ظاهر دمشق، ونثر عليه الذهب، وانتهى في تسييره إلى الميدان الأخضر، ثم عاد إلى القلعة. وكان صحبة الرسول تشريف للملك الناصر صلاح الدين جليل كثير، لكنه دون تشريف نور الدين؛ فسيّره نور الدين - رحمه الله - إليه، وسيّر أيضا خلعا من عنده برسم الأمراء من أصحابه. ¬

(¬1) القيسرانى نسبة إلى قيسارية بليدة بالشام على ساحل البحر، وقد ذكر صاحب الروضتين - نقلا عن البرق الشامى للعماد - أن خالدا هذا كان بمثابة الوزير لنور الدين، ولم أعثر له على ترجمة وإنما ترجم (ابن خلكان: الوفيات، ج 4، ص 82 - 85) لأبيه محمد ابن نصر بن صغير القيسرانى، وكان شاعرا مشهورا، وتوفى سنة 548 هـ‍. (¬2) عرفها: (Dozy : Dictionnaire Detaille des Noms des Vetements. P. P .327 - 334; Supp .Dict .Arab) بأنها "نوع من القباء المسترسل، ويصنع غالبا اليوم من الجوخ وله أكمام واسعة طويلة تتعدى أطراف الأصابع، وهى غير مفتوحة او مشقوقة" (est une robe flottante,faite ordinairement aujourd'hui de drap a manches amples et longues qui depassent un peu l'extremite des doigts, et qui ne sont point fendues) . (¬3) ذكر صاحب الروضتين (ج 1، ص 199) - نقلا عن البرق الشامى للعماد الكاتب - أن معنى إرسال الخليفة سيفين لنور الدين إنما هو رمز لتقليده ولاية مصر والشام معا فقد كان العماد حاضرا الحفل الذى قدمت فيه هذه الخلع والتشاريف إلى نور الدين، قال - فيما رواه عنه صاحب الروضتين -: «وسألت عن معنى تقليده السيفين، فقيل لى: هما للشام ومصر، وللجمع بين البلادين» وهو ما يؤكده المتن هنا بعد سطور قليلة. (¬4) ذكر صاحب الروضتين (ج 1، ص 199) - نقلا عن البرق الشامى للعماد - ان وزن هذا الطوق مع أكرته كان ألف دينار من الذهب الأحمر، هذا وتشابه النص هنا وفى الروضتين يدل دلالة واضحة على أن مصدرهما الذى ينقلان عنه واحد، وهو البرق الشامى العماد الأصفهانى، وقد اعترف أبو شامة صراحة بالنقل عنه، أما ابن واصل فقد نقل دون النص على مرجعه

ولما وصل التشريف الخليفتى إلى مصر لبسه الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - وركب به، وذلك في الحادى والعشرين من رجب من السنة المذكورة، وهى أول خلعة عباسية دخلت مصر بعد انقراض دولة العلوية؛ ووصل أيضا إلى مصر أعلام ورايات سود، وأهب عباسية للخطباء بسائر الأعمال المصرية، ففرّقها صلاح الدين على الجوامع والمساجد والقضاة والعلماء، واستقر قدم بنى أيوب بمصر، واستثبت الملك لهم، ففى ذلك يقول عرقلة الدمشقى: أصبح الملك بعد آل علىّ ... مشرقا بالملوك من آل شاذى وغدا الشّرق يحسد الغرب للقو ... م، ومصر تزهو على بغداذ ما حووها إلا بعزم وحزم ... وصليل الفولاذ في الفولاذ لا كفرعون والعزيز، ومن كا ... ن بها كالخطيب والأستاذ وفى هذه السنة - أعنى سنة سبع وستين وخمسمائة - خرجت من مصر مراكب، إلى الشام فأخذ الفرنج في اللاذقيّة منها مركبين مملوءتين من الأمتعة (¬1) والتجار، وغدروا بالمسلمين، وكانوا قد هادنوا نور الدين - رحمه الله - ونكثوا، ولما بلغ ذلك نور الدين راسلهم في إعادة المركبين فغالطوه، واحتجوا بأن المركبين كان قد دخلهما ماء البحر (2) لكسر فيهما (¬2)، وكانت العادة جارية بأخذ كل مركب يدخله الماء، وكذبوا في ذلك، فلم يقبل مغالطتهم، وجمع العسكر من الشام والموصل والجزيرة؛ ووصل ابن أخيه سيف الدين غازى بن مودود إلى خدمته، ثم بثّ السرايا نحو أنطاكية وطرابلس، وحصر هو [134] حصن عرقا، وأخرب ربضه، وأرسل طائفة من العسكر إلى حصن صافيتا وعزيمة، فأخذوهما ¬

(¬1) في الأصل: «امتعة التجارة»، وفى س (37 ب): «الأمتعة والتجار» وما هنا عن: (ابن الأثير، ج 11، ص 140). (¬2) هذان اللفظان غير موجودين في س.

ذكر ابتداء الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين - رحمهما الله تعالى -

عنوة، [وقتل كل من فيهما وسبى (¬1)]، وخرّب، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، وعادوا إليه وهو بعرقة. وسار [نور الدين] بالعساكر نحو طرابلس فراسله الفرنج وبذلوا له إعادة (¬2) ما أخذوه من المركبين، وطلبوا تجديد الهدنة، فأجابهم إلى ذلك، [وردت المركبان بما فيهما إليه ولم ينفد منها شىء (¬3)]. ذكر ابتداء الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين - رحمهما الله تعالى - وفى هذه السنة أرسل نور الدين إلى صلاح الدين يأمره بجمع العساكر المصرية والمصير بها إلى بلاد الفرنج، والنزول بها على الكرك ومحاصرته، ويجتمعا هناك على حرب الفرنج والاستيلاء على بلادهم، فبرز صلاح الدين من القاهرة في العشرين من المحرم من [هذه (3)] السنة، وكتب إلى نور الدين أن رحيله لا يتأخر، وكان نور الدين قد جمع العساكر وتجهز (¬4)، فأقام ينتظر ورود (5) الخبر من صلاح الدين ورحيله ليرحل هو؛ فلما أتاه (¬5) الخبر بذلك رحل من دمشق عازما على قصد الكرك، فوصل إليه، وأقام ينتظر صلاح الدين، فأتاه كتابه يعتذر فيه عن الوصول باختلال أحوال البلاد (¬6)، وأنه يخلف عليها من البعد عنها، فعاد إليها، فلم يقبل نور الدين عذره ورجع. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (38 ا)، ومكان هذه الجملة في الأصل: «وكذلك غيرهما». (¬2) هذا اللفظ غير موجود في س. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادات عن س (38 ا). (¬4) في س: «وتجهزوا». (¬5) هذه الجملة ساقطة من س. (¬6) في س (38 ا): «باختلال البلاد وأحوالها».

قلت: هكذا ذكر بعضه المؤرخين، ولم يذكر غيره أن نور الدين نازل الكرك في هذه السنة، بل كلهم ذكر أن نور الدين كاتب صلاح الدين بالمسير إلى الكرك، فخرج متوجها إليها، ثم عاد، وكان السبب في عود صلاح الدين أن أصحابه وخواصه خوّفوه من الاجتماع بنور الدين (¬1). ولما لم يمتثل صلاح الدين أمر نور الدين عظم ذلك عليه، وعزم على الدخول إلى الديار المصرية وإخراج صلاح الدين عنها، فبلغ الخبر إلى صلاح الدين فجمع أهله وفيهم والده نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمى ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم بما قد عزم عليه نور الدين في قصده وأخذ مصر منه، واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشىء، فقام ابن أخيه الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه [135] بن نجم الدين أيوب، وقال: «إذا جاء قاتلناه وصددناه عن البلاد»، ووافقه غيره من أهله، فشتمهم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك عليهم غاية الإنكار، وقال لصلاح الدين: «أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك، أتظن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا؟» فقال: «لا»، فقال: «والله لو رأيت أنا وهذا خالك نور الدين لم يمكننا إلا أن نترجل إليه، ولو أمرنا بضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا فكيف يكون غيرنا؟ وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر على الثبات على سرجه، ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه، وهذه البلاد له، وقد أقامك فيها، فإن أراد عزلك عزلك (¬2)، وأى حاجة له إلى المجىء؟ يأمر بكتاب مع نجّاب حتى تقصد خدمته، ويولى بلاده من يريد»، وقال للجماعة كلهم: «قوموا عنا فنحن ¬

(¬1) صيغة س يختلف قليلا، وهى: «بنور الدين فعاد إلى مصر ولم يمتثل أمر نور الدين، فلما بلغ نور الدين ذلك عظم عليه. . . إلخ». (¬2) في س (38 ب) «: فان أراد عزلك فأى حاجة. . . إلخ».

مماليك نور الدين وعبيده يفعل بنا ما يريد»، وتفرقوا على هذا الحال، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر، ولما خلا نجم الدين بابنه صلاح الدين قال له: «أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على ما في نفسك، فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه من البلاد جعلك من أهم أموره وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم تر معك من هذا العسكر أحدا، وكانوا يسلمونك إليه، وأما الآن بعد هذا المجلس سيكتبون إليه ويعرفونه قولى، فتكتب إليه وترسل في هذا المعنى، وتقول: «أي حاجة إلى قصدى؟ نجّاب يأخذنى بحبل يضعه (¬1) في عنقى»، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك (¬2) واشتغل بما هو أهم عنده، والأيام تندرج، والله كل يوم في شأن»؛ فعلم صلاح الدين صحة ما أشار به والده [ففعل ما أمره به (¬3)]، فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده، واندرجت الأيام - كما قال نجم الدين (¬4) - وكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) في س: «يصوره». (¬2) في س: «قصده اليك». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (39 ا). (¬4) المصدر الأصلى لهذه القصة هو (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 139) وقد نقلها عنه مع تغييرات طفيفة (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 203 - 204)، ونص ابن واصل هنا متفق مع نص أبى شامة. وللأستاذ محمد فريد أبو حديد رأى مخالف في هذا الموضوع. أنظر كتابه: (صلاح الدين الأيوبى وعصره، ص 73 - 81). والذى نراه أن ابن الاثير يتلمس المناسبات أحيانا لغمز صلاح الدين ونقده وخاصة عند المقارنة بينه وبين نور الدين، وقد يكون لنشأته في الموصل - موطن نور الدين والبيت الأتابكى عموما - أثر في هذا. أنظر رأى الأستاذ جب في هذا الموضوع في: (H .A .H,Gibb : The : Arabic Sources for the Life of Saladin .Speculum .vol .XXV .No . I January 1950 pp .85 - 47).

ذكر منازلة السلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - الكرك والشوبك

ذكر منازلة السلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - الكرك والشوبك وفى سنة ثمان وستين وخمسمائة خرج صلاح الدين - رحمه الله - في النصف من شوال قاصدا الغزاة، ومعه ما هو [136] برسم الهدية إلى نور الدين، وهو: الفيل والحمارة العتّابيّة (¬1) وذخائر وأمتعة من القصر مستحسنة، وآلات مثمنة، وقطع بلّور (¬2) ويشم (¬3)، وأوان لا يتصور وجود مثلها، وثلاث قطع بلخش (¬4) أكبرها نيف وثلاثون مثقالا، والثانية ثمانية عشر، والأخرى دونها، ومعها لؤلؤ نفيس، وستون ألف دينار، وغرائب من المصنوعات، وطيب وعطر، وغير ذلك؛ فوصل (¬5) إلى بلاد الكرك والشوبك، فنازلهما ونازل غيرهما من الحصون، فأخرب عماراتها، وشنّ الغارات على أعمالها. ¬

(¬1) المقصود هنا أن هذه واحدة من حمر الوحش المخططة، وقد ذكر (ابن خلكان: الوفيات، ج 4، ص 22 - 23) و (ابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب) أن «العتابى» نسبة إلى «العتابيين» وهى إحدى محال بغداد في الجانب الغربى منها، وكانت إقطاعا لعتاب - أحد رجال بنى أمية - فسميت باسمه، وقد اشتهرت هذه المحلة بانتاج نوع من النسيج المخطط ومن هنا كان يوسف هذا النوع من الحمير بأنه عتابى تشبيها له بهذا النسيج. انظر أيضا (Dozy : Supp Dict .Arab). (¬2) وترسم أيضا «بلور» وهى معربة عن اليونانية (Beryllos) فحذف منها سين الاعراب، ثم وقع فيها القلب. انظر: (ابن الأكفانى: نخب الذخائر في أحوال الجواهر، تعليقات الاب انستاس مارى الكرملى، ص 63، هامش 1). (¬3) ويقال فيه «اليشب» وهو حجر ثمين قريب من الزبرجد، ومنه الأبيض، والأصفر والزيتى - وهو أفضلها -. انظر: (المرجع السابق، ص 72) و (اليرونى: كتاب الجماهر في معرفة الجواهر، ص 198) (¬4) جوهر أحمر شفاف يضاهى فائق الياقوت في اللون والرونق، سمى هكذا نسبة إلى موطنه «بلخشان» حيث يكثر وجوده، وأهل إيران يسمونه «بذخشان» وهو إقليم يقع في اقصى شرقى أفغانستان. انظر: (ابن الأكفانى: المرجع السابق، ص 14 - 15) (¬5) في س (39 ا): «فقصد».

ذكر وصول الهدية المصرية إلى نور الدين

ذكر وصول الهدية المصرية إلى نور الدين وسيّر الهدية إلى نور الدين، وكتب إليه بالإنشاء الفاضل: «سبب هذه الخدمة إلى مولانا السلطان الملك العادل أعز الله سلطانه، ومدّ أبدا إحسانه، ومكّن بالنصر إمكانه، وشيّد بالتأييد أركانه، ونصر أنصاره وأعان أعوانه: علم المملوك بما يؤثره المولى بأن يقصد الكفار بما يقص (¬1) أجنحتهم، ويفّل (¬2) أسلحتهم، ويقطع موادهم، ويخرب بلادهم؛ وأكبر الأسباب المعينة على ما يرومه من هذه المصلحة أن لا يبقى في بلادهم أحد من العربان، وأن ينتقلوا من ذل الكفر إلى عز الإيمان، ومما اجتهد فيه عامة (¬3) الاجتهاد، وعدّه من أفضل (¬4) أسباب الجهاد، ترحيل كثير من أنفارهم، والحرص في تبديل دارهم، إلى أن صار (¬5) العدو اليوم إذا نهض لا يجد بين يديه دليلا، ولا يستطيع حيلة ولا يهتدى سبيلا (¬6). ¬

(¬1) في الاصل: «يحض»، وقد صححت بعد مراجعة س والروضتين. (¬2) في الاصل، وفى س (39 ا): «يقل»، وفى (الروضتين، ج 1، ص 206): «يغلل»، وما هنا قراءة ترجيحية يقتضيها المعنى. (¬3) كذا في الأصل، وفى س (39 ا): «من الاجتهاد»، وفى (الروضتين، ج 1، ص 206): «غاية الاجتهاد». (¬4) كذا في الأصل وفى س، وفى (الروضتين): «أعظم». (¬5) في س: «إلى أن يصير العدو إذا نهض. . . الخ». (¬6) هذه قطعة من رسالة بقلم القاضى الفاضل أرسلها صلاح الدين إلى نور الدين ليبين له فيها القصد من خروجه لمهاجمة الكرك والشوبك، وكانت هذه أول غزوة غزاها صلاح الدين من مصر في أوائل سنة 568 هـ‍ وقد أوضح (بهاء الدين بن شداد: النوادر السلطانية، ص 36) الغرض من هذه الغزوة وأهميتها بقوله: «وإنما بدأ بها - أي الكرك والشوبك - لأنها كانت أقرب إليه، وكانت في الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية، وكان لا يمكن أن تصل قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها بلاد العدو، فأراد توسيع الطريق وتسهيله لتتصل البلاد بعضها ببعض، وتسهل على السابلة، فخرج قاصدا لها فحاصرها، وجرى بينه وبين الأفرنج وقعات، وعاد عنها ولم يظفر منها بشىء».

ولما وصلت الهدية والرسول إلى نور الدين استقلّ الهدية واستنزرها، ولم تقع منه بموقع، ولكنه أظهر شكر صلاح الدين، ووصف فضيلته، وقال: «ما كان بنا حاجة إلى هذا المال، وهو يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في ملك مصر وبنا فقر إلى هذا الذهب، وما لهذا المحمول في مقابلة ما جدنا به مقدار، [وتمثل بقول أبى تمام (¬1)]: لم ينفق الذهب المربى بكثرته ... على الحصا وبه فقر إلى الذّهب لكنه يعلم أن ثغور الشام مفتقرة إلى وفور العدد من الجند، وقد عمّ البلاء بالفرنج، فينبغى أن تقع المساعدة والمعاونة بالأمداد»، ثم أخذ يفكر فيما يفعله من هذا المهم. [137] قال عماد الدين الكاتب في البرق: «وصلت الحمارة، وكثرت لها النظّارة، والفيل وصل إلينا [في سنة تسع وستين (¬2)] ونحن بحلب في الميدان الأخضر، فأهداه نور الدين إلى ابن أخيه سيف الدين غازى بن مودود - صاحب الموصل - مع شىء من الثياب والعود والعنبر، فسيّره سيف الدين إلى الخليفة مع تحف وهدايا (¬3)؛ وسيّر نور الدين الحمارة العتّابيّة إلى الخليفة مع هدايا وتحف سنية (¬4)». وفى هذه السنة أغار العدو على الجولان (¬5) ونزلوا سمسكين (¬6)، وبلغ ذلك ¬

(¬1) أضفنا ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 1، ص 206) وذلك للايضاح. (¬2) أضفنا ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، نفس الجزء والصفحة). (¬3) في س (39 ب): «مع هدايا وتحف سنية». (¬4) في س: «مع هدايا عظيمة». (¬5) في س (39 ب): «الحولان»؛ والجولان قرية. وقيل جبل، من نواحى دمشق، ثم من عمل حوران؛ (ياقوت، معجم البلدان). (¬6) كذا في الأصل، وفى س، وفى (الروضتين)، وفى: (ياقوت: معجم البلدان): «سمكين ناحية من أعمال دمشق من جهة حوران».

نور الدين وهو نازل بالكسوة فرحل إليهم بعساكره، فرحلوا إلى الفوار (¬1)، ثم إلى الشلالة (¬2)، ونزل نور الدين عشترا، وبعث عسكرا إلى أعمال طبرية، فأغارت عليها، ولما عادت لحقتها الفرنج عند المخاضة، فوقفت المقاتلة في مقابلتهم إلى أن عبرت السريّة (¬3) ونجت، ثم رحل نور الدين من عشترا، ونزل بظاهر زرا، وامتدحه عماد الدين بقصيدة أولها: رفعت (¬4) بنصرك راية الإيمان ... وبدت لعصرك آية الإحسان يا غالب (¬5) الغلب الملوك وصائد ال‍ ... ـصيد الليوث وفارس الفرسان يا سالب التيجان من أربابها ... حزت الفخار على ذوى التيجان [ومنها يقول (¬6)]: كم وقعة لك في الفرنج، حديثها ... قد سار في الآفاق والبلدان قمصت (¬7) قومصهم رداء من ردى ... وضربت رأس برنسهم بسنان وملكت رقّ ملوكهم وتركتهم ... بالذلّ في الأقياد والأشجان (¬8) وجعلت في أعناقهم أغلالهم ... وسحبتهم هونا على الأذقان (¬9) ¬

(¬1) في س: «الفرات». (¬2) في س «اللاكه «وفى الأصل: «السلالة»، وما هنا عن (الروضتين، ج 1، ص 207). (¬3) في س: «البرية». (¬4) كذا في الأصل، وفى س؛ وفى: (الروضتين، ج 1، ص 207): «عقدت». (¬5) كذا في الأصل، وفى (الروضتين)، وفى س (39 ب): «يا غالبا غلب الملوك». (¬6) ما بين الحاصرتين عن س، والقصيدة كاملة موجودة في: (الروضتين، ج 1، ص 207 - 208). (¬7) في س (40 ا): «قومصت قومصهم ردى من ردى». (¬8) في الأصل، وفى س: «الأسجان»، والتصحيح عن: (الروضتين). (¬9) في س: «الأذقانى» و «السلطانى».

ذكر غزوة النوبة

وعلى غناء المشرفيّة في الطلى ... والهام رقص عوامل (¬1) المرّان وكأنّ بين النّقع لمع حديدها ... نار تألّق في خلال دخان في مأزق ورد الوريد مكفل (2) ... فيه برى الصّارم الظمآن (¬2) ومنها: غطى (5) العجاح به نجوم سمائه ... لتنوب عنه أنجم الخرصان أنت الذى دون الملوك وجدته ... ملآن من عرف ومن أيمان (¬3) [138] في بأس عمرو، في بسالة حيدر، ... في نطق قسّ، (¬4) في تقى (¬5) سلمان سير لو ان الوحى ينزل أنزلت ... في شأنها سور من القرآن فاسلم طويل العمر ممتدّ المدى (¬6) ... صافى الحياة مخلّد السّلطان (¬7) ذكر غزوة النوبة وفى جمادى الأولى من هذه السنة - أعنى سنة ثمان وستين وخمسمائة - غزا الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه بن أيوب - أخو السلطان - ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى س، وفى (الروضتين): «عوالى». (¬2) يقابل هذا في س: «وكفل فيه يروى الصادى الضمان». (¬3) كذا في الأصل: وفى س؛ وفى (الروضتين): «عرفان». (¬4) في س «قيس» (¬5) في الاصل: «غطا» و «تقا». (¬6) كذا في الاصل، وفى (الروضتين)، وفى س: «الندى». (¬7) في س: «السلطانى».

بلاد النوبة (¬1)، وفتح حصنا لهم يدعى إبريم، وسبى وغنم، فوجدها بلادا قليلة الجدوى، فجمع السبى وعاد به إلى أسوان، وفرّق الغنائم في أصحابه. ¬

(¬1) أورد صاحب الروضتين (ج 1، ص 208 - 209) - نقلا عن ابن أبى طى المؤرخ الحلبى - حديثا مفصلا عن حملة تورانشاه إلى بلاد اليمن، وهذا الحديث يتضمن معلومات فريدة وهامة جدا، ولهذا آثرنا نقله هنا، قال: «وفيها اجتمع السودان والعبيد من بلاد النوبة، وخرجوا في أمم عظيمة قاصد بن ملك مصر، وصاروا إلى أعمال الصعيد، وصمموا على قصد أسوان وحصارها ونهب قراها، وكان بها الأمير كنز الدولة، فأنفذ يعلم الملك الناصر، وطلب منه نجدة، فأنفذ قطعة من جيشه مع الشجاع البعلبكى، فلما وصل إلى أسوان وجد العبيد قد عادوا عنها بعد أن أخرجوا أرضها فأتبعهم الشجاع والكنز، فجرت حرب عظيمة قتل فيها من الفريقين عالم عظيم، ورجع الشجاع إلى القاهرة وأخبر بفعال العبيد وتمكنهم من بلاد الصعيد، فأنفذ الملك الناصر اخاه شمس الدولة في عسكر كثيف، فوجدهم قد دخلوا بلاد النوبة، فسار قاصدا بلادهم، وشحن مراكب كثيرة في البحر بالرجال والميرة، وأمرها بلحاقه إلى بلاد النوبة، وسار إليها، ونزل على قلعة إبريم، وافتتحها بعد ثلاثة أيام وغنم جميع ما كان فيها من المال والكراع والميرة، وخلص جماعة من الأسرى، وأسر من وجده فيها، وهرب صاحبها، وكتب إلى السلطان بذلك. . . ثم رجع شمس الدولة إلى أسوان ثم إلى فوص، وكان في صحبته امير يقال له إبراهيم الكردى، فطلب من شمس الدولة قلعة إبريم، فأقطعه إياها، وأنفذ معه جماعة من الأكراد البطالين، فلما حصلوا فيها تفرقوا فرقا، وكانوا يشنون الغارة على بلاد النوبة حتى برحوا بهم، واكتسبوا أموالا كثيرة حتى عفت أرزاقهم وكثرت مواشيهم، واتفق انهم عدّوا إلى جزيرة من بلاد النوبة تعرف بجزيرة ذبدان (؟) فغرق أميرهم إبراهيم وجماعة من أصحابه، ورجع من بقى منهم إلى قلعة إبريم، وأخذوا جميع ما كان فيها واخلوها بعد مقامهم بها سنتين، فعاد النوبة إليها وملكوها، وأنفذ ملك النوبة رسولا إلى شمس الدولة وهو مقيم بقوص، ومعه كتاب يطلب الصلح ومع الرسول هدية - عبد وجارية - فكتب له جواب كتابه، وأعطاه زوجى نشاب، وقال: «مالك عندى جواب إلا هذا»، وجهز معه رسولا يعرف بمسعود الحلبى، وأوصاه أن يكشف له خبر البلاد ليدخلها، فسار الحلبى مع الرسول حتى وصل دنقلة - وهى مدينة الملك - قال مسعود: فوجدت بلادا ضيقة، ليس لهم زرع إلا الذرة، وعندهم نخل صغار، منه أدامهم»، ووصف ملكهم بأوصاف منها أن قال: «خرج علينا يوما وهو عريان، قد ركب فرسا عريا، وقد التف في ثوب أطلس، وهو أقرع، ليس على رأسه شعر، فأتيت فسلمت عليه، فضحك وتغاشى، وأمر بى أن تكوى يدى فكوى عليها هيئة صليب، وأمر لى بقدر خمسين رطلا من الدقيق، ثم صرفنى»، قال: «وأما دنقلة فليس فيها عمارة إلا دار الملك فقط وباقيها أخصاص». انظر أيضا: (P. Casanova : Les Derniers Fatimides Memores de la Mission Archeo - logique Francaise du Caire .Tome VI,3, P. P .415 - 445) .

ذكر وفاة الملك الأفضل نجم الدين أيوب بن شاذى والد الملوك - رحمه الله -

ذكر وفاة الملك الأفضل نجم الدين أيوب بن شاذى والد الملوك (¬1) - رحمه الله - وفى يوم الاثنين الثامن عشر من ذى الحجة من هذه السنة ركب الأمير نجم الدين أيوب بن شاذى - والد الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله - بالقاهرة، فشبّ به فرسه وتقنطر به، فحمل عن فرسه، وعاش ثمانية أيام ثم توفى يوم الثلثاء لثلاث بقين من ذى الحجة من السنة؛ وكان ولده صلاح الدين إذ ذاك غائبا في بلاد الكرك والشوبك على ما ذكرناه، فبلغه وفاة والده قبل وصوله إلى الديار المصرية، فاشتد حزنه، وتأسف حيث لم يحضر وفاته، وكان [نجم الدين] مولعا باللعب بالكرة وشدة الركض، فكان كل من رآه على هذه الصفة يقضى أنه لا يموت إلا [من وقوعه (¬2)] عن ظهر الفرس. ذكر سيرته - رحمه الله (¬3) - كان رحيما جوادا، كثير البذل، حسن النية، جميل الطوية، وله صدقات ومعروف كثير، واتفقت له سعادة عظيمة، وما مات حتى رأى في ذريته ما أحب من الملك لهم والسلطان، ثم عظم ملكهم بعده وانتشر صيتهم، ولم يملك أحد في عصرهم مثل ما ملكوا؛ ولما توفى دفن إلى جانب أخيه أسد الدين شيركوه في بيت بالدار السلطانية، ثم نقلا بعد سنتين إلى مدرسة بنيت لهما [بالمدينة (¬4)] ¬

(¬1) في س: «والد الملك الناصر صلاح الدين». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن: (الروضتين، ج 1، ص 209). (¬3) هذا العنوان غير موجود في س. (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (40 ب).

بازاء حجرة النبى - صلى الله عليه وسلم - وسعدا بجوار النبى - عليه السلام - فتم لهما بذلك سعادة الآخرة مضافة إلى ما نالاه [139] من سعادة الدنيا. ولما (¬1) حججت سنة تسع وأربعين وستمائة وقدمت المدينة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - رأيت قبريهما بهذه المدرسة. ورثى (¬2) عمارة بن على اليمنى - الشاعر - نجم الدين أيوب بقصيدة أولها (2): هى الصدمة الأولى فمن بان صبره ... على هول ملقاها تضاعف أجره ولا بدّ من موت وفوت وفرقة ... ووجد بماء العين يوقد جمره وما يتسلّى من يموت حبيبه ... بشىء، ولا يخلو من الهمّ فكره ولكنّه جرح يعزّ اندماله ... وكسر زجاج لا يؤمّل جبره أذمّ صباح الأربعاء فإنّه ... تبسّم عن ثغر المنيّة فجره أصاب الهدى في نجمه بمصيبة ... تداعى سماك الجوّ فيه ونسره وأفقر أهل الأرض من باذل الغنى ... إذا قنط (¬3) المحتاج واشتدّ فقره عدمنا أبا الإسلام والملك والندى ... وفارقنا فرد الزمان ووتره فلا تعذلونا واعذرونا، فمن بكى ... على فقد أيوب فقد بان عذره رعى (¬4) الله نجما تعرف الشمس أنه ... أبوها ونور البدر منها وزهره وأبقى (4) المقام الناصرىّ فإنه ... لدولتكم كنز الرجاء وذخره ¬

(¬1) قبل هذا اللفظ في س: «قال القاضى جمال الدين». وهذه جملة من الجمل الكثيرة المتناثرة في هذا الكتاب والتي يعرفنا فيها المؤلف ببعض أخباره، ومنها نعلم أنه حج إلى مكة وزار المدينة في سنة 649 هـ‍. (¬2) مقابل هذه الجملة في س: «ورثاهما على بن عمارة الشاعر بهذه الأبيات وهى من قصيدة طويلة أولها يقول». (¬3) في س: «قبض». (¬4) في الأصل: «رعا» و «ابقا».

ذكر المراسلة بين نور الدين وصلاح الدين - رحمهما الله تعالى -

أفاض على الأيام أحسن سيرة ... يموت بها جور الزمان وغدره إذا كانت البلوى من الله فليكن ... من الحزم حمد الله فيها وشكره (¬1) ذكر المراسلة بين نور الدين وصلاح الدين - رحمهما الله تعالى (¬2) - كان نور الدين - رحمه الله - من حين ملكت الديار المصرية يؤثر أن يقرر له حمل يحمل إليه منها يستعين به على كلف الجهاد، والأيام تماطله، وهو ينتظر من صلاح الدين - رحمه الله - أن يبتديه ذلك من تلقاء نفسه، ويفعل في ذلك ما يؤثره ويريده، فلما حمل صلاح الدين ما تقدم ذكره استقله ولم يعجبه، فتقدم حينئذ نور الدين إلى موفق الدين خالد بن القيسرانى متولى ديوان الاستيفاء (¬3) أن يمضى إلى الديار المصرية، ويتقاضى صلاح الدين، ويعمل أوراقا بارتفاع الأعمال المصرية، ولا يترك في النفس حزازة (¬4) من [140] أمرها؛ ثم سار الملك نور الدين إلى بعلبك ثم إلى حمص ثم إلى حلب. ¬

(¬1) في (الروضتين، ج 1، ص 212) أبيات أخرى من هذه القصيدة. (¬2) هذا العنوان غير موجود في س. (¬3) في س: «الانشاء». (¬4) في س: «حرارة». وابن واصل ينقل هنا عن (البرق الشامى للعماد الأصفهانى). انظر: (الروضتين، ج 1، ص 206)، ونص العماد يفسر معنى هذا اللفظ وهو: «وتقدم إلى الموفق خالد بن القيسرانى أن يمضى ويطلب ويقتضى ويعمل أيضا بالأعمال المصرية جزازة، ولا يبقى في نفوس ديوانه من أمرها حزازة. . . الخ».

ذكر قصد نور الدين - رحمه الله - بلاد قليج أرسلان

ذكر قصد نور الدين - رحمه الله - بلاد قليج أرسلان ثم سار نور الدين إلى مملكة السلطان عز الدين قليج أرسلان بن مسعود ابن قليج أرسلان بن سليمان [بن (¬1)] قطلمش السلجوقى - صاحب قونية - عازما على حربه وأخذ البلاد منه، وسبب ذلك أن ذا النون بن الدانشمند (¬2) - صاحب ملطية - قصده عز الدين، وأخذ بلاده منه، فسار ابن الدانشمند صاحب ملطية إلى نور الدين مستجيرا به، وملتجئا إليه، فأكرم [نور الدين (1)] نزله، وأحسن إليه، وحمل إليه ما يليق أن يحمل إلى الملوك، وراسل (¬3) قليج أرسلان يشفع في إعادة بلاد ذى النون إليه، فلم يجبه إلى ذلك، فسار نور الدين وابتدأ بكيسون (¬4) ونهبه، ومرعش (¬5) ومرزبان فملكها وما بينها، وكان ملكه لمرعش في ذى القعدة من هذه السنة (5)؛ ثم سيّر طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها. فراسل قليج أرسلان نور الدين واستعطفه، فوقع الصلح بينهما، وشرط ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (41 ا) راجع أيضا: (زامباور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الاسلامى، ص 216، الترجمة العربية). (¬2) في الأصل - هنا وفيما يلى -: «الداشمند» وقد صحح الاسم بعد مراجعة: (زامباور: معجم الأنساب، الترجمة العربية، ص 220 - 221) وابن واصل ينقل هنا عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 146 - 147) وكذلك فعل صاحب الروضتين (ج 1، ص 213 - 214). (¬3) في س: «وأرسل إلى». (¬4) كذا في الأصل، وهى في س: «بلسيون» وما هنا عن ابن الأثير والروضتين. (¬5) ما بين الرقمين ساقط من س.

[نور الدين عليه (¬1)] أن ينجده بعساكر إلى الغزاة، ففعل (¬2)، وسلّمت سيواس إلى ذى النون (2)، وبقى [ذو النون] في خدمة نور الدين إلى أن مات نور الدين، فحينئذ عاد قليج أرسلان إلى البلاد فملكها، وهى مع ولده إلى اليوم. والمرتب اليوم بالبلاد وله اسم السلطنة صبى صغير (¬3)، هو ابن ركن الدين ابن غياث الدين كيخسرو بن علا الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان المذكور، وكان التتر الملاعين قد استولوا على البلاد، وأبقوا بها ركن الدين والد هذا الصبى، وهرب أخوه عز الدين كيكاوس بن كيخسرو إلى ملك الروم صاحب قسطنطينية وهو عنده إلى اليوم، واستولى على ركن الدين معين الدين [سليمان] البرواناه (¬4)، ثم قتل معين الدين ركن الدين، وقام بأتابكية ولده الصبى المذكور، وخطب له بالبلاد، وملك (¬5) البلاد في الحقيقة التتر، والبرواناه نائبهم بها (5). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (41 ب). (¬2) مقابل هذه الجملة في س: «وتعطى سيواس وغيرها لذى النون ففعل ذلك». (¬3) هذا الصبى الصغير هو غياث الدين كيخسرو الثالث، وقد ولى الحكم في سنة 663 هـ‍ وعمره سنتان ونصف سنة، ولهذا الاستطراد أهمية خاصة فهو يحدد الوقت الذى كان المؤلف - ابن واصل - يكتب فيه هذا الجزء من الكتاب، وواضح أنه كان يكتبه بعيد سنة 663 هـ‍ وهى السنة التي تولى فيها هذا الصبى. أنظر: (زامباور: معجم الأنساب، الترجمة العربية، ص 218) (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين عن: (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 571 - 572) والبرواناه لفظ فارسى معناه في الأصل الحاجب، وقد أطلق في دولة سلاجقة الروم بآسيا الصغرى على الوزير الأكبر. (تعليقات الدكتور زيادة في نفس الصفحة من نفس المرجع). (¬5) هذه الجملة في س ناقصة ومضطربة المعنى ونصها: «وملك البلاد في الحقيقة (؟) والبرواناه نايبه».

ذكر الواقعة الكائنة بين مقدم الأرمن والروم

ذكر الواقعة الكائنة بين مقدم الأرمن والروم كان مليح بن لاون مقدم الأرمن قد التجأ إلى نور الدين، وصار في طاعته، وكانت الدروب وأذنة ومصيصة [وطرسوس (¬1)] يحميها ملك الروم صاحب قسطنطينية (¬2) [141] ويضبطها بجنده، فاستولى عليها مليح بن لاوون، وكسر الروم، وقتل منهم وأسر، وساق لنور الدين من مقدمى الروم ثلاثين أسيرا، فسيّرهم نور الدين إلى الخليفة المستضىء بنور الله، وكتب إليه كتابا، من جملته: و «قسطنطينية (2) والقدس يجريان إلى أمد الفتوح في مضمار المنافسة، وكلاهما في وحشة (¬3) ليل الظلام المدلهم على انتظار صياح المؤانسة، والله تعالى بكرمه يدنى قطاف الفتحين لأهل الإسلام، ويوفق الخادم لحيازة مراضى الإمام». [وفى آخره (¬4)]: (فصل في فتح بلاد النوبة والمغرب): «ومن جملة حسنات هذه الأيام الزاهرة ما تيسر في هذه النوبة، من افتتاح بعض بلاد النوبة، والوصول إلى مواضع منها لم تطرقها سنابك الخيل الإسلامية في العصور الخالية، وكذلك استولى عساكر مصر أيضا على برقة وحصونها، وتحكموا في محكم معاقلها ومصونها، حتى بلغوا إلى حدود المغرب، فظفروا من السؤل بعنقاء مغرب». ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (41 ب). (¬2) في الأصل: «قسطنطانية». (¬3) س: «وجه»، والتصحيح عن (البرق الشامى للعماد، في: الروضتين، ج 1، ص 215). (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن المرجع السابق، ولائباتها أهمية خاصة لأنها توضح أن النص التالى الخاص بفتح النوبة وبرقة جزء من نفس الخطاب المرسل إلى الخليفة. هذا وفى الروضتين قطعة أخرى من هذا الخطاب مكملة له.

ذكر دخول قراقوش التقوى بلاد المغرب

ذكر دخول قراقوش التقوى بلاد المغرب (¬1) وفى هذه السنة مضى قراقوش - غلام الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه ابن أيوب - إلى المغرب في طائفة من الترك، وانضم إليه جماعة من العرب، واستولى على أطرابلس الغرب وكثير من بلاد إفريقية، وانضم إلى قراقوش مسعود بن زمام - وهو من أعيان الغرب (¬2) به هناك - وكان خارجا عن طاعة عبد المؤمن بن على - خليفة المغرب - وأولاده، فاتفقا، وكثر جمعهما، وحكم قراقوش على تلك البلاد، وصار معه عسكر كثير، وجرت (¬3) بينهم وبين المغاربة حروب كثيرة ليس هذا موضع ذكرها (3)، وقد ذكرتها مفصلة في التاريخ الكبير (¬4). ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في س، وقراقوش التقوى هذا هو غلام تقى الدين عمر بن شاهنشاه، وهو غير بهاء الدين قراقوش الأسدى السابق ذكره. (¬2) س: «العرب». ونص (ابن الاثير: الكامل، ج 11، ص 146) - وهو المرجع الذى ينقل عنه ابن واصل هنا -: «مسعود بن زمام المعروف بمسعود البلاط، وهو من أعيان الأمراء هناك». (¬3) ما بين الرقمين ساقط من س (42 ا). (¬4) ذكرنا سابقا ان المعروف أن لابن واصل كتابا آخر في التاريخ هو (التاريخ الصالحى) وقد رجعت إليه فلم أجد هذه التفصيلات التي يشير إليها هنا بشأن فتوح قراقوش التقوى في بلاد المغرب، وهذا يرجح أنه كان لابن واصل كتاب تاريخى ثالث، يسميه هو هنا «التاريخ الكبير» غير أننا لا نعرف عنه حتى الآن شيئا. أنظر ما فات هنا ص 204، هامش 3 هذا والثابت من المراجع الأخرى أن غزوات قراقوش التقوى للمغرب تعددت في السنوات 571 و 572 و 575 و 576 و 578 و 582؛ وأن تقى الدين عمر بن شاهنشاه فكر أكثر من مرة في الخروج بنفسه إلى المغرب لاقامة ملك له هناك. لهذا وذاك انظر: (الروضتين، ج 1، ص 242، 260، 269 - 270 وج 2، ص 16، 21، 27، 38، 70)

ذكر دخول الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه ابن أيوب اليمن وتملكه لها

ذكر دخول الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه ابن أيوب اليمن وتملكه لها (¬1) وفى سنة تسع وستين وخمسمائة سيّر الملك الناصر صلاح الدين أخاه الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه بن أيوب إلى بلاد اليمن ليتملكها؛ وكان السبب في ذلك أنه كان صلاح الدين هو وأهله من حين ملكوا مصر خائفين من نور الدين أن يدخل مصر فيأخذها منهم، فشرعوا في تحصيل مملكة يقصدونها ويملكونها، وتكون لهم عدة، فإن أخرجهم نور الدين [142] من مصر ساروا إليها وأقاموا بها، فاقتضى رأى صلاح الدين أن يسيّر أخاه إلى النوبة ليملكها، فسار إليها ولم تعجبه كما ذكرنا، فلما عاد إلى مصر اقتضى رأيه أن يسيّره إلى اليمن (¬2)، ¬

(¬1) هذا العنوان ساقط من س. (¬2) هذا الرأى القائل بأن السبب في فتح النوبة ثم اليمن إنما هو تخوف صلاح وأسرته من نور الدين أن يهاجمهم في مصر ويخرجهم منها. أقول إن هذا الرأى مصدره الأول ابن الأثير، وابن الأثير - فيما يبدو - متهم في كثير مما يكتبه عن العلاقات بين صلاح الدين ونور الدين أنظر ما فات: ص 223، هامش 4 وأنظر أيضا (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 145) فهو يقول عند حديثه عن مسير شمس الدولة تورانشاه إلى النوبة: «وكان سبب ذلك أن صلاح الدين وأهله كانوا يعلمون أن نور الدين كان على عزم الدخول إلى مصر، فاستقر الرأى بينهم أنهم يتملكون إما بلاد النوبة أو بلاد اليمن، حتى إذا وصل إليهم نور الدين لقوه وصدوه عن البلاد، فان قووا على منعه أقاموا بمصر، وإن عجزوا عن منعه ركبوا البحر ولحقوا بالبلاد التي افتتحوها». وفى رأيى أن هذا لا يتفق مع ما ذكره ابن الأثير نفسه في موضع آخر (ص 148) من أن تورانشاه «استأذن نور الدين في أن يسير إلى اليمن لقصد عبد النبى صاحب زبيد لأجل قطع الخطبة العباسية فأذن في ذلك» وقد أكد هذه الحقيقة ابن واصل هنا في المتن بعد سطرين اثنين وإنما ذكر أن الذى استأذن نور الدين هو صلاح الدين. أما الأسباب الحقيقية لفتح اليمن فتجدها في النصوص الكثيرة التي نقلها (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 216 - 217 و 220) عن العماد الأصفهانى وابن شداد، وابن أبى طى. وفى: (بدر الدين محمد بن حاتم: السمط الغالى الثمن في أخبار الملوك من الغز باليمن) والكتاب الأخير لا زال مخطوطا، وتوجد منه نسخة في دار الكتب المصرية رقم 2411. =

وكان بها خارجى يقال له عبد النبى، واسمه فيما ذكر أبو الحسن عمارة: «على بن مهدى (¬1)»، [و] قد ملك زبيد، وقطع الخطبة العباسية، وخطب لنفسه، فاستأذن صلاح الدين نور الدين في أن يسيّر عسكرا إلى اليمن ويفتتحها، فأذن له في ذلك. وكان بمصر عمارة بن على اليمنى - المقدم ذكره - فحسّن للملك المعظم قصد اليمن، ووصف بلادها له، وعظّمها في عينه، فزاده ذلك رغبة فيها، فشرع يتجهز ويعدّ (¬2) الروايا والسلاح، وغير ذلك من الآلات، وجنّد الأجناد، وجمع وحشد، وكان لعمارة مدائح في الملك المعظم، فمما امتدحه به، وحرّضه فيه على ملك اليمن قصيدته التي أولها: العلم مذ كان محتاج (¬3) إلى العلم ... وشفرة السيف تستغنى عن القلم ¬

= هذا وقد انفرد مؤرخ يمنى آخر (بامخرمة: تاريخ ثغر عدن، ج 1، ص 127 - 128) بذكر سبب هام من أسباب الفتح الأيوبى لليمن، وخلاصته أن بعض أمراء اليمن استغاثوا بالخليفة العباسى من اعتداءات عبد النبى بن مهدى؛ قال: «خرج (عبد النبى بن على بن مهدى صاحب زبيد) في أصحابه إلى جهة أبين، فحرق أبين، وقتل أهلها، وذلك في سنة 559، ثم رجع إلى زبيد؛ ثم خرج في سنة 561 في عسكر جرار نحو المخلاف السليمانى، فقاتلهم قتالا شديدا، وقتل منهم طائفة غالبهم من الأشراف، وفى جملة من قتله وهّاس بن غانم بن يحيى ابن حمزة بن وهاس السليمانى - أحد أمراء الأشراف وسادتهم -،. . . ويقال إنه لما قتل الشريف وهاس خرج أحد أخوته إلى بغداد مستنصرا بالخليفة على عبد النبى بن مهدى، فيقال إن الخليفة كتب له إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بأن يجرد في نصرته عسكرا لقتال ابن مهدى، فجرد الملك الناصر أخاه شمس الدولة توران شاه بن أيوب، وأن ذلك كان سبب دخول الغز اليمن. . إلخ». (¬1) المهديون أسرة حكمت زبيد بين سنتى (554 - 569 = 1159 - 1173)، وحكم من هذه الأسرة ثلاثة فقط: على بن مهدى، ومهدى بن على، وعبد النبى بن على - وهذا هو اسمه الصحيح - انظر: (St .Lane - Poole : Mohammadan Dynasties P. 96). (¬2) س: «يعدل». (¬3) في الاصل: «محتاجا» والتصحيح عن س و (الروضتين، ج 1، ص 216) و (النكت العصرية، ص 352).

ومنها: ترى مسامع فخر الدين تسمع ما ... أملاه خاطر أفكارى على قلمى؟ فإن أصبت فلى حظّ المصيب، وإن ... أخطأت قصدك فاعذرنى ولا تلم كم (¬1) تترك البيض في الأجفان ظامئة ... إلى الموارد في الأعناق والقمم (¬2) (2) ومقلة الجدّ نحو العزم شاخصة ... فاترك قعودك عن إدراكها وقم فعمّك الملك المنصور سوّمها ... من العراق إلى مصر بلا سأم أمامك الفتح من شام ومن يمن ... فلا تردّ رؤس الخيل بالّلجم فاخلق لنفسك ملكا لا تضاف به ... إلى سواك، وأور (¬3) النار في العلم وانه المشيرين إن لجّت نصيحتهم ... أو لا فانعم على العميان بالصمم واعزم (¬4) وصمّم فقد طالت وقد شمخت (¬5) ... قضيّة لفظتها ألسن الأمم طال التردّد في إبرام منتقض ... في (¬6) هذه الحال أو في نقض منبرم ومنها: فربّ أمر يخاف الناس غايته ... والأمر أهون فيه من يد لفم ¬

(¬1) في الأصل: «لا» وفى س: «لم» والتصحيح عن الروضتين. (¬2) خلط صاحب النسخة الأصلية فوضع الشطر الثانى من البيت الثانى أمام الشطر الأول من البيت الأول وبذلك جعل البيتين بيتا واحدا بعد أن أسقط الشطرين المرقمين، وقد صححنا الوضع فيهما بعد مراجعة س (42 ب). (¬3) في الأصل: «واورى» وفى س: «واروى» وقد صححت بعد مراجعة: (الروضتين ج 1، ص 217) و (ديوان عمارة، ص 619). (¬4) في الأصل: «وانعم»، وما هنا عن س (42 ب) و (عمارة: النكت العصرية، ص 620). (¬5) في الأصل: «سمجت» وما هنا عن س، والنكت العصرية. (¬6) في الأصل: «من» وما هنا عن (س) والنكت العصرية.

هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... - كما يقول الورى - لحما على وضم [143] والغيث وهو كما قد قيل أوّله ... قطر، ومنه خراب السّدّ بالعرم والبدر يبدو هلالا ثم يكشف بال‍ ... أنوار ما سترته شملة الظّلم تنمو قوى الشىء بالتدريج إن رزقت ... لظى (¬1) ويقوى شرار الزّند (¬2) بالضّرم حاسب ضميرك عن رأى (¬3) أتاك وقل ... نصيحة وردت من غير متّهم أقسمت ما أنت ممن جلّ همّته ... ما راق من نعم أو رقّ من نغم وإنما أنت مرجوّ لواحدة ... بنى بها الدهر مجدا غير منهدم كأنّنى بالليالى وهى هاتفة ... مذ صمّ سمع رجال دونها وعمى وبالعلى كلّما لاقتك (¬4) قائلة ... أهلا بمنشر آمالى من الرّمم ثم سار الملك المعظم شمس الدولة من مصر مستهل رجب من هذه السنة فوصل إلى مكة (¬5) - حرسها الله تعالى - ومنها إلى زبيد، فلما قرب منها قال عبد النبى ¬

(¬1) في الأصل: «لطفا»، وما هنا عن: (النكت العصرية، ص 354). (¬2) في الأصل: «النار» وما هنا عن (س) والنكت. (¬3) في الأصل: «أمر» وما هنا عن النكت والروضتين. (¬4) في الأصل: «لاقيك» وما هنا عن س والنكت العصرية. هذا والقصيدة أطول مما ورد هنا بكثير، والأبيات المكملة يوجد بعضها في: (عمارة: النكت العصرية، ص 352 - 355 و 619 - 620) و (الروضتين، ج 1، ص 216 - 217). (¬5) أورد (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، الجزء الثامن، القسم الأول، ص 300 - 301) وصفا شائقا لما فعله توران شاه أثناء مقامه بمكة ولخطوات حملة اليمن بوجه عام، وقد آثرنا نقل هذا الوصف هنا لأهميته، ولأن راويه - سبط ابن الجوزى - يعتبر المؤرخ الثانى - بعد ابن واصل - المعاصر للأيوبيين، قال: وقفت على تاريخ بمصر، فرأيت أن شمس الدولة لما سار إلى اليمن، وكان أعيانها قد كتبوا إلى صلاح الدين يسألونه أن يبعث اليهم بعض أهله، فلما وصل شمس الدولة إلى مكة صعد صاحبها إلى أبى قبيس، فتحصن عليه بقلعة بناها، وأغلق باب الكعبة، وأخذ المفاتيح، فجاء شمس الدولة فطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وصعد إلى باب الكعبة وقال: اللهم إن كنت تعلم أنى جئت إلى هذه البلاد لاصلاح العباد وتعهدها، =

لأهل زبيد: «كأنكم بهؤلاء وقد حمى عليهم الحرّ فهلكوا، وما هم إلا أكلة رأس (¬1)»؛ فخرج إليهم بعسكره، فقاتلهم الملك المعظم ومن معه، فلم يثبت أهل زبيد وانهزموا، ووصل المصريون إلى سور زبيد فلم يجدوا من يمنعهم، فنصبوا السلالم، وصعدوا السور، فملكوا البلد عنوة، ونهبوه وأكثروا النهب، وأخذوا عبد النبى أسيرا وزوجته المدعوة بالحرة (¬2)، وكانت امرأة صالحة ¬

= فيسر على فتح الباب، وإن كنت تعلم أنى جئت لنير ذلك، فلا تفتحه، ومد يده فجذب القفل فانفتح، فدخل شمس الدولة إلى البيت، وصلى ودعا، فلما بلغ أمير مكة ذلك نزل إلى خدمته، وحمل المفاتيح واعتذر؛ وقال: خفت منك، والآن فأنا تحت طاعتك، فقال: إذا أخذت منك مفاتيح مكة فلمن أعطيها؟ ثم خلع عليه وعلى أصحابه، وطيب قلوبهم. وسار إلى اليمن، فانهزم عبد النبى بين يديه إلى زبيد، وكان أبوه المسمى بالمهدى قد فتح البلاد وقتل خلقا كثيرا، وشق بطون الحوامل، وذبح الأطفال على صدورهن؛ وكان يرى رأى القرامطة، ويظهر أنه داعية لأهل مصر، ويستتر باليمن، وكان قد مات قبل دخول شمس الدولة اليمن بسنين، وملك بعده ولده عبد النبى، ففعل باليمن ما فعله أبوه، وسبى نساءهم، واستعبدهم. وكان أبوه لما مات بنى عليه قبة عظيمة، وصفح حيطانها بالذهب الأحمر والجواهر، ظاهرا وباطنا بحيث لم يعمل في الدنيا مثلها، وجعل فيها قناديل الذهب وستور الحرير، ومنع أهل البلد من زبيد إلى حضرموت أن يجيئوا إلى الكعبة، وأمرهم بالحج إلى قبر أبيه، وكانوا يحملون إليها من الأموال في كل سنة مالا يحد ولا يحصى، ويطوفون حولها مثلما يطوفون بالكعبة، ومن لم يحمل مالا قتله، وكانوا يقصدونها من الشحر، فاجتمع فيها أموال عظيمة، وأقام عبد النبى على الظلم والفسق والفجور، وذبح الأطفال، وسفك الدماء، وسبى النساء إلى أن دخل شمس الدولة اليمن، وجاء إلى زبيد، فيقال إنه حصر عبد النبى فيها وابنه، وقيده وقتله. . .، ويقال إنه انهزم بين يديه، وجاء إلى قبة أبيه فهدمها، وأخذ ما فيها من المال والجواهر والفضة، وكان على ستمائة جمل، ونبش القبر، وأحرق عظام أبيه وذراها في الريح، ومضى إلى صنعاء، فحلف شمس الدولة: لا ينتهى عنه حتى يقتله ويحرقه كما فعل بأبيه، وسار خلفه، فرجع إلى زبيد، وعاد شمس الدولة اليها، فظفر به، فأخذ ما كان معه، وقتله وصلبه وحرقه، كما فعل بعظام أبيه». (¬1) المؤلف ينقل هنا عن ابن الاثير، والنص في (ابن الاثير: الكامل، ج 11، ص 149): «كأنكم بهؤلاء وقد حمى عليهم الحر فهلكوا إلا أكلة رام» وهو خطأ مطبعى، وما بالمتن هنا هو الصحيح، فقد جاء في (اللسان): «ويقال: ما هم إلا أكلة رأس أي هم قليل، يشبعهم رأس واحد». (¬2) في الأصل: «حرة» والتصحيح عن ابن الأثير. ويبدو أن لفظ «الحرة» كان لقبا تلقب به الأسرات الحاكمة في اليمن، فقد ظهرت بين نساء الصليحيين باليمن قبل هذا أكثر من سيدة كانت تلقب «بالحرة» أو «بالسيدة الحرة».

كثيرة الصدقة، وكانت إذا حجت وجد عندها فقراء (¬1) الحاج صدقة دارة ومعروفا كثيرا ولما أسر الملك المعظم عبد النبى بن محمد سلّمه إلى الأمير سيف الدولة مبارك ابن كامل بن منقذ (¬2)، وأمره أن يستخرج منه الأموال، فأعطاه منها شيئا كثيرا؛ ثم إنه دلهم على قبر كان قد صنعه لوالده، وبنى عليه بنية عظيمة، وله هناك دنائن كثيرة، وأعلمهم بها، فاستخرجت الأموال من هناك، وكانت جليلة المقدار؛ وداتهم [زوجته (¬3)] الحرة على ودائع لها، فأخذ منها مال كثير؛ ولما ملكت زبيد أقيمت بها [144] الخطبة العباسية. ثم سار العسكر إلى عدن، وهى على البحر ولها مرسى عظيم، وهى فرضة الهند والزنج والحبشة وعمان وكرمان وكيش وفارس وغير ذلك، وهى منيعة جدا من جانب البحر والبر، وكان المتغلب عليها رجل يقال له ياسر، ولو (¬4) امتنع بها لم يقدروا على أخذها (4)، لكنه لحينه خرج إلى العسكر، فباشر قتالهم، فانهزم، وسبقه بعض عسكر الملك المعظم فدخلوا البلد قبل أهله، وملكوه، وأخذوا صاحبه ياسر أسيرا، وأرادوا نهب البلد فمنعهم الملك المعظم، وقال: «ما جئنا لنخرب البلاد، وإنما جئنا لنملكها ونعمرها وننتفع بدخلها». ولما دخلوا عدن كان معهم عبد النبى [صاحب زبيد (¬5)] مأسورا، فقال: ¬

(¬1) في الأصل: «لفقرا» وما هنا عن س (43 ا). (¬2) في س: (. . . بن كافل بن مسعد)، وما هنا هو الصحيح. (¬3) ما بين الحاصرتين عن س. (¬4) مقابل هذا في س: «وقد امتنع بها ولم يقدر أحد على أخذها منه»، وما في الأصل يقتضيه السياق فهو الصحيح. (¬5) ما بين الحاصرتين عن س (43 ب).

ذكر عزم جماعة من المصريين على إقامة الدعوة المصرية وما آل اليه أمرهم

«سبحان الله! قد كنت أعلمت أنى أدخل عدن في موكب عظيم، فأنا أنتظر ذلك وأسرّ به، ولم أكن أعلم أننى أدخلها على هذه الحالة». ولما فرغ الملك المعظم من أمر عدن عاد إلى زبيد، وحصر ما في الجبل من الحصون، فملك قلعة تعز، وهى من أحصن القلاع، وبها تكون خزائن صاحب (¬1) زبيد، وملك الجبل وغيرها من المعاقل والحصون (¬2)، واستناب بعدن الأمير عز الدين عثمان (¬3) بن الزنجبيلى، وبزبيد سيف الدولة مبارك بن منقذ، وهلك عبد النبى [وياسر (¬4)] في أسره، وجعل [الملك المعظم] في كل قلعة نائبا من أصحابه، وأحسن إلى أهل البلاد، وعدل فيهم، فعمرت البلاد وأمنت، [وأما الحرة زوجة عبد النبى فبلغه كثرة صدقتها وخيرها، فأحسن إليها وأطلقها، وأقطعها إقطاعا يقوم بأودها وأود من معها (¬5)]. ذكر عزم جماعة من المصريين على إقامة الدعوة المصرية وما آل اليه أمرهم وفى هذه السنة أراد جماعة من شيعة القصر الوثوب بمصر وإقامة الدعوة العلوية، وردها إلى ما كانت عليه؛ وكان منهم عمارة بن على اليمنى، وعبد الصمد الكاتب، ¬

(¬1) س: «أصحاب». (¬2) نص س: «وملك ما في الجبل من القلاع والحصون». وفى (ابن الاثير): «وملك أيضا قلعة التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون». (¬3) س: «الامير عثمان عز الدين» فقط؛ هذا ويجد القارىء وصفا تفصيليا شائقا لخط سير الحملة الايوبية في اليمن وفتوحها هناك فيما رواه ابن أبى طى في (الروضتين، ج 1، ص 217) وفى مخطوطة: (السمط الغالى الثمن، ص 3 ا - 6 ب). (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (43 ب). (¬5) ما بين الحاصرتين عن س (43 ب)، وهذا مثل واضح يدل على أن نسخة س - رغم عيوبها الكثيرة، أفادت بعض الأحيان في إقامة النص وتصحيحه وإكمال ما به من نقص.

والقاضى العويرس، وداعى الدعاة ابن عبد القوى، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم على ذلك جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، فاطلعوا على أسرارهم؛ وعينّوا [145] الخليفة والوزير، وتقاسموا الدور والأملاك، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية والشام إلى مصر، وبذلوا لهم شيئا (¬1) من المال والبلاد، وكان مقصودهم وما انطوت عليه نيتهم الرديّة أن الفرنج إذا قصدوا البلاد وخرج إليهم صلاح الدين بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر، وأعادوا الدعوة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عليه، فلا يبقى لهم مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم، ثاروا به، وأخذوه أخذا باليد، لعدم الناصر له والمساعد، وقال لهم عمارة: «أنا قد أبعدت (¬2) أخاه إلى اليمن خوفا أن يسد مسده (¬3)، وتجتمع الكلمة عليه بعده»؛ فأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والشام، وتقررت القواعد بينهم، ولم يبق إلا إتمام أمرهم، فكان ما قدرّه الله من فضيحتهم وانتهاك سر نيتهم (¬4)، - لما أراده الله تعالى من سعادة صلاح الدين وظهور أمره -، أن الفقيه الواعظ زين الدين على بن نجا (¬5) أدخلوه معهم في سرّهم، فداخلهم وأظهر لهم أنه على رأيهم، فاطلع على جميع أمورهم، وجاء إلى صلاح الدين وأظهره على جميع أمورهم، وكشفها له، وطلب ¬

(¬1) في الاصل: «شىء»، وما هنا عن س. (¬2) س: «انفدت». (¬3) س: «أن يشد عتيده» والمؤلف ينقل هنا عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11؛ ص 149 - 150). (¬4) س: «ستر سرهم». (¬5) هو زين الدين أبو الحسن على بن إبراهيم بن نجا الدمشقى الحنبلى الواعظ، توفى بمصر في رمضان سنة 600 هـ‍ عن إحدى وتسعين سنة، انظر ترجمته في: (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 183 - 184) و (ابن العماد: شذرات الذهب).

منه ما لابن كامل (¬1) الداعى من الدور والعقار وكلما له من الموجود والمذخور، فبذل له صلاح كل ما طلبه، وأمره بمخالطتهم ومواطأتهم (¬2) على ما يريدون أن يفعلوه، وتعريفه بالمتجدد من أمورهم أولا فأولا، فصار يعلمه بكل (¬3) ما يتجدد لهم، ثم اتفق وصول رسول الفرنج بالساحل إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، وفى الباطن إلى أولئك الجماعة، فكان يرسل إليهم بعض النصارى، وتأتيه رسلهم. وأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض (¬4) من يثق إليه من النصارى، فداخله، فأخبره الرسول بالخبر على الحقيقة. وقد ذكر في انكشاف [146] أمرهم أن عبد الصمد الكاتب كان إذا لقى القاضى الفاضل - رحمه الله - يخدمه ويتقرب إليه، ويبالغ في التواضع له، فلقيه يوما فلم يلتفت إليه، فقال القاضى الفاضل: «ما هذا إلا لسبب»، وخاف أن يكون قد صار له باطن مع (¬5) صلاح الدين، فأحضر [زين الدين] على بن نجا الواعظ ¬

(¬1) هو أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل داعى الدعاة؛ ترجمته في: (العماد الأصفهانى: الخريدة، قسم شعراء مصر، ج 1، ص 186 - 187) و (ابن العماد: شذرات الذهب، ج 4، ص 235). (¬2) س: «وموافقتهم»، والمؤلف هنا ينقل عن (البرق الشامى للعماد الأصفهانى) أنظر: (الروضتين، ج 1، ص 219). (¬3) س: «يعلم صلاح الدين بما يتجدد لهم». (¬4) هذا اللفظ ساقط من س؛ والمؤلف يختصر هنا عن رسالة بقلم القاضى الفاضل - أوردها ابن أبى طى - مرسلة من صلاح الدين إلى نور الدين يشرح له فيها قصة المؤامرة في تفصيل شيق هام، انظر: (الروضتين، ج 1، ص 221). (¬5) في الأصل: «من» وما هنا عن س (44 ب) والمؤلف يعود هنا فينقل عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 150).

وأخبره الحال، وقال: «أريد أن تكشف الأمر لى»، فسعى (¬1) في كشفه فلم ير له من جانب صلاح الدين شيئا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال إليه، فحضر عند القاضى الفاضل فأعلمه، فقال له: «تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهى الحال إليه»، فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، وذكرا الحال، فأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فحينئذ قبض عليهم، وأمر بصلبهم. وكان عمارة بينه وبين القاضى الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها، فلما أراد صلاح الدين صلبه قام القاضى الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه، فظن عمارة أنه يحرّض على هلاكه، فقال لصلاح الدين: «يا مولانا، لا تسمع منه في حقى»؛ فغضب القاضى الفاضل وخرج، وقال صلاح الدين لعمارة: إنه كان [والله (¬2)] يشفع لك»، فندم. وأخرج عمارة ليصلب، فطلب أن يمرّ به على مجلس القاضى الفاضل، فاجتازوا به عليه، فأغلق بابه، ولم يجتمع به، فقال: عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص من العجب ثم صلب هو والجماعة بين القصرين، وذلك يوم السبت لليلتين مضتا من شهر رمضان من هذه السنة - أعنى سنة تسع وستين وخمسمائة - وأفنى (¬3) [صلاح الدين] بعد ذلك من بقى منهم. قال عماد الدين الأصفهانى: «وكان فيهم داعى الدعاة ابن عبد القوى، وكان عارفا بخبايا القصر وكنوزه، فباد (¬4) ولم يسمح بإبدائها، وبقيت تلك الدفائن مخزونة، ¬

(¬1) في الأصل: «فسعا». (¬2) ما بين الحاصرتين عن س. (¬3) في الأصل: «وأفنا». (¬4) س: «فمات».

وتلك الخزائن مدفونة (¬1)، قد دفن دافنها، وخزن تحت الثرى (1) خازنها، إلى أن يأذن الله تعالى في الوصول إليها، والاطلاع عليها». واحتيط على ولد العاضد وغيرهم (¬2) من أهله، وأما الذين نافقوا على صلاح الدين [147] من جنده فلم يعرض لهم، ولا أعلمهم أنه علم بحالهم، وجمع من أموال الذين قبض عليهم ما يحمل إلى الشام ليستعين به نور الدين - رحمه الله - على الجهاد؛ [وكان شيئا كثيرا من الذهب والفضة وغير ذلك (¬3)]. وكان من جملة الذين أمر صلاح الدين بصلبهم قبالة القصر العوريس وكان قاضى ¬

(¬1) س: «مخزونة» و «التراب»، وما بالمتن يتفق ونص العماد، أنظر: (الروضتين، ج 1 ص 120). (¬2) في الأصل: «غيره» وما هنا عن (45 ا). (¬3) ما بين الحاصرتين عن س بعد تصحيحه لغويا، والذى نلاحظه أن ابن واصل يعتمد هنا في حديثه عن هذه المؤامرة الخطيرة على العماد الأصفهانى، وابن الأثير، وأبى شامة: وهؤلاء جميعا مؤرخون سنيون. ولابن أبى طى - وهو مؤرخ شيعى - رواية أخرى تتضمن حقائق وتفصيلات جديده هامة عن هذه المؤامرة، ولهذا آثرنا نقل روايته هنا، قال: «وفى هذه السنة اجتمع جماعة من دعاة المصريين والعوام، وتآمروا فيما بينهم خفية، وبكوا على انقراض دولة المصريين، وما صاروا إليه من الذل والفقر، ثم أجمعوا آراءهم على أن يقيموا خليفة ووزيرا، وتجمعوا هم وجماعة عينوهم من الامراء وغيرهم، وأن يكاتبوا الفرنج، وأن يثبوا بالملك الناصر، وأدخلوا معهم في هذا الأمر ابن مصال، وأعدوا جماعة من شيعة المصريين ليلة عينوها، وكاتبوا الفرنج بذلك، وقرروا معهم الوصول إليهم في ذلك الزمان المقرر، فخانهم ابن مصال فيما عاهدهم عليه، ونكث في اليمين وكفر عنها، وصار إلى الملك الناصر وعرفه بجلية ما جرى؛ قال: فأحضرهم واحدا واحدا وقررهم على هذه الحالة، فأقروا واعترفوا، واعتذروا بكونهم قطعت أرزاقهم وأخذت اموالهم، فأحضر السلطان العلماء واستفتاهم في أمرهم، فأفتوه بقتلهم وصلبهم ونفيهم، فأمر بصلبهم؛ وقيل بأن الذى أذاع سرهم زين الدين على الواعظ، وطلب جميع ما لابن الداعى (كذا) من العقار والمال، فأعطاه جميع ذلك؛ وكان الذين صلبوا منهم: المفضل بن كامل القاضى، وابن عبد القوى الداعى، والعوريس وكان قد تولى ديوان النظر ثم القضاء بعد ذلك، وشبر ما كاتب السر، وعبد الصمد القشة - أحد الأمراء المصريين - ونجاح الحمامى، ورجل منجم نصرانى أرمنى كان قال لهم إن أمرهم يتم بطريق علم النجوم، وعمارة اليمنى الشاعر».

القضاة لهم، فحكى لى (¬1) القاضى تاج الدين - المعروف بابن بنت الأعز - قاضى القضاة بالديار المصرية - رحمه الله (¬2) - قال: «كان العوريس رأى في منامه كأن المسيح عيسى بن مريم - عليه السلام - أخرج رأسه له من السماء، فقال له العوريس: الصلب حق؟ فقال المسيح - عليه السلام -: نعم الصلب حق؛ فقصّ العوريس رؤياه على معبر، فقال المعبر: الذى رأى هذه الرؤيا يصلب، لأن المسيح معصوم، فلا يقول إلا حقا، ولا يمكن كون ذلك راجعا إلى المسيح عليه السلام، لأن القرآن العظيم قد نصّ بأنه لم يصلب ولم يقتل، فبقى أن يكون ذلك راجعا إلى الرائى، فهو الذى يصلب، فكان الأمر كما قال المعبر». وسيّر صلاح الدين كتابا إلى نور الدين يتضمن ذكر القضية (¬3) بخط المرتضى ابن قريش، فاتفق وصول الكتاب إلى دمشق يوم وفاة نور الدين - رحمه الله - فمنه فصل يقول فيه: «لم نزل نتوسم من جند مصر، ومن أهل القصر، بعد ما أزال [الله (¬4)] من بدعتهم، ونقض من عرى دولتهم، وخفض من مرفوع كلمتهم، أنهم أعداء وإن قعدت بهم الأيام، وأضداد وإن وقعت عليهم كلمة الإسلام». ¬

(¬1) المتحدث هنا هو المؤلف ابن واصل، لأن القاضى ابن بنت الاعز لم يكن معاصرا لصلاح الدين أو لهذه المؤامرة، إنما ولد سنة 614 هـ‍ وتوفى سنة 665 هـ‍. انظر أخبار هذا القاضى وترجمته في: (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 7) و (ابن العماد: شذرات الذهب، وفيات 665 هـ‍). (¬2) هذا الدعاء يدل على أن ابن واصل كان يكتب هذا الجزء من تاريخه بعد سنة 665 هـ‍، وهى السنة التي توفى فيها ابن بنت الأعز. (¬3) س: «القصة». (¬4) ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 1، ص 220)، وقد أورد أبو شامة هناك فصولا من هذا الخطاب أطول بكثير مما أورده ابن واصل هنا.

ثم ذكر مكاتبتهم للفرنج وتردد رسلهم إليهم (¬1). فصل: «والمولى عالم أن عادة أوليائه المستفادة من أدبه أن لا يبسطوا عقابا (¬2). مؤلما، ولا يعذبوا عذابا محكما، وهؤلاء القوم لا يزيدهم العفو إلا ضراوة ولا الرأفة عليهم إلا قساوة (¬3)، فقبضنا على طائفة مفسدة، وجماعة من هذا الجنس متمردة، قد اشتملت على الاعتقادات المارقة، والسراير المنافقة، فكلا أخذ الله [تعالى] بذنبه، فمنهم من أقرّ طائعا [148] عند إحضاره، ومنهم من أقرّ عند ضربه ولم يقم على إصراره، فانكشفت لنا تقريرات مختلفة في المراد، متفقة في الفساد؛ فمنهم من أقام رجلا من بنى عم العاضد، ومنهم من جعل ذلك لبعض أولاد العاضد، واختلف هؤلاء في تعيين واحد من ولدين له؛ وأما بنو رزيّك وبنو شاور فكل منهم أراد الوزارة لينيهم (¬4) من غير أن يكون لهم غرض في تعيين الخليفة». فصل: «وفى أثناء هذه المدة كاتبوا سنانا (¬5) صاحب الحشيشية بأن الدعوة واحدة، والكلمة جامعة، وأنه ما بين أهلها خلاف يجب به قعود عن نصره، واستدعوا منه من يقم على الملوك غيلة، ويثب عليه مكيدة وحيلة، فقتل الله بسيف ¬

(¬1) في الأصل: «إليه» وما هنا عن س (45 ب). (¬2) في الأصل: «عذابا»، وما هنا عن (الروضتين)؛ هذا والنص يختلف هنا أحيانا عما أورده أبو شامة في الروضتين، لأن المؤلف هنا يختصر، أما أبو شامة فيورد الفقرات التي ينقلها من نص الرسالة كاملة غير منقوصة. (¬3) س: «خسارة». (¬4) س: «لبيتهم» وهو موافق لما في: (الروضتين، ج 1، ص 221). (¬5) هو راشد الدين سنان بن سلمان مقدم إسماعيلية الشام وكان يلقب بالشيخ أو شيخ الجبل ومعنى «الشيخ» هنا السيد أو الرئيس لا الرجل المسن. وقد عرفت هذه الفرقة «بالحشيشية» لأن أتباعها كانوا يتعاطون «الحشيش». انظر: (محمد عبد الله عنان: تراجم إسلامية، ص 55 - 60) و (Casanova : Les Derniers Fatimides .Men oires de la Mission Archcelogique Francaise du Caire .Tome VI,3, P. P .415 - 445) .

الشرع المطهر جماعة من الغواة الغلاة، الدعاة إلى النار، الحاملين لأثقالهم وأثقال من أضلوه من الفجار، وشنقوا على أبواب قصورهم، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم، ووقع التتبع لأتباعهم، وشرد طائفة الاسماعيلية ونفوا، ونودى أن يرحل طائفة كافة الأجناد وحاشية القصر، وراجل (¬1) السودان إلى أقصى الصعيد، وأما من في القصر فقد وقعت الحوطة عليهم، ورأى المملوك إخراجهم من القصر فإنهم مهما بقوا (¬2) فيه بقيت مادة لا تنحسم الأطماع عنها، فإنه قبلة (¬3) للضلالة منصوبة، وبيعة للبدع محجوجة (¬4)». «ومما يطرف به المولى أن ثغر الإسكندرية على عموم مذهب السنة فيه، اطلع البحث أن فيه داعية خبيثا أمره، محتقرا شخصه، عظيما كفره، يسمى قديدا القفّاص، وأن المذكور مع خموله في الديار المصرية قد فشت في الشام (¬5) دعوته، وطبقت عقول أهل مصر فتنته، وأن أرباب المعايش فيها يحملون إليه جزءا من كسبهم، والنساء يبعثن إليه شطرا [وافيا (¬6)] من أموالهن، ووجدت في منزله بالإسكندرية عند القبض عليه والهجوم إليه، كتب مجردة (¬7)، فيها خلع العذار، وصريح الكفر الذى ما عنه اندفاع واعتذار [149] [ورقاع (¬8)] ¬

(¬1) في الأصل: «ورحل» والتصحيح عن: س (46 ا) و (الروضتين، نفس الجزء والصفحة). (¬2) في الاصل: «بقيوا» والتصحيح عن س والروضتين. (¬3) في الروضتين: «حبالة». (¬4) كذا في الاصل، وفى (الروضتين، ج 1، ص 221)؛ وقد علق عليها أبو شامة بقوله: «ولعلها محجوبة». (¬5) كذا في الاصل، وفى (الروضتين)؛ وفى س (46 ا): «في البلد». (¬6) ما بين الحاصرتين عن (الروضتين). (¬7) هذا اللفظ ساقط من (س). (¬8) ما بين الحاصرتين عن (الروضتين).

ذكر شىء من خبر عمارة وشعره

يخاطب فيها بما تقشعر منه الجلود؛ وكان (1) يدعى النسب إلى أهل القصر، وأنه خرج منه طفلا صغيرا، ونشأ على الضلالة كبيرا (¬1)؛ وبالجملة فقد كفى الإسلام أمره، وحاق به مكره، وصرعه كفره». ذكر شىء من خبر عمارة وشعره كان عمارة بن على اليمنى من الشعراء الفحول المجيدين، ولم يكن شيعيا، وإنما كان فقيها على مذهب الإمام الشافعى - رحمه الله - وقتله وفاؤه وحسن عهده لمن أحسن إليه، وقد ذكر مباينته لمذهب القوم من قصيدة [يقول (¬2)]: أفاعيلهم في الجود أفعال سنّة ... وإن خالفونى في اعتقاد التشيّع وذكر هو عن نفسه في كتاب صنفه (¬3): أنه أقام بزبيد ثلاث سنين، يقرأ عليه (¬4) مذهب الشافعى، قال: «ولى في الفرايض مصنف يقرأ باليمن»؛ وذكر أنه قدم مكة بعد ذلك في سنة تسع وأربعين وخمسمائة، قال: «وفى موسم هذه السنة توفى أمير الحرمين الشريف هاشم بن قليتة (¬5)، وولى ولده القاسم بن هاشم، وألزمنى السفارة عنه والرسالة منه إلى الديار المصرية، فقدمتها في شهر ربيع الأول ¬

(¬1) هذه الجملة انفرد بها النص هنا، ولا توجد في (الروضتين). (¬2) ما بين الحاصرتين عن س. ومن المفيد أن نشير هنا إلى أن المستشرق (Derenbourg) قد ذيل كتاب (النكت العصرية) لعمارة بمقتبسات عن عمارة وحياته وشعره نقلها عن المراجع التاريخية المختلفة، ومن بين هذه المقتبسات صفحات من (مفرج الكروب) وينتهى في نقله عن ابن واصل بهذا البيت من الشعر. انظر: (عمارة النكت العصرية، ص 607 - 629) (¬3) الاشارة هنا إلى كتابه «النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية». (¬4) النص في (النكت، ص 23): «وأقمت في زبيد ثلاث سنين وجماعة من الطلبة يقرؤون عندى مذهب الشافعى والفرائض في المواريث». (¬5) حكم بين سنتى 1132 و 1154 م، وحكم ابنه القاسم بين سنتى 1154 و 1611 م. انظر: (Gerald de Gaury : Rulers of Mecca PP .62,66) .

سنة خمسين وخمسمائة، والخليفة بها يومئذ الفائز بن الظافر، والوزير له الملك الصالح طلائع بن رزّيك، فلما حضرت للسلام عليهما في قاعة الذهب (¬1) من قصر الخليفة أنشدتهما [قصيدة أولها (¬2)]: الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمدا يقوم بما أولت من النّعم لا أجحد الحقّ، عندى للركاب يد ... تمنت الّلجم فيها رتبة الخطم قرّبن بعد مزار العزّ من نظرى ... حتى رأيت إمام العصر من أمم ورحن من كعبة البطحاء والحرم (¬3) ... وفدا إلى كعبة المعروف والكرم (¬4) فهل درى (¬5) البيت أنى بعد فرقته (¬6) ... ما سرت عن (¬7) حرم إلا إلى حرم حيث الخلافة مضروب (¬8) سرادقها ... بين النقيضين من عفو (¬9) ومن نقم وللإمامة أنوار مقدسة ... تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم ¬

(¬1) قاعة الذهب، ويقال لها أيضا «قصر الذهب»، ذكر (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 4، ص 113) أن الذى بناها هو الخليفة العزيز بالله، وهى إحدى قاعات القصر الشرقى الكبير، وكان يدخل إليه من باب الذهب ومن باب البحر. وموضع هذه القاعة الآن - تبعا لتحقيقات المرحوم محمد رمزى، هامش 2 من نفس الصفحة بالمرجع السابق - مجموعة المبانى الواقعة خلف مدرسة النحاسين الأميرية التي بشارع بين القصرين بين شارع بيت القاضى وحارة بيت القاضى في الجزء الواقع خلف المدرسة المذكورة. (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن: (النكت العصرية، ص 32) (¬3) س: «الحرمى». (¬4) س: «المعروف بالكرم». (¬5) في الاصل: «وهل درا»، وفى س: «فهكذا البيت»، والتصحيح عن: (النكت، ص 32) و (الروضتين، ج 1، ص 225) (¬6) كذا في الاصل وفى (النكت)؛ ونص (الروضتين): «زورته». (¬7) كذا في الاصل، وهى في (النكت) و (الروضتين): «من». (¬8) في س (46 ب): «مضر في». (¬9) في الأصل: «غمر» وفى س: «عم»، والتصحيح عن (النكت، ص 33) (الروضتين، ج 1، ص 225).

[150] وللنبوة آيات تنصّ (¬1) لنا ... على الخفيّين (¬2) من حكم ومن حكم وللمكارم أعلام تعلّمنا ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم وللعلى ألسن تثنى محامدها ... على الحميدين من فعل ومن شيم وراية الشرف البذّاخ ترفعها ... يد الرفيعين من مجد ومن همم أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا ... فوز النجاة، وأجر البرّ في القسم لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما ... وزيره الصالح الفرّاج للغمم اللابس الفخر لم تنسج غلائله ... إلا يد الصّنعين (¬3) السيف والقلم وجوده أوجد الأيام ما اقترحت ... وجوده أعدم الشاكين للعدم قد ملّكته العوالى رقّ مملكة ... تعير أنف الثّريّا عزّة (¬4) الشّمم أرى مقاما (¬5) عظيم الشأن أو همنى ... في يقظتى أنّها من جملة الحلم يوم من العمر لم يخطر على أملى ... ولا ترقّت إليه رغبة الهمم ليت الكواكب تدنو لى فأنظمها ... عقود مدح، فما أرضى لكم كلمى ترى الوزارة فيه وهى باذلة ... عند الخلافة نصحا غير متّهم عواطف علّمتنا (¬6) أن بينهما ... قرابة من جميل الرأى لا الرحم ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى س وفى (النكت)؛ وفى الروضتين: «تضىء». (¬2) كذا في الأصل، وفى الروضتين والنكت، وفى س: «الحنيفين». (¬3) في الاصل وفى الروضتين: «الصنعتين»، وما هنا عن: (النكت، ص 33) (¬4) في الاصل، وفى الروضتين، (ج 1، ص 226): «غرة»، وما هنا عن: (النكت، ص 33). (¬5) في الاصل: «مقام» والتصحيح عن س (47 ا) و (الروضتين، ج 1، ص 226) (¬6) كذا في الاصل وفى (النكت)؛ وهى في (س) و (الروضتين): «أعلمتنا».

خليفة ووزير مدّ عدلهما ... ظلاّ على مفرق الإسلام والأمم زيادة النيل نقص عند فيضهما ... فما عسى تتعاطى منّة الدّيم قال: «وعهدى بالملك الصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارا، والأستاذون والأمراء (¬1) يذهبون (¬2) في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىّ الخلع من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع إلىّ الصالح خمسمائة دينار، وإذا بعض الأستاذين (¬3) قد خرج من عند السيدة بنت الإمام الحافظ بخمسمائة دينار أخرى، وحمل المال معى إلى منزلى، وأطلقت لى من دار الضيافة (¬4) رسوم لم تطلق لأحد قبلى، وتهادتنى أمراء الدولة [151] إلى منازلهم للولائم، واستحضرنى الصالح للمجالسة، ونظمنى في سلك [أهل (¬5)] المؤانسة، وانثالت علىّ صلاته، وغمرنى برّه، ووجدت بحضرته من أعيان أهل الأدب: الشيخ الجليل أبا المعالى بن الحباب (¬6)، والموفّق ¬

(¬1) النص في (النكت، ص 34): «وأعيان الأمراء والكبراء». (¬2) هذا اللفظ ساقط من س. (¬3) كان كبار القواد من خواص الخليفة في العصر الفاطمى يسمون «بالأستاذين»، يقول صاحب (صبح الأعشى، ج 3، ص 477): «وأجلهم المحنكون وهم الذين يدورون عمائمهم على أحناكهم كما تفعل العرب والمغاربة، وهم أقربهم إليه، وأخصهم به، وكانت عدتهم تزيد على ألف». (¬4) ذكر (المقريزى: الخطط، ج 2، ص 338) أن هذه الدار كانت بحارة برجوان وتعرف بدار الأستاذ برجوان، وفيها كان يسكن، ولما قدم بدر الجمالى إلى مصر بنى هناك دارا عظيمة سكنها، ثم سكنها من بعده ابنه المظفر أبو محمد جعفر، فعرفت بدار المظفر، وبعد موته اتخذت دار ضيافة برسم الرسل الواردين من الملوك، واستمرت كذلك إلى أن انقرضت الدولة، فأنزل بها السلطان صلاح الدين أولاد العاضد. انظر أيضا (نفس المرجع، ص 343 - 344) (¬5) ما بين الحاصرتين عن س و (النكت، ص 34) (¬6) هو القاضى الجليس أبو المعالى عبد العزيز بن الحسين بن الحباب الأغلبى السعدى التميمى، سمى بالجليس لأنه كان جليس الخلفاء الفاطميين مقربا إليهم، وهو من ذرية بنى الأغلب التميميين أصحاب إفريقية، تولى ديوان الانشاء بالاشتراك مع الموفق بن الخلال في عهد الخليفة الفائر ووزارة الصالح طلائع بن رزيك، وذكر عمارة في (النكت، ص 595) أنه دخل =

أبا الحجاج يوسف بن الخلال [صاحب ديوان الإنشاء (¬1)]، والمهذب أبا محمد الحسن (¬2) بن الزبير، وما من هذه الحلبة [أحد (¬3)] إلا ويضرب في الفضائل النفسانية والرئاسة الإنسانية (¬4) بأوفر نصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم حتى نظمونى (¬5) في سلك فرائدهم. ¬

= اليمن. وتوفى سنة 561 هـ‍. انظر ترجمته في: (العماد: الخريدة، ج 1 ص 189 - 200) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 141) و (ابن قلاقس: الديوان ص 100 و 115) و (ابن شاكر الكتيى: فوات الوفيات، ج 1، ص 577 - 579) و (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 251) و (ابن تغرى بردى: النجوم، ج 5، ص 292 و 371) و (المسيوطى: حسن المحاضرة، ج 1، ص 324) و (الدكتور محمد كامل حسين: في أدب مصر الفاطمية، ص 215 - 218). (¬1) ما بين الحاصرتين (عن عمارة: النكت، ص 35). والموفق أبو الحجاج يوسف ابن محمد بن الخلال كان آخر رؤساء ديوان الانشاء في العصر الفاطمى، وعليه تخرج القاضى الفاضل ثم خلفه على رئاسة هذا الديوان. وقد لبث ابن الخلال متوليا لديوان الانشاء إلى أن طعن في السن فلزم بيته، وكان ذلك في عهد وزارة أسد الدين شيركوه للخليفة العاضد. وتوفى ابن الخلال سنة 566 هـ‍. انظر ترجمته وأخباره في: (العماد: الخريدة، ج 1، ص 235 - 275) و (ابن خلكان: الوفيات، ج 6، ص 219 - 224) و (ابن العماد: شذرات الذهب، ج 4، ص 219) و (السيوطى: حسن المحاضرة، ج 1، ص 324) و (الدكتور محمد كامل حسين: في أدب مصر الفاطمية، ص 344 - 347). (¬2) في الأصل: «الحسين» والتصحيح عن: س (47 ب) و (العماد: الخريدة، ج 1، ص 204). وهو المهذب أبو محمد الحسن بن على بن الزبير، وقد كان هو وأخوه القاضى الرشيد أحمد بن على بن الزبير من أشهر شعراء مصر في العصر القاطمى. وموطنهما الأصلى أسوان، وسافر كل منهما إلى اليمن. توفى سنة 561 هـ‍. انظر ترجمته في: (العماد: الخريدة، ج 1، ص 204 - 225) و (ياقوت: معجم الأدباء، ج 9، ص 47) و (ابن شاكر الكتبى: فوات الوفيات، ج 1، ص 243 - 248) و (الادفوى: الطالع السعيد، ص 100) و (الدكتور محمد كامل حسين: في أدب مصر الفاطمية، ص 203 - 210). (¬3) ما بين الحاصرتين عن س و (النكت، ص 34). (¬4) هذا اللفظ ساقط من س. (¬5) س: «. . على طريقهم حتى ينظمونى».

قال [عمارة]: وأنشدت الصالح وهو بالقبو (¬1) من دار الوزارة قصيدة منها [أقول (¬2)]. دعوا كلّ برق شمتم غير بارق ... يلوح على الفسطاط صادق بشره وزوروا المقام (¬3) الصالحىّ فكلّ من ... على الأرض ينسى (¬4) ذكره عند ذكره ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى ... فتجنوا (¬5) على مجد الزمان وفخره ولكن سلوا منه العلى (4) تظفروا بها ... فكل امرء يرجى (¬6) على قدر قدره قال: ولما جلس شاور في دار الذهب قام الشعراء والخطباء ولفيف الناس إلا الأقل شاكون (¬7) من بنى رزيك، وضرغام نائب الباب، ويحيى بن الخياط (¬8) اسفهسلار (¬9)، فأنشدته: زالت ليالى بنى رزّيك وانصرمت ... والحمد والذمّ فيها غير منصرم كأنّ صالحهم يوما وعادلهم ... في صدر ذا الدّست لم يقعد ولم يقم كنا نظنّ - وبعض الظنّ مأثمة - ... بأن ذلك جمع غير منهزم فمذ وقعت وقوع النّسر (¬10) خانهم ... من كان مجتمعا في ذلك الرّخم ¬

(¬1) س: «بالقرب» وما هنا يتفق مع (الروضتين، ج 1، ص 226) و (النكت، ص 35) (¬2) ما بين الحاصرتين عن س و (النكت، ص 34). (¬3) س (47 ب): «مقام»، وما هنا يتفق ونص الروضتين و (النكت، ص 36) (¬4) في الأصل: «ينسا» و «العلا». (¬5) في س: «يقصر»، وفى الروضتين: «فتخبوا»، وما هنا يتفق ونص النكت (¬6) س: «يجرى» وما هنا يتفق ونص (الروضتين) و (النكت ص 36). (¬7) كذا في الاصل، وفى (النكت، ص 69): «ينالون». (¬8) انظر ما فات ص 156، هامش 2 (¬9) انظر ما فات ص 2، هامش 1 (¬10) س (47 ب): «الشر». وما هنا يتفق ونص (الروضتين) و (النكت، ص 69)

ذكر ورود الرسالة النورية إلى صلاح الدين

ولم يكونوا عدوّا ذلّ جانبه (¬1) ... وإنما غرقوا في سيلك العرم وما قصدت بتعظيمى عداك (¬2) سوى ... تعظيم شأنك، فاعذرنى ولا تلم ولو شكرت لياليهم محافظة ... لعهدها لم يكن بالعهد من قدم ولو فتحت فمى يوما بذمهم ... لم يرض فضلك إلا أن يسدّ فمى والله يأمر (¬3) بالإحسان عارفة ... منه، وينهى عن الفحشاء في الكلم [152] قال: فشكرنى شاور وأبناؤه على الوفاء لبنى رزيك. ذكر ورود الرسالة النورية إلى صلاح الدين كنا قد ذكرنا (¬4) أن نور الدين - رحمه الله - سيّر موفق الدين خالد بن القيسرانى إلى صلاح الدين في معنى الحمل إلى الشام ورفع (¬5) أوراق بالأعمال المصرية، ولما وصل (¬6) إلى صلاح الدين، وأنهى (¬7) إليه رسالة نور الدين أطلعه [صلاح الدين] (¬8) على أحوال البلد، وقال (¬9): «هؤلاء الأجناد، فأعرضهم وأثبت ¬

(¬1) س: «جانبهم» وما هنا يتفق ونص (الروضتين، ج 1، ص 226) و (النكت، ص 69). (¬2) س: «عدلك» وما هنا يتفق ونص (الروضتين، ج 1، ص 227)، وفى (النكت ص 70): «سواك سوى». (¬3) في الاصل، وفى س: «مامر» والتصحيح عن: (الروضتين، ج 1، ص 227) و (النكت، ص 70). (¬4) أنظر ما فات هنا، ص 232 (¬5) س (48 ا): «ووقع». (¬6) س: «ورد». (¬7) في الأصل، وفى س: «أنها» بالألف. (¬8) ما بين الحاصرتين عن س. (¬9) ينقل ابن واصل هنا باختصار عن (البرق الشامى للعماد) أنظر نصه في: (الروضتين، ج 1، س 219) وفى نفس المرجع والصفحة رواية أخرى لإبن أبى طى، آثرنا فقلها هنا لأهميتها وللمقارنة، وهى: «قال ابن أبى طى: وفى هذه السنة وصل رسول نور الدين =

ذكر وفاة الملك العادل نور الدين ابن زنكى بن آق سنقر - رحمه الله تعالى -

أخبازهم، وما يضبط مثل هذا الإقليم العظيم إلا بالمال العظيم، ثم أنت تعرف مصر وعظماءها، وأنهم معتادون النعمة الواسعة، وقد تصرفوا في أماكن لا يمكن انتزاعها منهم، ولا يسمحون بأن ينقص من ارتفاعها»؛ ثم أخذ [صلاح الدين] (1) في جمع مال يرفعه [إلى نور الدين] (¬1)، وحصل لخالد من الأموال ما لم يكن في خلده. ثم اتفقت وفاة نور الدين - رحمه الله - فكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة الملك العادل نور الدين ابن زنكى بن آق سنقر - رحمه الله تعالى - كنا ذكرنا أن نور الدين كان قد عزم على التجهز للدخول إلى الديار المصرية لأخذها من صلاح الدين، فإنه رأى منه فتورا في قصد الفرنج من ناحيته، (2) وكان يعلم (¬2) أنه إنما يمتنع صلاح الدين من الغزو للخوف منه والاجتماع به، وأنه يؤثر ¬

= الموفق بن القيسرانى إلى الديار المصرية، واجتمع بالسلطان الملك الناصر، وأنهى إليه رسالة نور الدين، وطالبه بحساب جميع ما حصله وارتفع إليه من المغل فصعب ذلك على السلطان، وأراد شق العصى، لولا ما ثاب إليه من السكينة والعقل، فأمر بعمل الحساب، وعرضه على ابن القيسرانى، وأراه جرائد الأجناد بمبالغ إقطاعهم، وتعيين جامكياتهم، ورواتب نفقاتهم، فلما حصل عنده جميع ذلك أرسل معه هدية إلى نور الدين مع الفقيه عيسى. إلخ». ثم نقل ابن أبى طى بعد ذلك ثبتا بمفردات هذه الهدية التي أرسلها صلاح الدين إلى نور الدين، ولهذا الثبت أهميته لأن ابن أبى طى نقله كما ذكر من «خط الموفق بن القيسرانى»، ثم عقب عليه بقوله: «وخرجوا بهذه الهدية فلم تصل إلى نور الدين، لانهم اتصل بهم وفاته، فمنها ما أعيد، ومنها ما استهلك، لأن الفقيه عيسى وابن القيسرانى وضعوا عليهم من نهبهم، واستبدوا بأكثرها، وقيل إنها وصلت جميعها إلى السلطان، لانه اتصل به خبر موت نور الدين، فأنفذ من ردها، قال: وحدثنى من شاهد هذه الهدية أنه كان معها عشرة صناديق مالا لم يعلم مقداره»: انظر (الروضتين، ج 1، ص 219). (¬1) ما بين الحاصرتين عن س. (¬2) مكان هذين اللفظين في س: «وذلك» - والمؤلف ينقل هنا عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 151)، ولاحظ أن المصدر الأول لأخبار النفرة بين نور الدين وصلاح الدين هو ابن الاثير، وهو يكرر الفكرة ويؤكدها كلما سنحت له فرصة.

كون الفرنج (¬1) في الطريق ليمتنع بهم على نور الدين، فأرسل نور الدين إلى الموصل وبلاد الجزيرة وديار بكر وغيرها يطلب العساكر للغزاة، وكان عزمه أن يترك (¬2) العساكر مع ابن أخيه سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى - صاحب الموصل والشام (¬3) -، ويسير هو بعسكره إلى مصر، فعاقه القدر المحتوم عن قصده. ولما كان يوم عيد الفطر من هذه السنة - أعنى سنة تسع وستين وخمسمائة - أمر نور الدين - رحمه الله - بتطهير ولده الملك الصالح إسماعيل، فاحتفل لهذا الأمر، وزينت دمشق أياما، وهنّاه كاتبه عماد الدين الأصفهانى بقصيدة أولها: عيدان: فطر وطهر ... فتح قريب ونصر كلاهما لك فيه ... حقا هنا (¬4) وأجر [153] نجل على الطّهر نام ... زكاله منك نجر (¬5) محمود الملك العاد ... ل الكريم الأغرّ وبابنه (¬6) الملك الصا ... لح العيون (¬7) تقرّ مولى به اشتدّ للديـ ... ـن والشريعة أزر نور تجلّى (¬8) عيانا ... ما دونه اليوم ستر ¬

(¬1) صيغة س: «وأنه يؤثر الفرنج كونهم في الطريق». (¬2) في الأصل: «ينزل» والتصحيح عن المرجع الذى ينقل عنه هنا حرفيا وهو (الكامل لابن الاثير). (¬3) في الأصل: «بالشام» والتصحيح عن ابن الأثير. (¬4) في الأصل، وفى س: «حق هناك»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 1، ص 227). (¬5) كذا في الاصل وفى الروضتين؛ وفى س: «فحر». (¬6) س: «ونايبه». (¬7) في الأصل: «للعيون» وفى س: «به العيون» والتصحيح عن الروضتين. (¬8) في الأصل وفى س: «تجلا».

أضحت مساعيك غرا ... كما أياديك غزر (¬1) وكلّ قصدك رشد ... وكلّ فعلك برّ وإنّ حبّك دين ... وإن بغضك كفر لنا بيمناك يمن ... كما بيسراك يسر وللموالين نفع ... وللمعادين ضرّ [ومنها يقول] (¬2): تملّ تطهير (¬3) ملك ... له الملوك تخرّ (¬4) وكيف يعمل للطا ... هر المطهّر طهر يزهى سرير وتاج ... به ودست وصدر هذا الطهور ظهور (¬5) ... على الزمان وأمر وذا الختان (¬6) ختام ... بمسكه طاب نشر رزقت عمرا طويلا ... ما طال للدّهر عمر وفى يوم العيد - وهو في يوم الأحد - ركب نور الدين على الرسم المعتاد إلى الميدان الأخضر الشمالى بدمشق لطعن (¬7) الحلق، ورمى القبق (¬8)، وأمر فضربت ¬

(¬1) في الاصل، وفى س: «غر»، وما هنا عن الروضتين. (¬2) ما بين الحاصرتين عن س؛ وانظر القصيدة كاملة في: (الروضتين، ج 1، ص 227) (¬3) س: «بتطهير». (¬4) س: «تجر». (¬5) في الأصل: «طهور» وفى س: «ظهورا» والتصحيح عن الروضتين. (¬6) س: «الختام». (¬7) في الأصل. وفى س (49 ا): «ليطعن» والتصحيح عن الروضتين، وقد نقل صاحب الروضتين (ج 1، ص 227) خبر هذا اليوم عن العماد الكاتب بألفاظه وجمله المسجوعة، وابن واصل نختصر هنا نص العماد. (¬8) القبق: أو القباق - لفظ تركى، معناه لغة نبات القرعة العسلية (une courgette) ومعناه اصطلاحا الهدف الذى كان يستعمل في اللعبة التي عرفت في الشرق في العصور الوسطى =

له خيمة في الميدان القبلى الأخضر، وأمر بوضع المنبر، وخطب القاضى شمس الدين ابن الفراش (¬1) - قاضى العسكر - بعد أن صلى به؛ ثم مدّ السماط العام، وأنهب على عادة الترك، وعاد [نور الدين] إلى القلعة، ومدّ خوانه الخاص. وفى غد هذا اليوم - وهو يوم الاثنين [154] ثانى شوال - ركب في خواصه وأصحابه، ودخل الميدان والأمير همام الدين مودود (¬2) - وهو من أكبر أمرائه - يسايره، فقال لنور الدين: «هل نكون هنا في مثل هذا اليوم في العام القابل؟». فقال نور الدين: «قل هل نكون هنا بعد شهر؟ فإن السنة بعيدة» فجرى على منطقهما (¬3) ما جرى به القدر السابق، فإن نور الدين لم يصل إلى آخر الشهر، وهمام الدين لم يصل إلى آخر العام. ¬

= بنفس الاسم - القبق -، وكان طريقة لعب القبق كما وصفها (Dosy : Supp .Dict .Arab) أن ينصب صار طويل من خشب، يكون في رأسه شكل قرعة من ذهب أو فضة بمثابة الهدف، ويكون في القرعة طير حمام، ثم يأتى اللاعبون للمباراة في رمى الهدف بالنشاب أو السهام وهم على ظهور الخيل، فمن أصاب منهم القرعة وأطار الحمام حاز السباق وأخذ القرعة المعدنية لنفسه، غير أن (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 180) وصف هذه اللعبة وصفا يختلف عن الوصف السابق بعض الشىء، ويبدو أن وصف المقريزى هو الذى يعنيه المتن هنا، فنص المتن: «لطعن الحلق، ورمى القبق». والمقريزى يقول: «والقبق عبارة عن خشبة عالية جدا، تنصب في براح من الأرض، ويعمل بأعلاها دائرة من خشب وتقف الرماة بقسيها وترمى بالسهام جوف الدائرة لكى تمر من داخلها إلى غرض هناك، تمرينا لهم على إحكام الرمى، ويعبر عن هذا بالقبق في لغة الترك». مم تحدث بعد ذلك في نفس الجزء والصفحة عن الميدان الذى كان بالقاهرة في العصر المملوكى لهذه اللعبة، ويسمى «ميدان القبق». انظر أيضا (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 518، حاشية رقم 6 للدكتور زيادة). (¬1) كذا في الأصل، وفى س، وفى الروضتين نقلا عن العماد: «ابن المقدم». (¬2) عرف به صاحب الروضتين (ج 1، ص 228) نقلا عن العماد، قال: «وكان قديما في أول دولته (أي دولة نور الدين) والى حلب». (¬3) س: «منطقه»، وما هنا ينفق ونص (الروضتين، ج 1، ص 228) وهو الصحيح كما يدل عليه المتن فيما يلى.

ثم شرع نور الدين باللعب بالكرة مع خواصه، فاعترضه برتقش - أمير آخر - وقال له: «باش»، فحصل عنده غيظ على خلاف عاداته في الكرم والحلم، فزجره وزيره، ثم ساق ودخل القلعة، ولم يخرج منها إلا ميتا، وأصابته (¬1) علة الخوانيق، فبقى أسبوعا في منزله مشغولا بالنازلة التي نزلت به، والناس مشغولون بزينة الختان والفرح، والبلد مزين لطهور الملك الصالح، فما انتهت الأفراح إلا بحلول المصيبة به رحمه الله. وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبا فما روجع؛ وحكى الطبيب جمال الدين الرحبى (¬2) الدمشقى قال: «استدعانى نور الدين في مرضه الذى توفى فيه مع غيرى من الأطباء، فدخلنا عليه وهو في بيت صغير بقلعة دمشق، وقد تمكنت الخوانيق به وقارب الهلاك، فلا يكاد يسمع صوته، فقلت له: كان ينبغى أن لا يؤخر إحضارنا إلى أن يشتد بك المرض إلى هذا الحد؛ فالآن ينبغى أن تنتقل إلى مكان فسيح فله أثر في هذا المرض، وشرعنا في علاجه فلم ينفع فيه الدواء، وعظم الداء، ومات عن قريب». قال عماد الدين الكاتب (¬3): «كان لنور الدين - رحمه الله - صفّة (¬4) ¬

(¬1) س (149): «وكان سببه أنه أصابته. . الخ». (¬2) هو جمال الدين عثمان بن يوسف بن حيدرة الرحبى، ولد ونشأ في دمشق، وكان كما يذكر (ابن أبى أصيبعة: طبقات الأطباء، ج 2، ص 201): أوحد زمانه، اشتغل بصناعة الطب على والده وعلى غيره، وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه، وخدم في البيمارستان الكبير الذى أنشأه نور الدين وبقى به سنين، وكان يحب التجارة ويعانيها ويسافر بها في بعض الأوقات إلى مصر، ويأتى من مصر بتجارة، ولما وصلت التتر إلى الشام في سنة 657 هـ‍ توجه إلى مصر وأقام فيها، ثم مرض وتوفى بالقاهرة في سنة 658 هـ‍. (¬3) روى هذا الخبر أيضا عن العماد صاحب الروضتين (ج 1، ص 228). (¬4) جاء في (اللسان): صفة البنيان طرته، ومن معانيها في (محيط المحيط): المسطبة المرتفعة تستعمل للجلوس عليها، وهذا هو المعنى المقصود هنا، ومن هذا اللفظ أخذت الكلمة الانجليزية (sofa) فقد ذكرت المعاجم الانجليزية أنها من أصل عربى وأن معناها الأريكة أو المقعد الطويل ذى الظهر واليدين (a long seat with stuffed bottom,back .and arms) . انظر أيضا: (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 487، هامش 2 و Twentieth Century Dictionary) .

صفته وسيرته - رحمه الله -

في الدار التي على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال، وكان جلوسه على تلك الصّفّة في أكثر (¬1) الأوقات، فلما جاءت سنة الزلزلة بنى بإزاء تلك الصّفّة بيتا من الأخشاب، وهو يبيت فيه [155] ويصبح، ويخلو بعبادته، فدفن في ذلك البيت الذى اتخذه حمى من الحمام»؛ وكانت وفاته يوم الأربعاء حادى عشر شوال من هذه السنة - أعنى سنة تسع وستين وخمسمائة -. وكان صلاح الدين قد استشعر بقصد نور الدين له، فحكى عنه القاضى بهاء الدين ابن شداد - قاضى حلب رحمه الله - قال: «كان يبلغنا عن نور الدين أنه ربما قصدنا بالديار المصرية، وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن (¬2) نكاشف ونخالف ونشق عصاه ونلقى عسكره بمصاف نرده (2) إذا تحقق قصده، وكنت أنا وحدى أخالفهم وأقول: لا يجوز أن يقال شىء من ذلك، ولم يزل النزاع بيننا حتى ورد الخبر بوفاته - رحمه الله -». قلت: ودفن نور الدين - رحمه الله - بالقلعة مدة، ثم نقل إلى مدرسته التي أنشأها بدمشق، ودفن بها (¬3)، وقبره بها معروف يزار. صفته وسيرته - رحمه الله - كان أسمر طويل [القلعة (¬4)] ليس له لحية إلا في حنكه (¬5)، وكان واسع الجبهة، حسن الصورة، حلو العينين. ¬

(¬1) س: «جميع الأوقات»، والروضتين: «جميع الأحوال». (¬2) الأصل: «يكاشف ويخالف ويشق عصاه ويلقى عسكره بمصاف يرده»، والتصحيح عن (ابن شداد: النوادر السلطانية، ص 37). (¬3) هذان اللفظان ساقطان من س. (¬4) ما بين الحاصرتين عن س؛ وهذا الوصف منقول عن (ابن الأثير، ج 11، ص 151)، وعنه نقل أيضا صاحب الروضتين (ج 1، ص 228 - 229). (¬5) س: «إلا قليل شعرات في ذقنه»، وما هنا يتفق مع الأصل المنقول عنه، وهو ابن الأثير، كما أنه يتفق أيضا ونص الروضتين.

وكان مولده سنة إحدى عشرة وخمسمائة، فكان عمره قريبا من ثمان وخمسين سنة. وأما سيرته - رحمه الله - في عدله وزهده (¬1)، وخوفه من الله تعالى، وجهاده لعدو الدين، وصدقاته ومعروفه وإحسانه، وابتغائه لثواب الله تعالى ولدار الآخرة، فهو أشهر من أن يذكر، فإنى لا أعلم ملكا بعد الخلفاء الراشدين اجتمع فيه من الصفات الجميلة مثل ما اجتمع فيه - رحمه الله -؛ ولنذكر ما نقل إلينا من أخباره مما يستدل به على ما ذكرناه، وإن كان قد بلغ في الوضوح والشهرة إلى حد التواتر. وأما زهده فالمشهور عنه أنه كان يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا فيما يخصه من ملك كان قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لصالح المسلمين، يحضر الفقهاء ويستفتيهم في أخذ ما يحلّ له من ذلك، فيأخذ ما يفتونه بحله، ولا يتعداه إلى غيره، ولم يلبس حريرا ولا ذهبا ولا فضة، ومنع من شرب الخمر في جميع بلاده، ومن إدخالها إلى بلد ما، وكان يحدّ (¬2) [156] شاربها الحد الشرعى، وكل الناس عنده فيه سواء. وحدّث شخص كان رضيع الخاتون ابنة معين الدين أنر زوجة نور الدين - وكان وزيرها -، قال: «(¬3) كان نور الدين إذا جاء إليها يجلس في المكان المختص به، وتقوم في خدمته لا تتقدم إليه إلا أن يأذن في أخذ ثيابه عنه، ثم تعتزل عنه إلى المكان الذى يختصّ بها، وينفرد هو، تارة يطالع رقاع أصحاب الأشغال، أو مطالعة ¬

(¬1) في الأصل: «ورفده» وما هنا عن س (49 ب). (¬2) س: «يجلد». (¬3) هذه الأخبار عن نور الدين وسيرته منقولة عن: (الروضتين، ص 6 وما بعدها). انظر أيضا: (ابن الاثير: الكامل، ج 11، ص 151 - 152) و (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق 1، ص 307 وما بعدها).

كتاب أتاه ويجيب عنه، ويصلى ويطيل الصلاة، وله أوراد في النهار، فإذا جاء الليل وصلى العشاء ونام يستيقظ نصف الليل، ويقوم إلى الوضوء والصلاة إلى بكرة، فيظهر للركوب ويشتغل بمهام الدولة؛ قال: فإنها قلّت عليها النفقة، ولم يكفها ما كان قرره لها، فأرسلتنى إليه أطلب منه زيادة في وظيفتها، فلما قلت له تنكّر واحمر وجهه ثم إنه قال: من أين أعطيها، أما يكفيها مالها (¬1)؟ والله لا أخوض نار جهنم في هواها، وإن كانت تظن أن الذى بيدى من الأموال هو لى فبئس الظن، إنما هى أموال المسلمين مرصدة لمصالحهم، ومعدة لفتق إن كان من عدو الإسلام؛ وأنا خازن (¬2) عليها فلا أخونهم فيها، ثم قال: لى بمدينة حمص ثلاثة (¬3) دكاكين ملكا (¬4) قد وهبتها إياها، فلتأخذها؛ وكان يحصل منها قدر قليل». وكان (¬5) له صديق بالجزيرة من الصالحين، وكان نور الدين يكاتبه ويراسله ويرجع إلى قوله، فبلغه أن نور الدين يدمن اللعب بالكرة، فكتب إليه يقول له: «ما كنت أظنك تلهو وتلعب وتعذّب الخيل لغير فائدة دينية»! فكتب إليه نور الدين بخط يده يقول له: «والله ما حملنى على اللعب بالكرة اللهو والبطر، إنما نحن في ثغر، والعدو قريب منا، وبينما نحن جلوس إذ يقع صوت فنركب في الطلب، ولا يمكننا أيضا ملازمة الجهاد ليلا ونهارا، شتاء وصيفا، إذ لا بد من الراحة للجند، ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت جماما لا قدرة لها على إدمان ¬

(¬1) في الأصل: «ما يكفيها» والتصحيح عن س بعد مراجعة الروضتين. (¬2) كذا في الاصل، وفى س (50 ب) وفى الروضتين: «خازنهم». (¬3) في الاصل: «ستة»، والتصحيح عن س، و (الروضتين، ص 6) و (مرآة الزمان، ص 307). (¬4) في الاصل، وفى س: «ملك» والتصحيح عن الروضتين. (¬5) قبل هذا الخبر في س: «وقال أيضا هذا الشخص، وكان رضيع زوجة نور الدين ووزيرها»، مما يفيد أنه ينقل هذا الخبر عن رضيع زوجة نور الدين، أما صاحب الروضتين فيرويه منسوبا إلى ابن الاثير وإنما مع اختلاف يسير في النص.

السير في الطلب، ولا معرفة لها بسرعة الانعطاف في الكر والفر في المعركة، فنحن نركبها ونروّضها بهذا اللعب، فيذهب عنها جمامها، وتتعود [157] سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب، فهذا والله هو الذى يبعثنى على اللعب بالكرة». وحمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة، فلم يحضرها عنده، فوصفت له، فلم يلتفت إليها، وبينما هم معه في حديثها إذ قد جاءه رجل صوفى، فأمر بها له، فقيل له: «إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطى غيرها كان أنفع له (¬1)»، فقال: أعطوها له، فإنى أرجو أن أعوض عنها في الآخرة»، فسلمت إليه، فسار بها إلى بغداد، فأباعها بستمائة دينار مصرية (¬2)، أو سبعمائة دينار (¬3). وأما (¬4) عدله فذكر أنه كان بدمشق يلعب بالكرة فرأى إنسانا يحدّث آخر ويشير بيده (¬5) إليه، فأرسل إليه وسأله عن حاله، فقال: «لى مع الملك العادل حكومة، هذا غلام القاضى ليحضره إلى مجلس الحكم يحاكمنى على الملك الفلانى»، ¬

(¬1) كذا في الاصل، وفى الروضتين، وفى س: «كان أصوب». (¬2) كذا في الاصل، وفى س؛ وفى الروضتين: «أميرى». (¬3) وقد عقب صاحب الروضتين (ص 6) على هذا الخبر بقوله: «قلت: قرأت في حاشية هذا المكان من كتاب ابن الأثير بخط ابن المعطى إياها، قال أعطاها لشيخ الصوفية عماد الدين أبى الفتح ابن حموية بغير طلب ولا رغبة، فبعثها إلى همذان فبيعت بألف دينار». انظر أيضا: (مرآة الزمان، ص 308). (¬4) روى صاحب الروضتين (ص 7) هذا الخبر وغيره منسوبا إلى ابن الأثير، وقد رجعنا إلى تاريخه الكامل فلم تجد هذه الأخبار به، والمرجح أنها نقلت عن كتاب آخر لابن الأثير عن نور الدين ودولته عنوانه «الباهر» فقد قال ابن الأثير عند ترجمته لنور الدين في الكامل: «وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريا منه للعدل، وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب (الباهر) من أخبار دولتهم، ولنذكرها هنا نبذة لعل يقف عليها من له حكم فيقتدى به. . . إلخ». والذى أرجحه أن (الباهر) عنوان آخر لكتاب ابن الأثير المعروف «تاريخ أتابكة الموصل». (¬5) كذا في الأصل، وفى س «به»، والتصحيح عن (الروضتين).

فعاد إليه، ولم يتجاسر يعرّفه ما قال ذلك الرجل، وكتمه ذلك الأمر، فلم يقبل منه [نور الدين] غير الحق، فذكر له قوله، فألقى الجوكان (¬1) من يده، وخرج من الميدان، وسار إلى القاضى، وهو إذ ذاك كمال الدين بن الشهرزورى، وأرسل [نور الدين] إلى القاضى يقول له: «إنى قد جئت محاكما، فاسلك معى مثل ما تسلكه مع غيرى»، فلما حضر ساوى خصمه وحاكمه، فلم يثبت عليه حق، وثبت الملك لنور الدين، فقال نور الدين حينئذ للقاضى ولمن معه: «هل ثبت له عندى حق؟». فقالوا: «لا»، قال: «اشهدوا أنى قد أوهبته هذا الملك الذى حاكمنى عليه، وهو له دونى، وقد كنت أعلم أنه لاحق له عندى، وإنما حضرت معه لئلا يظن أنى ظلمته، فحين ظهر أن الحق لى وهبته له». وذكر (¬2) أنه دخل يوما إلى خزانة بيت المال، فرأى فيها مالا أنكره، فسأل عنه، فقيل: إن القاضى كمال الدين أرسله، وهو من جهة كذا، فقال: «إن هذا المال ليس لنا ولا لبيت المال في هذه الجهة شىء»، وأمر بردّه وإعادته إلى كمال الدين ليردّه إلى صاحبه، فأرسله متولى الخزانة إلى كمال الدين، فردّه إلى الخزانة، وقال: «إذا سألك الملك العادل عنه فقل (¬3) له عنى إنه له»، فدخل نور الدين إلى الخزانة مرة أخرى، فرآه، فأنكره على النّواب (¬4)، وقال: «ألم أقل ¬

(¬1) الجوكان كلمة فارسية معناها المحجن أو العصا أو الصولجان الذى تضرب به الكرة في اللعبة التي كانت تعرف باسم «الكرة والصوالجة» والتي تعرف الآن باسم «البولو Polo»؛ وكانت الجوكان عصى مدهونة طولها نحو من أربعة أذرع، وبرأسها خشبة مخروطة معقوفة تزيد نصف ذراع. وكان حامل الجوكان للسلطان يسمى «الجوكندار». أنظر: (أحمد تيمور باشا: لعب العرب، ص 55) و (صبح الأعشى، ج 5 ص، 458) و (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 435، هامش 1) و (Dozy Supp .Dict .Arab) . (¬2) هذا الخبر يرويه أبو شامة في (الروضتين، ص 7) أيضا عن ابن الأثير، ولا وجود له في الكامل. (¬3) في الأصل: «فقول». (¬4) كذا في الأصل، وفى الروضتين، وفى س: «على متولى الخزانة».

لكم إن المال [158] يعاد إلى أصحابه؟ فذكروا له قول كمال الدين، فرده إليه، وقال للرسول: «قل لكمال الدين: أنت تقدر على حمل هذا، وأما أنا فرقبتى رقيقة لا أطيق حمله والمخاصمة عليه بين يدى الله تعالى؛ يعاد، قولا واحدا». فأعاده (¬1). ونور الدين - رحمه الله - أول من بنى دار الكشف، وسماها دار العدل، وكان سبب بنائها أنه لما طال مقامه بدمشق، وأقام [بها] (¬2) أمراؤه - وفيهم أسد الدين شيركوه بن شاذى، وكان قد عظم شأنه حتى صار كأنه شريك له في الملك -، فاقتنوا الأملاك، وأكثروا، وتعدى كل واحد منهم على من يجاوره في قرية أو غيرها، فكثرت الشكاوى إلى القاضى كمال الدين، فأنصف بعضهم من بعض، ولم يقدم (¬3) على الإنصاف من أسد الدين شيركوه، فأنهى الحال إلى نور الدين، فأمر حينئذ ببناء دار العدل، فلما سمع أسد الدين بذلك أحضر نوابه جميعهم، وقال: «اعلموا أن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلا بسببى وحدى، وإلا من هو الذى يمتنع على كمال الدين؟ والله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحدكم لا صلبنّه؛ فامضوا إلى من كان بينكم وبينه منازعة في ملك (¬4)، فانصلوا الحال معه وأرضوه بأى شىء أمكن، ولو أتى ذلك على جميع ما أملك»، فقالوا له: «إن الناس إذا علموا بهذا اشتطوا في الطلب»، فقال: «خروج أملاكى عن يدى أسهل علىّ من أن برانى نور الدين بعين أنى ظالم، ويساوى بينى وبين آحاد العامة في الحكومة»، فخرج أصحابه من عنده وفعلوا ما أمرهم، وأرضوا خصمائهم، وأشهدوا عليهم. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى الروضتين، وفى س (51 ب): «فأعاده إلى القاضى، فرده القاضى على من أخذ منه». (¬2) ما بين الحاصرتين عن س و (الروضتين، ج 1، ص 8)، وقد ذكر صاحب الروضتين أنه نقل هذا الخبر عن ابن الاثير. (¬3) كذا في الأصل، وفى الروضتين، وفى س: «يقدر». (¬4) في الاصل: «ذلك» وما هنا صيغة س (51 ب)، والروضتين.

فلما فرغت دار العدل جلس نور الدين فيها لفصل [الحكومات و] (¬1) الخصومات، وكان يجلس في الأسبوع يومين (¬2) وعند القاضى والفقهاء، وبقى كذلك مدة فلم يحضر أحد يشكو من أسد الدين، (¬3) فقال نور الدين لكمال الدين: «مالى لا أرى أحدا يشكو من شيركوه؟» فعرّفه الحال (3)، فسجد شكرا لله تعالى، وقال: «الحمد لله الذى جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنا». وحكى (¬4) معين الدين محمد بن أحمد بن خالد بن محمد بن القيسرانى، قال: «انكسر على ضامن (¬5) دار الزكاة [159] مال جم، وكان الضامن المذكور يعرف بابن شمام (¬6) المحالى، فحبس، فباع ما كان يملكه من عقار بما مبلغه ثمانية آلاف دينار صورية (¬7)، وحمله إلى الخزانة، وبقى في الحبس مطالبا بما بقى عليه. ¬

(¬1) في الأصل: «لفصل الخصومات»، وفى الروضتين «لفصل الحكومات» وما هنا صيغة س. (¬2) النص في: (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق 1): «فكان نور الدين يقعد في دار العدل في كل أسبوع أربعة أيام أو خمسة، ويحضر عنده العلماء والفقهاء، ويأمر بازالة الحاجب والبواب، ويوصل إليه الشيخ الضعيف والعجوز الكبيرة، ويسأل الفقهاء عما أشكل عليه». (¬3) ما بين الرقمين ساقط من س، وإنما اختصره بقوله: «فعلم الحال، فسجد شكرا. . . الخ». (¬4) أوجز صاحب الروضتين (ج 1، ص 11) هذه القصة في كلمات قليلة جدا، قال: «ورأى له وزيره موفق الدين خالد بن القيسرانى الشاعر في منامه أنه يغسل ثيابه، وقص ذلك عليه ففكر ساعة، ثم أمره بكتابة إسقاط المكوس، وقال: هذا تفسير منامك». وهذا مثل يجعل لمفرج الكروب مكانة خاصة لما يرويه من أخبار مفصلة عن مراجع سابقة لم تصلنا، وقد أهملت المراجع المطبوعة ذكر هذه الأخبار أو نقلتها باختصار لا يفيد الباحث كثيرا. (¬5) انظر التعريف بوظيفة الضامن في: (ابن مماتى: قوانين الدواوين، طبعة الوطن، ص 10). (¬6) في س: (52 ا) «سمام». (¬7) لعل المقصود بالدينار الصورية: الدينار المصورة، وقد عرفها (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 3، ص 437) بأنها دنانير يؤتى بها من البلاد الافرنجية والروم، وهى دنانير مشخصة على أحد وجهيها صورة الملك الذى تضرب في زمنه، وعلى الوجه الآخر صورتا بطرس وبولس الحواريين، ويعبر عنها أيضا: بالافرنتية - جمع إفرنتى -، وربما قيل «إفرنجة».

قال [معين الدين] (¬1): وكان جدى خالد بن محمد قريب المنزلة من نور الدين إلى الغاية، وإليه استيفاء دوواينه بأسرها، وكتابة الإنشاء، وإمرة مجلسه (¬2)، وهو المشير والوزير، والأمور كلها عائدة إليه، فاتفق أنه حضر بين يدى نور الدين - رحمه الله - يوما بدمشق، وقال: يا مولانا، رأيت البارحة في نومى كأن المولى قد نزع ثيابه ودفعها إلىّ، وقال: اغسلها، فأخذتها وغسلتها، قال: فأطرق (¬3) طويلا، ولم يرفع رأسه إلىّ، فندمت على ما قلت، وخفت أن يكون قد تطيّر منى، وتوهم من منامى، فخرجت من بين يديه وأنا كئيب ضيّق الصدر؛ فبقيت بعد ذلك ثمانية أيام لا يطلبنى ولا يسأل عنى، فساء [عند ذلك] (¬4) ظنى، وفرح من كان يحسدنى، وظن العدو أنه قد ظفر بى؛ فدخل على نور الدين رجل من خواصه يعرف بالشيخ إسماعيل المكبس (¬5)، وكان نور الدين يحبه ويقربه كثيرا، فقال: يا مولانا، قد حضر من زاد في دار الزكاة خمسة آلاف دينار في السنة، فانتهره، وقال: قد أصبحت على سجادتى بعد أداء فريضتى أذكر الله تعالى، واستفتحت أنت النهار تبشرنى بزيادة مكس؛ فوجم الشيخ إسماعيل وبقى ساكنا، ثم قال: اطلبوا لى خالدا، قال: فحضرت لديه (¬6)، فالتفت إلىّ متبسما، وقال لى: قد تفسّر منامك؛ فقلت بخير إن شاء الله، فقال [هو خير (¬7)] لا تظن تركى لك وعدم استحضارى إياك في هذه الأيام لموجدة عليك أو لوهم حصل عندى من منامك، بل كنت مفكرا في المنام حتى فتح الله سبحانه وتعالى علىّ بتأويله، اعلم أن غسل ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س. (¬2) في س: «وأمره بمجلس نور الدين نافذ». (¬3) س: «فأطرق نور الدين ساعة لما سمع هذا المنام ساعة طويلة». (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (152 ا). (¬5) في س: «الملبس». (¬6) في س (52 ب): «فحضرت بين يديه وأنا خايفا». (¬7) ما بين الحاصرتين عن س (52 ا).

الثياب غسل أوساخ الذنوب، ولا ذنب أوسخ (¬1) من تناول أموال المكوس، فلا تترك من يومنا هذا في بلد من بلادى مكسا ولا درهما تعلم أنه يؤخذ بغير حق إلا أسقطته، واكتب بذلك تواقيع تكون مخلدة في البلاد المذكورة، والتفت إلى الشيخ إسماعيل وقال له: مر أطاق ابن شمام المحالى من محبسه، ومر (¬2) بإعادة كل ما أخذ منه إليه واسترجاع أملاكه، [ففعل ذلك (¬3)] ولما عرف ابن شمام المحالى بذلك [160] اقترح بأن يجعل الذهب الذى أخذ منه في أطباق ويزفّ بالطبول والبوقات والمغنيين في الأسواق، ليعلم الناس كلهم ذلك، وقيل ذلك لنور الدين فأجابه إلى ملتمسه، وأن يخلع عليه؛ فلبس الخلعة، وزفّ المال بين يديه على ما اقترح. قال معين الدين: وكتب جدى خالد بذلك تواقيع، وجهزها إلى البلاد، ونسختها كلها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ «الحمد لله فاتح أبواب الخيرات بعد إغلاقها، وناهج سبل النجاة لطلاّبها وطرّاقها، وفارج الكربات بعد ارتاجها (¬4) وإطباقها، الذى منح أولياءه التوفيق وأوضح لهم دليله، ونصر أهل الحق وأعان قبيله، نحمده على جزيل مواهبه وجليل رغائبه، وبالغ هدايته وسابغ وقايته، ونسأله أن يصلى على سيدنا محمد الذى أوضح الطرايق، وفرج المضايق، وأنجب (¬5) المحجة، وأوجب الحجة، وخفّف الله ببعثه كل إصر، وجعل أمته خير أمة وعصره خير عصر، وعلى آله الأكرمين ما أسفر بدر وأنار فجر. ¬

(¬1) س: «أقبح». (¬2) س: «وأمر». (¬3) ما بين الحاصرتين عن س. (¬4) في الأصل: «ارتجاجها»، وما هنا صيغة س. (¬5) س: «وأوضح».

وبعد، فقد اتضح على الأفهام، وصح عند الخاص والعام، ما نغاديه ونراوحه، ونماسيه ونصابحه، ونشتغل به عامة أوقاتنا، ونعمل فيه رويتنا وأفكارنا، ونستنقذ بالاهتمام به ساعاتنا ولحظاتنا من الاجتهاد في إحياء سنة حسنة (¬1)، يكون لنا أجرها وأجر من عمل بها، وإماتة سنة سيئة نخلص من عظيم وزرها ووخيم خزيها، وإزالة مظلمة مظلمة وطّد الجور أساسها، ومحو سيرة مؤلمة أبرم الحيف أمر اسمها، ليعم الرعايا لباس (¬2) الفضل والامتنان، ويفيض على البرايا سجال العدل والإحسان، ليصبحوا من حياض الأمن دارعين (¬3)، وفى رياض الدعة وادعين، لا يجدون للنعم عندهم تبديلا ولا تغييرا، ولا يرون لصافى شربهم تصريدا ولا تكديرا ولا يظلمون نقيرا، فما يسفر صبح، ولا يعتكر جنح، إلا ولله علينا نعمة لا نستطيع الإحاطة بشكرها، ولا نطيق قدرها لحق قدرها، فيما يوفقنا له من فعل الخيرات، ويلهمنا إياه من إزالة المنكرات، ويهدينا إليه من الأعمال الصالحات، وينقذنا به من الموارد المهلكات، ويوضحه لنا من الطريق إلى رضاه (¬4)، ويبعثنا (¬5) به على الجد في عبادته [161] وتقاه، فالحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله. وقد علمتم معاشر الرعايا - وفقكم الله ورعاكم - ما كان مرتبا من المظالم المجحفة بأحوالكم، والمكوس المستولية على شطر أموالكم، والرسوم المضيّقة عليكم في أرزاقكم، والمؤن التي (¬6) تساهمكم في منافع أملاككم، واستمرار ذلك عليكم ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من س. (¬2) س: «بالناس». (¬3) س: «كارعين». (¬4) س: «لنا إلى طريق ضارة». (¬5) س: «ويعيننا به على عبادته ونعماه». (¬6) س: (53 ب): «الذى».

إلى أن فوّض الله عز وجل إلينا تدبير أموالكم (¬1)، واسترعانا على كبيركم وصغيركم، فأمرنا بإزالة ذلك عنكم أولا فأولا، ولم نبتغ في إقراره على وجوهه شبهة ولا تأولا (¬2)، وقد كان بقى من رسوم الظلم ومعالم الجور في سائر الأعمال بولايتنا ما أمرنا بإزالته الآن، وأضفنا ذلك إلى ما كنا أسقطناه أولا (¬3)، رأفة بكم ولطفا، وتخففا عليكم وعطفا، الآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا؛ وسنذكر ما أزلناه من المظالم والمكوس أولا وآخرا (3) من سائر أعمال ولايتنا - عمّرها الله - في هذا السجل من الديوان». قال: ثم كتب بقلم دقيق ما صورته: «ذكر ما أطلق من الرسوم والمؤن والمكوس والضرائب في سائر أعمال الولاية المحروسة - عمّرها الله - شاميها وجزيرتها في تواريخ متقدمة (3) وفى تاريخ هذا السجل؛ ورسم إطلاق ذلك كله، وتعفية آثاره، وإخماد ناره. ومبلغ ما يحصل من ذلك كل سنة: خمسمائة ألف وستة وثمانون ألفا وأربعمائة وسبعون دينارا نقدا، الشام، فمن ذلك: دمشق - بتواريخ متقدمة [ما هى في هذا الإطلاق (¬4)]: مائتا ألف، وعشرون ألفا، وخمسمائة وثلاثة وثمانون دينارا. دمشق - في تاريخ هذا الكتاب -: خمسون ألفا، وسبعمائة وثلاثون دينارا. ¬

(¬1) س: «أموركم». (¬2) في الأصل: «تأويلا» وما هنا عن س. (¬3) لهذا السجل أهمية بالغة إذ لم أجد له ذكرا في المراجع المعاصرة الأخرى، وقد تضمن بيانا تفصيليا هاما بالمكوس التي أسقطها نور الدين في سنوات حكمه المختلفة، وقد وردت في الروضتين إشارات متعددة لحركة إسقاط المكوس سنة بعد أخرى في عهد نور الدين، انظر: (الروضتين، ج 1، ص 11، 15، 16). (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (53 ب).

تدمر: (¬1) خمسمائة دينار. صرخد: سبعمائة وخمسون دينارا. القريتان (¬2) والسخنة: خمسمائة دينار. بانياس: ألف ومائتا دينار. بعلبك وأعمالها: ستة آلاف وتسعمائة (¬3) وعشرون دينارا. حمص وأعمالها: ستة وعشرون ألفا وأربعمائة وعشرون دينارا. حماة وأعمالها: ستة وعشرون ألفا، واثنان وتسعون (¬4) دينارا. حلب وأعمالها: ستة وتسعون ألفا، ومائة (¬5) وستة وثمانون دينارا (¬6). سرمين (¬7): ألفان، وثلاثمائة وستون دينارا (6). معرّة النعمان: سبعة آلاف دينار. [162] كفرطاب (¬8): ألفا دينار. ¬

(¬1) هكذا ضبطها (ياقوت: معجم البلدان) وقال إنها مدينة قديمة مشهورة في برية الشام بينها وبين حلب خمسة أيام. (¬2) قال (ياقوت) هى قرية كبيرة من أعمال حمص في طرف البرية، بينها وبين سخنة وأرك، وبينها وبين تدمر مرحلتان. (¬3) س: «سبعماية». (¬4) س: «وسبعون». (¬5) س: «ومايتى». (¬6) في الأصل: «دينار». (¬7) هكذا ضبطها (ياقوت) ولم يعرفها بأكثر من قوله: هى بلدة مشهورة من أعمال حلب. (¬8) بلدة بين المعرة ومدينة حلب (ياقوت).

عزاز (¬1): ستة آلاف، وخمسمائة دينار. تل باشر (¬2): ألف وخمسمائة دينار. عين تاب: تسعة وثمانون دينار. بالس (¬3): أربعة آلاف دينار. منبج (¬4) وأعمالها: ثمانية عشر ألفا، وخمسمائة وستة وستون دينارا (¬5). بزاعة (¬6) والباب: ثلاثة آلاف دينار. قلعة نجم (¬7): ثلاثمائة دينار. قلعة جعبر (¬8): سبعة آلاف، وستمائة وستة وتسعون (¬9) دينارا. الرقّة: ستة وعشرون ألفا، وسبعمائة وثلاثة وستون دينارا. الرّها: ثمانية آلاف، وخمسمائة دينار. ¬

(¬1) انظر ما فات هنا، ص 40، هامش 2 (¬2) انظر ما فات هنا، ص 43، هامش 1 (¬3) عرفها (ياقوت: معجم البلدان) بقوله: «هى بلدة بالشام بين حلب والرقة، كانت على ضفة الفرات الغربية، فلم يزل الفرات يشرق عنها قليلا قليلا حتى صار بينهما في أيامنا هذه اربعة أميال». (¬4) انظر ما فات هنا، ص 153 هامش 2 (¬5) في الأصل: «دينار». (¬6) انظر ما فات هنا ص 155 هامش 1 (¬7) عرفها (ياقوت) بأنها قلعة حصينة مطلة على الفرات على جبل تحتها ربض عامر، وعندها جسر يعبر عليه، وهى المعروفة بجسر منبج، ويعبر على هذا الجسر القوافل من حران إلى الشام وبينها وبين منبج أربعة فراسخ. (¬8) انظر ما فات هنا، ص 17، هامش 5 (¬9) س: (54 ا): «وسبعون».

حرّان: ستة عشر (¬1) ألف، وستمائة واحد وسبعون دينارا. سنجار (¬2): سبعة آلاف، وثمانية دنانير. الموصل وأعمالها: ثمانية وثلاثون ألفا، ومائة وستة وأربعون (¬3) دينارا. نصيبين: عشرة آلاف، وأربعمائة وستة (¬4) وثمانون دينارا. عربان (¬5): خمسة آلاف وسبعمائة دينار. بطنان (¬6) - من أعمال الخابور (¬7) -: مائتان وخمسون دينارا. تبنين (¬8) والارسل (9): سبعمائة وخمسون دينارا. السمسمانية (¬9) - من أعمال الخابور -: ألف دينار. ¬

(¬1) س: «ستة آلاف». (¬2) انظر ما فات هنا، ص 118، هامش 1. (¬3) س: «الموصل وأعمالها: ثلاثون ألف دينار، وستة وأربعون دينارا». (¬4) س: «وأربعماية وثمانون دينار». (¬5) في الأصل: «عرابان»، وهذا الرسم والضبط عن (ياقوت) حيث عرفها بأنها بليدة بالخابور من أرض الجزيرة. (¬6) في الأصل: «بطانات»، وهذا الرسم والضبط عن (ياقوت) حيث قال إنه اسم واد بين منبج وحلب وبينه وبين كل واحد من البلدين مرحلة خفيفة، فيه أنهار جارية وقرى متصلة، قصبتها بزاعة. (¬7) الخابور كما ورد في (ياقوت: معجم البلدان) اسم لنهر كبير بين رأس عين والفرات من أرض الجزيرة، ولاية واسعة وبلدان جمة غلب عليها اسمه، فنسبت إليه، من بلاد: قرقيسياء، وماكسين، والمجدل، وعربان. (¬8) في الأصل: «تنينين»؛ والتصحيح عن (ياقوت) حيث ذكر أنها بلدة في جبال بنى عامر المطلة على بلد بانياس بين دمشق وصور. (¬9) كذا في الأصل، ولم أجد لها ذكرا عند ياقوت.

قرقيسياء (¬1): ألفا دينار. السكير (¬2): مائتا دينار. ماكسين (¬3): خمسة آلاف دينار. المجدل (¬4): ثلاثة آلاف وخمسة دنانير. الحصين (¬5) - بالخابور -: ستمائة وخمسة وثلاثون دينارا. الجحشيّة (¬6) - بالخابور -: مائة (¬7) دينار. المحولية (¬8) - بالخابور -: مائة وثلاثة وستون دينارا. الرّحبة (¬9): ستة عشر ألفا، وسبعمائة (¬10) وأربعون دينارا. [وغير ذلك ما عينّاه خوفا من الإطالة (¬11)]». ¬

(¬1) ضبطت بعد مراجعة (ياقوت) حيث ذكر أنها بلد على نهر الخابور قرب رحبة مالك ابن طوق على ستة فراسخ، وعندها مصب الخابور في الفرات، فهى في مثلث بين الخابور والفرات. (¬2) اسمها عند (ياقوت: معجم البلدان): «سكير العباس»، وهى بليدة صغيرة بالخابور فيها منير وسوق. (¬3) أنظر ما فات هنا، ص 118، هامش 2 (¬4) أنظر الصفحه السابقة، هامش 7 (¬5) هكذا ضبطها (ياقوت): وقال إنها بليدة على نهر الخابور، ولم يزد. (¬6) هكذا ضبطها (ياقوت) وقال إنها قرية كبيرة كالمدينه من قرى الخابور، بينها وبين المجدل نحو أربعة أميال. (¬7) س: «مايتا». (¬8) كذا في الأصل، ولم يذكرها (ياقوت). (¬9) ذكر (ياقوت) أن هذا اللفظ يطلق على أكثر من مكان ذكرها جميعا في معجمه، ويتضح من وصفه أن الرحبة المذكورة هنا هى رحبة مالك بن طوق، وقد حدد موقعها بقوله: بينها وبين دمشق ثمانية أيام، ومن حلب خمسة أيام، وإلى بغداد مائة فرسخ. والى الرقة نيف وعشرون فرسخا، وهى بين الرقة وبغداد على شاطىء الفرات، أسفل من قرقيسيا. (¬10) س: «وتسعماية». (¬11) ما بين الحاصرتين عن: س (354 ا)

ثم كتب بعد ذلك بالقلم الجافى: «تحقيقا للحق، وتمحيقا للباطل، ونشرا للعدل، وتقديما للصلاح الشامل، وإيثارا للثواب الآجل على الحطام العاجل، وتأميلا لحسن الخلف من الله الكافى الكامل، وتخليصا للذمة من درك المظالم، وتنزيها للنفس من درن المآثم، واستعفاء من تحمل الأوزار، واستغناء بما أولاه الله من سابغ المدرار (¬1)، وشكرا لما أولاه من الفضل الجسيم والمنح العميم، وهداية إلى الصراط المستقيم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. فاعلموا رعاكم الله ما أمرناه، واسكنوا إلى ما قرّرناه، واشكروا الله على ما سهّله وسنّاه، وأجز له من فضله وأسناه، [163] وأيقنوا أن ذلك [الإنعام] (¬2) العام مستمر على الدهور، وباق إلى يوم النشور، «و {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (¬3)}»، وسبيل كل واقف على هذا المثال من الولاة والنواب والأصحاب والأعمال (¬4) والعمال - أعزّهم الله - حذف ذلك كله، وتعفيّة رسومه، ومحو آثاره، ودحض أوزاره، وإزالة أوضاره، وصون جمال الدولة عن شين عاره، وإطلاقه على الإطلاق من غير تبديل يحل عقده، ولا فسخ يكدر ورده، {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (¬5)}». والتوقيع الأعلى: «حجّة لمضمونه ومقتضاه، وليمتثل الأمر فيه إن شاء الله. ¬

(¬1) س (54 ب): «سابغ الادرار والمدبار». (¬2) ما بين الحاصرتين عن س. (¬3) السورة 34 (سبأ)، الآية 15 (ك). (¬4) هذا اللفظ ساقط من س. (¬5) السورة 2 (البقرة)، الآية 181 (م).

وكتب بالمشافهة الكريمة - شرفها الله تعالى - في مستهل شهر الله الأحب، رجب سنة سبع وستين وخمسمائة». قال معين الدين - رحمه الله -: «وكل بلد من البلاد المذكورة فصّل في التوقيع جهات ما أطلق من مكوسه (¬1)، ولكننى اقتصرت على ذكر الجمل طلبا للاختصار». وأما (¬2) شجاعته وبسالته: فكان من أقوى الناس بدنا وقلبا ورأيا ومكيدة؛ وذكر أنه لم ير على ظهر فرس أشد منه، كأنما خلق عليه، لا يتحرك ولا يتزلزل، وكان من أحسن الناس لعبا بالكرة، يجرى الفرس ويتناولها بيده في الهواء ويرميها إلى آخر الميدان، وكانت يده لا ترى والجوكان (¬3) فيها، بل تكون في كم قبائه (¬4)، استهانة باللعب، وكان إذا حضر الحرب أخذ قوسين وتركشين (¬5) ¬

(¬1) حبذا لو كان معين الدين هذا قد أورد تفاصيل المكوس التي ألغيت ولم يكتف بالجمل، فانه كان يقدم للباحثين وثيقة من أندر وأقيم الوثائق لدراسة هذا النوع من الضرائب في الشام قبل عصر نور الدين. (¬2) وردت أخبار شجاعته أيضا في: (الروضتين، ج 1، ص 8 وما بعدها) مع اختلاف يسير، تقديما أو تأخيرا، إيجازا أو إطنابا؛ وفى (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق ا، ص 309 - 310). (¬3) أنظر ما فات ص 267، هامش 1. (¬4) جاء في (محيط المحيط) أن القباء ثوب يلبس فوق الثياب، وقيل يلبس فوق القميص، ويتمنطق عليه، جمعه أقبية؛ والقباء المقدار، وقد كان فخر الدين بن شيخ الشيوخ - أحد كبار رجال الدولة في عهد الملكين الكامل والصالح الأيوبيين - أول من ترك لبس العمامة ولبس الشربوش والقباء. انظر أيضا: (المقريزى: السلوك، ج ا، ص 261) و (المقريزى: نحل عبر النحل، نشر الشيال، ص 85 هامش 5). (¬5) كذا في الأصل، وهى في س (55 ا): «تركاشين»، والرسمان صحيحان: «تركش» و «تركاش»، والجمع «تراكيش». والتركش لفظ فارسى معناه الجعبة أو الكنانة التي توضع فيها النشاب أو القسى. انظر (Dozy : Supp .Dict .Arab) و (المقريزى: السلوك، تعليقات الدكتور زيادة، ج 1، س 371). ويقال أيضا «جنود متركشة» أي يحملون جعبات النشاب.

يباشر القتال بنفسه، فكان يقول: «طالما تعرّضت للشهادة فلم أدركها»؛ وسمعه الفقيه قطب الدين النيسابورى يقول ذلك، فقال له: «بالله لا تخاطر بنفسك وبالإسلام والمسلمين، فإنك عمادهم، ولئن أصبت والعياذ بالله في معركة، لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف، وأخذت البلاد والإسلام». فقال له: «يا قطب الدين، ومن محمود حتى يقال له هذا؟ قبلى من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك الله الذى لا إله إلا هو». ومن آرائه الحسنة ما كان يعتمده في أمر أجناده؛ فإنه كان إذا توفى أحدهم وخلّف ولدا ذكرا أقرّ الإقطاع عليه، فإن كان الولد كبيرا استبد بنفسه، وإن كان صغيرا رتّب معه رجلا عاقلا يثق إليه، فيتولى أمره إلى أن يكبر، فكان الأجناد يقولون: [164] «هذه أملاكنا يرثها الولد عن الوالد، فنحن نقاتل عليها»، وكان ذلك من أعظم الأسباب لصبر الجند في المشاهد والحروب بين يديه؛ وكان أيضا يثبت أسماء أجناد كل أمير في ديوانهم: دوابهم وسلاحهم خوفا من حرص بعض الأمراء وشحه أن يحمله ذلك على أن يقتصر على بعض ما هو مقرر عليه من العدد، وكان يقول: «نحن كل وقت في النفير، فإذا لم يكن أجناد كافة الأمراء كاملى العدد دخل الوهن على الإسلام» (¬1). (¬2) وأما صدقاته ومعروفه وإحسانه فذكر عماد الدين الكاتب، قال: «حسبنا ما تصدق به على الفقراء في شهر فزاد على ثلاثين ألف دينار»؛ وكانت عادته في الصدقة أن يحضر جماعة من أماثل البلد من كل محلة ويسألهم عمن يعرفون في جوارهم ¬

(¬1) هذا نص هام وقيم لدراسة نظام الاقطاع ونظام الجيش في دولة الأتابكة بوجه عام، وفى دولة نور الدين بوجه خاص. (¬2) وردت أخبار صدقاته وإحسانه في: (الروضتين، ج 1، ص 11) نقلا عن العماد الكاتب وابن الأثير؛ وفى (سبط ابن الجوزى، المرجع السابق، ص 312).

من أهل الحاجة، ثم يصرف إليهم صدقاتهم، وكان برسم نفقته الخاصة (¬1) في كل شهر من جزية أهل الذمة مبلغ ألفى قرطاس مصرية (¬2) في كسوته ونفقته وحوائجه المهمة، حتى أجرة خياطه، وجامكية طباخه، ويستفضل منه ما يتصدق به في آخر الشهر. وأما ما كان يهدى إليه من هدايا الملوك وغيرهم، فإنه كان لا يتصرف في شىء منه لا قليل ولا كثير، بل كان إذا اجتمع منه شىء يصرفه، ويخرجه إلى مجلس القاضى، فيحصل ثمنه (¬3)، ويصرف في عمارة المساجد المهجورة؛ وتقدم بإحصاء ما في محال دمشق من المساجد [الخراب] (¬4) فأناف على مائة مسجد، فأمر بعمارة ذلك كله، وعيّن له وقوفا، ولما أسقط نور الدين الجهات المحظورة (¬5) والمكوس - غير السجن - وقال لكمال الدين القاضى: «انظر أنت في ذلك، فاحمل أمور الناس فيها على الشريعة»؛ ولم يكون نور الدين يحاسب القاضى كمال الدين على شىء من الوقوف، ويقول: «أنا قد قلّدته أن يتصرف فيها بما يجب، ثم ما فضل من مصارفها وشروط واقفيها يصرف في بناء الأسوار وحفظ الثغور». وبنى (¬6) - رحمه الله - أسوار بلاده جميعها وقلاعها، فمنها: حلب، وحماة، وحمص، ودمشق، وبارين، وشيزر، ومنبج، وغيرها من القلاع والحصون، وحصّنها ¬

(¬1) في الأصل: «نفقة الخاص» والتصحيح عن (مرآة الزمان ج 8، ق ا، ص 312) (¬2) هذا اللفظ غير موجود في س ولا في الروضتين. (¬3) س (55 ب): «فيبيعه ويحصل ثمنه». (¬4) ما بين الحاصرتين عن س، وفى (الروضتين، ج 1، ص 11) و (مرآة الزمان، ج 8، ق 1، ص 312): «المساجد المهجورة». (¬5) في الأصل، وفى س: «المحضورة» وما هنا عن الروضتين. (¬6) أخبار ما بناه من الحصون والقلاع واردة في: (الروضتين، ج 1، ص 9 - 10) نقلا عن ابن الأثير.

وأحكم بناها، وأخرج عليها الأموال [165] الجليلة، وبنى المدارس الجليلة للحنفية والشافعية، فمن ذلك: المدرسة النورية (¬1) بدمشق التي فيها قبره (¬2). وكذلك بحلب (¬3) ويحمص (¬4)، وبحماة (¬5) له مدرستان: إحداهما للحنفية، والأخرى للشافعية. وبنى الجوامع في أكثر البلاد. فجامعه بالموصل (¬6) في نهاية الحسن والاتقان. ¬

(¬1) ذكر (النعيمى: الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 606) هذه المدرسة باسم المدرسة النورية الكبرى تمييزا لها عن مدرسة أخرى أنشأها نور الدين كذلك في دمشق، وتعرف باسم المدرسة النورية الصغرى (ص 648). وذكر النعيمى أن نور الدين بنى المدرسة الكبرى في سنة 563 هـ‍ ثم عقب على ذلك بقوله: «وفيه نظر، إنما أنشأها ولده الملك الصالح إسماعيل، ثم نقله من القلعة بعد فراغها، ودفنه بها». وقال ناشر الكتاب الأستاذ جعفر الحسنى في تعليقاته إن هذه المدرسة لا تزال عامرة إلى يومنا، وهى في سوق الخياطين، وفيها ضريح نور الدين. انظر أيضا: (محمد كرد على: خطط الشام، ج 6، ص 97) و (Souvaget : Monuments Historiques de Damas . P. 53) . (¬2) وصف (ابن جبير: الرحلة، ص 284) مدرسة نور الدين وقبره وصفا طريفا، قال: «ومن أحسن مدارس الدنيا مدرسة نور الدين - رحمه الله -، وبها قبره - نوره الله - وهى قصر من القصور الأنيقة ينصب فيها الماء في شاذروان وسط نهر عظيم ثم يمتد الماء في ساقية مستطيلة إلى أن يقع في صهريج كبير وسط الدار، فتحار الأبصار في حسن ذلك المنظر، فكل من يبصره يجدد الدعاء لنور الدين - رحمه الله -». (¬3) كانت مدرسته في حلب تعرف كذلك باسم «النورية بناها سنة 544 هـ‍ (كرد على: خطط الشام، ج 6، ص 105) وأنظر أيضا: (ابن جبير: الرحلة، ص 253). (¬4) ذكر (ابن جبير: الرحلة، ص 258) أنه لم يكن بحمص أثناء زيارته لها غير مدرسة واحدة فلعلها هذه. (¬5) انظر (ابن جبير: الرحلة، ص 257) و (كرد على. خطط الشام، ج 6، ص 127). (¬6) قال (ابن جبير، ص 235) عند كلامه عن الموصل: «وللمدينة جامعان، احدهما جديد، والآخر من عهد بنى أمية».

وبنى الجامع (¬1) الذى على شط العاصى بحماة - وهو جامع حسن - وإلى جانبه بيمارستان (¬2) من إنشائه. وبنى بدمشق وحلب بيمارستانين (¬3) في غاية الحسن، ووقف عليهما الوقوف الجليلة. وبنى الربط والخانقات للصوفية في جميع البلاد، وأدرّ عليهم الإدرارات الجليلة الكثيرة، وكان يحضر مشايخ الصوفية ويقربهم ويدنيهم ويتواضع لهم. وبنى أيضا الخانات في الطرق، فأمن الناس، وحفظت أموالهم، وباتوا في الشتاء في كن من المطر. وبنى أيضا الأبراج على الطرق بين المسلمين والفرنج، وجعل فيها من يحفظها، ومعهم الطيور الهوادى، فإذا رأوا من العدو أحدا أرسلوا الطيور، فأخذ الناس حذرهم، واحتاطوا لأنفسهم، ولم يبلغ العدو منهم غرضا. وكان - رحمه الله - عنده أهل العلم في محل عظيم، وكان يجمعهم عنده للبحث والنظر، واستقدمهم إليه من البلاد الشاسعة، فمن جملة من قدم عليه: الفقيه قطب الدين الشافعى، فبالغ في إكرامه والاحسان إليه، فحسده بعض الأمراء عنده، فنال منه [يوما عند نور الدين] (¬4)، فقال له نور الدين: «يا هذا إن صح ما تقول فله حسنة تغفر له كل زلة تذكرها، وهى العلم والدين، أما أنت وأصحابك، ففيكم أضعاف ما ذكرت، وليست لكم حسنة تغفرها، ولو عقلت (¬5) لشغلك عيبك ¬

(¬1) انظر وصف هذا الجامع في (كرد على: خطط الشام، ج 6 ص 61). (¬2) قال (كرد على، ج 6، ص 166) عند كلامه عن هذا المارستان: «وهو الآن شبيه بالمندرس يستعمله بعضهم للسكنى، وذهبت أوقافه إلا قليلا». (¬3) أنظر وصف البيمارستان النورى بدمشق في المرجع السابق (ص 162)، ووصف البيمارستان النورى بحلب في نفس المرجع (ص 165) (¬4) ما بين الحاصرتين عن الروضتين، وقد أضفناه للايضاح. (¬5) في س: «ولو تثبت».

عن غيرك، وأنا أحتمل سيئاتكم مع عدم حسناتكم، أفلا تحتمل سيئة هذا إن صحت مع وجود حسنته؟ مع أننى والله لا أصدقك فيما تقول، وإن عدت ذكرته أو غيره بسوء (¬1) لأوذينك» فكفّ عن أذيته. وبنى بدمشق دارا للحديث (¬2)، وأوقف عليها وقوفا كثيرة؛ وهو أول من بنى دارا للحديث فيما سمعنا به. وبنى في كثير من بلاده مكاتب للأيتام، [166] وأجرى عليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة. وبنى مساجد كثيرة، ووقف عليها وعلى من يقرأ [بها] (¬3) القرآن [وقوفا جليلة] (4). وحكى ابن الأثير [في تاريخه الكامل] (¬4): أنه أحصيت أوقاف نور الدين فكانت في كل شهر تسعة (¬5) آلاف دينار صورية، ليس فيها غير ملك صحيح شرعى باطنا وظاهرا، وأنه وقف ما انتقل إليه [من إرث والده] (¬6) أو وزن ثمنه، أو ما غلب عليه من بلاد الفرنج وصار سهمه. (¬7) وكان مع هذه الفضائل شديد الوقار، عظيم الهيبة، ضابطا لناموس الملك مع أصحابه وأجناده إلى غاية لا مزيد عليها. ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من س. (¬2) أنظر أخبار هذه الدار في (النعيمى: الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 99 وما يليها). (¬3) ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 1، ص 10) (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (56 ب)، وانظر أيضا: (ابن الأثير، الكامل، ج 11، ص 152). (¬5) كذا في الأصل، وفى: (ابن الاثير، نفس الجزء والصفحة)، وفى (الروضتين ص 10)، أما س ففيها: «تسع عشر ألف دينار مصرية». (¬6) ما بين الحاصرتين عن س، ولا وجود له في ابن الاثير أو في الروضتين. (¬7) وردت أخبار هيبته ووقاره في الروضتين (ص 10) نقلا عن ابن الاثير، ولا وجود لها في الكامل.

وكان إذا جلس لا يجلس أحد إلا بإذن، إلا الأمير نجم الدين أيوب بن شاذى - رحمه الله -، وأما من عداه كأسد الدين شيركوه، ومجد الدين بن الداية، وغيرهما، فإنهم كانوا يقفون بين يديه إلى أن يتقدم إليهم بالقعود؛ وكان (¬1) مجلسه - فيما روى - كصفة مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلس حكم وحياء، وهكذا كان مجلسه لا يذكر فيه إلا العلم والدين، وأحوال (¬2) الصالحين، والمشورة في أمر الجهاد، وقصد بلاد العدو. ولو أخذنا نعدد ذكر مناقبه (¬3) ومآثره لطال الكلام واتسع الشرح، وفيما أوردناه من ذلك كفاية. ولما توفى نور الدين - رحمه الله - رثاه عماد الدين الكاتب بقوله: عجبت من الموت كيف اهتدى (¬4) ... إلى ملك في سجايا ملك! وكيف ثوى الفلك المستدير ... في الأرض، والأرض وسط الفلك؟! وبقوله: يا ملكا أيامه لم تزل ... لفضله فاضلة فاخرة غاصت بحور الجود مذ غيّبت ... أنملك القابضة الزاخرة ملكت دنياك وخلّفتها ... وسرت حتى تملك الآخرة ¬

(¬1) وردت في هامش س (56 ب) بخط مخالف لأحد قراء النسخة هذه الجملة: «أخطأ الناقل لهذا اللفظ، فان مجالس الأنبياء أجل وأعظم من أن تشبه بمجالس الملوك». (¬2) س: «أقوال». (¬3) توجد ترجمة طويلة وافية لنور الدين في (النعيمى: الدارس في تايخ المدارس، ج 1، ص 606 - 616) وقد اعتمد فيها المؤلف على كثير من المؤرخين السابقين له ومنهم ابن واصل في كتابه هذا مفرج الكروب. (¬4) كذا في الأصل، وفى س، وفى (الروضتين، ج 1، ص 228): «أتى».

وبقوله من قصيدة: لفقد الملك العا ... دل يبكى الملك والعدل وقد أظلمت الآفاق ... لا شمس ولا ظلّ ولما غاب نور الدين ... عنا أظلم الحفل [167] وزال الخصب والخير ... وزاد الشرّ والمحل ومات البأس والجود ... وعاش اليأس والبخل وعزّ النقص لما ها ... ن أهل الفضل والفضل وهل ينفق ذو العلم ... إذا ما نفق الجهل وما كان لنور الدين ... لولا تجله (¬1) مثل ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى: (الروضتين، ج 1، ص 231)؛ وفى س (57 ا): «فقده».

مقدمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الناشر (1) أربع سنوات مضت منذ ظهر الجزء الأول من هذا الكتاب، وقد كنت أقدر أن يظهر هذا الجزء الثانى بعد سنة أو سنتين على أكثر تقدير، لولا أننى شغلت خلال هذه السنوات الأربع بأعمال علمية أخرى كثيرة (¬1)، ولولا أننى قضيت بعض هذه السنوات في رحلتين إلى المشرق وإلى المغرب، ففى إبريل سنة 1944 أرسلتنى جامعة الإسكندرية لأكون ممثلها في مؤتمر الدراسات العربية والإسلامية الذى عقدته ودعت إليه جامعة بشاور بالباكستان، وانتهزت هذه الفرصة النادرة فطوّفت في بلدان الشرق الإسلامى للتعرف على ما بها من آثار الحضارة الإسلامية، فزرت الهند وباكستان وأفغانستان وإيران والعراق وسوريا ولبنان، وكانت زيارة خاطفة سريعة استغرقت شهرين من الزمان لم ¬

(¬1) أشير هنا إلى بعض هذه الأعمال، وهى (The Fatimid Doeuments as a Sonroo for the Hi ory of the Fatimids and their Institntions. (Bulletin of the Faculty of Arts,Alexandia University.Vol. VIII,1954,P.P.1 - 21) الوثائق الفاطمية، مصادر جديدة لدراسة تاريخ الفاطميين (المجلة التاريخية المصرية، المجلد الخامس، 1956) - الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك، لتقى الدين أحمد بن على المقريزى (المجلد الثالث من مكتبة المقريزى الصغيرة) نشر جمال الدين الشيال. القاهرة 1955 - إناثة الأمة بكشف الغمة. للمقريزى (المجلد الرابع من مكتبة المقريزى الصغيرة، نشر زيادة والشيال، الطبعة الثانية. القاهرة 1957

أر فيهما إلا العواصم وبعض المدن الكبرى (¬1) وما بها من مساجد ومعاهد وآثار ومكتبات ومتاحف، ومع هذا فقد أفدت منها فوائد جمة. وفى سنة 1955 حصلت على منحة دراسية من مؤسسة روكفلر الأمريكية، ورحلت في سبتمبر من تلك السنة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فقضيت فيها وفى كندا ستة أشهر زرت فيها أهم الجامعات (¬2)، وخاصة تلك التي تعنى بدراسات الشرق الأدنى، أو تلك التي تضم مكتباتها مجموعات من المخطوطات العربية، وفى عودتى قضيت شهرا في لندن وباريس لزيارة مكتبة المتحف البريطانى والمكتبة الأهلية، وأشهد أننى أفدت من هذه الرحلة الثانية كذلك فوائد كثيرة. ومع هذا لم تشغلنى هذه الأعمال العلمية أو هذه الرحلات عن ابن واصل ومفرج كروبه، فكنت أعود إليه كلما وجدت سانحة من وقت فراغى، بل لقد اصطحبت تجارب الطباعة لهذا الجزء الثانى معى إلى الولايات المتحدة، وصححت جزءا كبيرا منها اثناء مقامى في جامعتى ييل وبرنستون. وبعد فإنى أسوق هذا الحديث عذرا للأصدقاء الكرام الذين استبطأوا إخراج هذا الجزء الثانى، وظنوا بى الظنون فحسبوا أننى انصرفت عنه أو تكاسلت عن العمل على إتمامه، فلعلهم يرضون، ولعلهم يغذرون. ¬

(¬1) المدن التي زرتها خلال هذه الرحلة هى: البصرة، كراتشى، بشاور، لاهور، دهلى، أجرا، كابل، غزنة، قندهار، هرات، إسلام قلعة، مشهد، طهران، بغداد، دمشق، بيروت. (¬2) الجامعات والمكتبات والمعاهد والمدن التي زرتها هى: جامعة ييل ومكتبتها، جامعة برنصتون ومكتبتها، جامعة هارنارد ومكتبتها، مكتبات نيويورك، معهه الدراسات الإسلامية في مونتريال بكندا، مدينة تورنتو بكندا، جامعة متثجن (آن أوبر) ومكتبتها، جامعة شيكاجو ومكتبتها، مكتبة الكونجرس في واشنطن

(2) وقد خرج هذا الجزء الثانى ضخما، فصفحاته (وتبلغ 545 صفحة) ضعف صفحات الجزء الأول، وذلك لأننى أردت أن يكون شاملا لعصر صلاح الدين كله من سنة 567 هـ‍ - وهى السنة التي توفى فيها نور الدين، وأصبح صلاح الدين مستقلا من الناحية الواقعية بحكم مصر - إلى سنة 589 هـ‍، وهى سنة وفاة صلاح الدين. فهذا الجزء إذن تاريخ لصلاح الدين وجهوده الكبيرة التي بذلها لتكوين الجبهة الإسلامية المتحدة، وجهاده الأعظم ضد قوى الصليبيين الذى توّج أخيرا بانتصاره الحاسم الرائع في موقعة حطين، واسترداده البيت المقدس بعد أن ظل تحت حكم الصليبيين قرابة قرن من الزمان. وهذا الجزء بمعنى آخر تأريخ لدولة صلاح الدين التي كانت تضم مصر والشام والجزيرة وبرقة واليمن وبلاد العرب، ثم هو تأريخ للبلاد المجاورة لهذه الدولة وما كان بين هذه وتلك من علاقات ود وصداقة، أو علاقات نزاع وتخاصم، فقد أفرد المؤلف فصولا للحديث عن بقايا البيت الأتابكى في حلب والموصل، ونزاع صلاح الدين مع أفراد هذا البيت في سبيل تكوين الجبهة الإسلامية الموحدة استعداد للجهاد الأعظم ضد العدو الأكبر، وفى هذا الجزء فصول أخرى عن اليمن، وحكامه من البيت الأيوبى، وأحواله الداخلية، وعلاقاته بمصر؛ وفصول أخرى عن محاولات تقى الدين عمر - ابن أخى صلاح الدين - وجنوده لفتح برقة ومدّ هذا الفتح في أقاليم المغرب المجاورة، وموقف صلاح الدين من هذا الفتح. وفى هذا الجزء إشارات كثيرة إلى الخلافة العباسية وإلى العلاقات بينها وبين صلاح الدين، وما أصابها أحيانا - وخاصة في عهد الخليفة الناصر لدين الله - من فتور.

وأشار ابن واصل إلى الرسائل التي أرسلها صلاح الدين عندما اشتد به الضيق أثناء حصار عكا إلى خليفة المغرب الموحدى يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن يسأله فيها أن يمده بمدد من أسطوله (¬1)، وإلى علاقات الود التي قامت بين صلاح الدين وامبراطور بيزنطة والرسائل المتبادلة بينهما، وإقامة الخطبة لصلاح الدين على منبر المسجد الموجود في القسطنطينية؛ وإلى علاقاته بدولة سلاجقة الروم المجاورة لملكه، وبسلاطينها. وهذا الجزء يعنى أيضا بالحديث عن علاقات الخصومة والعداء بين صلاح الدين والإمارات الصليبية، ثم بينه وبين الحملات الصليبية وملوك أوربا الذين تزعموا هذه الإمارات وهذه الحملات في نضالها. ولم تكن حياة صلاح الدين جهادا وحربا كلها، بل لقد كان الرجل منشئا بين المنشئين، وبنّاء بين البنائين، وراعيا للعلم والحضارة بين الراعين، لهذا نجد في هذا الجزء إشارات كثيرة لمنشآته وعمائره ومبانيه في مدن مصر والشام المختلفة من مدارس وخانقاوات وبيمارستانات وقلاع وأسوار، وخاصة في القاهرة والإسكندرية ودمياط وأيلة والقدس ودمشق. . . إلخ. وقد أفلح ابن واصل في رسم صورة واضحة لصلاح الدين البطل المجاهد، والإنسان، والقائد المحارب، والزاهد المتعبد، والعالم المحصل الذى يسعى لسماع الحديث وكتاب الموطأ على المحدثين الكبيرين السلفى وابن عوف، والذى يرعى العلم والعلماء. وهذا الجزء سجل كبير لدراسة حياة كبار رجال الدولة من الأسرة الأيوبية من أمثال: تقى الدين عمر بن شاهنشاه - ابن أخى صلاح الدين -، وتاج الملوك بورى وشاهنشاه، وطغتكين، وتورانشاه، والعادل أبى بكر - أخوة ¬

(¬1) أنظر نصوص هذه الرسائل كاملة في ملاحق هذا الجزء، ص 496 - 517

صلاح الدين -، وحياة كبار العلماء في العصر الصلاحى، من أمثال: كمال الدين الشهرزورى، وابن أبى عصرون، والقاضى الفاضل، وبهاء الدين بن شداد، وتاج الدين الكندى، وعماد الدين الأصفهانى. . . إلخ. - وفى هذا الجزء إشارات كثيرة قيمة للجيش والأسطول في عصر صلاح الدين، وللجيش والأسطول عند الصليبيين، ولأدوات القتال الكثيرة المختلفة عند الفريقين، ولفن الحرب والفروسية بوجه عام في هذا العصر الوسيط. ويمتاز هذا الجزء كذلك بعنايته أو انفراده أحيانا بمعالجة بعض النواحى الهامة: - ففى صفحة 276 إشارة إلى بعض محاولات الشيعة اليائسة لإعادة الدولة الفاطمية. - وابن واصل يعنى في هذا الجزء - كما عنى في الجزء الأول - بالتأريخ تفصيليا لمدن الشام الكبرى، وخاصة حماة وحلب وحمص والقدس وبعلبك. . . إلخ، فيتتبع تاريخها كلما ورد ذكرها، ويورد دائما ثبتا بأسماء من حكموها ويصل بهم إلى الوقت الذى كان يؤلف فيه الكتاب (¬1). - وفى ص 84، وص 206 إشارات واضحة إلى أن أعلام الدولة والجيش في عصر صلاح الدين كانت صفراء اللون. - وفى ص 343، وصف دقيق وطريف للعلم الصليبى. - وفى ص 282 و 283 إشارة إلى أن بعض أمراء الصليبيين بدأوا يتعلمون اللغة العربية ويتثقفون بالثقافة الشرقية، ويناقشون في الأمور الدينية الإسلامية، ¬

(¬1) أنظر مثلا فيما يلى ص 127، هامش 2.

فهو يقول عند حديثه عن «أرناط» صاحب صيدا وشقيف أرنون: " وكان صاحب دهاء ومكر، وكان من كبار الفرنج وعقلائهم، عارفا بالعربية، وعنده اطلاع على شىء من التواريخ والأحاديث. . . قال القاضى بهاء الدين: وكان يناظرنا في دينه ونناظره في بطلانه، وكان حسن المحاورة، متأدبا في كلامه. . . إلخ " - وقد انفرد ابن واصل هنا بالقول إن الخليفة العباسى الناصر لدين الله كان شيعيا، وذكر أن هذا كان السبب الذى دفعه إلى عزل ابنه أبى نصر محمد من ولاية العهد؛ وقد علّقت (¬1) على هذا الرأى مناقشا ومقارنا، لأننى لم أجد أحدا من المؤرخين المعاصرين الآخرين يوافقه عليه (¬2). - وفى ص 353 نص هام وطريف يشير إلى كثرة الأجناس الأروبية التي اشتركت في الحملة الصليبية الثالثة، وإلى تعدد ألسنة الجنود واختلاف لغاتهم، وإلى الصعوبات التي كان يجدها رجال صلاح الدين عند استجواب الأسرى أو المستأمنين من هؤلاء الجنود؛ يقول النص: «فاجتمع في هذه الجموع من الجيوش الغربية والألسنة الأعجمية من لا يحصر معدوده، ولا يتصور في الدنيا وجوده. . .، حتى إنه إذا أسر الأسير، واستأمن المستأمن احتيج في فهم لغته إلى عدة تراجم، ينقل واحد عن آخر، ويتولى ثان ما يقول أول، وثالث ما يقول ثان. . . إلخ». - وهذا الجزء دليل واضح على أن فن المفاوضات عند الانجليز فن قديم عتيق، يرجع تاريخه وتمتد جذوره إلى العصور الوسطى، فقد عنى ابن واصل ¬

(¬1) راجع فيما يلى هنا ص 281، هامش 4 (¬2) تفضل الصديق الكريم الأستاذ الدكتور مصطفى جواد فنبهنى إلى هذه الحقيقة، وأرشدنى إلى المراجع التي ترجمت للخليفة الناصر ولم تشر إلى تشيعه.

تفصيل الحديث عن المفاوضات المصرية الانجليزية (¬1) على عهد صلاح الدين ورتشارد، وهى المفاوضات التي ختمت بها الحملة الصليبية الثالثة والتي انتهت بصلح الرملة وعودة رتشارد إلى بلاده. - وفى ص 315 - 316 نصوص هامة تتضمن وصفا تفصيليا لبعض أدوات القتال في العصر الصليبى، فهى بهذا تفيد من يريد التأريخ لفن الحرب في ذلك العصر فائدة كبيرة. - ومن هذا القبيل ذلك النص الوارد في ص 395 والذى يدل على أن جيش صلاح الدين عرف نظام " التركبلى " (¬2) (3) وقد اعتمدت نسخة كمبردج - المرموز لها بحرف ك - أصلا للنشر في هذا الجزء، واتخذت من نسخة باريس رقم 1702 - المرموز لها بحرف س - أصلا ثانيا لمقارنة النص عليه وضبطه كلما اتفقت صفحات النسختين، وذلك لأن هذه النسخة الباريسية - كما سبق أن بينت في مقدمة الجزء الأول - مضطربة الصفحات، كثيرة الخروم (¬3) وعند انقطاع الصلة بين النسخة الأصلية والنسخة الباريسية كنت أرجع إلى المصادر الأخرى المعاصرة التي أخذ عنها المؤلف واتخذها أصلا ثانيا للمقارنة والضبط والتقويم. ¬

(¬1) راجع ما بلى هنا، ص 355 وما بعدها، وص 390 وما بعدها. (¬2) هذا مصطلح ونظام حربى هام عرفته جيوش بيزنطة، وجيوش الصليبيين، وجيوش الأتابكة والأيوبيين والمماليك، وعلى الرغم من أهميته لم يشر إليه ولم يفطن إليه أحد ممن أرخ للحروب الصليبية أو ممن نشر الأصول التاريخية العربية لهذا العصر - من المؤرخين والناشرين الشرقيين -، وقد قدمت في هذا الجزء لأول مرة تحقيقا لهذا المصطلح وشرحا دقيقا لهذا النظام، راجع فيما يلى، ص 149، هامش 1، وص 395، هامش 4 (¬3) راجع ص 9 - 11 من مقدمة الجزء الأول.

وقد اتخذت نسخة " ك " أصلا للنشر لأسباب كثيرة ذكرتها في مقدمة الجزء الأول، لعل أهمها أن النص فيها - دون غيرها من نسخ الكتاب - متصل غير منقطع، كامل غير منقوص، وحتى الأجزاء المتشابهة في النسختين تجدها في بعض الأحيان أكمل في نسخة " ك " منها في نسخة " س " (¬1). ومع هذا فان نسخة " س " لم تخل من فائدة، فقد وجدت أنها تمتاز أحيانا بوجود زيادات لها أهميتها لتوضيح النص (¬2)، وقد أثبتها في المتن بين حاصرتين وأشرت في الهوامش إلى صفحاتها. (4) وابن واصل لم يكن معاصرا لحوادث هذا الجزء، ولذلك فهو لا يزال ينقل عن غيره، والمصادر التي ينقل عنها هنا قليلة محدودة معروفة، وكلها مصادر معاصرة لها أهميتها، وأهمها: - البرق الشامى للعماد الأصفهانى. - والسيرة اليوسفية لبهاء الدين بن شداد. - والكامل في التاريخ لابن الأثير. - ومراسلات القاضى الفاضل. وقد صرح ابن واصل باسم المؤلف والكتاب اللذين ينقل عنهما أحيانا، واكتفى بالنص على اسم المؤلف أحيانا أخرى، وأهمل الإشارة إلى هذا أو ذاك أحيانا ثالثة، غير أننى تتبعته تتبعا مستمرا، واتخذت من هذه المراجع ¬

(¬1) راجع مثلا فيما يلى ص 25، هامش 6، وص 33، هامش 1 (¬2) راجع على سبيل المثال فيما يلى هنا، ص 35، هامش 2، ص 109، هامش 1، ص 270 هامش 1، ص 316، هامش 1 و 3

جميعا نسخا أخرى لمقارنة النص وضبطه وتقويمه، وأثبت هذه المقارنات والفروق والتصحيحات في الهوامش دائما، ثم دأبت على وضع خط تحت المراجع التي أخذ عنها المؤلف كلما ذكر ذلك ليتمكن الباحث من متابعة هذه المصادر وهذه النقول. وقد لا حظت أن للرجل - رغم نقوله - منهجا واضحا يعتمد على النقد والمقارنة والمفاضلة بين النصوص، واختيار الأفضل والأوثق، فهو لا ينقل أخبار الحادثة الواحدة عن مرجع واحد، بل يبدأ النقل عن مرجع ما، فيأخذ منه سطورا، ثم ينتقل إلى غيره فينقل سطورا أخرى، وقد يعود إلى المرجع الأول فيأخذ عنه، أو قد يتم النقل عن مرجع ثالث أو رابع، وهكذا (¬1)، وهو أثناء هذا كله يقارن بين النصوص ويشير إلى الفروق بين آراء المؤرخين ويأخذ بالرأى الذى يراه هو صحيحا، مع تبرير هذا الاختيار (¬2). ولم أكتف بمقارنة المتن على المراجع السابقة التي نص المؤلف على الأخذ عنها بل راجعته أيضا على مصادر معاصرة أخرى لم يشر إليها، مثل: مرآة الزمان لسبط ابن الجوزى، والروضتين لأبى شامة، لإيضاح أوجه الشبه والخلاف ولتنوير المتن وشرحه وضبطه. ومن مصادر ابن واصل في هذا الجزء بعض تجاربه الشخصية، وبعض الروايات الشفهية التي ينقلها عن أصدقائه ومعاصريه، ومثال ذلك ما نقله عن فخر الدين بن بصاقة فيما يتعلق بكنيسة القيامة والاعتقاد في نزول النور من السماء في يوم سبت النور وهو اليوم السابق لعيد الفصح (¬3). ¬

(¬1) راجع ص 81، هامش 2 (¬2) راجع مثلا، ص 40، 41 (¬3) أنظر ص 231 - 232

(5) وكان منهجى في نشر هذا الجزء هو نفس المنهج الذى اتبعته عند نشر الجزء الأول، فقد أخذت نفسى - بعد ضبط المتن وتقويمه - بضبط الآيات القرآنية الواردة في الكتاب، وتخريجها وذكر أرقامها وأرقام سورها في الهوامش. وهذا الجزء ملىء بالمقطوعات الشعرية للشعراء المعاصرين من أمثال العماد الأصفهانى (¬1)، ونشو الدولة على بن مفرج المنجم المصرى (¬2)، وأبى على الحسن بن على الجوينى (¬3)، وبهاء الدين أبى الحسن على بن الساعاتى (¬4)، وسبط بن التعاويذى (¬5)، وجمال الدين أبى غالب محمد بن سلطان بن الخطاب المقرئ (¬6)، وتاج الدين أبى اليمن الكندى (¬7) وابن سناء الملك (¬8)، والشريف الجوانى (¬9) محمد بن أسعد بن على، وابن رواحة (¬10)، والقاضى الفاضل عبد الرحيم بن على البيسانى (¬11)، ومحى الدين بن زكى الدين (¬12)، والملك ¬

(¬1) أنظر ص 30، 33، 36، 41، 43، 49، 56، 62 (¬2) أنظر ص 48 (¬3) أنظر ص 78 (¬4) أنظر ص 83، 198، 234، 404 (¬5) أنظر ص 89 (¬6) أنظر ص 99 (¬7) أنظر ص 125 (¬8) أنظر ص 137، 145، 160، 234 (¬9) أنظر ص 233 (¬10) أنظر ص 301 (¬11) أنظر ص 66 (¬12) أنظر ص 145

المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه (¬1). . . إلخ. . . إلخ، وقد بذلت الجهد كل الجهد لضبط هذا الشعر بالشكل بعد معارضته على دواوين هؤلاء الشعراء - إن وجدت -، أو على الكتب التاريخية أو الأدبية التي تضم هذه المقتبسات الشعرية. وللمقطوعات الشعرية التي يضمها هذا الجزء أهمية خاصة، فإن بعضها مما اتفرد ابن واصل بنقله، ولم أجده في المراجع التاريخية المعاصرة الأخرى، مثل قصيدة اين سناء الملك التي مطلعها: وصفتك واللاجى يعاند بالعذل ... فكنت أبا ذر، وكان أبا جهل كذلك اختيار ابن واصل لأبيات بعض المقطوعات الشعرية يختلف عن اختيار غيره من المؤرخين، كأبى شامة في الروضتين مثلا، بمعنى أنه قد يختار في المقطوعة الواحدة أبياتا اختارها أبو شامة عند الاستشهاد بهذه المقطوعة، وقد يختار أبياتا يغفل ذكرها أبو شامة، وخير مثال لهذا قصيدة ابن سناء الملك التي مطلعها: بدولة الترك عزّت ملّة العرب ... وبابن أيوب ذلت شيعة الصّلب وهذا الجزء بعد هذا كله يضم مجموعة طيبة من الشعر الذى قيل في مدح صلاح الدين والإشادة بذكره وجهوده التي توجت بفتح بيت المقدس. (6) وقد عملت كذلك على ضبط أسماء أمراء الصليبيين وملوكهم وقوادهم بالشكل، وأثبت هذه الأسماء بالحروف اللاتينيه في الهوامش مع الإشارة إلى المراجع ليرجع إليها القارئ إن أراد التأكد. ¬

(¬1) أنظر ص 236، 237، 238

كما ضبطت أسماء الأعلام الإسلامية، وكثير منها تركى أو فارسى أو كردى، وشرحت معناها - إن كان لها معنى -، وترجمت للرجال البارزين ترجمات مختصرة من أمثال: القاضى كمال الدين بن الشهرزورى (¬1)، وعز الدين جرديك (¬2)، ونجم الدين الخبوشانى (¬3)، وأبى على الحسن بن على الجوينى (¬4) وبهاء الدين أبى الحسن على بن الساعاتى (¬5)، وسبط بن التعاويذى (¬6)، والأمير مبارك بن كامل بن منقذ (¬7)، وابن سناء الملك الشاعر (¬8)، وصدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل شيخ الشيوخ (¬9)، والنسابة الشريف الجوانى محمد بن أسعد (¬10)، وابن رواحة الشاعر (¬11)، وسيف الدين على بن أحد المشطوب (¬12) إلخ. . . إلخ. وكذلك فعلت بالمواقع والأماكن والأعلام الجغرافية، فقد ضبطتها وعرفت بها في الهوامش، مع الإشارة في كل هذا إلى المصادر التي أخذت عنها ليرجع إليها من يريد التأكد أو الاستزادة. ¬

(¬1) راجع ص 20، هامش 7، وص 49، هامش 1 (¬2) أنظر ص 22، هامش 3 (¬3) أنظر ص 55، هامش 1 (¬4) أنظر ص 78 (¬5) أنظر ص 83 (¬6) أنظر ص 89، هامش 1 (¬7) أنظر ص 102، هامش 2 (¬8) أنظر ص 137، هامش 3 (¬9) أنظر ص 162، هامش 3 (¬10) أنظر ص 233، هامش 1 (¬11) أنظر ص 300، هامش 3 (¬12) أنظر ص 410، هامش 1

(7) وهذا الجزء من مفرج الكروب يتضمن عددا كبيرا من الوثائق الرسمية، ومعظمها بقلم القاضى الفاضل أو العماد الأصفهانى، من الرسائل المتبادلة بين صلاح الدين والديوان العزيز (أي الخلافة العباسية)، وبينه وبين إخوته في مصر أو اليمن، وبينه وبين أفراد البيت الأتابكى، وبينه وبين امبراطور بيزنطة، وبينه وبين خليفة المغرب الموحدى يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن. وكان ابن واصل يشير إلى الوثيقة حينا ولا يثبتها، وكان يشير إلى الوثيقة حينا آخر ولا ينقلها كلها وإنما يقتبس منها الفقرات الهامة، وكان يشير إلى الوثيقة وينقلها كاملة حينا ثالثا؛ وهناك وثائق أخرى كثيرة لم يشر إليها ولم ينقل عنها، ومعظم هذه الوثائق موجودة في كتاب الروضتين لأبى شامة أو في كتاب صبح الأعشى للقلقشندى، ولهذا آثرنا أن ننقل بعض هذه الوثائق في مجموعة الملاحق في نهاية هذا الجزء، لأهميتها ولأنها تلقى أضواء جديدة (¬1) على عصر صلاح الدين في نواحيه المختلفة. ¬

(¬1) بدأت الدعوة منذ سنوات لتنبيه الأذهان إلى أهمية الوثائق كمصادر أساسية وجديدة لدراسة التاريخ الإسلامى، وأخذت نفسى بمشروع ضخم لجمع الوثائق التاريخية لمصر الإسلامية في عصورها المختلفة ودراستها، وبدأت بالعصر الفاطمى، والمجموعة الأولى من الوثائق الفاطمية تحت الطبع الآن، وقد وجدت في نشر مفرج الكروب فرصة سانحة للتمهيد لجمع وثائق العصر الأيوبى، وقد ألحقت بهذا الجزء إحدى وعشرين وثيقة منها. وللتعرف على أهمية هذا الموضوع راجع: Gamal Eldin EI - shayal : The Fatimid Documents as a Source for the History of the Fatimids and their Institutions (Bulletin of the FacuIty of Arts .Alexandria University,vol .VIII,1954) وجمال الدين الشيال، الوثائق الفاطمية، مصادر جديدة لدراسة تاريخ الفاطميين (المجلة التاريخية المصرية، المجلد الخامس، 1956).

وأهم الوثائق التي نقلها ابن واصل كاملة أو منقوصة، أو التي أتينا بها في الملاحق: - الرسالة التي أرسلها صلاح الدين إلى الخليفة العباسى بعد استقلاله بمصر سنة 570 هـ‍، يعدد فيها جهوده وفتوحه، ففى هذه الرسالة نص هام عن عدد السودانيين في الجيش المصرى في أواخر العصر الفاطمى، وفيها نص آخر يشير إلى استخدام الأرمن المسيحيين في الجيش الفاطمى. - وأول خطبة خطب بها محى الدين بن زكى الدين في المسجد الأقصى بعد استعادة صلاح الدين للبيت المقدس، فهذه الخطبة في الحقيقة من أجمل ما قرأت ومن أجمل ما كان يمكن أن يقال في هذه المناسبة التاريخية العظيمة. - والرسائل التي أرسلها صلاح الدين إلى خليفة المغرب الموحدى يعقوب ابن يوسف يستنجد به وبأسطوله، وذلك عندما اشتد حصار الصليبيين لمدينة عكا؛ فهذه الرسائل في الواقع تلقى أضواء جديدة على العلاقات بين صلاح الدين ودولة الموحدين في المغرب، ولأهميتها أثبتنا نصوصها كاملة في ملاحق هذا الجزء. (8) وهذا الجزء كسابقه ملىء بالمصطلحات الإدارية والحربية والاجتماعية التي كانت مستعملة في ذلك العصر، ومعظمها مأخوذ عن لغات غير عربية، كالتركية، والفارسية، واليونانية، وغيرها، مثل: الدست (ص 1، هامش 6)، والبرك (ص 5، هامش 2)، والأسطول (ص 11، هامش 1)، والشينى (ص 13، هامش 1)، واليزك (ص 38، هامش 3) والجاليش (ص 41، هامش 1)، والكزاغند (ص 44، هامش 5) والخركاه (ص 45، هامش 2)، والطّلب (ص 59، هامش 3)، والقسطلان

(ص 76، هامش 3)، والبطسة (ص 77، هامش 1)، والباشورة (ص 80 هامش 2)، والبيكار (ص 95، هامش 1)، والقولنج (ص 106، هامش 3) واللالكة (ص 121، هامش 4)، والتركبلى (ص 150، هامش 3)، والنمجاة (ص 195، هامش 1)، والزنبورك (ص 244، هامش 1)، والجفتا (ص 258، هامش 1)، والزيار (ص 262، هامش 4)، والجماق (ص 266، هامش 3)، والطارقيات (ص 279، هامش 3)، والجاووش (ص 295، هامش 1)، والخربندة (ص 303، هامش 5)، والرزمة (ص 305، هامش 1)، والوطاق (ص 325، هامش 3)، والحراقة (ص 337، هامش 2)، والبركوس (ص 337، هامش 2)، والزردخاناه (ص 357، هامش 4)، والكبر (ص 365، هامش 1)، والبيرق (ص 397 هامش 2)، والزّربول (ص 398، هامش 5)، والإكديش (ص 427، هامش 1). إلخ. . . إلخ. وقد شرحنا هذه المصطلحات (¬1) في الهوامش شرحا وافيا بقدر ما سمحت لنا به المراجع، وأشرنا إلى هذه المراجع في نهاية الشرح ليرجع إليها من أراد. ولا زلت أرى وأكرر أن العناية بشرح هذه المصطلحات عند نشر الأصول التاريخية القديمة أمر واجب، لأن هذه المصطلحات من الأدوات الهامة التي لا يمكن لمن يريد التأريخ لنظم الحكم في العالم الإسلامى على تلك العصور الاستغناء عنها، وسنفرد لهذه المصطلحات فهرسا خاصا بها مع بقية الفهارس التفصيلية في نهاية الجزء الثالث بإذن الله. ¬

(¬1) الكثير من هذه المصطلحات يشرح هنا لأول مرة شرحا وافيا مستفيضا مع ذكر المراجع، والكثير منها مصطلحات حربية لابد لمن يؤرخ لفن الحرب في تلك العصور من أن يتعرف عليها ويفهمها فهما دقيقا.

(9) وفى هذا الجزء - كما كان في سابقه - نصوص تساعد الباحث على تحديد تاريخ تأليف الكتاب: - ففى صفحة 35 نص يشير إلى أن المؤلف كان يكتب هذا الجزء من الكتاب بعد سنة 662 هـ‍. - وفى صفحة 413 نص يشير إلى أن المؤلف كان يكتب هذا الجزء من الكتاب بعد سنة 663 هـ‍. - وفى صفحة 75 نص صريح يقطع كل شك، ففيه ينص المؤلف على أنه بدأ يؤلف هذا الكتاب في سنة 671 هـ‍، فقد قال عند كلامه عن الملك المنصور الثانى صاحب حماة، الذى ألف الكتاب باسمه: " فقد مضى من مدة ملكه وملك آبائه إلى يوم تأليف هذا الكتاب، وهو سنة إحدى وسبعين وستمائة نحو من سبع وتسعين سنة ". - وفى ص 127 نص آخر يشير إلى أنه كان يكتب هذا الجزء من الكتاب بعد تولى السلطان قلاوون الحكم، أي بعد سنة 678 هـ‍. وفى هذا الجزء نصوص أخرى تلقى بعض الضوء على سيرة المؤلف وأسرته؟ ففى ص 407 نص يفيد أن الملك المعظم عيسى كان قد عين والد المؤلف سالم ابن واصل مدرسا بالمدرسة الصلاحية في بيت المقدس في سنة 622 هـ‍، وأن المؤلف نفسه جمال الدين كان مقيما في القدس مع أبيه إلى سنة 624 هـ‍. وفى ص 231 - 232 نص هام يشير إلى زيارات المؤلف المتكررة لكنيسة القيامة أثناء مقامة في القدس.

بقيت نقطة أخيرة تتصل بالفهارس الأبجدية التفصيلية لهذا الجزء وللجزء السابق، وقد كنت وعدت في مقدمة الجزء الأول أن أنشر فهارس الجزئين معا في نهاية هذا الجزء، غير اننى رأيت أن هذا الجزء قد تضخم، ولو ألحقت به الفهارس لزادت ضخامته، لهذا آثرت أن أضع هذه الفهارس في نهاية الجزء الثالث - إن شاء الله - لتكون شاملة للأجزاء الثلاثة جميعا، وخاصة أننى أقدر أن يخرج الكتاب في ستة أجزاء، وبذلك يكون له فهرسان، يضم كل منهما ثلاثة من الأجزاء. (10) وبعد فهذا هو الجزء الثانى من مفرج الكروب، وهذا هو منهجنا في نشره، قد بذلنا الجهد، والوقت كل الوقت في دراسته وتحقيقه وإعداده للنشر، وإنا لنرجو مخلصين أن نكون أدينا الأمانة العلمية حق أدائها، ولا يستطيع أن يدرك قدر ما بذلنا من عناء إلا من عانى هذا النوع من العمل العلمى، والتزم هذا المنهج من التدقيق وتحرى الحقيقة، (ولا يدرك الشوق إلا من يكابده)، وأشهد أننى كنت أقضى أحيانا الأسبوع والأسبوعين بل والشهر جريا وراء مصطلح غامض أسعى لتحقيقه والتعريف به، والله نسأل أن يهبنا الصحة والقوة لإكمال هذا الكتاب، وأن ييسر مواطنينا في مصر والشرق، والمعنيين بدراسة هذه الحقبة من التاريخ بوجه عام للإفادة منه. والحق أشهد أن الترحيب الذى قوبل به الجزء الأول في الأوساط العلمية في مصر، وفى المشرق والمغرب على حد سواء، وأن التشجيع الذى لقيته من الأصدقاء والزملاء؛ أشهد أن هذا كله كان له في نفسى الأثر أطيب الأثر مما دفعنى إلى الاستمرار قدما في سبيل إنجاز هذا الكتاب. وقد تفضل بعض الزملاء والأصدقاء من أساتذة التاريخ فنقدوا الجزء الأول مشجعين ومقرظين، فنقده أستاذى الجليل لدكتور محمد مصطفى زيادة أستاذ

تاريخ العصور الوسطى ورئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة في مجلة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية (¬1)، ونقده الصديق الكريم الدكتور حسين مؤنس، أستاذ التاريخ الإسلامى بجامعة القاهرة، في مجلة المعهد المصرى بمدريد (¬2) ونقده الصديق العزيز الأستاذ كلود كاهن Claude Cahen أستاذ تاريخ العصور الوسطى في جامعة سترا سبورج، في مجلة «Oriens - اورينز» (¬3). وتفضل الصديق الكريم الأستاذ الدكتور مصطفى جواد، الأستاذ بدار المعلمين العالية ببغداد، فأرسل إلى خطابا خاصا فيه تقريظ وتقدير، وفيه نقد طويل مفصل يدل على علم غزير وعلى معرفة أكيدة نادرة بالمكتبة التاريخية الإسلامية، وقد نشرنا هذا النقد كاملا في نهاية هذا الجزء. فإلى هؤلاء الأصدقاء جميعا وإلى كثيرين غيرهم أقدم أجزل آيات الشكر، وأرجو أن أكون قد أدركت ما فاتنى وحققت بعض ملاحظاتهم عند نشر هذا الجزء الثانى. وأتقدم بالشكر الجميل كذلك إلى أستاذى الجليل، عميد المؤرخين المصريين، الأستاذ محمد شفيق غربال، وإلى المستشرقين الكبيرين: الأستاذ جب، ¬

(¬1) انظر: (المجلة التاريخية المصرية، المجلد الرابع، العدد الأول، مايو 1951 - وإن كان هذا العدد قد تم طبعه في سنة 1954 - ، ص 252 - 257). (¬2) انظر: (صحيفة المعهد المصرى للدراسات الإسلامية في مدريد، المجلد الثانى، 1954، العدد 1 - 2). (¬3) Claude Cahen : Ibn Wasil (m .b .Salim,Gamal ad - Din) - Mufarrig al - Kurub fi Akhbar bani Ayyub . ed .Gamal ad - Din as - Shayyal .Alexandria .Universite Fouad 1,1953. P. P. 24, 294 Dans : Oriens .vol .9,No .1,1956. وانظر أيضا الترجمة العربية لهذا النقد في مجلة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، العدد العاشر، 1956

الأستاذ بجامعة هارفارد، والأستاذ برنارد لويس الأستاذ بجامعة لندن، وإلى الصديقين الكريمين: السيد طاهر النعسانى من علماء حلب، والسيد قدرى كيلانى من علماء حماة، على كلمات التقدير والتشجيع التي تفضلوا جميعا بتقديمها إلى. وأخص بالشكر أخيرا أستاذى الجليل الأستاذ الدكتور محمد مصطفى زيادة، فقد غمرنى بفضله مرة أخرى، وتفضل بمراجعة هذا الجزء الثانى والنظر فيه قبل تقديمه للمطبعة. والله أسأل أن يوفقنى للعمل الصالح، ولخدمة هذا الوطن العربى العزيز وتاريخه جمال الدين الشيال الإسكندرية في 20 رمضان 1376 - 20 أبريل 1957

مراجع التحقيق تضاف هذه المراجع إلى قائمة المراجع التى استعملت فى تحقيق (الجزء الأول)

مراجع التحقيق تضاف هذه المراجع إلى قائمة المراجع التي استعملت في تحقيق (الجزء الأول) (أ) المراجع العربية البتانونى (محمد لبيب) - رحلة الأندلس، القاهرة، الطبعة الثانية، (بدون تاريخ) ابن بعرة (منصور الكاملى، الذهبى) - كشف الأسرار العلمية، بدار الضرب المصرية، مخطوطة بدار الكتب المصرية بالقاهرة. ابن بطوطة - مهذب الرحلة، نشر أحمد العوامرى، ومحمد أحمد جاد المولى، جزءان القاهرة، 1933 - 1934 البلوى (أبو محمد عبد الله بن محمد المدينى) - سيرة أحمد بن طولون، نشر محمد كردعلى، دمشق، 1939 ابن الجيعان (شرف الدين يحيى) - التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية، نشر مورتز، القاهرة، 1898 ابن حجر (شهاب الدين أحمد بن على، العسقلانى) - لسان الميزان، 6 أجزاء، حيدرآباد، 1329 - 1331

ابن حمديس (أبو محمد عبد الجبار بن أبى بكر، الصقلى) - ديوانه، رومة، 1897 الخفاجى (شهاب الدين أحمد) - شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل، بولاق، 1282 ابن خلدون (عبد الرحمن) - المقدمة، القاهرة، 1322 الذهبى (شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان) - تذكرة الحفاظ، 4 أجزاء، حيدر آباد (بدون تاريخ) الزبيدى (السيد المرتضى) - تاج العروس من جواهر القاموس، 10 أجزاء، القاهرة، 1306 - 1307 ابن الساعاتى (بهاء الدين أبو الحسن على بن محمد بن رستم) - ديوان شعره، مجلدان، نشره أنيس المقدسى، بيروت، 1938 - 1939 (مطبوعات الجامعة الأمريكية في بيروت). سبط ابن التعاويذى (أبو الفتح محمد بن عبيد الله) - ديوان شعره، نشر مرجليوث، القاهرة، 1903 السلفى (أبو طاهر عماد الدين أحمد بن محمد) - معجم السفر، مخطوط بدار الكتب المصرية. ابن سناء الملك (أبو القاسم هبة الله بن جعفر) - دار الطراز، نشر الدكتور جودة الركابى، دمشق، 1949 - ديوان شعره، صور شمسية بدار الكتب المصرية، رقم 4931 أدب.

السيوطى (جلال الدين عبد الرحمن) - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، القاهرة، 1326 - طبقات الحفاظ، 3 أجزاء، غوطا، 1833 ابن شاهين (غرس الدين خليل) - زبدة كشف الممالك، وبيان الطرق والمسالك، باريس، 1894 الشيال (جمال الدين) - شاعر من البيت الأيوبى، تاج الملوك بورى، مقال بمجلة الثقافة، العدد 130، 24 يونيو 1941 - مجمل تاريخ دمياط، الإسكندرية، 1949 - الوثائق الفاطمية مصادر جديدة لدراسة تاريخ الفاطميين (المجلة التاريخية المصرية، المجلد الخامس، 1956) الصابى (أبو اسحاق هلال) - تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء، القسم الأول، بيروت، 1904 صالح بن يحى - تاريخ بيروت وأخبار الأمراء البحتريين من بنى المغرب، نشر لويس شيخو، بيروت، 1898 الصفدى (صلاح الدين خليل بن أيبك) - نكت الهميان في نكت العميان، نشر أحمد زكى باشا، القاهرة، 1910 الطرطوشى (أبو بكر محمد بن محمد) - سراج الملوك، القاهرة، 1935

ابن عربى (محيى الدين) - محاضرة الأبرار، ومسامرة الأخيار، في الأدبيات والنوادر والأخبار، القاهرة، 1906 العماد الأصفهانى (أبو عبد الله محمد بن محمد) - الفتح القسى في الفتح القدسى، القاهرة، 1321 عنان (محمد عبد الله) - مصر الإسلامية، القاهرة، 1931 العنيسى (القس طوبيا، الحلبى) - تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية مع ذكر أصلها، القاهرة، 1932 ابن الفرات - تاريخ الدول والملوك، صور شمسية بدار الكتب المصرية، رقم 3297 عن نسخة فيينا. محمد بن الحسن (الديلمى اليمانى) - قواعد عقائد آل محمد، القاهرة، 1950 مختار (اللواء محمد، باشا) - التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الأفرنكية والقبطية، مطبعة بولاق، القاهرة، 1311 هـ‍. المقريزى (تقى الدين أحمد بن على) - اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا، مخطوطة طوب قبو سراى - إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع، الجزء الأول، نشر محمود شاكر، القاهرة، 1941

- البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب، نشر إبراهيم رمزى القاهرة، 1916 ابن منقذ (أسامة) - كتاب الاعتبار، نشر فيليب حتى. النويرى (شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب) - نهاية الأرب في فنون الأدب، ظهر منه الآن 18 جزءا، طبع دار الكتب المصرية، القاهرة، 1923 - 1956 ابن هذيل (على بن عبد الرحمن، الأندلسى) - حلية الفرسان وشعار الشجعان، نشر محمد عبد الغنى حسن، القاهرة، 1949 ابن هشام (أبو محمد عبد الملك) - السيرة النبوية، نشر مصطفى السقا، وإبراهيم الابيارى، وعبد الحفيظ شلبى، 4 أجزاء، القاهرة، 1936 (ب) المراجع غير العربية

ذكر ملك الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل نور الدين محمود بن [عماد الدين] زنكى بى آق سنقر

[عصر صلاح الدين (567 - 589 هـ‍)] ذكر (¬1) ملك الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل نور الدين محمود بن [عماد الدين] (¬2) زنكى بى آق سنقر ولما توفى نور الدين - رحمه الله - اتفق الأمراء على ملك (¬3) ولده الملك الصالح إسماعيل - وهو صغير السن ولم يبلغ الحلم - فأخرجوه بعد وفاة أبيه مجزوز الذوائب (¬4) مشقوق الجيب حاسرا (¬5) حافيا، وهو يبدى الحزن والعويل، فأجلسوه في الإيوان الشمالى من الدّست (¬6)، والتخت (¬7) الباقى من عهد تاج الدولة تتش السلجوقى [بالقلعة التي بدمشق] (2) ووقف الناس يبكون ويتلهفون، فلما كفّن نور الدين - رحمه الله - ودفن قوّضوا الجزع وكفكفوا الدمع، وأحضروا المصحف (¬8)، وحضر القاضى كمال الدين بن الشهرزورى، والأمير شمس الدين محمد بن المقدّم، والطواشى ¬

(¬1) يتقابل النص هنا مع نسخة ص في متصف (ص 57 أ). (¬2) ما بين الحاصرتين عن ص. (¬3) ص: " تملك ". (¬4) الأصل: " الشوايب " والتصحيح عن (س)، والعماد الأصفهانى - وهو الأصل المنقول عنه - انظر: (الروضتين، ج 1، ص 230). (¬5) مكان هذا اللفظ في س: " مكشوف الرأس ". (¬6) الدست معرب دشت الفارسية ومعناها الصحراء، وللفظ معان كثيرة أخرى منها: صدر البيت، وهو المقصود هنا في المتن، وللالمام بالمعانى الأخرى انظر: (الشهاب الخفاجى، شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل، ص 97 - 98) و (DOZY : Supp .Dict .Arab) . (¬7) التخت هو سرير الملك أو العرش. (¬8) س (57 ب): " الأصحاب "، وعند العماد: " الربعة ".

جمال الدين ريحان - وهو من (¬1) أكبر الخدم -، والعدل شهاب الدين أبو صالح ابن العجمى أمين (¬2) الأعمال، والشيخ إسماعيل خازن بيت المال؛ وتحالفوا على أن تكون أيديهم واحدة وأنهم لا يختلفون، وأن تقدمة العسكر للأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك [بن] (¬3) المقدم، وإليه المرجع في الأمور كلها. وحلفوا للملك الصالح [إسماعيل] (3)، واستحلفوا له الناس، وكاتبوا ولاة الأطراف بالحلف له (¬4)، وإقامة الخطبة باسمه، واستتبت الأمور واستقرت له القواعد. ثم تقدموا بإنشاء كتاب (¬5) إلى الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - في التعزية بنور الدين، وكان المنشىء له عماد الدين الكاتب، والترجمة بخط الملك الصالح ما صورته: " إسماعيل بن محمود "؛ وأوله: " أطال الله بقاء سيدنا الملك الناصر، وعظّم أجرنا وأجره في والدنا الملك العادل، ندب (¬6) الشام بل الإسلام حافظ ثغوره، وملاحظ أموره، [168] وعدم الجهاد مقتنى فضيلته، ومؤدى فريضته، ومحى سنته، وأورثنا بالاستحقاق ملكه وسريره، على أنه يعز أن يرى الزمان نظيره، وما هاهنا ما يشغل السر، ويقسم الفكر، إلا أمر الفرنج - خذلهم الله -؛ وما كان ¬

(¬1) النص عند العماد - وهو الأصل المنقول عنه -: " وهو أكبر الخدم "؛ (الروضتين ج 1، ص 230). (¬2) س " أمير "، وما هنا يتفق ونص العماد. (¬3) ما بين الحاصرتين عن ص. (¬4) س: " للأيمان ". (¬5) علم صلاح الدين بخبر موت نور الدين قبل أن يصله هذا الخطاب من أبنه، فأرسل في الحال خطابا بانشاء القاضى الفاضل يسأل عن صحة الخبر، ويصدر تعليماته إذا كان صحيحا، انظر نص هذا الخطاب في (الروضتين، ج 1، ص 230). (¬6) س: " بدن " وما هنا يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 1، ص 230).

اعتماد مولانا الملك العادل عليه وسكونه إليه إلا لمثل هذا الحادث الجلل (¬1) والصرف الكارث المذهل، فقد ادخره لكفايات النوائب، وأعدّه لحسم أدواء المعضلات اللوازب؛ وأمّله ليومه ولغده (2)، ورجاه لنفسه ولولده (¬2)، ومكّنه قوة لعضده؛ فما ففد - رحمه الله - إلا صورة، والأصل (¬3) باق، والله تعالى حافظ لبيته (¬4) واق، وهل غيره - دام سموه - من مؤازر؟ وهل سوى السيد الأجل الناصر من ناصر؟ وقد عرفناه المفترح ليروض برأيه من الأمر ما جمح، والأهم شغل الكفار عن هذه الديار، بما كان عازما عليه من قصدهم والنكاية فيهم على البدار، ويجرى على العادة الحسنى في إحياء ذكر الوالد هناك، بتجديد ذكرنا، راغبا في اغتنام ثنائنا وشكرنا " (¬5). وكان القاضى كمال الدين الشهرزورى قد أشار على الأمير شمس الدين بن المقدم - (6) وهو القيم (¬6) بتربية الصالح وأتابكيته -، وعلى جماعة الأمراء بالانقياد إلى صلاح الدين والرجوع إلى ما يشير به، وقال لهم: " قد علمتم أن صلاح الدين صاحب مصر، وهو من أصحاب نور الدين ونوابه، والمصلحة أن يشاور في الذى نفعله، ولا نخرجه من بيننا، فيخرج عن طاعتنا [ويجعل ذلك حجة علينا، وهو أقوى منا لانفراده بملك ديار مصر] (¬7) فلم يوافق هذا القول أغراضهم، وخافوا أن صلاح الدين يدخل البلاد ويخرجهم. ¬

(¬1) س: " الطلل "، والأصل: " الحلل الحادث "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 1، ص 230). (¬2) الأصل: " وغده " و " وولده "، والتصحيح عن العماد. (¬3) نص العماد: " والمعنى ". (¬4) الأصل: " لبنيه " وس " لنفسه " وما هنا عن العماد (الروضتين ج، 1، ص 230). (¬5) بعد هذا اللفظ في س: " في إحياء ذكرنا ". (¬6) هذان اللفظان ساقطان من س. (¬7) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ص 58 أ) ويتفق مع نص ابن الأثير، وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا.

ذكر جواب الرسالة الواردة إلى صلاح الدين من الملك الصالح

ذكر جواب الرسالة الواردة إلى صلاح الدين من الملك الصالح ولما وردت الرسالة المتضمنة التعزية إلى صلاح الدين جلس [لعزاء نور الدين ثلاثة أيام، وفى اليوم الثالث] (¬1) أمر فأقيمت الخطبة بالديار المصرية للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، وضربت السكة باسمه، وورد منه كتاب إلى الملك الصالح بالمثال الفاضلى أوله: [169] " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (¬2) " وفى آخره: " فصل: أصدر هذه المكاتبة يوم الجمعة رابع ذى القعدة، وهو اليوم الذى أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم، وصرح فيه بذكره في الموقف العظيم، والجمع الذى لا لغو فيه ولا تأثيم، وأشبه يوم الخادم أمسه في الخدمة، ووفى ما لزمه من حقوق النعمة، وجمع كلمة الإسلام عالما بأن الجماعة رحمة. والله تعالى يخلّد ملك المولى الملك الصالح ويصلح به وعلى يديه، ويؤكد عهود النعماء الراهنة لديه، ويجعل الإسلام واقية باقية عليه، ويوفق الخادم لما ينويه من توثيق سلطانه وتشييده، ومضاعفة ملكه ومزيده، وييسر منال (¬3) كل أمل صالح وتقريب بعيده، إن شاء الله تعالى ". ¬

(¬1) في الأصل: " جلس لعزائه وأمر فأقيمت. . . إلخ " وما هنا صيغة س. (¬2) أورد صاحب (الروضتين، ج 1، ص 230 - 231) سطورا أخرى من هذه الرسالة رأيتا من المفيد إثباتها هنا، وهى: " وأما العدو - خذله الله - فوراءه من الخادم من يطلبه طلب ليل لنهاره، وسيل لقراره، إلى أن يزعجه من مجاثمه، ويستوقفه عن مواقف مغانمه، وذلك من أقل فروض البيت الكريم وأيسر لوازمه، أصدر هذه الخدمة يوم الجمعة رابع ذى القعدة. . . إلخ). (¬3) س: " وينشر مثال "، والأصل: " مآل "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 1، ص 231).

ذكر استيلاء سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى على البلاد الجزيرية

ذكر استيلاء سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى على البلاد الجزيرية (¬1) كنا ذكرنا أن نور الدين - رحمه الله - قبل وفاته كان قد أرسل إلى الموصل والبلاد الشرقية والجزرية وغيرها يستدعى العساكر لأجل الغزاة، وأن مراده كان قصد الديار المصرية، وأن الأقدار عاقته عن بلوغ غرضه، فسار سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود بن زنكى في عساكر الموصل قاصدا خدمة عمه نور الدين، وعلى مقدمته سعد الدين كمشتكين، وهو الذى كان نور الدين جعله نائبا بقلعة الموصل مع سيف الدين - كما تقدم ذكره -؛ فلما كانوا ببعض الطريق وصلتهم الأخبار بوفاة نور الدين - رحمه الله - فهرب سعد الدين لأنه كان في المقدمة، وأخذ سيف الدين كلما له من برك (¬2) وغيره، وعاد إلى نصيبين فملكها، وأرسل الشحن إلى الخابور فملكه وأقطعه، ثم سار إلى حرّان فحصرها عدة أيام، وبها مملوك لنور الدين يقال له قايماز الحرّانى، فامتنع بها، [وأطال الامتناع] (3)، ثم أطاع [بعد ذلك] (3) على أن تكون حرّان له، ونزل إلى خدمة سيف الدين فقبض عليه، وأخذ حرّان منه. ثم سار إلى الّرها فحصرها وملكها، وكان بها خادم خصى [أسود] (¬3) لنور الدين، فسلمها (¬4)، وأخذ عوضا عنها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن عمر، ¬

(¬1) س: " على الجزيرة ". (¬2) البرك المتاع الخاص من ثياب وقماش. أنظر: (Dozy : Supp .Dict .Arab) . (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (59 أ) ويتفق مع نص (ابن الاثير: الكامل، ج 11، ص 153) وهو الأصل الذى ينقل عنه المؤلف هنا. (¬4) الأصل: " فتسلمها "، والتصحيح عن ابن الأثير.

فأعطيها، ثم أخذت منه، ثم بعث [سيف الدين] (¬1) إلى الرّقة من تسلمها، وكذلك سرّوج، [170] وكذلك جميع البلاد الجزيرية، سوى قلعة جعبر، فإنها كانت منيعة، وسوى رأس العين، فإنها كانت لقطب الدين صاحب ماردين - وهو ابن خال سيف الدين -، فلم يتعرض لها. وكان بحلب الأمير شمس الدين على بن الداية - وهو (¬2) من أكبر الأمراء النورية - في عساكر حلب، فلم يقدر على العبور إلى سيف الدين ليمنعه من أخذ البلاد لفالج كان به، فأرسل إلى دمشق يطلب الملك الصالح ليكون بحلب، فامتنع شمس الدين بن المقدّم وجماعة الأمراء من إرساله، خوفا أن يغلبهم عليه شمس الدين بن الداية، فإنه كان أكبر الأمراء النورية، وكان هو وأخوته بحلب، وأمرها إليهم، وعساكرها معهم في حياة نور الدين وبعده، وإنما قصد [ابن الداية] (1) من مجىء الملك الصالح إلى حلب ليمنع به البلاد الجزيرية من ابن عمه سيف الدين بن قطب الدين مودود. ولما ملك سيف الدين البلاد الجزيرية قال له فخر الدين عبد المسيح - وكان قد وصل إليه من سيواس بعد موت نور الدين، وهو الذى أقرّ له الملك بعد أبيه قطب الدين كما تقدم ذكره، فظن أن سيف الدين يرعى له ذلك، فلم يجن ثمرة ما غرس، وكان عنده كبعض الأمراء -، فقال له: " الرأى أن تعبر إلى الشام فليس به مانع ". فقال له محمود - المعروف بزلقندار - (¬3) " قد ملكت أكثر ما كان لأبيك، والمصلحة أن تعود ". فرجع إلى قوله وعاد إلى الموصل. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير. (¬2) نص (ابن الأثير، ج 11، ص 153): " وهو أكبر ". (¬3) ص (59 ب): " بركفندار ". وهكذا رسم الامم في الأصل المنقول عنه وهو (ابن الأثير)

ذكر منازلة الفرنج بانياس وعودهم عنها

ولما بلغ الملك الناصر صلاح الدين ما فعل سيف الدين كتب إلى القاضى كمال الدين بن الشهرزورى والأمراء يقول: " لو أن نور الدين علم أن فيكم من يقوم مقامى، أو يثق إليه مثل ثقته بى، لسلم إليه مصر التي (¬1) هى أعظم ممالكه وولاياته (¬2)، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته غيرى، وأراكم قد تفردتم بمولاى وابن مولاى دونى، وسوف أصل إلى خدمته، وأجازى [إنعام والده بخدمة يظهر أثرها، وأقابل] (¬3) كلا منكم على سوء صليعه في ترك الذّب عن بلاده ". ذكر منازلة الفرنج بانياس وعودهم عنها [171] ولما علم الفرنج وفاة نور الدين - رحمه الله - اجتمعوا وساروا إلى قلعة بانياس وحصروها، فجمع الأمير شمس الدين بن المقدّم العساكر عنده بدمشق، وخرج منها وراسلهم ولا طفهم، ثم أغلظ لهم في القول، وقال: " إن أنتم صالحتمونا، وعدتم عن بانياس، فنحن على ما كنا عليه؛ وإن أبيتم ذلك، أرسلنا إلى سيف الدين صاحب الموصل، وصلاح الدين صاحب مصر، ونستنجدهم، ونطلب بلادكم من جهاتها كلها، فلا تقومون لنا، وأنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف أن يجتمع بنور الدين، والآن فقد زال ذلك الخوف، وإذا طالبناه إلى بلادكم لا يمتنع ". فعلموا صدقهم، وصالحوهم على شئ من المال أخذوه، وأسرى أطلقوا لهم كانوا عند المسلمين، وتقررت الهدنة بينهم. ¬

(¬1) س: " الذى ". (¬2) س: " أعظم مملكته ". (¬3) ما بين الحاصرتين زيادات عن النص في (الروضتين، ج 1، ص 231).

ذكر إنكار صلاح الدين على الأمراء بدمشق وهدنتهم للفرنج

ذكر إنكار صلاح الدين على الأمراء بدمشق وهدنتهم للفرنج (¬1) ولما سمع صلاح الدين - رحمه الله - أمر الهدنة أنكرها واستعظمها، فكتب إلى الأمراء بدمشق يقبّح عليهم ما فعلوه، ويبذل من نفسه قصد بلاد الفرنج ومقارعتهم، وإزعاجهم عن قصد شئ من بلاد الملك الصالح. وكان مراده أن يصير له طريق إلى بلاد الشام، ليتملك البلاد؛ والأمراء [الشاميون] (¬2) إنما صالحوا الفرنج خوفا منه ومن سيف الدين غازى صاحب الموصل. ذكر وصول سعد الدين كمشتكين، واستبداده بتدبير الملك الصالح كنا ذكرنا هرب الأمير سعد الدين كمشتكين الخادم النائب بقلعة الموصل لما بلغته وفاة نور الدين، فوصل إلى حلب، واجتمع بالأمير شمس الدين [على] بن الداية وإخوته، واستقر بينهم أن يسير إلى دمشق ويحضر الملك الصالح إلى حلب، فسار إليها، فأخرج إليه شمس الدين بن المقدّم عسكرا فنهبوه (¬3)، فعاد منهزما إلى حلب، فأخلف عليه شمس الدين بن الداية [عوض] ما أخذ منه، ثم جهّزه وسيّره [بعسكر] (4) إلى دمشق [ومعه كتب إلى الأمراء] (4)، فدخلها واجتمع [بالأمراء و] (¬4) بخدمة الملك الصالح. ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في س، وإنما مكانه: " قال صاحب الكتاب ". (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 153). (¬3) س (60 أ): " فنهبه " والأصل " لينهبه " وما هنا عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11 ص 156). (¬4) ما بين الحاصرتين زيادات عن س.

ذكر مسير الملك الصالح إلى حلب

وذكر عماد الدين الكاتب أن مفارقة سعد الدين لسيف الدين كانت برضى سيف الدين، وأنه استأذنه في الوصول إلى الشام، فأذن له فيه، ولم يكن إذ ذاك علم سيف الدين بوفاة عمه، وإنما علم سيف الدين مرضه وكتمه، [172] فلما فارق سعد الدين سيف الدين، وسار مرحلتين، بلغته وفاة عمه نور الدين، فاعتمد السير مجدا، ونجا بماله، وندم سيف الدين على الرضا برحيله وسفره، وفرح بوفاة عمه نور الدين، وأظهر الفسق، وأمر بإعادة المكوس، وتظاهر بالمنكرات (¬1). ذكر مسير الملك الصالح إلى حلب (¬2) ولما (¬3) أشار سعد الدين على الأمراء بوصول الملك الصالح إلى حلب أجابوه إلى ذلك، وكان شمس الدين بن الداية - كما ذكرنا - بحلب، وله شيزر إقطاعا من نور الدين، وعنده أخوه سابق الدين عثمان، وإقطاعه تل باشر وقلعة جعبر؛ وبدر الدين حسن، وإقطاعه عين تاب وعزاز وغيرهما؛ وهؤلاء [أولاد الداية] (¬4) كانوا أكبر أمراء نور الدين؛ وكان أخوهم مجد الدين أبو بكر رضيع نور الدين، وربى معه ولزمه وتبعه إلى أن ملك الشام، وكان محكّما في أيامه، وتوفى أيام نور الدين - كما ذكرنا -. وكان هؤلاء - لقربهم من نور الدين وعلو منزلتهم على غيرهم - لا يشكون أنهم هم الذين يقومون بتربية الملك الصالح، ويكون أمره إليهم، فكاتب ¬

(¬1) س: " بالشرب والمنكرات ". (¬2) كذا في الأصل، وقد أضيف إلى العنوان في س عنوان آخر هو: " والقبض على أولاد الداية "، وسيرد هذا العنوان هنا منفصلا بعد قليل. (¬3) س: " ولما اجتمع سعد الدين بالأمراء الذين بدمشق أشار عليهم بمسير الملك الصالح إلى حلب - إلخ ". (¬4) ما بين الحاصرتين زيادات عن س.

ذكر القبض على أولاد الداية

شمس الدين جماعة الأمراء [بدمشق] (¬1) بأن يصل الملك الصالح إلى حلب، فامتنعوا أولا، ثم وصل سعد الدين إلى دمشق - كما ذكرنا -، وأنفذ (¬2) شمس الدين أخاه سابق الدين عثمان في المعنى، واتفق الحال على توجيه الملك الصالح إلى حلب، فسار إليها، ومعه سعد الدين، والعدل شهاب الدين أبو صالح بن العجمى، وإسماعيل الخازن. ذكر القبض على أولاد الداية ولما وصلوا إلى حلب قبض على الأمير شمس الدين وأخوته واعتقلوهم، وثار أبو الفضل بن الخشاب - مقدم الشيعة (¬3) [بحلب]- (¬4)، فقبضوا عليه وضربوا عنقه، واستبد سعد الدين بالأمور، وقام بأتابكية الملك الصالح، وأقام الأمير شمس الدين محمد بن المقدم بدمشق، وإليه تقدمة العساكر بها؛ وجمال الدين ريحان بالقلعة؛ والشّحن (¬5) من قبله؛ ومدبر الدولة القاضى كمال الدين ابن الشهرزورى. وكان مسير الملك الصالح من دمشق [إلى حلب] (4) لسبع بقين من ذى الحجة [173] من هذه السنة - أعنى سنة تسع وستين وخمسمائة -. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬2) في الأصل: " ونقل "، وفى س: " نقد " وما هنا قراءة ترجيحية. (¬3) الأصل: " مقدم الأحداث "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 1، ص 233). (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (60 ب). (¬5) الأصل: " والسجن " وفى س: " والسجن " بدون نقط - والتصحيح عن نص العماد بالروضتين.

ذكر منازلة الفرنج للاسكندرية وعودهم عنها

ولما بلغ الملك النصر صلاح الدين مسير الملك الصالح إلى حلب، واستبداد سعد الدين بتدبير أموره، وقبضه على أولاد الداية، عظم ذلك عليه وأنكره، وجعله من أكبر الحجج على قصد الشام، وأظهر أنه يريد بذلك تربية الملك الصالح والقيام بأموره، فكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وراسل سعد الدين سيف الدين وصالحه على ما أخذه من البلاد الجزيرية، فحينئذ استشعر شمس الدين بن المقدم ومن معه من الأمراء، وكاتبوا الملك الناصر صلاح الدين واستدعوه ليملكوه البلاد. ذكر منازلة الفرنج للاسكندرية وعودهم عنها وفى يوم الأحد لأربع بقين من ذى الحجة سنة تسع وستين وخمسمائة وصل أسطول (¬1) الفرنج بصقلية، وذلك قبل الظهر من يوم الأحد المذكور، ولم يزل متواصلا متكاملا إلى وقت العصر، وذكر (¬2) أن السبب في إرسال هذا الأسطول ¬

(¬1) أسطول - وقد يرسم في المراجع العربية: اصطول أو صطول، والجمع أساطيل؛ كلمة يونانية الأصل (OTOAOU) وتطلق في اللغة العربية على السفن الحربية مجتمعة أو على السفينة الواحدة، ويقال للجندى الذى يعمل في الأسطول: " أسطولى "، أنظر: (KINDERMANN : Schiff, im Arabiachen, P. 1) (Dozy : Supp .Dict .Arab) و (ابن خلدون: المقدمة: ص 138) و (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج 14، ص 82) و (الخفاجى: شفاء الغليل، ص 38 و 119) و (الشيال: معجم السفن العربية). (¬2) مقابل هذا في س جملة مضطربة ونصها: " وذكر وقت إرسال هذا الأسطول من صقلية ما كنا ذكرنا. . إلخ ".

من صقلية ما كنا ذكرنا من مكاتبة المصريين لصاحب صقلية (¬1) وغيرهم من الفرنج ليقصدوا الديار المصرية، فسيّر صاحب صقلية هذا الأسطول، ولم يعلم أن صلاح الدين قبض على الذين كاتبوه، ولما وصل هذا الأسطول وكان وصوله بغتة فحمى (¬2) أهل الثغر البر عليهم، ثم أشير عليهم أن يقربوا من السور ففعلوا، فأمكن الأسطول النزول، فاستنزلوا خيلهم من الطرايد (¬3) وراجلهم ¬

(¬1) هذه الجملة ذيل للمؤامرة التي اشترك فيها المصريون والفرنج لإعادة الدولة الفاطمية وكان من رؤوس المتآمرين فيها عمارة اليمنى، أنظر (الجزء الأول من هذا الكتاب، ص 243 - 259). وكان صاحب صقلية في هذه السنة هو وليام الثانى (William II) ابن وليام الأول بن روجر الأول (Roger I) وهذا الأخير هو مؤسس مملكة النور مانديين في صقلية سنة 1103 م، والكتب العربية تسمى هذا الحاكم: " غليالم بن رجار متملك صقلية "، ولم يكن غليالم هذا قد علم بفشل المؤامرة والقبض على المتآمرين، فأرسل حملته هذه التي منيت بالفشل. وللالمام بأخبار هذه الحملة وتفاصيلها أنظر: (Camb .Med .Hist .Vol .V,pp .184 - 207) و (LANE - POOLE : Suladin, P. 127) و (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 55 - 57) و (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 287) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 155 - 156) و (RUNCIMAN : History of the Crusades .vol .I, P. 403) و (الشيال: الاسكندرية، طبوغرافية المدنية وتطوردا، ص 221) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 234 - 235). (¬2) الأصل: " حمى " والتصحيح عن نص العماد في (الروضتين، ج 1، ص 234). (¬3) الطريدة - ويقال الطّرّاد أو الطرادة، أو التطريدة - والجمع: طرايد وطرائد، قال (ابن مماتى: قوانين الدواوين، طبعة الدكتور عطية، ص 339،) عند التعريف بها: " هى سفينة برسم حمل الخيل، وأكثر ما يحمل فيها أربعون فرسا "، والنص في المتن هنا يؤكد هذا المعنى بل ويثبت أن الحمولة العادية للطريدة من الخيل تتفق وما ذكره ابن مماتى، وقال (صاحب تاج العروس) " الطراد - ككتان - سفينة صغيرة سريعة السير والجرى، والعامة تقول تطريدة "، وقال: (Dozy Supp .Diet .Arab) هى نوع من المراكب الحربية أكثر شبها باليرميل الهائل من السفينة، وكانت تستعمل في حمل الخيول والفرسان، وأكثر ما يحمل فيها أربعون فرسا؛ وفى تاريخنا هذا - مفرج الكروب - في حوادث سنة 660 هـ‍ ما يثبت أن الطريدة كانت تستعمل أحيانا لركوب الناس، فقد ذكر أن بيبرس أرسل في تلك السنة سفارة إلى ملك التتار بركة خان عن طريق البحر المتوسط والإمبراطورية البيزنطية " وركبهم في الطرايد، وأعطاهم زرادة شهور كثيرة "، وقد استعمل الأوربيون في العصور الوسطى هذا النوع من السفن، واشتقوا اسمه عن العربية نسموه في الأسبانية " Tarida " وفى الإيطالية " Tartana " وفى الفرنسية " Tartane " وفى الإنجليزية. " Tartan " أنظر أيضا (KINDERMANN : op .cit .pp .56 - 59) ؛ ومخطوطتنا (معجم السفن العربية).

من المراكب» وكانت خيلهم ألفا وخمسمائة رأس، وكانت عدتهم ثلاثين ألف مقاتل، ما بين فارس وراجل، وكان عدد الطرايد ستا وثلاثين طريدة تحمل الخيل، وكان معهم مائتا شينى (¬1) في كل شينى مائة وخمسون راجلا، وكان عدة السفن التي تحمل آلات الخرب والحصار من الأخشاب الكبار وغيرها ست سفن وكان عدة المراكب [الحمّالة] (¬2) برسم حمل الأزواد والرجال أربعين مركبا، ¬

(¬1) الشينى أو الشانى أو الشينية أو الشونة - والجمع شوانى - السفينة الحربية الكبيرة، وهى أهم القطع الكبيرة التي كان يتكون منها الأسطول في الدول الإسلامية، وقال (الزبيدى: تاج العروس) إنها من أصل مصرى، وذكر (ابن مماتى: قوانين الدواوين، ص 340) إن الشينى كانت تسير " بمائة وأربعين مجدافا، وفيها المقاتلة والجدافون " ويبدو أن هذا النوع من السفن كانت تقام فيه الأبراج والقلاع للدفاع عنه كما كانت ترمى منه النار والنفط على العدو. يبدو هذا واضحا في وصف الشاعر ابن حمديس الصقلى للشوانى، قال يمدح أبا يحيى الحسن بن على بن يحيى: أنشأت شوانى طايرة، وبنيت على ماء مدنا ببروج قتال تحسبها - في شم شواهقها - قننا ترمى ببروج إن ظهرت لعدو مخرقة بطنا وبنفط أبيض تحسبه ما، وبه تذكى السكنا ضمن التوفيق لها ظفرا من هلك عداتك ما ضمنا وبالإضافة إلى المراجع المذكورة في التحشية على لفظ " أسطول " و " طريدة " أنظر أيضا: (البتانونى: رحلة الأندلس، ص 141) و (المقريزى، اتعاظ الحنقا، طبعة الشيال، ص 102 هامش 1). ولا حظ أن المتن هنا يحدد حمولة الشينى في العادة بماثة وخمسين جنديا. (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن س و (الروضتين)، والحمالة - والجمع حمالات - هى كما عرفها (ابن مماتى: قوانين الدواوين، ص 339 - 340) و (DOZY : Supp .Dict .Arab) , نوع من السفن المخصصة لنقل مؤونة الجيش وأزواده والصناع والخدم الملحقين بالجيش والأسطول، (Vaisseau de Transport) وفى (صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص 220 - 221) ما يدل على أن «الحمالة» كانت تستعمل في حمل الخيل كذلك، قال: " وفى سنة ثمان وعشرين وثمانماثة (1425 م) عمر السلطان في مصر أربع حمالات كبار برسم شيل الخيول والأثقال، وتسع الناس الكثيرة. . . إلخ "، وجاء في (خليل بن شاهين: زبدة كشف الممالك، ص 139 - 140): " ثم إن العمارة تكملت، وهى خمس قراقير وتسعة عشر غرابا، وست حمالات برسم الخيول. . . إلخ ".

وفيها من الرجال المنفرقة وغلمان الخيّالة وصنّاع المراكب وأبراج الزحف ودباباته (¬1) ما يتمم خمسين ألف راجل. ولما تكامل الفرنج نازلين على البر مما بلى البحر والمنارة (¬2) حملوا على المسلمين حملة أوصلتهم إلى السور (2) وفقد من أهل [174] الإسكندرية في وقت الحملة ما يناهز سبعمائة نفس (¬3)، وجذفت (¬4) مراكب الفرنج داخلة إلى الميناء وكان به مراكب مقاتلة ومراكب مسافرة، فسبقهم المسلمون إليها فخسفوها وغرّقوها، وغلبوهم على أخذها، وأحرقوا ما أحرق (¬5) منها، واتصل القتال إلى المساء (¬6)، وضرب الفرنج خيامهم بالبر وعدتها ثلاثمائة خيمة، ولما أصبحوا زاحفوا وضايقوا وحاصروا، ونصبوا ست (¬7) دبابات بكباشها (¬8)، وثلاثة مجانيق كبار المقادير تضرب بحجارة سود استصحبوها من صقلية، وتعجّب المسلمون من شدة أثرها وعظم حجرها، وأما الدبابات فانها تشبه الأبراج في جفاء (¬9) أخشابها وارتفاعها واتساعها وكثرة المقاتلة فيها، وزحفوا [بها] (¬10) إلى أن قاربوا السور ولجوّا في القتال عامة النهار. ¬

(¬1) في الأصل: " ودبابته " وما هنا عن س (61 ب) وهو أصح، ولشرح اللفظ أنظر الجزء الأول من هذا الكتاب: ص 180 - 181. (¬2) للالمام بأخبار المنارة والسور في العصر الإسلامى أنظر: (الشيال: الاسكندرية، طبو غرافية المدينة وتطورها). (¬3) س: " رجل "، وفى (الروضتين) و (السلوك): " سبعة أنفس ". (¬4) س: " وأحدقت ". (¬5) س: " ما أحرقوا ". (¬6) س: " المينا " والمتن هو الصحيح. (¬7) س و (الروضتين): " ثلاث دبابات ". (¬8) الكبش - ويجمع على أكبش وكبوش وكباش - آلة متصلة بالدبابة لها رأس ضخم وقرنان يدفعها الجنود نحو الأسوار لتحطيمها. (¬9) في الأصل: " حقا " وما هنا عن س و (الروضتين، ج 1، ص 235). (¬10) ما بين الحاصرتين عن س.

وكان السلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - نازلا بعسكره على فاقوس، فلما وصل (¬1) إليه الخبر يوم الثلاثاء ثالث نزول العدو على جناح طائر، استنهض (¬2) العسكر إلى الثغرين (¬3): الاسكندرية ودمياط، احترازا عليهما واحتياطا، واستمر القتال، وقدمت الدبابات، وضربت المنجنيقات، وزاحمت السور إلى أن صارت منه بمقدار أماج [البحر، وأهاج الدور] (¬4) وصبر أهل البلدة، ولم يكن عندهم من العسكر إلا قليل. ورأى الفرنج من شجاعة أهل الإسكندرية وحسن سلاحهم ما راعهم، وتواصلت الأمداد إليهم. وفى اليوم الثالث (¬5) فتح المسلمون باب البلد، وخرجوا على غفلة، وركب من كان هناك من الأمراء؛ وخرجوا من الأبواب وكثر الصياح من كل جانب؛ وتكاثروا على الفرنج، فأحرقوا الدبابات المنصوبة، وصدقوا عندها القتال؛ وأنزل الله سبحانه نصره على المسلمين، واتصل القتال إلى العصر من يوم الأربعاء - وهو رابع يوم نزولهم - وقد فشل الفرنج وفتر قتالهم (¬6)، واحترقت آلات قتالهم، واستمر القتل فيهم؛ ودخل المسلمون إلى البلد لقضاء فريضة الصلاة، وهم على نية المباكرة؛ والعدو على نية الهرب، ثم كبسوهم المسلمون بغتة عند قرب اختلاط الظلام، فهاجموهم [175] في خيامهم، فتسلموها بما فيها وقتلوا من الرجالة ما لا يحصى. ¬

(¬1) س: «فوصل». (¬2) س: «فاستنصر». (¬3) س: «الثغر من». (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (الروضتين، 1، ص 235) وهى زيادة ضرورية لفهم النص. (¬5) س «وفى اليوم الرابع من نزولهم فتح باب البلد، وخرجوا على غفلة من الفرنج». (¬6) س «وبقين هناك قبالهم» وهذا مسخ للمعنى يدل على أن كاتب نسخة س كان مجرد ناسخ، وأنه كان ينسخ دون فهم في معظم الأحيان.

ذكر خروج الكنز بالصعيد ومقتله

ولم يسلم من الخيالة إلا من نزع عنه لباسه ورمى نفسه في البحر، وأخذ الباقون أخذا باليد، واقتحم المسلمون البحر على بعض المراكب فخسفوها وأغرقوها؛ وولت بقية المراكب هاربة، وصار العدو - لعنه الله - بين قتيل وأسير وغريق؛ واحتمى ثلاثمائة فارس في رأس جبل (¬1)، وأخذت خيولهم، ثم قتلوا وأسروا وأخذ المسلمون من الآلات والمتاع والأسلحة ما لا يملك مثله، وأقلع الأسطول عن الثغر يوم الخميس مستهل المحرم سنة سبعين وخمسمائة. ذكر خروج الكنز (¬2) بالصعيد ومقتله (¬3) هذا الكنز هو رجل من مقدمى المصريين، كان قد انتزح إلى أسوان وأقام بها، فلم يزل يدبر أمره، ويجمع السودان عليه، وأوهمهم أنه يملك البلاد، ¬

(¬1) في (الروضتين، ج 1، ص 235): «تل». (¬2) كنز الدولة هذا هو نفس كنز الدولة حاكم أسوان المذكور سابقا (مفرج الكروب، ج 1، ص 229، هامش 1) والذى أرسل إلى صلاح الدين ينبثه بثورة الجنود السودانيين الفاطميين الفارين من الشمال بالصعيد، مما دفع صلاح الدين إلى إرسال جيوشه لإخضاع هؤلاء الثائرين وفتح بلاد النوبة وشمال السودان، والكنوز أصلا بطن من القبيلة العربية «ربيعة»، استقروا حول أسوان وفى بلاد النوبة، ثم اختلطوا مع النوبيين وتزوجوا منهم، و «كنز الدولة» لقب منحه لأول مرة الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله لحاكم النوبة في عهده أبو المكارم هبة الله بن الشيخ أبى عبد الله محمد بن على عند ما ظفر بالثائر أبى ركوة الفار إلى بلاده وأرسله إلى الحاكم، وكان آخر من لقب منهم بهذا اللقب كنز الدولة هذا المعاصر لصلاح الدين، قال (المقريزى: البيان والإعراب، ص 50): «ولم تزل الإمارة معهم، وكلهم يعرفون بكنز الدولة، حتى كان آخرهم كنز الدولة، فقتله الملك العادل أبو بكر بن أيوب في سابع صفر سنة 570 عندما خالف على السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجمع لحربه، وقتل أخا أبى الهيجا السمين، ودعا للأمير داود بن العاضد، وكان قتله على مدينة طود بعد حروب شديدة»، وبنو كنز، أو الكنوز، هم سلالة هؤلاء العرب بعد اختلاطهم مع النوبيين، وكانت لهم السيطرة التامة على الصعيد الأعلى في العصر المملوكى، ولا زالت قبيلة الكنوز تعيش حتى اليوم في المنطقة الواقعة بين أسوان وكروسكو» أنظر أيضا: (المقريزى: اتعاظ الحنقا، مخطوطة سراى، ص 60 ب) و (TRIMINGHAM : Islam in the Sudan, P. 68) و (CASANOVA : Les Derniers Fatimides). (¬3) هذا العنوان غير موجود في س

ذكر مسير الملك الناصر صلاح الدين إلى الشام وتملك دمشق

ويعيد الدولة المصرية كما كانت، فاجتمع إليه ممن يرى رأى الاسماعيلية ويهوّن (¬1) عود الأمر إلى أهل القصر خلق عظيم وجمع كثير من السودان، ولما كثر جمعه (¬2) قصد قوص وأعمالها، فجرّد إليه السلطان الملك الناصر - رحمه الله - جمعا كثيرا من العسكر، وقدّم عليهم أخاه الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب، فسار بهم الملك العادل حتى أتى القوم، وكان الكنز قد فتك بأخ لحسام الدين أبى الهيجاء السمين وبمن (¬3) هناك من المنقطعين، ولما قصده الملك العادل بمن معه من العسكر تداركوا بطود، وبها أصحاب الكنز، فاجتمعت عليهم، فنازلوها ثم ملكوها، وأبادوا أهلها بالسيف، ثم صاففوا (¬4) الكنز ومن معه، فكسر وقتل وأبيد أصحابه قتلا وأسرا، وانطفت جمرة المصريين ولم تقم لهم بعدها قائمة (¬5). ذكر مسير الملك الناصر صلاح الدين إلى الشام وتملك دمشق قد ذكرنا إنكار السلطان الملك الناصر - رحمه الله - ما اعتمده الجماعة مع الملك الصالح من القبض على الأمير شمس الدين على بن الداية وأخوته، ¬

(¬1) الأصل: «ويهول» وس (62 ب): «ويريدوا»، وما هنا قراءة ترجيحية. (¬2) س: «جمعهم». (¬3) في الأصل: «ومن» وما هنا صيغة س. (¬4) س: «ضايقوا». (¬5) أشار ابن أبى طى (الروضتين، ج 1، ص 235) إلى ثورة أخرى قامت في طود في نفس الوقت وأخضعها الملك العادل، قال: «واتفق أيضا أن خرج بقرية من قرى الصعيد يقال لها طود رجل يعرف بعباس بن شاذى، وثار في بلاد قوص ونهبها وخربها، وأخذ أموال الناس، واتصل ذلك بالملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب، وكان السلطان قد استنابه بمصر، فجمع له العساكر وأوقع به وبدّد شمله وفض جموعه وقتله، ثم قصد بعده كنز الدولة الوالى بأسوان وكان قصد بلد طود، فقتل أكثر عسكره، وهرب، فأدركه بعض أصحاب الملك العادل، فقتله».

وتفريطهم في البلاد، ويذلهم القطيعة للفرنج من غير أن يبدوا (¬1) عذرا في جهادهم، وقال: «أنا أحق بتربية الملك الصالح رعاية (¬2) لعهد والده، [176] ولو استمرت ولاية هؤلاء القوم تفرقت الكلمة وطمعت الكفار في البلاد». ثم كاتب الأمير شمس الدين بن المقدم برسالة منها: " إنا لا نؤثر للإسلام وأهله إلا ما جمع (3) شملهم وألّف (¬3) كلمتهم، وللبيت (¬4) الأتابكى - أعلاه الله - إلا ما حفظ أصله وفرعه، أو دفع ضره وجلب نفعه، فالوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما يظهر أثرها عند تكاثر أطماع (¬5) العداة، وبالجملة أنا في واد والظانون بنا ظن السوء في واد، ولنا من الصلاح مراد، ولمن يبعدنا عنه مراد " (¬6) ثم عزم السلطان على المسارعة إلى تلافى الأمر، فاعترضه أمران: وصول أسطول صقلية (¬7) إلى الاسكندرية، والثانى نوبة الكنز (7) المقدم ذكره، فلما كفى الله شرهما توجه إلى دمشق، فخرج إلى البركة (¬8) في مستهل صفر من هذه ¬

(¬1) في الأصل وفى س " يبلو "، وما هنا قراءة ترجيحية. (¬2) في الأصل وس: «دعاية». (¬3) س: «يجمع ويألف» وما هنا يتفق ونص (الروضتين، ج 1، ص 234). (¬4) في الأصل، وفى س: «والبيت» وقد صححت بعد مراجعة الروضتين. (¬5) كذا في الأصل وفى الروضتين، وفى س: " عند تطامع العداة ". (¬6) الخطاب موجز هنا وفى س، وله في (الروضتين، ج 1، ص 234) تتمة نصها: " ولا يقال لمن طلب الصلاح إنك قادح، ولمن ألقى السلاح إنك جارح ". (¬7) أنظر ما فات هنا ص 11 - 17. (¬8) هى بركة الجب أو بركة الحجاج، وقد عرفها (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 265 - 267) بقوله: " هذه البركة في الجهة البحرية من القاهرة على نحو بريد منها، عرفت أو لا بجب عميرة، ثم قيل لها أرض الجب، وعرفت إلى اليوم ببركة الحجاج من أجل نزول حجاج البربها عند مسيرهم من القاهرة وعند عودهم. . . إلخ» وقد حدد (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج 9، ص 16) موقعها تحديدا أدق، قال: «بزكة الحاج: قرية موضوعة في الشمال الشرقى للقاهرة بنحو خمس ساعات، وفى غربى الترعة الاسماعيلية بنحو ستة آلاف متر، وفى جنوب الخانقاه كذلك، وفى شرقى قرية المرج نحو ثلاثة آلاف متر. . . إلخ».

السنة - أعنى سنة سبعين وخمسمائة - وقد وردت عليه رسل شمس الدين محمد بن المقدّم، وشمس الدين صديق بن جاولى صاحب بصرى، يستحثونه على سرعة الحركة. ثم سار ثالث عشر ربيع الأول على صدر (¬1) وأيلة في سبعمائة فارس، ولما قارب بصرى (¬2) خرج صاحبها صديق بن جاولى إلى لقائه، فلما رأى قلة من معه قال للقاضى الفاضل: " ما أرى معكم عسكرا، وهذا بلد عظيم لا يقصد بهذا العسكر، ولو منعكم من به ساعة من النهار أخذكم أهل السواد، فإن كان معكم مال سهل الأمر ". فقال: " معنا مال كثير يكون خمسين ألف دينار ". فضرب صاحب بصرى على رأسه وقال: " هلكتم وأهلكتمونا ". وجميع ما كان معهم عشرة آلاف دينار. ثم رحل السلطان من بصرى لست بقين من ربيع الأول، فلقيه ابن عمه الأمير ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذى، والأمير سعد الدين بن معين الدين أنر يوم السبت لثلاث بقين من الشهر، ونزل يوم الأحد بحسر الخشب وتوافت إليه الأجناد والعساكر الدمشقية، والوجوه والأكابر. ولما كان يوم الاثنين التاسع والعشرين من ربيع الأول ركب [السلطان] (¬3) وساق إلى [771] دمشق، فاعترضه دون الدخول جماعة من الرجال يريدون بزعمهم دفعه، فهزمهم عساكره، ووصل (¬4) إلى البلد، ولم يغلق في وجهه ¬

(¬1) ص: «صرخد» وما هنا هو الصحيح، وللتعريف بالمدينتين انظر: الجزء الأول من مفرج الكروب، ص 138 (¬2) هكذا ضبطها (ياقوت: معجم البلدان) وقال هى من أعمال دمشق، أو هى قصبه كورة حوران. (¬3) ما بين الحاصرتين من ص (63 أ). (¬4) س: «ودخل البلد».

باب، بل كأن البلد لم يزل (¬1) له، فدخل دمشق وخرقها، ووصل إلى دار أبيه المعروفة بدار العقيقى، وامتنع جمال الدين ريحان بالقلعة، وأمر [السلطان] (¬2) فنودى في دمشق بإطابة النفوس وإزالة المكوس، وأظهر أنه ما جاء (¬3) إلا لتربية الملك الصالح ولد نور الدين، وأن الملك له، وهو نائبه ومدبر دولته، وأبقى الخطبة والسكة باسمه، وراسل جمال الدين متولى القلعة، واستماله وبذل له كلما يطلبه، فأجاب جمال الدين إلى تسليم القلعة، فتسلمها السلطان على عوض أعطاه [إياه] (2)، وأنزل بالقلعة أخاه ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، واستثبت (¬4) أمر السلطان بدمشق (¬5)، وجاء (¬6) إلى خدمته القاضى كمال الدين بن الشهرزورى، فوفّاه حقه من الإكرام (¬7)، ونفذت الكتب إلى الديار المصرية بما سناه (¬8) الله تعالى له من هذا الفتح. ¬

(¬1) س: «كان له». (¬2) ما بين الحاصرتين عن س (63 أ). (¬3) الأصل: «إنما جاء». (¬4) س: «واستنب». (¬5) في: (الروضتين، ج 1، ص 236) قطعتان من رسالتين بقلم القاضى الفاضل أرسلنا إلى مصر تحملان أنباء فتح دمشق ودخولها، وبهما تفصيلات هامة فانظرهما هناك. (¬6) في الأصل: «رجال»، وما هنا عن س، وهو الأصح. (¬7) لم تكن العلاقات طيبة بين القاضى كمال الدين وصلاح الدين منذ كان يتولى الأخير شحنكية دمشق في عهد نور الدين، ومع هذا فقد قدم كمال الدين المساعدات المكنة لصلاح الدين لتمكينه من الاستيلاء على دمشق، وقد عرف صلاح الدين للقاضى فضله، فذهب إلى زيارته في بيته، روى قصة هذه الزيارة (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق 1، ص 327) قال: " ومشى (أي صلاح الدين) إلى دار كمال الدين، فانزعج وخرج إلى لقائه، ودخل صلاح الدين فجلس وباسطه، وقال: يا كمال الدين، لما كنت في الشحنكية قد كانت بيننا هنات ومشاحنات، - وكان كمال الدين يكرهه، فكان كل واحد منهما ينقض على الآخر أحكامه - فقال له صلاح الدين: ما مشيت إلا لأزيل ما في خاطرك من الوهم، وأعرفك أن ما في قلبى لك نكرة، فطب نفسا، وقرعينا، فالأمر أمرك، والبلد بلدك» أنظر أيضا: (نفس المرجع، ص 340) (¬8) كذا في الأصل، وفى س: «هيأه».

ولما سمع المدبرون للملك الصالح (¬1) إسماعيل بن نور الدين - رحمه الله - (1) بملك الملك الناصر دمشق سقط في أيديهم، وأيقنوا بذهاب البلاد، فراسلوا سيف الدين غازى بن [قطب الدين] (¬2) مودود بن زنكى صاحب الموصل وأرسلوا إلى السلطان الملك الناصر الأمير قطب الدين ينال (¬3) بن حسّان - صاحب منهج - برسالة فيها غلظ وتعنيف، وقال للسلطان فيما قاله: «هذه السيوف التي (¬4) ملكتك مصر - وأشار إلى سيفه - تردّك، وعما تصديت له تصدّك»، فحلم عنه السلطان وتغافل، وذكر أنه إنما وصل لترتيب الأمور وتربية الملك الصالح، وإخراج الأمراء أولاد الداية من الاعتقال، فقال له قطب الدين: «أنت تريد الملك لنفسك، وليس مقصودك غير ذلك، والمصلحة أنك ترجع من حيث جئت، ولا تطمع فيما ليس لك فيه مطمع»، فأظهر له السلطان التبسم، ولم يقابله إلا باللين والرفق (¬5). ¬

(¬1) ما بين الرقمين ساقط من س. (¬2) ما بين الحاصرتين عن ص. (¬3) كذا في الأصل، وفى (الروضتين ج 1، ص 237)، وهو في س: «عثمان»، وصيغة الأصل هى الصحيحة، وقد ذكر صاحب الروضتين هذا الحادث وهذا الحديث نقلا عن ابن أبى طى. (¬4) س (63 ب): «إلى مملكتك» والأصل: «الذى ملكتك»، وقد صححت بعد مراجعة الروضتين. (¬5) تكاد تجمع المراجع على أن صلاح الدين كظم غيظه عند سماعه حديث ينال القاسى، وأنه قابله بالرفق واللين، إلا أن صاحب مرآة الزمان (ص 328) يذكر أن صلاح الدين غضب عند سماع هذا الحديث وقال لينال: «والله لولا أنك رسول لضربت عنقك، والله ما جئت إلى هاهنا شرها ولا طمعا في الدنيا، وفى مصر كفاية، وما جئت إلا لأستقذ هذا الصبى من يد مثلك وأمثالك، فأنتم سبب زوال دولته، ثم طرده بغير جواب، فعاد إلى حلب».

ذكر استيلاء الملك الناصر على حماة ومدينة حمص

ذكر استيلاء الملك الناصر على حماة ومدينة حمص ثم إن السلطان الملك الناصر [صلاح الدين] (¬1) استخلف بدمشق أخاه سيف الإسلام [طغتكين]، وسار إلى حمص مستهل جمادى الأولى من هذه السنة - أعنى سنة سبعين وخمسمائة - وكانت حمص، وحماة، وقلعة بارين، وسلمية، وتل خالد، والرّها، إقطاعا للأمير فخر الدين [مسعود] (1) بن الزعفرانى، ولم تكن قلعتا حمص وحماة له، وإنما كان فيهما دزداران (¬2) من قبل نور الدين وكان المرتب بقلعة حماة عز الدين جرديك (¬3) - مملوك نور الدين - فلم يمكن فخر الدين بن الزعفرانى المقام بمدينتى حمص وحماة، لسوء سيرته في الرعية، ففارقهما، فلما نزل السلطان [صلاح الدين] (1) على حمص، وذلك حادى عشر جمادى الأولى، تسلم المدينة، وامتنعت القلعة، فترك بمدينة حمص من يحفظها، ومنع من بالقلعة من التصرف، وأن لا يصعد (¬4) إليهم ميرة. ثم سار إلى حماة، فملك المدينة مستهل جمادى الآخرة من السنة، وراسل الأمير عز الدين جرديك في تسليم القلعة إليه، فامتنع عليه، فأرسل إليه يعرفه ما هو عليه من طاعة الملك الصالح، وإنما يريد حفظ البلاد عليه، فاستحلفه جرديك ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (64 أ). (¬2) س: «دزدارا»، وللتعريف باللفظ أنظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 8، هامش 1). (¬3) جرديك، ويرسم أحيانا «جورديك» كان من مماليك نور الدين، ولهذا يلقب بالنورى، وكان واحدا من القواد الذين رافقوا أسد الدين شيركوه في حملته الأخيرة على مصر، وكان مشاركا لصلاح الدين عند القبض على شاور. وسترد بقية أخباره فيما يلى. (¬4) س: «وأن تصعد»، وما هنا هو الصحيح.

ذكر منازلة السلطان الملك الناصر حلب ورحيله عنها

على ذلك، فحلف، وسيّره السلطان رسولا إلى حلب، يدعوهم إلى اجتماع الكلمة في طاعة الملك الصالح، وفى إطلاق الأمير شمس الدين على بن الداية وأخوته من السجن، فسار إليهم جرديك إلى حلب، واستخلف بقلعة حماة أخاه (¬1)، ولما وصل جرديك إلى حلب قبض عليه سعد الدين كمشتكين، فلما علم أخوه بذلك سلّم القلعة إلى السلطان الملك الناصر - رحمه الله - ذكر منازلة السلطان الملك الناصر حلب ورحيله عنها ثم مضى السلطان إلى حلب، وحاصرها لثلاث مضين (¬2) من جمادى الآخرة، فقاتله أهلها أشد قتال، وركب الملك الصالح - وهو صبى عمره اثنتا (¬3) عشرة سنة - وجمع أهل البلد، وقال لهم: " قد عرفتم إحسان أبى إليكم، ومحبته لكم، وسيرته فيكم، وأنا يتيمكم (¬4)، وقد خان (¬5) هذا الظالم الجاحد إحسان والدى إليه، يأخذ بلادى، ولا يراقب الله [والخلق (¬6)] ". وقال من هذا الكلام كثيرا، وبكى وأبكى الناس، فبذلوا له الأموال والأنفس، واتفقوا على القتال دونه، والمنع عن بلاده، وجدّوا في القتال، فكانوا يخرجون يقاتلون عند جبل جوشن، (179) فلم يقدر السلطان على القرب من البلد. ¬

(¬1) الضمير هنا يعود على «جرديك»، فالمقصود أخو جرديك. (¬2) س: «بقين»، وما هنا هو الصحيح، أنظر: (الروضتين، ج 1، ص 238). (¬3) الأصل: «اثنتى». (¬4) كذا في الأصل، وفى س (64 ب): «بيكم»، وفى الروضتين: «ربيبكم». (¬5) في الأصل «جاء» وما هنا عن س والروضتين. (¬6) ما بين الحاصرتين عن ص.

ذكر استنجاد الحلبيين بالملاحدة وقتلهم ناصح الدين خمارتكين

ذكر استنجاد الحلبيين بالملاحدة وقتلهم ناصح الدين خمارتكين وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان (¬1) صاحب الإسماعيلية بمصيات (¬2) وقلاعها (¬3). وبذل له أموالا كثيرة ليقتل السلطان، فأرسلوا جماعة منهم إلى عسكره، فعرفهم الأمير ناصح الدين خمار تكين -[صاحب بوقبيس وهو جد مظفر الدين] (¬4) صاحب صهيون - وكان مثاغرا (¬5) لهم، فقال لهم: " لأى شىء جئتم، وكيف تجاسرتم على الوصول؟ " فجرحوه جراحات مثخنة مات منها - رحمه الله -، وجاء من يدفع عنه فأثخنوه [أيضا جراحات] (¬6)، وعدا أحدهم ليهجم على السلطان [صلاح الدين] (6) وقد شهر سكينا، فشمله طغرل أمير جاندار بالسيف فقتله، وما قتل الباقون حتى قتلوا عدة [من الأجناد] (6). ثم كاتب الحلبيون صاحب طرابلس، وكان في أسر نور الدين - رحمه الله - وفد كان أسره (¬7) على حارم، وبقى في الأسر أكثر من عشر سنين، ثم فدا نفسه بمائة ألف وخمسين ألف دينار، وفكاك ألف أسير، فتوجه بالفرنج إلى حمص، فلما سمع السلطان بذلك رحل عن حصار حلب، وذلك مستهل رجب من هذه السنة - أعنى سنة سبعين وخمسمائة - ¬

(¬1) للتعريف به أنظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 249، هامش 5). وعن هذا الموضوع راجع أيضا: (B .Lewis : Saladin and the Assassins,B .S .O .A .S .1953,XV-2) . (¬2) للتعريف بها أنظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 208، هامش 5). (¬3) س: «وخلافها». (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (64 ب) وهى زيادة ضرورية لإيضاح النص، لأن فاصح الدين كان صاحبا لبوقبيس لا لصهيون، أنظر أيضا: (الروضتين، ج 1، ص 240). (¬5) س: " وكان منازع " وما هنا هو الصحيح، أنظر الروضتين. (¬6) ما بين الحاصرتين عن س. (¬7) الأصل: " كسره " وما هنا عن س.

ذكر مراسلة السلطان للديوان العزيز

ذكر مراسلة السلطان للديوان العزيز ثم أرسل السلطان الخطيب شمس الدين بن أبى المضاء (¬1) رسولا إلى الخليفة الإمام المستضىء بنور الله بن المستنجد برسالة فاضلية (¬2)، تشتمل على تعداد ما للسلطان عليه من الآثار الجميلة، والقيام بخدمة الدولة العباسية، من جهاد (¬3) العدو في أيام نور الدين ثم فتح مصر واليمن وبلاد جمة من أطراف المغرب، وإقامة الخطبة العباسية بها، وأنه لم تخل سنة من غزو الفرنج برا وبحرا، و (4) مركبا وظهرا (¬4)، وفتح معاقل لهم من جملتها قلعة كانت بثغر أيلة قد بناها العدو في بحر الهند المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، [وغزا ساحل الحرم] (¬5)، فسبى منه خلقا، وخرق الكفر في ذلك الجانب خرقا، ففتحت هذه القلعة، وصارت معقلا لجهاد المسلمين وموئلا للمسافرين (¬6)، وفيه: فصل في ذكر أهل مصر: ¬

(¬1) في س، وفى (السلوك، تعليقات الدكتور زيادة نقلا عن " بلوشيه "، ج 1، ص 6) " أبى البيضاء " وفى (ابن كثير، البداية والنهاية، ج 1، ص 297): " أبو الضياء " وصحة الإسم كاملا " شمس الدين محمد بن المحسن بن الحسين بن أبى المضاء البعلبكى أبو عبد الله " وذلك نقلا عن: (ابن الدبيثى: تاريخه باختصار الذهبى، نشر الدكتور مصطفى جواد، ج 1، ص 241) و (الروضتين، ج 1، ص 193، 195، 241) وقد أشرنا فيما سبق (مفرج الكروب، ج 1، ص 200، هامش 3) إلى الرواية التي تقول بأن هذا الرجل هو أول من قطع الخطبة للعاضد الفاطمى وخطب للمستضىء العباسى في مصر بأمر صلاح الدين، وتؤكد المراجع التي ترجمت له أنه حظى بعد ذلك عند صلاح الدين " حتى جعله سفيرا بينه وبين الملوك والخلفاء ". أنظر أيضا: (النجوم الزاهرة، ج 5، ص 343). (¬2) أنظر النص الكامل لهذه الرسالة في (الروضتين، ج 1، ص 241 - 243). (¬3) النص في س مضطرب غير مفهوم وهو: " من جهاد الدين هو دايم للعدو في أيام نور الدين إلخ "، ونص الروضتين (ص 241): " من جهاد الأفرنج في حياة نور الدين ". (¬4) هذان اللفظان ساقطان من س. (¬5) ما بين الحاصرتين عن س (65 أ)، وهو متفق مع نص الروضتين. (¬6) جاء في نسخة س بعد هذا اللفظ ما يأتى: " وفى هذه الرسالة فصولا (كذا) يذكر فيها ماتم له في مصر وغيرها، نتركها خوف الإطالة " ثم حذف بعد ذلك هذه المقتبسات من الرسالة الفاضلية التي =

" ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السر فيهم أنفذ من العزيمة في الجهر، وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف رجل (¬1)، كلهم أغتام أعجام، إن هم إلا كالأنعام (180) لا يعرفون ربا إلا ساكن قصره، ولا قبلة إلا ما يتوجهون إليه من ركنه [وامتثال أمره] (¬2)، وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية (¬3)، موضوعة عنهم الجزية، ولهم شوكة وشكة، [وحمة] (2) وحمية، لهم حواش لقصرهم من بين داع تتلطف في الضلال مداخله، وتصيب العقول (¬4) مخاتله، ومن كتّاب تفعل أقلامهم فعل الأسل، وخدام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النحل، ودولة قد كبر عليها (¬5) الصغير ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع من خطرات (¬6) الضمير، فكيف ¬

= انفردت بذكرها نسخة ك التي اعتمدناها أصلا للنشر، وقد أورد صاحب الروضتين النص الكامل للرسالة وهى رسالة هامة لأنها تلخص جهود صلاح الدين منذ ولى الوزارة بمصر بعد وفاة عمه إلى هذه السنة (570)، وهذا الفارق مثل واضح من أمثلة كثيرة على أفضلية نسخة ك على نسخة س، ولتصحيح هذه المقتبسات سنعارضها على الروضتين. وسننشر هذه الرسالة كاملة في ملاحق هذا الجزء. (¬1) هذا نص هام لأنه يحدد عدد الجند من السودانيين في الجيش المصرى في أواخر العصر الفاطمى. (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (الروضتين، ج 1، ص 242). (¬3) دخل الأرمن في الجيش الفاطمى وفى وظائف الدولة منذ ولى بدر الجمالى الوزارة للمستنصر ثم كثر عددهم وزادت شوكتهم وأصبحوا غالبية كبيرة في مصر، ولم يقتصر الأمر على استخدام المسلمين منهم بل استخدم الأرمن النصارى بعد ذلك، وخاصة بعد أن ولى بهرام الأرمنى الوزارة للخليفة الحافظ، ولهذا النص هنا أهميته، لأن المعروف أن الدول الإسلامية في كل العصور لم تكن تستخدم في جيوشها إلا جتودا مسلمين، وهذا النص يدل على أن الجيش الفاطمى كان به جنود من الأرمن النصارى. (¬4) النص يختلف هنا قليلا عن الروضتين، فمكان هذا اللفظ هناك " القلوب ". (¬5) الروضتين: " نملها ". (¬6) الروضتين (242): " تمنع ما يكنه الضمير ".

بخطوات التدبير، هذا إلى استباحة للمحارم (¬1) ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادة [جارية] (¬2) جائرة، وتحريف للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله بالتنزيل، وكفر يسمى بغير اسمه، وشرع يتستر به ويحكم بغير حكمه، فما زلنا نسحتهم سحت المبارد للشفار، ونتحيفهم تحيف الليالى (¬3) والنهار، يعجائب (¬4) تدبير لا تحتملها المساطير، وغرائب تقدير (¬5) لا تحملها الأساطير (¬6)، فشرعنا في تلك الطوائف من الأجناد والسودان والأرمن، فأخرجناهم من القاهرة (6)، حتى بقى القصر ومن به من خدم وذرية قد تفرقت شيعه، وتمزقت بدعه، وأخفيت دعوته، وخفتت ضلالته، فهناك تمت لنا إقامة الكلمة والجهر بالخطبة، والرفع للواء الأعظم الأسود، وعجل الله للطاغية الأكبر بفنائه، وبرأنا من عهدة يمين كان إثم حنثها (¬7) أيسر من إثم إبقائه، إلا أنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته ". فصل (6): " وكان باليمن ما علم من [أمر] (¬8) ابن مهدى الضال الملحد، المبتدع المتمرد (¬9)، وله آثار في الإسلام وثأر طالبه النبى عليه الصلاة والسلام، لأنه سبا الشرائف الصالحات، وباعهن بالثمن البخس، واستباح منهن كل ¬

(¬1) في الأصل: " المحارم والفرائص "، والتصحيح عن الروضتين. (¬2) زيادة عن (الروضتين، ج 1، ص 242). (¬3) الروضتين: " الليل ". (¬4) في الأصل: " وللأعمال العجائب تدبير " وما هنا عن الروضتين. (¬5) في الأصل: " تقريب " وما هنا عن الروضتين. (¬6) قبل هذا اللفظ في الروضتين فقرات طويلة من الرسالة أسقطها ابن واصل اختصارا. (¬7) في الأصل: " خبثها " والتصحيح عن الروضتين. (¬8) ما بين الحاصرتين عن الروضتين. (¬9) في الأصل: " المتترد " والتصحيح عن الروضتين (242).

ما لا تقر عليه نفس، ودان ببدعة صعبة، ودعا إلى قبر أبيه وسماه كعبة، وأخذ أموال الرعايا [المعصومة] (¬1) وأجاحها، وأحل الفروج المحرمة وأباحها. فصل: ولنا بالمغرب أثر أغرب، (¬2) قد ملكنا مما تجاور منه بلادنا بلادا تزيد مسافتها على شهر، وسيرنا [إليها] عسكرا بعد عسكر، رجع بنصر بعد نصر، من مشاهيرها: برقة، قفصة، قسطيلية، توزر؛ كل هذه تقام فيها الخطبة لمولانا المستضىء بنور الله، سلام الله عليه ". (181) ثم ذكر تشتت بلاد الشام بعد وفاة نور الدين، وطمع العدو فيها لاختلاف الآراء، (2) " وأن كل قلعة قد حصل فيها صاحب، وكل جانب قد طمح إليه طالب، وساءت السيرة، وخبثت السريرة ". فصل: " (2) وعرفنا أن البيت المقدس إن لم تتيسر الأسباب لفتحه، وأمر الكفر إن لم نجرد العزم لقلعه، وإلا نبتت عروقه، واتسعت على المسلمين (¬3) خروقه، وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة، وإنا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة، وكلال الدواب التي بها على الجهاد قوة، وإذا جاوزناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والبلاد قريبة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة، والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة [الجموع] (1). (2) وإذا شد رأينا حسن الرأى ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله، ويد كل مسلم (¬4) تحت برده، واستنقذنا أسيرا من المسجد الأقصى، الذى أسرى الله إليه بعبده " ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن الروضتين. (¬2) قبل هذا اللفظ في الروضتين فقرات أسقطها ابن واصل اختصارا. (¬3) الروضتين (ص 243): " على أهل الدين ". (¬4) في (الروضتين، ج 1، ص 243): " مؤمن ".

ذكر استيلاء السلطان الملك الناصر على قلعتى حمص وبعلبك

ثم ذكر فيه: " أنه قدم الشام لإصلاح الأمور، وحفظ الثغور، وخدمة ابن نور الدين وكفالته، وتخليصه من قوم يأكلون الدنيا باسمه، ويبالغون في ظلمه " (¬1) ثم طلب من الخليفة المستضئ بنور الله تقليدا جامعا بمصر، والمغرب، واليمن والشام، وكل ما تشتمل عليه الولاية النورية، وكلما يفتحه الله تعالى للدولة العباسية بسيوفه وسيوف عساكره، ولمن يقيمه من أخ أو ولد من بعده، تقليدا يتضمن للنعمة تخليدا، وللدعوة تجديدا " (1) ذكر استيلاء السلطان الملك الناصر على قلعتى حمص وبعلبك قد ذكرنا مكاتبة الحلبيين للقومص (¬2) صاحب طرابلس، وقصده حمص، ولما وصل إليها نازلها، (¬3) وذلك سابع رجب، وبلغ السلطان ذلك (3) فرحل عن حلب، ووصل إلى حماة ثامن رجب بعد نزول الفرنج على حمص بيوم واحد، ثم رحل إلى الرستن، فلما بلغ الفرنج قربه رحلوا عن حمص، ووصل إليها السلطان، وحصرها وضايقها، فملكها لتسع بقين من شعبان، ثم سار منها إلى بعلبك، وبها خادم اسمه يمن، فحصرها السلطان، فأرسل يمن بطلب الأمان ¬

(¬1) هذه الفقرة ليست نصا من الخطاب وإنما هى تلخيص له. (¬2) شرح هذا اللفظ في (مفرج الكروب، ج 1، ص 73، هامش 1) والقومص المذكور هنا هو " الكونت ريمون الثالث صاحب إمارة طرابلس الصليبية " ويلقب في بعض المراجع العربية " بالصنجيلى " وهو تحريف عربى للقبه الفرنسى (Le Conte Raymond descendant ... de Saint - Agilles) . (¬3) النص في س (65 أ) مضطرب وهو: " وذلك لما بلغ السلطان ذلك مرحل ".

ذكر منازلة سيف الدين غازى أخاه عماد الدين زنكى بن مودود بسنجار

له ولمن معه، فأمنهم السلطان، وتسلم القلعة لأربع مصين من شهر رمضان من هذه السنة - أعنى سنة سبعين وخمسمائة -[182] وامتدحه عماد الدين الكاتب، وكان قد اتصل بخدمته وهو نازل على حمص من قصيدة أولها: بفتوح عصرك يفخر الإسلام، ... وبنور نصرك تشرق الأيام وبفتح قلعة بعلبك تهذبت ... هذى الممالك، واستقرّ الشام وبكى الحسود دما، وثغر الثغر - من ... فرح بنصرك - للهدى بسّام فتح تسنّى في الصيام كأننا ... - شكرا لما منح الإله - صيام من ذا يرى في الصوم عيد سعادة ... حلّت لنا، والفطر فيه حرام أسدى صلاح الدين والدنيا يدا ... بنوالها سوق الرخاء (¬1) تقام فتملّ فتحك، وافتح القدس (¬2) الذى ... بحصوله لفتوحك الإتمام دم للعلى حتى يدوم نظامها، ... واسلم، يعزّ بنصرك الإسلام ذكر منازلة سيف الدين غازى أخاه عماد الدين زنكى بن مودود بسنجار (¬3) كان السلطان قد كاتب عماد الدين زنكى بن مودود بن زنكى - صاحب سنجار - وأطمعه في الملك (¬4) لأنه كبير البيت، فمال إلى السلطان وصار من جهته، ولما ملك السلطان دمشق وحمص وحماة وبعلبك كتب الحلبيون إلى سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى - صاحب الموصل - يستنجدونه ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى س، وفى الروضتين (ج 1، ص 247): " الرجاء ". (¬2) كذا في الأصل وفى س (65 ب)، وفى الروضتين: " واقصد الفتح ". (¬3) س: " صاحب سنجار ". (¬4) س: " البلاد ".

ذكر كسرة المواصلة بقرون حماة

عليه، وطلبوا منه أن يعبر الفرات ليقصدوا السلطان، فجمع سيف الدين عساكره، وكاتب أخاه عماد الدين زنكى، وأمره أن ينزل إليه من سنجار بعساكره، ليجتمعا على حرب السلطان الملك الناصر، فامتنع من ذلك، فجّهز أخوه سيف الدين أخاه عز الدين مسعود بن مودود في عسكر كبير هو معظم عسكره إلى الشام، وجعل المقدم على العسكر مع أخيه الأمير عز الدين محمود المعروف بزلفندار (¬1)، وجعله المدبر للأمر، وسار سيف الدين بنفسه إلى سنجار، وحصرها في شهر رمضان من هذه السنة - أعنى سنة سبعين وخمسمائة -، وجدّ في قتالها، فامتنع بها أخوه عماد الدين، وأحسن حفظها والذبّ عنها، فبينما هو [كذلك] (¬2) إذ أتاه الخبر [183] بانهزام عسكره الذى مع أخيه عز الدين - كما سنذكره -، فصالح حينئذ أخاه ورحل عائدا إلى الموصل. ذكر كسرة المواصلة بقرون حماة لما تسلم الملك الناصر - رحمه الله - بعلبك عاد إلى حمص، ووصل عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكى بعساكر الموصل إلى حلب، ومعه عز الدين [محمود الملقب] (¬3) بزلفندار (¬4)، ثم جاءوا إلى حماة فحصروها، وراسلوا السلطان في الصلح، فقدم السلطان في خف (¬5) من أصحابه، فجاءه ¬

(¬1) س: " بركفندار " وما هنا يتفق والرسم في (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 158) وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا. (¬2) ما بين الحاصرتين عن س (66 أ). (¬3) ما بين الحاصرتين عن س. (¬4) قال (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 159): " وكان زلفندار جاهلا بالحروب والقتال، غير عالم بتدبيرها، مع جبن منه، إلا أنه قد رزق سعادة وقبولا عند سيف الدين ". (¬5) س: " في جماعة " وما هنا يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 1، ص 248) وهو المرجع الذى ينقل عنه هنا.

الأمير سعد الدين كمشتكين والعدل شهاب الدين أبو صالح بن العجمى وغيرهما، وتفاوضوا في معنى الصلح، فأجابهم السلطان إلى أن يرد عليهم الحصول التي أخذها، وأن يقنع بدمشق نائبا عن الملك الصالح منتميا (¬1) إليه، والخطبة والسكة له، وأن يرد عليهم كلما أخذ من الخزانة، فلما رأوه مجيبا لكل ما يلتمس منه وقلة عسكره اشتطوا عليه وطمعوا، وطلبوا الرحبة وأعمالها، فقال: " هى لابن عمى نصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه، ولا سبيل إلى الإضرار به ". فنفروا وأصبحوا على الرحيل إلى جانب العاصى قريبا من شيزر، وجمعوا العساكر وأظهروا عزمهم على المصاف، فعبّر السلطان إلى سفح قرون حماة خيامه، ووصل إليه جماعة من العسكر المصرى ومعهم عشرة من المقدمين، منهم أبناء أخيه: الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وعز الدين فرخ شاه بن شاهان شاه بن أيوب، وغيرهم؛ ثم كانت الوقعة بين الفريقين تاسع عشر شهر رمضان من السنة، فلم يثبت عسكر الموصل، وانهزموا لا يلوى أحد على أحد، وثبت عز الدين مسعود بعد انهزام أصحابه، فلما رأى السلطان ثباته قال: " إما أن هذا أشجع الناس، وإما أنه لا يعرف الحرب، " وأمر أصحابه بالحملة عليه، فحملوا فأزالوه عن موقفه، وتمت الهزيمة عليهم، وتبعهم السلطان وعسكره، حتى جاوز معسكرهم (¬2)، وغنم كل ما معهم، وأسر جماعة منهم، ثم منّ عليهم وأطلقهم، وعادوا منهزمين إلى حلب، وتبعهم السلطان بنية المحاصرة لحلب والمنازلة لها، وقطع حينئذ خطبة الملك الصالح ابن نور الدين، وأزال اسمه عن السكة في بلاده. ¬

(¬1) س: " مؤتمنا ". (¬2) س: " بعسكرهم ".

ذكر وقوع الصلح

وفى هذه الوقعة يقول عماد الدين الكاتب من قصيدة يمدح بها الملك المظفر تقى الدين - رحمه الله -: [184] لاتفن من فرق الفراق الأدمعا، ... فهى الشهود على الغرام المدّعى قلب أصابته العيون، ولم يزل ... - من مسّها - بالهاجسات (¬1) مروّعا ومن التّجبّر أننى أبصرته ... في ظعنهم، وسألت عنه الأربعا (¬2) أصبحت إذ شيعتهم لثلاثة: ... صبرى، وغمضى، والفؤاد مشيّعا أو ما اتقيتم (¬3) حين رعتم سربه ... فيه (¬4) تقّى الدين ذاك الأروعا عمر بن شاهنشاه من هو عامر (¬5) ... أركان ملك الشام حين تضعضعا خضع العدو وذلّ بعد تعزّز ... لكم، وحق عدوكم أن يخضعا لما عصى الأعداء بالعاصى جرى ... بدمائهم طوعا (¬6) سيولا دفّعا ذكر وقوع الصلح ثم جاءت الرسل من الحلبيين إلى السلطان يطلبون منه الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام، ولهم ما بأيديهم منها، فأجابهم إلى ذلك، واستزاد منهم المعرّة وكفر طاب، وانتظم الصلح، ووقعت الأيمان، ورحل عن حلب في العشر الأول من شوال من السنة. ¬

(¬1) س (66 ب): " من مستها ما لها حساب مروعا "، وهذا دليل على أن كاتب هذه النسخة كان ينقل دون وعى أو فهم لما ينقله، فهو مجرد ناسخ. (¬2) كذا في الأصل، وفى س؛ وفى (الروضتين، ج 1، ص 249): " الأضلعا "، والقصيدة هناك أكثرأ بياتا فانظرها. (¬3) س: " لقيتم ". (¬4) س: " فيهم "، وما هنا يتفق وما في الروضتين. (¬5) س: " من عامر ". وما هنا يتفق وما في الروضتين. (¬6) كذا في الأصل وفى الروضتين، وفى س: " طولا ".

ذكر استيلاء الملك الناصر على بارين

ووصل إلى حماة فوافته الرسل من جهة الامام المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. بالتشريفات السلطانية، والتقليد بما أراد من الولايات، وأفاضوا الخلع على السلطان وأقار به، وخصّ ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بمزيد تفضيل على أقارب السلطان، رعاية لحق (¬1) والده أسد الدين - رحمه الله تعالى -: ذكر استيلاء الملك الناصر على بارين وكان صاحبها الأمير فخر الدين (¬2) مسعود بن على الزعفرانى من عهد نور الدين (¬3)، وكان من أكابر الأمراء النورية، فلما رأى قوة السلطان نزل منها واتصل بخدمته، وظن أنه يكرمه ويشاركه في ملكه، ولا ينفرد عنه بأمر، كما كان عند نور الدين، فلم ير منه شيئا من ذلك، ففارقه (4) ولم يكن بقى له من إقطاعه النورى غير بارين، ونائبه بها (¬4)، فلما انتظم الصلح بين السلطان والحلبيين، وقدم حماة - كما ذكرنا - سار منها إلى بارين وحاصرها، ونصب عليها المجانيق، فسلمت إليه بالأمان، فلما ملكها عاد إلى حماة، وأقطعها لخاله [185] شهاب الدين محمود بن تكش الحارمى، وكان تملّك بارين في العشر الأخير من شوال من هذه السنة. ¬

(¬1) س: " لمعنى والده ". (¬2) الأصل: " عز الدين " والتصحيح عن الكامل لابن الأثير والروضتين. (¬3) بعد هذا اللفظ في س: " وكانت حماة أيضا له وغيرها، فأخذت منه، ولم يكن بقى له إلا بارين " وهو استطراد لا داعى لإثباته هنا فقد ذكر ما يدل على معناه هنا بالمتن بعد ثلاثة أسطر. (¬4) مكان هذه الجملة في س: " ففارقه ومضى وبقى ببارين نائبا له ".

ذكر استيلاء ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه على حمص

ذكر استيلاء ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه على حمص (¬1) وفى هذه السنة - أعنى سنة سبعين وخمسمائة - سلم السلطان حمص إلى ابن عمه الملك القاهر ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذى، وهى كانت إقطاعا لوالده أسد الدين في أيام نور الدين - كما ذكرنا - فملكها ناصر الدين محمد، ثم ملكها بعده ولده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه إلى سنة سبع وثلاثين وستمائة، ثم ملكها بعده ولده الملك المنصور إبراهيم إلى سنة أربع وأربعين وستمائة، ثم ملكها ولده الملك الأشرف موسى بن إبراهيم بن شيركوه، فأخذت منه سنة ست وأربعين وستمائة. ثم لما ملك التتر الملاعين البلاد الشامية سنة ثمان وخمسين وستمائة أعادوها إلى الملك الأشرف، ودخل في طاعتهم، ثم لما كسر الملك المظفر سيف الدين قطن المعزى صاحب مصر التتر بعين جالوت وملك الشام قرّر الملك الأشرف بها، فبقيت معه إلى أن توفى الملك الأشرف سنة اثنين وستين وستمائة [فملكها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس صاحب مصر] (¬2) ثم عاد السلطان الملك الناصر - رحمه الله - إلى دمشق، فدخلها في آخر شوال، ثم رحل منها إلى مرج الصفر، فنزل به إلى آخر السنة. ودخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة والسلطان بمرج الصفر، فجاءه رسول الفرنج يطلب الهدنة، فأجابهم السلطان إليها، بعد أن اشترط عليهم أمورا التزموها، ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في س، وإنما ربط بين ما قبله وما بعده بلفظ: " قال ". (¬2) ما بين الحاصرتين زيادات عن س (67 ب) وهذا استطراد التزمه ابن واصل في كتابه هذا، فهو كلما عرض لذكر مدينة من مدن الشام الكبرى - وخاصة تلك المدن التي كانت مقر الإقطاع في تلك العصور - تتبع الأسرة الحاكمة لها إلى قبيل الوقت الذى يؤلف فيه كتابه. وهذا الاستطراد أخيرا يدل على أن ابن واصل كان يكتب هذا الجزء من كتابه بعد سنة 662 هـ‍.

ذكر اجتماع الحلبيين والمواصلة لحرب السلطان الملك الناصر ثانيا

وكان الشام مجدبا، فأذن السلطان للعساكر المصرية في الرحيل إلى بلادهم، وإذا استغلوها (¬1) رجعوا إليه. ثم رجع السلطان إلى دمشق، وواظب الجلوس في دار العدل، والصيد، ومدحه كاتبه عماد الدين بقصيدة أولها: سواك لسهم (¬2) العلى لن (¬3) يريشا ... فنسأل ربّ العلى أن تعيشا من الناس بالبرّ صدت الكرا ... م، وبالبأس في البرّ صدت الوحوشا وكم سرت (¬4) من مصر نحو العري‍ ... ـش، فهدمت للمشركين العروشا سراياك تبعث قدّامها ... - من الرعب، نحو الأعادى - جيوشا [186] ويوم حماة تركت العدا ... ة، كما طردت (¬5) بالفلا الريح ريشا ذكر اجتماع الحلبيين والمواصلة لحرب السلطان الملك الناصر ثانيا لما انتظم الصلح بين السلطان والحلبيين، وسمع بذلك سيف الدين غازى ابن مودود - صاحب الموصل - عتب على الحلبيين، ووبخهم ونسبهم إلى العجلة في ذلك [وإلى الضعف] (¬6)، وسلوك غير طريق الحزم، وحملهم على النقض والنكث، وأنفذ إليهم من أخذ عليهم المواثيق، ثم توجه ذلك الرسول إلى دمشق، ليأخذ لسيف الدين من السلطان عهدا، ويكشف أيضا ¬

(¬1) س: " وإذا استغفروهم ". وما هنا يتفق ونص العماد في (الروضتين، ج 1، ص 252) (¬2) كذا في الأصل وفى (الروضتين، ج 1، ص 252)؛ وفى س: " سهم ". (¬3) في الأصل، وفى س: " أن " وما هنا عن الروضتين. (¬4) كذا في الأصل، وفى الروضتين، وفى س: " نفرت ". (¬5) كذا في الأصل وفى س، وفى الروضتين: " طيرت ". (¬6) ما بين الحاصرتين عن س (67 ب).

ما عنده، فلما خلا به طالبه السلطان بنسخة اليمين (¬1)، فغلط الرسول وأخرج من كمه يمين الحلبيين لسيف الدين، وناولها له، فتأملها وأخفى (¬2) سره، واطلع على ما اتفقوا عليه وردها إليه، وقال: " لعلها قد تبدلت "، فعرف الرسول أنه قد غلط، ولم يمكنه تلافى الفارط منه، وقال السلطان: " كيف حلف الحلبيون لسيف الدين، ومن شرط أيمانهم أنهم لا يعتمدون أمرا إلا بمراجعتهم لنا واستئذانهم؟ "، وتحقق أنهم على نقض العهد. وشاع الخبر عنهم بالخروج في الربيع، فكتب السلطان إلى نائبه بمصر، وهو أخوه الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، يعلمه بذلك، ويأمره أن يأمر العساكر بالاستعداد والخروج في شعبان. وصالح سيف الدين أخاه عماد الدين - كما ذكرنا - وعاد (3) عن سنجار إلى الموصل، وجمع العساكر وأنفق فيهم الأموال، واستنجد بصاحب الحصن وصاحب ماردين وغيرهما، ثم سار إلى نصيبين في ربيع الأول من هذه السنة، وأقام بها حتى انسلخ الشتاء، ثم سار متوجها إلى حلب، فعبر الفرات من البيرة، وخيّم على الجانب الغربى، وراسل الحلبيين، واستقرت القاعدة أنه يصل إليهم، وذلك بعد (3) رسول سعد الدين كمشتكين (¬3) إليه، ومراجعات كثيرة وقعت بينهم عزم على العود منها مرارا، ثم سار ووصل إلى حلب، فخرج إليه ابن عمه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين - رحمهما الله - فالتقاه قريب القلعة، واعتنقه وضمه إليه وبكى (¬4)، ثم أمره بالعودة إلى القلعة، فعاد إليها، وسار هو حتى نزل بعين المباركة، وأقام بها مدة، وعسكر حلب يخرجون إلى خدمته كل يوم، وصعد إلى القلعة جريدة، وأكل فيها، ونزل. ¬

(¬1) س: " فلما خلا به أراد أن يخرج له نسخة اليمين ". (¬2) الأصل: " وأخفا ". (¬3) هذا اللفظ ساقط من س. (¬4) الأصل: " وبكا ".

ذكر الوقعة بتل السلطان

ذكر الوقعة بتل السلطان ووصلت من مصر العساكر [187] إلى السلطان الملك الناصر، فسار بهم متوجها إلى حلب، فوصل حماة، ثم رحل منها إلى مرج أبو قبيس، وجاء الخبر أن الحلبيين والمواصلة في عشرين ألف فارس سوى سوادهم، وأنهم موعودون من الفرنج بالنجدة، وأمدادهم متواصلة، ولم يكن اجتمع من عسكر السلطان سوى ستة آلاف فارس، فرتّب السلطان عسكره، وأطلق الحلبيون من في الأسر من ملوك الفرنج، منهم: أرناط (¬1) برنس صاحب الكرك، وجوسلين (¬2) خال الملك؛ وقرروا معهم المساعدة لهم، ورحل سيف الدين بالعساكر إلى تل السلطان. وبلغ السلطان الملك الناصر الخبر وقد عيّد عيد الفطر، فعبر العاصى عند شيزر، ورتّب العسكر، وأعاد الأثقال إلى حماة، ثم سار حتى أتى قرون حماة، فبلغ الحلبيين أنه قد قارب عسكرهم، فأخرجوا اليزك (¬3)، ووجهوا من يكشف الأخبار، فوجدوه قد وصل جريدة إلى جباب (¬4) التركمان، وتفرق عسكره لسقى خيله، ولو أراد الله نصرتهم لقصدوه في تلك الساعة، لكن صبروا عليه ¬

(¬1) هكذا ترسمه المراجع العربية وهو (Le Prince Arnauld Seigneur de Carac) وكان اسمه قبل مجيثه إلى الشام: (Renaud de Chatillon) . (¬2) س: " وابن جوسلين بن خال الملك " وما هنا يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 1، ص 255). وهو (Goscelin III of Courtenay,titular Count of Edessa) جوسلين الثالث من كورتينى الأمير الأسمى للزها، وكان سجينا في حلب فأطلق سراحه كما بالمتن هنا. أنظر أخباره في (RUNCIMEN : A History of the Crucades,Vol .2 pp .405 - 407 - 408 etc) . (¬3) اليزك لفظ فارسى معناه: طلائع الجيش. أنظر: (DOZY : Supp .Dict .Arab) . (¬4) كذا في الأصل وفى الروضتين. وفى (اللسان): الجباب الركايا تحفر ينصب فيها العنب أي يغرس فيها كما يحفر للفسيلة من النخل.

حتى سقى خيله هو وعسكره، واجتمعوا وتعبّوا للقتال، وذلك يوم الأربعاء التاسع من شوال من هذه السنة - أعنى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة - ثم وصل السلطان إلى تل السلطان العصر، وقد تعب هو وعسكره وعطشوا، فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس بهم حركة، فأشار على سيف الدين جماعة من أصحابه بقتالهم على هذا الحال، فقال بزلفندار: " ما بنا حاجة إلى قتال هذا الخارجى هذه الساعة، غدا بكرة نأخذهم كلهم " فتركوا القتال إلى الغد، فلما أصبحوا يوم الخميس اصطفوا للقتال، وكان في ميمنة (¬1) سيف الدين مظفر الدين كوكبورى بن زين الدين على كوجك - صاحب إربل -، فكسر ميسرة (¬2) السلطان، ثم حمل السلطان بنفسه فانكسروا بين يديه، فلم يقف منهم أحد على أحد، فأسر جماعة من أمرائهم الأكابر، منهم فخر الدين عبد المسيح، فمنّ عليهم وأطلقهم، واستولى السلطان على جميع مخيمهم وسرادق (¬3) سيف الدين غازى وابن أخيه عز الدين فرخشاه. ثم ركض السلطان وراء سيف الدين فلم يدركه، فعاد وخلع على [بقية] (¬4) الأمراء المأسورين، ومنّ عليهم، ونزل في السرادق [188] السيفى فتسلمه بخزائنه واصطبلاته، ومطابخه (¬5)، ففرقها جميعا، ورأى في السرادق طيورا من القمارى والبلابل والهزارات (¬6) والببغاء (¬7) في الأقفاص، فاستدعى السلطان ¬

(¬1) الأصل: " ميسرة " والتصحيح عن: (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 41). (¬2) س: " ميمنة " وما هنا يتفق ونص ابن شداد. (¬3) س: " وهرب سيف الدين غازى وابن أخيه عز الدين فرخشاه فاستولى السلطان على سرادقهم ". (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (69 أ). (¬5) الأصل: " ومفاتحه "، وما هنا عن العماد (الروضتين، ج 1، ص 255). (¬6) الأصل: " والفرارات " والتصحيح عن س والعماد. (¬7) ما بين الحاصرتين عن س (69 أ - ب).

مظفر [الدين] (¬1) الأقرع، - وهو أحد ندماء سيف الدين - (¬2)، فقال له: " خذ هذه الأقفاص، واذهب بها إلى سيف الدين، وسلم عليه عنا، وقل له: عد إلى اللعب بهذه الطيور، فهى أسلم لك عاقبة من الحرب ". (¬3) ووصل سيف الدين ومن معه [ركضا] (¬4) إلى حلب، وترك بها أخاه عز الدين مسعود في جمع من العسكر وعاد إلى الموصل وهو لا يصدق بالنجاة؛ [وكانت هذه الكسرة من الله تعالى بغير حرب ولا قتال]، (4) ولم يقتل في هذا المصاف مع كثرته إلا رجل واحد. ولما وصل سيف الدين الموصل استشار وزيره جلال الدين، ومجاهد الدين قايماز، في مفارقة الموصل والاعتصام بقلعة عقر الحميدية، فقال له مجاهد الدين: " أرأيت إن ملكت الموصل عليك أتقدر أن تمتنع ببعض أبراج الفصيل؟ " فقال: " لا "، فقال: " برج في الفصيل خير من العقر ". وما زال الملوك منهزمين، ويعاودوا في الحرب، واتفق هو والوزير على شد أزره، وتقوية قلبه [فأقام مكانه، ووصل إليه أخوه عز الدين بمن اجتمع إليه من العسكر المنهزم، وتراجعت بقية العساكر إلى الموصل، والحلبيون إلى بلادهم] (4) وغلّط ابن الأثير في تاريخه ما ذكره عماد الدين في البرق [الشامى]: وهو أن عسكر سيف الدين في هذه الوقعة كان عشرين ألف فارس. وقال: " عسكر الملك الناصر صلاح الدين لم يكونوا يزيدون على ستة آلاف فارس ". ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (69 أ). (¬2) س: " ومن أخذ بدمام سيف الدين ". (¬3) أضاف ابن أبى طى (الروضتين ج 1، ص 255) قوله: " ووجد السلطان عسكر الموصل كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والعيدان والجنوك والمغنيين والمغنيات. . واشتهر أنه كان مع سيف الدين أكثر من مائة مغنية، وأن السلطان أرى ذلك لعساكره واستعاذ من هذه البلية ". (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (69 أ - ب).

قال [ابن الأثير]: " إنى وقفت على جريدة العرض وترتيب العسكر في المصاف ميمنة وميسرة وقلبا وجاليشية (¬1) وغير ذلك، وكان المتولى لذلك والكاتب له أخى مجد الدين أبى السعادات المبارك، قال: " وانما قصد عماد الدين في تاريخه تعظيم صاحبه، وأنه هزم بستة آلاف عشرين ألفا، والحق أحق أن يتبع ". ولما كسر السلطان الملك الناصر المواصلة والحلبيين هنأه عماد الدين بقصيدة منها: فالحمد لله الذى إفضاله ... حلو الجنا، عالى السّنا، وضّاحه عاد العدوّ بظلمة من ظلمه ... في ليل ويل قد خبا مصباحه وجنا عليه جهله بوقوعه ... في قبضة البازى، فهيض (¬2) جناحه [189] حمل السلاح إلى القتال، ومادرى ... أنّ الذى يجنى عليه سلاحه أضحى يريد مواصليه صدوده، ... وغدا يحيد رثاءه مدّاحه إن أفسد الدين العداة (¬3) بحنثهم، (¬4) ... فالناصر الملك الصلاح صلاحه قد كان عزمك للإله مصمما ... فيهم، فلاح كما رأيت فلاحه فكأننى بالساحل الأقصى، وقد ... ساحت ببحر (¬5) دم الفرنجة ساحه ¬

(¬1) س (69 ب): " وجناحين " وما هنا يتفق ونص (ابن الأثير: الكامل، ج 1، ص 162)، والجاليش أصلا معناها الراية العظيمة في رأسها خصلة من الشعر، ثم أطلقت على مقدمة القلب في الجيش أو على الطليعة منه. أنظر تعليقات الدكتور زيادة في (السلوك، 1، ص 628 ج و 692). (¬2) في الأصل: " مهيض "، وما هنا عن الروضتين، وفى س: " فقص ". (¬3) كذا في الأصل وفى س؛ وفى الروضتين: " الغلاة "؛ وفى (العماد: الخريدة، قسم شعراء مصر، ج 1، ص 18): " العصاة ". (¬4) الأصل: " بخبثهم "، والتصحيح عن الخريدة والروضتين. (¬5) الأصل: " بحر " وما هنا رواية الخريدة، والقصيدة في الخريدة كثيرة الأبيات، فراجعها هناك.

ذكر ما فتح السلطان من البلاد بعد الكسرة

فاعبر إلى القوم الفرات ليشربوا ال‍ ... موت الأجاج، فقد طما طمّاحه (¬1) لتفكّ من أيديهم رهن الرها ... عجلا، ويدرك ليلها إصباحه وابغوا لحرّان الخلاص، فكم بها ... حرّان قلب نحوكم ملتاحه نجّوا البلاد من البلاء بعدلكم، ... فالظلم باد في الجميع صراحه واستفنحوا ما كان من مستغلق ... منها، فربّكم (¬2) له فتّاحه أنتم رجال الدهر، بل فرسانه، ... ولذى (¬3) الحلوم الطائشات رجاحه فتّاكه، نساكه، ضرّاره، ... نفّاعه، منّاعه، منّاحه وأبو المظفر يوسف مطعامه، ... مطعانه، مقدامه، جحجاحه وإذا انتدى في محفل فحسبيه، ... وإذا غدا في حجفل فوقاحه ذكر ما فتح السلطان من البلاد بعد الكسرة ثم صار السلطان إلى بزاعة، فتسلمها لثمان بقين من شوال من هذه السنة - أعنى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة -، ثم فتح منبج، وكان السلطان حنقا على صاحبها قطب الدين بن ينال بن حسان لفظاظته التي قابله بها حين أرسله الحلبيون إليه، فتسلم منه قلعة منبج بما فيها، فقوّم ما كان فيها بستمائة (¬4) ألف دينار ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى س؛ وفى الروضتين: «طفاحه»، وبهذا البيت تنتهى (ص 69 ب) في نسخة س، ثم يتبع ذلك سقط كبير في نحو الثلاثين صفحة، وبذلك تقف المقابلة بين النسختين، وسنحاول المقابلة بين الأصل هنا وبين المراجع الأخرى لتقويم النص وتصحيحه. (¬2) الأصل: «فرأيكم»، والتصحيح عن الروضتين. (¬3) في الأصل: «ولذا»، وما هنا عن الروضتين والخريدة (ج 1، ص 22). (¬4) كذا في الأصل، وعند العماد وابن أبى طى: (الروضتين، ج 1، ص 257): «بثلاثمائة ألف دينار».

من عين ونقد ومصوغ ومنسوج وغلات وغير ذلك، وسامه السلطان أن يخدمه ويرد عليه ماله، فأبى وأنف وكبرت نفسه، ومضى إلى سيف الدين - صاحب الموصل - فأقطعه الّرقة، فبقى فيها إلى أن أخذها السلطان منه في سنة [190] ثمان وسبعين وخمسمائة. ولما فتح السلطان منبج قال عماد الدين الأصفهانى: نزولك في منبج ... على الظّفر المبهج ونجحك في المرتجى ... وفتحك للمرتج (¬1) دليل على نجح (¬2) ما ... تحاول أو ترتجى أمورك فيما ترو ... م واضحة المنهج وشانيك دامى الشؤ ... ون منك، شقى شجى ومن كان في حصنه ... ومن قبل لم (¬3) يخرج يقال له: ليس ذا ... بعشّك، قم فادرج فرأيك يستنزل ال‍ ... ـنجوم من الأبرج فعجّل عبور الفرا ... ت، واسر، وسر، وأدلج وعج نحو تلك البلا ... د، وعن غيرها عرّج فحرّان والرّقتا ... ن تاليتا منبج وحل عن المسلم‍ ... ـين ليلهم المدلج ¬

(¬1) الأصل: «في المرتج» والتصحيح عن الروضتين». (¬2) الأصل: «كلما» والتصحيح عن الروضتين. (¬3) الأصل: «ما» وما هنا عن الروضتين.

ذكر استيلاء الملك الناصر على عزاز وقفز الملاحدة عليه

ذكر استيلاء الملك الناصر على عزاز وقفز الملاحدة عليه (¬1) ثم سار السلطان إلى أعزاز فحاصرها ثمانية وثلاثين يوما، وضيّق على من بها ونصب عليها المجانيق (¬2)، وقتل عليها كثير من عسكره. ولما كانت ليلة الأحد حادى عشر ذى القعدة قفزت الملاحدة على السلطان، وكانت للأمير جاولى الأسدى خيمة قريبة من المجانيق، وكان السلطان يحضر فيها كل يوم لمشاهدة الآلات، ويحرض الرجال على الحرب، فحضر تلك الليلة والباطنية في زى الأجناد وقوف بين يديه، إذ قفز واحد منهم فضرب رأسه بسكينة، فلولا المغفر (¬3) الزرد كان تحت القلنسوة لقتله، فأمسك السلطان يد الباطنى بيديه، ولم يقدر على منعه من الضرب بالكلية (¬4)، فبقى يضربه في عنقه ضربا ضعيفا، وعلى السلطان كزاغند، (¬5) فكانت الضربات تقع في زيق الكزاغند ¬

(¬1) يقصد بهم إسماعيلية الشام المعروفين بالحشاشين أو الحشيشية، ولعلهم يقصدون بهذه المحاولة الثأر للدولة الفاطمية التي قضى عليها صلاح الدين. وهذه ثانى مرة يحاولون فيها اغتيال صلاح الدين. انظر ما فات هنا ص 24، وعن هذا الموضوع راجع أيضا: (B .Lewis : Saladin and the Assassins .B .S .O .A .S .1953,XV - 2) . (¬2) أنظر (مفرج الكروب، ج 1، ص 180، هامش 2). (¬3) المغفر لفظ عربى: وله في (اللسان) جملة تعريفات، قال: المغفر والمغفرة والغفارة زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة، وقيل هو رفرف البيضة، وقيل هو حلق يتقنع به المتسلح، وقيل حلق يجعلها الرجل أسفل البيضة تسبغ على العنق فتقيه، قيل وربما كان المغفر مثل القلنسوة غير أنها أوسع يلقيها الرجل على رأسه فتبلغ الدرع ثم يلبس البيضة فوقها، فذلك المغفر يرفل على العاتقين، وربما جعل المغفر من ديباج وخز أسفل البيضة. (¬4) الأصل: «من الكلية» وما هنا عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 162). (¬5) الكزاغند - أو القزاغند - (والجمع كراغنديات وقزغنديات) لفظ فارسى معناه المعطف القصير يلبس فوق الزردية، وكان يصنع من القطن أو الحرير المبطن المنجد، ويقابله في الفرنسية Jaoqueite وفى الإنجليزية. Surcoat انظر: (DOZY : Supp Dcit Arab) .

فتقطعه والزرد [191] يمنعها من الوصول إلى رقبته، وأدرك السلطان مملوكه سيف الدين بازكوج (¬1) فأمسك السكين بكفه، فجرحه الباطنى فلم يطلقها من يده إلى أن قتل الباطنى وبضع وقطع، وجاء آخر فاعترضه الأمير داود بن منكلان [الكردى] فمنعه، وجرحه الباطنى في جنبه فمات، وقتل الباطنى، وجاء آخر فعانقه الأمير على بن أبى الفوارس وضمه من تحت إبطيه، وبقيت يد الباطنى من ورائه لا يتمكن من الضرب، ونادى [علىّ]: " اقتلونى معه فقد قتلنى وأذهب قوتى ". فطعنه ناصر الدين بن أسد الدين شيركوه فقتله، وخرج آخر من الخيمة منهزما، فثار عليه أهل سوق العسكر فقطعوه. وركب السلطان إلى خيمته، وقد ارتاع لهذه الحادثة، ودمه سايل على خده، وطوق كزاغنده مبلول، واحتجب عن الناس، واحتاط، وضرب حول سرادقه على مثال خشب الخركاه (¬2) تأزيرا، وجلس في بيت خشب، واحترس من الجند فمن أنكره أبعده، ومن عرفه أقره. ولازم حصار عزاز ثمانية وثلاثين يوما، وكان كل يوم أشد قتالا مما قبله وكثرت النقوب بها، فأذعن من بها، وتسلم القلعة حادى عشر ذى الحجة. ¬

(¬1) الأصل: «ياركوج» وما هنا عن العماد والقاضى الفاضل (الروضتين، ج 1، ص 258) (¬2) الخركاه - والجمع خركاوات - لفظ فارسى، شرحه (DOZY : Supp Dict .Arab) بأنه نوع من الخيمة يتكون من قطع من الخشب معقود بينها على شكل قبة، وتغطيها قطع من اللبد Cette espece de tente,qui se compose de morceaux de boia,reunia en forme de oonpole,et aur lesquels on eteld des pieces de feutre.

ذكر منازلة السلطان الملك الناصر لحلب ووقوع الصلح بينه وبين الحلبيين

ذكر منازلة السلطان الملك الناصر لحلب ووقوع الصلح بينه وبين الحلبيين ثم رحل السلطان من عزاز، ونزل على حلب في منتصف ذى الحجة، وكان سعد الدين كمشتكين قد خرج إلى حصن حارم، فحيل بينه وبين العود إلى حلب، ثم تضرع في الدخول إليهم واحتال، فتم له ما أراد بالسؤال. ودخلت سنة اثنين وسبعين وخمسمائة والسلطان محاصر حلب، فراسلوه وتذللوا له ولاذوا بعفوه وصلحه، فأجابهم إلى الصلح، وأبقى للملك الصالح حلب وأعمالها وأخرجوا إليه ابنة صغيرة لنور الدين - رحمه الله - فرقّ لها وأكرمها وأطلق لها شيئا كثيرا، وقال لها: " ما تريدين "؟ فقالت: " أريد قلعة عزاز " - وكانوا قد علّموها - فسلمها إليهم، ثم حلف لهم وحلفوا له، ودخل في الصلح المواصلة وأهل ديار بكر، وكتب في نسخة اليمين: " إنه إذا غدر واحد منهم وخرج عن مقتضى اليمين كان الباقون يدا واحدة عليه ". ذكر بعض المتجددات لسيف الدين غازى بالموصل [192] وفى ربيع الآخر من سنة إحدى وسبعين وخمسمائة استوزر سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود بن زنكى جلال الدين (¬1) الوزير، فظهرت منه كفاية ومعرفة بأمور الدواوين وفضيلة تامة، وكان عمره لما ولى الوزارة ¬

(¬1) عرف به (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 164) قال: هو جلال الدين أبو الحسن ابن جمال الدين محمد بن على، وكان جمال الدين وزير البيت الأتابكى.

ذكر منازلة الملك الناصر مصياف وبلد الباطنية

خمسا وعشرين سنة، ثم قبض عليه في شعبان سنة ثلاث وسبعين، فشفع فيه كمال الدين بن بلسان (¬1) - وزير صاحب آمد -، وكان مزوّجا لبنته، فأطلق، وسار إليه، وبقى بآمد مدة يسيرة مريضا، ثم توجه إلى دنيسر، وتوفى بها، سنة أربع وسبعين، وحمل إلى الموصل ودفن بها، ثم حمل منها في موسم الحاج إلى المدينة فدفن عند والده - رحمه الله - وفى ذى الحجة سنة إحدى وسبعين استناب سيف الدين غازى بقلعة الموصل مجاهد الدين قايماز، ورد إليه جميع الأمور، وكانت بيده إربل وأعمالها، على سبيل الأتابكية لزين الدين يوسف بن الأمير زين الدين على كوجك وهو صغير وكان زين الدين على كوجك لما توفى ملك ولده مظفر (¬2) الدين [أبو سعيد] كوكبورى، ثم جرى ما اقتضى نقل الأمر إلى أخيه زين الدين يوسف، فلم يزل الأمر لزين الدين يوسف إلى أن توفى، ورجع ملك إربل لمظفر الدين أخيه - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى - ذكر منازلة الملك الناصر مصياف وبلد الباطنية (¬3) لما صالح السلطان الحلبيين قصد بلد الباطنية ليقابلهم على ما فعلوه من الوثوب عليه، وكان رحيله من حلب يوم الجمعة عاشر المحرم سنة اثنين وسبعين وخمسمائة فنازل حصنهم مصياف، ونصب عليه المجانيق الكبار، وأوسعهم قتلا وأسرا، ¬

(¬1) الأصل: «نيسان» والتصحيح عن (الروضتين، ج 1 ص 260). (¬2) الأصل: «المظفر»، وقد صحح الاسم وأضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة: (زامباور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة، الترجمة العربية، ص 344) و (دائرة المعارف الإسلامية، مادة إربل). (¬3) سموا الباطنية لأنهم ينسبون لكل ظاهر باطنا، ويقولون: الظاهر بمنزلة القشور، والباطن بمنزلة اللب المطلوب. (محمد بن الحسن الديلمى اليمانى: قواعد عقائد آل محمد، ص 34). وعن العلاقات بينهم وبين صلاح الدين راجع أيضا: (B,Lewis : Saladin and the Assassins .B .S .O .A .O .1953,XV - 3) & (B,Lewis: The Sovrces far the History of Syrian Assassins,Speculum .1952.XXVII - 4).

اجتماع السلطان بأخيه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب

وساق أبقارهم وخرّب ديارهم، فثفع في القوم خاله شهاب الدين محمود بن تكش - صاحب حماة - وكانوا قد راسلوه في ذلك - لأنهم جيرانه -، فرحل عنهم وقد انتقم منهم. وكان الفرنج قد غاروا على البقاع، فخرج إليهم الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدّم، وكان ببعلبك قد أقطعه السلطان إياها، فقتل منهم وأسر أكثر من مائتى أسير، وأحضرهم عند السلطان وهو محاصر مصياف [193] ثم وصل السلطان إلى حماة وقد استكمل الظفر. اجتماع السلطان بأخيه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب كنا قد ذكرنا مسير الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه بن أيوب إلى بلاد اليمن، وفى سنة إحدى وسبعين فارق اليمن بعد أن استناب بها، وقصد خدمة أخيه السلطان الملك الناصر، فوصل إلى دمشق في ذى الحجة، ثم رحل عنها متوجها إلى السلطان فاجتمع به بمدينة حماة، فتعانقا في المخيم في الميدان، وسر السلطان بلقياه سرورا شديدا، وكان عند مفارقته اليمن قد كتب إلى السلطان كتابا ضمنه أبياتا من شعر ابن المنجم (¬1) المصرى أولها: الشوق أولع بالقلوب واوجع، ... فعلام أدفع منه ما لا يدفع ومنها: وحملت من وجد الأحبّة مفردا ... ما ليس يحمله الأحبّة أجمع لا يستقرّ بى الهوى في موضع ... إلا تقاضانى الترحّل موضع ¬

(¬1) هو نشو الدولة على بن مفرج المنحم. انظر ترجمته في: (العماد: الخريدة، قسم شعراء مصر، ج 1، ص 168 - 169) و (السيوطى، حسن المحاضرة، ج 1، ص 326).

وإلى صلاح الدين أشكو إنّنى ... من بعده مضنى الجوانج موجع جزعا لبعد الدار عنه، ولم أكن ... - لولا هواه - لبعد دار اجزع فلا ركبنّ إليه متن عزائمى، ... ويخبّ بى ركب الغرام ويوضع حتى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع فكتب إليه السلطان كتابا ضمنه قصيدة لعماد الدين الكاتب منها: مولاى شمس الدولة الملك الذى ... شمس السيادة من سناه تطلع مالى سواك من الحوادث ملجأ، ... مالى سواك من النوائب مفزع ولأنت فخر الدين فخرى في العلا ... وملاذ آمالى وركنى الأمنع وبغير قربك كلما أرجوه من ... درك المنى متعذر متمنع النصر إن أقبلت نحوى مقبل، ... واليمن إن أسرعت نحوى مسرع ثم سار السلطان إلى دمشق فدخلها سابع عشر صفر، وملّكها لأخيه الملك المعظم [194] شمس الدولة، وعزم على العود إلى الديار المصرية. وفى المحرم من هذه السنة - أعنى سنة اثنين وسبعين وخمسمائة - توفى القاضى كمال الدين الشهرزورى (¬1)، وعمره ثمانون سنة، وكان في الأيام النورية إليه قضاء القضاة والتحكم في الدولة، وكان السلطان الملك الناصر متولى الشحنكية (¬2) بدمشق أيام نور الدين، فكان كمال الدين يعكس مقاصده، ¬

(¬1) هو أبو الفضل محمد بن أبى محمد عبد الله بن أبى أحمد القاسم الشهرزورى، انظر ترجمته في: (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 375 - 378) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، صفحات كثيرة منه) و (السبكى: طبقات الشافعية، ج 4، ص 54) و (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق 1 ص 327 و 340 - 341) و (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 296) و (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 6، ص 79 - 80) و (ابن العماد: شذرات الذهب، ج 4، ص 243). (¬2) انظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 7، هامش 5).

ويكسر أغراضه، ويعترض عليه في أموره، لتوخى كمال الدين الأحكام الشرعية؛ فلما صار الملك الناصر إلى ما صار إليه من الملك وافتتح دمشق صار كمال الدين أحد قضاة بلاده؛ ولم يؤاخذه على ما صدر منه في حقه، بل أكرمه واحترمه واستشاره وعظمه، وكان ابن أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزورى قد قصد خدمة السلطان بالديار المصرية في أول ملكه، فأقطعه وأحسن إليه، ثم وصل معه إلى الشام، واستمر في صحبته، فلما اشتد بعمه كمال الدين المرض أراد أن يبقى القضاء في بيته، فوصى بالقضاء لابن أخيه ضياء الدين علما منه أن السلطان يمضى ذلك لأجل قدم هجرته عنده، ثم توفى والسلطان محاصر حلب وجلس ابن أخيه ضياء الدين في القضاء. وكان الشيخ شرف الدين أبو سعد عبد الله بن أبى عصرون (¬1) قد هاجر من حلب إلى السلطان، وأنزله عنده بدمشق، وهو رئيس أصحاب الإمام الشافعى - رحمة الله عليه - في وقته؛ والمقيم بالفتوى في زمانه فآثر السلطان أن يفوض القضاء إليه، وكره عزل ضياء الدين بن الشهرزورى، فأفضى بسره إلى القاضى الفاضل، وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكارى (¬2) يتعصب للشيخ شرف الدين لأنه شيخه، فاستشعر ضياء الدين - لما بلغه ذلك - من العزل، وأشير عليه بالاستعفاء، ففعل، فأعفى، وأبقيت عليه الوكالة الشرعية عن السلطان في بيع الأملاك. ولما استعفى ضياء الدين من القضاء لم يبق في منصب القضاء إلا فقيه يعرف بالأوحد داود، كان ينوب عن كمال الدين، فأمره السلطان بالاستمرار، وكان السلطان مائلا إلى بيت زكى الدين [195] فأمر الشيخ شرف الدين باستنابة ¬

(¬1) هو شرف الدين أبو سعد عبد الله بن السرى محمد بن هبة الله بن مطهر بن على بن أبى عصرون ابن أبى السرى، التميمى، الحديثى، ثم الموصلى. انظر ترجمته في: (ابن خلكان: الوفيات ج 2، ص 256 - 209) و (الصفدى: نكت الهميان، ص 185 - 186). (¬2) للتعريف به انظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 161، هامش 2).

القاضى محيى الدين أبى المعالى محمد بن زكى الدين والأوحد داود، وكتب لهما بالقضاء توقيع سلطانى، فكانا في حكم المستقلين، وإن كانا في الظاهر نائبين عن الشيخ شرف الدين بن أبى عصرون. ولم يزل شرف الدين متوليا للقضاء من سنة اثنين وسبعين إلى أن عاد السلطان من مصر، فتكلم الناس في ذهاب نور بصره، وأن من يكون أعمى لا يصلح للقضاء، وفى المسألة وجهان، واختار شرف الدين وجه الجواز وكأنه الأظهر إذ لا يمتنع أن يعتمد على تعريف عدلين بمن يحضر من الخصوم كما في المترجمين بالنسبة إلى القاضى الأصم، فأشار القاضى الفاضل (¬1) على السلطان أن يفوض القضاء إلى ولده محيى الدين أبى حامد محمد بن شرف الدين، ويكون هو الحاكم في الحقيقة، ويظهر أنه نائب عن أبيه، بحيث لا يظهر للناس صرفه عن القضاء، ففعل السلطان ذلك، واستمر هذا الأمر إلى سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فصرف عن القضاء، واستقل به القاضى محيى الدين بن زكى الدين إلى آخر أيام السلطان الملك الناصر - رحمه الله -. وفى أواخر صفر من هذه السنة - أعنى سنة أثنتبن وسبعين وخمسمائة - تزوج السلطان بعصمة الدين الخاتون بنت الأمير معين الدين أنر التي كانت زوجة نور الدين - رحمه الله تعالى -. ¬

(¬1) ذكر ابن خلكان أن شرف الدين هذا صنف جزء الطيفا في جواز قضاء الأعمى، ثم علق على هذا الحادث بقوله: «ورأيت في كتاب (الزوائد) تأليف أبى الحسن العمرانى صاحب كتاب (البيان) وجها أنه لا يجوز، ووقع لى كتاب جميعه بخط السلطان صلاح الدين - رحمه الله تعالى - قد كتبه من دمشق إلى القاضى الفاضل وهو بمصر، وفيه فصول من جملتها حديث الشيخ شرف الدين المذكور، وما حصل له من العمى، وأنه يقول إن قضاء الأعمى جائز، وإن الفقهاء قالوا: إنه غير جائز، فتجتمع بالشيخ أبى الطاهر بن عوف الإسكندرانى، وتسأله عما ورد من الأحاديث في قضاء الأعمى، هل يجوز أم لا؟ وبالجملة فلا شك في فضله». وقد ناقش هذه المشكلة (الصفدى: نكت الهميان، ص 60 - 61).

ذكر مسير الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - إلى الديار المصرية

ذكر مسير الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - إلى الديار المصرية ثم أزمع السلطان العود إلى الديار المصرية بعد أن قرر بدمشق أخاه الملك المعظم، فتقدمه الأمراء من أصحابه، والملوك من أهل بيته، وخرج من دمشق في يوم الجمعة لأربع بقين من ربيع الأول، والتقاه أخوه ونائبه الملك العادل. ولما استقر السلطان بداره بالقاهرة أمر ببناء السور (¬1) الدائر على مصر والقاهرة والقلعة التي على جبل المقطم، ودوره تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وذراعان بذراع العمل، وهو الذراع الهاشمى، وذلك بما فيه من ساحل القاهرة والقلعة بالجبل، من ذلك: ما بين قلعة المقسم (¬2) التي على ¬

(¬1) بنى حول القاهرة ثلاثة أسوار: الأول بناه جوهر عند إنشاء القاهرة وأداره على القصر والجامع والمناخ الذى نزل به هو وجنوده، وكان هذا السور من اللبن، وقد أدرك المقريزى قطعة منه كانت باقية حتى سنة 803 هـ‍، والسور الثانى بناه أمير الجيوش بدر الجمالى في سنة 480 هـ‍ وزاد فيه الزيادات التي أضيفت إلى القاهرة، وبنى هذا السور من اللبن أما الأبواب فبنيت من الحجارة، والسور الثالث - وهو المشار اليه هنا في المتن -، وبدأ في عمارته السلطان صلاح الدين في سنة 566 هـ‍ وهو لا يزال وزيرا للعاضد، وبعد استقلاله بمصر انتدب في سنة 569 بهاء الدين قراقوش الأسدى للاشراف على بنائه بحيث يضم بين جنباته القاهرة والقلعة والفسطاط جميعا. انظر الفصل الذى عقده المقريزى للحديث عن سور القاهرة في (الخطط، ج 2، ص 204 - 209). (¬2) عرف (ابن تغرى بردى: النجوم، ج 4: ص 53) المقس - نقلا عن القضاعى - بقوله: «المقس كانت ضيعة تعرف بأم دنين، وإنما سميت المقس لأن العشّار وهو المكّاس كان فيها يستخرج الأموال، فقيل له المكس، ثم قيل المقس»، وقد حرف اللفظ فيما بعد إلى المقسم كذلك، وقد علق المرحوم محمد رمزى على هذا بقوله، «المقس، والمكس، والمقسم، وأم دنين كلها أسماء مترادفة لقرية كانت واقعة على شاطئ النيل وقت أن كان النيل يجرى في عهد الدولة الفاطمية في المكان الذى يمر فيه اليوم شارع عماد الدين وميدان محطة مصر وما بعده إلى الشمال بشارع الملكة نازلى، وكان المقس في عهد الدولة الفاطمية مقصورا على قرية المقس التي كانت واقعة في المنطقة التي =

شاطئ النيل وبين البرج بالكوم الأحمر (¬1) بساحل مصر [196] عشرة آلاف وخمسمائة، وما بين القلعة بالمقسم وحائط قلعة الجبل (¬2) بمسجد سعد الدولة (¬3) ثمانية (¬4) آلاف وثلاثمائة واثنان وتسعون ذراعا، ومن جانب حائط القلعة من جهة مسجد سعد الدولة إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف ومائتا ذراع وداير القلعة [بالجبل] (¬5) بمسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف ومائتان وعشرة أذرع، وذلك طول قوسه في أبراجه وأبدانه، ومن النيل إلى النيل على التحقيق والتعديل، (¬6) وذلك بتولى الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، فشرع في بناء القلعة وقطع الخندق (¬7) وتعميقه وحفر واديه وتضييق طريقه، وهناك مساجد يعرف أحدها بمسجد سعد الدولة، فاشتملت القلعة عليها، ودخلت في الجملة، وحفر في رأس الجبل ¬

= يقع فيها اليوم جامع أولاد عنان لغاية شارع قنطرة الدكة، ويدخل فيها مدخل شارع إبراهيم باشا والمبانى التي على جانبيه لغاية الدرب الإبراهيمى. أما قلعة المقس فقد حدد موضعها المرحوم محمد رمزى (المرجع السابق، ص 39، هامش 4) بقوله: «ومحلها اليوم المكان القائم عليه عمارتا الأوقاف وراتب باشا المجاورتان لجامع أولاد عنان من الجهة البحرية الشرقية بميدان باب الحديد». (¬1) الكوم الأحمر كان واقعا عند فم الخليج على جانبه الغربى في نهاية شارع قصر العينى من الجهة الجنوبية. (¬2) الأصل: القلعة بالجبل، والتصحيح عن (المقريزى: الخطط، ج 2، ص 208). (¬3) كان مسجد سعد الدولة واقعا بقلعة الجبل بجوار برج المبلات المشرف اليوم على تربة يعقوب شاه المهمندار التي في الجنوب الشرقى لسور القلعة، تعليقات المرحوم محمد رمزى في (النجوم، ج 4، ص 41، هامش 1). (¬4) الأصل: «ثلاثة» والتصحيح عن خطط المقريزى والنجوم الزاهرة، الأجزاء والصفحات المذكورة سابقا. (¬5) ما بين الحاصرتين زيادة عن (النجوم، ج 4، ص 41). (¬6) هذا النص مصدره الأصيل: العماد الأصفهانى. انظر: (الروضتين، ج 1، ص 268) (¬7) ذكر (المقريزى: الخطط، ج 2، ص 179 - 180) أن جوهر اقصد باختطاط القاهرة حيث هى «أن تصير حصنا فيما بين القرامطة وبين مدينة مصر ليقاتلهم من دونهما، فأدار السور اللبن على مناخه الذى نزل فيه بعسكره. . . واحتقر الخندق من الجهة الشمالية ليمنع اقتحام عساكر القرامطة إلى القاهرة وما وراءها من المدينة».

بئرا (¬1) ينزل فيه بالدرجة المنحوتة من الجبل إلى الماء المعين، ولم يتأت هذا بتمامه إلا بعد موت السلطان، فإنه توفى وقد بقى من السور مواضع. وبعد ذلك كمّله السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل - رحمهما الله -[وأنشأ] العمارات بالقلعة، ربنى الآدر السلطانية، وسكنها، ولم يسكنها أحد قبله من أهل بيته (¬2) وإنما كان سكناهم بدار الوزارة (¬3)، ثم استمرت السكنى للملوك بالقلعة إلى يومنا هذا. وأمر السلطان الملك الناصر ببناء المدرسة (¬4) التي عند قبر الإمام الشافعى - ¬

(¬1) هذه البئر لا تزال موجودة في القلعة وتعرف ببئر يوسف، وقد وصفها ابن تغرى بردى - نقلا عن ابن عبد الظاهر - (النجوم، ج 4، ص 40) بقوله: «وحفر البئر التي بقلعة الجبل أسارى الفرنج، وكانوا ألوفا، وهذه البئر من عجائب الأبنية، تدور البقر من أعلاها وتنقل الماء من نقالة في وسطها، وتدور أبقار في وسطها تنقل الماء من أسفلها، ولها طريق إلى الماء تنزل البئر إلى معينها في مجاز، وجميع ذلك حجر منحوت ليس فيه بناء، وقيل إن أرض هذه البئر مسامتة لأرض بركة الفيل وماؤها عذب، سمعت من يحكى عن المشايخ أنها لما حفرت جاء ماؤها حلوا، فأراد قراقوش الزيادة في مائها فوسعها، فخرجت منها عين مالحة غيرت حلاوتها». (¬2) بدأ صلاح الدين في إنشاء قلعة الجبل سنة 572 هـ‍ وكان يقيم بها بعض الأيام، وسكنها ابنه الملك العزيز عثمان في أيام أبيه مدة، ثم انتقل منها إلى دار الوزارة. وقد تم بناء القلعة في سنة 604 هـ‍ في عهد الملك الكامل محمد الذى انتقل إليها واتخذها دار ملك، وظلت كذلك إلى عهد الخديو إسماعيل حيث نقلت منها دواوين الحكم إلى دور أخرى في قلب القاهرة. انظر: (المقريزى: الخطط، ج 2 ص 330 - 336) وتعليقات محمد رمزى (النجوم الزاهرة: ج 6، ص 54، هامش 1). (¬3) انظر: (المقريزى: الخطط، ج 2، ص 301 - 304) و (مفرج الكروب، ج 1 ص 164، هامش 1). (¬4) المعروف أن هذه المدرسة بدئ في بنائها سنة 572 هـ‍ ولكن الرحالة ابن جبير زار مصر سنة 578 هـ‍ وشاهد هذه المدرسة وهى لا تزال في دور البناء والتأسيس ووصفها في رحلته (ص 48) بأنها " مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها، لا أوسع مساحة ولا أحفل بناء، يخيل لمن يتطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته، بازائها الحمام، إلى غير ذلك من مرافقها، والبناء فيها حتى الساعة، والنفقة عليها لا تحصى، تولى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الخبوشانى، وسلطان هذه الجهات صلاح الدين يسمح له بذلك كله، ويقول: زد احتفالا وتأنقا وعلينا القيام بمؤونة ذلك كله " =

رحمه الله - بتولى الفقيه الزاهد نجم الدين الخبوشانى (¬1) وأمر باتخاذ دار في القصر بيمارستانا (¬2) للمرضى، ووقف عليه وعلى المدرسة وقوفا كثيرة. ثم رحل السلطان، وذلك لثمان بقين من شعبان من هذه السنة، واستصحب ولديه الملك الأفضل نور الدين عليا والملك العزيز عماد الدين عثمان - رحمهما ¬

= وقد سميت هذه المدرسة فيما بعد " بالناصرية " نسبة إلى منشئها الملك الناصر صلاح الدين، وقد ذكرها (المقريزى: الخطط، ج 4، ص 251) باسم " المدرسة الناصرية بالقرافة "، وقال إن صلاح الدين رتب بها مدرسا يدرس الفقه على مذهب الشافعى وجعل فيها معيدين وعدة من الطلبة، ورتب للجميع الرواتب الشهرية، وأوقف الأوقاف الكثيرة للصرف عليها. وموضع هذه المدرسة الآن جامع الإمام الشافعى. (¬1) هو أبو البركات محمد بن الموفق بن سعيد بن على بن الحسن بن عبد الله الخبوشانى الشافعى المعروف بنجم الدين، هو أصلا من خبوشان وهى بليدة بناحية نيسابور، قدم مصر سنة 565 هو كان يكره الفاطميين ويهاجمهم، وكان صلاح الدين حسن العقيدة فيه، وقد مدحه بعض من ترجموا له فقال (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 374) إنه كان فقيها فاضلا كثير الورع. وقال (السبكى طبقات الشافعية، ج 4، ص 190) هو الفقية الصوفى أحد الأئمة علما ودينا وورعا وزهدا. أما (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق 1، ص 414) فقد انتقصه وجرّحه، قال: " وكان كثير الفتن منذ دخل مصر إلى أن مات، وما زالت الفتن قائمة بينه وبين الحنابلة وابن الصابونى وزين الدين بن نجية، ويكفرونه ويكفرهم، وكان طائشا متهورا، نبش قبر ابن الكيزانى، وأخرج عظامه من عند الشافعى، وكان يصوم ويفطر على خبز الشعير، فلما مات وجد له ألوف دنانير، وبلغ صلاح الدين فقال: " يا خيبة المسعى "، وكان يبعث إليه بالصدقات فيأخذها لنفسه، ولما توجه سيف الإسلام إلى اليمن جاء يعوده ويستقضى حوائجه، فقال له الخبوشانى: " لى إليك حاجة " قال: وما هى؟ " قال: " تضرب رقبة كل من في المدينة ومكة، وتأخذ أموالهم، وتسبى نساءهم، وقد أبحت لك ذلك " فقام سيف الإسلام من عنده وهو يسبه، وقال: " أنظروا إلى هذا الرقيع يبيح دماء جيران الله ودماء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وكانت وفاته في صفر، وسكنت الفتن، واصطلح الناس وكان سبئ الخلق قبيح العشرة، وولى بعده تدريس مدرسة الشافعى شيخ الشيوخ صدر الدين ابن حمويه ". (¬2) البيمارستان المستشفى، وهى كلمة فارسية مكونة من لفظين " بيمار " ومعناها مريض، و " ستان " ومعناها مكان. وقد أنشأ صلاح الدين هذا البيمارستان سنة 577 هـ‍ مكان قاعة بالقصر الكبير بناها العزيز بالله الفاطمى في سنة 384 هـ‍، وكان القرآن مكتوبا على حيطانها. وذكر محمد رمزى في تعليقاته على (النجوم الزاهرة، ج 4، ص 101، هامش 3) أن موضع هذا البيمارستان اليوم مجموعة المبانى الواقعة خلف دورة مياه جامع سيدنا الحسين من الجهة البحرية إلى عطفة القزازين، وكان الدخول إليه من باب قصر الشوك بدرب القزازين بقسم الجمالية ".

الله - فوصل إلى ثغر دمياط (¬1)، وبها سبى كثير جلبه الأسطول، ثم رحل إلى ثغر الإسكندرية (¬2) وتردد إلى الشيخ الحافظ أبى طاهر أحمد بن محمد السلفى (¬3) - رحمه الله - في كل جمعة ثلاثة أيام: الخميس والجمعة والسبت، وإنما استصحب ولديه في هذه السفرة ليسمعهما الحديث النبوى وتعمهما البركة. ثم عاد السلطان إلى القاهرة، فصام بها بقية شهر رمضان، ووفّر نهاره بها على نشر العدل وإفاضة [197] الجود، وسماع حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - وإشادة قواعد الشرع المطهر، ومدحه كاتبه عماد الدين بقوله: فديتك من ظالم منصف ... وناهيك من باخل مسرف (¬4) ¬

(¬1) انظر: (الدكتور جمال الدين الشيال: مجمل تاريخ دمياط، ص 18). (¬2) انظر: (الروضتين، ج 1، ص 269؛ ج 2، ص 24) و (الدكتور جمال الدين الشيال الاسكندرية، طبوغرافية المدنية وقطورها من أقدم العصور إلى الوقت الحاضر، ص 218 و 219 و 222). (¬3) هو أبو طاهر عماد الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحدث المشهور، والسلفى لقب جدله نسبة إلى سلفة، وهو لفظ أعجمى معناه ثلاث شفاه، لأن إحدى شفتيه كانت مشقوقة فصارت مثل شفتين، وقد تلقى دراسته الأولى بأصبهان، ثم حج وسمع بالحرمين وطوف بالبلاد في طلب الحديث، فزار بغداد ودمشق وصور، وانتهى به المطاف إلى الإسكندرية في سنة 511 هـ‍، وظل مقيما بها إلى أن توفى سنة 576، ودفن كما يقول ابن خلكان " في وعلة، وهى مقبرة داخل السور عند الباب الأخضر "، وقد بنى له العادل بن السلار وزير الخليفة الفاطمى الظافر مدرسة بالاسكندرية، وهى إحدى مدرستين بنيتا في الاسكندرية قبل عصر صلاح الدين. وللحافظ السلفى كتاب قيم عنوانه " معجم السفر " ترجم فيه لعدد كبير من العلماء الذين اتصلوا به أثناء مقامه بالاسكندرية وتوجد منه صور شمسية بدار الكتب المصرية بالقاهرة، رقم 3932. انظر: (ابن خلكان: الوفيات، ج 1 ص 87 - 90) و (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 87 و 127) و (السبكى: طبقات الشافعية، ج 4، ص 43) و (السيوطى: طبقات الحفاظ، ج 2، ص 39) و (السيوطى: حسن المحاضرة ج 1، ص 165) و (ابن العماد: شذرات الذهب، ج 4، ص 255) و (الذهبى: تذكرة الحفاظ، ج 4) و (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 307) و (المقريزى: اتعاظ الحنفا، نسخة طوب قبوسراى، ص 143 ب). (¬4) كذا في الأصل وفى (الروضتين، ج 1، ص 269)؛ وفى (العماد: الخريدة، قسم شعراء مصر، ج 1، ص 15): " مسعف "؛ والمقتبس هناك من هذه القصيدة تسعة وعشرون بيتا، ليس من بينها مما هنا إلا البيتان الأولان.

أيبلغ دهرى قصدى وقد ... قصدت بمصر ذرى يوسف؟ ويوسف مصر - بغير التقى ... وبذل الصنايع - لم يوصف فسر وافتح القدس، واسفك به ... دما متى تجرها تنظف وأهد إلى الاسبتار البتّار، ... وهدّ السقوف على الأسقف وخلّص من الكفر تلك البلا ... ديخلصك رّبك (¬1) في الموقف ووصلت رسل سيف الدين غازى بن مودود صاحب الموصل وصاحب ماردين وصاحب الحصن إلى دمشق، واستحلفوا الملك المعظم شمس الدولة [تور انشاه ابن أيوب]، ثم قصدوا مصر، فوقع في الأسر رسول صاحب حصن كيفا وماردين (¬2). ثم خرج السلطان - رحمه الله - من القاهرة إلى مرج فاقوس - من الأعمال الشرقية فخيم به لإرهاب الفرنج، ولازم الركوب للصيد والقنص. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى (الروضتين، ج 1، ص 269): " الله ". (¬2) جاء في (الروضتين، ج 1، ص 269) - نقلا عن ابن أبى طى - أن الذى أسر هو رسول صاحب حصن كيفا فقط، قال: " قال ابن أبى طى: وصل رسول الموصل القاضى عماد الدين ابن كمال الدين الشهرزورى بهدية وقود، فخرج الموكب للقائه، وأكرمه السلطان واحترمه، وقدم رسول نور الدين قرا أرسلان، ورسول صاحب ماردين بهدايا، واجتمعوا في دمشق، وخرجوا إلى السلطان بمصر، فاعترضهم الفرنج، فأسر رسول صاحب الحصن، ولم يزل في الأسر حتى فتح السلطان بيت الأحزان، فأطلقه وأحسن إليه ".

ذكر عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين غازى، وعوده إلى الطاعة

ذكر عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين غازى، وعوده إلى الطاعة وكان بشهرزور شهاب الدين محمد بن بزان في طاعة سيف الدين غازى بن مودود ابن زنكى وفى خدمته، وكان مجاهد الدين قايماز بإربل متوليا أمورها، وقائما بأتابكية زين الدين يوسف بن زين الدين على - كما ذكرنا -، فلما فوض إلى مجاهد الدين النيابة عن سيف الدين غازى، وكان بينه وبين شهاب الدين عداوة، خاف ابن بزان بأن يناله منه أذى، فأظهر الامتناع عن النزول إلى الخدمة، فأرسل إليه الوزير جلال الدين - وزير سيف الدين - كتابا يأمره فيه بمعاودة الطاعة، ويحذره عاقبة المخالفة، فلما وصل إليه الكتاب والرسول بادر إلى حضور الخدمة بالموصل. ودخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة والسلطان الملك الناصر نازل بمرج فاقوس؛ ثم عاد إلى القاهرة فأقام بها إلى ثالث جمادى الأولى من السنة. ذكر وقعة الرملة ثم خرج السلطان الملك الناصر - رحمه الله - من القاهرة على نية الجهاد يوم الجمعة ثالث جمادى [198] الأولى بعد الصلاة؛ وخيم ببلبيس خامسه ثم تقدم إلى السدير (¬1) وخيم بالمبرز (¬2)؛ ثم نودى أن خذوا زادكم عشرة أيام أخرى للاستظهار. ¬

(¬1) واد بين العباسة والخشبى، وكانت تنصب فيه فضلات مياه النيل إذا زاد، فيصير غيضة ذات مستتعات. (ياقوت: معجم البلدان)، وقال (المقريزى: الخطط، ج 1، ص 374) عند كلامه عن " العباسة ": هذه القرية فيما بين بلبيس والصالحية من أرض السدير، وقال: فلما كانت سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس مر على السدير - وهو فم الوادى -، فأعجب به وبنى في موضع اختاره منه قرية سماها الظاهرية، وانشأ بها جامعا، وذلك في سنة 666 هـ‍. (¬2) لم أجد في المراجع التي بين يدى تعريفا بهذا الموضع.

ثم رحل بعساكره فنزل على عسقلان يوم الأربعاء لليلة بقيت من جمادى الأولى، فسبا وغنم، وجمع هناك من كان معه من الأسرى فضرب أعناقهم، وتفرق العسكر في الأعمال مغيرين (¬1)، فلما رأوا أن الإفرنج خامدون انبسطوا واسترسلوا، وتوسط السلطان البلاد. ولما كان يوم الجمعة ثانى جمادى الآخرة استقل السلطان بعساكره راحلا ليقصدوا بعض المعاقل، واعترضه نهر [عليه] (¬2) تل الصافية، فازدحمت على العبور أثقال العسكر، فما شعروا بالفرنج إلا وقد أتوهم في أطلابهم (¬3) وجموعهم، وجماعة من سرايا المسلمين متفرقون في الضياع للإغارة، وكان مقدم الفرنج البرنس أرناط صاحب الكرك، وكان أسيرا بحلب من أيام نور الدين، ثم أطلقه الحلبيون على ما تقدم ذكره، فجرى على المسلمين خلل ذلك اليوم وانكسروا، فحكى القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - قال: " حكى السلطان - رحمه الله - صورة الكسرة في ذلك اليوم، وأن المسلمين كانوا قد تعبّوا تعبية الحرب، فلما قارب العدو رأى بعض الجماعة أن تغيّر الميمنة إلى جهة الميسرة، والميسرة إلى جهة القلب، ليكون في حالة [اللقاء] (¬4) وراء ظهورهم تل معروف بأرض الرملة، فبينماهم يشتغلون في التعبية، إذ هجم الفرنج، وقدّر الله كسر المسلمين فانكسروا كسرة عظيمة، ولم يكن لهم ¬

(¬1) الأصل: " مغترين " والتصحيح عن العماد: (الروضتين، ج 1، ص 273). (¬2) ما بين الحاصرتين عن المرجع السابق. (¬3) جمع طلب، وقد عرفها الدكتور زيادة في حواشيه على (السلوك، ج 1، ص 248، هامش 2) بقوله: " وهو لفظ كردى معناه الأمير الذى يقود مائتى فارس في ميدان القتال، ويطلق أيضا على قائد المائة أو السبعين، وكان أول ما استعمل هذا اللفظ بمصر والشام أيام صلاح الدين، ثم عدل مدلوله فأصبح يطلق على الكتيبة (Battaillon) من الجيش ". أنظر أيضا: (DOZY : Supp .Dict .Arab) . (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط في الأصل، وقد أضيف بعد مراجعة: (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 42) و (الروضتين، ج 1، ص 274).

حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية، وضلّوا في الطريق، وتبددوا، وأسر منهم جماعة فيهم الفقيه ضياء الدين عيسى، وكان وهنا عظيما جبره الله بوقعة حطّين ". وأبلى تقى الدين في ذلك اليوم بلاء حسنا، وثبت وقاتل، واستشهد جماعة من أصحابه، وهلك من الفرنج أضعافهم. وكان للملك المظفر تقى الدين ولد يقال له شهاب الدين أحمد أول ماطر شاربه، استشهد ذلك اليوم بعد ما قتل فارسا؛ وقد كان له ولد آخر، يقال له سعد الدين شاهنشاه، وهو والد سليمان شاه صاحب اليمن الذى سيأتى ذكره، فوقع شاهنشاه هذا في أسر الفرنج، ذلك أن بعض [مستأمنى الفرنج بدمشق] (¬1) خدعه، وقال له: " تجئ إلى الملك، وهو يعطيك الملك " وزوّر له كتابا، فسكن إلى صدقه وخرج معه، فلما انفرد به [199] شدّ وثاقه وحمله إلى الداويّة، وأخذ به منهم مالا، ولم يزل في الأسر إلى أكثر من أربع (¬2) سنين حتى استفكه السلطان بمال كثير، وأطلق للداويّة كلّ من كان لهم عنده في الأسر. قال عماد الدين الكاتب: " فغلّظ القلب التقوى على ذلك الولد خبر هلاك أخيه في ذلك اليوم ". وتمت الهزيمة على المسلمين، وحمل بعض الفرنج على السلطان، فقاربه حتى يكاد يصل إليه، فقتل الفرنجى بين يديه، وتكاثر الفرنج عليه، فمضى منهز ما يسير قليلا ويقف ليلحقه العسكر، إلى أن دخل الليل فسلك البرية، ومضى في نفر يسير إلى بصرى، ولقوا في طريقهم مثقة شديدة، وقلّ عليهم القوت والماء ¬

(¬1) الأصل: " من يأتى منهم إلى دمشق " والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 1، ص 273). (¬2) عند العماد (المرجع السابق): " سبع سنين ".

وهلك كثير من دواب العسكر جوعا وعطشا وسرعة سير، وفقد [كثير ممن لم يعرف له خبر] (¬1). وفقد الفقيه ضياء الدين عيسى وأخوه الظهير ومن كان في صحبتهم، فضلّ الطريق عنهم (¬2)، وكانوا سائرين إلى وراء، فأصبحوا بقرب الأعداء، فأكمنوا في مغارة، وانتظروا من يدلهم على بلاد الإسلام، فوقعوا بمن يزعم أنه يدلهم، فدلّ الفرنج عليهم، وسعى في أسرهم وعطبهم، فأسروا؛ وما خلص الفقيه عيسى إلا بعد سنين (¬3) بستين ألف دينار وفكاك جماعة من أسارى الفرنج؛ وبالجملة لم تعظم (¬4) هذه الوقعة إلا بسبب ما اتفق للمسلمين من دخول الرمل وعدم الماء والدليل. وكان ما قدره الله سبحانه من أسباب السلامة أن القاضى الفاضل كان يستظهر باستصحاب جماعة من [الكنانية] (¬5) والأدلاء، فلما وقعت الواقعة خرج بدوا به وغلمانه وأصحابه وثقاته (¬6)، وبثّ أصحابه في تلك الرمال حتى أخذوا خبر السلطان وقصده، وانتفع السلطان بتلك الأدلاء الذين معه؛ وفرّق الفاضل ما كان معه من الأزواد على المسلمين وعلى المنقطعين، وجمعهم في خدمة السلطان. وأما العسكر الذين دخلوا بلاد الفرنج للغارة فإن أكثرهم ذهب ما بين قتيل وأسير ¬

(¬1) الأصل: " وفقد كبير لهم يظهر لهم خبر " ولا يستقيم بها المعنى، والتصحيح عن العماد - وهو الأصل المنقول عنه - (المرجع السابق). (¬2) الأصل: " عليهم " والتصحيح عن العماد (المرجع السابق). (¬3) الأصل: " سنتين " والتصحيح عن العماد (المرجع السابق). (¬4) الأصل: " يغطهم " ولا يستقيم بها المعنى، وما هنا قراءة ترجيحية إذ لم يستطع الناشر تصحيحها على المراجع الأخرى، فهى من تعليق المؤلف وليست من منقوله. (¬5) ما بين الحاصرتين زيادة عن العماد (المرجع السابق). (¬6) عند العماد - وهو الأصل المنقول عنه هنا - (الروضتين، ج 1، ص 273: " وأثقاله ".

وكان وصول السلطان - رحمه الله - إلى القاهرة منتصف جمادى الآخرة وكتب إلى أخيه الملك المعظم توران شاه يصف له الوقعة بخط يده وأوله: ذكرتك والخطىّ يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفّة السّمر ويقول في كتابه: " لقد أشرفنا على الهلاك غير مدة، وما نجانا الله تعالى منه إلا لأمر يريده، [250] وما ثبتت إلا وفى نفسها أمر ". وفى هذه الوقعة يقول عماد الدين الكاتب يمدح الملك المظفر تقى الدين من قصيدة: سقى (¬1) الله العراق وساكنيه، ... وحيّاه حيا الغيث الهتون وجيرانا أمنت الجور منهم، ... فما فيهم سوى واف أمين صفوا، والدهر ذو كدر، وقدما ... وفوا بالعهد في الزمن الخؤون بنو أيوب زانوا الملك منهم ... بحلية سودد وتقى (¬2) ودين ملوك أصبحوا خير البرايا، ... لخير رعية في خير دين (¬3) أسانيد السيادة عن علاهم ... معنعنة، مصحّحة المتون بنو أيوب مثل قريش مجدا، ... وأنت لها كأنزعها البطين أخفت الشرك حتى الذّعر منهم ... يرى (¬4) - قبل الولادة - في الجنين ¬

(¬1) الأصل: " سقا ". (¬2) الأصل: " وتقا ". (¬3) الأصل: " حين " والتصحيح عن (الروضتين، ج 1، ص 274). (¬4) الأصل: " بدا " وما هنا عن المرجع السابق.

ذكر مقتل سعد الدين كمشتكين وشهاب الدين أبى صالح بن العجمى

ويوم الرملة المرهوب بأسا ... تركت الشرك منزعج القطين وكنت لعسكر الإسلام كهفا، ... أوى منه إلى حصن حصين وقد عرف الفرنج سطاك لّما ... رأوا آثارها عين اليقين (¬1) ذكر مقتل سعد الدين كمشتكين وشهاب الدين أبى صالح بن العجمى كان السبب في ذلك وقوع المنافسة بين مدبرى الملك الصالح بن نور الدين - رحمه الله -، وأن العدل شهاب الدين أبا صالح بن العجمى استولى على التدبير، وكانت تقدمة الجيوش لسعد الدين، وله حصن حارم إقطاعا، إلا أن رفقاءه حسدوا مرتبته، فمالوا إلى أبى صالح، وصارت الأمور كلها بيده، فوقع بينهما وحشة، فقفز جماعة من الباطنية يوم الجمعة على أبى صالح بن العجمى فقتلوه، واستقل سعد الدين بالأمر، فتكلم فيه حساده، وقالوا للملك الصالح: " ما قتل وزيرك ومشيرك ابن العجمى إلا كمشتكين، فهو الذى حسّن ذلك للإسماعيلية ". وقالوا له: " أنت السلطان، [201] وكيف يكون لغيرك حكم أو أمر؟ " فما زالوا به حتى قبض عليه، وطالبوه بتسليم قلعة حارم، فكتب إلى نوابه يأمرهم بتسليمها إلى نواب الملك الصالح، فامتنع الذين بها من التسليم، وتحصنوا فيها، فسيّر سعد الدين تحت الاستظهار، ليأمر أصحابه بتسليمها إلى الملك الصالح، وأمرهم بذلك، فامتنعوا، فعذّب سعد الدين، وأصحابه يرونه ولا يرحمونه، فمات في العذاب، وأصرّ أصحابه على العصيان، وذكر أن سعد الدين علق منكوسا ودخّن تحت أنفه حتى مات. ¬

(¬1) في الروضتين بيت أخير لم يثبته المؤلف هنا وهو: وأنت ثبت دون الدين تحمى حماه أوان ولى كلّ دين

ذكر منازلة الفرنج حماة ورحيلهم عنها

ذكر منازلة الفرنج حماة ورحيلهم عنها ووصل في هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة - كند كبير من الفرنج إلى الساحل يقال له " اقلندس "، من أكبر طواغيتهم، فاجتمع إليه خلق من الفرنج، وحشدوا، ونازلوا حماة في العشرين من جمادى الأولى، وصاحبها يومئذ شهاب الدين محمود بن تكش الحارمى خال السلطان، وهو مريض، وكان الأمير سيف الدين على بن [أحمد] (¬1) المشطوب بالقرب من حماة، فدخلها، وقاتل الفرنج، ومنعهم من البلد بعد أن كادوا يهجمونه، وأخرجوا من الدروب، ونصر الله أهل الإسلام؛ ثم رحلوا عن البلد، وكان مدة حصارهم له أربعة أيام. ذكر منازلة الفرنج حارم ثم ساروا إلى حارم، ونازلوا حصنها، وأقاموا على حصرها مدة أربعة أشهر، ولما سمع السلطان - رحمه الله - بنزول الفرنج على حارم، عزم على التوجه إلى البلاد الشامية، ليدفع عنها العدو، واستناب بالديار المصرية أخاه الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب. ذكر مسير السلطان - رحمه الله - إلى الشام ثم رحل السلطان من البركة (¬2) بعساكره، ووصل إلى دمشق لست بقين من شوال من هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة - وتخلّف ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن العماد (الروضتين، ج 1، ص 275). (¬2) راجع ما فات هنا في هذا الجزء، ص 18، هامش 8

القاضى الفاضل بمصر بنية الحج في السنة القابلة، ووصل منه كتاب إلى السلطان يذكر فيه: " أن العدو - خذله الله - نهض ووصل إلى صدر؛ وقاتل القلعة [202] ولم يتم له أمر، وصرف الله شره، وكفى أمره؛ ووصل من الفرنج مستأمن وذكر أنهم يريدون الغارة على فاقوس، فاستقلوا أنفسهم وعرجوا ". وذكر: " أنهم مضوا بنيّة تجديد الحشد، ومعاودة القصد " وفيه: " فصل: وأما نوبة العدو في الرملة فقد كانت عثرة، علينا ظاهرها، وعلى العدو باطنها، ولزمنا ما نسى من اسمها، ولزمهم ما بقى من عزمها، لا دليل أدل على القوة من (¬1) المسير بعد شهرين من تاريخ وقعتها إلى الشام، نخوض بلاد الفرنج بالقوافل الثقيلة والحشود الكثيرة، والحريم المستور، والمال العظيم الموفور " وولد للسلطان ولد بعد سفره، [هو] الملك الزاهر مجير الدين [أبو سليمان] (¬2) داوود، وهو أخو الملك الظاهر غياث الدين غازى لأبيه وأمه؛ فورد كتاب القاضى [الفاضل] (2) إلى السلطان بتهنئته، و [به] يقول: " إنه ولد لسبع بقين من ذى القعدة، وهذا الولد المبارك هو الموفى لاثنى عشر ولدا، بل لاثنى عشر نجما متوقدا، فقد زاد الله في أنجمه عن أنجم يوسف - عليه السلام - نجما ورآهم المولى يقظة، ورأى تلك الأنجم حلما، ورآهم ¬

(¬1) الأصل: " من القوة على المسير " والتصحيح عن (الروضتين، ج 1، ص 276). (¬2) ما بين الحاصرتين عن المرجع السابق.

ساجدين له، ورأينا الخلق له سجودا، وهو قادر [سبحانه] (¬1) أن يزيد جدود المولى إلى أن يراهم آباء وجدودا " وورد منه أيضا كتاب (¬2) في السنة يقول فيه: " فصل: للمولى أولاد وقد صاروا رجالا، ويجب أن تستجد (¬3) للرجال قلاعا كما جعل للسابقين (¬4) أعمارا وأعمالا، وقيل: القلاع أنوف، من حلّها شمخ بها ما في الرجال على النساء أمين " ثم ذكر في الكتاب أبياتا تتضمن السلام على الملك العزيز عماد الدين عثمان ولد السلطان - وكان توجه إلى الشام صحبة أبيه [وهى]: مملوك مولانا، ومملوك ابنه، ... وأخيه، وابن أخيه، والجيران طى الكتاب إليه منه إجابة ... لسلام مولانا ابنه عثمان والله قد ذكر السلام، وأنه ... يجزى بأحسن منه في القرآن وغريبة قد جئت فيها أولا، ... ومن اقتفاها كان بعدى (¬5) الثانى [203] فرسولى السلطان في إرسالها، ... والناس رسلهم إلى السلطان ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن المرجع السابق. (¬2) ذكر في (الروضتين، ج 1، ص 277) أن تاريخ هذا الخطاب منتصف ذى الحجة سنة 573 هـ‍. (¬3) الأصل: " نستجد " والتصحيح عن نفس المرجع. (¬4) كذا في الأصل، وفى المرجع السابق: " كما فعل السابقون أعمارا وأعمالا ". (¬5) الأصل: " بعد "، والتصحيح عن نفس المرجع.

[ووردت من الفاضل كتب من بعض فصولها] (¬1): " فصل: أما سور القاهرة فعلى ما أمر به المولى، شرع فيه وظهر العمل، وطلع البنا، وسلكت به الطريق المؤدية إلى الساحل بالمقسم (¬2)، والله يعمر المولى إلى أن يراه نطاقا مستديرا على البلدين، وسورا (¬3) بل سوارا يكون به الإسلام محلّى (¬4) اليدين، مجلّى (¬5) الضدين، والأمير بهاء الدين قراقوش ملازم الاستحثاث بنفسه ورجاله، لازم لما يعنيه بخلاف أمثاله، قليل التثقيل مع حمله لأعباء التدبير وأثقاله. " فصل: في معنى نقل القضاء عن شرف الدين بن أبى عصرون [لما ذهب بصره] (¬6) إلى ولده محى الدين: لن يخلو الأمر عن قسمين، والله يختار للمولى خيرة الأقسام، ولا ينسى له هذا التخرج الذى لا يبلغه ملك من ملوك الإسلام: إما إبقاء الأمر باسم الوالد بحيث يبقى رأيه ومشورته وفتياه وبركته (¬7)، ويتولى ولده النيابة، ويشترط عليه (¬8) المجازاة لأول زلة، وترك الإقالة لأقل عثرة، فطالما بعث حب المنافسة الراجحة على اكتساب الأخلاف ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين عن (الروضتين، ج 2، ص 2) وإضافته ضرورية إذ بدون هذه الجملة يفهم أن الفصول التالية هى من نفس الخطاب السابق، والذى يفهم من الروضتين أن الخطاب الأول الخاص بأولاد السلطان أرسل في ذى الحجة سنة 573 هـ‍، وأن الحديث عن السور وغيره فصول من خطاب آخر أرسله الفاضل في أوائل سنة 574 هـ‍. (¬2) انظر ما فات ص 52، هامش 2 (¬3) أنظر ما فات هنا، ص 52 - 53 (¬4) الأصل: " محلا ". (¬5) الأصل: " مجلا "، والروضتين: " محلأ ". (¬6) الزيادة عن: (الروضتين، ج 2، ص 2) وعن هذا الموضوع أنظر ما فات هنا ص 49 - 51 (¬7) الأصل: " ويزكيه "، والتصحيح عن الروضتين. (¬8) في الروضتين: " عليهما ".

الصالحة؛ وإما أن يفوّض الأمر إلى الإمام قطب الدين، فهو بقية المشايخ وصدر الأصحاب، ولا يجوز أن يتقدم عليه في بلد إلا من هو أرفع طبقة في العلم منه. [ومنها في إقامة عذر التأخر عن الجهاد] (¬1) فصل: وأما تأسف المولى على أوقات تنقضى عاطلة من الفريضة التي خرج من بيته لأجلها، وتجدد العوائق التي لا يوصل إلى آخر حبلها، فللمولى نية رشده، أو ليس الله بعالم بعبده، وهو سبحانه لا يسأل الفاعل عن تمام فعله، لأنه غير مقدور له، ولكن عن النية لأنها محل تكليف الطاعة، وعن مقدور صاحبها من الفعل بحسب الاستطاعة، وإذا كان المولى [آخذا] (¬2) في أسباب الجهاد، وتنظيف (¬3) الطرق إلى المراد، وهو في طاعة قد منّ (¬4) الله عليه بطول أمدها، وهو منه على أمل في نجح موعدها، والثواب على قدر [204] مشقته، وإنما عظم الحج لأجل جهده وبعد شقته، ولو أن المولى فتح الفتوح العظام في أول (¬5) الأيام، وفصل القضية بين أهل الشرك وأهل الإسلام، لكانت تكاليف الجهاد قد قضيت، وصحائف البر المكتسبة بالمرابطة والانتظار قد طويت ". [ومنها في ذكر أولاد السلطان] (¬6): ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن: (الروضتين، ج 2، ص 2) زيدت للإيضاح. (¬2) هذه الكلمة ساقطة من الأصل، وقد أضيفت عن: (الروضتين، ج 2، ص 3). (¬3) الأصل: «وتتطرق» والتصحيح عن نفس المرجع. (¬4) الأصل " يسر " والتصحيح عن نفس المرجع. (¬5) في لروضتين: " أقل ". (¬6) ما بين الحاصرتين عن الروضتين، زيدت للايضاح.

" فصل: وقبل الإجابة عن الفصول، فنبشر بما جرت العادة به - لا قطع الله تلك العادة - من سلامة وصحة وعافية شملت موالينا أولاده السادة - أطاب (¬1) الله الخبر إليهم عن المولى وإلى المولى عنهم، وعجّل لقاه لهم ولقاهم له، فإنه من يلق منهم [بل] (¬2) كل منهم ملك دسته برجه، وفارس مهده سرجه، فهم بحمد الله بهجة الدنيا وزينتها، وريحان الحياة وزهرتها، وإن فؤادا وسع فراقهم لواسع، وإن قلبا قنع بأخبارهم لقانع، وإن طرفا نام عن البعد عنهم لهاجع، وإن ملكا ملك تصبره (¬3) عنهم لحازم، وإن نعمة الله فيهم لنعمة بها العيش ناعم؛ أما يشتاق جيد المولى أن يتطوّق بدورهم؟ أما تظمأ عينه إلى أن تتروى بنظرهم؟ أما يحنّ قلبه إلى قلبه؟ أما يلتقط هذا الطير الطائر بتقبيلهم ما خرج منهم من حبه؟ وللمولى أبقاه الله أن يقول: وما مثل هذا الشوق يحمل بعضه ... ولكن قلبى في الهوى بقلوب " [وفى أخرى] (¬4): " وكل من الموالى السادة، الأمراء الأولاد والقادة، (¬5) كلهم جوهر، وكلهم المقدم، وليس فيهم بحمد الله من يؤخر على ما عوّد الله من صحة وسلامة وكفاية ووقاية، ولزوم المستقل منهم لمشهد الكتّاب، ولموقف الآماج، ومخايل الخفر منهم من تحت ليل الصبى أنور دلالة من ضوء السراج، والله تعالى يمد في عمر المولى إلى أن يرى من ظهورهم ما رأى جدّهم - رحمه الله - في أهل بيته ¬

(¬1) الأصل: «أطال» والتصحيح عن الروضتين. (¬2) ما بين الحاصرتين عن الروضتين. (¬3) الأصل: «صبره»، وما هنا عن الروضتين. (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن: (الروضتين، ج 2، ص 3)، ومنها يفهم أن النص التالى قطعة عن رسالة أخرى غير السابقة. (¬5) الأصل: «والقلادة كلها» والتصحيح عن نفس المرجع.

من البطن الرابع فوارس الحرب الرائعة، وملوك الإسلام التي منهم للإسلام أكاسرة وتبابعة، وصغيرهم ما فيهم عند العلا صغير، [205] وصغار أبناء الكبار كبار، نجوم الأرض، وذرية بعضها من بعض، والخلف الصالح المحض، وهم في الدنيا والآخرة فرسان القوة والتقى يوم الحرب ويوم العرض ". " فصل: في ذكر وخم دمشق: عرف المملوك من الكتب الواصلة التياث جسم المولى الأمير عثمان، والحقير (¬1) مما ينال ذلك الجسم الكريم يوقد (1) في قلوب الأولياء الأمر العظيم، وقليل قذاة العين غير قليل، وماذا تقول في بلد لو صحت الحمية من مائه لكانت من أكبر أسباب صحة المحتمى وشفائه، فإنه ماء يؤكل وبقية المياه تشرب، ويجد وخامته من ينصف ولا يتعصب ". " فصل: وأما المأمور به في معنى المنكرات الظاهرة وإزالة أسبابها، وغلق أبوابها، وتحصين كل مبتوتة (¬2) من عصمه، وتطهير كل موسومة بوصمة، فالله يثيب مولانا ثواب من غضب [ليرضيه بغضبه] (¬3)، وحمل الخلق على منهاج شرعه وأدبه ". ودخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة: ففى العشر الأول من ربيع الآخرة منها أغارت طائفة من الفرنج على بلد حماة، وكان الأمير شهاب الدين محمد بن تكش الحارمى صاحبها قد توفى في حادى عشر جمادى الآخرة من السنة الماضية، وتوفى ولده تكش بن أخت السلطان قبله بثلاثة أيام، فخرج إليهم مقدم عسكر السلطان بحماة الامير ناصر الدين منكورس بن ناصح الدين خمار تكين - صاحب أبو قبيس - فأسر مقدميهم، وقتل بقيتهم، وجاء إلى خدمة السلطان وهو ¬

(¬1) الأصل: «وألحقه» و «فوقع»، والتصحيح عن الروضتين. (¬2) الأصل: «مبثوقة»، والتصحيح عن الروضتين. (¬3) الأصل: «له صفة تعصمه»، ولا يستقيم بها المعنى، وما بين الحاصرتين عن الروضتين.

ذكرى عصيان شمس الدين بن المقدم ببعلبك وما [آل] إليه أمره

بظاهر حمص - والأسرى معه - فأمر السلطان بضرب أعناقهم وأن يتولى ذلك من بحضرته من أصحابه، فتقدم إمامه ضياء الدين الطبرى وضرب عنق بعضهم، وفعل كذلك الشيخ سليمان المغربى (¬1)، والأمير ايطغان بن ياروق؛ ثم استدعى عماد الدين الكاتب وأمره أن يضرب عنق بعضهم، فلم يفعل، وطلب أن يمّلكه السلطان صغيرا منهم فعوّض عنه. ذكرى عصيان شمس الدين بن المقدّم ببعلبك وما [آل] (¬2) إليه أمره كان السلطان لما فتح بعلبك سلمها إلى الأمير شمس الدين [206] بن المقدّم؛ ففى هذه السنة طلبها من السلطان أخوه الملك شمس الدولة توران شاه، لأنها مرباه ومنشؤه، فإنها كانت بيد والده نجم الدين - على ما ذكرنا -، فكان الملك المعظم يختار سكناها ويحبها، فلم يمكن السلطان مخالفته، فأمر شمس الدين بالنزول عنها ويعطيه عنها عوضا يرتضيه، فلم يجب إلى ذلك، وذكّره العهود التي له، وما اعتمده معه من تسليم البلاد إليه، فلم يصغ إليه، ولجّ في أخذها، فامتنع ابن المقدم بها وعصى، فرحل السلطان على طريق (¬3) الزراعة إلى بعلبك ونازلها محاصرا من غير قتال، فطال أمرها، ولم يسمح بها صاحبها، ودخل فصل الشتاء، فرحل السلطان عنها إلى دمشق في العشر الآخر من رجب من هذه السنة، أعنى: - سنة أربع وسبعين وخمسمائة - وتمادى الأمر إلى أن رضى شمس الدين بن المقدم ببارين وكفرطاب، وفى قرى من بلد المعرة، وسلم السلطان بعلبك إلى أخيه الملك المعظم. ¬

(¬1) الأصل: " سلمان المعرى "، والتصحيح عن: (الروضتين. ج 2، ص 5). (¬2) أضفنا ما بين الحاصرتين ليستقيم المعنى. (¬3) الأصل: " الطريق "، وقد صححت بعد مراجعة الروضتين.

ذكر بناء الفرنج بيت الأحزان

ذكر بناء الفرنج بيت الأحزان ولما كان السلطان مشتغلا بأمر بعلبك انتهز الفرنج الفرصة، وبنوا حصنا على مخاضة بيت الأحزان، وهو بيت يعقوب - عليه السلام -، وبينه وبين دمشق مسافة يوم، وبينه وبين صفد وطبرية نصف يوم، فقيل للسلطان: «إنه متى أحكم بناء هذا الحصن تمكن الوهن من بلاد الإسلام»، فقال: " إذا أتموه نزلنا عليه وهدمناه إلى الأساس ". ولما انقضى أمر بعلبك، ووصل إلى دمشق، جعل هذا الحصن من همه، وعزم على قصد حصاره، وكان قد وصل من الديوان العزيز رسول، وهو الخادم فاضل، وهو من أكبر الخدام، ففرح به السلطان، واستصحبه معه إلى الغزاة، ووقف على الحصن الذى استجده الفرنج بالمشهد اليعقوبى، وتخطف من حوله جماعة من الفرنج، ثم عاد إلى دمشق. ذكر وقعة الهنفرى (¬1) وتواترت الأخبار بأن الفرنج قد تجمعوا في جمع عظيم، وأنهم عازمون على الخروج على المسلمين على غرّة، فقدّم ابن أخيه عز الدين فرخشاه [207] بن شاهنشاه ابن أيوب - رحمه الله - على العساكر، وأمره أن يخرج إلى قتالهم، وأمره أن لا يستعجل بالقتال، بل يتركهم حتى يتوسطوا البلاد، فلم تشعر طلائع عز الدين إلا وقد خالطوهم على غرّة، فوقعت الوقعة، فقتل صاحب الناصرة، وجماعة من مقدميهم، وطلب الملك فقتل حصانه، وجاء الهنفرى - وهو من عظمائهم وشجعانهم - ليحميه، فوقعت فيه جراحات إحداها نشابة وقعت ¬

(¬1) هو همفرى الثانى صاحب حصن بانياس جنوبى شرقى دمشق Humphrey II,Lord of Toron,Constable. انظر: (RUNOIMAN : op .cit .vol 2. P. 914) ; (Lane - Poole : Saladin, P. 157) .

ذكر مسير الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه بن أيوب إلى مصر

في مارنه فجدعته، وتعدت إلى فيه ومرت بضرسه فقلعته، وخرجت من تحت فكه، ووقعت أخرى (¬1) في مشط رجله، فنفذت إلى إخمصه، وأخرى (1) في ركبته، وضرب بلت (¬2) في جنبه، فكسر منه ضلعان، وقتلت جماعة من الرجالة والخيالة، ورجعت الفرنج خائبين، ليس فيهم إلا متخن بالجراح، وكل يوم ترد البشرى بموت مقدّم من جراحة أصابته. ووردت البطاقة في ذلك اليوم بالبشرى، وخرج السلطان فما وصل إلى الكسوة إلا ورؤوسهم وأسراؤهم قد جئ بهم، ورجع منصورا مظفرا، ومات الهنفرى فذلّ العدو لموته، ثم سار السلطان إلى حصن بيت الأحزان، فأزعجهم وذعرهم، ثم عاد إلى دمشق. ذكر مسير الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه بن أيوب إلى مصر ثم وجّه السلطان أخاه الملك المعظم شمس الدولة إلى الديار المصرية بمن (¬3) ضعف من الأجناد لأنها كانت سنة جدب شديد، فرتب في بعلبك نائبا عنه، وودعه السلطان من مرج الصّفر، وذلك في أواخر ذى القعدة. ولما ودّعه السلطان أغار على بلاد الفرنج، وقصد حصن بيت الأحزان، ورجع بالأسرى والغنائم، وخيم السلطان بمرج الشعراء، ثم انتقل إلى بانياس وخيّم بتل القاضى، وبلغت الخيم حدود بلاد العدو، وكان يركب كل يوم ¬

(¬1) الأصل: " الأخرى "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2: ص 6). (¬2) انظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 140، هامش 1). (¬3) الأصل: " عن "، والتصحيح عن الروضتين.

ذكر استيلاء الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب - رحمه الله - على مدينة حماة

بحجة الصيد، وينزل على النهر [208] ويجرّد العساكر وقبائل العرب إلى صيدا وبيروت، حتى يحصدوا غلات العدو، وما يبرح مكانه حتى يعودوا بجمالهم وأحمالهم، حتى خفّ زرع الفرنج. ودخلت سنة خمس وسبعين (¬1) وخمسمائة، والسلطان مخيم بمنزلته. ذكر استيلاء الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب - رحمه الله - على مدينة حماة وكان برنس (¬2) أنطاكية قد غدر وأغار على شيزر، وغدر القومص (¬3) باطرابلس بجماعة من التركمان بعد الأمان، واقتضى رأى السلطان أن يرتب عمر ابن شاهنشاه بن أيوب بحماة، وأقطعه إياها، ورتّب في خدمته شمس الدين ابن المقدم وسيف الدين بن أحمد المشطوب، فكان في مقابلة صاحب أنطاكية ورتّب ناصر الدين محمد بن شيركوه بحمص في مقابلة القومص. وكان ترتب الملك المظفر بحماة في سنة أربع وسبعين وخمسمائة، فلم تزل بيده إلى أن توفى وهو محاصر ملازكرد في رمضان في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فرتب السلطان فيها ولده الملك المنصور ناصر الدين أبا المعالى محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، فملكها إلى أن توفى بها في ذى القعدة سنة سبع عشرة وستمائة، فملكها من بعده الملك الناصر صلاح الدين قلج أرسلان بن محمد، فحاصره الملك الكامل بن الملك العادل سنة ست وعشرين وستمائة، وأخذها منه، وملّكها ¬

(¬1) الأصل: " وثمانين " وهو خطأ واضح. (¬2) هو: (Boemund or Bohemond II) . (¬3) عن اللقب انظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 73، هامش 1)، وعن اسمه انظر ما فات هنا ص 29، هامش 2.

ذكر كسرة الفرنج بمرج العيون

للملك المظفر تقى الدين أبى الفتح محمود بن محمد، ولم يزل مالكها إلى أن توفى بها سنة اثنين وأربعين وستمائة، فملكها بعده ولده مولانا ومالك رقنا السلطان الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالى محمد بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب - رحمهم الله تعالى - فقد مضى من مدة ملكه وملك آبائه لها إلى يوم تأليف هذا الكتاب - وهو سنة إحدى وسبعين وستمائة - (¬1) نحو من سبع وتسعين سنة، ونحن نسأل الله سبحانه أن يديم ملكهم، وملك ذريتهم بها إلى يوم الدين. ذكر كسرة الفرنج بمرج العيون أجمع رأى السلطان ومن معه من المسلمين على أن يقتحموا على الفرنج بلادهم ويستوعبوا ما بقى في أيديهم من الغلات في يوم واحد ثم يرجعوا، فرحلوا صوب البقاع ليلة الأحد ثانى [209] المحرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة. ولما أصبح السلطان جاءه الخبر أن الفرنج قد خرجت فالتقاهم، فنصر الله المسلمين عليهم، فأسر فرسانهم وشجعانهم، وانهزمت رجالتهم في أول اللقاء، فكان في جملة الأسرى مقدم الداويّة (¬2). ومقدم الاسبتارية (¬3). وصاحب ¬

(¬1) هذا استطراد هام وطبيعى من المؤلف لتتبع أسماء من حكموا حماة - وطنه الأصلى - من بيت تقى الدين عمر إلى أن وصل إلى الملك المنصور الثانى الذى ألف هذا الكتاب باسمه، وأهم من هذا تحديده للسنة التي بدأ يؤلف فيها الكتاب وهى سنة 671 هـ‍. أنظر الجزء الأول من مفرج الكروب (المقدمة، ص 19، والمتن، ص 99 هامش 4، ص 113 هامش 3، ص 154). (¬2) أطلقت المراجع العربية والمسلمون المعاصرون هذا الاسم على جماعة فرسان المعبد (Templars) ومؤسس هذه الجمعية هو، (Hugh de payns) أسسها سنة 1119 م لحماية طريق الحجاج المسيحيين بين يافا وبيت المقدس، ولقد لعب فرسان هذه الطائفة ورصفاؤهم «الاسبتارية» دورا خطيرا طوال عصر الحروب الصليبية، أما اسم هذا المقدم الذى وقع أسيرا في هذه الوقعة فهو: Odo of Saint - Amand,Grand Master of the Temple انظر: (RUNCIMAN : OP .CIT .VOL .2 P. 420) . (¬3) انظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 188، هامش 2). ولم أعثر على اسم مقدم الاسبتارية الذى أسر في هذه المعركة.

الطبرية، وأخوه صاحب جبيل، وابن القومصية، وابن بارزان (¬1) صاحب الرملة؛ وصاحب جينين (¬2)، وقسطلان (¬3) يافا، وابن صاحب مرقيّة (¬4)، وعدة كثيرة من خيالة القدس وعكا، ومن البارونية (¬5)، وغيرهم من المقدمين ما يزيد على مائتين ونيف وسبعين سوى غيرهم، ونقلوا إلى دمشق، فبذل ابن بارزان في نفسه بعد سنة، مائة وخمسين ألف دينار صورية (¬6)، وإطلاق ألف أسير من المسلمين. وكان الفقيه ضياء الدين عيسى (¬7) من نوبة الرملة عندهم، قالتزم فكاكه، واستفكت (¬8) القومصية ابنها بخمسة وخمسين ألف دينار صورية، وأما مقدم الداويّة - واسمه أود - فإنه هلك في السجن، فطلبت جيفته، فسلمت إليهم، ¬

(¬1) هو: (Baldwin of Ibelin) . (¬2) الأصل: «جنين» وقد ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها بليدة بين نابلس وبيسان. (¬3) الأصل: «قسطان»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 8)، وقسطلان معرب اللفظ اللاتينى (Castellanus) ومعناه مستحفظ القلعة، ويقابله في الفرنسية: (Chatelain) . (¬4) ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها قلعة بساحل الشام قرب حمص. (¬5) الأصل: «البارندية»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 8). (¬6) انظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 269، هامش 7). ويضاف إلى ما هناك أن الأب لويس شيخو ذكر في (صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص 149، هامش 2) أن الدينار الصورى ضرب في صور في أيام الدولة الفاطمية، وكان الذهب يساوى نحو خمسة عشر فرنكا ذهبيا من النقود الحالية. وقد كان الدينار الصورى أقل قيمة من الدينار المصرى، وعن دار الضرب في صور وعن الدينار الصورى وعن أنواع الدنانير المتداولة في مصر والشام في العصر الأيوبى راجع: (منصور بن بعرة الذهبى الكامل: (كشف الأسرار العلمية بدار الضرب المصرية، مخطوطة بدار الكتب المصرية و Ehrenkreutz : Extracts from the technical Mauual on the Ayyubid Mint in Cairo . B .S .O .A .S .1953,XV - 3 P. 424 - 447; Ehrenkieutz : The Standard of Fineness of gold coins Circulating in Egypt at the time of the Crusades .Journal of the American Oriental Society .vol 74,No .3 July - Sept .1954, P. 162 - 166 . (¬7) أنظر ما فات هنا، ص 61 (¬8) الأصل: «واستفلتت»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 9).

وأخذ عوضا عنها أسير من المسلمين، وطال أسر الباقين، فمنهم من هلك في الأسر، ومنهم من خرج بقطيعة. وكانت عدة العدو عشرة آلاف مقاتل، وانهزم ملكهم مجروحا، وكان لعز الدين فرخشاه في هذه الموقعة بلاء حسن، فحكى حسام الدين تميرك بن يونس - وكان مع عز الدين - قال: " كنا في أقل من ثلاثين فارسا، قد تقدمنا العسكر، فشاهدنا من خيل الفرنج ستمائة فارس، واقفين على جبل، وبيننا وبينهم الماء، فأشار عز الدين أن نعبر النهر إليهم، ففعلنا، ولحقنا عسكر السلطان، فهزمناهم ". ومن غريب الاتفاق أن في هذا اليوم بعينه ظفر الأسطول المصرى ببطسة (¬1) كبيرة، فاستولى عليها المسلمون، وعلى أخرى، وعاد إلى الثغر مستصحبا ألف رأس من السبى. ¬

(¬1) البطسة أو البطسة، ويقال أحيانا بطشة أو بطشة، وقد تحرف إلى بسطة أو بسطة؛ والجمع بطسات وبطس، وبطشات وبطش. ذكر صاحب (محيط المحيط) أنها مأخوذة عن الاسبانية ومعناها السفينة الكبيرة، ويفهم من نصوص المراجع العربية في العصور الوسطى أنها كانت تستخدم أصلا للحرب، وقد تستخدم لنقل التجارة، وقال (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج 14 ص 82): " ومن أسماء المراكب أيضا البطسة، وجمعها بطس، يقال: جهز الفرنج بطسا متعددة، وجعلوا على سوارى البطس أبراجا، ووجدوا بطسة فيها ثلاثمائة من الفرنج، وبطسة كبيرة تشتمل على ميرة وذخيرة "، ويفهم من هذه النصوص أيضا أن البطسة كانت تحمل في العادة ما بين 300 و 700 مقاتل، وسيشير ابن واصل فيما يلى هنا إلى بطسة كبيرة عند حديثه عن حصار عكا في سنة 587 هـ‍ بقوله: " وكان السلطان قد أمر بتعبية بطشة عظيمة هائلة ببيروت، مشحونة بالآلات والأسلحة والمير والرجال والمقاتلة لتدخل إلى عكا، وكانت عدة المقاتلة بها ستمائة وخمسين رجلا. . . إلخ ". وسيصف أيضا بطسة كبيرة أخرى استعملت للقتال عند محاصرة برج الذبان في سنة 586 هـ‍. انظر أيضا: (صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، نشر لويس شيخو، ص 31، هامش 3) و (KINDERMANN : Schiff im Arabischen P. P. 7 - 9) و (الشيال: معجم السفن العربية، مخطوطة لم تطبع بعد).

وفى هذه الوقعة يقول أبو على الحسن بن على الجوينى (¬1) يمدح السلطان: لك ربّ السماء خير معين، ... وكفيل لما تحبّ (¬2) ضمين فله الحمد، أىّ نصر عزيز ... قد حبانا به، وفتح مبين! أدرك الثأر حين نازله المغ‍ ... ـوار حيف (¬3) الكفار ليث العرين الهمام الغضنفر الملك النا ... صر مولى الورى صلاح الدين يا مليكا أضحى الزمان يناجي‍ ... ـه بلفظ المذلّل المسكين فارقت أهلها الحصون إلى بأ ... سك حتى عوّضتهم بالسجون (¬4) وأراهم ربّ السماء بأسيا ... فك ما لم يجل لهم في ظنون لك قلب عند اللقاء مكين، ... وله من تقاه ألف كمين يا مليكا ما زال يلقى الأعادى، ... وهو مستعصما بصدق اليقين (¬5) إنّ هذا الفتح المبين شفاء ... لصدور، وقرة لعيون هو يوم أضحى كيوم حنين، ... سهّل الله نصره في الحزون ¬

(¬1) هو أبو على الحسن بن على بن إبراهيم، الملقب فخر الكتاب، الجوينى الأصل، والنسبة إلى جوين ناحية من نواحى نيسابور، كان من ندماء أتابك زنكى، واتصل بابنه نور الدين محمود، وسافر إلى مصر في أيام ابن رزيك وتوطن بها. توفى سنة 584 وقيل 586 بالقاهرة. أنظر: (ابن خلكان: الوفيات، ج 1، ص 398 - 399). (¬2) النص في (الروضتين، ج 2، ص 9): " وكفاه بما يحب ". (¬3) الأصل: " خوف "، وما هنا عن نفس المرجع. (¬4) الأصل: " عرضتهم للسجون " وما هنا صيغة الروضتين. (¬5) صيغة الروضتين: يا مليكا يلقى الحروب بحول الله مستعصما وصدق اليقين.

ذكر الحرب بين عسكر السلطان الملك الناصر والسلطان عز الدين قلج أرسلان السلجوقى صاحب قونية

ذكر الحرب بين عسكر السلطان الملك الناصر والسلطان عز الدين قلج أرسلان السلجوقى صاحب قونية وسبب هذه الحرب أن نور الدين - رحمه الله - كان قد أخذ حصن رعبان (¬1) من السلطان قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان قطلمش ابن أرسلان بيغو (¬2) بن سلجوق - صاحب قونية -. وفى هذه السنة - أعنى سنة خمس وسبعين وخمسمائة - كان الحصن بيد الأمير شمس الدين بن المقدّم، وهو في خدمة السلطان الملك الناصر - كما ذكرنا -، فطمع قلج أرسلان في تملك الحصن، ليكون الملك الصالح صاحب حلب بينه وبين السلطان، فأرسل عسكرا لحصره، فيقال إن العسكر الذى أرسله عشرون (¬3) ألف فارس، فتوجه إلى الحصن الملك المظفر تقى الدين - صاحب حماة - في ألف فارس، فواقعهم فهزمهم، وأصلح تلك الولاية وعاد إلى خدمة عمه السلطان، ولم يزل الملك المظفر (3) - رحمه الله - يدل بهذه النصرة، وأنه هزم بألف فارس عشرين (¬4) ألفا. ¬

(¬1) هى بلدة بين حلب وسميساط، قرب الفرات. (ياقوت: معجم البلدان). (¬2) الأصل: «بيغوار ارسلان»، والصحيح ما ذكرناه، أنظر: (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة، الترجمة العربية، ص 215 - 217). (¬3) الأصل: «عشرين». (¬4) وصف ابن أبى طى (الروضتين، ج 2، ص 9) هذه الوقعة وشجاعة تقى الدين عمر وفنه الحربى وصفا ممتعا مفيدا، ولهذا آثرنا نقله هنا لتتم به الصورة. قال: " واتصل بالسلطان أن قلج أرسلان قد طمع في أخذ رعبان وكبسون، فلما دخل دمشق وصله رسوله يطلبهما منه، ويدّعى أن نور الدين بن زنكى اغتصبهما منه، وأن الملك الصالح قد أنعم عليه بهما، فاغتاظ السلطان، وزير الرسول، وتوعد صاحبه، فعاد الرسول وأخبر قلج أرسلان، فغضب، وسير عسكرا إلى رعبان فحاصرها وسمع السلطان، فندب تقى الدين عمر في ثمانمائة فارس، فسار فلما قارب رعبان أخذ معه جماعة من أصحابه مقدار مائتى فارس، وتقدم عسكره وسار حتى أشرف على عسكر قلج أرسلان ليلا =

ذكر تخريب حصن بيت الأحزان

ذكر تخريب حصن بيت الأحزان لما كسر السلطان الفرنج بمرج عيون عاد إلى بانياس، وتجهز إلى المضى إلى الحصن وتخريبه، فسار إليه في ربيع الأول من هذه السنة، وأحاط به وبث العساكر في بلاد الفرنج [211] للغارة، واحتاج إلى نصب ستائر لأجل المنجنيقات، فركب السلطان إلى ضياع صفد - وهى للداويّة -، فأمر بقطع كرومها وحمل أخشابها، فأخذ كلما احتاج إليه ورجع، وجمع من الزّرجون (¬1) والأخشاب شيئا كثيرا ليجعل متارس (¬2) للمجانيق، فقال له جاولى الأسدى - وهو مقدّم الأمراء الأسدية -: ¬

= فرآهم قد سدوا الفضاء وهم قارون آمنون وادعون، فقال تقى الدين لأصحابه: «هؤلاء على ما ترون من الطمأنينة والأمن والغفلة، وقد رأيت أن تحمل الساعة فيهم بعد أن نتفرق في جوانب عسكرهم وتصيح فيهم، فإنهم لا يثبتون لنا»، فأجابوه إلى ذلك، فأنفذ واحدا من أصحابه إلى باقى عسكره وأمرهم أن يتفرقوا أطلابا، وأن يجعل في كل طلب قطعة من الكوسات والبوقات، فإذا سمعوا الضجة ضربوا بكوساتهم وبوقاتهم وجدّوا في السير حتى يلحقوا به، ففعلوا ما أمرهم؛ ثم إنه حمل في عسكر قلج أرسلان، وصرخ أصحابه في جوانبه، وكان عدة عسكر قلج أرسلان ثلاثة آلاف فارس، فلما سمعوا الضجة وحسّ الكوسات والبوقات، وشدة وقع حوافر الخيل، وجلبة الرجال، وأصطكاك أجرام الحديد هالهم ذلك، وظنوا أن قد فوجئوا بعالم عظيم، فلم يكن لهم إلا أن جالوا في كوائب خيولهم عريا، وطلبوا النجاة، وأخذتهم السيوف، فتركوا خيامهم وأثقالهم بحالها، وأكثر تقى الدين فيهم القتل والأسر، وحصل على جميع ما تركوه، فلما أصبح جمع المأسورين ومنّ عليهم بأموالهم وكراعهم وسرّحهم إلى بلادهم». (¬1) الزرجون - بفتح الراء أو سكونها - كلمة فارسية، ومعناها شجر العنب أو قضبان الكرم، وقد يكون من معانيها أيضا الخمر، و «زر» بالفارسية معناها الذهب، «جون» اللون وذلك لأن الخمر شبه لونها بلون الذهب. والمعنى المقصود هنا هو المعنى الأول أي شجر العنب أو قضبان الكرم. أنظر: (الجواليقى: المعرب، ص 165). (¬2) التّرس أصلا نوع من السلاح، وهو صفحة من الفولاذ مستديرة تحمل في اليد تتلقى بها ضربة السيف ونحوه، وفى (اللسان): التترّس التستّر بالتّرس، والمترس خشبة توضع خلف الباب.

الرأى أنا نجرّبهم بالزحف أول مرة، فننظر الحال معهم، فإن حصل الغرض وإلا فنصب المجانيق ما يفوت ". فأمر فنودى في المعسكر بالزحف إليه، والجد في قتاله، فزحفو إليه، واشتد القتال، وعظم الأمر، فصعد إنسان من العامة بقميص خلق في باشورة (¬1) الحصن، وقاتل على السور من أعلاه، ويتبعه غيره من أضرابة، ولحق بهم الجند، فملكوا الباشورة، فصعد الفرنج حينئذ منها إلى أسوار الحصن يحمون نفوسهم وحصنهم إلى أن يأتيهم المدد، وكان الفرنج قد جمعوا بطبرية، وألح المسلمون في قتال الحصن خوفا من وصول الفرنج إليهم وإزاحتهم عنه، وأدركهم الليل (¬2) وباتوا طول الليل يحرسون، وخافوا أن تفتح الفرنج الأبواب، ويغيروا عليهم على غرة، وإذا الفرنج قد أوقدوا خلف كل باب نارا ليأمنوا من المسلمين، فاطمأنوا المسلمون، وقالوا: " ما بقى إلا ثقب البرج ". فلما أصبحوا فرق السلطان جوانب البرج على الأمراء، فأخذ عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه بن أيوب الجانب القبلى، وأخذ السلطان الجانب الشمالى، وأخذ ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه بقربه [نقبا] (¬3)، وكذلك الملك المظفر تقى الدين، وكل كبير في الدولة أخذ قسما، وكان البرج محكم البناء، فصعب نقبه، فعمقوا (¬4) النقب بعد الجهد، وأشعلوا النيران فيه، وانتظرا سقوط السور، فلم يسقط لعرضه، فإنه كان عرضه تسعة أذرع بالنجارى. ¬

(¬1) الباشورة - والجمع بواشير - الحائط الظاهرى من الحصن يختفى وراءه الجند عند القتال، ويقابلها في الفرنسية: (Bastion) . (DOZY : Supp .Dict .Arab) (¬2) عند هذا اللفظ ينتهى نقل المؤلف عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 172)، ثم يبدأ باللفظ التالى النقل عن العماد الكاتب (الروضتين، ج 2، ص 11)، وهذا هو منهجه دائما لا ينقل أخبار الحادثة الواحدة عن مرجع واحد، بل يبدأ النقل عن مرجع ما، فيأخذ عنه سطورا، ثم ينتقل إلى غيره فينقل سطورا أخرى، وقد يعود إلى المرجع الأول فيأخذ عنه، أو قد يتم النقل عن مرجع ثالث وهكذا. (¬3) ما بين الحاصرتين عن العماد (المرجع السابق) وهو الأصل الذى ينقل عنه هنا. (¬4) وقف المؤلف في نقله عن العماد عند هذا اللفظ، وعاد ثانية للنقل عن نص ابن الأثير.

وذكر العماد الكاتب (¬1): أن النقب كان طوله ثلاثين ذراعا (¬2) في عرض ثلاثة أذرع، وكان عرضه تسعة أذرع - كما ذكرناه - فأمر السلطان بإطفاء النار بعد يومين ليتم نقبه، وقال: " من جاء بقربة ماء فله دينار ". فجاء الناس بالقرب، وصبوا الماء على النار حتى أطفأوها، ثم عاد النقابون فنقبوا وخرقوا السور، [212] وألقوا فيه النار، فسقط يوم الخميس لست بقين من ربيع الأول، ملك المسلمون الحصن، وأسروا كل من فيه، وأطلقوا من كان فيه من أسرى المسلمين. وكان الفرنج قد جمعوا وراء السور الواقع حطبا، فلما وقع دخلت الرياح فردت النار عليهم، فأحرقت بيوتهم وطائفة منهم، فاجتمعوا إلى الجانب البعيد من النار، وطلبوا الأمان، فلما خمدت النار دخل المسلمون واستولوا عليهم قتلا وأسرا، وغنموا مائة ألف قطعة من الحديد من أنواع الأسلحة، وشيئا من الأقوات وغيرها، وجئ بالأسارى إلى السلطان، فمن كان مرتدا أو راميا ضربت (¬3) عنقه، وأكثر الأسارى قتله في الطريق المطوّعة (¬4) وكان عدة الأسرى نحو سبعمائة، وخلص من أسرى المسلمين أكثر من مائة مسلم، وسير باقى الأسرى إلى دمشق. وأقام السلطان في منزلته حتى هدم الحصن إلى الأساس، وطمّ جب ماء معين كان حفرته الفرنج في وسطه، ورمى فيه القتلى، وكان عند السلطان - رحمه الله - رسول القومص، فشاهد البلية في أهل ملته، وكان السلطان قد بذل لهم في هدمه ستين ألف دينار فلم يفعلوا، فزادهم حتى بلغ مائة ألف فأبوا، وكانت مدة المقام على الحصن أيام فتحه وبعدها أربعة عشر يوما. ¬

(¬1) وبهذا اللفظ عاد للنقل عن العماد. (¬2) الأصل: «ذراع». (¬3) الأصل: «ضرب» والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 11). (¬4) النص عند العماد - وهو الأصل المنقول عنه هنا: " وأكثر من أسر قتله في الطريق الغزاة المطوعة "، راجع: (الروضتين، ج 2، ص 11).

ثم سار السلطان إلى أعمال طبرية وصور وبيروت فأغار عليها، وأرجف قلوبهم، ثم رجع إلى دمشق، ومرض [جماعة من ذلك الوباء] (¬1) بسبب شدة الحرونتن جيف القتلى، وطوّل [السلطان] (¬2) المقام عليه لأجل هدمه، فتوفى أكثر من عشرة أمراء. وهنأ السلطان الملك الناصر - رحمه الله - جماعة من الشعراء بهذا الفتح الجليل، منهم بهاء الدين أبو الحسن على بن محمد بن رستم بن الساعاتى (¬3) الخراسانى بقصيدة أولها: بجدك أعطاف القنا تتعطّف ... وطرف الأعادى دون مجدك يطرف ¬

(¬1) الأصل: «ومرض لأنه حصل له وباء» ولا يستقيم به المعنى إذ قد يفهم أن الذى مرض هو السلطان، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 11) وهو الأصل الذى ينقل عنه المؤلف هنا. (¬2) ما بين الحاصرتين عن نفس المرجع. (¬3) كان أبوه محمد بن على بن رستم بن هردوز خراسانى الأصل والمنشأ، ثم انتقل إلى دمشق، وكان ماهرا في صناعة الساعات، وهو الذى عمل الساعات التي كانت عند باب الجامع بدمشق. فأنعم عليه نور الدين محمود بن زنكى الإنعامات الكثيرة، وكان له ولدان: شاعرنا هذا، وأخ له اسمه فخر الدين رضوان اشتغل بالطب ومهر فيه، ثم وزر للملك للمفائز ولأخيه الملك المعظم ابنى العادل الأيوبى؛ وقد قضى الشاعر شبابه في دمشق، ثم رحل بعد الثلاثين من عمره إلى مصر وقضى فيها بقية حياته إلى أن توفى بها سنة 604 ودفن بسفح المقطم؛ وله ديوان شعر كبير، نشره أخيرا في جزئين الأستاذ أنيس المقدسى (مطبوعات الجامعة الأميركية في بيروت، 1938 - 1939). وهذه الأبيات لم ترد في الديوان المطبوع، وإنما وردت في (الروضتين، ج 2، ص 11) وقد نقلها عنه الأستاذ المقدسى وألحقها بالجزء الثانى من الديوان (ص 409). ولاستيفاء ترجمة الشاعر أنظر: (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 73 - 74) و (ابن أبى أصيبعة: طبقات الأطباء، ج 2، ص 183 - 184) و (مقدمة الأستاذ المقدسى لديوان ابن الساعاتى) و (ابن العماد: شذرات الذهب، ج 5، ص 13).

شهاب هدى في ظلمة الشرك (¬1) ثاقب ... وسيف هدى في طاعة (¬2) الله مرهف وقفت على حصن المخاض وإنّه ... لموقف حقّ ما (¬3) يوازيه موقف ومنها: وما رفعت (¬4) أعلامك الصّفر (¬5) ساعة ... إلى أن غدت أكبادها السود ترجف [213] كبا من أعاليه صليب وبيعة ... وساد به (¬6) دين حنيف ومصحف أتسكن أوطان النبيين عصبة ... تمين لدى أيمانها حين (¬7) تحلف نصحتكم، والنّصح في الدين واجب: ... ذروا بيت يعقوب، فقد جاء يوسف ثم أوردت البشائر إلى سائر الأمصار بما سناه الله سبحانه من هذا الفتح، وورد إلى الديوان العزيز النبوى كتاب بالإنشاء الفاضلى منه: " فصل في ذكر الحصن: وقد عرض حائطه إلى أن زاد على عشرة أذرع، وقطعت له عظام الحجارة، وكل فص منها من سبعة أذرع إلى ما فوقها وما دونها، ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى الروضتين: «الشك» (¬2) الأصل: «وسيف إذا ما هزك الله مرهف»، وما هنا صيغة الروضتين. انظر أيضا: (ديوان ابن الساعاتى، ج 2، ص 409). (¬3) في الروضتين: «لا». (¬4) في الروضتين: «وما رجعت». (¬5) هذه إشارة لها قيمتها تدل على أن أعلام الدولة والجيش في عصر صلاح الدين كانت صفراء اللون. (¬6) الأصل: «وشاد» والتصحيح عن الروضتين والديوان. (¬7) في الروضتين: «وهى تحلف».

وعدتها تزيد على عشرين ألف حجر، لا يستقر (¬1) الحجر في مكانه، ولا يستقل في بنيانه، إلا بأربعة دنانير فما فوقها، وفيما (¬2) بين الحائطين حشو من الحجارة الصم، المرغم بها أنوف الجبال الشم، وقد جعلت سقيته بالكاس الذى إذا أحاطت قبضته بالحجر مازجه بمثل جسمه، وصاحبه بأوثق وأصلب من جرمه، وأوعز إلى خصمه من الحديد بألا يتعرض لهدمه ". فصل: " وبات الناس في ليلة الجمعة مطيفين بالحصن والنيران به مطيفة وعليه مشتملة، وعذبات ألسنتها على تاجه مهدلة ومسدلة، ومن خلفه مسبلة، ونارهم قد أطفأها الله بتلك النار الواقدة، ومنعتهم قد أذهبها الله بتلك الأبرجة الساجدة، وبنفسج الظلماء قد استحال جلنارا، والشفق قد عمّ الليلة فلم يختص آصالا (¬3) ولا أسحارا، ونفحاتها حميمية وقودها الناس والحجارة، والبلاء ينادى بلسان مصابها: إياك أعنى واسمعى يا جارة؛ فولجت النار موالج يضيق بها (¬4) الفكر، ويعجز عنها الإبر، ونقلت البناء من العين إلى الأثر، وقال الكفر: إنها لإحدى الكبر، وخولف المثل " إن السعادة لتلحظ الحجر "، وأغنى ضوؤها لسان كل إمّعة أن يسأل هذا وهذا: ما الخبر؟ وقذفت بالشرر كالجمالات الصفر، وزفرت يغيظ تعفر له خدود الجبال الصعر، وتلحقها بالكثب العفر، وبات الليل والنهار يثله، وكلما [214] أغمده الخمود جعل الوقود يسله، إلى أن بدا الصباح كأنه منها يمتار الأنوار، وانشق الشرق ومن عصفرها صبغ الأزار، فحينئذ تقدم الخادم فاقتلع الأحجار بيده من أسها، ومحا حروف البنيان من طرسها، وتبعه الجيش ورفاقه، وكافة من اشتمل عليه نطاقه ". ¬

(¬1) الأصل: «يستقل» والتصحيح عن نسخة الرسالة الواردة في (الروضتين، ج 2، ص 13). (¬2) الأصل: «ما» وما هنا عن نفس المرجع. (¬3) الأصل: «أصلا» وما هنا عن نفس المرجع. (¬4) في الروضتين: «منها»

ذكر استيلاء عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب - رحمه الله - على بعلبك

ذكر استيلاء عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب - رحمه الله - على بعلبك وفى هذه السنة أنعم السلطان الملك الناصر ببعلبك وأعمالها على ابن أخيه الملك المنصور عز الدين فرخشاه بن أيوب، فلم يزل مالكها إلى أن مات في حياة السلطان، فأنعم بها بعده على ولده الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه، فلم يزل مالكها إلى أن أخذها منه الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل - رحمهم الله - سنة سبع وعشرين وستمائة، - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى -، واستمر الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب بالديار المصرية، وأنعم عليه السلطان باسكندرية، ثم توفى بمصر - على ما سنذكره -. وفى هذه السنة أغار عز الدين فرخشاه - صاحب بعلبك - على صفد ثامن عشر ذى القعدة، وكان قد جمع لهم من رجال بانياس وما حولها، ورجع سالما غانما. ذكر وفاة المستضئ بنور الله بن المستنجد وبعض سيرته كنا قد ذكرنا تقلد الإمام المستضئ بنور الله أبى (¬1) محمد الحسن بن المستنجد بالله أبى المظفر يوسف بن المقتفى لأمر الله أبى عبد الله محمد بن المستظهر بالله. وأنه لما ولى الخلافه استوزر عضد الدين محمد بن عبد (¬2) الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء، ¬

(¬1): «بن»، والتصحيح عن (السيوطى، تاريخ الخلفاء، ص 294). (¬2) الأصل: «عبيد» والتصحيح عن (ابن طباطبا: الفخرى، ص 282) حيث أورد ترجمة مفصلة لهذا الوزير، وانظر أيضا: (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 280 - 282).

وأنه تقدم عنده قايماز غلام أبيه، وأقطعه الحلة، وأقطع أردن وتتامش نسيبى قايماز واسطا، وطوّق الخليفة قايماز بطوق ذهب، وسماه ملك العرب؛ وسوّره بسوارين من ذهب، وحمل إلى هؤلاء الثلاثة من الأموال ما زاد على أمانيهم وآمالهم. وفى سنة سبع وستين وخمسمائة حصل خلف بين الوزير عضد الدولة وقايماز؛ وسعى كل منهما بصاحبه [215] وطلب قايماز من الخليفة عزل الوزير، فلم يسعه مخالفته، لقوة تمكنه من الدولة، فعزل الخليفة وزيره، فلم يكتف قايماز بذلك واشتد طمعه، وأطمع المماليك والعوام في نهب دار الوزير، فنهبت، ومزقت أمواله كل ممزق، وهتك حريمه، فغضب الخليفة المستضئ لذلك، وأنكر هذا الفعل على قايماز، وشدد عليه في إعادة ما نهب من دار الوزير، وبعث الخليفة إلى الوزير نجاحا الخادم رسولا، ليسكن منه، ووعده بإعادة ما كان له من الإنعام والقرب والمعروف، ولم تزل الرسالة إليه متواترة بما يقوى قلبه ويبسط أمله. وأطلع على ذلك قايماز، فغضب وأظهر الخلاف والعصيان؛ هو ونسيباه ومن أطاعه، فلم ير الخليفة في تلك الحال مشاققته، وأرخى له في زمامه، وأرسل إليه يرضيه بأنه يخرج الوزير من داره إلى الحريم، وأرسل إلى الأمراء الذين مع قايماز (¬1) في الباطن بما يغير قلوبهم عن طاعة قايماز، وأحس قايماز بذلك، فركب مع جماعة من لفيفه مظهرا للغدر والمكر، وقصدوا دار الخلافة على قصد المحاربة، فأمر الخليفة عند ذلك بأن ينادى: " من أراد النهب فعليه بدار قايماز ". فمضت العامة إلى دار قايماز فانتهبوها، وتفلل عنه أكثر من كان معه، ومشى على وجهه حائرا في أمره، ينكت الأرض ببنان التحير، ويغيم السماء بأنفاس التحسر. وكانت هذه الواقعة لثلاث عشرة مضت من ذى القعدة سنة سبعين وخمسمائة، فاستدعى الوزير عضد الدين عند ذلك إلى دار الخلافة بأستاذ الدار ¬

(¬1) انظر (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 254 و 255 - 256) و (ابن الأثير الكامل، ج 11، ص 160 - 161).

صندل المقتفوى، وعلى يده من الملابس ما يليق به، وحمل على فرس من خيل الخلافة، وحضر الدار، فأكرم غاية الإكرام، ثم مضى إلى منزله، واستقر في ولايته. ثم بعد أربعين يوما ورد الخبر بوفاة قايماز، ثم اضطربت بعد ذلك أحوال الوزير عضد الدين، بسبب ظلم ولده للرغية، وانحلت منزلته عند الخليفة، فالتمس من الخليفة أن يفسح له في الحج، فأذن له، فتوجه إلى بيت الله الحرام، فوثبت عليه نفر من الباطنية فقتلوه بظاهر قطفتا (¬1)، ونسب قتله إلى وضع عن ظهير الدين أبى بكر منصور بن العطار صاحب المخزن، وكان متمكنا من الخليفة. ولما [216] قتل الوزير عضد الدين بن رئيس الرؤساء تمكن ظهير الدين ابن العطار (¬2) من الدولة تمكنا عظما، وفوض إليه الخليفة المستضئ نيابة الوزارة، واستولى على الأمور جميعا. ولما كانت هذه السنة - أعنى سنة خمس وسبعين وخمسمائة - عرض للخليفة المستضئ مرض شديد، فأغلق ظهير الدين بن العطار أبواب الدار التي للخليفة وحمل السلاح، وأرهج البلد، وأخذ جماعة بغير جناية فصلبهم تجاه داره بباب النوبى (¬3)، وجرت منه أسباب تنفر منها الطباع، وتمجها الأسماع، ¬

(¬1) ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها محلة كبيرة ذات أسواق بالجانب الغربى من بغداد مجاورة لمقبرة الدير التي فيها قبر الشيخ معروف الكرخى، بينها وبين دجلة أقل من ميل، وهى مشرفة على نهر عيسى. (¬2) انظر: (ابن طباطبا: الفخرى، ص 284) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 173) (¬3) الأصل: «البوقى» وقد صححت بعد مراجعة (ابن الساعى: الجامع المختصر، ج 9، نشر الدكتور مصطفى جواد).

ذكر البيعة بالخلافة للإمام الناصر لدين الله أبى العباس أحمد

فعند ذلك أمر الخليفة بالبيعة لولده وولى عهده الناصر لدين الله أبى العباس أحمد، وذلك يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة مضت من شوال من هذه السنة. وتوفى الخليفة في هذا اليوم؛ وكان - رحمه الله - ديّنا حسن السيرة جميل الطويّة، محبا للعدل، كارها للظلم، لين الجانب؛ وذكر بعض جلسائه: أنه كان يوما بحضرته، فعرضت عليه مطالعة لظهير الدين بن العطار، وكانت قد لاحت أمارات التغير عليه والالتفات عنه، فأنشد الخليفة: وإذا كرهت بأن تجاهل في الذى ... يأتى فلا تعمل برأى الجاهل وكانت مدة خلافته تسع سنين ويسيرا. ذكر البيعة بالخلافة للإمام الناصر لدين الله أبى العباس أحمد وفى التاريخ المذكور بويع بالخلافة للإمام الناصر أبى العباس أحمد بن المستضئ ابن المستنجد بن المقتفى؛ وكان مولده سنة اثنين وخمسين وخمسمائة، في أيام جد أبيه المقتفى، وكان عمره يوم البيعة له ثلاثا وعشرين سنة وشهرا، وخطب له ببغداد، ونثرت الدنانير على المنابر، ومدحه أمين الدولة أبو الفتح بن عبيد الله سبط [ابن] التعاويذى (¬1)، وهو من فحول شعراء العراق بقصيدة أولها: طاف يسعى بها على الجلاّس ... كفضيب الأراكة الميّاس ¬

(¬1) هو سبط أبى محمد المبارك بن المبارك بن على بن نصر السراج الجواهرى الزاهد المعروف بابن التعاويذى، وقد نسب الشاعر إلى جده لأنه كفله صغيرا ونشأ في حجره، ولد أبو الفتح سنة 519، وتوفى سنة 583 أو 584 هـ‍، وكان كاتبا بديوان المقاطعات ببغداد، وعمى في آخر عمره سنة 579 هـ‍. ولاستيفاء ترجمته انظر: (ابن خلكان: الوفيات، ج 4 ص 90 - 97) و (الصفدى: نكت الهميان، ص 259 - 263) و (ديوان سبط ابن التعاويذى، نشر الأستاذ مرجليوث، المقدمة)؛ وعلى هذا الديوان عارضنا القصيدة الواردة بالمتن هنا وصححناها.

بدر تمّ غازلت من لحظه ... ليلة نادمته غزال كناس ذلّلته لى المدام، فأضحى ... ليّن العطف بعد طول شماس [217] لا يبت ذلك الحبيب بما بتّ ... أعانى في حبّه وأقاسى قلقى من وشاحه، وبقلبى ... ما بخلخاله من الوسواس ورأى الغانيات شيبى فأعرض‍ ... ن وقلن: الشباب خير لباس كيف لا يفضل السواد وقد أض‍ ... حى شعارا على بنى العباس أمناء الله والكرام، وأهل الج‍ ... ود والعلم (¬1) والتقى والباس ولقد زينت الخلافة منهم ... بإمام الهدى أبى العباس ملك، جلّ قدسه عن مثال، ... وتعالت آلاؤه عن قياس يا لها ببعة أجدّت من الإس‍ ... لام بالى رسومه الأدراس (¬2) وإلى الله أمرها، فله المنّ‍ ... ة فيها عليه، لا للناس وتولى أخذ البيعة له ذو الرياستين محمد بن أبى الفضل بن الصاحب أستاذ الدار، ونائب الوزارة ظهير الدين بن العطار، ثم بعد ثلاثة عشر يوما برز أمر الخليفة بالقبض على ابن العطار، لما كان صدر عنه في أيام أبيه من الظلم للرعية والحيف عليهم، فقبض عليه، وضرب بالعصى إلى أن مات، وأخرج تابوته من باب النوبى، فثار عليه العوام (¬3)، وألقوه عن رأس الحمالين، وكسروا تابوته، ومزقوا أكفانه، وربطوا في إحدى رجليه حبلا، وسحبوه في الأسواق، وقطعوا خنصره وأذنه، فدفنته أخته ليلا خلسة من الناس. ¬

(¬1) في (الديوان، ص 237): «والحلم». (¬2) الأصل: «الأمراس» وما هنا عن (الديوان، ص 238). (¬3) راجع: (الروضتين، ج 2، ص 15) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 173) و (ابن طباطبا: الفخرى، ص 286).

واستدعى الخليفة الناصر لدين الله فخر الدين بن المطلب، وطلب منه أن يلى الوزارة، فامتنع واعتذر، فطلب منه أن يشير بمن يصلح، فأشار بأن يستناب في الوزارة سليمان بن حارس، فولى نيابة الوزارة، وخلع عليه، ولقب بحسام الدين، فأقام مديدة يسيرة، ثم عزل. وولى نيابة الوزارة جلال الدين أبو المظفر محمد بن النجارى، وكان فقيها فاضلا في المذهب والخلاف. وبسط الإمام الناصر لدين (¬1) الله العدل، وأمر بالنداء في الناس به، وأمر بكسر الملاهى، وإراقة الخمور، وإقامة الحدود، ومنع من التظاهر [218] بشرب الخمر والمنكرات، وإزالة المكوس المضروبة على التجار الورادين إلى بغداد، فعمرت البلاد، وكثرت الأرزاق. وكان الناصر عظيم الهيبة، عالى الهمة، وافر العقل، حسن السياسة، متيقظا، لا يفوته أمر مما يجرى في بلاده وغيرها من بلاد الإسلام. وكان له أصحاب أخبار يطالعونه بما يحدث وما يرونه (¬2) من الأمور في كل صقع، فخافه الناس خوفا شديدا، وهابوه، وكان الإنسان في العراق لا يجسر أن يجرى في بيته وخلوته ما يخاف الإنكار عليه منه، حتى كان يتوهم من أهل بيته وأخص الناس به أن ينقل خبره إلى الخليفة. وفتح في أيامه فتوحات كثيرة، واتسع ملكه جدا، واستولى على خوزستان والجبل، وفتح كثيرا من بلاد العجم، وقامت للدولة العباسية في أيامه حثمة لم يكن مثلها موجودا إلا في الزمن القديم قبل استيلاء الملوك على العراق. ¬

(¬1) انظر ترجمته في: (السيوطى: تاريخ الخلفاء، ص 297 - 303) و (ابن الأثير الكامل، ج 12، ص 168 - 169) و (ابن طباطبا: الفخرى، ص 285) و (ابن الساعى: الجامع المختصر، مقدمة الناشر الدكتور مصطفى جواد) و (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق 2 ص 635 - 636). (¬2) الأصل: «يروه».

ذكر وفاة سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى صاحب الموصل

ولما اشتدت دولة الناصر بالله واستبت أمره بعث رسله إلى الآفاق مبشرين بخلافته مهنئين بإنالته. وكان السلطان لملك الناصر صلاح الدين قد أرسل ضياء الدين بن الشهرزورى رسولا إلى الإمام المستضئ بنور الله، فاتفقت وفاة المستضئ، ومصير الخلافة إلى الناصر لدين الله - وهو ببغداد - فحضر الديوان، وبايع، وكاتب السلطان بالخبر، فبادر إلى الخطبة في جميع بلاده. ومضى صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل من بغداد رسولا إلى بهلوان بن ايلدكز (¬1) صاحب العجم، وألزمه الخطبة بهمذان وأصفهان، ثم لما رجع شيخ الشيوخ جاء إلى السلطان الملك الناصر، فأخذه السلطان معه إلى مصر، وركب البحر منها، وحج - كما سنذكره إن شاء الله تعالى - ذكر وفاة سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى صاحب الموصل وفى ثالث صفر سنة ست وسبعين وخمسمائة توفى سيف الدين غازى بن مودود ابن زنكى صاحب الموصل، وكان مرضه السل، وطال به، ثم أدركه في آخره سرسام (¬2)، وكان عمره لما مات نحو ثلاثين سنة، وكانت مدة ملكه عشر سنين ونحو ثلاثة أشهر. ¬

(¬1) الأصل " الدكى " وهو شمس الدين أبو جعفر محمد بهلوان جهان بن ايلدكز. حكم حوالى سنة 568 هـ‍، وتوفى في ذى الحجة سنة 581 هـ‍. انظر: (زا مباور: معجم الأنساب العربية، الترجمة العربية، ص 349). (¬2) السرسام حمى دائمة مع صداع وثقل في الرأس والعين، وحمرة فيها شديدة، وكراهية الضوء (الخوارزمى: مفاتيح العلوم، ص 96).

ذكر صفته وسيرته

ذكر صفته وسيرته كان حسن الصورة، تام القامة، أبيض اللون، وكان عاقلا عفيفا، شديد الغيرة، [219] لا يدخل دوره غير الخدم الصغار، فإذا كبر أحدهم منعه، وكان يكره سفك الدماء وأخذ الأموال، وكان بخيلا جبانا، وكان عنده سكون ووقار، وقلة التفات إذا ركب وإذا جلس. ذكر استيلاء عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى على الموصل كان لما اشتد المرض بسيف الدين غازى أراد أن يعهد بالملك لولده معز الدين سنجر شاه بن غازى، وكان عمره يومئذ اثنتى عشرة سنة، فخاف على الدولة من الملك الناصر، وامتنع [أخوه] (¬1) عز الدين مسعود من الإذعان لذلك والإجابة إليه، فأشار مجاهد الدين قايماز وأكابر الدولة بأن يجعل الملك في عز الدين، لما هو عليه من كبر السن والشجاعة والعقل، وأن يعطى ابن سيف الدين بعض البلاد، ويكون مرجعهما إلى عز الدين عمهما، ومتولى الأمر مجاهد الدين قايماز، ففعل ذلك، وعهد بالملك لأخيه عز الدين مسعود، وأعطى جزيرة ابن عمر وبلادها لولده معز الدين سنجر شاه، وقلعة [عقر] (¬2) الحميدية لولده ناصر الدين كسك (¬3). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 175) وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا. (¬2) ما بين الحاصرتين عن: (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 175). (¬3) الأصل: «كبك» والتصحيح عن المرجع السابق.

فلما توفى سيف الدين استقرت القاعدة على ذلك، وانتظمت الأمور، وقام بتدبير الأمور كلها مجاهد الدين قايماز، وورد رسوله إلى السلطان الملك الناصر - وهو الشيخ الفقيه فخر الدين أبو شجاع بن الدهان البغدادى - يطلب من السلطان أن يكون معه كما كان مع أخيه من إبقاء سروج والرّها والرقّة وحرّان والخابور ونصيبن في يده، فلم يجب السلطان إلى ذلك، إذ هى له بتوقيع الخليفة، وإنما جعلها في يد سيف الدين غازى بالشفاعة، بشرط أن يقوى السلطان بالعساكر. ولما مات سيف الدين كتب السلطان إلى الإمام الناصر لدين الله يعلمه بذلك، وأن هذه البلاد لم يزل ارتفاعها بصدد تقوية ثغور [220] الإسلام بالشام، وسأل أن يفوضها الخليفة إليه، وكان الكتاب في ذلك من السلطان إلى الشيخ صدر الدين عبد الرحيم شيخ الشيوخ بانشاء عمادى فيه: " فصل: قد عرف اختصاصنا من الطاعة والعبودية، للدار العزيزة النبوية، بما لم يختص به أحد، وامتدت اليد منا في إقامة الدعوة الهادية بمصر واليمن والمغرب بما لم تمتد إليه يد، وأزلنا من الأقاليم الثلاثة ثلاثة أدعياء، وخلفناهم (¬1) للردى، حيث دعوا بلسان الغواية خلفا، ولا خفاء أن مصر، إقليم عظيم وبلد كريم، بقيت مائتين وخمسين سنة مضيمة، وعانت كل هضيمة، وعاينت كل عظيمة، حتى أنقذها الله بنا من عبيد بنى عبيد، وأطلقها بمطلقات (¬2) أعنتنا إليها من عناء كل قيد، وفيها شيعة القوم، وهم غير مأمونى الشر إلى اليوم، وطوائف أقاليم الروم والفرنج [من البر والبحر] (¬3) بها مطيفة، فمن حقها أن يتوافر عسكرها، فلو حصل - والعياذ بالله - بها فتق لأعضل رتقه، واتسع على الراقع خرقه، واحتجنا لحفظ بلاد الشام وثغور الإسلام إلى استصحاب العسكر المصرى إليها، وله مدة خمس ¬

(¬1) الأصل: «وخلعناهم» وما هنا - عن (الروضتين، ج 2، ص 17). (¬2) الأصل: «مطلقات» والتصحيح عن المرجع السابق. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن المرجع السابق.

سنين في بيكارها (¬1) [منتقما من كفارها] (¬2) متحملا لمشاقها على غلاء أسعارها، وإنما أحوج إلى ذلك أن بلاد هذا الثغر قد اقتطعت عنه، وعساكرها أخذت منه، " فوصل في رجب رسل الديوان: صدر الدين شيخ الشيوخ [أبو القاسم عبد الرحمن] (2)، وشهاب الدين بشير الخاص بالتفويض والتقليد والتشريف (¬3)، فتلقاهم السلطان، وترجّل لهم، فنزل الرسل وسلموا عليه عن أمير المؤمنين، فقبل الأرض، ثم ركبوا ودخلوا المدينة، وكان السلطان قد عزم على قصد الديار المصرية، وسلوك طريق أيلة والبرية فحسن للشيخ صدر الدين مصاحبته، ورغبه في زيارة قبر الشافعى - رحمة الله عليه -، فقال: " قد عزمت في هذه السنة على الحج، فأصل معكم إلى القاهرة، بشرط إقامة يومين [221] ولا أدخلها، وإنما أسكن بالتربة الشافعية، وأسير منها إلى بحر عيذاب، لعلى أدرك صوم رمضان بمكة " (¬4). فالتزم له ذلك، وأعاد أصحابه إلى بغداد ليأتوه من طريقها إلى الحجاز، ورجع شهاب الدين بشير في جواب رسالته، ومعه القاضى ضياء الدين بن الشهر زورى، وكتب السلطان إلى الديوان كتابا، وفيه: " قد توجه الخادم إلى الديار المصرية لتجديد النظر فيها، ثم يستخير الله في الحج وأدائه، ويعود إلى مجاهدة أعدائه ". ¬

(¬1) البيكار، وقد تجمع على بياكير، لفظ فارسى معناه الحرب بوجه عام، راجع أيضا: (Dozy : Supp .Dict .Ar). (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن المرجع السابق. (¬3) أورد ابن أبى طى (الروضتين، ج 2، ص 19) وصفا تفصيليا للخلع التي أرسلها الخليفة الناصر إلى صلاح الدين، وهو وصف له أهميته ولهذا أثرنا نقله هنا (قارنه بوصف الخلع التي ارسلها الخليفة المستضئ لصلاح الدين فيما سبق هنا)، قال: " وكانت هذه أول خلعة قدمت من الإمام الناصر على الملك الناصر، وكانت: ثوب أطلس أسود واسع الكم مذهب، وبيقار أسود مذهب وطيلسان أسود مذهب، ومشدة سودا. مذهبة، وطوق، وتخت، وسرفسار، وجواد كميت من مراكب الخليفة عليه سرج أسود، وسلال أسود، وطوق مجوهر، وقصبة ذهب، وعم أسود، وعدة خيول وبقج؛ وركب السلطان بالخلعة، وزينت له دمشق، وكان يوما عظيما ". (¬4) بهذا اللفظ يتقابل الأصل مرة أخرى مع نسخة س في أول (ص 114 أ) منها.

ذكر وفاة الملك المعظم شمس الدين توران شاه بن أيوب

ذكر وفاة الملك المعظم شمس الدين (¬1) توران شاه بن أيوب وفى هذه السنة في المحرم (¬2) توفى الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب - وهو أخو السلطان الأكبر - بثغر الأسكندرية (¬3)، ووصل الخبر بذلك إلى السلطان أخيه، فحزن عليه حزنا شديدا، وجعل يكثر من إنشاد أبيات المراثى، وكان أكثر أبيات الحماسة من حفظه. ذكر مسبير السلطان لحرب قلج أرسلان صاحب قونية كان السبب في ذلك أن نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق - صاحب حصن كيفا - كان قد تزوج بابنة السلطان عز الدين قلج أرسلان بن مسعود السلجوقى، وبقيت عنده مدة ثم أحب مغنية، فتزوجها ومال إليها، وحكمت في بلاده وخزائنه، وأعرض عن ابنة قلج أرسلان، فبلغ أباها ذلك، فعزم على قصد نور الدين - صاحب الحصن - وأخذ بلاده، واستجار نور الدين بالسلطان، وسأله كف يد قلج أرسلان عنه، فأرسل السلطان إلى قلج أرسلان في المعنى، فأعاد الجواب: ¬

(¬1) س (114 ا): «شمس الدولة»، وقد ذكر بهذه الكنية فيما يلى بالمتن، وفى: (الروضتين، ج 1، ص 259، ج 2، ص 18) و (الحنبلى شفاء القلوب، ص 12 ا). واتفق مع المتن (Zambour .op .cit . P. 98) . (¬2) كذا في الأصل ووافقه صاحب الروضتين نقلا عن العماد؛ وفى س، و (الحنبلى، شفاء القلوب ص 13 ب) أنه توفى في صفر، والتاريخ الأول أرجح فقد قال به مؤرخ معاصر. (¬3) قال ابن أبى طى (الروضتين، ج 2، ص 18) إنه دفن عند موته «بقصر الاسكندرية»، وقال صاحب الروضتين (ج 2، ص 19) «وقبر تورانشاه الآن بالتربة الحسامية بالعوينة فناهر دمشق، نقلته إليه أخته ست الشام بنت أيوب، وبنت القبر عليه وعلى زوجها ناصر الدين محمد ابن شيركوه - وهو ابن عمها - وعلى قبرها وقبر ابنها حسام الدين عمر بن لاجين وإليه تنسب التربة».

" أننى كنت قد سلمت إلى نور الدين عدة حصون [من بلادى] (¬1) تجاور بلاده لما تزوج ابنتى، فحيث آل الأمر معه إلى ما يعلمه (¬2)، فأنا أريد أن يعيد على ما أخذ منى ". وترددت الرسل بينهما، فلم يستقر حال. فهادن السلطان [صلاح الدين] (1) الفرنج، وسارت عساكره، وكان [222] الملك الصالح بن نور الدين بحلب، فتركها ذات اليسار، وسار على (¬3) تل باشر إلى رعبان، فأتاه بها نور الدين - صاحب الحصن - فأقام عنده، فلما سمع قلج بقربه منه، أرسل إليه أكبر أمير عنده، يقول له: " إن هذا الرجل فعل مع ابنتى كذا وكذا، ولابد من قصد بلاده، وتعريفه محل نفسه ". فلما وصل الرسول، واجتمع بالسلطان، وأدى إليه الرسالة، غضب السلطان واستشاط، وقال للرسول: " قل لصاحبك: والله الذى لا إله إلا هولئن لم يرجع لأسيرنّ إلى ملطية، وبينى وبينها يومان، ولا أنزل عن فرسى إلا في البلد، ثم أقصد جميع بلاده وآخذها منه ". فرأى الرسول أمرا (¬4) شديدا، فقام من عنده، وقد رأى العساكر وما هو فيه من القوة والتجمل، وكثرة السلاح والدواب وغير ذلك، وليس عندهم ما يقاربه، فعلم أنه إن قصدهم أخذ بلادهم، فأرسل إليه من الغد يطلب أن يجتمع به، فأحضره، فقال له: " أريد أن أقول شيئا من عندى، ليست رسالة من صاحبى، وأحب أن تنصفنى " فقال: " قل ". ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (114 ا). (¬2) الأصل: «تغلمه» وس: «تغلبه»، وما هنا صيغة (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 175) وهو الأصل الذى ينقل عنه المؤلف هنا. (¬3) الأصل: «إلى» والتصحيح عن المرجع السابق. (¬4) س (114 ب): «الأمر».

ذكر غزو السلطان الملك الناصر بلاد الأرمن

قال: " يا مولانا ما هو قبيج بمثلك - وأنت أعظم السلاطين وأكبرهم شأنا - أن يسمع الناس عنك أنك صالحت الفرنج، وتركت الغزو ومصالح المملكة، وأعرضت عنى كل ما فيه صلاح لك ولرعيتك وللمسلمين عامة، وجمعت العساكر من أطراف البلاد البعيدة والقريبة، وسرت وخسرت أنت وعسكرك الأموال العظيمة، لأجل [قحبة] (¬1) مغنية، ما يكون عذرك عند الله تعالى ثم عند الخليفة وملوك الإسلام والعالم؟ وأحسب أحدا ما يواجهك بهذا، أما تعلمون أن الأمر هكذا؟ وأحسب أن قلج أرسلان مات، وهذه ابنته قد أرسلتنى إليك تستجير بك وتسألك (¬2) أن تنصفها من زوجها، فإن فعلت فهو الظن بك، وإن لم تفعل فلا تقوى أمر هذه المغنية؛ أفيحسن بك أن تردها؟ ". فقال: " والله إن الحق بيدك، والأمر لكما تقول، ولكن هذا الرجل دخل علّى وتمسك بى، ويقبح على تركه، ولكن أنت اجتمع به، وأصلحوا الحال بينكم على ما [223] تحبون، وأنا أعينك عليه، وأقبّح فعله عنده ". ووعد من نفسه بكل جميل. فاجتمع الرسول بصاحب الحصن، وتردد القول بينهم، واستقر أن صاحب الحصن يخرج المغنية منه بعد سنة، وإن كان لا يفعل فينزل السلطان عن نصرته، فاصطلحوا على ذلك، وعاد السلطان، فلما انقضت السنة أخرج نور الدين المغنية عنه، فتوجهت إلى بغداد [وأقامت بها إلى أن ماتت] (¬3) ذكر غزو السلطان الملك الناصر بلاد الأرمن وفى هذه السنة - أعنى سنة ست وسبعين وخمسمائة - دخل السلطان بلاد الأرمن لقمع ملكهم ابن لاون، لأنه كان استمال قوما من التركمان حتى يرعوا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن الأصل (ابن الأثير). (¬2) بعد هذا اللفظ في س سقط يسيرو به تنقطع الصلة بين النسختين مرة أخرى. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن الأصل المنقول عنه وهو (ابن الأثير، ج 11، ص 176).

في بلاده، وأمّنهم، ثم غدر بهم وأسرهم، فدخل السلطان بلادهم، وأوغل بها، فخاف ابن لاون، وأحرق السلطان قلعة شامخة حصينة تعرف بالمناقير (¬1)، وبادر المسلمون إلى إخراج ما فيها من الغلات والآلات، وتقووا بها، وتمموا هدمها إلى الأساس، فخضع ابن لاون وذل، ودخل تحت طاعة السلطان، وأطلق ما بيده من الأسارى، ورجع السلطان مؤيدا مظفرا منصورا، ووصل إلى حماة في أواخر جمادى الآخرة. ومدحه جمال الدين أبو غالب محمد بن سلطان بن الخطاب (¬2) المقرىء بقصيدة منها: لقد جمّل الله منك الورى ... بأوفى مليك وفّى هجان تهشّ إلى نغمات السيو ... ف في الهام، لا نغمات القيان أزرت (¬3) ابن لاون لأواءه، ... فأضحى به خبرا عن عيان ودان من الذلّ لا يرعوى، ... حذارا من الراعقات اللدان فلا قدم عنده للثبا ... ت، وليس له بسطاكم يدان وأخلى (¬4) إليكم مناقيره، (¬5) ... وغادر للهدم تلك المبانى وأرسل بالأسراء العنا ... ة يسأل إطلاقه، فهو (¬6) عانى ¬

(¬1) الأصل: «بالما يغير»، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 16). (¬2) لم أعثر له على ترجمة فيما بين يدى من مراجع. (¬3) الأصل: «أرمت»، وما هنا صيغة (الروضتين، ج 2، ص 16). (¬4) الأصل: «أخلا». (¬5) الأصل: «لهيبتك الما يغير»، والتصحيح عن الروضتين. (¬6) الأصل: «وهو» وما هنا عن الروضتين.

[224] رتقت بعزمك والمكرما ... ت فتوقا من الأرتقى (¬1) الهجان ورعت أبن سلجوق (¬2) في ملكه، ... فقعقع من رعبه بالشنان (¬3) وذكر القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - أن دخول السلطان بلاد الأرمن كان لأن رسل قلج أرسلان بن مسعود - صاحب قونية وملطية - أتوه يلتمسون منه الموافقة، ويستغيثون من أبن لاون (¬4) الأرمنى، فدخل إلى بلاد الأرمن لنصرة قلج أرسلان عليه، [ونزل بقره حصار وأخذ عسكر] (¬5) حلب في خدمته، لأنه كان اشترط ذلك عليهم في الصلح، فاجتمعوا على النهر الأزرق - بين بهسنا وحصن منصور - وعبر منه إلى النهر (¬6) الأسود، [و] طرق (¬7) بلاد أبن لاوون، وأخذ منهم حصنا وأخربه، فبذلوا له أسارى، والتمسوا منه الصلح، وعاد عنهم، ثم راسله قلج أرسلان في صلح الشرقيين بأسرهم، واستقر الصلح عاشر جمادى الأولى سنة ست وسبعين وخمسمائة، ودخل في الصلح قلج أرسلان والمواصلة وأهل ديار بكر، وكان ذلك على نهر شيخة (¬8)، وهو نهر يرمى إلى الفرات. ثم سار السلطان إلى دمشق. ¬

(¬1) الأصل: «الارتقا»، والتصحيح عن الروضتين. (¬2) الأصل: «سلجق». (¬3) في الروضتين: «ففعفع من رعبه بالشنان»، وفى الأصل هنا «بالسنان»، وفى اللسان: «في المثل: فلان لا يقعقع له بالشنان أي لا يخدع ولا يروع». (¬4) هو ليون الثانى صاحب أرمينية: (Leo II Roupenian Prince of Armenia) أنظر: (RUNCIMAN : op .cit .vol .2. P. 430). (¬5) الأصل مضطرب غير مفهوم ونصه: «وترك معرى من عمل حلب»، وقد صححت العبارة عن: (ابن شداد: السيرة اليوسفية، س 43) وهو الأصل المنقول عنه هنا. (¬6) الأصل: «الحصن الأسود» وقد صحح عن المرجع السابق. وقد عرف (ياقوت: معجم البلدان) نهر الأزرق بأنه نهر بالثغر بين بهسنا وحصن منصور في طرف بلاد الروم من جهة حلب؛ ثم قال: ونهر الأسود نهر قريب من الذى قبله في طرف بلاد مصيصة وطرسوس. (¬7) الأصل: «طرف» وقد عدلت وزيدت الواو ليستقيم بها المعنى. (¬8) كذا في الأصل، وفى (الروضتين، ج 2، ص 17) نقلا عن ابن شداد؛ وهو في الطبعة التي بين يدى من ابن شداد - وهى كثيرة الأخطاء -: «نهر سبخة سنخة»، ولم أجد لهذا النهر ذكرا عند ياقوت لضبط اسمه.

ذكر مسير السلطان إلى الديار المصرية

ذكر مسير (¬1) السلطان إلى الديار المصرية ثم عزم السلطان على السفر إلى الديار المصرية، واستناب بالشام ابن أخيه عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب - صاحب بعلبك -، ورحل إلى مصر يوم لاثنين ثامن عشر رجب، وفى صحبته صدر الدين شيخ الشيوخ - رسول الديوان العزيز - بنية الحج - كما ذكرناه -، فوصل إلى القاهرة ثالث عشر شعبان من السنة، فخرج إلى استقباله أخوه ونائبه بمصر الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب - رحمه الله -، وفارقه [بعد وصوله إلى مصر] (¬2) الشيخ صدر الدين شيخ الشيوخ، وتوجه إلى مكة، وركب البحر من عيذاب، فوصلها وجاور بها إلى أن جاء الموسم، فوقف بعرفات وأتم حجه؛ ثم توجه مع الحج العراقى إلى بغداد. ودخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة والسلطان - رحمه الله - بالقاهرة مشتغلا [225] بالنظر في مصالح الديار المصرية والمواظبة على سماع الأحاديث النبوية. ذكر غزو عماد الدين فرخشاه الكرك (¬3) في هذه السنة - أعنى سنة سبع وسبعين وخمسمائة (¬4) - سار عز الدين فرخ شاه إلى أعمال الكرك فنهبها، وسبب ذلك: أن البرنس أرناط صاحب ¬

(¬1) بهذا اللفظ نتقابل مرة أخرى مع نسخة س في أول (ص 171). (¬2) ما بين الحاصرتين عن س (171). (¬3) هذا العنوان غير موجود في س. (¬4) هذه الفقرة غير موجودة في س.

ذكر المتجددات باليمن بعد مفارقة الملك المعظم لها

الكرك - لعنه الله - كان أشد الفرنج عداوة للإسلام، فجمع عسكره وعزم على المسير إلى تيماء، وحدثته نفسه بالمسير إلى مدينة النبى - صلى الله عليه وسلم - ليستولى عليها وعلى تلك النواحى الشريفة، فلما بلغ ذلك عز الدين - وهو بدمشق - سار بالعساكر الدمشقية إلى بلده فنهبه وخرّبه، وعاد إلى طرف بلاد الإسلام، وأقام هناك ليمنع (¬1) البرنس - لعنه الله - من المسير، فامتنع بسببه من قصده (1)، فلما طال مقام كل واحد منهما في مقابلة الآخر علم البرنس أن المسلمين لا يعودون حتى يتفرق جمعه، ففرّقه، وانقطع طمعه في الحركة، وعاد عز الدين إلى دمشق، وحمى الله الحرمين الشريفين من غائلة الكفار. ذكر المتجددات باليمن بعد مفارقة الملك المعظم لها لما فارق الملك المعظم شمس الدولة توران شاه - رحمه الله - اليمن استناب بزبيد الأمير سيف الدولة (¬2) مبارك بن كامل بن منقذ الكنانى، وبعدن عز الدين ¬

(¬1) مقابل هذه الفقرة في س: (ليسمع البرنس - لعنه الله - خبره فيمتنع عن المسير، فلما سمع ذلك امتنع بسببه من قصد مدينة النبى - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) س (71 ب): «سيف الدين»، وما هنا هو الصحيح، وهو أبو الميمون مبارك بن كامل ابن على بن مقلد بن نصر بن منقذ الكنانى. وذكر (بامخرمة: تاريخ ثغر عدن، ج 2، ص 38) أن تورانشاه لما عزم على السفر إلى الشام " استناب في اليمن نوابا، فجعل أبا الميمون مبارك بن كامل. . . ابن منقذ على زبيد وأعمالها من التهائم، وجعل عثمان بن الزنجبيلى على عدن وما ناهجها، وجعل ياقوت التعزى على تعز وأعمالها، وجعل مظفر الدين قايماز على جبلة ونواحيها، وتقدم سائرا إلى الشام في رجب سنة 571 "؛ وذكر هؤلاء النواب مرة أخرى (نفس المرجع والجزء، ص 69) ثم قال: " وتوجه (أي تورانشاه) ببقية الأمراء والعساكر إلى مصر وفيهم الأمير أبو الميمون المبارك بن كامل - أخو حطان -، فإن إمرة زبيد كانت لأبى الميمون، فلما عزم شمس الدولة على التقدم إلى مصر استأذنه أبو الميمون في العزم صحبته، وأن يستنيب على عمله أخاه حطان، فأذن له في ذلك؛ ولما توفى شمس الدولة بمصر قبض أخوه الملك الناصر صلاح الدين على أبى الميمون المبارك بن كامل، وصادره. . .، ولما اتصل العلم إلى اليمن بموت شمس الدولة، ولم يأت اليمن متفقد من قبل صلاح الدين، =

عثمان بن الزنجبيلى (¬1) وكان هوى سيف الدولة الشام، لأنها وطنه، فأرسل إلى الملك المعظم، [يطلب الإذن بالمجئ إليه، فأذن له، واستناب أخاه حطان، وعاد إلى عند الملك المعظم] (¬2) وهو إذ ذاك بمصر؛ ولما توفى الملك المعظم - كما ذكرنا - بقى سيف الدولة في خدمة السلطان بمصر، فقيل إن سيف الدولة أخذ أموال اليمن وادخرها، وسعى (¬3) به أعداؤه، فلم يعارضه السلطان. فلما كانت هذه السنة والسلطان بمصر عمل سيف الدولة دعوة كبيرة دعا إليها أعيان الدولة الصلاحية بقرية على شاطئ النيل تسمى العدوية (¬4)، ¬

= أظهر النواب غير الطاعة، وضرب كل منهم لنفسه سكة، وحرم على أهل بلده المعاملة بغيرها، ثم إن الملك الناصر صلاح الدين بعث مملوكه خطلبا إلى اليمن وكتب إلى كافة الأمراء باليمن أن يجتمعوا على حطان ويخرجوه من زبيد ويتولى ولايته خطلبا - إلخ " أنظر أيضا: (ابن حاتم: السمط الغالى الثمن، ص 7 ب وما بعدها؛ و (والحنبلى: شفاء القلوب، ص 53 ب). (¬1) الأصل: " الزنجيلى "، قال (بامخرمة: تاريخ ثغر عدن، ج 2، ص 131 - 132) في ترجمته له: " أبو عمرو عثمان بن على الزنجبيلى، نسبة إلى زنجبيلة قرية من قرى دمشق، ويقال له الزنجارى، الملقب عز الدين، كان أميرا كبيرا قدم من مصر مع المعظم توران شاه بن أيوب، ولما رجع المعظم من اليمن إلى الديار المصرية في شهر رجب من سنة 571 استناب في اليمن نوابا منهم الأمير عثمان المذكور، استنابه على عدن وما ناهجها. . . فلما قدم سيف الإسلام طغتكين بن أيوب من الديار المصرية إلى اليمن في سنة 579، وأسر حطان بن منقذ وقبض أمواله. . . فلما علم بذلك عثمان المذكور هرب من عدن وركب البحر، وحمل جميع ما معه وذخائره من ساحل زبيد، فقبض عليها كلها، ولم يفلت غير المركب الذى هو فيه، فلما خرج من عدن سكن دمشق، وابتنى فيها مدرسته، وتوفى سنة 583 بدمشق ودفن بمدرسته ". ومدرسته بدمشق كانت تعرف باسم " المدرسة الزنجارية " أو " الزنجبيلية " خارج باب توما وباب السلامة، انشئت سنة 626 هـ‍ وبها تربة وجامع بخطبة. انظر: (النعيمى: الدارس في المدارس، ج 1، ص 526 - 527) و (رحلة ابن جبير، ص 170). (¬2) ما بين الحاصرتين زيادات عن س. (¬3) الأصل: " وسعا " (¬4) الذى يذكره العماد (الروضتين، ج 2، ص 25) أن سيف الدولة مبارك بن منقذ «ابتاع من السلطان الناحية المعروفة بالعدوية بمصر لما عاد إليها. . . فصنع دعوة عظيمة بها»، وذكر العماد أنه حضرها هو وغيره من الفضلاء والأعيان، فبينماهم عنده في أسر حال إذ أحدق بهم الأمير بهاء الدين قراقوش فقبض على سيف الدولة، واعتقل بالقصر إلخ».

وأرسل أصحابه يتجهزون من البلد، ويشترون ما يحتاجون إليه من الأطعمة وغيرها، فقيل للسلطان: " إن ابن منقذ يريد الهرب [إلى اليمن] (¬1)، وأصحابه يتزودون له، ومتى دخل [226] اليمن أخرجه من طاعتك "، فاعتقله السلطان وحبسه، فبذل للسلطان ثمانين ألف دينار، ولم يظهر فيها بيع متاع ولا استدانة من تجار، وغرم لأخوى السلطان: الملك العادل، وتاج الملوك بورى جملة، فأطلق وعاد إلى منزلته. ثم وقع باليمن خلف بين حطّان بن منقذ - والى زبيد - وعز الدين عثمان ابن الزنجبيلى - والى عدن - لما بلغهما وفاة الملك المعظم، ورام كل واحد منهما أن يغلب (¬2) على ما بيده (¬3)، وجرت بينهما فتن، واشتد الأمر، وبلغ ذلك السلطان، فخاف أن يطمع أهل اليمن فيها بسبب الاختلاف بين أصحابه، فأرسل إلى اليمن عسكرا وقدّم عليهم قتلغ أبه (¬4) - والى مصر - ومعه عدة من الأمراء، فاستولى قتلغ أبه على زبيد، وأزال حطّان عنها، ثم توفى قتلغ أبه، فعاد حطّان إلى إمارته بزبيد وإقطاعه (¬5)، وأطاعه الناس لجوده وشجاعته. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س. (¬2) في الأصل: «يغلبك»، والتصحيح عن س (71 ب). (¬3) كذا بالأصل، وفى س: «ما بيد الآخر». (¬4) الأصل: «فبلغ ابه»، وما هنا عن (ابن الأثير، ج 11، ص 178) وهو عند بامخرمة (أنظر ما فات هنا، ص 102، حاشية 2): «خطلبا»، وهو في (الروضتين، ج 2، ص 26): «صارم الدين خطلبا». (¬5) هذا اللفظ غير موجود في س.

ذكر استيلاء سيف الإسلام طغتكين بن أيوب على بلاد اليمن

ذكر استيلاء سيف الإسلام طغتكين (¬1) بن أيوب على بلاد اليمن ثم قرر السلطان مع سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب أخيه أن يمضى إلى بلاد اليمن لتنقطع الفتن بها، فسار إليها (¬2) في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بعد مسير السلطان [فوصل إلى زبيد فملكها، وأمّن حطّان وطيّب قلبه، فاستأذنه حطّان في المسير] (¬3) إلى الشام، فأذن له، فجمع حطّان كلما له من سبد ولبد، وكان قد حصل على أموال عظيمة، ورحل بها، فردّه سيف الإسلام إليه ليودعه، ويركب معه ليشيعه، فلما دخل إليه اعتقله واحتاط على جميع موجوده، ثم نقله إلى بعض الحصون فحبسه به ثم قتله. وحكى عماد الدين الكاتب عن السلطان فيما قبض من حطّان من الأموال، قال: " كان سبعين غلافا من غلف الزرد مملوءة بالذهب، وقوّم المأخوذ منه بألف ألف دينار ". ولما سمع عز الدين بن الزنجبيلى بسيف الإسلام تجهز من عدن إلى الشام، وسار إليه خائفا يترقب، وسيّر معظم أمواله في البحر، فصادفها مراكب فيها ¬

(¬1) في الأصل: «سيف الدين الإسلام سيف الدين طغتكين» وقد صحح بعد مراجعة س. (¬2) كان الرحالة ابن جبير موجودا في مكة عند مرور طغتكين بها في طريقه إلى اليمن، وقد وصف الأيام التي قضاها طغتكين مع جيشه في مكة وصفا شائقا. أنظر: (الرحلة، ص 145 - 149)؛ وقال ابن أبى طى (الروضتين، ج 2، ص 26) في أسباب خروج طغتكين لليمن: " كانت نفس سيف الإسلام طغتكين أخى السلطان تشرئب إلى اليمن من حيث مات أخوه شمس الدولة، ويشتهى أن يصير إليها، فأمر ابن سعدان الحلبى أن يعمل قصيدة يعرض فيها بإنفاذ سيف الإسلام إلى اليمن، فعمل القصيدة التي يقول فيها (وروى أبياتا منها)، قال: فلما سمع السلطان هذه القصيدة أذن لسيف الإسلام في المسير إلى اليمن». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادات عن ص (72 ا).

ذكر وفاة الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكى - رحمهما الله -

أصحاب سيف الإسلام، فأخذوا كلما لعز الدين، ولم يبق إلا ما صحبه في الطريق [ووصل إلى الشام، وأقام به إلى أن مات] (¬1) وصفت زبيد وعدن وما معهما من الحصون والبلاد لسيف الإسلام، وقدم عز الدين دمشق، وكان له معروف وبر [227] وصدقات بمكة واليمن ودمشق، وإليه تنسب المدرسة والرباط المتقابلان بباب العمرة بمكة، والمدرسة المعروفة به التي هى خارج باب توما (¬2)، [وأقام في دمشق إلى أن مات - كما ذكرنا -] (1). ذكر وفاة الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكى - رحمهما الله - وفى هذه السنة - أعنى سنة سبع وسبعين وخمس مائة - توفى الملك الصالح إسماعيل ابن نور الدين - رحمه الله - وكان مرضه بالقولنج (¬3)، وابتدأ (¬4) به المرض تاسع رجب، وفى الثالث والعشرين منه أغلقت أبواب قلعة (¬5) حلب لشدة مرضه، واستدعى الأمراء واحدا واحدا، واستحلفوا لابن عمه عز الدين مسعود ابن مودود بن زنكى - صاحب الموصل -، وفى الخامس والعشرين منه توفى - رحمه الله - واشتد حزن أهل حلب عليه. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (72 ا). (¬2) انظر ما فات ص 103، هامش 1. (¬3) مرض وصفه (الخوارزمى: مفاتيح العلوم، ص 98) بأنه اعتقال الطبيعة لانسداد المعى المسمى قولون. (¬4) س: " واشتد "، وما هنا هو الصحيح فهو يتفق ونص ابن شداد، وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا. (¬5) هذا اللفظ غير موجود في س.

ذكر سيرته - رحمه الله -

ذكر سيرته (¬1) - رحمه الله - كان ديّنا صالحا، مجبولا على الخير، ولما اشتد مرضه وصف له الأطباء شرب الخمر، فقال: «لا أفعل حتى استفتى الفقهاء»، وكان عنده الإمام علاء الدين الكاسانى الحنفى - رئيس أصحاب أبى حنيفة بحلب - وكان يعتقد فيه اعتقادا حسنا ويكرمه، فاستفتاه، فأفتاه بجواز شربها للتداوى، فقال له: «يا علاء الدين، إن كان الله سبحانه قد قرّب أجلى أيؤخره شرب الخمر؟»، فقال: «لا والله» فقال: «والله، لا لقيت الله تعالى وقد استعملت ما حرّمه علىّ»، وكان عمره قريبا من عشرين سنة. ذكر استيلاء عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى على حلب لما اشتد المرض بالملك الصالح - رحمه الله - وأيس من نفسه أحضر الأمراء كلهم والأجناد، واستحلفهم لابن عمه عز الدين مسعود، وأمرهم بتسليم مملكته جميعها إليه، فقال له بعضهم: «إن ابن عمك عز الذين له الموصل وغيرها من همذان إلى الفرات، فلو أوصيت بحلب لعباد الدين ابن عمك كان أحسن، (¬2)، ثم هو تربية والدك، وزوج أختك، وهو أيضا عديم المثل في العقل والتدبير والخلال والشجاعة التي تفرد بها ". ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في س. (¬2) س (72 ب): " أخير "

فقال: " إن هذا لم يغب عنى، ولكن قد علمتم تغلب صلاح الدين على عامة بلاد الشام سوى ما بيدى ومعى، فإن سلمت حلب إلى عماد الدين يعجز عن حفظها منه، فإن ملكها صلاح الدين لا يبقى لأهلنا معه مقام، وإذا سلمتها إلى عز الدين [228] أمكنه أن يحفظها لكثرة عساكره وبلاده وأمواله ". فاستحسن الحاضرون قوله وعلموا صحته، وعجبوا من جودة رأيه مع شدة مرضه وصباه. فلما توفى أرسل شاذبخت - دزدار حلب - إلى عز الدين يدعوه إلى حلب ليسلموها إليه، فورد الخبر ونائبه مجاهد الدين قايماز قد سار إلى ماردين لمهم عرض له فلقى القاصدين عندها، فأخبروه الخبر، وسار إلى الفرات، فأرسل إلى عز الدين يعرفّه الحال، ويشير بتعجيل الحركة، وأقام على الفرات ينتظر، فسار عز الدين مجدا، فلما وصل إلى المنزلة التي بها مجاهد الدين [قيماز] (1) أقام معه، وأرسل [إلى حلب] (¬1) يستحضر الأمراء، فحضروا كلهم عنده، وجددوا اليمين له، فسار حينئذ إلى حلب، ودخلها وملكها. ولما دخل الفرات كان الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب - ابن أخى السلطان - بمنبج - وكانت إقطاعا له مع حماة (¬2) وسلمية وغيرها -، فسار عنها هاربا إلى مدينة حماة، وثار أهل حماة، ونادوا بشعار عز الدين مسعود لميل (¬3) الناس كان إلى عود الدولة الأتابكية، وكان السلطان اذ ذاك بمصر - كما ذكرنا - فأشار الحلبيون على عز الدين بقصد دمشق، وأطمعوه فيها وفى غيرها من البلاد الشامية، وأعلموه محبة أهلها للبيت الأتابكى، فلم يفعل، وقال: " بيننا يمين ولا نغدر به "، وأقام بحلب مدة يسيرة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (73 ا). (¬2) هذا اللفظ ساقط من س. (¬3) في الأصل: " يميل "، وقد صححت إلى ما بالمتن ليستقيم المعنى؛ وفى س: " وخطر للناس عودة الدولة. . . إلخ ".

ذكر استيلاء عماد الدين زنكى بن مودود بن زنكى على حلب

ذكر استيلاء عماد الدين زنكى بن مودود بن زنكى على حلب وكان وصول عز الدين إلى حلب وتملكه لها في العشرين من شعبان من هذه السنة، واستولى على الخزائن والذخائر، وتزوج أم الملك الصالح، وأقام بقلعة حلب إلى سادس عشر شوال من هذه السنة، وعلم أنه لا يمكنه حفظ الشام مع الموصل لأجل السلطان [صلاح الدين]، (1) وألّح عليه الأمراء في طلب الزيادات [في إقطاعهم، وفى طلب الأموال]، (¬1) وأكثروا إدلالهم عليه بسبب اختيارهم إياه (¬2). [وكان عنده بخل] (1) فضاق عطنه [منهم]، (1) فرحل من حلب إلى الرّقة وخلفه ولده، ومظفر الدين بن زين الدين بها، ولقيه عماد الدين زنكى بالرّقة على قرار بينهما، واستقر [الأمر بينهما] (1) أن يسلم حلب إلى عماد الدين، ويأخذ عز الدين عنها عوضا سنجار. وذكر ابن الأثير أن عماد الدين أرسل أخاه يلتمس ذلك، وأن عز الدين امتنع عنه، وأن عماد الدين لّج في هذا الأمر، وقال: «إن سلمتم إلىّ حلب (¬3) [229] وإلا سلمت أنا سنجار إلى صلاح الدين ". فأشار حينئذ الجماعة بتسليمها إليه وكان أكثرهم في ذلك مجاهد الدين قايماز، فاستقر الأمر على ذلك، وحلف كل منهما لصاحبه في الحادى والعشرين من شوال، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (73 ب). (¬2) س: " وأكثروا عليه لإدلالهم عليه بسبب إلخ ". (¬3) س: " إن لم تسلموا إلى حلب وإلا. . . إلخ ".

ذكر المتجددات للسلطان [صلاح الدين] بمصر إلى حين سفره إلى الشام

وسار من جانب عماد الدين من تسلّم حلب، ومن جانب عز الدين من تسلّم سنجار، وعاد عز الدين إلى الموصل، وتوجه عماد الدين إلى حلب، وكان صعوده قلعتها في ثالث عشر المحرم سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، واستقر بها. ذكر المتجددات للسلطان [صلاح الدين] (¬1) بمصر إلى حين سفره إلى الشام ولما بلغ السلطان وفاة الملك الصالح بن نور الدين تحرك عزمه على التوجه إلى الشام، وندم على النزوح عنه، فكتب إلى ابن أخيه الملك المظفر تقى الدين عمر - صاحب حماة - يأمره بالتأهب والنهوض، وكاتب سائر نوابه بالشام بذلك، وكتب إلى الديوان العزيز بانشاء عمادى فيه: " فصل: وشاع الخبر بغارة أفرنج أنطاكية على حارم، وأتوا من النهب والسبى بالعظائم، وشاع أيضا أن عسكر حلب أغاروا على الراوندان وهى [في] عملنا؛ ورسلهم عند الفرنج يستنجدونهم؛ (¬2) وراسلوا الحشيشية، والمراد من الرسالة غير خاف، والعلم بالمعتاد عنه كاف، وابن أخينا (¬3) غائب في أقضى بلاد الفرنج في أول برية الحجاز، فإن طاغية منهم جمع خيله ورجله، وحدثته نفسه الخبيثة بقصد تيماء، وهى دهليز المدينة - على ساكنها السلام - واغتنم كون البرية معشبة مخضرة مخصبة في هذا العام، والعجب أنا نحامى عن قبر النبى - صلوات الله عليه وسلامه - مشتغلين بهمه، والمذكور - يعنى صاحب الموصل - ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ص س (73 ب). (¬2) الأصل: " يستنجدوهم "، والتصحيح عن س (74 ا)، وفى (الروضتين، ج 2، ص 23): " ورسولهم عند الفرنج يستنجدهم ". (¬3) هو ابن أخيه عز الدين فرخشاه.

ينازع في ولاية هى لنا، ليأخذها بيد ظلمه، وكم بين من يحارب الكفر ويحمل إليهم قواصم الآجال (¬1) وبين من يتخذهم بطانة دون المؤمنين، ويحمل إليهم كرائم الأموال، هذا مع ما نعد في الملّة الحنيفية والدولة الهادية العباسية من آثار لا يعدّ مثلها أولا لأبى مسلم، لأنه أقدم ثم خامر (¬2)، ووالى ثم ولى، ولا آخرا لطغرلبك، فإنه نصر ونصب، ثم حجر وحجب، وقد عرف ما فضلنا الله به عليهما في نصر الدولة، وقطع (¬3) من كان ينازع الخلافة رداءها، ويطهر المنابر (¬4) من رجس الأدعياء، ولم نفعل ما فعلناه [230] لأجل الدنيا؛ غير أن التحدث بنعمة الله واجب، والتبجح بالخدمة الشريفة والافتخار بالتوفيق فيها على السجية غالب؛ ولا غنى عن بروز الأوامر الشريفة إلى المذكور بأن يلزم حدّه، ولا يتجاوز حقه، فإن دخول الأيدى المختلفة عن الأعداء المتفقة شاغل، ويحتاج فيه إلى مغرم ينفق فيه العمر بغير طائل، فإن الأعمار تمرمر السحاب، والفرص تمض ومض السراب، وبقاؤنا (¬5) في هذه الدار القليلة اللبث القصيرة المكث يؤثر أن نغتنمه في مجاهدة العدو الكافر، الذى صار به البيت المقدس محلا للأرجاس، ومضت عليه دهور وملوك لم يحصلوا من رجاء تطهيره إلا على اليأس، وإن كان القوم قد بذلوا للدار العزيزة بذولا معارة فقد أسلف الخادم خدمات ليست بعوار، (¬6) فإنهم لو بذلوا بلادهم كلها ما وفت بفتح مصر التي رحل (¬7) بها أسامى الأدعياء الزاكية (¬8) أعوادها؛ وأعاد إلى عينها بعد بياض عماها من نور الشعار العباسى ¬

(¬1) في الأصل: " الآمال " وما هنا عن س، والروضتين. (¬2) في الأصل: " خام "، وما هنا عن س والروضتين. (¬3) كذا في الأصل وفى الروضتين؛ وفى س (74 أ): " وقلع ". (¬4) في الأصل وفى س: " المغاير " والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 23). (¬5) س: " وقعادتا ". (¬6) الأصل: " بعوارى ". (¬7) كذا في الأصل وفى الروضتين؛ وس " دخل ". (¬8) كذا في الأصل وفى س (74 ب)؛ وفى الروضتين: " الراكبة ".

ذكر سفر السلطان إلى الإسكندرية وعوده

سوادها؛ فان اقتضت الأوامر الشريفة أن يوعز للمذكور بحلب بتقليد، فالأولى أن يقلّد الكل، فلا رغبة فيما لا يؤمن معه شر الشريك؛ ولمالك الأمر الحكم في ممالك المماليك ". وفيه فصل معناه أن حلب من جملة البلاد التي اشتمل عليها تقليد أمير المؤمنين المستضىء بنور الله، وإنما تركها في يد ابن نور الدين لأجل أبيه، والآن فليرجع كل ذى حق إلى حقه ليقتنع برزقه. ذكر سفر (¬1) السلطان إلى الإسكندرية وعوده وسافر السلطان بعد شهر رمضان من هذه السنة - أعنى سنة سبع وسبعين وخمسمائة - إلى الاسكندرية على طريق البحيرة، وخيّم عند السوارى، وشاهد الأسوار التي جددها، وأمر بالاتمام والاهتمام، وقال: «نغتنم (¬2) حياة الشيخ أبى طاهر ابن عوف (¬3)». فحضر عنده، وسمع عليه موطأ مالك بن أنس - رحمة الله عليه -؛ بروايته عن الطرطوشى (¬4) في العشر الأخير من شوال، وتم له ولأولاده [231] السماع. ¬

(¬1) س: " مسير ". (¬2) في الأصل: " فمغتنم "، وما هنا عن س، و (الروضتين، ج 2، ص 24). (¬3) في الأصل، وفى س: " أبى طاهر السلفى "، وما هنا عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 24) أنظر أيضا: (الشيال: الإسكندرية، طبوغرافية المدينة وقطورها، ص 218 و 222)، وقد بنيت لابن عوف أول مدرسة بنيت في مصر في أواخر العصر الفاطمى، بناها له رضوان بن ولخشبى وزير الخليفة الحافظ في سنة 533 هـ‍، وأسند إليه التدريس بها، أنظر: (المقريزى: اتعاظ الحنفا، مخطوطة سراى، ص 138 ب). (¬4) الأصل: " الطرطوسى "، وس: " الطرسوسى "، والتصحيح عن الروضتين حيث نقل خبر هذه الزيارة - كما ورد هنا تماما - عن العماد الكاتب الذى نص على أنه كان في صحبة صلاح الدين وولديه أثناء الزيارة، وأنه شاركه هذا السماع، وانظر ترجمة الطرطوشى في: (ابن خلكان: الوفيات، =

ذكر مسير السلطان إلى الشام

ثم عاد إلى القاهرة في ذى القعدة، وشرع في التجهز والاستعداد لسفر الشام، فجمع العساكر، واستكثر من السلاح، فأمر بهاء الدين قراقوش باتمام السور الداير على مصر والقاهرة. ذكر مسير السلطان إلى الشام ثم برز السلطان من القاهرة، وخرج الناس لوداعه، فمن عجيب ما ذكر في الاتفاق أن السلطان بينما هو في سرادقه، والعلماء والفضلاء عنده، وكل منهم ينشد بيتا [أو أبياتا] (¬1) في الوداع، إذ أخرج أحد مؤدبى أولاده رأسه، وأنشد مظهرا بذلك فضليته: تمتّع من شميم عوار نجد ... فما بعد العشيّة من عرار فخمد نشاط السلطان، وانقبض انبساطه، وجعل الجماعة ينظرون بعضهم لبعض متعجبين من سوء أدب المؤدب، وكأنه نطق بما هو كائن في الغيب، فإن السلطان فارق الديار المصرية هذه النوبة، واشتغل بما سنذكره من الفتوحات والغزوات، وتمادى الحال إلى أن قضيت منيته بدمشق، ولم يعد بعد ذلك إلى الديار المصرية، فكان كما قيل: «الفال موكل بالمنطق». ثم سار السلطان متوجها إلى الشام لخمس مضين من المحرم سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وجعل طريقه على أيلة، وكان قبل سفره قد غدر الفرنج، ونقضوا عهدهم، واستولوا على تجار في البحر وغيرهم، فقدر الله سبحانه بطسة (¬2) للمسلمين ¬

= ج 3، ص 393 - 395) و (مقدمة كتابه سراج الملوك)، وقد أورد صاحب (الروضتين، ج 2، ص 24). نص خطاب هام لطيف كتبه القاضى الفاضل إلى صلاح الدين يهنيه فيه بهذا السماع، فانظره هناك. (¬1) ما بين الحاصرتين عن س (75 أ). (¬2) أنظر ما فات هنا ص 77، هامش 1

عظيمة من المراكب مقلعة للفرنج من بلد لهم يقال له بوليه، يحتوى على ألفين (¬1) وخمسمائة من رجال القوم وأبطالهم وأتباعهم على قصد زيارة القدس، فألقتهم الريح على ثغر دمياط، فغرق شطرهم وأسر الباقون، وكان عدة من أسر ألفا وستمائة وتسعين نفسا (¬2). ولما وصل السلطان إلى عقبة أيلة فإنه سمع باجتماع الفرنج في الكرك لقصد قطع الطريق، فاحترز بحفظ الأطراف، (¬3) وانحاز (¬4) بحمى، ثم عقبة شنار (¬5) ثم القريتين (3)، وأغار على طرف بلاد العدو، ثم تجرد السلطان في شجعان أصحابه، وسار على سمت الكرك [232] إلى الحسى (¬6)، وأمرّ أخاه تاج الملوك بورى على الناس، وأمره أن يسير بهم يمنة، ثم اجتمعوا بالسلطان بالأزرق بعد أسبوع. وكان الفرنج لما سمعوا بمسير السلطان، وأن معه خلقا من التجار، اجتمعوا بالكرك، للقرب من طريقهم، لعلهم ينتهزون فرصة من القافلة، فخرج الملك المنصور عز الدين فرخشاه ابن أخى السلطان من دمشق، واغتنم خلو ديارهم، وأغاز على طبرية وعكا، وفتح دبورية (¬7)، وجاء إلى حبيس جلدك بالسواد، وهو ¬

(¬1) في الأصل، وفى س (75 أ): " ألف "، وقد صححت بعد مراجعة (الروضتين، ج 2، ص 27). وهو تصحيح يقتضيه السياق، أنظر تفصيل الخبر في السطور القليلة التالية. (¬2) كذا في الأصل؛ وس: " ألفا وستمائة نفس "؛ والروضتين: " زهاء ألف وستمائة وست وسبعين نفسا ". (¬3) هذه الفقرة غير موجودة في س. (¬4) الأصل: " وجاز " وما هنا عن الروضتين. (¬5) الأصل: " سنان " وما هنا عن الروضتين. (¬6) كذا في الأصل، وفى (الروضتين، ج 2، ص 28). وفى س (75 ب): " الحبا ". (¬7) في الأصل: " دنورية " وفى س: " دنورية " بدون نقط، وقد ضبطت بعد مراجعة: (الروضتين، ج 2، ص 28) و (ياقوت، معجم البلدان)، وقد عرفها الأخير بأنها بليد قرب طبرية من أعمال الأردن.

ذكر مسير السلطان إلى البلاد الشرقية

شقيف يشرف على بلاد المسلمين، ففتحه وأسكنه المسلمين، فبقى عينا على الفرنج بعد ما كان لهم، ورجع بالأسرى والغنائم، ومعه ألف أسير وعشرون ألف رأس من النعم، ووصل إلى السلطان البشرى بذلك وهو في الطريق، [ففرح بهذا الفتح] (¬1) -. ثم وصل السلطان دمشق لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر من هذه السنة - أعنى سنة ثمان وسبعين -. ثم خرج السلطان وأغار على طبرية وبيسان، والتحم بينهم القتال تحت حصن كوكب، واستشهد جماعة من المسلمين، وكان النصر لأهل الإسلام، ثم رجع السلطان مظفرا (¬2). ذكر مسير السلطان إلى البلاد الشرقية ثم عزم السلطان على المسير [إلى البلاد الشرقية و] (1) إلى حلب، فبلغه أن المواصلة كاتبوا الفرنج ورغبوهم في قصد الثغور الإسلامية ليشغلوا السلطان عن قصدهم، فتوجه السلطان [صلاح الدين - رحمه الله -] (1) إلى بعلبك وخيّم بالبقاع، وكان قد واعد (¬3) أسطول مصر [أن] (1) يتجهز إلى بلاد الساحل، فبلغه الخبر أنه وصل إلى بيروت، فبادره السلطان بعسكره جريدة، فلما وصل رأى أن أمر بيروت يطول، وكان قد سبى الأسطول منها (¬4) وسلب، فأغار ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (75 ب). (¬2) أورد صاحب (الروضتين، ج 2، ص 28 - 29) نص رسالة بقلم الفاضل أرسلها صلاح الدين إلى الديوان العزيز يصف له فيها هذه المعارك والنصر الذى أحرزه. (¬3) الأصل: " وعد "، وما هنا عن س والروضتين (ج 2، ص 29). (¬4) صيغة س: " وكان قد سبا الأسطول منها خلق (كذا) كثير، فرده السلطان إلى مصر، وأعار. . . ألخ ".

السلطان على تلك البلاد ورجع، وأعاد ابن أخيه عز الدين فرخشاه إلى دمشق ورحل [السلطان] إلى بعلبك، ومنها إلى حمص، ثم إلى حماة، واستصحب معه ابن أخيه الملك المظفر تقى الدين صاحبها، فلما قرب من حلب وصل إلى خدمته مظفر الدين [233] كوكبورى بن زين الدين على كوجك، وكان بيده حرّان، فأشار على السلطان بعبور الفرات، (¬1) وكان سبب قصد مظفر الدين خدمة السلطان استيحاشه من مجاهد الدين قايماز (1) وعز الدين مسعود - صاحب الموصل -، فالتجأ إلى السلطان وأطمعه في البلاد. وكان نزول السلطان على حلب ثامن [عشر] (¬2) جمادى الأولى من السنة، وأقام منازلا لها ثلاثة أيام، ثم رحل يطلب الفرات، فوصلها وخيّم عليها من غربى البيرة، ومد الجسر، وكانت البيرة لشهاب الدين الأرتقى، فمات وملكها بعده ولده، وصار في طاعة عز الدين - صاحب الموصل - فقصدها في السنة الماضية قطب الدين ايلغازى (¬3) بن نجم الدين ألبى بن حسام الدين تمرتاش بن ايلغازى (3) بن أرتق - صاحب ماردين - بعد أن استأذن صاحب الموصل، وهو ابن عمته؛ وقصدها وأخذها منه، فأذن له في ذلك، فسار في عسكره إلى سميساط، وهى له، فنزل بها، وسيّر العسكر إلى البيرة، فحصرها، فلم يظفر منها بطائل، فأرسل صاحبها إلى السلطان - وقد خرج من مصر - يستنجده على ابن عمته (¬4)، وطلب منه أن يكون في خدمته كما كان أبوه في خدمة نور الدين، فأجابه إلى ذلك، فأرسل رسولا إلى صاحب ماردين يشفع فيه، ويطلب منه أن يرحل عسكره عنه، فلم يقبل شفاعته. ¬

(¬1) صيغة س مضطربة التركيب والمعنى، ونصها: " وكان قصد مظفر الدين بخدمة السلطان صلاح الدين استخداما من مجاهد الدين قايماز. . . الخ ". (¬2) ما بين الحاصرتين عن س (76 أ) و (الروضتين، ج 2، س 30). (¬3) هذه الفقرة غير موجودة في س. (¬4) في الأصل عمه؛ أنظر النص قبل هذا بسطرين.

ذكر استيلاء السلطان على البلاد الجزيرية

واشتغل السلطان بما ذكرناه من الفرنج، فلما رأى قطب الدين طول مقام عسكره على حصار البيرة ولم يبلغوا منها غرضا، أمرهم بالرحيل عنها وعاد إلى ماردين، فسار صاحبها إلى خدمة السلطان، فكان معه حتى عبر الفرات. ولما نزل السلطان على البيرة كاتب ملوك الأطراف: «من جاء مستسلما سلمت بلاده، على أن يكون من أجناد السلطان وأتباعه ومساعديه على جهاد الكفرة». فجاء رسول نور الدين بن قرا [234] أرسلان بن سقمان بن أرتق - صاحب حصن كيفا - بالإذعان. ذكر استيلاء السلطان على البلاد الجزيرية (¬1) ثم رحل السلطان من البيرة فنازل الرّها، وفيها الأمير فخر الدين مسعود بن الزعفرانى [صاحب حماة أولا] (¬2)، فسلمها إلى السلطان، فأقطعها لمظفر الدين بن زين الدين مضافة إلى حرّان [ومضى ابن الزعفرانى إلى الموصل فأقام بها] (2)، ثم وصل السلطان إلى حرّان فرتبها، وانفصل منها إلى الرقّة، وصاحبها الأمير قطب الدين ينال بن حسان (¬3) - صاحب منبج -، فأذعن للسلطان، فسلم البلد إليه، وأصلحها السلطان، ثم رحل إلى مشهد الرمان، ثم إلى عربان، وتسلمها أيضا، ثم استولى على الخابور، ففتح رأس عين ¬

(¬1) أورد صاحب (الروضتين، ج 2، ص 31 - 32) خطابا طويلا بقلم القاضى الفاضل أرسله صلاح الدين إلى الديوان العزيز عند عبوره الفرات يعدد فيه انتصاراته المتتالية هناك، وهو خطاب هام يتضمن تفصيلات كثيرة، فانظره هناك. (¬2) ما بين الحاصرتين عن س (76 ب). (¬3) س: " حاف " بدون نقط.

ذكر منازلة السلطان الملك الناصر الموصل

ودورين وماكسين والشمسانّية (¬1) والفدين (¬2) والمجدل والحصين، ثم قطع نهر الخابور على قنطرة تنينير (¬3)، ونازل نصيبين، فامتنعت القلعة عليه أياما، ثم استسلم من فيها، فملكها، وولاها حسام الدين أبا الهيجاء السمين، وولى الخابور جمال الدين خوشترين (¬4). وأقام السلطان بنصيبين ليصلح أمورها، فأتاه الخبر أن الفرنج قد قصدوا بلد دمشق، ونهبوا القرى ووصلوا إلى داريا، وأرادوا تخريب جامعها، فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى، يقول لهم: «إذا خربتم جامع داريا جددنا عمارته، ونخرب كل بيعة لكم في بلادنا، ولا نمكن أحدا من عمارتها»، فتركوه، ولما وصل الخبر بذلك إلى السلطان، أشار عليه بعض أصحابه بالعود، فقال السلطان: «يخربون قرى ونملك عوضها بلادا، ثم نعود فنعمرها، ونقوى على قصد بلادهم»، ولم يرجع وعزم على منازلة الموصل. ذكر منازلة السلطان الملك الناصر الموصل لما ملك (¬5) السلطان نصيبين جمع الأمراء الأكابر واستشارهم: أي البلاد يبدأ بها، بالموصل أم بسنجار أم بالجزيرة؟ فاختلفت آراؤهم، فقال مظفر الدين كوكبورى بن زين الدين على كوجك: ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى (الروضتين، ج 2، ص 32)، وس: " الشماسة " وهو خطأ؛ وقد ضبط الاسم بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان)، حيث ذكر أنها بليدة بالخابور. (¬2) كذا في الأصل، وفى س: " الغدير "، والروضتين: " الغدين "؛ وصيغة الأصل هى الصحيحة، وقد ضبط اللفظ عن (ياقوت: معجم البلدان) حيث عرفه بأنه قرية على شاطىء الخابور ما بين ماكسين وقرقيسيا. (¬3) الأصل: " القبتين "، س: " العسس " دون نقط؛ والروضتين: " التنبنير "؛ وقد صححت وضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث عرفها بقوله: " تنينير تصغير تنور، اسم لبلدتين من نواحى الخابور: تنينير العليا، وتنينير السفلى، وهما على نهر الخابور ". (¬4) الأصل: " جوشيرين "، والتصحيح عن س والروضتين. (¬5) س (77 أ): " أصلح ".

«لا ينبغى أن تبدأ بغير الموصل، لأنها في أيدينا لا مانع لها، [235] فإن عز الدين ومجاهد الدين متى سمعا بمسيرنا تركاها وسارا عنها إلى بعض القلاع الجبلية». ووافقه على ذلك ناصر الدين محمد بن شيركوه، وكان قد بذل للسلطان مالا كثيرا ليقطعه الموصل إذا ملكها، فأجابه إلى ذلك، فأشار بهذا الرأى لهواه، فسار السلطان إلى الموصل، وكان عز الدين صاحبها ونائبه مجاهد الدين [قايماز] (¬1) قد جمعا بالموصل العساكر الكثيرة ما بين فارس وراجل، وأظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار، وكانت طريق السلطان على أعمال ما بين النهرين، ثم أعمال البقعة (¬2)، ثم سار (¬3) إلى دجلة، فوردت خيله - في أشهر متقاربة - نيل مصر والفرات والدجلة؛ ثم صمم على قصد الموصل، فلما قرب منها انفرد هو ومظفر الدين بن زين الدين، وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ونفر من أعيان دولته، وقربوا من البلد، فلما رآه وحققه رأى ما هاله وملأ صدره وصدور أصحابه، فإنه رأى بلدا عظيما، ورأى الأسوار قد ملئت بالرجال، وليس فيها (¬4) شرّافة (¬5) إلا وعليها رجل مقاتل، سوى من عليه من عامة البلد المتفرجين، فلما رأى ذلك علم أنه لا يقدر على أخذه، فقال لناصر الدين: ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س. (¬2) كذا في الأصل، و (الروضتين، ج 2، ص 32)؛ وس (77 أ): " هعه " بدون نقط. (¬3) قبل هذا اللفظ في س: " ثم للد "، ولعلها: " بلد "، فقد جاء في الروضتين نقلا عن العماد: " ثم سرنا إلى بلد وأشرفنا على دجلة ". (¬4) الأصل: " فيه " وقد صححت ليستقيم بها المعنى. (¬5) في (اللسان): " الشّرف " كل نشز من الأرض قد أشرف على ما حوله، و " الشرفة " ما يوضع على أعالى القصور والمدن، والجمع شرف. فلعل المقصود هنا بالشرافة الأجزاء العليا من السور التي تشرف على خارجه.

" إذا رجعنا إلى العسكر فاحمل ما بذلت من المال، فنحن معك على (¬1) القول ". فقال. ناصر الدين: " قد رجعت عما بذلت من المال ". فقال له ولمظفر الدين: " غررتمانى وأطمعتمانى في غير مطمع، ولو قصدت غيره قبله كان أسهل أخذا بالاسم والهيبة التي حصلت لنا [في قلوب الناس] (¬2)، ومتى نازلناه (¬3) وعدنا عنه ولم نأخذه ينكسر ناموسنا، ويفل حدنا وشوكتنا ". ثم رجع إلى معسكره [وبات تلك الليلة] (2) وضجّ البلد، ودار العسكر حول السور، وعيّن لكل مقدم مقاما، ونزل هو وراء البلد، ونزل الملك المظفر تقى الدين - صاحب حماة - من شرقيه، ونزل تاج الملوك بورى بن أيوب عند الباب العمادى (¬4)، ونزل نور الدين - صاحب حصن كيفا - بباب الجسر. وكان نزول السلطان على الموصل [236] يوم الخميس حادى عشر رجب من هذه السنة - أعنى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة - ثم نشب القتال بين الفريقين، ولم يمكن عز الدين [صاحب الموصل] (2) ومجاهد الدين أحدا (¬5) من الخروج، بل لزموا القتال على الأسوار، وخرج يوما بعض العامة إلى العسكر، فنالوا منه. ثم إن الملك المظفر أشار على عمه السلطان بنصب منجنيق، فقال: " مثل هذا البلد لا ينصب عليه منجنيق (¬6)، ومتى نصبناه أخذوه، ولو خرّبنا برجا (¬7) أو بدنة من يقدر على الدخول إلى هذا البلد وفيه هذا الخلق الكثير؟ " ¬

(¬1) الأصل: " فنحن على هذا القول "، وما هنا صيغة (ابن الأثير، ج 11، ص 182) وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا. (¬2) ما بين الحاصرتين عن س. (¬3) في الأصل: " باريناه "، وفى س (77 أ): " فارقناه "، وما هنا عن ابن الأثير. (¬4) س: " العمادية ". (¬5) هذا اللفظ غير موجود في س. (¬6) الأصل: " منجنيقا ". (¬7) في الأصل المنقول عنه وهو (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 183): " وبدنة ".

ذكر رحيل السلطان من الموصل

فألح عليه، وقال: " نجربهم به ". فنصب منجنيقا (¬1)، فنصبوا عليه من (¬2) البلد تسعة (¬3) منجنيقات، وخرج جماعة من العامة فأخذوه، وجرى عنده قتال كثير، وأخذ بعض العامة مداسا (¬4) فيه مسامير كثيرة، ورمى به أميرا يقال له: جاولى الأسدى، مقدّم الأسدية وكبيرهم، فأصاب صدره، فوجد لذلك ألما شديدا، فأخذ المداس وعاد إلى السلطان، وقال: " قاتلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا بعد مثلها ". وألقى المداس، وحلف أنه لا يعود يقاتل أنفة، حيث ضرب بالمداس. ذكر رحيل السلطان من الموصل ثم إن السلطان رحل من قرب البلد، ونزل متأخرا خوفا من البيات (¬5) فإنه كان لا يأمن ذلك (¬6)، فإن (¬7) مجاهد الدين أخرج في بعض الليالى جماعة من باب السر الذى للقلعة ومعهم المشاعل، فكان أحدهم يخرج من الباب، وينزل ¬

(¬1) الأصل: " منجنيقات "، وما هنا عن س وابن الأثير، وهو الصحيح. (¬2) الأصل: " بين " والتصحيح عن ابن الأثير. (¬3) ص (77 ب): " سبع " والأصل: " تسع " والتصحيح عن ابن الأثير. (¬4) في الأصل المنقول عنه وهو (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 183): " لالكة "، وقد ذكر ابن واصل هنا اللفظ العربى المقابل له، فقد ذكر (Dozy : Supp .Dict .Arab) أن " لالك " لفظ فارسى معناه الحذاء أو المداس، والجمع " لوالك "، واللالكائى الحذاء أو صانع الأحذية. (¬5) س: " الكبسات ". (¬6) بهذا اللفظ تنتهى ص (77 ب) من نسخة س، ثم تنقطع الصلة مرة أخرى بين النسختين. (¬7) يلتقى النص بهذا اللفظ مع نسخة س في (ص 112 أ).

إلى دجلة مما يلى عين الكبريت (¬1)، ويطفى المشعل ويعود، فرأى العسكر (¬2) ذلك، فلم يشكوا في الكبسة، فحملهم ذلك على الرحيل والتأخير، ليتعذر البيات على أهل الموصل. وكان عز الدين - صاحب الموصل - قد سيّر القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - رسولا إلى الديوان العزيز قبل نزول السلطان [على الموصل] (¬3) بأيام قلائل، قال: " فسرت مسرعا إلى دجلة، وأتيت بغداد في يومين وساعتين من اليوم الثالث مستنجدا بهم، فلم يحصل منهم سوى الإنفاذ إلى صدر الدين شيخ الشيوخ، - وكان في صحبة [237] السلطان [صلاح الدين] (3) - يأمرونه بالحديث معه [في الصلح] " (3). وسيّر عز الدين إلى بهلوان بن ايلذكر - صاحب همذان - رسولا يستنجده، فلم يحصل من جانبه سوى تشرط كان الدخول تحته أخطر من حرب السلطان. ودخل صدر الدين [شيخ الشيوخ] (3) رسول الخليفة الإمام الناصر لدين الله، وبشير الخادم بين السلطان وصاحب الموصل، وتحدثوا في الصلح، فطلب عز الدين إعادة البلاد التي أخذت منهم، فأجاب السلطان إلى ذلك بشرط أن يسلموا إليه حلب، فامتنع عز الدين من ذلك، ثم نزل السلطان عن ذلك إلى تسليم البلاد إليهم، بشرط أن يتركوا إنجاد صاحب حلب (¬4) عليه، فامتنع عز الدين، وقال: " هو أخى، وله [معى] (¬5) العهود والمواثيق، ولا يسعنى نكثها ". ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى (ابن الأثير، ج 11، ص 183)؛ وفى س: " عين الأرنب ". (¬2) كذا في الأصل؛ وفى س: " فرأى العسكر الناس يخرجون "، وهذا يتفق مع نص ابن الأثير وهو المرجع الذى ينقل عنه هنا ابن واصل نقلا حرفيا. (¬3) ما بين الحاصرتين عن س، أنظر أيضا: (الروضتين، ج 2 ص 33) حيث ينقل هذا الخبر عن ابن شداد نفسه. (¬4) في الأصل: " سنجار "، وما هنا عن س، وهو يتفق وسياق الحديث، كما أنه يتفق ونص (ابن الأثير، ج 11، ص 183) حيث ينقل عنه ابن واصل نقلا حرفيا. (¬5) ما بين الحاصرتين عن س.

ذكر منازلة السلطان سنجار وتملكه لها

ووصل رسل قرا أرسلان - صاحب أذربيجان -، ورسل شاه أرمن (¬1) صاحب أخلاط - في المعنى (¬2)، ولم ينتظم أمر ولاتم صلح. ثم رأى السلطان أنه لا ينال من الموصل غرضا، فرحل قاصدا سنجار، وقدّم أمامه ابن أخيه الملك المظفر تقى الدين عمر - صاحب حماة -. ذكر منازلة السلطان سنجار وتملكه لها ولما توجه السلطان إلى سنجار وجد في طريقه عسكرا من الموصل سائرا إليها، فأحاط بهم، وأخذ خيلهم وعددهم وردهم إلى الموصل رجّالة، ووصل إلى سنجار ومعه رسل دار الخلافة، وكان بسنجار شرف الدين أمير أميران هندوا ابن مودود ابن زنكى (¬3) نائبا بها عن أخيه عز الدين، فواصل السلطان سنجار، وضايقها، وألح في قتالها، ونصب عليها المنجنيق، فهدم ثلمة من سور القلعة، [فأخذها] (¬4) ووكّل بها من يحفظها. ودخل شهر رمضان فكفّ السلطان عن القتال، ثم بلغه أن الموكلين بحفظ تلك الثلمة نيام، فأرسل إليهم من أوثقهم وحملهم إليه، وكان فيهم جماعة من المقدمين والأعيان؛ فلما أصبح شرف الدين [هندوا] (4) أذعن وسلم [القلعة وسنجار إلى السلطان] (4) ورحل بأهله وماله إلى الموصل، ودخل السلطان ¬

(¬1) رسمت في الأصل: " شاهر من ". (¬2) كذا في الأصل وفى ابن الأثير؛ وفى س: " الصلح ". (¬3) صيغة س: " وكان بسنجار أمير أميران بن مودود بن زنكى إلخ "، واسم هذا الرجل في الأصل، " هندو " وقد صحح بعد مراجعة (ابن الأثير، ج 11، ص 183)، ويلاحظ أن ابن واصل ينقل هنا عن الكامل لابن الأثير، وعن الروضتين، مجتمعين، دون أن يصرح بذلك، كما يلاحظ أن صاحب الروضتين ينقل كثيرا في هذا الموضوع عن العماد الكاتب. (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (112 ب).

ذكر وفاة الملك المنصور عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك، واستيلاء ولده الملك الأمجد بهرام شاه عليها

إلى سنجار وإلى القلعة، ورتبها وأمر بعمارتها، وولاّها الأمير سعد الدين مسعود ابن معين [الدين] (¬1) أنر. وذكر ابن الأثير أن جماعة من الأكراد الذين [كانوا] (1) بها كاتبوا السلطان وأشاروا عليه بقصد بعض النواحى، فقصدها، فسلموا تلك الناحية إليه، فملك الباشورة (¬2)، فضعف إذ ذاك قلب صاحبها، فسلمها بالأمان. ثم رحل السلطان [238] إلى نصيبين، فأقام بها لقوة البرد، وودع رسل الخليفة [ومضوا] (1)، وشكا أهل نصيبين من حسام الدين أبى الهيجا السمين، فعزله واستصحبه معه إلى دارا، وبها الأمير صمصام الدين بهرام الأرتقى، فتلقى السلطان أحسن ملتقى (¬3) فأكرمه، ثم سار السلطان إلى حرّان، وأقام بها للاستراحة، وعاد كل إلى بلده، وعاد الملك المظفر تقى الدين إلى حماة. ذكر وفاة الملك المنصور عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك، واستيلاء ولده الملك الأمجد بهرام شاه عليها وفى جمادى الأولى من هذه السنة - أعنى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة - توفى عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، ووصل خبره بذلك إلى السلطان، فأمّر ولده الملك الأمجد بهرام شاه على بعلبك وأعمالها، وأستناب بدمشق مكان عز الدين شمس الدين محمد بن المقدّم. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (112 ب). (¬2) أنظر ما فات هنا ص 81، هامش 1 (¬3) بهذا اللفظ تنتهى ص (112 ب) من نسخة س، ثم تنقطع الصلة بينها وبين الأصل.

ذكر سيرته - رحمه الله -

ذكر سيرته - رحمه الله - كان عز الدين فرخشاه - رحمه الله - فاضلا أديبا، كريما، كثير العطايا والبذل، محبا للفضلاء، متكثرا بهم، حسن السيرة، وكان قد احتضن الشيخ الإمام تاج الدين أبا اليمن الكندى (¬1) - رحمه الله - إمام عصره وفريد وقته في الأدب، فاستفاد منه، واقتبس من علومه؛ وللشيخ تاج الدين هذا في عز الدين - رحمه الله - قصيدة أولها: هل أنت راحم عبرة وتولّه ... ومجير صبّ عند مأمنه دهى؟ هيهات يرحم قاتل مقتوله! ... وسنانه في القلب غير منهنه من بلّ من داء الغرام؟ فإننى ... مذ حلّ بى مرض الهوى لم أنقه إنى بليت بحب أغيد ساحر ... بلحاظه، رخص البنان بزهره أبغى شفاء تدلّهى من دلّه، ... ومتى يرقّ مدلّل لمدلّه؟! يا مفردا بالحسن إنّك منته ... فيه، كما أنا بالصبابة منتهى قد لام فيك معاشر، أفأنتهى ... باللوم عن حبّ الحياة، وأنت هى؟ أبكى لديه، فإن أحسّ بلوعة ... وتشهق أومى بطرف مقهقه (¬2) ¬

(¬1) هو زيد بن الحسن بن زيد الكندى. أنظر ترجمته في: (ياقوت: معجم الأدباء، ج 11، ص 171 - 175) و (أبو شامة: الذيل على الروضتين، ص 65 و 95 - 98) و (السيوطى: بغية الوعاة، ص 249) و (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 13، ص 71) و (ابن العماد: شذرات الذهب، ج 5، ص 54). و (ديوان ابن الساعاتى، صفحات كثيرة منه). (¬2) كذا في الأصل، وفى (الروضتين، ج 2، ص 35): " ويشهقه أو ما بطرف مقهقه "

[239] أنا من محاسنه وحالى عنده ... حيران بين تفكّه وتفكّه (¬1) ضدّان قد جمعا بلفظ واحد ... لى في هواه بمعنيين موجه ومنها: أنا عبد من شهد الزمان بعجزه ... عن أن يجىء له بند مشبه عبد لعز الدين ذى الشرف الذى ... ذل الملوك لعزه (¬2)، فرخنشه طابت موارده فغصّ فناؤه ... وشدا الحداة بذكره في المهمه يفديك كلّ مملّك متتابه ... أبدا بألسنة الرعاع ممدّه لا يفقه النجوى إذا حدّثته ... واذا بدا (¬3) بحديثه لم يفقه قلت: مولد الشيخ تاج الدين الكندى - رحمه الله - سنة عشرين وخمسمائة، وروى عن أبى منصور الجواليقى وغيره، وتوفى بدمشق سنة ثلاث عشرة وستمائة، ومات وعمره ثلاث وتسعون سنة. ولم تزل بعلبك بيد الملك الأمجد بهرام شاه بن فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب إلى أن أخذها منه الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب - على ما سنذكره إن شاء الله -. وملك بعلبك بعد الملك الأشرف أخوه الملك الصالح إسماعيل، ثم ملكها ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك العادل، ثم ابنه الملك المعظم ¬

(¬1) الأصل: " بين تفكهه وتفكهه " والتصحيح عن الروضتين، وقد عقب على البيت بالشرح الآتى، قال: " يقال: تفكهت بالشىء أي تمتعت به، وتفكهت تعجبب، ويقال أيضا تفكهت تندمت، فهو في تفكه أي تمتع بالمحاسن، وفى تعجب من حاله وتندم عليها ". (¬2) في الروضتين: " لعز عبد فرخشه ". (¬3) في الروضتين: " أتى ".

ذكر نصرة المسلمين على الفرنج ببحر القلزم

توران شاه، ثم ملكها الملك الناصر صلاح الدين بن الملك العزيز (¬1) - صاحب حلب -، ثم ملكها التتر، ثم صارت بعده للملك المظفر قطز، ثم ملكها بعده الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، ثم صارت بعده لمولانا الأعظم الملك المنصور سيف الدين قلاوون (¬2) رحمة الله على سائر ملوك الإسلام أجمعين وعلى سائر المسلمين. ذكر نصرة المسلمين على الفرنج ببحر القلزم (¬3) لما صعب على البرنس أرناط - صاحب الكرك - ما توالى عليه من نكاية المسلمين المقيمين بحصن أيلة - وهى في وسط البحر لا سبيل للفرنج إليها - أفكر في وجه يتأتى له به فتحها، فبنى سفنا، ونقل أخشابها على الجمال إلى الساحل، ثم ركّب المراكب وشحنها بالرجال وآلات القتال، وأوقف منها مركبين على جزيرة القلعة (¬4)، تمنع أهلها استقاء الماء، ومضى الباقون في مراكب إلى عيذاب [240]، فقطعوا طريق التجارة، وشرعوا في القتل والأسر والنهب، ثم توجهوا إلى أرض الحجاز، فعظم البلاء، وأعضل الداء، وأشرف أهل المدينة النبوية منهم على خطر عظيم. ¬

(¬1) أنظر أسماء ملوك بعلبك من الأيوبيين وسنى حكمهم في: (زامباور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة، الترجمة العربية، ج 1، ص 152 - 153). (¬2) هذا استطراد من نوع الاستطرادات السابقة واللاحقة التي امتاز بها المؤلف في هذا الكتاب، والتي دأب على إيرادها كلما عرض لذكر مدينة من مدن الشام، فهو يتتبع حاكميها إلى عصره، ونفيد من هذا الاستطراد كذلك أن المؤلف كان يكتب هذا الجزء من تاريخه في حياة السلطان قلاوون، وبعد سنة 678 هـ‍، وهى السنة التي تولى فيها هذا السلطان الحكم. أنظر أيضا ما فات هنا ص 75، هامش 1 (¬3) هو البحر الأحمر الحالى، وسمى هكذا نسبة إلى مدينة القلزم التي كانت تقع في أقصى شمال خليج القلزم، وقد خربت هذه المدينة في القرن الخامس الهجرى، وعلى أنقاضها نشأت مدينة السويس الحالية في القرن السادس الهجرى، وسمى الخليج بخليج السويس كذلك. (¬4) يقصد الجزيرة التي عليها قلعة أيلة فقد قال في صدر هذه الفقرة إن حصن أيلة كان في وسط البحر (أي في جزيرة) لا سبيل للفرنج إليها.

ووصل الخبر إلى مصر، وبها نائب السلطان - وهو أخوه الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب - فأمر الحاجب حسام الدين لؤلؤ يعمّر في بحر القلزم مراكب بالرجال البحرية، وسار إلى أيلة، فظفر بالمركب الفرنجى عندها، فأحرقه وأسر من فيه، ثم سار إلى عيذاب (¬1)، ودل على مراكب الفرنج، فتبعها، فوقع بها بعد أيام، وأوقع بها، وأطلق المأسورين من التجار، وردّ عليهم ما أخذ منهم، ثم صعد البر، فوجد هناك عربانا نازلين، فركب خيلهم، وسار وراء المنهزمين من الفرنج، فحصرهم في شعب لا ماء فيه، فأسرهم جميعهم، وكان ذلك في الأشهر الحرم، فساق منهم أسيرين إلى منى لينحروا بها كما ينحر الهدى، عقوبة لهم على قصد حرم الله وحرم رسوله؛ وعاد إلى القاهرة ومعه الأسرى (¬2). ¬

(¬1) كانت عيذاب ميناء هامة على بحر القلزم (الأحمر) ينتهى إليها طريق الحج والتجارة الذى يبدأ من قوص على النيل، وإليها تنتهى تجارات اليمن والحبشة والهند، وكان الحاج من المغاربة يؤثرون هذا الطريق على غيره ليتفادوا صعوبات الإبحار في بحر القلزم، أو أخطار الطريق البرى عبر صحراء سيناء وبلاد العرب، لأن عيذاب تقابل ثغر جدة على الشاطىء العربى، وتعبر السفينة المسافة بينهما في ليلة واحدة. وقال (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج 14، ص 56) أن عيذاب تقع مكان «بيرنيس القديمة»، غير أن محمد رمزى قال في تعليقاته على (النجوم الزاهرة، ج 7، ص 69، هامش 2) أن هذا خطأ، وأن موقعها كان جنوبى رأس أبو فاطمة على خط عرض 22 درجة و 20 دقيقة، بقابلها من الغرب على النيل قرية أبو سنبل التي بمركز الدر الواقعة شمال بلدة وادى حلفا على بعد 66 كيلو مترا منها. أنظر أيضا: (رحلة ابن جبير) و (رحلة ابن بطوطة) و (خطط المقريزى). (¬2) وزع الأسرى على المدن الكبرى ليشهروا بها ثم يقتلوا، وقد شاهد الرحالة ابن جبير عند نزوله بالاسكندرية الموكب الذى شهرقيه بعض هؤلاء الأسرى، ووصف الحادثة وصفا فيه تكملة للمعلومات الواردة هنا، قال في (الرحلة، ص 58 - 60): «. . . لما حللنا الاسكندرية في الشهر المؤرخ (ذو الحجة سنة 578 هـ‍) أولا عاينا مجتمعا من الناس عظيما برزوا لمعاينة أسرى من الروم أدخلوا البلد راكبين على الجمال ووجوههم إلى أذنابها، وحولهم الطبول والأبواق، فسألنا عن قصتهم، فأخبرنا بأمر تتفطر له الأكباد إشفاقا وجزنا، وذلك أن جملة من نصارى الشام اجتمعوا وأنشأوا مراكب في أقرب المواضع التي لهم من بحر القلزم، ثم حملوا أنقاضها على جمال العرب المجاورين لهم بكراء اتفقوا معهم عليه، فلما حصلوا بساحل البحر سمروا مراكبهم، وأكلوا إنشاءها وتأليفها، ودفعوها في البحر وركبوها قاطعين بالحجاج، وانتهوا إلى بحر النعم (اليمن) فأحرقوا فيه نحو ستة عشر مركبا، وانتهوا إلى عيذاب =

وكتب الملك العادل إلى أخيه السلطان يعرفه ذلك، فورد عليه كتاب السلطان يأمره بضرب رقابهم، بحيث لا يبقى منهم أحد يخبر عن ذلك البحر وطريقه، ففعل ذلك وكفى الله الحرمين الشريفين شر عدو الدين؛ وكتب القاضى الفاضل عن السلطان بالبشارة منه: " فصل: كان الفرنج قد ركبوا من الأمر نكرا، وافتضوا من البحر بكرا، وعمّروا مراكب بحرية، شحنوها بالمقاتلة والأسلحة والأزواد، وضربوا بها سواحل اليمن والحجاز وأثخنوا وأوغلوا في البلاد، [واشتدت مخافة أهل تلك الجوانب، بل أهل القبلة لما أومض إليهم من خلل العواقب] (¬1) وما ظن المسلمون إلا أنها الساعة، وقد نشر مطوى (¬2) أشراطها، والدنيا وقد طوى منشور بساطها، وانفطر (¬3) غضب الله لفناء بيته المحرم، ومقام خليله الأكرم، وتراث أنبيائه (¬4) الأقدم، وضريح نبيه الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ¬

= فأخذوا فيها مركبا كان يأتى بالحجاج من جدة، وأخذوا أيضا من البر قافلة كبيرة تأتى من قوص إلى عيذاب، وقتلوا الجميع ولم يحيوا أحدا، وأخذوا مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن، وأحرقوا أطعمة كثيرة على ذلك الساحل كانت معدة لميرة مكة والمدينة - أعزهما الله -، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع مثلها في الإسلام، ولا انتهى رومى إلى ذلك الموضع قط، ومن أعظمها حادثة تسدّ المسامع شناعة وبشاعة، وذلك أنهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإخراجه من الضريح المقدس، أشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم، فأخذهم الله باجترائهم عليه وتعاطيهم ما يحول عناية القدر بينهم وبينه، ولم يكن بينهم وبين المدينة أكثر من مسيرة يوم، فدفع الله عاديتهم بمراكب عمرت من مصر والاسكندرية دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أنجاد من المغاربة البحريين، فلحقوا العدو وهو قد قارب النجاة بنفسه، فأخذوا عن آخرهم، وكانت آية من آيات العنايات الجبارية، وأدركوهم عن مدة طويلة كانت بينهم من الزمان نيف على شهر ونصف أو حوله، وقتلوا وأسروا، وفرق من الأسارى على البلاد ليقتلوا بها، ووجه منهم إلى مكة والمدينة، وكفى الله بجميل صنعه الإسلام والمسلمين أمرا عظيما». (¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن نص الرسالة الوارد في (الروضتين، ج 2، ص 37). (¬2) الأصل: «مطوا»، والتصحيح عن الروضتين. (¬3) في الروضتين: «وانتظر». (¬4) الأصل: «بنيانه»، وما هنا عن الروضتين.

ورجوا أن تشحذ البصائر آية [كآية] (¬1) هذا البيت إذ قصده أصحاب الفيل، ووكلوا إلى الله الأمر وكان حسبهم ونعم الوكيل، وكان للفرنج مقصدان: أحدهما قلعة أيلة التي هى على فوهة بحر الحجاز [و] (1) مداخله، والأخرى الخوض في هذا البحر الذى تجاوره بلادهم [من] (1) سواحله، وانقسموا (¬2) فرقتين، وسلكوا الطريقين؛ [241] فأما الفريق الذى قصد قلعة أيلة فإنه قدر أن يمنع أهلها [من] (1)، مورد الماء الذى به قوام الحياة، ويقابلهم بنار العطش المشبوب الشباه، وأما الفريق القاصد سواحل الحجاز واليمن فقدر أن يمنع طريق الحاج عن حجه، ويحول بينه وبين ثجه، [ويأخذ تجار اليمن، وأكارم عدن] (1)، ويلم بسواحل الحجاز، فيستبيح - والعياذ بالله - المحارم، ويهيج جزيرة العرب بعظيمة دونها العظائم ". " وكان الأخ سيف الدين بمصر قد عمّر مراكب، وفرقها على الفرقتين (¬3) وأمرها بأن تطوى وراءهم الشقتين فأما السائرة إلى قلعة أيلة فمنها انقضت على مرابطى منع الماء انقضاض الجوارح على بنات الماء، فقذفتها قذف شهب السماء مسترقى سمع الظلماء، [فأخذت مراكب العدو برمتها، وقتلت أكثر مقاتلتها، إلا من تعلق بهضبة وما كاد، أو دخل في شعب وما عاد، فإن العربان اقتصوا آثارهم، والتزموا إحضارهم، فلم ينج منهم إلا من ينهى عن المعاودة، ومن قد علم أن أمر الساعة واحدة] (1) ". " وأما السائرة إلى بحر الحجاز فتمادت في الساحل الحجازى إلى غابر (¬4) إلى سواحل الحوراء، [فأخذت تجارا وأخافت رفاقا، ودلها على غوارب البلاد من الأعراب من هو أشد كفرا ونفاقا] (1)، فهناك وقع عليها أصحابنا، وأخذت ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادات عن النص الوارد في (11 الروضتين، ج 2، ص 37). (¬2) الأصل: «واقتسموا»: والتصحيح عن الروضتين. (¬3) الأصل: «وفرقها فرقتين» وما هنا عن الروضتين. (¬4) في الروضتين: «رابغ سواحل الحوراء».

المراكب بأسرها، وفرّ فرنجها (¬1) بعد إسلام المراكب، فسلكوا في طريق الجبال مهاوى المهالك، ومعاطن المعاطب؛ وركب أصحابنا وراءهم خيل العرب فشلوهم شلا، واقتنصوهم أسرا وقتلا، وما زالوا يتبعونهم خمسة أيام خيلا ورجلا، نهارا وليلا، حتى لم يتركوا منهم مخبرا، ولم يبقوا لهم أثرا، وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا، وقيد منهم إلى مصر مائة وسبعون (¬2) أسيرا [وسيّر هذا الكتاب إلى الديوان العزيز ببغداد (¬3)] ". ومن كتاب آخر: «فصل: ومن جملة (¬4) البشائر الواصلة من مصر عود الأسطول مرة ثانية كاسرا كاسبا، غانما غالبا، بعد نكايته في أهل الجزائر، وإخراب ما وجده (¬5) فيها من الأعمال (¬6) والعمائر، وفى جملة ما ظفر به في طريقه بطسة من مراكب الفرنج تحمل أخشابا منجورة إلى عكا، ومعها نجارون ليبنوا (¬7) بها شوانى، فأسر النجارون ومن معهم، وهم نيف وسبعون، وأما الأخشاب فقد انتفع بها المجاهدون، وكفى شرها المؤمنون؛ وللخادم في المغرب عسكر (¬8) قد بلغت أقصى إفريقية فتوحه (8)، وعاود به شخص الدين في تلك البلاد روحه» (¬9) ¬

(¬1) بهذا اللفظ يلتقى النص مرة أخرى بنسخة س (78 ا). (¬2) كذا في الأصل و (الروضتين، ج 2، ص 37)؛ وفى س (78 ا): «مايتى وسبعون» وفى (الروضتين، ج 2، ص 36 - 37) مقتطفات من جملة رسائل كتبها الفاضل عن هذه الحادثة تزيدها إيضاحا، فانظرها هناك. (¬3) ما بين الحاصرتين عن س. (¬4) كذا في الأصل، والروضتين؛ وفى س: «جماعة». (¬5) في الأصل: «وجدوا»؛ والتصحيح عن الروضتين. (¬6) الأصل وس: «الأعمار»، والتصحيح عن الروضتين. (¬7) الأصل: «لينبتوا»، وس «ليبتنوا»، وما هنا عن الروضتين. (¬8) يقابل هذه الفقرة في س جملة مضطربة ونصها: «عسكرية بلغت أقصى إفريقية وهى مفتوحة (¬9) نص هذه الفقرة في الأصل وفى س: «وعاديه في شخص تلك البلاد روحه»، وقد صححت بعد مراجعة الروضتين.

ذكر اتفاق صاحب أخلاط وصاحب ماردين وصاحب الموصل على حرب السلطان - رحمه الله -

وفى هذه السنة - أعنى سنة ثمان وسبعين (¬1) وخمسمائة - أنعم السلطان بأعمال قلعة الهيثم على نور الدين محمد (¬2) بن قرا أرسلان صاحب الحصن (¬3)، وكانت جارية في عمل [242] الموصل، فلما تسلمها سلمها إليه؛ وكان نور الدين [محمود بن زنكى]- رحمه الله - حين توجه إلى الموصل في أوائل سنة ست وستين عند وفاة أخيه قطب الدين [مودود] وعد ابن قرا أرسلان بقلعة الهيثم، ثم سلمها إليه دون أعمالها، تحلة ليمينه ووفاء بوعده؛ ولما جاء نور الدين بن قرا أرسلان لمساعدة السلطان [صلاح الدين] في هذه السنة خصه عاجلا بها، ثم وهبه قلعته الجديدة، [وهى قريبة من نصيبين] (¬4) ووعده بفتح آمد له. ذكر اتفاق (¬5) صاحب أخلاط وصاحب ماردين وصاحب الموصل على حرب السلطان - رحمه الله - وترددت رسل عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى - صاحب الموصل - إلى شاه أرمن (¬6) سكمان ظهير الدين - صاحب أخلاط - يستنجده ويستنصره على السلطان، فأرسل شاه أرمن (6) ظهير الدين إلى السلطان عدة رسل في الشفاعة ¬

(¬1) الأصل: «وسبعون». (¬2) الأصل «محمود» والتصحيح عن (الروضتين) و (وزامباور: معجم الأنساب، الترجمة العربية، ص 344). (¬3) المقصود «حصن كيفا». (¬4) ما بين الحاصرتين عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 38) زيد للايضاح. (¬5) الأصل: «نفاق» وما هنا عن س (78 أ) وهو الصحيح. (¬6) رسمت في الأصل: «شاهر من».

إليه بالكفّ عن الموصل وما يتعلق بعز الدين، فلم يجبه إلى ذلك وغالطه، فأرسل إليه مملوكه سيف [الدين] (¬1) بكتمر، فأتاه وهو يحاصر سنجار يطلب منه أن يتركها، وقال له إن رحل عنها وإلا تهدده بقصده ومحاربته، فأبلغه بكتمر الشفاعة، فسوّف في الجواب رجاء أن يفتحها، فلما رأى بكتمر ذلك أبلغه الرسالة الثانية بالتهديد وفارقه (¬2) غضبان، ولم يقبل منه خلعة ولا صلة، وأخبر صاحبه الخبر، وخوّفه عاقبة الإهمال والتوانى عنه، فسار ظهير الدين من أخلاط وكان مخيما بظاهرها، وسار إلى ماردين وصاحبها ابن أخيه وهو قطب الدين إيلغازى (¬3) بن ألبى بن تمرتاش بن إيلغازى بن ارتق، وقطب الدين ابن خال عز الدين صاحب الموصل وحموه (¬4)، وحضر مع ظهير الدين دولة شاه - صاحب بدليس وأرزن -، وسار عز الدين - صاحب الموصل - في عسكره جريدة من الأثقال، واجتمعت عساكرهم على حرزم (¬5)، وهى ضيعة من أعمال ماردين. وكان السلطان قد ملك سنجار، وعاد منها إلى حران، وتفرقت عساكره كما ذكرناه، فلما سمع اجتماعهم (¬6) أرسل إلى ابن أخيه الملك المظفر تقى الدين - صاحب حماة - يستدعيه، فوصل إليه مسرعا، وأشار عليه بالرحيل إليهم، وحذره آخرون، فكان هوى (¬7) السلطان في الموصل، فرحل إلى رأس عين ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س والروضتين. (¬2) س: «وفارق السلطان». (¬3) س: «ابن ايلغازى». (¬4) س (78 ب): «وحماه» وما بالأصل هو الصحيح، فهو يقصد أن قطب الدين كان والد زوجة عز الدين صاحب الموصل. (¬5) س: «حزم» وقد ضبط هذا اللفظ بعد مراجعة (ياقوت، معجم البلدان) حيث عرفها أنها يلدة في واد ذات نهر جار وبساتين بين ماردين ودنيسر من أعمال الجزيرة، وأكثر أهلها أرمن نصارى (¬6) س: «فلما سمع باجتماع العساكر مع صاحب المرصل». (¬7) الأصل، «هوا» والتصحيح عن س.

ذكر منازلة السلطان آمد وفتحها

فلما سمعوا برحيله تفرقوا [243] فعاد شاه أرمن إلى أخلاط، واعتذر: " بأنى أجمع العساكر وأعود "، ورجع عز الدين إلى الموصل، وأقام قطب الدين بماردين، وسار السلطان - رحمه الله - فنزل حرزم، وهى منزلتهم التي كانوا عليها عدة أيام. ذكر منازلة السلطان آمد وفتحها ثم سار السلطان إلى آمد، فنزل عليها يوم الأربعاء لثلاث (¬1) بقين من ذى الحجة من هذه السنة - أعنى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة - بعد أن استأذن الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين في ذلك، فأذن له، وكان صاحبها إذ ذاك محمود بن ايكلدى (¬2)، وهو شيخ كبير كان الملك له بها من جهة السلاطين السلجوقية ولم يكن له من الملك إلا مجرد الاسم، وكان المتغلب على الأمر ومدبر الدولة مؤيد الدين أبا على بن نيسان، فتوفى وتولى ولده مسعود الأمر، ومحمود [ابن ايكلدى] (¬3) محكوم عليه في قبضته، يطعمه ويسقيه ويظهر أنه غلامه، وليس له معه حكم أصلا، فإذا جاء رسول يحضره عنده، ويسند ما يدبره إلى تدبيره، ويظهر أن الملك لمحمود وإنما هو نائبه ويتصرف تحت أمره ونهيه، ونصب السلطان المجانيق على آمد وضايقها. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى س: «لليلتين بقين من ذى الحجة»، وفى: (الروضتين، ج 2، ص 38) و (الكامل لابن الأثير، ج 11، ص 38): «يوم الأربعاء سابع عشر ذى الحجة»، وبالرجوع إلى (التوفيقات الالهامية) يتبين أن اليوم السابع عشر من ذى الحجة سنة 578 كان يوم أربعاء، ولم يكن يوم 27 أو 28 من هذا الشهر كذلك. (¬2) هو جمال الدين شمس الملوك محمود بن ايكلدى: (Ilaldi or Aikaldi) الأينالى، حكم آمد من سنة 536 إلى سنة 579 حيث انتقلت إلى ملك صلاح الدين. أنظر: (ZAMBaUR : Op .Cit . P. 139) . (¬3) ما بين الحاصرتين عن س (79 أ)

ودخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة وهو على حصار آمد، وأساء مسعود ابن أبى على بن نيسان المتغلب عليها السيرة، ولم يعط الناس من الذخائر شيئا، ولا فزق فيهم دينارا ولا قوتا، وقال: " قاتلوا عن نفوسكم "، فقالوا (¬1): " ليس العدو بكافر حتى نقاتل عن نفوسنا "، فلم يفعل شيئا، وقاتلهم السلطان وزحف إليها وهى في غاية الحصانة والمنعة، وسورها يضرب به المثل، وابن نيسان على حاله في الشح، وتصرفه تصرف من أدبرت عنه السعادة، فلما رأوا الناس ذلك تهاونوا في القتال وأجنحوا إلى السلامة. وكانت أيام بنى نيسان قد طالت ونقلت على أهل البلد لسوء صنيعهم وتضييقهم [عليهم] (¬2) في مكاسبهم، والناس كارهون لهم محبون لا نقراض دولتهم، وأمر السلطان أن يكتب على السهام إلى أهل البلد ويعدهم الخير والإحسان إذا أطاعوه، ويتهددهم إن قاتلوه، فزادهم ذلك تقاعدا وتخاذلا، وأحبوا ملكه (¬3)، وتركوا [244] القتال، ووصل النقابون إلى السور فنقبوه وعلقوه، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك طمعوا في ابن نيسان، واستطالوا في الطلب، فحين صارت الحال إلى ذلك أخرج مسعود بن نيسان نساءه إلى القاضى الفاضل يسأله أن يأخذ له الأمان لأهله وماله، وأن يؤخر ثلاثة أيام، حتى ينقل ما له بالبلد من الأموال والذخائر، فسعى له الفاضل في ذلك، فأجابه السلطان إليه، وتسلم السلطان البلد في العشر الأول من المحرم سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وأخرج ابن نيسان خيامه إلى ظاهر البلد، وكان التقرير أن ابن نيسان يحمل في ثلاثة أيام ما قدر عليه من المال والأثاث، وأعانه السلطان على نقل الأموال بالدواب والرجال، ورام ابن نيسان نقل جميع ماله في تلك الأيام، فتعذر عليه ¬

(¬1) س: «فقال له بعض الناس». (¬2) عن س. (¬3) في الأصل «ملكته»، وس: «وأحبوا مملكة السلطان»؛ والتصحيح عن ابن الأثير، وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف أخبار حصار آمد وفتحها مع تغيير طفيف.

ذكر تسليم السلطان آمد لنور الدين صاحب حصن كيفا

لزوال حكمه عن أصحابه واطراحهم أمره ونهيه، فحمل البعض على الدواب التي أعانه السلطان بها، وأسرق البعض، وانقضت الأيام الثلاث قبل الفراغ من الباقى، ومنع عما بقى، وكانت أبراج المدينة مملوءة من أنواع الذخائر فتركها بحالها، ولو كان ساعده التوفيق لأخرج بعضها في الحصار، وحفظ سائر نعمه وأمواله، وإذا أراد الله تعالى أمرا هيأ أسبابه. [ولما تسلم السلطان آمد أحضر بين يديه محمود بن ايكلدى الذى كان في الظاهر صاحب البلد، فرآه شيخا كبيرا فأكرمه وأحسن إليه وأمر نور الدين بالإحسان إليه (¬1) وأن يقيم عليه ما يكفيه، له ولأصحابه، ففعل ذلك، ولم يزل عند نور الدين مكرما حتى مات - رحمه الله -] (¬2) ذكر تسليم السلطان آمد لنور الدين صاحب حصن كيفا ولما تسلم السلطان آمد أنعم [بها] (¬3) على نور الدين محمد بن قرا أرسلان ابن سقمان بن أرتق - صاحب حصن كيفا - لأنه كان وعده بها، فأنجز وعده، وقد كان أبوه عانى (¬4) أخذها مرارا، فأعجزه ذلك، وقيل للسلطان قبل تسليمه آمد إلى نور الدين: " إن هذه المدينة فيها من الذخائر ما يزيد على ألف ألف دينار، فلو أخذت ذلك وأعطيته جندك وأصحابك، وسلمت إليه البلد فارغا لكان راضيا، لأنه لا يطمع في غيره ". فامتنع من ذلك، وقال: " ما كنت لأعطيه الأصل وأبخل بالفرع ". ¬

(¬1) بهذا اللفظ تنتهى (ص 79 ب) من نسخة ص، ثم يضطرب ترتيب الصفحات بعد ذلك في هذه النسخة وجد النص يتصل بعد ذلك في (ص 142 ا). (¬2) هذه الفقرة كلها زيادة عن س (79 ب و 142 ا). ولا وجود لها في الأصل ولا في الروضتين أو ابن الأثير. (¬3) عن س. (¬4) الأصل وس: «عافا».

ثم عمل نور الدين بآمد دعوة عظيمة، ودعا إليها السلطان وأمراءه، وقدّم له ولأصحابه من (¬1) التحف والهدايا (1) شيئا كثيرا، واستحلفه السلطان أنه يظهر العدل ويقمع الجور ويكون سامعا مطيعا للسلطان (¬2) من معاداة أعدائه، ومصافاة أوليائه (2)، وأنه متى استمده لقتال [245] الفرنج سارع إليه وكانت هذه فعلة جميلة من السلطان، وإن كانت أفعاله وخلاله كلها جميلة، فلله درّه، ما كان أسمحه وأكرمه!! ففى ذلك يقول القاضى السعيد أبو القسم هبة لله ابن جعفر بن سناء الملك (¬3) يمدحه من قصيدة: أرض الجزيرة لم تظفر ممالكها (¬4) ... بمالك فطن أو سائس درب ممالك لم يدبرها مدبّرها ... إلا برأى خصى أو بعقل صبى ¬

(¬1) هذه الألفاظ غير موجودة في س. (¬2) نص س: «عدو من عاداه، ومصافيا لمن صافاه» والأصل يتفق مع نص (الروضتين ج 2، ص 41) حيث ينقل عن العماد الكاتب. (¬3) هو القاضى السعيد أبو القاسم هبة الله بن جعفر بن سناء الملك، أكبر شعراء مصر وأشعرهم في العصر الأيوبى، ولد في حدود سنة 550 هـ‍، وتوفى بالقاهرة سنة 608 هـ‍. كان أبوه يشرف على شئون القاضى الفاضل أثناء تغيبه في الشام، وهذا يفسر لنا سر إقبال الفاضل على ابنه هبة الله وتقريبه له. وللشاعر قصائد كثيرة في مدح الفاضل تضمنها ديوانه ونقل بعضها من ترجموا له، وديوان الشاعر لم ينشر بعد، وتوجد منه نسختان في دار الكتب المصرية، إحداهما مصورة عن نسخة في مكتبة جامعة فؤاد الأول بالقاهرة، والثانية في المكتبة التيمورية، وله ديوان موشحات نشره أخيرا الدكتور جودة الركابى الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة السورية، وله كذلك مجموعة من الرسائل المتبادلة بينه وبين القاضى الفاضل تحت عنوان «فصوص الفصول وعقود العقول» وتوجد منه نسخة خطية في المكتبة الأهلية بباريس رقم 3333، ولاستيفاء ترجمته وأخباره انظر: (ابن خلكان: الوفيات، ج 5، ص 112 - 116) و (ياقوت: معجم الأدباء، ج 19، ص 265 - 271) و (العماد الاصفهانى: خريدة القصر، قسم شعراء مصر، الجزء الأول: ص 64 - 100 و 103) و (ابن العماد: شذرات الذهب، ج 5، ص 35) و (السيوطى: حسن المحاضرة، ج 1، ص 235) و (ابن سناء الملك: دار الطراز، مقدمة الناشر الدكتور جودة الركابى) و (GAWDAT RIKABI : La Poesie Profane Sous les Ayyubides P. P. 69 - 86). هذا ولابن سناء الملك كتاب مفقود هو «روح الحيوان» اختصر فيه كتاب الحيوان للجاحظ. (¬4) الأصل وس: «بمالكها» والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 43) حيث أورد من القصيدة أبياتا أكثر مما أوردها هنا ابن واصل.

حتى أتاها صلاح الدين فانصلحت ... بعد الفساد، كما صحّت من الوصب واستعمل الجد فيها غير مكترث ... بالجد، حتى كان الجدّ كاللعب (¬1) وقد حواها فأعطى بعضها هبة، ... فهو الذى يهب الدنيا، ولم يهب يعطى الذى أخذت منه ممالكه، ... وقد يمنّ على المسلوب بالسّلب (1) ثم كتب السلطان إلى الديوان العزيز بالإنشاء الفاضلى في معنى فتح آمد يقول فيه: " فصل: (¬2) وهو يتوقع في جواب هذا الفتح أن يمد بجيش هو الكلام، ورماح هى الأقلام، ونصر هو وافد العز (¬3)، ورشد (¬4) هو فك الحجز (¬5)، وليس ذلك لوسائل من دولة أقامها بعد ميل عروشها، ولا دعوة قام فيها بعد ما تصاغرت دونه همم جيوشها، ولكن لأن (¬6) هذه الجزيرة الصغيرة [منها تنبعث الجزيرة الكبيرة و] (¬7) هى دار الفرقة ومدار الشقة، فلو انتظمت في السلك لانتظم جميع عسكر الإسلام في قتال الشرك، وكان الكفر يلقى يديه (¬8) وينقلب على عقبيه، ويغشاه الإسلام من خلفه ومن بين يديه، ويغزى من مصر برا وبحرا، ومن بلاد الشام سرا وجهرا، ومن الجزيرة مدا وجزرا (¬9) ". ¬

(¬1) هذا البيت لم يرد في الروضتين. (¬2) كذا في الأصل، وفى (الروضتين، ج 2، ص 41)، وفى س (142 ب): «وقد» (¬3) كذا في الأصل، وفى س، والروضتين: (الأمر). (¬4) س: «ورسل»، والروضتين: «وترشيد». (¬5) س والروضتين: «الحجر». (¬6) الأصل وس: «الآن»، والتصحيح عن الروضتين. (¬7) ما بين الحاصرتين عن الروضتين. (¬8) الأصل: " تكف أيديه "، وس: " وكان كف يديه "، والتصحيح عن الروضتين. (¬9) س: " وحسرا ".

ذكر فتح تل خالد وعين تاب

ثم جاءت رسل ملوك الأطراف إلى السلطان كل منهم يطلب الأمان لصاحبه، وأن يتخذه من جملة أنصاره، منهم صاحب ماردين وغيره، فرد السلطان كل رسول منهم بإجابة مطلوبه. ذكر فتح تل خالد وعين تاب ثم رحل السلطان من آمد (¬1) وعبر الفرات لقصد حلب وولاياتها، فنازل في طريقه تل خالد وهى من أعمال حلب، فحصرها [246] ورماها (¬2) بالمنجنيق وطلب أهلها الأمان فأمنهم وتسلمها في المحرم من السنة. ثم سار منها إلى عين تاب، وبها ناصر الدين محمد [بن خمارتكين] (¬3) أخو الشيخ إسماعيل خازن نور الدين - رحمه الله - وحاجبه، وكان قد سلمها إليه نور الدين، فبقيت في يده إلى هذه السنة، فلما نازله [صلاح الدين] (¬4) راسله وطلب منه أن يقر الحصن بيده، وينزل إلى خدمة السلطان ويكون في طاعته، فأجابه السلطان إلى ذلك، فنزل إلى خدمته، فأقر السلطان عين تاب له إقطاعا. ذكر وقوع أسطول المسلمين على أسطول الفرنج وفى العاشر من المحرم من هذه السنة - أعنى سنة تسع وسبعين وخمسمائة - سار أسطول [المسلمين] (¬5) من مصر فلقوا بطسة (¬6) فيها ثلاثمائة مقاتل ¬

(¬1) عرفها (ياقوت: معجم البلدان) بأنها أعظم مدن ديار بكر، وقال هى بلد قديم حصين ركين مبنى بالحجارة السود وعلى نشز، ودجلة محيطة بأكثره مستديرة به كالهلال. (¬2) س " ورمى ". (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (الروضتين، ج 2: ص 42). (¬4) زيادة عن س. (¬5) عن س و (ابن الأثير، ج 11، ص 186). (¬6) أنظر ما فات هنا ص 77، هامش 1

ذكر وقعة بين المسلمين والفرنج بأطراف الشام

من الفرنج بالسلاح التام، ومعهم أموال وسلاح يسيرون به إلى فرنج الساحلى، فقاتلهم المسلمون، وصبر الفريقان، وكان الظفر للمسلمين فأخذوا الفرنج أسرى، وقتلوا البعض وأبقوا البعض، وعادوا بهم وبالغنائم إلى مصر. ذكر وقعة بين المسلمين والفرنج بأطراف الشام وفى المحرم من هذه السنة سار جماعة كبيرة من الفرنج إلى نواحى الدارون (¬1) ينهبون ويغيرون، فخرج إليهم المسلمون على طريق صدر وأيلة، فانتزح الفرنج من بين أيديهم، ونزلوا بماء يقال له العسيلة، فسبقو الفرنج إليه، وأتاهم المسلمون وهم عطاش، فأنشأ الله عز وجل سحابة عظيمة، فمطروا منها حتى رووا، وكان الزمان قيظا والحر شديدا في برّمهلك، فلما رأوا ذلك قويت نفوسهم، ووثقوا بنصر الله سبحانه وتعالى عليهم، وقاتلوا الفرنج فنصرهم الله عليهم، فقتلوهم ولم يسلم منهم إلا الشريد الفريد، وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودواب، وعادوا منصورين. ذكر تخريب قلعة عزاز وكفر لاتا وكان عماد الدين زنكى بن مودود صاحب حلب قد خرّب في السنة الماضية قلعة عزاز في تاسع جمادى الآخرة خوفا من السلطان، وخرّب حصن كفر لاتا وأخذها من بكمش (¬2)، فإنه كان قد صار مع السلطان، وقاتل أهل تل باشر فلم يقدر عليها. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى س (143 أ): " الداروم "، واللفظان صحيحان كما ورد في (ياقوت: معجم البلدان) حيث عرفها بأنها قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر، بينها وبين البحر مقدار فرسخ، وقد خربها صلاح الدين لما ملك الساحل في سنة 584 هـ‍. (¬2) الأصل: " تلمش "، وما هنا عن (الروضتين، ج 2، ص 42).

ذكر استيلاء السلطان الملك الناصر صلاح الدين على حلب

ذكر استيلاء السلطان الملك الناصر صلاح الدين على حلب [247] ثم سار السلطان إلى حلب فنازلها، وذلك لأربع بقين من المحرم من هذه السنة - أعنى سنة تسع وسبعين وخمسمائة - وكان أول نزوله بالميدان الأخضر، وسيّر المقاتلة يقاتلون ويباسطون عسكر حلب ببانقوسا وباب الجنان غدوة وعشيّة، وفى نزوله جرح أخو السلطان تاج الملوك بورى بن أيوب [فصعب على السلطان ذلك] (¬1) واستدعى السلطان العساكر من الأطراف، فاجتمع إليه خلق كثير، ولم يجدّ السلطان في القتال رجاء أن يأخذها بدون ذلك، لكن الشباب والجهّال (¬2) والأصحاب تقدموا وقاتلوا، والسلطان ينهاهم فلا ينتهون، ثم رحل السلطان من الميدان الأخضر إلى جبل جوشن ونهى (¬3) عن القتال، وقال: " نحن هنا نستغل البلاد وما علينا من الحصن (¬4) ". وأظهر أنه يريد أن يبنى المساكن بحبل جوشن، ويتديّر (¬5) ويقيم، ونفذ رسله [إلى عماد الدين صاحب حلب] (¬6). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (143 أ). (¬2) بعد هذا اللفظ في س: " من أحداث حلب "، وليس بها لفظ: " والأصحاب ". (¬3) الأصل: " ونها ". (¬4) الأصل: " الحسن "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 43) حيث ينقل عن العماد؛ أما صيغة س فمضطربة المعنى ونصها: " نحن هاهنا نشتغل بالبلاد وما علينا من الضرر شىء ". (¬5) س (143 ب): " ويريد أن يقيم ". (¬6) ما بين الحاصرتين عن س.

وكان مع عماد الدين بحلب عسكر كثير من النورية، وهم مجتهدون في القتال مجدّون فيه، ورأى عماد الدين كثرة الخرج فشحّ بماله، وحضر عنده بعض الأجناد وطلبوا منه شيئا فاعتذر بقلة المال عنده، فقيل له (¬1): " من يريد يحفظ مثل حلب يخرج الأموال ولو باع نساءه ". فمال حينئذ إلى تسليم حلب وأخذ العوض عنها، فأرسل الأمير حسام الدين طمان الياروقى في سر إلى السلطان على أن يتسلم حلب ويرد على عماد الدين سنجار بلده، فأجابه السلطان إلى ذلك وزاده الخابور ونصيبين والرقة وسروج، واشترط عليه إرسال العساكر في خدمته إلى الغزاة. ولما تم الأمر بين عماد الدين والسلطان في السر أعلم عماد الدين الأمراء بذلك، وأذن لهم في تدبير أنفسهم، فأنفذوا عنهم وعن الرعية عز الدين جورديك وزين الدين بلك، فبقوا عنده إلى الليل، واستحلفوه للعسكر وأهل البلد، فحلف لهم ولعماد الدين، وذلك في سابع عشر صفر من السنة. وخرجت العساكر إلى خدمة السلطان واجتمعوا به في الميدان الأخضر، وخرج إليه مقدمو حلب، فخلع عليهم، وطيّب قلوبهم، وقبّح أهل حلب على عماد الدين بيع حلب بسنجار وهو أبخس الأثمان (¬2) [248] مع قدرته على حفظ حلب والامتناع بها، حتى أن بعض عامة حلب أخضر إجانة (¬3) وفيها ماء، وناداه: " أنت لا تصلح للملك [بل] (¬4) تصلح أن تغسل الثياب "، وسمعوه المكروه. ¬

(¬1) الأصل: " فقال "، والتصحيح عن س. (¬2) س: " وهو أفحش الأعمال ". (¬3) الإجانة المركن الذى يغسل فيه الثياب. (اللسان) و (ابن سيدة: المخصص، ج 9، ص 160). (¬4) عن س.

ذكر وفاة تاج الملوك بورى ابن أيوب أخى السلطان - رحمه الله تعالى -

[قال صاحب التاريخ] (¬1): وبلغنى أن العامة كانوا إذ رأوه صاحوا وقالوا: " يا حمار، يا من باع حلب بسنجار ". وأقام عماد الدين بقلعة حلب يقضى أشغاله وينقل أقمشته وخزائنه إلى يوم الخميس ثالث عشر (¬2) صفر (¬3). ذكر وفاة تاج الملوك بورى (¬4) ابن أيوب أخى السلطان - رحمه الله تعالى - وفى يوم الخميس (¬5) هذا توفى تاج الملوك من الجرح الذى أصابه [على حلب] (6) وحزن عليه السلطان [صلاح الدين حزنا عظيما] (6)، وجلس في العزاء [ثلاثة أيام] (¬6) وكان مولده سنة ست وخمسين وخمسمائة، فكان عمره اثنتين وعشرين سنة وشيئا. ¬

(¬1) عن س. (¬2) الأصل وص: " عشرين ". (¬3) مقابل هذا اللفظ في هامش س (144 أ): " بلغ مقابلة "، ولعلها إشارة من الناسخ للدلالة على أنه وقف في مقابلته النسخة على الأصل عند هذا اللفظ. (¬4) كان تاج الملوك بورى أصغر أخوة صلاح الدين جميعا، وكان يبشر بمستقبل طيب، فقد كان شجاعا وشاعرا، وتذكر المراجع أن له ديوان شعر (ولكنه غير موجود). أنظر أخباره وترجمته في: (ابن خلكان: الوفيات، ج 1، ص 261 - 262) و (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 13 ب - 14 ب) و (الروضتين، ج 2، ص 42 و 44) و (الدكتور الشيال: شاعر من البيت الأيوبى، مقال بمجلة الثقافة، العدد 130، 24 يونيو 1941). وبورى كلمة تركية معناها الذئب. (¬5) مكان هذا اللفظ في س: " ثالث وعشرين صفر ". (¬6) عن س.

ذكر سيرته

ذكر سيرته (¬1) كان فاضلا أديبا شاعرا، وله ديوان شعر مشهور، ومن جملته بيتان في ذكر صوم رمضان قالهما على سبيل المداعبة (¬2): رمضان، بل مرضان، إلا أنهم ... أخطوا إذا في قولهم وأساؤا مرّضان (¬3) فيه تحالفا، فنهاره ... سل، ولكن ليله استسقاء (¬4) وفى ذلك اليوم الذى توفى فيه تاج الملوك نزل عماد الدين زنكى [من قلعة حلب] (¬5) إلى خدمة السلطان وعزاه وسيّر معه في الميدان الأخضر، وتقررت بينهما القواعد، وأنزله عنده في الخيمة، وقدّم تقدمة سنية وخيلا، وخلع عليه وعلى جماعة من أصحابه [خلعة من ملابسه] (¬6)، وسار عماد الدين من يومه إلى سنجار. وأقام السلطان بالمخيم بعد مسير عماد الدين، غير مكترث بأمر حلب، ولا مستعظم لشأنها إلى يوم الاثنين لثلاث بقين من صفر، ثم صعد القلعة في ذلك اليوم، وعمل له حسام الدين طمان دعوة، وكان تخلف لأخذ ما لعماد الدين من قماش وغيره. ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في س، وإنما مكانه: " قال صاحب الكتاب ". (¬2) الأصل: " الملاعبة " وما هنا عن س. (¬3) الأصل: " مضان " والتصحيح عن (شفاء القلوب، ص 14 ب). (¬4) نص البيت في (شفاء القلوب): مرضان فيه تحالفا، فنهاره عطش، وسائر ليله استسقاء (¬5) عن س. (¬6) عن س (144 أ)، وانظر بيان هذه الخلعة والتقدمة التي قدمها صلاح الدين لعماد الدين في: (الروضتين، ج 2، ص 45).

وهنأ الشعراء السلطان الملك الناصر صلاح الدين بملك حلب، وممن امتدحه وهنأه بذلك القاضى محى الدين بن زكى الدين بأبيات منها: وفتحكم حلبا بالسيف في صفر ... مبشرا بفتوح القدس في رجب فكان ذلك فألا عجبا، فإن القدس فتحت في رجب؛ ولكن في غير هذه السنة [249] على ما سيأتى إن شاء الله تعالى. ومدحه القاضى السعيد بن سناء الملك بقصيدة أولها: بدولة الترك عزّت ملّة (¬1) العرب، ... وبابن أيوب ذلّت شيعة الصلب وفى زمان ابن أيوب غدت حلب ... من أرض مصر، وعادت مصر من حلب ولابن أيوب دانت كلّ مملكة ... بالصّفح، والصّلح؛ أو بالحرب والحرب مظفّر النصر، مبعوث بهمّته ... إلى العزائم، مدلول على الغلب والدهر بالقدر المحتوم يخدمه، ... والأرض بالخلق، والأفلاك بالشّهب وتجتلى الخلق من راياته همما ... مبيضة النصر من مصفرّة العذب ومنها: أتى إليها يقود الجيش ملتطما، ... فالبيض كالموج، والبيضات كالحبب تبدو الفوارس منها في سوابغها ... بين النقيضين من ماء ومن لهب مستسلمين، ولولا أنهم حفظوا ... عوايد الحرب لاستغنوا عن السلب (2) جمالهم من مغازيهم إذا فعلوا (¬2) ... حمّالة السّبى لا حمّالة الحطب ¬

(¬1) في (الروضتين، ج 2، ص 43): " دولة العرب "، وهذا هو البيت الوحيد الذى أورده صاحب الروضتين من القصيدة، ثم أورد أبياتا أخرى غير التي اقتبسها هنا صاحب مفرج الكروب. (¬2) س (144 ب): " حمالهم من سعارهم اذا حعلوا ".

ذكر فتح حارم

ومنها: فطاف منها بركن لا يقبّله ... إلا أسنة أطراف القّنا السلب بك العواصم طابت بعد ما خبثت ... بمالكيها، ولولا أنت لم تطب فليت كلّ صباح در شارقه ... فذا ليل (¬1) فتى الفتيان في حلب ألهى مديحك شعرى عن تغزّله، ... فجاء مقتضبا في إثر (¬2) مقتضب فلم أقل فيه: لا (¬3) إن الصبابة بى ... يوم الرحيل، ولا إن المليحة بى ذكر فتح حارم كان بقلعة حارم مملوك من المماليك النورية يقال له سرخك (¬4) ولاّه بها الملك الصالح إسماعيل، فامتنع من تسليمها إلى السلطان، فقال له: «اطلب من الإقطاع ما أردت»، ووعده الإحسان، فاشتط (¬5) في الطلب، وترددت الرسائل بينهما، وراسل الفرنج ليحتمى بهم، فسمع من بها من الأجناد أنه يراسل الافرنج، فخافوا أن يسلمها إليهم، فوثبوا عليه وقبضوه وحبسوه، وأرسلوا [إلى] السلطان يطلبون منه الأمان والإنعام، فأجابهم [250] إلى ما طلبوا، وحلف لهم، ¬

(¬1) س: " فدا اليك " (¬2) س (145 أ): " وفى ليل ". (¬3) س: " إلا ". (¬4) الأصل: " سرخاب "، وفى س: " مرحاب "، وما هنا عن: (ابن الأثير، ج 11، ص 187) و (أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 67) و (شفاء القلوب، ص 28 ب). (¬5) س: " واشترطت عليه في الطلب ".

ورحل من حلب إليهم لليلتين بقيتا من صفر، فوصلها لليلة بقيت منه، وبات بها ليلتين [بعد تسليمها] (1)، وقرر قواعدها، وولى فيها إبراهيم بن شروه، وعاد إلى حلب، فدخلها ثالث ربيع الأول [وأخذ المملوك النورى المتولى فأطلقه من محبسه، ولم يستخدمه، ووفى للأجناد الذين كانوا بها بما وعدهم، وزادهم] (1)، ثم أعطى العساكر دستورا، فسار كل منهم إلى بلده، وأقام بحلب يقرر قواعدها. وخاف أهل أنطاكية من السلطان، فأرسل صاحبها جماعة من أسرى المسلمين، وانقاد، وسارع إلى اللياذ بعفو السلطان وأمانه [فقبله السلطان] (¬1). وولى السلطان القضاء بحلب لمحى الدين بن زكى الدين (¬2)، واستناب فيها زين الدين [أبا البيان] (¬3) نبأ بن الفضل بن سليمان المعروف بابن البانياسى، وكشف السلطان عن حلب المظالم، وأزال المكوس، وولى قلعتها سيف الدين يازكوج، وجعل الملك بحلب لولده الظاهر غياث الدين إيلغازى بن يوسف - رحمهما الله - وكان قد استصحبه من مصر عند وصوله إلى الشام، وأقرّ عين تاب على صاحبها، وأعطى تل خالد وتل باشر للأمير بدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق، وأعطى قلعة عزاز للأمير علم الدين سليمان بن جندر (¬4). ¬

(¬1) عن س. (¬2) الأصل: " لزكى الدين "، وما هنا عن س (145 أ) و (الروضتين، ج 2، ص 47). (¬3) عن (الروضتين، ج 2، ص 47). (¬4) الأصل: " حيدر "، والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 47).

ذكر مسير السلطان من حلب إلى دمشق

ذكر مسير السلطان من حلب إلى دمشق ثم رحل السلطان من حلب يوم السبت لثمان بقين من ربيع الآخر من هذه السنة - أعنى سنة تسع وسبعين وخمسمائة - فخرج إلى الوضيحى (¬1) مبرزا، واستنهض العساكر فخرجوا يتبعونه، ثم وصل لست بقين من الشهر إلى حماة، ثم إلى حمص، ثم إلى بعلبك، ووصل دمشق ثالث جمادى الأولى، فأقام بها متأهبا إلى السابع والعشرين منه، ثم برز إلى جسر الخشب، وتبعته العساكر مبرزة فأقام به تسعة أيام، ثم رحل ثامن جمادى الآخرة حتى أتى الفّوار، وتعبأ للقاء الكفار. ذكر غارة السلطان على الفرنج ثم سار السلطان حتى أتى القصير، فبات به وأصبح على المخاض، وعبر وسار حتى أتى بيسان، وقد أخلاها أهلها، فأطلق المسلمون فيها النيران، ونهبوا ما [كان قد تبقى] (¬2) فيها، وكذلك فعل بأبراج (¬3) وقلاع وغيرهما، وصادفت مقدمة العسكر خيلا ورجلا للفرنج عابرين من نابلس، ومقدمهم ابن هنفرى، فقتل منهم وأسر، وهرب الباقون [251] في الجبال. وفى الحادى عشر من جمادى الآخرة بلغ السلطان اجتماع الفرنج بصفوريّة، ورحيلهم إلى الفولة، وكان غرضه المصاف، فلما سمع ذلك تهيأ لقتالهم، وسرى للقائهم، فجرى بينه وبينهم قتال، وقتل من العدو جماعة وجرح جماعة، وهم ¬

(¬1) س: " إلى خان الأوضحى " وما هنا يتفق مع (الروضتين، ج 2، ص 50) حيث ينقل عن بهاء الدين بن شداد. (¬2) عن س. (¬3) الأصل: " بانزاح " والتصحيح عن الروضتين.

ينضم بعضهم إلى بعض يحمى راجلهم فارسهم، ولم يخرجوا للمصاف، ولم يزالوا سائرين حتى أتوا عين جالوت، فنزلوا عليها، وهم ألف وخمسمائة رمح، ومثلهم تركبلى (¬1) ¬

(¬1) الأصل «بركتلى»، وس: «سركلى» بدون نقط، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 1، ص 183؛ ج 2، ص. و 189)؛ والتركبلى لفظة يونانية معناها أبناء أو سلالة الترك، وهو مصطلح كان يطلقه البيزنطيون على فرقة من فرق جيشهم تلى في الأهمية فرقة الفرسان، وينحدر أفرادها من أب تركى (أو عربى) وأم يونانية، ويبدو أن البيزنطيين بعد اتصالهم بالأتراك السلاجقة وانهرامهم في وقعة «ملازكرد» كونوا هذه الفرقة من الفرسان التي تعتمد - تشبها بالأتراك - على الكر والفر والحرب السريعة؛ هذا ولم يحاول أحد من مزرخى العرب القدامى أو المحدثين تتبع تاريخ هذه الفرقة أو بيان أهميتها، وقد بدا لى وأنا أتتبع النصوص التي تذكر هذا المصطلح أن الصليبيين عند ما مروا بأراضى الدولة البيزنطية أثناء حملتهم الأولى اقتبسوا نظام هذه الفرقة وكونوا لأنفسهم فرقا كثيرة تحمل اسم «تركبلى» لعبت دورا كبيرا أثناء فضالهم مع المسلمين، وأغرب من هذا أننى عثرت على نصوص تفيد أن الجيوش الاسلامية بدورها اقتبست هذا النظام وكونت فرقا في جيوشها تحمل اسم «تركبلى» راجع: (أسامة بن منقذ: كتاب الاعتبار، نشر فيليب حتى، ص 51) و (العماد الأصفهانى: الفتح القسى، طبعة ليدن سنة 1888، ص 425) و (ابن الأثير: الكامل في مواضع كثيرة منه) و (Hitti : An A - ab Syrian Gentelman and Warrior in the Period of the Crusades New York,1929, P. 42) هذا وأقدم تعريف للفظ «تركبلى» ذكره: (Raymond d'Agiles : Historia Francorum qui ceperunt Hierusalem .R .H .C .Hist .Occid III) وقد ذكر هذا التعريف عند كلامه عن التركوبولى الموجودين في الدولة البيزنطية أثناء مرور الحملة الصليبية الأولى ببلاد البلقان، قال: (Turcopoli vel de matre Christiana,patre turco procreantur) ومعناها: «التركوبولى هم نتاج أم مسيحية وأب تركى». وعرفهم مؤرخ صليبى آخر هو: (Albert d'Aix : Historia Hierosolymitana,R .H .C .Hist . Occid .IV . P. 434) تعريفا مشابها فقال: (Turoopoli,ex Turco patre et graeca matre procreati) ومعناها أن التركوبولى نتاج أب تركى وأم يونانية. وهذه التعريفات تشرح المصطلح من حيث اشتقاقه اللفظى وتوضح الأصول الجنسية لجنود هذه الفرقة؛ وهناك تعريفات أخرى ذكرها مؤرخون صليبيون معاصرون تلقى ضوءا على طبيعة هذه الفرقة من الناحية الحربية، منها نص ذكره وليم الصورى: (Guillaume de Tyr : Historia Rerum in Paltibus Transmarinis Gesturuna,R .H .C .Hist .Occid .I P. 925) =

وخمسة عشر ألف راجل، فنزلوا وخندقوا عليهم (¬1)، ونزل (¬2) السلطان حولهم، والحرخ (¬3) تعمل فيهم ليخرجوا إلى المصاف، وهم لا يخرجون ¬

= وذكر وليم الصورى هذا النص عند حديثه عن معركة قرب بلبيس بين عمورى ملك بيت المقدس وأسد الدين شيركوه، قال (Erant praeterea nobis equites levis armaturae quos turcopolos vocant). وترجمة النص: «وكان يصحبنا جماعة من الفرسان المدرعون بالدروع الخفيقة ويسمون التركوبولى». وقال نفس المؤلف في موضع آخر (ص 1097) عند حديثه عن حوادث سنة 1182 في الشام (Triginta sex levis Armaturae milites quos turcoplos appellant,interfecisse) وترجمتها: «وقتل في هذه المعركة 36 فارسا مدرعون بالدروع الخفيفة ويسمون التركوبولى». راجع كذلك: (Assises de Jerusalem (R .H .C .Lois) . P. 612 - 613) (Barker The Crusades . P. 40) ومن العجيب أن هذه الفرقة ظلت موجودة في جيوش الصليبيين والمسلمين إلى وقت متأخر، فقد أشير إلى التركبلى في نص الهدنة بين السلطان الملك المنصور قلاوون وفرنج عكا في خامس ربيع الأول سنة 682 هـ‍ فقد نص في هذه الهدنه على أن يقدم بديل عن كل قتيل: «فارس بفارس، وتركبلى بتركبلى، وتاجر بتاجر، وراجل براجل، وفلاح بفلاح. . . الخ» راجع نص الهدنة في: (ابن الفرات: تاريخ الدول والملوك، ج 14، ص 88 أ - 95 أ، صور شمسية بدار الكتب المصريه رقم 3297 تاريخ، عن نسخة فينا) و (المقريزى: السلوك، ج 1 ص 991، نشر الدكتور زيادة) ولاحظ أن الدكتور زيادة عند نشر هذه الوثيقة قرأ هذا المصطلح قراءة خاطئه، فجعله «بركبلى»، وفسره تفسيرا اجتهاديا، فقال إنه يعنى رجل البحر المشرف على السفن. (¬1) بهذا اللفظ تنتهى (ص 145 ب) من نسخة س وبذلك تنقطع الصلة مرة أخرى بينها وبين النص الأصلى. (¬2) بهذا اللفظ تبدأ (ص 80 أ) من نسخة س، وبذلك يتصل النص في النسختين مرة أخرى. (¬3) في الأصل وفى س: " الجراح " وفى (الروضتين، ج 2، ص 50): " الجرح "، والصحيح ما ذكرناه، والجرخ (Jarkh) مأخوذة عن الفارسية " تشرخ - " (Tcharkh) والجمع جروخ - وهو نوع من القوس الرامى الذى ترمى عنه النشاب أو النفط، هكذا تصفه النصوص وهكذا وصفه (DOZY : Supp .Dict .Arab) بأنه (Une arbalete avec laquelle on lancait,soit des fleches,soit le naphte) وقد ذكر (مرضى بن على: تبصرة أرباب الألباب، ص 6 - 8) أربعة أنواع للقوس الرامى الذى يشبه المنجنيق، وهى: قوس الزيار، والقوس العقّار، والجرخ، وقوس الرجل. ويقال للذى يرمى عن قوسه السهام أو النفط: " الجرخى " ويقابله بالفرنسية (Arbaletrier) والجمع " الجرخية ". أنظر أيضا: (C .Cahen : Un Traite D'Armureric Compose pour Saladin. Eatrait du Bulletin d'Etuds Orientales .Dama,Tome XII .1947 - 1948 P. 152) .

ذكر منازلة السلطان الكرك

خوفا من المسلمين، فانتزح السلطان عنهم ليرحلوا، فيضرب معهم المصاف، فرحلوا نحو الطور سابع عشر جمادى الآخرة، فنزل تحت الخيل مترقبا رحيلهم، فرحل الفرنج راجعين على أعقابهم، فرحل نحوهم وجرى من رمى النشاب واستنهاضهم للمصاف أمور عظيمة، فلم يخرجوا، ولم يزل السلطان - رحمه الله - حولهم حتى نزلوا الفولة راجعين إلى بلادهم، فعاد السلطان وقد نال منهم قتلا وأسرا وخرّب كفر بلا (¬1)، وبيسان، وزرعين وقرى عدة، ونزل الفوّار، وأعطى الناس دستورا، فسار من آثر المسير، وسار هو إلى دمشق، فوصلها يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة. ذكر منازلة السلطان الكرك ثم سار السلطان إلى الكرك في رجب من هذه السنة - أعنى سنة تسع وسبعين وخمسمائة - وحاز (¬2) في طريقه قبل الوصول إليها غنائم؛ وخيّم على الربة (¬3) ثم وصل الكرك فحاصره ورماه بالمجانيق صباحا ومساء، وتناوب عليه الأمراء حتى خرج شهر رجب وما حصل على مطلوب، لكنه أكثر النكاية في العدو بأخذ أموالهم وتخريب ديارهم، ووصله الخبر أن الفرنج قد اجتمعوا بالواله على قصد المسلمين وتخليص الكرك، ورأى السلطان أن أمر الكرك يطول، فعوّل على الرحيل إلى دمشق. ¬

(¬1) الأصل: " عقربلا " وما هنا عن الروضتين. (¬2) الأصل: " جاز " والتصحيح عن " س " و (الروضتين، ج 2، ص 51). (¬3) الأصل: " والدبة " وما هنا عن الروضتين.

ذكر استنابة السلطان الملك الناصر لابن أخيه الملك المظفر تقى الدين بمصر وتمليك أخيه الملك العادل حلب

ذكر استنابة السلطان الملك الناصر لابن أخيه الملك المظفر تقى الدين بمصر وتمليك أخيه الملك العادل حلب لما ملك السلطان [صلاح الدين] (¬1) حلب كاتبه أخوه الملك العادل (¬2) - وهو ينوب عنه بمصر - يطلبها منه مع أعمالها، [252] ويدع الديار المصرية، فكتب إليه السلطان يأمره أن يوافيه بالكرك، فإنه سائر إلى فتحه. وأشار القاضى الفاضل على السلطان أن يستنيب بالديار المصرية - موضع الملك العادل - الملك المظفر تقى الدين، فاستصحبه السلطان معه إلى (¬3) الكرك، ووصل الملك العادل إلى السلطان وهو بالكرك، فجهز [السلطان] (¬4) الملك المظفر إلى مصر نائبا، وقوى عضده بصحبة القاضى الفاضل، وأنعم على الملك المظفر بالأعمال الفيومية وسائر نواحيها بجميع جهاتها وجواليها (¬5)، وزاده القايات (¬6) وبوش وأبقى عليه بالشام حماة وجميع أعمالها. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (80 أ). (¬2) روى (ابن أبى طى) - وهو مؤرخ حلبى - (الروضتين، ج 2، ص 52) تفصيلات هامة عن رغبة العادل في ولاية حلب وكيف حقق له صلاح الدين هذه الرغبة، فانظرها هناك. (¬3) الأصل: " على " والتصحيح عن س. (¬4) ما بين الحاصرتين عن س (180). (¬5) في الأصل وفى (الروضتين، ج 2، ص 53): " وحواليها " ولا معنى لها، والصحيح ما ذكرناه هنا، والمقصود بالجوالى ضريبة الجزية المفروضة على أهل الذمة. (¬6) في الأصل: " القايات وقوس " وفى (الروضتين، ج 2، ص 53): " القبيبات وبوش "، والأرجح أن تكون " القايات وبوش " فقد كانتا تعتبران حتى العصر المملوكى من " الأعمال الفيومية " انظر: (ابن الجيعان: التحفة السنية، ص 162 و 165)، وقد ذكر ابن أبى طى (الروضتين، ج 2، ص 53) أن السلطان أقطع تقى الدين " الاسكندرية ودمياط، وجعل لخاصته البحيرة والفيوم وبوش، ثم عوضه عن بوش سمنود وحوف دمسيس ".

ذكر قبض عز الدين - صاحب الموصل - على نائبه مجاهد الدين قايماز

وسار السلطان إلى دمشق وصحبته أخوه الملك العادل، فوصل إلى دمشق لست بقين من شعبان من هذه السنة، وأعطى أخاه الملك العادل حلب ثانى شهر رمضان، فسار إليها، وصعد قلعتها يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان وبها الملك الظاهر غازى، وسيف الدين باركوج (1) وكان الملك الظاهر - رحمه الله - من أحب الأولاد للسلطان، لما خصّ به من الشهامة والفطنة والعقل وحسن السمت والشغف بالملك، وكان أبر الناس بوالده وأطوعهم له، فلما دخل عمه الملك العادل إلى حلب خرج هو وسيف الدين باركوج (¬1) سائرين إلى خدمة السلطان، فدخلا دمشق يوم الاثنين ثامن عشر شوال، فأقام [في] (¬2) خدمة والده لا يظهر له إلا الطاعة والانقياد مع انكسار في باطنه لا يخفى عن نظر والده. ذكر قبض عز الدين - صاحب الموصل - على نائبه مجاهد الدين قايماز (3) كان التدبير بالموصل مفوضا إلى مجاهد الدين قايماز (¬3)، وكان إليه أمر إربل وبلادها، وفيها زين الدين يوسف بن زين الدين على كوجك بن بكتكين، وهو صغير السن لا حكم له، وتحت حكمه أيضا معز الدين سنجرشاه بن سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى، وهو أيضا صبى، والحكم والنواب لمجاهد الدين قايماز، وبيده أيضا شهرزور وأعمالها، ونوابه فيها، ودقوقا ونائبه فيها، وقلعة عقر الحميدية ونائبه فيها، فأشار عز الدين محمود زلقندار، ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى الروضتين: " ياركوج ". (¬2) عن " س " ص 80 ب. (¬3) هذه الجملة غير موجودة في س.

وشرف الدين أحمد بن أبى الخير المعروف والده بصاحب الغرّاف (¬1) - وهما من أكابر الأمراء - على عز الدين بالقبض عليه (¬2) [253] وفعلا في ذلك خلاف المصلحة، فإن الأمور كانت به منتظمة، والبلاد التي ذكرناها كلها في الطاعة، فلما أراد القبض عليه لم يقدم على ذلك لقوة مجاهد الدين، فأظهر أنه مريض، وانقطع عن الركوب عدة أيام، فدخل عليه مجاهد الدين [قيماز] (3) وحده، وكان خصيا لا يمتنع من الدخول على النساء، فلما دخل قبض عليه، وركب لوقته إلى القلعة، واحتوى على الأموال التي لمجاهد الدين [قيماز] (¬3) وخزائنه، وولى زلقندار قلعة الموصل، وجعل ابن صاحب الغرّاف (¬4) أمير حاجب، وحكّمهما في دولته، ولم يحصل لعز الدين من البلاد التي بيد مجاهد [الدين قيماز] (3) سوى شهرزور والعقر، فأما زين الدين يوسف فامتنع بإربل، وامتنع أيضا معز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازى - صاحب الجزيرة - وراسلا السلطان بالطاعة له والركوب (¬5) في خدمته [فأجابهما إلى ذلك] (3) وأرسل الإمام الناصر لدين الله إلى دقوقا فحصرها وأخذها. ¬

(¬1) الأصل: " صاحب العراق " وما هنا عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 188) وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا، وقد نقل صاحب الروضتين (ج 2، ص 54) هذا النص وشدد الراء. (¬2) في س (81 أ): " على قيماز ". (¬3) ما بين الحاصرتين عن س. (¬4) الأصل: " صاحب العراق "، وما هنا عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 188) وهو المرجع الذى ينقل المؤلف هنا، وقد نقل صاحب الروضتين (ج 2، ص 54) هذا النص وشدد الراء. (¬5) الأصل: " الكون " والتصحيح عن س.

ذكر ورود رسل الديوان العزيز إلى السلطان فى الصلح بينه وبين صاحب الموصل

ذكر ورود رسل الديوان العزيز (¬1) إلى السلطان في الصلح بينه وبين صاحب الموصل وأرسل عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى إلى الإمام الناصر لدين الله يسأل منه إنفاذ شيخ الشيوخ صدر الدين رسولا وشفيعا إلى السلطان ليسيّره إليه، ويسيّر شهاب الدين بشير (¬2) الخادم، [ففعل ذلك] (¬3)، فلما وصلا إلى الموصل أرسل عز الدين معهما القاضى محيى الدين أبا حامد بن القاضى كمال الدين ابن الشهرزورى، وسافر (¬4) في صحبتهما القاضى بهاء الدين بن شدّاد، فخرج السلطان إلى لقاء رسل الخليفة، فأنزل شيخ الشيوخ (¬5) بالرباط على المنيبع، والقاضى محيى الدين في جوسق بستان الخلخال (¬6) [ومعه القاضى بهاء الدين] (¬7)، وشهاب الدين بشير بجوسق الميدان، فأقاموا أياما يراجعون في فصل أمر الصلح فلم يتفق، وحصل من القاضى محيى الدين ترفع في أداء الرسالة، وغلظ (¬8) في الكلام، فألان له السلطان، وقال: ¬

(¬1) س: " الرسل إلى السلطان ". (¬2) س (81 أ): " ويسير الخادم " دون ذكر الاسم. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬4) س: " وسير أيضا في صحبتهما ". (¬5) الأصل: " الشيخ " وما هنا عن س والروضتين. (¬6) هذه الكلمة غير موجودة في س. (¬7) ما بين الحاصرتين عن س (81 أ) (¬8) س: " وغلط ".

" إنما (¬1) أقضى حاجته على ما أراد، ولكن قد سبق منى يمين لأولئك السلاطين، وأنا استثنيهم (¬2) وأردهم إلى اختيارهم لى أوله " - يعنى صاحب إربل وصاحب الجزيرة - فامتنع محيى الدين، وقال: " لابد من ذكرهما في النسخة ". وأراد أن تكون الصداقة لمخدومه [254] عز الدين دون سائر [ذوى] (¬3) الممالك، وأشار في كلامه إلى أن لهم (¬4) من ينصرهم من جهة البهلوان بن ايلدكز ملك العجم، فعظ ذلك على السلطان، وكان ذلك محركا له إلى أن يعود إلى الموصل. ورجعت الرسل من غير ظفر بطائل، وكان رجوعهم يوم الخميس سابع ذى الحجة من هذه السنة. وأقام السلطان بدمشق، والرسل ترد إليه من الجوانب، فوصله رسول معز الدين سنجر شاه صاحب الجزيرة، واستحلفه (¬5) لنفسه وانتمى إليه، ورسل إربل [أيضا] وحلف لهم؛ ووصل إلى السلطان أخوه الملك العادل سيف الدين صاحب حلب يوم الاثنين رابع (¬6) ذى الحجة، (7) فأقام عنده (¬7)، وعيّد وعاد إلى حلب. ¬

(¬1) س: " أنا ". (¬2) الأصل: " استعينهم " وما هنا عن (الروضتين، ج 2، ص 54). (¬3) ما بين الحاصرتين عن الروضتين، وهو الأصل المنقول عنه. (¬4) س: " لصاحب الموصل من ينصره ". (¬5) الأصل: " واستخلفه " والتصحيح عن س. (¬6) س: " تاسع ". (¬7) هذان اللفظان ساقطان من س.

ذكر منازلة السلطان الكرك

ودخلت سنة ثمانين وخمسمائة والسلطان - رحمه الله - بدمشق، وقد انصرم البرد [وطار البرد] (¬1) وطاب الزمان، وأرسل إلى [ملوك] الأطراف يطلب العساكر، فجاءه ابن أخيه الملك المظفر تقى الدين عمر من الديار المصرية (2) بالعساكر المصرية (¬2) وصحبته القاضى الفاضل، وجاءه أخوه الملك العادل من حلب بعسكره، وجاءته العساكر المشرقية، وجاء نور الدين [بن قرا أرسلان] صاحب الحصن وآمد، واجتمعت العساكر برأس الماء، فأشفق السلطان على نور الدين - صاحب الحصن - من اقتحام المشاق، فأقامه برأس الماء إلى حين العود، وأمر الملك العادل بالإقامة معه. ذكر منازلة السلطان الكرك ثم سار السلطان (¬3) إلى الكرك ونازلها ونزل بواديها، وذلك لأربع عشرة ليلة مضت من جمادى الأولى من هذه السنة - أعنى سنة ثمانين وخمسمائة -، ونصب عليها تسعة مجانيق صفا قدام الباب، فهدمت السور المقابل لها، ولم يبق مانع إلا الخندق الواسع العميق، وهو من الأودية الهائلة، ولم يكن من الحيلة إلا هدمه وردمه بكل ممكن، فعدّ ذلك من الأمور الصعاب، فأمر السلطان بضرب اللبن وجمع الأخشاب وبناء الحيطان المقابلة من الربض إلى الخندق وتسقيفها وتلفيق ستائرها (¬4) فتمت (¬5) دروبا واسعة لا يزحم فيها ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (81 ب). (¬2) هذان اللفظان ساقطان من س. (¬3) تنقطع الصلة عند هذا اللفظ ثانية بين الأصل ونسخة س. (¬4) الأصل: " شيا من برها " ولا معنى لها، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 56) وهو الأصل المنقول عنه هنا. (¬5) الأصل: " فبقيت "، والتصحيح عن العماد (المرجع السابق).

ذكر إحراق نابلس وتخريبها

الجانى الذاهب، واجتمع رجال العسكر على نقل ما يرمى في الخندق، فهان [255] طم الخندق بالدبابات (¬1) التي قدمت، ونقب الأسراب وإحكامها، فوجد الناس إلى الخندق طريقا واسعا مهيعا، فهم يزدحمون (¬2) آمنين من الجراح والناس تحت (¬3) الفلعة على شفير الخندق لا يستشعرون حذرا ولا يخافون وقع الحجارة والسهام، وامتلأ الخندق حتى أن أسيرا مقيدا رمى بنفسه من السور ونجا بعد ما توالى من الفرنج رمى الحجارة عليه. ولما رأى الفرنج الذين بالكرك ما قد دهمهم من السلطان، وخافوا أن يملكه، كاتبوا ملوكهم وفرسانهم يستنجدونهم ويعرفونهم عجزهم وضعفهم عن حفظ الحصن، فسارت الفرنج في حدهم وحديدهم، ونزلوا بالواله، وهى مواضع صعبة ضيقة المسالك، فسار السلطان حتى نزل البلقاء على قرية يقال لها حسبان، ثم رحل منها إلى ماء عين، والفرنج مقيمون بالواله، فأقام أياما (¬4) ينتظر خروجهم من المكان الذين هم به ليتمكن منهم، فلم يبرحوا منه خوفا على أنفسهم فلما رأى ذلك رحل عنهم عدة فراسخ، وجعل بإزائهم من يعلمه بمسيرهم، فساروا ليلا إلى الكرك، فلما علم السلطان ذلك علم أنه لا يتمكن منهم حينئذ ولا يبلغ غرضه. ذكر إحراق نابلس وتخريبها كان رحيل الفرنج إلى الكرك لأربع بقين من جمادى الآخرة، فلما قصدوا الكرك عزم السلطان على قصد الساحل لخلوه من العساكر، فسار إلى نابلس ¬

(¬1) الأصل: " الطم بالدبابات " والتصحيح عن العماد (المرجع السابق). (¬2) الأصل: " لا يزدحمون " والتصحيح عن المرجع السابق. (¬3) الروضتين: " بجب القلعة ". (¬4) الأصل: " أيام ".

ونهب كل ما على طريقه من البلاد، ولما وصل إلى نابلس أحرقها ونهبها وقتل من فيها وأسر وسبا فأكثر، ثم سار عنها إلى سبسطية (¬1) - وبها مسجد زكريا عليه السلام وبها كنيسة - وفيها جماعة من أسرى المسلمين فاستنقذهم، ورحل إلى جينين (¬2) فنهبها وخربها، وعاد إلى دمشق؛ ونهب ما على طريقه وخربه، وبثّ السرايا يمينا وشمالا ينهبون ويخربون. ومن كتاب لعماد الدين الكاتب يصف فيه صورة حصار الكرك: " فصل: ولولا الخندق المانع من الإرادة، وأنه ليس من الخنادق المعتادة (¬3)، بل هو واد من الأودية، واسع الأفنية، لسهل المشرع؛ وهجم الموضع، فلم يبق إلا تدبير طم الخندق؛ والأخذ بعد ذلك من العدو بالمخنق، فعملنا دبابات قدمناها، وبنينا (¬4) إلى شفير الخندق ثلاثة أسراب [256] باللبن سقّفناها وأحكمناها؛ فصارت منها إلى طرف الخندق طرق آمنة، وشرع الناس في طم الخندق منها ونفوسهم مطمئنة، وقلوبهم ساكنة، وكان الشروع فيه يوم الخميس سابع جمادى الأولى، وقد تسنى طمّه، وتهيأ (¬5) ردمه، وتسارع الناس إليه، وازدحموا عليه، ولم يبق صغير ولا كبير إلا وهو مستبشر بالعمل، منتظر لبشرى نجح الأمل، قد تحاشدوا (¬6) حتى ازدحموا على تلك القلعة نهارا ¬

(¬1) الأصل: " سنسطيه "، والتصحيح عن (ابن الأثير: الكاملى، ج 11، ص 191) وقد ضبطها (ياقوت: معجم البلدان) وقال إنها بلدة من نواحى فلسطين، بينها وبين البيت المقدس يومان، وبها قبر زكريا ويحى عليهما السلام وجماعة من الأنبياء ولصديقين، وهى من أعمال نابلس. (¬2) الأصل: " جيلين " والتصحيح عن ابن الأثير. (¬3) الأصل: " العادة " والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 56). (¬4) الأصل: " وتنبنا " والتصحيح عن المرجع السابق ذكره. (¬5) الأصل: " وتمس "، والتصحيح عن الروضتين. (¬6) كذا في الأصل، وفى الروضتين: " تجاسروا ".

كازدحامهم (¬1) في المصلى يوم العيد، وليلا كحضورهم في جامع دمشق ليلة النصف السعيد، وهم بحمد الله من الجراح سالمون، وبنصر الله موقنون عالمون، وإن أبطأ العدو عن النجدة فالنصر سريع، والحصن ومن فيه صديع، وقد خرقت الحجارة حجابه وقطعت بهم أسبابه، وناولته من الأجل كتابه، وحسرت لثام سوره، وحلّت نقابه، فأناف الأبراج مجذوعة، وثنايا الشرفات مقلوعة، ورؤوس الأبدان مجزوزة، وحروف العوامل مهموزة، وبطون السقوف مبقورة (¬2)، وأعضاء الأساقف معقورة، ووجوه الجدر (¬3) مسلوخة، وجلود البواشير (¬4) مبشورة (¬5) والنصر أشهر من نار على علم، والحرب أقوم من ساق على قدم». ومدح القاضى السعيد بن سناء الملك (¬6) السلطان بقصيدة يهنبه بها بعد انصرافه عن الكرك وفتح نابلس، وأولها: وصفتك واللاجى يعاند بالعذل، ... فكنت أبا ذر، وكان أبا جهل له شاهدا زور من النّهى والنهى ... عليك، ومن عينيك لى شاهدا عدل ومنها: ومن عرف الأيام مثلى فإنه ... يعيش بلا حبّ (¬7)، ومحيا بل خلّ ومن كان في هذا الورى مثل يوسف ... ومن أين هذا المثل؟ كان بلا مثل ¬

(¬1) الأصل: " لازدحامهم " والتصحيح عن الروضتين. (¬2) الأصل: «منقورة» والتصحيح عن الروضتين. (¬3) الأصل: «الجذور» والتصحيح عن الروضتين. (¬4) أنظر ما فات هنا ص 81، هامش 1 (¬5) في (الروضتين، ج 2، ص 56)، «منسوره» (¬6) أنظر ما فات هنا ص 137، هامش 3 (¬7) ديوان ابن سناء الملك (مخطوطة دار الكتب المصرية، 4931 أدب): «بلا صبر».

تخرّ (¬1) له الأملاك ذلاّ وإنما ... يعزّ إذا خرّت لديه من الذل أعاديه من غلمانه في بلادهم ... يصرفهم بين الولاية والعزل وأنفسهم عارية منه عندهم ... متى ما أراد استرجعتها يد القتل إذا راسل الأعداء يوما فإنما (¬2) ... كتائبه كالكتب، والخيل كالرسل [257] له صارم يشفى به الدين صدره ... وينجز وعد النصر منه بلا مطل تغيب (¬3) عنا سيفه (¬4) بنجيعة، ... فما تملا سيفه حلية (¬5) الصّقل ومنها: وما خالفتك الجرد قطّ، وإنها ... لتلحق من عاديته وهى في الشكل وأرجلها لو قطعت كسرت بمن ... عليها لهم، والصلّ يسعى بلا رجل جنا أهل تلك القلعة الشرّ إذ رأوا ... هواديها كالباسقات من النخل غدا بعلها الإبرنس يلعن عرسه ... بها، وهى لا تنفكّ من لعنة البعل وقد رجمتها المنجنيقات إذ زنت ... هناك بشيخ كافر جاهل رذل (¬6) وصبحت أخرى صبحتك بأهلها ... ومسّتك إذ مشيت وهى بلا أهل فنابلس لما أقمت بربعها ... أقامت لهم حقّ الضيافة والنزل أحسوا بطلّ للخريف، فجاءهم ... ربيع من النيل المسدد بالوبل ¬

(¬1) الأصل: «فخر» والتصحيح عن الديوان. (¬2) الأصل: «كأنما» والتصحيح عن الديوان. (¬3) الأصل: «يغيب»، والتصحيح عن الديوان. (¬4) الأصل: «لونه»، والتصحيح عن الديوان. (¬5) الأصل: «بحليه»، والتصحيح عن الديوان. (¬6) نص الشطرة الثانية في الأصل: «بشيخ لعين كافر جهل تذل»؛ والتصحيح عن الديوان.

ولم أر أرضا جادها الغيث قبلها، ... وتصبح تشكو بعده غلّة المحل وما شرقوا بالماء والرنق إذ رأوا ... جيوشك، لكن بالفوارس والرجل ولم يبق إلا من سبا الجيش منهم، ... وإن كان يسبى (¬1) الجيش بالحدق النجل عذارى أسارى كبّلت بشعورها، ... فجرحها في الساق (¬2) والمعصم العبل وقد شغلت عن أهلها بأسارها، ... وأنت بحمد الله في أشغل الشغل يكبّر فيها الله بالجامع الذى ... جمعت به بين الفريضة والنفل وصلّيت فيها جمعة وجماعة، ... يناديك الإسلام: يا جامع الشّمل وعدت بفضل الله للخلق سالما، ... وأىّ زمان لم تعد فيه بالفضل ولما وصل السلطان إلى دمشق وجد بها رسل الخليفة الإمام الناصر لدين الله - أمير المؤمنين - وهما: الشيخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبى سعيد أحمد، وبشير الخادم، وكانا قد وصلا إلى دمشق والسلطان محاصر الكرك، فمرضا بدمشق، ومات جماعة من أصحابهما، وكان الشيخ نازلا بالمنيبع [258] وكان السلطان يعوده في كل يوم؛ وكان قدومهما في معنى تقرير الصلح بين السلطان وبين عز الدين مسعود - صاحب الموصل -، فلم يتقرر أمر، فاستأذنوا في العود إلى بغداد قبل الشتاء، فأذن لهم فعادوا، فمات بشير الخادم بالسخنة، ومات صدر الدين (¬3) بالرحبة، وكان صالحا زاهدا، فدفن بمشهد ¬

(¬1) الأصل: «مسبى»؛ والتصحيح عن الديوان. (¬2) النص بالديوان: «بالساق». (¬3) هو عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبى سعد أحمد بن محمد النيسابورى، ولد سنة 508 هـ‍، وقال صاحب (الروضتين، ج 2، ص 57) في ترجمته - نقلا عن ابن القادسى -: كان شيخا طائلا في العلم والدين والسداد، ثابت الجنان في الحوادث المزعجة والوقائع الباغتة الملجلجة، سديد البديهة، صافى الفكرة، جمع بين نظم الشعر ونثر الترسل، وكان يرسل إلى الأطراف، ورتب في مشيخة الشيوخ منذ توفى والده في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن توفى، وتولى بعده مشيخة الرباط صفى الدين إسماعيل، أنظر أيضا (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 97).

البوق (¬1) ولم يستعمل في مرضه هذا دواء توكلا على الله تعالى، وكان مولده سنة ثمان وخمسمائة. ثم خرج السلطان من دمشق في شعبان من هذه السنة، وخيم على سعسع، وأمر ابن أخيه الملك المظفر أن يرجع بالعسكر إلى مصر، فسار في منتصف الشهر ثم رجع السلطان إلى دمشق فصام بها شهر رمضان، ورجع كل عسكر إلى بلده. وكانت رسل الخليفة لما قدموا على السلطان أفاضوا عليه الخلع، فلبسها وألبس أخاه الملك العادل وابن عمه ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه خلعا جاءت لهم، ثم خلع السلطان خلعة الخليفة على نور الدين قرا أرسلان - صاحب الحصن -، وأعطاه دستورا، فسار إلى بلاده. وفى هذه السنة - أعنى سنة ثمانين وخمسمائة - كتب السلطان لزين الدين يوسف بن زين الدين على كوجك منشورا بإربل وما يجرى معها من البلاد والقلاع، وذلك لما انفرد زين الدين عن صاحب الموصل واعتزى إلى السلطان، ومن جملة المنشور: " أن الله لما مكّن لنا في الأرض، ووفّقنا في إعزاز الحق وإظهاره لأداء الفرض، رأينا أن نقدّم فرض الجهاد في سبيل الله فنوضح سبيله، ونقبل على إعلاء الدين وننصر قبيله، وندعو أولياء الله من بلاد الإسلام إلى غزو أعدائه، ونجمع كلمتهم في رفع كلمته العليا [في أرضه] (¬2) على استنزال نصره (¬3) من سمائه، فمن ساعدنا على أداء هذه الفريضة، واقتناء [هذه] (2) الفضيلة، ¬

(¬1) كذا بالأصل، والذى ذكره ابن القادسى (المرجع السابق) أن صدر الدين توفى في رجب برحبة مالك بن طوق، ودفن في قبة إلى جنب قبر الشيخ موفق الدين محمد بن المتقنة الرحبى. (¬2) ما بين الحاصرتين عن نص المنشور الوارد في (الروضتين، ج 2، ص 60). (¬3) في الروضتين: «نصر».

ذكر مسير السلطان إلى البلاد الشرقية

يحظى من عوارفنا الجزيلة بحسن الصنيعة ونجح الوسيلة، ومن أخلد إلى الأرض واتبع هواه، وأعرض عن حق دينه بالإقبال على باطل دنياه، فإن تاب (¬1) ورجع قبلناه، وإن أصرّ على غوايته أزلنا يده وعزلناه ". وعيّن له في المنشور إربل وقلعتها وأعمالها جميع ما قطعه الزاب الكبير: شهرزور (¬2) وأعمالها، معايش (¬3) بنى قفجاق، ومعايش بيت القرابلى، الدست والزرزارية. [259] ووصلت رسل زين الدين إلى السلطان تخبره أن عسكر الموصل وعسكر قزل - صاحب العجم - نازلوا إربل مع مجاهد الدين قايماز، وأنهم نهبوا وأحرقوا، وأنه نصر عليهم وكسرهم، فكان ذلك مما حرّك السلطان على التوجه إلى الموصل لحصارها. ذكر مسير السلطان إلى البلاد الشرقية ثم سار السلطان من دمشق وتقدم إلى العساكر فتبعته، وسار على طريق المغار ويبوس (¬4) البقاع وبعلبك، ثم ساروا إلى حمص ثم إلى حماة، وأقام القاضى الفاضل بدمشق، وأقام السلطان بحماة إلى أن خرجت السنة. ¬

(¬1) النص في الروضتين: «فإن أناب قبلناه». (¬2) في الروضتين: «بشهرزور». (¬3) الأصل: «بنفايس»، وما هنا عن الروضتين. (¬4) الأصل: «المعار وسوس البقاع»، وما هنا عن (الروضتين، ج 2، ص 60).

وفى هذه السنة توفى قطب الدين إيلغازى بن نجم الدين ألبى بن حسام الدين نمرتاش بن إيلغازى بن أرتق، وملك بعده ولده حسام الدين [يولق أرسلان] (¬1) فقام بتدبير أمره نظام الدين ألبقش مملوك والده. ودخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة والسلطان بحماة، ثم سار منها إلى حلب، فالتقاه أخوه الملك العادل صاحبها، واجتمعت العساكر بها، ثم سار السلطان منها في صفر، وقطع الفرات، وأقام العسكر ثلاثة أيام للعبور، ثم وصل حرّان - وصاحبها مظفر الدين كوكبورى بن زين الدين على كوجك - وكان قد التقاه بالبيرة، وكان يراسل السلطان في كل وقت، ويشير عليه بقصد الموصل، ويقوى طمعه في ذلك، حتى أنه بذل له خمسين ألف دينار، وأن يقوم بكل ما يحتاج إليه من النفقات والغرامات، فلما وصل السلطان إلى حرّان لم يف له بما بذل من المال، فأنكر ذلك وارتاب به، وظن أن ميله إلى أصحاب الموصل، ووشت الأعداء به، وذكروا أن نيته قد تغيرت، فحلف للسلطان أنه لم يتغير وأن ما التزمه الرسول لم يكن بأمره، فقبض السلطان عليه ليتبين أمره، وشاور فيه أصحابه، فأشار بعضهم باتلافه، وبعضهم باستبقائه، فعفا (¬2) السلطان عنه على أن يسلم إليه قلعتى الرّها وحرّان، ففعل ذلك وهو مسرور ببقاء نفسه، ثم رضى عنه بعد ذلك، وأعيدت له القلعتان في آخر السنة لما حقق براءته. ثم رحل السلطان من حرّان في ثانى ربيع الأول من السنة إلى رأس عين، ووصل في ذلك اليوم رسول الملك قلج أرسلان بن مسعود - صاحب بلاد الروم - يخبره أن ملوك الشرق [260] بأسرهم قد اتفقت كلمتهم على قصده ¬

(¬1) الأصل: «حسام الدين يرتق» وقد صحح الاسم بعد مراجعة (زامباور: معجم الأنساب، الترجمة العربية، ص 345)؛ وقد كان لقطب الدين ايلغازى المتوفى ولدان صغيران هما: حسام الدين يولق أرسلان، وناصر الدين أرتق أرسلان، وقد وليا الحكم الواحد بعد الآخر، ولكنهما كانا تحت سيطرة نظام الدين ألبقش، الذى اغتاله ناصر الدين أرتق أرسلان في سنة 601 هـ‍. (¬2) الأصل: «فعفى».

إن لم يعد عن الموصل وماردين، وأنهم على عزم ضرب المصاف معه إن أصر على ذلك، فرحل السلطان إلى دنيسر، فوصلها ثامن ربيع الأول عماد الدين قرا أرسلان، ومعه عسكر أخيه نور الدين - صاحب آمد والحصن - فالتقاهم السلطان واحترمهما وأكرمهما، ثم رحل طالبا (¬1) الموصل فوصل إلى نصيبين، وجاءه معز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازى بن مودود ابن زنكى - صاحب الجزيرة - فأكرمه السلطان، ثم سار من أقرب الطرق من دجلة، وتنكّب طريق الدولعية، فنزل على بلد آخر ربيع الأول، ثم توجه إلى الموصل، وخيّم على الإسماعيليات. وقدم عليه زين الدين يوسف - صاحب إربل - فأرسل السلطان - وهو على بلد قبل نزوله الإسماعيليات - القاضى ضياء الدين أبا الفضائل القسم ابن يحيى بن عبد الله بن الشهرزورى إلى الخليفة بما عزم عليه من حصر الموصل، وذكر أن أهلها يخطبون لسلطان العجم، وينقشون السكة باسمه، وأنهم يراسلون الفرنج، ويغرونهم على قصد بلاد المسلمين، وأنه لم يأت لأجل الازدياد في الملك ولا لقلع البيت القديم وقطع أصله، وإنما مقصوده ردهم إلى طاعة الخليفة ونصرة الإسلام، وردّهم عما اعتادوه من الظلم واستحلال المحارم، وقطعهم عن مواصلة العجم، وإلزامهم بما يجب عليهم من حفظ الجار وصلة الرحم؛ فهذا صاحب الجزيرة وهو ابن أخى صاحب الموصل عز الدين ولى عهد أبيه لم يرع فيه ذمة أخيه، وأبعده عما يستحقه بالإرث، وقطع رحمه وأخافه، ولو تمكن منه لأهلكه، ولولا خوفه منه لما أفضى [إلى] (¬2) هذا المقام، ¬

(¬1) الأصل: «طالب». (¬2) ينقل المؤلف هنا عن العماد مع تغيير طفيف، والنص عند العماد (الروضتين، ج 22 ص 62)، «. . لما التجأ إلى هذا الجانب، ولما اختار الأجانب على الأرقاب، وهذا صاحب إربل جار الموصل أبوه زين الدين على. . . إلخ».

ذكر منازلة السلطان الموصل وهى المنازلة الثانية

وما اختار البعيد على القريب، وصاحب إربل جارهم، وأبوه زين الدين هو بيتهم، وشيّد أمرهم، وهو يشكو جوارهم في حقه وظلمهم له؛ وذكر أيضا الذى حفظ خوف صاحب الحديثة وصاحب تكريت منهم. ذكر منازلة السلطان الموصل وهى المنازلة الثانية ولما خيّم السلطان بالإسماعيليات شرع في إقطاع البلاد للجند، وسيّر الأمير سيف الدين على بن أحمد المشطوب الهكّارى ومعه الأمراء من عشيرته إلى بلد الهكّارية، وأرسل جماعة من الأمراء الحميدية إلى العقر وأعمالها لافتتاح قلاعها، وأمر بنصب الجسر، [261] وعبر مظفر الدين بن زين الدين وغيره من الأمراء، وخيّموا بالجانب الغربى. وكان الحر إذ ذاك شديدا، فأمر السلطان بالكفّ عن القتال إلى أن يطيب الزمان، وتقدم بتحويل دجلة، وكان ماؤها قد قل، وذكر من له خبرة ونظر في علم الهندسة أنه يمكن سدها وسكرها ونقلها وتحويلها إلى دجلة نينوى، ويعطش أهل الموصل (¬1) إذا انقطع الماء عنها، فلا يبقى إلا تسليمها، وكان أهل الموصل يعبرون إلى الجانب الشرقى فيقاتلون العسكر ثم يعودون. ¬

(¬1) ذكر العماد (الروضتين، ج 2، ص 62) أن هذا الرأى عرض على أحد المهندسين المعاصرين فأقره ووافق عليه، أما هذا المهندس فهو «الفقيه العالم فخر الدين أبو شجاع بن الدهان البغدادى، وكان مهندس زمانه»؛ ونقل صاحب الروضتين (ج 2، ص 63) فقرة من رسالة بقلم العماد أرسلت إلى الديوان العزيز تشير إلى هذا الموضوع، ونصها: «وذكر المهندسون من أهل الخبرة أنه يسهل تحويل دجلة الموصل عنها بحيث يبعد مستقى الماء منها، وحينئذ يضطر أهلها إلى تسليمها بغير قتال، ولا حصول ضرر في تضييق ولا نزال».

ذكر رحيل السلطان عن الموصل

وبلغ عز الدين صاحب الموصل أن نائبه بالقلعة زلقندار يكاتب السلطان، فمنعه من الصعود إلى القلعة، وعاد إلى الاقتداء برأى مجاهد الدين والصدور عن رأيه، وأقام السلطان بالموصل إلى آخر ربيع الآخر من هذه السنة - أعنى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة - ذكر رحيل السلطان عن الموصل وورد على السلطان الخبر بوفاة شاه أرمن (¬1) بن سكمان صاحب أخلاط في العشرين من ربيع الآخر، وكان موته في التاسع منه، ولم يخلف ولدا ذكرا ولا ذا قرابة. وورد كتب أهل بدليس وغيرها إلى السلطان يخطبونه لها، وهم خائفون من العجم أن يملكوها. وكان المقيم بالملك بعد شاه أرمن (1) مملوكه سيف الدين بكتمر، وكان قد ورد على السلطان رسولا من سيده وهو بسنجار، فلما مات سيده شاه أرمن (1)، وملك البلاد وأحبه الناس لحسن سيرته، فسار نحوه البهلوان أتابك شمس الدين محمد بن ايلدكز صاحب العجم، فلما قرب منه خافه، فسير إلى خدمة السلطان من يقرر معه تسليم أخلاط إليه واندراجه في سلكه، وكاتب السلطان في ذلك أيضا الوزير بأخلاط، وهو مجد الدين ابن الموفق بن رشيق، وأظهر للسلطان المودة والمناصحة وهو على خلاف ذلك، فطمع السلطان في ملك أخلاط والاستيلاء عليها، ورحل من الموصل في آخر شهر ربيع الآخر، وقدّم في مقدمته ابن عمه ¬

(¬1) رسمت في الأصل: «شاهر من»، وهو ناصر الدين سكمان الثانى بن إبراهيم. انظر: (زامباور: معجم الأنساب، ص 348).

ذكر استيلاء السلطان على ميا فارقين

ناصر الدين محمد بن شير كوه، ومظفر الدين بن زين الدين، وأمرهما أن يسيرا إلى أخلاط من أقرب الطرق، وسير السلطان إلى سيف الدين الفقيه ضياء الدين عيسى، والأمير غرس الدين قلج لتقرير القاعدة وتحريرها، فوصلت الرسل إليها والبهلوان قد قارب البلاد جدا، فراسله [262] سيف الدين وخوّفه من السلطان، وأشعر بأنه إن قصده سلّم البلاد إلى السلطان. وراسل الأمير مجد الدين ناصر الدين محمد أن يقيم على قرن، فهو أشد للارهاب، وإنما فعل ذلك خديعة، وإنما كان مقصود سيف الدين والوزير دفع كل واحد من السلطان والبهلوان بالآخر ليتم غرضهما، ولا يمكن كل واحد منهما من البلاد، ثم أحال الوزير الأمر على البهلوان، وقال لرسول السلطان: " إن البهلوان جاء ليتملك، ولو استعجلتم لسهل الأمر ". واصطلح سيف الدين والبهلوان، وأقره البهلوان على البلاد، وجرت مراسلة بين البهلوان والسلطان، وانفصل الأمر. وفى رابع عشر ربيع الأول من هذه السنة توفى نور الدين محمد بن قرا أرسلان - صاحب آمد والحصن - وولى بعده ولده قطب الدين سكمان بن محمد، واستمر على طاعة السلطان. ذكر استيلاء السلطان على ميّا فارقين وكانت لصاحب ماردين، فوصلها السلطان في جمادى الأولى من هذه السنة، وبها من أمراء صاحب ماردين أسد الدين برتقش، فحاصره السلطان وقاتله، ثم رأى أن أمر القتال يطول فراسل أسد الدين ورغبّه في الموادعة والتسليم.

ذكر منازلة السلطان الموصل وهى المنازلة الثالثة

وكان بالبلد الخاتون ابنة فخر الدين قرا آرسلان أخت نور الدين الدارج، وهى زوجة ابن عمها قطب الدين إيلغازى بن ألبى صاحب ماردين الذى توفى، فأحال أسد الدين الأمر إليها، فراسلها السلطان ورغبها، وضمن لها ما تطلبه، وأن يصاهر إليها، ولم يزل بها وبأسد الدين إلى أن أجابا، فقرّر لها السلطان كل ما كان باسمها وباسم خدامها، وطلبت حصن الهتاّخ (¬1) لتكون هى وأولادها به، فأجيبت؛ وزوّج السلطان ابنه معز الدين إسحق (¬2) إحدى بناتها، وتسلم السلطان ميّا فارقين. وجاء قطب الدين سكمان بن نور الدين - صاحب آمد - إلى خدمة السلطان، فأكرمه وأعاده إلى بلده ومعه وزيره قوام الدين أبو عبد الله محمد بن سماقة، وقتل غيلة في رمضان من السنة. ذكر منازلة السلطان الموصل وهى المنازلة الثالثة ثم رحل السلطان وولّى بتلك الديار مملوكه حسام الدين سنقر الخلاطى، فنزل على دجلة بكفر زمار بقرب الموصل في شعبان من السنة، وعزم أن يشتى في ذلك المكان، فخرج [263] إليه من الموصل أتابكيات وفيهن ابنة الملك العادل نور الدين - رحمه الله - يشفعن إليه في الكف عن الموصل والرحيل عنها، ¬

(¬1) ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث عرفها بأنها قلعة حصينة في ديار بكر قرب ميافارقين. (¬2) هو المعز أبو يعقوب اسحاق فتح الدين، ولد بمصر في ربيع الأول سنة 570 هـ‍، فكأن أباه زوّجه وهو في الحادية عشرة من عمره؛ ذكر صاحب (شفاء القلوب، ص 73 أ) أنه توفى في ذى الحجة سنة 625 هـ‍. انظر أيضا: (الروضتين، ج 1، ص 276).

ذكر مرض السلطان ورحيله عن الموصل

فأنزلهن وأكرمهن، وأحضر أصحابه واستشارهم فيما يفعل، فأشار أكثرهم بإجابتهن إلى ما طلبن، فقال له الفقيه ضياء الدين عيسى وعلى بن أحمد المشطوب: " مثل الموصل لا تترك لامرأة، فإن عز الدين ما أنفذهن إلا وقد عجز عن حفظ البلد ". فوافق ذلك هواه، وقال لهن: " قد قبلت شفاعتكن، لكن لابد أن نعمل ما تقتضيه المصلحة ". واعتذر إليهن، فرجعن خائبات متلومات. ذكر مرض السلطان ورحيله عن الموصل ثم دخل شهر رمضان وبدأ بالسلطان مرض أزعجه وأقلقه، فندم على ردّ النساء الأتابكيات وعدم قبول شفاعتهن، فسيّر إلى عماد الدين زنكى بن مودود - صاحب سنجار - وأذن له في الدخول بينه وبين عز الدين - صاحب الموصل - في الصلح، فدخل رسوله، وهو وزيره شمس الدين بن عبد الكافى، وشمس الدين قاضى العسكر من جانب السلطان إلى الموصل. وكان من قبل قد سبق القول أن السلطان يتسلم بلاد شهرزور وقلاعها وحصونها وضياعها، وكذلك ما وراء الزابين من البوازيج والرستاق، وبلد القرابلية وبنى قفجان، فدخل الرسولان إلى الموصل لأجل العهد على هذا الملتزم، ورحل السلطان في سلخ شهر رمضان وهو في شدة من المرض، ووصل إلى حرّان. قال القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله -: " كان عز الدين - صاحب الموصل - قد سيّر إلى الخليفة يستنجد به، فلم يصل منه زبدة، وسيّر إلى العجم فلم يحصل منهم زبدة، فلما وصلت من

ذكر انتظام الصلح بين المواصلة والسلطان

بغداد وأديت جواب الرسالة أيس من النجدة، فلما بلغهم مرض السلطان رأوا ذلك فرصة، وعلموا برقة قلبه وسرعة انقياده في ذلك الوقت، فندبونى لهذا الأمر، وبهاء الدين الربيب (¬1) وفوّض إلى أمر النسخة ". ذكر انتظام الصلح بين المواصلة والسلطان قال بهاء الدين: " فسرنا حتى أتينا العسكر - يعنى بحرّان -[264]، والناس كلهم آيسون من السلطان، وكان وصولنا في أوائل ذى الحجة، فاحترمنا احتراما عظيما، وجلس لنا، وكان ذلك أول جلوسه من مرضه، وحلف يوم عرفة، وأخذنا منه بين النهرين، أخذها من سنجر شاه وأعطاها المواصلة، وحلفته يمينا تامة، وحلفت أخاه الملك العادل، وسرت عنه وهو بحران وقد تماثل، واستمر الصلح، وصلح الأمر ". وخطب في جميع بلاد الموصل للسلطان، وقطعت خطبة السلاطين السلجوقية بها، وخطب له في ديار بكر وجميع البلاد الأرتقية، وضربت السكة باسمه. وكان المرض لما اشتد بالسلطان وصل إليه أخوه الملك العادل ومعه الأطباء، وقام يضبط الأمور، والجلوس في كل يوم في النوبتية (¬2) الذى للسلطان، وإقامة وظيفة السماط. ¬

(¬1) الأصل: «بن الربيب» والتصحيح عن: (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 56). (الروضتين؛ ج 22 ص 64). (¬2) النص عند العماد: (الروضتين، ج 2، ص 65): " والجلوس في كل يوم في النوبتية السلطانية؛ لتولى مصالح الرعية؛ وإقامة وظيفة السماط؛ والعمل في كل يوم بالاحتياط ".

وكان الملك العزيز عماد الدين عثمان حاضرا مع أبيه، فحلفّ السلطان الناس لأولاده، وجعل لكل منهم نصيبا معلوما، وجعل أخاه الملك العادل وصيّا على الجميع، وأكثر السلطان في مرضه من الصدقات، وكتب بذلك إلى الشام والديار المصرية، فلم يبق في سائر ممالكه من الفقراء والمساكين إلا من وصل إليه نصيب من رفده وبره وصدقته. وذكر عماد الدين الكاتب قال: " أمرنى أن أكتب إلى نائبه بدمشق صفى الدين بن القابض بأن يتصدق بخمسة آلاف دينار صورية (¬1)، فقال: ما عندى غير دنانير مصرية، فقال: يتصدق بها مصرية ". ولما امتد زمان مرضه أمر ببناء دار عند سرادقه وحمام، فبنيت في أربعة أو خمسة أيام، واستحضر من دمشق ولديه الصغيرين: الملك المعظم توران شاه، وملكشاه (¬2)، وأمهما، فأسكنهما في تلك الدار مدة مقامه وسماها: " دار العافية ". ولما تم الصلح بينه وبين المواصلة أهدى لعز الدين هدايا عظيمة، ولوالدته، ولزوجته، ولابنة نور الدين، وقوّم ما سيره إليهم بما يوفى على عشرة آلاف دينار سوى الخيل والملبوس والطيب والأشياء المستطرفة. ¬

(¬1) أنظر ما فات هنا، ص 76، هامش 6 (¬2) هما أخوان شقيقان لأم واحدة، الأول الملك المعظم أبو منصور تورانشاه فخر الدين، ولد بمصر في ربيع الأول سنة 577 هـ‍، والثانى الملك الغالب أبو الفتح ملك شاه نصير الدين، ولد بالشام في رجب سنة 578 هـ‍؛ انظر: (الروضتين، ج 1 ص 276 - 277)؛ وقد ترجم (الحنبلى: شفاء القلوب، 73 ب) للمعظم تورانشاه، فقال إنه كان كبير البيت الأيوبى، وقد اشتغل بالعلم وحضر غير مصاف وكان ذا شجاعة وعقل، ولما استولى التتار على حلب اعتصم بقلعتها ثم سلمها بالأمان، وأدركه الأجل على قرب ذلك فتوفى في السبع ولعشرين من ربيع الأول سنة 658 هـ‍ بحلب عن ثمانين سنة، ودفن هناك بدهليز داره.

ذكر وفاة الملك القاهر ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص

ذكر وفاة الملك القاهر ناصر الدين محمد (¬1) بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص [265] وكان ناصر الدين محمد بن أسد الدين شير كوه في صحبة السلطان وهو مريض بحرّان، فلما أشند مرضه توجه إلى إقطاعه، وكانت له حمص والرحبة وتدمر وسلمية، فلما اجتاز بحلب أحضر جماعة من أحداثها، ووعدهم وأعطاهم مالا، ولما وصل إلى حمص أرسل جماعة من الدمشقيين وواعدهم على تسليم البلد إليه إذا مات السلطان، وأقام بحمص ينتظر موته ليسير إلى دمشق فيملكها، فعوفى السلطان، وبلغ ناصر الدين الخبر، فلم يمض غير قليل حتى مات ناصر الدين ليلة عيد الأضحى من هذه السنة - أعنى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة - وذلك أنه شرب خمرا وأكثر منه، فأصبح ميتا. استيلاء الملك المجاهد شير كوه بن محمد بن شير كوه بن شاذى على حمص فأقطع السلطان ما كان لناصر الدين لولده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، وعمره يومئذ اثنتا عشرة سنة، فلم يزل مالكا لحمص وبلادها إلى أن توفى بها في سنة سبع وثلاثين وستمائة، وكانت مدة ملكه نحوا من ست وخمسين سنة، وملك بعده ولده الملك المنصور إبراهيم، وتوفى بدمشق سنة أربع وأربعين وستمائة، فملك بعده ولده الملك الأشرف موسى بن إبراهيم، فأخذت منه في سنة ست وأربعين وستمائة، وملكها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك ¬

(¬1) ترجم له (الحنبلى. شفاء القلوب، ص 11) ترجمة مختصرة نقل معظمها عن ابن واصل، وزاد عليها قوله: «وقيل إن السلطان اغتاله بسم، وقيل مات فجأة».

العزيز محمد بن الملك الظاهر غازى - صاحب حلب -، فلم يزل مالكا لها إلى أن وطئت التتر البلاد وملكوها سنة ثمان وخمسين وستمائة، فأعادوا حمص إلى الملك الأشرف موسى بن الملك المنصور، ثم لما رجعت البلاد إلى المسلمين أقرّه عليها الملك الظاهر ركن الدين، ثم توفى الملك الأشرف في سنة اثنتين وستين وستمائة (¬1)، وهو آخر من ملك حمص منهم. وكتب السلطان إلى الملك المجاهد يعزيه بأبيه: " قد علمنا المصاب بوالده رحمه الله، وعظّم أجرنا وأجره فيه، وإن كان مضى لسبيله فولدنا أسد الدين - أحياه الله - نعم الخلف الصالح، وإن انتقل والده إلى دار البقاء، فهو في مكانه المستقر من المجد والعلاء، والبلاد والمعاقل باقية عليه، مسلمة إليه، مقررة في يديه، وما مضى من والده - رحمه الله -[266] إلا عينه، وولدنا قرة العيون، وبه استقر السكون، والحمد لله الذى جبر به كسر المصاب، وألبسنا وأياه ثوب الثواب، فليشرح ولدنا صدره، ولا يشغل سره، ويعرف خواصه وأصحابه وولاته ونوابه بحمص والرحبة وغيرهما أنهم باقون على عادتهم ". وكان المندوب إليه في هذه الرسالة القاضى نجم الدين أبا البركات عبد الرحمن بن الشيخ شرف الدين بن أبى عصرون، وهو الذى تولى الحكم بحماة، وتوفى بها. وخلّف ناصر الدين أموالا جزيلة وذخائر كثيرة، [و] قسّم السلطان الميراث لما قدم حمص، وكان تحت ناصر الدين ست الشام المعروفة بالحسامية زوجة ناصر الدين، فصرف إليها ثمنها، وقسم الباقى بين أسد الدين وأخوته، على مقتضى الشريعة المطهرة. ¬

(¬1) هذا التاريخ يدل على أن ابن واصل كان يكتب هذا الجزء من كتابه بعد سنة 662 هـ‍.

ذكر وصول السلطان الملك الناصر - رحمه الله - إلى دمشق

وذكر عماد الدين: أن المخلف كانت تنيف قيمته على ألف ألف دينار، وأن السلطان ما أعاره طرفه، بل تركه على أهل التركة. وذكر غير العماد: أن السلطان أخذ ما جلت قيمته، وأبقى الباقى؛ وأن السلطان سأل الملك المجاهد أسد الدين: " إلى أين بلغت من القرآن "؟ فقال: " إلى قوله تعالى: {" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً "} (¬1) فعجب السلطان والحاضرون من فرط ذكائه مع صغر سنه. ودخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، ففى أولها دخل السلطان إلى الشام، ووصل إلى حلب في العشر الأوسط من المحرم. ذكر وصول السلطان الملك الناصر - رحمه الله - إلى دمشق ثم رحل السلطان - رحمه الله - إلى دمشق من حلب، وصحبته أخوه الملك العادل، فوصل إلى حماة وبها ناصر الدين منكورس بن ناصح الدين خمار تكين - صاحب بوقبيس - نائبا عن الملك المظفر تقى الدين عمر. ¬

(¬1) السورة 4 (النساء)، الآية (10 م).

ذكر قدوم الملك الأفضل نور الدين على ابن السلطان على أبيه بدمشق

ثم رحل إلى حمص فقرر أمورها، ورتّب بها الملك المجاهد أسد الدين شير كوه، وكتب له منشورا بحمص وتدمر والرحبة ووادى بنى حصين [والرحبة وزلبيا] (¬1)؛ وأمر بإسقاط المكوس (¬2)، ورتّب في ولاية القلعة (¬3) الحاجب بدر الدين إبراهيم بن شروة الهكّارى، ثم نقله إلى حلب، ورتب بحمص مع أسد الدين أميرا من الأسدية يعرف بأرسلان بوغا، ولم يزل معه إلى أن ترعرع الملك المجاهد واستقل بالأمر. ثم سار السلطان إلى دمشق فدخلها في ثانى ربيع الأول من هذه السنة - أعنى سنة اثنين وثمانين وخمسمائة -. [267] ذكر قدوم الملك الأفضل نور الدين علىّ ابن السلطان على أبيه بدمشق كان الملك الأفضل بالديار المصرية ومعه ابن عمه الملك المظفر تقى الدين نائبا عن السلطان بالبلاد، فوقعت بينهما منافرة بسبب أن الملك المظفر ربما كان ينقم على واحد ما، فيثقل عليه الملك الأفضل ويمنعه من إيقاع مكروه به، فكتب إلى السلطان يشكو منه، وكان في نفس السلطان نقل الملك العزيز إلى مصر وتفويض ملكها إليه، فكتب إلى ولده الملك الأفضل يتشوّقه ويستدعيه بجميع أهله وجماعته ووالدته وحشمهم وأصحابه، فخرج بهم متوجها إلى الشام، فوصل ¬

(¬1) الأصل: «وراتيا»، وما بين الحاصرتين عن الأصل المنقول عنه هنا وهو العماد (الروضتين، ج 2، ص 69). (¬2) المؤلف يختصر هنا عن العماد، والنص عنده (المرجع السابق): «وكتب منشورا آخر بإسقاط المكوس بالرحبة وفيه: (وهذا دأب السلطان في جميع البلاد، اقتصر منها على الرسوم التي يبيحها الشرع، وهى: الخراج والأجور والزرع)». (¬3) المقصود قلعة حمص.

ذكر استيلاء الملك الظاهر غياث الدين ابن السلطان الملك الناصر على حلب وهو الاستيلاء الثانى

دمشق يوم الاثنين لسبع بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، وخرج السلطان لاستقباله، وأنزله في القلعة في دار رضوان، وكتب إلى الملك المظفر أنه قد استقل أمره وزال عذره (¬1)، ففرح بذلك، وخفى عنه أنه كان في ذمة ولد السلطان وعصمته. ذكر استيلاء الملك الظاهر غياث الدين ابن السلطان الملك الناصر على حلب وهو الاستيلاء الثانى لما قدم السلطان دمشق كان بها من أولاده الملك الظاهر، وكان قد تزوج ابنة عمه الملك العادل - رحمه الله - وليست هى بأم الملك العزيز محمد، وإنما هى أخرى توفيت عنده، ثم تزوج أختها أمّ الملك العزيز، فزار عمّه الملك العادل، فقال له: " قد نزلت عن حلب لك، وأنا أقنع من أخى بإقطاع أين كان، وألزم الخدمة، ولا أفارق السلطان، فاطلبها من أبيك ". ثم جاء الملك العادل إلى السلطان وقال: " هذه حلب مع رغبتى فيها أرى أن أحد أولادك بها أحق، وهذا ولدنا الملك الظاهر أحب أننى أوثره بها ". فوقع الاتفاق بينه وبين السلطان على ذلك. ¬

(¬1) الأصل: «عدوه» ولا يستقيم بها المعنى، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 69).

والتمس الملك العادل من السلطان بلادا أو نواحى بمصر، فأجيب اليها، وأقطعه البلاد الشرقية بمصر، وتقرر أنه يسير إلى مصر نائبا عنه بها، ويكون الملك العزيز عماد الدين عثمان السلطان بها، ويكون الملك العادل أتابكه ومربيه والكافل له والمقيم [268] بتدبير أموره كلها، وكان الملك العادل شديد الحب له، وكان الملك العزيز هو الذى سأل أباه أن يكون الملك العادل معه. فحكى القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - قال: " قال الملك العادل: لما استقرت هذه القاعدة اجتمعت لخدمة الملك العزيز والملك الناصر وجلست بينهما، وقلت للملك العزيز: اعلم يا مولاى أن السلطان قد أمرنى أن أسير في خدمتك إلى مصر، وأنا أعلم أن المفسدين كثير، وغدا فما يخلو ممن يقول عنى ما لا يجوز، ويخوّفك منى، فإن كان لك عزم تسمع فقل لى حتى لا آجى معك، فقال لا أسمع، وكيف يكون ذلك؟ ثم التفتّ، وقلت للملك الظاهر: أنا أعرف أن أخاك ربما سمع فىّ أقوال المفسدين، وأنا فما لى إلا أنت، وقد قنعت منك بمنبج متى ضاق صدرى من جانبه، فقال: مبارك، وذكر كل خير ". ثم إن السلطان سيّر ولده الملك الظاهر إلى حلب، وفى خدمته: حسام الدين بشارة شحنة، و [شجاع الدين] (¬1) عيسى بن بلاشق (¬2) واليا، فوصل الملك الظاهر إلى العين المباركة يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة من هذه السنة - أعنى سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة - وخرج الناس إلى لقائه يوم السبت تاسع جمادى الآخرة، وصعد إلى القلعة ضحوة، وفرح الناس به فرحا شديدا، وعدل في الناس، وأفاض عليهم وابل فضله، واستمر مالكا لها إلى أن توفى بها سنة ثلاث عشرة وستمائة؛ وكان ملكه لها نحوا من إحدى وثلاثين سنة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (الروضتين، ج 2، ص 71). (¬2) كذا في الأصل، وفى المرجع السابق: «بلاشو».

ذكر قدوم الملك المظفر تقى الدين عمر إلى خدمة عمه السلطان بدمشق

وملك بعده ولده الملك العزيز عماد الدين محمد بن الملك الظاهر [إلى أن توفى] (¬1) في سنة أربع وثلاثين وستمائة. فملك بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد بن غازى بن يوسف ابن أيوب ولم يزل مالكا إلى أن ملك التتر الملاعين حلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة. ثم صار الملك بها بعدهم للملك المظفر قطز، ثم للملك الظاهر ركن الدين. فكانت مدة [269] ملك الملك الظاهر بن صلاح الدين وأولاده لها خمسا وسبعين سنة وشهورا. ذكر قدوم الملك المظفر تقى الدين عمر إلى خدمة عمه السلطان بدمشق ولما بلغ الملك المظفر ما استقرت القاعدة عليه من توجه الملك العزيز والملك العادل إلى الديار المصرية شقّ ذلك عليه وغضب؛ وعبر بأصحابه إلى الجيزة مظهرا أنه يمضى إلى بلاد المغرب ويستولى عليها، فإن مملوكه قراقوش (¬2) كان قد مضى إلى المغرب واستولى على نواحى منها - كما تقدم ذكره - وكاتب مولاه الملك المظفر يرغبه في تلك البلاد، ويقول إن البلاد سايبة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أنظر (مفرج الكروب، ج 1، 236، هامش 4)

فلما تجدد للملك المظفر ما تجدد عزم على قصد تلك البلاد وأخذها بسيفه، ومالت إليه عساكر مصر لبذله وشجاعته، فعبر بعسكره إلى الجيزة، وقدّم مملوكه بوزأبة (¬1) في المقدمة. ولما بلغ السلطان ذلك كتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فلم يسعه مخالفة عمه، وقبّح عليه جماعة من الأكابر المشاققة، وعرفوه أن عمه السلطان يخرج من يده ¬

(¬1) الأصل: " موربا " وعند العماد (الروضتين، ج 2، ص 70) " يوزبا ": وما هنا عن (ابن الأثير ج 11، ص 197)؛ هذا ورواية العماد أكثر تفصيلا في هذا الموضوع الهام، فآثزنا نقلها هنا لتتم الفائدة، قال: " فعبر (أي تقى الدين) إلى الجيزة مظهرا أنه يمضى إلى بلاد المغرب ليتملكها، وكتب يسأل السلطان ألا يمنعه من سلوك مسلكها، وسمت همته إلى مملكة جديدة، وأقاليم مديدة، وبلاد واسعة، ومدن شاسعة، وقد كان أحد مماليكه المعروف بقراقوش قد جمع من قبل الجيوش، وسار إلى بلاد برقة فملكها، وهزته الأمنية للنفائس من بلاد نفوسة فأدركها، وتجاوز إلى إفريقية وهو يكتب أبدا إلى مالكه الملك المظفر يرغبه في تلك المملكة، ويقول: إن البلاد سائبة؛ فلما تجدد لتقى الدين ما تجدد، وتمهد لعمه العادل ما تمهد، عاد له ذكر المغرب، فعبر بعسكره، ومالت إليه عساكر مصر لبذله، وقدم مملوكه يوزبا في المقدمة، فلما انتهى إلى السلطان خبر عزمه، قال: لعمرى إن فتح المغرب مهم، لكن فتح البيت المقدس أهم، والفائدة به أتم، والمصلحة منه أخص وأعم، وإذا توجه تقى الدين واستصحب معه رجالنا المعروفة ذهب العمر في افتناء الرجال، وإذا فتحنا القدس والساحل طوينا إلى تلك الممالك المراحل، وعلم نجاح تقى الدين في ركوب تلك اللجة، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه. . . . . . وكتب القاضى الفاضل إلى تقى الدين: " سبب هذه الخدمة ما اتصل بالمملوك من تردد رسائل مولانا في التماس السفر إلى الغرب والدستور إليه، (يكفى الزمان فما لنا نستعجل)؛ يا مولانا: ما هذا الواقع الذى وقع؛ وما هذا الغريم من الهم الذى ما اندفع؟ بالأمس ما كان لكم من الدنيا إلا البلغة، واليوم قد وهب الله هذه النعمة، وقد كان الشمل مجموعا، والهم مقطوعا ممنوعا، أفتصبح الآن الدنيا ضيقة علينا وقد وسعت، والأسباب بنا مقطوعة ولا والله ما انقطعت؟ يا مولانا: إلى أين؟ وما الغاية؟ وهل نحن في ضائقة من عيش أو في قلة من عدد أو في عدم من بلاد أو في شكوى من عدم؟ كيف نختار على الله وقد اختار لنا؟ وكيف ندبر لأنفسنا وهو قد دبر لنا؟ وكيف ننتجع الجدب ونحن في دار الخصب؟ وكيف نعدل إلى حرب الإسلام المنهى عنها ونحن في المدعو إليها من حرب أهل الحرب؟ معاشر الخدام والجيش وأرباب العقول والآراء: أليس فيكم رجل رشيد؟ تعقب الرأى وانظر في أواخره فطالما اتهمت قدما أوائله لا زال مولانا يمضى الآراء صائبة، ويلحظها بادية وعاقبة، ولا خلت منه دار إن خلت فهيهات أن تعمر، ولا عدمته أيام إن لم تطلع فيها شمس وجهه دخلت في عداد الليالى فلم تذكر ".

ذكر مسير الملك العزيز وعمه الملك العادل إلى الديار المصرية

في الحال، والله يعلم ما يكون بعد ذلك، فأجاب بالسمع والطاعة، وتوجه إلى دمشق، وتلقاه السلطان، وخيم على المصرى فوق قصر أم حكم، فلما قرب ركب إلى موكبه ورحّب به، وفرح بوصوله فرحا شديدا، وذلك في الثالث والعشرين من شعبان من السنة. ودخل دمشق واستمر على ما كان بيده من البلاد وهى: حماة والمعرّة ومنبج وقلعة نجم، ثم أضاف إليه ميّافارقين وما حولها من البلاد والمعاقل. وكتب إلى مصر باستدعاء رجاله، وأخبرهم بتأخير عزم المغرب، فامتثلوا الأمر، وقدموا سوى زين الدين بوزابة (¬1)، فإنه مضى إلى المغرب واستولى على مواضع، ثم قصده صاحب المغرب فأسره ثم أطلقه. وفى هذه السنة دخل الملك الظاهر على ابنة عمه الملك العادل التي كان عقد عليها، وذلك في السادس والعشرين من شهر رمضان، ودخل الملك الأفضل نور الدين على زوجته ابنة ناصر الدين محمد [270] بن شير كوه أخت الملك المجاهد صاحب حمص، وذلك في شوال من هذه السنة. ذكر مسير الملك العزيز وعمه الملك العادل إلى الديار المصرية ولما تقررت القاعدة على ما ذكرنا سار الملك العزيز وعمه الملك العادل إلى مصر، فدخلا القاهرة في خامس شهر رمضان. ¬

(¬1) الأصل: " موربا "، وعند العماد: " يوزبا "، وما هنا عن (ابن الأثير، ج 11، ص 197).

وذكر ابن الأثير: أن السبب في الذى فعله السلطان في هذه السنة من نقل الملك العادل عن حلب وتوليتها ولده الملك الظاهر، ونقل الملك المظفر عن ملك [مصر] (¬1) وتسيير ولده الملك العزيز إليها، أن السلطان لما مرض وعوفى وسار إلى الشام، سايره يوما علم الدين سليمان بن جندر، فجرى حديث مرضه فقال له سليمان: " بأى رأى كنت تظن أن وصيتك تمضى، وأن أمرك يقبل؟ كأنك تظن أنك كنت تمضى إلى الصيد وترجع فلا يخالفونك! بالله أما تستحى أن يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة؟ ". فقال: " وكيف ذلك؟ " - وهو يضحك - " قال: " إذا أراد الطائر يعمل عشا لفراخه قصد أعالى الشجر ليحمى فراخه، وأنت سلّمت الحصون إلى أهلك وجعلت أولادك على الأرض؛ هذه حلب بيد أخيك، وهذه حماة بيد تقى الدين، وهذه حمص بيد ابن شير كوه، وأحد ابنيك بمصر مع تقى الدين يخرجه أي وقت شاء، وهذا ابنك الآخر مع أخيك في خيمته يفعل به ما أراد ". فقال له: " صدقت، اكتم هذا الأمر ". ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين ليستقيم به المعنى.

ذكر انتماء القومص صاحب طرابلس إلى خدمة السلطان

ثم أخذ حلب من أخيه وأعطاها للملك الظاهر، وأخرج تقى الدين من ملك مصر، وأعطاها للملك العزيز، وجعل معه الملك العادل؛ ثم أعطى الملك العادل البلاد الشرقية، ونقله عن مصر على ما سنذكره، وأراد الاحتراز بجهده عن أن تخرج البلاد من يد أولاده، فلم ينفعه ذلك بعد وفاته لما أراد الله خلافه. وتوفى في هذه السنة البهلوان بن ايلدكز، وملك بعده أخوه قراأرسلان. وفى هذه السنة عصى معين [الدين] بن معين الدين بقلعة الراوندان، وكان السلطان قد أعطاه [271] إياها، فنازله علم الدين سليمان بن جندر في عسكر حلب، فتسلموها منه، ونزل إلى خدمة السلطان. ذكر انتماء القومص صاحب طرابلس إلى خدمة السلطان (¬1) وكان السبب في ذلك أن الفرنج كان لهم ملك مجذوم، وكان له أخت [ولم يكن له ولد] (¬2)، فأوصى بالملك [لها، وكان لها ولد صغير، وأوصى أن أن يكون لولدها ايضا إذا كبر] (¬3)، فلما هلك تزوج القومص بأخت الملك، وربى ولدها المعهود له بالملك، وهو طفل صغير، فمات الصغير، فانتقل (¬4) الملك إلى ¬

(¬1) بهذا العنوان تبدأ ص 82 أمن نسخة س، وبذلك نعود للمقارنة بين هذه النسخة والأصل. (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن س، أما الملك المجذوم فهو بلدوين الرابع ملك بيت المقدس (Baldwin IV,King of Jerusalem) وأخته هى: سبيلا ملكة بيت المقدس (Sibylla,Queen of Jerusalem) وأما الطفل ابنها فهو بلدوين الخامس (Baldwin V,King of Jerusalem) وأما زوج الملكة سبيلا فهو جى لوسنيان ملك بيت المقدس (Guy Lusignan,King of Jerusalem) أنظر (RUNCIMAN : OP .Cit .vol .2 : pp .442 - 451) . (¬3) الأصل: " فأوصى بالملك لابنها "، وما هنا صيغة س. (¬4) س: " فثبت ".

ذكر ما اعتمده الابرنس صاحب الكرك من الغدر بالمسلمين

أمه، ثم إنها [بعد موت ابنها] (¬1) مدّت عينها إلى بعض المقدمين من الغرب وتزوجته، وهجرت القومص، وفوضت الملك إلى ذلك المقدم، فطلب من القومص حساب البلاد، فوقع الخلاف بينهم بسبب ذلك، فالتجأ القومص إلى ظل السلطان، فقبله وقواه وشد عضده باطلاق من كان في الأسر من أصحابه، فقويت منا صحته للمسلمين، وباين (¬2) أهل ملته، وبث السرايا في بلادهم، فخافوه (¬3) وحذروا مكره. ذكر ما اعتمده الابرنس صاحب الكرك من الغدر بالمسلمين كان الابرنس أرناط صاحب الكرك كثير الغدر والخبث، وكان قد هادن السلطان وسالمه، فأمنت الطريق بين مصر والشام، وتواصلت القفول، حتى كان يمكّن الذاهب والجائى، ثم إنه لاحت له فرصة في الغدر فغدر بقافلة عظيمة فيها نعم جليلة، فأخذها بأسرها، وكان معهم جماعة من الأجناد فأسرهم وحملهم إلى الكرك، وأخذ خيلهم وعدتهم، فأرسل إليه السلطان وقبّح فعله، فأسامه (¬4) إطلاقهم فامتنع، وأصرّ على عصيانه، فنذر السلطان دمه، وأعطى الله عهدا إن ظفر به أن يستبيح مهجته. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬2) س: " وأمنت " وما هنا هو الصحيح. (¬3) س: " فخافوه وصدروا عنه ولم يعودا يلاطخوه بشر ". (¬4) س: " وسأله ".

ذكر مسير السلطان الملك الناصر من دمشق إلى الجهاد

ذكر مسير السلطان الملك الناصر من دمشق إلى الجهاد (¬1) وأقام السلطان بدمشق بقية سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، وأرسل إلى سائر الأطراف يطلب العساكر، فجاءته من كل فج، وبرز من دمشق يوم السبت مستهل المحرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وهى السنة الغراء التي طهّر الله فيها الأرض المقدسة من نجاسة الشرك بعد أن مكثت [272] مرتهنة في أيدى الكفار نيفا وتسعين (¬2) سنة. ولما وصل السلطان إلى رأس الماء أمر ولده الملك الأفضل نور الدين بالإقامة هناك في بعض العساكر، لتجتمع عنده الأمداد والنجد، ثم سار السلطان إلى بصرى، وخيّم على قصر السلامة، وأقام مرتقبا الحاج خوفا عليهم من غدر عدو الله الابرنس، ولما وصل الحاج في صفر، وخلا سر السلطان من شغلهم سار إلى الكرك ونازلها وقطع ما حولها من الشجر، وأفسد زرعها وكرومها، ثم سار إلى الشوبك وفعل به مثل ذلك. ثم وصلت العساكر المصرية، فتلقاها بالقريتين، وأمرهم بالانبثاث في أراضى الكرك والشوبك، وأقام على ذلك شهرين، والملك الأفضل مقيم برأس الماء، وقد اجتمعت عنده الحجافل والجموع. وكانت العساكر الحلبية تأخرت بسبب اشتغالها بالفرنج بأرض أنطاكية وبلاد ابن لاون، وكان قد مات وأوصى لابن أخيه لاون. ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في س. (¬2) س: " اثنتين وسبعين " وما في المتن هو الصحيح.

فكتب السلطان إلى الملك المظفر تقى الدين - وهو بحماة - يأمره بالدخول إلى بلاد العدو وإخماد ثائرته، فوصل الملك المظفر إلى حلب، ونزل في دار العفيف بن زريق، وانتقل إلى دار طمان، وخرج في تاسع صفر من حلب بعسكر حلب إلى حارم ليعلم العدو أن هذا الجانب غير مهمل وقدم مظفر الدين [كوكبرى] بن زين الدين - صاحب حرّان - في العساكر الشرقية. ثم قدم عسكر حلب مع بدر الدين دلدرم بن ياروق، [صاحب تل باشر] (¬1) فأنهض الملك الأفضل سريّة إلى بلاد العدو، والمقدم على عسكر دمشق صارم الدين قايماز النجمى، فصبّحوا صفوريّة، فأتاهم الفرنج والتقوهم، فقتلوا من الافرنج (¬2) وأسروا (¬3)، وهلك (¬4) مقدم الاسبتار، وحصل في الأسر جماعة من فرسانهم، وأفلت مقدم الداويّة، وعاد المسلمون سالمين غانمين، وكانت هذه الغارة مقدمة الفتوح. وجاءت هذه البشرى إلى السلطان وهو بعد بنواحى الكرك والشوبك، فسار إلى عشترا وخيّم بها، واجتمعت عنده العساكر الإسلامية، وقد غصّ بها الفضاء، وعرض العسكر فكان في اثنى عشر ألف مقاتل، ثم رتب العسكر أطلابا (¬5)، وسار يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من ربيع الآخر من السنة، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (82 ب). (¬2) نص س: " فهزم المسلمون الفرنج، فقتل من الفرنج خلق كثير، وأسروا الملك ". (¬3) عند هذا اللفظ تنتهى ص 82 ب من نسخة س، ثم يوجد خرم جديد مقداره صفحة. (¬4) الأصل: " لتلك " والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 76). (¬5) انظر ما فات هنا ص 59، هامش 3

ذكر فتح طبرية

فأناخ ليلة السبت على خسفين، وكان قد تقدم إلى ابن أخيه تقى الدين بمصالحة العدو [273] الذى في ناحية بلد حلب، فصالحهم وتوجه إلى حماة قاصدا خدمة السلطان، ومعه عسكر الموصل، ومقدمهم فخر الدين مسعود بن الزعفرانى، وعسكر ماردين، فلحقوا السلطان بعشترا؛ ثم رحل السلطان من خسفين إلى الأردن، فنزل بثغر الأقحوان، فأقام هناك خمسة أيام، وقد عيّن مواقف الأمراء وشعارهم، وأحاطت عساكره ببحيرة طبرية عند قرية تعرف بالضبّرة (¬1). ذكر فتح طبرية ثم رحل من هناك، ونزل غرب طبرية على سفح (¬2) الجبل لتعبية الحرب، منتظرا أن الفرنج إذا بلغهم ذلك قصدوه، فلم يتحركوا من منزلتهم، فنزل جريدة على طبرية، وترك الأطلاب بحالها قبالة وجه العدو، وزحف إلى طبرية ففتحها في ساعة من نهار، وامتدت الأيدى إليها بالنهب والأسر والحريق والقتل، وامتنعت عليه القلعة وحدها. ذكر وقعة حطّين وهذه الوقعة كانت مفتاح الفتوح الإسلامية، وبها تيسّر فتح بيت المقدس، وكان من حديثها أن الفرنج - لعنهم الله - لما تحققوا باجتماع كلمة المسلمين، ¬

(¬1) الأصل: " بالصيرة " وقد صححت بعد مراجعة (الروضتين، ج 2 ص 81)، وضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها موضع بالأردن مقابل لعقبة أفيق، بينه وبين طبرية ثلاثة أميال. (¬2) الأصل: «سطح»، وما أثبتناه قراءة ترجيحية.

وجاءهم مالا يعهد لهم مثله اجتمعوا وانتحوا، وكان القومص قد باينهم - كما ذكرنا -، فدخل عليه الملك، ورمى نفسه عليه، فدخل معهم ووافقهم، فصففوا راياتهم بصفورية، وحشدوا وجمعوا جموعهم، وجاءتهم الأمداد من سائر بلادهم الساحلية، وجمعت عبرتهم خمسين ألفا، ورفعوا صليب الصلبوت (¬1)، وهو قطعة من الخشبة التي يدعون أن المسيح عليه السلام صلب عليها. وانتظر السلطان بروزهم للمصاف فلم يبرحوا من صفورية، فقصد طبريّة - كما ذكرنا -، وفتحها، وامتنعت القلعة، وبها زوجة القومص؛ ولما بلغه افتتاح بلده قامت قيامته، وقال للفرنج: " لا قعود لنا بعد اليوم، وإذا أخذت طبرية ذهبت منا البلاد بأسرها ". فوافقوه ورحلوا بجموعهم نحو السلطان ليمنعوه من أخذ قلعة طبرية، ولما بلغ السلطان حركتهم نحوه سر بذلك، لأنه كان مقصوده لقاهم، وإطفاء جمرتهم، إذ علم - رحمه الله - أنه لا يتيسر له أخذ [274] البلاد إلا بعد ذلك، فترك على طبريّة من يحفظ قلعتها، ولحق العسكر هو ومن معه، والتقى (¬2) العسكران على سطح جبل طبريّة الغربى منها، وحال الليل بين الفئتين، وباتا على مصاف، شاكين في السلاح إلى صبيحة (¬3) الجمعة، وهو الرابع والعشرين من ربيع الآخر، فركب العسكران وتصادما، وذلك بأرض تسمى اللوبيا، ولم يزل الحرب بينهم إلى أن حجز الظلام، فبات كل فريق في سلاحه. ¬

(¬1) تذكر المراجع أن هذا الصليب نقل إلى جزيرة قبرص بعد إجلاء الصليبيين عن الشام، ثم استولى عليه المسلمون عند فتحهم لهذه الجزيرة سنة 1426 م، على أنه بقى بتلك الجزيرة، ورآه هناك أحد الرحالة الأوربيين سنة 1488 م. أنظر: (ZIADA : Mamlouk Conquest of Cyprus, P. 102) . (¬2) الأصل: " والتقا ". (¬3) الأصل: " صبحة " وقد صحت بعد مراجعة (الروضتين، ج 2، ص 81).

وأصبحوا يوم السبت الخامس والعشرين من ربيع الآخر على هيئتهم، وقد حاز المسلمون عنهم ماء البحيرة وراءهم، فلم يبق للفرنج إليه وصول، فاشتد بهم العطش، وفرغ ما معهم من الماء، وأخذتهم سهام المسلمين، وكثر فيهم الجراح، وقوى الحر، وسلبهم العطش القرار، وصاروا كلما حملوا ليتيسر لهم ورود الماء (¬1) صدّوا وردّوا، واستولى عليهم الأسر والقتل، فأووا إلى جبل حطّين ليعصمهم (¬2) من البلاء بعد أن انهزم منهم طائفة، وتبعهم طائفة من المسلمين، فلم ينج منهم أحد. وهرب القومص - لعنه الله - فلم ينجه إلا الهزيمة بحشاشة نفسه متوجها نحو صور (¬3)، وتبعه جماعة من المسلمين، ولم يدركوه، وكفى الله المسلمين كيده. وأحاط المسلمون بالباقين الذين اجتمعوا (¬4) بجبل حطّين، وهى قرية عندها قبر شعيب النبى عليه السلام، وضايقوهم، وأشعلوا حولهم النيران في حلفاء كانت هناك، فارتفع لهبها، واجتمع عليهم حر الهاجرة وحر النار وحر العطش وألم الجراح، وحطوا خيامهم على ظهر التل، فعاجلهم المسلمون عن ضربها، واشتد الطعن والضرب، ودارت عليهم دائرة السوء، وعلموا أنه لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه، فحملوا على المسلمين حملات متداركة كادوا يزيلون المسلمين - على كثرتهم - عن مواضعهم، فثبّت الله أقدام المؤمنين ونصرهم، ولم يحمل العدو حملة إلا وقتل منهم وأسر جماعة، فوهنوا ¬

(¬1) بهذا اللفظ نعود ثانية للمقابلة مع نسخة س وإنما في (ص 10 أ). (¬2) س: " ليمنعهم ". (¬3) س: " صفورية ". (¬4) س: " احتموا ".

وهنا عظيما، ولم يمكنهم نصب خيمة إلا خيمة ملكهم لا غير (¬1)؛ وملك المسلمون صليبهم الأعظم الذى يسمونه صليب الصلبوت (¬2)، فأيقنوا بعده بالبوار، واشتجر فيهم القتل والأسر، وبقى الملك [275] على التل في مائة وخمسين فارسا. لحكى ابن الأثير عن من حكى له عن الملك الأفضل نور الدين على - رحمه الله - قال: " كنت إلى جانب أبى في ذلك المصاف، وهو أول مصاف شاهدته، فلما صار ملك الفرنج على التل في تلك الجماعة حملوا حملة منكرة على من بازائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بوالدى، قال: فنظرت إليه وقد علته كآبة، واربدّ لونه، وأمسك بلحيته، فتقدم وهو يصيح: " كذب الشيطان "؛ فعاد المسلمون على الفرنج، فرجعوا (¬3) فصعدوا على التل، فلما رأيت الفرنج قد عادوا والمسلمون يتبعونهم، صحت من فرحى: " هزمناهم، هزمناهم "؛ فعاد الفرنج فحملوا حملة ثانية مثل الأولى، حتى ألحقوا المسلمين بوالدى، وفعل هو مثل ما فعل أولا (¬4)، وعطف المسلمون عليهم، فألحقوهم بالتل، فصحت أنا: " هزمناهم، [هزمناهم] " (¬5)، فالتفت إلىّ والدى فقال: اسكت، ما نهزمهم حتى: تسقط تلك الخيمة - يعنى خيمة الملك -؛ فهو يقول لى [ذلك] (¬6)، وإذا الخيمة قد سقطت، فنزل السلطان، فسجد شكرا لله تعالى، وبكى من [شدة] (6) فرحه ". ¬

(¬1) س (10 أ): " إلا خيمتين: خيمة ملكهم، وخيمة أخرى ". (¬2) انظر ص 189، هامش 1 (¬3) س (10 ب): " فرجعوا الفرنج ". (¬4) س: " في النوبة الأولى ". (¬5) ما بين الحاصرتين عن س، وكلمة " هزمناهم " في الأصل وهو (ابن الأثير) مفردة غير مكررة. (¬6) ما بين الحاصرتين عن س (10 ب).

وكان سبب سقوطها أن الفرنج لما حملوا تلك الحملة [الثانية] (¬1) ازدادوا عطشا، وكانوا يرجون الخلاص في تلك الحملات مما هم فيه، فلما لم يجدوا إلى الخلاص طريقا نزلوا عن دوابهم، وجلسوا على الأرض، فصعد (¬2) المسلمون إليهم، وألقوا خيمة الملك، وأسروهم كلهم. قال القاضى بهاء الدين بن شداد: " ولقد حكى لى من أثق به أنه لقى بحوران شخصا واحدا ومعه طنب خيمة، وفيه نيف وثلاثون (¬3) أسيرا يجرهم وحده لخذلان (¬4) وقع عليهم، وكان من جملة من وقع في الأسر: الملك كى (¬5)، وابرنس الكرك أرناط (¬6)، و [أخو] (¬7) الملك جفرى، وأوك (¬8) صاحب جبيل، وهنفرى بن هنفرى (¬9)، وابن صاحب اسكندرونة (¬10)، وصاحب مرقيّة (¬11) [وأسر من نجا من القتل من الداويّة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (10 ب). (¬2) الأصل وس: " فصعدوا " والتصحيح عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 202). (¬3) الأصل وس: " وثلاثين " والتصحيح عن (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 63). (¬4) الأصل: " بخذلان " والتصحيح عن المرجع السابق. (¬5) الأصل: " سلى " وس: " لى "، وقد صححناه بالمتن إلى الرسم الذى اعتادت الكتب العربية المعاصرة أن تكتبه به، وهو: (Guy of Lusignan,King of Jerusalem) . (¬6) هو (Reynald of Chatillon) صاحب الكرك. (¬7) زيد ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 2، ص 78) وهى زيادة ضرورية يستقيم بها المعنى، واسم هذا الأخ عند (RUNCIMAN : Op .Cit .Vol .2. P. 459) - (Constble Ancalric) . (¬8) في الأصل: " أولى "، وفى س: " اودك "، وقد صححت بعد مراجعة (الروضتين، ج 2 ص 78) واسم صاحب جبيل: (Hugh II Embriaco,Lord of Jebail) انظر: (RUNOIMAN : Op .Sit .Vol .2; P. 462 - 463) . (¬9) هو (Humphrey IV Lord of Toron) : انظر (المرجع السابق، ص 459 و 468). (¬10) س (10 ب): " اسكندرية " وهو خطأ. (¬11) ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها قلعة بساحل الشام قرب حمص.

ومقدمها، ومن الاسبتارية معظمها، ومن البارونية من أخطأه البوار، فأصابه وساءه الإسار] (¬1) قال عماد الدين الكاتب: " فمن شاهد القتلى ذلك اليوم قال ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال ما هناك قتيل ". ومذ ملك الفرنج البلاد الساحلية واستولوا عليها لم يقع للمسلمين معهم يوم كيوم حطّين، فرحم الله الملك الناصر صلاح الدين وقدّس روحه، فلم يؤيد الإسلام بعد الصحابة - رضى الله عنهم - برجل مثله ومثل [276] نور الدين محمود بن زنكى - رحمة الله عليهما -، فهما جددا الإسلام بعد دروسه، وشيّدا بنيان التوحيد بعد طموسه، ثم أيّد الله الإسلام بعدهما بالملك الظاهر ركن الدين، (¬2) وكان أمره أعجب إذ جاء بعد أن استولى التتر على معظم البلاد الإسلامية، وأيس (¬3) الناس أن لا انتعاش للملة، فبدّد شمل التتار، وحفظ البلاد الإسلامية (3)، وملك من الفرنج أكثر الحصون الساحلية ولم ينج في الكسرة (¬4) من ألوف الفرنج إلا أحاد، وامتلأت الأرض بالأسرى والقتلى، ثم أمر السلطان فضرب له دهليز (¬5) سرادقه، فنزل وصلى لله تعالى فيه صلاة الشكر على هذه النعمة، التي درج الملوك قبله على تمنى مثلها وماتوا بحسرتها، ¬

(¬1) في س: " وصاحب اسكندرية، والبارونية، هولاى نجوا من القتل في الوقعة " وفى الأصل: " وأسرت الداوية والاسبتارية والبارونية من نجا من القتل " وهى عبارة مضطربة، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 78) وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا ملخصا. (¬2) يقصد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى. (¬3) هذه الجملة ساقطة من س. (¬4) س (11 أ): «الكرة». (¬5) الدهليز هنا معناها الخيمة التي ترافق السلطان في الحرب، وهى خيمة كبيرة ينزل بها السلطان في الأوقات التي تتخلل المعركة.

ذكر مقتل ابرنس أرناط صاحب الكرك

وأحضر ملوك الفرنجية ومقدميهم، وأجلس الملك كى (¬1) إلى جانبه، وأجلس البرنس إلى جانب الملك وفى نفسه وفاء نذره بقتله، جزاء له على غدره ومكره، فقرعه السلطان وأذكره ذنبه، وقال له: " كم تحلف وتنكث؟ " فقال الترجمان عنه: " إنه [يقول] (¬2) قد جرت بذلك عادة الملوك ". وآنس السلطان الملك (¬3) وحادثه، وأمر له بجلاّب (¬4) مثلوج فشربه، وكان قد بلغ منه العطش مبلغا عظيما، ولما روى ناول الابرنس ارناط القدح، فشربه، فقال السلطان للملك: " لم آذن لك في سقيه الماء حتى لا يوجب ذلك أمانا له "؛ ثم أمر السلطان بمسيرهم إلى موضع عيّن لنزولهم، وركب السلطان، ولم ينزل (¬5) إلى أن ضرب السرادق الذى له وركزت أعلامه، ثم عاد إلى سرادقه. ذكر مقتل ابرنس أرناط صاحب الكرك واستحضر السلطان الملوك، ولم يبق عنده أحد سوى الخدم، فأقعد الملك وجماعته في الدهليز، واستحضر البرنس خاصة، وواقفه على قوله، وكان - لعنه الله - لما غدر بالقافلة الموجهة [من] (¬6) الديار لمصرية [إلى الشام] (6) قال: " قولوا لمحمدكم يخلصكم ". ¬

(¬1) الأصل: «جفرى» وس (هنغرى) والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 79). (¬2) ما بين الحاصرتين عن س. (¬3) في س: «الملك جفرى» هو خطأ. (¬4) ذكر في (اللسان) و (الجواليقى: المعرب، ص 106) و (الملك المظفر يوسف بن رسول: المعتمد في الأدوية، ص 71) أن الجلاب هو ماء الورد، فارسى معرب، وفى (DOZY : Supp .Dict Arab) أنه الماء ينقع فيه الزبيب (l'eau dans laquelle on a laisse tremper les raisains secs). (¬5) الأصل: " لم يزل " والتصحيح عن س. (¬6) ما بين الحاصرتين عن س (11 ب).

ذكر فتح قلعة طبرية

فقال له السلطان - رحمه الله -: " ها أنا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم ". ثم عرض عليه الإسلام، فلم يفعل، فسلّ النّمجاه (¬1) [من وسطه] (¬2) وضربه بها فحل كتفه، وأتم عليه من حضر من الخدم، وعجّل الله بروحه إلى النار، فسحب وأخرج من الخيمة، [277] فلما رآه الملك، وقد أخرج على تلك الصورة لم يشك أنه يثنى به، فخاف وارتاع، واستحضره السلطان وطيّب قلبه، وقال: " لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك، وأما هذا فتجاوز حدّه، فجرى عليه ما جرى ". ثم جمع السلطان الأسارى المعروفين إلى الناصح الغيدى (¬3) ليحملهم إلى قلعة دمشق، فتسلمهم أصحاب الناصح، وأمرهم أن يأخذوا خط الصفى بن القابض في دمشق بوصولهم، ويحتاط عليهم، [ففعل ذلك] (2) ذكر فتح قلعة طبريّة (4) وبات الناس (¬4) ليلة الأحد لأربع بقين من ربيع الآخر على أتم سرور، ترتفع أصواتهم بالحمد والشكر لله تعالى والتكبير حتى طلع الصبح من يوم الأحد، فتوجه السلطان إلى طبرية، وخيم بها، وراسل التومصية صاحبتها، فأجابت إلى التسليم، وطلبت الأمان لها ولمن معها، فأمنوا وسلمت الحصن، [بما فيه] (2) وخرجت ¬

(¬1) النمجاه - بالهاء - خنجر مقوس يشبه السيف القصير، وهو معرب اللفظ، الفارسى " نميجهـ " ويقال أيضا: " نمجا " و " نمجه " و " نمشا " " نمشه "، انظر: (DOZY : Supp .Dict .Arab) . (¬2) ما بين الحاصرتين عن س (11 ب). (¬3) س: " الكندى ". والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 79). (¬4) مكان هذين اللفظين في س (11 ب): " وبات السلطان رحمه الله ليلة الأحد هو والعسكر ".

ذكر مقتل الداوية والاسبتارية

بما لها إلى طرابلس - بلد زوجها القومص -، وذكر أن (¬1) القومص بعد وصوله عرضت له ذات الجنب، فكانت بها منيته. وولى السلطان طبرية لصارم الدين قايماز النجمى، وكانت طبرية في عهد الفرنج تقاسم على نصف مغل بلاد الصلت والبلقاء وجبل عوف والسواد والجولان إلى بلد حوران، فصفت هذه كلها بأخذ طبرية للمسلمين. ذكر مقتل الداوية والاسبتارية ثم رأى السلطان أن عين المصلحة تطهير الأرض من هذين الجنسين النجسين، فأمر باحضار كل داوى واسبتارى ليمضى فيهم حكم السيف، وجعل لكل من يأتيه (¬2) بأسير منهما خمسين دينارا، فأتى في الحال بمائتين (¬3) منهم، فأمر بضرب رقابهم، وكان بحضرته جماعة من أهل الدين والفقه والتصوف، فسأل كل واحد منهم أن يقتل واحدا (¬4)، فأذن في ذلك، فكل واحد منهم سلّ سيفه وقصد أن يقتل منهم قتيلا، والسلطان جالس والناس بين يديه صفوف، فمن الجماعة من خارت (¬5) قوته، فامتنع وعذر، ومنهم من لم يؤثر ضربه، فضحك منه، وناب غيره منابه، ومنهم من ظهرت نجابته، وفرت ضربته. ¬

(¬1) النص في س: " وذكر القومص بعد وصوله إلى طرابلس عرضت عليه ". (¬2) النص في س (12 أ) مضطرب وهو: " فجعل كل من يأتى منهما خمسين دينار، فأبى ذلك ". (¬3) س: " ثلاثمائة "، وفى (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 203) " مائتين "، والنص عند العماد (الروضتين، ج 2، ص 79) أكثر إيضاحا فهو يقول: " فتقدم باحضار كل أسير داوى واسبتارى ليمضى فيه حكم السيف، ورأى البقيا عليه عين الحيف، ثم علم أن كل من عنده أسير لا يسمح به وأن يضن بعطبه، فجعل لكل من يأتيه بأسير منهما من الدنانير الحمر خمسين، فأتوه في الحال بمئين، فأمر باعطابهم وضرب رقابهم. . الخ ". (¬4) النص في س مضطرب وهو: " فسأل كل واحد منهم واحدا من الافرنج ". (¬5) الأصل: " تجارت " وس: " جارت ".

ثم سيّر السلطان الملك - إلى دمشق، وأخاه، وهنفرى، وصاحب جبيل، ومقدم [278] الداويّة، وجميع الأكابر، وفرّق بقية السبى بين الناس، فتصرفوا فيه، وبيع في جميع البلاد الإسلامية. وكتب السلطان إلى نائبه بدمشق الصفىّ بن القابض أن يضرب عنق كل من يجد من الداويّة والاسبتارية، فامتثل أمره، وما ضرب عنق أحد منهم حتى عرض عليه الإسلام أولا وامتنعوا، إلا أحاد منهم أسلموا وحسن إسلامهم (¬1). وحكى العماد الكاتب قال: " ما زلت أبحث عن سبب نذر السلطان إراقة دم البرنس حتى حدثنى الأمير عبد العزيز بن شدّاد بن تميم بن المعز (¬2) بن باديس الصنهاجى أن القاضى الفاضل حدثه: أن السلطان لما عاد إلى دمشق من حرّان (¬3) بعد المرضة التي مرضها بالشرق، وخيف عليه منها، وهو في عناء من سقمه، قال: فقيل له: إن الله تعالى أيقظك ولن يعيذك من السوء سواه، فانذر لله أنك إذا أبللت من هذا المرض أنك تقوم بكل ما افترضه الله عليك، ولا تقاتل أحدا من المسلمين، وتكون في جهاد [أعداء] (¬4) الله مجتهدا، وأنك إذا انتصرت على الكفار ¬

(¬1) س (12 أ): " الإجماعة من الأكابر وهم المقدمين فأسلموا "، والنص في المتن يتفق مع الأصل المنقول عنه وهو العماد (الروضتين، ج 2، ص 80). (¬2) الأصل: " ابن عبد العزيز " والتصحيح عن س، والعماد (الروضتين، ج 2، ص 80) وقد أضاف العماد هناك فقرة للتعريف بابن شداد هذا، قال: " وهو ذو البيت الكبير والحسب الجليل، وكان جده صاحب إفريقية والقيدوان، وكانوا يتوارثون ملكه إلى قريب من هذا الزمان ". (¬3) س: " من دمشق إلى حران " وما بالمتن هو الصحيح فهو يتفق مع الأصل المنقول عنه. أنظر المرجع السابق. (¬4) ما بين الحاصرتين عن العماد وس (12 ب).

تتقرب إلى الله تعالى بإراقة دم البرنس والقومص بعد الظفر بهما، فأعطى (¬1) يده على هذا النذر؛ فلما أظفره الله بالا برنس وفى (1) بما عاهد عليه، وأراق دمه، وأما القومص فإنه هرب فلاقاه حمامه، وكفى الله تعالى المسلمين شرهما (¬2) ". ولما فتحت طبرية قال بهاء الدين أبو الحسن على بن الساعاتى يمدح السلطان - رحمه الله -: جلت عزماتك الفتح المبينا ... فقد قرّت عيون المؤمنينا (¬3) رددت أخيذة الإسلام لما ... غدا صرف القضاء بها ضمينا فهان بها (¬4) الصليب، وكان قدما ... يعزّ على العوالى (¬5) أن يهونا يقاتل (¬6) كلّ ذى ملك رياء، ... وأنت تقاتل الأعداء دينا غدت في وجنة الأيام خالا، ... وفى جيد العلى عقدا ثمينا فيا لله كم سرّت قلوبا؟ ... ويا لله كم أبكت عيونا؟ وما طبريّة إلا هدىّ (¬7) ... ترفّع من أكفّ اللامسينا [279] حصان الذيل (¬8) لم تقذف بسوء، ... فسل عنها الليالى والسنينا فضضت ختامها قسرا، ومن ذا ... يصدّ الليث أن يلج العرينا؟ ¬

(¬1) الأصل: " فأعطا " و " وفا ". (¬2) س (12 ب): " شرهمه ". (¬3) في (ديوان ابن الساعاتى، ج 2، ص 406): " المسلمينا ". (¬4) الديوان: «وهان بك». (¬5) س: «العواتى»، وما هنا يتفق ونص الديوان. (¬6) س: «فقاتل». (¬7) الأصل: «غذاء»، وما هنا عن الديوان وس، والهدى العروس. (¬8) الأصل: «الديك» والتصحيح عن الديوان.

لقد أنكحتها الصّمّ (¬1) العوالى، ... فكان نتاجها الحرب الزّبونا هناك ندى (¬2) أهلّ الأرض طرّا ... سواك، ومعقل أعيا القرونا (¬3) قست حتى رأت كفؤا فلانت، ... وغاية كلّ قاس أن يلينا قضيت فريضة الإسلام منها، ... وصدّقت الأمانى والظّنونا تهزّ (¬4) معاطف القدس ابتهاجا، ... وترضى عنك مكة والحجونا فلو أنّ الجهاد يطيق نطقا ... لنادتك: ادخلوها آمنينا جعلت صباح آهلها (¬5) ظلاما، ... وأبدلت الزئير بها أنينا تخال حماة حوزتها نساء ... يخوضون الحديد مقنّعينا لبيضك في جماجمهم غناء ... لذيذ (¬6) علم الطّير الحنينا تميل إلى المثقّفة العوالى ... فهل أضحت (¬7) رماحا (¬8) أم (¬9) غصونا يكاد النقع يذهلها، فلولا ... بروق القاضيات (¬10) لما هدينا فكم حازت قدود قناك منها ... قدودا كالقنا لونا ولينا ¬

(¬1) في الديوان: «صم». (¬2) الأصل: «منال بذ» والتصحيح عن الديوان و (الروضتين، ج 2، ص 84). (¬3) هذا البيت غير موجود في س. (¬4) س: «فهز»، وما هنا يتفق وما في الديوان. (¬5) الأصل وس: «أهليها» وما هنا عن (الديوان، ج 2، ص 407) و (الروضتين، ج 2، ص 85). (¬6) الأصل وس: «لذيذا» والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬7) في الديوان والروضتين: «أمست». (¬8) س (13 أ) «رحاما». (¬9) الأصل: «أو غضونا» والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬10) الأصل وس: «الماضيات»، والتصحيح عن المرجعين السابقين.

وغيد (¬1) كالجآذر آنسات ... كغيد نداك أبكارا وعونا ولما باكرتها (¬2) منك نعمى ... بنان تفضح الغيث الهتونا أعدت (¬3) بها الليالى وهى بيض، ... وقد كانت بها الأيام جونا فليس بعادم مرعى خصيبا ... أخو سغب، (¬4) ولا ماء معينا فلا عدم الشآم وساكنوه ... ظبى تشفى (¬5) بها الداء الدفينا سهاد جفونها في كل فيح (¬6) ... سهاد يمنح الغمض الجفونا فألمم بالسواحل فهى صور ... إليك، وألحق الهام المتونا [280] فقلب القدس مسرور، ولولا ... سطاك، لكان مكتئبا حزينا أدرت على الفرنج - وقد تلاقت ... جموعهم عليك - رحى طحونا ففى بيسان ذاقوا منك بؤسا، ... وفى صفد لقوك (¬7) مصفّدينا لقد جاءتهم الأحداث جمعا، ... كأنّ صروفها كانت كمينا وخانهم الزمان ولا ملام، ... فلست بمبغض زمنا (¬8) خؤونا لقد جرّدت عزما ناصريّا ... يحدّث عن سناه طور سينا فكنت كيوسف الصدّيق حقّا ... له هوت الكواكب ساجدينا لقد أتعبت من طلب المعالى، ... وحاول أن يسوس المسلمينا وإن تك آخرا (¬9) - وخلاك ذمّ -، ... فإنّ محمدا في الآخرينا ¬

(¬1) الأصل «وغيدا» والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬2) س: «ولما كرتها». (¬3) س: «أعيدت». (¬4) الأصل: «سيف» والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬5) الأصل: «ظبا يشفا» والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬6) الأصل وس: «فتح» وما هنا عن المرجعين السابقين. (¬7) كذا في الأصل، وفى الديوان والروضتين وس: «أتوك». (¬8) س: «ذمن». (¬9) الأصل وس: «آخر» والتصحيح عن المرجعين السابقين.

ذكر فتح عكا

ذكر فتح عكا ثم رحل السلطان إلى عكا فوصلها يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر من هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - وخيّم بقربها وراء التل، ولما طلع الصبح من يوم الخميس مستهل جمادى الأولى ركب في عساكره، ووقف بازاء التل (¬1) مصمما على الزحف والقتال، وبينما هو يرتاد موضعا للنزال إذ خرج كثير من أهلها يتضرعون ويطلبون الأمان، فأمّنهم على أنفسهم وأموالهم، وخيّرهم بين الإقامة والظعن، فاختاروا الرحيل خوفا من المسلمين، وساروا عنها متفرقين، وحملوا ما أمكنهم حمله من أموالهم وتركوا الباقى على حالها، ودخل المسلمون يوم الجمعة ثانى جمادى الأولى البلد، واستولوا على ما فيه من الأموال والذخائر، واستنقذوا (¬2) من كان بها من أسرى المسلمين، وكانوا أربعة [آلاف] (¬3) أنفس. وحضر القاضى الفاضل كنيستها العظمى، فرتّب فيها المنبر والقبلة، وأقيمت الجمعة، وهى أول جمعة أقيمت في الساحل بعد يوم الكسرة، وسلّم السلطان البلد إلى ولده الملك الأفضل نور الدين، وأعطى جميع ما فيه مما كان للداويّة (¬4) من إقطاع وضياع للفقيه ضياء الدين عيسى الهكّارى. ¬

(¬1) س (13 ب): «البلد». (¬2) هذه الكلمة ساقطة من س. (¬3) ما بين الحاصرتين عن س (13 ب) و (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 64). (¬4) س: «للداوية والاسبتارية» وما بالمتن هو الصحيح فهو يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 2، ص 86) و (ابن الأثير، ج 11، ص 203).

ذكر فتح مجدليابة

ذكر فتح مجدليابة (¬1) [281] وأقام السلطان مخيما على النل بباب عكا، وكتب إلى أخيه الملك العادل بمصر يبشره بما فتح الله تعالى على يديه، ويأمره بالمسير إلى بلاد الفرنج من جهة الديار المصرية فيمن بقى عنده من العساكر في محاصرة ما يليه منها، فسار إلى حصن مجدليابة، فحصره وفتحه وغنم ما فيه، وورد كتابه بذلك إلى السلطان، فكان فتحا عظيما. ذكر فتح عدة حصون حول عكا وفى مدة مقام السلطان بعكا فرّق عسكره إلى الناصرة، وقيسارية، وحيفا، وصفوريّة، ومعليا، والشقيف، والفولة، والطور، وغيرها من البلاد المجاورة لعكا، فملكوها ونهبوا ما فيها، وسبوا نساءها وأطفالها، وقدموا من ذلك بما سد الفضاء، وسيّر السلطان ابن أخيه الملك المظفر تقى الدين فنزل على تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور، وسيّر ابن اخته (¬2) حسام الدين بن لاجين إلى نابلس. ذكر فتح نابلس فأتى حسام الدين سبسطية، وفيها قبر زكريا - عليه السلام -، فأخذها من أيدى الكفار، ووصل إلى نابلس، فدخلها وحصر قلعتها، واستنزل من بها ¬

(¬1) الأصل: «مجدل يافا» وفى س و (ابن الأثير، ج 11، ص 304) و (الروضتين، ج 2، ص 87): «مجدل يابا»، وقد رسمت كما بالمتن وضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها قرية قرب الرملة بها حصن محكم. (¬2) الأصل: «أخيه» والتصحيح عن س (14 أ) و (الروضتين، ج 2، ص 88).

بالأمان، وتسلّم القلعة، وأقام أهل البلد - وكانوا مسلمين - تحت الذمة، فأقرّهم على أموالهم وأملاكهم. وكتب السلطان في تلك الأيام إلى الخليفة الإمام الناصر لدين الله - أمير المؤمنين - كتابا بالإنشاء العمادى، أوله: {" وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ (¬1)}، الحمد لله على ما أنجز من هذا الوعد، وعلى نصرته لهذا الدين الحنيف من قبل ومن بعد، وجعل من بعد عسر يسرا، وقد أحدث الله بعد ذلك أمرا، وهوّن الأمر الذى ما كان الإسلام يستطيع عليه صبرا، وخوطب الدين بقوله: ولقد مننا عليك مرة أخرى، فالأولى في عصر النبى والصحابة، والأخرى هذه التي عتق بها من ذل الكآبة، وهو قد أصبح حرّا ريّان الكبد الحرّا، والزمان كهيئته استدار، والكفر قد ردّما كان عنده من المستعار، فالحمد لله الذى أعاد الإسلام جديدا ثوبه، مبيضا نصره، مخضرا نصله، متسعا فضله، مجتمعا شمله. والخادم يشرح من نبأ هذا الفتح العظيم والنصر [282] الكريم ما يشرح صدور المؤمنين، ويمنح الحبور لكافة المسلمين، ويورد البشرى بما أنعم الله به من يوم الخميس الثالث والعشرين من ربيع الآخر إلى يوم الخميس سلخه، وتلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما، سخرها الله على الكفار، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، وإذا رأيت ثمّ رأيت البلاد على عروشها خاوية (¬2)، ورأيتها إلى الإسلام ضاحكة وكانت من الكفر باكية: فيوم الخميس الأول فتحت طبرية. ¬

(¬1) الآية 105 (ك)، السورة 21 (الأنبياء). (¬2) الأصل: «خالية» والتصحيح عن س (14 ب) والعماد (الروضتين، ج 2، ص 89).

ويوم الجمعة والسبت نوزل الفرنج فكسروا الكسرة التي ما لهم بعدها قائمة، وأخذ الله أعداءه بأيدى أوليائه، أخذ القرى وهى ظالمة. وفى يوم الخميس الثانى سلخ الشهر فتحت عكا بالأمان، ورفعت أعلام الإيمان، وهى أم البلاد، وأخت إرم ذات العماد. وقد أصدر هذه المطالعة وصليب الصلبوت مأسور، وقلب ملك الكفر الأسير بجيشه المكسور مكسور، والحديد الكافر الذى كان في يد الكفر يضرب وجه الإسلام قد صار حديدا مسلما يعوق خطوات الكفر عن الإقدام، وأنصار الصليب وكباره (¬1) وكل من العمودية عمدته والدير داره قد أحاطت به يد القبضة، وغلق رهنه فلا يقبل فيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وطبرية قد رفعت أعلام الإسلام عليها، ونكصت من عكاملّة (¬2) الكفر على عقبيها، وعمرت إلى أن شهدت يوم الإسلام وهو خير يوميها. وقد صارت البيع مساجد يعمرها من آمن بالله واليوم الآخر، وصارت المذابح مواقف لخطباء المنابر (¬3)، واهتزت أرضها لموقف المسلم فيها وطالما ارتجت لموقف الكافر. فأما القتلى والأسرى فإنها تزيد على ثلاثين ألفا (¬4). وأما فرسان الداويّة والاسبتارية فقد أمضى حكم الله فيهم، وقطعتهم سيوف نار الجحيم، ودخل الداخل منهم إلى الشقاء المقيم، وقتل الابرنس كافر الكفار، ونشيدة (¬5) النار من يده في الإسلام كما كانت يد الكليم. ¬

(¬1) س: «وكفاره»، وما بالمتن يتفق ونص العماد. (¬2) هذان اللفظان ساقطان من س. (¬3) الأصل وس: «الخطبا والمنابر» وما هنا عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 89). (¬4) س: «ثلاثين ألف فارس». (¬5) الأصل: «ونشده» والتصحيح عن العماد، أما س (14 ب) فإن النص فيها: «وصار إلى العذاب المقيم في النار».

ذكر فتح تبنين وصيدا وبيروت وجبيل

والمعاقل التي فتحت: طبريّة، عكا، الناصرة، صفورية، قيسارية، [283]، نابلس، حيفا، معليا، الفولة، الطور، الشقيف، وقلاع بين هذه كثيرة. الملك المظفر تقى الدين - ظفره الله - مضايق لصور و (1) حصن تبنين (¬1)، والأخ الملك العادل سيف الدين - نصره الله - قد كوتب بالوصول فيمن عنده من العساكر، وينزل في طريقه على غزة وعسقلان، ويجهز مراكب الأسطول المنصور إلى عكا. وما يتأخر النهوض إلى القدس، وهذا أوان فتحه، ولقد دام عليه ليل الظلام، وقد آن أن يسفر فيه الهدى عن صبحه ". ذكر فتح تبنين وصيدا وبيروت وجبيل قد ذكرنا منازلة (¬2) الملك المظفر تقى الدين عمر بتبنين، ولما ضايقها ولم يمكنه فتحها كتب إلى عمه السلطان يستدعيه ليتولاها بنفسه، فرحل السلطان من عكا ثامن جمادى الأولى من هذه السنة، ووصل إليها في حادى عشره، فحصرها وضايقها وزحف إليها وهى قلعة منيعة على رأس جبل، فلما اشتد عليهم الحصر راسلوا السلطان يطلبون منه الأمان (¬3)، واستمهلوه خمسة أيام لينزلوا بأموالهم، فأمهلوا (¬4)، وبذلوا رهائن من مقدميهم، وتقربوا بإطلاق الأسارى من المسلمين ¬

(¬1) هذان اللفظان ساقطان من س. (¬2) س: «السلطان الملك المظفر» وهذا خطأ. (¬3) بعد هذا اللفظ في س (15 أ): «فأجابهم إلى ذلك على قاعدة بينه وبينهم». (¬4) س: «فأنزلوا».

وهم يزيدون على مائة (¬1) رجل، فكساهم السلطان وسيرهم إلى أهلهم، ولما أخلى الفرنج البلد سيرهم السلطان إلى مأمنهم، ومعهم جماعة من العسكر، فأوصلوهم إلى صور، وتسلمها السلطان يوم الأحد لاثتى عشرة [ليلة] (¬2) بقيت من جمادى الأولى، وكان شرط عليهم تسليم العدد والدواب والخزائن [ففعلوا ذلك] (2). ولما فرغ من تبنين سار إلى صيدا، واجتاز في طريقه بصرفند، فأخذها بغير قتال، ثم سار إلى صيدا، فلما علم صاحبها مسيره إليها، سار عنها وتركها فارغة من غير ممانع ولا مدافع، وجاءت رسل صاحبها بمفاتيحها إلى السلطان، وطلعت أعلامه الصفر (¬3) على سورها (¬4)، وكان تسلمه لها لتسع بقين من جمادى الأولى. ثم سار السلطان إلى بيروت، فوصلها من الغد، فضايقها وحاصرها ثمانية أيام، ثم طلبوا الأمان وأمنهم، وتسلمها يوم الخميس التاسع والعشرين من جمادى الأولى. وذكر ابن الأثير: أن السلطان لما نازلها اغتر أهلها [284] بحصانة البلد وقوته، فمانعوا وقاتلوا، وزحف المسلمون إليها مرة بعد أخرى، وبينما الفرنج على السور يقاتلون إذ سمعوا من البلد جلبة عظيمة، وغلبة زائدة، فأتاهم من خبرهم أن البلد قد دخله المسلمون من الناحية الأخرى قهرا وغلبة، فأرسلوا يسألون ما الخبر، ¬

(¬1) س: «مائتى». (¬2) ما بين الحاصرتين عن س (15 أ). (¬3) هذه إشارة قيمة تدل على أن أعلام صلاح الدين كانت صفراء اللون. (¬4) بعد هذا اللفظ في س: «وأعطى لصاحبها جميع ما كان له فيها».

ذكر خروج المركيس إلى صور

وإذا ليس له صحة، وأرادوا تسكين من به، فلم يمكنهم ذلك لكثرة من اجتمع فيه من السواد، فلما خافوا على أنفسهم من الاختلاف راسلوا في طلب الأمان على أموالهم وأنفسهم، فأجيبوا [إلى ذلك] (¬1). وكان صاحب جبيل من جملة الأسرى الذين سيروا إلى دمشق مع ملكهم، فتحدث مع نائب السلطان بدمشق في تسليم جبيل على شرط إطلاقه، فعرف السلطان ذلك،، فأحضر إليه مقيدا تحت الاستظهار، والعسكر (2) إذ ذاك على بيروت (¬2)، فسلم حصنه، وأطلق أسرى المسلمين الذين به، وأطلقه السلطان كما شرط له، [وتسلمت بيروت بالأمان] (¬3) فانتظمت هذه البلاد كلها للمسلمين، وخلص من بها من الأسر. وذكر عماد الدين الأصفهانى - رحمه الله -: أنه خلص في هذه السنة من الأسرى (¬4) أكثر من عشرين (¬5) ألف أسير، ووقع في الأسر من الكفار مائة ألف أسير. ذكر خروج المركيس إلى صور لما انهزم القومص صاحب طرابلس من الوقعة - كما ذكرنا - سار أولا إلى مدينة صور، وهى من أقوى بلاد الساحل وأشدها حصانة، فلما ملك ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (15 أ). (¬2) النص في س: «وذلك على بيروت». (¬3) ما بين الحاصرتين عن س (15 ب)، والنص عند العماد (الروضتين، ج 2، ص 90): «وتبعها فتح بيروت وتلاها، فانتظمت هذه البلاد». (¬4) الأصل: «أسرى الكفر» ولا يستقيم بها المعنى، فالمقصود أسرى المسلمين، وقد صحح المتن بعد مراجعة الأصل المنقول عنه وهو العماد (الروضتين، ج 2، ص 89). (¬5) س: «ثلاثين» وما هنا يتفق ونص العماد.

السلطان تبنين وصيدا وبيروت خاف أن يقصد السلطان صور فيأخذها، لأنها فارغة ليس فيها من يقاتل ولا يقوى على حفظها، فسار إلى مدينة طرابلس، وهلك فيها - كما ذكرنا -، وكان - كما قيل -: " راح يبغى نجوة من هلاك فهلك ". وكان المركيس من أكبر طواغيت الكفر، وأغوى شياطينهم، داهية خبيثا، فخرج في هذه السنة من داخل البحر بمال كثير للزيارة (¬1)، ولم يشعر بما جرى على الفرنج، فأرسى بعكا، وظن أنها لهم، فلم يربها شيئا من عوائد الفرنج عند وصول المراكب من الفرح (¬2)، وضرب الأجراس وغير ذلك، فأنكر ما رأى من زى أهل البلد، فوقف ولم يدر ما الخبر، وكانت الريح قد ركدت، فأرسل الملك الأفضل نور الدين - وهو صاحب عكا - بعض أصحابه [285] في سفينة يبصر ما هو ومن هو وما يريد، فأتاه القاصد، فسأله المركيس عن الأخبار، فأخبره بكسر الفرنج، وأخذ عكا وغيرها، وأعلمه أن صور بيد الفرنج وعسقلان وغيرها، وحكى الأمر على جليته، فلم يمكنه الحركة لركود الريح، فأخذ في المخادعة، ورد الرسول يطلب الأمان ليدخل البلد بما معه من متاع ومال، فأجيب إلى ذلك، فرده مرارا كل مرة يطلب شيئا لم يطلبه في المرة الأولى، وهو يفعل ذلك انتظارا لهبوب الهواء ليسير به، فبينما هو في مراجعاته إذ هبت الريح، فسار نحو صور. وسير الملك الأفضل الثوانى (¬3) في طلبه فلم يدركوه، فأتى صور وقد اجتمع بها من الفرنج خلق كثير، لأن السلطان [كان] كلما فتح مدينة أعطى أهلها الأمان، فساروا كلهم إلى صور وكثر الجمع بها، إلا أنهم ليس لهم رأس ¬

(¬1) س: «لزيارة البيت المقدس». (¬2) الأصل: «الفرنج» والتصحيح عن س و (ابن الأثير، ج 11، ص 205). (¬3) أنظر ما فات هنا ص 13، هامش 1

ذكر فتح عسقلان وبلادها

يجمعهم ولا مقدم يقاتل بهم، وكانوا عازمين على مكاتبة السلطان وطلب الأمان منه، وتسليم البلد إليه، فأتاهم المركيس وهم على ذلك العزم، فردهم عنه، وقوّى نفوسهم، وضمن لهم حفظ البلد، وبذل ما معه من الأموال، وشرط عليهم أن تكون المدينة وأعمالها له دون غيره، فأجابوه إلى ذلك، وأخذ أيمانهم عليه، فأقام عندهم ودبر أحوالهم، وشرع في تحصين البلد، وتجديد حفر الخنادق له، وبنى الأسوار وحصنها. ذكر فتح عسقلان وبلادها ولما فرغ السلطان من صيدا سار إلى عسقلان، وكانت عنده أهم من غيرها، (¬1) لأنها على طريق الديار المصرية، فإذا أخذت أمنت الطريق واتصلت القوافل (1)، فتسلم قبلها في طريقه الرملة، وتبنين، وبيت لحم، والخليل، واجتمع بأخيه الملك العادل سيف الدين ومن معه من العساكر المصرية، ونازل عسقلان يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخر من هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة -. وكان السلطان قد أحضر ملك الفرنج ومقدم الداويّة إليه من دمشق، وقال لهما: " إن سلمتما البلاد إلىّ فلكما الأمان "؛ فأرسلا إلى من بعسقلان من الفرنج يأمرونهم بتسليم البلد، فلم يسمعوا أمرهما، وردوا عليهما أقبح رد، وجبهوهما [286] بما يسوءهما، فلما رأى السلطان ذلك جد في قتال المدينة، ونصب المنجنيقات عليها، وزحف مرة بعد أخرى، وتقدم النقابون إلى السور، فنالوا من باشورته (¬2) شيئا. ¬

(¬1) هذه الجملة غير موجودة في س. (¬2) أنظر ما فات هنا ص 81، هامش 1

ذكر فتح غزة وما معها من الحصون

هذا وملكهم يكرر المراسلات إليهم بالتسليم، ويشير عليهم، ويعدهم أنه إذا أطلق أضرم البلاد على المسلمين نارا، واستنجد بالفرنج من البحر، وأجلب الخيل والرجل عليهم من أقاصى بلاد الفرنج وأدانيها، وهم لا يجيبون إلى ما يقول، ولا يسمعون ما يشير به، ولما رأوا أنهم لا يزدادون كل يوم إلا ضعفا ووهنا، وإذا قتل الرجل لا يجدون له عوضا، ولا لهم نجدة ينتظرونها، راسلوا ملكهم المأسور في تسليم البلد على شروط اقترحوها، فأجابهم السلطان إليها، وكانوا قتلوا في الحصار الأمير حسام الدين إبراهيم بن حسين المهرانى، فخافوا عند مفارقة البلد أن تقتلهم عشيرته، فاحتاطوا فيما شرطوا لأنفسهم، فأجيبوا إلى ذلك جميعه، وسلموا البلد في سلخ جمادى الآخرة، وكانت مدة مقام الحصار أربعة عشر يوما، وسيرهم السلطان ونساءهم وأولادهم إلى البيت المقدس. ذكر فتح غزة وما معها من الحصون وما برح السلطان مقيما بظاهر عسقلان حتى تسلم حصون الداويّة، وهى: غزة والنطرون، وبيت جبريل. وكانت مدة مقام عسقلان بيد الفرنج خمسا وثلاثين سنة فإن الفرنج ملكوها من المصريين لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. ووصل إلى السلطان وهو نازل بظاهر عسقلان ولده الملك العزيز عماد الدين عثمان، فقرت عينه به. وكان السلطان قد استدعى من مصر الأساطيل المنصورة.

ذكر فتح بيت المقدس

وقال العماد: " فجاءت كالفتح بالفلك المواخر، وجاءت كأنها أمواج تلاطم أمواجا، وأفواج تزاحم أفواجا، تدب على البحر عقاربها، وتخب كقطع الليل سحائبها، والحاجب لؤلؤ مقدمها ومقدامها، وضرغام غايتها وهمامها، فطفق يكسر ويكسب، ويسل ويسلب، ويقطع الطريق على سفن العدو ومراكبه، ويقف له في جزاير البحر على مذاهبه ". [273] ذكر فتح بيت المقدس وحين خلا سر السلطان من فتح عسقلان وما حولها، ووصل الأسطول، سار متوجها إلى البيت المقدس وبه البترك المعظم (¬1)، وهو عندهم أعظم شأنا من ملكهم، وبه أيضا بليان (¬2) بن بارزان - صاحب الرملة -، ومرتبته عندهم تقارب مرتبة الملك، وبه أيضا من خلص من فرسانهم من حطين [وغيرها] (¬3) وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل عسقلان ونواحيها إليهم [وهم] (3) يرون أن الموت أيسر عليهم من أن يملك المسلمون عليهم البيت المقدس، إذ هو بيت معبودهم، ومحل تجسد (¬4) ناسوتهم، - كما زعموا - بلاهوتهم، وفيه قمامة التي يدعونها القيامة، ومحل ضلالتهم، وقبلة جهالتهم، وفيها زعموا أن المسيح [عليه السلام] (3) دفن بعد الصلب، وقام بعد ثلاث (¬5) ¬

(¬1) الأصل: «الأعظم» والتصحيح عن س (17 ب) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 206) وهو المرجع المنقول عنه هنا. (¬2) هو بليان الثانى الإبلينى (Balain II of Ibelin) والاسم في ابن الأثير: «باليان بن بيرزان». (¬3) ما بين الحاصرتين عن س. (¬4) هذا اللفظ ساقط من س. (¬5) في س (17 ب): «ذلك».

من القبر، وصعد إلى السماء، فهم يعتقدون أن بذل الأنفس والأموال والأولاد بعض ما يجب عليهم في حفظه والذبّ عنه، فحصنوه في تلك الأيام بكل ممكن، ونصبوا المنجنيق على السور ليمنعوا ممن يريد النزول عليه والدنو منه. ولما قرب السلطان منه تقدم الأمير جمال الدين شروين بن حسن الزرزارى في جماعة من أصحابه، غير محتاط ولا حذر، فلقيه جماعة من الفرنج قد خرجوا من القدس ليكونوا يزكا (¬1)، فقتلوه وقتلوا جماعة ممن معه، فأهم المسلمين فقده، وفجعوا بقتله. وسار السلطان في عساكر المسلمين حتى نزل على القدس يوم الأحد خامس عشر رجب، ونزل بالجانب الغربى، وكان مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة، لقد تحاذر [كذا] أهل الخبرة عدة من كان فيه من المقاتلة، بما يزيد على ستين ألفا ما عدا النساء والصبيان. وبقى السلطان خمسة أيام يطوف حول البلد، لينظر من أين يقاتله، لأنه في غاية الحصانة والامتناع، فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو [باب عمود أو كنيسة صهيون] (¬2)، فانتقل إلى هذه الناحية يوم الجمعة لعشر بقين من رجب، ونصب عليها المنجنيقات، وأصبح العدو وقد فرغ من نصبها، ورمى بها؛ ونصب العدو على سور البلد منجنيقات ورموا بها، وتقاتل الفريقان أشد قتال رآه الناس، وكل [288] منهم يراه فرضا واجبا في دينه، لا يحتاج فيه إلى باعث سلطانى، بل كانوا يمنعون فلا يمتنعون ويزجرون فلا ينزجرون. وكانت خيالة (¬3) الفرنج يخرجون كل يوم إلى ظاهر البلد فيقاتلون ويبارزون، فيقتل من الفريقين جماعة، فممن استشهد من المسلمين على القدس الأمير ¬

(¬1) راجع ما فات هنا ص 38، هامش 3 (¬2) الأصل وس: «باب عمودا» والتصحيح عن (ابن الأثير، ج 11، ص 207). (¬3) كذا في الأصل وفى ابن الأثير، وفى س: «رجالة».

عز الدين عيسى بن شهاب الدين بن مالك العقيلى، الذى كان أبوه صاحب قلعة جعبر، وكان يصطلى القتال بنفسه كل يوم، فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم، وحملوا حملة رجل واحد، فأزالوا الفرنج عن مواقفهم، وأدخلوهم بلدهم، ووصل المسلمون إلى الخندق، فجاوزوه والتصقوا بالسور فنقبوه، وزحف الرماة يرمونهم، والمجانيق توالى الرمى، ليكشف العدو عن السور، ليتمكن المسلمون من النقب، فلما نقبوه حشوه [بالأخشاب] (¬1) ولما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين، وتحكم المنجنيقات في السور، وتمكن النقابين من النقب، وأنهم قد أشرفوا على الهلاك، اجتمعوا يتشاورون فيما يأتون ويذرون (¬2)، فاتفق رأيهم على طلب الأمان، وتسليم القدس للسلطان، فأرسلوا جماعة من كبرائهم في طلب الأمان وتسليم القدس للسلطان، وامتنع السلطان من إجابتهم للأمان وقال: " لا أفعل إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه [من المسلمين] (¬3) سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبى، وجزاء السيئة بمثلها (¬4) ". فلما رجع الرسل خائبين محرومين أرسل باليان بن بارزان يطلب الأمان لنفسه، ليحضر عند السلطان في هذا الأمر وتحريره، فأجيب إلى ذلك، وحضر ورغب في الأمان، وسأل فيه فلم يجبه إلى ذلك، فاستعطفه فلم يعطف عليه، واسترحمه فلم يرحمه، فقال له: ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (18 ا)، والنص في ابن الأثير: «حشوه بما جرت به العادة»، والنص عند العماد (الروضتين، ج 2، ص 94): «والتصقوا بالسور فنقبوه، وعلقوه وحشوه وأحرقوه». (¬2) س: «ويدبرون». (¬3) ما بين الحاصرتين عن س. (¬4) س: «وجزاء السيئة سيئة مثلها» وما هنا يتفق ونص (ابن الأثير، ج 11، ص 207) وهو الأصل المنقول عنه هنا.

" أيها الملك: اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم (¬1) إلا الله تعالى، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ظنا منهم أنك تجيبهم إليه، كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت، ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا الموت لابد منه فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا، ونحرق ما نملكه من أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منا دينارا ولا درهما، ولا تأسرون رجلا ولا امرأة، فإذا فرغنا من ذلك كله أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى، وغيرهما من المواضع الشريفة، [289] ثم نقتل من عندنا من أسرى المسلمين، وهم خمسة (¬2) آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيوانا إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم، وقاتلنا قتال من يريد أن يحمى دمه ونفسه، وحينئذ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله، ونموت عزاء ونظفر كراما (¬3) ". فاستشار السلطان أصحابه، فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان، وأن لا يخرجوا وبحملوا على ما لا ندرى عاقبة الأمر فيه، وعن أي شىء ينجلى الأمر، وقالوا: " نحسب أنهم أسارى بأيدينا، فنبيعهم نفوسهم بما يستقر بيننا وبينهم ". فأجاب السلطان إلى بذل الأمان للفرنج، واشترط: أن يزن كل رجل عشرة دنانير، يستوى فيها الغنى والفقير، وتزن المرأة خمسة دنانير، ويزن الطفل من الذكور والإناث دينارين، فمن أدّى ذلك إلى أربعين يوما نجا، ومن انقضت الأربعون يوما ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكا. فبذل الملك باليان بن بارزان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار، فأجيب إلى ذلك. ¬

(¬1) س: «لا يعلم عددهم». (¬2) س: «ستة» وما هنا يتفق والأصل المنقول عنه وهو (ابن الأثير: الكامل، ج 11 ص 208). وأنظر أيضا العماد (الروضتين، ج 2، ص 95). (¬3) س: «ونموت أعزاء كراما ولا نموت أذلاء لئاما»، والنص هنا يتفق ونص ابن الأثير.

وسلمت المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من رجب من هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - وكان ذلك اليوم مشهودا، ورفعت الأعلام الإسلامية على الأسوار، ورتب السلطان على كل باب من أبواب البلد أمينا من الأمراء، ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم، فاستعملوا الخيانة، ولم يؤدوا الأمانة، واقتسم الأمناء الأموال، وتفرقت أيدى [سبا] (¬1)، ولو أديت فيها الأمانة، لملأت الخزائن، فإنه كان فيه ستون ألفا، ما بين فارس وراجل، سوى ما يتبعهم من النساء والولدان والأطفال، وأطلق باليان بن بارزان ثمانية عشر ألف [رجل] (¬2)، ووزن عنهم ثلاثين ألف دينار، وبقى بعد هذا كله من لم يكن معه ما يعطى وأخذ أسيرا ستة عشر (¬3) ألف آدمى ما بين رجل وامرأة وصبى، وهذا بالضبط اليقين. ثم إن كل واحد من الأمراء وأصحاب الأطراف ادعى أن جماعة من رعية إقطاعه مقيمون بالقدس، فكان يطلقهم ويأخذ منهم القطيعة، كمظفر الدين بن زين الدين، ادعى أن جماعة من أهل الرّها بالقدس، وعدتهم ألف نفس؛ وكذا صاحب البيرة، ادعى أن فيه جماعة من أهل بلده من الأرمن، وعدتهم خمسمائه نفس. وكان جماعة من الأمراء يلبسون الفرنج زىّ الجند [290] من المسلمين ويخرجونهم ويأخذون منهم قطيعة قرروها، واستوهب جماعة من السلطان عددا من الفرنج، فوهبهم لهم، فأخذوا قطيعتهم. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س وابن الأثير. (¬2) ما بين الحاصرتين عن (ابن الأثير، ج 11، ص 208)، والنص في س: «وأطلق باليان بن بارزان ثلاثة الاف رجل ووزن عنهم سنين ألف دينار». (¬3) س (19 ا): «ستة الاف» وما هنا يتفق والأصل المنقول عنه وهو ابن الأثير.

وكان في القدس بعض نساء ملوك الروم وقد ترهبت وأقامت به، ومعها من الحشم والعبيد والجوارى خلق كثير، ولها من الأموال والجواهر النقيسة شىء عظيم، فطلبت الأمان لنفسها ولمن معها، فأمنها وسيرها. وكذلك خرجت زوجة الملك المأسور [كى] (¬1) وهى ابنة الملك أمارى، وكانت مقيمة بالقدس مع مالها من الخدم والخول (¬2) والجوارى، فاستأذنت السلطان في الاجتماع بزوجها، وكان مقيما في برج نابلس، موكلابه، فأذن لها في ذلك، فتوجهت إليه وأقامت عنده (¬3). وأتت أيضا امرأة الابرنس أرناط - صاحب الكرك - الذى قتله السلطان بيده يوم حطّين، فشفعت في ولد لها مأسور، فقال لها السلطان: " إن سلمت الكرك أطلقته "؛ فسارت إلى الكرك، فلم يسمع منها الفرنج الذين فيه، ولم يسلموه، فلم يطلق ولدها، لكنه أطلق مالها ومن يتبعها. وخرج البطرك الكبير الذى للفرنج، ومعه من أموال البيع - منها الصخرة والأقصى وقمامة - مالا يعلمه إلا الله تعالى، وكان له من المال مثل ذلك، فلم يعرض له السلطان، فقيل له: " خذ ما معه لتقوى به المسلمين " فقال: " لا أغدر به "؛ ولم يأخذ منه غير عشرة (¬4) دنانير، وسيّر الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س، والعماد (الروضتين، ج 2، ص 96). (¬2) س: «الخيول» وما هنا يتفق والنص المنقول عنه وهو العماد (المرجع السابق). (¬3) في س (19 ب) بعد هذا اللفظ: «إلى أن خلصا جميعا». (¬4) س: «عشرين دينارا»، وما هنا يتفق ونص (ابن الأثير، ج 11، ص 208).

وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير (¬1) من ذهب، فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلق جماعة منهم إلى أعلا القبة ليقتلعوا الصليب، فحين صعدوا نظر المسلمون إليهم والأفرنج لينظروا ماذا يصنعون، فلما قلعوه وسقط، صاح الناس كلهم صوتا واحدا، من البلد ومن ظاهره، المسلمون والفرنج، أما المسلمون فكبّروا فرحا، وأما الفرنج فصاحوا توجعا وتفجعا، فسمع الناس صيحة كادت الأرض تميد بهم لعظمها وشدتها، ولم يتأت صلاة الجمعة يوم الفتح، وضاق الوقت [291] لأدائها. وكان المسجد الأقصى - لاسيما (¬2) محرابه - مشغولا بالخنازير والخبث، وما أحدثوه من الأبنية؛ فإن الداويّة بنوا غربى الأقصى أبنية ليسكنوها، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هرى (¬3) ومستراح، وغير ذلك، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم، وبنوا في وجه المحراب جدارا، وتركوه هريا للغلة، وقيل اتخذوه مستراحا عنادا للإسلام وبغيا، فأمر السلطان بإزالة ما أحدثوه من البنيان، وكشف الجدار الساتر للمحراب، وتنظيفه وما حوله من الأقذار والنجاسات، ونصب المنبر لإقامة الخطبة الإسلامية، ونقض ما أحدثوه بين (¬4) السوارى، وبسط صحن الجامع بالبسط النفيسة بدل الحصر والبوارى، وتعليق القناديل وإقامة شعار الدين. ¬

(¬1) هو صليب الصلبوت، وقد وصفه العماد (الروضتين، ج 2، ص 78) بقوله: «وهم يزعمون أنه من الخشبة التي يزعمون أنه صلب عليها معبودهم، وقد غلفوه بالذهب الأحمر وكللوه بالدر والجوهر. . . الخ»، أنظر أيضا ما فات هنا ص 189 هامش 1 (¬2) هذا اللفظ ساقط من س. (¬3) الهرى، والجمع «اهراء» و «هرى» البيت الكبير الضخم تخزن فيه الغلال أو طعام السلطان أنظر: (اللسان) و (المقريزى، إغاثة الأمة، نشر زيادة والشيال، ص 28). (¬4) الأصل: «ما أحدثوا من السوارى» وس (20 ا): «وخفض ما أحدثوا من السوارى» والتصحيح عن الأصل المنقول عنه هنا وهو العماد (الروضتين، ج 2، ص 108).

ذكر أول خطبة خطب بها ببيت المقدس بعد الفتح

ذكر أول خطبة خطب بها ببيت المقدس بعد الفتح ولما كان يوم الجمعة التالية لجمعة الفتح، وهو الرابع من شعبان، حضر المسلمون الحرم الشريف، فغصّ بالزحام، فإنه من حين (¬1) تسامع الناس به في سائر الأطراف، وكسر العدو، والقصد إلى فتح بيت المقدس، توافى الناس من كل صقع، وجاءوا من كل فج، ليفوزوا بالزيارة ويحظوا بالمشاهدة للفتح، فاجتمع من أهل (¬2) الإسلام عدد عظيم لا يقع عليهم الإحصاء، فلما أذّن الظهر من يوم هذه الجمعة المباركة حضر السلطان بقبة الصخرة المقدسة وهو في غاية السرور والفرح، إذ جعله الله تعالى في هذا الفتح ثانيا لعمر بن الخطاب - رضى الله عنه - الفاتح الأول وميّزه بهده المنقبة دون سائر الملوك من ملوك الإسلام (¬3). وامتلأت عراص المسجد وصحونه بالخلائق، واستعبرت العيون من شدة الفرح، وخشعت الأصوات، ووجلت القلوب، وكان جماعة من الأكابر والعلماء قد رشحوا أنفسهم للخطبة في هذا المسجد المعظم، وأخذوا لذلك أهبته وألّفوا ما يخطبون به، ومنهم من عرض للسلطان يطلب ذلك، ومنهم من صرح، والسلطان ساكت لا يبدى سره، فلما حان وقت الخطبة نصّ على القاضى محيى الدين بن زكى الدين، ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من س. (¬2) س: «أعمال». (¬3) س: «دون سائر ملوك المسلمين».

وقدمه لهذا الأمر الجليل، فرقى (¬1) المنبر بالأهبة السوداء العباسية، وخطب خطبة بديعة بليغة، هى: [292] {" فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ "} (¬2). " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين " (¬3). {" الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ (¬4)} ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ " (¬5). {" وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً (4)} وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً " (¬6). " الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب (4) ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا، ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا " (¬7). ¬

(¬1) الأصل وس: «فرقا». (¬2) السورة 6 (الأنعام)، الآية 45 (ك). (¬3) السورة 1 (الفاتحة): الآية 2 (ك). (¬4) بعد هذا اللفظ في الأصل: «الآية» أي أن الناسخ لم يشأ أن يتم الآية اختصارا، وقد أتمها صاحب شفاء القلوب (ص 35 ا)، وقد آثرنا نحن ايضا إتمامها هنا. (¬5) السورة 6 (الأنعام)، الآية 1 (ك). (¬6) السورة 17 (الإسراء)، الآية 111 (ك). (¬7) السورة 18 (الكهف)، الآيات 1 - 5 (ك) هذا ولم يتم صاحب شفاء القلوب هذه الآيات كذلك وإنما وقف عند لفظ «قيما» ثم قال، إلى قوله «كذبا» فأتممنا الآيات ليكمل النص.

{" قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اِصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ (¬1)} ". " الحمد لله الذى له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور " (¬2). {" الْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً "} (¬3). الحمد لله معز الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذى قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع؛ والحاكم بما يريد فلا يدافع. أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره، وتطهير بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه. ¬

(¬1) السورة 27 (النمل)، الآية 59 (ك). (¬2) السورة 34 (سبأ)، الآيتان 1، 2 (ك). (¬3) السورة 35 (فاطر)، الآية 1 (ك). وهذه الآية لم تذكر في نص الخطبة في نسخة س.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دافع الشرك، وداحض الإفك، الذى أسرى بعبده ليلا (¬1) من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرّج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى. صلى الله عليه وعلى خليفته أبى بكر الصديق، السابق إلى الإيمان؛ وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان؛ وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذى النورين جامع القرآن؛ وعلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب، مزلزل الشرك ومكسر الأوثان؛ وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. أيها الناس: أبشروا برضوان الله الذى هو الغاية القصوى، والدرجة العليا، لما يسّره الله على أيديكم [293] من استرداد هذه الضالة، من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدى المشركين قريبا من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذى أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه، بعد أن امتد عليها رواقه (¬2) واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بنى عليه، وإنه أسس بالتقوى من خلفه ومن بين يديه، وهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد عليهما السلام، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، ومقر الرسل، ومهبط الوحى، ومنزل تنزل الأمر والنهى، وهو في أرض المحشر، وصعيد المنشر (¬3)، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من الأصل. (¬2) س: " امتد عليه رفاقه " وهو خطأ، وما هنا يتفق ونص الخطبة في (الروضتين، ج 2، ص 110). و (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 35 ب). (¬3) س: " المنتشر ". وما هنا يتفق والنص في المرجعين السابقين.

وهو المسجد الذى صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالملائكة المقربين، وهو البلد الذى بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى، الذى شرّفه الله برسالته، وكرّمه بنبوته (¬1)، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته (1)، فقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ} (¬2) وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ} (¬3). وهو أول القبلتين، وثانى المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار (¬4)، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوح (¬5) العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات (¬6) الخالدية. فجزاكم الله عن محمد نبيه أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منا ومنكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهى دار السعداء، فاقدروا - رحمكم الله - هذه النعمة [294] ¬

(¬1) هذه الجملة غير موجودة في س (21 ا) ولا في (شفاء القلوب)، ولكنها موجودة في الروضتين. (¬2) السورة 4 (النساء)، الآية 172 (م). (¬3) السورة 5 (المائدة)، الآية 17 (م). (¬4) كذا في الأصل وفى الروضتين، وفى س والشفاء: " ولا يماريكم في شرفها ممار ". (¬5) كذا في الأصل وفى الروضتين، وفى س والشفاء، " والفتوحات ". (¬6) كذا في الأصل والروضتين؛ وفى س والشفاء (36 ا): " والهمات ".

حقّ قدرها، وقوموا لله بواجب شكرها، فله النعمة (¬1) عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذى فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقرّبه عينا (¬2) الأنبياء والمرسلون، فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذى يفتح عليه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذى يقوم بسيوفهم بعد فترة من الرسل (¬3) أعلام الإيمان، فيوشك أن تكون التهانى به بين أهل الخضراء أكثر (¬4) من التهانى به بين أهل الغبراء. أليس هو البيت الذى ذكره الله في كتابه، ونصّ عليه في خطابه؟ فقال تعالى: {" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى "} (¬5) أليس هو البيت الذى عظمته الملوك، وأثنت عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة من إلهكم عز وجل؟ أليس هو البيت الذى أمسك الله عز وجل فيه الشمس على يوشع لأجله أن تغرب، وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب؟ أليس هو البيت الذى أمر الله [تعالى] موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب عليهم من أجله، وألقاهم في التيه عقوبة العصيان؟ ¬

(¬1) كذا في الأصل والروضتين، وفى س والشفاء: " المنة ". (¬2) الأصل: " وقرت به أعين الأنبياء والمرسلون "، وفى س: " وقره عين الأنبياء المرسلون "، وما هنا صيغة (الروضتين، ج 2، س 111)، وهى أصح. (¬3) كذا في المراجع الثلاثة، وفى الروضتين: " النبوة ". (¬4) الأصل وس: " لأكثر " والتصحيح عن المرجعين الآخرين. (¬5) السورة 17 (الإسراء)، الآية 1 (ك).

فاحمدوا لله الذى أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضلهم (¬1) على العالمين، ووفقكم لما خذل عنه أمم ممن كان قبلكم من الأمم الماضية، وجمع كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى فلينهكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنودا لأهويتكم جنده، وشكر لكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد، ونشر التقديس والتحميد (¬2)، وما أمطتم فيه عن طرقهم من أذى الشرك والتثليث، والاعتقاد الفاسد الخبيث، فهو (¬3) الآن يستغفر (¬4) لكم أملاك السموات، ويصلى (4) عليكم الصلوات المباركات. فاحفظوا - رحمكم الله - هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم، واحذروا من اتباع [295] الهوى، ومواقف (¬5) الردى، ورجوع القهقرى، والنكول عن العدى، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقى من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا أنفسكم عباد الله في رضاه إذ (¬6) جعلكم من عباده (¬7)، وإياكم أن ¬

(¬1) س وحدها: " وقد فضلتم "، وهو خطأ. (¬2) كذا في الأصل والروضتين، وفى س: " والتمجيد "، وفى الشفاء (36 ب): " والتمجيد والتحميد ". (¬3) الأصل: " فهذا الان "، وفى الروضتين والشفاء: " والآن " وما هنا صيغة س. (¬4) الأصل: " تستغفر " و " تصلى " (¬5) كذا في الأصل، وفى س والشفاء: " ومرافقة "، وفى الروضتين: " وموافقة ". (¬6) كذا في الأصل والروضتين، وفى س والشفاء: " الذى ". (¬7) كذا في الأصل والشفاء؛ وفى س: " من عباده الذين اصطفى "، وفى الروضتين: " من خير عباده ".

يستذلكم الشيطان، وأن يتداخلكم الطغيان، فيخيل إليكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وبخيولكم الجياد، وبجلادكم في موضع الجلاد، والله ما النصر إلا من عند الله، [إن الله عزيز حكيم] (¬1). واحذروا - عباد الله - بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل، والمنح الجزيل، وخصكم بهذا النصر المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين، أن تقترفوا كثيرا من مناهيه، وأن تأتوا عظيما من معاصيه، فتكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، والذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين، والجهاد الجهاد، فهو أفضل عباداتكم وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا (¬2) في حسم الداء، وقطع شأفة الأعداء، وتطهير بقية الأرض التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية والملة المحمدية. الله أكبر، فتح الله ونصر، وغلب الله وقهر، وأذل الله من كفر. واعلموا - رحمكم الله - أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، ومهمة فأخرجوا إليها هممكم وأبرزوها، وسيروا (¬3) إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهم مثلكم أو دون، فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال تعالى: {" إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ "} (¬4) ¬

(¬1) الأصل: " من عند الله العزيز الحكيم "، والتصحيح عن المراجع الثلاثة الأخرى. (¬2) كذا في الأصل والروضتين، وفى س (22 ا) والشفاء: " خذوا ". (¬3) الأصل: " واسروا " والتصحيح عن المراجع الثلاثة الأخرى. (¬4) السورة 8 (الأنفال)، الآية 65 (م).

أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره، وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده، {" إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ "} (¬1). ثم أتم الخطبة الأولى وجلس. ثم قام وخطب الثانية كما جرت العادة: [296] ثم دعا للخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، ثم قال: " اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، والمحامى عن دينك الدافع، والذابّ عن حرمك [وحرم رسولك] (¬2) الممانع، السيد الأجل (¬3) الملك الناصر جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس، أبى المظفر يوسف [صلاح الدين] بن أيوب، محيى دولة أمير المؤمنين. اللهم عمّ بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفى جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه. اللهم أبق للإسلام مهجته، ووق للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته. اللهم فكما فتحت على يديه البيت المقدس، بعد أن ظنت [به] الظنون، وابتلى المؤمنون، فافتح على يديه دانى الأرض وقواصيها، وملكه صياصى الكفر ¬

(¬1) السورة 3 (آل عمران)، الآية 160 (م). (¬2) ما بين الحاصرتين عن س (22 ب)، والشفاء (ص 37 ا). (¬3) بعد هذا اللفظ في س والشفاء " والكهف الأطل ".

وتوصيها؟؟؟، فلا تلقى؟؟؟ منهم كتيبه إلا مرفها ولا جماعة؟؟؟ ولا فرقها؟؟؟ (¬1)، (¬2) ولا طائفة بعد طائفة (¬3) إلا ألحفها؟؟؟ بمن؟؟؟ سبقها. اللهم اشكر عن محمد - صلى الله عليه وسلم - سعيه، وأنفد في المشارق والمغارب أمره ونهيه، وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها وأرجاء الممالك وأكنافها. اللهم ذلل به معاطس (¬4) الكفار، وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، واثبت سرايا جنوده في سبيل الأقطار. اللهم ثبت الملك فيه وفى عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبنى أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقص باعزاز أوليائه وأوليائهم. اللهم فكما أجريت على يده في الإسلام (¬5) هذه الحسنة التي تبقى على الأيام، وتتخلد على مرور الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدى الذى لا ينفد في دار المتقين، وأجب دعوته ودعاءه في قوله: {" رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ [297] فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ "} (¬6). ثم دعا بما جرت به العادة، ونزل وصلى بالناس صلاة الجمعة. ¬

(¬1) بعد هذا اللفظ في س والشفاء: " بقوتك ". (¬2) بعد هذا اللفظ في س والشفاء " بعزتك ". (¬3) بعد هذا اللفظ في س فقط: " بقهرك ". (¬4) بعد هذا اللفظ في س والشفاء: " أناف ". (¬5) هذا هو نص الأصل والروضتين، وفى س والشفاء " وكما أحربت على يديه لمعونتك هذه الحسنة التي يبقى على الأيام " وهى حملة مصط؟؟؟ به المعنى؟؟؟ (¬6) السورة 27 (النمل) الآية 9 (ك)

ذكر نقل المنبر الذى أنشأه نور الدين - رحمه الله - إلى البيت المقدس

ولما قضيت الصلاة نصب سرير الوعظ [وتقدم السلطان صلاح الدين إلى زين الدين الواعظ] (¬1)، فجلس وذكر الفتح، وفضائل الأرض المقدسة، والصخرة وما ورد فيها من الأخبار والآثار، فجلب بعبارته العبرات، وشار (¬2) العسل بمعسول الإشارات. ثم خطب محيى الدين بالبيت المقدس بعد هذه الخطبة ثلاث خطب كلها من إنشائه. ذكر نقل المنبر الذى أنشأه نور الدين - رحمه الله - إلى البيت المقدس لما فتح السلطان القدس أمر بعمارة المحراب الغربى (¬3) القديم وترخيمه، ووضع منبر رسمى ليقام عليه الفرض، واحتيج بعد ذلك إلى منبر حسن فائق لائق بذلك المكان، وكان نور الدين محمود - رحمه الله - قد أنشأ منبرا برسم الأقصى قبل فتح القدس بنيف وعشرين سنة، لأنه - رحمه الله - كانت أطماعه متعلقة بفتح القدس، وأمانيه لم تزل تحدث به، وكان بحلب رجل نجار يقال له " الأخترينى " من ضيعة تعرف بأخترين، لم يكن له نظير في صناعته، فأمره نور الدين بعمل منبر لبيت المقدس، فقال له: " اجتهد أن تأتى به على أحسن نعت يمكن، وأحكمه "، فجمع الصناع، وبالغ في إتقانه وصنعته، وأتمه في سنتين، ثم اتفق أن جامع حلب في الأيام النورية أحرق واحتيج ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (23 ا) يتضح بها المعنى، راجع أيضا العماد (الروضتين، ج 2، ص 109). (¬2) الأصل: " وشاب " والتصحيح عن العماد. (¬3) الأصل: " الحزاب العمرى " وما هنا عن س.

ذكر ما أزاله السلطان [صلاح الدين] من آثار الشرك بالبيت المقدس

إلى منبر، فنصب ذلك المنبر، وتولى ذلك النجار عمل محراب حلب مشابها للمنبر في الرسم، ومن رأى الآن محراب حلب، شاهد (¬1) فيه مثال المنبر المقدسى. فلما منّ (¬2) الله سبحانه على السلطان الملك الناصر بفتح بيت المقدس تقدم بحمل المنبر من حلب، فحمل ونصب بالمسجد الأقصى، وهو الآن منصوب. ثم أمر صلاح الدين فعمل لجامع حلب منبر شبه المحراب والمنبر الذى في القدس، فكان كما أراد (¬3). ذكر ما أزاله السلطان [صلاح الدين] من آثار الشرك بالبيت المقدس وكان الفرنج قد بنوا على الصخرة المقدسة كنيسة، وستروها بالأبنية، وغيّروا أوضاعها، وملؤوها بالصور، وندبوا في ترخيمها أشباه الخنازير، ونصبوا عليها مذبحا، وعينوا بها مواضع للرهبان، ومحط الإنجيل، وأفردوا فيها لموضع القدم قبة صغيرة مذهبة بأعمدة الرخام؛ فأمر السلطان بمحو تلك الآثار كلها، وأزال عن الصخرة تلك الأبنية، فأبرزها للعيون، ولم يكن يظهر منها قبل الفتح إلا قطعة منها، وكان الفرنج قد قطعوا [298] منها قطعا وحملوا منها إلى قسطنطينية (¬4)، ونقلوا منها إلى جزيرة صقلية، وقيل كانوا يبيعونها بوزنها ذهبا، وقيل إن بعض ملوكهم تقدم بستر الصخرة إشفاقا عليها من القطع، فتولى إصلاحها والقيام بأمرها الفقيه ضياء الدين عيسى الهكارى، وأدار عليها شبابيك من حديد. ¬

(¬1) الأصل: " شاهد مثال فيه مثال " وقد حذفت مثال الأولى ليستقيم المعنى، وفى س: " شابهه فيه مثال ". (¬2) الأصل: " منا " والتصحيح عن س (23 ب). (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (23 ب). (¬4) الأصل: " قسطنطانية ".

وأحضر الملك المظفر تقى الدين - رحمه الله -[إلى] (¬1) قبة الصخرة أحمالا من ماء الورد وتولى بيده كنس ساحاتها وعراصها، ثم غسلها بالماء مرارا حتى تطهرت، ثم أفاض عليها ماء الورد، ثم طهّر حيطانها، وغسل جدرانها، ثم بخرها (¬2) بمجامر الطيب، وفرق مالا كثيرا على الفقراء. وجاء الملك الأفضل - رحمه الله - ببسط نفيسه (¬3)، ففرشها فيها. ورتب السلطان في الجامع الأقصى من يقوم بوظائف الخطبة والإمامة، ورتب في قبة الصخرة إماما حسنا، ووقف عليها (¬4) دارا وأرضا وبستانا، وحمل إليها وإلى المحراب والمسجد الأقصى مصاحف وختمات وربعات منصوبة على الكراسى، ورتب القومة والمؤذنين، وجدّد بهما شعار الدين. ثم عين كنيسة صندحنّه (¬5) مدرسة للفقهاء الشافعية، ووقف عليها وقوفا جليلة، وعيّن دار البطرك (¬6) رباطا للفقراء وكان لأمراء (¬7) الأفرنج ومقدمبهم مقابر مجاورة للصخرة وباب الرحمة [و] (¬8) قباب معمورة فأزالها ومحا آثارها. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة الأصل المنقول عنه هنا باختصار وهو العماد الاصفهانى في البرق الشامى (الروضتين ج 2، ص 114). (¬2) الأصل: " بخربها "، وقد صححت بعد مراجعة المرجع السابق وس. (¬3) هذا اللفظ ساقط من س. (¬4) الأصل: " عليه " والتصحيح عن س والمرجع السابق. (¬5) الأصل: " صيدحنه " والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 114) والمقصود كنيسة " القديسة حنا أو سنت آن " وقد ذكر العماد أن موقع هذه الكنيسة كان عند باب أسباط، أما نسخة س، فالنص فيها: " ثم بنى مدرسة جليلة للفقهاء الشافعية " دون أن يشير إلى الكنيسة. (¬6) حدد العماد (المرجع السابق) موضع هذه الدار فقال: " وهى بقرب كنيسة قمامة ". (¬7) الأصل: " الأمراء ". (¬8) أضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة العماد، وذلك ليستقيم المعنى.

وأمر باغلاق كنيسة قمامة، وحرم على النصارى زيارتها. وشاور أصحابه فيما يعتمده في أمرها، فمنهم من أشار بهدمها وتعفية آثارها، وقالوا: «[إذا] (¬1) هدمت القبة ونبشت المقبرة، وحرثت (¬2) أرضها وعفت، انحسمت (2) عن قصدها مواد أطماع الكفار، ومهما بقيت كانت الزيارة مستمرة»؛ وقال أكثر الجماعة: «لا فائدة في هدمها، فإن متعبدهم موضع الصليب والمقبرة لا ما نشاهد من البناء، فلو نسفت أرضها في السماء لما انقطع عنها قصد أهل دين النصرانية؛ ولمّا فتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - البيت المقدس في صدر الإسلام أقرهم على هذا المكان ولم يأمر بهدمه»، فأعرض السلطان عن هدمها؛ ثم تقرر بعد ذلك على من يدخلها منهم قطيعة يؤديها. قلت: ولهم في هذا المكان ضلالة تقع في كل سنة في اليوم الذى يليه يوم فصحهم، وهو أنه يزعمون أن نورا ينزل من السماء، ولقد كذبوا [299] وافتروا، وإنما هو تدليس وتلبيس من بتركهم، يغرّ به ضعفاء العقول ويستدرجهم به إلى ضلالتهم وغيهم (¬3)، ولقد حضرت في زمن الصبى يوم سبت النور هذه الكنيسة مرارا على سبيل التفرج، فكنت أجدهم يعكفون على القبة الصغيرة التي فيها القبر، والنصارى مجتمعون (¬4) بها يرفعون صلبانهم ويقرأن إنجيلهم، ويضجون، والديوان (¬5) - الذى للمسلمين على باب الكنيسة - والموالى يأخذون من كل رجل القطيعة المقررة، وذلك في أيام الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل - رحمهما الله - فإذا كان وقت الظهر أو بعده دخل البترك القبة، وأخرج شمعة ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة العماد، وذلك ليستقيم المعنى. (¬2) الأصل: " وحرث " و " انحسم "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 115) (¬3) الأصل: " وغيرهم " والتصحيح عن س (24 ب). (¬4) س: " محيطون ". (¬5) لاحظ أن المؤلف يستعمل هنا لفظ " الديوان " بمعنى الموظف.

موقدة زعم أنه أوقدها من القنديل الذى اشتعل بالنور المنزّل [من السماء] (¬1)، فيأتيه النصارى بشمعهم فيقدونه من تلك الشمعة، فيمتلىء المكان بالشمع الموقدة، ويظهر على النصارى من الفرح والاستبشار مالا مزيد عليه، جهلا وضلالة، وظنا فاسدا أنه نور أنزل عليهم، وإنما هو نار محرقة افتعلها عدو الله البترك على سبيل المخرقة والإيهام، وهؤلاء القوم دون سائر الطوائف أكثر أمورهم مبنية على ذلك (¬2). ولقد (¬3) حدثنى القاضى فخر القضاة ابن بصاقة - رحمه الله - ونحن بالكرك، وهو من أهل الفضل والمعرفة والتقدم في الدول، قال: «كنت صبيا صغير السن، وقد حضر البترك الذى كان [مقيما] (1) بقمامة عند والدى، فسمعت والدى يقول له: إن السلطان قد عزم على كشف قضية هذا النور الذى تدعون أنه ينزل عليكم [من السماء] (1)، فقال له البترك: إن النور كان ينزل في قديم الزمان ثم انقطع، فنحن اليوم نفعله لإقامة الناموس وحفظا لحرمة دين النصرانية، وليس من المصلحة أن تتعرضوا لهذا، وكشف سره، فإنه يفوّت (¬4) عليكم أموالا جزيلة، وليس لكم في بطلان ذلك منفعة». قلت (¬5): وكان الواجب على ولاة الأمر أن لا يلتفتوا إلى ما يحصل من هذا السحت، وأن يهتكوا ستر هؤلاء القوم فيما يدلسون به على الأمم، وأن يرفعوا القناع عن هذا التدليس الموقع (¬6) في عمايات الضلال الداعية إلى أنواع الكفر والجهالات. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬2) هذا استطراد من المؤلف له قيمته وأهميته. (¬3) قبل هذا اللفظ في س (24 ب): " قال جمال الدين صاحب هذا التاريخ ". (¬4) س: " يروح ". (¬5) مكان هذا اللفظ في س: " قال القاضى جمال الدين بن واصل المؤلف ". (¬6) هذا اللفظ ساقط من س.

ولما افتتح القدس [300] مدح السلطان - رحمه الله - الشريف النسّابة محمد بن أسعد (¬1) بن على بن معمر الحسينى المعروف بالجوّانى المصرى نقيب الأشراف بالديار المصرية بقصيدة منها: أترى مناما ما بعينى أبصر؟ ... القدس يفتح والفرنجة تكسر!! وقمامة قمّت من الرجس الذى ... بزواله وزوالها يتطهّر ومليكهم في القيد مصفود، ولم ... ير قبل ذاك لهم مليك يؤسر (¬2) قد جاء نصر الله والفتح الذى ... وعد الرسول، فسبّحوا واستغفروا فتح الشام وطهّر القدس الذى ... هو في القيامة للأنام المحشر من كان هذا فتحه لمحمد ... ماذا يقال له، وماذا يذكر؟ يا يوسف الصديق أنت لفتحها ... فاروقها عمر الإمام الأطهر ولأنت عثمان الشريعة بعده، ... ولأنت في نصر النبوة حيدر ¬

(¬1) الأصل: " اسماعيل "، وهو شرف الدين أبو على محمد بن أسعد بن على بن معمر الجوّانى، صاحب كتاب " النقط بعجم ما أشكل من الخطط " ولم يظهر للان ما يثبت وجود هذا الكتاب، غير أن المؤلفين المتأخرين نقلوا عنه كثيرا، وخاصة المقريزى في خططه حيث يقول عنه إنه " نبه على معالم قد جهلت وآثار قد دثرت "، وقد ولد الشريف سنة 525 هـ‍ وتوفى سنة 588 هـ‍ (1131 - 1192) وقال (العماد الاصفهانى: الخريدة، قسم شعراء مصر، ج 1، ص 117) إنه كان نقيب مصر في الأيام المصرية (يقصد الفاطمية)، والآن فهو ملازم مشتغل بالتصنيف في علم النسب، وهو فيه أوحد، وله فيه تصانيف كثيرة ". أنظر أيضا: (المقريزى، الخطط، ج 1، ص 6 - 7) و (ابن تغرى بردى: النجوم، ج 4، ص 43، ج 6، ص 119، 218) و (عنان: مصر الإسلامية، ص 39، 55، 89) و (الصفدى: فوات الوفيات، طبعة استانبول، ج 2، ص 202) و (لسان الميزان، ج 5، ص 74) و (ابن الأثير: اللباب في الأنساب). (¬2) س (25 ا): " يرى من قبل ذلك مليك موسر " وهو نص مضطرب.

وقال بهاء الدين أبو الحسن على بن محمد الساعاتى (¬1). أعيّا (¬2) وقد عاينتم الآية العظمى؟ ... لأية حال تدخر النثر والنّظما وقد ساغ (¬3) فتح القدس في كل منطق، ... وشاع إلى أن (¬4) أسمع الأسل الصّمّا فليت فتى الخطّاب شاهد فتحها ... فيشهد أنّ السيف (¬5) من يوسف أصمى حبا مكّة الحسّنى وثنّى بيثرب، ... وأسمع (¬6) ذيّاك الضّريح وما ضمّا وما كان إلا الداء أعيا دواؤه، ... وغير الحسام العضب لا يحسن (¬7) الحسما وأصبح ثغر الدين (¬8) جذلان باسما ... وألسنة الأغماد توسعه لثما سلوا الساحل المخشى عن سطواته، ... فما كان إلا ساحلا صادف (¬9) اليما وقال القاضى السعيد أبو القاسم هبة الله بن سناء الملك (¬10) يمدح السلطان الملك الناصر ويهنئه بالفتوح، ويذكر وقعة حطين، وقتل البرنس، من قصيدة أولها: لست أدرى بأىّ فتح تهنّا؟ ... يا منيل الإسلام ما قد تمنّا ¬

(¬1) أنظر ما فات هنا 83، هامش 3 (¬2) الأصل: " أأعيا " والتصحيح عن (ابن الساعاتى: الديوان، ج 2، ص 385) و (الروضتين، ج 2، ص 106). (¬3) الأصل: " شاع "، والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬4) الأصل: " وقد شاع حتى أسمع " وما هنا عن المرجعين السابقين. (¬5) كذا في الأصل والروضتين، وفى الديوان: " السهم ". (¬6) في الديوان والروضتين: " وأطرب " (¬7) في الديوان: " لا يعرف ". (¬8) في الديوان: " وأصبح ذاك الثغر ". (¬9) الأصل: " صادق " وما هنا عن المرجعين السابقين. (¬10) أنظر ما فات هنا ص 137، هامش 3

[301] أنهنيّك إذ تملّكت (¬1) شاما؟ ... أم نهنيّك إذ تملّكت عدنا؟ قد ملكت الجنان قصرا فقصرا، ... إذ فتحت (¬2) الشآم حصنا فحصنا ومنها: قمت في ظلمة الكريهة كالبدر ... سناء، والبدر يطلع وهنا لم تقف قطّ في (¬3) المعارك إلا ... كنت يا يوسف كيوسف حسنا تجتنى النصر من ظباك (¬4) كانّ العـ ... ـضب قد صحفوه (¬5) أو صار غصنا قصدوا نحوك الأعادى ... فردّ الله ما أمّلوه عنك وعنّا حملوا كالجبال عظما، ولكن ... جعلتها حملات خيلك عهنا جمعوا كيدهم وجاءوك أركانا، ... فمن هدّ فارسا هد ركنا لم تلاق الجيوش منهم ... ولكنك لاقيتهم جبالا (¬6) ومدنا كلّ من يجعل الحديد له ثوبا ... وتاجا (¬7) وطيلسانا وردنا خانهم ذلك السلاح، فلا ... الرمح تثنا ولا المهند ظنا وتولّت تلك الخيول ولم ... يثنى عليها بأنها ليس تثنا ¬

(¬1) س: " ملكت "، وما هنا هو الصحيح ويتفق والنص في (شفاء القلوب، ص 41 أ). (¬2) س: " وفتحت " والنص هنا يتفق وشفاء القلوب، ولم يورد صاحب الشفاء من هذه القصيدة غير الأبيات الثلاثة الأولى. (¬3) هذا اللفظ ساقط من س. (¬4) س: " طباعك " (¬5) س: " صفحوه ". (¬6) س: " جبالا منك ومدنا ". (¬7) هذا اللفظ ساقط من س.

واستحالت شقاشق الكفر ضمنا ... حين عادت الشجاعة جبنا وتصيّدتهم بحلقة صيد يجمع ... الليث والغزال الأغنا وجرت منهم الدماء بحارا، ... فجرت فرقها الجزائر سفنا صنعت فيهم وليمة عرس ... رقّص المشرفىّ فيها وغنىّ وحوى الأسر كلّ ملك يظن ... الدهر يفنى وملكه ليس يفنى والمليك العظيم فيهم ... أسير يتثنا في أدهم يتثنا يحسب النوم يقظة، ويظن الشخص ... طودا، ويبصر الشمس دجنا كم تمنّى اللقاء حتى رآه، ... قتمنى لو أنه ما تمنّا ظنّ ظنا، وكنت أصدق في الله ... يقينا، وكان أكذب ظنّا [302] رق من رحمة له القيد ... والغل عليه، فكلما أنّ أنا واللعين الابرنس أصبح مذبوحا ... بيمين لم يعدم الدين يمنا أنت ذكيته فوفيت نذرا ... كنت قدمته فجوزيت حسنا وتهادت عرائس المدن نخلا، ... وثمار الآمال منهن تجنا لا يخصّ الشام منك التهانى، ... كلّ صقع وكل قطر يهنّى قد ملكت البلاد شرقا وغربا، ... وحويت الآفاق سهلا وحزنا وتفرّدت بالذى هو أسما، ... وتوحّدت بالذى هو أسنا واغتدى الوصف في علاك حسيرا ... أىّ لفظ يقال أو أىّ معنى؟ ورأينا الاله قال أطيعوه ... سمعنا لربنا وأطعنا وقال الملك المظفر تقى الدين أبو الفتح عمر بن شاهنشاه بن أيوب - قدس الله روحه - يهنىء عمه السلطان الملك الناصر - رحمه الله - بفتح القدس بقصيدة مطلعها يقول فيها: دع مهجة المشتاق مع أهوائها ... بالائمى ما أنت من نصحائها

ومنها: جاءتك أرض القدس تطلب ناكحا ... يا كفؤها، ما العذر من عذرائها زفّت إليك عروس خدر تجتلى ... ما بين أعبدها وبين إمائها إيه صلاح الدين، خذها (¬1) غادة ... بكرا، ملوك الأرض من رفقائها كم طالب لجمالها قد ردّه ... عن نيلها أن ليس من أكفائها وكان الملك المظفر - رحمه الله - فاضلا متأدبا حسن الشعر، وكان أخوه عز الدين فرخشاه كذلك. ومن جملة شعر الملك المظفر - رحمه الله: يعاتبنى قوم يعزّ عليهم ... مسيرى، ما هذا السرى في السباسب فقلت لهم: كفّوا، فما وكفت لكم ... جفون (¬2) ولا ذقتم فراق الحبايب ومن شعره: إنى لأكتم لوعتى وأظنّه ... يوم التفرّق بالمدامع فاضحى [303] لا تجمحوا في هجركم، فلربما ... خشى العثار على الحصان الجامح ومن شعره: أأحبابنا إنّ الوشاة إليكم ... سعت، لا سعت أقدام من كان واشيا يرومون بتّ الحبل بينى وبينكم ... فلا بلغوا مما أرادوا الأمانيا ¬

(¬1) ص: " ايه صلاح الدين عادت ". (¬2) ص: " فما وكفت جفونى ".

ومن شعره: كلّ يوم يسعى إلى الملك قوم ... في ازدياد وعمرهم في انتقاص شرك هذه الأمانى، فيا ... لله كم واقع بغير خلاص (¬1) ومن شعره: إن كنت واحد ذا الجمال ... فإننى في الحزن واحده كلّ يبوح بحبّه، ... وأنا كتوم الحبّ جاحده ومن شعره يخاطب عمه الملك السلطان الناصر صلاح الدين - رحمه الله تعالى - أصلاح دين الله أمرك طاعة، ... فمر الزمان بما تشاء فيفعلا فكأنما الدنيا ببهجة حسنها ... تحلا على إذا رأيتك مقبلا قلت: كان السلطان - رحمه الله - يحب الملك المظفر تقى الدين أكثر من محبته لسائر أهله لما كان خص الملك تقى الدين [به] من الشهامة والنجابة والإقدام العظيم، الذى لم يكن لأحد مثله من بنى أيوب، ولفرط طاعته لعمه صلاح الدين وانقياده إليه، ولأنه كان ألصقهم به قرابة، لأن والده الملك المظفر ركن الدين شاهنشاه - رحمه الله - كان أخا الملك الناصر لأمه وأبيه؛ والملك العادل، وتاج الملوك، وسيف الإسلام، كانوا أخوته لأبيه فقط. وقيل ركن الدين شاهنشاه قتل شهيدا على باب دمشق لما حاصرها الفرنج، ولم يدرك الدولة الأيوبية، وقد ذكرنا ذلك. وكتب السلطان إلى الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين وإلى ساير ملوك الأطراف يبشرهم بهذا الفتح العظيم، فمن جملته كتاب فاضلى إلى الديوان العزيز: ¬

(¬1) هنا تنتهى ص 26 ب من نسخة س، ثم تضطرب الصفحات مرة أخرى وتنقطع الصلة بين النص فيها والنص في الأصل المعتمد للنشر وهو نسخة (ك).

" تقلص ظل الكفر المبسوط، وصدق الله أهل دينه فلما وقع الشرط وقع المشروط، واسترد المسلمون تراثا كان عنهم آبقا، وظفروا يقظة بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفا على النائم طارقا " ومنه [304] فصل في وصف نقب السور: " فأخلى السور من الستارة (¬1)، والحرب من النظّارة، وأمكن النّقاب أن يسفر للحرب النقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته من التراب، فتقدّم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحلّ عقده بضربة الإحراق الدالّ على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترقّ لمقتله، وتبرّأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن تبرح الأرض ". فصل: " واستقرت على الأعلا أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها - وإن كانت صخرة - كما يشفى الماء غللهم، وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحق وأسخطهم. وأوعز الخادم بردّ الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الائمة من يوفيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة فيه يوم الجمعة رابع شعبان فكادت السموات (¬2) للنجوم يتفطرن، والكواكب منها للطرب ينتثرن، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طريقها مسدودة، وطهّرت قبور الأنبياء وكانت بالنجاسات مكدودة، ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى (الروضتين، ج 2، ص 100): «السيارة» (¬2) الأصل: «السماء»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 101).

وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها، وجهرت الألسنة (¬1) بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها، وجهر باسم أمير المؤمنين في وطنه الأشرف من المنبر، فرحّب به ترحيب من برّ بمن برّ (¬2)، وخفق علماه في حفافيه (¬3)، فلو طار سرورا لطار بجناحيه. وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه [المنقبة] (¬4) العظمى، ولا يقاسى تلك البؤسى إلا رجاء هذه النعمى، ولا يحارب من يستظلمه إلا لتكون الكلمة مجموعة فتكون كلمة الله هى العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنا من الدنيا، وكانت الألسنة ربما صلقته فانضج قلوبها بالاحتقار (¬5)، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيرا خاطر (¬6)، ومن رام صفقة رائجة جاسر (¬7)، ومن سما لأن تجلى غمرة غامر ". ومنه فصل في وصف يوم حطّين: " وكان [305] اليوم مشهودا، والملائكة شهودا، وكان الصليب (¬8) صارخا وكان الإسلام مولودا، وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وأكّد وصلته بالدين وعلائقه، وهو صليب الصلبوت، وقائد أهل الجبروت، مادهموا قط بأمر إلا وقام بين دهمائهم يحرّضهم، يبسط لهم باعه، وكان مد اليدين في هذه الدفعة وداعه، لا جرم أنه تهافت على ناره فراشهم، وتجتمع في ظل ظلامه خشاشهم، ¬

(¬1) الأصل: «الأنس»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 101) (¬2) صيغة الروضتين: «ترحيب من بر» فقط. (¬3) الأصل: «علماؤه في حقاقيته»، والتصحيح عن الروضتين. (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن الروضتين. (¬5) النص في: (الروضتين، ج 2، ص 101): «بالاكتفاء والاقتصار». (¬6) الأصل: «لخاطر»، والتصحيح عن الروضتين. (¬7) الأصل: «كان رابح أو خاسر»، والتصحيح عن الروضتين. (¬8) النص في الروضتين: «وكان الضلال».

ويقاتلون تحت ذلك الصليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقا يبنون عليه أشدّ عقد وأوثقه، ويعدونه سورا لا تحفر الخيل خندقه (¬1)، و (¬2) بعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية السوداء صبغا، البيضاء صنعا، الخافقة هى وقلوب أعدائها، العالية هى وعزائم أوليائها ". وكتب السلطان إلى أخيه سيف الدين ظهير الدين طغتكين بن أيوب صاحب اليمن يبشره بالفتح بإنشاء عمادى، من جملته: " وهو فتح بيت المقدس الذى غلق نيفا وتسعين سنة مع الكفر رهنه، وطال في أسره سجنه، واستحكم وهنه، وقوى مكره وضعف ركنه، وزاد حسنه وزال حزنه، وأجدبت من الهدى أرضه وأخلف مزنه، وواصله خوفه وفارقه أمنه، واشتغل خاطر الإسلام بسببه وساء ظنه، وذكر فيه الواحد الأحد الذى تعالى عن الولد، أن المسيح ابنه، وأربع فيه التثليث فعز صليبه وصلبه، وأفرد عنه التوحيد فكاديهى (¬3) متنه، ودرج الملوك المتقدمون على تمنى استنقاذه، فأبى الشيطان غير استيلائه واستحواذه، وكان في الغيب الإلهى أن يعاد إلى معاذه، (¬4) وطيب أوطانه بقراءة القرآن ورواية الحديث وذكر الدروس، وجليت الصخرة المقدسة جلوة العروس، وزارها شهر رمضان مضيفا لها نهار صومها بالتسبيح، وليل فطرها (¬5) بالتراويح ". ¬

(¬1) كذا في الأصل، والنص في الروضتين: «سورا تحفر حوافر الخيل خندقه». (¬2) في (الروضتين، ج 2، ص 101) بين لفظى: «خندقه» و «وبعد» فقرة أسقطها المؤلف ولم ينقلها هنا، وهى: " ولم يفلت منهم معروف إلا القمص، وكان لعنه الله جليا يوم الظفر بالقتال، ومليئا يوم الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف، وطار خوفا من أن يلحقه منسر الرمح وجناح السيف، ثم أخذه الله بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، وكان لعدتهم فذالك (كذا)، وانتقل من ملك الموت إلى مالك ". (¬3) الأصل: «وأفرد التثليث فكاد يهمى متنه»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 99) (¬4) النص في الروضتين: «أن معاده في الآخرة إلى معاذه». (¬5) الأصل: «وليلها»، والتصحيح عن الروضتين.

ذكر منازلة السلطان - رحمه الله - صور

ذكر منازلة السلطان - رحمه الله - صور ولم يزل السلطان مقيما بالقدس إلى الخامس والعشرين من شعبان من هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - يرتب إخوته، وينظر في مصالحه، ويفرق الأموال. فحكى عماد الدين الأصفهانى، قال: " سمعت الملك [306] العادل يقول - وقد جرى ذكر إفراط السلطان في العطاء -: أنا توليت استيفاء قطيعة القدس، فأنفذت إليه ليلة سبعين ألف دينار، فجاءنى رسوله بكرة وقال: يريد اليوم ما يخرجه في الإنفاق، فإن الذى سيّرت إلينا بالأمس قد نفدت، فنفذت إليه ثلاثين ألف دينار أخرى في الحال، فأنفقها ". ثم وردت على السلطان كتب الأمير سيف الدين على بن أحمد المشطوب - وهو نائب السلطان بصيدا وبيروت - يحرضه على حصار صور، فرحل السلطان عن القدس يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان متوجها إلى عكا، وقد سبقه إليها ولده الملك الأفضل نور الدين، وابن أخيه الملك المظفر تقى الدين؛ وودع السلطان الملك العزيز عماد الدين عثمان، ورده إلى الديار المصرية، وكان آخر عهده به. وترك الملك العزيز خزانة سلاحه بالقدس كلّها، وكانت كثيرة جدا، وكان من جملة ما شرط على الفرنج أن يتركوا خيلهم وعدتهم فتوفر بذلك عدد البلد. وتوجه مع السلطان أخوه الملك العادل، فوصلا إلى عكا مستهل شهر رمضان من السنة، فأصلح السلطان من شأنها، ثم رحل منها ونزل على صور يوم الجمعة

تاسع شهر رمضان، وخيّم بازاء السور، بعيدا منه على النهر؛ وصور مدينة حصينة، متوسطة (¬1) في البحر، وكان المركيس - لعنه الله - قد حفر لها خندقا من البحر إلى البحر، وبنى السور والبواشير وأحكم أمرها واستظهر بالعدد والعدد، واغتنم اشتغال السلطان بفتح البيت المقدس، فأقام السلطان على تلك الحال بالمنزلة ثلاثة عشر يوما، حتى تلاحقت به العساكر، وجاءته العدد والآلات، ورتب المنجنيقات. ثم حوّل السلطان مضاربه إلى تل قريب من السور يشرف منه، ثم أخذ في محاصرة البلد، ووكّل كلّ واحد من الملوك بجانب يكفيه إياه، منهم: الملك العادل، والملك الأفضل، والملك المظفر؛ فحاصروهم وضايقوهم. ووصل في تلك الأيام الملك الظاهر غازى - صاحب حلب - بعسكره، فاستظهر السلطان أبوه به، واستدعى الأصطول (¬2) المصرى - وكان بعكا - فجاء منه عشرة شوانى (¬3)، وكان للفرنج في البحر مراكب وشوانى، وفيها رماة الجرخ (¬4) ¬

(¬1) الأصل: " معظمها "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 119). (¬2) كذا بالأصل، راجع ما فات هنا ص 11، هامش 1 (¬3) الأصل: " عشره أذراع شوانى "، ولشرح " شوانى " راجع ما فات هنا ص 13، هامش 1 (¬4) لشرح هذا المصطلح راجع ما فات هنا ص 150، هامش 3، هذا وقد عقد (الحسن بن عبد الله: آثار الأول في ترتيب الدول، ص 160) نصلا في صفة القسى والنشاب، أضاف فيه معلومات قيمة عن الشعوب التي تؤثر استعمال الجرخ، وعن المفاضلة بين الجرخ والقوس العقار، وأين يستعمل كل منهما، لأن قوس الجرخ يصنع من القرن، والعقار يصنع من الخشب، قال: " والمغاربة والفرنج يعانون قسى الجرخ، وهى أكثر نفعها من داخل السور وفى مراكب البحر، والقسى الجروخ القرن تصلح للقلاع، والعقاقير جميعها خشب، ما تصلح إلا في البحر، لأن هواء البحر يضر بالقرن ويفسده، والعقاقير الخشب ما تتغير فيه، وقليل أن تخطى سهام الجروخ إذا كان الرامى بها عارفا حاذقا ".

والزّنبورك (¬1) يرمون من دنا من البحر، فلما وصل الأسطول الاسلامى استطال عليها وأبعدها، [307] فأحاط بهم المسلمون، وقاتلوهم برا وبحرا، فبينماهم في استظهار وظفر إذ ملك الفرنج خمسة من شوانى المسلمين، وأسروا مقدميها ورئيسها عبد السلام المغربى، ومتوليه بدران الفارسى، فألقى جماعة أنفسهم في البحر، فمن ناج وهالك، وذلك أنهم سهروا تلك الليلة بازاء ميناء صور إلى ¬

(¬1) الزنبورك: والجمع زنبوركات - قد يعنى نوعا من القسى التي ترمى عنها السهام، وقد تعنى نوعا من السهام ذاتها؛ فمن النصوص التي تؤيد المعنى الأول ما ورد في: (ابن الأثير: الكامل، ج 12، ص 4) عند حديثه عن فتح صهيون سنة 584، إذ يقول: " ودام رشق السهام من قسى اليد، والجرخ، والزنبورك، والزيار "، فهذه جميعا أنواع معروفة من القسى، وذكر الزنبورك بينها دليل على أنه واحد منها؛ وجاء أيضا في: (العماد: الفتح القسى، ص 168): " وتوتير الجروخ والزنبوركات، وتطيير الناوكات " فالتوتير لا يكون إلا للقوس، والتطيير لا يكون إلا للسهم، فالناوك - تبعا لهذا - نوع من السهام؛ وجاء أيضا في: (الحسن بن عبد الله: آثار الأول، ص 146): " الروم أهل صنائع وحرف وحكم، وفيهم صبر وخدمة، ولهم حيل في السياسات ووضع آلات حربية، وحظهم في الفروسية قليل، ولهم ضرب بالسيف، ورمى بالجرخ والزنبورك. . . الخ "؛ وفى (الروضتين، ج 2، ص 119) " مراكب وحراريق وفيها رماة الجروخ والزنبوركات ". ولكن (Dozy : Supp .Dict .Arab) يورد نصا آخر نقلا عن تاريخ بطارقة الاسكندرية يؤيد المعنى الثانى، أي أن الزنبورك يعنى نوعا من السهام، وقال: (Suivant I'histoire des patriarches d'Alexandrie,Le Zenbouek etait une fleche,de l'epaisseur du pouce,de la longueur d'une coudee,qui avait quatre faces; la pointe de la fleche etait en fer,et des plumes en rendaient le vol plus sur Partout ou ce trait tombait,il transpercait;il traversait quelquefois du meme coup deux hommes places l'un derriere l'autre,percant a la fois la cuirasse et l'habillement du soldat;il allait ensuite se planter en terre;il penetrait meme dane la pierre des murailles) . وترجمة هذا النص: " الزنبورك سهم في سمك الابهام وفى طول الذراع، وله أربع أوجه، وطرفه من الحديد؛ وهو مريّش ليكون في انطلاقه أكثر ثباتا، وحيثما سقط فإنه مؤكد الإصابة؛ وقد اخترق الزنبورك أحيانا - في رمية واحدة - جسمى رجلين اثنين وقف أحدهما خلف الآخر؛ واخترق في نفس الوقت درع الجندى وملابسه، ثم نفذ بعد ذلك واستقر في الأرض؛ وقد يصيب كذلك أحجار الأسوار ". =

ذكر الوقعة على باب صور

السحر، ثم غلبهم النوم، فما انتبهوا إلا والفرنج قد ركبتهم، فوهن المسلمون بذلك ووجموا، وتقدم السلطان إلى المراكب الباقية أن تسير إلى بيروت، وخاف عليها لقلتها أن يستولى عليها العدو، فنجا منها شينى رئيس جبيل، والباقون نظروا إلى الفرنج ورائهم فألقوا أنفسهم في الماء، وخرجوا إلى [البر] على وجوههم، فأخذ السلطان الشوانى فنقضها، وعاد إلى مقابلة صور في البر، فكان ذلك الشوانى لجدوى لضيق المجال (كذا). ذكر الوقعة على باب صور ولما وقعت واقعة الأسطول طمعت الفرنج وخرجوا منها يوما بعد العصر مستعدين للقتال، فالتقاهم المسلمون، فكانت الدائرة على الفرنج، وأسر مقدم كبير لهم، وظن أنه المركيس، فسلمه السلطان إلى ولده الملك الظاهر ليحفظه، فضرب عنقه، ثم دخل الليل وأصبحوا، وتبين أن المركيس بعد في الحياة. ذكر رحيل السلطان من صور ولما طال الحصار على صور ضجر كثير من أمراء المسلمين، لأنهم رأوا ما لم يألفوه من تعسر الفتح عليهم، فأشاروا على السلطان بالرحيل لئلا تفنى الرجال وتقل الأموال، وكان الشتاء قد دخل واشتد البرد، وكان رأى السلطان وجماعة من أتقياء أمرائه، كالفقيه ضياء الدين عيسى، وحسام الدين طمان، وعز الدين ¬

= ويقول دوزى بعد هذا - نقلا عن كاترمير - أن اللفظ قد يعنى " الزنبور الصغير "، سمى كذلك للشبه بين الصوت الذى تحدثه تلك الحشرة الصغيرة " الزنبور " وبين الصوت الذى يحدثه وتر القوس عند انطلاق السهم؛ ثم يردف دوزى بعد هذا قوله إن هذا اللفظ أصبح - منذ اكتشاف الأسلحة الحديدية - يطلق على نوع من المدفع الصغير الذى يحمل على ظهر الجمل: انظر كذلك: (C .Cahen : Un Traited'armurerie compose pou - Saladin . P. 153 - 154) .

ذكر وصول السلطان إلى عكا ومقامه بها

جورديك النورى إلى الثبات إلى الفتح، لئلا يضيع ما تقدم من الأعمال وإنفاق الأموال، وقال السلطان: " إن السور قد تهدم، وقاربت الأمور النجاز، فاصبروا ولا تعجلوا تفلحوا " فأظهروا الموافقة وفى أنفسهم ما فيها، ولم يصدقوا القتال، وتعللوا بكثرة الجراح، وقلة العلوفات، فلم يسع السلطان إلا الرحيل فأمر بنقل الأثقال، فحمل بعضها إلى صيدا وبيروت، وأحرق الباقى لئلا يناله العدو، [308] فرحل في آخر شوال من السنة، وهو الموافق أول كانون الأول. وسار الملك المظفر إلى دمشق على طريق هونين، واستصحب معه عساكر الشرق وديار بكر والموصل والجزيرة وسنجار وماردين. ذكر وصول السلطان إلى عكا ومقامه بها ورحل السلطان إلى عكا [فوصلها] في ثلاث مراحل، لأنه سلك طريق الناقورة، وهى طريق ضيقة، مطلة على البحر لا يعبر منها إلا جمل بعد جمل، فعبرت الأثقال في أسبوع، وعيّن يوم رحيله من صور أمراء يقيمون عليها إلى أن يعرفوا عبور الثقل، وخيم السلطان عند التل؛ وسار الملك العادل إلى مصر، والملك الظاهر إلى حلب، وبدر الدين دلدرم الياروقى إلى بلاده. ذكر الكبسة على حصن الكوكب كان السلطان لما سار إلى عسقلان قد جعل على قلعة كوكب من يحصرها، ويحفظ البحر والطريق للمجتازين، لئلا ينزل من به من الفرنج يقطعونه، وقدّم على الجماعة الأمير سيف الدين محمود أخا جاولى الأسدى، وسيّر طائفة أخرى من العسكر إلى قلعة صفد فحصروها، وهى مطلة على مدينة طبرية، وكانت كوكب للاسبتارية، وصفد للداويّة، وقدّم على المنازلين بصفد مسعود الصلتى.

ذكر فتح هونين

وكان سيف الدين محمود شهما شجاعا يرجع إلى دين وعبادة، فأقام على كوكب إلى آخر شوال، وكان أصحابه يحرسون نوبا مرتبة، فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الذين كانت نوبتهم في الحراسة، وكان قد صلى ورده من الليل إلى السحر، وكانت ليلة باردة ذات رعد وبرق وريح ومطر، فلم يشعروا إلا والفرنج قد خالطوهم بالسيوف، ووضعوا السلاح فيهم، فاستشهد سيف الدين وأصحابه، وأخذ الفرنج ما كان عندهم من طعام وسلاح وغيره، وعادوا إلى قلعتهم، فتقووا في ذلك قوة عظيمة، وأتى الخبر بذلك إلى السلطان عند رحيله من صور، فعظم ذلك عليه، مضافا إلى ما ناله من أخذ الشوانى وما فيها، ورحيله من صور. ثم رتّب على حصار كوكب الأمير صارم الدين قايماز النجمى في جماعة من الأجناد. ذكر فتح هونين [309] كان السلطان لما فتح تبنين امتنعت عليه هونين، وهى من أحصن القلاع وأمنعها، فلم ير التعريج عليها، ولا الاشتغال بمحاصرتها، بل سيّر إليها جماعة من الأمراء والعسكر، فحصروها، ومنعوا من حمل الميرة إليها، فلما كان السلطان على محاصرة صور أرسل من بها يطلب الأمان فأمّنهم، فسلموا هونين إلى السلطان، ونزلوا منها، فأمّنهم. وأقام السلطان بظاهر عكا، ينظر في أمورها، ودخلها وسكن قلعتها، وسكن ولده الملك الأفضل ببرج الداويّة، وولى عكا عز الدين جرديك، ووقف دار الاسبتار نصفين: نصفا على الفقهاء، ونصفا على الصوفية، ووقف دار الأسقف بيمارستان، ووقف على ذلك وقوفا جليلة، وفوّض جميع ذلك إلى قاضيها كمال الدين بن الشيخ أبى النجيب.

ذكر قدوم رسل الملك والملوك إلى السلطان بالتهنئة

ذكر قدوم رسل الملك والملوك إلى السلطان بالتهنئة وورد على السلطان رسل الروم وخراسان والعراق، وكلهم يهنئ السلطان بما خصّه الله تعالى به من فتح بيت المقدس، الذى درج على حسن تمنيه الملوك، وتقاصرت عنه أيديهم وهممهم، ومن جملة الرسل: رسول صاحب العجم، وهو أتابك مظفر الدين قرا أرسلان بن عثمان بن إيلدكز، وهو الذى ملك بعد أخيه البهلوان، وكان في الظاهر إليه الأتابكية، واسم السلطنة للسلطان طغرل بن محمد بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، وهو آخر من دعى له بالسلطنة ببلاد العجم من السلجوقية. ذكر ورود رسول الديوان العزيز إلى السلطان بالعتب كان السلطان لما كسر الفرنج بحطّين قد ندب للرسالة إلى الديوان العزيز في معنى البشارة شابا بغداديا من الأجناد كان قد هاجر إلى الأبواب السلطانية مسترفدا، وكان ببغداد خاملا كثير الإدبار، مشمرا في دروب بغداد، فتوجه إلى الشام هاربا من الفقر والفاقة وكان يعرف بالرشيد البوشنجى. فلما سيّره السلطان في الرسالة إلى بغداد قامت القيامة بمراسلته، وأنكر ذلك على السلطان غاية الإنكار، وحقروا الرسول وما وقروه، ونظروه بالعين التي يعرفونه بها، وحبوه بحباء قليل يليق به، فتمسح المذكور [310] في الكلام، وصدرت منه أمور قبيحة لا تليق، فأنهى إلى المقام النبوى شيئا من مقالاته الردية، وجهالاته، فاشتد العتب بسبب ذلك.

وانضاف إليه أن قوما من أعداء السلطان تطرقوا إلى القول والقدح، وراموا إبعاد السلطان، وإيغال قلب الخليفة عليه، فقالوا: إنه أساء الأدب لإبقاء اسمه بالملك الناصر مضافا للاسم الأشرف الذى هو الإمام الناصر، وأن مقصوده قلب الدولة والاستبدال بها، كما فعل بالمصريين فإنه يدلّ بماله من القوة والعساكر وكثرة الممالك، وقالوا من ذلك ما كثرو أحنق الديوان. وأفضى ذلك إلى أن أرسلوا إلى السلطان تاج الدين الأصفهانى - أخا عماد الدين الكاتب -، وقالوا: إن أخاه مطلع على الأسرار، وهو منتظم في سلك الأولياء، فعوّلوا عليه في هذه الرسالة، وردوا معه جواب البشارة، وقد كتب له تذكرة بموجبات مقاصد العتب والمخاطبة فيها، وخشنوا في القول وأغلظوا، وكان ابن البوشنجى قد عاد شاكيا من الديوان، ومخبرا بأن أخا العماد واصل بكتب عتب وغضب ولفظ ممض. ولما قرب تاج الدين من العسكر السلطانى، وكان بعد نازلا على صور، تقدم السلطان إلى الملوك والأمراء بتلقيه، فتلقاه الملك العادل، والملك الأفضل، والملك الظاهر، والملك المظفر، والأمراء على مراتبهم، ثم ركب السلطان بنفسه وتلقاه، وبالغ في إكرامه واحترامه، وآنسه، وأراه مواضع الحصار، ومصارع الفرنج، ثم نزل وأنزله بالقرب منه، ثم حضر عنده داخل المجلس له ولأخيه عماد الدين قارئ الرسالة، وأحضروا التذكرة فقرأها عماد الدين على السلطان، وكان فيها غلظة وألفاظ مؤلمة، فقال السلطان: " إن الإمام أجل من أن يأمر بهذه الألفاظ، والأسجاع الغلاظ، وقد أمكن إيداع هذه المعانى في أرق من هذه الكلمات، ومعاذ الله أن يحبط عملى في خدمة الديوان، وأماما نسب الأعداء إلىّ فما عرف عنى إلا الاعتراف بالعارفة ". ثم ذكر أياديه السابقة في الفتوحات الإسلامية وإقامة الدعوة العباسية [311] بمصر واليمن وإزالة الأدعياء، وإبادة الأعداء، وفتح البيت المقدس.

ذكر الفتنة بعرفة بين أصحاب الخليفة والسلطان ومقتل شمس الدين المقدم

" وأما النعت الذى أنكر علىّ، فهذا من عهد الإمام المستضئ بنور الله أمير المؤمنين، والآن فكل ما يشرفنى به أمير المؤمنين من السمة فهو اسمى الذى أتشرف [به] وأعرف، وما غرضى إلا استكمال الفتوح لأمير المؤمنين، وقطع دابر الكفار ". ثم ودّع السلطان تاج الدين، وأودعه من المشافهة كلما في النفس، وظهرت بعد ذلك بالقبول آثار الرضى، ومضى ما مضى، وكان جماعة من الملوك والأمراء قد ونحوا السلطان لما قيل في حقه، وأرادوا أن يغضبوه، كالملك العادل ومظفر الدين بن زين الدين، فما غضب بل احتمل، وتلقى ذلك بصدر رحب. ذكر الفتنة بعرفة بين أصحاب الخليفة والسلطان ومقتل شمس الدين المقدم لما فتح السلطان البيت المقدس طلب الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك - المعروف بابن المقدم - إذنا من السلطان في أن يحج، ويحرم من القدس، ويجمع في سنة بين الجهاد والحج وزيارة الخليل إبراهيم عليه السلام وما بالشام من مشاهد الأنبياء وبين زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأذن له في ذلك. وكان قد اجتمع في تلك السنة من الحجاج بالشام الخلق العظيم من العراق والموصل وبلاد الجزيرة وخلاط وبلاد الروم وغيرها، ليجمعوا بين زيارة القدس أول فتوحه وبين مكة، فجعل شمس الدين بن المقدم أميرا عليهم، وساروا حتى وصلوا عرفات سالمين ووقفوا، فلما كان عشية عرفة تجهز هو وأصحابه ليسيروا فأمر بضرب كوساته التي هى أمارة الرحيل، فضربها أصحابه،

فأرسل إليه أمير الحاج العراقى، وهو محيى الدين طاشتكين ينهاه عن الإفاضة من عرفة قبله، ويأمره بكفّ أصحابه عن ضرب الكوسات، فأرسل إليه: " أنه ليس لى معك تعلق، أنت أمير الحج العراقى، وأنا أمير الحج الشامى، وكل منا يفعل مايراه ويختاره "، وسار ولم يقف ولم يسمع قوله. فلما رأى طاشتكين إصراره على مخالفته، ركب في أصحابه وأجناده، ومعهم من غوغاء الحاج العراقى وبطاطيهم (¬1) العالم الكثير، وقصدوا الحاج الشامى مهوّلين عليهم، فلما قربوا منهم خرج الأمر [312] عن الضبط، وعجزوا عن تلافيه، فهجم طمّاعة العراق على حجاج الشام، وقتلوا منهم جماعة، ونهبت أموالهم، وسبيت (¬2) جماعة من نسائهم إلا أنهن رددن عليهم. و؟؟؟ ح شمس الدين عدة جراحات، وكان يكفّ أصحابه عن القتال، ولو أذن لهم لا نتصف وزاد، ولكنه راقب الله تعالى وحرمة المكان واليوم، فلما أثخن بالجراحات أخذه طاشتكين إلى خيمته ليمرضه، وأنزله عنده، ليستدرك الفائت في حقه، وساروا تلك الليلة من عرفة، فلما كان من الغد توفى شمس الدين بمنى، ودفن بمقبرة المعلى. ورزق الشهادة بعد الجهاد وفتوح بيت المقدس - رحمه الله -. وارتاع طاشتكين بما اجترمه، وكيف لم يراقب الله في الحرم الشريف، وكيف اعتدى على حجاج بيت الله تعالى وسفك دمائهم بغير حق، فكتب محضرا ¬

(¬1) المؤلف ينقل هنا عن ابن الأثير، والنص عنده (الكامل، ج 11، ص 212): " من غوغاء الحاج العراقى وبطاطيهم وطماعتهم العالم الكثير "، ويفهم منه أن لفظ " بطاطى " مرادف لغوغاء وطماعة؛ وقد جاء في (القاموس): " البطيط: العجب، ورأس الخف بلا ساق، والداهية " وفى (اللسان): " البطط: الأعاجيب، والأجواع، والحمقى؛ والبطيط: رأس الخف، عراقية ". (¬2) الأصل: " وسبا "، والتصحيح عن ابن الأثير، وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا.

ذكر منازلة السلطان حصن كوكب

على ما اقترحه، وألزم أعيان الحجاج من سائر البلاد بوضع خطوطهم على ما عيّنه، فكتبوا خطوطهم مكرهين، وكان عذره أنه أنكر عليه ضرب الطبل ونهاه فأبى. فلما انتهت تلك الحالة إلى الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين أنكرها أشد الانكار ونسبها إلى طيش طاشتكين، فانحط قدره عنده بسبب ذلك، ثم نكبه بعد سنتين، وحبسه وأطال سجنه، ثم عفا عنه بعد مدة، وولاّه [حرب] (¬1) بلاد خوزستان وخراجها، وولى إمارة الحج غيره. ولما بلغ السلطان استشهاد شمس الدين حزن عليه واحتسبه، وأقرّ ولده الأمير عز الدين مقامه، وأقرّ عليه إقطاعه. وأقام السلطان بعكا إلى آخر السنة. ذكر منازلة السلطان حصن كوكب ولما دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة خرج السلطان من عكا، ونازل كوكب في العشر الأوسط من المحرم، وحاصرها وصابرها أياما، ولم يتمكن من فتحها لمنعتها وحصانتها، ورآها تحتاج إلى طول مدة ومصابرة، فوكل بها صارم الدين قايماز النجمى، ووكل بصفد طغرل الجاندار، كل واحد منهما في خمسمائة فارس، ووجه إلى الكرك والشوبك سعد الدين كمشبه (¬2) الأسدى، وكانت هذه الحصون [313] الأربعة في غاية الحصانة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 123)، وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا. (¬2) الأصل " كمشيا "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 124).

ووصل السلطان - وهو بكوكب - رسول صاحب آمد قطب الدين سكمان ابن نور الدين محمد بن قزل أرسلان الأرتقى، وكان خائفا من السلطان أن يسترجع آمد، لأنها من جملة مواهبه - كما سبق - واستوثق بالوصلة بإحدى بنات الملك العادل، وكان قد وكلّ أخاه السلطان في ذلك لما سار إلى مصر، فلما قدم رسوله تمت الوصلة بينهما. ووصل أيضا اختيار الدين حسن بن غفراس - مدبر دولة الملك قلج أرسلان صاحب الروم - وكان هذا الرسول مغرى بلبس الحلى والديباج والموشى، وفى يده زنود وخواتيم مرصعة بزينة ثقيلة الجواهر ويواقيت ثمينة ولآلىء نفيسة، وفى يده عمود من ذهب، وعدته مجوهرة، وكان السلطان اذا رآه تبسم تعجبا من قلة عقله، ويقول: " بهذا سافر لينظر الناس ذهبه وجوهره ". وكان جماعة من أهل الحزم قد أشاروا على السلطان بتخريب عكا وتعفية أثارها حتى يؤمن عود الكفر إليها، ويبنى قلعة القيمون، وكان هذا عين المصلحة، فكاد يجيب إلى ذلك، فقيل له: " هذه مدينة كبيرة، وعماراتها كثيرة، والمصلحة تبقيتها، وأن تعمر وتحصن "؛ فولى عمارتها وتدبير أمورها الأمير بهاء الدين قراقوش، وهو الذى تولى إدارة السور على مصر والقاهرة، فاستدعاه من مصر، وأمره أن يستنيب (¬1) في تلك العمارة، فقدم عليه وهو بكوكب، ففوّض إليه عمارة عكا، فشرع في تجديد سورها وتعلية أبراجها، وكان لما قدم من مصر قدم معه أساتيذ العمل (¬2) وأبقاره وآلاته ودوابه. (¬3) ¬

(¬1) الأصم: " يستثيب "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 125) وهو المنقول عنه هنا. (¬2) الأصل: " أسارى للعمل "، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬3) الأصل: " وتحت "، والتصحيح عن المرجع لسابق.

ذكر مقدم السلطان إلى دمشق

ذكر مقدم السلطان إلى دمشق ولما رتّب السلطان الأمور على كوكب رحل إلى دمشق مستهل ربيع الأول من هذه السنة - أعنى سنة أربع وثمانين وخمسمائة - وكان طريقه شرقى بحيره طبرية، وتجنّب عقبة فيق لاستصعاب رقيها، ولما قارب دمشق تلقاه الناس وفرحوا بقدومه، لأنهم كانو متعطشين إلى رؤيته، فإنه كانت عيبته عنها هذه الدفعة سنة وشهرين وخمسة أيام، كسر فيها الكفر ونصر فيها الإسلام، وفتح بيت المقدس، وكان دخوله دمشق سادس ربيع الأول. [314] ولما استقر بها قراره أمر بإنشاء الكتب لاستدعاء الأجناد من الجهات للجهاد، وابتدأ بالجلوس في دار العدل، وبحضرته الفقهاء والعلماء وأهل الدين. وكان قد ولى بدمشق بدر الدين مودودا المعروف بالشحنة - وهو أخو عز الدين فرخشاه لأمه - ثم فوّض إليه ولاية الديوان؛ وكان مع الصفى بن القابض، وكان الصفى قد بنى للسلطان دارا بالقلعة مطلة على الشرفين، وأنفق عليها أموالا جليلة، وبالغ في حسنها، وظن أنها تقع من السلطان بموقع، فلما رآها السلطان ما أعارها طرفه ولا استحسنها، وكانت من جملة ذنوب الصفى التي أوجبت عزله عن الديوان، وقال: " ما يصنع بالدار من يتوقع الموت؟ وما خلق العبد إلا للعبادة والسعى في تحصيل السعادة الأبدية، وما جئنا إلى دمشق بنية الإقامة " - رحمه الله وقدس روحه - وكذا فلتكن الملوك. ولم يكن سعيه إلا في الجهاد وتحصيل مجد، ولم يكن يرغب [فيما كان يرغب] غيره من الملوك من الملذات الخسيسة، لذات البطن والفرج، ولم يكن من رأيه التوزع والسكون وإضاعة الحرم، بل الحذر والتشمير والحزم والعزم الصادق فيما يحصل به المجد في الدنيا، والحمد في الأخرى

ذكر رحيل السلطان من دمشق إلى الغزاة

ذكر رحيل السلطان من دمشق إلى الغزاة ولما عزم السلطان على الخروج للغزاة بدأ بزيارة القاضى الفاضل، وكان بجوسق ابن الفراش بالشرف الأعلى في بستانه، فاستضاء برأيه فيما يريد أن يفعله، وكان لا يأتى أمرا إلا من بابه، وأقام عنده إلى الظهر ثم ودعه ورحل، وكانت مدة مقامه بدمشق خمسة أيام، فسلك على عين الجر والدلهمية والبقاع، وأتى بعلبك، وخيّم بمرج عدّوسه، ثم رحل على سمت اللبوة. ثم أتى الدّراعة، ووصله الخبر بوصول عماد الدين زنكى بن مودود صاحب سنجار في جموعه وجنوده، ونزوله على بحيرة قدس من عمل حمص، فسار إليه، واجتمعا، ونزل السلطان وعماد الدين بالبحيرة، وعمل عماد الدين على البحيرة للسلطان دعوة، وعمل له السلطان دعوة، واجتمعا في الركوب والجلوس، وتأكد بينهما التصافى والمودة. وأرسل السلطان إلى ابن أخيه الملك المظفر - صاحب حماة -، وولده الملك الظاهر [315]- صاحب حلب - فأمرهما بأن يجتمعا وينزلا بتيزين (¬1) قبالة أنطاكية لحفظ ذلك الجانب، ففعلا. وأقام السلطان بالبحيرة إلى آخر ربيع الأول، ثم رحل في أول ربيع الآخر، وخيّم على تل قبالة حصن الأكراد، وشنّ الغارة على نواحى الحصن، وصافيتا، والعزيمة، وتلك الحصون، وفتح حصن يحمور، ولم تزل الإغارات والغنائم وهم في تلك المنزلة إلى آخر ربيع الآخر. ¬

(¬1) تيزين، عرفها (ابن الشحنة: الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب، ص 222) فقال إنها من مضافات أنطاكية من الحصون، وهى مدينة صغيرة قديمة كان لها سور قد تهدم، ولم تزل في أيدى المسلمين إلى أن استولت الفرنج على أنطاكية، ثم استعادها المسلمون منهم، وقصبتها الآن " أرتاح ".

ذكر فتح أنطرطوس

ووصل إلى السلطان وهو في تلك المنزلة قاضى جبلة منصور بن نبيل، وجماعة معه، فأشار على السلطان بقصد جبلة، وتكفل له بفتحها، وفتح اللاذقية، وتلك الحصون الشمالية والمعاقل، وكانت تلك البلاد قد سلمها إليه ابرنس أنطاكية، وعوّل عليه فيها، وقال للسلطان: " إن الاشتغال بطرابلس مع حصانتها ومنعتها يذهب الزمان، والمسلمون بجبلة راغبون في التسليم، منتظرون للسلطان أن يخلصهم من الفرنج ". فأصغى إلى قوله. ذكر فتح أنطرطوس ثم سار السلطان من منزلته تلك ذلك اليوم - يوم الجمعة رابع جمادى الأولى - على تعبية لقاء العدو؛ ورتّب الأطلاب، وسارت الميمنة ومقدمها عماد الدين زنكى، والقلب في الوسط، والميسرة في الآخرة، ومقدمها مظفر الدين بن زين الدين، والثقل في وسط العسكر، حتى أتى المنزل، فبات تلك الليلة في بلد العدو، ثم رحل صبيحة السبت ونزل على العزيمة، فلم يعرض لها، ولكن أقام عليها بقية يومه، ورحل يوم الأحد، فوصل إلى انطرطوس، فوقف قبالتها ينظر إليها، وكان عزمه الاجتياز إلى جبلة، فاستهان بأمرها، فسير من ردّ الميمنة، وأمرها بالنزول على البحر من الجانب الآخر، فما استتم نصب الخيم حتى صعد الناس السور وغنم العسكر جميع ما فيها، وخرج الناس ومعهم الأسرى والأموال، وترك الغلمان نصب الخيم، واشتغلوا بالكسب، ووفى بقوله - رحمه الله - فإنه كان قد عرض عليه الغدا، فقال: " نتغدى بانطرطوس إن شاء الله ".

قال القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله -: " فعاد إلى خيمته فرحا مسرورا، وحضرنا عنده للهناء بما جرى، ومد الطعام، وحضر الناس، وأكلوا على عاداتهم، ورتّب على البرجين الباقيين الحصار، فسلم أحدهما إلى مظفر الدين، فما زال [316] يحاصره حتى أخربه، وأخذ من كان فيه، وأمر السلطان باخراب سور البلد، وقسّمه على الأمراء. وكان البرج الآخر حصينا منيعا مبنيا بالحجر النحيت، وقد اجتمع من كان فيها من الخيّالة فيه، وخندقه فيه الماء، وفيه جروخ (¬1) كثيرة تجرح الناس على بعد، فرأى السلطان تأخير أمره، والاشتغال بما هو أيسر منه، واشتد في خراب السور حتى أتى عليه، وخرب البيعة، وهى بيعة عظيمة يحجونها من سائر البلاد، وأمر بوضع النار في البلد، وأحرق جميعه، والأصوات مرتفعة بالتهليل، وأقام يخرّب البلد إلى رابع عشر جمادى الأول. ثم سار يريد جبلة، فالتقاه ولده الملك الظاهر في أثناء الطريق، ومعه العسكر التي كانت بتيزين (¬2)، ونزل السلطان على مرقية، وقد أخلاها سكانها، فخيّم بها، وكانت الطريق إلى جبلة على الساحل ضيقة المسلك، وهناك حصن للاسبتار يقال له المرقب، مأهول معمور، ولا طريق إلا تحته. وكان ملك صقلية لما بلغه ماتم على الفرنج بالشام جهّز أسطولا يشتمل على ستين قطعة، وقدم عليها رجلا يقال له المرعريط، فوصل وما ضرّ ولا نفع، فإن فرنج الساحل لم يرفعوا به رأسا، وضجروا منه، فإنه كان في عشرة آلاف رجل، ويحتاجون إلى ميرة وكلف كثيرة، فصار إلى مدينة صور، ثم رجع إلى طرابلس، وتردد أشهرا في البحر، فلما سمع بعبور عسكر المسلمين على الساحل ¬

(¬1) انظر ما فات هنا، ص 150، هامش 3 (¬2) انظر ما فات هنا، ص 244، هامش 1

ذكر فتح جبلة

إلى جبلة جاء بالشوانى، ووضعها على موازاة الطريق، وفيها الرماة، فأمر السلطان بنقل الجفاتى (¬1) إلى هناك وتصفيفها، وتكثير ستائرها، وأجلس الرماة من ورائها، فما زال الأمر كذلك، والرماة ترمى، والمسلمون سالكون المضيق إلى أن عبرت الأثقال والأحمال، وخلص المسلمون من تلك المثقة، ووصلوا إلى مدينة يقال لها بلنياس، وقد انجلى عنها أهلها، فخيّم السلطان عليها، ثم أصبح على الرحيل، فاعترضه نهر عميق ما فيه طريق، وهو مطرد من الجبل إلى البحر، وعليه قنطرة واحدة، فتنكبها السلطان بالجحفل، ومضى يمينا إلى الجبل، وأبعد حتى عبر فوق رأس العين، وأحاطت العساكر بالنهر من جانبيه، (317) وتزاحمت الأثقال على القنطرة، فما خلصوا تلك الليلة إلى آخرها، ونزل السلطان قبل وصول الأثقال إلى بلده، وهى بليدة من غربى النهر على شاطئ البحر، وقد أخلاها أهلها. ذكر فتح جبلة وأصبح السلطان يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى نازلا على جبلة، وكان قاضيها قد سبق إليها، واتفق مع من فيها من المسلمين على التسليم، فما وصل المسلمون إليها إلا وقد رفعت على سورها الأعلام السلطانية، ¬

(¬1) الجفتا - والجمع جفاتى وجفتيات - عرفها دوزى بالكلمة الفرنسية (palissade) : أي السياج الساتز، ويبدو أنها كانت نوعا من المتراس أو الحاجز المعيق لتقدم العدو، أو الذى يستتر وراءه الجنود الرماة أثناء القتال، وفى المراجع المعاصرة نصوص قد تلقى الضوء على معنى هذا اللفظ؛ فقد جاء في (العماد: الفتح القسى، ص 58): " فحوّل السلطان إلى قربها له خيمة صغيرة، وأنهض بنات الحنايا بالمنايا عليها مغيرة، وصفّ الجفاتى، فصدف أتيها الآتى. . . الخ " وقال في ص 60: " يركان من إحكام العزم، وإتمام الحزم، تكميل الآلات وتتميمها، وتركيب الأبراج والدبابات وتأليفها، وتقريب الجفاتى والجنويات وتصفيفها "؛ وقال في ص 61: " ونظمت الستائر من القضيب، وصفّت من سور صور بالمكان القريب، وكمت من ورائها الكماة، واستترت بالجفاتى قدامها الرماة ".

ذكر فتح بكسرائيل

وتحصّن الفرنج بحصنها، فما زال بهم قاضى جبلة يخوفهم ويرغبهم حتى استنزلهم منها بشرط أن يأخذ منهم رهنا إلى أن يردوا من أنطاكية رهائن جبلة من المسلمين، فأخذ منهم جماعة من رؤوسهم ومقدميهم، فبقوا عنده حتى أعاد الابرنس صاحب أنطاكية الرهائن التي عنده، فحينئذ أطلقوا. وكان تسلم جبلة يوم السبت تاسع عشر جمادى الأولى، وأقام السلطان عليها إلى الثالث والعشرين منه. ذكر فتح بكسرائيل وفى الجبل على سمت طريق حماة حصن حصين يعرف ببكسرائيل، وكان أهل الحصن استعادوه من الفرنج منذ سنين، فسلموه إلى السلطان، ونزلوا مقدمو الجبل إلى خدمته سامعين مطيعين. ثم سلم السلطان جبلة إلى الأمير سابق الدين [عثمان] بن الداية - صاحب شيزر -، واحترم قاضى جبلة، وأحسن إليه وحبس عليه أملاكا، وصرّفه في أملاك آبائه، وحكّمه في القضاء وفوّضه إليه. ذكر فتح اللاذقية ثم رحل السلطان إلى اللاذقية يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الأول، فبات بالقرب منها وصبّحها يوم الخميس، وقد امتنع الفرنج بقلاعها، وهى ثلاث متلاصقات على طول البلد، فاشتد القتال، وعظم الزحف إلى آخر النهار، فتسلم السلطان البلد دون القلاع، وغنم الناس منه غنيمة عظيمة، فإنه كان بلد التجار، وفرّق بين الناس الليل، وأصبح يوم الجمعة مقاتلا، وأخذ النقوب من شمال

القلاع، وتمكن منها النقب حتى بلغ طوله ستين (¬1) ذراعا، وعرضه أربعة أذرع، واشتد الزحف عليه، حتى صعد الناس الجبل، وقاربوا السور، وتواصل القتال [318] حتى صاروا يتحاذفون بالحجارة، فحينئذ استغاثوا بالأمان، فاستدعوا بقاضى جبلة، فدخل إليهم، وقرّر لهم قاعدة الأيمان، فأجيبوا إليه، وعادوا الناس عنهم إلى خيامهم وقد أخذ منهم التعب. ولما كان صبيحة السبت دخل إليهم قاضى جبلة، واستقر الحال معهم على أن يطلقوا بنفوسهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم، خلا الغلال والذخائر وآلات السلاح والدواب، وأطلق لهم دواب يركبونها إلى مأمنهم، ورفع العلم السلطانى على السور في يوم السبت؛ فأقام السلطان عليها يوم الأحد سابع عشر من جمادى الأولى. ومن جملة كتاب كتبه السلطان إلى أخيه سيف الدين طغتكين بن أيوب - صاحب اليمن -: " وهذه اللاذقية مدينة واسعة، وخطة جامعة، معاقلها لا ترام، وأعلاقها لا تستام، وهى أحسن بلاد الساحل وأحصنها، وأزيدها أعمالا وضياعا وأزينها، وما في البحر مثل ميناها، ولا للمراكب (¬2) الواردة إليها مثل مرساها، وهى جنة كان يسكنها أهل الجحيم، وطالما مكثت بالكفر دار بؤس فعادت بالإسلام دار نعيم ". وكانت شوانى صقلية قد قابلت في البحر اللاذقية، طلبا (¬3) لا متناعها، فلما فتحت وقف السلطان على شاطئ البحر بعساكره، فطلب مقدم تلك الشوانى ¬

(¬1) النص في (الروضتين، ج 2، ص 126): «عشرين ذراعا». (¬2) الأصل: " المراكب "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 128). (¬3) النص عند العماد (المرجع السابق): " طمعا في امتناعها ".

ذكر فتح صهيون

أمانا ليصعد ويجتمع به، فصعد وخدم السلطان، وعفّر وجهه على الأرض بين يديه، وقال له: " أنت سلطان عظيم قد شاع في الأرض عدلك، واشتهر فضلك وإحسانك، فلو مننت على هذه الطائفة الساحلية الخائفة لملكت قيادها، ولو أعدت عليها ما أخذته من البلاد صاروا لك عبيدا وأطاعوك، وإلا جاءك من وراء البحر في عدد الموج أفواجا فوجا بعد فوج، وسار إليك ملوك النصرانية من سائر الممالك، وأمر هؤلاء القوم أهون عليك من غيرهم، فاعطف عليهم واصفح ". فقال له السلطان: " قد أمرنا الله بالجهاد لأعداء الدين، وافترضه علينا، فنحن قائمون في طاعته بأداء ما افترض علينا من الجهاد، وهو الذى يقدرنا على فتح البلاد، ولو اجتمع علينا أهل الأرض لتوكلنا على الله تعالى ". فصلّب الفرنجى على وجهه وعاد إلى مركبه. ذكر فتح صهيون ورحل السلطان من اللاذقية (319) قاصدا صهيون بعد أن سلمها إلى ابن أخيه الملك الظفر تقى الدين، فنزل على صهيون يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى، فاستدار العسكر بها من جميع نواحيها بكرة الأربعاء، ونصب عليها المناجيق، وهى قلعة حصينة منيعة شاهقة في الهواء، وهى في طرف جبل، وخنادقها أودية هائلة واسعة عميقة، وليس لها خندق محفور إلا من جانب واحد طوله ستون ذراعا، وهو نقر في حجر، ولها ثلاثة أسوار: سوران دون ربضها، وسور دون القلة (¬1) مع سور القلة. ¬

(¬1) النص عند ابن شداد - وهو المرجع الذى ينقل عنه هنا - " دون القلعة وسور القلعة "، انظر: (الروضتين، ج 2، ص 129).

وأنزل السلطان ولده الملك الظاهر على المكان الضيق من الوادى، فنصب منجنيقا مقابل قرنه من السور، وكان صائب الحجر، ولم يزل يضربها حتى هدم من السور قطعة عظيمة، وكان معه جماعة من الرجالة الحلبيين، وهم في الشجاعة بالمنزلة المشهورة، ودام رمى النشّاب (¬1) والجرخ (¬2) والزنبورك (¬3) والزّيار (¬4)، فخرج أكثر أهل الحصن وهم يظهرون التجلد. ولما كان بكرة الجمعة ثانى جمادى الآخرة عزم السلطان على الزحف، وركب وتقدم، وتواتر ضرب المنجنيقات، وارتفعت الأصوات، وعظم الضجيج بالتكبير والتهليل، فتعلق المسلمون بقرنه من ذلك الجبل، وقد أغفل الفرنج إحكامها، فتسلقوا منها بين الصخور حتى التحقوا بالسور الأول، فقاتلوهم عليه حتى ملكوه، وملكو بقية أسوار الربض وهجموا. ¬

(¬1) النشاب النبل أو السهام، واحدته نشّابة، والناشبة والنشّابة قوم يرمون بالنشاب (اللسان)، وقد ذكر (الحسن بن عبد الله: آثار الأول، ص 160) أنواع النشاب وما يمتاز به كل نوع على الآخر، قال: " وأما النشاب فيجب أن تكون صحيحة الاعتدال والاستدارة والفتل والثقل والخفة، وطوله وقصره على حسب مقادير الرامى، والمريش المربع أو المثلث، والجناح الأيمن أخف من الأيسر، والمثلث المريش أسرع، والمربع أعدل وأصح، لكن فيه بطء، وريش الذنب لا خير فيه، فإن اضطر إليه فليخلط مع غيره. . . الخ ". (¬2) راجع ما فات هنا ص 150، هامش 3؛ ص 243، هامش 4 (¬3) راجع ما فات هنا ص 244، هامش 1 (¬4) الزيار - والجمع زيارات - نوع من القسى الرامية للسهام، يذكر غالبا مع أنواع القسى الأخرى مثل الجرخ والعقّار، ولكنه أكبرها وأضخمها، وقد وصفها (مرضى بن على: تبصرة أرباب الألباب، ص 6) وصفا واضحا دقيقا، قال: " قسى الزيار، وهى أشدها رميا، وأعظمها جرما، وأنكأها سهما، ويحتاج ايتارها إلى عدة من الرجال، وتركيب هيولاها من أصناف من الأخشاب، وتنصب على الأبراج وماشا كلها، ولا يكاد أحد يقف لها "، أنظر أيضا: (Dozy : Supp .Dict .Arab) و (C .Cahen : Un Traite d'Armureie . . .etc .P ,151 - 152) و (العماد الأصفهانى: الفتح القسى، ص 64).

قال القاضى بهاء الدين بن شداد: " فلقد كنت أشاهد الناس وهم يأخذون القدور وقد استوى فيها الطعام، فيأكلونها وهم يقاتلون القلعة، وانضم من كان في الربض إلى القلعه بما أمكنهم أن يحملوه من أموالهم، ونهب الباقى، ثم استدار المسلمون حول أسوار القلعة، فلما عاينوا الهلاك استغاثوا وطلبوا الأمان، فأمنهم السلطان، على أن يسلموا بأموالهم وأنفسهم، وقرّر عليهم قطيعة القدس، فسلمت القلعة. ثم سلّم السلطان صهيون بجميع أموالها وسائر ما حوته من ذخائر وأموال إلى الأمير ناصر الدين منكورس بن خمارتكين - صاحب بوقبيس - فأحكم البلد وحصّنه وحفظه. وكان ناصر الدين له همة عالية، ومعروف [320] كثير وسياسة تامة، وصدقات كثيرة دارة، وأوقف وقوفا جليلة، ولم يزل مشكور السيرة، مرضى الطريقة، مقصدا وملاذا لمن قصده من أهل الفضل والدين إلى أن توفى وهو مالك صهيون، وتولى بعده ولده مظفر الدين عثمان، ثم توفى مظفر الدين عثمان ابن منكورس بن خمارتكين، فملكها بعده ولده سيف الدين محمد، فلم يزل مالكا لها إلى أن توفى سنة إحدى وسبعين وستمائة (¬1)، وولّى بها السلطان الملك الظاهر ركن الدين نوابه، فكان مدة ملك آل خمارتكين لها نحو سبع وثمانين سنة. وكان مظفر الدين عثمان سالكا طريقة والده في العدل والإحسان، والصدقة وحسن السيرة، وكان جده ناصح الدين خمارتكين - رحمه الله - أميرا جليل القدر، واستشهد بيد الباطنية، وهو في خدمة السلطان، وقد ذكرنا ذلك. ¬

(¬1) هذا النص يدل على أن ابن واصل كان يكتب هذا الجزء من كتابه بعد سنة 671 هـ‍.

ذكر فتح عدة حصون

ذكر فتح عدة حصون ثم تسلم يوم السبت ثالث جمادى الآخرة قلعة العيد، ويوم الأحد رابع الشهر قلعة الجماهريين، ويوم الاثنين خامس جمادى الآخرة حصن بلاطنس، وندب إلى كل حصن من تسلمه، وكانت هذه الحصون متعلقة بصهيون. ذكر فتح الشّغر وبكاس ثم رحل السلطان حتى أتى بكاس، وهى قلعة حصينة على جانب النهر العاصى المعروف بالارنليط، ولها نهر يخرج من تحتها، وكان نزول السلطان على جانب العاصى يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة، وصعد السلطان إلى القلعة وأحدق بها من كل جانب، وقاتلها أشد قتال بالمنجنيقات والزحف، ثم تسلمها يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة، وأسر من فيها بعد قتل من قتل منهم، وغنم جميع ما كان فيها، وكان لها قليعة تسمى الشغر قريبة منها يجاز إليها بجسر، وهى في عاية المنعة ليس إليها طريق، فسلطت عليها المنجنيقات من الجوانب الأربع، فطلبوا الأمان، وذلك يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة، وسألوا أن يؤخروا ثلاثة أيام لأجل استئذان من بأنطاكية، ثم سلمت، وصعد العلم السلطانى على سورها يوم الجمعة سادس عشر الشهر، ثم عاد السلطان إلى مخيمه. ذكر فتح سرمانية ولما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة [321] بقيت من جمادى الآخرة سيّر السلطان ولده الملك الظاهر - صاحب حلب - إلى قلعة تسمى سرمانية، فقاتلها قتالا شديدا، وضايقها مضايقة عظيمة، ثم تسلمها يوم الجمعة لسبع بقين من الشهر، بعد قطيعة قررّها وقبضها، ولما أخرجهم منها هدمها وسواها إلى الأرض.

ذكر فتح حصن برزية

ومن عجيب الاتفاق أن هذه ست قلاع ومدن فتحت في ست جمع، وهى علامة قبول دعاء خطباء المسلمين وسعادة السلطان، حيث يسّر الفتوح في اليوم الذى تضاعف فيه الحسنات، ولم يتفق مثل هذا في تاريخ؛ وهى: جبلة، واللاذقية، وصهيون، وبكاس، والشغر، وسرمانية. ثم أنعم السلطان بالشغر وبكاس على الأمير غرس الدين قلج، وكان هذا قلج قد تسلم كفرديين - وهو معقل حصن الأرمن -، وكان هذا أميرا جليل القدر، وخلّف أولادا أكابر ثلاثة، وهم: شمس الدين، وسيف الدين، وعماد الدين؛ وكان شمس الدين أكبرهم، وله ميل إلى الفضيلة، وكذلك أخوه. ثم أخذ منهم الملك الظاهر بعد موت السلطان الحصون، وأقطعهم أخبازا كثيرة بحلب، ثم فارق سيف الدين وأخوه عماد الدين حلب، وذلك بعد وفاة الملك الظاهر ووفاة أخيهما شمس الدين، وخدما الملك الكامل بن الملك العادل، ثم تقلبت بهما الأحوال، فقتل عماد الدين بالشرق، وأما سيف الدين فخدم الملك الناصر داوود بن الملك المعظم عيسى، فأقطعه عجلون، ثم سلمها بعد ذلك سيف الدين إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، وتوفى سيف الدين بدمشق، وكانت له مشاركة في علوم وفضيلة وثاقب رأى عند ملوك بنى أيوب. ذكر فتح حصن برزية ثم سار السلطان جريدة إلى حصن برزية، وهو في غاية المنعة والقوة على سن جبل شاهق يضرب به المثل في جميع بلاد الفرنج والمسلمين، تحيط به أودية من سائر جوانبه، وذرع علو القلعة فكان خمسمائة ذراع ونيفا وسبعين ذراعا، ثم جرد عزمه على حصاره بعد رؤيته، فاستدعى الثقل، ونزل تحت جبل الحصن، ولما كان بكرة يوم الأحد لخمس بقين من جمادى الآخرة صعد السلطان جريدة مع

المقاتلة [322] والمنجنيقات (¬1) وآلات الحصار إلى الجبل، وأحدق بالقلعة من سائر جوانبها، وضرب أسوارها بالمنجنيقات المتواترة ليلا ونهارا. ولما كان يوم الثلاثاء لثلاث بقين من جمادى الآخرة رتّب السلطان العسكر ثلاثة أقسام، ورتّب كل قسم يقاتل شطرا [من النهار، ثم يستريح ويتسلم القتال الشطر الأخر] (¬2) بحيث لا يفتر القتال أصلا. وكانت النوبة الأولى لعماد الدين زنكى - صاحب سنجار - فقاتل قتالا شديد حتى استوفى نوبته وكلّ أصحابه. ثم تسلم النوبة الثانية السلطان بنفسه وخواصه، وكان الزمان حرا شديدا، فاشتد الكرب على الناس، والسلطان في سلاحه يطوف عليهم ويحرضهم، وابن أخيه الملك المظفر كذلك، فقاتلوهم إلى قريب الظهر، ثم تعبوا ورجعوا، فلما رآهم السلطان قد عادوا تقدم اليهم وبيده جماق (¬3) فردّهم، وصاح في القسم الثالث وهم ينتظرون نوبتهم، فوثبوا ملبين، وساعدوا إخوانهم وزحفوا، فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به. وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا، فقاموا حينئذ، وتناصرت أنصار الله، واشتد الأمر، وبلغت القلوب الحناجر، فاشتد تعب الفرنج ونصبهم، وظهر عجزهم وضعفهم عن حمل السلاح، وخالطوهم المسلمون، فعاد الفرنج يدخلون الحصن، فدخل المسلمون معهم، وكانت طائفة قليلة في الخيام شرقى الحصن، فرأوا الفرنج قد أهملوا ذلك المكان، فصعدوا إلى الحصن من تلك الجهة، فلم يمنعهم مانع، والتقوا مع المسلمين الداخلين والتقوا مع الفرنج، فملكوا الحصن ¬

(¬1) راجع (مفرج الكروب، ج 1، ص 180، هامش 2). (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين عن المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا، وهو ابن شداد، راجع أيضا: (الروضتين، ج 2، ص 131)، وهى إضافة ضرورية يستقيم بها المعنى. (¬3) جماق أو جوماق نوع من السلاح يشبه الدبوس، عرفه (Dozy : Supp .Dict .Arab) بأنه (Une arme semblable a une massue) أي أنه نوع من السلاح يشبه القضيب أو الدبوس.

ذكر فتح دربساك

عنوة وقهرا، ودخل الفرنج القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نقبها، وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة، وأرجلهم في القيود والخشب [المثقوب] (¬1)، فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحى الحصن والقلعة كبروا في سطح القلة، فظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا إلى سطح القلة، فألقوا بأيديهم إلى الأسر، وملكها المسلمون عنوة، ونهبوا ما فيها، وأسروا وسبوا، وأمت خالية لا ديّار بها، وألقى المسلمون النار في بيوتهم فاحترقت، وولى السلطان حصن برزية للأمير عز الدين إبراهيم بن الأمير شمس الدين بن المقدّم - وهو صاحب حصن أفامية - وبين الحصنين بحيرة تحجز بينهما. وكانت زوجة البرنس [223] صاحب أنطاكية تهادى السلطان وتناصحه، وتطالعه على أسرار الفرنج، وكان السلطان يكرمها لذلك، ويهدى إليها أنفس الهدايا، وكانت أختها صاحبة برزية فسبيت يوم الفتح، فما زال السلطان يطلبها حتى أحضروها، وأحضروا زوجها، وابنة له، وجماعة من أصحابها، وصهرها، فأنعم عليهم السلطان بما لهم، وسيرهم إلى أنطاكية إكراما لامرأة البرنس، فشكرته على ذلك، ودامت مودتها له. ذكر فتح دربساك (¬2) ثم سار السلطان حتى أتى إلى جسر الحديد، وأقام عليه ثلاثة أيام، ثم سار إلى دربساك (2) فنازلها يوم الجمعة ثامن رجب من هذه السنة، وهى قلعة منيعة من معاقل الداوية، قريبة من أنطاكية، ونصب عليها المنجنيقات، وتابع الرمى بالحجارة، فهدمت من سورها شيئا يسيرا، فلم يبال من فيها بذلك، ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين عن: (ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 2)، وهو المرجع الذى ينقل عنه المؤلف هنا. (¬2) الأصل: " ديربساك "، وقد ضبطت بعد مراجعة: (صبح الأعشى، ج 4، ص 122)

ذكر فتح بغراس

فزحف إليها بعساكره، وكشف الرجال عن سورها، وتقدم النقابون فنقبوا برجا وعلقوه، فسقط واتسع المكان لمن يريد أن يدخل من المقاتلة، واستمروا يومهم ذلك على الزحف من الغد، وحمى الفرنج موضع النقب بالرجال المقاتلة، ووقف في الثغرة رجال يحمونها عن من يصعد فيها. قال القاضى بهاء الدين: " ولقد شاهدتهم وكلما قتل منهم رجل قام غيره مقامه، وهم قيام عوض الجدار مكشوفين " واشتد الأمر فطلبوا الأمان، فأومنوا على أن يخرجوا بثياب أبدانهم، ويدعوا كل ما في الحصن من خيل وعدة وأثاث وقماش وذهب وفضة، واستمهلوا ثلاثة أيام ليراجعوا أهل أنطاكية، فأمهلوا حتى أخرجوا، وتسلم الحصن يوم الجمعة لثمان بقين من رجب. ذكر فتح بغراس ثم سار السلطان عن دربساك إلى قلعة بغراس بعد أن اختلف أصحابه في حصرها، فمنهم من أشار به، ومنهم من نهى عنه، فقال: " هو حصن، وقلعته منيعة بالقرب من أنطاكية، ويحتاج أن يكون أكثر العسكر يزكا في مقابلتها، وحينئذ يفشل المقاتلون على بغراص ويتعذر الوصول إليها، فاستخار السلطان الله تعالى، وسار إليها، [324] وجعل أكثر العسكر في مقابلة أنطاكية يزكا يغيرون على أعمالها، وكانوا حذرين خوفا إن غفلوا لقربهم منها (كذا) وبقى السلطان في بعض أصحابه يقاتل القلعة، ونصب عليها المنجنيقات، فلم تؤثر فيها شيئا لعلوها وارتفاعها، فغلب على الظن تعذر فتحها، وتأخر ملكها وشق على المسلمين قلة الماء عندهم، فبينما الناس على هذه الحال وإذا بباب القلعة قد فتح، وخرج منها إنسان يطلب الأمان ليحضر، فأذن له في الحضور، فحضر وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه بما فيه على قاعدة دربساك فأجيبوا إلى ذلك.

ذكر الهدنة مع الأبرنس صاحب أنطاكية

وعاد الرسول، وأخذوا الأعلام السلطانية، فرفعت على الأسوار، ونزل من فيها، وتسلم السلطان القلعة بما فيها من الرجال والسلاح والأموال، وأمر السلطان بتخريب الحصن فخرّب، وكان في ذلك مضرة عظيمة على المسلمين، فإن ابن ليون - صاحب الأرمن - أخرج إليه من ولايته بعد ذلك، فجدّد عمارته، وأتقنه، وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون به على البلاد، ووقع الضرر بسببه. وكان فتح بغراص في ثانى شعبان. قال عماد الدين الكاتب: " وهذان الحصنان دربساك وبغراص كانا لأنطاكية جناحين، ولطاغية الكفر سلاحين، فتم للسلطان فتح هذه الحصون المذكورة مع أبراج ومغارات وشقفانات (¬1) كثيرة حتى خلص ذلك الإقليم، وتم (¬2) الفتح العظيم، وعادت الكنائس مساجد، والبيع معابد، والصوامع جوامع، والمذابح لعبدة الصلبان (¬3) مصارع ". ذكر الهدنة مع الأبرنس صاحب أنطاكية ولما فتح السلطان بغراص عاد إلى مخيمه الأكبر وأثقاله، وراسله الابرنس في طلب الصلح، فصالحه لشدة ضجر العسكر، وقوة قلق عماد الدين - صاحب سنجار - في طلب الدستور، واشترط على الابرنس إطلاق جميع أسارى المسلمين ¬

(¬1) في (الروضتين، ج 2، ص 133): " شقفان "، ولعلها جمع " شقيف "، وقد قال (ياقوت: معجم البلدان) عند كلامه عن شقيف أرنون: الشقيف كالكهف. (¬2) بهذا اللفظ يتقابل النص هنا مرة أخرى مع نسخة س، وإنما في ص 83 أ. (¬3) الأصل: " السلطان " والتصحيح عن س.

الذين عندهم [وكانوا ألف أسير فأطلقوا] (¬1)، وكانت مدة الصلح ثمانية أشهر، أولها [أول] تشرين الأول، وآخرها آخر أيار، وودع السلطان عماد الدين - صاحب سنجار - والعساكر [325] الشرقية. ثم سار السلطان إلى حلب، وقد خرج كل من بها لتلقيه، مستبشرين بإقباله ونصره، وصعد إلى قلعتها، وأقام بها أياما، ووجد ولده الملك الظاهر قد سار في أهلها أحسن سيرة [ففرح بذلك] (1) ثم سار السلطان إلى معرة النعمان، وقصد زيارة الشيخ الزاهد أبى زكريا المغربى، بدير النقيرة، وزار قبر عمر بن عبد العزيز - رضى الله عنه - ثم سار إلى حماة، فصعد مع صاحبها ابن أخيه الملك المظفر إلى قلعتها، ومع السلطان أمير المدينة النبوية - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - وهو السيد الشريف عز الدين أبو فليتة القاسم بن مهنا؛ وكان مصاحبا للسلطان في جميع فتوحاته، وكان السلطان لا يفارقه، [وكان له فيه اعتقاد عظيم، لأجل جده وليمن طلعته] (¬2)؛ ووجد السلطان ابن أخيه الملك المظفر قد عمّر قلعة حماة وحصّنها، وعمّر خنادقها، وكانت ذات تل مسطح، فأصبحت من القلاع العظام المشهورة، فسر السلطان لما رأى من حصانتها، وقام الملك المظفر بوظائف خدمة عمه. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬2) هذه الجملة واردة بهامش الأصل، ولا توجد في س.

ذكر قدوم السلطان - رحمه الله - إلى دمشق

ذكر قدوم السلطان - رحمه الله - إلى دمشق (¬1) ثم رحل السلطان من حماة قاصدا دمشق، فلم يقم بحمص، وجاء إلى بعلبك على طريق الزراعة واللبوة، ووصل إلى دمشق قبل دخول شهر رمضان، فأقام بها إلى أن دخل شهر رمضان، فأشير عليه أن يريح عسكره، فقال رحمه الله: " إن القدر غير مأمون، والعمر لا يعلم كم بقى منه، وللفرص أوقات تنتهز، وقد بقيت مع الكفر هذه الحصون، ولابد من المبادرة إلى أخذها، لا سيما صفد وكوكب، فإنهما للداويّة والاسبتارية في وسط البلاد، فنخرح ونشتو (¬2) عندهما لنفتحهما ". ذكر فتح الكرك والشّوبك قد ذكرنا أن الأمير سعد الدين كمشبا (¬3) الأسدى رتبه السلطان على منازلة الكرك، فلازم حصاره هذه المدة الطويلة حتى فمنيت أزواد الفرنج وذخائرهم، وأكلوا دوابهم، وصبروا حتى لم يبق للصبر مجال، وكان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب مقيما بتبنين في جملة من العسكر، قد أقامه السلطان هناك عند توجهه إلى البلاد الشمالية، فراسل الفرنج [326] الذين بالكرك الملك العادل يبذلون تسليم القلعة إليه، ويطلبون الأمان، وترددت بينهم في ذلك رسائل، وآخر الأمر أنه أجابهم، وأرسل إلى صهره سعد الدين كمشبا في المعنى، فتسلم القلعة، ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في نسخة س. (¬2) س: " نشتى ". (¬3) رسم هذا الاسم عند العماد (الروضتين، ج 2، ص 34 ا): " كمشبه ".

ذكر فتح صفد

وتسلم أيضا ما يقاربها من الحصون، كالشوبك وهرمز والوعر (¬1) وسلع؛ وفرغ القلب من تلك الناحية وأمن من في ذلك الصقع، كأهل القدس وغيرهم، فإنهم كانوا وجلين من مجاورتهم، مشفقين من شرهم. وكان هذا الفتح في أثناء شهر رمضان من هذه السنة - سنة أربع وثمانين وخمسمائة - ووردت البشرى بذلك إلى السلطان. ذكر فتح صفد (¬2) ثم سار السلطان من دمشق منتصف شهر رمضان إلى قلعة صفد، فحصرها ونصب عليها المنجنيقات، وأدام الرمى إليها ليلا ونهارا بالحجارة والسهام، وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم الفناء، لأن عسكر السلطان كان محاصرا لهم قبل ذلك، فلما رأوا قوة القتال، وأنهم قد أشرفوا على الهلاك لقلة الأقوات، طلبوا الأمان فأمنهم وتسلمها منهم، وخرجوا إلى صور وكفى الله المسلمين شرها، فإنها كانت في وسط البلاد الإسلامية؛ وكان فتح صفد رابع عشر شهر شوال. ذكر فتح كوكب ولما كان السلطان على منازلة صفد قال الفرنج الذين بصور: " إن فتح المسلمون (¬3) قلعة صفد لم يبق كوكب، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذه البلاد ". ¬

(¬1) الأصل: " والوعيرة " وس: " والوعرة "، وما هنا عن العماد (المرجع السابق) (¬2) س: " ذكر فتح صفد وكوكب "، وسيرد هنا بعد سطور فتح كوكب تحت عنوان خاص بهذا الموضوع. (¬3) س: " السلطان ".

فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها من رجال وسلاح وغير ذلك، فأخرجوا مائتى رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم، فساروا في الليل مستخفين، وأقاموا النهار مكمنين، فاتفق أن رجلا من المسلمين الذين كانوا يحاصرون كوكب خرج متصيدا، فلقى رجلا من تلك النجدة، فاستغر به بتلك الأرض، فضربه ليعلمه بحاله وما الذى أقدمه إلى هناك، فأقرّ بالحال ودلّه على أصحابه، فعاد الجندى المسلم إلى صارم الدين قايماز النجمى وهو مقدم ذلك العسكر، فأعلمه بصورة الحال والفرنجى معه، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذى قد اختفى فيه الرجال، فكبسهم وأخذهم، وتتبعهم في الشعاب [327] والكهوف، فلم ينفلت منهم أحد، وكان معهم مقدمان من فرسان الاسبتارية، فحملوا إلى السلطان وهو على صفد، فأحضرهما ليقتلهما، وكان عادته قتل من ظفر به من هذين البيتين: الداويّة، والاسبتارية لشدة عداوتهم للمسلمين وشجاعتهم (¬1)، فلما أمر بقتلهما قال له أحدهما: " ما أظن ينالنا سوء وقد نظرنا إلى طلعتك المباركة ووجهك الصبيح ". وكان - رحمه الله - كثير العفو، يؤثر فيه الاستعطاف والاعتذار، فلما سمع كلامه (¬2) لم يقتلهما وأمر بهما فسجنا. ولما فرغ السلطان من صفد سار إلى كوكب، فنزل على سطح الجبل، وجرّد العسكر، وأحدق بالقلعة، وضايقها بالكلية، بحيث اتخذ له موضعا يتجاوزه نشاب العدو، وبنى له حائطا من حجر وطين يستتر وراءه، والنشاب يتجاوزه، ولا يقف أحد على باب خيمته إلا أن يكون ملبسا، وكانت الأمطار متواترة، والوحول بحيث تمنع [الماشى والراكب] (¬3) إلا بمشقة عظيمة، وعانى [السلطان] (3) ¬

(¬1) الأصل: " وعداوتهم "، والتصحيح عن (ابن الأثير: الكامل، ج 12، ص 9). (¬2) الأصل: " كلامهما " والتصحيح عن س (79 ب). (¬3) ما بين الحاصرتين عن (الروضتين، ج 2، ص 135).

شدايد وأهوالا من شدة الرياح وتراكم الأمطار، وكون العدو مسلطا عليهم بعلو مكانه، وجرح وقتل خلق كثير. ولم يزل - رحمه الله - راكبا مركب الجد حتى تمكن النقب من سورها، وكان المقام قد طال عليها، وفى آخر الأمر زحف إليها دفعات متناوبة في يوم واحد، فوصل المسلمون إلى باشورة (¬1) القلعة، ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب عن يد واحدة والجروخ (¬2)، فلم يقدر واحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور فنقبوا الباشورة، فسقطت، وتقدموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنج ذلك طلبوا الأمان، فأمنهم، وتسلم الحصن منتصف ذى القعدة، فسيّرهم إلى صور، فاجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد، فاشتدت شوكتهم وحميت جمرتهم، وتابعوا الرسل إلى من بصقلية والأندلس وغيرهما يستغيثون ويستنجدون، والأمداد في كل وقت تأتيهم، وكان ذلك بتفريط السلطان في إطلاق كل من يحضره، حتى عضّ بنانه أسفا وندما حين جرى على المسلمين ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ثم ولى السلطان كوكب لصارم الدين قايماز النجمى، ونزل السلطان إلى المخيّم بالغور؛ فرحم الله السلطان الملك الناصر صلاح الدين وشكر سعيه، فما كان أشد ذبه وقيامه بنصرة الدين. ولقد حكى عنه القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - قال: " حضرت مع السلطان حصار صفد ليلة، وقد [328] عيّن مواضع خمسة مناجيق، حتى نصب الخمسة، وسلم كل منجنيق إلى قوم، ورسله تتواتر إليه يخبرونه، ويعرفهم كيف يصنعون، حتى أظلنا الصباح وقد فرغت المنجنيقات، ¬

(¬1) انظر ما فات هنا ص 81 هامش 1 (¬2) انظر ما فات هنا، ص 150 هامش 3؛ ص 243، هامش 4

ولم يبق إلا تركيب خنازيرها (¬1) فيها، فرويت له الخبر المشهور في الصحاح، وبشرته بمقتضاه، وهو قوله عليه السلام: " عينان لا تمسهما النار: عين [باتت] (¬2) تحرس في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله ". [فلقد رأيته وقد سر سرورا عظيما] (¬3). وكتب السلطان إلى الديوان العزيز كتابا بالإنشاء العمادى مبشرا بفتح الكرك والشوبك وصفد وكوكب، يقول فيه: " وقد خلص [لنا] (¬4) جميع مملكة القدس وحدّها في سمت مصر من (¬5) العريش، وعلى صوب الحجاز من الكرك والشّوبك، ويشتمل على البلاد الساحلية إلى منتهى أعمال بيروت، ولم يبق من هذه المملكة إلا صور، وفتح أيضا جميع أعمال أنطاكية ومعاقلها التي للفرنج والأرمن، وحدّه (¬6) من أقصى أعمال جبلة واللاذقية إلى بلد ابن لاون، وبقيت أنطاكية بمفردها، والقصير من حصونها، ولم يبق من البلاد التي لم تفتح أعمالها ولم تحل عما كانت عليه سوى طرابلس، فإنها لم يفتح منها إلا مدينة جبيل، فقد سحبت عليها المهلة الذيل، ومعاقلها باقية، وليس لها من عذاب الله الواقع واقية، والخادم الآن على التوجه إليها، وعزم النزول عليها، وأنه قد رتب الجانب القبلى والبلد المقدسى، وشحن الثغور من حد ¬

(¬1) كذا في الأصل، وعند ابن شداد؛ ولعلها «جنازيرها» وقد قال دوزى إن جنزير مأخوذة من «زنجير» الفارسية، ومعناها السلسلة. (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة: (الروضتين، ج 2، ص 135). (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬4) زيادة موضحة عن (الروضتين، ج 2، ص 137)، وفى س: " وقد خلصنا ". (¬5) الأصل: " من سمت مصر إلى العريش " والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 137). (¬6) الأصل: «وهذه»، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 127).

ذكر ظهور جماعة من الشيعة بمصر

جبيل إلى عسقلان، بالرجال والآلات والعدد، والعدد المتواصل المدد، ورتّب فيها ولده الأفضل عليّا (¬1) لحمايتها، وحفظ ولايتها، وقلّد ولده العزيز عثمان ولاية مصر ومملكة أقاليمها، لتهذيب أحوالها وتقويمها». ولما نزل السلطان إلى الغور ودّعه القاضى الفاضل، وتوجّه إلى مصر، ثم تحوّل السلطان إلى صحراء بيسان، وأقام بها إلى مستهل ذى الحجة. ذكر ظهور جماعة من الشيعة بمصر وثار في هذه السنة في القاهرة إثنا (¬2) عشر رجلا من الشيعة ليلا، ونادوا: «يآل على. يآل على»، وسلكوا الدروب ينادون، ظنا منهم أن رعية البلد يلبون دعوتهم، ويخرجون معهم، فيعيدون دولة أهل القصر، ويخرجون من هو محبوس منهم، ويملكونه البلد، فلم يلتفت أحد [329] من الناس إليهم، ولا أعارهم سمعه، فلما رأوا ذلك تفرقوا خائفين. وكوتب السلطان بذلك وهو على محاصرة صفد، وكان على بابه جماعة من وفود المصريين (¬3) فأهمه هذا الأمر وأزعجه، وتبرم بمن على بابه منهم، وقال: " إلى متى نتحمل منهم هذا؟ "، وهمّ بطردهم من بابه وردعهم، ودخل عليه القاضى الفاضل فأخبره بذلك، فقال: " يجب عليك أن تشكر الله على هذه النعمة، فقد عرفت بهذا الأمر طاعة رعيتك، أليس لم يلب دعوتهم أحد وأنه لم يكن لهم من يمدهم؟ فطب بذلك نفسا (¬4)، وتحقق زيادة منزلتك عند الله تعالى ". ¬

(¬1) الأصل: «عليها»، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬2) الأصل: " اثنى ". (¬3) الذى ذكره العماد (الروضتين، ج 2، ص 138) أن الوفد الذى كان بباب السلطان كان يتكون من جماعة من أولاد الوزراء المصريين والأمراء المقدمين. (¬4) بعد هذا اللفظ في س (85 ب): " وقر عينا " والنص هنا يتفق ونص العماد.

فقال له السلطان: " [كان الملوك قبلى] (¬1) تخافهم الرعية وتهرب منهم، وتتوقع سطوتهم، ورعيتنا (¬2) قد تكاثروا علينا وأضجرونا وملونا، وإذا ركبنا ونزلنا تعاورونا بالقصص " (¬3). فقال له القاضى القاضل: " أنت أولى الناس بشكر هذه النعمة، كان بمصر بالأمس صاحب القصر وأشياعه، وخدمه وأتباعه، وأمراؤه وخواصه، وما منهم أحد إلا ويرتع الخلق في رياض إنعامه؛ وكان بالشام والبلاد الشرقية في كل بلد وال وصاحب، له على أهله نعم؛ وفى كل قطر ملك يلوذ أهل ذلك القطر به، وقد أصبحت اليوم سلطان الجميع، وقد ردّ الله سبحانه آمال الكل إليك، وجمع المتفرقين على بابك، فلا يجدون لهم - بعد الله - إلا جودك وكرمك ". فأغرورقت عينا السلطان بالدموع، وشكر الله على إحسانه إليه، وآلى على نفسه ألا يرد قاصدا، ولا يخيب وافدا، فمثل هذا فليكن السلطان، ومثل القاضى الفاضل فليكن الوزير المشير - رحمهما الله وقدّس أرواحهما - ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن العماد (المرجع السابق)، وهى زيادة يقتضيها المعنى والسياق، والنص في س: " فقال له صلاح الدين: إن السلطان تخافه الرعية وتهرب منه. . . الخ ". (¬2) بعد هذا اللفظ في الأصل: " الذى لنا " وفى س: " بحنا قد تكاثروا "، والنص هنا مختصر عن العماد. (¬3) الأصل: " تعاودنا "، وس: " يعاودونا "، وما هنا عن العماد.

ذكر وصول السلطان إلى القدس وتوجهه بعد ذلك إلى عكا ثم إلى دمشق

ذكر وصول السلطان إلى القدس وتوجهه بعد ذلك إلى عكا ثم إلى دمشق (¬1) ثم رحل السلطان من البلاد الغورية مستهل ذى الحجة من هذه السنة - أعنى سنة أربع وثمانين وخمسمائة - وصحبته أخوه الملك العادل سيف الدين، فوصل إلى القدس يوم الجمعة ثامن الشهر، وهو يوم التروية، وصلى الجمعة في قبة الصخرة، وعيّد بها يوم الأحد الأضحى، ثم سار يوم الاثنين إلى عسقلان للنظر في أحوالها؛ وسيّر أخاه الملك العادل إلى الديار المصرية لمعاضدة ولده الملك العزيز [330] ومساعدته، وأعطاه الكرك، وأخذ منه عسقلان - وكان وه‍بها له -. ثم توجه السلطان إلى عكا، فما مرّ على بلد إلا قوّى عدده، وكثّر عدده، ووصل إليها، وأقام بها إلى أن خرجت السنة. ودخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة والسلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - مقيم بعكا ينظر في أمورها ومصالحها، وقد تقدم إلى بهاء الدين قراقوش باتمام العمارة (¬2)، وولى حسام الدين بشارة الولاية [بها]، وأقام السلطان بعكا معظم المحرم، ثم سار يريد دمشق، فدخلها في مستهل صفر من السنة. وفى ثانى عشر صفر وصل ضياء الدين عبد الوهاب بن سكينة رسولا من الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين يأمر بالخطبة لوليده وولى عهده عدة (¬3) الدنيا والدين ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في س. (¬2) س: " عمارتها ". (¬3) الأصل: " عمدة " والتصحيح عن س والروضتين.

أبى نصر محمد، وهو الذى ولى بعده، ولقب الظاهر بأمر الله؛ فأمر السلطان بإقامة الخطبة له، وسير معه رسوله ضياء الدين أبا (¬1) القسم بن محيى الدين بن الشهرزورى، وسيرت معه هدايا وتحف، وأسارى من الفرنج بعددهم وتاج ملكهم الأسير، والصليب الذى كان فوق الصخرة، وشئ كثير من الملبوس والطيب. وسار الرسولان إلى بغداد، ودخلت الأسارى من الفرنج على هيئتها يوم قراعها (¬2)، راكبة حصنها، في طوارقها (¬3) وأدراعها وبيارقها، وقد نكست ¬

(¬1) الأصل: " أبى "، وفى س: " ضياء الدين الفسم بن يحيى الشهرزورى ". وفى (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 101 و 114): " ضياء الدين القاسم أبو الفاضل بن يحيى بن عبد الله الشهرزورى ". (¬2) كذا في الأصل، وفى س: " مراعها " بدون نقط، وفى (الروضتين، ج 2، ص 139): " فراغها "، وما هنا هو الصحيح. (¬3) الطارقة - وتجمع على طوارق أو طارقيات -، اختلف في أصلها، ويرى (Dozy : Supp Dict .Arab) أنها لا ترجع إلى أصل عربى، بل هى مأخوذة عن الكلمة اللاتينية " targa " ومنها أخذت الكلمة الإيطالية (tarja) والفرنسية، (targe) والأصل اللاتينى لها جميعا، (tergum) ويؤيد دوزى رأيه هذا القائل بأن اللفظة ترجع إلى أصل أوروبى بشواهد كثيرة منقولة عن المراجع العربية المعاصرة للحروب الصليبية، ومعظم هذه الشواهد يورد لفظ " الطوارق " عند وصفه للصليبيين الأوربيين وأسلحتهم، فقد جاء في: (العماد الأصفهانى: الفتح القسى، ص 164) عند وصفه للقتال مع الفرنج قوله: " وهم (أي الفرنج) لمواضعهم ملازمون. . . وبالخنادق من البوائق محتمون، وبالطوارق من الطوارق معتصمون. . . "، ويقول في ص 247: " فتراجع الفرنج واصطفوا على خنادقهم ووقفوا بقنطار يأتهم وطوارقهم "، وقال في ص 262: " وتدرع (أي العدو) بأسواره وخنادقه، وتستر عن طوارق البلاء بستائره وطوارقه، فلا يخرج منه إلى معاركه "، وقال في ص 263: " إلى أن انتقل القتال من السور إلى الدور، ومن الطوارق إلى الطرق والسطوح. . . الخ ". أما عن معنى اللفظ فالرأى مختلف، ولكننا بدراسة هذه النصوص نستطيع أن نقول إن هذا المصطلح كان يطلق على نوعين من السلاح: الأول: نوع من الترس يحمله الجندى لحماية نفسه أثناء القتال، أو هو كما عرفه دوزى: " ترس كبير مستطيل يغطى معظم الجزء الأسفل من الجسم Un grand bouclier oblong qui couvrait presque toute la partie inferieure du corps =

أعلامها وبنودها؛ فدفن الصليب (¬1) تحت عتبة باب النوبى الشريف يتبين منه الشئ القليل، وكان من نحاس قد طلى بذهب، فديس بالأرجل، وبصق الناس عليه. ¬

= ويؤيد هذا المعنى قول العماد فيما سلف: " ووقفوا بقنطار يأتهم وطوارقهم "، وقول (بهاء الدين ابن شداد: السيرة اليوسفيه؛ ونقله عنه ابن واصل فيما يلى هنا: " ما وجدت مع واحد منهم (من الفرنج) طارقة ولا رمحا إلا النادر "؛ وكان في القاهرة حارة تسمى " حارة الطوارق " أو " حارة صبيان الطوارق "، قال (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 24) " وهم من جملة طوائف العسكر، كانوا معدين لحمل الطوارق ". وبهذا المعنى أيضا استعمل اللفظ في الغرب الإسلامى، ففى كتاب الحلل مثلا فقرة لابن اليسع يقول فيها أحد الموحدين: " فصنعنا دارة مربعة في البسط، جعلنا فيها من جهاتها الأربع صفا من الرجال بأيديهم القنا الطوال والطوارق المانعة، ووراءهم أصحاب الدرق والحرب صفا ثانيا ". والمعنى الثانى: آلة حربية مكونة من جملة من الألواح الخشبية تستخدم كمتراس يخفى الجنود الرماح والصخور خلفها، فهى كما وصفها دوزى: (Un mantelet,une sorte de machine composee de plusieure madriers,derriere laquelle on se mettait a couvert des lraits et des pierres) . ويؤيد هذا المعنى الثانى قول العماد السالف الذكر: " وهم بالخنادق من البوائق محتمون، وبالطوارق من الطوارق معتصمون " وقوله: " وتدرع بأسواره وخنادقه، وتستر عن طوارق البلاء بستائره وطوارقه " وقوله: " إلى أن انتقل القتال من السور إلى الدور، ومن الطوارق إلى الطرق "، فلفظ الطوارق في هذه النصوص يستعمل دائما مقرونا بلفظ الستائر أو الخنادق، فكأنه كان يؤدى عملها، وليس أوضح في هذا المجال من قول (الحسن بن عبد الله: آثار الأول، ص 192) عند وصفه لنوع من الدبابة أو البرج: ". . . فتندفع وتجرى على سهولة العجل التي ركبت عليها، ويصعد الرجال في أعلاه، وقد أديرت حوله الستائر والطوارق ". وقد وصف مرضى بن على الطوارق في كتابه (تبصرة أرباب الألباب، ص 12) الذى ألفه لصلاح الدين وصفا دقيقا يقطع الشك باليقين، قال عند ذكره لأنواع التراس: " ومنها الطوارق، وهى التي يستعملها الفرنج والروم، ويتباها (؟) في حسن إذهابها ودهانها وتلوينها بأنواع الأصباغ، وتصويرها وإتقانها، وهى مستطالة، وتكوينها إلى أن تستر الفارس والراجل، تبدئ مدورة، ثم تجمع أولا أولا إلى أن ينتهى آخرها إلى نقطة محدودة كرؤوس المعاول ". راجع كذلك: (Cahen : Un Traite d'Armurerie . .etc .P 155 - 156) و (ابن القلانسى: ذيل تاريخ دمشق، ص 179). (¬1) المقصود به: " صليب الصلبوت " المشهور، راجغ ما فات هنا، ص 183، هامش 1؛ ص 209 هامش 3

قلت (¬1): إن عدة (¬2) الدين أبا نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله كان الأكبر من ولد الإمام الناصر، وكان شهما قوى النفس شجاعا مقداما له همة عالية ونفس أبية، وكان أبوه يخافه ويستشعر منه لما يرى من شهامته وقوة نفسه، وكان أيضا أبو نصر محمد مخالفا لأبيه في المذهب، لأن أباه كان شيعيا، وكان أبو نصر سنيا يبغض الروافض، ويميل إلى الحنابلة، وكان أبوه يكرهه أيضا لهذا الأمر، لكنه لم يجد بدا من توليته العهد بعده إذ لم يكن له في ذلك الوقت من يصلح للأمر من بعده من ولده غيره. ثم إن الناصر لدين الله من بعد ذلك [331] نشأ له ولد أصغر من أبى نصر محمد، وهو أبو الحسن على، فكان منقادا لأبيه جدا، موافقا له في مذهب التشيع، فمال إليه الناصر لدين الله ميلا عظيما، وأعرض عن أبى نصر محمد، وقويت النفرة بينهما، وأدى ذلك إلى خلع الناصر ولده أبا نصر من ولاية العهد، وأمر بإسقاط اسمه من السكة والخطبة، وكتب بذلك إلى سائر الآفاق، وقيّد أبا نصر وحبسه. ثم بعد ذلك توفى أبو الحسن على بن الناصر، فحزن عليه أبوه الناصر حزنا عظيما، وتقدم إلى الشعراء بمرثيته، (¬3) وأظهر الملوك في سائر الأطراف شعار الحزن عليه، وجلسوا له في العزاء (3)، ورثته - كما سنذكره إن شاء الله تعالى - الشعراء، ولم يبق للخليفة غير أبى نصر، فدعته الضرورة إلى إعادة أبى نصر (¬4) إلى ولاية عهده، ¬

(¬1) مكان هذا اللفظ في س (86 ب): " قال صاحب التاريخ قاضى قضاة حماة المحروسة ابن واصل ". (¬2) الأصل " عمدة " والتصحيح عن س والروضتين. (¬3) هذه الجملة غير موجودة في س. (¬4) انفرد ابن واصل هنا بما ذكره من أن الخليفة الناصر كان شيعيا، وأنه عزل ابنه أبا نصر محمدا عن ولاية العهد لأنه كان سنيا يختلف مع أبيه في المذهب، والذى ذكرته المراجع الأخرى أن أبا نصر محمدا هو الذى استقال من ولاية العهد فأقاله والده. راجع في هذا: (ابن عربى: محاضرة الأبرار، ج 1، ص 48) و (ابن الاثير: الكامل، ج 12، ص 80) و (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، حوادث سنة 601) و (ابن الساعى: الجامع المختصر، نشر مصطفى جواد ص 144) و (السيوطى: تاريخ الخلفاء، ص 299).

ذكر منازلة السلطان شقيف أرنون

وكاتب بذلك الملوك، فخطبوا له بولاية العهد ثانيا سنة ثمانى عشرة وستمائة، لكنه لم يرض عنه، ولم يزل محبوسا مقيدا، والخطبة والسكة باسمه إلى أن توفى الناصر، وولى الخلافة بعده، لكنه لم يبق في الخلافة إلا أشهرا ومات. ذكر منازلة السلطان شقيف أرنون (¬1) ثم خرج السلطان من دمشق يوم الجمعة ثالث ربيع الأول من هذه السنة بعد صلاة الجمعة، فنزل بمرج فلوس، ونزل من الغد وهو يوم السبت بمرج برغوث، وأقام به والعساكر تتابع إلى حادى عشره، ورحل إلى بانياس، ومنها إلى مرج عيون، فخيّم به، وهو قريب من شقيف أرنون، بحيث يركب كل [يوم] فيشارفه ثم يعود، والعساكر تتواصل، وتأتى من كل ناحية، فأقام أياما يشرف كل يوم على الشقيف، فنزل صاحب الشقيف وهو أرناط (¬2) - صاحب صيدا - بنفسه إلى السلطان، وكان صاحب دهاء [ومكر] (¬3)، وكان من كبار الفرنج وعقلائهم، عارفا بالعربية (¬4)، وعنده اطلاع على شئ من التواريخ والأحاديث، فحضر عند السلطان وأكل معه الطعام، ثم خلا به، وذكر أنه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسلم المكان إليه من غير تعب، واشترط أن يعطى موضعا يسكنه بدمشق، فإنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الفرنج، وإقطاعا بدمشق يقوم به وبأهله، وقال: " إنى أخاف من المركيس أن يعرف ما بينى وبينك، فينال أولادى وأهلى منه أذى، فإنهم عنده، وأريد أن تمهلنى حتى أتوصل إلى تخليصهم من [332] عنده، وحينئذ أحضر أنا وهم عندك، ونسلم الحصن إليك، ونكون في خدمتك ". ¬

(¬1) عرفه ابن شداد بأنه موضع حصين قريب من بانياس. (¬2) هو Reynold Garnier,Lord of Sidon and Beaufort أنظر عن سياسته لعقد هذه الهدنة (RUNCIMAN : Op .Cit .Vol .2,pp .469 - 470) . (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ص 87 أ). (¬4) هذا شاهد له أهميته، لأنه يدل على أن بعض أمراء الصليبيين في الشام بدأوا يتعلمون اللغة العربية ويتأثرون بالثقافة الإسلامية.

فظن السلطان صدقه، وإنما كان ذلك مكرا ودفعا للوقت، فأجابه إلى ما سأل، واستقر بينهما الأمر أن يسلم الشقيف في جمادى الآخرة. وأقام السلطان بمرج عيون ينتظر الميعاد، وهو قلق يفكر لقرب انقضاء الهدنة بينه وبين بيرنس (¬1) بيمند - صاحب أنطاكية -، فتقدم إلى الملك المظفر تقى الدين أن يسير فيمن معه من عساكره ومن يأتى من بلاد الشرق، ويكون مقابل أنطاكية لئلا يغير صاحبها على بلاد الإسلام عند انقضاء الهدنة، وكان أيضا منزعج (¬2) الخاطر لما بلغه من اجتماع الفرنج في مدينة صور، وما يتصل بهم من الأمداد من البحر. وكان السلطان لما فتح عسقلان والبيت المقدس قد أطلق ملك الفرنج، فاصطلح هو والمركيس بعد اختلاف كان بينهما، واجتمعوا في خلق لا يحصون، وخرجوا من صور إلى ظاهرها قاصدين استنقاذ البلاد التي أخذت، فكان هذا وما أشبهه يزعج السلطان، وكان يخاف أن يترك الشقيف وراء ظهره، ويتقدم إلى صور وفيها الجموع المتواترة فتنقطع عنه الميرة، فأقام منتظرا انتهاء المدة التي ضربها له أرناط، وأخذ أرناط - صاحب الشقيف - في شراء الأقوات من سوق العسكر، والسلاح وغير ذلك مما يحصن به الحصن، وهو شقيفه، والسلطان يحسن به الظن، وإذا قيل له ما هو فيه من المكرو أن قصده المطاول إلى أن يظهر الفرنج من صور، وحينئذ يبدى صفحته، ويظهر مخالفته، و [هو] لا يقبل فيه. وأقام يتردد إلى خدمة السلطان في كل وقت. قال القاضى بهاء الدين: " وكان يناظرنا في دينه، ونناظره في بطلانه، وكان حسن المحاورة، متأدبا في كلامه، ولما كثر عند السلطان القول فيه رأى السلطان أن يصعد إلى ظهر الجبل ليقرب من المكان، ويمنع من دخول نجدة وميرة، وأظهر أن سبب ذلك حمو الزمان والفرار من وخم المرج، فنزل أرناط وسأل أن يمهل تمام سنة، ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى س: " الابرنس ". (¬2) الأصل: " منزع " والتصحيح عن س.

ذكر وقعة اليزك مع الفرنج

فماطله السلطان [وما] (¬1) آنسه، وقال: " نفكر في ذلك، ونجمع الجماعة ونأخذ رأيهم "؛ ثم وكل به من حيث [333] لم يشعر إلى أن كان من أمره ما سنذكره " [إن شاء الله تعالى] (¬2). وفى أثناء ربيع الأول وصل الخبر بتسليم الشوبك بالأمان، وقد ذكرناه عند تسليم الكرك. ذكر وقعة اليزك مع الفرنج (¬3) قد ذكرنا اجتماع الملك والمركيس بصور واتفاقهما، وتواتر أمداد الفرنج إليهم، وحشدهم وخروجهم إلى ظاهر صور، وكان الملك قبل ذلك لما أطلق - وكان إطلاقه والسلطان منازل حصن الأكراد - قد اشترط عليه ألا يشهر عليه سيفا أبدا، ويكون مملوكه وطليقه، فنكث - لعنه الله -، وجمع الجموع وأتى صور فخيم على بابها، وطلب الدخول إليها، فمنعه المركيس، وجرت بينهما مراجعات كثيرة، وقال له المركيس: " إننى نائب الملوك الذين وراء البحر، وما أذنوا لى في تسليمها إليك ". ثم استقرت القاعدة بينهما على الاتفاق على حرب المسلمين، وعسكروا ظاهر صوركما ذكرنا. ولما كان يوم الاثنين لثلاث عشرة (¬4) ليلة بقيت من جمادى الأولى بلغ السلطان من جانب اليزك أن الفرنج قد قطعوا الجسر الفاصل بين أرض صور وأرض صيدا، وهى الأرض التي السلطان عليها، فركب السلطان بنفسه نحو اليزك في شجعان أصحابه، سوى من جعله على الشقيف، فوصل وقد انفصلت ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن ابن شداد. (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬3) هذا العنوان غير موجود في س (¬4) هذا اللفظ ساقط من س.

ذكر واقعة الغزاة المطوعة

الوقعة، وكان صورتها: أن الفرنج عبر منها جماعة الجسر، فنهض إليهم يزك الإسلام، وكانوا في عدة وقوة، فقاتلوهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وجرحوا أضعاف ما قتلوا، ورموا في النهر جماعة (¬1) فغرقوا. ولم يقتل من المسلمين إلا مملوك واحد للسلطان يعرف بأيبك الأخرس (¬2)، وكان شجاعا فارسا مقداما، فتقنطر به فرسه، فلجأ إلى صخرة، فقاتل بالنشاب حتى فنى نشابه، ثم بالسيف حتى قتل جماعة، ثم تكاثروا عليه فقتلوه، وأسر من الفرنج سبعة من فرسانهم المشهورة، ثم عاد الفرنج إلى مكانهم خائبين. ذكر واقعة الغزاة المطوعة ولما وصل السلطان إلى اليزك وقد فاتته الوقعة أمر فضربت له خيمة صغيرة (¬3) وأقام ينتظر عود الفرنج لينتقم منهم، ويأخذ بثأر من قتل (¬4) من المسلمين، فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى ركب السلطان ليشرف على [334] القوم على عادته، فتبعه خلق عظيم من الرجالة والغزاة المطوعة والسوقة، وحرص على ردهم، فلم يفعلوا، وخاف عليهم، فإن المكان كان حرجا ليس للراجل فيه ملجأ، ثم هجم الرجالة الجسر وناوشوا العدو، وعبر منهم جماعة إليهم، وجرى بينهم قتال شديد، واجتمع عليهم من الفرنج خلق كثير وهم لا يشعرون، وكشفوهم بحيث يعلمون أنه ليس وراءهم كمين، فحمل الفرنج عليهم جملة واحدة، وقاتلوهم، وكان السلطان بعيدا عنهم، ولم يكن معه عسكر، ¬

(¬1) النص في س (ص 79 ب): " ورموا في النهر جماعة أنفسهم فغرقوا "، وما هنا يتفق ونص ابن شداد، وهو الأصل الذى ينقل عنه هنا. (¬2) عند (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 81): " الأخرش " أنظر أيضا: (الروضتين، ج 2، ص 140). (¬3) س: " خيمته الصغيرة ". (¬4) س: " من بقى "، وما هنا هو الصحيح.

ذكر توجه السلطان إلى عكا وعوده إلى معسكره بمرج عيون

فإنه لم يخرج للقتال، وإنما قصد كشف حال العدو فقط، ولما بانت له الوقعة وظهر غبارها بعث إليهم من كان معه ليردوهم، فوجدوا الأمر قد فرط، وقد تكاثرت الفرنج حتى خافت منهم السرية التي بعثها السلطان، وظفر العدو بالرجالة ظفرا عظيما، وأسروا جماعة كثيرة، وقتلوا نحو مائة وثمانين نفرا، وقتل من الفرنج أيضا عدة عظيمة، وغرق أيضا منهم عدة، وقتل منهم مقدم الألمانية وكان عندهم عظيما محترما، واستشهد في ذلك اليوم من المسلمين الأمير غازى ابن سعد الدين بن النصار (¬1)، وكان شابا حسنا شجاعا، فاحتسبه أبوه في سبيل الله ولم تقطر من عينه دمعة عليه. ذكر توجه السلطان إلى عكا وعوده إلى معسكره بمرج عيون (¬2) ولما رأى السلطان ما حلّ بالمسلمين في هذه الوقعة النادرة التي لم يصابوا بمثلها قبل ذلك جمع أصحابه وشاورهم وقرر معهم أنه يهجم على الفرنج، ويعبر الجسر ويقاتلهم ويستأصل شأفتهم. وكان الفرنج قد رحلوا من صور ونزلوا قريبا من الجسر، وبين صور وبين الجسر مقدار فرسخ أو أكثر، فلما صمم العزم على ذلك رحل الفرنج عائدين إلى صور ملتجئين إلى سورها، فحينئذ توجه السلطان جريدة إلى عكا ليلحظ ما بنى من سورها، ويحث على الباقى، فمضى إلى تبنين، ثم إلى عكا، فرتب أحوالها، وعاد إلى المعسكر بمرج عيون، منتظرا مهلة صاحب الشقيف. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى س: " الصار " بدون نقط، وفى (ابن شداد: السيرة اليوسفية ص 82): " ابن البصار "، وفى (الروضتين، ج 2، ص 141) - نقلا عن ابن شداد -: " ابن البيطار ". (¬2) نص العنوان في س (ص 80 أ): " ذكر خروج السلطان وعوده إلى معسكره بمرج عيون ".

ذكر وقعة الكمين

ذكر وقعة الكمين ولما كان يوم السبت سادس جمادى الآخرة بلغ السلطان أن الفرنج يخرجون من صور للاحتطاب والاحتشاش متبددين (¬1) ويصلون إلى جبل تبنين، وفى قلبه من رجالة المسلمين وما جرى عليهم أمر عظيم، فرأى أن يقرر كمينا لهم، وبلغه أنه [335] يخرج وراءهم (¬2) أيضا خيل تحفظهم، فعمل كمينا يصلح للقاء الجميع، ثم أنفذ إلى عسكر تبنين أن يخرجوا في نفر يسير عابرين (¬3) على تلك الرجالة، فان تبعهم خيل العدو ينهزموا إلى جهة عينها لهم، وأن يكون ذلك صبيحة الاثنين ثامن جمادى الآخرة، وأرسل إلى عسكر عكا أن يسير حتى يكون وراء عسكر العدو، وحتى إن تحركوا يكونوا في نصرة أصحابهم، وقصد واخيمهم. وركب السلطان في عساكره إلى الجهة التي عينها لهزيمة عسكر تبنين، حتى قطع تبنين ورتب العسكر ثمانية أطلاب، واستخرج من كل طلب عشرين فارسا، وأمرهم أن يتراءوا للعدو حتى يظهروا إليهم ويناوشوهم، وينهزموا بين أيديهم، حتى يصلوا إلى الكمين، ففعلوا ذلك وظهر لهم من الفرنج معظم عسكرهم، يقدمهم الملك، وجرى بينهم وبين [هذه] الفرقة اليسيرة قتال شديد والتزمت السرية (¬4) القتال، وأنفت من الانهزام، وحملتهم الحمية على مخالفة السلطان، واتصل الخبر بالسلطان في أواخر الأمر وقد هجم الليل، فبعث بعوثا كثيرة، فعاد الفرنج ناكصين على أعقابهم، وقتل من الفرنج عشرة، ومن ¬

(¬1) الأصل: " مشردين "، والتصحيح عن س، والأصل المنقول عنه هنا وهو (ابن الأثير: الكامل، ج 12، ص 12). (¬2) الأصل: «لهم» والتصحيح عن: (الروضتين، ج 7، ص 141). (¬3) الأصل: " غابرين "، والتصحيح عن س وابن شداد والروضتين. (¬4) س: " الرجال ".

ذكر مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتهم لها

المسلمين ستة: اثنان من الترك، وأربعة من العرب، منهم الأمير زامل (¬1)، وكان مقدم عشيرته، وسبب قتله أن فرسه تقنطر به، ففداه ابن عمه بفرسه، فتقنطرت به أيضا، وأسر هو وثلاثة من أهله، فلما بصر الفرنج بمدد العسكر قتلوهم لئلا يستنقذوا، وجرح (¬2) من الطائفتين ومن خيولهم كثير. ومن نوادر هذه الوقعة أن مملوكا من مماليك السلطان يقال له " أيبك " أثخن بالجراح حتى وقع بين القتلى وجراحاته تشخب دما، وبات ليله أجمع على تلك الحال إلى صبيحة يوم الثلاثاء، فتفقده أصحابه، فلم يجدوه، فعرّفوا السلطان فقده، فأنفذ من يكثف حاله، فوجده بين القتلى، فحملوه إلى [المخيم] (¬3) وداووه، وعافاه الله تعالى، وعاد السلطان إلى المخيم عاشر جمادى الآخرة فرحا مسرورا. ذكر مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتهم لها قد ذكرنا حشد الفرنج واجتماعهم بصور، وتواصل الأمداد إليهم من البحر، وكان الرهبان والقسوس من حين ملك المسلمون (¬4) بيت المقدس قد لبسوا السواد وأظهروا الحزن [336] وأخذهم بطرك القدس، ودخل بهم بلاد الافرنج يطوفها بهم جميعا (4)، ويستنجدون أهلها، ويحثونهم على استرجاع القدس، وقد صوروا المسيح عليه السلام وجعلوا معه صورة رجل عربى يضر به [بعصا] (3) وقد جعلوا الدماء على صورة المسيح، وقالوا: هذا المسيح يضر به محمد نبى المسلمين وقد جرحه وقتله. ¬

(¬1) كذا في الأصل و (الروضتين، ج 2، ص 141) وفى س وابن شداد: " رامل ". (¬2) بهذا اللفظ تنتهى ص 89 ب من نسخة س ثم تضطرب الصفحات، وتبدأ ص 70 أمن هذه النسخة بالكلمة التالية وهى: " وجرح ". (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬4) النص في س: " بيت المقدس دخلوا بلاد الفرنج يطوفون بها جميعا ".

ذكر القبض على صاحب الشقيف وفتح الشقيف

فعظم ذلك على الفرنج، فحشدوا وحشروا (¬1)، حتى النساء خرجن للمقاتلة، ومن لم يستطع الخروج استأجر من خرج عوضه، أو يعطيهم مالا على قدر حاله، فاجتمع لهم من الرجال والأموال مالا يقع عليه الإحصاء، ولما عظمت جموعهم وتكاملوا صمموا على قصد عكا ومحاصرتها، وساروا إليها نحو النواقير، وبعضهم نزل باسكندرونة (¬2) وجرى بينهم وبين رجالة المسلمين مناوشة، وقتل من المسلمين نفر يسير، وأقاموا هناك. ولما بلغ السلطان حركتهم إلى تلك الجهة عظم عليه، ولم ير المسارعة خوفا من أن يكون قصدهم ترحيله عن الشقيف لا قصد المكان، فأقام مستكشفا للحال إلى يوم الأحد ثانى عشر رجب، فوصل قاصد يخبر أن الفرنج في بقية ذلك اليوم رحلوا ونزلوا عين بصّه (¬3) ووصل أوائلهم إلى الزيب (¬4)، فعظم ذلك عليه، وكتب إلى سائر الأطراف بالمسير إليه، وعزم على قصد الفرنج. ذكر القبض على صاحب الشقيف وفتح الشقيف وقد ذكرنا خداع أرناط - صاحب الشقيف - ومكره ومدافعته، وأن السلطان وكل به من حيث لم يشعر، وقد ذكرنا تحول السلطان بعسكره إلى قرب الحصن، ولما قربت مدة الهدنة، وبقى منها يومان تضرع [أرناط] (¬5) ¬

(¬1) س: " فحشدوا وجمعوا وجندوا ". (¬2) س: " باسكندرية "، وما هنا هو الصحيح. (¬3) الأصل وس: " عين قصه " والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 142) و (DUSSAUD : Topographie Histoique de la Syrie .P 17) . (¬4) الأصل: " الزيت "، وقد صححت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث عرفها بأنها قرية كبيرة على ساحل بحر الشام قرب عكا. وقد ذكر (DUSSAUD : Op .Cit) أنها قرية على الشاطئ بين عكا وصور. (¬5) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (70 ب).

ذكر رحيل السلطان إلى عكا ومنازلة الفرنج المنازلين لها

وأبدى ضرورة وملقا، فقيل له لابد وأن تسلم ولا تحوج إلى المقابحة؛ فطلب قسيسا ذكره ليحمله رسالة إلى أهل الشقيف ليسلموه فأحضروه عنده، فسارّه بما لم يعلموه، فمضى ذلك القسيس إلى الشقيف، فأظهروا العصيان، وقالوا: " يبقى مكانه "، فحينئذ تحقق غدره، وبطل الرجاء منه فقيّد وحبس، ثم استحضر في سادس رجب وتهدد وتوعد (¬1)، فلم يفد ذلك، فسيّره السلطان إلى دمشق بعد رحيله إلى عكا، وحبس بها. ورتّب السلطان عدة من الأمراء على محاصرة الشقيف صيفا وشتاء [337] فتسلموه بعد سنة بحكم السلم، وأطلق صاحبه وعفا عنه. ذكر رحيل السلطان إلى عكا ومنازلة الفرنج المنازلين لها ثم رحل السلطان إلى عكا يوم الاثنين ثالث عشر رجب على طريق طبرية إذ لم يكن طريق يسع العساكر إلا هو، وسيّر جماعة على طريق تبنين يتشرفون العدو ويواصلون بأخباره. ولما كان غد يوم الرحيل - وهو يوم الثلاثاء - سيّر صاحب الشقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة، واشتد حنقه عليه، بسبب تضييع ثلاثة أشهر عليه وعلى عسكره لم يعملوا فيها شيئا. وسار (¬2) السلطان جريدة (3) من المنية (¬3) حتى اجتمع ببقية العسكر الذى كان أنفذه على طريق تبنين بمرج صفورية؛ فإنه كان واعدهم إليه، وتقدم إلى ¬

(¬1) الأصل: " وتهدد وتوقد " وفى س: " وشدد عليه بالقول وتوعد " وقد صححت العبارة بعد مراجعة العماد (الروضتين، ج 2، ص 140). (¬2) بهذا اللفظ تنتهى (ص 70 ب) من نسخة س ثم يضطرب ترتيب الصفحات، وتلتقى بالنص مرة أخرى في (ص 115 أ) من نفس النسخة وتبدأ بلفظ " السلطان ". (¬3) هذان اللفظان ساقطان من س.

الثقل أن يلحقه إلى مرج صفورية، ولم ينزل حتى شارف العدو من الخروبة وأنفذ بعض العسكر؛ فدخل عكا على غرة من العدو وتقوية لمن فيها؛ ولم يزل يبعث إليها بعثا بعد بعث حتى حصل فيها خلق كثير. وذكر عماد الدين الكاتب: أن العدو لما قصدوا عكا كان من رأيه مسايرتهم في الطريق ليمنعهم من النزول، فإنهم إذا نزلوا صعب إزالتهم وأتعب قتالهم، فخالفه أمراؤه في ذلك، وقالوا: " بل نمضى على أسهل (¬1) الطرق "، فسار الثقل من الليل على طريق الملاحة، وجب يوسف، والمنية. ووصل الثقل عصر يوم الثلاثاء رابع عشر رجب كفركنا (¬2) والسلطان نازل بها، ونزل يوم الأربعاء (2) منتصف رجب على جبل الخروبة، ونزل الفرنج على عكا من البحر إلى البحر يحيطونها، وضرب الملك خيمة على تل المصلبة (¬3)، ورابطت مراكبهم بشاطئ البحر، ثم عبأ السلطان أطلابه، وسار من الخروبة إلى تل كيسان في أوائل مرج عكا، فنزل عليه، وأمر الناس أن ينزلوا على التعبئة وكان آخر الميسرة على طرف النهر الحلو، وآخر الميمنة مقابل تل العياضية، واختلط العسكر الإسلامى بالعدو، وأخذوا عليهم الطرق من الجوانب، وصار السلطان محاصرا للفرنج، والفرنج محاصرين لعكا، وتلاحقت العساكر الإسلامية واجتمعت، وترتب اليزك الدائم، وحصر العدو في خيامه [338] بحيث لا يخرج منهم أحد إلا ويجرح أو يقتل، وكانت عدة خيالتهم ألفين (¬4) ورجالتهم ثلاثين ألفا. ¬

(¬1) الأصل: " أسفل "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 143). (¬2) هذا اللفظ ساقط من س. (¬3) كذا في الأصل، وعند ابن شداد: «على تل المصلبين قريبا من باب البلد»، انظر: (الروضتين، ج 2، ص 142). (¬4) كذا في الأصل، وهو يتفق وما في (الروضتين، ج 2، ص 142) وفى س: " أربعة آلاف ".

ذكر الوقعة الأولى التى تيسر للمسلمين بها دخول البلد

قال القاضى بهاء الدين: " ما رأيت من نقّصهم عن ذلك، ورأيت من حزرهم بزيادة على ذلك، ومددهم من البحر متصل غير منقطع، وجرى بينهم وبين اليزك مقاتلات عظيمة متواترة، والمسلمون يتهافتون على قتالهم، والسلطان يمنعهم من ذلك إلى وقته (¬1)، وعساكر المسلمين وملوكهم وأمراؤهم تتواصل من الأمصار، ووصل من حماة الملك المظفر تقى (¬2) الدين عمر، ووصل من الشرق مظفر الدين بن زين الدين على كوجك، وتوفى في تلك الأيام حسام الدين سنقر الخلاطى وكان شجاعا دينا ". ذكر الوقعة الأولى التي تيسّر للمسلمين بها دخول البلد ولما استفحل أمر العدو وحصروا البلد من جميع جهاتها بحيث تعذر على المسلمين دخول البلد والخروج منه ضاق صدر السلطان بذلك، وسمت همته إلى فتح الطريق إلى عكا، لتستمر السابلة، وترد إليها الميرة والنجدة، فباكر الفرنج القتال مستهل شعبان من هذه السنة، فلم ينل منهم ما يريد، وبات الناس على تعبئة. فلما كان الغد باكرهم القتال، واستدار عليهم من سائر جهاتهم، فقاتلهم من بكرة إلى الظهر، وصبر الفريقان صبرا تاما حاوله من رآه، فلما كان وقت الظهر حمل الملك المظفر حملة منكرة من الميمنة على من يليه منهم، فأزالهم عن مواقفهم، يركب بعضهم بعضا، لا يلوى أخ على أخيه، فالتجأوا إلى من يليهم من أصحابهم، واحتموا بهم، وأخلوا جانب البحر الشمالى (¬3)، شمال عكا، ¬

(¬1) الأصل: " وقتهم "، والتصحيح عن (ابن شداد، ص 88) و (الروضتين، ج 2، ص 142). (¬2) الأصل: " زين الدين " وما أثبتناه هو الصحيح. (¬3) هذا اللفظ غير موجود في س.

ذكر الوقعة الثانية

ولم يكن لهم هناك خيام، لكن عسكرهم كان قد امتد جريدة شمال عكا إلى البحر، ولما انكسر العدو في ذلك الجانب تبعهم المسلمون، وهجموا خلفهم إلى أول خيامهم، ووقف اليزك الإسلامى مانعا أن يخرج من عسكرهم خارج أو يدخل إليه داخل، وانفتح الطريق إلى عكا من باب القلعة المسماة بقلعة الملك إلى باب بهاء الدين قراقوش الذى جددّه، وصار الطريق مهيعا يمر فيه السوقى ومعه الحوائج ويمر به الرجل الواحد والمرأة، واليزك بين الطريق وبين العدو. ودخل السلطان ذلك (¬1) اليوم إلى عكا، ورقى إلى السور [339] ونظر إلى عسكر العدو، وتراجع الناس عن القتال بعد صلاة الظهر لسقى الدواب وأخذ الراحة، ولم يعودوا للقتال، وأصبحوا يوم الأحد ثالث شعبان فرأى بعض الأمراء تأخير القتال إلى أن يدخل الراجل كله إلى عكا، ويخرجوا مع العسكر المقيم بها من أبواب البلد على العدو ومن ورائه، وتركب العساكر من خارج من سائر الجوانب، ويحملوا حملة الرجل الواحد. ذكر الوقعة الثانية ولما كان يوم الجمعة ثامن شعبان خرج الفرنج من مخيمهم بفارسهم وراجلهم، والراجل حولهم كالسور يتلو بعضهم بعض، حتى قاربوا خيام اليزك، فصاح السلطان بالعساكر الإسلامية، فركبوا بأجمعهم، وحملوا حملة الرجل الواحد، فعاد العدو ناكصا على عقبيه، والسيف يعمل فيهم، فالسالم جريح والعاطب طريح، حتى لحقوا بخيامهم، وانكفوا عن القتال أياما، واستمر فتح طريق عكا والمسلمون يترددون إليها. ¬

(¬1) تنتهى بهذا اللفظ (ص 115 ب) من نسخة س، ثم تنقطع الصلة مرة أخرى بين النص هنا وبين س.

ذكر وقعة العرب

فلما كان الحادى عشر من شعبان رأى السلطان توسيع الدائرة عليهم لعلهم يخرجون إلى مصارعهم، فنقل الثقل إلى تل العياضية، وهو تل قبالة تل المصلبيين مشرف على العدو وعكا؛ وتوفى في هذه المنزلة حسام الدين طمان، وكان من شجعان المسلمين، ودفن في سطح التل. ذكر وقعة العرب ثم بلغ السلطان أن جمعا من الفرنج يخرجون للاحتطاب والاحتشاش من طرف النهر مما ينبت عليه، فكمن لهم جماعة من العرب فهجموا عليهم، وقتلوا منهم خلقا عظيما، وأسروا جماعة، وأحضروا رؤوسا عدة بين يديه، وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان. وفى عشية هذا اليوم وقع بين الفرنج وبين أهل البلد حرب عظيم، قتل فيها جمع عظيم من الطائفتين، وطال الأمربين الفئتين، فلم يخل يوم من جرح وقتل وسبى ونهب، وأنس المسلمون بالفرنج بطول المدة بحيث كانوا يتركون القتال ويتحدّثون، وربما غنّى (¬1) بعضهم لبعض، ثم يعاودون القتال بعد ساعة، وكانوا ربما خرّجوا صبيانهم وقاتلوا صبيان المسلمين، وأصرعوهم وصارعوهم (¬2)، وأسر بعضهم بعضا. ذكر الوقعة العظمى بمرج عكا ولما كان يوم الأربعاء لتسع بقين من شعبان من هذه السنة خرج الفرنج بفارسهم وراجلهم، وتحركوا حركة لم يتحركوا قبل ذلك مثلها، واصطفوا ميمنة [340] وميسرة، وفى القلب الملك، وبين يديه الإنجيل محمول مستور ¬

(¬1) الأصل: " غنا ". (¬2) راجع قصة الصراع والمقاتلة بين الصبية من المسلمين والفرنج أثناء القتال حول عكا عند ابن شداد: (الروضتين، ج 2، ص 143).

بثوب أطلس مغطى، وأربعة أنفس يمسكون أطرافه، وهم يسيرون بين يدى الملك، وامتدت الميمنة مقابلة ميسرة المسلمين من أولها إلى آخرها، والميسرة في مقابلة الميمنة، وملكوا رؤوس التلال، وكان طرف ميمنتهم إلى النهر، وميسرتهم إلى البحر، ونادى الجاووش (¬1): " يا للإسلام وعساكر الموحدين "، فركب الناس وباعوا أنفسهم بالجنة، وامتدت الميمنة إلى البحر، كل قوم يركبون ويصطفون بين يدى خيمهم، والميسرة إلى النهر كذلك. وكان السلطان في القلب، وفى الميمنة ولده الملك الأفضل نور الدين، ثم ولده الملك الظافر خضر - وهو المعروف بالمشمر -، ثم عسكر الموصل، ومقدمهم ظهير الدين بن البلتكرى (¬2)، ثم عسكر ديار بكر ومقدمهم قطب الدين بن نور الدين صاحب الحصن وآمد، ثم حسام الدين لاجين بن أخت السلطان [صاحب] (¬3) نابلس، ثم صارم الدين قايماز النجمى، وجموع عظيمة متصلون بطرف الميمنة، وكان في طرفها الملك المظفر تقى الدين بعسكره، وهو (¬4) مطل على البحر. ¬

(¬1) يفهم من النص هنا أن الجاووش جندى كانت مهمته النداء واستنفار الجند للقتال، ومثل هذا ما جاء في (العماد: الفتح القسى، ص 242): " وضايقوا البلد أشد مضايقة،. . . . فأمر الجاووش حتى نادى. . . الخ "، هذا في العصر الأيوبى، أما في العصر المملوكى فقد كان النظام يقضى بأن يسير أربعة من جنود الحلقة الشجعان أمام السلطان في مواكبه للنداء وتنبيه المارة، والجاويش أيضا جندى من رتبة بسيطة يكلفه مخدومه بحمل الرسائل وتبليغها، والجاووش أو الجاويش أو الشاويش لفظ تركى، وجمعه جاويشية. انظر: (Dozy : Supp .Dict .Arab) و (المقريزى: السلوك، نشر زيادة، ج 1، ص 870، هامش 2) (¬2) كذا في الأصل، وهو في (الروضتين، ج 2: ص 144): " البكنكرى ". (¬3) الأصل: " السلطان بالسر " وقد صححت وأضيف ما بين الحاصرتين عن (ابن شداد، ص 93). (¬4) بهذا اللفظ تبدأ (ص 90 أ) من نسخة س، وبهذا نعود للمقارنة بين النسختين.

وأما الميسرة فكان مما بلى القلب الأمير سيف الدين على بن أحمد المثطوب (¬1) - ملك الأكراد ومقدمهم - والأمير مجلى، وجماعة من المهرانية والهكّارية، ومجاهد الدين برتقش مقدم عسكر سنجار، وجماعة من المماليك، ثم مظفر الدين ابن زين الدين بعسكره، وأواخر الميسرة كبار الأسدية، مثل: سيف الدين يازكوج (¬2) ورسلان بغا. وفى مقدمة القلب الفقيه ضياء الدين عيسى وجمعه. والسلطان يطوف بنفسه على الأطلاب، ويحثهم على القتال، ويدعوهم إلى النزال، ويرغبهم فيما عند الله من الأجر والثواب الجزيل لمن جاهد في سبيل الله وقام بنصرة دينه. ولم يزل القوم يتقدمون والمسلمون يقدمون حتى مضت أربع ساعات من النهار، وعند ذلك تحركت ميسرة العدو على ميمنة المسلمين، فأخرج لهم الملك المظفر الجاليش، وجرى بينهم قلبات (¬3) كثيرة، وتكاثروا على الملك المظفر، وكان طرف الميمنة على البحر، فتراجع عنهم قليلا إطماعا لهم لعلهم يبعدون عن أصحابهم، فينال منهم غرضا، فلما رآه السلطان قد تأخر أمدّه بأطلاب [341] عدة من القلب حتى قوى جانبه، وتراجعت ميسرة العدو، واجتمعت على تل مشرف على البحر. ولما رأى الذين في مقابلة القلب [ضعف القلب (¬4)] ومن خرج منه من الأطلاب داخلهم الطمع، وتحركوا نحو ميمنة القلب، وحملوا حملة رجل واحد بفارسهم ¬

(¬1) س: " سيف الدين بن على المشطوب " وما هنا هو الصحيح فهو يتفق وما في (ابن شداد، ص 93) و (الروضتين، ج 2، ص 144). (¬2) الأصل وس: " ياكوج " والتصحيح عن ابن شداد والروضتين. (¬3) كذا في الأصل وفى السيرة اليوسفية لابن شداد والروضتين، وفى س: " مناوشات ". (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (الروضتين، ج 2، ص 145).

وراجلهم، وجاءت الحملة على الديار بكربة، وكان بهم غرة عن الحرب (¬1)، فانهزموا هزبمة قبيحة، وسرى الأمر حتى انهزم معظم الميمنة. واتبع العدو المنهزمين (¬2) إلى العياضية، فإنهم استداروا حول التل، وصعد العدو إلى خيم السلطان، وجالوا حولها جولة، ثم رأوا انقطاع أصحابهم عنهم، فاتحدروا عن التل، وأما الميسرة [فقد] ثبتت إذ لم تصادفها الحملة. وطاف السلطان على الأطلاب ينهضهم ويعدهم الوعود الجميلة، ويحثهم على الجهاد، وينادى بالإسلام، ولم يبق معه إلا خمسة أنفس، وهو يطوف ويتخرق الصفوف، وأوى إلى تحت التل الذى عليه الخيام، وأما المنهزمون فإنه بلغت هزيمتهم إلى الأقحوانة قاطع جسر طبرية ومنهم من تم إلى دمشق. قال عماد الدين الكاتب: " كنت في جماعة من أهل الفضل، ونحن على بغال بغير أهبة (¬3) قتال، فرأينا العسكر موليا، والمنهزم عما تركه من خيامه ورحله متخليا، فوصلنا إلى طبريه فيمن وصل، ووجدنا ساكنها قد أجفل، فسقنا إلى جسر الصنبرة، ونزلنا على شرقيه، وكل منا ذاهل عن شبعه وريّه، ومن المنهزمين من بلغ عقبة فيق [وهو غير مفيق] (¬4)، ومنهم من وصل إلى دمشق وهو غير معرج على طريق ". وأما المتبعون للمنهزمين فإنهم تبعوهم إلى العياضية، فلما رأوهم قد صعدوا الجبل رجعوا عنهم، وجاءوا عائدين إلى عسكرهم، فلقيهم جماعة من الغلمان ¬

(¬1) الأصل: " عزة في حراب الافرنج "، والتصحيح عن الأصل المنقول عنه وهو (ابن شداد، ص 94). أنظر أيضا (الروضتين، ج 2، ص 145). (¬2) الأصل: " المنهزمون "، والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬3) لشرح هذا المصطلح راجع: (مفرج الكروب، ج 1، ص 218؛ هامض 3) (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن المرجع المنقول عنه هنا وهو العماد (الروضتين، ج 2، ص 146)

والخربندية (¬1) والساسة (¬2) منهزمين على بغال الحمل، فقتلوا منهم جماعة، وقتل منهم جماعة، فإن أهل السوق كان أكثرهم يحمل السلاح. وكان السلطان واقفا تحت التل ومعه نفر يسير، وهو يجمع الناس ليعود على الحملة على العدو، فلما رأى الفرنج الذين كانوا صعدوا إلى خيم السلطان منحدرين من التل أراد لقاءهم فأمر [342] أصحابه بالصبر إلى أن ولوا ظهورهم، وأسرعوا يطلبون أصحابهم، فصاح السلطان في الناس، فحملوا عليهم، وطرحوا منهم جماعة، واشتد الطمع فيهم، وتكاثر الناس (¬3) وراءهم، حتى لحقوا أصحابهم، والطرد وراءهم، فلما رآهم أصحابهم منهزمين والمسلمون وراءهم في عدد كثير، ظنوا أن من حمل منهم قد قتل، وأنه (4) إنما نجا هذا النفر فقط (¬4)، وأن الهزيمة قد عادت عليهم، فاشتدوا في الهرب والهزيمة، ثم تحركت الميسرة من المسلمين على العدو. وعاد الملك المظفر بجمعه من الميمنة، وتناخت (¬5) الرجال، وتراجع الناس من كل جانب، وكثر القتل والجرح في الفرنج إلى أن اتصل المنهزمون السالمون إلى عسكر العدو، فهجم المسلمون عليهم في الخيام، فخرج منهم أطلاب كانوا قد أعدوها خشية من هذا الأمر مستريحة، فردوا المسلمين، وكان التعب قد أخذ من الناس (¬6)، والخوف والعرق قد ألجمهم، فتراجع الناس (6) عنهم بعد صلاة العصر يخوضون في القتلى ودمائهم فرحين مسرورين. ¬

(¬1) خربندج أو خربنده - والجمع خربنديه - لفظ فارسى معناه الحمّار أو المكارى. (¬2) الأصل وس: " الساسية " والتصحيح عن العماد. (¬3) الأصل: " وتكاثروا للناس " والتصحيح عن س والروضتين. (¬4) هذه الجملة غير موجودة في س، ولكنها موجودة في الأصل المنقول عنه هنا وهو (ابن شداد ص 95). (¬5) كذا في الأصل، وفى س (ص 90 ب): " تناحا "، وفى ابن شداد: " وتجمعت ". (¬6) س: " المسلمون ".

وعاد السلطان وجلس أصحابه في خدمته يتذاكرون من فقد منهم، فكان مقدار من فقد منهم من الغلمان المجهولين (¬1) مائة وخمسين. واستشهد في ذلك اليوم ظهير الدين أخو الفقيه ضياء الدين عيسى. قال القاضى بهاء الدين: " ولقد رأيت الفقيه عيسى وهو جالس يضحك والناس يعزونه، وهو ينكر عليهم، وهو يقول: هذا يوم الهنا لا يوم العزا ". واستشهد في ذلك اليوم الأمير مجلى بن مروان، والحاجب خليل الهكّارى. وأما قتلى العدو فحزرنا قتلاهم سبعة آلاف نفس. قال القاضى: " ولقد رأيتهم وقد حملوا إلى شاطئ النهر ليلقوا (¬2) فيه، فحزرتهم بدون (¬3) سبعة آلاف ". وكانت الهزيمة لما وقعت على المسلمين أولا، ورأى الغلمان خلو الخيام، وظنوا أن الكسرة تتم، وأن العدو لابد أن يستأصل الخيم، ووضع الغلمان أيديهم ونهبوا جميع ما كان فيها، وذهب من الناس أموال عظيمة، وكان ذلك أعظم من الكسرة، فلما عاد السلطان إلى المخيم، ورأى ما قد تم على الناس من نهب الأموال والهزيمة سارع في الكتب والرسل في رد المنهزمين، وتتبع من شذّ (¬4) من العسكر، وتتابعت الرسل في هذا [343] المعنى حتى بلغت عقبة فيق وردوهم ¬

(¬1) الأصل: " غير المجهولين " والتصحيح عن ابن شداد. (¬2) الأصل: " ليكنفوا " والتصحيح عن (ابن شداد، ص 96) و (الروضتين، ج 2، ص 145). (¬3) س: " فوق " وما هنا يتفق ونص ابن شداد. (¬4) س: " سلم " وما هنا يتفق ونص ابن شداد.

وأخبروهم بالكسرة للمسلمين (¬1)، فعادوا، وأمر بجمع الأقمشة [من أكف الغلمان، وجمع الأقمشة] (¬2) في خيمته حتى جلالات الخيل والمخالى، وهو جالس وأصحابه حوله، وهو يتقدم إلى كل من عرف شيئا وحلف عليه يسلّم إليه. وشذت من عساكر الإسلام خلق كثير بسبب الهزيمة، فإنه ما رجع منهم إلا رجل معروف خاف على نفسه، والباقون ذهبوا في حال سبيلهم. وأخذ السلطان في جمع الأموال المنهوبة، وأعادها إلى أصحابها، وأقام المنادية في المعسكر، وقرن النداء بالوعيد والتهديد، وهو يتولى تفرقتها بنفسه، واجتمع من الأقمشة في خيمته شئ كثير حتى أن الجالس في أحد الطرفين لا يرى الجالس في الطرف الآخر، فردّ كل شئ على مستحقه، فلم يعدم إلا القليل. قال عماد الدين الكاتب: " العجب أن الذين ثبتوا منا في الوقعة لم يبلغوا ألفا، فردوا مائة ألف، وكان الواحد يقول: قتلت من الفرنج ثلاثين وأربعين ". ولما عاد السلطان إلى مضاربه أمر بمواراة الشهداء، وكان من جملتهم: الشيخ جمال الدين أبو على الحسين بن الشيخ أبى محمد عبد الله بن الحسين بن رواحة ابن إبراهيم بن عبد الله بن رواحة بن عبيد بن محمد بن عبد الله بن رواحة الأنصارى الخزرجى الحموى (¬3)، وهذه النسبة نقلتها من نسخة بخط الشيخ جمال الدين هذا، ¬

(¬1) النص في س: " وأخبروهم بأن المسلمين كسروا الفرنج كسرة عظيمة ". (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن س وابن شداد. (¬3) هذه أطول ترجمة عثرت عليها لابن رواحة، إذ لم يترجم له إلا (ياقوت: معجم الأدباء، ج 10، ص 46 وما يليها)، ولا عجب في هذا فابن رواحة مواطن للمؤلف. أنظر أيضا ما نقله أبو شامة في: (الروضتين ج 2، ص 147) عن البرق الشامى للعماد عند ترجمته لهذا الشاعر؛ والعماد: الخريدة، قسم شعراء مصر، ج 1، ص 147 و (C .CAHEN : Une Chronique Syrienne du VI (XII) Siecle .Le Bustan Al - Jami. P. 47) .

وكان رجلا عالما فاضلا شاعرا زاهدا، سافر من حماة بلده إلى الديار المصرية، ومدح العاضد والصالح رزيّك، وأحسنا إليه إحسانا كثيرا، وسافر في البحر فأسره الفرنج ثم منّ الله تعالى بإطلاقه، وحج إلى بيت الله تعالى، وزار قبر النبى - صلى الله عليه وسلم - وامتدحه بقصيدة أولها: دع العيس في طىّ الفلا تبلغ المدى، ... فقد ألهمت أنّ المسير إلى هدى لقد غنيت بالقصد عن جاذب السّرى (¬1) ... كما شغلت بالشوق عن سائق الحدا سرت فرأت طيب المعرّس في السّرى، ... وعدت ظما التأويب في الخمس موردا أعدّ لها في قبضها بأناملى ... يدا، كلما ألقت إلى يثرب يدا [344] ولم أر في الأيام يوما مباركا ... علىّ، كيوم زرت فيه محمدا وأنّ رسول الله أكرم شافع ... لوفد، وأولى أن يزار ويقصدا وهى طويلة جدا. وناداه - صلى الله عليه وسلم - يودعه بهذين البيتين: يا خاتم الرسل سل الله لى ... خاتمة محمودة العاقبه ولا تردنّ (¬2) يدى - بعد ما ... مددتها مستشفعا - خائبه فذكر أنه نام فرأى النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول له: " قبلت يابن رواحة "، فقبل الله شفاعة رسوله فيه، وقبضه شهيدا إليه بمرج عكا، وشارك (¬3) ¬

(¬1) الأصل: " البرى " وما هنا عن س (ص 91 ب). (¬2) الأصل: " ولا يردان " والتصحيح عن س. (¬3) الأصل: " وسار إلى " والتصحيح عن س.

جده عبد الله بن رواحة الأنصارى - رضى الله عنه - في فضيلتيه (¬1) اللتين هما: مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والشهادة؛ مات ذاك شهيدا بمؤته في غزو الروم، ومات هذا شهيدا بالمرج. وذكر عماد الدين الكاتب بأنه كان قد أنعم السلطان عليه بمزرعة في حلب (¬2)، قال: " وكتبت توقيعه، وأراد الله تعويقه، وحملت توقيعه تلك الليلة إلى السلطان ليعلّم فيه فما علّم، وراجعته في معناه فسكت وما تكلّم، وكان ساعة الوقعة راكبا معنا، ثم قال: " وقوفنا يطول "، ومضى إلى خيمته فتودع، فلما علم باندفاعنا (2) ساق وراءنا، فقطع عمره قبل أن يقطع الوادى، وكان قال لنا لما أصبح: رأيت كأن رجلا يحلق رأسى في المنام، فقلنا له: هذا من أضغاث الأحلام فنقله الله بعد ساعة إلى دار السلام. - رحمه الله - ". ومن الشهداء: إسماعيل الصوفى الأرموى المكبّس، وشيخ من الطشت دارية (¬3)، وغلام في الخزانة أمين، وآخرون صودفوا فدفنوا عند التل. وانتعش الفرنج - لعنهم الله - بعد هذه الوقعة، وجاءتهم في البحر مراكب أخلفت من عدم منهم؛ وكان السلطان قد نقل جيف القتلى إلى النهر لما اشتد نتنها، ليشرب الفرنج من صديدها. ¬

(¬1) الأصل: " قصيدتيه " وقد صححت إلى ما بالمتن ليتسق المعنى، هذا والجملة في الأصل وس مضطربة ويبدو أنه قد سقط منها ألفاظ عند النسخ. ويوضحها ما ورد في المراجع الأخرى، فقد جاء في (ابن الأثير: الكامل، ج 12، ص 15): " وما ورث الشهادة من بعيد فإن جده عبد الله بن رواحة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتله الروم يوم مؤته، وهذا قتله الفرنج يوم عكا " ولكن العماد أنكر في (البرق الشامى) نسبه إلى ابن رواحة الصحابى، قال: " وليس هو من أولاد ابن رواحة الصحابى، ذاك لم يعقب، وإنما في أجداده من اسمه رواحة ". (الروضتين، ج 2، ص 147). وانظر أخبار عبد الله بن رواحه الأنصارى الصحابى في: (ابن هشام: السيرة، نشرة السقا وآخرين، ج 4، ص 13 و 15 و 16 و 17 و 21. . . إلخ) و (المقريزى: إمتاع الأسماع، نشر محمود شاكر، ج 1، ص 346 و 348 و 350). (¬2) هذا اللفظ غير موجود في س (92 أ). (¬3) راجع: (مفرج الكروب، ج 1، ص 102، هامش 4).

ذكر انتقال السلطان والعسكر إلى الخروبة

ذكر انتقال السلطان والعسكر إلى الخروبة (¬1) ولما انقضى أمر الوقعة وسكنت ثائرتها أمر السلطان بالانتقال إلى الخروبة، فانتقل في رابع (¬2) شهر رمضان من السنة، وأمر أهل عكا بإغلاق أبوابها، ووجد بذلك الفرج، فشرعوا في حفر الخندق على معسكرهم [345] حوالى عكا (¬3) من البحر إلى البحر، وأخرجوا ما كان في مراكبهم من آلات الحصار، وعّمقوا الخندق عليهم، وأداروا حولهم سورا مستورا (¬4) بالستائر (¬5)، ورتبوا عليه الرجال، وتركوا له أبوابا يظهرون منها إذا أرادوا الخروج، فانقطعت طريق المسلمين إلى عكا بالكلية. ¬

(¬1) س: " ذكر انتقال العسكر السلطانى ". (¬2) س: «سابع»، وما بالمتن يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 2، ص 147) و (ابن الأثير، ج 12، ص 16). (¬3) الأصل: «معسكرهم» والتصحيح عن س والروضتين. (¬4) الأصل: " مسورا ". (¬5) الستائر جمع ستارة؛ وهى من أهم معدات الحرب عند المسلمين في العصور الوسطى، كانوا يتخذونها من الجلود واللبود المبلولة بالخل والشب والنطرون لوقاية الحصون والقلاع من قذائف النفط، وكانت تستعمل بوجه خاص لحماية الأبراج والدبابات المصنوعة من الخشب، وكذلك لحماية السفن من قذائف النفط، قال: (الحسن بن عبد الله: آثار الأول؛ ص 197): " وليس في حرب البحر شئ أصعب من النفط؛ بسبب الزفت والقير الذى يطلى به المركب؛ فيحتاط لدفع ذلك باللبود المبلولة بالحل والشب والنطرون "؛ وكان هناك نوع آخر من الستائر يعلق بعيدا عن الأسوار ليضعف قذائف المجانيق والجروخ والزيارات فتقل قوتها ولا تؤثر في جدران القلاع والحصون؛ وقد وصف هذا النوع (الحسن بن عبد الله: آثار الأول، ص 194) وصفا رائعا، قال: " وأما ما يدفع به آلات الحصار فالمنجنيق أشدها، فمن أراد التوقى منه فليخرج من أعلى السور أخشابا طوالا يظهرها كالجناح المطل، ويدلى منها البسط والأكسية والشباك من الحبال الغلاظ واللبود ما أمكن، ولتكن مرخاة بعيدة من السور، فيجئ الحجر وقد ضعف فعله وبطلت قوته، وكذلك النشاب والجرخ والزيار، لا يتجاوز تلك الستائر ". أنظر أيضا: (مرضى بن على: تبصرة أرباب الألباب، ص 18 - 19).

وما كان انتقال السلطان من منزلته صوابا، فإنه لو أقام لما تمكن العدو، لكن كان أمر الله قدرا مقدورا، وكان السبب في تأخر السلطان أنه استحضر الأمراء وأرباب المشورة (¬1). قال القاضى بهاء الدين ابن شداد - رحمه الله -: «كنت من جملتهم، فقال السلطان: «بسم الله، والحمد لله، والصلاة على رسول الله: اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا قد نزل في بلدنا، ووطئ أرض الإسلام، وقد لاحت لوائح النصر عليهم إن شاء الله تعالى، وقد بقى [العدو] (¬2) في هذا الجمع اليسير، ولابد من الاهتمام بقلعه، والله قد أوجب علينا ذلك، وأنتم تعلمون أن هذه عساكرنا ليس وراءها نجدة ننتظرها سوى الملك العادل، وهو واصل، وهذا العدو وإن بقى وطال أمره إلى أن ينفتح البحر جاءه مدد عظيم، والرأى كل الرأى عندى مناجزته، فليخبرنا كل منكم ما عنده في ذلك ". وكان ذلك في ثالث عشر تشرين الثانى من الشهور الثمسية، وهو آخر شعبان، فانفصلت أراؤهم على أن المصلحة تأخر العسكر إلى الخروبة، وأن يبقى العسكر أياما حتى يستجم من حمل السلاح، وترجع نفوسهم إليهم، فقد أخذ منهم التعب، واستولى على نفوسهم الضجر، وتكليفهم أمرا على خلاف ما يحمله القوى لا تؤمن غائلته، والناس لهم خمسون يوما تحت السلاح وفوق الخيل، والخيل قد ضجرت من عرك اللجم، وعند أخذ حظ من الراحة ترجع نفوسها إليها، ويصل الملك العادل، ويشاركنا في الرأى [والعمل] (¬3) ونستعيد من شذّ من العساكر، ونجمع الرجالة ليقفوا في مقابلة العدو ". ¬

(¬1) الأصل: «الأمراء المشهورة وغيرهم»، والتصحيح عن: (ابن شداد: السيرة، ص 97). (¬2) ما بين الحاصرتين عن ابن شداد. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن ابن شداد وس.

ذكر وصول الأسطول

وكان السلطان قد انحرف مزاجه لحمله على قلبه ومعاناة التعب لحمل السلاح، والفكر في تلك الأيام، فوقع له ما قالوه، ورآه مصلحة، فأقام بالخروبة يصلح مزاجه، ويجمع العسكر إلى عاشر رمضان. [346] وفى يوم الاثنين ثالث رمضان أخذ المسلمون بعكا مركبا للفرنج كان مقلعا إلى صور، محتويا على ثلاثين رجلا، وامرأة واحدة، ورزمة (¬1) من الحرير، فقوى نشاط أهل البلد، فصاروا يخرجون ويقاتلون ويغنمون. وفى منتصف شوال قدم من مصر الملك العادل سيف الدين بعساكره. ذكر وصول الأسطول (¬2) وقدم من مصر خمسون قطعة من الأسطول، مقدمها حسام الدين لؤلؤ، وذلك منتصف ذى العقدة، فجاءت إلى مراكب الفرنج بغتة [فحرقتها] (¬3) وسحقتها، وبددت ش‍ملها، وظفر المسلمون ببطشتين كبيرتين من بطش العدو بما فيها من الرجال والأموال والغلال (¬4)، ونقل السلطان إلى البلد في المراكب جماعة من الأمراء بأجنادهم وعددهم وأزوادهم، واستظهر البلد برجال الأسطول وكانوا عشرة آلاف، وتطرقت رجالة المسلمين إلى العدو، وأذاقوهم القتل والأسر والسرقة (¬5)، حتى أن رجالة المسلمين ربما كانوا يختفون في الحشيش في أجراف (¬6) الأنهار فإذا صادفوا فارسا ورد الماء فاجأوه بالقتل والأسر. ¬

(¬1) الرزمة: الربطة أو الحزمة أو البالة؛ وبالفرنسية (ballot) أنظر: (Dozy: Supp .Dict .Arab) . (¬2) أكمل كاتب نسخة س هذا العنوان بقوله: «ومكاتبة السلطان صلاح الدين إلى الأطراف في الاستنفار للجهاد» غير أن كاتب الأصل فصل جزئى العنوان، وأورد الجزء الثانى وحده بعد قليل. (¬3) ما بين الحاصرتين عن س. (¬4) بعد هذا اللفظ في س: «وكان شئ كثير». (¬5) كذا في الأصل، وفى س، «وأذاقوهم شرا من القتل والأسر. . . إلخ» وعند العماد (الروضتين، ج 2، ص 148): «ويذيقونهم من القتل والأسر والسرقة ويلا». (¬6) الأصل: «أجواف»، والتصحيح عن العماد (المرجع السابق).

ذكر مكاتبة السلطان إلى الأطراف فى الاستنفار للجهاد

ذكر مكاتبة السلطان إلى الأطراف في الاستنفار للجهاد وواصل السلطان كتبه إلى جميع الأقطار يستدعى الناس إلى الجهاد ويحثهم عليه، وسرّح عدنان النّجاب إلى أخيه سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين ابن أيوب - صاحب اليمن - يشرح له ما جرى من الحوادث ويطلب منه الإعانة بالمال. وكاتب مظفر الدين قرا أرسلان - صاحب العجم - يحتج عليه بما افترضه الله تعالى من القيام بنصرة الإسلام، وكان اسم السلطنة بالعجم لابن أخى مظفر الدين هذا لأمه، وهو السلطان ركن الدين طغرل بن محمد بن طغرل بن محمد بن ملكشاه السلجوقى، وهو آخر السلاطين السلجوقية، فورد على السلطان كتابه يتظلم إليه من عمه قرا أرسلان، ويطلب من السلطان إعانته عليه، فاعتذر إليه السلطان بما هو فيه من شغل الجهاد مع الكفار، وأرسل رسولا - في السفارة بينه وبين عمه - جمال الدين أبا الفتح إسماعيل بن محمد بن عبد كويه، وكتب إلى زين الدين [347] بن نور الدين - صاحب إربل -، وإلى حسن بن قفجاق ونائبه بشهرزور يأمرهما بالتوفر (¬1) على خدمته. وكتب السلطان إلى الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين كتابا منه: " وقد مضت ثلاثة أشهر [شهر] (¬2) بها التثليث وحلّ التوحيد سلاحه، وبسط الكفر جناحه، وقتل من الفرنج وعدم في الوقعات التي روّعت [و] (2) الروعات التي وقعت أكثر من عشرين ألف مقاتل من فارس وراجل، ورامح ¬

(¬1) الأصل: «بالوفود» والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 149). (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن نص الرسالة الوارد في (الروضتين، ج 2، ص 149).

وتارس (¬1) ونابل، فما أثر ذلك فىّ نقصهم ولا أرث إلا نار حرصهم، وليس هذا العدو بواحد فينجح فيه التدبير ويأتى عليه التدمير، وإنما هو كلّ من وراء البحر، وجميع من في ديار الكفر، فإنه لم يبق لهم مدينة ولا بلدة ولا جزيرة، ولا خطة صغيرة ولا كبيرة إلا جهّزت مراكبها، وأنهضت كتائبها، وتحرك ساكنها، وبرز كامنها، وثار ثائرها، (2) وسار سائرها (¬2)، وطار طائرها، ونقضت خزائنها، وانفضت معادنها، وحملت ذخائرها، وبذلت أخائرها (¬3)، ونثلت كنائن كنائسها، واستخرجت دفائن نقائسها، وخرج بصلبانها أساقفها وبطاركها، وغصت بالأفواج فجاجها ومسالكها، وتصلبت للصليب السليب، وتعصبت للمصاب المصيب، ونادوا في نواديهم بأن البلاد بلادهم، وأن إخوانهم بالقدس أبارهم (¬4) الإسلام وأبادهم، وأنه من خرج من بيته مهاجرا لحرب الإسلام وهبت له ذنوبه، وذهبت عنه عيوبه، ومن عجز عن السفر سفّر من يقاتل عوضه، أو يعين بماله وعدته قدره، فجاءوا لابسين الحديد بعد أن كانوا لابسين الحداد، وتواصلت منهم الأمداد». وورد على السلطان من عز الدين مسعود بن مودود - صاحب الموصل - أحمال من النفط الأبيض، ومن التراس والرماح، ومن كل جنس أحكمه وأقومه وأجوده. قال: وكتب إليه السلطان: «ووصل السلاح، وتم الإسلام من قروح الكفر الاقتراح، فإن الحرب المتطاولة [348] المدد أتت على جميع العدد، ومن العجب أن العدة تفنى وما تفنى العداة؛ وتنمو على الحصاد كأنها النبات؛ فالبحر يمدهم؛ والكفر إلى الردى يردهم». ¬

(¬1) هذا اللفظ غير موجود في س ولا في نص الروضتين. (¬2) هذان اللفظان ساقطان من س. (¬3) الأصل: «أجايرها»، وما هنا عن الروضتين. (¬4) الأصل: «أثارهم» وما هنا عن الروضتين.

ذكر من وصل فى هذه المدة من مدد العدو

ذكر من وصل في هذه المدة من مدد العدو (¬1) ووصل في البحر (¬2) امرأة جليلة المقدار؛ وفى صحبتها (¬3) خمسمائة فارس بخيولهم وأتباعهم وغلمانهم، وهى متكفلة بجميع ما يحتاجون إليه من المؤونة، فهم يركبون لركوبها، ويحملون بحملها. وذكر العماد الكاتب: أن في يوم الوقعة قاتل مع الفرنج جماعة من النسوة؛ وأنهن لم يعرفن حتى سلبن ونزع عنهن لأمة (¬4) الحرب؛ وأنه سبى منهن عدة، واشترين، وأنه حضر المصاف جماعة من العجائز يحرضن على القتال ويحثثن عليه، ووصل في مركب ثلاثمائة افرنجية مستحسنات، اجتمعن من الجزائر (¬5) وسبلن أنفسهن لله بزعمهن، والتزمن أن لا يمنعن من أراد وطأهن من مقاتلة الفرنج، وزعمن أن هذه قربة ما فوقها قربة، لا سيما إذا مكّنّ من اجتمع فيه غربة وعزبة». ¬

(¬1) لم يرد هذا العنوان في س (94 أ)، وإنما جاء مكانه: «قال صاحب التاريخ». (¬2) بعد هذا اللفظ في س: «من مدد العدو». (¬3) الأصل: «وفى جملتها»، والتصحيح عن س، والنص عند العماد (الروضتين، ج 2، ص 149): «وفى حملتها». (¬4) اللأمة (والجمع: لأم ولؤم) الدرع، أو السلاح بوجه عام، والمعنى الثانى هو المقصود هنا، فقد جاء في (اللسان): يقال: استلأم الرجل إذا لبس ما عنده من عدة رمح وبيضة ومغفر وسيف ونبل "، وفى: (ابن هذيل الأندلسى: حلية الفرسان وشعار الشجعان؛ نشر محمد عبد الغنى حسن، ص 238) " فإذا لبس الفارس الدرع تقول استلأم أي لبس اللأمة ". (¬5) الأصل: «الحرائر»، والتصحيح عن: (العماد: الفتح القدسى، ص 169)، وس.

وتواصلت الأمداد من البحر إليهم يتلو بعضها بعضا؛ وكان كلما نقض من العدو عدد جاء من داخل البحر أمثاله (¬1). وفى هذه السنة توفى الفقيه ضياء الدين عيسى الهكارى - رحمه الله - وذاك في تاسع ذى القعدة بمنزلة الخروبة؛ والأمير عز الدين موسك بن جكر (¬2) وهو ابن خال السلطان. وورد على السلطان من مصر كتاب فاضلى يبشر فيه بمولد الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك العزيز عماد الدين عثمان؛ وهو الذى ملك بعد أبيه - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى - وأول الكتاب: «المملوك يقّبل الأرض بين يدى مولانا الملك الناصر دام رشاده وإرشاده؛ وزاد سعده وإسعاده؛ وكثرت أولياؤه وعبيده وأعداده؛ واشتد بأعضاده فيهم اعتضاده؛ وأنمى الله عدده حتى يقال هذا آدم الملوك وهذه أولاده؛ وينهى أن الله - وله الحمد - رزق الملك العزيز - عز نصره - ولدا مباركا [349] عليا؛ ذكرا سويا؛ برّا زكيا، نقيّا تقيا، من ذرية كريمة بعضها من بعض، ومن بيت شريف كادت ولاته تكون ولاة في السماء، ومماليكه تكون ملوكا في الأرض، وكان مقدمه الميمون في ليلة الأحد، وهى من الجمعة أولى العدد، وبه وبآله يعز [الله] (¬3) أهل الجمعة ويذل أهل الأحد». ¬

(¬1) بعد هذا اللفظ في س: «قال القاضى» ويقصد به المؤلف ابن واصل. (¬2) الأصل: «موسكى بن خلو» وفى س: «موسى بن حلوا»، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 149). (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين عن النص الوارد في (الروضتين، ج 2: ص 150).

ذكر مسير القاضى بهاء الدين بن شداد فى الرسالة إلى الشرق وإلى الديوان العزيز

ذكر مسير القاضى بهاء الدين بن شداد في الرسالة إلى الشرق وإلى الديوان العزيز وورد كتاب الملك الظاهر - صاحب حلب - إلى أبيه السلطان يخبره أنه صح أن ملك الألمان قد خرج من جهة القسطنطينية في عدة عظيمة، قيل إنهم مائتا ألف، وقيل مائتا ألف وستون ألفا، يريد البلاد الإسلامية، فاشتد على السلطان ذلك وعظم عليه. قال القاضى بهاء الدين: " فاستند بنى السلطان بالمضى إلى خليفة الوقت [الإمام الناصر لدين الله] (¬1) وإعلامه بهذه الحادثة، وأمرنى بالمسير إلى صاحب سنجار، وإلى صاحب الجزيرة وصاحب الموصل، وإربل، واستدعائهم إلى الجهاد بأنفسهم، فسرت (¬2) حادى عشر شهر رمضان، ويسّر الله تعالى الوصول إلى الجماعة وإبلاغ الرسالة اليهم، فأجابوا إلى ذلك بنفوسهم، وسيّر صاحب الموصل ابنه علاء الدين بمعظم عسكره، ووعد الديوان بكل جميل، وعدت إليه خامس ربيع الأول سنة ست وثمانين وخمسمائة، وسبقت العساكر، وأخبرته باجابتهم وتأهبهم للسير، فسّر بذلك ". وذكر عماد الدين: " أن السلطان كان قد سيّر القاضى ضياء الدين بن الشهرزورى رسولا إلى بغداد، وأن القاضى بهاء الدين لما وصل إلى حلب متوجها إلى بغداد ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬2) مكان هذا اللفظ في س: «من».

ذكر وقعة الرمل

صادف القاضى ضياء الدين قد عاد من الرسالة، فقال ضياء الدين: " انى قد بلغت المراد، فما هذا الرسول الرايح؟ " ووصل إلى العسكر السلطانى وهو مغتاظ، وتغيّر على السلطان، و (¬1) نسب إنفاذ القاضى بهاء الدين إلىّ، (1) ثم اجتمع بالسلطان وعرفه فراغ الشغل وبلوغ المقصود، وقرّر معه أمرا، ثم عاد على النجب إلى بغداد وصادف القاضى بهاء الدين بن شداد (¬2) فلم يسفر أمر سفارته عن سداد، وقيل له: " جواب ما أتيت به مع ضياء الدين، " (¬3) نسيّره (4) ونندبه فيما نتخيّره " (¬4). ودخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة: والسلطان نازل [350] بالخروبة على حصار الفرنج المحاصرين لعكا، مرابطا لجهادهم، وعنده أخوه الملك العادل، وولده الملك الأفضل، وابن أخيه الملك المظفر تقى الدين - صاحب حماة - وكانت العساكر الغربية قد انصرفت إلى بلادها لهجوم الشتاء، وتوالى الأنواء والأنداء. ذكر وقعة الرمل (¬5) واتفق أن السلطان ركب يوما في صفر من هذه السنة للصيد بالبزاة، فطاب له القنص فأبعد، وكانت اليزكية على الرمل في ساحل البحر، فخرج الفرنج وقت العصر في عدد لا يحصى، وتسامع المسلمون بهم فرجعوا إليهم وطردوهم إلى خيامهم، وقاتلوهم قتالا شديدا حتى فنى نشاب المسلمين، وشاع نداؤهم ¬

(¬1) النص في س: «بسبب إنفاذ القاضى بهاء الدين إلى بغداد». (¬2) الأصل: «بهاء الدين فعند ذلك فلم يسفر. . . إلخ»، وس: «فصادف بهاء الدين ولم يتم له أمر رسالته»، والتصحيح عن الأصل المنقول عنه هنا وهو العماد (الروضتين، ج 2، ص 151). (¬3) س: «بهاء الدين» وما هنا هو الصحيح. (¬4) س: «فرجع وهو منكسر القلب ووصل القاضى ضياء الدين في النوبة الثانية إلى بغداد وعاد إلى السلطان بالجواب الشافى»، وما هنا يتفق ونص العماد. (¬5) هذا العنوان غير موجود في س، ومكانه: «قال».

ذكر قدوم العساكر إلى خدمة السلطان

باستدعائه، فلما علم الفرنج بذلك تجاسروا عليهم، وحملوا على المسلمين حملة منكرة، فردوا بها المسلمين إلى النهر، وثبت جماعة من العادلية في وجه العدو، واستشهد جماعة من الشجعان، وسبب ذلك أنهم صرعوا جماعة من خيّالة العدو ونزلوا لأخذ سلبهم، ومرت بهم حملة الفرنج، وأعجلوا عن الركوب، فاستشهدوا، ثم أظلم الليل، وافترق الجمعان. ومن جملة من فقد من المسلمين الحاجب أيدغمش المجدى (¬1)، وكان للسلطان مملوك يقال له " سراسنقر " عثر به جواده، فأخذ بعض الفرنج بشعره، وسلّ آخر سيفا ليضربه به، فوقعت الضربة في يد الذى قبض شعره، فأطلقه، واشتد سراسنقر يعدو وهم خلفه فلم يدركوه، وكان هذا من غريب الاتفاق. ثم عاد السلطان من صيده فوجد الأمر قد انفصل. وفى خامس (¬2) ربيع الأول من هذه السنة تسلم السلطان شقيف أرنون (3) [بعد أن فنى ما فيه من الزاد] (¬3)، وأطلق صاحبه أرناط، فتوجه إلى صور. ذكر قدوم العساكر إلى خدمة السلطان (¬4) ثم دخل الربيع، وجاءت العساكر والنجد يتلو بعضها بعضا، فوصل الملك المجاهد [351] أسد الدين شيركوه - صاحب حمص -، وسابق الدين عثمان - صاحب شيزر -، وعز الدين إبراهم بن المقدم - صاحب بعرين وفامية وكفر طاب -، ووصل معهم جموع من أعيان الأجناد وحشود من التركمان والعرب. ¬

(¬1) س: «الحميدى» وما هنا يتفق والعماد (الروضتين، ج 2، ص 152). (¬2) كذا في الأصل وس، وفى الروضتين وابن شداد: «وفى يوم الأحد خامس عشر». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬4) هذا العنوان غير موجود في س، وإنما مكانه: «قال».

ذكر مقدم السلطان إلى تل كيسان

ذكر مقدم (¬1) السلطان إلى تل كيسان ولما كثرت العساكر عند السلطان رحل من الخروبة إلى تل كيسان يوم الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول (¬2) من هذه السنة، ورتب الأطلاب، فكان الملك المظفر في آخر الميمنة، والملك العادل في آخر الميسرة، والملك الأفضل في أول ميمنة القلب، وأخوه الملك الظافر في أول الميسرة على الجانب. ثم وصل الملك الظاهر - صاحب حلب -، وعماد الدين محمود بن بهرام الأرتقى - صاحب دارا -، وغيرهم من الملوك والأمراء. ثم وصل عماد الدين زنكى بن مودود - صاحب سنجار - وذلك لثمان بقين من ربيع الآخر، فأكرمه السلطان وبالغ في احترامه، وقدم له شيئا كثيرا من اللطف والتحف، وبسط له ثوبا أطلس عند دخوله إليه، وطرحت له طرّاحة مستقلة (¬3) إلى جانبه، وضربت خيمته على طرف الميسرة. ووصل في سابع جمادى الأولى معز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازى ابن مودود - صاحب الجزيرة -، فأنزله إلى جانب عمه عماد الدين. ووصل بعده بيومين ابن عمه علاء الدين خرمشاه بن عز الدين مسعود - صاحب الموصل - نائبا عن أبيه، فالتقاه السلطان، واحترمه، وأنزله ¬

(¬1) س: «تقدم». (¬2) س: «ربيع الآخر»، وما بالمتن هو الصحيح فإنه يتفق والنص عند ابن شداد (ص 102) والعماد (الروضتين، ج 2، ص 152). (¬3) الأصل، وس: «مستقبله» والتصحيح عن: (ابن شداد، ص 104)، والعماد: (الروضتين، ج 2، ص 153).

ذكر وصول رسول الخليفة الإمام الناصر لدين الله تعالى أمير المؤمنين إلى السلطان

عنده في الخيمة، وقدم له تحفا كثيرة، ثم أمر بضرب خيمة له بين ولديه: الملك الأفضل، والملك الظاهر. ثم وصل زين الدين يوسف بن زين الدين كوجك - صاحب إربل - فأكرمه السلطان، وأنزله عند أخيه مظفر الدين في الميسرة. ذكر وصول رسول (¬1) الخليفة الإمام الناصر لدين الله تعالى أمير المؤمنين إلى السلطان [352] وهو الشريف فخر الدين نقيب مشهد التبن ببغداد، وكان قدومه سادس عشر ربيع الأول (¬2) من هذه السنة، ومعه حملان من النفط، وتوقيع بعشرين ألف دينار تقرض من بعض التجار على الديوان العزيز، وخمسة (¬3) من الزرّاقين (¬4) المتقنين صناعة الإحراق بالنار، فاعتدّ السلطان بكلما حضر، وشكر عليه الديوان، وردّ التوقيع عليه، وقال: " كل ما معى من نعمة أمير المؤمنين، ولولا صرف أموال هذه البلاد للجهاد، لكانت محمولة إلى الديوان ". وأركب الرسول مرارا، وأراه معارك القتال، حتى يشهد بما شاهد، وأقام عند السلطان مدة، ثم استأذن في العود، فعاد. ¬

(¬1) الأصل: «رسل» والتصحيح يقتضيه السياق والمعنى. (¬2) س: «سادس عشرين شعبان»، وما هنا يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 2، ص 152). (¬3) س: «وجماعة»، وما هنا يتفق ونص العماد. (¬4) الزراق - والجمع زراقون - هو الذى يرمى النفط من الزراقة، وهى أنبوبة خاصة يزرق بها النفط (Dozy : Supp,Dict .Arab) وجاء في: (النعمانى: الجندية في الدولة العباسية، ص 154) أن النفط كان يرسل من أنابيب تجعل في السفن وتعرف في اليونانية باسم «سيفونية»، وتسمى عند العرب بالزراقات، تنبعث منها نار النفط بارعاد ودخان شديد فتحرق السفن.

ذكر نصب الأبراج على عكا وإحراقها

ذكر نصب الأبراج على عكا وإحراقها وكان الفرنج قد شرعوا في بناء ثلاثة أبراج عالية عظام، ونقلوا في البحر آلاتها وأخشابها الجافية، وقطع الحديد، وتعبوا فبها سبعة أشهر، وفرغوا منها في ربيع الأول من هذه السنه فعلت كأنها أطواد، ونصبت في ثلاثة مواضع من أقطار البلد، وملئت طبقاتها بالعدد والعدة، وكل برج منها في أركانه أربع اسطوانات عاليات غلاظ، طول كل واحدة خمسون ذراعا لتشرف على ارتفاع سور البلد، وبسطوها على دوائر العجل، ثم كسوها بجلود البقر، وسقوها بالخل والخمر (¬1) وكانوا يقربونها كل يوم من البلد على حسب ما تيّسر لهم، وكشفوا من جوانبها سور البلد. ثم شرعوا في طم الخندق، وورد الخبر إلى السلطان بأن العدو قد طمّ بعض الخندق وقد قوى عزمه على منازلة البلد ومضايقته، فكتب السلطان إلى سائر الأطراف يأمر بالحث على وصول العساكر، واشتد خوف المسلمين بسبب الأبراج الخشب فإنها كانت في غاية العظم، فإن كل واحد منها كان يحمل من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة فارس [353] ويتسع سطحه لأن ينصب عليه منجنيق، ولم يبق إلا ملاصقة الأبراج السور، ووقع الناس من حفظ البلد في تعب عظيم، وأعمل السلطان فكره في إحراق الأبراج وإهلاكها، وجمع الصناع من الزّراقين والنفاطين ووعدهم بالأموال الجزيلة إن أحرقوها، فضاقت في ذلك حيلهم. ولازم السلطان القتال صباح ومساء وفرّق العساكر فرقتين: فرقة تقاتل، وفرقة تشغل الذين يجرون الأبراج عن جرها، ورميت بكل قارورة نفط فلم يؤثر فيها شىء. ¬

(¬1) هذا نص هام يفيد من يدرس أدوات القتال في تلك العصور، فقد كانوا ينقعون الجلود في الخل والخمر مدة لتصبح غير قابلة للاشتعال، ثم يتخذونها ستائر يسترون بها الأبراج والحصون من القذائف النارية، راجع ما فات هنا أيضا ص 303، هامش 5.

وكان شاب من أهل دمشق يقال له على، ابن عريف النحاسين مولعا بجمع آلات الزرّاقين وتحصيل عقاقيرها [فوعد السلطان صلاح الدين بإحراقها، ففرح بذلك ووعده بكل جميل] (¬1)، فدخل إلى عكا بعد أن حصل من الأدوية التي يعرفها ما يحتاج إليه، فطبخ الأدوية من النفط في قدور من النحاس حتى صار الجميع كأنه جمرة نار، ورمى إحدى الأبراج، وذلك يوم السبت لليلتين بقيتا من ربيع الأول، وهو يوم وصول الملك الظاهر، فاشتعل البرج من ساعته، وصار كالجبل العظيم من النار طالعة ذوائبها نحو السماء، فاستغاث المسلمون وضجّوا بالتكبير والتهليل، ثم رمى الثانى بالقدر الثانية، والثالث بالثالثة، فأحرق الثلاثة. وذكر العماد: أنه رمى الأبراج أولا بقدور نفط خالية من النار، حتى عرف أنه سقاها ورواها، ثم رماها بالقدور المحرقة، فتسلطت النار على طبقات الأبراج، وذكر أنه احترق في البرج الأول سبعون (¬2) فارسا بعدتهم، واشتد سرور المسلمين بهذا الفتح. وحمل الزرّاق إلى السلطان [فأعطاه شيئا كثيرا] (3)، فلم يقبل عطاه وقال: «هذا عملته لله، فما أريد من سواه جزاء»، [(3) فأوقف السلطان عليه قرية من خيار قرى دمشق] (¬3)، وخرج أهل عكا من البلد، فطفوا النار، وسدوا الثغر، وجاءوا إلى مواضع الأبراج فاستخرجوا حديدها، وما وجدوا من الزرديات والعدد التي سلمت فأخذوها. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ص 97 أ). (¬2) س: «تسعون» وما هنا يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 2، ص 154) وبعد هذا اللفظ في س: «وكذلك في الثانى والثالث أعظم من ذلك». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س.

ذكر وصول الأسطول

ذكر وصول الأسطول (¬1) [354] ووصل الأسطول، فخرج السلطان إلى لقائه بجميع كتائبه، وجهزت الفرنج أساطيلهم لمقاتلة أسطول المسلمين، فطحن أسطول المسلمين أسطول الفرنج، وأخذ منهم مركبا برجاله وأخذ العدو من أسطول المسلمين مركبا، واشتد القتال بين الفريقين في البحر إلى أن حجز بينهما الليل، فتفرق الأسطولان وقد قتل من الفرنج مقتلة عظيمة. وذكر عماد الدين: أنه حرر ما قتل من الفرنج في مدة الحرب فكان أكثر من مائة ألف (¬2). ذكر خروج ملك الألمان لنصرة الفرنج المنازلين لعكا وما آل إليه أمره وقد ذكرنا وصول الخبر إلى السلطان في سنة خمس وثمانين بخروج ملك الألمان إلى بلاد الإسلام (¬3) فيما يزيد على مائتى ألف مقاتل، وكان الحامل لملك الألمان على هذا الخروج ما بلغه من انكسار الفرنج بحطّين قتلا وأسرا، وأخذ بلادهم وانتزاع البيت المقدس منهم، الذى فيه قمامتهم، ومحل ضلالتهم، فحملته الحميّة لدينه والانتصار لبيت معبوده على أنه جمع وحشد، وسار في أمم لا تدخل تحت ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في س، وإنما مكانه: «قال». (¬2) بعد هذا اللفظ في س: «ما بين فارس وراجل وغيرهم، ثم افتدى السلطان أسطوله بأسطول الفرنج». (¬3) س: «بلاد الشام».

الحصر، فسار مدة شهور حتى وصل قسطنطينية، وهى يومئذ مع الروم، فكتب ملك الروم بها إلى السلطان يخبره بأخبارهم ويقول: «أنا لا أمكنهم من العبور» (¬1). ثم إنه لما لم يقدر على منعهم لم يسعفهم بزاد، فضاقت عليهم الأقوات وقلت، ثم عبروا خليج القسطنطينية وقد اشتدت ضائقتهم، وكثرت جموعهم وجوعهم (¬2)، ولما سلكوا (¬3) إلى حدود بلاد الإسلام سلكوا في الأودية والآجام، فخطفتهم التركمان، ودخل الشتاء، فتراكمت عليهم الثلوج، فاحتاجوا إلى أكل الدواب، وأحرقوا عددهم لعوز الحطب عندهم، وعدموا العلف، وكانوا مع هذا جاهلين بالبلاد؛ لا يقطعون فرسخا إلا في يومين، وذهبت بركتهم؛ وصاروا كل يوم في نقص من أنفسهم ودوابهم، ودفنوا من عددهم ما عجزوا عن نقله، ثم عرضوا عسكرهم [355] بعد أشهر بعد ما نقص من نقص منهم فكانت ستين ألف مدرع. ولما قربوا من بلاد الملك قلج أرسلان بن مسعود السلجوقى فنهض إليهم ابنه قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان، فوقع بينهم مصاف فكسروه، واندفع عنهم إلى مدينة قونية، فساقوا وراءه، ودخلوها، وأحرقوا أسواقها (¬4)، فنفذوا إلى قلج أرسلان: " إنا لم نصل لأخذ بلادك، وإنما نزلنا لثأر البيت المقدس ". ¬

(¬1) بعد هذا اللفظ في س (98 أ): «فطاب قلب السلطان». (¬2) هذا اللفظ غير موجود في س. (¬3) س: «ولما وصلوا». (¬4) س: «أسوارها».

ونفذوا إليه هدايا، وطلبوا الهدنة منة، فهادنهم، [فبقوا في بلاده مدة، ولم يؤذوا أحدا منها، وتقوّوا بعد ذلك بما أرادوا من بلاده] (¬1) من العدة والأزواد، وبعث قلج أرسلان وابنه إلى السلطان يعتذران من تمكينهم إياه من العبور، وأنهم غلبوا على ذلك. ثم طلب ملك الألمان من قلج أرسلان إنفاذ جماعة من الأمراء معهم تمنعهم من لصوص التركمان حتى يصلوا إلى بلاد الأرمن، فنفذ معهم خمسة وعشرين أميرا، وكان ذلك موافقا لغرض قطب الدين، لأنه كان كارها لجماعة من المقدمين، فتقدم إليهم بأن يكونوا في صحبة ملك الألمان، [فساروا معه] (¬2) فما قدروا على منع اللصوص والسراق، فغضب عليهم ملك الألمان، وقيدهم بعد أن أخذ كل ما كان معهم، ثم منهم من خلص بعد ذلك، ومنهم من مات في الأسر. ووصل ملك الألمان إلى بلاد الأرمن، ومقدمهم لافون بن اصطفانه بن لاون، فوصل إلى خدمة ملك الألمان، ودخل في طاعته، وأقام لهم الإقامات والعلوفات، وهداهم الطريق، فنزلوا بطرسوس، وأقاموا بها أياما ليريحوا أنفسهم، فعنّ لملك الألمان أن يسبح في النهر، فسبح فعرض له مرض شديد أداه إلى الموت، وأراح الله المسلمين منه. وذكر في سبب هلاكه أنه لما عبرت جموعه (¬3) النهر ازدحموا والتطم الموج بهم، واقتحموا، فطلب الملك موضعا يعبر فيه وحده، فدخل في مخاضة قوية الجرية فاختطفه سورة الماء إلى شجرة شجت رأسه، فاستخرجوه وهو في آخر رمق، فهلك عن قرب. ¬

(¬1) الأصل،. فتقووا بمن بلاده بما أرادوا من العدة الأزواد» وهى جملة مضطربة الم‍عنى وما بين الحاصرتين نص س وهو أصح. (¬2) ما بين الحاصرتين عن س (98 ب). (¬3) الأصل: «جموعهم» والتصحيح عن س.

[ووصل إلى السلطان] (¬1) كتاب كاغيلوس الأرمنى - صاحب قلعة الروم - وهو للأرمن بمنزلة الخليفة عندنا، ونسخة كتابه: " كتاب الداعى المخلص كاغيلوس: مما أطالع به علوم مولانا ومالكنا السلطان الملك الناصر جامع كلمة الإيمان، رافع علم العدل والإحسان، صلاح الدنيا والدين (¬2)، سلطان الإسلام والمسلمين، من أمر ملك الألمان وما جرى له عند ظهوره، وذلك أنه أول ما خرج من دياره دخل بلاد الهنكر (¬3) غصبا، ثم دخل أرض مقدّم الروم، وفتح البلاد ونهبها، وأحوج ملك الروم إلى أن أطاعه، وأخذ رهائنه: ولده وأخاه، وأربعين نفرا من خلصائه (¬4)، وأخذ منه (¬5) خمسين قنطارا ذهبا، وخمسين قنطارا من فضة، وثياب أطلس مبلغا عظيما، واغتصب المراكب، وعدّى بها إلى هذا الجانب، وصحبته الرهائن إلى أن دخل حدود بلاد الملك قلج أرسلان، وردّ الرهائن، وبقى سائرا ثلاثة أيام، وتركمان الاوج يلقونه بالأغنام والأبقار والخيل والبضائع، فيداخلهم الطمع، وجمعوا من جميع البلاد، ووقع القتال بين التركمان وبينهم، وضايقوه ثلاثة أيام (¬6) وهو سائر. ولما قرب من قونية جمع قطب الدين ولد قلج أرسلان العساكر وقصده، وضرب معه مصافا عظيما، فظفر به ملك الألمان، وكسره كسرة عظيمة، وسار حتى أشرف على قونية، فخرج إليه جموع عظيمة من المسلمين، فردّهم مكسورين، وهجم قونية بالسيف وقتل منها عالما عظيما من المسلمين، وأقام بها خمسة أيام، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (98 ب)، وبها يتم المعنى. (¬2) الأصل: «الدين والدنيا»، وما هنا عن س، وهو أفضل لتتم به السجعة التالية. (¬3) الأصل:: «الهنك»، وما هنا عن س، وهو الأصح، والمقصود بها بلاد هنغاريا أو المجر (¬4) س: «جلسائه». (¬5) الأصل: «منهم» وما هنا عن س، وهو الأصح. (¬6) الأصل، «ثلاثة وثلاثين يوما»، والتصحيح عن س (99 أ) و (الروضتين، ج 2، ص 155).

فطلب قلج أرسلان منه الأمان، فأمّنه الملك، واستقر بينهم قاعدة أكيدة، وأخذ منه الملك رهائن عشرين من أكابر دولته، وأشار على الملك أن يجعل طريقه على طرسوس والمصيصة، ففعل. وقبل وصوله إلى هذه البلاد أنفذ كتابه ورسوله بشرح حاله، وأين قصده، وما لقى في طريقه، وأنه لابد يجتاز بهذه الديار اختيارا أو كرها، فاقتضى الحال إنفاذ المملوك حاتما، وصحبته ما سأل، ومعه من الخواص جماعة للقاء الملك في جواب كتابه، وكانت الوصية معهم إلى بلاد قلج أرسلان إن أمكن، فلما اجتمعوا بالملك الكبير وأعادوا عليه الجواب، وعرفوه الأحوال أبى إلا الانحراف، [357] ثم كثرت عليه العساكر والجموع ونزل على شط نهر، وأكل خبزا، ونام ساعة، فتاقت نفسه إلى الاستحمام في الماء البارد، ففعل ذلك وخرج، وكان من أمر الله أنه تحرّك عليه مرض عظيم في الماء البارد، فمكث أياما قلائل ومات. وأما لافون فكان سائرا يلقى الملك، فلما جرى هذا المجرى هرب الرسل من العسكر وتقدموا إليه وأخبروه بالحال فدخل في بعض حصونه، واحتمى هناك. وأما ابن الملك فكان أبوه منذ توجه لقصد هذه البلاد نصب ولده الذى هو معه عوضه، وتأكدت قواعده، وبلغه هرب رسل لافون فأنفذ واستعطفهم، وقال: " إن أبى كان شيخا كبيرا، وإنما قصد هذه الديار لأجل حج بيت المقدس، وأنا الذى دبرت الملك، وعانيت المشاق في هذه الطريق، فمن أطاعنى (¬1) وإلا بدأت بقصد دياره ". ¬

(¬1) س، «فمن لم يطيعنى».

واستعطف لافون، واقتضى الحال الاجتماع به ضرورة؛ وبالجملة هم في عدد كثير، ولقد أعرض عسكره فكان اثنين وأربعين ألفا (¬1)، وأما الرجالة فلا يحصى عددهم إلا الله تعالى، وهم أجناس متفاوتة، وخلق غريبة (¬2)، وهم على قصد عظيم وجد وسياسة هائلة، حتى أن من جنى منهم جناية ليس له جزاء إلا أن يذبح مثل الشاة، ولقد بلغهم (¬3) عن بعض أكابرهم أنه جنى على غلام له، وجاوز الحد في ضربه، فاجتمعت القسوس للحكم، واقتضى الحال والحكم العام ذبحه، وشفع إلى الملك منهم خلق كثير منهم، فلم يلتفت إلى ذلك وذبحه، وقد حرموا الملاذ (¬4) على أنفسهم، حتى إن أي من بلغهم عنه بلوغ لذة هجروه وعزّروه، وكل ذلك كان حزنا على بيت المقدس، ولقد صحّ عن جمع منهم أنهم هجروا الثياب مدة طويلة، وحرموها على أنفسهم، ولم يلبسوا إلا الحديد، حتى أنكر عليهم الأكابر ذلك، وهم من الصبر على الذل والشقاء والتعب في حال عظيم " هذا آخر كتابه. ولما هلك عدو الله ملك الألمان قام بالملك بعده ولده، واجتمعت العساكر على طاعته، ثم سار بهم إلى أنطاكية، وقد عمّ المرض أكثرهم، وصار معظمهم حملة عصى وركّاب حمير. ولما وصلوا إلى أنطاكية [358] تبرم بهم صاحبها، وثقلت عليه وطأتهم فحسّن لهم قصد بلاد حلب، فلم يفعلوا، وطلبوا من صاحب أنطاكية قلعته لينقلوا إليها ما معهم من المال والخزائن والثقل، فأخلاها لهم طمعا في أن يفوز بما ينقلونه ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى س (99 ب): «اثنين وأربعين ألف فارس»، وفى (ابن شداد: السيرة، ص 109) و (الروضتين، ج 2، ص 155): «إثنين وأربعين ألف مجفجف» (¬2) توجد بعد هذا اللفظ في س ال‍جملة الآتية: «وهذا المعظم بعد ما هلك منهم خلق مثلهم في طريقهم»، ولا توجد هذه الجملة في الأصل المنقول عنه هنا وهو (ابن شداد: السيرة، ص 109) (¬3) س: «بلغ ملكهم». (¬4) الأصل: «البلاد»، والتصحيح عن ابن شداد وس.

إليها من المال، وكان الأمر على ما حدس، فإنهم لما فارقوا أنطاكية لم يعودوا إليها، وفاز الابرنس - صاحب أنطاكية - بكل ما صار فيها. وجاءت فرقة من الألمانية إلى بغراس، وظنوا أنها بعد بأيدى الكفر، ففتح والى القلعة الباب، وأخرج أصحابه، وتسلم ما مع الألمانية من الأموال بصناديقها، وأسر منهم وقتل كثيرا، وخرج بعد ذلك أهل حلب وجندها إلى طريقهم والتقطوهم، فكان الواحد يأسر جماعة منهم، وهانوا في الأنفس بعد ما كان قد تهيبوا هيبة عظيمة، وبيعوا في الأسواق بالثمن البخس. وذكر القاضى بهاء الدين بن شداد: أن ملك الألمان لما توفى وقام ولده مقامه، مرض مرضا عظيما في بلاد ابن لاون، وأقام معه خمسة وعشرون فارسا، وأربعون داويّا، وجهز عسكره نحو أنطاكية حتى يقطعوا الطريق، ورتبهم ثلاث فرق لكثرتهم، ثم إن الفرقة الأولى اجتازت تحت قلعة بغراس، ومقدمها كند كبير (¬1) عندهم، وأن عسكر بغراس مع قلته أخذ منهم مائتى رجل قهرا ونهبا، وكتبوا إلى السلطان يخبرون عنهم بالضعف العظيم، والمرض الشديد، وقلة الخيل والعدد والآلات. ولما اتصل خبرهم بالنواب بالبلاد الشامية سيّروا إليهم عسكرا يكشفون أخبارهم، فوقعوا على جمع عظيم منهم قد خرجوا لطلب العلوفة، فقتلوا وأسروا زهاء عن خمسمائة نفس (¬2). قال القاضى بهاء الدين: ولقد حضرت من يخبر السلطان عنهم، ويقول: " هم عدد كثير، ولكنهم ضعفاء قليلو الخيل والعدة، وأكثر ثقلهم على حمير وخيل ضعيفة "، قال الحاكى: ¬

(¬1) الأصل: «فقدمها لبذكر» والتصحيح عن س (100 أ). (¬2) س: «فارس».

" ولقد وقفت على جسر يعبرون عليه لا عتبرهم، فعبر منهم جمع عظيم ما وجدت مع أحد منهم طارقة (¬1) ولا رمحا إلا النادر، فسألتهم عن ذلك، فقالوا: أقمنا بمرج وخم أياما، وقلت أزوادنا وأحطابنا، فأوقدنا معظم عددنا، ومات منا خلق عظيم، واحتجنا إلى الخيل فذبحناها وأكلناها " ومات الكند الذى وصل [359] إلى أنطاكيه، وطمع أبن لاون فيهم حتى عزم على أخذ مال الملك، لمرضه وضعفه وقلة جمعه الذى تخلف معه. ولما تحقق السلطان [صلاح الدين] وصول الألمانيين إلى بلاد الأرمن، وقربهم من البلاد الشامية، شاور أمراءه فيما يصنع، فوقع الاتفاق على تسيير بعض العساكر إلى طريقهم، وأن يقيم على منازلة العدو ببقية العساكر، فكان أول من سار الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر [تقى الدين]، وكان إقطاعه منبج، ثم سار عز الدين بن المقدم - صاحب بعرين (¬2) وأفامية -، ثم الملك الأمجد - صاحب بعلبك -، ثم سابق الدين عثمان بن الداية - صاحب شيزر -، ثم الياروقية من عسكر حلب، ثم عسكر حماة، ثم سار الملك الأفضل ولد السلطان لمرض عرض له، وكذا بدر الدين (¬3) - شحنة دمشق -، ثم سار الملك الظاهر إلى حلب لحفظ ما يليه من البلاد، ثم سار بعده الملك المظفر لحفظ ما يليه من البلاد، وتدبير أمر العدو المجتاز. ولما سارت هذه العساكر خفّت الميمنة، فأمر السلطان أخاه الملك العادل، فانتقل إلى منزلة الملك المظفر في طرف الميمنة، وكان عماد الدين زنكى بن مودود - صاحب سنجار - في طرف الميسرة، ووقع في العسكر مرض شديد، ¬

(¬1) راجع ما فات هنا ص 279، هامش 3 (¬2) س: «بغراس». (¬3) س: «عز الدين» وما هنا يتقق وابن شداد (السيرة اليوسفية، ص 110).

ذكر الوقعة العادلية على عكا

فمرض مظفر الدين بن زين الدين - صاحب حرّان -، ثم شفى؛ ومرض بعده الملك الظافر ولد السلطان، ومرض خلق من الأكابر، إلا أن المرض كان سليما، وكان عند العدو مرض عظيم وموتان كثير، وتقدم السلطان بهدم سور طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل، وانتقل أهلها إلى بيروت. ذكر الوقعة العادلية على عكا لما علم الفرنج أن عساكر المسلمين قد تفرقت في أطراف البلاد، وأن ميمنة العسكر قد خفّت بسبب من سار منها لأجل حماية البلاد من العدو الواصل، أجمع رأيهم واتفقت كلمتهم على الخروج من معسكرهم بغتة، والهجوم على طرف الميمنة فجأة، فخرجوا، وقصدوا الميمنة، وفيها مخيم الملك العادل، فلما نظر الناس لهم صاح صائحهم، وخرجوا من خيامهم كالأسود من آجامها، وركب السلطان، ونادى مناديه: «يا للإسلام!» (¬1) وكان أول [360] راكب. قال القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله -: " لقد رأيته وقد ركب من خيمته ومعه نفر يسير من خواصه، والناس لم يستتم ركوبهم، وهو كالفاقدة لولدها والثكلى لواحدها، ثم ضربت كوساته (¬2)، فأجابتها كوسات الأمراء من أماكنها، وركب الناس، ووصل الفرنج إلى مخيم العادل قبل استتمام ركوب العساكر، ودخلوا في وطاقته (¬3)، وأمتدت أيديهم في السوق وأطراف الخيم بالنهب والغارة، ووصلوا إلى خيمته ¬

(¬1) الأصل: «الإسلام»، وما هنا عن (ابن شداد: السيرة، ص 112)، وفى س: «يا ال الاسلام» (¬2) لشرح هذا المصطلح راجع: (مفرج الكروب، ج 1، ص 11، هامش 2) (¬3) س: «وطاقه». والوطاق لفظ معرب، وأصله بالتركية (أوتاق، أو أوطاق، أو أوتاغ) معناه الخيمة؛ أو مجموعة الخيام؛ أو المعسكر؛ أو الغرفة. أنظر: (Dozy : Supp .Dict .Arab) .

الخاصة، وأخذوا من الشراب خاناه شيئا، وركب الملك العادل، وركب معه من يليه من الميمنة، كالأمير صارم الدين قايماز النجمى، والأمير عز الدين جرديك النورى، ووقف بمن معه حتى توغل الفرنج، وطمعوا في المخيم، واشتغلوا بالنهب، وعاثت أيديهم في الخيام والأقمشة والفواكه والأطعمة. فلما علم [الملك العادل] (¬1) اشتغالهم صاح بالناس، وحمل - رحمه الله - بنفسه، يقدمه ولده الأكبر شمس الدين مودود، وهو والد الملك الجواد مظفر الدين يونس، وحمل لحملته من كان يليه من الميمنة حتى وصل الصياح إلى عسكر الموصل، فهجموا على العدو، واشتد القتال، ووقعت الكسرة على الفرنج، فولوا على أدبارهم، منهزمين نحو خيامهم، وأخذتهم السيوف من كل ناحية، وصاح صائح السلطان [صلاح الدين] (1): " يا أبطال الموحدين، هذا عدو الله قد أمكن الله منه، وقد داخله الطمع حتى غشى خيامكم بنفسه؛ فبادروا إلى إجابته ". [فحملت] (1) حلقته وخاصته؛ ثم طلب عسكر الموصل، ومقدمهم علاء الدين ولد عز الدين، [فتقدموا وتقدم بعدهم] (1) عسكر مصر ومقدمهم سنقر الحلبى، وتتابعت العساكر، وتجاوبت الأبطال، وقامت الحرب على ساق، ولم يك إلا ساعة حتى ردوا (¬2) القوم من حد خيام الملك العادل إلى خيامهم، ولم ينج من القوم إلا النادر، وأسر من الفرنج يومئذ نفر يسير، لأن السلطان أمر ألا يستبقى أحد، وهذا كله كان في الميمنة، وفى بعض القلب. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (101 أ). (¬2) الأصل: «زوى» والتصحيح عن س، أنظر أيضا: (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 113).

وأما الميسرة فما اتصل الصائح بهم إلا وقد نجز الأمر لبعد ما بين المسافتين، وكان مبتدأ هذه الوقعة منتصف النهار من يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة - أعنى سنة ست وثمانين وخمسمائة -، [361] ولم يفقد من المسلمين سوى عشرة أنفس غير معروفين، ولما شاهد المسلمون بعكا من الأسوار هذه الوقعة خرجوا من البلد، وجرى مقتلة عظيمة، وهجموا خيام العدو، ونهبوا منها جمعا من النسوان والأقمشة، حتى القدور فيها الطعام، واختلف في عدد القتلى [من الفرنج] (¬1)، فقيل عشرة آلاف، وقيل ثمانية آلاف، ولم ينقصهم أحد في الحزر عن خمسة (¬2) آلاف. قال القاضى بهاء الدين: " لقينا إنسانا عاقلا جنديا يسعى بين صفوف القتلى ويعدهم، فقلت له: كم عددت؟ فقال: إلى ههنا أربعة آلاف ونيفا وستين قتيلا، وكان قد عدّ صفين، وهو في الصف الثالث، وكانت الصفوف خمسة، لكن ما مضى من الصفوف أكثر عددا من الباقى ". وذكر عماد الدين الكاتب: " أنهم كانوا مفروشين في مدى فرسخ من الأرض، وهم في تسعة صفوف من تلال الرمل إلى البحر بالعرض، وكل صف يزيد على ألف قتيل ". وشرع الفرنج في الخداع والمراسلة، وسألوا في الصلح. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (101 ب). (¬2) س: «سبعة الاف»، وما هنا يتفق ونص (الروضتين، ج 2، ص 158).

ذكر قوة الفرنج بوصول الكندهرى إليهم وتحول السلطان إلى الخروبة

ذكر قوة الفرنج بوصول الكندهرى إليهم وتحول السلطان إلى الخروبة لما وقعت هذه الوقعة العظيمة وهن الفرنج وخافوا، فلو أن السلطان عاودهم القتال فيه مرة بعد أخرى لاستأصلهم وأطفأ جمرتهم لكن لما يختاره الله تعالى تهاون بهم، واشتغل عن قتالهم، فوصلت إليهم النجد [من البحر] (¬1)، وتقووا، وورد إليهم أضعاف من هلك منهم، ووصل إليهم كند عظيم - يعرف بالكندهرى - قد فرق الأموال واستخدم الرجال، وأنفق في عشرة آلاف راجل، وأظهر أنه يريد الخروج إلى لقاء عسكر الإسلام، فتحول السلطان إلى منزلة الخروبة ليوسع عليهم الدائرة، ونصب الكندهرى على عكا منجنيقات عدة، فأحرقها المسلمون، وقتل من الفرنج سبعون فارسا، وأسر عدة معروفون، ثم نصب منجنيقين آخرين (¬2) فأحرقا أول شعبان، وأنكت (¬3) فيهم العرب بالسرقة والنهب، وكذلك من بعكا من المسلمين. ذكر مكاتبة ملك الروم بقسطنطينية للسلطان بالمودة وإقامة الخطبة [له] (¬4) ببلده وكان بين السلطان وبين ملك الروم بقسطنطينية مراسلة ومكاتبة، وكان قد وصل منه رسول إلى الباب السلطانى - والسلطان [362] إذ ذاك بمرج عيون - في جواب رسول كان أنفذه السلطان في تقريره القواعد وإقامة الخطبة في جامع القسطنطينية، وهو الجامع القديم الذى بنى في عهد بنى أمية، فمضى (¬5) الرسول ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (102 أ). (¬2) س: «ثم نصب منجنيقات أخر». (¬3) الأصل: «وانكب»: والتصحيح عن س. (¬4) ما بين الحاصرتين عن س. (¬5) الأصل وس: «فأقام» والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 160).

ذكر ما آل إليه حال ابن ملك الألمان وأصحابه

وأقام الخطبة، ولقى باحترام عظيم وإكرام زائد، وكان السلطان قد أنفذ معه في المركب الخطيب والمنبر وجمعا (¬1) من المؤذنين، وكان يوم دخولهم إلى القسطنطينية يوما مشهودا عظيما من أيام الإسلام، وكان ثمّ جمع كثير من المسلمين من التجار، ورقى الخطيب المنبر وأقام الدعوة الإسلامية العباسية. ثم عاد رسول السلطان ومعه رسول ملك الروم وبيده كتاب من الملك مختوم بالذهب، يتضمن إعلام السلطان وتمكينه من إقامة الخطبة ببلده، واستعطاف السلطان وإظهار مودته ومحبته، واعتذر إلى السلطان من عبور ملك الألمان ببلاده، وأنه قد فجع في طريقه بالأمانى، ونال من الشدة ونقص العدة ما أضعفه وأوهاه، وأنه لا يصل إلى بلادكم فينتفع بنفسه أو ينفع، ويكون مصرعه هناك ولا يرجع. ذكر ما آل إليه حال ابن ملك الألمان وأصحابه قد ذكرنا نزول الألمانيين بأنطاكية، وأنهم طلبوا من صاحبها قلعة أنطاكية، لينقلوا إليها خزائنهم وذخائرهم، وأنه أجابهم إلى ذلك طمعا فيها، ولما كان الخامس والعشرون من رجب من هذه السنة سار ابن ملك الألمان من أنطاكية طالبا عكا في جيوشه وجموعه على طريق اللاذقية حتى أتى طرابلس، وكان قد سار إليه المركيس - صاحب صور - من معسكر (¬2) الفرنج لأجل تلقيه، وكان هو الأصل في استدعاء أهل الكفر إلى هذه الواقعة، فلما وصل إليه قوى قلبه وبصّره بالطريق، وسلك به الساحل، وكانت عدة من معه لما وصل إلى طرابلس خمسة آلاف بعد ذلك الجمع العظيم الذى خرج معه من بلاده. ونزل ابن ملك الألمان في البحر في بعض أصحابه. ¬

(¬1) الأصل وس: «جمع» والتصحيح عن (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 116) وانظر (الروضتين، ج 2، ص 160) (¬2) س (102 ب): «بعسكر من الفرنج».

ذكر الواقعة الكائنة عند وصول ابن ملك الألمان

وسار الباقون على الساحل، فثارت على ابن ملك الألمان ريح فأهلكت من أصحابه ثلاث مراكب، ووصل ابن ملك الألمان إلى عكا في جمع قليل في سادس [363] رمضان، فلم يظهر لهم موقع، ثم هلك ابن ملك الألمان على عكا في ثانى عشر ذى الحجة من هذه السنة، وأطفأ الله جمرته وجمرة أصحابه، وأبادهم بعد أن كان المسلمون قد يئسوا - لكثرتهم - من بلاد الإسلام، وتيقنوا أنهم لا طاقة لهم به، ففعل الله تعالى ما لم يكن في حسابهم. ذكر الواقعة الكائنة عند وصول ابن ملك الألمان ولما وصل ابن ملك الألمان رام أن يظهر لمجيئه وقعا، فركب في الفرنجية فارسها وراجلها وقربوا من تل العياضية، وعليه خيم اليزكية، والنوبة فيها للحلقة السلطانية وعسكر الموصل، فقابلهم اليزك، وركب السلطان، وتقدم إلى تل كيسان، ولم تزل الحرب قائمة إلى أن جن الظلام، وكانت الدائرة على الكفار، فقتل منهم وجرح خلق كثير، فلم يزل السيف يعمل فيهم وهم هاربون حتى وصلوا إلى مخيمهم، ولم يقتل من المسلمين ذلك اليوم إلا رجلان، وجرح جماعة كثيرة. ذكر دخول الميرة إلى عكا وكان السلطان قد أعدّ ببيروت بطشة (¬1) عظيمة، وأودعها أربعمائة غرارة قمح ووضع فيها الجبن والبصل والغنم وسائر ما يحتاج اليه، وكان الفرنج قد أداروا مراكبهم حول البلد منعا له من أن يدخل إليها ميرة، وكانت حاجة أهل البلد قد اشتدت جدا إلى الطعام، فركب في تلك البطشة جماعة من المسلمين وتزيّوا ¬

(¬1) لشرح هذا المصطلح راجع ما فات هنا، ص 77، هامش 1

بزىّ الفرنج، وحلقوا لحاهم، ووضعوا الخنازير على سطح البطشة، وعلقوا الصلبان وجاءوا قاصدين إلى البلد حتى خالطوا مراكب العدو، فخرجوا عليهم واعترضوهم في الحراقات (¬1) والشوانى، وقالوا لهم: " نراكم قاصدين البلد " واعتقدوا أنهم منهم، فقالوا: " أو لم تكونوا قد أخذتم البلد؟ " فقالوا: " لا، لم نأخذ البلد بعد " فقالوا: " نحن نرد القلوع إلى العسكر وورانا بطشة أخرى في هوائنا، فأنذروهم حتى لا يدخلوا البلد ". وكان وراءهم بطشة أفرنجية قد اتفقت معهم في البحر قاصدة إلى العسكر، فنظروا فرأوها، فقصدوها لينذروها، واشتدت البطشة الإسلامية في السير، واستقامت لها الريح حتى دخلت ميناء البلد، واشتد الفرح والسرور بذلك، وكان ذلك في العشر الآخر من رجب. ولما كان العشر الأول [364] من شعبان كتب الأمير بهاء الدين قراقوش - وهو والى البلد -، والحاجب لؤلؤ - وهو مقدم الأسطول - يذكران للسلطان أنه لم يبق بالبلد ميرة إلا قدر ما يكفى البلد إلى ليلة النصف من شعبان، فكتم السلطان ذلك لئلا يسمع (¬2) الأمر، وقد كان كتب إلى مصر بتجهيز ثلاث ¬

(¬1) الحراقة (والجمع: حراقات وحراريق) نوع من السفن الحربية التي استعملها المسلمون في العصور الوسطى، عرفها صاحب (محيط المحيط) وصاحب (تاج العروس) بأنها سفن بالبصرة فيها مرامى نيران يرمى بها العدو، وذكرها (ابن مماتى: قوابين الدواوين) فقال أنها أصغر من الشينى، وأنها تسير بنحو مائة مجذاف. والنصوص المختلفة تفيد أن هذا النوع من السفن الحربية كان يستعمل بكثرة في مياه البحر الأبيض المتوسط وفى نهر النيل إبان الحروب الصليبية. أنظر: (المقريزى، ج 1 ص 351 - 352 و 358) و (البتانونى: رحلة الأندلس، ص 141) و (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج 64، ص 81 - 82)، وهناك نصوص أخرى تفيد أن هذا اللفظ كان يطلق على نوع من السفن الصغيرة المستعملة للنزهة والنقل في مياه نهر دجلة في العصر العباسى. انظر مثلا: (البلوى: سيرة أحمد بن طولون، نشر كرد على، ص 291) و (هلال الصابى: تاريخ الوزراء، ص 19) وراجع أيضا: (Kindermann;Schiff im A - abischen . P. 22 - 23) و (الشيال: معجم السفن الحربية، مخطوطة لم تنشر بعد). (¬2) س (103 ب): «يشيع».

ذكر المكاتبة إلى الديوان العزيز

بطش مشحونة بالأقوات والمير وما يكفى البلد إلى آخر الشتاء، فأقلعت البطش الثلاث من الديار المصرية وطابت لها الريح، ووصلت إلى عكا ليلة النصف من شعبان، وقد فنيت الأزواد ولم يبق عندهم ما يطعمون الناس في ذلك اليوم، فخرج عليها أسطول العدو يقاتلها، والعساكر الإسلامية تشاهد ذلك من الساحل والناس في تهليل وتكبير وقد كشفوا رؤوسهم يبتهلون إلى الله تعالى: سلامتها، ولم يزل القتال بين أسطول العدو وبين البطش إلى العصر من ذلك اليوم، ووصلت سالمة، وكانت ليلة بليال. ذكر المكاتبة إلى الديوان العزيز وكتب السلطان إلى الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين كتابا منه: " وقد بلى الإسلام منهم بقوم قد استطابوا الموت واستجابوا الصوت (¬1)، وفارقوا المحبوبين: الأوطان والأوطار، وهجروا المألوفين: الأهل والديار، وركبوا اللجج، ووهبوا المهج، كل ذلك طاعة لقسيسهم، وامتثالا لأمر مركيسهم، وغيرة لمتعبدهم، وحمية لمعتقدهم وتهالكا على مقبرتهم، وتحرقا على قمامتهم، لا يطلبون مع شدة الإملاق (¬2) مالا، ولا يجدون مع كثرة المشاق ملالا، بل يتساقطون على نيران الظبى تساقط الفراش (¬3) ويقتحمون الردى متدرعين للصبر متثبتين الجأش، حتى خرجت النساء من بلادهن (¬4) متبرزات، ¬

(¬1) س (104 أ): «واستحبوا الفوت» وما هنا يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 2، ص 161). (¬2) س: «الوقت» وما هنا يتفق ونص العماد: (المرجع السابق). (¬3) بعد هذا اللفظ في س: «على لهب السراج»، وما هنا يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 2، ص 162). (¬4) الأصل: «بلادهم» والتصحيح عن العماد وس.

وسرن إلى الشام في البحر متجهزات، وكانت منهن ملكة استتبعت خمسمائة مقاتل: [فارس وراجل] (¬1) ورامح ونابل، والتزمت مؤنتهن، فصودف مركبها بقرب الاسكندرية، وأخذت برجالها، وأراح الله من شر احتفالها. ومنهن ملكة وصلت مع ذلك الجمع، ذوات المقانع من الفرنج مقنعات دارعات (¬2)، يحملن إلى الطعان الطوارق والقنطاريات (¬3)، وقد وجدت في الوقعات [365] التي جرت عدة منهن في القتلى، فما عرفن حتى سلبن. وأن البابا الذى لهم برومية قد حرّم عليهم مطاعمهم ومشاربهم وقال: " من لا يتوجه إلى القدس مستخلصا فهو عندى محروم لا منكح له ولا مطعم ". فلأجل هذا يتهافتون على الورود، ويتهالكون على يومهم الموعود، وقال لهم: " إنى واصل في الربيع، جامع على الاستغفار شمل الجميع "، وإذا نهض هذا الملعون فلا يقعد عنه أحد، ويصل معه بأهله وولده كل من يقول لله أهل وولد. فهذا شرح حال هؤلاء وتعصبهم في ضلالهم ولجاجتهم في غوايتهم، بخلاف أهل الإسلام فانهم يتضجرون ولا يصبرون، بل يتفللون ولا يجتمعون، ويتسللون ولا يرجعون، وإنما يقيمون ببذل نفقة، واذا حضروا حضروا بقلوب غير متفقة، ليعلم أن الإسلام من عند الله منصور، وأن الكفر بارادة الله محسور مدحور ". ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين عن النص عند العماد (الروضتين، ج 2، ص 162)، والنص في س: " خمسمائة فارس ما بين مقاتل ورامح ونابل ". (¬2) يختلف نص العماد ونص س عما هنا قليلا، فهو عند العماد: «ومنهن ملكة وصلت مع ملك الألمان وذوات المقانع من الفرنج مقنعات مقارعات»، وفى س: " ومنهن ملكلة وصلت مع ذلك إلى عسكر الفرنج في ذوات المقانع مقنعات دارعات ". (¬3) لشرح هذا المصطلح راجع: (مفرج الكروب، ج 1، ص 183، هامش 2).

ذكر ما اتخذه العدو من آلات الحصار

ذكر ما اتخذه العدو من آلات الحصار واتخذ العدو دبابة عظيمة يدخل تحتها خلق عظيم، وهى ملبسة بصفائح الحديد ولها من تحتها عجل تحرك بها من داخل، وفيها المقاتلة حتى ينطح بها السور، ولها رأس عظيم برقبة شديدة من حديد [وهى تسمى كبشا تنطح السور بشدة عظيمة] (¬1) لكثرة من يجرها، فتهدمه بتكرار نطحها. واتخذ آلة أخرى، وهى قبو (¬2) وفيه رجال تسحبها، ورأسها محدّد (¬3) على شكل السكة التي يحرث بها، وأما رأس الكبش فمدور، فهذا يهدم بثقله، وتلك تهدم بحدتها وثقلها، وتسمى هذه السكة سفودا. واتخذ أيضا ستائر وسلاليم هائلة كبار. واتخذ في البحر بطشة هائلة، وفيها برج بخرطوم، فاذا أريد قلبه على السور انقلب بحيل هندسية ويبقى طريقا إلى المكان الذى تنقلب عليه، ليمشى عليه المقاتلة، وعزموا على تقريبه إلى برج الذبان ليأخذوه. ¬

(¬1) النص في الأصل ناقص مضطرب وهو " من حديد شديدة عظيمة "، وقد صحح إلى ما بين الحاصرتين بعد مراجعة (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 126) وس (104 ب)، وانظر أيضا (الروضتين، ج 2، ص 162). وهذا شرح واضح لإحدى آلات القتال في تلك العصور، وهى " الكبش ". (¬2) بعد هذا اللفظ في الأصل جملة زائدة يضطرب بها المعنى فحذفناها، وهى: " وهى كبشا ينطح بها السور ". (¬3) الأصل: " محدود "، والتصحيح عن ابن شداد والروضتين وس.

ذكر إحراق منجنيقات العدو

ذكر إحراق منجنيقات العدو ونصب العدو على البلد منجنيقات هائلة حاكمة على السور، وتواترت حجارتها حتى أثّرت فيه أثرا بينا وخيف على البلد، فأحرق بعض المسلمين سهمين من سهام الجرخ الكبير حتى صارا كالشعلة من النار، ثم رميا في المنجنيق الواحد فعلقا فيه واجتهد العدو في اطفائه فلم يقدر على ذلك [366] وهبت ريح شديدة، واشتعل اشتعالا عظيما واتصل لهبه بالآخر فاحترق، واشتدت ناراهما بحيث لم يقدر أحد أن يقرب مكانهما ليحتال في اطفائهما، فاشتد بذلك فرح المسلمين. ذكر إحراق ما حوصر به برج الذبّان وتحريق الكبش ولما كان الثانى والعشرين من شعبان من هذه السنة - أعنى سنة ست وثمانين وخمسمائة - قصد العدو محاصرة برج الذبان، وهو برج في وسط البحر مبنى على الصخر على باب ميناء عكا، يحرس منه الميناء، ومتى عبره المركب (¬1) أمن غائلة العدو، فأراد العدو أخذه ليبقى الميناء بحكمه، ويمتنع بذلك دخول شئ من البطش إلى عكا، فتنقطع الميرة عن البلد، فجهزوا بطشا متعددة، وجعلوا على صوارى البطش برجا، وملئ حطبا ونفطا، وقصدوا أن يسيروا البطش، فاذا قاربت البرج ولا صقته أحرقوا البرج الذى على الصارى، وألصقوه بالبرج ليلقوه على ¬

(¬1) الأصل: " ومن غير المراكب "، وس " ومن عبر المراكب " والتصحيح عن (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 123) و (الروضتين، ج 2، ص 162).

سطحه، فيهلك كل من على البرج (¬1) من المقاتلة ويأخذونه، وجعلوا في البطشة وقودا كثيرا حتى يلقى في البرج إذا اشتعلت النار فيه. وعينوا (¬2) بطشة ثانية وملؤوها حطبا ووقودا، على أنهم يدفعونها إلى أن تدخل بين البطش الإسلامية، ثم يحرقونها، فتلهب البطش الإسلامية، ويهلك ما فيها من المير. وجعلوا في بطشة ثالثة مقاتلة تحت قبو بحيث لا يصل اليهم نشاب ولا شئ من آلات السلاح، حتى إذا أحرقوا ما أرادوا إحراقه دخلوا تحت ذلك القبو فأمنوا، وكان طمعهم مشتدا حيث كان الهوا مسعدا (¬3) لهم، فلما حرقوا البطشة التي أرادوا أن يحرقوا بها بطش المسلمين، والبرج الذى أرادوا أن يحرقوا به من على البرج، فأوقدوا النار وضربوا فيها النفط، وقدر الله انعكاس الهوا عليهم، فاشتعلت البطشة التي كان فيها البرج بأسرها، وهلك كل من كان بها من المقاتلة، واحترقت البطشة الأخرى التي أريد بها إحراق بطش المسلمين، ووثب المسلمون فأخذوها إليهم، وأما البطشة الثالثة التي بها القبو فاضطرب [367] من بها وخاف، ووقع بينهم اختلاف، فانقلبت بمن فيها وأغرقتهم، وأذلّ الله الكافرين، وأنزل بهم عقوبته. ولما كان الثالث من شهر رمضان زحف العدو على البلد في خلق لا يحصى، فأهملهم أهل البلد حتى نشبت مخاليب أطماعهم فيهم، وسحبوا آلاتهم التي قدمنا ذكرها حتى قاربوا أن يلصقوها بالسور، وحصل منهم في الخندق جمع عظيم، ¬

(¬1) النص في س: " فيهلك كل من على برج الذبان الذى قبالة البلد من المقاتلة ". (¬2) كذا في الأصل وس، وفى ابن شداد والروضتين: " وعبوا ". (¬3) الأصل: " مستعدا "، والتصحيح عن (ابن شداد، ص 124) و (الروضتين، ج 2، ص 163) وس (105 أ).

فأطلق أهل البلد عليهم الجروخ والمجانيق والنيران، وفتحوا الأبواب دفعة، وهجموا على العدو، وكبسوهم في الخنادق، فهربوا، ووقع السيف فيمن بقى على الخندق. ثم هجموا على كبشهم فألقوا فيه النار والنفط، وتمكنوا من حريقه لهرب المقاتلة عنه، فاحترق حريقا شديدا، وارتفع لهبه إلى السماء، وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل، وسرت نار الكبش إلى السفود، فاحترق حريقا شنيعا، وعلّق المسلمون في الكبش كلاليب الحديد المصنوعة في الأسل (¬1) فسحبوها وهو يشتعل حتى حصل عندهم في البلد، وألقى عليه الماء حتى برد حديده، وكان وزن ما فيه من الحديد مائة قنطار بالشامى، ثم سيّروا رأسه إلى السلطان لينظره. وفى السادس عشر من شهر رمضان وصل الخبر إلى السلطان بأن الابرنس - صاحب أنطاكية - أغار على بلاد حلب فخرج إليه نواب الملك الظاهر، فقتلوا من عسكره خمسة وسبعين نفرا، وأسر خلق كثير، فاعتصم بموضع يسمى شيج حتى اندفعوا، وسار إلى بلده. وفى العشر الأوسط من الشهر، ألقت الريح بطشتين فيهما رجال ونساء وميرة عظيمة وغنم كثير قاصدين نحو العدو، فغنمها المسلمون، وكان العدو قد ظفر للمسلمين ببركوس (¬2) فيه نفقة ورجال أرادوا الدخول للبلد، فكان أخذ هاتين البطشتين جابرا. ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى (الروضتين، ج 2، ص 164)، وفى س و (ابن شداد): " السلاسل " (¬2) الأصل: " بتركوس "، وص: " سركوس " بدون نقط، والتصحيح ما ذكرناه، والبركوس - والجمع براكيس - نوع من السفن التي كانت تستعمل في الحروب بين الشرق والغرب في مياد البحر الأبيض المتوسط في العصور الوسطى، وهى أصغر حجما من البطسة، جأء في (ابن شداد: السيرة اليوسفية): " وقالوا للسلطان: نحن نخوض البحر في براكيس وبطس إلى العدو، فأذن لهم =

ذكر رحيل السلطان إلى المنزلة المعروفة بشفرعم

ذكر رحيل السلطان إلى المنزلة المعروفة بشفرعمّ (¬1) وسبب ذلك أنه بلغه عزم الفرنج على الخروج مرة ثانية لأخد ثأرهم، وكثر المستأمنون (¬2) عنده، وتواترت أخبارهم إليه بذلك، فتأخر إلى هذه المنزلة، لتكون أفسح للقاء، فأقام مستعدا لدخول الشتاء، وذلك في تاسع عشر رمضان. ¬

= في ذلك، وأعطاهم بركوسا - وهو المركب الصغير - "، وجاء في (الروضتين، ج 2، ص 187): " خاف جماعة ممن كان في البلد فأخذوا لهم بركوسا، وهو مركب صغير "، وقد ذكره (ابن مماتى: قوانين الدواوين، ص 340) - وإن كان الناشر الدكتور سوريال قد أخطأ في قراءته وجعله «مركوش» -، فقال إنه مركب «لطيف يستعمل لنقل الماء لخفته، وسقه مائة أردب»، غير أن النصوص الكثيرة التي أوردها العماد الأصفهانى في الفتح القسى تبين في وضوح أن البركوس كان يستعمل لركوب الجند والناس عامة»، ويفهم من هذه النصوص أيضا أن حمولة البركوس الواحد كانت حوالى خمسة وعشرين رجلا، قال في ص 231: «أخذ من الفرنج بركوسان، فيهما نيف وخمسون نفرا. . . . وفى الخامس والعشرين منه أخذ أيضا بركوس فيه من الفرنج مقدمون ورؤوس وهم نيف وعشرون، منهم أربعة خيالة»، وقال في ص 230 «وذكروا أنهم وقعوا بحراقة كبيرة ومعها براكيس، وفيها تجار فرنج ومعهم من المال الجليل النفيس»؛ وقال في ص 238 «كان المستأمنون من الفرنج إلينا تسلموا براكيس يغزون فيها. . . وكنسوا كل ما في الكنيسة، من الأعلاق النفيسة. . . وعادوا بها ربهم إلى براكيسهم»، وقد جاء في محيط المحيط «البركوس - والباركوس - ضرب من السفن بين البريق والفرقاطة، معرب» وهو مأخوذ من الايطالية «Barcoso» ويقابلها بالفرنسية «Barque» وبالانجلبزية «Bark» انظر أيضا (Kindermann : Op .Cit . P. 5) و (والشيال: معجم السفن العربية، مخطوطة لم تن‍شر بعد). (¬1) الأصل «سفرعم». وقد ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث عرفها بأنها قرية كبيرة بينها وبين عكا بساحل الشام ثلاثة أميال. (¬2) الأصل: " وكثر ذلك "، والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 164) وص (106 أ).

ذكر وفاة زين الدين - صاحب إربل -

ذكر وفاة زين الدين - صاحب إربل - ومرض زين الدين يوسف بن زين الدين [368] على كوجك في المعسكر السلطانى، وكان استأذن في الرواح إلى بلده، فلم يؤذن له، فاستأذن في الانتقال إلى الناصرة، فأذن له، فأقام أياما، ثم توفى - رحمه الله - في الثامن والعشرين من شهر رمضان من هذه السنة، وحزن عليه الناس حزنا شديدا لشبابه وغربته، وكان كريما أريحيا، فاحتاط أخوه مظفر الدين كوكبورى على ما خلّفه، وقبض على جماعة من أمرائه واعتقلهم. ذكر استيلاء مظفر الدين على إربل وبلادها واستيلاء الملك المظفر على ما كان بيد مظفر الدين ثم طلب مظفر الدين من السلطان أن يضم إربل وبلادها، وأن يضاف إليه ولاية شهرزور، وأنه ينزل عن حرّان والرّها وسميساط والموزر (¬1)، وخدم بخمسين ألف دينار نقدا، فأجيب إلى ذلك، واستمهل إلى حين وصول الملك المظفر بجنده، ليكون في منزلته. ولما كان يوم الأحد ثالث شوال وصل الملك المظفر، فأضيف إليه ما استرجع من مظفر الدين من الأعمال، ثم أمر السلطان أن يكتب منشور بإربل وبلادها لمظفر الدين، وكتاب إلى صاحب الموصل، منه: " لا شك في إحاطة العلم بانتقال زين الدين إلى جوار الله تعالى ومقر رحمته، مجاهدا في سبيله، شاكرا لنعمته، وهو من السعداء الذين أنزل الله فيهم: ¬

(¬1) توجد بعد هذا اللفظ في الأصل كلمة: " وحمل " ولا ضرورة لها؛ والنص عند ابن شداد (الروضتين، ج 2، س 164): " والموزر، ويجعل كل ما في يده من الأعمال في الموفر، ويخدم بخمسين ألف دينار. . . الخ ".

ذكر استئذان ملوك الأطراف بالرجوع إلى بلادهم لأجل دخول الشتاء

«ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله»، فما أوجع القلوب بمصابه، وما أنكى في النفوس أفول (¬1) شبابه، ولقد كانت الهمة متوفرة على تربيته وإعلاء درجته، لكن الله استأثر به قبل ظهور حسن الآثار (¬2) في إيثاره، وبلى بدره التم بسراره في ضمير البلى من أسراره، وهذه إربل من إنعام البيت الكريم الأتابكى على البيت الزينى منذ سبعين عاما لم يحلوا لعقد إنعامهم بها نظاما، ولم يزيدوا أحكامه الا إحكاما وإبراما، وما رأى أن يخرج هذا الموضع منهم، وأن يصدف به عنهم، والأمير الأجل مظفر الدين كبير البيت وحاميه، والمقدم في الولاية [369] بمقتضى وصية أبيه، وقد أنهض ليسد مسد أخيه ". ثم سافر مظفر الدين إلى إربل فتسلمها، ولما فوّض السلطان إلى إبن أخيه الملك المظفر ما كان بيد مظفر الدين أقام بالمنزلة المظفرية إلى أن يؤذن له في المضى إلى تلك الولاية، وسيّر نوابه إليها، وكان بيده أعمال ميّافارقين، ومن الشام حماة والمعرّة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلاطنس وبكرامل. ذكر استئذان ملوك الأطراف بالرجوع إلى بلادهم لأجل دخول الشتاء ولما دخل الشتاء وطالت مدة البيكار (¬3)، أبدت العسكر السآمة والضجر من الإقامة، وجدّ الملك عماد الدين زنكى بن مودود - صاحب سنجار - في الاستئذان في الرحيل، وتكررت رقاعه إلى السلطان في ذلك، فكتب إليه السلطان: " من ضاع مثلى من يديه ... فليت شعرى ما استفادا " ¬

(¬1) الأصل وس: " وما أنكا في النفوس فلول شبابه "، والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 165). (¬2) الأصل: " الإيثار " والتصحيح عن المرجع السابق وس. (¬3) لشرح هذا المصطلح راجع ما فات هنا، ص 95، هامش 1

فلما قرأ هذا البيت لم يراجع السلطان بعدها بكلمة في المعنى. واستطال معز (¬1) الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى - صاحب الجزيرة - المقام، ودخل يوم عيد الفطر على السلطان فقبّل يده، وودّعه من غير سابقة الاستئذان، فغضب السلطان من ذلك، ثم خرج معز (1) الدين، وسار من ساعته وتبعه أصحابه. وذكر القاضى بهاء الدين: أن رقاعه كانت قد ترددت إلى السلطان في طلب الدستور، واعتذر إليه السلطان بأن رسل العدو متكررة في طلب الصلح، ولا يجوز أن تنفضّ العساكر حتى تتبين على ماذا ينفصل الحال من سلم أو حرب. ولما ودّع السلطان وانفصل، كتب إليه: " إنك أنت قصدت الانتماء إلىّ ابتداء، وراجعتنى في ذلك مرارا، وأظهرت الخيفة على نفسك وبلدك من أهلك، فقبلتك وأوتيك ونصرتك، فبسطت يدك في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم، فنفذت إليك ونهيتك عن ذلك مرارا، فلم تنته، فاتفق وقوع هذه الواقعة للإسلام، فدعوناك فأتيت بعسكر قد عرفته وعرفه الناس، وأقمت هذه المديدة، [370] وقلقت هذا القلق، وتحركت بهذه الحركة، وانصرفت، من غير طيب نفس، وغير فصال حال من العدو، فانظر لنفسك، وأبصر من تنتمى إليه غيرى، واحفظ نفسك ممن يقصدك، فما بقى إلى جانبك التفات " وسلم الكتاب إلى نجاب فلحقه قريبا من طبرية، فقرأ الكتاب ولم يلتفت، وسار فلقيه الملك المظفر وهو متوجه إلى السلطان عند عقبة فيق، فأخبره بأمره، ¬

(¬1) الأصل: " معين الدين "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 165) وس 106 ب).

ذكر خروج الفرنج للقاء المسلمين وعودهم خائبين

وتعتّب على السلطان كيف لم يخلع عليه ولم يأذن له في الرواح، ففهم الملك المظفر انفصاله من غير دستور من السلطان، فأمره بالرجوع، وقال له: " أنت صبى، ولا تعلم غائلة هذا الأمر " فقال: " ما يمكننى الرجوع "، فقال: " ترجع من غير اختيارك ". وكان الملك المظفر شديد البأس، مقداما في الأمور ليس في عينه من أحد شئ، فلما علم أنه قابضه إن لم يرجع رجع معه، وسأل السلطان الصفح عنه ففعل، وطلب أن يقيم في جوار الملك المظفر خشية على نفسه، فأذن له، فأقام في جواره إلى حين ذهابه. ذكر خروج الفرنج للقاء المسلمين وعودهم خائبين ولما كان يوم الاثنين حادى عشر شوال من هذه السنة خرج الفرنج على عزم اللقاء بعد أن رتّبوا على عكا من يلازم القتال مع ملك الألمان، خرج معهم المركيس، والكندهرى، وأخذوا معهم عليق أربعة أيام [وزادها] (¬1)، وكان مخيم اليزك على تل العياضية، فركبوا وصاروا في مقاتلة العدو، ونزل الفرنج تلك الليلة على آبار كان المسلمون قد حفروها (¬2) عند نزولهم هناك، وباتوا واليزك يرموهم بالنشاب، وأصبحوا يوم الثلاثاء ثانى عشر شوال سائرين إلى اللقاء، وقد جعلوا راجلهم سورا لهم يذبّ عنهم بالزنبورك حتى لا يترك أحد يصل إليهم إلا بالنشاب، فإنه كان يطير عليهم كالجراد. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين في الهامش بالأصل. (¬2) الأصل: " حووها "، والتصحيح عن: س (الروضتين، ج 2، ص 178).

وخيالتهم تسير في وسطهم، بحيث لا يظهر منهم أحد، وعلمهم (¬1) مرتفع على عجلة، وهو يسحب بالبغال، وهو عال جدا كالمنارة، خرقته بيضاء ملمعة بحمرة على شكل الصلبان. ورفع السلطان ثقله إلى ناحية القيمون، وقد امتدت ميمنته إلى الجبل وإلى البحر، وعنده في القلب أولاده: [371] الملك الأفضل، والملك الظاهر، والملك الظافر، وأخوه الملك العادل في أول الميمنة، ويليه حسام الدين لاجين ابن أخت السلطان، وصارم الدين قايماز النجمى، ثم حسام الدين بشارة وبدر الدين دلدرم الياروقى. وكان في الميمنة ابن صاحب الموصل، وعز الدين جرديك النورى. وفى الميسرة صاحب سنجار، وصاحب الجزيرة، والملك المظفر تقى الدين، وسيف الدين بن المشطوب، وخشترين، والهكّارية، والحميدية، والزرزارية، والمهرانية، وأمراء قبائل الأكراد (¬2). وضرب السلطان خيمة لطيفة بقرب الخروبة على تل مشرف، وكان مخبط الجسم وهو الذى منعه من مباشرة الحرب بنفسه، وكان عماد الدين - صاحب سنجار - غائبا مع الثقل لمرض كان به، وبقى عسكره، فعاد وقد أقلعت الحمى عنه، وكان الوخم قد عظم جدا بحيث أن الموت كثر في الطائفتين، فكان السلطان يتمثل: أقتلونى وما لكا ... واقتلوا مالكا معى وفى مرج عكا عين غزيرة الماء، يجرى منه نهر كبير إلى البحر، وسار الفرنج ذلك اليوم شرقى النهر حتى وصلوا إلى رأس الماء، وشاهدوا عساكر المسلمين، فانحرفوا ¬

(¬1) هذا وصف دقيق وطريف للعلم الصليبى. (¬2) بهذا اللفظ تنتهى ص (107 ب) من نسخة س، وبذلك تنقطع الصلة بين هذه النسخة والأصل لتتصل بعد ذلك في ص 389 من الأصل ويقابلها ص (124 أ) من نسخة س.

ذكر وقعة الكمين ودخول البدل إلى عكا

إلى غربى النهر، فأنهض السلطان إليهم الجاليشية، فأثخنوا فيهم الضرب باللتوت والدبابيس والنشاب والرماح، وجرى بين الجاليشين من الجانبين قتال كثير، وباتوا ليلة الأربعاء، وأصبحوا يوم الأربعاء ثالث عشر شوال فركبوا، ووقفوا على صهوات خيولهم إلى ضحوة النهار، والراجل محدق بهم كالأسوار، وقد قربت العساكر الإسلامية حتى كادت تخالطهم، والرمى بالنشاب متصل، وهم ثابتون لا يتزلزلون، ولما أحسوا بالعجز والضعف نكصوا على أعقابهم عائدين على هيئة الاجتماع، والنهر عن يمنيهم، والبحر من يسارهم، والمسلمون حولهم يرمونهم بالنشاب ويقاتلونهم، وكلما صرع منهم قتيل حملوه وسيروه، ونزلوا ليلة الخميس على جرد عوف، وقطعوا الجسر ليلا لئلا يتعدوا المسلمون إليهم. وقاتل أياز الطويل وسيف الدين باركوج (¬1) في هذا اليوم قتالا عظيما، وأبليا بلاء حسنا، ثم رجع العدو إلى مخيمه، ورجع المسلمون إلى مخيمهم ظافرين منصورين، وأعيد الثقل [372] إلى مكانه. ذكر وقعة الكمين ودخول البدل إلى عكا و [لما] كان يوم الجمعة الثانى والعشرون من شوال انتخب السلطان من أجناده عدة وأمرهم أن يكمنوا في سفح تل هو شمالى عكا بقرب المنزلة العادلية القديمة عند الساحل، فكمنوا تلك الليلة، فلما أصبح الصباح ركب منهم عدة يسيرة، وساروا نحو الفرنج، وصالوا عليهم، وأغاروا، فاستقبلوهم الفرنج، فخرج إليهم زهاء أربعمائة فارس، وقيل مائتا فارس، وطمعوا في المسلمين، وتأخروا قليلا قليلا حتى أوصلوهم إلى الكمين، وخرجوا عليهم فقتلوهم وأسروهم، وأستولوا عليهم بأسرهم، فلم ينج منهم ناج، ووقع في الأسر مقدمون أكابر، منهم خازن الملك وجماعة من الأفرنسيسية. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وهو في (الروضتين، ج 2، ص 180): " يازكوج ".

وركب السلطان فرحا بهذه البشارة، ووقف على تل كيسان، وقد توافت إليه الأسلاب والأسرى والحيوان، فلم يعرض للأموال، وأطلقها لآخذيها، وكانت عظيمة، وجلس وأحضر الأسرى وباسطهم وأطعمهم وكساهم، وأذن لهم أن يسيروا غلمانهم لإحضار ما يريدون إحضاره، ثم نقلهم إلى دمشق للاعتقال، وحفظهم بالقيود. ودخل الشتاء، وعصفت الأهواء، وهاج البحر، وتكسرت بعض سفن الفرنج، فأنفذوها إلى الجزائر للاحتياط، وربطوا بعضها بصور، فخلا البحر من مراكبهم، وكان أهل البلد قد ملوا وضجروا، وكانوا زهاء عشرين ألفا، فرأى السلطان أن يفسح لهم في الخروج رفقابهم، ولم يكن ذلك مصلحة ورأيا، بل كان الرأى إراحة غيرهم، فإنهم قد ذبّوا وصبروا، وهم كنفس واحدة. وأشير على السلطان بترتيب البدل، وتكفل الملك العادل بذلك، وانتقل بمخيمه إلى سفح جبل حيفا قاطع النهر، وتقدم بجمع السفن للنقل، واجتمع المنتقلون بالساحل، فمن نجز أمره انتقل، وانتقل إلى البلد (¬1) من لم يجرب الحصار ولم (¬2) يخبر أمور البلد، وممن كان بالبلد أبو الهيجاء السمين فخرج، ولم يبق بالبلد ممن كان به إلا الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، ودخل عشرون أميرا عوض ستين، واستخدمت الرجال، [373] وأنفقت الأموال، وكان مقدم الداخلين الأمير سيف الدين المشطوب، وتقدم السلطان إلى كل من دخل أن يستصحب ميرة سنة كاملة. ودخل إلى ميناء عكا سبع بطش للمسلمين مملوءة ميرة وذخائر ونفقات، وكانت وصلت من مصر، وكان دخولها إليه يوم الاثنين ثانى ذى الحجة، وانكسر ¬

(¬1) يقصد عكا. (¬2) الأصل: " لا " والتصحيح عن العماد: (الروضتين، ج 2، ص 181).

ذكر عود الملوك إلى بلادهم

منها مركب على الصخر الذى هو قريب من الميناء، وانقلب كل من في البلد من المقاتلة إلى جانب البحر لتلقى البطش وأخذ ما فيها. ولما علم الفرنج انقلاب المقاتلة إلى جانب البحر زحفوا إلى البلد من جانب البر زحفة عظيمة، وقاربوا الأسوار، وصعدوا في سلم واحد فاندق بهم السلم، وتداركهم أهل البلد، فقتلوا منهم خلقا عظيما، وضرب البطش بعضها ببعض على الصخر، فهلكت وهلك جميع من كان فيها، وكان فيها ميرة عظيمة، لو سلمت لكفت البلد سنة كاملة، ودخل على المسلمين من ذلك وهن عظيم، وتألم السلطان لذلك تألما عظيما، وكان ذلك أول علائم أخذ البلد. ذكر عود الملوك إلى بلادهم ولما هجم الشتاء وهاج البحر، وأمنت غائلة العدو بسبب تواتر الأمطار واشتداد البرد أذن السلطان للعساكر في العود إلى بلادها ليأخذوا نصيبا من الراحة، فسار عماد الدين زنكى - صاحب سنجار - خامس عشر (¬1) شوال، ويعده ابن أخيه معز الدين سنجر شاه بن غازى - صاحب الجزيرة - بعد أن أنعم عليهما بما لم ينعم به على غيرهما. ثم سار علاء الدين ابن (¬2) صاحب الموصل في أول ذى القعدة مشرفا مكرما. ثم سار الملك الظاهر - صاحب حلب - في المحرم سنة سبع وثمانين. ثم سار الملك المظفر في صفر منها. ولم يبق عند السلطان إلا نفر يسير من الأمراء والحلقة الخاص. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وعند ابن شداد (الروضتين، ج 2، ص 180): " خامس عشرى " (¬2) الأصل: " علاء الدين وعز الدين صاحب الموصل " وقد صححت بعد مراجعة المرجع السابق.

ذكر بقية الحوادث سنة ست وثمانين

ذكر بقية الحوادث سنة ست وثمانين وفى ليلة السابع من ذى الحجة وقعت قطعة عظيمة من سور عكا، فانثلم الثغر فبادر الفرنج إليها، فجاء أهل البلد وسدّوها (¬1) بصدورهم، وقاتلوا [374] عليها إلى أن بنوها وعادت أقوى مما كانت. وفى ثانى عشر ذى الحجة هلك ابن ملك الألمان، وكند عظيم (¬2) من كنودهم ومرض الكندهرى، وكثر الموت في الفرنج، فصار يموت كل يوم منهم المائة والمائتان (¬3)، وحزن الفرنج على ابن ملك الألمان حزنا شديدا، وأشعلوا نيرانا هائلة بحيث لم يبق لهم خيمة إلا اشتعل فيها الناران والثلاثة. وأستأمن من الفرنج في هذه المدة خلق عظيم، أخرجهم الجوع وقالوا للسلطان: " نحن نخوض البحر في براكيس (¬4)، ونكسب من العدو، ويكون المكسب بيننا وبين المسلمين ". فأذن لهم السلطان في ذلك، وأعطاهم بركوسا، وهو المركب الصغيرة، فركبوا فيه، فظفروا بمراكب لتجار العدو وبضائعهم معظمها فضة مصوغة وغير مصوغة، وأسروهم وكبسوهم (¬5)، وأحضروهم بين يدى السلطان، فأعطاهم جميع ما غنموه، فلما أكرموا بهذه المكرمة أسلم شطرهم، وأحضروا مائدة فضة وعليها ¬

(¬1) الأصل: " وصدوها "، والتصحيح عن المرجع السابق، ص 181. (¬2) ذكر العماد: (الروضتين، ج 2، ص 181) أن هذا كان يقال له: " كند بنياط ". (¬3) الأصل: " المائتين ". (¬4) الأصل: " براكيس "، انظر فات هنا ص 337، هامش 2، وفى السطر التالى بالمتن تعريف واضح للبركوس. (¬5) الأصل: " وكسبوهم "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، 182).

مكبة عالية فضة، ومعها طبق يماثلها في الوزن، وذلك تقارب في الوزن قنطارا، فما أعارها السلطان طرفه. واستشهد من الأمراء في هذه السنة على عكا سبعة من الأمراء منهم الأمير سوار. والتقى في هذه السنة شوانى المسلمين بشوانى الفرنج، فاحترقت للفرنج شوانى برجالها، وأحاطت مراكب العدو بشينى مقدمه الأمير جمال الدين محمد بن أرلكلن (¬1)، فتواقع ملاحو الشينى إلى الميناء، فقاتل جمال الدين وصابر، فعرضوا عليه الأمان فقال: " ما أضع يدى إلا في يد مقدمكم الكبير ". فجاء إليه المقدم، فعانقه ولازمه، ووقعا معا في البحر فغرقا. واستشهد أيضا الأمير نصر الحميدى. وورد في هذه السنة كتاب سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب - صاحب اليمن - يذكر استيلاءه على صنعاء، وأنه استناب بها ولده شمس الدولة. ووصل في ذى الحجة القاضى الفاضل إلى المعسكر المنصور، وكانت قد طالت غيبته عن السلطان مدة سنتين. ودخلت سنة سبع [375] وثمانين وخمسمائة والسلطان على شفرعمّ، وأخوه الملك العادل قاطع نهر حيفا (¬2)، والبدل متصل بالدخول إلى عكا. وفى أول ربيع الأول من هذه السنة خرج المسلمون من عكا بغنة، وهجموا على الفرنج، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأخذوا من خيمهم جمعا عظيما، منهم اثنتا عشرة إمرأة. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفى المرجع السابق: " ارككز ". (¬2) الأصل: " حنفا " والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 181).

ذكر وصول العساكر إلى المعسكر السلطانى

ذكر وصول العساكر إلى المعسكر السلطانى ولما أقبل الربيع توافت العساكر وفاء بموعدها، فأول من قدم الأمير علم الدين سليمان بن جندر - صاحب عزاز وبغراس -، والملك الأمجد بهرام شاه ابن فرخشاه - صاحب بعلبك -، وبدر الدين مودود - والى دمشق -؛ وتواترت الأمراء ففى كل يوم يقدم أمير. ووصل إلى الفرنج أمداد من البحر، فوصل ملك افرنسيس فليب (¬1) في عدة كثيرة، وهو من أعظم ملوكهم، وكانوا يتواعدون به حتى قدم، وكان الذين قدموا معه في ست بطش، وكان العدو يتوهم وصوله في أضعاف ذلك، فلما قدموا وعدهم بالمدد بعده؛ ثم قدم بعده كند فرير (¬2)، وكان مقدما عظيما عندهم وكان حاصر حماة وحارم عام الرملة. ذكر استيلاء فخر الدين أسامة على سفن الانكلتير ولما كان السادس والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة وصل ملك الانكلتير، وهو ملك عظيم من الفرنج إلى قبرص، واشتغل بسبب أخذها عن الوصول إلى عكا، وأقام حتى أخذها عنوة من صاحبها، وكانت مقدمات سفنه قد وصلت، فاجتازت على بيروت وبها الأمير عز الدين أسامه، فاستولى على خمس منها مملؤة رجالا ونساء وأموالا وخيلا، وكان في الزيب - وهو شمالى عكا - طائفة من المسلمين يجهزون السفن الداخلة إلى عكا، ويقطعون الطريق على الفرنج. ¬

(¬1) الأصل: " فلبث "، والتصحيح عن المرجع السابق، ص 183 (¬2) الأصل: " فريد "، والتصحيح عن المرجع السابق.

ذكر مضايقة الفرنج بعكا وجدهم فى حصارها

ذكر مضايقة الفرنج بعكا وجدّهم في حصارها ولما كان يوم الخميس رابع جمادى الأولى من هذه السنة زحف الفرنج إلى عكا، ونصبوا عليها سبعة مناجيق، ووصلت كتب أهل عكا إلى السلطان بالاستنفار العظيم وشغل العدو عنهم، فركب السلطان في العساكر، وكان هذا دأب السلطان كلما زحف العدو إلى البلد، وكانت العلامة بينهم [376] وبين السلطان أنه متى زحف العدو عليهم دقوا الكوسات (¬1)، فتدق كوسات السلطان إجابة لهم. ذكر تحويل السلطان إلى تل العياضية ووصول ملك الانكلتير ولما اشتدت مضايقة البلد، واستبعد السلطان المنزلة التي هو بها، فحوّل إلى تل العياضية في تاسع جمادى الأول. ولما كان الثالث عشر من هذا الشهر وصل ملك الانكلتير من جزيرة قبرص ومعه خمس وعشرون قطعة، هو وأصحابه كلهم شاكون السلاح، فبلى الثغر منه بغير البلاء الأول، ومجانيق العدو مع ذلك توالى الرمى إلى البلد، وتمكن الفرنج من الخندق، وشرعوا في طمه، ورموا فيه جثث الموتى والخنازير والدواب النافقة، وافترق المسلمون فرقتين: فرقة تلقى من الخندق مارمى فيه، وفرقة تقاتل العدو. ¬

(¬1) لشرح هذا المصطلح راجع: (مفرج الكروب، ج 1، ص 11، هامش 2).

ذكر هلاك بطشة المسلمين الواصلة من بيروت

ذكر هلاك بطشة المسلمين الواصلة من بيروت وكان السلطان قد أمر بتعبئة بطشة عظيمة هائلة ببيروت، مشحونة بالآلات والأسلحة، والمير والرجال والمقاتلة، لتدخل إلى عكا، وكانت عدة المقاتلة بها ستمائة وخمسين رجلا، فوصلت إلى عكا في سادس عشر جمادى الأول، فاعترضها ملك الانكلتير في أربعين شانيا، فاحتاطوا بها من جميع جوانبها، واشتد القتال، فقتل من العدو عليها خلق عظيم، وأحرقوا من العدو شانيا كبيرا هلك أصحابه عن آخرهم، وتكاثر الفزع على أهل البطشة، وكان مقدم المقاتلة بها رجلا شجاعا يقال له " يعقوب " من أهل حلب، فلما رأى أمارة الغلبة قال: " والله لا نقتل إلا عن عز، ولا نسلم إليهم من هذه البطشة شيئا ". فوقع المسلمون في بطشتهم من جوانبها بالمعاول يهدمونها من كل جانب أبوابا، فامتلأت ماء، وغرق كل من بها من المسلمين، وهلك ما فيها من المير والآلات، ولم يظفر العدو منها بشئ أصلا وتلقف العدو بعض من كان فيها، وأخذوه إلى الشوانى من البحر، وخلصوه من الغرق ومثلوا به، وأنفذوه إلى البلد ليخبرهم بالواقعة، فحزن الناس لذلك حزنا شديدا. ذكر الدبّابة التي صنعها العدو وإحراقها وصنع العدو دبّابة عظيمة هائلة ذات [377] أربع طبقات: الأولى من الخشب، والثانية من الرصاص، والثالثة من الحديد، والرابعة من النحاس، وكانت تعلو على السور، وتركب فيها المقاتلة، وخاف أهل البلد خوفا عظيما، وحدثتهم

ذكر هجوم المسلمين على خيم العدو

نفوسهم بطلب الأمان من العدو، وكانوا قد قربوها من السور بحيث لم يبق بينها وبين السور إلا مقدار خمسة أذرع على ما نشاهد، وواتر أهل البلد رميها بالنفط ليلا ونهارا، فقدر الله تعالى أنها اشتعلت بالنار، وارتفعت لها ذؤابة نحو السماء، واشتدت الأصوات بالتكبير والتهليل، وكان ذلك يوم غرق البطشة. ذكر هجوم المسلمين على خيم العدو واتفق أن المسلمين يوما هجموا خيم العدو ونهبوها، ووصل رجل كبير من أهل مازندران يريد الغزاة والحرب قائمة، فحمل حملة استشهد فيها في تلك الساعة، ثم اتفق مرض ملك الانكلتير مرضا أشفى منه على الهلكة، وجرح الافرنسيس، وهرب المركيس إلى صور خوفا من الفرنج، لأنه استشعر منهم أنهم يأخذون صور منه. ذكر المكاتبة إلى الديوان العزيز وكتب السلطان إلى الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بانشاء فاضلى منه: " ما قطع الخادم الخدم، إلا أنه أضجر وأسأم من المطالعة بخبر هذا العدو الذى قد استفحل أمره، واستشر شره فإن الناس ما رأوا ولا سمعوا عدوا حاصرا محصورا غامر مغمورا (¬1) قد تحصن بخنادق تمنع الجائز من الجواز (¬2)، وتعوق الفرص (¬3) عن الانتهاز، ولا تقصر عدتهم عن خمسة آلاف فارس ومائة ألف راجل، وقد أفناهم القتل والأسر، وأكلتهم الحرب ولفظهم النصر، وقد أمدهم البحر بالبحار، ¬

(¬1) الأصل: " حاصر محصورا، عامر معمورا "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 185). (¬2) الأصل: " الجوايز "، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬3) الأصل: " القرص ". والتصحيح عن المرجع السابق.

وأعان أهل النار أهل النار، فاجتمع في هذه الجموع من الجيوش الغربية والألسنة الأعجمية من لا يحصر معدوده، ولا يتصور في الدنيا وجوده، فما أحقهم بقول أبى الطيب: تجمع فيه كل لسن وأمة ... فما يفهم الحداث (¬1) إلا التراجم حتى أنه إذا أسر الأسير واستأمن المستأمن، أحتيج في فهم لغته إلى عدة تراجم، ينقل واحد عن آخر، ويقول ثان ما يقول أول، وثالث ما يقول ثان؛ والأصحاب كلّوا [378] وملّوا، وصبروا إلى أن ضجروا، وتجلدوا إلى أن تبلدوا، والعساكر التي تصل من المكان البعيد لا تصل إلا وقد كلّ ظهرها، وقلّ وقرها، وضاق بالبيكار صدرها، لا تستفتح إلا بطلب الدستور، ويصير ضجرها مضرا بالسمعة عند العدو المخذول. ولهم - خذلهم الله - تنوع في المكايدة، فإنهم قاتلوا مرة بالأبرجة، وأخرى بالمنجنيقات، وثالثة بالدبابات، ورابعة بالكباش، وأخرى باللوالب، ويوما بالنقب، وليلا بالسرابات (¬2)، وطورا بطم الخنادق، وأناة بنصب السلالم، ودفعة بالزحوف (¬3) في الليل والنهار، وحالة في البحر في المراكب. ¬

(¬1) الأصل: " الحداث "، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬2) الأصل: " بالسرايات "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 185) وعند (Dozy : Supp .Dict .Arab) أن السربة أو السربة فرقة من الخيالة، " troupe de cavalier " وفى (اللسان): " السربة جماعة ينسلون من العسكر فيغيرون ويرجعون، والسربة الجماعة من الخيل ما بين العشرين إلى الثلاثين، وقيل ما بين العشرة إلى العشرين ". (¬3) الأصل: " بالزحف "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 185)

ذكر من وصل من العساكر الإسلامية

ثم شرعوا [فأقاموا] (¬1) في وسط خيامهم حائطا مستطيلا (¬2) يشبه السور من التراب، وتلالا تشبه الأبرجة مدوّرة، ورفعوها بالأخشاب، وعالوها بالحجارة، فلما كملت أخذوا التراب من ورائها ورموه قدّامها، وهم يتقدمون أول فأول، وترتفع حالا بعد حال، حتى صارت منه كنصف غلوة سهم، وقد كان الجمر والنار يؤثران في أبرجة الخشب، وهذه أبراج وستائر للرجال، ومنجنيقات من العطب لا تؤثر فيها الحجارة الرامية، ولا تعمل فيها النار الحامية ". ذكر من وصل من العساكر الإسلامية وفى آخر جمادى الأولى من هذه السنة وصل مجاهد الدين برتقش ومعه عسكر سنجار. وفى ثانى جمادى الآخرة وصل ابن عز الدين مسعود - صاحب الموصل - في عسكره، ووصل علم الدين كرجى، وسيف الدين سنقر الدووى، وغيرهما من الأمراء الأسدية في عساكر مصر. وكان الملك المظفر تقى الدين لما فارق خدمة عمه السلطان، وتوجه إلى الشرق لتسلم البلاد التي عينت له، تعرض لبلاد مجاورة، فكره السلطان ذلك. وتأخر عسكر ديار بكر من المجئ إلى الغزاة، واعتذروا بالخوف من جوار الملك المظفر فقال السلطان: " هذا من عمل الشيطان، وفى مثل هذا الوقت يتعرض لما يغضب الله تعالى، وإنى أخاف عليه في هذه السنة ". فكان ما سنذكره. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن المرجع السابق. (¬2) الأصل: " مستعليا "، والتصحيح عن المرجع السابق.

ذكر مراسلة الفرنج للسلطان شغلا للوقت

ذكر مراسلة الفرنج للسلطان شغلا للوقت وكان ملك الانكلتير قد مرض كما ذكرنا، واشتدت علته، فاشتغل [379] العدو بذلك مدة عن الزحف، وكان ذلك خير من الله تعالى، فإن البلد كان قد ضعف إلى الغاية، وهدمت المنجنيقات من السور مقدار قامة، ثم تماثل ملك الانكلتير من مرضه، وراسل السلطان وطلب الاجتماع به، ثم فتر بعده أياما. ثم جاء رسوله (¬1) يطلب الاستئذان في إهداء جوارح جاءت من البحر، وذكر أنها ضعفت وتغيرت، وطلب أن يحمل لها دجاجا لتتقوى، ثم تهدى، ففهم أنه محتاج إلى ذلك لنفسه، لأنه حديث عهد بمرض. ثم نفذ السلطان يطلب أسيرا مغربيا عنده، فأطلقه للسلطان. ثم أرسل في طلب فاكهة وثلج فأرسل ذلك إليه. وغرضه في هذا كله تفتير العزمات وتضييع الوقت على المسلمين، وهم مع ذلك مشتغلون بمحاصرة البلد، ومواترة رميه بالمناجيق، فاشتد ضعف أهل البلد، وأهلكهم التعب والسهر، لقلة عددهم وكثرة الأعمال عليهم، والعدو مجتهد في قتالهم ومضايقتهم، وقد افترقوا فرقا تقاتلهم كل فرقة نوبة، فبلغ ذلك السلطان فصعب عليه. ذكر استيلاء الفرنج على عكا ولما كان يوم الثلاثاء السابع من جمادى الآخرة من هذه السنة ركب السلطان في العساكر الإسلامية، وقصد الفرنج، وزحف على خنادقهم حتى دخل فيها ¬

(¬1) الأصل: " رسولا "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 186).

العسكر، وهو - رحمه الله - كالوالهة الثكلى، يسير من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، وينادى " يا للإسلام "، وعيناه تذرفان الدموع، ولم يطعم هو ولا الناس في ذلك اليوم طعاما، وإنما شرب شيئا أشار به الطبيب، ثم عاد إلى مخيمه لما هجم الليل، ثم ركب سحرا في العساكر، فأصبحو على ما أمسوا عليه. ووصلت مطالعة من البلد يخبرون بعجزهم عن مقاومة العدو وأنهم ضعفوا غاية ليس بعدها إلا التسليم، ويقولون: " نحن في الغد نسلم البلد ونطلب الأمان إن لم تعملوا معنا شيئا، ونشترى مجرد رقابنا ". وكان هذا أنكى خبر ورد على المسلمين، فإن عكا كانت قد احتوت على جميع سلاح الساحل والقدس ودمشق وحلب ومصر، فرأى السلطان - رحمه الله - مهاجمة العدو، فلم يساعده العسكر، فإن الرجالة من [380] الفرنج وقفوا كالسور المحكم البناء بالسلاح والزنبورك (¬1) والنشاب (¬2) من وراء أسوارهم، وهجم عليهم بعض الناس من بعض أطرافهم، فثبتوا وذبوا غاية الذبّ، فحكى بعض من دخل عليهم أسوارهم أنه كان واحد من الفرنج صعد سور خندقهم وجماعة يناولونه الحجارة وهو يرمى بها على المسلمين، فوقع فيه زهاء عن خمسين سهما وحجرا وهو يتلقاها، ولم يمنعه ذلك عما هو بصدده من الذب، حتى ضربه زرّاق بنفط فأحرقه. ولم تزل الحرب قائمة إلى الليل، وضعفت نفوس أهل البلد وتمكن العدو من الخنادق فملؤوها، ونقبوا سور البلد وحشوه وأحرقوه، فوقعت بدنة من الباشورة، فدخل العدو إليها وقتل منهم فيها زهاء عن مائة وخمسين نفسا، وكان منهم ستة أنفس من كبارهم، فقال لهم واحد منهم: " لا تقتلونى حتى أرحل الفرنج عنكم بالكلية "، فبادر رجل من الأكراد فقتله وقتل الخمسة الباقية. ¬

(¬1) راجع ما فات هنا ص 244، هامش 1 (¬2) راجع ما فات هنا ص 262، هامش 1

وفى الغد ناداهم الفرنج: " احفظوا الستة فإنا نطلقكم كلكم بهم ". فقالوا: " قد قتلناهم ". فحزنوا الفرنج، وبطلوا الزحف ثلاثة أيام. وخرج الأمير سيف الدين المشطوب بأمان إلى ملك الافرنسيس وقال له: " إنا قد أخذنا منكم بلادا عدة، وكنا نهدم البلد وندخل فيه، ومع هذا إذا سألونا الأمان أعطيناهم، وحملناهم إلى مأمنهم، وأكرمناهم، ونحن نسلم البلد وتعطينا الأمان على أنفسنا ". فقال: «أرى فيكم رأيى». فأغلظ له سيف الدين القول وانصرف عنه. ولما دخل سيف الدين بهذا الخبر خاف جماعة ممن كان في البلد، فأخذوا لهم بركوسا (¬1)، وركبوا فيه ليلا خارجين إلى العسكر الإسلامى، منهم: عز الدين أرسل، وحسام الدين تمرتاش بن الجاولى، وسنقر الوشاقى الأسدى، [فأما أرسل وسنقر] (¬2) فتغيبا خوفا من السلطان، وأما ابن الجاولى فظفر به (¬3)، فرمى في الزرد خاناه (¬4) فقطع السلطان إقطاعه وبغر (¬5) عليهم. ¬

(¬1) الأصل، " تركوسا "، انظر ما فات هنا ص 337، هامش 2 (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 2، ص 187). (¬3) الأصل، " فظفر بابن الجاولى فرمى "، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬4) معنى هذا اللفظ أصلا خزانة الزرد أو خزانة السلاح بوجه عام، ولكنها هنا تعنى نوعا من السجون يسجن فيه كبار الأمراء أو علية القوم، راجع أيضا (Dozy : Supp .Dict .Arab). (¬5) كذا بالأصل ولا يتسق بها المعنى، والنص في الروضتين: " فأقطع السلطان إقطاعاته وقطعها، وحبس عنهم عند الرضا بعد مدة مديدة بشاشة وجهها ومنعها ".

وهرب أيضا عبد القاهر الحلبى نقيب الجاندارية [الناصرية] (¬1) فشفع فيه على أنه يضمن على نفسه بالعود، فعاد في ليلته، وأسر [بعد ذلك] (1) واستفكه السلطان بثمانمائة دينار. وركب السلطان يوم الخميس [381] تاسع جمادى الآخرة مشعرا أنه يريد كبس القوم، ومعه المساحى وآلات طم الخندق، فما ساعده العسكر على ذلك، وتخاذلوا وقالوا: " نخاطر بالإسلام كله ". وخرج رسل من ملك الانكلتير ثلاثة، وطلبوا فاكهة وثلجا، وذكروا أن مقدم الاسبتارية يخرّج من الغد يتحدث ويتحدثون معه في الصلح، فأكرمهم السلطان، ودخلوا سوق العسكر وتفرجوا فيه، وعادوا إلى معسكرهم. وتقدم السلطان إلى الأمير صارم الدين قايماز النجمى أن يدخل هو وأصحابه إلى أسوارهم عليهم، فترجل جماعة من الأكراد من أمرائهم ولفيفهم، كالجناح أخى سيف الدين المشطوب، [وزحفوا] (1) حتى بلغوا أسوار الافرنج، ونصب قايماز النجمى علمه على سورهم، وقاتل عن العلم قطعة من النهار. ووصل في هذا اليوم عز الدين جرديك النورى والزحف قائم، فترجل هو وجماعته، وقاتل قتالا شديدا، وبات ليلة الجمعة على ظهور الخيل. وعلم السلطان أنه لاسلامة لعكا، فانفذ إليهم جماعة سرا، وقال لهم: " خذوا حذركم من العدو، واتفقوا واخرجوا ليلا من البلد يدا واحدة، وسيروا على جانب البحر، واتركوا البلد بما فيه». فشرعوا في ذلك، واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه، فما تمكنوا من المراد حتى أسفر الصباح، وظهر سرهم، فلم يتم لهم هذا الأمر، وحرس الفرنج سائر الجوانب. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 2، ص 187).

والعدد والمراكب؛ ومائتى ألف دينار، وخمسمائة أسير مجاهيل الأحوال، ومائة أسير معينين من جانبهم يختارونهم، وصليب الصلبوت، على أنهم يخرجون بأنفسهم سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونسائهم؛ وضمنوا للمركيس - وكان قد استرضاه الفرنج - وأوعدوه بعشرة آلاف دينار، لأنه المتوسط بينهم وبين أهل البلد، ولأصحابه أربعة آلاف دينار " واستقرت القاعدة على ذلك بينهم وبين الفرنج. ولما وقف السلطان على ذلك أنكره وأعظمه، وعزم على أن يكتب إليهم في إنكار ذلك عليهم، فهو في مثل هذا الحال وقد جمع أمراءه وأصحابه للمشورة، فما أحس المسلمون إلا وقد ارتفعت أعلام الكفر وصلبانهم وشعارهم على أسوار البلد، وذلك ظهر نهار الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، وصاح الفرنج صيحة واحدة، وعظمت المصيبة على المسلمين، وانحصر كلام أهل الإيمان في تلاوة: " إنا لله وإنا إليه راجعون "، وارتفع البكاء والعويل في عسكر الإسلام. ودخل المركيس - لعنه الله - البلد، ومعه أربعة أعلام للملوك، فنصب علما على القلعة، وعلما على مئذنة الجامع، وعلما على برج الداوية، وعلما على برج القتال، عوضا عن علم الإسلام، وحيز [المسلمون] (¬1) إلى بعض أطراف البلد. قال القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله -: ومثلث بخدمة السلطان عشية ذلك اليوم، وهو أشد حالة من الوالهة الثكلى الحيرى، فسليته بما تيسر من التسلية، وأذكرته الفكر فيما استقبله [383] من الأجر في معنى البلاد الساحلية والقدس الشريف، وكيفية الحال في ذلك، وإعمال الفكر في خلاص المسلمين المأسورين في البلد، وانفصل الأمر على أن رأى التأخير عن تلك المنزلة مصلحة، فإنه لم يبق غرض في المضايقة، فتقدم بنقل الأثقال ليلا إلى المنزلة التي كان عليها أولا بشفرعم، وأقام هو جريدة مكانه لينظر ماذا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن العماد: (الروضتين، ج 2، ص 188).

ذكر مراسلة السلطان لملك المغرب

يكون من أمر العدو وحال أهل البلد، وانتقل الناس في تلك لليلة إلى الصباح، فاشتغل العدو بالاستيلاء على البلد، وأقام السلطان إلى التاسع عشر، ثم انتقل إلى الثقل (¬1)، ووصل إلى السلطان ثلاثة نفر ومعهم أقوش - حاجب (¬2) بهاء الدين قراقوش - مستنجزين ما وقع عليه عقد الصلح من المال والأسرى، وأقاموا تلك الليلة، وساروا إلى دمشق ينتظرون الأسرى. ذكر مراسلة السلطان لملك المغرب وكان السلطان قد راسل المنصور أبا يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الخليفة بالمغرب مستنجدا به على عدو الدين (¬3)، وكان الرسول إليه شمس الدولة بن منفذ، فلما ملك العدو عكا وجرى ما ذكرناه كتب السلطان إلى شمس الدولة بالانشاء الفاضلى يستحثه على العود بالنجدة، ويعرفه الواقعة، ومنه: " لقد تجاوزت عدة من قتل على عكا - يعنى من الفرنج - الخمسين ألفا (¬4)، قولا لا يطرقه التسمح، بل يحرزه (¬5) التصفح، فانبرى في هذه السنة ملكا افرنسيس ¬

(¬1) الأصل: " الحقل "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 188). (¬2) الأصل: " صاحب "، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬3) توجد نصوص كثير من الرسائل المرسلة من صلاح الدين إلى السلطان أبى يوسف، وإلى رسوله إليه شمس الدولة بن منقذ في: (صبح الأعشى، ج 6، ص 526 - 530) و (الروضتين، ج 2 ص 170 - 178) فراجعها هناك، وفى قسم الملاحق بآخر هذا الجزء. (¬4) الأصل: " ألف "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 188). (¬5) الأصل: " لا يطلقه التسمح بل تحريره التصفح "، والتصحيح عن المرجع السابق.

وانكلتير وملوك آخرون في مراكب بحرية، وحمّالة (¬1) حملوا فيها الخيول والخيّالة، والمقاتلة والآلة، ووصلت كل سفينة تحمل مدينة، وأحدقت بالثغر، ومنعت الناقل بالسلاح إليه، والداخل بالميرة عليه. فصل: وأخذوا البلد على سلم كالحرب، ودخله العدو، ولو لم يدخل من الباب لدخل من النقب، وما وهنّا لما أصابنا في سبيل الله، وما ضعفنا ولا رجعنا ورانا، ولا انصرفنا، بل نحن في مكاننا ننتظر أن يبارزوا فنبارزهم (¬2)، أو يخرجوا فنناجزهم، أو ينتشروا فنطويهم، أو ينبثوا فنزويهم، وأقمنا على طرقهم، وخيمنا على مخنقهم، وأخذنا بأطراف (¬3) خندقهم، [384] وأحوج ما كنا الآن إلى النجدة البحرية، والأساطيل المغربية، فإن عاريتنا بها ترد، وعاديتنا بها تشتد. والأمير يبلغ ما بلغه من خطب الإسلام وخطوبه؛ ويقوم في البلاغ يوم الجمعة مقام خطيبه، ويعجّل العودة وقبلها الإجابة، ويستصحب السهم ويسبق ببشرى الإصابة، ويشعر بأن الراية قد رفعت لنصر تقدم به عرابه، فإن للإسلام نظرات إلى الأفق الغربى يقلبها (¬4)، وخطرات من اللطف الخفى يقربها، ويكفى من حسن الظن أنها نظرة ردت الهواء الشرقى غربا، وخطرة أو همت أن تلك الهمة لو تلم بالسفائن لأخذت كل سفينة غصبا ". ¬

(¬1) راجع ما فات هنا ص 13، هامش 2 (¬2) الأصل: " فنبرز إليهم "، والتصحيح عن المرجع السابق، ص 189 (¬3) الأصل: " طراز خندقهم "، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬4) الأصل: " تقبلها "، والتصحيح عن المرجع السابق.

ذكر ما جرى عليه الحال فى أمر أسارى المسلمين وما تجدد من حوادث

ذكر ما جرى عليه الحال في أمر أسارى المسلمين وما تجدد من حوادث لما تسلم الفرنج عكا لم يقفوا على الشرائط التي اشترطوها المسلمون، فاحتاطوا عليهم ومنعوهم من الخروج، ثم أخذوا أموالهم وحبسوهم، وعزم ملك افرنسيس على المسير إلى بلاده لأمر اختل عليه، فأخذ قسما من الأسارى، وسلّمهم إلى المركيس، ووكله في قبض نصيبه. وخرج الفرنج يوم الخميس سلخ جمادى الآخرة من جانب البحر، وانتشروا بالمرج، ووصلوا إلى الآبار التي حفرها اليزك، وتواقعوا مع اليزك، وأمدهم السلطان، فكسرهم المسلمون، وألحقوهم بخنادقهم، ولم تزل الرسل تتردد بين السلطان وبينهم إلى يوم الجمعة تاسع رجب، فخرج حسام الدين حسين بن تازيك المهرانى، ومعه اثنان من أصحاب الانكلتير، فأخبر أن ملك الافرنسيس صار إلى صور، وذكروا شيئا من أمر الأسارى، وطلبوا أن يشاهدوا صليب الصلبوت، وأنه هل هو في العسكر أو حمل إلى بغداد، فأحضر صليب الصلبوت، فشاهدوه وعظموه، ورموا نفوسهم إلى الأرض، ومرغوا خدودهم على التراب، وذكروا أن الملوك قد أجابوا السلطان إلى أن يكون ما أوقع عليه القرار أن يدفع في نجوم ثلاث، كل نجم في شهر. ولم تزل الرسل تتواتر في تحرير القاعدة حتى حصل لهم ما التمسوه من الأسارى والمال المختص بذلك النجم [385] وهو: الصليب ومائة ألف دينار، وستمائة أسير، وأنفذوا ثقاتهم (¬1)، وشاهدوا الجميع ماعدا الأسارى المعينين من جانبهم، فإنهم لم يكونوا فرغوا من تعيينهم، ولم يكلموهم حتى يحصلوا، ولم يزالوا يطاولون ويقضون الزمان حتى انقضى النجم الأول في ثامن عشر رجب. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وعند ابن شداد - الأصل المنقول عنه هنا -: " نقباءهم ".

ثم أنفذوا في ذلك اليوم يطلبون ذلك، فقال لهم السلطان: " إما أن تنفذوا إلينا أصحابنا، وتتسلموا الذى عيّن لكم في ذلك النجم، ونعطيكم رهائن على الباقى تصل إليكم في نجومكم الباقية، وإما أن تعطونا رهائن على ما نسلمه إليكم حتى تخرجوا إلينا أصحابنا ". فقالوا: " لا نفعل شيئا من ذلك، بل تسلمون ما يقتضيه هذا النجم، وتقنعون بأماننا حتى نسلم إليكم أصحابكم ". فأبى السلطان ذلك، لعلمه أنهم إن تسلموا الصليب والأسرى وأصحابنا عندهم يؤمن غدرهم، فلما رأوه قد امتنع من ذلك أخرجوا خيامهم مبرزين في الحادى والعشرين من رجب. وخرج الانكلتير وجماعة من الخيالة والتركبلى (¬1)، وركبوا في وقت العصر السابع والعشرين من رجب، وساروا حتى أتوا إلى الآبار التي تحت تل العياضية، ثم أحضروا من الأسارى المسلمين من أراد الله تعالى شهادته (¬2)، ووقفوهم وحملوا عليهم فقتلوهم صبرا، واليزك الإسلامى يشاهدهم ولا يعلمون ما يصنعون لبعدهم عنهم، وكان اليزك قد أنفذ إلى السلطان وأعلمه بركوب القوم، فأنفذ إلى اليزك من قوّاه، وبعد أن فرغوا منهم حمل المسلمون عليهم، وجرت بينهم حرب عظيمة، جرى فيها جروح كثيرة وقتل من الجانبين. وأصبح المسلمون فوجدوا المسلمين الشهداء في مواضعهم صرعى، وعرفوا من عرفوا منهم، ولم يبق العدو من المسلمين إلا رجلا معروفا مقدّما، أو قويا له يد للعمل في عمائرهم، وتصرف السلطان في المال، وأعاد الاسارى إلى أربابها. ¬

(¬1) الأصل: «التوكيل»، وقد صححت بعد مراجعة: (الروضتين، ج 2، ص 189)، ولشرح اللفظ راجع ما فات هنا ص 149، هامش 1 (¬2) بعد هذا اللفظ في الروضتين: «وكانوا زهاء ثلاثة آلاف مسلم في الحبال».

ذكر رحيل المسلمين والفرنج نحو عسقلان والحرب التى جرت بينهم

ذكر رحيل المسلمين والفرنج نحو عسقلان والحرب التي جرت بينهم ولما استهل شعبان من هذه السنة [386] أصبح الفرنج سائرين نحو عسقلان، وسار السلطان في الجيوش الإسلامية في عراضهم يقتلون منهم ويأسرون ويجرحون، وكلما أتى السلطان منهم بأسير أمر بقتله، ووصل الفرنج إلى حيفا فأقاموا بها، ونزل السلطان بالقيمون، وقدّم السلطان ثقله إلى مجدليابة، وأضحى نازلا على النهر الجارى إلى قيسارية، وودّعه القاضى الفاضل، وسار إلى دمشق ليقوم بها مقام السلطان في تنفيذ الأمور. وفى تاسع شعبان وصل الخبر إلى السلطان بأن الفرنج قد ركبوا وساروا بفارسهم وراجلهم في الساحل، ومراكبهم تحاذيهم، ورجالتهم مستديرون حولهم كالسور، عليهم الكبور (¬1) التخينة، والزرديات السابغة المحكمة بحيث يقع فيهم النشاب ولا يتأثرون، وهم يرمون بالزنبورك (¬2) فيجرحون خيول المسلمين. قال القاضى بهاء الدين بن شداد: " لقد شاهدتهم وفى ظهر الواحد منهم النشابة والعشرة مغروزة وهو يسير على هيئته من غير انزعاج، وثمّ قسم أخر من الرجالة مستريح يمشون على جانب البحر، لا قتال عليهم، فإذا تعب هؤلاء وأثخنهم الجراح قام مقامهم القسم المستريح، واستراح القسم العمّال، هذا والخيّالة في وسط الرجّالة لا يخرجون عنهم إلا وقت ¬

(¬1) الكبر - والجمع كبور - نوع من القباء الذى يتخذ للحرب، جاء في (اللسان): " القردمانى " قباء محشو يتخذ للحرب، فارسى معرب، يقال له " كبر " بالرومية أو النبطية ". انظر أيضا: (الجواليقى: المعرب، ص 252). (¬2) راجع ما فات هنا ص 244، هامش 1

الحملة لا غير، وقد اقتسموا ثلاثة أقسام: الملك العتيق جفرى، وجماعة الساحلية معه (¬1) في المقدمة، والانكلتير والافرنسيسة في الوسط، وأولاد الست أصحاب طبرية وطائفة أخرى في الساقة؛ وبرج القوم في وسطهم كالمنارة (¬2) العظيمة على عجلة. وسار السلطان في جيوشه (¬3)، وسوق الحرب قائمة بين الفريقين، والمسلمون يرمون من جوانبهم بالنشاب، وهم يسيرون سيرا رفيقا، إلى أن أتوا المنزل فنزلوا، وكانت منازلهم قريبة لأجل الرجالة، فإن المستريحين منهم كانوا يحملون أثقالهم وخيمهم لقلة الظهر عليهم، وطاف الجاليش (¬4) حولهم ولزّوهم بالنشاب، وكلما ضعف قسم عاونه الذى يليه وهم يحفظ بعضهم بعضا، والمسلمون [387] يرمونهم من ثلاثة جوانب. قال القاضى: ورأيت السلطان وهو يسير بنفسه بين الجاليشية ونشاب القوم يتجاوزه، وليس معه إلا صبيين بجنيبين لا غير، وهو يسير من طلب إلى طلب (¬5) يحثهم على التقدمة، ويأمرهم بمضايقة القوم، وجرت حملات كثيرة، ورجالتهم تجرح المسلمين وخيالتهم بالزّنبورك (¬6) والنشاب، إلى أن أتوا نهر القصب فنزلوا عليه وقت الظهر، وضربوا خيامهم، وتراجع الناس عنهم، وكان قتل في ذلك ¬

(¬1) الأصل: " معهم "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 190) (¬2) النص في الروضتين: " وفى وسط القوم برج على عجلة، وعلمهم على ما وصفته من قبل يسير أيضا في وسطهم على عجلة كالمنارة العظيمة " (¬3) بعد هذا اللفظ في الأصل كلمتا: " ساروا لهم "، ولا ضرورة لهما فحذفناهما. (¬4) راجع ما فات هنا، ص 41، هامش 1 (¬5) راجع ما فات هنا، ص 59، هامش 3 (¬6) راجع ما فات هنا، ص 244، هامش 1

ذكر وقعة أرسوف

اليوم أياز الطويل من مماليك السلطان، وكان من المشهورين بالبأس والشجاعة، وسبب قتله أن فرسه تقنطر به فاستشهد، ودفن على تل هناك، وقتل عليه مملوك له. ونزل السلطان بالثقل على البركة، ثم رحل بعد العصر، فنزل على نهر القصب أيضا، فكان المسلمون يشربون من أعلاه، والفرنج يشربون من أسفله، وبينهم مسافة يسيرة، وبات الفريقان هناك. ثم رحل السلطان وعبر شعراء أرسوف، ونزل على قرية تعرف بدير الراهب، فطلب ملك الانكلتير الاجتماع بالملك العادل خلوة، فاجتمعا، فأشار بالصلح، وكان حاصل كلامه: " أنه قد طال بيننا القتال، ونحن جئنا في نصرة أصحاب الساحل، فاصطلحوا أنتم وهم، وكل منا يرجع إلى مكانه. فقال الملك العادل: " على ماذا يكون الصلح؟ ". فقال: " على أن يسلم إلى أهل الساحل ما أخذتم من البلاد ". فأبى الملك العادل ذلك، وأخبره أن دون ذلك قتل كل فارس وراجل؛ فرجع مغضبا. ذكر وقعة أرسوف ولما كان يوم السبت رابع عشر شعبان تأهب المسلمون للقاء الفرنج، وأزعجوهم وضايقوهم، فلما رأى الفرنج ما نزل بهم من الضائقة اجتمعوا وحملوا حملة واحدة.

قال القاضى بهاء الدين: لقد رأيتهم وقد اجتمعوا في وسط الرجّالة، وأخذوا رماحهم، وصاحوا صيحة واحدة، وفرج لهم رجالتهم، فحملوا من جميع الجوانب، فانكشف المسلمون من بين أيديهم، ولم يبق في طلب السلطان إلا سبعة عشر مقاتلا (¬1)، والأعلام باقية، والكوسات (¬2) تدق لا تفتر، فلما رأى السلطان [388] ما نزل بالمسلمين سار حتى أتى طلبه، فوقف فيه والناس يفرون من القتال، وكلما رأى فارا (¬3) من الحرب يحضره عنده، فاجتمع في الطلب خلق عظيم، ووقف العدو في مقابلتهم على رؤوس التلول والروابى، وخاف العدو أن يكون في الشعرا كمين، وكان يومئذ مع السلطان صارم الدين قايماز النجمى وعسكر الموصل، فندبهم السلطان لقتال العدو، وركب العساكر على العدو، وجرت بهم مقتلة عظيمة، وقتل من العدو كند عظيم، وقاتل دون جماعة من مقدميهم فما قتل حتى قتلوا، والتجأ العدو إلى جدران أرسوف، ولولا ذلك لا ستأصلوا. وجلس السلطان ينتظر عود الناس، وأحضرت إليه الجرحى، فتقدم بمداواتهم، وجرح من الطائفتين جمع كثير، وصدم يومئذ الملك الأفضل نور الدين ولد السلطان، وانفتح دمل كان في وجهه، وسال منه دم كثير، وأحضر بين يدى السلطان، وأخذ من أسرى الفرنج أسيرا فضرب عنقه. ¬

(¬1) الأصل: «سبعون رجلا مقاتلا»، والتصحيح عن: (ابن شداد، السيرة، ص 176). (¬2) راجع: (مفرج الكروب، ج 1 ص 11، هامش 2). (¬3) الأصل: «فار» والتصحيح عن المرجع السابق.

ذكر وصول السلطان إلى عسقلان وتخريبه لها

ذكر وصول السلطان إلى عسقلان وتخريبه لها ثم رحل السلطان تاسع عشر شعبان ونزل بالرملة، ورحل منه ليلا وأصبح على تبنى، ثم رحل منها إلى عسقلان بعد العصر، وكان لما نزل أحضر أخاه الملك العادل وأكابر الأمراء، وشاورهم في تخريب عسقلان، فأشار علم الدين سليمان بن جندر بتخريبها للعجز عن حفظها، ووافقت الجماعة على ذلك، وقالوا: " هذه يافا قد نزل العدو بها، وهى مدينة متوسطة بين عسقلان والقدس، ولا سبيل إلى حفظ المدينتين معا، فاعمد إلى أشرفهما فحصنه ". فاقتضت الآراء إقامة الملك العادل بقرب يافا مع عشرة من الأمراء، حتى إذا تحوّل العدو كانوا منه على علم. ولما نزل السلطان بعسقلان وعزم على خرابها اهتم لذلك وكثر حزنه. قال القاضى بهاء الدين: " ما نام تلك الليلة إلا قليلا، ولقد دعانى إلى خدمته سحرا، وكنت قد فارقته بعد مضى نصف الليل، فحضرت، وبدأنا الحديث في معنى خرابها، وأحضر ولده الملك الأفضل، وشاوره في ذلك، وطال الحديث، ولقد قال - رحمه الله -: والله لئن أفقد أولادى بأسرهم أحبّ إلىّ من أن أهدم منها حجرا واحدا، ولكن إذا قضى الله تعالى [389] بذلك (1) وعرفته بحفظ مصلحة المسلمين طريقا، فكيف امتنع (¬1)؟ ". ثم شرع في خرابها، ووضع أبراجها على الأمراء، ووقع الناس في الضجيج والبكاء، وكان بلدا خفيفا، محكم الأسوار، عظيم البناء، مرغوبا في سكناه، ¬

(¬1) النص عند ابن شداد في: (الروضتين، ج 2، ص 192): «وعينه لحفظ مصلحة المسلمين طريقا فكيف أصنع».

ذكر رحيل السلطان عن عسقلان إلى جهة الفرنج وما جرى بينه وبينهم من الحرب والمراسلة

وكان هو وولده الملك الأفضل يحثان الناس على الخراب خشية (¬1) أن يسمع العدو فيحضر ولا يمكن من خراب البلد، ولم يزل الخراب والحريق يعمل في البلد وأسواره إلى سلخ شعبان. ووصل كتاب من عز الدين جرديك يذكر أن القوم تفسحوا، وصاروا يخرجون من يافا، ويغيرون على البلاد القريبة منها، فلو تحرك السلطان لعله يبلغ منهم غرضا في غرتهم، فعزم على الرحيل على أن يترك في عسقلان حجّارين، ومعهم خيل تحميهم (¬2) ويستنهضونهم (¬3) في الخراب، ثم رأى أن يتأخر حتى تخرب ويحرق البرج [المعروف] (¬4) بالاسبتار، وكان برجا عظيما، فخرّبه بعد حشوه وإحراقه. وعمّر الفرنج يافا، وحصّنوا أسوارها. ذكر رحيل السلطان عن عسقلان إلى جهة الفرنج وما جرى بينه وبينهم من الحرب والمراسلة ثم رحل السلطان عن عسقلان بعد خرابها يوم الثلاثاء ثانى رمضان، ونزل على تبنى (¬5)، ثم نزل على الرملة يوم الأربعاء ثالث رمضان، وأمر بتخريب ¬

(¬1) بهذا اللفظ تبدأ ص (124 أ) من نسخة س، وبذلك تلتقى مع النسخة الأصلية مرة أخرى. (¬2) الأصل: «تحتهم»، والتصحيح عن: (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 181). (¬3) الأصل: «ليستقصوا»، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن س و (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 181). (¬5) الأصل: " بيتا " وس: " مع‍ما " بدون نقط، وفى (الروضتين، ج 2، ص 192) «تبنا» وقد صححت وضبطت بعد مراجعة: (ياقوت: معجم البلدان) حيث قال إنها بلدة بحوران من أعمال دمشق.

حصنها، وتخريب كنيسة لد (¬1)، وركب جريدة إلى البيت المقدس، فأتاه يوم الخميس وخرج منه يوم الإثنين ثامن رمضان، وبات في بيت نوبة، وعاد إلى المخيم يوم الثلاثاء تاسع رمضان. ووصل معز (¬2) الدين قيصر شاه بن قلج أرسلان - سلطان الروم - مستنصرا بالسلطان على أبيه وإخوته، فإنهم قصدوا أخذ بلده منه، وكان بيده ملطية، فأقام في الخدمة السلطانية مدة، وتزوج ابنة الملك العادل على صداق مائة ألف دينار، ثم سار مستهل ذى القعدة من هذه السنة (¬3). في ثامن (¬4) رمضان خرج جمع من المسلمين على ملك الانكلتير، وكان خرج في فوارسه مخفّرا للحطابة والحشاشة، وكاد يؤخذ الملك، لكن فداه أحد خواصه بأن أظهر حسن لباسه، فظن أنه الملك فأسر (¬5). وفى ثانى (¬6) عشر رمضان وقعت وقعة بين المسلمين والفرنج كان النصر فيها للمسلمين، وقتل مقدّم كبير من الفرنج، ووقعت وقعات كثيرة بينهم وبين اليزك [390]، ثم رحل السلطان إلى النطرون، فخيّم على تل هناك، فأمر بهدم حصن النطرون، فهدم. ¬

(¬1) الأصل: " له " وس: " هـ "، وما هنا عن العماد (المرجع السابق) و (ابن شداد، ص 182). (¬2) الأصل: «نصر»، والتصحيح عن: (ابن شداد، ص 183) و (الروضتين، ج 8 ص 192). (¬3) بعد هذا اللفظ في س: " وقد أمن من أخوته وغيرهم لأنه راح معه كتب بتهديد ووعيد وعسكر كثير ". (¬4) س: " عاشر " وما هنا يتفق ونص العماد (الروضتين، ج 2، ص 192). (¬5) بعد هذا اللفظ في س: " ونجا الملك، فأفداه الملك الانكلتير بثمان ألف دينار وعشرة من أسارى المسلمين أطلقهم ". (¬6) س: " وفى ثامن عشر "، وما هنا يتفق ونص العماد (المرجع السابق).

ثم راسل ملك الانكلتير الملك العادل راغبا في المسلة والمصالحة، ورعم أن له أختا عزيزة عليه كبيرة القدر، وأنها كانت زوجة ملك كبير من ملوكهم، - وهو صاحب صقلية - توفى عنها، ورغب في أن يزوّجها الملك العادل، يجعل له الحكم في جميع البلاد الساحلية، ينفذ فيها أمره، وهو يقطع الداويّة الاسبتارية ما أراد من البلاد والقرى دون الحصون، وتكون أخته مقيمة بالقدس ومعها قسيسون ورهبان في صحبتها. فرأى لملك العادل ذلك مصلحة، وشاور السلطان في ذلك فأجابه إليه، ونفذ رسوله إلى الانكلتير بالإجابة، فدخل الفرنج إلى المرأة وخوفوها، وأعلموها أن ذلك قبيح ومخالف للشريعة، وفيه عصيان للمسيح وإغضاب له، فما أجابت، واعتذر الانكلتير بعد ذلك بعدم موافقتها، إلا أن يدخل الملك العادل في دينها (¬1). ووصل رسول المركيس - صاحب صور - يذكر أنه يصالح بشرط أن يعطى صيدا وبيروت، وشرط على نفسه مجاهرة الفرنج بالعداوة، وأنه يقصد عكا ويحاصرها ويستخلصها للمسلمين، فأجيب إلى ذلك على أن يطلق من بها ومن بصور، ولما سمع الانكلتير بذلك رجع إلى عكا لفسخ هذه المصالحة واسترجاع المركيس إليه. ثم ورد الخبر أن ملك الافرنسيس مات بأنطاكية (¬2). ثم راسل الانكلتير السلطان: " أن المسلمين والفرنج قد هلكوا، وخربت البلاد وتلفت الأموال والأرواح، وقد أخذ هذا الأمر حقه، وليس هناك حديث سوى القدس والصليب؛ ¬

(¬1) بعد هذا اللفظ في س: " فصفح الملك العادل عن ذلك الأمر "، وبعده في العماد: (الروضتين، ج 2، ص 193): " فعرف أنها خديعة كانت من الإنكلتير ". (¬2) بعد هذا اللفظ في س (124 ب): " فوهن الانكلتير لذلك ".

والقدس متعبدنا ما ننزل عنه ولو لم (¬1) يبق منا واحد، وأما البلاد فيعاد إلينا ما هو قاطع الأردن، وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له، وهو عندنا عظيم، فيمنّ السلطان علينا، ونستريح من هذا العناء الدائم ". فأرسل السلطان في جوابه: " القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم، فإنه مسرى نبينا، ومجتمع الملائكة، فلا يتصور أن ننزل عنه، ولا نقدر على التلفظ بذلك بين المسلمين، أما البلاد فهى لنا في الأصل، واستيلاؤكم كان [391] طارئا عليها، لضعف من كان بها من المسلمين في ذلك الوقت، وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة، ولا يجوز لنا أن نفرط فيه إلا لمصلحة راجعة إلى الإسلام هى أوفى منها ". وهرب في تلك المدة شيركوه بن باخل الكردى، وهو من جملة الأسارى الذين كانوا بعكا إلى السلطان (¬2). ثم ورد الخبر على عزم النهوض من الفرنج، فسار السلطان من المخيّم بالنطرون إلى الرملة في سابع شوال من هذه السنة، فأقام بها عشرين يوما، وجرت وقعات بينه وبين العدو، منها وقعة في ناحية يازور، وكان النصر فيها للمسلمين، ولم يقتل من المسلمين غير ثلاثة، وكانت ثامن شوال. وفى سادس عشر شوال وقعت وقعة عظيمة قتل فيها جماعة من الأمراء، وأسر فيها فارسان من الفرنج معروفان، وقتل منهم بها [زهاء عن] (¬3) ستين نفرا، ¬

(¬1) الأصل وس: " والقدس مستعبدنا ما ينزل عليه ولم يبق منا واحد " وهى جملة مضطربة والتصحيح عن الأصل المنقول عنه هنا وهو: (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 187) و (الروضتين، ج 2، ص 193). (¬2) بعد هذا اللفظ في س: " وكان من الأمراء الكبار ". (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س و (الروضتين، ج 2، ص 194).

ذكر رحيل السلطان - رحمه الله - إلى القدس ومقامه به

وكان وصل الخبر في خامس شوال بأن الأسطول المصرى استولى على مراكب الفرنج، ومنها مسطّح (¬1) ذكر أن كان فيه خمسمائة نفر، وما يزيد عليه، وقتل منهم خلق كثير، واستبقى منهم أربعة مذكورون. ولما كان الثامن عشر من شوال اجتمع الملك العادل والانكلتير على طعام ومحادثة، فطلب الانكلتير منه أن يجتمع بخدمة السلطان، فامتنع الملك العادل وقال: " الملوك إذا اجتمعوا تقبح (¬2) بينهم المخاصمة بعد ذلك، وإذا انتظم أمر حسن الاجتماع " (¬3). ذكر رحيل السلطان - رحمه الله - إلى القدس ومقامه به ولما كان ثالث ذى القعدة رحل الفرنج إلى الرملة، وأظهروا قصد بيت المقدس، ودامت الوقعات بين المسلمين وبينهم، ثم رحل السلطان إلى القدس بنية المقام [فيه] (¬4) وذلك لسبع بقين من ذى القعدة، وكان الشتاء قد دخل واتصلت الأمطار، فوصل إلى القدس، ونزل بدار الأقساء (¬5) مجاور كنيسة قمامة. ¬

(¬1) المسطح - والجمع مسطحات - نوع من السفن الحربية الكبيرة، وبتضح من النص هنا أنها كانت تسع 500 راكب أو تزيد، وقد ذكرها (ابن مماتى: قوانين الدواوين، ص 340) بعد " الشلندى "، وقال: " وهو في معناه " أي أنه شبيه به، وقد عرفه دوزى (Dozy : Supp, Dict, Arab) بأنه نوع من السفن ولم يزد، غير أنه حاول أنه يفسر معنى اللفظ فقال إنه يعنى نوعا من السفينة ذات السطح: (sorte de navire,peut - etrc un uavirc qui a un pont,un tillac) راجع مخطوطتنا (معجم السفن العربية). (¬2) الأصل وس: " انفتح "، وما هنا عن (الروضتين، ج 2، ص 194). (¬3) بعد هذا اللفظ في س (125 ب): " وكان الملك العادل رجلا عظيم القدر، وله أولاد جماعة، منهم: الكامل والمعظم والأشرف وغيرهم ". (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬5) الأصل: " دار الافتاء "، والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 194) وس (125 ب).

ذكر وفاة الملك المظفر تقى الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب

وفى ثالث ذى الحجة وصل عسكر من مصر ورجال مع أبى الهيجاء السمين، وتحول الفرنج إلى النطرون، فقوى السلطان اليزك فوقعوا على سرية للفرنج فغنموها، ووصل إلى القدس الشريف نيف وخمسون أسيرا. ولما كان يوم عيد الأضحى واقع الأمير سابق الدين بن الداية - صاحب شيزر - الفرنج فاحتوى على عشرة من مقدميهم قتلا وأسرا، وتسلق الفرنج في الجبال، وتركوا خيلهم، فغنمها المسلمون، وبقى الفرنج في النطرون كالمحصورين [392] وقطع المسلمون الطريق على تجارهم حتى أخذوا قافلة كبيرة بما فيها، وما قدروا على تخليصها، فرحلوا عائدين إلى الرملة لليلتين بقيتا من ذى الحجة. وفى ذلك اليوم وصل خمسون رجلا من الموصل برسم قطع الصخور من الخندق (¬1)، وشرع السلطان في تحصين (¬2) القدس وعمارة أسواره، وحفر خنادقه، وأرسل إلى البلاد في جمع رجال يقومون بهذه الأعمال، وعمل السلطان فيه بنفسه، بنقل الحجارة هو وأولاده وأجناده وأمراؤه، ومعهم القضاة والعلماء والفقهاء. ذكر وفاة الملك المظفر تقى الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب قد ذكرنا توجه الملك المظفر تقى الدين - رحمه الله - إلى البلاد التي زاده السلطان [إياها] (¬3) وراء الفرات، فلما توجه إلى تلك البلاد امتدت يده إلى بلاد غيره، فاستولى على السويدا وحانى، وقصد بلاد خلاط، وكسر عسكر صاحبها سيف الدين ¬

(¬1) النص في س أكثر وضوحا وهو: " وفى ذلك اليوم وصل من الموصل جماعة كبيرة من الحجارين برسم قطع الصخور من خندق القدس ". (¬2) الأصل: " تحسين "، والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن س.

سيرة الملك المظفر تقى الدين - رحمه الله -

بكتمر، وتملك معظم البلاد، فاستصرح سيف الدين بكتمر بالخليفة الناصر لدين الله، فورد كتاب الخليفة إلى السلطان ينكر فيه قصد تقى الدين أحلاط، ويظهر العناية التامة ببكتمر، ويشفع في حسن بن قفجاق، ويتقدم باطلاقه، وكان قد قبض عليه مظفر الدين - صاحب إربل -، وينقدم بمسير القاضى الفاضل إلى الديوان لبت حال وفصل أمر، فأجابه السلطان: بأنا لم نأمر تقى الدين بشئ من هذا، وإنما عبر ليجمع العساكر ويعود إلى الجهاد، وأما ابن قفجاف فقد تقدم الخادم إلى مظفر الدين حتى يحضره إلى الشام، فيقطعه فيه، ويكون ملازما للجهاد؛ وأما القاضى الفاضل فاعتذر عنه بكثرة الأمراض، وقوته تضعف عن الحركة إلى العراق. ثم إن الملك المظفر نازل مدينة ملازكرد - وهى لبكتمر - وحاصرها وضايقها، ومعه عساكر كثيرة، وكان في صحبته ولده الملك المنصور ناصر الدين محمد بن عمر، فاعترى الملك المظفر مرض شديد، وتزايد به إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى، وذلك يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان من هذه السنة - أعنى سنة سبع وثمانين وخمسمائة - فأخفى ولده الملك المنصور وفاته، ورحل عن ملازكرد، وعاد به إلى البلاد التي هى في يده، وعجب الناس من حزمه وثباته. ووصل الملك المنصور بعد ذلك إلى حماة بأمواله وخزائنه [393] وأصحابه، ودفنه بظاهر حماة من شماليها، بالتربة المعروفة به، وبنى السلطان الملك المنصور إلى جانب التربة مدرسة للشافعية، ورتب لها وقفا جليلا. سيرة الملك المظفر تقى الدين - رحمه الله - كان الملك المظفر - رحمه الله - ملكا شجاعا جوادا، شديد البأس، عظيم الهمة، ركنا عظيما من أركان البيت الأيوبى، وكان عنده فضل وأدب، وشعر حسن قد

ذكر استيلاء الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين على حماة وبلادها وتملك الملك العادل البلاد الشرقية

ذكرنا بعضه، فأصيب السلطان بموته، لأنه كان من أعظم أعوانه على ما يكابد من الشدائد، غير أنه كان قد تغير قلبه عليه في آخر وقت بسبب اشتغاله بمحاربة جيرانه، وخذلانه له في وقت الحاجة إلى مساعدته على ما هو بصدده من الجهاد. واتفق أنه في ليلة الجمعة المذكورة أصيب السلطان أيضا بالأمير حسام (1) الدين محمد ابن عمر بن لاجين، وهو ابن أخته، فأصيب في تاريخ واحد بابن أخيه وابن أخته، وحمل حسام الدين إلى دمشق، ودفن في التربة الحسامية (¬1) المنسوبة إليه، من بناء والدته ست الشام بنت أيوب، وهى المدرسة الشامية (¬2) ظاهر دمشق. وفى الجمعة التي (¬3) توفى فيها الملك المظفر توفى قاضى بلده أمين الدين أبو القاسم ابن حبيش، وذلك حادى عشر شهر رمضان، وكان أمين الدين هذا رئيسا جوادا عظيم القدر بحماة، وكان مشهورا عند الملوك. ذكر استيلاء الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين على حماة وبلادها وتملك الملك العادل البلاد الشرقية لما توفى الملك المظفر تقى الدين - رحمه الله - راسل الملك المنصور عمّه السلطان يخبره بأنه قام مقام أبيه فيما كان له من البلاد، وطلب منه شروطا نسبه السلطان بسببها إلى العصيان، وكاد أمره يضطرب، وطلب الملك الأفضل ¬

(¬1) الأصل: «ناصر»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 195). (¬2) راجع ترجمة ست الشام أخت صلاح الدين، وأخبار التربة والمدرسة في: (النعيمى: الدارس في تاريخ المدارس، نشر جعفر الحسنى، ج 1، ص 277 - 300) (¬3) الأصل: " الذى " والتصحيح عن س.

من أبيه ما كان بيد الملك المظفر قاطع الفرات، ونزل عن جميع ماله من الولايات، فأجابه السلطان إلى ذلك، ورحل من القدس ثالث صفر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأطلق له السلطان عشرين ألف دينار، سوى ما أصحبه من الخلع والتشريفات ووصل إلى حلب فاحتفل به أخوه الملك الظاهر صاحبها، وقام بواجب خدمته، وأحضر له مفاتيح البلد، وقدم له تقدمة كثيرة. ولما سمع الملك [394] المنصور بذلك اشتد انزعاجه، وراسل عمه الملك العادل - وهو إذ ذاك بالقدس - ملتجئا إليه ومحتميابه، فخاطب الملك العادل السلطان في حقه، واستعطفه له، وقال: " أنا أمضى إليه وأحضره " وكان مقترح الملك المنصور أحد قسمين: إما حرّان والرّها وسميساط وميّافارقين؛ وإما حماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم، وأنه يكفل أخوته. فامتنع السلطان من الإجابة إلى شئ منه، فراجعه الملك العادل مرارا فلم يفعل، وكثرت الشفاعة إليه في معناه فحلف له أولا على الرّها وحرّان وسميساط، على أنه إذا عبر الفرات أعطى المواضع التي اقترحها، ويكفل أخوته، ويتخلى عن تلك المواضع التي في يده، فالتمس الملك العادل خط السلطان، فأبى، وألّح عليه، فخرّق (¬1) نسخة اليمين، وانقطع الحديث، وأخذ من السلطان الغيظ كيف يخاطب بمثل ذلك في جانب بعض أولاد أولاد أخيه، ثم أعطاه خطه بما استقرت به القاعدة عليه. ثم إن الملك العادل التمس من السلطان البلاد التي كانت بيد الملك المظفر تقى الدين أولا قبل أن يعطى البلاد الجزرية، ثم أعطى البلاد الجزرية عوضا عنها وآخر ما استقر الأمر عليه أن الملك العادل يتسلم البلاد الشرقية، وينزل عن كل ماله في الشام ماخلا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء، ونصف خاصّه بمصر، وعليه في كل ¬

(¬1) الأصل: «مخرق»، والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 197)

سنة ستة آلاف غرارة [غلة] (¬1) تحمل للسلطان من الصلت والبقاء إلى القدس، واستزاد الملك العادل قلعة جعبر على البلاد الشرقية، فأجيب إلى ذلك، فامتنع الملك الظاهر من تسليمها إليه، ثم أجاب بعد ذلك (¬2). وسار الملك العادل من القدس في العشر الأول من جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. وكتب السلطان إلى الملك الأفضل يأمره بالعود إليه، فعاد منكسر القلب متعتبا، ووصل إلى دمشق، ولم يصل إلى خدمة السلطان؛ فلما (¬3) أشتد خبر الفرنج سيّر إليه يطلبه، فما وسعه التأخير، فسار إليه بطلبه وصحبته العساكر الواصلة من الشرق، فلقيه السلطان، وترجّل له جبرا لقلبه وتعظيما له (3). وأما الملك العادل فإنه وصل [395] إلى حرّان والرّها، وقرر أمرهما، واستقر للملك المنصور حماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم. وعاد الملك العادل في آخر جمادى الآخرة إلى خدمة السلطان، وفى صحبته الملك المنصور [محمد بن تقى الدين] (¬4)، فلقيه الملك الظاهر ولد السلطان إلى بيت نوبة، ودخل به على السلطان، فنهض إليه واعتنقه، وضمه إلى صدره، وغشيه البكاء، فصبّر نفسه حتى غلبه الأمر فبكى، وبكى الناس لبكائه ساعة، ثم باسطه، وسأله عن الطريق، وكان معه عسكر جميل، فقرت عين السلطان به، وأنزله في مقدمة عسكره. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن المرجع السابق. (¬2) بعد هذا اللفظ في س (127 ب): " وللملك المنصور البلاد الشامية التي كانت بيد والده ". (¬3) هذه الفقرة غير موجودة في س في هذا الموضع، وإنما وردت فقرة أخرى تؤدى معناها بعد كلمة " قلعة نجم " في السطر التالى، ونصها: " ثم إن السلطان استدعى بولده الملك الأفضل إلى عنده فاسترضاه، وقام له قائما عند لقياه، ووعده من البلاد بما هو خير مما أخذ منه من البلاد الشرقية، ثم خلع عليه خلعة سنية، وأسرفه إلى منزله، وقد طاب قلبه بما وعده ". (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن س.

وفى آخر ذى الحجة سنة سبع وثمانين وخمسمائة توفى علم الدين سليمان بن جندر وهو شيخ الدولة وكبيرها. وفى هذه السنة في ربيع الأول نازل عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى - صاحب الموصل - الجزيرة وبها ابن أخيه معز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى، وحاصرها، وكان السبب في ذلك سوء سيرة معز الدين وخروجه عن طاعة عمه عز الدين، ومساعدة أعدائه عليه، فإنه انتقل عنه (¬1) إلى الملوك المجاورين له ما يوحشهم منه، وبقى محاصرا لها إلى رجب من هذه السنة، ثم صالحه على قاعدة استقرت (¬2) بينهما، وتحالفا وخرج معز الدين إلى خدمة عمه عز الدين، واعتذر إليه بأعذار قبلها منه، ثم رحل عائدا إلى الموصل (¬3). ودخلت سنة ثمان (¬4) وثمانين وخمسمائة والسلطان مقيم بالقدس، مجتهد في عمارته. وفى ثالث المحرم منها رحل الفرنج إلى عسقلان، ونزلوا بظاهرها، وأظهروا الاجتهاد في عمارتها، ورأى ملك الأنكلتير دخانا على بعد فقصده، وكان ثمّ جماعة من الأسدية، وسيف الدين. . . كوج (¬5)، وعلم الدين قيصر، فوصل إليهم، وهم غارون [عمّا دهمهم، فوصل اللعين إليهم] (¬6) وقت المغرب، وكانوا قد نزلوا مفترقين في موضعين، فلما وقع على أحدهما ركب الفريق الأول وواقعه حتى ركب الفريق الآخر، فدافعوهم، وساقوا، وقد ربحوا الفرنج أثقالهم، وخلصوا ناجين، وسلم الله أنفسهم منهم، ولم يفقد من المسلمين إلأ أربعة، وكانت نوبة عظيمة، وقى الله شرها. ¬

(¬1) س: " عن عمه ". (¬2) الأصل: " استمرت "، والتصحيح عن س. (¬3) س: " إلى الجزيرة ". (¬4) الأصل: " ثمانية ". (¬5) الأصل: " باركوج " والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 196). (¬6) ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها إتمام المعنى، أضفناها عن المرجع المنقول عنه هنا، وهو العماد الأصفهانى (الروضتين، ج 2، ص 196).

ذكر مقتل المركيس صاحب صور - لعنه الله -

وفى حادى عشر المحرم من هذه السنة كبس الأمير عز الدين جرديك تبنى (¬1) على من نزل بها من الفرنج، فأوقع بهم البلاء، وساق منهم إثنى (¬2) عشر أسيرا، ومتاعا [396] كثيرا، وفى ثانى صفر أغار أيضا على ظاهر عسقلان، وجاء بثلاثين أسيرا (¬3). وفى الرابع عشر من صفر كمنت سرية - مقدمها الأمير فارس الدين ميمون القصرى - عند تبنى إلى أن عبرت قوافل الفرنج، فساقها بأحمالها وأثقالها ونسائها ورجالها. وفى مستهل ربيع الآخر من هذه السنة وصل الأمير سيف الدين المشطوب، وقد خلص من الأسر، وقطع الفرنج عليه خمسين ألف دينار، عجّل منها عشرين ألف دينار، وأعطاهم بالباقى رهائن، فأحسن السلطان ملقاه، وأقطعه نابلس وأعمالها، وكانت قبله خبز الأمير حسام الدين لاجين ابن أخت السلطان. ذكر مقتل المركيس صاحب صور - لعنه الله - كان الأسقف بصور أضافه، فأكل عنده وشرب، وكان رجلان من الباطنية قد دخلوا صور، وتنصروا وأظهروا الترهب والتعبد، وشكرهما الأقساء والرهبان، وأحبهما المركيس، ولم يكن يصبر عنهما، فلما خرج من دعوة ¬

(¬1) ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها بلدة بحوران من أعمال دمشق، أنظر أيضا: (Dussaud : Op,Cit, P. 334 - 335) و (الروضتين، ج 2، ص 196). (¬2) س (128 ب): " أربعة عشر "، وما هنا يتفق ونص العماد (المرجع السابق). (¬3) بعد هذا اللفظ في س: " من الفرنج، وكان السلطان كلما أتوه بأسير بعد أخذ عكا ضرب عنقه ".

الأسقف وثبا عليه بسكا كينهما فقتلاه، وهرب أحدهما ودخل الكنيسة، فقال المركيس - وهو مجروح -: «احملونى إلى الكنيسة»، فحملوه، فلما حمل إليها بصر به ذلك الجارح الهارب، فجرحه ثانيا، وعجّل الله بروحه إلى النار، وقبض على الجارحين، وبحث عنهما فوجدا من الفداوية الإسماعيلية، فسألوهما: " من أمركما بهذا الفعل؟ "، فقالا: " ملك الأنكلتير "، فقتلا شر قتلة، ولم يعجب السلطان قتل المركيس، لأنه كان قد أبدى عداوة الأنكلتير ومنازعته في الملك. ولما قتل المركيس جلس مكانه الكندهرى بأمر الأنكلتير، وتزوج زوجة المركيس في ليلته، ودخل بها وهى حامل، وليس هذا عندهم مانعا من صحة النكاح، ويكون الولد منسوبا إلى الملكة، وهذا الكندهرى ابن أخت ملك افرنسيس من أبيه، وابن أخت ملك الأنكلتير من أمه (¬1)، وجرى حكمه على افرنج الساحل، وعاش إلى سنة أربع وتسعين وخمسمائة. وفى التاسع من جمادى الأولى استولى الفرنج على قلعة الداروم، ثم خربوها ورحلوا عنها، وأسروا من فيها. وفى رابع عشره خرج يزك المسلمين على الفرنج بمجد ليابه (¬2)، وقتلوا [397] منهم كندا كبيرا، ثم نزلوا تل الصافية، ثم النطرون، ثم بيت نوبة، وألهبهم (¬3) المسلمون بالنهب والسلب، وسلطوا (¬4) عليهم، وكمنوا لهم تحت كل رابية. ¬

(¬1) الأصل: " من أمره "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 196) وس (129 أ). (¬2) الأصل: " بمجدل بابا " وقد صححت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها قرية قرب الرملة، فيها حصن محكم. (¬3) الأصل: " والتهم "، والتصحيح عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 197) وس. (¬4) الأصل: " وبسطوا "، والتصحيح عن المرجعين السابقين.

ذكر كبس الفرنج للعسكر المصرى

وفى أواخر الشهر التقى الجمعان على فرسخين من القدس بمكان يعرف بقلونية (¬1)، ثم رجع العدو ناكصا على عقبيه، والمسلمون في أثرهم، يكمنون (2) لهم، وينالون منهم (¬2)، وكان في اليزك بدر الدين [دلدرم] (¬3) الياروقى، فبعث من كمن لهم عند طريق يافا، فمرت به فوارس، فاستولى عليهم الكمين، وما سلم منهم أحد. ذكر كبس الفرنج للعسكر المصرى كان العسكر المصرى قد تجهز للمضى إلى خدمة السلطان، فكتب السلطان إليهم من القدس يأمرهم بالاحتراز عند مقاربة العدو، فأقاموا ببلبيس أياما حتى اجتمعت القوافل إليهم، واتصل خبرهم بالفرنج، ثم سار العسكر طالبا البلاد الشامية، والفرنج تترقب أخبارهم وتتوصل إليهم بالعرب المفسدين، ولما تحقق العدو خبر العسكر الواصل والقفل أمر عسكره بالانحياز إلى سفح الجبل، وركب في ألف راكب مردفين ألف راجل، فأتى تل الصافية، فبات بها ثم سار. وبلغ السلطان مسير العدو إلى طريق العسكر المصرى، فندب الأمير فخر الدين الطنبا العادلى، وشمس الدين أسلم (¬4) الناصرى، حتى يعلما العسكر، فالتقيا بهم بالحسى، وأخبراهم الخبر، ونزلوا وعرضوا وهم يظنون ¬

(¬1) الأصل: «علمونية»، والتصحيح عن: (ابن الأثير: الكامل، ج 12، ص 32) و (الروضتين، ج 2، ص 197)، وقد ذكر (ياقوت: معجم البلدان) مدينة بهذا الرسم، ولكنه قال، إنها بلد بالروم بينه وبين قسطنطينية ستون بريدا، وهذه غير تلك دون شك. (¬2) مكان هذه الفقرة في س: " يقتلون منهم ويأسرون ". (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين عن س (129 ب). (¬4) الأصل: " إسلام "، والتصحيح عن ابن شداد وس.

أن لا حسّ للعدو بأرض الحسى، فجاءهم العدو بغتة، وكان في جملة العسكر فلك الدين أخو الملك العادل لأمه، وطاف الأنكلتير حول القفل في صورة عربى، فرآهم ساكنين قد غلبهم النعاس، فاستركب عسكره، وكانت الكبسة قريب الصباح، فبغت (¬1) الناس، ووقع عليهم (¬2) بخيله ورجله، فكان الشجاع الأيد القوى الذى ركب فرسه ونجا بنفسه. وانقسم القفل ثلاثة أقسام: قسم قصدوا الكرك مع جماعة من العرب، وقسم أو غلوا في البرية مع جماعة من العرب، وقسم [398] استولى عليهم العدو، فساقهم بجمالهم وأحمالهم وجميع ما كان معهم. وكانت وقعة شنعاء لم يصب الإسلام مثلها من مدة مديدة، وتبدد الناس في البرية، ورموا أموالهم، وكان السعيد من نجا بنفسه، وجمع العدو ما أمكن جمعه من الخيل والجمال والأقمشة، وسائر صنوف الأموال؛ وكلف [الانكلتير] (¬3) الجمالين خدمة الجمال، والخربنديّة خدمة البغال، والساسة خدمة الخيل، ونجا غانما إلى عسكره. ونجا فلك الدين أخو الملك العادل في معظم العسكر بأنفسهم وما قدروا على حمايته، وكان عدة من وقع في أسر العدو من المسلمين خمسمائة، والجمال تناهز ثلاثة آلاف جمل، وكان وصول العدو إلى مخيمه سادس عشر جمادى الآخرة، وكان يوما عظيما عندهم. ¬

(¬1) الأصل: " فتعب " والتصحيح عن: (ابن شداد، السيرة، ص 209). (¬2) الأصل " منهم "، وس: " بهم "، والتصحيح عن المرجع السابق، وهو الأصل المنقول عنه هنا. (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين عن س.

ذكر قصد الفرنج حصار البيت المقدس وكفاية الله المسلمين شرهم

ذكر قصد الفرنج حصار البيت المقدس وكفاية الله المسلمين شرهم ولما جرى ما ذكرناه وقوى الفرنج بما حصل لهم من الغنيمة صحّ عزمهم على قصد القدس، فرتبوا (1) جماعة على لدّ يحفظون الطريق على من ينقل الميرة (¬1)، وأنفذوا الكندهرى إلى صور وأطرابلس وعكا يستحضر من فيها من المقاتلة، ليصعدوا إلى القدس (¬2)، ولما علم السلطان بقصدهم قسّم أسوار القدس على الأمراء، وتقدم إليهم في تهيئة أسباب الحصار، وأخذ في إفساد المياه ظاهر القدس، فأخرب الصهاريج والجباب بحيث لم يبق حول القدس ما يشرب أصلا. ولما كانت ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة أحضر السلطان الأمراء عنده، وحضر الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين، وسيف الدين المشطوب، والأسدية بأسرهم، وجماعة الأمراء. قال القاضى بهاء الدين بن شداد: " أمرنى السلطان أن أكلمهم وأحثهم على الجهاد، فذكرت ما يسر الله من ذلك، وكان مما قلته: إن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما اشتد به الأمر بايعه الصحابة - رضى الله عنهم - على الموت في لقاء العدو، ونحن أولى من تأسى به - صلى الله عليه وسلم -، والمصلحة الاجتماع عند الصخرة والتحالف ¬

(¬1) مكان هذه الفقرة في س: " فوتبوا جماعة الذى يقطعون الطريق على من ينقل الميرة " وما بالمتن هو الصحيح، فهو يتفق والأصل المنقول عنه وهو ابن شداد، أنظر (الروضتين، ج 2، ص 198). (¬2) الأصل: " إلى السلطان "، والتصحيح عن المرجع السابق وس (130 أ).

على الموت، فلعل ببركة هذه النية يندفع العدو، فاستحسن [الجماعة] (¬1) ذلك، ووافقوا [399] عليه. ثم شرع السلطان بعد أن سكت زمانا في صورة مفكر (¬2)، والناس سكوت كأن على رؤوسهم الطير، وقال: " الحمد لله، والصلاة على رسول الله، اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته (¬3)، وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم متعلقة في ذممكم (¬4)، وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من يلقاه ألا أنتم، فلو لويتم أعنتكم - والعياذ بالله - طوى البلاد طىّ السجل للكتاب، وكان ذلك في ذمتكم، فإنكم أنتم الذين تصديتم لهذا، وأكلتم [مال] (1) بيت مال المسلمين، فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم، والسلام ". فانتدب (¬5) لجوابه سيف الدين المشطوب، وقال: «يا مولاى: نحن مماليك وعبيدك، وأنت الذى أنعمت علينا، وكبّرتنا وعظمتنا وأعطيتنا وأغنيتنا، وليس لنا إلا رقابنا وهى بين يديك، والله ما يرجع أحد منا عن نصرتك إلى أن يموت ". فقال الجماعة مثل ما قال، وانبسطت نفس السلطان بذلك المجلس، وطاب قلبه، وأطعمهم، ثم انصرفوا. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن: (ابن شداد: السيرة، ص 212) (¬2) الأصل: " فكر "، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬3) الأصل: " وشيعته "، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬4) الأصل: " ذمتكم "، والتصحيح عن المرجع السابق، وهو الأصل المنقول عنه هنا. (¬5) الأصل: " فابتدر "، والتصحيح عن المرجع السابق.

ثم انقضى يوم الخميس (¬1) على أشد حال من التأهب والاهتمام حتى كان العشاء الآخرة، واجتمعنا في خدمته على العادة، وسهرنا حتى مضى هزيع (¬2) من الليل وهو غير منبسط على عادته، ثم صلينا العشاء، وكانت الصلوة هى الدستور العام، فصلينا وأخذنا في الانصراف. قال القاضى بهاء الدين: فاستدعانى - رحمه الله - وقال لى: " أعلمت ما الذى تجدّد "؟ قلت: " لا " قال: فإن أبا الهيجا نفّذ إلىّ اليوم، وقال: إنه اجتمع عندى المماليك والأمراء، وأنكروا علينا موافقتنا لك على الحصار والتأهب له، وقالوا لا مصلحة في ذلك [فإننا نخاف أن نحصر] (¬3) ويجرى علينا مثل ما جرى على أهل عكا، والرأى أنا نلقى مصاف، فإن قدّر الله أنا نهزمهم ملكنا بقية بلادهم، وإن تكن الأخرى سلم العسكر ومضى القدس، وقد انحفظت بلاد الإسلام وعساكرها مدة بغير (¬4) القدس. وكان - رحمه الله - عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، فشقت عليه هذه الرسالة. ¬

(¬1) الأصل: " الجمعة " والتصحيح عن: (ابن شداد: السيرة، ص 212) و (الروضتين، ج 2، ص 198) وس (130 ب). (¬2) الأصل: " ربع "، والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬3) الأصل: " بأننا نحصر "، والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 213)، والنص في س: " بمضى القدس ".

قال: وأقمت تلك الليلة في خدمته إلى الصباح، وهى من الليالى التي أحياها في سبيل الله. وكان [400] مما قالوه له في الرسالة: " إنك إن أردتنا نقيم فتكون معنا أو بعض أهلك حتى نجتمع عنده، وإلا فالأكراد (¬1) لا يدينون للأتراك، والأتراك لا يدينون للأكراد ". وانفصل الحال على أن يقيم من أهله الملك الأمجد مجد الدين - صاحب بعلبك - وكان - رحمه الله - يحدث نفسه بالمقام، تم امتنع من ذلك لما فيه من خطر على الإسلام، فلما قارب الصبح أشفقت عليه، وخاطبته في أن يستريج ساعة لعل العين تأخذ حظها من النوم، وانصرفت عنه إلى دارى، فما وصلت إلا والمؤذن قد أذن، فأخذت في أسباب الوضوء، فما فرغت إلا والصبح قد طلع، وكنت أصلى الصبح في غالب الأوقات عنده، فصرت إلى خدمته وهو يجدد الوضوء، فصلينا، ثم قلت له: " قد وقع لى واقع أعرضه ". فأذن فيه، فقلت: المولى في اهتمامه وما قد حمّل نفسه من هذا الأمر مجتهد فيما هو فيه، وقد عجزت أسبابه الأرضية، فينبغى أن يرجع إلى الله تعالى، وهذا يوم جمعة، وهو أبرك أيام الأسبوع، وفيه دعوة مستجابة في صحيح الأحاديث، ونحن في أبرك موضع نقدر أن نكون فيه (¬2) في يومنا هذا، فالسلطان يغتسل للجمعة ويتصدق بشئ خفية بحيث لا يشعر أنه منك، وتصلى بين الأذان والإقامة ركعتين تناجى فيهما ربك وتفوض مقاليد أمرك إليه، وتعترف بعجزك عما تصديت له، فلعل الله يرحمك ويستجيب دعاك ". ¬

(¬1) الأصل: " فأكراد "، والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬2) الأصل: " أن يكون في يومنا "، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 199) 7

وكان - رحمه الله - حسن العقيدة تام الإيمان، يتلقى الأمور الشرعية بأكمل انقياد وقبول، فلما كان وقت الجمعة صليت إلى جانبه في الأقصى، وصلى ركعتين، ورأيته ساجدا ودموعه تتقاطر على مصلاه - رحمه الله - ثم انقضت الجمعة بخير، ولما كان عشيتها ونحن في خدمته على العادة، فوصلت رقعة من عز الدين جرديك - وكان في اليزك - يقول فيها: " إن القوم ركبوا بأسرهم ووقفوا على ظهر في البر، ثم عادوا إلى خيامهم وقد سيرنا جواسيس تكشف أخبارهم ". ولما كان صبيحة السبت - وهو الحادى والعشرون من جمادى الآخرة - وصلت رقعة أخرى تخبر أن الجواسيس رجعوا فأخبروا أن القوم اختلفوا في الصعود إلى القدس أو الرحيل [401] إلى بلادهم، فذهب الفرنسيسية إلى الصعود إلى القدس وقالوا: " إنما جئنا من بلادنا بسبب القدس، ولا نرجع دونه ". وقال الانكلتير: " إن هذا الموضع قد أفسدت مياهه ولم يبق حوله ماء أصلا، فمن أين نشرب؟ " فقالوا له: " نشرب من ماء نقوع " (¬1) - وبينه وبين القدس مقدار فرسخ - فقال: " كيف نذهب إلى السقى؟ " ¬

(¬1) الأصل: " يقوع "، وما هنا عن: (ابن شداد: السيرة اليوسفية، 214)، و (الروضتين، ج 2، ص 199) ولم أجد لهذا النهر ذكرا عند ياقوت، وإنما أشار إلى قرية اسمها " نقوع " وقال إنها من قرى بيت المقدس، يضرب بجودة عسلها المثل.

ذكر ما جرى بين المسلمين والفرنج من المراسلة فى معنى الصلح

فقالوا: " ننقسم قسمين: قسم يذهب إلى السقى مع الدواب (¬1)، وقسم يبقى على البلد في المنزل (¬2)، ويكون الشرب في اليوم مرة واحدة " فقال الانكلتير: إذا يؤخذ العسكر البرانى الذى يذهب مع الدواب، ويخرج (¬3) عسكر البلد على الباقين، ويذهب دين النصرانية ". فانفصل الحال على أنهم حكّموا ثلاثمائة من أعيانهم، وحكّم الثلاثمائة اثنى عشر منهم، وحكّم الاثنا عشر ثلاثة منهم، وقد باتوا على حكم الثلاثة، فما يأمرونهم به يفعلونه ". فلما أصبحوا حكموا عليهم بالرحيل، فلم يمكنهم المخالفة، فأصبحوا في بكرة الحادى والعشرين من جمادى الآخرة راجعين إلى نحو الرملة، ناكصين على أعقابهم، ثم نزلوا الرملة، وتواتر الخبر بذلك إلى السلطان، فركب، وركب الناس معه، وكان يوم فرح وسرور. ذكر ما جرى بين المسلمين والفرنج من المراسلة في معنى الصلح ثم ورد رسول ملك الانكلتير إلى السلطان يقول: " قد أهلكنا نحن وأنتم، والأصلح نحقن الدماء، ولا ينبغى أن تعتقد أن ذلك عن ضعف منى، بل أريد المصلحة، ولا تغتر بتأخرى عن منزلى، فالكبش ¬

(¬1) عند هذا اللفظ تنتهى (ص 131 ب) من نسخة س ثم تنقطع الصلة بين النسختين بعد ذلك. (¬2) كذا في الأصل، وعند ابن شداد (الروضتين، ج 2، ص 199): " اليزك ". (¬3) الأصل: " ويذهب "، والتصحيح عن المرجع السابق.

يتأخر لينطح، ثم لا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم، ولا يجوز لى أن أهلك الفرنج كلهم، وهذا أبن أختى الكندهرى قد ملكته هذه الديار، وسلمته إليك يكون هو وعسكره بحكمك، ولو استدعيتهم إلى الشرق سمعوا وأطاعوا، وإن جماعة من الرهبان والمنقطعين قد طلبوا منك كنايس فما بخلت عليهم بها، وأنا أطلب منك كنيسة، وتلك الأمور التي كانت تضيق صدرك في المراسلة لما كانت المراسلة تجرى مع الملك العادل قلت بتركها وأعرضت عنها، ولو أعطيتنى قرية أو مزرعة (¬1) قبلتها وقبّلتها ". فاستشار السلطان الأمراء في جوابه، فأشاروا بالمحاسنة وعقد الصلح، لما كان قد أخذ المسلمين من الضجر والتعب، وعلاهم [402] من الديون، واستقر الحال على هذا الجواب: " إنك إذا دخلت معنا في هذا الأمر، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، وابن أختك يكون عندى كبعض أولادى، وسيبلغك ما أفعل في حقه من الخير، وأنا أعطيك أكبر الكنائس وهى القمامة، وبقية البلاد نقسمها، فالساحلية التي بيدك تكون بيدك، والتي بأيدينا من القلاع الجبلية تكون لنا، وما بين العملين يكون مناصفة، وعسقلان وما وراءها يكون خرابا لا لنا ولا لكم، وإن أردتم قراها كانت لكم، والذى كنت أكرهه حديث عسقلان ". فانفصل الرسول طيب القلب. ثم ورد رسوله: " أن يكون في القدس عشرون نفرا، وأن من سكن من النصارى والفرنج في البلد لا يتعرض لهم، وأما بقية البلاد فلنا منها الساحليات والوطأة، والبلاد الجبلية تكون لكم " ¬

(¬1) كذا في الأصل، وعند ابن شداد (المرجع السابق): " مقرعة أو قرية ".

وأخبر الرسول من عند نفسه مناصحة: أنهم قد نزلوا عن القدس ماعدا الزيارة، وإنما يقولون ذلك تصنعا، وأنهم راغبون في الصلح، وأن الانكلتير لابد له من الرواح إلى بلده. فأجابه السلطان: " بأن القدس ليس لكم فيه حديث سوى الزيارة ". فقال الرسول: " وليس على الزوار في القدس شئ يؤخذ منهم؟ ". فأجابه السلطان إلى ذلك، وقال له: " أما البلاد فعسقلان وما والاها وما وراءها فلابد من خرابه ". فقال الرسول: " إن الملك قد خسر في أسوارها مالا جزيلا ". فسأل سيف الدين المشطوب أن تجعل مزارعها وقراها له في مقابلة خسارته، فأجاب السلطان إلى ذلك، وشرط أن الداروم تخرب، ويكون بلدها مناصفة، وأما باقى البلاد فيكون لهم من يافا إلى صور بأعمالها، ومهما اختلفا في قرية كانت مناصفة. ثم جاء رسوله يقول: " الملك [يسألك و] (1) يخضع لك في أن تترك [له] (1) هذه الأماكن الثلاثة عامرة، وأىّ قدر لها عند ملكك وعظمتك؟ وما سبب إصراره عليها إلا أن الفرنج [لم] (¬1) يسمحوا بها، وهو قد ترك القدس بالكلية، لا يطلب أن يكون فيها رهبان ولا قسوس، إلا [في] القيامة وحدها، فتترك أنت له هذه [403] البلاد، ويكون ¬

(¬1) زيد ما بين الحاصرتين عن (ابن شداد، ص 218) و (الروضتين، ج 2، ص 200).

ذكر رحيل السلطان من القدس وأخده ربض يافا

الصلح عاما، فيكون لهم كل ما في أيديهم من الداروم إلى أنطاكية، ولكم ما في أيديكم، وينتظم الحال ونروح، وإن لم ينتظم الصلح فالفرنج ما يمكنونه من الرواح وما يمكنه مخالفتهم ". فأجابه السلطان: " بأن أنطاكية لنا معهم حديث [فيها] (¬1)، ورسلنا عندهم، وإن عادوا بما نريد أدخلناهم في الصلح، وإلا فلا، وأما البلاد التي سألها فلا يوافق المسلمون لى دفعها إليه، وإلا فلا قدر لها ". ثم جاء رسوله وقال: إن الملك قال: " لا يمكنا أن نخرب من عسقلان حجرا واحدا، ولا يسمع عنا في البلاد مثل ذلك، وأما البلاد فحدودها معروفة، ولا مناكرة فيها ". ذكر رحيل السلطان من القدس وأخده ربض يافا ثم بلغ السلطان في العاشر من رجب من هذه السنة - أعنى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة - أن الفرنج قد رحلوا طالبين بيروت، فبرز من القدس إلى منزلة يقال لها الجيب، (¬2) واتفق وصول الملك العادل من الشرق - كما ذكرنا - ¬

(¬1) زيد ما بين الحاصرتين عن (ابن شداد، ص 218) و (الروضتين، ج 2، ص 200). (¬2) الأصل: " الجنب " وقد صححت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث عرفها بقوله: حصنان يقال لهما: الجيب الفوقانى، والجيب التحتانى، بين بيت المقدس ونابلس من أعمال فلسطين، وهما متقاربان.

والملك الظاهر من حلب، ثم رحل السلطان من الجيب إلى بيت نوبا (¬1)، ثم رحل إلى الرملة، فنزل بها على تلال بين الرملة ولدّ، وركب جريدة حتى أتى (¬2) يازور وبيت جبرين (¬3) وأشرف على يافا، ثم نزل عليها من الغد (¬4)، فرتب في الميمنة ولده الملك الظاهر، وفى الميسرة أخاه الملك العادل، وركّب المنجنيقات، وزحف إلى البلد، فأرسل العدو رسولين: نصرانيا وافرنجيا، يطلبان الصلح، فطلب منهم قاعدة القدس وقطيعته، فأجابوا إلى ذلك، واشترطوا يوم السبت تاسع عشر رجب، فإن جاءتهم نجدة، وإلا تمت القاعدة على ما استقر، فأبى السلطان الانتظار، وأمر بالنقب، فحشى وأحرق، فوقع بعض البدنة، فوضع العدو أخشابا عظيمة خلف النقب، فالتهبت، فمنعت من الدخول في الثلمة، وقاتلوا إلى الليل، وأصبحوا فوقعت البدنة، فعلا غبار مع الدخان، فأظلم الأفق، وما تجاسر أحد على الولوج خوفا من اقتحام النار، فلما انكشفت الغبرة ظهرت أسنة قد نابت مناب (¬5) الأسوار، ورماح قد سدت الثلمة، ورأى الناس هو لا عظيما من صبر القوم وثباتهم. [404]. فلما رأى العدو ما قد نزل به طلب الأمان. ¬

(¬1) الأصل: " بيت توبة "، وقد صححت عن (ياقوت) حيث ذكر أنها بليدة من نواحى فلسطين. (¬2) الأصل: " إلى بيت يازور " والتصحيح عن (ابن شداد، ص 220) و (الروضتين، ج 2، ص 200). وذكر (ياقوت) أن " يازور " بليدة بسواحل الرملة من أعمال فلسطين. (¬3) الأصل: " بيت جن " والتصحيح عن ابن شداد، وفى ياقوت: بيت جبرين لغة في جبريل بليد بين بيت المقدس وغزة، وبينه وبين القدس مرحلتان، وبين غزة أقل من ذلك، وكانت فيه قلعة حصينة خربها صلاح الدين. (¬4) الأصل: " العدو "، والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 200). (¬5) الأصل: " بانت بباب "، والتصحيح عن (ابن شداد، ص 223) و (الروضتين، ج 2، ص 200).

فقال السلطان: الفارس بفارس والتركبلى (¬1) بمثله، والراجل براجل. فطلب الرسول من السلطان أن يبطل [القتال] (¬2) إلى أن يعود. فقال: " ما أقدر على منع المسلمين من هذا الأمر، ولكن أدخل إلى أصحابك فقل لهم ينحازون (¬3) إلى القلعة، ويتركون الناس يشتغلون بالبلد، فما بقى دونه مانع ". ففعلوا، وانحازوا (¬4) إلى قلعة يافا بعد أن قتل منهم جماعة. ودخل الناس البلد عنوة، ونهبوا منه أقمشة عظيمة، وغلالا كثيرة، وأثاثا وبقايا قماش مما نهب من القافلة المصرية. واستقرت القاعدة على الوجه الذى قرره السلطان. ووصل كتاب من صارم الدين قايماز النجمى - وكان في طريق الغور لحمايته من عسكر العدو الذى كان بعكا - يخبر فيه أن الانكلتير لما سمع خبر يافا أعرض عن قصد بيروت، وعاد إلى يافا، فاشتد عزم السلطان والأمراء على إخراج من في القلعة ليتسلمها. ¬

(¬1) هذا نص له أهمية كبرى، فهو يدل على أن جيش صلاح الدين عرف نظام فرق " التركبلى " بدليل النص على استبدال " التركبلى بمثله "، ولشرح هذا المصطلح راجع ما فات هنا، ص 149، هامش 1 (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين ليتضج يه المعنى عن الروضتين; ج 2، ص 201 (¬3) الأصل: " يتجارون "، والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 201). (¬4) الأصل: " وتجاروا " والتصحيح عن المرجع السابق.

ذكر وصول ملك الانكلتير إلى يافا واسترجاعه ربضها

ذكر وصول ملك الانكلتير إلى يافا واسترجاعه ربضها ووصل ملك الانكلتير بغتة، فما شعر المسلمون سحرا إلا وبوقاته [تنعق، فعلمنا بوصول النجدة، قد وصلت في البحر] (¬1). قال القاضى بهاء الدين: فسيّر معى السلطان عز الدين جرديك، وعلم الدين قيصر، ودرباس المهرانى، وشمس الدين عدل الخزانة، وقال: امض إلى الملك الظاهر، وقل له يقف ظاهر الباب القبلى، وتدخل أنت ومن تراه إلى القلعة، ويخرجون القوم ويستولون على ما فيها من الأموال والأسلحة، وتكتبها بخطك إلى الملك الظاهر، وهو ظاهر البلد يسيرها إلينا. قال: ففعلنا ودخلنا القلعة، وأمرنا الفرنج بالخروج، فأجابوا وتهيأوا، فقال جرديك: لا ينبغى أن يخرج منهم أحد حتى تخرج الناس من البلد خشية أن يتخطفوهم، فإنهم قد داخلهم الطمع في البلد، وأخذ يشتد في ضرب الناس وإخراجهم، وهم غير مضبوطين بعدة ولا محصورين في مكان، فكيف يمكن إخراجهم؛ فطال الأمر إلى أن علا النهار، وأنا ألومه وهو لا يرجع، والزمان يمضى، فلما رأيت الوقت يفوت، قلت له: إن النجدة قد وصلت والمصلحة المسارعة في إخراجهم، [405] فأجاب، وأخرجنا خمسة وأربعين نفرا بخيولهم ونسائهم، وسيرناهم، ثم اشتدت أنفس الباقين وحدثتهم أنفسهم ¬

(¬1) الأصل: " فما شعر المسلمون سحرا إلا وبوقاته تنعر في البحر " ولا معنى لها، وما هنا عن (ابن شداد، ص 224).

بالعصيان، وكانوا استقلوا المراكب التي جاءتهم، وظنوا أن لا نجدة لهم فيها، ولم يعلموا أن الانكلتير مع القوم، ورأوهم قد تأخروا عن النزول إلى أن تعالى النهار، فخافوا أن يمتنعوا فيؤخذوا ويقتلوا، فخرج من خرج. ثم بعد ذلك قويت النجدة حتى صاروا خمسة وثلاثين مركبا، فقويت نفوس الباقين في الحصن، وظهرت منهم أمارات العصيان ودلائله، فقلت لأصحابنا: خذوا حذركم، فقد تغيرت عزائم القوم، فما كان إلا ساعة بحيث صرنا خارج البلد، وإذا القوم قد حملوا من القلعة، وأخرجوا من كان في البلد من الأجناد، وازدحم الناس في الباب حتى كاد يتلف منهم جماعة، وبقى في بعض الكنائس جماعة من رعاع العسكر مثتغلين بما لا يجوز، فهجموا عليهم، وقتلوا وأسروا، وأمر السلطان الناس بالزحف، فزحفوا، وعاد الحصار كما كان، واضطرب العدو في القلعة واستبطئوا نزول النجدة إليهم، وخافوا خوفا عظيما، فأرسلوا بطريقهم والقسطلان (¬1) يعتذران مما جرى، ويسألان السلطان القاعدة الأولى. وكان سبب امتناع نزول النجدة أنهم رأوا البلد مشحونا ببيارق (¬2) المسلمين ورجالهم، فخافوا أن تكون القلعة قد أخذت، وكان البحر يمنع من سماع الصوت، وانضاف إلى ذلك كثرة الضجيج والتكبير والتهليل، فلما رأى من في القلعة شدة الزحف عليهم، وامتناع النجدة من النزول إليهم مع كثرتها، فإنها كانت قد بلغت نيفا وخمسين مركبا فيها خمسة عشر شانيا (¬3)، [علموا أن] (¬4) النجدة ظنوا أن القلعة قد أخذت، فوهب رجل من أهل ¬

(¬1) معرب اللفظ اللاتينى (Castellanus) ومعناه مستحفظ القلعة، ويقابله في الفرنسية. (Chatelain) أنظر تعليقات الدكتور محمد مصطفى زيادة (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 524، هامش 3). (¬2) البيرق معرب اللفظ الفارسى " بيراق "، ومعناها الراية والعلم واللواء راجع: (القس طوبيا العنيسى الحلبى: تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية مع ذكر أصلها، القاهرة 1932، ص 15). (¬3) راجع ما فات هنا، ص 13، هامش 1. (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ابن شداد، ص 226).

القلعة نفسه للمسيح، وقفز من (¬1) القلعة إلى الميناء، وكان رملا فلم يصبه شئ (¬2)، وعدّى إلى البحر، وحدّث الانكلتير بالحديث، فما كان إلا ساعة حتى نزل كل من في الشوانى إلى الميناء، وحملوا على المسلمين فأخرجوهم من الميناء، فقبض السلطان على الرسل، وأمر بتأخير الثقل والأسواق إلى يازور (¬3) فرحل الناس، [406] وتخلف لهم ثقل عظيم مما كانوا أخذوا من يافا. وخرج الانكلتير إلى موضع السلطان الذى كان فيه لمضايقة البلد، وأمر من في القلعة أن يخرجوا إليه فيعظم سواده، واستدعى جماعة من خواص مماليك السلطان والحاجب أبا بكر العادلى وغيره، فلما حضروا عنده باسطهم وقال: " هذا السلطان عظيم، وما في الأرض للإسلام ملك أكبر منه ولا أعظم، فكيف رحل عن المكان لمجرد وصولى؟ والله ما لبست لأمة (¬4) حربى ولا تأهبت لأمر، ولا في رجلى إلا زربول [البحر] (¬5) فكيف تأخر؟ " ¬

(¬1) الأصل: " مع "، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬2) الأصل: «شيئا» والتصحيح عن المرجع السابق. (¬3) الأصل: «باروز»، أنظر ما فات هنا ص 394، هامش 2 (¬4) اللأمة الدرع، وقيل السلاح، وقيل الدرع الحصينة، سميت لأمة لإحكامها وجودة حلقاتها، وقيل هى السلاح كله، ولأمة الحرب أداته، وجمعها لأم ولؤم، واستلأم الرجل لبس اللأمة، أي إذا لبس ما عنده من عدة رمح وبيضة ومغفر وسيف ونبل. أنظر: (اللسان) (¬5) أضيف ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 2، ص 202)، وزربول أو زربول - والجمع زرابيل -، ويقال: زربون - والجمع زرابين -، كلمة من أصل يونانى ومعناها نوع من الحذاء، وكانت تطلق في القسطنطينية على الحذاء الذى يلبسه العبيد، ويرى (DOZY) أن الكلمة مشتقة من، (servus) كما أن اللفظ الأسبانى (servilla) ويعنى نوعا من الحذاء مشتق من، (serva) لأن الخدم اعتادوا أن يلبسوا هذا النوع؛ ويبدو أن اللفظ انتقل من الدولة البيزنطية إلى بلاد الشام، واستعمله العرب في العصور الوسطى للدلالة على هذا النوع من الحذاء الذى يلبسه العبيد، فقد استعمل بهذا المعنى (وإنما برسم زربون) في كتاب " ألف ليلة وليلة ". وقد وصفه (DOZY) وصفا ينطبق على ذلك النوع من الحذاء المعروف في مصر إلى عهد قريب باسم (المركوب)، فهو حذاء أحمر اللون ذو طرف أمامى مدبب مرتفع إلى أعلى. وهو ذلك النوع الذى كان يلبسه المشايخ إلى عهد قريب. أنظر: (DOZY : Supp .Dict .Arab) ولعل هذا هذا الشرح يفسر لنا أيضا كلمة «زربون» التي كنا نطلقها أحيانا على العبد، فنقول له تحقيرا لشأنه: «عبد زربون»، ولاحظ أيضا أن التعبير في المتن هنا يدل على أن رتشارد كان يلبس نوعا من الحذاء أو الزربول خاصا بالبحر.

ثم قال: " والله إنه لعظيم، والله ما ظننته يأخذ يافا في شهرين، فكيف أخذها في يومين؟! " ثم قال لأبى بكر الحاجب: تسلم على السلطان، وتقول له: بالله عليك أجب سؤالى في الصلح، فهذا أمر لابد منه، ولابد لهذا الأمر من آخر، وقد هلكت بلادى وراء (¬1) البحر، وما دوام هذا مصلحة لا لنا ولا لكم ". فأرسل السلطان إليه في الجواب: " إنك [كنت] (2) طلبت [الصلح] (¬2) أولا على قاعدة، وكان الحديث في يافا وعسقلان، والآن فقد خربت هذه يافا، فيكون لكم من قيسارية إلى صور ". فأجابه الانكلتير: " إن قاعدة الفرنج أنه إذا أعطى واحد لواحد بلدا صار تبعه وغلامه، وأنا أطلب منك هذين البلدين: يافا وعسقلان، وتكون عساكرهما في خدمتك دائما، وإذا احتجت إلىّ وصلت إليك في أسرع وقت، وخدمتك كما تعلم خدمتى ". فأجابه السلطان: حيث دخلت هذا المدخل فنتفق على أن نجعل البلدين قسمين: أحدهما لك، وهو يافا وماوراءها، والثانى لى، هو عسقلان وماوراءها ". ¬

(¬1) الأصل: «وورائى»، والتصحيح عن الروضتين. (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين عن (الروضتين، ج 2، ص 202) ليستقيم المعنى

ثم رتّب السلطان اليزك بيازور، وأمر بخرابها وخراب بيت جبرين (¬1)، ورتّب النقابين لذلك، ثم سار إلى الرملة. وعاد رسول الانكلتير يشكر على إعطائه يافا، ويجدد السؤال في عسقلان، ويقول: " إن وقع الصلح في [هذه] (¬2) الأيام الستة سرت إلى بلادى، وإلا احتجت أن اشتى هنا ". فأجابه السلطان [في الحال] (¬3): " أما النزول عن عسقلان فلا سبيل إليه، وأما هاهنا تشتيته فلابد منها، لأنه قد استولى [407] على هذه البلاد، ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة، وإذا أقام أيضا إن شاء الله تعالى، وإذا سهل عليه أن يشتى ههنا، ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين، وهو شاب في عنفوان شبابه ووقت اقتناص لذاته، ما يسهل علىّ أن أشتى وأصيف وأنا في وسط بلادى، وعندى أهلى وأولادى، ويأتى إلى ما أريده ومن أريده، وأنا شيخ قد كرهت لذات الدنيا ورفضتها عنى، والعسكر الذى يكون عندى في الشتاء غير العسكر الذى يكون عندى في الصيف؟! وأنا اعتقد أنى في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى يعطى الله تعالى النصر لمن يشاء ". ثم جاء رسوله يقول له: " كم أطرح نفسى على السلطان وهو لا يقبلنى، وأنا كنت أحرص حتى أعود إلى بلادى، والآن فقد هجم الشتاء، وتغيرت الأنواء، [وعزمت على الإقامة] (¬4) وما بقى بيننا حديث. ¬

(¬1) الأصل والروضتين: «بيت حسن»، أنظر ما فات هنا ص 394، هامش 3 (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين عن (الروضتين، ج 2، ص 202) ليستقيم المعتى. (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين عن ابن شداد (الروضتين، ج 2، ص 202). (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين عن: (الروضتين، ج 2، ص 202).

ذكر عزم السلطان على كبس الانكلتير، وانصرافه عنه

ذكر عزم السلطان على كبس الانكلتير، وانصرافه عنه ثم بلغ السلطان أن الفرنج قد رحلوا من عكا قاصدين يافا، فسار إلى العوجا، فنزل بها، ثم بلغه أن العدو دخل قيسارية، ولم يبق فيه مطمع، وبلغه أن الانكلتير خارج يافا في نفر يسير، فوقع له أن يكبسه، فأتاه، فوجد خيمه عشر خيم، فحمل عليهم، فثبتوا ولم يتحركوا عن أماكنهم، وكشّروا عن ناب الحرب، فارتاع العسكر منهم، ووجموا من ثباتهم وداروا حولهم حلقة، وكانت عدة الخيل سبعة (¬1) عشر، وقيل تسعة، والرجالة ثلاثمائة، فوجد السلطان من ذلك موجدة عظيمة، ودار على الأطلاب يحثهم على الحملة، فلم يجب دعاءه أحد سوى ولده الملك الظاهر، وقال له الجناح أخو المشطوب: " قل لغلمانك الذى ضربوا الناس يوم فتح يافا وأخذوا منهم الغنيمة يحملون " وكان في قلب العسكر غيظ على السلطان، حيث فوّتهم الغنيمة، فلما رأى السلطان ذلك غضب، وأعرض عن القتال وسار إلى يازور (¬2). وذكر أن الانكلتير أخذ رمحه ذلك اليوم، وحمل من طرف الميمنة إلى طرف الميسرة، ولم يعرض له أحد. ثم سار السلطان إلى النطرون ثم إلى القدس، فنظر إلى العماير ورتّبها، ثم عاد إلى النطرون، وتوافت إليه العسكر، ووصل [408] علاء الدين بن عز الدين - صاحب الوصل -، ثم قدم عسكر مصر، وفيهم سيف الدين يازكوج (¬3) وجماعة الأسدية في خدمة ابنه الملك المؤيد مسعود. ¬

(¬1) الأصل: «سبع». (¬2) الأصل: «باروز»، أنظر ما فات هنا ص 394، هامش 2 (¬3) الأصل: «بالوج»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 202).

ذكر عقد الهدنة بين المسلمين والفرنج

ذكر عقد الهدنة بين المسلمين والفرنج ثم جمع السلطان عنده أرباب الرأى، وقال: " إن الانكلتير قد مرض مرضا شديدا، والافرنسيسية قد ساروا راجعين ليعبروا البحر من غير شك، ونفقاتهم قد قلت، والرأى أنا نسير إلى يافا، فإن وجدنا فيها مطمعا وإلا سرنا إلى عسقلان، فما تلحقها النجدة إلا وقد بلغنا منها غرضا ". فوافقوه على ذلك. فأرسل عز الدين جرديك وجمال الدين فرج سادس شعبان حتى يكونا قريبا من يافا، ورسل الأنكلتير مترددة إلى السلطان في طلب الفاكهة والثلج، وأوقع الله في مرضه شهوة الكمثرى والخوخ، فكان السلطان يمده بذلك، ويقصد كشف الأخبار بتواتر الرسل. ومما انكشف له أن الكندهرى يتردد بينه وبين الأفرنسيسية في مقامهم، وهم عازمون على [عبور] (¬1) البحر قولا واحدا، فسار السلطان إلى الرملة. وجاء رسول الانكلتير مع الحاجب أبى بكر العادلى يشكر السلطان على إسعافه بالفاكهة والثلج، وقال له: " قل لأخى الملك العادل يبصر كيف يتوصل إلى السلطان في معنى الصلح، ويستوهب لى منه عسقلان، وأمضى ويبقى هو هاهنا مع هذه الشرذمة اليسيرة، ويأخذ البلاد منهم، فليس غرضى إلا إقامة جاهى بين الإفرنجية، وإن لم ينزل السلطان عن عسقلان فيأخذ لى منه عوضا من خسارتى على عمارة سورها ". ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن ابن شداد: (الروضتين، ج 2، ص 203).

فأرسل السلطان إلى الملك العادل: " إن نزلوا عن عسقلان فصالحهم، فإن العسكر قد ضجر من ملازمة البيكار (¬1)، والنفقات قد نفدت ". ثم إن الانكلتير نزل عن عسقلان وعن العوض عنها، واستوثق منه على ذلك، فأحضر السلطان الديوان يوم السبت ثامن عشر شعبان، وذكر يافا وعملها - فأخرج الرملة منها ولدّ ومجدليابة (¬2) - ثم ذكر قيسارية وعملها، وأرسوف وعملها، وحيفا وعملها، وعكا [409] وعملها - وأخرج منها الناصرة وصفورية - وأثبت الجميع في ورقة، وقال للرسول: " هذه حدود البلاد التي تبقى في أيديكم، فإن صالحتم على ذلك فمبارك، وقد أعطيتكم يدى، فينفذ الملك من يحلف في بكرة غد، وإلا فيعلم أن هذا تدفيع ومماطلة ". وكان من القاعدة أن تكون عسقلان خرابا، ويتفق المسلمون وهم على خرابها، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية، واشترطوا هم دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في الصلح، وشرطوا أن تكون الرمله ولد مناصفة بينهم وبين المسلمين، واستقرت القاعدة على أنهم يحلفون يوم الأربعاء لثمان بقين من شعبان من هذه السنة - أعنى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة - وحلفوا، ولم يحلف الانكلتير، بل أخذوا يده وعاهدوه، واعتذر بأن الملوك لا يحلفون، وقنع السلطان بذلك (¬3) وحلف الكندهرى، وهو ابن أخته، وهو المستخلف عنه في الساحل، وباليان بن بارزان - ابن (¬4) صاحب طبرية -. ¬

(¬1) البيكار - وقد تجمع على بياكير - لفظ فارسى معناه الحرب. أنظر (Dozy : Supp. Dict. Ar) . (¬2) الأصل: «ومجدل بابا»، أنظر ما فات هنا ص 382، هامش 2 (¬3) النص عن ابن شداد: «وقنع من السلطان بمثل ذلك». (¬4) الأصل: «وابن» وقد حذفت الوار ليستقيم المعنى.

ووصل ابن الهنفرى وباليان إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين، وأخذوا يده على الصلح، واستحلفوا الملك العادل، والملك الأفضل، والملك الظاهر، والملك المنصور - صاحب حماة -، والملك المجاهد - صاحب حمص -، والملك الأمجد - صاحب بعلبك -، والأمير بدر الدين الياروقى، وصاحب تل باشر، والأمير سابق الدين عثمان بن الداية - صاحب شيزر -، والأمير سيف الدين المشطوب، وغيرهم من المقدمين الكبار؛ وعقدت هدنة عامة في البر والبحر، وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر، أولها [مبتدأ] (¬1) أيلول الموافق الحادى والعشرين من شعبان. ولما وقعت الهدنة قال أبو الحسن على بن الساعاتى يمدح السلطان الملك الناصر - رحمه الله - من قصيدة: منعت ظباء المنحنى بأسوده، ... وأشدّ ما أشكوه فتك (¬2) ظبائه فعلت بنا وهى الصديق لحاظها ... كظبى صلاح الدين في أعدائه (¬3) سل عنه قلب الانكتير، فإنّ في ... خفقانه ما شئت من أنبائه لولاك أمّ البيت غير مدافع ... وأسال سيل نداه (¬4) في بطحائه وبكت جفون (¬5) القدس ثانية دما، ... لترنّم الناقوس في أفنائه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن العماد: (الروضتين، ج 2، ص 203). (¬2) الأصل: «قتل»، وما هنا عن (ابن الساعاتى: الديوان، ج 1، ص 77) و (الروضتين، ج 2 ص 204). (¬3) ورد هذان البيتان فقط في ختام المقدمة الغزلية للقصيدة بالديوان، أما بقية الأبيات فقد وردت في الروضتين، ونقلها عنها ناشر الديوان في نهاية الجزء الثانى منه (ص 411). (¬4) الأصل: «ولسان سيل نداك»، والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬5) الأصل: «وجرت عيون القدس»، وما هنا عن الروضتين.

[410] ثم أمر السلطان أن ينادى في الوطاقات (¬1) والأسواق: " ألا وإن الصلح قد انتظم، فمن شاء من بلادهم يدخل بلادنا فليفعل، ومن شاء من بلادنا يدخل بلادهم فليفعل ". وكان يوم الصلح يوما مشهودا عمّ فيه للطائفتين الفرح والسرور، ولم يكن ذلك من إيثار السلطان. فحكى القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - قال: " قال لى السلطان في بعض محاوراته في الصلح: أخاف أن أصالح، وما أدرى أي شئ يكون منى، فيقوى هذا العدو، وقد بقيت لهم هذه البلاد، فيخرجون لاستعادة ما في أيدى المسلمين المأخوذة منهم، وترى كل واحد من هؤلاء الجماعة - يعنى أخاه وأولاده وأولاد أخيه - قد قعد في رأس قله (¬2) - يعنى قلعته -، وقال: " لا أنزل " (¬3) ويهلك المسلمون ". قال بهاء الدين: فكان كما قال، توفى - رحمه الله - عن قريب، واشتغل كل من أهل بيته وأولاده بناحية، ووقع الخلف بينهم، وأعرضوا عن النظر في المصلحة العامة للمسلمين، فلو قدر الله حياته لكان الغالب على الظن أن العدو لا يبقى له في البلاد الشامية ثغر ولا بلد، لكن الله تعالى إذا أراد أمرا قدّر أسبابه، وبالجملة فكان ¬

(¬1) الوطاق لفظ معرب، وأصله بالتركية: أوتاق أو أوطاق أو أوتاغ، ومعناه الخيمة أو مجموعة الخيام أو المعسكر. (¬2) الأصل: «قله»، والتصحيح عن ابن شداد: (الروضتين، ج 2، ص 204)، وفى اللسان: (قلة كل شى رأسه أو أعلاه، والقلة أعلا الجبل). (¬3) الأصل: «أو يهلك»، والتصحيح عن ابن شداد (المرجع السابق).

الصلح مصلحة، إذ لو قدر موته في أثناء تلك الحروب لكان الإسلام على خطر. ثم رحل السلطان إلى النطرون، واختلط (¬1) عسكر الفرنج بعسكر المسلمين، وذهب جماعة من المسلمين إلى يافا في طلب التجارة، ووصل خلق عظيم من الفرنج إلى القدس للحج، وفتح لهم السلطان الباب، ونفّد معهم الخفراء يحفظونهم حتى يردوهم إلى يافا، وكان غرض السلطان بذلك أن يقضوا وطرهم من الزيارة، ويرجعوا إلى بلادهم، فيأمن المسلمون شرهم. ولما علم الانكلتير كثرة من يزور منهم صعب عليه، وسيّر إلى السلطان يسأله منع الزوار، واقترح أن لا بإذن لأحد إلا بعد حضور علامة من جانبه أو كتابة، وعلم الفرنج ذلك فعظم عليهم واهتموا بالحج، فكان يرد كل يوم منهم جموع كثيرة مقدّمون وأوساط وملوك متنكرون. وشرع السلطان في إكرام من يرد، ومد الطعام لهم ومباسطتهم ومحادثتهم، وعرّفهم إنكار الملك ذلك، وأذن لهم السلطان في الحج، وعرفهم أنه لم يلتفت إلى منع الملك [411] من ذلك، واعتذر إلى الملك بأن قوما قد وصلوا من ذلك البعد، وتيسر لهم زيارة هذا المكان الشريف لا استحل منعهم. ثم اشتد المرض بالانكلتير، فرحل ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من شعبان، هو والكندهرى وسائر المقدمين إلى ناحية عكا، ولم يبق في يافا إلا مريض أو عاجز، ونفر يسير. ¬

(¬1) الأصل: «واحتاط» والتصحيح عن ابن شداد (المرجع السابق).

ذكر رحيل السلطان إلى القدس ونظره فى مصالحه

ذكر رحيل السلطان إلى القدس ونظره في مصالحه ثم رحل السلطان إلى القدس في رابع شهر رمضان، وتفقد أحواله، وعرض رجاله، واشتغل بتشييد أسواره وتحصينها، وتعمير خنادقه، وزاد في وقف المدرسة المعروفة، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بصند حنه (¬1) يذكرون أن فيها قبر حنة أم مريم - عليها السلام -، ثم صارت في الإسلام دار علم قبل أن يملك الفرنج القدس، وكان يدرس بها العلم الفقيه نصر بن إبراهيم المقدسى قبيل أخذ الفرنج للقدس، ثم لما ملك الفرنج القدس سنة اثنين وتسعين وأربعمائة أعادوها كنيسة كما كانت قبل الإسلام، فلما فتح السلطان القدس أعادها مدرسة، ووقف عليها وقوفا جليلة، وفوض تدريسها ووقفها إلى القاضى بهاء الدين بن شداد، وترلاها جماعة من الفقهاء، منهم: فخر الدين بن عساكر؛ وتولاها والدى - رحمه الله - من جهة الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل، وأقمنا بها من سنة اثنين وعشرين وستمائة (¬2). ¬

(¬1) هذا تحريف عن التسمية الفرنسية (Sainte Anne) أي القديسة حنه، وقد ذكر (كرد على: خطط الشام، ج 6، ص 122 - 123) أن هذه المدرسة كانت تعرف بالمدرسة الصلاحية، فقد وقفها صلاح الدين على الفقهاء الشافعية، وأرخ لها بقوله إن صلاح الدين كان نازلا في كنيسة صهيون ففاوض جلساءه من العلماء الأكابر في أن يبنى مدرسة للفقهاء الشافعية ورباطا للصلحاء الصوفية، فعين للمدرسة الكنيسة المعروفة «بصندحنة» عند باب أسباط،. . . . . . وقيل كان موضع هذه المدرسة ديرا للراهبات أقيم في مكان بيت القديسين: يواكيم وحنة، فهدمه الملك وأقام المدرسة مكانه، وتاريخ وقفها سنة 588، وكان الأتراك نزلوا عن هذه المدرسة للآباء البيض في القرن الماضى، فجعلوها مدرسة أكليركية، وفى الحرب العامة أخذها الترك وجعلوها مدرسة للعلوم الدينية، فلما سقط القدس في أيدى الحلفاء رجعت إلى المسيحيين كنيسة. (¬2) هذه إشارة لها قيمتها عند التاريخ للمؤلف جمال الدين بن واصل ووالده سالم، فقد عين المعظم الوالد سالما مدرسا بالمدرسة الصلاحية بالقدس سنة 622، وظل ابنه جمال الدين مقيما معه بالقدس إلى سنة 624، وفى تلك السنة سافر الوالد لأداء فريضة الحج، فناب ابنه عنه في التدريس بنفس المدرسة إلى قبيل رمضان سنة 625 هـ‍. وسيشير المؤلف إلى هذا كله فيما يلى من صفحات هذا الكتاب انظر أيضا يحثنا الذى لم يطبع بعد عن (جمال الدين بن واصل وكتابه مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب).

ذكر عزم السلطان على الحج ثم انتقاض عزمه

ورتب السلطان أيضا موضعا ملاصقا للأقصى خانقاه للصوفية، وقف عليها وقوفا جليلة، وجعل الكنيسة التي في شارع قمامة بيمارستان (¬1) للمرضى، ونقل إليه جميع ما يحتاج إليه، وفوّض ولاية القدس إلى عز الدين جرديك النورى، وفوّض القضاء والأوقاف إلى القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمهم الله -. ذكر عزم السلطان على الحج ثم انتقاض عزمه ولما وقعت الهدنة صمم السلطان على الحج، وأمر أن يسير مائة نقّاب لتخريب عسقلان وإخراج من بها من الفرنج ليتفرغ سره من جانبها، ويحج في عامه [412] وكتب إلى مصر وإلى أخيه سيف الإسلام - صاحب اليمن - ما عزم عليه، وأمر أن يحمل له في المراكب كل ما يحتاج إليه من الأزواد والنفقات والخلع والكسوة، ثم فند السلطان في عزمه، وقال له أصحابه: لا يمكن الحج إلا بعد أمر يكتب إلى الخليفة، وتعرفه ذلك، حتى لا يظن بك أمرا أنت عنه برىء، والوقت قد ضاق، وهذه البلاد والمعاقل ربما يخاف عليها عند غيبتك من غائلة العدو، ولا تغتر بالهدنة، فإن القوم دأبهم الغدر وإذا وجدوا مكنة فعلوا. فانحل عزمه عن ذلك وافتر عنه. ذكر مسير السلطان إلى دمشق ووصوله إليها ثم رحل السلطان من القدس لخمس مضين من شوال، وهو يوم الخميس، ووصل يوم الجمعة إلى نابلس، فنزل بظاهرها، وبها صاحبها الأمير سيف الدين على ¬

(¬1) قال ابن شداد (السيرة اليوسفية، ص 242): «. . . وأمرنى بالمقام في القدس الشريف لعمارة بيمارستان أنشأه فيه، إدارة المدرسة التي أنشأها فيه إلى حين عوده»، أنظر أيضا: (الروضتين، ج 2، ص 208).

ابن أحمد الشطوب، فشكاء أهلها إلى السلطان، فأزال شكواهم، وأمره بالإحسان إليهم والعدل فيهم، ثم رحل عنها ظهر يوم السبت سابع شوال، ووصل إلى بيسان يوم الاثنين تاسع شوال، وصعد قلعتها، وقال: " الصواب أن نبنى هذه ونخرب كوكب. ثم وصل إلى كوكب وبات بقلعتها، ورحل منها يوم الثلاثاء عاشر شوال، ونزل بطبرية، ولقى بهاء الدين قراقوش، وقد خلص من الأسر، وخلص السلطان بقية أصحابه، ومضى مع السلطان إلى دمشق، وسافر قراقوش من دمشق إلى الديار المصرية، وأقام السلطان يومين لتوالى الأمطار، ثم رحل يوم الخميس ثانى عشر شوال إلى صفد، فرتب أمورها، ثم سار إلى تبنين، ثم وصل إلى بيروت يوم الخميس تاسع عشر شوال، وبها الأمير عز الدين أسامة. ووصل إلى خدمته بيمند - صاحب أنطاكية - يوم السبت الحادى والعشرين من شوال، فأكرمه السلطان وآنسه، ورفع مجلسه، وأجرى له ولأصحابه العطاء، وأقطعه من مناصفات أنطاكية ما مبلغه عشرون ألف دينار، وفارقه غد ذلك اليوم. ثم سار السلطان إلى دمشق فوصلها يوم الأربعاء لخمس بقين من شوال، وفرح الناس به، لأن غيبته كانت قد [413] طالت عنهم مدة أربع سنين، وأفاض العدل والإحسان بدمشق، وواظب الجلوس في دار العدل في الأوقات التي جرت العادة بالجلوس فيها. وفى يوم الأحد مستهل ذى القعدة اتخذ الملك الأفضل لأخيه الملك الظاهر دعوة، وبالغ فيها في التجمل، وحضرها السلطان جبرا لقلبه، وحضرها جميع الأمراء والأكابر. وأذن السلطان للعساكر في التفرق إلى بلادهم، فتفرقوا، وكان الملك الظاهر - صاحب حلب - قد فارق أباه بالقدس، ووصل إلى دمشق لما بلغته حركة أبيه

إلى دمشق، وأقام بها حتى فاز بالنظر إليه ثانيا، وكأن نفسه حدثنه بدنو أجل والده - رحمه الله -، ثم لما حضر دعوة أخيه ودّع أباه وداعا لم يكن بعده لقاء، ورحل إلى حلب، وبقى عند السلطان بدمشق ولده الملك الأفضل نور الدين وجماعة من أولاده، والقاضى الفاضل. وكان القاضى بهاء الدين بن شداد قد أمره السلطان بمقامه في القدس إلى حين عوده، لأن السلطان كان عزمه أن يعود إلى القدس، ثم يتوجه منه إلى الديار المصرية، لأن عهده كان قد بعد عنها. وكان الملك العادل قد استأذن السلطان في القدس في أخر رمضان بأن يمضى إلى الكرك - وهى حصنه ومستقره - ليتفقدها، فأذن له في ذلك، فمضى إليها وأصلح ما قصد إصلاحه، ثم رحل منها طالبا للبلاد الشرقية التي أعطاه السلطان إياها، فوصل إلى دمشق سابع عشر ذى القعدة، وخرج السلطان إلى لقائه، وأقام يتصيد حول غباغب إلى الكسوة حتى لقيه، وسارا جميعا يتصيدان، ثم دخلا دمشق في الحادى والعشرين من ذى القعدة. وفى يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من هذه السنة توفى الأمير سيف الدين على بن أحمد المشطوب (¬1) - رحمه الله - بنابلس، وكانت إقطاعه بعد حسام (¬2) الدين لاجين ابن أخت السلطان، فوقف السلطان بعده ¬

(¬1) سمى هكذا لشطبة كانت في وجهه من أثر طعنة في غزاة حضرها، هكذا ذكر العماد الأصفهانى وقال: وله مواقف في الجهاد كثيرة معهودة، ومقامات مشهورة مشهودة؛ وقد كان ابن المشطوب ركنا من الأركان التي قامت عليها دولة بنى أيوب منذ نشأتها، فهو كردى، وهو هكارى، أي أنه ينتمى إلى نفس القبيلة التي ينتمى إليها أسد الدين شير كوه وصلاح الدين، وقد صحب أسد الدين في الحملات الثلاث على مصر، ثم لازم صلاح الدين إلى وقت وفاته، وكانت له معه مواقف مشهودة أثناء نضاله ضد الصليبيين. أنظر: (الروضتين، ج 2، ص 209)، وسيكون لابنه أحمد بن على مواقف أخرى مع خلفاء صلاح الدين من ملوك البيت الأيوبى، سترد الإشارة إليها فيما يلى. (¬2) الأصل: «لحسام»، وقد صححت ليستقيم المعنى.

ثلث نابلس على مصالح القدس وأقطع الباقى للأمير عماد الدين أحمد بن سيف الدين المشطوب وأميرين معه. وفى شعبان من هذه السنة توفى السلطان [414] عز الدين قلج أرسلان ابن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قطلمش بن أرسلان بيغو بن سلجوق - سلطان الروم -، وكان له عشرة بنين، قد ولى كل واحد منهم قطرا، وأكبرهم قطب الدين ملك شاه، وكانت له سيواس، فاتّبع هواه، وسوّلت له نفسه القبض على والده وبقية إخوته، وأن ينفرد بالسلطنة، وساعده على ذلك صاحب أرزنكان، فبعث صاحب أرزنكان إلى السلطان عز الدين يطلب منه وزيره اختيار الدين حسين بن عفراس ليتفق معه على مصلحة فيما بين عز الدين وأولاده، وذلك باتفاق في الباطن بين قطب الدين ملكشاه وبين صاحب أرزنكان، فظن عز الدين أن الأمر على ما أظهره صاحب أرزنكان، فبعث وزيره اختيار الدين، فلما وصل إلى صاحب أرزنكان أوقع عليه صاحب أرزنكان التركمان، فقتلوه شر قتلة، ومثّلوا به وبولده أقبح مثلة. ثم سار قطب الدين ملكشاه إلى والده عز الدين فكسره وهجم عليه في مدينة قونية، وقبض على والده واستقل بالسلطنة، وقال لوالده: " أنا بين يديك، أشفق عليك، وأنفذ أمرك ". ثم إنه قتل جماعة من أمراء أبيه، وأنشأ له أمراء اختارهم، وبقى أبوه معه كالمعتقل ليس له أمر ولا نهى ولا تصرف، ثم إنه أشهد على والده أنه قد جعله ولى عهده، وأبقى الخطبة والسكة باسم أبيه، والملك في الظاهر لابنه، وفى الحقيقة ليس لأبيه إلا مجرد الاسم. ثم ملك أقصرا، ثم مضى إلى حرب أخيه نور الدين سلطان شاه - صاحب قيسارية - ووالده في القبضة معه، وهو يظهر أن ما يفعله إنما هو بأمر والده فحضر نور الدين بقيسارية، فخرج عسكر قيسارية لحرب قطب الدين.

واغتنم السلطان عز الدين فرصة، فخرج من صف ابنه قطب الدين هاربا، ودخل إلى قيسارية، واجتمع بولده نور الدين سلطان شاه، فأكرم أباه وعظّمه، ورجع قطب الدين إلى قونية، وهى دار الملك، فأقام بها يخطب بالسلطنة لنفسه. وبقى السلطان قلج أرسلان يتردد في بلاده بين أولاده من ولد إلى ولد، ومن بلد إلى بلد، وكلما ضجر منه واحد منهم [415] ينتقل إلى آخر، حتى حصل عند ولده غياث الدين كيخسرو - صاحب برغلوا - فقوّى أباه، وأعطاه، وجمع له وحشد، وجاء معه إلى قونية، ودخلها وملكها ومضى به إلى أقصرا محاصرا لها، فامتنعت عليه، فجمع الأوجية (كذا؟) الأجناد، فاتفق أن السلطان عز الدين مرض ومات في التاريخ المذكور، فتركه ولده غياث الدين كيخسرو في محفة، وكتم أمره، وأظهر أنه منتقل لأجل المرض، ومضى يمشى قدام المحفة ليوهم الناس حياته، حتى أتى به قونية، فدخلها واستقل بقلعتها، واستحلف الأمراء والأعيان، ثم أظهر وفاة أبيه، وأنه ولى عهده، وقوى على أخيه قطب الدين ملكشاه، ثم أنه تغلب على غياث الدين كيخسرو، وأخيه ركن الدين سليمان، وأخذ منه قونية، وهرب غياث الدين إلى الشام مستجيرا بالملك الظاهر - صاحب حلب -. ثم مات ركن الدين سنة ستمائة، وملك ولده قلج أرسلان، فرجع غياث الدين إلى البلاد كلها، واستقرت السلطنة ببلاد الروم للسلطان غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود. ثم توفى غياث الدين كيخسرو، وملك بعده ابنه عز الدين كيكاوس ابن كيخسرو، وسنذكر قصده لبلاد بنى أيوب وكسر السلطان الملك الأشرف ابن الملك العادل له.

ثم توفى كيكاوس، فولى أخوه السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسروا، وهو الذى أدركنا زمانه، وسنذكر بعض أخباره مع بنى أيوب، وتوفى علاء الدين سنة أربع وثلاثين وستمائة، وولى بعده غياث الدين كيخسروا بن كيقباد وكسره التتر كسرة عظيمة سنة إحدى وأربعين وستمائة (¬1)، وتضعضع من حينئذ ملك السلاطين السلجوقية ببلاد الروم. ثم مات غياث الدين، وخلفّ صبيين: أحدهما ركن الدين، و [الآخر] عز الدين، فملكا معا مديدة، ثم انفرد ركن الدين بالسلطنة، وهرب أخوه عز الدين كيكاوس إلى قسطنطينية، واستجار بملكها، وتغلب على ركن الدين معين الدين البرواناه والبلاد في الحقيقة للتتر، وخراج البلاد يحمل إليهم، ثم قتل معين الدين ركن الدين، وأبقى إبنا (¬2) لركن الدين يخطب له بالسلطنة، والحكم [416] للبرواناه وهو نائب التتر بالبلاد، والأمر على ذلك إلى اليوم. وكان السلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - قد بعث رسوله للقاضى شمس الدين محمد بن محمد بن موسى - المعروف بابن الفراش - رسولا إلى السلطان عز الدين بن قلج أرسلان وأولاده للإصلاح بينهم، فتردد إليهم مرارا أكثر من سنة، ولما عاد إلى ملطية توفى بها في شهر ربيع الأول من هذه السنة. ودخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة والملك الناصر مقيم بدمشق على أكمل ما يكون من المسرة، ورسل الأمصار واردون إلى بابه، وهو يجلس كل يوم لإسداء المكارم وكشف المظالم، ثم برز إلى الصيد من شرقى دمشق بزاد خمسة ¬

(¬1) لهذا النص أهميته، فهو يدل على أن المؤلف كان يكتب هذا القسم من كتابه بعد سنة 641 هـ‍. (¬2) هذا الابن هو غياث الدين كيخسرو الثالث، ولى الحكم سنة 663 هـ‍، وعمره ستان ونصف، فهذا النص يدل على أن ابن واصل كان يكتب هذا الجزء من كتابه بعد سنة 663 هـ‍، راجع: (زامباور: معجم الأنساب. . . الخ. الترجمة العربية، ص 218).

عشر يوما، وصحبته أخوه الملك العادل، وأبعد في البرية، ثم عاد إلى دمشق وودّعه الملك العادل وداعا لالقاء بعده؛ فمضى إلى الكرك وأقام به إلى أن بلغته وفاة السلطان - رحمه الله -. قال القاضى بهاء الدين ابن شداد: وخرجت من القدس يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم؛ وكان وصولى إلى دمشق ثانى عشر صفر؛ وكان الملك الأفضل حاضرا في الإيوان الشمالى، وفى خدمته خلق من الأمراء وأرباب المناصب ينتظرون جلوس السلطان؛ فلما شعر السلطان بحضورى استحضرنى وهو وحده قبل أن يدخل إليه أحد؛ فدخلت عليه - رحمه الله - فقام ولقينى ملقى ما رأيت أشدّ من بشره فيه؛ ولقد ضمنى إليه ودمعت عيناه. وفى ثالث عشر صفر طلبنى فحضرت، فسألنى عن من هو في الإيوان، فأخبرته أن الملك الأفضل جالس في الخدمة، والأمراء والناس في خدمته، فاعتذر إليهم على لسان جمال الدولة إقبال. ثم استحضرنى يوم الخميس رابع عشر صفر، وهو في صفّة (¬1) البستان وعنده أولاده الصغار، فسأل عن الحاضرين فقيل: رسول الفرنج وجماعة من الأمراء الأكابر، فاستحضر الفرنج إلى ذلك المكان فحضروا، وكان له ولد صغير يسمى أبا بكر، وكان كثير الميل إليه، وكان حاضرا وهو - رحمه الله - يداعبه، فلما وقع بصره على الفرنج ورأى أشكالهم [417] خاف منهم وبكى، فاعتذر السلطان إلى الفرنج وصرفهم بعد أن حضروا، ولم يسمع كلامهم، وقال لى: " أكلت اليوم شيئا؟ "، وكانت عادته - رحمه الله - هذه المباسطة، ثم قال: " أحضروا لنا ما تيسّر "، فأحضروا أرزا بلبن، وما أشبهه من الأطعمة الخفيفة، ¬

(¬1) لشرح هذا اللفظ راجع: (مفرج الكروب، ج 1، ص 262، هامش 4).

فأكل - رحمه الله - وكنت أظن بأنه ليس عنده شهوة؛ وكان في هذه الأيام يعتذر للناس بثقل الحركة عليه، وكان بدنه ممتلئا وعنده تكسل، فلما فرغنا من الطعام قال: ما الذى عندك من خبر الحاج؟ فقلت: " اجتمعت بجماعة منهم في الطريق، ولولا كثرة الوحل لدخلوا اليوم ". فقال: " نخرج إن شاء الله إلى لقائهم ". وأمر بتنظيف طريقهم من المياه، فإنها كانت سنة كثيرة الأنداء؛ وقد سالت المياه في الطرق كالأنهار. وانفصلت من خدمته ولم أجد عنده من النشاط ما كنت أعرفه منه. ثم بكّر في يوم الجمعة خامس عشر صفر فركب؛ ثم لحقته وقد لقى الحاج، ولم أجد عليه كزاغندا (¬1) وما كان له عادة أن يركب بدونه، وكان يوما عظيما قد اجتمع فيه للقاء الحاج والتفرج على السلطان معظم من في البلد، فأذكرته ذلك فكأنه استيقظ، فطلب الكزاغند فلم توجد، فأوقع الله في قلبى تطيرا بذلك، ولما لقى السلطان الحاج استعبرت عيناه كيف فاته الحاج، وسألهم عن أحوال مكة وأميرها، وحال الخصب بها، وكم وصلهم من غلات مصر وصدقاتها، والفقراء المجاورين له ورواتبهم وإدراراتهم، وسرّ بسلامة الحاج. ¬

(¬1) أنظر ما فات هنا ص 44، هامش 5.

ذكر وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبى المظفر يوسف بن أيوب - رحمه الله تعالى -

ووصل من اليمن ولد أخيه سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب، فتلقاه بالإكرام؛ قلت: أظنه هو الملك المعز إسماعيل بن سيف الإسلام، فإن أباه أخرجه من عنده مرتين خوفا على نفسه منه، وسنذكر أخباره في موضعه اللائق به إن شاء الله تعالى. ثم سار السلطان بين البساتين يطلب جهة المنيبع حتى أتى القلعة، فعبر على الجسر إليها، وكانت هذه آخر ركباته - رحمه الله -. ذكر وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبى المظفر يوسف بن أيوب - رحمه الله تعالى - ولما دخل السلطان إلى القلعة بعد لقاء الحاج وجد ليلة السبت سادس عشر صفر كسلا عظيما، فما [418] انتصف الليل حتى غثيته حمى صفراوية وكان ما في باطنه منها أكثر مما في ظاهره، وأصبح يوم السبت وعليه أثر الحمى، ولم يظهر للناس ذلك. قال القاضى بهاء الدين: فحضرت عنده أنا والقاضى الفاضل، ودخل ولده الملك الأفضل، وطال جلوسنا عنده، وأخذ يشكو من قلقه بالليل، وطاب له الحديث إلى قريب الظهر، ثم انصرفنا والقلوب عنده، فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة ولده الملك الأفضل، ولم يكن للقاضى الفاضل عادة بذلك، فانصرف (¬1)، ودخلت الإيوان القبلى وقد مدّ الطعام، والملك الأفضل قد جلس في موضعه، فانصرفت، وما كان لى قوة على الجلوس ¬

(¬1) الأصل: «فانصرفت» والتصحيح عن ابن شداد.

استيحاشا، وبكى في ذلك اليوم جميع من حضر، وتفاولنا بجلوس ولده في موضعه؛ ثم أخذ المرض يتزايد من حينه، ونحن نلازم التردد في طرفى النهار، وأدخل أنا والقاضى الفاضل في النهار مرارا، ونعطى (¬1) الطريق في بعض الأيام التي يجد فيها خفة. وكان مرضه في رأسه، ورأى الأطباء فصده ففصدوه في الرابع، فاشتد مرضه، وقلّت رطوبات بدنه، وتزايد به المرض إلى أن انتهى إلى غاية الضعف، ولقد أجلسناه في السادس من مرضه، وأسندنا ظهره إلى مخدة، وأحضرنا ماء فاترا ليشر به عقيب شراب يلين الطبع، فوجده شديد الحرارة، فشكا (¬2) من شدة حرّه، فغيّر وعرض عليه ثانيا، فشكا (2) من برده، ولم يغضب، ولم يقل سوى هذه الكلمات: " سبحان الله، لا يمكن أحد تعديل الماء؟ " فخرجت أنا والقاضى الفاضل من عنده وقد اشتد بنا البكاء، والقاضى الفاضل يقول: " أبصر هذه الأخلاق التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها؛ والله لو أن هذا بعض آحاد الناس كان قد ضرب بالقدح رأس من أحضره ". واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن، ولم يزل متزايدا (¬3) ويغيب ذهنه، ولما كان التاسع حدثت به رعثة، وامتنع من تناول المشروب، واشتد الإرجاف في البلد، ونقلوا الأقمشة من الأسواق، وغشى الناس من البكاء والحزن مالا يمكن حكايته. ¬

(¬1) الأصل، «ونعطا». (¬2) الأصل: «فشكى». (¬3) الأصل: «متزايد».

ولقد كنت أنا والقاضى الفاضل نقعد كل ليلة إلى أن يمضى من الليل ثلث أو قريب [419] منه، ثم نحضر في باب الدار، فإن وجدنا طريقا دخلنا وشاهدناه، وإلا انصرفنا، وكنا نجد الناس يرتقبون خروجنا إلى بيوتنا حتى يعرفوا أحواله من صفحات وجوهنا. ولما كان اليوم العاشر من مرضه حقن دفعتين، وحصل له من الحقنة راحة، وحصل بعض الخفة، وتناول من ماء الشعير مقدارا جيدا صالحا، وفرح الناس فرحا شديدا، فأقمنا على العادة إلى أن مضى من الليل هزيع، ثم أتينا باب الدار فوجدنا جمال الدولة إقبالا، فالتمسنا منه تعريف الحال المتجدد، فدخل ثم أنفذ إلينا مع الملك المعظم توران شاه - ولد السلطان - يقول: " إن العرق قد أخذ في ساقيه "، فشكرنا الله تعالى على ذلك، وانصرفنا طيبة قلوبنا، ثم أصبحنا فأخبرنا أن العرق قد أفرط حتى نفذ من الفراش، وتأثرت به الأرض، وأن اليبس قد تزايد تزايدا عظيما، وخارت القوة، واستشعر الأطباء. ولما رأى الملك الأفضل ما حلّ بوالده (¬1) وتحقق اليأس منه شرع في تحليف الناس، وجلس في دار رضوان المعروفة بسكناه، واستحضر القضاة، وعمل له نسخة يمين (¬2) مختصرة محصلة للمقاصد (¬3)، تتضمن الحلف للسلطان مدة حياته، وله بعد وفاته، واعتذر إلى الناس بأن المرض قد اشتد، وما يعلم ما يكون. وكان ممن حلف من أعيان الأمراء: سعد الدين مسعود أخو بدر الدين مودود الشحنة، (¬4) وناصر الدين منكورس بن ناصر الدين خمارتكين - صاحب صهيون - ¬

(¬1) الأصل: «بولده». (¬2) الأصل: «نسختين مختصرة. . . الخ»، والتصحيح عن: (الروضتين، ج 2، ص 213) (¬3) الأصل: «للقاصد» ولا يستقيم بها المعنى، والتصحيح عن ابن شداد. (¬4) الأصل: «سعد الدين مسعود وأخوه بدر الدين مودود والشحنة ناصر الدين الخ. . .» وهى عبارة مضطربة، وقد صححت بعد مراجعة (ابن شداد: السيرة اليوسفية، ص 248) و (الروضتين، ج 2، ص 213).

وسابق الدين عثمان بن الداية - صاحب شيرز -، وخوشترين (¬1) الهكّارى، ونوشروان الزرزارى، وعلكان، ومنكلان؛ ثم مدّ الخوان وأكلوا. ولما كان العصر أعيد مجلس التحليف، وأحضر فارس الدين ميمون القصرى، وشمس الدين سنقر الكبير، وعز الدين أسامة (¬2)، وسنقر المشطوب (¬3)، والفارس البكى (¬4)، وأيبك الأفطس (¬5)، وأخو [الأمير] سياروخ (¬6)، وحسام الدين بشارة، ولم يحضره أحد من الأمراء المصريين، ولا تعرض لهم. ولما كانت ليلة الأربعاء [420] السابع والعشرين من صفر من هذه السنة - أعنى سنة تسع وثمانين وخمسمائة - وهى ليلة الثانى عشر من مرضه، اشتد بالسلطان المرض، وضعفت قوته، ووقع في أوائل الأمر من أول الليل؛ واستدعيت أنا والقاضى الفاضل في تلك الليلة، والقاضى محيى الدين بن زكى الدين، وهو يومئذ قاضى القضاة بدمشق، ولم تكن عادته الحضور في ذلك الوقت، وعرض علينا الملك الأفضل أن نبيت عنده، فلم ير القاضى الفاضل ذلك رأيا؛ فإن الناس كانوا في كل ليلة ينتظرون نزولنا من القلعة، وخاف أن لا ننزل فيقع الصوت في البلد، وربما نهب الناس بعضهم بعضا، فرأى المصلحة في نزولنا، واستحضار الشيخ أبى جعفر - إمام الكلامة - ليبيت في القلعة، حتى إن احتضر بالليل حضر عنده وحال بينه وبين النساء؛ وذكّره بالشهادة؛ ففعل ذلك، ونزلنا. ¬

(¬1) الأصل: «جوسر بن الهكارى»، والتصحيح عن ابن شداد والروضتين. (¬2) الأصل: «شامة»، والتصحيح عن الروضتين. (¬3) الأصل: «المطلوب»، والتصحيح عن المرجعين السابقين. (¬4) الأصل: «البك»، والتصحيح عن: (الروضتين» ج 2، ص 213). (¬5) الأصل: «فطيس»، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬6) الأصل: «وأخو ساروج» وقد أضيف ما بين الحاصرتين وصحح الاسم عن المرجع السابق

ذكر جلوس الملك الأفضل نور الدين أبى الحسن على ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين للعزاء وتجهيز السلطان ودفنه

وذكر عن الشيخ أبى جعفر أنه قرأ عنده القرآن، وكان ذهنه غائبا، فلما انتهى إلى قوله تعالى: {" هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ (¬1)} " سمعه وهو يقول: " صحيح "؛ وهذه لفظة في وقت الحاجة وعناية من الله به. وقيل إنه لما بلغ أبو جعفر في قراءته قوله تعالى: {" لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ " *} (¬2) تبسم وتهلل وجهه وسلمها. وكانت وفاته بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء المذكور، وبادر القاضى الفاضل بعد طلوع الصبح فحضر وفاته. قال القاضى بهاء الدين: " ووصلت أنا وقد مات، وانتقل إلى رضوان الله ومحل كرامته ". ذكر جلوس الملك الأفضل نور الدين أبى الحسن على ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين للعزاء وتجهيز السلطان ودفنه ثم جلس الملك الأفضل للعزاء في الإيوان الشمالى، وحفظ باب القلعة إلا عن الخواص من الأمراء والمعممين، وكان يوما عظيما. وكان أولاد السلطان يخرجون مستغيثين بين الناس، فتكاد النفوس تزهق لهول منظرهم، واشتد بكاء [421] الناس وحزنهم، ودام الحال كذلك إلى بعد صلاة الظهر، ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه. ¬

(¬1) السورة 59 (الحشر)، الآية (22) م. (¬2) السورة 9 (التوبة)، الآية 29 (ك).

قال القاضى: فما مكنا أن ندخل في تجهيزه حبة واحدة إلا بالقرض، حتى في ثمن التبن الذى يلتّ به الطين، وغسّله الفقيه الدولعى - خطيب دمشق -، وأخرج بعد صلاة الظهر في تابوت مسجى بثوب فوط، وجميع ما احتاج إليه في تكفينه أحضره القاضى الفاضل من وجه حل عرفه، وصلى عليه الناس أرسالا، وأول من أمّ (¬1) بالناس قاضى القضاة محيى الدين بن زكى الدين، ثم أعيد - رحمه الله - إلى الدار التي في البستان التي كان متمرضا بها، ودفن بالصفّة القريبة منها، وكان نزوله إلى حفرته قريب صلاة العصر، ونزل في أثناء النهار ولده الملك الظافر خضر (¬2) - المعروف بالمشمر - وهو شقيق الملك الأفضل، يعزى الناس، ويسكن قلوب الرعية. واشتغل الأفضل بكتب الكتب إلى إخوته: الملك العزيز بمصر، وكذلك إلى الملك الظاهر - صاحب حلب -، وعمه الملك العادل - وكان بالكرك - يخبرهم بهذا الحادث. ¬

(¬1) الأصل: «أقام»، والتصحيح عن: ابن شداد، والروضتين. (¬2) هو الملك الظافر خضر، لقبه مظفر الدين، وكنيته أبو الدوام، وأبو العباس، قيل له «المشمر» لأن أباه لما قسم البلاد بين أولاده الكبار، قال «وأنا مشمر» فغلب عليه هذا اللقب، ولد بالقاهرة في خامس شعبان سنة 568 هـ‍، وهو شقيق الملك الأفضل، حج على تيماء سنة 610، فلما وصل إلى بدر وجد عسكر الملك الكامل قد سبقه خوفا منه على اليمن، وأمروه بالرجوع، فقال: «قد بقى بينى وبين مكة مسافة يسيرة، وو الله ما قصدى إلا الحج، فقيدونى حتى أقضى مناسكى وأعود، فلم يلتفتوا إليه، فأراد أن يقاتلهم فلم يكن له بهم طاقة، فعاد بلا حج، وتوفى في جمادى الأولى - أو الآخرة - سنة 627 هـ‍ بحران عند ابن عمه الملك الأشرف موسى، ولم يكن وقتذاك ملكها، وإنما كان مجتازا لها عند دخوله بلاد الروم. انظر: (ابن خلكان: الوفيات، ج 6، ص 204 - 206) و (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 73 أ).

وفى اليوم الثانى جلس للعزاء جلوسا عاما، وأطلق باب القلعة للفقهاء والعلماء، وتكلم المتكلمون، ولم يؤذن لأحد من الشعراء أن ينشد شيئا (¬1)، واستمر حضور الناس بكرة وعشية لقراءة القرآن والدعاء له. وما زال الملك الأفضل مفكرا في موضع ينقله إليه، واستشار في ذلك، فأشير عليه في سنة تسعين وخمسمائة بأن يبنى تربته عند مسجد القدم، ويبنى عندها مدرسة للشافعية وقالوا: " إذا وصل الملك العزيز استغنى (¬2) بزيارتها عن الدخول إلى دمشق "، وقالوا: " إن السلطان - رحمه الله - لما مرض سنة إحدى (¬3) وثمانين وخمسمائة بحران أوصى أن يدفن بدمشق قبلى ميدان الحصا، ويكون قبره على النهج السايل [وطريق القوافل] (¬4) ليدعو له البادى والحاضر، والوارد والصادر ". فأمر الملك الأفضل ببناء التربة عند مسجد القدم، وتولى [422] عمارتها بدر الدين مودود - والى دمشق -، فاتفق وصول الملك العزيز تلك السنة للحصار، وهم قد شرعوا في عمارتها، فخرّب ما كان قد ارتفع من البناية، ثم استقرأ (¬5) الملك الأفضل حدود الجامع ليجعل التربة فيها، فوفق (¬6) لدار كانت لبعض الصالحين، وهى في حد البنيان الذى زاده القاضى الفاضل في المسجد، فاشتراها منه وأمر بعمارتها [قبة] (4) وعمرت، ونقل إليها السلطان يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة بكرة الخميس. ¬

(¬1) الأصل: «شيئ». (¬2) الأصل: «استغنا». (¬3) الأصل: «أحد». (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين عن العماد: (الروضتين، ج 2، ص 324). (¬5) الأصل: «اشترى»، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬6) الأصل: «فاتفق»، والتصحيح عن المرجع المنقول عنه هنا وهو العماد (الروضتين، ج 2، ص 214).

ذكر مبلغ عمره وأولاده وتركته

ومشى الملك الأفضل بين يدى تابوته، وحمله مماليكه وخدمه وأمراؤه وأولياؤه، وأراد العلماء والفقهاء حمله على أعناقهم فمنعهم الملك الأفضل من ذلك، وقال لهم: " يكفيه أدعيتكم الصالحة التي هى في المعاد جنته "، وأخرج من باب القلعة في البلد على دار الحديث إلى باب البريد، وأدخل منه إلى الجامع، ووضع قدّام [باب] (¬1) النسر، وصلى عليه القاضى محيى الدين بن زكى الدين، ثم حمل إلى ملحده، ودخل إلى لحده الملك الأفضل، ثم سد باب اللحد على أبيه، وجلس في الجامع ثلاثة أيام للعزاء، وأنفقت ست الشام - أخت (¬2) السلطان - في هذه النوبة أموالا جزيلة. ذكر مبلغ عمره وأولاده وتركته كان مولده - رحمه الله - في شهور سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة، فكان عمره قريبا من سبع وخمسين سنة، وكانت مدة ملكه الديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة، وملكه للشام قريب من تسعة عشرة سنة، وخلّف سبعة عشر ولدا ذكرا، وبنتا واحدة، فأما أولاده الذكور فهم: الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن على - وهو أكبرهم -، ومولده بمصر يوم عيد الفطر سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان عمره يوم ولى الملك بعد أبيه نحوا من أربع وعشرين سنة. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين عن العماد: (الروضتين؛ ج 2؛ ص 214). (¬2) الأصل: «بنت أخت» وهو خطأ، والصحيح ما أثبتناه.

والملك العزيز [أبو الفتح] (1) عماد الدين عثمان - صاحب مصر -، ومولده بمصر ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة. والملك الظاهر [أبو منصور] (¬1) غياث الدين غازى - صاحب حلب - ومولده بمصر. [423] [منتصف رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة] (¬2). والملك المفضل قطب الدين موسى. [ثم نعت بالمظفر، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين] (¬3). والملك الظافر مظفر الدين [أبو العباس] (¬4) خضر؛ - وهما شقيقا الملك الأفضل. والملك الأغر [أبو سيف] (1) شرف الدين يعقوب، [ولد بمصر في ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين] (1) - وهو شقيق الملك العزيز -. والملك الزاهر [أبو سليمان] (1) مجير الدين داود - وهو شقيق الملك الظاهر -[ولد بمصر في ذى القعدة سنة ثلاث وسبعين] (1). والملك المؤيد [أبو الفتح] (1) نجم الدين مسعود [ولد بدمشق في ربيع الأول سنة إحدى وسبعين] (1). ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين عن العماد (الروضتين، ج 1، ص 276). (¬2) الأصل: «ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة» وهو خطأ، وما بين الحاصرتين هو الصحيح نقلناه عن العماد (المرجع السابق) (¬3) زيد ما بين الحاصرتين عن العماد (الروضتين، ج 1، ص 276). راجع أيضا: (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 54 أ). (¬4) زيد ما بين الحاصرتين عن العماد. انظر أيضا ما فات هنا ص 421، هامش 2

والملك المعز [أبو بعقوب] (1) فتح الدين إسحق [ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبعين] (1). وشقيقه الملك الجواد [أبو سعيد ركن الدين] (1) أيوب [ولد في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين] (1). والملك الأشرف [أبو عبد الله] (¬1) نصير الدين (¬2) محمد [ولد بالشام سنة خمس وسبعين وخمسمائة] (1). وشقيقه الملك المحسن يمين الدين (¬3) أحمد [ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين] (1). والملك المعظم فخر الدين [أبو منصور] (1) توران شاه [ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين] (1). وشقيقه الملك الغالب [أبو الفتح ملكشاه، مولده بالشام في رجب سنة ثمان وسبعين] (¬4). والملك المنصور سيف الدين أبو بكر [وهو أيضا أخو المعظم لأبويه، ولد بحرّان بعد وفاة السلطان] (¬5). ¬

(¬1) زيد ما بين الحاصرتين عن العماد (الروضتين، ج 1، ص 276) (¬2) عند العماد: «عز الدين» انظر أيضا: (الشفاء). (¬3) كذا في الأصل، وعند العماد: «ظهير الدين»، وفى (الشفاء): «زين الدين، وقيل ظهير الدين». (¬4) الأصل: «الغالب فروخ شاه» وقد صحح وأضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة العماد (الروضتين، ج 1، ص 277) و (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 54 أ). (¬5) أضيف ما بين الحاصرتين عن العماد (الروضتين، ج 1، ص 277).

[ونصرة الدين مروان لأم ولد] (¬1). وعماد الدين شاذى [لأم ولد] (¬2). وأما البنت [فهى مؤنسة خاتون، تزوجها] (¬3) ابن عمها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب (¬4). ولم يخلف - رحمه الله - على ما ذكره القاضى بهاء الدين في خزانته إلا سبعة وأربعين درهما وجرما (¬5) واحدا صوريا، وهذا من مثل رجل له الديار المصرية والشامية وبلاد الشرق واليمن دليل قاطع على فرط جوده، ولم ينقل عن أحد غيره له مثل هذه المملكة لم يوجد في خزائنه إلا هذا القدر اليسير التافه ولم يخلف دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية، ولم يكن له رغبة في زخرفة بنيان ولا حسن مسكن. ¬

(¬1) الأصل: «وشقيقه نصرة الدين إبراهيم»، وما بين الحاصرتين عن المرجع السابق. (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين عن المرجع السابق. (¬3) الأصل: «أما البنت فتزوجها» وقد عدلت الصيغة وذكر اسم البنت عن المرجع السابق، وانظر: أيضا (شفاء القلوب، ص 74 أ). (¬4) وقد أضاف سبط ابن الجوزى في (مرآة الزمان، ج 8، ق 1، ص 434) أن صلاح الدين كان له ولد اسمه إسماعيل مات في حياة أبيه، وحدد: (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 54 أ) العلاقة بين هؤلاء الأولاد بعضهم بالبعض الآخر، قال: «الأشقاه منهم ثلاثة: على، خضر، موسى؛ ثلاثة أيضا: تورانشاه، ملكشاه، أبو بكر؛ اثنان: عثمان، يعقوب؛ اثنان أخر: غازى، داود؛ اثنان أخر: محمد، أحمد». (¬5) كذا في الأصل وفى (سبط ابن الجوزى، ج 8، ق 1، ص 432 - نقلا عن ابن شداد -) وعند ابن شداد (الروضتين، ج 2، ص 217): «دينارا»، ويبدو أن لفظ جرم كانت تعنى دينارا، فقد ورد في (مرآة الزمان، ج 1، ق 1، ص 433): «وقال العماد الكاتب: لم يخلف في خزائنه سوى ستة وثلاثين درهما، ودينارا واحدا ذهبا»، هذا ولم أعثر في المعاجم التي بين يدى على أن لفظ «جرم» يعنى الدينار؛ وعن الدينار الصورى انظر ما فات هنا، ص 76. هامش.

ذكر جمل من سيره - رحمه الله -

ذكر جمل من سيره - رحمه الله - ما نقل من أوصافه في الكرم المفرط والشجاعة والعدل وحسن السيرة والحكم أكثر من أن يحصى، فنذكر من ذلك ما تيسّر لنا ذكره. قال عماد الدين الكاتب: حسبت ما أطلقه السلطان بمرج عكا من خيل عراب وأكاديش (¬1) للحاضرين معه في الجهاد فكان إثنى عشر ألف رأس، وذلك غير ما أطلقه من أثمان الخيل المصابة في القتال، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به، وصاحبه ملازم في طلبه. وذكر أنه تأخر عنه في بعض أسفاره الأمير أيوب بن كنان، فلما وصل سأله عن سبب تخلفه، فذكر دينا، فأحضر غرماءه وتقبل الدين، وكان إثنى عشر ألف دينار مصرية وكسرا. ¬

(¬1) إكديش وكديش - والجمع أكاديش أو كدش أو كدشان -، عن الفارسية «أكدش» أو التركية (إكدش، إغدش، اكدج، إغدج)، وهو لفظ كان يطلق على الحصان الخليط، أو غير الأصيل، أو الصغير غير الجيد (Cheval de race melanges,qui n'est point de race mazette,mouvais petit cheval) ، وقد يعنى اللفظ أحيانا الخيل الصغيرة الجياد (الأكاديش الجياد)، وهذه ما كان سلاطين المماليك يقدمونها هدايا للأمراء. انظر (DOZY : Supp. Dict. Arab) ، هذا والنص عند العماد (الروضتين، ج 2، ص 217) - وهو المرجع المنقول عنه هنا - أكثر إيضاحا وتفصيلا، قال: «وحسب ما وهبه من الخيل العراب والأكاديش الجياد للحاضرين معه في صف الجهاد، مدة ثلاثة سنين وشهر منذ نزل الفرنج على عكا في رجب سنة خمس وثمانين إلى يوم انفصالهم بالسلم في شعبان سنة ثمان وثمانين، فكان تقديره اثنى عشر ألف رأس من حصان وحجرة وإكديش. . . الخ».

وقال: لما كنا بالقدس سنة ثمان وثمانين [424] وخمسمائة كتب إليه سيف الدين (¬1) بن منقذ - نائبه بمصر - أن واحدا ضمن معاملة بمبلغ، فاستنضّ منها ألفى دينار، وتسحّب، وربما وصل إلى الباب، فتحيّل وتمحّل وكذب، فجاء من أخبر السلطان أن الرجل بالباب، فقال: " قل له: ابن منقذ يطلبك، فاجتهد ألا تقع في عينه "، فعجبنا من حلمه وكرمه بعد أن قلنا: قدم الرجل إلى حتفه بقدمه. وذكر أنه حوسب صاحب ديوانه (¬2) فكانت سياقة (¬3) الحساب عليه سبعين ألف دينار [باقية عليه] (¬4)، فما طلبها ولا ذكرها، وأراه أنه ما عرفها، على أن صاحب الديوان ما أنكرها، ثم لم يرض بالعطلة له فولاّه ديوان جيشه. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وهو عند العماد (الروضتين، ج 2، ص 218): «سيف الدولة». (¬2) حدد العماد (الروضتين، ج 2، ص 218) - وهو المرجع المنقول عنه هنا - السنة التي حدثت فيها هذه الحادثة، قال: «ومما أذكره له في أول سفرتى معه إلى مصر سنة اثنتين وسبعين أنه حوسب صاحب ديوانه. . . الخ». (¬3) يفهم من النصوص في مراجع العصرين الأيوبى والمملوكى أن «السياقة» تعنى كشوف الحساب الختامى أو الميزانية العامة، فقد ورد في: (النويرى: نهاية الأرب، ج 8، ص 213 - 214) عند كلامه عن مباشرة الخزانة: «فالعمدة فيها على العدالة والأمانة، لأن خزائن الملوك في هذا العصر لسعتها وكثرة حواصلها وعظم ذخائرها لا تنضبط بسياقه، فإنه لو طولب كاتب الخزانة بعمل سياقة لحواصلها عن سنة احتاج إلى أن ينتصب لكتابتها سنة كاملة لا يشتغل فيها بغيرها. . . الخ»، ثم ذكر بعد ذلك الأمور التي يحتاج إليها مباشر الخزانة عند عمل السياقة، وجاء في (ابن طباطبا: الفخرى، ص 22): «علم السياقة والحساب لضبط المملكة وحصر الدخل والخرج»، وفى (ص 111)، أنه في عهد عبد الملك بن مروان «نقل الديوان من الفارسية إلى العربية، واخترعت سياقة المستعربين» (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين عن العماد (الروضتين، ج 2، ص 218).

وذكر من عدله

وذكر من ورعه أنه قال: " رأى لى يوما دواة محلاة بالفضة فأنكرها، وقال: هذا حرام، فقلت له على سبيل المدافعة والممانعة والمناظرة: أو ليس يحل حلية السلاح واستصحابه في الكفاح؟ ودواتى أنجع، ومداد دواتى أنفع، ويراع يراعتى القصير أطول، وسلاح قلمى أحد وأفتك وأقتل، وما اجتمعت هذه العساكر الإسلامية إلا بقلمى، ولا تفرقت جموع الكفر إلا بكلمها بجوامع كلمى، فقال: ليس هذا دليلا صالحا، فقلت له: إن الشيخ أبا محمد والد إمام الحرمين قد ذكر وجها في جوازه ". ثم لم أعد بعدها أكتب بتلك الدواة عنده. وقال: وما رأيته صلى إلا في جماعة، ولا أخّر صلاة عن وقتها، وكان له إمام راتب ملازم، فإن غاب صلى به من حضر من أهل العلم، وكان إذا عزم على أمر من الأمور توكل على الله تعالى، ولا يفضل يوما على يوم، ولا زمانا على زمان. وحكى القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - قال: " كان للسلطان - رحمه الله - ركعات يركعها قبل الصبح إن استيقظ بوقت من الليل، وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح، قال: لقد رأيته يصلى في المرضة التي مات فيها قائما، وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه. وذكر من عدله: أنه استغاث إليه رجل من أهل دمشق يقال له " ابن زهر " على تقى الدين ابن أخيه، فأنفذ إليه ليحضر في مجلس الحكم فما خلّصه إلا أن أشهد عليه [425] شاهدين أنه قد وكل للقاضى أمين الدين أبى القاسم - قاضى حماة - في المخاصمة

فأقاما (¬1) الشهادة عندى في مجلسه، فأمرت أمين الدين بمساواة الخصم فساواه، وكان القاضى أمين الدين أبو القاسم الحموى - قاضى حماة - من أكابر جلساء السلطان، ثم جرت المحاكمة بينهما، واتجهت [اليمين] (¬2) على الملك المظفر تقى الدين، وكان من أعز الناس على السلطان وأعظمهم عنده. قال القاضى بهاء الدين: " وكنت يوما في مجلس الحكم بالقدس الشريف إذ دخل على رجل تاجر معروف يسمى (¬3) " عمر الخلاطى "، ومعه كتاب حكمى، وسأل فتحه، وقال: خصمى السلطان، وهذا بساط الشرع، وقد سمعت أنك لاتحابى " فقلت: " وفى أي قضية هو خصمك؟ " فقال: إن سنقر الخلاطى هو مملوكى، ولم يزل على ملكى إلى أن مات، وكان في يده أموال عظيمة كلها لى، ومات عنها واستولى عليها السلطان، وأنا مطالبه " فقلت: " يا شيخ، وما الذى أقعدك إلى هذه الغاية؟ " فقال: " الحقوق لا تبطل بالتأخير، وهذا الكتاب الحكمى ينطق بأنه لم يزل في ملكى إلى أن مات " ¬

(¬1) الأصل: «فأما» والتصحيح عن (الروضتين، ج 2، ص 220). (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين عن ابن شداد (الروضتين، ج 2، ص 22). (¬3) الأصل: «ومعه» والتصحيح عن المرجع السابق.

فأخذت الكتاب وتصفحت مضمونه، فوجدته يتضمن: حلية سنقر الاخلاطى، وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بأرجيش (¬1) في اليوم الفلانى في الشهر الفلانى من سنة كذا، وأنه لم يزل في يده إلى أن شذّ عن يده في سنة كذا، وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن يده بوجه ما، وتمم (¬2) الشرط إلى آخره. فتعجبت من هذه القصة، وأعلمت السلطان بذلك، فأحضره واستدناه، حتى جلس بين يدى، وكنت إلى جانبه، ثم انفرك عن طراحته حتى ساواه - رحمه الله -، ثم ادعى الرجل، وفتح كتابه، وقرأ تاريخه؛ فقال السلطان. " [إن لى] (¬3) من يشهد أن هذا سنقر في هذا التاريخ كان ملكى وفى يدى في بمصر، وأنى اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة، وأنه لم يزل في يدى وملكى إلى أن أعتقته " ثم أحضر جماعة من أعيان الأمراء المجاهدين فشهدوا بذلك، وحكوا القصة [426] على ما ذكره، وذكروا التاريخ كما ادعاه السلطان، [فأبلس الرجل، فقلت له: " يا مولانا هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلبا لمراحم السلطان] (¬4) وقد حضر بين يدى المولى، وما يحسن أن يرجع خائب القصد، فقال: " هذا باب آخر "؛ وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة ". ¬

(¬1) الأصل: «بارجلس» والتصحيح عن المرجع السابق، وفى (ياقوت: معجم البلدان) أرجيش من نواحى أرمينية الكبرى قرب خلاط، وأكثر أهلها أرمن نصارى. (¬2) الأصل: «ثم»، والتصحيح عن المرجع السابق. (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين عن المرجع السابق ليستقيم المعنى. (¬4) هذه الفقرة ساقطة من الأصل، وقد أضفناها عن المرجع المنقول عنه هنا، وهو ابن شداد.

وحكى من بسالته وشجاعته

وحكى من بسالته وشجاعته: أنه كان إذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ومعه صبى واحد، وعلى يده جيب، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة يرتب الأطلاب، ويأمرهم بالوقوف في مواضع يراها. ولقد قرئ عليه جزء من الحديث بين الصفين، وذلك أنى قلت له: قد سمع الحديث في جميع المواطن الشريفة، وما نقل أنه سمع بين الصفين، فإن رأى المولى أن يؤثر عنه ذلك كان حسا، فأذن فيه، فأحضر جزءا هناك مما له به سماع، فقرئ عليه، ونحن على ظهور الدواب بين الصفين، نمشى تارة ونقف أخرى. ولقد انهزم المسلمون يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله، ووقع الكوس والعلم، وهو ثابت القدم في نفر يسير، وقد انحاز إلى الجبل، فجمع الناس وردّهم وخجلهم حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى كثر المسلمون على العدو، وفى ذلك اليوم قتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين فارس وراجل، ولم يزل مصابرا لهم إلى أن صالحهم حين رأى ظهور ضعف المسلمين، ورأى المصلحة لهم في ذلك. وحكى من قوة عزمه على الجهاد وشغفه به قال: " لما أخذ السلطان كوكب في ذى القعدة سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وأعطى العساكر دستورا، وأخذ عسكر مصر في العود إلى مصر، وكان مقدمه أخاه الملك العادل، فسار ليودعه ويحظى بصلاة العيد في القدس، ففعل، ووقع له أن يمضى معهم إلى عسقلان ويودعهم، ثم يعود على طريق الساحل يتفقد البلاد الساحلية إلى عكا، ويرتب أحوالها، فأشاروا عليه ألا يفعل، فإن العساكر إذا فارقتنا نبقى في عدة يسيرة والفرنج كلهم بصور، وهذه مخاطرة عظيمة، فلم يلتفت، وودّع أخاه والعسكر بعسقلان، ثم سرنا على الساحل طالبين عكا،

وكان الزمان عظيما، والبحر هائجا هيجانا عظيما، وموجه كالجبال [427] كما قال الله تعالى، وكنت حديث عهد برؤية البحر، فعظم أمر البحر عندى، حتى خيّل إلىّ أنه لو قال لى قائل لو جزت في البحر ميلا واحدا ملكتك الدنيا لما كنت أفعل، واستخففت برأى من يركب البحر رجاء كسب دينار أو درهم، واستحسنت رأى من لا يقبل شهادة راكب البحر، هذا كله خطر ببالى لعظم الهول الذى شاهدته من عظم البحر وتموجه، فبينا أنا في ذلك إذ التفت إلى وقال: " في نفسى أنه متى يسّر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائره، وأتبعهم فيها حتى لا أبقى على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت " فعظم وقع هذا الكلام عندى حيث ناقض ما كان يخطر لى، وقلت له: " ليس في الأرض أشجع نفسا من المولى، ولا أقوى نية في نصرة دين الله - عز وجل - " وحكيت له ما خطر لى، ثم قلت له: " هذه نية جميلة، ولكن المولى يسير في البحر العساكر، ويبقى سور الإسلام، ولا ينبغى أن يخاطر بنفسه ". قال: " فأنا أستفتيك، ما أشرف الميتات؟ " قلت: " الموت في سبيل الله " فقال: " غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتات ".

قال: ولقد مرض السلطان ونحن على الخروبة، وكان قد تأخر عن تل الحجل بسبب مرضه، فبلغ العدو ذلك، فخرجوا طمعا أن ينالوا من المسلمين شيئا بسبب مرضه، وهى نوبة النهر، فخرجوا مرحلة إلى الآبار إلى تحت التل، ثم رحل العدو في اليوم الثانى يطلبنا، فركب - رحمه الله - على مضض، ورتب العسكر للحرب، وجعل أولاده في القلب، ونزل هو وراء القلب في طلبه، وكلما سار العدو يطلب رأس النهر سار وهو يستدير إلى ورائهم، حتى يقطع بينهم وبين خيامهم، وهو يركب - رحمه الله - ساعة، وينزل يستريح، ويظلل بمنديل على رأسه من شدة وقع الحر، ولا ينصب له خيمة حتى لا يرى العدو به ضعفا. ولم يزل كذلك حتى نزل العدو برأس النهر، ونزل هو قبالتهم على تل مطل عليهم، إلى أن دخل الليل، ثم أمر العساكر أن يعودوا إلى محل المصابرة، وأن يبيتوا تحت السلاح، [428] وتأخر هو إلى وراء الجبل، وضربت له خيمة لطيفة. قال: فبت تلك الليلة أجمع، أنا والطبيب نمرضه ونشاغله، وهو ينام تارة ويستيقظ أخرى، حتى لاح الصباح، ثم ضرب البوق، وركب - رحمه الله -، وركبت العساكر، وأحدقت بالعدو، ورحل العدو عائدا إلى خيمه من الجانب الغربى من النهر، وضايقه المسلمون مضايقة شديدة. وفى ذلك اليوم قدم أولاده بين يديه احتسابا: الأفضل، والظاهر، والظافر، وجميع من حضره منهم، ولم يزل يبعث من عنده حتى لم يبق عنده إلا أنا والطبيب، وعارض الجيش، والغلمان بأيديهم الأعلام والبيارق لا غير، فيفطن الرائى لها

من البعد أن تحتها خلقا كثيرا، وليس تحتها إلا واحد [يعدّ] (1) بخلق عظيم، وبقى في موضعه والعساكر على ظهور الخيل قبالة العدو إلى آخر النهار وإلى آخر الليل، ثم أمرهم أن يبيتوا على [مثل] (1) ما باتوا عليه بارحتهم، وبتنا على ما بتنا عليه إلى الصباح، وعاد العسكر إلى ما كان عليه بالأمس من مضايقة العدو. قال: ولقد رأيته وقد جاءه خبر [وفاة] (¬1) ولد له بالغ أو مراهق يسمى إسماعيل، فوقف على الكتاب، ولم يعرّف أحدا حتى سمعناه من غيره، ولم يظهر عليه شئ من ذلك، سوى أنه لما قرأه دمعت عيناه - رحمه الله -. قال: ولقد رأيته وقد وصله خبر وفاة، الملك المظفر تقى الدين - رحمه الله - ونحن في مقابلة الفرنج جريدة على الرملة، وفى كل ليلة تقع الصيحة فتقلع الخيام، ويقف الناس على ظهر إلى الصباح، والعدو يبارز (¬2) وبيننا وبينهم شوط فرس لا غير، فأحضر الملك العادل، وسليمان بن جندر، وعز الدين ابن المقدم، وسابق الدين بن الداية، وأمر الناس فبعدوا عن الخيمة بحيث لم يبق حولنا أحد عن غلوة سهم، ثم أظهر الكتاب ووقف عليه، وبكى بكاء شديدا حتى أبكانا من غير أن نعلم السبب، ثم قال - رحمه الله - والعبرة تخنقه: " توفى تقى الدين "، فاشتد بكاؤه، وبكى الجماعة، ثم عدت إلى نفسى، فقلت: " استغفروا الله من هذه الحالة، وانظروا أين أنتم وفيم أنتم، واعرضوا عما سواه ". ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن (الروضتين، ج 2، ص 222). (¬2) الأصل: «يبارزوا».

فقال - رحمه الله -: [429] " نعم، أستغفروا الله "، وأخذ يكررها. ثم قال: " لا يعلم هذا أحد ". ثم ذكر بهاء الدين - رحمه الله - من حسن خلقه، قال: كنت في خدمته بمرج عيون قبل خروج الفرنج إلى عكا - يسّر الله فتحها -، وكان من عادته أنه إذا نزل من الركوب يمد الطعام، ويأكل مع الناس، ثم ينهض إلى خيمة خاص له ينام فيها، ثم يستيقظ من منامه، [ويصلى] (¬1) ويجلس خلوة، وأنا في خدمته، يقرأ شيئا من الحديث أو شيئا من الفقه، ولقد قرأ علىّ كتابا مختصرا لسليم الرازى، يشتمل على الأرباع الأربعة في الفقه. ونزل يوما على عادته ومد الطعام بين يديه، ثم عزم على النهوض، فقيل له: " إن وقت الصلاة قد قرب "، فعاد إلى الجلوس، وقال: " نصلى وننام ". ثم جلس يتحدث حديث متضجر، وقد أخلى المكان إلا عمن لزم، فتقدم إليه مملوك كبير محترم عنده، وعرض عليه قصة لبعض المجاهدين، فقال له: " أنا الآن ضجر أخرها ساعة ". ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين عن: ابن شداد و (الروضتين، ج 2، ص 223).

فلم يفعل، وقدّم القصة بيده إلى قريب من وجهه بحيث يقرأها، فوقف على الاسم المكتوب على رأسها، فعرفه، وقال: " رجل يستحق "، فقال: " يوقع له المولى "، فقال: " ليست الدواة حاضرة "، وكان جالسا على باب الخركاة (¬1)، فالتفت فرأى الدواة فقال: " والله لقد صدق ". ثم امتد على يده اليسرى، ومد يده اليمنى فأحضرها، ووقع فيها. فقلت له: قال الله تعالى: {" وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ "} وما أرى المولى إلا وقد شاركه في هذا الخلق. فقال: " ما ضرنا شئ، قضينا حاجته وحصل الثواب ". قال: ولقد كانت طراحته تداس عند التزاحم عليه لعرض القصص، وهو لا يتأثر بذلك. قال: ولقد نفرت بغلتى من الجمال، وأنا راكب في خدمته، فزحمت وركه حتى لمته، وهو يبتسم. ¬

(¬1) راجع ما فات هنا، ص 45، هامش 2

قال: لقد دخلت بين يديه في يوم ريح مطير إلى القدس، وكان إذ ذاك كثير الوحل، فنضحت البغلة عليه من الطين حتى أهلكت جميع ما كان عليه، وهو يبتسم، وأردت التأخر عنه لذلك، فما تركنى. ولقد واجهه الجناح بما واجهه به لما امتنع العسكر [430] عن الأنكلتير، وقد تقدم ذكر ذلك في موضعه، وظن الناس أنه ربما يصلب أو يقتل، وفى ذلك اليوم نزل ب‍بازور وقد وصله من دمشق فاكهة كثيرة، فطلب الأمراء ليأكلوا، فحضروا، فرأوا من بشره وانبساطه ما أحدث لهم الأمن والطمأنينة والسرور. قال: ولقد قلبت في خزائنه كيسان من الذهب المصرى وكيسان (¬1) من الفلوس، فما عمل بالنواب شيئا سوى أنه صرفهم عن العمل. قال: لقد كان حافظا لأنساب العرب، [و] خيلهم، عالما بعجائب الدنيا ونوادرها بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمعه من غيره. قال: وكان يسأل الواحد منا عن مرضه ومداواته، ومطعمه ومشربه، وتقلبات أحواله. وكان طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحدا إلا بالخير، وطاهر السمع فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا الخير، وطاهر اللسان، فما رأيته أولع بشتم قط، وطاهر القلم فما كتب بقلمه أذى لمسلم قط. ¬

(¬1) الأصل: «وكيسير».

وكان حسن العقد والوفاء، وما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفه، وجبر قلبه، وأعطاه خبز مخلفه، وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلّمه إليه، وإلا أبقى له من الخبز ما يكف حاجته، وسلمه إلى من يكفله، ويعتنى بتربيته. قال عماد الدين الكاتب: مات لموت السلطان الملك الناصر الرجال، وفات بفواته الأفضال، وغاضت الأيادى، وفاضت الأعادى، وانقطعت الأرزاق، وادلهمت الآفاق، وخاب الراجون، وعاب الملاحون، وطردت الضيوف، وأنكر المعروف، وفجع الزمان بواحده وسلطانه، ورزئ الإسلام بمشيد أركانه؛ كان - رحمه الله - حسن الأخلاق، طيب الأعراق، ضحوكا بمهابة، محوما بجلالة، يرشد إلى الهدى، ويهدى إلى الرشاد، معصب الكبائر، ولا يسامح بالصغائر، العاملون في عدله، والعالمون في فضله، والبلاد في أمنه، والعباد في منّه، والإسلام في حماية حميته، والدين في إدالة دولته. ثم ذكر من هذا كثيرا، ولقد صدق في كل ما ذكر ووصفه به - رحمه الله [431] ومدّ روحه -

الملاحق

الملاحق

(1) سجل بقلم القاضى الفاضل صادر عن الخليفة العاضد بتولية أسد الدين شيركوه الوزارة بعد قتل شاور

(1) سجل بقلم القاضى الفاضل صادر عن الخليفة العاضد بتولية أسد الدين شيركوه الوزارة بعد قتل شاور عن (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 10، ص 80 - 90) و (الحنبلى: مخطوطة شفاء القلوب في مناقب بنى أيوب: ص 8 أ - 10 أ) وكتب القاضى الفاضل عن أسد الدين شيركوه بالوزارة عن العاضد الفاطمى، والوزارة يومئذ قائمة مقام السلطنة، وهذه نسخته: " من عبد الله ووليّه، عبد الله أبى محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين: إلى السيد، الأجل، الملك، المنصور، سلطان الجيوش، ولىّ الأمة، فخر الدولة، أسد الدين، كافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين، أبى الحرث شيركوه العاضدى، عضّد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته وأعلى كلمته. [81] سلام عليك: فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلى على سيدنا محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين؛ صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديين، وسلّم تسليما كثيرا. أما بعد، فالحمد لله القاهر فوق عباده، الظاهر على من جاهر بعناده، القادر الذى يعجز الخلق عن دفع ما أودع ضمائر الغيوب من مراده، القوى على تقريب ما عزبت (¬1) الهمم باستبعاده، الملى بحسن الجزاء لمن جاهد في الله حق جهاده، مؤتى الملك من يشاء بما أسلفه من ذخائر رشاده، ونازعه ممن يشاء بما اقترفه من كبائر فساده، منجد أمير المؤمنين بمن أمضى في نصرته العزائم، واستقبله الأعداء بوجوه الندم وظهور الهزائم، وفعلت له المهابة ما لا تصنع الهمم، وخلعت آثاره على ¬

(¬1) كذا في الأصل، ولعلها «ما اعترفت».

الدنيا ما تخلعه الأنوار على الظلم؛ وعدمت نظراؤه بما وجد من محاسنه التي فاق بها ملوك العرب والعجم، وانتقم الله به ممن ظلم نفسه وإن ظنّ الناس أنه ظلم، وذاد عن موارد أمير المؤمنين من هو [منه] أولى بها ويأبى الله سبحانه وتعالى إلا إمضاء ما حتم، ورام إخفاء فضائله وهل يشتهر طيب المسك إلا إذا اكتتم، مؤيد أمير المؤمنين بإمام أقرّ الله به عينهم، وقضى على يده من نصرة الدين دينهم: {" لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ "} (¬1) والحمد لله الذى خصّ جدّنا محمدا بشرف الاصطفاء والاجتباء، وأنهضه من الرسالة بأثقل الأعباء، وذخر له من شرف المقام المحمود أشرف الأنصباء، وأقام به القسطاس، وطهّر به من الأدناس؛ وأيّده بالصابرين في البأساء والضراء وحين الباس، [82] وألبس شريعته من مكارم الأفعال والأقوال أحسن لباس، وجعل النور ساريا منه في عقبه لا ينقصه كثرة الاقتباس: {" ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النّاسِ "} (¬2). والحمد لله الذى اختار أمير المؤمنين لأن يقوم في أمته مقامه، وهدى بمراشد نوره إلى طرق دار المقامه، وأوضح به منار الحق وأعلامه؛ وجعله شهيد عصره، وحجة أمره، وباب رزقه، وسبيل حقه، وشفيع أوليائه، والمستجار من الخطوب بلوائه، والمضمونة لذويه العقبى، والمسئول له الأجر في القربى، والمفترض الطاعة على كل مكلّف، والغاية التي لا يقصر عنها بولائه إلا من تأخّر في مضمار النجاة وتخلّف، والمشفوع الذكر بالصلاة والتسليم، والهادى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، لا يقبل عمل إلا بخفارة ولائه، ولا يضلّ من استضاء بأنجم هدايته اللامعه، ولا دين إلا به ولا دنيا إلا معه، ¬

(¬1) السورة 8 (الأنفال)، الآية 63 (م). (¬2) سورة 12 (يوسف)، الآية 38 (ك)

ليتضح النهج القاصد، ولتقوم الحجة على الجاحد؛ وليكون لشيعته إلى الجنة نعم الشافع والرائد، وليأتى الله به بنيان الأعداء من القواعد، وليبيّن لهم الذى اختلفوا فيه وليعلموا أنما هو إله واحد. يحمده أمير المؤمنين على ما حباه من التأييد الذى ظهر فبهر، وانتشر فعمّ نفعه البشر، والإظهار الذى اشترك فيه جنود السماء والأرض، والإظفار الذى عقد الله منه عقدا لا تدخل عليه أحكام النقض، والانتصار الذى أبان الله به معنى قوله: {" وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ "} (¬1). ويسأله أن يصلى على سيدنا محمد الأمين، المبعوث رسولا في الأميين، الهادى إلى دار الخلود، المستقل بيانه استقلال عواثر الجدود، والمعدود أفضل نعمة على أهل الوجود، والصافية بشريعته مشارع النعمة، والواضحة به الحنيفية البيضاء [83] لئلا يكون أمر الخلق عليهم غمّة؛ وعلى أبينا أخيه وابن عمه أمير المؤمنين على بن أبى طالب ناصر شريعته وقسيمه في النسب والسبب، ويد الحق التي حكم لها في كل طلب بالغلب؛ وعلى الأئمة من ذريتهما وسائط الحكم، ومصابيح الظلم، ومفاتيح النعم؛ والمخفقين دعوى من باهاهم وفاخر، والباذلين جهدهم في جهاد من اتخذ مع الله إلها آخر، وسلّم وردّد، ووالى وجدّد. وإن أمير المؤمنين لما فوّضه الله تعالى إليه من إيالة الخليقة، ومنحه من كرم السجيّة وكرم الخليقة، وبسطه من يده على أهل الخلاف، وأنجزه من موعوده الذى ليس له إخلال ولا إخلاف، وأوضحه من براهين إمامته للبصائر، وحفظ به على الإسلام من طليعة المبادئ وساقة المصاير، وأورثه من المقام الذى لا ينبغى إلا له في عصره، واستخدم فيه السيوف والصروف من تأدية فرائض ¬

(¬1) السوره، (البقره)، الآية 251 (م).

نصره، وأظهر له من المعجزات التي لا يخلو منها زمن، وظاهر له من الكرامات، التي زادت على أمنية كل متمن، وأتمنه عليه من أسرار النبوة التي رآه الله تعالى لها أشرف مودع وعليها أكرم مؤتمن؛ وأجرى عليه دولته من تذليل الصعاب وتسهيل الطلاب، وتفليل أحزاب الشرك إذا اجتمعوا كما اجتمع على جده - صلى الله عليهم وسلم - أهل الأحزاب، يواصل شكر هذه النعم التوام، ويعرف بعوارفها الفرادى والتؤام، ويقدم بين يدى كل عمل رغبة إليه في إيضاح المراشد، ونية لا تضل عنها الهداية ولا سيما وهو الناشد، ويستخيره عالما أنه يقدّم إليه أسباب الخير، ويناجيه فيطلعه الإلهام على ما يحلى السير ويجلى الغير؛ ويأخذ بيد الله حقّه إذا اغتصبت حقوقه، ويستنجد بالله إذا استبيح خلافه واستجيز عقوقه؛ ويفزع إلى الله تعالى إذا قرع الضائر، ويثق بوعد الله تعالى إذا استهلكت الشّبه البصائر؛ فما اعترض ليل كربة إلا انصدع [84] له عن فجر وضّاح، ولا اننقض عقد غادر إلا عاجله الله سبحانه بأمر فضّاح؛ ولا انقطعت سبل نصرة إلا وصلها الله تعالى بمن يرسله ولا انصدعت عصا ألفة إلا تدارك الله تعالى بمن يجردّه تجريد الصّفاح. وإذا عدّد أمير المؤمنين هذه النعم الجسيمة، والمنح الكريمة؛ واللطائف العظيمة، والعوارف العميمة، والآيات المعلومة، والكفايات المحتومة، والعادات المنظومة، كنت أيها السيد الأجل - أدام الله قدرتك، وأعلى كلمتك - أعظم نعم الله تعالى أثرا، وأعلاها خطرا، وأقضاها للامة وطرا؛ وأحقها بأن تسمى نعمة، وأجدرها بأن تعدّ رحمة، وأسماها أن تكشف غمّة، وأنضاها في سبيل الله سبحانه عزمه؛ وأمضاها على الأعداء حدّا، وأبداها في الجهاد جدّا، وأعداها على الأعداء يدا، وأحسنها فعلا لليوم وأرجاها غدا؛ وأفرجها للازمة وقد كادت الأمة تصير سدى، وأحق الأولياء بأن يدعى للأولياء سيدا، وأبقاهم فعلة لا ينصرم فعلها الذى بدا أبدا.

فليهنئك أنك حزب الله الغالب، وشهاب الدين الثاقب، وسيف الله القاضب، وظلّ أمير المؤمنين الممدود، ومورد نعمته المورود، والمقدّم في نفسه وما نؤخره إلا لأجل معدود؛ نصرته حين تناصر أهل الضلال، وهاجرت إليه هاجرا برد الزّلال وبرد الظّلال؛ وخضت بحار الأهوال، وفى يدك أمواج البصال؛ وها في جيدك اليوم عقد جواهر منه ونظم لآل، بل قد بلغت السماء وزينت منك بنجوم نهار لا نجوم ليال؛ وكشّفت ال‍غماء وهى مطبقة، ورفعت نواظر أهل الإيمان وهى مطرقة؛ وعقصت أعنّة الطغيان وهى مطلقه، وأعدت بحنكتك على الدولة العلويّة بهجة شبابها المونقه، وأنقذت الإسلام وهو على شفى جرف هار، ونفذت حين لا تنفذ [85] السهام عن الأوتار؛ وسمعت دعوته على بعد الدار، وأبصرت حقّ الله ببصيرتك وكم من أناس لا يرونه بأبصار؛ وأجليت طاغية الكفر وسواك اجتذبه، وصدقت الله سبحانه حين داهنه من لا بصيرة له وكذّبه، وأقدمت على الصليب وجمراته متوقدة، وقاتلت أولياء الشيطان وغمراته متمردة. وما يومك في نصرة الدولة بواحد، ولا أمسك مجحود وإن رغم أنف الجاحد، بل أوجبت الحقّ بهجرة بعد هجرة، وأجبت دعوة الدين قائما بها في غمرة بعد غمرة، وافترعت صهوة هذا المحل الذى رقّاك إليه أمير المؤمنين باستحقاقك، وأمات الله العاجزين بما في صدورهم من حسرات لحاقك، وكنت البعيد القريب نصحه، المحجوب النافذ بحجته المذعورة أعداء أمير المؤمنين [به] إن فوّق سهمه أو أشرع رمحه، وما ضرّك أن سخطك أعداء أمير المؤمنين وأمير المؤمنين قد ارتضاك، ولا أن منعك المعاند حقّك وقد قضى لك واقتضاك، وما كان في محاجزتك عن حظك من خدمة أمير المؤمنين الذى أنت به منه أولى، ومدافعتك عن حقك في قرب مقامه الذى لا يستطيع طولا، إلا مغالبة الله فيك والله غالب على أمره، ومباعدتك وقد قربك الله من سر أمير المؤمنين وإن بعدت من جهره.

استشرفتك الصدور، وتطلعت إليك عيون الجمهور، واستوجبت عقيلة النعم بما قدمت من المهور، ونصرت الإيمان بأهله، وأظهرت الدين بمظاهرتك على الدين كلّه، وناهضت الكفرة بالباع الأشد، والرأى الأسد، ونادتهم سيوفك - ولا قرار على زأر من الأسد - وأدال الله بك ممن قدم على ما قدّم، وندم فما أغنى عنه الندم، حين لجّ في جهالته، وتمادى في ضلالته، واستمر على استطالته، وتوالت منه عثرات ما أتبعها باستقالته، فكم اجتاح للدولة رجالا، وضيّق من أرزاقهم مجالا، وسلب من خزائنها ذخائر وأسلحة وأموالا، ونقلها من أيدى أوليائها إلى أعداء الله تبارك وتعالى، واتسعت هفواته من التعديد [86] وما العهد منها ببعيد. وقد نسخ الله تعالى بك حوادثها فوجب أن تنسخ أحاديثها، وأتى الأئمة منك بمن هو وليّها، والأمة بمن هو مغيثها، ودعاك إمام عصرك بقلبه ولسانه وخطه - على بعد الدار -، وتحقق أنك تتصرف معه حيث تصرّف وتدور معه حيت دار، واختارك على ثقة من أنّ الله تعالى يحمده فيك عواقب الاختيار، ورأى لك إقدامك ورقاب الشرك صاغرة، وقدومك وأفواه المخاوف فاغرة، وكرّتك في طاعته وأبى الله تعالى أن تكون خاسره، وسطابك حين تمالى بك المشركون، وتمثّل لرسلهم بقوله سبحانه: {" اِخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ "} (¬1) وأنفت عزته هجنة الهدنة، وقال لأوليائه: {" وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ "} (¬2) وازدرى بخنازيرهم انتظارا لوصولك بأسود الإسلام، وصبر على علم أنّك تلبى نداءه بألسنة الأعلام قبل ألسنة الأقلام، فكنت حيث رجا وأفضل، ووجدت بحيث رعى وأعجل، وقدمت فكتب الله لك العلو، وكبت بك العدوّ، وجمع على التوفيق لك طرفى الرواح والغدوّ، ولم يلبس الكافر لسهامك جنّة إلا الفرار وكان {" كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ "} (¬3) ¬

(¬1) السورة 23 (المؤمنون)، الآية 108 (ك). (¬2) السورة 8 الأنفال (، الآية 39 (ك). (¬3) السورة 14 (ابراهيم) الآية 26 (ك).

فلله درّك حين قاتلت بخبرك قبل عسكرك، ونصرت بأثيرك قبل عشيرك، وأكرم بك من قادم خطواته مبروره، وسطواته للأعداء مبيرة، وكلّ يوم من أيامه يعد سيره، وإنك لمبعوث إلى بلاد أمير المؤمنين بعث السحاب المسخّر، ومقدّم في النيّة وإن كنت في الزمان المؤخر، وطالع بفئة الإسلام غير بعيد أن يفئ الله عليها بلاد الكفار، ورجال جهاد عددناهم عندنا من المصطفين الأخيار، وأبناء جلاد يشترون الجنة بعزائم كالنار، وغرر نصر سكون العدو بعدها غرور ونومه غرار. ولما جرى من جرى ذكره على عادته في إيحاشك والإيحاش منك بكواذب الظنون، ورام رجعتك عن الحضرة وقد قرّت بك الدار وقرت بك العيون، وكان [87] كما قال الله تعالى في كتابه المكنون: {" لَقَدِ اِبْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ "} (¬1)، هنالك غضبت نفوس الإسلام ففتكت به أيديها، وكشفت له عن غطاء العواقب التي كانت منه مباديها، وأخذه من أخذه أليم شديد، وعدل فيه من قال {" وَما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ "} (¬2)، {" إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ "} (¬3). ولما نشرت لواء الإسلام وطواه، وعضدت الحقّ وأضعف قواه، وجنيت عقبى ما نويت وجنى عقبى ما نواه، وأبيت إلا إمضاء العزم في الشرك وما أمضاه، {" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ "} (¬4)، ودفعت الخطب الأشق، وطلعت أنوار النصر مشرقة بك وهل تطلع الأنوار إلا من الشرق؟ وقال لسان ¬

(¬1) السورة 9 (التوبة) الآية 48 (م). (¬2) السورة 41 (فصلت)، الآية 46 (ك). (¬3) السورة 50 (ق)، الآية 37 (ك). (¬4) السورة 45 (الجاثية)، الآية 23 (ك).

الحق {" فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ "} (¬1)، قضى الله تعالى إلى أمير المؤمنين عدّة قدّمها ثم قضاها، وولاّه كما ولّى جدّه - صلى الله عليه وسلم - قبلة يرضاها، وانتصر له بك انتصاره لأهل البيت بسلمانه وعمّاره، وأنطق أمير المؤمنين باصطفائك اليوم وبالأمس كنت عقد إضماره. وقلدّك أمير المؤمنين أمر وزارته، وتدبير مملكته وحياطة ما وراء سرير خلافته، وصيانة ما اشتملت عليه دعوة إمامته، وكفالة قضاة المسلمين، وهداية دعاة المؤمنين، وتدبير ما عدقه الله بأمير المؤمنين من أمور أوليائه أجمعين، وجنوده وعساكره المؤيّدين، المقيمين منهم والقادمين، وكافة رعايا الحضرة بعيدها ودانيها، وسائر أعمال الدول باديها وخافيها، وما يفتحه الله تعالى على يديك من البلاد، وما تستعيده من حقوقه التي اغتصبها الأضداد، وألقى إليك المقاليد بهذا التقليد، وقرّب عليك كلّ غرض بعيد، وناط بك العقد والحل، والولاية والعزل، والمنع [88] والبذل، والرفع والخفض، والبسط والقبض، والإبرام والنقض، والتنبيه والغض، والإنعام والانتقام، وما توجب السياسة امضاءه من الأحكام، تقليدا لا يزال به عقد فخرك نظيما، وفضل الله عليك وفيك عظيما، {" ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً "} (¬2). فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه الرتبة التي تنأخر دونها الأقدام، والغاية التي لا غاية بعدها إلا ما يمليك الله به من الدوام، فلقد تناولتها بيد في الطاعة غير قصيرة، ومساع في خدمة أمير المؤمنين أيامها على الكافرين غير يسيره، وبذلت لها ما مهّد سبلها، ووصلتها بما وصل بك حبلها، وجمعت من أدواتها ما جمع لك شملها، وقال لك لسان الحق {" وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها "} (¬3). ¬

(¬1) السورة 6 الأنعام)، الآية 81 (ك). (¬2) السورة 4 (النساء، الآية 70 (م). (¬3) السورة 48 (الفتح)، الآية 26 (م).

وتقوى الله سبحانه: فهى وإن كانت لك عاده، وسبيل لاحب إلى السعادة، فإنها أولى الوصايا بأن تتيمن باستفتاحها، وأحقّ القضايا بأن تبتدئ الأمور بصلاحها، فاجعل تقوى الله أمامك، وعامل بها ربّك وإمامك، واستنجح بها عواقبك ومباديك، وقاتل بها أضدادك وأعاديك، قال الله سبحانه في كتابه المكنون: {" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ "} (¬1). والعساكر المنصورة: فهم الذين غذوا بولاء أمير المؤمنين ونعمه، وربّوا في حجور فضله وكرمه، واجتاحهم من لم يحسن لهم النظر، واستباحهم بأيدى من أضرّ لما أصر، وطالما شهدوا المواقف ففرّجوها، واصطلوا المخاوف وتولجوها، وقارعوا [89] الكفّار مسارعين للأعنّه، مقدمين مع الأسنّة، مجرين إلى غايتين: إما إلى النصر وإما إلى الجنة، ودبّروا الولايات فسددوا، وتقلدوا الأعمال فيما تقلدوا. واعتمد أحمرهم وأسودهم، وأقربهم وأبعدهم، وفارسهم وراجلهم، ورامحهم ونابلهم بتوفير الإقطاع وإدرار النفقات، وتصفية موارد العيش المونقات. وأحسن لهم السياسة التي تجعل أيديهم على الطاعة متفقة، وعزائمهم في مناضلة أعداء الدين مستبقه، وأجرهم على العادات في تقليد الولايات، واستكفهم لما هم أهله من مهمات التصرفات، وميّز أكابرهم تمييز الناظر بالحقائق، واستنهضهم في الجهاد فهذا المضمار وأنت السابق، وقم في الله تعالى أنت ومن معك فقد رفعت الموانع والعوائق، ليقذف الله بالحق الذى نصرته على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. والشرع الشريف: فأنت كافل قضاته، وهادى دعاته، وهو منار الله تعالى الأرفع، ويده التي تمنع الظلم وتدفع، فقم في حفظ نظامه، وتنفيذ أحكامه، وإقامة حدوده، وإمضاء عقوده، وتشييد أساس الدعوة وبنائها، وتمييز ¬

(¬1) السورة 59 (الحشر)، الآية 18 (م).

آخذى عهودها وأبنائها، قيام من يعول في الأمانة على أهل الديانة، ويستمسك بحقوق الله تعالى الحقيقة بالرعاية والصيانة. والأموال: فهى سلاح العظائم، ومواد العزائم، وعتاد المكارم، وعماد المحارب والمسالم، وأمير المؤمنين يؤمل أن تعود بنظرك عهود النضارة، وأن يكون عدلك في البلاد وكل العمارة. والرعايا: فقد علمت ما نالهم من إجحاف الجبايات، وإسراف الجنايات، وتوالى عليهم من ضروب النكايات، فاعمر أو طانهم التي أخربها الجور والأذى، وانف عن مواردهم الكدر والقذى، وأحسن حفظ وديعة الله تعالى منهم، وخفّف [90] الوطأة ما استطعت عنهم، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا، وكفّ من يعترضهم في عرض هذا الأدنى. والجهاد: فهو سلطان الله تعالى على أهل العناد، وسطوة الله تعالى التي يمضيها في شر العباد على يد خير العباد، ولك من الغناء فيه مصرا وشاما، وثبات الجأش كرّا وإقداما، والمصاف التي ضربت فكنت ضارب كماتها، والمواقف التي اشتدت فكنت فارج هبواتها، والتدريب الذى أطلق جدّك، والتجريب الذى أورى زندك، ما يغنى عن تجديد الوصايا البسيطة، وتأكيد القضايا المحيطة، وما زلت تأخذ من الكفّار باليمين، وتعظم فتوحك في بلاد الشمال فكيف تكون في بلاد اليمين، فاطلب أعداء الله برا وبحرا واجلب عليهم سهلا ووعراء وقسم بينهم الفتكات قتلا وأسرا، وغارة وحصرا، قال الله تعالى في كتابه المكنون: {" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ "} (¬1) ¬

(¬1) السورة 9 (التوبة)، الأية 123 (م).

وتوفيق الله تعالى يفتح لك أبواب التدبير، وخبرتك تدلك على مراشد الأمر، {" وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ "} (¬1)، فأنت تبتدع من المحاسن مالا تحيط به الوصايا، وتخترع من الميامن ما يتعرف بركانه الأولياء والرعايا. والله سبحانه وتعالى يحقق لأمير المؤمنين فيك أفضل المخايل، ويفتح على يديك مستغلق البلاد والمعاقل، ويصيب بسهامك من الأعداء النحور والمقاتل، ويأخذ للإسلام بك ماله عند الشرك من الثارات والطوائل، ولا يضيع لك عملك في خدمة أمير المؤمنين إنه لا يضيع عمل عامل، ويجرى الأرزاق والآجال بين سيبك الفاضل وحكمك الفاصل. فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه، واعمل بموجبه وحكمه، إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ¬

(¬1) (السورة 35 فاطر)، الآية 14 (ك).

(2) توقيع بخط الخليفة العاضد لدين الله الفاطمى على طرة التقليد السابق بتولية أسد الدين شيركوه الوزارة

(2) توقيع بخط الخليفة العاضد لدين الله الفاطمى على طرّة التقليد السابق بتولية أسد الدين شيركوه الوزارة عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 9، ص 406 - 407) هذا عهد لا عهد لوزير بمثله، وتقليد أمانة رآك الله تعالى وأمير المؤمنين أهلا لحمله، والحجّة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله، فخذ كتاب أمير المؤمنين [407] بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى نبوة النبوة، واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا. {" وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً "} (¬1). ¬

(¬1) السورة 16 (النحل)، الآية 91 (ك).

(3) سجل بقلم القاضى الفاضل صادر عن الخليفة العاضد بتولية صلاح الدين يوسف بن أيوب الوزارة بعد موت عمه أسد الدين شيركوه

(3) سجل بقلم القاضى الفاضل صادر عن الخليفة العاضد بتولية صلاح الدين يوسف بن أيوب الوزارة بعد موت عمه أسد الدين شيركوه عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 1، ص 91 - 98) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 161) من عبد الله ووليّه، عبد الله أبى محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين. إلى السيد الأجل (على نحو ما تقدم في تقليد عمه أسد الدين شيركوه). أما بعد، فالحمد لله مصرّف الأقدار، ومشرّف الأقدار، ومحصى الأعمال والأعمار، ومبتلى الأخيار والأبرار، وعالم سر الليل وجهر النهار، وجاعل دولة أمير المؤمنين فلكا تتعاقب فيه أحوال الأقمار: بين انقضاء سرار واستقبال أبدار، وروضا إذا هوت فيه الدوحات أينعت الفروع سابقة النور، باسقة الثمار، ومنجد دعوته بالفروع الشاهدة بفضل أصولها، والجواهر المستخرجة من أمضى نصولها، والقائم بنصرة دولته فلا تزال حتى يرث الله الأرض ومن عليها قائمة على أصولها. والحمد لله الذى اختار لأمير المؤمنين ودلّه على مكان الاختيار، وأغناه باقتضاب الإلهام عن رويّة الاختبار، وعضّد به الدين الذى ارتضاه وعضّده بمن ارتضاه، وأنجز له من وعد السعد ما قضاه قبل أن اقتضاه، ورفع محله عن الخلق فكلهم من مضاف إليه غير مضاه؛ وجعل مملكته عرينا لاعتزازها بالأسد وشبله، ونعمته ميراثا أولى بها ذوى الأرحام من بنى الولاء وأهله، وأظهر في هذه القضية ما أظهره في كل القضايا من فضل أمير المؤمنين وعدله؛ فأولياؤه كالآيات التي تتسق درارى أفقها المنير، وتنتسق درر عقدها النظيم النضير: {" ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}

{أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬1)} " [92] والحمد لله الذى أتم بأمير المؤمنين نعمة الإرشاد، وجعله أولى من للخلق ساد، وللحق شاد؛ وآثره بالمقام الذى لا ينبغى إلا له في عصره، وأظهر له من معجزات نصره ما لا يستقل العدد بحصره؛ وجمع لمن والاه بين رفع قدره ووضع إصره، وجعل الإمامة محفوظة في عقبه والمعقبات تحفظه بأمره؛ وأودعه الحكم التي رآه لها أحوط من أودعه، وأطلع من أنوار وجهه الفجر الذى جهل من ظن غير نوره مطلعه، وآتاه ما لم يؤت أحدا، وأمات به غيا وأحيا رشدا، وأقامه للدين عاضدا فأصبح به معتضدا؛ وحفظ به مقام جده وإن رغم المستكبرون، وأنعم به على أمته أمانا لولاه ما كانوا ينظرون ولا يبصرون، و {" ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ "} (¬2). يحمده أمير المؤمنين على ما آتاه من توفيق يذلل له الصعب الجامح، ويدنى منه البعيد النازح؛ ويخلف على الدين من صلاحه الخلف الصالح، ويلزم آراءه جدد السعود، ويريه آيات الإرشاد فإنه نازح (؟) قدح القادح. ويسأله أن يصلى على جدّه محمد الذى أنجى أهل الإيمان ببعثه، وطهّر بهديه من رجس الكفر وخبثه؛ وأجار باتباعه من عنت الشيطان وعبثه، وأوضح جادّة التوحيد لكل مشرك الاعتقاد مثلثه. وعلى أبينا أمير المؤمنين على بن أبى طالب الذى جادلت يده بلسان ذى الفقار، وقسّم ولاؤه وعداوته بين الأتقياء والأشقياء الجنة والنار؛ وعلى الأئمة من ذريتهما الذين أذلّ الله بعزتهم أهل الإلحاد وأصفى بما سفكوه من دمائهم موارد الرشاد، وجرت أيديهم وألسنتهم بأقوات القلوب وأرزاق العباد؛ وسلّم ومحّد، ووالى وجدّد. (93) وإن الله سبحانه ما أخلى قط دولة أمير المؤمنين التي هى مهبط الهدى. ¬

(¬1) السورة 2 (البقرة)، الآية 106 (ك). (¬2) السورة 8 (الأنفال)، الآية 33 (ك)

ومحط الندى، ومورد الحياة للولى والردى للعدا، من لطف يتلافى الحادثة ويشعبها ويرأبها، ونعمة تبلغ بها النفوس أربها؛ وموهبة تشد موضع الكلم، وتسد موضع الثلم؛ وتجلى غمائم الغمم، وتحلى مغانم النعم؛ وتستوفى شرائط المناحج، وتستدنى فوارط المصالح، ولم يكن ينسى الحادثة في السيد الأجل الملك المنصور - رضى الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه -، التي كادت لها أواخى الملك تتزعزع، ومبانى التدبير تتضعضع؛ إلا ما نظر فيه أمير المؤمنين بنور الله من اصطفائك أيها السيد الأجل الملك الناصر - أدام الله قدرتك - لأن تقوم بخدمته بعده، وتسد في تقدمة جيوشه مسدّه، وتقفو في ولائه أثره، ولا تفقد منه إلا أثره، فوازت الفادحة فيه النعمة فيك، حتى تستوفى حظّه من أمير المؤمنين بأجر لا يضيع الله فيه عمله، فاستوجب مقعد صدق بما اعتقده من تأدية الأمانة له وحمله؛ واستحق أن ينضّر الله وجهه بما أخلقه الله من جسمه في مواقف الجهاد وبدّله؛ ومضى في ذمام رضا أمير المؤمنين، وهو الذمام الذى لا يقطع الله منه ما أمره أن يصله؛ واتبع من دعائه بتحف أول ما تلقاه بالروح والريحان، وذخرت له من شفاعته ما عليه معوّل أهل الإيمان في الأمان؛ فرعى الله له قطعه البيداء إلى أمير المؤمنين وتجثمه الأسفار، ووطأه المواطئ التي تغيظ الكفار؛ وطلوعه على أبواب أمير المؤمنين طلوع أنوار النهار، وهجرته التي جمعت له أجرين: أجر المهاجرين وأجر الأنصار؛ وشكر له ذلك المسعى الذى بلغ من الشرك الثار، وبلغ [94] الإسلام الإيثار، وما لقى ربّه حتى تعرّض للشهادة بين مختلف الصفاح، ومشتجر الرماح، ومفترق الأجسام من الأرواح، وكانت مشاهدته لأمير المؤمنين أجرا فوق الشهادة، ومنة لله تعالى عليه له بها ما للذين أحسنوا الحسنى وزيادة؛ وحتى رآك أيها السيد الأجل الملك الناصر - أدام الله قدرتك - قد أقررت ناظره، وأرغمت مناظره؛ وشددت سلطانه، وسددت مكانه؛ ورمى بك فأصاب، وسقى بك فصاب، وجمعت ما فيه من أبهة المشيب إلى مافيك من مضاء الشباب، ولقنت

ما أفادته التجارب جملة، وأعانتك المحاسن التي هى فيك جلّة، وقلّب عليك إسناد الفتكات فتقلبت، وأوضح لك منهاج البركات فتقبلت؛ وسددك سهما، وجرّدك شهما، وانتضاك فارتضاك غربا، وآثرك على آثر ولده إمامة في التدبير وحربا، وكنت قى السلم لسانه الآخذ بمجامع القلوب، وفى الحرب سنانه النافذ في مضايق الخطوب، وساقته إذا طلب، وطليعته إذا طلب، وقلب جيشه إذا ثبت، وجناحه إذا وثب، ولا عذر لثبل نشأ في حجر أسد، ولا لهلال استملى النور من شمس واستمدّ. هذا، ولو لم يكن لك هذا الإسناد في هذا الحديث، وهذا المسند الجامع من قديم الفخر وحديث، لأغنتك غريزة، وسجية سجية، وشمية وسمية، وخلائق فيها ما تحب الخلائق، ونحائز لم يحز مثلها حائز، ومحاسن ماؤها غير آسن، ومآثر جد غير عاثر، ومفاخر غفل عنها الأول، ليستأثر بها الآخر، وبراعة لسان، ينسجم قطارها، وشجاعة جنان، تضطرم نارها، وخلال جلال عليك شواهد أنوارها تتوضح، ومساعى مساعد لديك كمائم نورها تتفتح؛ فكيف وقد جمعت لك في المجد بين نفس وأب وعم، ووجب أن سألك من اصطفاء أمير المؤمنين ماذا حصل ثم على الخلق عمّ، فيومك واسطة في المجد بين غدك وأمسك، وكلّ ناد من أندية الفخار [95] لك أن تقول فيه وعلى غيرك أن يمسك، فبشراك أنّ أنعم أمير المؤمنين موصولة منكم بوالد وولد، وأنّ شمس ملكه بكم كالشمس أقوى ما كانت في بيت الأسد. ولما رأى الله تقلب وجه أمير المؤمنين في سمائه ولاّه من اختيارك قبله، وقامت حجته عند الله باستكفائك وزيرا له ووزرا للملة، فناجته مراشد الإلهام، وأضاعت له مقاصد لا تعقلها كلّ الأفهام؛ وعزم له على أن قلّدك تدبير مملكته الذى أعرقت في إرثه وأغرقت في كسبه، ومهّد لك أبعد غاية في الفخر بما يسّر لك من قربه.

ولقد سبق أمير المؤمنين إلى اختيارك قبل قول لسانه بضمير قلبه، وذكر فيك قول ربّه: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (¬1)، وقلّدك لأنك سيف من سيوف الله تعالى يحقّ به التقلّد وله التقليد، واصطفاك على علم بأنك واحد منتظم في معنى العديد؛ وأحيا في سلطان جيوشه سنّة جدّه الإمام المستنصر بالله في أمير جيوشه الأوّل، وأقامك بعده كما أقام بعده ولده وإنه ليرجو أن تكون أفضل من الأفضل؛ وخرج أمره إليك بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بتقليدك وزارته التي أحلّك ربوتها، وأحلّ لك صهوتها؛ وحلاّك نعمتها، و. . . . . . لك نعمتها؛ فتقلد وزارة أمير المؤمنين من رتبتها التي تناهت في الإنافة، إلا أن لا رتبة فوقها إلا ما جعله الله تعالى للخلافة؛ وتبوّأ منها صدرا لا تتطلع إليه عيون الصدور، واعتقل منها في درجة على مثلها تدور البدور: {" وَاِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ "} (¬2): وقل {" الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ "}. (¬3) وباشر مستبشرا، واستوطن متديرا؛ وأبسط يدك فقد فوّض إليك الأمر أمير المؤمنين بسطا وقبضا، وأرفع ناظرك فقد أباح لك رفعا وخفضا؛ وأثبت على درجات [96] السعادة فقد جعل لحكمك تثبيتا ودحضا، واعقد حبى العزمات للمصالح فقد أطلق بأمرك عقدا ونقضا؛ وأنفذ فيما أهلّك له فقد أدى بك نافلة من السياسة وفرضا، وصرّف أمور المملكة فإليك الصرف والتصريف. وثقّف أود الأيام فعليك أمانة التهذيب والتثقيف؛ واسحب ذيول الفخار حيث لا تصل التيجان، واملا لحظا من نور الله تعالى حيث تتقى الأبصار لجين ¬

(¬1) السورة 7 (الأعراف)، الآية 58 (ك). (¬2) السورة 31 (لقمان)، الآية 17 (ك). (¬3) السورة 35 (فاطر)، الآية 34 (ك).

الأجفان؛ إن هذا لهو الفضل المبين، فارتبطه بالتقوى التي هى عروة النجاه، وذخيرة الحياة والممات، وصفوة ما تلقى آدم من ربّه من الكلمات؛ وحير ما قدمته النفوس لغدها في أمسها، وجادلت [به] يوم تجادل كلّ نفس عن نفسها، قال الله سبحانه ومن أصدق من الله قيلا: {" وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً "} (¬1). واستتم بالعدل نعم الله تعالى عليك، وأحسن كما أحسن الله إليك؛ وأمر بالمعروف فإنك من أهله، وأنه عن المنكر كما كنت تنزهت عن فعله، وأولياء أمير المؤمنين، وأنصاره الميامين، ومن يحفّ بمقام ملكه من الأمراء المطوّقين، والأعيان المعصّبين، والأماثل والأجناد أجمعين، فهم أولياؤه حقا، ومماليكه رقّا، والذين تبوءوا الدار والإيمان سبقا، وأنصاره غربا كما أن عسكرك أنصاره شرقا؛ فهم وهم يد في الطاعة على من ناواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وتحاكم فيهم وأنت عند أمير المؤمنين أعلاهم. هذا وقد كان السيد الأجل الملك المنصور - رضى الله عنه - استمطر لهم [من] إنعام أمير المؤمنين المسامحة بعلقهم، وواس في هذه المنقبة التي استحق بها حسن الذكر بين طوائفهم وفرقهم، فصنهم من جائحات الاعتراض، وابذل لهم صالحات الأغراض؛ وارفع دونهم الحجاب، ويسّر لهم الأسباب، واستوف منهم عند [97] الحضور إليك غايات الخطاب؛ وصرّفهم في بلاد أمير المؤمنين ولاة وحماة، كما تصرفهم في أوقات الحرب لماة وكماة؛ وعرّفهم بركة سلطانك، واقتد قلوبهم بزمام إحسانك. وأما القضاة والدعاة: فهم بين كفالتك وهديك، والتصريف على أمرك ونهيك؛ فاستعمل منهم من أحسن عملا، فأما بالعنايات فلا. ¬

(¬1) السورة 4 (النساء)، الآية 77 (م).

والجهاد: فأنت راضع درّه، وناشئة حجره، وظهور الخيل مواطنك، وظلال الجبل مساكنك؛ وفى ظلمات مشاكله تجلى محاسنك، وفى أعقاب نوازله تتلى ميامنك؛ ف‍شمر له عن ساق من القنا، وخض فيه بحرا من الظبا؛ واحلل فيه عقدة كلمات الله سبحانه وثيقات الحبى؛ وأسل الوهاد بدماء العدا، وارفع برءوسهم الرّبا، حتى يأتى الله بالفتح الذى يرجو أمير المؤمنين أن يكون مذخورا لأيامك، ومشهودا به يوم مقامك بين يديه من لسان إمامك. والأموال: فهى زبدة حلب اللّطف لا العنف، وجمّة يمتريها الرّفق لا العسف، وما برحت أجدّ ذخائر الدول للصفوف، وأحدّ أسلحتها التي تمضى وقد تنبو السيوف؛ فقدّم للبلاد الاستعمار، تقدم لك الاستثمار، وقطرة من عدل تزخربها من مال بحار. والرعايا: فهم ودائع الله لأمير المؤمنين وودائعه لديك، فاقبض عنهم الأيدى وابسط بالعدل فيهم يديك، وكن بهم رءوفا، وعليهم عطوفا؛ واجعل الضعيف منهم في الحق قويا، والقوى في الباطل ضعيفا، ووكّل برعايتهم ناظر اجتهادك، واجعل ألسنتهم بالدعاء من سلاحك، وقلوبهم بالمحبة من أجنادك، ولو جاز أن يستغنى عن [98] الوصية قائم بأمر، أو جالس في صدر، لا ستغنيت عنها بفطنتك الزكية، وفطرتك الذكية؛ ولكنها من أمير المؤمنين ذكرى لك وأنت من المؤمنين، وعرابة بركة فتلقّ رايتها باليمين. والله تعالى يؤيدك أيها السيد الأجل - أدام الله قدرتك - بالنصر العزيز، ويقضى لدولة أمير المؤمنين على يديك بالفتح الوجيز؛ ولأهلها في نظرك بالأمر الحريز، ويمتع دست الملك ب‍؟؟؟ لى مجدك الإبريز؛ ويقر عيون الأعيان بما يظهر لك في ميدان السعادة من السبق والتبريز، ويملّيك من نحلة أنعم أمير المؤمنين بما ملّكك إياه ملك التحويز، ويلحق بك في المجد أو لك، ويحمد فيك العواقب ولك. فاعلم ذلك من أمر أمير المؤمنين ورسمه، واعمل بموجبه وحكمه؛ إن شاء الله تعالى.

(4) توقيع بخط الخليفة العاضد لدين الله الفاطمى على طرة التقليد السابق بتولية صلاح الدين يوسف بن أيوب الوزارة

(4) توقيع بخط الخليفة العاضد لدين الله الفاطمى على طرّة التقليد السابق بتولية صلاح الدين يوسف بن أيوب الوزارة عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 9، ص 407) " هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عند الله تعالى عليك، فأوف بعهدك ويمينك، وخذ كتاب أمير المؤمنين بيمينك؛ ولمن مضى بجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن أسوة، ولمن بقى بقربنا سلوة {تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»} (¬1) ". ¬

(¬1) السورة 28 (القصص)، الآية 83 (ك).

(5) وصف تفصيلى للفتح الأيوبى لليمن كما سجله بقلمه مؤرخ يمنى

(5) وصف تفصيلى للفتح الأيوبى لليمن كما سجله بقلمه مؤرخ يمنى عن: (بدر الدين محمد بن حاتم: السّمط الغالى الثمن، في أخبار الملوك من الغزّ باليمن، مخطوطة بدار الكتب المصرية، رقم 2411، ص 2 ب - 6 ب اعلم أن جملة من ملك اليمن من الغزّ إلى وقتنا هذا عشرة: الملك المعظم توران بن أيوب، والملك العزيز - أخوه - سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، والملك المعز - ولده - إسماعيل، وسيف الدين الأتابك سنقر، بحكم الأتابكية لولد سيده الملك الناصر أيوب ابن طغتكين، ثم الملك الناصر أيوب - بعده -، ثم الملك المعظم سليمان بن تقى الدين، ثم الملك المسعود صلاح الدين يوسف بن الملك الكامل. فهؤلاء سبعة: ستة منهم من بنى أيوب، والسابع مملوكهم. ثم جاءت الدولة السعيدة الرسولية - خلّد الله ملكها [و] أيامها خلود النّيرات - [ص 2 ب] فملك - بعد الملك المسعود - مولانا الملك المنصور نور الدين أبو الفتح عمر بن على بن رسول - قدّس الله روحه -، ثم ولده مولانا ومالكنا المقام الأعظم السلطان الملك المظفر شمس الدنيا والدين أبو المنصور يوسف،

ثم ولىّ الأمر ولده مولانا المقام الأعظم السلطان الملك الأشرف أبا الفتح عمر ممهّد الدنيا والدين، إيثارا له بذلك إذ رآه له أهلا، ولم يضنّ به عليه أصلا، فهما ملكا هذا الأوان (¬1)، وبهما استقامة الزمان. فلا برحا في نعمة وسعادة ... تبيد العدى طرّا، وتقهر من عدا والآن حين نبتدئ في شرح السير لهؤلاء الملوك جميعا: اعلم أن أول من ملك اليمن من الغزّ بنو أيوب، ملوك الديار المصرية بالشام كلها، [و] بديار البكر كافة والعواصم والسواحل؛ وكان الجميع تحت حكمه غير منازع فيها ولا مدافع عليها، وكانوا جماعة، وملكهم يومئذ القائم فيهم أولا الملك الناصر صلاح الدين [ص 3 أ] يوسف بن أيوب بن شاذى، أصغر أولاد أيوب سنا، وأكبرهم معنى. وكان له من الإخوة جماعة؛ منهم: الملك العادل سيف الدين أبو بكر - وهو الكبير فيهم جميعا -، والملك المعظم شمس الدولة توران، والملك العزيز سيف الإسلام، وتقى الدين (¬2)، وغيرهم ممن لم يشتهر شهرة هؤلاء، ففرّق لكل منهم بلدا، خلا توران فإنه ندبه لليمن، وجهّزه بالعسكر الجم والمال الكثير، وذلك على حين فترة في اليمن من ملك مستقل فيها - وعرها وسهلها، وعلوها وسفلها - ومالك لدانيها وقاصيها، وقائد لطائعها وعاصيها؛ بل كانت مقسومة بين العرب. ¬

(¬1) يفهم من هذا النص أن المؤلف كان يكتب كتابه هذا قبل سنة 694 هـ‍، وهى السنة التي توفى فيها الملك المظفر يوسف، واستقل بالحكم ابنه الملك الأشرف عمر. انظر: (زامباور: معجم الأنساب، الترجمة العربية، ص 184). (¬2) لاحظ أن تقى الدين عمر ليس أخا لصلاح الدين، وإنما هو ابن أخيه شاهنشاه.

فكل موضع فيها [به] (¬1) ملك مستقيم بذاته، والأمر فيها كما قال الشاعر: وتفرّقوا فرقا، فكلّ قبيلة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر فلما بلغه ذلك بادر بتجهيز أخيه الملك المعظم - على ما ذكرنا -، فوصل اليمن في سنة تسع وستين وخمسمائة، فأول من لقيه من أهل اليمن الأمير قاسم بن غانم بن يحيى السليمانى، من المخلاف [ص 3 ب] السليمانى، جاءه إلى حرض (¬2)، من موضعه وكان يسمى محل أبى تراب، وشكا عليه من عبد النبى بن مهدى، وهو يومئذ صاحب التهائم والجبال، من تعز إلى ذحر، إلى سوى ذلك، ما خلا عدن والدّملوة وصنعاء، فإنها كانت بأيدى أهلها الذين نورد ذكرهم - إن شاء الله تعالى -. وكان عبد النبى قد غار إلى حرض ونهبها، ونهب بلادها، ونهب هذا المحل الذى للشريف، وقتل أخاه، وكان يقال له: «وهّاس بن غانم»، فسأل الأمير قاسم من الملك المعظم أن يكون أول دخوله اليمن إنجادا له على بنى مهدى، فأجابه إلى ذلك، ونهضا بالعساكر من حرض في سلخ رمضان في هذه السنة المذكورة، فوصلا زبيد يوم السبت السابع من شوال عند طلوع الشمس، فنهبوا جميع [ما] فيها - الأموال والخيل -، وسبوا الحريم، وقبضوا على عبد النبى وإخوته؛ وعاد الأمير قاسم بن غانم إلى بلاده يوم الجمعة الثالث من الشهر. وأقام الملك المعظم بزبيد إلى أن دخل شهر ذى القعدة، ونهض لتعز فأخذه ولم ينازعه أحد، وقاتل أهل [4 أ] صبر (¬3) وذحر فلم ينل منهم، ثم نهض للجند فدخلها وملكها؛ وكل هذه كانت من ممالك عبد النبى. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين ليستقيم المعنى. (¬2) ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنها بلد في أوائل اليمن من جهة مكة. (¬3) ضبطت بعد مراجعة (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنه اسم الجبل الشامخ المطل على قلعة تعز، فيه عدة حصون وقرى باليمن.

وسار إلى عدن فأخذها يوم الجمعة العشرين من ذى القعدة، ونهب من بها؛ وفيها يومئذ من الأمراء أولاد الداعى المكرّم عمران بن محمد بن سبأ، والشيخ ياسر بن بلال - مولاهم -، فقبض عليهم جميعا، وعاد منها إلى مخلاف جعفر، فبايع في التّعكر (¬1)، وأخذه يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ذى الحجة آخر سنة تسع وستين وخمسمائة. ثم نهض إلى جبلة، وقد صارت البلاد جميعها له ما خلا الدّملوه والبلاد العليا، فطلع نقيل صيد يوم الاثنين الثامن والعشرين من ذى الحجة؛ وحطّ على ذروان (¬2) يوم الثلاثاء، وفيه يومئذ السلطان عبد الله بن يحيى الجنبى، فصالحهم وبذل الطاعة؛ ونهض إلى المصنعة، وفيها يومئذ الشيخ محمد بن زيد البعدى الجنبى، فأخذها منه، ثم نهض إلى ذمار فاعترضه جنب من موضع يسمى رخمة في شرقى ذمار يوم الخميس [4 ب] التاسع من المحرم، أول سنة سبعين وخمسمائة، فقتل من الغزّ خمسة وستون رجلا، فأخذ خيلهم وسلاحهم، ثم أقام في ذمار، ونهص منها فاعترصه جنب وغيرهم، وجرى بينهم وبينهم قتال كانت الدائرة [فيه] على العرب، فقتل منهم سبعمائة رجل، ولحقتهم الغزّ حتى أو لجوهم حصن هرّان، وأخذوا منهم قلائع كثيره من؟؟؟ حيل. ويقال إن الملك المعظم دمّر الغزّ في ذلك اليوم وبكّتهم وحملهم على التورط في الهلاك، وقال لهم: " أين منكم ديار مصر؟ ". وفى ذلك يقول الشركى شاعر ذمار: وقال لقومه: موتوا كراما، ... فأين وأين مصر من ذمار؟ ¬

(¬1) ضبطت عن المرجع السابق، حيث قال إنها قلعة حصينة باليمن من مخلاف جعفر مطلة على ذى جبلة. (¬2) ضبطت عن المرجع السابق، وهو حصن باليمن قريب من صنعاء.

ثم سار من ذمار بعد استيلائه عليها طالبا صنعاء، وسلطانها يومئذ السلطان على بن حاتم (¬1) جدّ الأمير بدر الدين محمد بن حاتم، فوصل إليها يوم الجمعة منتصف النهار، وهو اليوم السابع من المحرم سنة سبعين وخمسمائة، وضرب محطته [5 أ] بالجنوب في صنعاء، وقد تحيّز السلطان على بن حاتم وأخوه بشر بمن معهما إلى حصن براش، وقد كانوا حين جاءت المحطة صادفوا ثمانية فرسان من همدان، فشدّوا عليهم فقتلوا منهم ثلاثة ونجا خمسة، فطلعوا الحصن، ثم إن المحطة أقامت في الجنوب إلى يوم الاثنين ولم يصلهم أحد. واختلفت الرواية من هنا، فقيل: " دخلوا صنعاء ولم يلبثوا بها ثم ساروا " وقيل: " بل ساروا من المحطة ولم يدخلوا صنعاء "، والله أعلم أي ذلك كان. إلا أن الإجماع على أن الملك المعظم لم يكن له إقامة في الجهات الصنعانية، ولم يصله أحد من أهلها، فنزل طريقا بها، وأخلا على نفيل السود (كذا)، وهو بين بلاد بنى شهاب وبلاد سنحان، مطل على حقل سنحان وسهام، فلحقهم قوم من بنى شهاب، وقوم سنحان رموهم، وأخذوا من أخذ عسكرهم. ولما علم السلطان على بن حاتم بارتحال الغزّ نزل من براش وعاد إلى صنعاء، فأول ما بدأ به حين عاد أنه [5 ب] خرّب الدرب الذى للمدينة، وقد كان بدأ فيه قبل وصول الغزّ، ثم حال بينه وبين تمامه وصولهم، فلما ساروا حاذر عودتهم فتمم الخراب. وأما ما كان [من] الملك المعظم بعد ارتحاله عن صنعاء، فإنه اعترض العسكر في النزول أهل برع، فأخذوا من آخرهم جمالا كثيرة محملة أموالا جمة من الذهب والفضة والسلاح والآلة، وكثيرا مما استصحبوه من البلاد المصرية وعدن وزبيد يوم الاستيلاء عليها. ¬

(¬1) لاحظ أن هذا جد مؤلف الكتاب.

ثم جاء زبيد، فأقام بها إلى شهر جمادى الأولى في هذه السنة، ثم نهض منها طالبا للجند، ووصل إليه والى حصن صبر الذى كان دائنا لعد النبى واستذم وسلّم الحصن. ثم أخذ حصن بادية وشرباق، وحط على عزان ذخر (¬1)، وفيه يومئذ على بن حجاج من أهل تهامة متوليه، وكان صهرا لعبد النبى، فخاطب الغز وطلب الصلح، فوعدوه أنهم يأخذون منه ما كان في الحصن من المال لعبد النبى ويتركون سبيله، فاستحلفوه على ما عنده من المال لعبد النبى، فأقّر بعشرة [6 ا] آلاف دينار ذهب، فقبضوها منه، وسلّم لهم الحصن وتسلموه. ثم تقدموا إلى المعافر فحاربوا حصن يمين، وفيه الأمير منصور بن محمد بن سبأ، فأخذ الحصن قهرا، وذلك بتخاذل الدانون والرتبة (كذا) هربوا من الحصن ثم تسلموا منيف، وكان لأبى الغيث بن سامر، ثم تسلموا حصن السمدان من النائب الذى كان به، ولم يعترضوا الحصن السواء، وصاحبه يومئذ ابن السبأى، بل أبقوه على حاله، ثم حطّوا على الدّملوة، وفيها ولد الداعى المكرم عمران بن محمد بن سبأ، وواليهما بها جوهر العمرانى، ورموا بالمنجنيقات فلم تبلغ إلا الحر، فلم يكن لهم بها طمع، فصالحوا جوهرا على قطعة هينة من المعشار الذى تحت الدملوة، وعادوا وتقدموا إلى ذى جبلة، فأقاموا بها إلى رابع شعبان من هذه السنة. وبلغ الملك المعظم في خلال هذه الأمور وقوع خلاف في تهامة، فأمر بقتل عبد النبى وأخويه: أحمد ويحيى، فقتلوا في زبيد يوم الثلاثاء السابع من رجب من هذه السنة. ثم إن الملك المعظم أقام في البلاد حتى دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وطلب العودة إلى الديار المصرية، فنهض من اليمن في شهر [6 ب] رجب ¬

(¬1) كذا بالأصل بدون نقط أو ضبط.

من السنة بعد أن قتل ياسر بن بلال - مولى الدعاة بنى زريع - الذى قدمنا ذكره، وقبضه في عدن مع مواليه. واستناب في البلاد نوابا، فجعل في عدن وأعمالها عثمان السنجارى، أو الزنجارى، وفى تعز والجند وأعمالها ياقوت التعزى، وفى حصن التعكر وذى جبلة ومخلاف جعفر مظفر الدين قايماز، وفى مدينة زبيد وأعمالها، وجميع تهامة سيف الدولة المبارك بن منقذ، وكان من حمدان، وكان رجلا فصيحا شاعرا، فمن جملة شعره: وإذا أراد الله شرّا بأمرئ، ... وأراد أن يحييه غير سعيد أغراه بالترحال عن مصر بلا ... سبب، وسكّنه بأرض زبيد

(6) قطعة من خطاب بقلم القاضى الفاضل، صادرة عن صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى وزير بغداد، يعدد فيها فتوحه وجهوده

(6) قطعة من خطاب بقلم القاضى الفاضل، صادرة عن صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى وزير بغداد، يعدد فيها فتوحه وجهوده في خدمة الخلافة العباسية، وآخرها قطع الخطبة للخليفة العاضد، وإعلانها للمستضئ بنور الله العباسى، ويطلب إرسال التشريفات عن: (أبو شامة: كتاب الروضتين، ج 1، ص 195) " كتب الخادم هذه الخدمة من مستقره ودين الولاء مشروع، وعلم الجهاد مرفوع، وسؤدد السواد متبوع، وحكم السداد بين الأمة موضوع، وسبب الفساد مقطوع ممنوع، وقد توالت الفتوح عربا ويمنا وشاما، وصارت البلاد بل الدنيا، والشهر بل الدهر، حرما حراما، فأضحى الدين واحدا بعد ما كان أديانا، والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها إلا صما وعميانا، والبدعة خاشعة، والجمعة جامعة، والمذلة في شيع الضلال شائعة، ذلك بأنهم اتخذوا عباد الله من دونه أولياء، وسموا أعداء الله أصفياء، وتقطعوا أمرهم بينهم شيعا، وفرقوا أمر الأمة وكان محتمعا، وكذبوا بالنار فعجلت لهم نار الحتوف، ونثرت أقلام الظبا حروف رءوسهم نثر الأقلام للحروف، ومزقوا كل ممزق، وأخذ منهم كل مخنق، وقطع دابرهم، ووعظ آيبهم غابرهم، ورغمت أنوفهم ومنابرهم، وحقت عليهم الكلمة تشريدا وقتلا، وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا، وليس السيف عمن سواهم من كفار الفرنج بصائم، ولا الليل عن سير إليهم بنائم. ولا خفاء عن المجلس الصاحبى أن من شد عقد خلافة وحلى عقد خلاف، وقام بدولة وقعد بأخرى قد عجز عنها الأخلاف والأسلاف، فإنه مفتقر إلى أن يشكر ما نصح، ويقلد ما فتح، ويبلغ ما اقترح، ويقدم حقه ولا يطرح، ويقرب مكانه

وإن نزح، وتأتيه التشريفات الشريفة، وتتواصل إليه أمداد التقويات الجليلة اللطيفة، وقلبى دعوته بما أقام من دعوة، وتوصل غزوته بما وصل من غزوة، وترفع دونه الحجب المعترضة، وترسل إليه السحب المروضة، فكل ذلك تعود عوائده، وتبدو فوائده، بالدولة التي كشف وجهه لنصرها، وجرّد سيفه لرفع منارها، والقيام بأمرها، وقد أتى البيوت من أبوابها، وطلب النجعة من سحابها، ووعد آماله الواثقة بجواب كتابها، وأنهض لإيصال ملطفاته، وتنجيز تشريفاته، خطيب الخطباء بمصر، وهو الذى اختاره لصعود درجة المنبر، وقام بالأمر قيام من برّ، واستفتح بلباس السواد الأعظم الذى جمع الله عليه السواد الأعظم، آملا أنه يعود إليه بما يطوى الرجاء فضل عقبه، ويخلد الشرف في عقبه ".

(7) نسخة بشارة بانتهاء الدولة الفاطمية فى مصر، والخطبة للخليفة العباسى،

(7) نسخة بشارة بانتهاء الدولة الفاطمية في مصر، والخطبة للخليفة العباسى، حملها عن نور الدين، شهاب الدين أبو المعالى المطهّر بن أبى عصرون لتقرأ في كل مدينة يمر بها في طريقه إلى بغداد عن: (أبو شامة: كتاب الروضتين، ج 1، ص 197 - 198). " أصدرنا هذه المكاتبة إلى جميع البلاد الإسلامية عامة بما فتح الله على أيدينا وتاجه، وأوضح لنا منهاجه، وهو ما اعتمدناه من إقامة الدعوة الهادية العباسية بجميع المدن والبلاد والأقطار والأمصار المصرية، والإسكندرية ومصر والقاهرة، وسائر الأطراف الدانية والقاصية، والبادية والحاضرة، وانتهت إلى القريب والبعيد، وإلى قوص وأسوان بأقصى الصعيد، وهذا شرف لزماننا هذا وأهله، نفتخر به على الأزمنة التي مضت من قبله، وما برحت هممنا إلى مصر مصروفة وعلى افتتاحها موقوفة، وعزائمنا في إقامة الدعوة الهادية بها ماضية، والأقدار في الأزل بقضاء آرائنا وبتنجيز مواعدنا قاضية، حتى ظفرنا بها بعد يأس الملوك منها، وقدرنا عليها وقد عجزوا عنها، وطالما مرت عليها الحقب [198] الخوالى وآبت دونها الأيام والليالى، وبقيت مائتين وثمانين سنة ممنوة بدعوة المبطلين، مملوة بحزب الشياطين، سابغة ظلالها للضلال، مقفرة المحل إلا من المحال، مفتقرة إلى نصرة من الله يملكها، ونظرة ستدركها، رافعة يدها في أشكائها، متظلمة إليه ليكفل بأعدائها على أعدائها، حتى أذن الله لغمتها بالانفراج، ولعلتها بالعلاج، وسبب قصد الفرنج لها وتوجههم إليها، طمعا في الاستيلاء عليها، واجتمع داءان: الكفر والبدعة، وكلاهما شديد الروعة، فملكنا الله تلك البلاد، ومكّن لنا في الأرض، وأقدرنا على ما كنا نؤمله في إزالة الإلحاد والرفض من إقامة الفرض، وتقدمنا إلى من استنباه أن يستفتح باب السعادة، ويستنجح باب مالنا من الإرادة، ويقيم الدعوة الهادية العباسية هنالك، ويورد الأدعيا ودعاة الإلحاد بها المهالك ".

(8) نسخة سجل أصدره صلاح الدين بعيد وفاة العاضد وانتهاء الدولة الفاطمية بإسقاط المكوس فى مصر قرئ على المنبر بالقاهرة يوم الجمعة ثالث صفر سنة 567 هـ‍

(8) نسخة سجل أصدره صلاح الدين بعيد وفاة العاضد وانتهاء الدولة الفاطمية بإسقاط المكوس في مصر قرئ على المنبر بالقاهرة يوم الجمعة ثالث صفر سنة 567 هـ‍ عن: (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 205) " أما بعد، فإنا نحمد الله سبحانه على ما مكّن لنا في الأرض، وحسّنه عندنا من أداء كل نافلة وفرض، ونصبنا له من إزالة النّصب عن عباده، واختارنا له من الجهاد في الله حقّ جهاده، وزهدنا فيه من قناع الدنيا القليل، وألهمنا من محاسبة أنفسنا على النقير والفتيل، وأولانا من سجاحة السماحة، فيوما نهب ما اشتملت عليه الدواوين، ويوما نقطع ما سقاه النيل، فالبشائر في أيامنا تترى، شفعا ووترا، والمسارّ كنظام الجوهر تتبع الواحدة منها الأخرى، والمسامحات قد ملأت المسامع والمطامع، وأسخطت الخيمة والصنايع، وأرضت المنبر والجامع. ولما تقلدنا أمور الرعية، رأينا المكوس الديوانية بمصر والقاهرة أولى ما نقلناها من أن تكون لنا في الدنيا إلى أن تكون لنا في الآخرة، وأن نتجرد منها لنلبس أثواب الأجر الفاخرة، ونطهر منها مكاسبنا، ونصون عنها مطالبنا، ونكفى الرعية ضرهم الذى يتوجه إليهم، ونضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ونعيدها اليوم كأمس الذاهب، ونضعها فلا ترفعها من بعد يد حاسب، ولا قلم كاتب، فاستخرنا الله وعجلنا إليه ليرضى، ورأينا فرصة أجر لا تغض عليها بصائر الأبصار ولا يغضى، وخرج أمرنا بكتب هذا المنشور بمسامحة أهل القاهره ومصر، وجميع التجار المترددين إليهما وإلى ساحل المقسم والمنية بأبواب المكوس صادرها وواردها، فيرد التاجر ويسفر، ويغيب

عن ماله ويحضر، ويقارض ويتجر، برا وبحر، مركبا وظهرا، سرا وجهرا، لا يحل ما شدّه، ولا يحاول ما عنده، ولا يكشف ما ستره، ولا يسأل عما أورده وأصدره، ولا يستوقف في طريقه ولا يشرق بريقه، ولا يؤخذ منه طعمه، ولا يستباح له حرمه. والذى اشتملت عليه المسامحة في السنة من العين: مائة ألف دينار مسامحة، لا يشوبها تأويل، ولا يتخوّنها تحويل، ولا يعتريها زوال، ولا يعتورها انتقال، دائمة بدوام الكلمة، قائمة ما قام دين القيّمة، من عارضها ردّت أحكامه، ومن ناقضها نقض زمامه، ومن أزالها زلت قدمه، ومن أحالها حلّ دمه، ومن تعقبها خلّدت اللعنة فيه وفى عقبه، ومن احتاط لدنياه فيها أحاط به الجحيم الذى هو من حطبه. فمن قرأه أو قرئ عليه من كافة ولاة الأمر، من صاحب سيف وقلم، ومشارف أو ناظر، فليمتثل ما مثل من الأمر، وليمضه على ممر الدهر، مرضيا لربه، ممضيا لما أمر به ".

(9) قطعة من رسالة بقلم القاضى الفاضل، أرسلها صلاح الدين إلى نور الدين، يشرح له فيها القصد من خروجه لمهاجمة حصنى الكرك والشوبك فى أوائل سنة 568 هـ‍

(9) قطعة من رسالة بقلم القاضى الفاضل، أرسلها صلاح الدين إلى نور الدين، يشرح له فيها القصد من خروجه لمهاجمة حصنى الكرك والشوبك في أوائل سنة 568 هـ‍ عن: (الروضتين، ج 1، ص 206) «سبب هذه الخدمة إلى مولانا الملك العادل أعزّ الله سلطانه، ومدّ أبدا إحسانه، ومكّن بالنصر إمكانه، وشيّد بالتأييد مكانه، ونصر أنصاره، وأعان أعوانه، علم المملوك بما يؤثره المولى بأن يقصد الكفار بما يقص أجنحتهم، ويفلل أسلحتهم، ويقطع موادهم، ويخرّب بلادهم، وأكبر الأسباب المعينة على ما يرومه من هذه المصلحة ألا يبقى في بلادهم أحد من العربان، وأن ينتقلوا من ذلّ الكفر إلى عزّ الإيمان، ومما اجتهد فيه غاية الاجتهاد، وعدّه من أعظم أسباب الجهاد، ترحيل كثير من أنفارهم، والحرص في تبديل دارهم، إلى أن صار العدو اليوم إذا نهض لا يجد بين يديه دليلا، ولا يستطيع حيلة، ولا يهتدى سبيلا.

(10) رسالة بقلم القاضى الفاضل مرسلة من صلاح الدين إلى نور الدين يشرح له فيها المؤامرة التى كان يدبرها رجال الدولة الفاطمية والصليبيون، والتى اشترك فيها الشاعر عمارة اليمنى، لقلب نظام الحكم وإعادة الدولة الفاطمية

(10) رسالة بقلم القاضى الفاضل مرسلة من صلاح الدين إلى نور الدين يشرح له فيها المؤامرة التي كان يدبرها رجال الدولة الفاطمية والصليبيون، والتي اشترك فيها الشاعر عمارة اليمنى، لقلب نظام الحكم وإعادة الدولة الفاطمية عن: (الروضتين، ج 1، ص 220 - 222) " قصر هذه الخدمة على متجدد سار للإسلام وأهله، وبشارة مؤذنة بظهور وعد الله في إظهاره على الدين كله، بعد أن كانت لها مقدمات عظيمة، إلا أنها أسفرت عن النجح، وأوائل كالليلة البهيمة، إلا أنها انفرجت عن الصبح، فالإسلام ببركاته البادية، وفتكاته الماضية، قد عاد مستوطنا بعد أن كان غريبا، وضرب في البلاد بجرانه بعد أن كان كالكفريتم عليه تخيلا عجيبا، إلا أن الله سبحانه أطلع على أمرها من أوله، وأظهر على سرها من مستقبله، والمملوك يأخذ في ذكر الخبر، ويعرض عن ذكر الأثر: لم يزل يتوسم من جند مصر، ومن أهل القصر، بعد ما أزال الله من بدعتهم، ونقض من عرى دولتهم، وخفّض من مرفوع كلمتهم، أنهم أعداء وإن تعدت بهم الأيام، وأضداد وإن وقعت عليهم كلمة الإسلام، وكان لا يحتقر منهم حقيرا، ولا يستبعد منهم شرا كبيرا، وعيونه لمقاصدهم موكلة، وخطراته في التحرز منهم مستعملة، لا تخلو سنة تمر، ولا شهر يكر، من مكر يجتمعون عليه، وفساد يتسرعون إليه، وحيلة يبرمونها، ومكيدة يتممونها، وكان أكثر ما يتعللون به، ويستريحون إليه، المكاتبات المتواترة، والمراسلات المتقاطرة، إلى الفرنج خذلهم الله، التي يوسعون لهم فيها سبل المطامع، ويحملونهم فيها

على العظائم والفظائع، ويزينون لهم الإقدام والقدوم، ويخلعون فيها ربقة الإسلام خلع المرتد المخصوم، ويد الفرنج بحمد الله (221) قصيرة عن إجابتهم، إلا أنهم لا يقطعون حبل طمعهم على عادتهم، وكان ملك الفرنج كلما سولت له نفسه الاستتار في مراسلتهم، والتحيل في مفاوضتهم، سيّر " جرج " - كاتبه - رسولا إلينا ظاهرا، وإليهم باطنا، عارضا علينا الجميل الذى ما قبلته قط أنفسنا، وعاقدا معهم القبيح الذى يشتمل عليه في وقته علمنا، ولأهل القصر والمصريين في أثناء هذه المدد رسل تتردد، وكتب إلى الفرنج تتجدد. ثم قال: والمولى عالم أن عادة أوليائه المستفادة من أدبه أن لا يبسطوا عقابا مؤلما، ولا يعذبوا عذابا محكما، واذا طال لهم الاعتقال، ولم ينجع السؤال، أطلق سراحهم، وخلى سبيلهم، فلا يزيدهم العفو إلا ضراوة، ولا الرقة عليهم إلا قساوة، وعند وصول " جرج " في هذه الدفعة الأخيرة رسولا إلينا بزعمه، ورد إلينا كتاب ممن لا نرتاب به من قومه، يذكرون أنه رسول مخاتلة، لا رسول مجاملة، وحامل بليّة لا حامل هديّة، فأوهمناه الإغفال عن التيقظ لكل ما يصدر منه وإليه، فتوصل مرة بالخروج ليلا، ومرة بالركوب إلى الكنيسة وغيرها نهارا إلى الاجتماع بحاشية القصر وخدامه، وبأمراء المصريين وأسبابهم، وجماعة من النصارى واليهود وكلابهم وكتابهم، فدسسنا إليهم من طائفتهم من داخلهم، فصار ينقل إلينا أخبارهم، ويرفع إلينا أحوالهم، ولما تكاثرت الأقوال، وكاد يشتهر علمنا بهذه الأحوال، استخرنا الله تعالى، وقبضنا على جماعة مفسدة، وطائفة من هذا الجنس متمردة، قد اشتملت على الاعتقادات المارقة، والسرائر المنافتة، فكلا أخذ الله بذنبه، فمنهم من أقرّ طائعا عند إحضاره، ومنهم من أقرّ بعد ضربه، فانكشفت أمور أخرى كانت مكتومة، ونوب غير التي كانت عندنا معلومة، وتقريرات مختلفة في المراد، متفقة في الفساد ".

ثم ذكر تفصيلا حاصله: أنهم عيّنوا خليفة ووزيرا مختلفين في ذلك، فمنهم من طلب إقامة رجل كبير السن من بنى عم العاضد، ومنهم من جعل ذلك لبعض أولاد العاضد وإن كان صغيرا، واختلف هؤلاء في تعيين واحد من ولدين له، وأما بنو رزّيك وأهل شاور فكلّ منهم أراد الوزارة لبيتهم، من غير أن يكون لهم غرض في تعيين الخليفة. ثم قال: " وكانوا فيما تقدم، والمملوك على الكرك والشوبك بالعسكر قد كاتبوهم، وقالوا لهم إنه بعيد، والفرصة قد أمكنت، فإذا وصل الملك الفرنجى إلى صدر أو إلى أيلة ثارت حاشية القصر، وكافة الجند، وطائفة السودان، وجموع الأرمن وعامة الإسماعيلية، وفتكت بأهلنا وأصحابنا بالقاهرة ". ثم قال: " ولما وصل " جرج " كتبوا إلى الملك الفرنجى أن العساكر متباعدة في نواحى إقطاعاتهم، وعلى قرب من موسم غلاتهم، وأنه لم يبق في القاهرة إلا بعضهم، وإذا بعثت أسطولا إلى بعض الثغور أنهض فلانا من عنده، وبقى في البلد وحده، ففعلنا ما تقدم ذكره من الثورة ". ثم قال: " وفى أثناء هذه المدة كاتبوا سنانا - صاحب الحشيشية - بأن الدعوة واحدة، والكلمة جامعة، وأن ما بين أهلها خلاف إلا فيما لا يفترق به كلمة، ولا يجب به قعود عن نصرة، واستدعوا منه من يتمم على المملوك غيلة، أو يبيّت له مكيدة وحيلة، والله من ورائهم محيط، وكان الرسول إليهم عن المصريين خال ابن قرجلة المقيم الآن هو وابن أخته عند الفرنج.

ولما صحّ الخبر، وكان حكم الله أولى ما أخذ به، وأدب الله أمضى فيمن خرج عن أدبه، وتناصرت من أهل العلم الفتاوى، وتوالت من أهل المشورة بسبب تأخير القتل فيهم المراجعات والشكاوى، قتل الله بسيف الشرع المطهر جماعة من الغوات والغلاة، الدعاة إلى النار، الحاملين لأثقالهم وأثقال من أضلوه من الفجّار، وشنقوا على أبواب قصورهم، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم، ووقع التتبع لأتباعهم، وشردت طائلة الإسماعيلية ونفوا، ونودى بأن يرحل كافة الأجناد، وحاشية القصر، وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد. فأما من في القصر فقد وقعت الحوطة عليهم إلى أن ينكشف وجه رأى يمضى بينهم. ولا رأى فوق رأى المولى، والله سبحانه المستخار، وهو المستشار، وعنده من أهل العلم من تطيب النفس بتقليده، وتمضى الحدود بتحديده، ورأى المملوك إخراجهم من القصر فإنهم مهما بقوا فيه بقيت مادة لا تنحسم الأطماع عنها، فإنه حبالة للضلال منصوبة، وبيعة للبدع محجوبة. ومما يطرف المولى به أن ثغر الاسكندرية - على عموم مذهب السنة فيه - أطلع البحث أنّ فيه داعية خبيثا أمره، محتقوا شخصه، عظيما كفره، يسمى قديد القفّاص، وأن المذكور مع خموله في الديار المصرية، قد فثت في الشام دعوته، وطبقت عقول أهل مصر فتنته، وأن أرباب المعايش فيه يحملون إليه جزءا من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطرا وافيا من أموالهن، ووجدت في منزله بالاسكندرية عند القبض له والهجوم عليه كتبا مجردة، فيها خلع العذار، وصريح الكفر الذى ما عنه اعتذار، ورقاع يخاطب بها، فيها ما تقشعر منه الجلود: وبالجملة فقد كفى الإسلام أمره، وحاق به مكره، (222) وصرعه كفره ".

(11) قطعة من رسالة بقلم العماد الأصفهانى، مرسلة من الملك الصالح إسماعيل إلى صلاح الدين، ينبئه بوفاة والده نور الدين ويعزيه فيه

(11) قطعة من رسالة بقلم العماد الأصفهانى، مرسلة من الملك الصالح إسماعيل إلى صلاح الدين، ينبئه بوفاة والده نور الدين ويعزيه فيه عن: (الروضتين، ج 1، ص 230) " ورد خبر من جانب العدو اللعين، عن المولى نور الدين، أعاذنا الله فيه من سماع المكروه، ونوّر بعافيته القلوب والوجوه؛ فاشتد به الأمر، وضاق به الصدر، وانقصم بحادثه الظهر، وعز فيه التثبت وأعوز الصبر، فإن كان - فللحوادث والعياذ بالله - قد تم، وخصه الحكم الذى عم، فللحوادث تدخر النصال، وللأيام تصطنع الرجال، وما رتّب الملوك ممالكها إلا لأولادها، ولا استودعت الأرض الكريمة البذر إلا لتؤدى حقها يوم حصادها، فالله الله أن تختلف القلوب والأيدى، فتبلغ الأعداء مرادها، وتعدم الآراء رشادها، وتنتقل النعم التي تعبت الأيام فيها إلى أن أعطت قيادها، فكونوا يدا واحدة، وأعضادا متساعدة، وقلوبا يجمعها ود، وسيوفا يضمها غمد، ولا تختلفوا فتنكلوا، ولا تنازعوا فتفشلوا، وقوموا على أمشاط الأرجل، ولا تأخذوا الأمر بأطراف الأنمل، فالعداوة محدقة بكم من كل مكان، والكفر مجتمع على الإيمان، ولهذا البيت منا ناصر لا نخذله، وقائم لا نسلمه، وقد كانت وصيته إلينا سبقت، ورسالته عندنا تحققت، بأن ولده القائم بالأمر، وسعد الدين كمشتكين الأتابك بين يديه، فإن كانت الوصية ظهرت وقبلت، والطاعة في الغيبة والحضور أديت وفعلت، وإلا فنحن لهذا الولد يد على من ناواه، وسيف على من عاداه، وإن أسفر الخبر عنه عن معافاه، فهو الغرض المطلوب والنذر الذى يحل على الأيدى والقلوب ".

(12) قطعة من رسالة بقلم القاضى الفاضل مرسلة من صلاح الدين إلى الملك الصالح إسماعيل للتعزية فى وفاة والده نور الدين

(12) قطعة من رسالة بقلم القاضى الفاضل مرسلة من صلاح الدين إلى الملك الصالح إسماعيل للتعزية في وفاة والده نور الدين عن: (أبو شامة: كتاب الروضتين، ج 1، ص 230) " وأما العدو - خذله الله - فوراءه من الخادم من يطلبه طلب ليل لنهاره، وسيل لقراره إلى أن يزعجه من مجاثمه، ويستوقفه عن مواقف مغانمه، وذلك من أقل فروض البيت الكريم [231] وأيسر لوازمه. أصدر هذه الخدمة يوم الجمعة رابع ذى القعدة، وهو اليوم الذى أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم، وصرح فيه بذكره في الموقف العظيم، والجمع الذى لا لغو فيه ولا تأثيم، وأشبه يوم الخادم أمسه في الخدمة، ووفى مالزمه من حقوق النعمة، وجمع كلمة الإسلام عالما أن الجماعة رحمة، والله تعالى يخلد ملك المولى الملك الصالح ويصلح به وعلى يديه، ويؤكد عهود النعماء الراهنة لديه، ويجعل للإسلام واقية باقية عليه، ويوفق الخادم لما ينويه من توثيق سلطانه وتشييده، ومضاعفة ملكه ومزيده، وييسر منال كل أمر صالح، وتقريب بعيده إن شاء الله ".

(13) قطعة من رسالة بقلم القاضى الفاضل أرسلها صلاح الدين إلى الملك الصالح إسماعيل للسؤال عن صحة والده نور الدين، بعد أن أشاع الفرنج خبر موته، ولم يكن صلاح الدين قد تأكد عنده هذا الخبر بعد

(13) قطعة من رسالة بقلم القاضى الفاضل أرسلها صلاح الدين إلى الملك الصالح إسماعيل للسؤال عن صحة والده نور الدين، بعد أن أشاع الفرنج خبر موته، ولم يكن صلاح الدين قد تأكد عنده هذا الخبر بعد عن: (الروضتين، ج 1، ص 230) " أطال الله بقاء سيدنا الملك الناصر، وعظّم أجرنا وأجره في والدنا الملك العادل، ندب الشام بل الإسلام حافظ ثغوره، وملاحظ أموره، ومقدام الجهاد، مقتنى فضيلته، ومؤدى فريضتة، ومحيى سنته، وأورثنا بالاستحقاق ملكه وسريره، على أنه يعز أن يرى الزمان نظيره، وما هاهنا ما يشغل السر، ويقسم الفكر، إلا أمر الفرنج خذلهم الله، وما كان اعتماد مولانا الملك العادل عليه، وسكونه إليه إلا لمثل هذا الحادث الجلل، والصرف الكارث المذهل، فقد ادخره لكفايات النوائب، وأعده لحسم أدواء المعضلات اللوازب، وأملّه ليومه ولغده، ورجاه لنفسه ولولده، ومكنه قوة لعضده، فما - فقد رحمه الله - إلا صورة والمعنى باق، والله تعالى حافظ لبيته واق، وهل غيره دام سموه من مؤازر، وهل سوى السيد الأجل الناصر من ناصر، وقد عرفناه المقترح ليروض برأيه من الأمر ما جمح، والأهم شغل الكفار عن هذه الديار بما كان عازما عليه من قصدهم والنكاية فيهم على البدار، ويجرى على العادة الحسنى في إحياء ذكر الوالد، بتجديد ذكرنا، راغبا في اغتنام ثنائنا وشكرنا ".

(14) رسالة مرسلة من صلاح الدين إلى أحد أمراء الشام ينبئه بخبر وصول الأسطول من صقلية لمهاجمة مدينة الاسكندرية فى يوم الأحد السادس والعشرين

(14) رسالة مرسلة من صلاح الدين إلى أحد أمراء الشام ينبئه بخبر وصول الأسطول من صقلية لمهاجمة مدينة الاسكندرية في يوم الأحد السادس والعشرين من ذى الحجة سنة 569، وكيف انتهى الأمر بفشله في أول المحرم سنة 570 عن: (الروضتين، ج 1، ص 234 - 235) " إنّ أول الأسطول وصل وقت الظهر، ولم يزل متواصلا متكاملا إلى وقت العصر، وكان ذلك على حين غفلة من المتوكلين بالنظر، لا على حين خفاء من الخبر، فأمر ذلك الأسطول كان قد اشتهر وروع به ابن عبد المؤمن في البلاد المغربية، وهدد به في الجزائر الرومية صاحب قسطنطينية، فشوهد في الثغر من وفور عدته وكثرة عدته، وعظيم الهمة به، وفرط الاستكثار منه، ما ملأ البحر واشتد به الأمر، فحمى أهل الثغر عليهم البر، ثم أشير عليهم أن يقربوا من السور، فأمكن الأسطول النزول، فاستنزلوا خيولهم من الطرائد، وراجلهم من المراكب، فكانت الخيل ألفا وخمسمائة رأس، وكانوا ثلاثين ألف مقاتل، ما بين فارس وراجل، وكانت عدة الطرائد ستة وثلاثين طريدة تحمل الخيل، وكان معهم مائتا شينى، في كل شينى مائة وخمسون راجلا، وكانت عدة السفن التي تحمل آلات الحرب والحصار من الأخشاب الكبار وغيرها ست سفن، وكانت عدة المراكب الحمّالة برسم الأزواد والرجال أربعين مركبا، وفيها من الراجل المتفرق وغلمان الخيّالة، وصناع المراكب، وأبراج الزحف، ودباباته، والمنجنيقية، ما يتمم خمسين ألف رجل. ولما تكاملوا نازلين على البر، خارجين من البحر، حملوا على المسلمين حملة أوصلوهم إلى السور، وفقد من أهل (235) الثغر في وقت الحملة ما يناهز

سبعة أنفس، واستشهد محمود بن البصار وبسهم جرح، وجذفت مراكب الفرنج داخلة إلى الميناء، وكان به مراكب مقاتلة، ومراكب مسافرة، فسبقهم أصحابنا إليها فخسفوها وغرقوها، وغلبوهم على أخذها، وأحرقوا ما احترق منها، واتصل القتال إلى المساء فضربوا خيامهم بالبر، وكان عدتهم ثلثمائة خيمة. فلما أصبحوا زحفوا وضايقوا، وحاصروا، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها، وثلاثة مجانيق كبار المقادير، تضرب بحجارة سود استصحبوها من صقلية، وتعجب أصحابنا من شدة أثرها، وعظم حجرها، وأما الدبابات فإنها تشبة الأبراج في جفاء أخشابها، وارتفاعها، وكثرة مقاتلتها، واتساعها، وزحفوا بها إلى أن قاربت السور، ولجّوا في القتال عامة النهار المذكور. وورد الخبر إلى منزلة العساكر بفاقوس يوم الثلاثاء ثالث يوم نزول العدو على جناح الطائر، فاستنهضنا العساكر إلى الثغرين: اسكندرية ودمياط، احترازا عليها واحتياطا في أمرها، وخوفا من مخالفة العدو إليها، واستمر القتال، وقدمت الدبابات، وضربت المنجنيقات، وزاحمت السور إلى أن صارت منه بمقدار أماج البحر، وأهاج الدور، فاتفق أصحابنا على أن يفتحوا أبوابا قبالتها من السور، ويتركوها معلقة بالقشور، ثم فتحوا الأبواب، وتكاثر صالح أهل الثغر من كل الجهات، فأحرقوا الدبابات المنصوبة، وصدقوا عندها من القتال، وأنزل الله على المسلمين النصر، وعلى الكفار الخذلان والقهر. والتصل القتال إلى العصر من يوم الأربعاء، وقد ظهر فشل الفرنج ورعبهم، وقصرت عزائمهم وفتر حربهم، وأحرقت آلات قتالهم، واستحر القتل والجراح في رجالهم، ودخل المسلمون إلى الثغر لأجل قضاء فريضة الصلاة، وأخذ ما به قيام الحياة، وهم على نية المباكرة، والعدو على نية الهرب والمبادرة.

ثم كرّ المسلمون عليهم بغتة وقد كاد يختلط الظلام، فهاجموهم في الخيام، فتسلموها بما فيها، وفتكوا في الرجالة أعظم فتك وتسلموا الخيالة، ولم يسلم منهم إلا من نزع لبسه، ورمى في البحر نفسه، وتقحم أصحابنا في البحر على بعض المراكب فخسفوها وأتلفوها، فولّت بقية المراكب هاربة، وجاءتها أحكام الله الغالبة، وبقى العدو بين قتل وغرق، وأسر وفرق، واحتمى ثلثمائة فارس منهم في رأس تل، فأخذت خيولهم، ثم قتلوا وأسروا، وأخذ من المتاع والآلات والأسلحة مالا يملك مثله، وأقلع هذا الأسطول عن الثغر يوم الخميس ".

(15) رسالة بقلم القاضى الفاضل أرسلها صلاح الدين وهو بالقرب من حماة فى طريقه إلى حلب لمحاربة قواد نور الدين، إلى الديوان العزيز ببغداد،

(15) رسالة بقلم القاضى الفاضل أرسلها صلاح الدين وهو بالقرب من حماة في طريقه إلى حلب لمحاربة قواد نور الدين، إلى الديوان العزيز ببغداد، يعدد فيها فتوحه وانتصاراته في مصر واليمن والمغرب، ويسأل الخليفة أن يرسل إليه التقاليد بتوليته على هذه البلاد، وعلى ما قد يفتحه في المستقبل من بلاد أخرى عن: (الروضتين، ج 1، ص 241 - 243) " فإذا قضى التسليم حق اللقاء، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء، فليعد وليعد حوادث ما كانت حديثا يفترى، وجوارى أمور إن قال فيها كثيرا فأكثر منه ما قد جرى، وليشرح صدرا منها لعله يشرح منا صدرا، وليوضح الأحوال المستسرة، فإن الله لا يعبد سرا: ومن الغرائب أن تسير عرائب ... في الأرض لم يعلم بها المأمول كالعيس أقتل ما يكون لها الصدى، ... والماء فوق ظهورها محمول فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير، ونلقى السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير، ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعى التصدير، ولابد أن تسترد بضاعتنا بموقف العدل الذى تردّ به الغصوب، وتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كما أخذنا بحظ القلوب، وما كان العائق إلا أنا كنا ننتظر ابتداء من الجانب الشريف بالنعمة يضاهى ابتداءنا بالخدمة، وإنجابا للحق يشاكل إنجابنا للسبق، كان أول أمرنا أنا كنا في الشام لفتح الفتوح مباشرين بأنفسنا، ونجاهد الكفار متقدمين لعساكرنا، نحن ووالدنا وعمنا في أي مدينة فتحت، أو معقل ملك، أو عسكر للعدو كسر، أو مصاف

للإسلام معه ضرب، فما يجهل أحد صنعنا، ولا يجحد عدونا أنا تصطلى الجمرة، ونملك الكرة، ونتقدم الجماعة، ونرتب المقاتلة، وندبر التعبية، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها، وكانت أخبار مصر تتصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء تدبير، وبما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النظام بها قد فسد، والإسلام بها قد ضعف عن إقامة كل من قام وقعد، والفرنج قد احتاج من يدبرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير خطيرة، وأن كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة، فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة، فإنها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضلالات فيها على ما يفتى فيه بفراق الإسلام ويحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تعبد من دون الله وتعظم وتفخم، فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غرّه تقلب الذين كفروا في البلاد، فسمت همتنا دون همم أهل الأرض إلى أن نستفتح مقفلها، ونسترجع للإسلام شاردها، ونعيد على الدين ضالته منها. فسرنا إليها في عساكر ضخمة، وجموع جمة، وبأموال انتهكت الموجود، وبلغت منا المجهود، أنفقناها من حاصل ذممنا وكسب أيدينا، وثمن أسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا، فعرضت عوارض منعت، وتوجهت للمصريين رسل باستنجاد الفرنج قطعت، ولكل أجل كتاب، ولكل أمل باب، وكان في تقدير الله أنا نملكها على الوجه الأحسن، ونأخذها بالحكم الأقوى الأمكن، فغدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها، وعلم أن استئصال كلمة الإسلام محطها، فكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان، كما كاتبنا المسلمون من الشام في هذا الأوان، بأنا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج عن اليد، وإن لم ندفع غريم اليوم لم نمهل إلى الغد، فسرنا بالعساكر المجموعة، والأمراء والأهل المعروفة، إلى بلاد قد تمهد لنا بها أمران، وتقرر لنا في القلوب ودان: الأول ما علموه من إيثارنا للمذهب الأقوم، وإحياء الحق الأقدم، والآخر ما يرجونه من فك أسارهم وإقالة عثارهم،

ففعل الله ما هو أهله، وجاء الخبر إلى العدو فانقطع حبله، وضاقت به سبله، وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها وبلادها وأقاليمها قد نفذت فيها أوامره، وخفقت عليها صلبانه، ونصبت بها أوثانه، وأيس من أن يسترجع ما كان بأيديهم حاصلا، وأن يستنقذ ما صار في ملكهم داخلا. ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السر فيهم أنفذ من العزيمة في الجهر، وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف كلهم أغتام أعجام، إن هم إلا كالأنعام، لا يعرفون ربّا إلا ساكن قصره، ولا قبلة إلا [242] ما يتوجهون إليه من ركنه وامتثال أمره، وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية، موضوعة عنهم الجزية، كانت لهم شوكة وشكة، وحمة وحمية، ولهم حواش لقصورهم من بين داع تتلطف في الضلال مداخله، وتصيب القلوب مخاتله، ومن بين كتاب تفعل أقلامهم أفعال الأسل، وخدام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النحل، ودولة قد كبر نملها الصغير ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع ما يكنه الضمير، فكيف بخطوات التدبير. هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادة جارية جائرة، وتحريف للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله بالتنزيل، وكفر سمى بغير اسمه، وشرع يتستر به ويحكم بغير حكمه. فما زلنا نسحتهم سحت المبارد للشفار، ونتحيفهم تحيف الليل والنهار، بعجائب تدبير لا تحتملها المساطير، وغرائب تقدير لا تحملها الأساطير، ولطيف توصل ما كان من حيلة البشر ولا قدرتهم لولا إعانة المقادير. وفى أثناء ذلك استنجدوا علينا بالفرنج دفعة إلى بلبيس ودفعة إلى دمياط، وفى كل دفعة منهما وصلوا بالعدد المجهر، والحشد الأوفر، وخصوصا في نوبة دمياط، فإنهم نازلوها بحرا في ألف مركب مقاتل وحامل، وبرا في مائتى

ألف فارس وراجل، وحصروها شهرين يباكرونها ويراوحونها ويماسونها ويصابحونها القتال الذى يصلبه الصليب، والقراع الذى ينادى به الموت من مكان قريب، ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر، ونضابر الضدين المنافق والكافر، حتى أتى الله بأمره وأيدنا بنصره، وخابت المطامع من المصريين والفرنج، وشرعنا في تلك الطوائف من الأرمن والسودان والأجناد فأخرجناهم من القاهرة تارة بالأوامر المرهقة لهم، وتارة بالأمور الفاضحة منهم، وطورا بالسيوف المجردة، وبالنار المحرقة، حتى بقى القصر ومن به من خدم ومن ذرية قد تفرقت شيعه، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخفيت ضلالته. فهنالك تمّ لنا إقامة الكلمة، والجهر بالخطبة، والرفع للواء الأسود الأعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بهلاكه وفنائه، وبرأنا من عهدة يمين كان إثم حنثها أيسر من إثم إبقائه، لأنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته. ولما خلا ذرعنا ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها برا وبحرا، مركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أخذت من أيديهم، ولا أوجفت عليها خيلهم ولا ركابهم مذ ملكها أعاديهم، فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما استولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة، كان العدو قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم فساء منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومشاعر الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل عليه السلام أن يقوم به من ناره غير برد وسلام، ومضجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتطرقه من لا يدين بما جاءبه من الإسلام، فأخذت هذه القلعة، وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسفار البلاد، وغيرهم من عباد العباد ".

ثم قال: " وكان باليمن ما علم من أمر ابن مهدى الضال الملحد، المبدع المتمرد، وله آثار في الإسلام وثار، طالبه النبى صلى الله عليه وسلم، لأنه سبى الشرائف الصالحات وباعهن بالثمن البخس، واستباح منهن كل مالا يقر لمسلم عليه نفس، ودان ببدعه ودعا إلى قبر أبيه وسماه كعبة، وأخذ أموال الرعايا المعصومة وأجاحها، وأحلّ الفروج المحرمة وأباحها، فأنهضنا اليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلفنا له نفقات واسعة، وأسلحة رائعة، وسار فأخذناه ولله الحمد، وأنجز الله فيه القصد، والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سامية، وإلى ما يفتضّ الإسلام عذرته متمادية. ولنا في الغرب أثر أغرب، وفى أعماله أعمال دون مطلبها مهالك، كما يكون المهلك دون المطلب، وذلك أن بنى عبد المؤمن قد اشتهر أن أمرهم قد أمّر، وملكهم قد عمّر، وجيوشهم لا تطاق، وأمرهم لا يشاق، ونحن بحمد الله قد تملكنا مما يجاورنا منه بلادا تزيد مسافتها على شهر، وسيرنا إليها عسكرا بعد عسكر، فرجع بنصر بعد نصر، ومن البلاد المشاهير والأقاليم الجماهير: برقة، قفصة، قسطيلية، توزر، كل هذا تقام فيها الخطبة لمولانا الامام المستضئ بأمر الله أمير المؤمنين، سلام الله عليه، ولا عهد للإسلام بإقامتها وينفذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها. وفى هذه السنة كان عندنا وفد قد شاهده وفود الأمصار، ورموه بأسماع وأبصار، مقداره سبعون راكبا، كلهم يطلب لسلطان بلده تقليدا، ويرجو منا وعدا ويخاف وعيدا، وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها، وألقيت الينا مقاليدها، وسيرنا الخلع والمناشير والألويه بما فيها من الأوامر والأقضية. فأما الأعداء المحدقون بهذه البلاد، والكفار الذين يقاتلوننا بالممالك العظام والعزائم الشداد، فمنهم صاحب قسطنطينية وهو الطاغية الأكبر، والجالوت الأكفر، وصاحب [243] المملكة التي أكلت على الدهر وشربت، وقائم

النصرانية الذى حكمت دولته على ممالكها وغلبت، جرت لنا معه غزوات بحرية، ومناقلات ظاهرة وسرية، ولم نخرج من مصر إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة نوبتين بكتابين، كل واحد منهما يظهر فيه خفض الجناح، والقاء السلاح، والانتقال من معاداة إلى مهاداة، ومن مفاضحة إلى مناصحة، حتى أنه أنذر بصاحب صقلية وأساطيله التي تردد ذكرها، وعساكره التي لم يخف أمرها. ومن هؤلاء الكفار: هذا صاحب صقلية، كان حين علم بأن صاحب الشام وصاحب قسطنطينية قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وقسرا وهزما وكسرا، أراد أن يظهر قوته المستقلة، فعمّر أسطولا يستوعب فيه ماله وزمانه، فله الآن خمس سنين تكثر عدته، وتنتخب عدته، إلى أن وصل منها في السنة الخالية إلى الاسكندرية أمر رائع، وخطب هائل، ما أثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ صدره مثل خيله ورجله، وما هو إلا إقليم بل أقاليم نقله، وجيش ما احتفل ملك قط بنظيره لولا أن الله خذله. ومن هؤلاء الجيوش: البنادقه والبياشنة والجنوية، كل هؤلاء تارة يكونون غزاة لا تطاق ضراوة ضرهم، ولا تطفأ شرارة شرهم، وتارة يكونون سفارا يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الأحكام المرهوبة، وما منهم إلا من هو الآن يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرب إلينا باهداء طرائف أعماله وتلاده، وكلهم قد قررت معهم المواصلة، وانتظمت معهم المسالمة، على ما نريد ويكرهون، وعلى ما نؤثر وهم لا يؤثرون. ولما قضى الله سبحانه بالوفاة النورية، وكنا في تلك السنة على نية الغزاة، والعساكر قد تجهزت، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج على بانياس وأشرفوا على احتيازها، ورأوها فرصة مدّ وأيد انتهازها، استصرخ بنا صاحبها، فسرنا مراحل اتصل بالعدو أمرها، وعوجل بالهدنة الدمشقية التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها، ثم عدنا إلى البلاد، وتوافت الينا الأخبار بما المملكة النورية

عليه من تشعب الآراء وتوزعها، وتشتت الأمور وتقطعها، وأن كل قلعة قد حصل فيها صاحب، وكل جانب قد طمح إليه طالب، والفرنج قد بنوا قلاعا يتخوفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشامية، وأمراء الدولة النورية قد سجن كبارهم وعوقبوا وصودروا، والمماليك الأعماد الذين خلقوا للأطراف لا للصدور، وجعلوا للقيام لا للعقود، في المجلس المحضور، قد مدوا الأيدى والأعين والسيوف، وسارت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف، وكل واحد يتخذ عند الفرنج يدا، ويجعلهم لظهره سندا. وعلمنا أن البيت المقدس إن لم تتيسر الأسباب لفتحه، وأمر الكفر إن لم يتجرد العزم في قلعه، وإلا نبتت عروقه، واتسعت على أهل الدين خروقه، وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود دائمة، وإنّا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة، وكلال الدواب التي بها على الجهاد القوة، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والبلاد قريبة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة، والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة الجموع، والأوقات مساعدة، وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتلة، وأمور مختلة، وآراء فاسدة، وأمراء متحاسدة، وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، فأنا به أولى من قوم يأكلون الدنيا باسمه، ويظهرون الوفاء في خدمته وهم عاملون بظلمه. والمراد الأن هو كل ما يقوى الدولة، ويؤكد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الرأفة، ويفتح بقية البلاد، وأن يطبق بالاسم العباسى كل ما تطبقه العهاد، وهو: تقليد جامع بمصر، واليمن، والمغرب، والشام، وكلما تشتمل عليه الولاية النورية، وكل ما يفتحه الله للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا، ولمن نقيمه من أخ أو ولد من بعدنا، تقليدا للنعمة تخليدا، وللدعوة تجديدا، مع ما ينعم به من السمات التي فيها الملك.

وبالجملة فالشام لا ينتظم أموره بمن فيه، والبيت المقدس ليس له قرن يقوم به ويكفيه، والفرنج فهم يعرفون منا خصما لا يمل الشر حتى يملوا، وقرنا لا يزال محرم السيف حتى يحلوا؛ وإذا شدّ رأينا حسن الرأى ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله ويد كل مؤمن تحت برده، واستنقذنا أسيرا من المسجد الذى أسرى الله إليه بعبده ".

(16) قطع من رسائل بقلم القاضى الفاضل مرسلة من صلاح الدين إلى الديوان العزيز ببغداد فى تعداد ماله من الأيادى على الخلافة العباسية، وخاصة إعادة الخطبة لها فى مصر واليمن والمغرب

(16) قطع من رسائل بقلم القاضى الفاضل مرسلة من صلاح الدين إلى الديوان العزيز ببغداد في تعداد ماله من الأيادى على الخلافة العباسية، وخاصة إعادة الخطبة لها في مصر واليمن والمغرب عن: (الروضتين، ج 1، ص 243 - 244) " والذى أجراه الله على يد المملوك من الممالك التي دوّخها، وسنن الضلال التي نسخها، وعقود الإلحاد التي فسخها، ومنابر الباطل التي رحضها، وحجج الزندقة التي دحضها، فلله عليه المنة فيه إذ أهلّه لشرف مشهده، وما فعله إلا لوجهه، ويد الله كانت عون يده، وإلا فقد قضت الليالى والأيام على تلك الأمور وما تحركت للفلك في قلعها نابضة، وغيرت الأحوال على تلك البدعة، وما ثارت لأفراسها رابضة، فثكر يد الله تعالى فيما أجراه على يده [244] منها أن يجتهد في أخرى مثلها في الكفار وقد عاد الإسلام إلى وطنه، وصوحت من الكفر خضراء دمنه ". ومن كتاب آخر للفاضل يذكر فيه إعادة صلاح الدين الخطبة بمصر للدولة العباسية يقول فيه: " حتى أتى الدنيا ابن بجدتها، فقضى من الأمر ما قضى، وأسخط من لله في سخطه رضى، وجعل وجه لابسى السواد مبيضا، فأدرك لهم بثأر نامت عنه الهمم، ودوخت عليه الأمم، وشفى الصدور، وجاء بالحق إلى من غرّه بالله الغرور، واستبضع إلى الله تعالى تجارة لن تبور ".

ومن كتاب آخر: " قد بورك للخادم في الطاعة التي لبس الأولياء شعارها، وأمضى في الأعداء شفارها، وجمع عليها الدين وكان أديانا، واستقامت بها القلوب على صبغة التكلف وكانت ألوانا ". ومن كتاب آخر: " لم يكن سبب خروج المملوك من بيته إلا وعد كان انعقد بينه وبين نور الدين - رحمه الله - في أن يتجاذبا طرفى الغزاة من مصر والشام، المملوك بعسكرى بره وبحره، ونور الدين من جانب سهل الشام ووعره، فلما قضى الله بالمحتوم على أحدهما، وحدثت بعد الأمور أمور اشتهرت للمسلمين عورات، وضاعت ثغور، وتحكمت الآراء الفاسدة، وفورقت المحاج القاصدة، وصارت الباطنية بطانة من دون المؤمنين، والكفار محمولة إليها جزى المسلمين، والأمراء الذين كانوا للإسلام قواعد، وكانت سيوفهم للنصر موارد، يشكون ضيق حلقات الأسار، وتطرق الكفار بالبناء في الحدود الإسلامية، ولا خفاء أن الفرنج بعد حلولنا بهذه الخطة قاموا وقعدوا، واستنجدوا علينا أنصار النصرانية في الأقطار وسيروا الصليب ومن كسى مذابحهم بقمامة وهددوا طاغية كفرهم بأشراط القيامة، وأنفذوا البطارقة والقسيسين برسائل وصور من يصورونه ممن يسمونهم القديسين، وقالوا إن الغفلة إن وقعت أوقعت فيما لا يستدرك فارطه، وأن كلا من صاحب قسطنطينية وصاحب صقلية وملك الألمان وملوك وماوراء البحر، وأصحاب الجزائر كالبندقية والبيشانية والجنوية وغيرهم، قد تأهبوا بالعمائر البحرية، والأساطيل القوية، وللإسلام بأمير المؤمنين أعز ناصر، لاسيما وهم ينصرون باطلا، وهو ينصر حقا، وهو يعبد خالقا وهم يعبدون خلقا ".

(17) خطاب بقلم القاضى الفاضل، مرسل من صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، الخليفة الموحدى بالمغرب، فى سنة خمس وثمانين وخمسمائة، يستجيشه على الفرنج أثناء قتاله معهم حول عكا

(17) خطاب بقلم القاضى الفاضل، مرسل من صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، الخليفة الموحدى بالمغرب، في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، يستجيشه على الفرنج أثناء قتاله معهم حول عكا عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 6، ص 526 - 530) فتح الله بحضرة سيدنا أمير المؤمنين، وسيد العالمين، وقسيم الدنيا والدين، أبواب الميامن، وأسباب المحاسن، وأحله من كفايته في الحرم الآمن، وأنجزه من نصرة الحق ما الله له ضامن، وأصلح به كلّ رأى عليه الهوى رائن، ومكّن له في هذه البسيطة بسطة، وزاده بالعلم غبطة، حتى يكون للأنبياء بالعلم وللأرض بالعزم وارثا، وحتى يشيد بحادث قديما من مجده الذى لا يزال بغض الحديث حادثا. كان من أوائل عزمنا وفواتح رأينا عند ورودنا الديار المصرية مفاتحة دولة سيدنا، وأن نتيمن بمكاتبتها، ونتزين بمخاطبتها، وننهض إليها أماثل الأصحاب ونستسقى معرفتها استسقاء السحاب، وننتجعها بالخواطر ونجعل الكتب رسلها، وأيدى الرسل سبلها، ونمسك طرفا من حبل الجهاد يكون بيد حضرة سيدنا العالية طرفه، ونمسح غرة سبق وارثها ووارث نورها سلفه، ونتجاذب أعداء الله من الجانبين، لا سيما بعد أن نبنا عنه نيابتين في نوبتين: فالأولى تطهير الأرضين المصرية واليمنية من ضلالة أغضت عيون الأيام على قذاها، وأنامت عيون الأنام بائعة يقظتها بكراها، ونيابة ثانية في تطهير بيت المقدس ممن كان يعارض برجسه تقديسه، ويزعج ببناء ضلاله تأسيسه، وما كان إلا جنة إسلام فخرج منها المسلمون خروج أبيبم آدم من الجنة، وأعقبهم فيها إبليس الكفر

وما أجارته مما أعقبه اللعنة، وما كانت لنا بذلك قوة بل لله القوة، ولا لنا على الخلق منة بل لله المنة. ولما حطّت لدين الكفر تيجان، وحطمت لذويه صلبان؛ وأخرس الناقوس الآذان؛ ونسخ الإنجيل القرءان؛ وفكّت الصخرة من أسرها، وخفّ ما كان على قلب الحجر الأسود بخفة ما كان على ظهرها؛ وبذلك أن يد الكفر غطتها وغمرتها. فلله الحمد أن أحرمت الصخرة بذلك البنيان المحيط، وطهرها ماطر من دم الكفر وما كان ليطهرها البحر المحيط، فهنالك غلب الشرك وانقلب صاغرا، واستجاش كافر من أهله كافرا؛ واستغضب أنفاره النافرة، واستصرخ نصرانيته المتناصرة، وتظاهروا علينا وإن الله مولانا، وطاروا إلينا زرافات ووحدانا، فلم يبق طاغية من طواغيهم، ولا أثفية من أثافيهم؛ إلا ألجم وأسرج، وأجلب وأرهج، وخرّج وأخرج، وجاد بنفسه أو بولده، وبعدده وبعدده؛ وبذات صدره وبذات يده، وبكتائبه برا، وبمراكبه بحرا؛ وبالأقوات للخيل والرجال، والأسلحة والجنن لليمين والشمال؛ وبالنقدين على اختلاف صنفيهما في الجمع، وائتلاف وصفيهما في النفع؛ وأنهض أبطال الباطل، من فارس وراجل، ورامح ونابل، وحاف وناعل؛ ومواقف ومقاتل؛ كلّ خرج متطوعا، وأهطع مسرعا، وأتى متبرعا، ودعا نفسه قبل أن يستدعى وسعى إلى حتفها قبل أن يستسعى؛ حتى ظننا [أن] في البحر طريقا يبسا؛ وحتى تيقنا أن ماوراء البحر قد خلا وعسا؛ وقلنا: كيف نترك، وقد علم أنه يدرك؟ وزادت هذه الحشود المتوافية، وتجافت عنها الهمم المتجافية، وكثرت إلى أن خرجت من سجن حصرها، ومستقر كفرها، وبقية ثغرها - وهو صور -، فنازلت ثغر عكا في أسطول ملك بحره، وجمع سلك بره، فنهضنا، إليه ونزلنا عليهم وعليه؛ فضرب معنا مصاف قتلت فيه فرسانه، وجدلت

شجعانه، وخذلت صلبانه، وساوى الضرب بين حاسر القوم ودارعهم، وبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فهنالك لاذوا بالخنادق يحفرونها، وإلى الستائر ينصبونها، وأخلدوا إلى الأرض متثاقلين، وحملوا أنفسهم على الموت متحاملين، وظاهروا بين الخنادق، وراحوا بين المجانق، وكلما يجن القتل من عددهم مائة أوصلها البحر ممن يصل وراءه بألف، وكلما قلّوا في أعيننا في زحف، قد كثروا فيما يليه من الزحف؛ ولو أن دربة عساكرنا في البحر كدربتها في البر، لعجّل الله منهم الانتصاف، واستقل واحدنا بالعشرة ومائتنا بالألف؛ وقد اشتهر خروج ملوك الكفار في الجمع الجم، والعدد الدهم، كأنهم إلى نصب يوفضون، وعلى نار يعرضون، ووصولهم على جهة القسطنطينية - يسّر الله فتحها - على عزم الائتمام إلى الشام في منسلخ الشتاء ومستهل الصيف، والعساكر الإسلامية لهم تستقبل، وإلى حربهم تنتقل، فلا يؤمن على ثغور المسلمين أن يتطرق العدو إليهم وإليها، ويفرغ لها ويتسلط عليها، والله من ورائهم محيط، وإذا قسمت القوة على تلقى القادم وتوقى المقيم، فربما أضرّ بالإسلام انقسامها، وثلمه والعياذ بالله انثلامها. ولما مخض النظر زبده، وأعطى الرأى حقيقة ما عنده، لم نر لمكاثرة البحر إلا بحرا من أساطيله المنصورة فإن عددها واف، وشطرها كاف، ويمكنه - أدام الله تمكينه - أن يمد الشام منه بعد كثيف، وحد رهيف، ويعهد إلى واليه أن يقيم إلى أن يرتبع ويصيف، ويمكنه أن يكف شطر الأسطول طاغية صقلية ليحصّ جناح قلوعه أن تطير، ويعقل عباب بحره أن يغير، ويعتقله في جزيرته، ويجرى إليه قبل جريرته؛ فيذهب سيدنا وعقبه بشرف ذكر لا تردّ به المحامد على عقبها، ويقيم على الكفر قيامة يطلع بها شمس النصر من مغربها؛ فإذا نفذ طريقه وعلم الناس بموفده، أوردوا وأصدروا في مورده، وشخص المسلم والكافر: هذا ينتظر بشرى البدار، وهذا يستطلع لمن تكون عقبى الدار، وخاف وطأة من يصل من رجال الماء من وصل من رجال النار

ولو بزقت عليهم بازقة غربية لأغرقهم طوفانها، ولو طلعت عليهم جارية بحرية لنعقت قيهم بالشتات غربانها. وما رأينا أهلا لهذه العزمة إلا حضرة سيدنا أدام الله صدق محبة الخير فيه، إذ كان منحه عادة في الرضى به وقدرة على الإجابه، ورغبة في الإنابه، ولاية لأمر المسلمين، ورياسة للدنيا والدين، وقياما لسلطان التوحيد القائم بالموحّدين، وغضبا لله ولدينه، وبذلا لمذخوره في الذبّ عنه دون ما عوده. والآن فقد خلا الإسلام بملائكته، لما خلا الكفر بشياطينه، وما أجلت السوابق إلا لإطلاقها، ولا أثلت الذخائر إلا لإنفاقها، وقد استشرف المسلمون طلوعها من جهته المحروسة جارا من الأساطيل تغشى البحار، وليالى من المراكب تركب من البحر النهار، وإذا خفقت قلوعها خفقت للقلاع قلوب، وإذا تجافت جنوبها عن الموج تجافت من الملاعين جنوب؛ فهى بين ثغر كفر تعتقله وتحصره، وبين ثغر إسلام تفرج عنه وتنصره، يكون بها مصائب عند المسلمين (؟) وتظل قلائد المشركين لغربان بحره طرائد، ويمضى سيف الله الذى لا يعدم في كل زمان فيعلم معه أن سيف الله خالد. أعز الله الإسلام بما يزيد حضرة سيدنا من عزها، فيما مد عليها من ظلها، وبما يسكنه من حرزها، فيما يبسط على الأعداء بها من بأسها، وينزل بهم من رجزها، وبما يجرده من سيوفها، التي تقطع في الكفر قبل سلها وهزها. وقد أوفدناه على باب حضرة سيدنا، وهو الداعى المسمع، والمبلغ المقنع، والمجمع المستجمع؛ علمناه أمرا يسرا، وبوأناه الصدر فكان وجها، وأودعناه السّر فكان صدرا.

(18) خطاب بقلم القاضى الفاضل، من صلاح الدين إلى سيف الدولة ابن منقذ - رسوله إلى ملك المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن - يستنجد به، ويطلب منه المعاونة بإرسال قطع من أسطوله، أثناء حصار الفرنج لعكا

(18) خطاب بقلم القاضى الفاضل، من صلاح الدين إلى سيف الدولة ابن منقذ - رسوله إلى ملك المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن - يستنجد به، ويطلب منه المعاونة بإرسال قطع من أسطوله، أثناء حصار الفرنج لعكا؛ وتاريخ الخطاب 28 شعبان سنة 586 هـ‍ عن: (الروضتين، ج 2، ص 170 - 171) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الأمير الأجل، الاسفهسلار، الأصيل، العالم، المحترم، شمس الدين، عدّة الإسلام، جمال الأنام، تاج الدولة، أمين الملة، صفوة الملوك والسلاطين، شرف الأمراء، مقدم الخواص، أدام الله توفيقه، ويسّر طريقه، وأنجح مقصده، وأعذب مورده، وحرس مغيبه ومشهده، وأسعد يومه وغده. يستخير الله سبحانه، ويتوجه - كيفما يسّر الله - إلى الجهة الاسلامية المغربية، - حرس الله جانبها، ونصر كتائبها ومراكبها - ويستقرى في الطريق وفى البلاد من أخبار القوم في أحوالهم وآدابهم وأشغالهم وأفعالهم، وما يحبونه من القول: نزره أو جمّه، ومن اللقاء: منبسطه أو منقبضه، ومن القعود بمجالسهم: مخففه أو مطوله، ومن التحيات المتهاداة بينهم: ما صيغته وما موقعه، وهل هى السنن الدينية أو العوائد الملوكية، ولا يلقه إلا بما يحبه، ولا يخاطبه إلا بما يسره. والكتاب قد نفذ إليه ولم يختم ليعلم ما خوطب به، والمقصود: أن تقصّ القصص عليه من أول وصولنا إلى مصر، وما أزلنا من البدع بها، وعطلنا من الإلحاد فيها، ووضعنا من المظالم عنها، وإقامة الجمعة وعقد الجماعة فيها، وغزواتنا التي تواصلت إلى بلاد الكفار من مصر، فكانت مقدّمة لملك الشام الإسلامى

باجتماع الكلمة علينا، ومقدّمة لملك الشام الفرنجى بانقياد المسلمين لنا، واتفاق الملوك المجاورين على طاعتنا؛ وتفصيل ما جرى لنا مع الفرنج من الغزوات المتقدمة التي جسنا فيها خلال ديارهم، وجعلها الله تعالى مقدمات لما سبق في علمه من أسباب دمارهم، وما أعقبها من كسرتنا لهم الكسرة الكبرى، وفتح البيت المقدس، وتلك على الإسلام منة الله العظمى، إلى غير ذلك من أخذ الثغور، وافتتاح البلاد وإثخان القتل فيهم والأسر لهم، واستنجاد بقيتهم لفرنج المغرب، وخروج نجداتهم وكثرتها، وقوتها ومنعتها، وغناها وثروتها، ومسارعتها ومبادرتها، وأنه لا يمضى يوم إلا عن قوة تتجدد، وميرة تصل، وأموال واسعة تخرج، ومعونات كثيرة تحمل، وأن ثغرنا حصره العدو، وحصرنا نحن العدو، فما تمكّن من قتال الثغر، ولا تمكّن من قتالنا، وخندق على نفسه عدة خنادق، فما تمكنا من قتاله، وقدّم إلى الثغر أبرجة أحرقها أهله، وخرج مرتين إلى عسكرنا فكسر العدو أقله، فإنه اغتنم أوقاتا لم تكن العساكر فيها مجموعة، وارتاد ساعات لم تكن الأهب فيها مأخوذة، وأقدم على غرة استيقظت فيها نصرة الله لنا وخذلانه لهم، فقتل الله العدو القتل الذريع، وأوقع به الفتك الشنيع، وانجلت إحدى الحركتين عن عشرين ألف قتيل من الكفار خرجت أنفسها إلى مصارعها، وهمدت أجسامها في مضاجعها، والعدو وإن حصر الثغر فإنه محصور، ولو أبرز صفحته لكان باذن الله هو المثبور المكسور. وتذكر ما دخل الثغر من أساطيلنا ثلاث مرات، وإحراقها لمراكبهم وهى الأكثر، ودخولها بالميرة بحكم السيف الأطهر، وأن أمر العدو مع ذلك قد تطاول، وخطبه قد تمادى ونجدته تتواصل، ومنها ملك الألمان في جموع جماهيرها مجمهرة، وأموال قناطيرها مقنطرة، وأن عساكرنا لو أدركته لما استدرك، ولولا سبقه لها بالدخول إلى أنطاكية لتلف وهلك.

وتذكر أنّ الله قصم طاغية الألمان وأخذه أخذة فرعونية بالإغراق، في نهر الدنيا الذى هو طريقه إلى الإحراق في نار الآخرة، وأن هذا العدو لو أرسل الله عليه أسطولا قويا مستعدا يقطع بحره ويمنع ملكه، لأخذنا العدو إما بالجوع والحصر، أو برز فأخذناه بيد الله تعالى التي بها النصر. فإن كانت الأساطيل بالجانب المغربى ميسرة، والعدة منها متوفرة، والرجال في اللقاء فارهة، وللمسير غير كارهة، فالبدار البدار، وأنت أيها الأمير فيها أول من استخار الله وسار. وإن كانت دون الأسطول موانع: إما من قلة عدة، أو من شغل هناك بمهمة، أو بمباشرة عدو ما تحصن منه العورة، أو قد لاحت منه الفرصة؛ فالمعونة ما طريقها واحدة، ولا سبيلها مسدودة، ولا أنواعها محصورة، تكون تارة بالرجال، وتارة بالمال. وما رأينا أهلا لخطابنا، ولا كفؤا لإنجادنا، ولا محقوقا بدعوتنا، ولا ملبيا بنصرتنا، إلا ذلك الجناب، فلم ندعه إلا لواجب عليه، وإلى ما هو مستقل به ومطيق له، فقد كانت تتوقع منه همة تقد في الغرب نارها، ويستطير في الشرق سناها، وتغرس في العدوة القصوى شجرتها، فينال من في العدوة الدنيا جناها، فلا ترضى همته أن يعين الكفر الكفر، ولا يعين الإسلام الإسلام، وما اختص بالاستعانة إلا لأن العدو جاره، والجار أقدر على الجار، وأهل الجنة أولى بقتال أهل النار، ولأنه بحر والنجدة بحريّة، ولا غرو أن يجيش البحار البحار. وإن سئل عن المملوكين: يوزبا وقراقوش، وذكر ما فعلا في أطراف المغرب بمن معهما من نفايات الرجال، الذين نفتهم مقامات القتال، فيعلمهم أن المملوكين ومن معهما ليسوا من وجوه المماليك والأمراء، ولا من المعدودين في الطواشية والأولياء، وإنما كسدت سوقهما، وتبعتهما ألفاف أمثالهما، والعادة جارية أن

العساكر إذا طالت ذيولها، وكثرت جموعها، خرج منها وانضاف إليها، فلا يظهر مزيدها ولا نقصها، ولا كان هذا المملوكان ممن إذا غاب أحضر، ولا ممن إذا فقد افتقد، ولا يقدّر في مثلهما أنه ممن يستطيع نكاية، ولا يأتى بما يوجب شكوى من جناية، ومعاذ الله أن نأمر مفسدا بأن يفسد في الأرض، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت. وإن سئل عن النوبة المصرية، وما فعل بجندها، فيعلمهم الأمير أن القوم راسلوا الكفار، وأطمعوهم في تسليم الديار، فأشفى الإسلام على أمر شديد، وكاد يقرب على الكفر كل أمر بعيد، فلم يعاقب الجيش بل أعيان المفسدين فقوبلوا بما يجب، وكانوا دعاة كفر وضلال، ومحاربين لله بما سعوا في الأرض من فساد. فأما بقية الجيش وإن كان منهم من هو تبع للمذكورين في الرضا، فإنهم اقتصر نهم على ألا يكونوا جندا، ومنهم من أجريت عليه أرزاق تبلغه، وشملته آمنة تسكنه. وأما الهدية المسيّرة على يد الأمير فتفصيلها يرد في كتاب الأمير الأجل، الاسفهسلار، العالم الكبير، مجد الدين، سيف الدولة - أدام الله علوه - مقرونا بالهدية المذكورة. ومع قرب الشتاء فلم يبق إلا الاستخارة والتسمية، ومبادرة الوقت قبل أن يغلق البحر انفتاح الأشتية.

والله سبحانه يوفق الأمير ويسهل سبيله، ويهدى دليله، ويكلاه بعينه، ويمده بعونه، ويحمل رحله، ويبلغه أهله، ويشرح له صدره، وييسر له أمره، إن شاء الله تعالى. وكتب [في] ثامن عشرين شعبان سنة ست وثمانين وخمسمائة.

(19) خطاب مرسل من صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى ملك المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن يستنجد به على الفرنج أثناء حصارهم لعكا

(19) خطاب مرسل من صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى ملك المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن يستنجد به على الفرنج أثناء حصارهم لعكا، وفى ختامه إشارة إلى الهدية المرسلة من صلاح الدين بهذه المناسبة عن: (الروضتين، ج 2، ص 171 - 173) بلاغ إلى محل التقوى الطاهر، ومستقر حزب الله الظاهر، من المغرب، أعلى الله به كلمة الإيمان، ورفع به منار البر والإحسان. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من الفقير إلى رحمة ربه يوسف بن أيوب: أما بعد: فالحمد لله الماضى المشية، الممضى القضية، البرّ بالبريّة، الحفى بالحنفية، الذى استعمل عليها من استعمر به الأرض، وأغنى من أهلها من سأله القرض، وأجزل أجر من أجرى على يده النافلة والفرض، وزان سماء الملّة بدرارى الذرارى التي بعضها من بعض، وصلى الله على سيدنا محمد الذى أنزل عليه كتابا فيه الشفاء والتبيان، وبنى الإسلام بأمته التي شبهها صاحبها بالبنيان، وعلى آله وصحبه الذين اصطفاهم وطهّرهم فنصروه، وظاهروا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فنصرهم وأظهرهم، ويسّر بهم السبيل ثم السبيل يسّرهم، وأن الله بهم لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم. . . {" رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ".} وهذه التحية الطيبة الكريمة الصيبة الواجبة الرد، الموجبة للقصد، العذبة الورد، المتنفسة عن العنبر والورد، وقادة على دار الملك، ومدار النسك، وجل

الجلالة، وأصل الإصالة، ورأس الرياسة، ونفس النفاسة، وحكم الحكم، وعلم العلم، وقائم الدين وقيّمه، ومقدم الإسلام ومقدمه، ومقتضى دين الدين، ومثبت المتقين على اليقين، ومعلى الموحدين على الملحدين أدام الله له النصرة، وجهز به تيسير العسرة، وردّ له الكرة، وبسط له باع القدرة، وأوثق به حبل الالفة، ومهّد له درجات الغرفة، وعرّفه في كل ما يعتزمه صنعا جزيلا جميلا، ولطفا حفيّا جليلا، ويسّر عليه في سبيله كلّ ما هو أشدّ وطأ وأقوم قيلا. تحية أستنير منها الكتاب، وأستنيب عنها الجواب، وقد حفز لها حافزان: أحدهما شوق قديم كان مطل غريمه ممكنا إلى أن تتيسر الأسباب، والآخر مرام عظيم ماكره إذا استفتحت به الأبواب؛ وكان وقت المواصلة، وموسم المكاتبة هناؤه بفتح المقدس، وسكون الإسلام منه إلى المقيل والمعرّس، وما فتح الله للإسلام من الثغور، وما شرح لأهله من الصدور، وما أنزله عليهم من النور، ولم يخل المسلمون فيه من دعوات أسرار ذلك الصدر، وملاحظات أنوار ذلك البدر، ومطالعات تلك الجهة، التي هى وإن كانت غربية فإن الغرب مستودع الأنوار، وكنز دينار الشمس ومصب أنهار النهار، ومن جانبه يأتى سكون الليل ومستروح الأسرار، وعنه يقلب الله الليل والنهار، إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار، ولم تتأخر المكاتبة إلا ليتم الله ما بدأ من فضله، وليفتح بقية ما لم ينقطع بتقطع يد الشرك من حبله. والمفتتح بيد الله من الشام: مدن وأمصار، وبلاد كبار وصغار، وثغور وقلاع كانت للشرك معاقل، وللإسلام معاقر، ولبنى الكفر مصانع، ولبنى الإسلام مصارع؛ والباقى بيد الكفر منها: ثغرا طرابلس وصور، ومدينة أنطاكية - يسّر الله أمرها، وفك من يد الكفر أسرها - وإذا أمّن المؤمن على هذه الدعوة رجا إيجابها، وما يتأخر من الله سبحانه جوابها، فالدعاء أحد السلاحين، ومع النية يطير إلى وكره من السماء بجناحين، بعد أن كسر العدو

الكسرة التي لم يجبر بعدها، وألجئ إلى حصونه التي للحصر أعدها، وكان يومها كريما، ولطف الله فيها عظيما، قضت كل حاجة في النفس، وأغنت المسلمين، فأما العدو بعد يومها فكأن لم يغن بالأمس، وكانت على إثر غزوات قبلها فما الظن بالمجهزة بعد النكس. ولم يؤخر فتح البلاد بعدها إلا أن فزع الكفار بالشام استصرخ بأصل الكفار من الغرب، فأجابوهم رجالا وفرسانا، وشيبا وشبانا، وزرافات ووحدانا، وبرا وبحرا، ومركبا وظهرا، وركبوا إليهم سهلا ووعرا، وبذلوا ماعونا وذخرا، وما احتاجوا ملوكا ترتادهم ولا أرسانا تقتادهم، بل خرج كلّ يلبى دعوة بطركه، ولا يحتاج إلى عزمة ملكه، وخرجت لهم عدة ملوك أقفلت العجمة على أسمائها، وأتت العزيمة - بحمد الله - على أشخاصها عند لقائها. ومنهم: ملك الألمان، خرج في جموع برّية، من الله تعالى برية، ملأت الفجاج، وازدحمت فأنفذها العجاج، ومنهم من ركب ثج البحر فركب الأجاج العجاج، وامتطى من البحر مشية الرجاج، لينصر دينا مشبه الزجاج، يقبل الكسر ولا يسرع إليه الجبر، وراكب ذلك الدين كراكب البحر بلا ساحل سلامة، وإلى قاع كفر (كذا). وجلب الكفار إلى المحصورين بالشام كل مجلوب، وملأوا عليهم ثغريهم من كل مطلوب، ما بين أقوات وأطعمة، وآلات وأسلحة، وشلة وجنه، وحديد مضروب وزبرة، ونقدى ذهب وفضة، إلى أن شحنوا بلادهم رجالا مقاتلة، وذخائر للعاجلة من حربهم والآجلة، لا تشرق شارقة إلا طلعت على العدو من البحر طالعة تعوض من الرجال من قتل، وتخلف من الزاد ما أكل، فهم كل يوم في حصول زيادة، ووفور مادة، وقد هان عليهم موقع الحصر، وأعطاهم البحر ما منعهم البر، وبطروا لما كثروا ونظروا، فإنهم لا يستطيعون

أن يلقوا ويصحروا، ويستطيعون أن يحصروا على أن ينحصروا، ونزلوا على عكا بحيث يمدهم البحر بإمداده، ويصل إلى المقاتل ما يحتاجه من أسلحته وأزواده، وبمن يكثر به من مقاتلته وأجناده، فانقطعت مادة عكا من البحر، وحصرنا منازلهم من العدو من جهة جانب البر، فحدقوا على نفوسهم، وحثوا التراب على رؤوسهم، وعقدت عدتهم مائة ألف أو يزيدون، كلما أفناهم القتل أخلفتهم النجدة، فكأنهم قبل الممات يعودون، فأتممنا بعمارة بحرية لقينا عمارتهم بها، فنفذت عمارتنا إلى الثغر وأوصلت إليه الأقوات التي حمل منها البحر مالا يحمله الظهر، والأسلحة التي أمضاها الله عز وجل بيد الإسلام في صدور الكفر، وما لقينا عمارة العدو بأوفر منها عدة فعدد مراكبهم كبير ولكن لقيناهم بأصدق منها عزمة، والقليل مع العزم الصادق كثير، واستمر مقام العدو محاصرا للثغر، محصورا منا أشدّ الحصر، لا يستطيع قتال الثغر لأنا من خلفه، ولا يستطيع الخروج إلينا خوفا من حتفه، ولا نستطيع نحن الدخول إليه، لأنه قد سوّر وخندق، وحاجز من وراء الحجرات وأغلق. ولما خرج ملك الألمان بحشده وسمعته التي هى منه أحشد، وعاد جيشه الملعون على رسم قديم إلى الشام، فكان العود لأمة أحمد - صلى الله عليه وسلم - أحمد، قويت به نفوسهم، وجمحت به رؤوسهم، وظنوا أنه يزعجنا من مخيمنا، ويخرجنا من خيمنا، فبعثنا إليه من يلقاه بعساكرنا الشمالية فسلك ذات الشمال متوعرا فيها، محتجزا عن لقائها، مظهرا أنه ضريع داء وما به غير دائها. وكان أبوه الطاغية ملك الألمان شيبة اللعن اللعين، قائد جيشه إلى سجن سجين: قد هلك في طريقه غرقا، وخاض الماء فخاضه الماء شرقا، وبقى له ولد هو الآن المقدم المؤخر، وقائد الجمع المكسر، وربما وصل بهم إلى عكا في البحر، تهيبا أن يسلك البر، ولو سبق أصحابنا إلى عساكر الألمان قبل دخولها إلى أنطاكية لأخذوه أخذا سريعا، وسبق بحر سيوفهم إلى أن يكون الطاغية فيه - لا في النهر -

صريعا، ولكن لله المشيئة في البرية، والطاغية إنما يمشى إلى البلية، فإنه لولا احتجاز مقيمهم بالخنادق، واجتياز واصلهم بالمضائق، لكان لنا ولهم شأن، وكان ليومنا في النصرة الكبرى بحول الله ثان لا يثنيه من العدو ثان. ولما كانت حضرة سلطان الإسلام، وقائد المجاهدين إلى دار السلام، أولى من توجه إليه الإسلام بشكواه وبثه، واستعان به على حماية نسله وحرثه، وكانت مساعيه ومساعى سلفه في الجهاد الغر المحجلة، المؤمرة الكاشفة لكل معضلة، الكاسفة لكل مشكلة؛ والأخبار بذلك سائرة، والآثار ظاهرة، والصحف عنه باسمة، والسير به معلمة وعالمة، وكلّ بجهاده قد سكن إلا السيوف في أغمادها، وقد أمن إلا كلمة الكفر في بلادها، لا يزال في سبيل الله غاديا ورابحا، ومواجها ومكافحا، ومماسيا ومصابحا، يجوز لجة البحر بالمجاهدين ملوكا على الأسرة، وغزاة تصافح وجوهها السيوف فلا يخمد نور الأسرة، يذود الفرق الكافرة ولو ترك سبيلها لملأ قراره كلّ واد، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، ولولاه لأخمد شرارة كل زناد. كان المتوقع من تلك الدولة العالية، والعزمة الغادية، مع القدرة الوافية، والهمة المهدية الهادية، أن يمد غرب الإسلام المسلمين بأكثر مما أمد به غرب الكفار الكافرين فيملاها عليهم جوارى كالأعلام، ومدنا في اللجج سوائر كأنها الليالى مقلعة بالأيام، تطلع علينا معشر الإسلام آمالا، وتطلع على الكفار آجالا، وتردنا إما جملة وإما أرسالا مسومة، تمدها ملائكة مسومة ومعلمة، تقدم حيازيمها أقدام حيزوم تحت أصحابه، وإنما هى منه عزمة كانت تعين أصحاب الميمنة على أصحاب المشأمة، وكلمة كانت تنفخ الروح في الكلمة، ولما استبطئت ظن أنها توقفت على الاستدعاء، فصرخنا به في هذه التحية، فقد تحفل السحاب ولا تمطر إلى أن تحركها أيدى الرياح، وقد تترك النصرة فلا تظهر إلى أن تضرع إليها ألسنة الصفاح.

وسيّر لحصن مجلسه الأطهر، ومحله الأنور، الأمير، الأجلّ، المجاهد، الأمين، الأصيل، شمس الدين، نفير الإسلام والمسلمين، سفير الملوك والسلاطين، أبو الحزم عبد الرحمن بن منقذ - كتب الله سلامته وأحسن صحابته -، وما اختير للوفادة إلا من هو أهلها، ولا حمل الوديعة إلا من هو محلها، ولا بعث لنهج الصلة إلا من هو مفتاحها، ولأداء الأمانة إلا من هو قفلها، ومهما استوضح منه وسئل عنه فإنه على نفسه بصيرة، ومن البيان ذو ذخيرة، وفى العربية ذو بيت وعشيرة، والمشاهدة له أوصف، على أن تلك الجلالة ربما ذعّرت البيان فأخلف، وما أجدره بأن يصادف بسطة على بساطه، ونظرا يأذن له في القول على اختصاره وتوسطه وإفراطه، فكل هو به واف، وكل هو للفهم الكريم كاف، والله تعالى يجعل هذه العزمة منافى استنهاض العزمة منه بالغة مبلغا يسرّ أهل دينه، ويوزعهم بها اقتضاء ديونه، من الذين اتخذوا إلها من دونه. والسلام الصادر عن القلب السليم، والود الصميم، والعهد الكريم، على حضرة الكرم العلية، وسدة السيادة الجلية، سلام مودة ما وفد الغرب قبلها مثلها، ورسالة ما خطرت إلى أن أنفذت وراءها المحبة رسلها، وليصل السلام رحمة الله وبركاته، ورضوانه وتحياته، إن شاء الله تعالى. وكتب في شعبان سنة ست وثمانين وخمسمائة. والحمد لله وحده، وصلاته على سيدنا محمد نبيه وآله وسلامه. الهدية: ختمة كريمة في ربعة مخيّشة بمسك. ثلاثمائة مثقال عنبر.

عشر قلائد: عددها ستمائة حبة. عود في سفط: عشرة أمنان. دهان بلسان: مائة درهم وواحد. قسى بأوتارها: مائة وقوسان. سروج: عشرون. نصول سيوف هندية: عشرون. نشاب خاص مريّش، كبير ومتوسط ضمن صندوقى خشب مجلدة: سبعمائة سهم.

(20) كتاب من القاضى الفاضل إلى صلاح الدين بشأن الرسالة إلى ملك المغرب، والكتاب يشعر أن الرسالة لم تكن برأى الفاضل أو موافقته

(20) كتاب من القاضى الفاضل إلى صلاح الدين بشأن الرسالة إلى ملك المغرب، والكتاب يشعر أن الرسالة لم تكن برأى الفاضل أو موافقته عن: (الروضتين، ج 2، ص 174 - 176) المملوك يقبل الأرض بالمقام العالى المولوى الملكى الناصرى، جعل له الله في الدنيا والآخرة المقام العالى، وأبقى دولته التي هى الأيام بالحقيقة والأيام قبلها هى الليالى. وينهى أن الظاهر أن المملوك عند المولى ليس من أهل الاتهام، وأن له - ولله الحمد - آثارا في دولته تشهد بها الأيام، وآثار السيوف طاحت وبقيت آثار الأقلام، والرسالة المغربية ليس المملوك مشيرا بتركها، ولا كارها لسفر رسولها، ولا مستبعدا مصلحة قريبة الأمر منها لكن على وجهها، وقد نجزت الهدية المغربية على ما أمر به، وكتب الكتاب على ما مثل، وفخم الخطاب والوصف فوق العادة، وبما لا يمكن مخاطبة مخلوق بأكثر منه؛ وعند وصول الأمير نجم الدين من المخيّم المنصور فاوضه المملوك في أنه لا يمكن إلا التعريض لا التصريح بما وقع له أنه لا تنجح الحاجة إلا به من لفظه أمير المؤمنين، وأن الذين أفاضوا في هذا الحديث وأشاروا به ما قالوه نقلا ولا أحاطوا به قياسا، ولا عرفوا مكاتبة المصريين قديما. وآخر ما كتب في أيام الصالح بن رزّيك فخوطب فيه أكبر أولاد عبد المؤمن وولىّ عهده بالأمير الأصيل النجار الجسيم الفخار، وعادت الأجوبة إلى ابن رزّيك - وهو وزير سلطان مصر الذى أتباع مولانا اليوم مائة مثله - مترجمة: بمعظم أمره، وملتزم شكره؛ هذا والصالح يتوقع أن يأخذ ابن عبد المؤمن البلاد من يديه،

وما هو إلا أن يهرب مملوكان طريدان منا فيستوليان على أطراف بلاده، ويصل المشار إليه بالأمر من مراكش إلى القيروان في ستة أشهر، فيلقاهم فيكسر مرة ويتماسك أخرى. وأعلم الأمير نجم الدين بذلك، فأمسك مقدار عشرة أيام، ثم أنفذ الأمير المذكور إليه على يد ابن الجليس بأن الهدية أشير عليه بأن لا يستصحبها، وإن استصحبها تكون هدية برسم من حواليه؛ وأن الكتاب لا يأخذه إلا بتصريح أمير المؤمنين، وأن السلطان - عز نصره - رسم له ذلك، والملك العادل - دامت قدرته - بأن لا يشير إلا به، وأنه إذا لقى القوم خاطبهم بهذه التحية عن السلطان - أبقاه الله - من لسانه. فأجابه المملوك: بأن لخطاب يكفى، وطريق جحدنا له ممكن، والكتابة حجة تقيد اللسان عن الإنكار، ومتى قرئت على منبر من منابر المغرب جعلنا خالعين في مكان الإجماع، مبايعين من لا ينصره الله ولا شوكة فيه، ولا يحل اتباعه، مرخصين الغالى، منحطين عن العالى، شاقين عصا المسلمين، مفرّقين كلمة المؤمنين، مطيعين لمن لا تحل طاعته، متقلدين لمن لا تصح ولايته، فيفسد عقود الإسلام، وينفتح باب يعجز وارده عن إصدار؛ بل تمضى وتستشف الأمور، وتكشف الأحوال، فإن رأيت للقوم شوكة ولنا زبدة فعدهم بهذه المخاطبة، واجعل كل ما نأخذه ثمنا للوعد بها خاصة، فامتنع وقال: أنا اقضى أشغالى، وأتوجه إلى الإسكندرية، وأنتظر جواب السلطان - عز نصره - وما يفوت وقت، وإلى أن أنجز أمر المركب، وأرتاد الركاب. فسيّر المملوك النسخة، وإن وافقت فينعم المولى على المملوك بترجمة يلصقها على ما كتبه، ويأمر نجم الدين بتسلم الكتاب؛ على أن ابن الجليس حدثه عنه أنه ممتنع من السفر إلا بالمكاتبة بها.

فأما الذى يترجم به المولى - عز نصره - فيكون مثل الذى يدعى به على المنبر لمولانا، وهو: الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب، أدام الله غنى مولانا بالفقر إلى ربه. وإذا كتب الصالح بن رزّيك إليهم: من السيد الأجل الملك الصالح، قبح أن يكتب إليه مولانا أبقاه الله: الخادم، وهذا مبلغ رأى المملوك، والمؤمن لا يذل نفسه، وقاسم الأرزاق يوصلها وإن رغم من جرت على يده. وإن كان مولانا - أعز الله نصره - يقول: أنت غافل وغائب، وما تعرف ما الإسلام فيه، فلو حضرت وعرفت ما شققت الحديث؛ فجواب ما نكتب بعد سنتين، فما يتخلى الله عنا، ولا تستمر هذه الشدة، ولا نسئ الظن بالله، وإذا كانت لنا - إن شاء الله - أخذت خالية ممن نطلب الآن مواساته؛ وإذا كان المملوك مستجهلا وغير مستنصح، وللضرورة حكمها، والأحوال المملوك غائب عنها، فالمفهوم من الأمر للمملوك أن يتولى من الكتابة ترتيب المقاصد، وتحرير الألفاظ، وتنضيد الخبر عما أجراه الله تعالى على يد مولانا - عز نصره - والتأنى المطلوب، فقد فعل هذا كله في النسخة، وبقيت اللفظة التي ليست كتابة المملوك لها شرطا فيها، والمملوك وعقبه مستجيرون بالله تعالى ثم بالسلطان - عز نصره - من تعريضهم لكدر الحياة، وتوقع الخوف، ومعاداة من لا يخفى عنه جبر ولا تقال به عثرة. ويكفى أن المولى أنعم بخطه في كتابه إلى المملوك، وفيها ما هو بخط حضرة سيدنا الأجل عماد الدين الكاتب الأصفهانى - حرسه الله - لما وصى بأن لا يناظر في الخطاب ما صرّح باللفظة، فهى إما تقية فالمملوك أولى بها، وإما استهانة فنفس الملك لا تقاس بنفس المملوك؛ فإن كان ولا بد فالنسخة بين يديه، والمقصود فيها من زيادة هذه اللفظة ما يحتاج إلى تعليم، والكتّاب الذين

يستقلون بكتابة النسخة معدومون، وقد ناب المملوك عنهم، والكتّاب الذين يستقلون بالتبييض موجودون، فينوبون عن المملوك في التبييض؛ وإلا فكيف يسير رسول بكتاب من مصر بلا خط سلطان، وبغير حضرته كتب، ولا بهدية سار، وبمحضر من البغاددة والمغاربة، يعلمون أن الكتاب كتب بمصر، ويشهدون بما لم يروه، وما لم يقرءوه من الخطاب. ولو وصل من المولى - أدام الله أيامه - كتاب مختوم، وسيّر ولم نعلم ما فيه، لا نقطع فضول كثير، وخمدت أراجيف شنيعة، ولا يعتقد المولى أن المملوك يعظم القصص، فما للألسنة والأعين شغل إلا السلاطين وأفعالهم وأقوالهم، ولا للخلق خوض إلا في أوامرهم وأحوالهم. ولو علم المملوك أن هذا الذى استعفى منه يضّره بحيث ينفع المولى - أبقاه الله - لهان عليه، ولكنه مضرّة بغير منفعة، وتعرّض لما تذم عاقبته أو يبقى على الخوف منه، وذلك مما لا يقتضيه حسن عهد المولى وفضل رأفته، فمقصود المولى - أبقاه الله - تحصيل تبييضها بين يديه، وربما حصل استنارة وأمنت المكاره فيه، وغمضت العيون عنه، وشحت الأيام عليه طالع المملوك بذلك ".

(21) قطعة من رسالة بقلم القاضى الفاضل مرسلة من صلاح الدين إلى شمس الدولة بن منقذ - وهو بالمغرب - ينهى إليه أخبار القتال حول عكا

(21) قطعة من رسالة بقلم القاضى الفاضل مرسلة من صلاح الدين إلى شمس الدولة بن منقذ - وهو بالمغرب - ينهى إليه أخبار القتال حول عكا عن: (الروضتين، ج 2، ص 188 - 189) وفى كتاب كتبه الفاضل عن السلطان إلى شمس الدولة بن منقذ - وهو بالمغرب في الرسالة -: " لقد تجاوزت عدة من قتل على عكا - يعنى من الفرنج - الخمسين ألفا، قولا لا يطرقه التسمح، بل يحرزه التصفح، فانبروا في هذه السنة ملكا أفرنسيس وإنكلتيره وملوك آخرون في مراكب بحرية وحمّالة حملوا فيها الخيول والخيالة، والمقاتلة والآلة، ووصلت كل سفينة تحمل كل مدينة، وأحدقت بالثغر، فمنعت الناقل بالسلاح إليه، والداخل بالميرة عليه ". ثم قال: " وأخذ البلد على سلم كالحرب، ودخله العدو ولو لم يدخل من الباب دخل من النقب، وما وهّنا لما أصابنا في سبيل الله وما ضعفنا، ولا رجعنا وراءنا ولا انصرفنا، بل نحن بمكاننا ننتظر أن يبرزوا فنبارزهم، ويخرجوا فنناجزهم، وينشروا فنطويهم، وينبثوا فنزويهم، وأقمنا على طرقهم، وخيمنا على مخنقهم، وأخذنا بأطراف خندقهم، وأحوج ما كنا إلى النجدة البحرية، والأساطيل المغربية، فإن عاريتنا به ترد، وعاديتنا بها تشتد.

والأمير يبلغ ما بلغه من خطب الإسلام وخطوبه، ويقوم في البلاغ يوم الجمعة مقام خطيبه، ويعجل العودة وقبلها الإجابة، ويستصحب السهم ويسبق ببشرى الإصابة، ويشعر أن الراية قد رفعت لنصر تقدم به عرابه، فإن للإسلام نظرات إلى الأفق الغربى يقلبها، وخطرات من اللطف الخفى يقربها، ويكفى من حسن الظن أنها نظرة ردت الهواء الشرقى غربا، وخطرة أو همت أن تلك الهمة لو تلم بالسفائن لأخذت كلّ سفينة غصبا ".

نقد للجزء الأول بقلم الأستاذ الدكتور مصطفى جواد

نقد للجزء الأوّل بقلم الأستاذ الدكتور مصطفى جواد " تفضل الأخ الكريم والعلامة المحقق الأستاذ الدكتور مصطفى جواد فأرسل إلى هذا النقد التفصيلى الذى يدل على سعة في الاطلاع ومعرفة أكيدة بالعصر الذى يؤرخ له ابن واصل، وبالمكتبة العربية الإسلامية بوجه عام، وقد رأيت أن أشرك القراء معى في الإفادة من هذه الملاحظات القيمة، ولهذا بادرت بنشره هنا ملحقا بالجزء الثانى، وللأخ الكريم أجل الشكر وأطيب التحية ". بغداد في 13/ 12/ 1953 عزيزى الدكتور الفاضل الصديق الكامل جمال الدين الشيال المحترم تحية عطرة بشذا الشوق، وبعد فقد بلغنى كتابكم الكريم داخل الكتاب العظيم " مفرج الكروب "، وقد فرجا كربا من كروبى، وأظفرانى بمطلوبى، فشكرى لكم مستدام على هذا الفضل والبحث والتحقيق والتدقيق والتعليق، فقد بحثتم وما قصرتم، وجمعتم فما أغفلتم، وبحثتم فما أهملتم، وظهر الفرق العظيم بينكم وبين من يكتبون في التاريخ أو من ينشرون بمصر مع استثناء أفراد من الفضلاء، وأريد بالجماعة الأولى ناشر الدولة الجلالية بل السيرة المنكو برتية، وتخليطه العجيب في التأليف والنشر بما يضحك الثكلى. ذكرتم - أعزكم الله - أنكم تريدون نقدى للكتاب منشورا في مجلة أو مبعوثا به إليكم، وأنا أسترجح الرأى الثانى لضمان الفائدة وجزالة العائدة، مع أن نشره في مجلة من المجلات قد يؤخر ظهوره ويقلل الاستفادة منه. وأما سؤالكم عن الجزء الثانى من مختصر ذيل تاريخ ابن الدبيثى، فالجواب أننا لم نشرع في نشره

وطبعه لأن أعضاء المجمع العراقى لا يقدرون مثل هذا الكتاب فنتركه للأقدار، وفى النية أن أطبع " الجزء الرابع " من تلخيص مجمع الألقاب لابن الفوطى، المحفوظة نسخته الأصلية بالمكتبة الظاهرية، وصورتها في مكتبة المتحف العراقى، وقد نسخته مرتين لأنه مختلط التجليد مختله، كنسخة مفرج الكروب الباريسية، وقد جاء هو وتحقيقاته في " ألف وخمسمائة صفحة " متوسطة، وفيه فوائد جمة لرجال القرن السادس والسابع ومن أدرك الثامن، كالفتح بن على البندارى مترجم الشاهنامة، وفريد الدين العطار الصوفى، وجماعة من المصريين الذين لم تحسن ذكرهم التواريخ، فضلا عن العراقيين والإيرانيين. وهذى يا عزيزى ملاحظاتى على الجزء الأول من مفرج الكروب: 1 - جاء في غلافه " وينتهى بموت نور الدين محمود بن زنكى في سنة 659 " وفيه غلط طبع لأن المراد «569». 2 - حين تكلمتم على المؤرخين الذين أرخوا لحوادث بنى أيوب - ص 5 من المقدّمة - لم تذكروا تاريخ ابن أبى طى مع أنكم نقلتم منه غير مرة في الحواشى وإن كان النقل بواسطة أبى شامة، ولم تذكروا تاريخ مختصر الدول لابن العبرى ففيه فوائد في تاريخ بنى أيوب. 3 - ظهر لى أن الكتاب الذى طبعته باسم الحوادث الجامعة ليس لابن الفوطى فيحسن عند الاستشهاد به القول " المظنون أنه لابن الفوطى ". 4 - جاء في «ج 1» من الكتاب، السطر 9 " وشيدوا بها أركان الملة الحنفية " وهو تصحيف على فرض وروده في جميع النسخ، لأن الصحيح " الحنيفية "، وهو وصف مشهور، قال ابن الأثير المبارك في النهاية: " والحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم - 4 - وأصل الحنف الميل ومنه الحديث: " بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ". وقد تكرر ذكرها في الحديث. 5 - وفى الصفحة الأولى أيضا «س 18» قولكم في " العصر المملوكى "، وإخواننا المصريون يخطئون في النسبة إلى المماليك، لأن قاعدة الجمع إلى المفرد في النسبة لم يطبقها العرب إلا في اسم الجنس، أما الأعلام وما جرى مجراها

وما خيف فيه اللبس فيبقى على حاله، وبقاء الاسم المنسوب إليه على حاله هو الحال الطبيعية للنسبة الضامنة للفائدة منها، فلذلك قالوا: " رجل شعوبى وعالم أصولى وأداة ملوكية وخادم رسائلى ورجل أنصارى "، هذا زيادة على أن الكوفيين أجازوا النسبة إلى الجمع بلا شرط ولا قيد ما حصلت الفائدة، والبصريين أجازوا النسبة إلى كل جمع له شبيه من المفردات، فالملوك كالدخول والخروج من حيث اللفظ، فالصواب " العصر المماليكى " و " عصر المماليك " بالنسبة والإضافة، وهذا الغلط الذى ارتكب في " المملوكى " ارتكب في " الدولى " مع أن الصواب الذى لابد منه " الدّولى ". 6 - وجاء في «ص 13 س 15» " وحمل للسلطان خيلا رائقة ". قلتم في الحاشية " في الأصل - رابعة - والتصحيح عن ابن الأثير ". ومعلوم أن ابن الأثير لم ينص على أحرف الكلمة، والموجود في الأصل يدل على أن الصحيح " رائعة " بالعين، من راعه الشئ أي أعجبه، ففى الكامل نفسه «ج 1 ص 55 س 13» ما هذا نصه " وبين يدى البغال ثلاث وثلاثون فرسا من الخيل الرائعة ". ووصف الفرس بالرائع مشهور. 7 - وورد في - ص 19 - س 6 اسم " مجاهد الدولة بزان " من أمراء ملكشاه الكبار، أي من رجال القرن الخامس للهجرة، فعلقتم في الحاشية أنه " أبو الفوارس مجاهد الدير بوزان بن مامين الكردى، توفى سنة 555 ". ولا صلة لهذا بذاك، فهذا كردى من أهل القرن السادس وذاك تركى من أهل القرن الخامس، وبزان التركى قتل سنة «487»، قتله الأمير تاج الدولة تتش السلجوقى صبرا كما في الكتاب نفسه «ص 27 س 2» ومن المعلوم أن مثل بزان لا يبقى أصلا إلى سنة «555» لأن ذلك يوجب أن يكون له عمران، والأكراد الجلالية الذين ذكروا في حاشية «ص 130» ليسوا منسوبين إلى جلال الدولة ملكشاه، حتى يظن أن لبزان المذكور صلة بهم. 8 - وجاء في «ص 22» اسم مدينة " هيت " بفتح الهاء، والصواب كسرها، كما هو مشهور قديما وحديثا إلى اليوم. وضبط " بعث " في ص 27 س 3 " بعث " والظاهر أن تاج الدولة بعثه، فالباعث تابع لسياق ما قبله: " قتل. . . أنفذ. . . تسلم. . . بعث "، وانقطع السياق لأن الحابس غير الباعث.

9 - وورد في «ص 29 س 1» «ثم ولى الموصل الأمير مودود من نسل السلطان غياث الدين محمد ملكشاه» وأرى أن الأصل «من قبل»، فلم يكن مودود من نسل السلطان المذكور ولا من نسل السلاجقة قط بل كان مملوكا من مماليكه. 10 - وجاء في «ص 35» وفى ثبت المراجع: «قاسم الدجيلى»، والصواب: «كاظم الدجيلى»، ولا يزال هذا الرجل الفاضل الأديب المحقق حيا ببغداد على أحسن صحة. 11 - وفى ص 3، س 23 «دبيس الثانى أبو العز بن سيف الدولة» وكنية دبيس: «أبو الأغر» فهى كنية مبالغة للدبيسى اللون، وقد يلتبس الأغر بالأعز، ولكن لا يمكن أن يكون الأغر «العز». 12 - وفى ص 15 س 11 «فسمع سديد الملك»، والصحيح: سديد الدولة، كما في كل التواريخ التي ذكرته، وكما هو في الحاشية وفى المتن قبل سطرين 13 - وفى «ص 47» قوله: «وسار من همذان إلى ومكان»، قلتم في الحاشية: «ضبطت هكذا بعد مراجعة ياقوت ولم يعرفها بأكثر»، ونقلتم أن ابن الأثير قال: «إلى زنجان» فالاسم المصحف هو في الحقيقة «زنكان» بالكاف، قال ياقوت في «زنجان» من معجم البلدان: «والعجم تقول: زنكان بالكاف» فابن واصل ذكره على الأصل. 14 - وجاء في ص 49 س 14 «بقرب الدينور» بسكون الواو والصواب فتحها كالتى قبلها. 15 - وجاء في ص 50 س 8 ذكر «عقرقوف»، فعلقتم بها ما ذكره ياقوت في معجم البلدان من كونها من قرى دجيل. وقد غلّطه ابن عبد الحق في مراصد الاطلاع وذكر أنها من قرى «نهر عيسى»، وهو الصواب الذى أيدته كتب التاريخ، والآثار المكتوبة الباقية ببغداد على الآجر «الطوب» في وقفية المدرسة المرجانية، وقد سمى حمزة الأصفهانى في تاريخ العالم فرع نهر عيسى المار بأرض عقرقوف «نهر الورادة» فليست عقرقوف من دجيل.

16 - وورد في ص 56 س 10 «وكواشى» بكسر الشين، وفى ياقوت بضبط القلم «كواشى» بالألف المقصورة، ويؤيد فتح الشين أن الصفدى سماها «كواشة» بالشين والهاء، كما في نكت الهميان «ص 116». 17 - وورد في «ص 59 س 1» «وكمال الدين صاحب المخزن» وفى الحاشية ما يفيد أن ابن القلانسى سماه «جمال الدين بن طلحة»، وأن وظيفة صدر المخزن لم تعثروا لها على تعيين، أما ابن طلحة فقد عين لقبه ابن الفوطى في تلخيص مجمع الألقاب بأنه «كمال الدين» لا جمال الدين كما جاء في تاريخ القلانسى. قال ابن الفوطى «ج 5 الترجمة 340 من الكاف» من كتابه المذكور: «كمال الدين أبو الفتوح حمزة بن على بن طلحة يعرف بالبقشلام، حاجب الباب أستاذ الدار، ذكره محب الدين محمد بن النجار في تاريخه وقال: كان عالما بالفقه والأدب والجدل، ولى حجابة الباب [باب النوبى] للمسترشد بالله سنة اثنتى عشرة وخمسمائة ووكلّه وكلة [عامة]، فلما استخلف المقتفى ولاّه صدرية المخزن، وأكثر الحج وجاور بمكة، ولما عاد استعفى من الخدمة فأعفى، وجلس في بيته مكبا على العبادة، وبنى مدرسة لأصحاب الشافعى بباب العامة، وتوفى في صفر سنة ست وخمسين وخمسمائة». على أن التاريخ يذكر أنه صاحب المخزن قبل ذلك؛ ومدرسته المنسوبة إلى لقبه «الكمالية» مذكورة في كتابنا الكبير «خطط بغداد»، ذكرها ابن الأثير في حوادث سنة «535» من الكامل، «ج 11 ص 30»، قال: وفيها بنيت المدرسة الكمالية ببغداد، بناها كمال الدين أبو الفتوح بن طلحة صاحب المخزن. . .» وذكر حجه سنة 536 هـ‍ «ج 11 ص 34»، ووفاته في سنة 536 هـ‍ «ج 7 ص 105»؛ وذكره ياقوت الحموى في ترجمة ابنه «على بن حمزة» في معجم الأدباء «ج 5 ص 205» من طبعة مرغليوث وقال: «وكان أبوه حمزه بن على هو الملقب كمال الدين ويكنى أبا الفتوح»؛ «وابن الجوزى في المنتظم «ج 10 ص 202»، وقد ولى صدرية المخزن بعد الحادثة التي ذكرت له في مفرج الكروب. أما صدرية المخزن فلم نجد من عرفها في الحقيقة، إلا أن الحوادث التاريخية تدل على أن المخزن كان كوزارة التموين في نظام الدول بعد الحرب الأخيرة، ومثل مديرية التجهيزات العامة، فالمخزن ينفق على مصالح الدولة، ويعد لها العدد

ويختزن لها الذخائر لوقت الحاجة إليها، ومن مصالح الدولة الحفلات الرسمية التي تقيمها. ولسبط ابن التعاويذى أبيات يهجو بها «قصاب المخزن»، مما يدل على أن المخزن كان يوزع الطعام واللجان بين الموظفين. 18 - وجاء في ص 60 س 4: «وحمل الوزير وصاحب المخزن وأنا ونقيب العلويين إلى قلعة سرجهان»، وفى ص 61: «وكان نقيب العلويين قد مات بقلعة سرجهان»، فمن نقيب العلويين هذا؟ نعم إنه كان معروفا عند سديد الدولة ابن الأنبارى حاكى القصة ولكنه مجهول عندنا، وبعد البحث والتحقيق علمنا أنه أبو الحسن على بن المعمّر بن محمد العلوى، ذكر ابن الدبيثى في نسخة كمبريج من تاريخه، وابن النجار كما في نسخة باريس من تاريخه أنه ولد سنة 470»، وولى النقابة سنة «520»، وعزل سنة «517»، ثم خرج مع الخليفة المسترشد بالله في حرب السلطان مسعود، فأسر وحبس بقلعة سرجهان، فأطلق منها في محرم سنة «530»، وكان مريضا فتوفى في عصر يوم إطلاقه خارج القلعة. 19 - وجاء في ص 60 س 8: «وقتلوا معه أبا عبد الله بن سكينة» ولم يعلم القارئ أهو ابن السكينة «من الآلات القاطعة»، أم ابن سكينة تصغير سكنة؟ فقد كان في بغداد بيتان من بيوتاتها يعرفان بابن سكينة، أحدهما بتشديد الكاف وكسر السين من الآلة القاطعة، والآخر معروف الضبط. فأبو عبد الله هذا من البيت الأول. قال الذهبى في المشتبه ص 268: وبالتشديد [سكينة] على بن الحسين ابن سكّينة الأنماطى القطيعى. . .، والمبارك بن أحمد بن حسين بن سكّينة سمع أبا عبد الله النعالى. . .» وهذا المبارك هو أبو عبد الله بن سكينة الذى قتل مع المسترشد بالله. قال ابن الدبيثى في ترجمة ابنه «عبد الله بن المبارك»: «عبد الله بن المبارك بن أحمد بن سكينة أبو محمد وابن أبى عبد الله، من ساكنى دار الخلافة، ومن أهل القرآن المجيد، ومن بيت معروف بالقراءة، كان والده يؤم بالمسترشد بالله في الصلوات، وقتل معه لما قتله الملاحدة بمراغة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. (¬1)» ¬

(¬1) ذيل تاريخ بغداد لابن الدبيثى «نسخة المكتبة الوطنية بباريس 5921 ورقة 107».

20 - وجاء في ص 63 س 2 «لا تولى إلا من يضمنه الوزير»، وسياق الخبر يقتضى أن يكون «لا يولّى إلا. . .»، ولو كان نهيا لوجب حذف الياء، فبقاؤها في النص مؤذن بكونها أصلية. 21 - وفيها س 5: «وهو الزاهد الدّين» والصواب «الدّين» أي ذو الديانة كالصين والميت والقيم. 22 - وجاء في عنوان ص 65 «ذكر قدوم السلطان محمود بن مسعود ابن محمد إلى بغداد، «وجملة محمود بن» زائدة يجب حذفها، لأن القادم هو مسعود ابن محمد، وليس في بنى سلجوق من اسمه «محمود بن مسعود» أصلا. 23 - وفيها س 3: «ثم عبر الأمير عماد الدين زنكى إلى خراسان»، وهذا محال، كيف يعبر من بغداد الغربية إلى خراسان؟ والصحيح: «إلى طريق خراسان»، وهو القسم الشرقى من العراق بين بغداد وخانقين، ويعرف اليوم بلواء ديالى. 24 - وفى ص 69 س 9: «ولكن لابد لنا في هذه الدعوة من نصيب»، والصواب: «الدعوى»، لأنها تسوجب القضية، وليست هى دعوة إلى طعام، ولا دعوة إلى رأى ومذهب. 25 - وجاء في ص 70 س 1 «ودرب هرون وحزمى مالكا»، والصواب: «ودرب هارون وحربى ملكا» كما في الفخرى ص 50 من الطبعة المصرية الأولى، وفى ذلك نقد عنيف على القاضى الشهرزورى بطل القصة. وحربى من قرى دجيل العظيمة، وقد خربت بخراب نهر دجيل، ولا تزال آثارها معروفة، وعندها قنطرة من الآجر هائلة تسمى إلى اليوم «قنطرة حربى». 26 - وورد في ص 81 س 13 «فأشار الفرنج على ملك الروم بمصافقته» فعلقتم: «في اللسان أصفقر أعلى الأمر»، فاستشهدتم بالإفعال على المفاعلة، وهو بعيد، ثم إن الأصل ليس بالمصافتة، بل «المصافة» بتشديد الفاء، وهو الدخول في القتال، كما جرى كثيرا في الاستعمال، يقال: «صافّه يصافه مصافة».

27 - ووردت في ص 82 س 5 أبيات الشاعر المسلم بن خضر الحموى، وفى الحاشية ما يشير إلى ندور أخباره على ما وصل إليه تحقيقكم، وقد ذكره أبو شامة في الروضتين " ج 1 ص 24، ص 32 "، وفى الصفحة الثانية أعنى ص 32 ذكر الأبيات التي أوردها ابن واصل وزاد عليها وقال، «له قصيدة قد ذكرتها في ترجمته في التاريخ»، وفى هذه الأبيات التي أوردها فوائد كانت جديرة أن يستفاد منها في التصحيح والمقابلة. 28 - وجاء في ص 89 س 3: «فثار لها معين الدين ومعه الفرنج»، وفى الحاشية أن في نسخة: «فنادى معين الدين»، وليس في سياق الخبر ما يدل على الثأر ولا على النداء، والصواب: فنازلها معين الدين، ومنه النزال. 29 - وفى ص 90 س 2 نقلا من ابن الأثير آل مهراش»، والصواب: «آل مهارش» وهو مفاعل من هارش يهارش، وبه سمى الأمير العقيلى المذكور المشهور، وهو الذى التجأ إليه القائم بأمر الله لما أخرج من بغداد سنة استيلاء الفاطميين على المدينة المذكورة، قال ابن الفوطى في تلخيص معجم الألقاب ج 4 ص 277 من نسختنا الأولى الخطية: فخر الملك أبو الحارث مهارش به على بن المجلى العقيلى أمير العرب، كان أميرا جليلا، وهو الذى كان عنده الإمام القائم بأمر الله حال انزعاجه أمام أبى الحارث أرسلان البساسيرى في ذى الحجة سنة خمسين وأربعمائة. «وكرر ابن الأثير ذكر «مهارش» في حوادث سنة «450» من تاريخه، فالمنقول منه مصحف. 30 - وفى ص 120 س 11: «واعتذر باحتياج قطب إليه واستغنى نور الدين عنه. . .»، والصواب: «واستغناء»، فهو معطوف على احتياج. 31 - وفى ص 121 س 9 خطبت» وس 15 «تحتطب»، والسياق يقتضى بناءهما للمعلوم لا للمجهول. 32 - وفى ص 122 س 8 «أصلاته وصلاته وصلاته»، والصواب: «إصلاته»، أي إصلاته السيف.

33 - وفى ص 128 س 16 «عماد الدين بن زنكى»، ولفظة «ابن» زائدة كما هو معلوم. 34 - وفى ص 133 س 3: «منجم به نويرة»، والصواب: متمم ابن نويرة وهو أخو مالك بن نويرة قتيل حرب الردة. 35 - وفى س 134 س 1: «أبو المظفر»، والصواب: «أبى المظفر». 36 - وفى ص 140 س 11 «إذ أتاهم بكثرة الفرنج على حارم»، والصواب: «بكسرة» من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي أتاهم بخبر انكسارهم إن صح التعبير، لأن الانكسار لا يصح استعماله في هذا المقام. 37 - وفى ص 147 س 10: «ذكر القاضى شهاب الدين في تاريخه» وقلتم في الحاشية «القاضى شهاب الدين هو أبو محمد عبد الرحمن. . . أبو شامة»، والصحيح أنه أراد «شهاب الدين إبراهيم ابن أبى الدم الحموى» فهو المعروف بالقاضى، وهو المؤرخ القاضى، وهو الذى كان أقرب إلى ابن واصل من غيره، وفى حاشية ص 194 ما يؤيد ذلك. 38 - وورد في ص 148 س 13 " خوفا من معرّة الافرنج "، وقد وضعتم عليه " كذا "، ومعناه واضح، فهو يخشى أن يعرّه الافرنج، كأنهم يلطخونه بشر ويؤذونه، والمعرّة الأذى، فنور الدين سار معه محافظا عليه، وحارسا له منهم. 39 - وفى ص 149 س 6 " يملّكها "، وبهذا الضبط يكسر البيت، فالصواب " تملكها " وهو يدعو الله، فالتاء للمخاطب. 40 - وجاء في ص 150 س 8 " شرف الدين برغش "، والصواب " بزغش " بالزاى، قال الذهبى في المشتبه ص 553 " وبمعجمات: بزغش في الموالى، ومنهم بزغش عتيق أحمد بن شافع عن أبى الوقت، وبزغش الرومى " وكذلك في ص 160 41 - وفى ص 155: " شهاب الدين مالك العقيلى "، والصواب: " مالكا " لأنه بدل من منصوب قبله.

42 - وفى ص 164 س 6 " عضّد الله به الدين "، والصواب: " عضد " بالتخفيف، ولم يرد التضعيف. 43 - وفى ص 171 س 17 " وبحيدر والعلم منك بأحنف " والصواب: " والحلم "، لأن الأحنف عرف بالحلم لا بالعلم. 44 - وفى ص 177 س 13 " حكّمت البيض في المقاتل "، والصواب: " حكّمت " مبنيا للمجهول. 45 - وفى هذه الصفحة س 14: " عليهم كفه بحائل "، وقلتم في الأصل " كفة لحابل ". فلماذا تركتم الأصل وهو الصحيح المليح؟ فالحابل له كفة وهى شبكة الصيد؟ 46 - وفى ص 183 س 2 " خمس وخمسين وخمسمائة "، والصواب: " خمس وستين وخمسمائة ". 47 - وفى ص 194 س 9 " وكان ابتاع دارا من صدقة بباب العامة "، وذكرتم أن في نسخة س " دار بن صدقة "، وهو أقرب إلى الصواب الذى هو " دار ابن صدقة "، وهى دار سيف الدولة صدقة، مذكورة في خطط بغداد، وكانت عند جامع القصر بباب العامة، وحدث نزاع عليها بين الخليفة المسترشد بالله وابن صدقه دبيس كما ذكر ابن الأثير وغيره، ومن بقايا جامع القصر اليوم ببغداد " جامع سوق الغزل "، وباب العامة محلة دخلت في محلة سوق الغزل ونسى اسمها. 48 - وفى ص 195 س 7 " ومناوأة إليها سوء ضغن "، والصواب هنا " ومناواة " بتخفيف الهمزة، ولئلا يكسر البيت. 49 - وفى ص 196 س 3 " وأقطع تتامش وأخاه أردن نسيبى قايماز "، والصواب " تتامش " بتاءين، و " أزدن " أو " يزدن " بالزاى، وهما مذكوران في مرآة الزمان، وكامل ابن الأثير، وتلخيص معجم الألقاب وغيرها.

50 - وفيها س 3 " واسطا وقوشان "، والصواب: " قوسان " بالسين، كما في معجم البلدان وغيره. 51 - وجاء في ص 200 س 11: ذكر أول من خطب للعباسيين بمصر بعد العاضد وهو " الأمير العالم "، وهذا لقب من ألقابه. واسمه في الحقيقة " محمد بن الموفق الخبوشانى "، ذكره ابن خلكان غير مرة وترجمه، وذكر الذهبى ترجمته في تاريخ الإسلام. وترجمه السبكى في طبقات الشافية، ونقل ترجمته صاحب الشذرات، وذكره استطرادا ابن جبير في رحلته، وكانت وفاته سنة " 587 ". وقولكم في الحاشية: " وذكر ابن الأثير أنه رآه بنفسه بعد ذلك في الموصل " فيه زيادة " بعد ذلك "، لأن رؤية ابن الأثير له يجب أن تكون بعد قدومه مصر، فهو لما أقام بمصر استمر على الإقامة فيها حتى موته. 52 - رأيكم المذكور في حاشية " ص 223 وص 237 " في غمز ابن الأثير لصلاح الدين كلما وجد فرصة هو عين الحق بل الحق نفسه، والرجل يجب أن يحاسب حسابا عسيرا على ما أرخ من عصره دون غيره، وتعليلكم ذلك بميله إلى البيت الأتابكى صحيح، زد على ذلك أن القفطى المؤرخ الوزير الثقة الدين الصين اتهمه بسرقة كتب ياقوت الحموى بعد وقفها، كما في ترجمة " ياقوت " من إنباه الرواة على أخبار النحاة، وهو إلى ذلك مؤلف كبير ومؤرخ شهير وله فضل لا ينكر أبدا. 53 - وفى ص 228 س 2 " وكأن بين النفع لمع حديدها "، والصواب: " لمع " بالنصب لأن اسم كأنّ مؤخرا. 54 - وفيها س 5 " لتنوب عنه أنجم الخرصان " والصواب: «الخرصان» أو " الخرصان " جمع الخرص وهو جريدة النخل وأراد به الرمح. 55 - وجاء في ص 251 س 12 " هاشم بن قليتة " وصححتموه " فليتة " في الحاشية نقلا عن كتاب (Rulers of Mecca) لجير الدى كورى، وهذا الرجل ليس بمحقق حتى يعتمد عليه، ولا أظنه يعرف العربية إلا ترجمة، وفى كتابه

هذا ما يضحك الثكلى من الأوهام، وقد أخذ علما من علم الناس الأحياء فادعاه لنفسه، وفليتة مذكور في عمدة الطالب وغيره من كتب العلويين، قال ابن عنبة في عمدة الطالب " ص 117 " من طبعة الهند: " ومنهم الأمير الشجاع الفارس فليتة والأمير عيسى ابنا قاسم، فولد الأمير فليتة عدة رجال منهم تاج الدين وعمدة الدين هاشم، أخذ مكة سيفا من إخوته وعمومته "، وجاء في حاشيته: " وكانت وفاة تاج الدين هاشم بن فليتة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ". 56 - وجاء في ص 254 س 10: " الشيخ الجليل أبا المعالى بن الحباب " وفى الحاشية: " هو القاضى الجليس أبو المعالى عبد العزيز بن الحباب "، والذى حفظناه " الجباب " بالجيم وتشديد الباء، قال الذهبى: " وبموحدة [الجباب] أبو البركات عبد القوى بن الجباب المصرى وأقاربه، كان جدهم عبد الله يعرف بالجباب لجلوسه في سوق الجباب " (المشتبه ص 138). هذا وقد أهملنا غلطات لغوية ونحوية أخرى لعلها من خطأ الطبع. ونختم هذه الملاحظات الضئيلة بالنسبة إلى هذا الكتاب الكبير الصعب، بتجديد الشكر والإعجاب بالتحقيق والتدقيق، والاستقصاء والاستيعاب، واجتياز العقاب الهائلة في نشره، ونحن أعلم بما يستلزمه كتاب تاريخى غير مطبوع من الجهد والتعب، وما يستحقه من الاطلاع والمعرفة التاريخية، وما يستوجبه من عناء بحث ومقابلة، وتقبلوا فائق الاحترام المخلص مصطفى جواد

مقدمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الناشر (1) هذه ثلاث سنوات أخرى مرت منذ ظهر الجزء الثانى من هذا التاريخ الكبير شغلت خلالها بإنجاز بعض الأعمال العلمية (¬1) الأخرى، ولكن مفرج الكروب ظل مع هذا شغلى الشاغل، لا أكاد أفرغ لنفسى بعض الوقت حتى أعود إليه أراجع نصوصه لأعد الأجزاء الباقية للطبع. وها أنذا أقدم اليوم للقارىء الكريم الجزء الثالث، وهو يغطى عصر أولاد صلاح الدين وأخيه الملك العادل، أي حوادث ربع قرن من الزمان ¬

(¬1) أشير هنا إلى بعض هذه الأعمال وهي: - الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامى الحديث، الجزء الثانى (مصر والشام)، القاهرة 1958. - مجموعة الوثائق الفاطمية، الجزء الأول (وثائق الخلافة والوزارة)، القاهرة 1958. وقد فاز هذا الكتاب بجائزة الدولة التقديرية. - رفاعة رافع الطهطاوى (مجموعة نوابغ الفكر العربى)، دار المعارف بالقاهرة 1958. - حلية الزمن بمناقب خادم الوطن (سيرة رفاعة الطهطاوى بقلم تلميذه صالح مجدى، نشر وتحقيق) القاهرة 1958. - التاريخ والمؤرخون في مصر في القرن التاسع عشر، القاهرة 1958. - AHistary of Egyption Historiography in the 91 th bentury (تحت الطبع).

(590 - 615 = 1194 - 1218) وهى حقبة خطرة أو شك فيها البناء الشامخ الذى بناه صلاح الدين أن ينقض، وأوشكت الوحدة القوية التي كدّ في تكوينها أن تنفصم عراها، فقد اقتسم الملك بعده أولاده الثلاثة الكبار: الملك العزيز عثمان في مصر، والملك الظاهر غازى في حلب، والملك الأفضل على في دمشق؛ ثم لم يلبث أن قام النزاع والتخاصم بين الأخوة الثلاث، ووقف عمهم الملك العادل عن كثب يرقب الأحداث، ويتدخل بذكائه ودهائه ليمهد للأمور حتى تصل إلى نتيجتها المحتومة، فلما نضجت الكمثرى استعان بالأمراء الأسدية حتى اختاروه أتابكا للطفل الصغير الملك المنصور بن الملك العزيز صاحب مصر، ثم لم يلبث أن عزله وولى العرش مكانه وأعاد للدولة وحدتها كما كانت أيام أخيه صلاح الدين، ولم يبق خارجها إلا مملكة حلب التي تتابع على حكمها حتى نهاية الدولة سلالة الملك الظاهر بن صلاح الدين. وكانت حجة الملك العادل التي حاول بها أن يبرر استئثاره بالملك دون أولاد أخيه تمثل مبدءا جديدا وخطيرا، فإنه قال: «إنه قبيح بى أن أكون أتابكا لصبى مع الشيخوخة والتقدم، مع أن الملك ليس هو بالميراث، وإنما هو لمن غلب، ولقد كان يجب أن أكون بعد أخى السلطان الملك الناصر - رحمه الله - صاحب الأمر، غير أنى تركت ذلك إكراما لأخى ورعاية لحقه. . الخ» (¬1) وكان من الممكن أن يقبل هذا القول من الملك العادل لو أنه كان يعنيه حقا، أولو أنه التزمه مع نفسه وأولاده، ولكن الواضح أنه ساق هذا القول لتبرير فعلته وحسب، بدليل أنه تمسك بمبدأ الوراثة بعد قليل، فقسم الملك بين ¬

(¬1) انظر بقية الحديث فيما يلى هنا، ص 111.

أولاده الثلاثة: الكامل والمعظم والأشرف، قبل وفاته، وظل الملك في مصر - على الأقل - وراثيا في عقبه إلى أن انتهت الدولة. وقد شرح ابن واصل في هذا الجزء الصراع العنيف الذى قام بين أولاد صلاح الدين شرحا وافيا مستفيضا، وكشف القناع عن الأدوار التي لعبتها القوى الكبرى التي شاركت في هذا الصراع، فقد كان هناك صراع خفى بين أنواع من القوى، بين الأمراء الأسدية والأمراء الصلاحية، وبين الأكراد والأتراك، ووسط هذه اللجة المصطخبة من النزاع كنا نرى أيدى كبار القواد ورجال الدولة الذين عملوا مع صلاح الدين تلعب تارة في الخفاء وتارة في العلانية، فتعمل مرة على إخماد نار الفتنة، وتعمل مرة أخرى على إشعال نيرانها وتوسيع شقة الخلاف، وقد جرت عادة المؤرخين الذين أرخوا لهذه الفترة أن يرصدوا حركات أولاد صلاح الدين وعمهم العادل، ولكن القارىء لهذا الجزء من مفرج الكروب يدرك أنه لكى يفهم أسباب هذا النزاع وأحداثه لا يمكن أن يغفل الأدوار التي لعبها الأمراء الصلاحية من أمثال: فخر الدين جهاركس، وفارس الدين ميمون القصرى، وشمس الدين سنقر الكبير، وصارم الدين قايماز النجمى، وحسام الدين أبو الهيجا السمين، وبهاء قراقوش، والقاضى الفاضل عبد الرحيم بن على البيسانى. . الخ. فتاريخ بنى أيوب - فيما أرى - لا يمكن أن يفهم فهما صحيحا إذا نحن قصرنا دراستنا على ملوك بنى أيوب وأعمالهم، بل أصبح من الواجب أن ندرس موقف القوى الحربية التي كانت تكون الجيش الأيوبى من أكراد وأتراك وخوارزمية وعربية، والعصبيات التي تكونت من أسدية وصلاحية وكاملية وصالحية وغيرهم، وأن ندرس إلى جانب هذا سير كبار القواد والأدوار التي لعبوها في تطور تاريخ هذه الأسرة.

والمؤلف يؤرخ في هذا الجزء تأريخا شاملا لمنطقة الشرق الأدنى العربى خلال هذا الربع قرن، فيشير إلى الأحداث في اليمن وإلى ولاتها من بنى أيوب، ويتتبع الصراع الذى كان لا يزال قائما ومستمرا بين الأيوبيين وبقايا الصليبيين في الشام، بل إنه يرصد تحركاتهم خارج العالم الإسلامى فيشير إشارة سريعة إلى الحملة الصليبية الرابعة التي اتجهت إلى القسطنطينية (¬1) واستولت عليها، وهو يعنى كذلك بالتأريخ للدول الإسلامية المجاوة وحكامها والعلاقات بينها وبين بنى أيوب، وبخاصة الخلافة العباسية، ودولتى الأتابكة وسلاجقة الروم. (2) وابن واصل وإن كان قد عاش بعض سنوات هذه الحقبة التي يؤرخ لها هذا الجزء والتي تبدأ بسنة 590 وتنتهى بسنة 615 هـ‍ إلا أننا لا نعتبره معاصرا لها. فقد ولد سنة 64، وكان قد بلغ الحادية عشرة من عمره في نهاية هذه الحقبة، وهى سن لا تؤهله لإدراك الحوادث إدراكا صحيحا، ولهذا فهو لا زال ينقل عمن سبقه من المؤرخين، وهو في هذا الجزء ينقل بصفة خاصة عن المؤرخين الآتية أسماؤهم: - ابن القادسى - العماد الأصفهانى - عز الدين بن الأثير - ضياء الدين بن الأثير ونقوله عن هؤلاء لها أهمية كبرى فإن ابن القادسى مؤرخ عراقى عاش في أواخر القرن السادس الهجرى وأدرك القرن السابع، وكتابه في التاريخ ذيّل به على تاريخ ¬

(¬1) انظر ما يلى هنا ص 160 تحت عنوان «ذكر استيلاه الفرنج على قسطنطينية».

ابن الجوزى «المنتظم»، ومعلوماته عن تاريخ العراق والخلافة العباسية وثيقة وهامة، غير أن كتابه للأسف من الكتب المفقودة، ولم يبق منه إلا هذه الشذرات القليلة التي نقلها عنه ابن واصل في مفرج الكروب، وشذرات أخرى نقلها سبط ابن الجوزى في «مرآة الزمان» وابن تغرى بردى في «النجوم الزاهرة» وغيرهما من المؤرخين اللاحقين. أما العماد الأصفهانى فكان قد انتهى من التاريخ لعصر صلاح الدين في كتابه الفذ «البرق الشامى» وعليه اعتمد الأغلبية العظمى من مؤرخى العصر الأيوبى ومن بينهم ابن واصل، ثم ظل العماد بعد وفاة صلاح الدين على صلة وثيقة بأبنائه وأخيه العادل ورجال دولته، وألف للتأريخ للسنوات السبع التي عاشها بعد ذلك (توفى 957 هـ‍) ثلاث رسائل هى: «العتبى والعقبى» و «ونحلة الرحلة» و «خطفة البارق وعطفة الشارق»، وكلها - رغم أهميتها القصوى - مفقودة، وإن كان أبو شامة قد لخصها تلخيصا موجزا جدا في الصفحات الأخيرة من الجزء الثانى من كتابه «الروضتين في أخبار الدولتين»، إلا أن ابن واصل ينقل في هذا الجزء فقرات كثيرة وهامة جدا من هذه الرسائل، ومما يزيد في أهمية هذه النقول أنها لا توجد في الروضتين أو في أي مرجع آخر من المراجع التي أرخت للأيوبيين. وبوفاة العماد في سنة 597 هـ‍ يصبح «الكامل في التاريخ» لعز الدين ابن الأثير عمدة ابن واصل ومرجعه الأول، كما أنه ينقل أحيانا - - عند التأريخ للأتابكة - عن كتابه الآخر «الباهر». كذلك رجع ابن واصل في هذا الجزء إلى مجموعة رسائل ضياء الدين ابن الأثير ونقل الكثير من هذه الرسائل التي تلقى أضواء جديدة على قصة الصراع بين أولاد صلاح الدين، ولا غرو فقد كان ضياء الدين وزيرا للأفضل

ابن صلاح الدين - صاحب دمشق، وإلى رعونته - فيما يذكر ابن واصل وغيره من المؤرخين -، ترجع أسباب فشل الملك الأفضل في سياسته وحكمه. وابن واصل - كعادته - لا ينقل عن هذه المراجع نقلا حرفيا دائما، بل قد يلتزم النص الذى ينقل عنه، وقد يوجز أو يختصر، وقد يضيف من عنده روايات شفهية سمعها من معاصريه، وهو في معظم الأحوال يقارن بين آراء المؤرخين، ويصوّب قول هذا أو يخطئ قول ذاك أو يناقش الآراء ويأتى برأى جديد يرى أنه الصواب، وهو في كل هذه الاستدراكات يبدأ استدراكه بكلمة «قلت». ولندرة المراجع المعاصرة الأصيلة التي أخذ عنها ابن واصل أو لضياعها أصبح كتابه «مفرج الكروب» العمدة والمرجع لمعظم المؤرخين العرب الذين عاشوا بعد القرن السابع الهجرى وكتبوا عن العصر الأيوبى، من أمثال أبى الفدا، والذهبى، والمقريزى، وابن تغرى بردى، والنعيمى وغيرهم، ولهذا اعتبرت كتب هؤلاء المؤرخين نسخا أخرى وراجعت عليها نصوص مفرج الكروب كلما وجدت بها نقولا أو اقتباسات منه. (¬1) (3) وهذا الجزء ملئ بالمقطوعات الشعرية التي نقلها ابن واصل عن دواوين الشعراء المعاصرين وضمنها كتابه، ومن هؤلاء: - ابن سناء الملك - وشرف الدين بن عنين ¬

(¬1) انظر ما يلى هنا، ص 38 هامش 2، ص 56 هامش 1، ص 66 هامش 1، ص 138 هامش 3.

- والعماد الكاتب الأصفهانى - وبهاء الدين أسعد بن يحيى السنجارى - وسالم بن سعادة الحمصى - وشرف الدين راجح الحلى - وكمال الدين بن النبيه المصرى - والخليفة العباسى الناصر لدين الله - والملك الأفضل على بن صلاح الدين - والملك العادل أبو بكر وغيرهم كثيرون وقد عارضت الشعر على دواوين هؤلاء الشعراء - إن وجدت - لتقويم النص وضبطه بالشكل، وهذه المجموعة الضخمة من شعر العصر تزيد في أهمية «مفرج الكروب» فإن بعض هذه المقطوعات مما ينفرد هو بإيرادها ولا توجد في المراجع الأخرى، والبعض الآخر لشعراء ضاعت دواوينهم أو لا زالت مخطوطة لم تطبع بعد مثل ديوان شرف الدين راجح الحلى، وبعض ثالث يتضمن أبياتا لا توجد في الدواوين المعروفة. (4) وهذا الجزء يشبه الجزءين السابقين بكثرة ما به من وثائق رسمية نقلها المؤلف ليؤكد الحقائق التاريخية التي يرويها أو ليزيدها إيضاحا وتوثيقا، والمؤلف - كعادته - يثبت بعض هذه الوثائق كاملة حينا ومنقوصة حينا آخر، وأعود فأكرر هنا الأهمية القصوى لهذه الوثائق باعتبارها المصدر الأول الأكيد للمؤرخين، ولهذا عنيت بإبراز هذه الأهمية في مقدمتى الجزءين الأول والثانى،

ولهذا ألحقت بالجزء الثانى إحدى وعشرين وثيقة أيوبية، وإتماما لهذه الخطة وتمهيدا لإخراج مجموعة مستقلة تضم وثائق العصر الأيوبى على نمط المجموعة التي أخرجتها للوثائق الفاطمية، ألحقت بهذا الجزء اثنتين وثلاثين وثيقة أيوبية أخرى مما عثرت عليه في بطون المراجع التاريخية والأدبية المختلفة. وللوثائق التي أوردها ابن واصل في هذا الجزء أهمية كبرى لضياع أصولها ولانفراد ابن واصل بإيرادها، وللدلالة على أهميتها يكفى أن نشير هنا بعض منها: - رسالة بقلم العماد الكاتب مرسلة من الملك الأفضل بن صلاح الدين - بعد وفاة والده - إلى الخليفة الناصر لدين الله - نموذج طريف لخطبة عقد الزواج في العصر الأيوبى بين الملك العزيز ابن صلاح الدين وابنة عمه الملك العادل. - رسالة من ضياء الدين بن الأثير الوزير إلى بعض إخوانه - قطعة من رسالة مرسلة من الملك الظاهر صاحب حلب إلى الملك المنصور صاحب حماة - خطابان بقلم الوزير صفى الدين بن شكر من الملك العادل إلى الملك المنصور صاحب حماة - رسالة من الملك العادل إلى ابن أخيه الملك الأفضل . . . الخ. . . الخ (5) وهذا الجزء كسابقه فيه عدد كبير من المصطلحات الإدارية والحربية والاجتماعية التي كانت مستعملة في العصر الأيوبى، وقد تابعت العناية بها وشرحتها في الهوامش شرحا وافيا بقدر ما سمحت لنا به المراجع والمعاجم المتداولة

وأشرت إلى هذه المراجع والمعاجم في نهاية الشرح ليرجع إليها من يريد التثبت أو الاستزادة، وقد أشار ابن واصل في هذا الجزء إلى وظيفة إدارية هامة لم أجد لها ذكرا في المراجع المعاصرة الأخرى وهى: ولاية البر (ووالى البر) بحماة، ومن المصطلحات التي شرحناها فيما يلى - على سبيل المثال لا الحصر -: المثال (ص 7، هامش 2) وكوكبورى (ص 17، هامش 3) والسنجق (ص 25، هامش 1) والغاشية (ص 25، هامش 2) واليزك (ص 48، هامش 1) والكوسات (ص 51، هامش 3) والارتفاعات (ص 54، هامش 1) والمفاردة (ص 93، هامش 5) والكمة (ص 134، هامش 3) والزردخاناه (ص 135 هامش 2) وتركبلى (ص 146 هامش 2). . . الخ. . . الخ ولا زلت أكرر الدعوة إلى ضرورة الاهتمام بهذه المصطلحات الحضارية وجمعها وشرحها فهى من الأدوات الهامة التي لا يمكن لمن يريد التأريخ لنظم الحكم أو الحضارة في العالم الإسلامى على تلك العصور الاستغناء عنها. وقد حاولت جهدى كذلك ضبط أسماء المدن والقرى وأسماء الأعلام كما ترجمت ترجمات موجزة في الهوامش لمشاهير العصر أو أشرت إلى المراجع التي ترجمت لهم ليرجع إليها من يريد. وفى هذا الجزء أخيرا فقرات تحدث فيها المؤلف عن نفسه فهى تعيننا على تعرف سيرته أو تحديد تاريخ تأليف الكتاب، ومن أهمها إشارته في ص 9 إلى زيارته لحلب في سنة 627 هـ‍ (وكان في الثالثة والعشرين من عمره) وإقامته هناك في مدرسة القاضى المؤرخ بهاء الدين بن شداد وتتلمذه عليه.

(6) هذا وقد كنت اتخذت نسخة مكتبة كامبردج (المرموز لها بحرف ك) أصلا لنشر الجزئين الأول والثانى مع معارضة النص على نسخة باريس رقم 1702، وأردت أن أسير على نفس النهج في هذا الجزء على أن أعارض النص على نسخة مكتبة مللاجلبى رقم 119 التي تبدأ بالأحداث التالية لوفاة صلاح الدين ونسخت أوراق هذا الجزء مكتملة عن نسخة (ك) وبدأت العمل لضبط النص وتقويمه، ولكننى لم أكد أتقدم في العمل خطوات حتى تبين لى أن نسخة مللاجلبى أفضل بكثير من نسخة كمبردج، فقطعت أوراقى وبدأت من جديد ونسخت النص عن نسخة استانبول واتخذتها أصلا للنشر مع مقابلتها على نسختى باريس 1702 وكمبردج، فقد اتضح لى أن نسخة كمبردج كانت النسخة الأولى التي كتبها المؤلف، ولكنه أعاد النظر فيها بعد ذلك، فعدّل في النص كثيرا وقوّمه وأضاف إليه في بعض الأحيان، والنسخة المعدلة المصححة هى نسخة استانبول، وهى لحسن الحظ تبدأ بما يبدأ به هذا الجزء الثالث، فإن عنوان بها هو: ذكر ما استقرت الحال عليه من الممالك بعد وفاة السلطان - رحمه الله - وقد نبهت في الهوامش إلى الفروق الواضحة التي تدل على أفضلية نسخة مللاجلبى على نسخة كمبردج، انظر مثلا: (ص 92. هامش 5) و (ص 97، هامش 7) و (ص 101، هامش 1) و (ص 108، هامش 1). . الخ

أما نسخة باريس 1702 (وقد رمزنا لها بحرف س) فهى - كما بينت في مقدمة الجزء الأول - أسوأ النسخ، فهى مضطربة الترتيب والصفحات، وبها خروم كثيرة (¬1)، وكاتبها جاهل كثير الأخطاء. ومع هذا فإن نسختى كمبردج وباريس لم تخلوا من الفائدة، فقد أعانتانى أحيانا على قراءة ما تعسر علىّ قراءته في نسخة الأصل، وكانت بهما أو باحداهما زيادات تنور النص فأضفتها أتماما للفائدة مع التنبيه دائما في الهوامش إلى الفروق الواضحة بين النسخ الثلاث. ومن الأسباب التي دفعتنى إلى اختيار نسخة مللاجلبى أصلا للنشر - إلى جانب صحة النص واستيفائه ودقته - أنها أقدم النسخ الموجودة جميعا، بل إننى أرجح أنها كانت نسخة المؤلف نفسه أو أنها كتبت أثناء حياته، فقد كتب اسم المؤلف على الصفحة الأولى وتحته «عفا الله عنه»، والعادة أن الناسخ إذا كتب الكتاب بعد وفاة مؤلفه أن يدعو له بالرحمة، فيتبع اسمه بالدعاء المعروف «رحمه الله»، أما النص تحت عنوان الكتاب فهو: «تأليف الفقير إلى رحمة الله تعالى محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم ابن واصل عفا الله عنه». ومما يرجح هذا الظن ويؤكده أن نفس الصفحة تحمل بعد ذلك اسم مواطن للمؤلف من حماة تملك النسخة بعد وفاة المؤلف بخمس وأربعين سنة فقط (أي في سنة 742)، كما تحمل اسم عالم آخر قريب للسابق نص على قراءته ¬

(¬1) أنظر ما يلى هنا ص 39، هامش 1 وص 42، هامش 1 وص 70، هامش 1 وص 135، هامش 4. . الخ

للنسخة في سنة 784 هـ‍، أي بعد وفاة المؤلف بسبع وثمانين سنة، وفيما يلى نص التمليكين: «كان في يد على بن الحسن بن على بن عبد الوهاب الحموى، ابتاعه بالقاهرة في جمادى الأخرة سنة اثنين وأربعين وسبعمائة». و «طالع مفرج الكروب من أوله إلى آخره أقل عبيد و (أحو) جهم إلى رحمته أيوب بن حسن بن على بن عبد الوهاب، عفا الله عنه وتاب عليه وعلى من ترحم عليه وعلى والديه، ودعا له بخاتمة الخير، وذلك في شهر ذى القعدة من سنة) أربعة وثمانين وسبعماية، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا (محمد وعلى آله وصحبه) وسلم تسليما كثيرا». هذا ويوجد على هامش ص 10 امن هذه النسخة تمليك ثالث متأخر، تاريخه سنة 877 هـ‍، ونصه: «نظر في هذا التاريخ المبارك العبد الفقير إلى (الله) تعالى، وأحوجهم إلى عفوه محمد بن المرحوم حسن غفر الله له ولوالديه ولمن دعا له بالتوبة والمغفرة وللمسلمين أجمعين (كذا)، آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله و (صحبه) وسلم تسليما كثيرا، في تاريخ الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة سبع وسبعين وثمانمائة من الهجرة النبوية». وصفحة العنوان من نسخة استانبول تحمل الدليل على منهج المؤلف في تجزئ الكتاب، ففيها ما يشير إلى أن هذه النسخة هى الجزء الثانى، وهذا هو نص العنوان الذى تحمله الصفحة الأولى:

الجزء الثانى من كتاب مفرج الكروب في أخبار ملوك بنى أيوب رحمهم الله تعالى أي أن المؤلف جعل الجزء الأول من كتابه ينتهى بنهاية عصر صلاح الدين ووفاته، ثم بدأ الجزء الثانى بالتاريخ للأحداث التي تلت وفاة صلاح الدين، أما كاتب نسخة كمبردج فقد اتخذ لنفسه أساسا آخر لتجزىء الكتاب، فقد وقف عند كلامه عن مسير الملك العادل إلى الديار المصرية سنة 596، وبدأ الأحداث الجديدة التالية بالبسملة مكتوبة في وسط السطر بحروف كبيرة في صفحة جديدة ويليها «رب يسر وأعن»، مما يفيد أنه كان يريد تقسيم الكتاب إلى أجزاء، فجعل الجزء الثانى يبدأ بمسير الملك العادل إلى مصر وتملكه لها، فهو بهذا أراد أن يجعل الجزء الأول شاملا لعصر صلاح الدين وأولاده، والجزء الثانى شاملا لعصر العادل وسلالته. أما نحن فقد اتخذنا أساسا مخالفا لتقسيم الكتاب، وذلك لضخامته ووفرة عدد صفحاته التي تنيف في الأصل على الألف، فجعلنا الجزء الأول ينتهى بوفاة نور الدين واستقلال صلاح الدين الفعلى بحكم مصر، وأفردنا لعصر صلاح الدين من مبدئه إلى نهايته الجزء الثانى، أما هذا الجزء الثالث فيغطى عصر أولاد صلاح الدين وأخيه العادل وينتهى بوفاة العادل سنة 615 هـ‍. ويبقى بعد ذلك ثلاثة أجزاء، أحدها (وهو الرابع) سيغطى عصر الملك الكامل محمد (615 - 365 هـ‍) والآخران (الخامس والسادس) يشملان

عصر الملك الصالح نجم الدين أيوب وابنه توران شاه وقيام دولة المماليك، وسألحق بالجزء الأخير الذيل الذى ذيّل به على الكتاب على بن عبد الرحيم بن أحمد، تلميذ المؤلف ومواطنه، وقد وصل فيه إلى سنة 695 هـ‍. هذا وقد كنت أشرت إلى أننى سألحق بهذا الجزء الثالث مجموعة الفهارس التفصيلية للأجزاء الثلاثة معا، غير أننى لاحظت بعد البدء في طبع هذا الجزء أنه سيتضخم إذا أنا نفذت هذه الفكرة، فنصحنى بعض الأصدقاء أن ألحق بهذا الجزء الفهارس الخاصة به وحسب، فعملت بنصيحتهم على أن ألحق بكل جزء من الجزئين الأولين الفهارس الخاصة به عند إعادة طبعه وخاصة أن نسخ الجزء الأول قد نفدت كلها، وأوشكت نسخ الجزء الثانى أن تنفد كذلك، وأرجو أن أوفق قريبا إلى إعادة طبعهما مع إلحاق كل جزء بالفهارس الخاصة به، وكذلك سيكون منهجى إن شاء الله في الأجزاء الثلاثة الباقية. (7) وبعد فهذا هو الجزء الثالث من مفرج الكروب، وهذا هو منهجنا في نشرنا، نرجو أن نكون قد وفقنا في أداء الأمانة العلمية حق أدائها، والله وحده يعلم كم بذلنا من جهد وكم صرفنا من وقت في ضبط نصه وإخراجه، وقد كان للترحاب الذى قوبل به الجزءان السابقان ولكلمات التشجيع التي أضفاها علينا أساتذة أجلاء وأصدقاء أعزاء الفضل الأكبر في شحذ الهمة لإتمام إخراج الكتاب رغم ما يكتنفنا ويحيط بنا من مشاغل العمل والحياة. فإلى هؤلاء الأساتذة الأصدقاء أزجى أجمل آيات شكرى وفى مقدمتهم أستاذى الجليلين الأستاذ محمد شفيق غربال والدكتور محمد مصطفى زيادة وصديق

الصبا والشباب والعمل الدكتور حسين مؤنس، وكذلك أقدم شكرى القلبى الصادق إلى الأصدقاء الأجلاء والأساتذة الأعلام: عالمى حلب وحماة الأستاذين طاهر النعسانى وقدرى كيلانى، وعالمى بغداد الدكتورين عبد العزيز الدورى ومصطفى جواد، والمؤرخ المحقق الدكتور قسطنطين زريق، والصديقين البحاثتين الدكتور صلاح الدين المنجد والدكتور بشر فارس. أما المستشرقون الكبار المعنيون بالتاريخ الإسلامى فإن لهم في عنقى دين كبير لا أستطيع أن أفيه حقه، فإليهم جميعا شكرى الجزيل، وأخص بالذكر الأستاذ جب بجامعة هارفارد، والأستاذ برنارد لويس بجامعة لندن، والأستاذ كلو وكاهن بجامعة استراسبورج، والأستاذ هنرى ماسين بالكوليج دى فرانس. وكذلك شكرى الكبير إلى الصديقين الأستاذين جورج قنواتى ورشدى الحكيم على النقد (¬1) القيم الذى تفضل كل منهما بكتابته عن الجزء الثانى من مفرج الكروب، وإنى أرجو أن أكون قد أفدت من توجيهاتهما العلمية الممتازة. وأقدم شكرى الجزيل كذلك لصديقى الكريم الأستاذ عبد المنعم عامر، فقد تفضل بتصحيح تجارب القسم الأعظم من هذا الجزء، وإلى تلميذى القديم الأستاذ درويش النخيلى المدرس بمدرسة المعلمين بدمنهور على الجهود الضخمة التي بذلها في عمل فهارس هذا الكتاب، جزاهما الله عنى وعن العلم كل خير. وأرجو أخيرا أن استميح القارئ عذرا لما يتخلل هذا الجزء من أخطاء ¬

(¬1) نشر النقد الأول باللغة الفرنسية في مجلة معهد الدومتيكان بالقاهرة: ونشر النقد الثانى في مجلة المشرق التي تصدر في بيروت، عدد كانون الثانى - شباط 1959

مطبعية، فقد كنت أقوم على تصحيحه وأنا أعد العدة للسفر إلى المغرب لأتسلم عملى هناك مستشارا ثقافيا للجمهورية العربية المتحدة، فكان للعجلة أثرها في كثرة الأخطاء المطبعية، والعجلة من الشيطان، حمانا الله وأعاذنا من الشيطان ومن العجلة. والله أسأله أن يوفقنى دائما للعمل الصالح وأن يهبنى القوة لإتمام هذا الكتاب، ولخدمة أمتنا العربية وتاريخها المجيد. جمال الدين السيال الاسكندرية في 6 رمضان 1379 3 مارس 1960

مراجع التحقيق

مراجع التحقيق تضاف هذه المراجع إلى قائمتى المراجع التي استعملت في تحقيق (الجزء الأول والجزء الثانى) (أ) المراجع العربية ابن الأثير (ضياء الدين نصر الله بن محمد): - رسائل ابن الأثير، نشر أنيس المقدسى، بيروت، 1959 م. البغدادى (عبد اللطيف): - الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر، القاهرة، 1286 هـ‍. ابن خير الله الخطيب العمرى (ياسين): - منية الأدباء في تاريخ الموصل الحدباء، نشر سعيد الديوه جى، الموصل، 1955 م. الديوه جى (سعيد): - الموصل في العهد الأتابكى، بغداد، 1958 م. - الجامع المجاهدى في مختلف العصور، مجلة سومر، 11. رمزى (محمد): - القاموس الجغرافى للبلاد المصرية، القاهرة، 1954 م. زيدان (جرجى): - تاريخ التمدن الإسلامى، 5 أجزاء، القاهرة، 1935 م.

(ب) المراجع غير العربية

ابن شداد (عزيز الدين أبو عبد الله محمد الحلبى): - الأعلاق الخطيرة - تاريخ مدينة دمشق - نشر الدكتور سامى الدهان، دمشق، 1956. عبد اللطيف (محمد فهمى): - الفتوة الإسلامية، القاهرة، 1948 م ابن عمار البغدادى: - الفتوة، نشر الدكتور فؤاد حسنين، القاهرة، 1959 م عواد (ميخائيل): - المآصر في بلاد الروم والإسلام، بغداد، 1948 م كرد على (محمد): - غوطة دمشق، دمشق، 1368 هـ‍. - 1949 م مبارك (على): - الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، 20 جزءا، القاهرة، 1306 هـ‍ (ب) المراجع غير العربية - Histire des Patriaches d' Alexandrie. trad : Blochet, Revue de L,Orient Latin, 1907. Le Strange, Y : - Palestine Under the Moslems, London, 1890.

*

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) ذكر ما استقرت الحال عليه من الممالك بعد وفاة السلطان - رحمه الله - لما توفى السلطان الملك الناصر - رحمه الله -: استقرّ في الملك بدمشق وبلادها المنسوبة إليها ولده الملك الأفضل نور الدين على. وبالديار المصرية وما ينسب إليها الملك العزيز عماد الدين عثمان. وبحلب وبلادها الملك الظاهر غياث الدين غازى. وباليمن عمّهم الملك العزيز سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين (¬2) بن أيوب. ¬

(¬1) كنا قد اتخذنا نسخة كمبردج التي رمزنا لها بحرف (ك) أصلا لنشر الجزئين الأول والثانى من هذا الكتاب، وكنا نريد أن نتخذها أصلا كذلك لنشر هذا المجلد الثالث ثم نقابلها على نسخة ملاجلبى التي تبدأ بالتأريخ للحوادث بعد وفاة صلاح الدين سنة 589 هـ‍، أي لسنة 590 وهى السنة التي يبدأ بها هذا المجلد الثالث، ولكننا بعد مقابلة نحو العشرين صفحة الأولى وجدنا أن نسخة ملا جلبى تفضل نسخة كمبردج بكثير، فهي أكثر تفصيلا واستيفاء، وهى أقدم عهدا ولهذا نحينا المحاولة الأولى جانبا، واتخذنا نسخة ملا جلبى أصلا لنشر هذا المجلد الثالث مع مقارنة النص بنسختى كمبردج وباريس وبالمراجع التاريخية الأخرى، والنص في نسخة كمبردج متصل يكمل ما وقفنا عنده في المجلد الثانى، أما في نسخة ملاجلبى فيبدأ بالبسملة، ومعنى هذا أن ناسخ هذه المخطوطة قد جزّأ الكتاب أجزاء، فجعل القسم الذى نشرناه في المجلدين الأول والثانى والذى ينتهي بوفاة صلاح الدين جزءا أولا، وجعل ما بعد ذلك جزءا ثانيا. انظر عن النسخ المختلفة ووصفها وقيمتها مقدمة المجلد الأول من نشرتنا هذه، ثم انظر أيضا مقدمة هذا المجلد الثالث. (¬2) هكذا ضبط الاسم (ابن خلكان: الوفيات، ج 2: ص 208) بعد أن ترجم لصاحبه، ولكنه لم يشرح معناه، وإنما قال: «وهو اسم تركى».

وبالكرك والشّوبك والبلاد الشرقية الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب. وبحماة وسلمية والمعرّة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين. وبمحص والرحبة وتدمر الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه. وببعلبك وأعمالها. الملك الأمجد مجد الدين بهرامشاه بن فرخشاه ابن شاهنشاه (¬1) بن أيوب. وييد الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين بصرى، وهو في خدمة أخيه الملك الأفضل. وبيد جماعة من أمراء الدولة بلاد وحصون، منهم: سابق الدين عثمان بن الداية، بيده شيزر وأبو قبيس (¬2). وناصر الدين منكورس بن خمارتكين بيده صهيون وحصن برزية (¬3). وبدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق بيده تل باشر. وعز الدين أسامة بيده كوكب وعجلون. وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين بن المقدّم بيده بعرين وكفر طاب وحصن أفامية. والملك الأفضل هو الأكبر من أولاد السلطان، والمعهود إليه بالسلطنة، ¬

(¬1) الأصل: «شاهان شاه»، والتصحيح عن نسخة (ك) (¬2) أبو قبيس أوبو قبيس حصن في مقابلة شيزر. راجع: (ياقوت: معجم البلدان) و (Le Strange : Palest .Under Moslems. P. 325) . (¬3) هكذا ضبطت عند (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكرانها حصن قرب اللاذقية على سن جبل شاهق.

ذكر المراسلة إلى الديوان العزيز

وعنده بدمشق جماعة كثيرة من أمراء الدولة، وعند الملك العزيز بمصر (¬1) جمهور العساكر من الصلاحية، والأسدية، والأكراد، وهو أمكن من الملك الأفضل لعظم الديار المصرية وكثرة مغلاّتها. ذكر المراسلة إلى الديوان العزيز (2 ا) ولما توفى السلطان - رحمه الله -، كتب الملك الأفضل إلى الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بالانشاء العمارى (¬2) منه: «أصدر العبد هذه الخدمة وصدره مشروح بالولاء، وقلبه معمور بالصفاء، ويده مرفوعة إلى السماء، للابتهال بالدعاء، ولسانه ناطق بشكر النعماء، وجنانه ثابت بين المهابة والمحبة على الخوف والرجاء، وطرفه مغض من الحياء، وهو للأرض مقبّل، وللغرض متقبّل، وهو يمتّ (¬3) بما قدّمه وأسلفه سلفه (¬4) من الخدمات، وذخره ذخر الأقوات لهذه الأوقات، وقد أحاطت العلوم الشريفة بأن الوالد السعيد، الشهيد (¬5) الشديد السّديد، المبيد للشرك (¬6) المبيد، لم يزل أيام حياته، وإلى ساعة وفاته، مستقيما على جدد الجد، مستنيما (¬7) في صون فريضة الجهاد إلى بذل الجهد؛ ومصر - بل الأمصار - باجتهاده في الجهاد شاهدة، والأنجاد والأغوار في نظر عزمه واحدة، والبيت المقدّس من فتوحاته، ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط في (ك). (¬2) أورد هذه الرسالة أبو شامة في (الروضتين، ج 2، ص 225) نقلا عن العماد. (¬3) كذا في الأصل وفى الرضتين، وفى (ك): «يمد». (¬4) هذا اللفظ غير موجود في نص الرسالة الذى أورده صاحب الروضتين. (¬5) أضيف هذا اللفظ عن نص الروضتين. (¬6) في (ك): «المثبر الشك». (¬7) النص في الروضتين: «مستليما».

والملك العقيم من نتائح عزماته. وهو الذى ملك ملوك الشّرك وغلّ أعناقها، وأسر طواغيت الكفر وشدّ خناقها، وقمع عبدة الصلبان وقصم (¬1) أصلابها، وجمع كلمة الإيمان وعصم جنابها، ونظم أسبابها، وسدّ الثغور، وسدّد الأمور، وقبض وعدله مبسوط، وأمره (¬2) محوط، ووزره محطوط، وعمله بالصلاح (2) منوط، وما خرج من الدنيا إلا وهو في حكم الطاعة الإمامية داخل، وبمتجرها الرابح إلى دار المقامة راحل، ولم تكن له وصيّة إلا بالاستمرار على جادّتها، والاستكثار من مادتها، وإن مضى الوالد على طاعة إمامه، فالمماليك - أولاده وأخوته (¬3) - في مقامه». ثم كتب إليه كتابا (¬4) آخر بالانشاء العمارى منه: «أصدر العبد هذه الخدمة ومطالع عبوديته مشرقة الأنوار، ومشارع موالاته صافية عن الأكدار، ويد ابتهاله بالضراعة مبسوطة، وهمة اتصاله بالطاعة منوطة، وعين استكانته لمهابة تلك الجلالة مطرقة، وقدم مناصحته من صحته في نهج النجح متطرقة، وبصيرة هدايته على الثبات قويّه (2 ب) وسريرة ولايته من ورد المبرّات رويّة، وزناد رويّته بسناء المخالصة والمصافاة وريّة. قد سبقت مطالعته بالحادثة التي فجأت وفجعت، والنابية التي راعت وصدّعت، من انتقال والده مملوك الدار العزيزة إلى جوار رحمة الله ورضوان ¬

(¬1) النص في الروضتين: «وقصع». (¬2) هذه الجملة ساقطة من نسخة (ك) (¬3) الأصل: «وأخوه»، والتصحيح عن (ك). (¬4) انفرد ابن واصل بايراد هذه الرسالة، ولا وجود لها في كتاب الروضتين أو غيره من المراجع المتداولة المعروفة.

رضوانه، وجنات جنانه وغرفات (¬1) غفرانه. ولقد أسعده الله لما توفّاه على طاعة أمير المؤمنين، وقد عرفت مقاماته مدة حياته في إحياء فروض الجهاد وسننه، والجرى في إعلاء منار الدولة القاهرة على جدد الجدّ وسننه، ولولا اعتصام العبد بطاعة الدار العزيزة لكادت مطالعه تظلم، ومطالبه لا تلتئم، وعقود مناجحه لا تنتظم، لكن بركة استمساكه بالعبودية شملت، ومقاصده بسبب الاعتزاز ونسب الاعتزاء إليها كملت، والكلمة على الطاعة اتحدت، والمظافرة من الجماعة تمهّدت، وانتظر المملوك ما يصله من الأمثلة (¬2) الشريفة المشرّفة، والإجابة المسعدة المسعفة، فطال انتظاره، وأبطأ عليه من ليل أمله من صبح النجاح إسفاره، فتراجمت به ظنونه، وتزاحمت عليه شجونه، ولا شك أن مهام الديوان [العزيز] (¬3) كثيرة، وأن آمال رجاء الرجال بظل فضله مستجيرة، ولكنه رجاء من عوارف الباب الشريف الذى ليس بمرتجّ لمرتج (¬4)، وأمل من مذاهب مواهبه التي منهج جدّتها وحدّها غير منهج، أنه إذا ازدحمت الآمال على الديوان، وتنافست في تلقى نفائس الإحسان، قدّم أمر العبد، وعجّل نفع أوامه من أوامره بالورد العد». وأرسل الملك الأفضل القاضى ضياء الدين أبا الفضائل القسم بن يحيى ¬

(¬1) في (ك 433): «عرفان». (¬2) المثال (والجمع مثالات وأمثلة) والمقصود به هنا التقليد الذى كان يصدر من الخليفة العباسى إلى أحد ملوك الأيوبيين باقراره على ملكه، أما المثال في العصر المملوكى فهو مصطلح معناه الورقة التي كانت تخرج من ديوان الجيش إيذانا باعطاء أحد المماليك إقطاعا من الإقطاعات الحالية، فاذا وقّع السلطان على المثال بالموافقه أرسل إلى ديوان النظر لتسجيله وحفظه، ويكتب بذلك «مربعة» فيها اسم المقطع ورتبته، ثم ترسل المربعة إلى ديوان الإنشاء حيث يكتب منشور الإقطاع؛ أنظر: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 13، ص 153). (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك 433). (¬4) هذا اللفظ ساقط من (ك).

ابن عبد الله بن الشهرزورى رسولا إلى الديوان العزيز، وبعث معه عدد والده وملابسه وخيله، وأضاف إلى ذلك من الهدايا النفيسة ما عزّ وجوده وقوّم بآلاف، وأضاف إلى ذلك أنواعا من الطيب والألطاف، ونساء بارعات في الحسن من السّبى (¬1). وكان القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - لما توفى السلطان بدمشق كما ذكرنا، فلما توفى السلطان اعتمد عليه الملك الأفضل غاية الاعتماد واحترمه غاية الاحترام، وكان يشاوره في جليل الأمور ودقيقها. فورد (3 ا) كتاب الملك الظاهر - صاحب حلب - إلى أخيه الملك الأفضل يرغب إليه في أن يتحفه بالقاضى بهاء الدين ليكون عنده ويتيمن برأيه، فأجابه الملك الأفضل إلى ذلك وسيّره إليه، فوصل القاضى بهاء الدين إلى حلب، فأعظمه الملك الظاهر وفوّض إليه قضاء بلاده، وصار أقرب الناس إليه منزلة، ولم تزل منزلته عنده عظيمة وله الإقطاع الجليل والحرمة التي لم يصل إليها أحد من المعممين، إلى أن توفى الملك الظاهر - رحمه الله - وولى ولده الملك العزيز، وقام بأتابكيته الأتابك شهاب الدين طغريل الخادم، فازدادت منزلة القاضى بهاء الدين علوا وعظمة، وكان الملك العزيز ينزل بنفسه إليه في كل وقت، ويأخذ رأيه في المهمات العظيمة، ولم تزل له هذه المنزلة العظيمة، إلى أن توفى في أيام الملك العزيز - رحمه الله - وقد أناف على التسعين سنة. ¬

(¬1) ذكر صاحب الروضتين (ج 2، ص 225) - نقلا عن ابن القادسى - ثبتا بمفردات هذه الهدية، ننقله هنا لأهميته، قال: «وفى يوم الثلاثاء مستهل رمضان حمل ابن الشهرزورى ما كان أصحبه الأفضل من حمل الشام إلى الديوان العزيز، وهو صليب الصلبوت الذى كان قد أخذه والده، وذكر أنه ذهب يزيد على العشرين رطلا، مرصعا بالجواهر، ومعه خادم مختص بخدمته؛ وحمل فرس أبيه، وزرديته، وخوذته - وكانت صفراء مذهبة -، ودبوس حديد، وسيف، وأربع زرديات؛ وقالوا: «هذه تركته، وبها كان يقاتل»؛ وتحفا جمة من الثياب؛ وحمل في جملة التحف أربع جوار من بنات ملوك الروم، فيهن ابنة بارزان، وبنت صاحب جبلة».

وقصدت خدمته (¬1) بحلب سنة سبع وعشرين وستمائة، وحضرت مجلسه واستفدت منه، وأقمت بمدرسته (¬2) التي أنشأها إلى جانب داره - رحمه الله - نحو سنة وكسر. ولما وصل القاضى بهاء الدين إلى خدمة الملك الظاهر، وسيّره رسولا إلى الإمام الناصر لدين الله، وأصحبه من الهدايا أضعاف ما سيّره أخوه الملك الأفضل، ورتّبه في أبهة جميلة، وعدة من الجند أسنى لهم العطايا، وأعطى القاضى بهاء الدين ألفى دينار وخزانة من خلع وثياب ومصوغات ذهب وفضة، وقال: «أنفق منها واخلع». ومضى بهاء الدين في مضارب وخيم وحجّاب وحشم، فأبلغ الرسالة، وعاد إلى صاحبه مكرّما. وعاد القاضى ضياء الدين إلى الملك الأفضل بعد إبلاغ رسالته مكرّما محترما. ¬

(¬1) هذه إشارة لها أهميتها يذكر فيها المؤلف أنه تتلمذ على بهاء الدين بن شداد ودرس عليه في مدينة حلب سنة 627 هـ‍. (¬2) المدرسة الصاحبية أو مدرسة القاضى بهاء الدين بن شداد بحلب عرّف بها (محمد كرد على: خطط الشام، ج 6، ص 105) قال: «أنشأها القاضى بهاء الدين يوسف المعروف بابى شداد، قال ابن خلكان: إن حلب كانت قبل أن يتصل ابن شداد بخدمة الملك الظاهر قليلة المدارس، وليس بها من العلماء إلا نفر يسير، فاعتنى بترتيب أمورها، وجمع الفقهاء بها، وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة، وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعا جيدا يحصل منه جملة مستكثرة، فعمر مدرسة بالقرب من باب العراق قبالة مدرسة نور الدين محمود بن زنكى للشافعية، وذلك في سنة إحدى وستمائة، ثم عمّر في جوارها دارا للحديث، وجعل بين المكانين تربة يدفن فيها، ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد وحصلت بها، الاستفادة والاشتغال، وكثر الجمع بها؛ وموقع هذه المدرسة في الزاوية الغربية من الجنينة المعروفة الآن بجنينة الفريق شرقى محلة السفاحية، ولم يبق منها ولا من دار الحديث سوى حجر مكتوب، وقد كانتا عامرتين في القرن العاشر كما في أعلام النبلاء» انظر أيضا: (ابن الشحنة: الدر المنتخب في تاريخ مملكه حلب، ص 111).

ذكر ما اعتمده الملك الأفضل من الأمور التى آلت به إلى زوال ملكه

ذكر ما اعتمده الملك الأفضل من الأمور التي آلت به إلى زوال ملكه لما أفضى الملك إلى الملك الأفضل، استوزر ضياء الدين نصر الله بن محمد ابن الأثير (¬1)، وفوّض إليه أموره كلها. وهذا ضياء الدين من أهل الجزيرة، وكان مترسلا فاضلا، وهو صاحب «المثل السائر» و «المعانى المبتدعة» وغيرهما من الكتب، وله أخوان فاضلان هما: عز الدين صاحب التاريخ المشهور، ومجد الدين أبو السعادات صاحب كتاب «جامع الأصول في الحديث»، وكان متقدما عند ملوك الموصل من بنى أتابك زنكى - رحمه الله - وهؤلاء الإخوة الثلاثة كانوا فضلاء أعيانا [نبلاء] (¬2) متقدمين في الدول. وكان ضياء الدين المذكور لما اتصل بخدمة الملك الأفضل شابا غرّا، فحسّن للملك الأفضل إبعاد أمراء أبيه وأكابر أصحابه، وأن يستجدّ له أمراء وأصحابا غيرهم، وقال: «هؤلاء خواصّ السلطان وينظرون إليك بتلك العين، ويعتقدون أن حقّهم واجب وجوب الدين، وهم - بحكم المعرفة لك من الصغر - يتبسّطون ويشتطّون ولا يقنعون، وأعمال دمشق لا تسعهم (¬3)، وجميعها لا تقنعهم، ¬

(¬1) طبعت أخيرا مجموعة من رسائل ضياء الدين بن الأثير، وهى تضم عددا كبيرا من الوثائق الديوانية الهامة التي نلقى أضواء جديدة عل تاريخ البيت الأيوبى وتاريخ مصر والشام وما جاورهما في هذه الحقبة من الزمن. انظر: (رسائل بن الأثير، نشر وتحقيق أنيس المقدسى، بيروت 1959)، وانظر ترجمة ضياء الدين عند. (ابن خلكان: الوفيات) و (السيوطي: بغية الوعاة) و (أبو شامة: الروضتين) و (المقريزى: السلوك ج 1) و (ابن تغرى بردى: النجوم، ج 6) و (سركيس: معجم المطبوعات العربية) و (مقدمة المقدسى لرسائل ابن الأثير) (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين عن: (ك 435) (¬3) في (ك): «لا تشبعهم».

والأعمال المصرية لهم أفسح وأوسع؛ وأما الغرباء، فإنهم يقنعون بأى شئ أعطيتهم، ويعترفون بحقك ويعظمونك». وساعده على هذا القول جماعة من أصحابه ممن لا رأى عنده ولا معرفة. فأصغى الملك الأفضل إلى هذا القول، وأعرض عن أصحاب أبيه، ففارقه جماعة، منهم: الأمير فخر الدين جهاركس (¬1). وفارس الدين ميمون القصرى. وشمش الدين سنقر الكبير. وتوجّه هؤلاء إلى الملك العزيز فاحترمهم وأحسن إليهم، وولّى فخر الدين جهاركس أستاذية داره، وفوّض إلى فارس الدين وشمس الدين سنقر صيدا وأعمالها، وكان ذلك لهما فأقرّهما عليه، وزادهما أعمال نابلس وبلادها (¬2). ولما رأى القاضى الفاضل من الملك الأفضل ووزيره ضياء الدين بن الأثير مالا يعجبه، عزم على مفارقة الملك الأفضل والتوجه إلى الديار المصرية، واستأذن الملك الأفضل في ذلك فأذن له. ¬

(¬1) هو أبو المنصور جهاركس بن عبد الله الناصرى الصلاحي الملقب بفخر الدين كان من أمراء الدولة الصلاحية، وقال (ابن خلكان: الوفيات، ج 1، ص 331) في ترجمته: «إنه كان كريما نبيل القدر على الهمة، وأنه بنى بالقاهرة القيسارية الكبرى المنسوبة إليه، ثم قال: «ورأيت جماعة من التجار لذين طافوا البلاد يقولون: لم نر في شئ من البلاد مثلها في حسنها وعظمها وإحكام بائها، وبنى بأعلاها مسجدا كبيرا وربعا معلقا»، وتوفى جهاركس في سنة 608 هـ‍ ومعنى جهاركس باللغة العربية: أربعة أنفس. (¬2) لاحظ أن النقريزى عند كلامه عن أولاد صلاح الدين ينقل عن مفرج الكروب دون أن ينص على هذا النقل، انظر: (المقريزى: السلوك، نشر الدكتور زيادة، ج 1، ص 114 وما بعدها).

قال عماد الدين الكاتب

قال عماد الدين الكاتب: فقلت للملك الأفضل: «لم تركت القاضى الفاضل يرحل، والملك بتحوله يتحوّل؟». فقال: «ما الذى كنت أفعله وهو لا يقبل منى؟». فقلت: «كان ينبغى أن تركب إلى داره وتفعل كلّ ما يؤثره، فكنت تملك به أمرك، وتأمن به في ملكك». قال: «نعرف الصواب»، ولم يرد الجواب. وكان القاضى بهاء الدين بن شداد قد فارق الملك الأفضل قبل ذلك - كما ذكرنا - وصار إلى الملك الظاهر، وكذلك فارقه جمال الدين أبو غالب عبد الواحد بن الحصين، واتصل بخدمة الملك الظاهر وتقدّم عنده. ولما وصل القاضى الفاضل إلى الديار المصرية، خرج الملك العزيز عماد الدين إلى استقباله، وأعظمه غاية الإعظام، وأحلّه محل الوالد، وصار لا يصدر [أمرا إلا] (¬1) عن رأيه ومشورته. واستمال الملك العزيز - رحمه الله - أصحاب والده وأمراءه ومماليكه وأحسن إليهم وقرّبهم، فعظم بذلك شأنه، واجتمعت كلمتهم على نصرته وتقرير قواعد ملكه، والملك الأفضل يفعل ضد ذلك بأصحاب أبيه، ويقدّم عليهم من استجدّه ممن لا يؤبه به ولا ينبغى الاعتماد عليه. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك 436) وبها يستقيم المعنى.

قال عماد الدين الكاتب

قال عماد الدين الكاتب: «وكنت أنا ممن سيم (¬1) البعد، وسئم منه الود، وتفرّد الوزير بوزره، ومدّ الجزرىّ في جزره، ولأجل أهلى وأملاكى بدمشق لزمتنى الإقامة، وإلى قضاء الله فيها الاستنامة، وقيل للملك الأفضل: «هذا العماد، يتعذر عليه الاعتماد، فإنه لا يصبر على ما تعطيه، وغير ما كان له من أبيك يأباه ولا يرضيه، ونحن نكفيك أمر كفايته، ونبلغ لك أمد بلاغته، وأىّ حاجة لك إلى العبارة البارعة، والفصاحة الصادعة، والبلاغة البالغة، والأشغال الفارغة؟! وأمر الملك يتمشى بالكلام المفهوم، والخطاب المعلوم، ومن بقى يرغب في الغريب، ولا أرب فيه للأريب، ونحن نقوم لك بما لا غنى عنه من الكتابة، ولا نخطىء الغرض بالإصابة». ومكث الملك الأفضل أشهرا للغنى عنى مظهرا، وبظاهر دعاوى أولئك الجماعة مستظهرا، وعملوا نسخ أيمان كان في عقودها حنثها، وفى عهودها نكثها، ولم يخف عن الملك الأفضل ما هو الأفضل، وأنه بمن لا حاصل له ولا طائل (¬2) على طائل (2) لا يتحصل، فاستدعانى وقال: «مالك انقطعت عمن يصلك، وامتنعت عمّن بفضلك يعرفك ولا يجهلك؟». فقلت: «شغلنى المصاب الصلاحىّ، عن إصابة صلاحى». ولم يزل بخطابه يبجّلنى، وبعتابه يخجلنى، وبترغيبه يقربنى، وبتقريبه يرغّبنى، حتى عدت إلى قوله، وعذت بطوله، وأجرى لى ما جرى به جود ¬

(¬1) في ك: «اختار». (¬2) هذان اللفظان ساقطان من (ك).

ذكر ابتداء الوحشة بين الأخوين الملك الأفضل والملك العزيز - رحمهما الله -

جوده، وأمنت العدم بوجوده، ولو كفيت شر الشركاء، لدامت مغارس مكارمه مستمرة على الزكاء، ولكنهم أوهموه أنى عزيز عند العزيز، وأن ولاءه من سرّ قلبى في الحرز الحريز، وأنه أبقى علىّ بمصر الإقطاع، وأن شكرى لإنعامه قد شاع، وأنك إذا أوليته جميلا ضاع، وإذا أودعته سرا ذاع، فلبّسنى بتجميل دولته على وهمه وهمّه، وأنس بى لتكميل رتبته والغنى بعد عدمه، وكنت أرى فيه - مع قيامه بإكرامى واحترامى - وقفة، ورأيت عصبة العصبية إليه متلفتة وعليه ملتفّة، وغلب الجزرىّ على أمره ونهيه، وآل الوثوق به في أحكام ملكه إلى وهنه ووهيه». (¬1) ذكر ابتداء الوحشة بين الأخوين الملك الأفضل والملك العزيز - رحمهما الله - لما أبعد الأفضل أكابر أمراء أبيه وأصحابه، وأعرض عنهم حتى فارقوه وصاروا إلى أخيه الملك العزيز، وقعوا في الملك الأفضل عند الملك العزيز، وحسّنوا له الاستبداد بالملك والقيام بالسلطنة مقام أبيه. وكان القدس من البلاد المضافة إلى الملك الأفضل، فأشار ضياء الدين ¬

(¬1) للعماد الكاتب ثلاث رسائل صغيرة أرخ فيها للحوادث التي تمت بعد وفاة السلطان صلاح الدين، وهذه الرسائل هى: «العتبى والعقبى» و «نحلة الرحلة» و «خطفة البارق وعطفة الشارق»، وكلها - رغم أهميتها القصوى مفقودة وإن كان أبو شامة قد لخصها تلخيصا موجزا جدا في الصفحات الأخيرة من الجزء الثاني من كتابه «الروضتين في أخبار الدولتين»، غير أن ابن واصل ينقل هنا أجزاء كثيرة وهامة جدا من هذه الرسائل، ومما نزيد في أهمية هذه الأجزاء أنها لا توجد في الروضتين أو في أي مرجع آخر من المراجع التي أرخت للأيوبيين، ولهذه الفقرة أهمية خاصة لأن العماد يتحدث فيها عن نفسه، وعن علاقته بالعزيز والأفضل ابن صلاح الدين.

وزيره عليه بأن يخلى القدس ويسلمه إلى أخيه الملك العزيز، وقال: «هو يحتاج إلى أموال ورجال ونواب وكلفة عظيمة، فأعطه لأخيك، واستجلب بذلك مودته». فكاتب الملك الأفضل أخاه الملك العزيز في ذلك، وفوّض إليه القدس وعمله، فسرّ الملك العزيز بذلك وقبله، وشكر الملك الأفضل، فلما بلغ النواب بالقدس ذلك، خافوا من محاسبة الملك العزيز لهم، لأنهم كانوا قد مدوا أيديهم في الوقوف، ومن جملتها ثلث نابلس وعملها، فإن السلطان الملك الناصر - رحمه الله - كان قد وقف ذلك على عمارة القدس ومصالحه، فخان الولاة في ذلك، فلما سمعوا عزم الملك الأفضل على تسليم القدس إلى الملك العزيز، كتبوا إلى الملك الأفضل يبذلون له القيام بالقدس ورجاله من وقفه فقط، ولا يحوجونه إلى بذل شىء آخر من ماله، فأجابهم إلى إبقائه في أيديهم (5 ا) وبدا له [الرجوع] (¬1) عما كان قد كاتب به أخاه، فتغيّر الملك العزيز لذلك وتكدّر باطنه. ولما تقدم عند الملك العزيز ميمون القصرىّ وسنقر الكبير أقرّهما على عملهما بالشام وزادهما نابلس، وذلك كله من أعمال الملك الأفضل، فاستوحش لذلك الملك الأفضل وتغيّر قلبه، وتأكدت الوحشة بين الأخوين، واستمر الحال على ذلك إلى آخر هذه السنة - أعنى سنة تسع وثمانين وخمسمائة -. ¬

(¬1) أضفنا هذا الفظ ليستقيم به المعنى.

ذكر المتجددات بالشرق فى هذه السنة بعد موت السلطان - رحمه الله -

ذكر المتجددات بالشرق في هذه السنة بعد موت السلطان - رحمه الله - لما توفى السلطان - رحمه الله - كان أخوه الملك العادل بالكرك - وقد ذكرنا ذلك - فلما بلغته وفاة أخيه، قدم إلى دمشق وأقام فيها وظيفة العزاء، ثم توجّه إلى البلاد الشرقية خوفا عليها من غائلة العدو؛ وكنا قد ذكرنا أن السلطان فوّض إليه ما وراء الفرات من الولايات، فلما قطع الفرات، أقام بقلعة جعبر، وضبط أمور تلك الناحية. وكان بكتمر - صاحب أخلاط، وكنا قد ذكرنا تملكه لها بعد سيده شاهرمن - لما بلغته وفاة السلطان، ضرب البشائر في بلاده فرحا بموته، ولقّب نفسه الملك الناصر، وراسل عزّ الدين مسعود (¬1) بن مودود بن زنكى بن آق سنقر - صاحب الموصل - وعماد الدين زنكى بن مودود - صاحب سنجار -، وصاحب ماردين - وهو حسام الدين يولق (¬2) أرسلان بن إيلغازى بن ألبى بن تمرتاش بن إيلغازى بن أرتق، وكان صبيا صغيرا، ملك بعد أبيه قطب الدين ¬

(¬1) انظر ترجمه بالتفصيل عند: (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 196 - 210) و (أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 18، 226، 227) و (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8) و (ابن شداد: المحسن البوسفية) و (سعيد الديوه جي: الموصل في العهد الأتابكى، بغداد 1958، ص 32، 33) و (ياسين بن خير الله العمرى: منية الأدباء في تاريخ الموصل الحدباء، نشر سعيد الدبوه جي، الموصل 1955، ص 63، 64، 109، 137) و (زامباور: معجم الأسرات الحاكمة، الترجمة العربية) و (ابن خلكان: الوفيات، ج 4، ص 290 - 296). (¬2) ولى حسام الدين بولق حكم ماردين في جمادى الآخرة سنة 580 هـ‍، وخلفه أخوه ناصر الدين أرتق حوالى سنة 597 هـ‍، انظر: (زامباور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة، الترجمة العربية، ص 345).

فحكى عز الدين بن الأثير، قال

إيلغازى، وقام بأتابكيته مملوك (¬1) لأبيه -؛ وإنما راسل هؤلاء في معنى الاتفاق معه على نجدته ومساعدته على حرب الملك العادل وأخذ البلاد منه، فكان أول خارج في إنجاده عسكر ماردين ونزلوا الموزر؛ ثم تحرك عزّ الدين - صاحب الموصل -. فحكى عز الدين بن الأثير، قال: لما وصلت الأخبار بوفاة صلاح الدين إلى عز الدين، جمع أهل الرأى من أصحابه فاستشارهم فيما يفعله، فأشار عليه أخى مجد الدين أبو السعادات - وكان من أكابر أصحابه - بالإسراع في الحركة (5 ب) وقصد البلاد التي بيد الملك العادل، فإنها (¬2) لا مانع لها منه؛ فقال مجاهد الدين قايماز: «ليس هذا برأى، فإنا نترك وراءنا مثل عماد الدين - صاحب سنجار -، ومعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازى - صاحب الجزيرة -، ومظفر الدين كوكبورى (¬3) - صاحب إربل -، وإنما الرأى أنّا نراسلهم ونستميلهم ونأخذ رأيهم وننظر ما يقولون». فقال مجد الدين: «إن كنتم تفعلون ما يشيرون به ويرونه فاقعدوا، فإنهم لا يرون إلا هذا، لأنهم لا يؤثرون حركتكم ولا قوتكم، وإنما الرأى أن يبرز هذا السلطان ويكاتبهم ويراسلهم ويستميلهم، ويبذل لهم اليمين على ما بأيديهم، ويعلمهم ¬

(¬1) هذا المملوك هو نظام الدين البقش، انظر المرجع السابق. (¬2) الأصل: «فإنه»، والتصحيح عن نص بن الأثير المنقول في (الروضتين، ج 2، ص 236 - 237). (¬3) له ترجمة طويلة مفصلة عند (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 370 - 377) وعنه ضبطنا الاسم بالشكل، وقال إن كوكبورى كلمة تركية معناها ذئب أزرق.

أنه على الحركة، فليس فيهم إلا من يجيب، ولا يمكنه المخالفة خوفا أن يقصد ولايته، لا سيما إذا رأوا جده وخلوّ البلاد الجزرية من مانع وحام، فهم لا يشكّون أنه يملكها سريعا فيحملهم ذلك على موافقته، ومتى أراد الإنسان [أن] (¬1) يفعل فعلا لا يتطرق إليه الاحتمالات، بطلت أفعاله، وإنما إذا كانت المصلحة أكثر من المضرة أقدم، وإن كان بالعكس أحجم». وظهرت إمارات الغيظ على مجاهد الدين فسكت، لكون مجد (¬2) الدين هو الحاكم ورأيه المتبع. وأقام عز الدين بالموصل يراسل المذكورين فلم ينتظم بينه وبين أحد منهم أمر غير أخيه عماد الدين - صاحب سنجار -، فإنهما اتفقا على قواعد استقرت بينهما. فرحل عز الدين بعساكره إلى نصيبين، ووصل إليه أخوه عماد الدين زنكى، وبعثوا رسلهم إلى الملك العادل يقولون: «تخرج من البلاد وتعيدها إلينا». فكتب الملك العادل إلى بنى أخيه: الملك العزيز، والملك الأفضل، والملك الظاهر، وإلى الملك المنصور - صاحب حماة -، والملك الأمجد - صاحب بعلبك -، وابن عمه الملك المجاهد - صاحب حمص - يستنجد بهم، فبادروا إلى إنجاده بالعساكر؛ ووصل إليه الملك المنصور - صاحب حماة -، وتوجّه إليه عسكر حمص ودمشق وبعلبك مع الملك الظافر خضر، ورحل الملك العادل إلى حرّان، فنزل ظاهرها. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين بعد مراجعة المرجع السابق. (¬2) الأصل: «مجاهد الدين» وهو خطأ، والتصحيح يقتضيه السياق، والنص عند ابن الأثير: «فسكت أخي، لأنه هو كان مخدوم الجميع على الحقيقة، والحاكم فيهم، واتبع المرحوم - يعنى صاحب الموصل - قول مجاهد الدين، وأقام بالموصل. . . الخ» انظر المرجع السابق، ص 237.

ولما نزل عز الدين مسعود بن مودود بنصيبين ابتدأ به مرض الإسهال، (6 ا) ثم سار عز الدين مسعود وأخوه عماد الدين زنكى في عساكرهما إلى تل موزن (¬1) من شبختان قاصدين الرّها. فأرسل الملك العادل إلى عز الدين يطلب الصلح، ويسأل أن تكون حرّان والرّها والرّقة وما معها بيده على سبيل الإقطاع من عز الدين، فلم تقع الإجابة إلى ذلك. واشتدّ المرض بعز الدين - صاحب الموصل - وهو نازل تل موزن، وعجز عن الحركة، فحمل في محفّة، وعاد إلى الموصل في طائفة يسيرة من العسكر ومعه نائبه مجاهد الدين، وترك سائر العسكر مع أخيه عماد الدين زنكى لتقرير قواعد الصلح مع الملك العادل. ثم رحل عماد الدين زنكى إلى سنجار، ورجع عسكر الموصل إلى الموصل. وراسل صاحب ماردين الملك العادل في الصلح، وتضرّع إليه في أن يرضى عنه، ووقع هذا كله والملك الظافر خضر لم يقطع الفرات بعد، فكاتبه عمّه الملك العادل يأمره بمنارلة سروج وكانت بيد عماد الدين زنكى، وأمدّه الملك العادل بالملك المنصور - صاحب حماة -، والأمير عز الدين ابراهيم بن المقدّم، فنازلوا سروج في ثامن رجب من هذه السنة - أعنى سنة تسع وثمانين وخمسمائة -، وفتحوها من الغد. وأما بكتمر (¬2) - صاحب أخلاط - فإنه وثب عليه جماعة من الباطنية فقتلوه رابع عشر جمادى الأولى من السنة. ¬

(¬1) الأصل: «تل مورن»، وك: «تل موزر» وقد ضبط الاسم بعد مراجعه: (ياقوت: معجم البلدان) حيث ذكر أنه بلد قديم بين رأس عين وسروج. (¬2) هو سيف الدين بكتمر مملوك ظهير الدين إبراهيم، ولى الحكم في خلاط في ربيع الثانى سنة 581 هـ‍ إلى أن قتل في رابع عشر جمادى الأولى سنة 589 هـ‍، فخلفه بدر الدين آقسنقر بن سكمان. انظر: (زامباور: المرجع السابق، ص 348).

ذكر وفاة عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى صاحب الموصل

ثم رحل الملك العادل في منتصف رجب إلى الرقّة فملكها في العشرين منه، ثم رحل إلى الخابور فملكه، ثم توجه إلى نصيبين فنزل ظاهرها، وأتته رسل عماد الدين - صاحب سنجار - يطلب منه الصلح. ذكر وفاة عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى صاحب الموصل ولما رجع عزّ الدين (¬1) إلى الموصل، تزايد به المرض إلى أن توفى في السابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، فكانت مدة ما بين وفاته ووفاة السلطان الملك الناصر نصف سنة، وكانت مدة ملكه للموصل ثلاث عشرة سنة وستة أشهر. ذكر صفته وسيرته - رحمه الله - (6 ب) كان أسمر مليح الوجه، حسن اللحية، خفيف العارضين؛ حكى ابن الأثير عن أبيه: أن عزّ الدين كان أشبه الناس بجده الشهيد عماد الدين زنكى ابن آق سنقر. قال: «وكان ليّن الجانب، كريم الأخلاق، كثير العطاء، غزير البذل، شديد الحياء، لم يحدّث أحدا قط إلا وهو مطرق. وكان رقيق القلب، كثير الرحمة لرعيته». قال: «وحكى لى أخى مجد الدين أبو السعادات قال: قال لى يوما: ¬

(¬1) انظر خبر مرضه ووفاته وترجمته في: (ابن الأثير: الكامل، ج 12، ص 40) وانظر أيضا. (ابن خلكان. الوفيات، ج 4، ص 290 - 296).

ما نمت البارحة إلى سحر، فقلنا له: ما سبب ذلك؟ قال: كنت سمعت أن ابن فلان مريض - وذكر إنسانا بيّاعا (¬1) بالموصل - فسمعت البارحة صوت مأتم، فظننت أنه توفى، فضاق صدرى؛ وبلغنى أنه ليس لأبويه غيره، فشقّ ذلك علىّ، وقمت من الفراش إلى أطراف السطح لعلّى أعلم من هو الميت، فطال الأمر علىّ إلى الثلث الآخر من الليل، ثم قلت: لم أعذّب نفسى؟ فأرسلت خادما ففتح أبواب الدار، وأرسل من الأجناد من يستعلم من هو الميت، فعاد وذكر شخصا لم أعرفه، وحينئذ نمت. وهذا من أتم ما يكون من الشفقة، إذ حصل له هذا القلق العظيم على رجل من رعيته ليس له معه تقدم صحبة ولا خدمة». قال: «وكان ديّنا خيّرا، ابتنى بجواره مسجدا، فكان يخرج إليه ويصلى فيه». وكان عادلا، فمما روى ابن الأثير من عدله: «أنه كان بالموصل إنسان من أعيان الدولة، وكان يتولى ديوان الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش (¬2) ابن إيلغازى بن أرتق - وهى أم عز الدين - ولذلك الإنسان بها جاه عظيم، وكانت له قرية تجاور قرية لرجل عجمى مقيم بالموصل، فتعدّى في حدود قرية العجمى، وأخذ شيئا من أرضه، وطال النزاع بينه وبين العجمى، فلم ينتصف منه، فاتفق أنه ورد إلى الموصل واعظ، فأحضره عز الدين مسعود - رحمه الله -، وأمره أن يجلس للوعظ في دار المملكة، وحضر عز الدين، وتقدم بأن لا يحجب ¬

(¬1) الأصل: «بيعا» وما هنا قراءة ترجيحية. (¬2) حسام الدين تمرتاش بن إيلغارى الأرتقى، ولى الحكم في ماردين سنة 516 هـ‍ إلى سنة 547 هـ‍ حيث خلفه والده نجم الدين ألبى، أما الخاتون ابنته ووالدة عز الدين مسعود فاسمها فلانة خاتون. انظر: (زامباور: المرجع السابق، ص 345 - 347).

ذكر استيلاء نور الدين ارسلان شاه ابن مسعود بن مودود بن زنكى بن آق سنقر على الموصل

أحد، فاجتمع عالم كثير، فتكلم ذلك الواعظ، فقام ذلك العجمى وصاح واستغاث وبيده قصة يشكو فيها حاله، فأخذت منه وأمر بالجلوس إلى أن يفرغ المجلس. فلما فرغ المجلس، وقف عزّ الدين على قصته، وأحضر القاضى (7 ا) وتقدم عليه بأن يحكم بين العجمى وخصمه، فحكم، فظهر الحق بيد العجمى، وأسجل القاضى على نفسه في المجلس وأشهد عليه، وسلّم إلى العجمى حقه، وأسخط عزّ الدين والدته في اتباع الحق. وأوقف عز الدين أوقافا حسنة منها المدرسة (¬1) المعروفة به بالموصل بباب دار الملك للفريقين: الحنفية والشافعية، ورتّب فيها الفواكه والحلواء والدعوات في المواسم والأعياد، وشيرج الوقيد، وغير ذلك. ذكر استيلاء نور الدين ارسلان شاه ابن مسعود بن مودود بن زنكى بن آق سنقر على الموصل كان عزّ الدين - رحمه الله - لما رجع مريضا ووصل إلى دنيسر، أوصى بالملك بعده لولده نور الدين أرسلان شاه، وجعل القيّم بأمره مجاهد الدين ¬

(¬1) سميت «المدرسة العزية» نسبة إلى عز الدين مسعود، انظر عنها: (ابن الأثير: الباهر، ص 345؛ والكامل، ج 12، ص 43) وقد زار بن خلكان هذه المدرسة ووصفها عند كلامه عن عز الدين مسعود بقوله: «وكان قد بنى بالموصل مدرسة كبيرة، وقفها على الفقهاء الشافعية والحنيفية، فدفن في هذه المدرسة في تربة في داخلها - رحمه الله -، ورأيت المدرسة والتربة وهى من أحسن المدارس والترب، ومدرسة ولده نور الدين أرسلان شاه في قبالتها، وبينهما ساحة كبيرة»، هذا ولم يبق من المدرسة المعزية حتى اليوم سوى غرفة واحدة مربعة الشكل فيها مرقد الإمام عبد الرحمن، وفوق الغرفة قبة مثمنة الشكل كالقباب التي بنيت في الموصل في القرنين السابع والثامن للهجرة، وقد وصف المدرسة وهذه الحجرة والمحراب وما بهما من نقوش أثرية الأستاذ المحقق مؤرخ الموصل سعيد الديوه جي في كتابه سالف الذكر: (الموصل في العهد الأتابكى، ص 141 - 142).

قال ابن الأثير

قايماز، فلما وصل إلى الموصل وهو مريض، أرسل إليه أخوه (¬1) شرف الدين هندو أمير أميران بن مودود يطلب أن يجعل الملك له بعده، وأرسلت والدته الخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش - صاحب ماردين - في المعنى، وبالغت في الطلب لولدها شرف الدين، وجمعا جموعا، وجنّدا أجنادا، وقال شرف الدين: «إن ملّكنى أخى الموصل بعده وإلا ثرت في البلد وأخذته قهرا، فإن عجزت سيّرت إلى الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب»، وأرعد وأبرق. وكان عمر نور الدين أرسلان شاه يومئذ عشرين سنة، وكان الملك العادل يومئذ نازلا (¬2) بنصيبين، فلهذا قوى جنان شرف الدين، وظنّ أن أخاه عز الدين يعهد إليه بالملك إذ هو كبير البيت ليردّ الملك العادل. وقال عزّ الدين لمجاهد الدين: «حلّف الناس لولدى نور الدين، فإنى أخاف أن أموت وليس لكم ملك، والملك العادل في البلاد، وأخاف أن يحدث ضرر لا يمكن تلافيه». فتوقف مجاهد الدين في ذلك خوفا من الفتنة. قال ابن الأثير: «ثم أرسل نور الدين أرسلان شاه إلى أخى مجد الدين مع خادم والده - وهو أمين الدين يمن - يطلب منه أن يشير على مجاهد الدين قايماز بتحليف الناس وترك التوانى فيه، ووعده الزيادة والإقطاع وتمليك القرايا، وأرسل معه خاتما». قال: «فردّ أخى مجد الدين الخاتم وقال: خاتم المولى إنما يعطى على بلاد، ¬

(¬1) (ك): «أخيه» وما هنا هو الصحيح. (¬2) (ك): «نازل»، وما هنا هو الصحيح.

وأما هذا الأمر فهو أيسر من أن يؤخذ عليه خاتم، - والذى رسم به فأنا مشدود الوسط فيه، والمولى لا يشكرنى على هذا، فإنى أفعله خدمة لوالده الذى أنا في خدمته، إذ هو مراده، ولو أراد غيره لا تّبعته ولم يبد منى إلا ما يوافق غرضه والمصلحة له ولدولته، وأنا أشكر الله تعالى حيث كانت إرادة والده موافقة لإرادته، فإذا خدمت خدمة وافقت الغرضين، وأما ما وعدته من إنعام وزيادة فليس لى رغبة في شىء منه، فإن لى من نعمته ما يفضل عنى». ثم ركب مجد الدين من وقته، واجتمع بمجاهد الدين قايماز بالقلعة فرآه مفكرا، وشكا إليه مجاهد الدين وقال: «هذا شرف الدين يريد الملك لنفسه، والمولى عزّ الدين يريده لولده، والملك العادل بنصيبين، والفتنة قد رفعت رأسها». وبينما هما في الحديث، وإذا رسول قد جاء من عند عز الدين يقول لمجاهد الدين: «قد ضجرت مما أقول لك في تحليف الناس لولدى، وأنت تهمل الأمر، والعدو بالقرب منكم، وأنتم بغير سلطان، وأنا (¬1) فما أظن أنى أعيش يوما آخر، فما تنتظر؟». فضجر مجاهد الدين، وأعاد ما كان يقول لمجد الدين، فقال له مجد الدين: «أنت تفعل هذا بنفسك والدولة معك، ولو شئت لم يكن منه شىء؛ والرأى أن تأمر بإحضار الأمراء وأرباب المناصب والمقدمين وأعيان البلد وتحلفهم لولده كما يريد، ومهما بقينا على هذه الحال وليس لنا سلطان لا نزال في صداع مع شرف الدين». ¬

(¬1) (ك). «وإنى».

فاستدعى مجاهد الدين الجماعة، وكتب نسخ اليمين، وحلّف الجماعة بمقتضاها؛ ولما سمع الذين اجتمعوا مع شرف الدين ذلك تفرقوا عنه، فحينئذ بعث شرف الدين إلى مجاهد الدين يعاتبه لكونه حلّف الناس قبله، وقال: «أنا أردت أن أخدم المولى نور الدين وأتولى القيام بأمره». ثم توفى عز الدين - رحمه الله - وأركب مجاهد الدين نور الدين في موكب (8 ا) السلطنة، وحملت السناجق (¬1) على رأسه، ومشى مجاهد الدين في ركابه راجلا وهو يحمل الغاشية (¬2)؛ واستقر الملك بالموصل وبلادها». ¬

(¬1) السنجق (ج: سناجق) لفظ تركى كان يطلق أصلا على الرمح، ثم أطلق على الراية التي تربط به، وكانت السناجق تحمل بين يدى السلطان في مواكبه. (¬2) الغاشية هي السرج أو الغطاء المزركش الذى يوضع على ظهر الفرس فوق البرذعة، وكان أمراء الأتابكة ثم سلاطين الأيوبيين والمماليك بعدهم يخرجون في المواكب وبين أيديهم الغاشية، وقد وصفها (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 4، ص 7) بأنها سرج من أديم مخروزة بالذهب، يخالها الناظر جميعها مصنوعة من الذهب، تحمل بين يديه (السلطان) عند الركوب في المواكب الحفلة، كالميادين والأعياد ونحوها، يحملها أحد الركاب دارية، رافعا لها على يديه يلفتها يمينا وشمالا. . إلخ».

ودخلت سنة تسعين وخمسمائة

ودخلت سنة تسعين وخمسمائة: والملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب بالبلاد الشرقية، وقد استقر ملكه بها. ورجعت النّجد إلى بلادها، واستحكمت الوحشة بين الأخوين: الملك العزيز والملك الأفضل، واتفق رأى الأمراء بمصر على أن تكون المملكة مجتمعة للملك العزيز عماد الدين عثمان، وقالوا: «هو أولى أولاد السلطان بذلك، إذ هو المحيى لسنّة والده في الشجاعة والكرم»؛ وأشاروا على الملك العزيز بالتوجه إلى الشام لتجتمع له المملكتان، وتنتظم ممالك والده في سلكه، فبرز إلى البركة (¬1)، وبذل الأموال، واستخدم الرجال، وبلغ ذلك الملك الأفضل، فاشتد خوفه. وكان من جملة الأسباب الباعثة للملك العزيز على الحركة أن ثغر جبيل - وهو من جملة الفتوح الصلاحية - وكان مستحفظه رجلا كرديا متنمسا، فأرغبه الفرنج، وبذلوا له مالا، فسلّم الثغر إليهم، فظهر الضغف عن استخلاصه، وخرج الملك الأفضل وخيمّ على البقاع ليستخلصه، فتعذّر ذلك عليه، فقالت الأمراء للملك العزيز: «توانيت، فطرقت (¬2) البلاد واستولى عليها الفرنج»، فحينئذ صمم على الحركة، وخرج بمضاربه وجحافله لقصد الشام. ¬

(¬1) المقصود بها «بركة الجب» أو «بركة الحاج» وقد عرفها (المقريزى: الحطط، ج 3 ص 265 - 267) بقوله: «هذه البركة في الجهة البحرية من القاهرة على نحو يريد منها، عرفت أولا بجب عميرة، ثم قيل لها أرض الجب، وعرفت اليوم ببركة الحجاج من أجل نزول حجاج البر بها عند مسيرهم من القاهرة، وعند عودهم. . إلخ». (¬2) (ك): «إن أنت توانيت تطرقت البلاد» والتعبير هنا أسلم.

ذكر مفارقة الأمير صارم الدين قايماز النجمى الملك الأفضل

ذكر مفارقة الأمير صارم الدين قايماز النجمى الملك الأفضل كان الأمير صارم الدين قايماز النجمى من أكبر أمراء الدولة الصلاحية، وهو مملوك نجم الدين أيوب بن شاذى والد الملوك، فاستوحش من الملك الأفضل لإعراض وجده منه، فمضى مغاضبا إلى إقطاعه بالسواد، فسيرّ إليه الملك الأفضل رسولا يستعطفه ويسترضيه، فأتاه الرسول، وخان في الرسالة، وسوّل له العصيان وحمله عليه، وأوهمه أنه إنما قال ذلك نصحا له، وما كان قصد الرسول إلا إبعاده، فازدادت بذلك وحشة صارم الدين، ثم عاد الرسول من عنده (8 ب) وبلّغ الملك الأفضل عنه ما أوحشه، ثم سلاّه عنه بأن قال: «الآن ملكت قياد ملكك، وخلصت من تحكمه، وغنمت إقطاعه، فأنت تعطيه لأضعاف رجاله». وكان مقصود هذا القائل أن ينفرد بالملك (¬1) الأفضل من غير مزاحم، ثم انحاز صارم الدين إلى الملك العزيز وصار من جملة أصحابه. ولما تحقق الملك الأفضل أن الملك العزيز قاصده، مال إلى مرضاته وقال: «إن كان قصد أخى من محاربتى أن تكون الخطبة والسكة باسمه فأنا أجيب إلى ذلك وأتبع رضاه»، فأنكر عليه أصحابه - وخصوصا وزيره ضياء الدين ابن الأثير - وقالوا له: «الله، الله، لا يقوم هذا بخاطرك، وابذل ما عندك من الأموال وقوّ بها عساكرك، ولا تدخل تحت الضيم، ونحن بين يديك كما تحب، وأنت الأكبر من أولاد السلطان، وأولى منه بالخطبة والسكّة». ¬

(¬1) ك: «أن ينفرد بالملك الملك الأفضل».

قال عماد الدين الكاتب - رحمه الله -

فقال: «أعرف هذا الذى تقولون، لكنى لا أوثر الفتنة وأحبّ سلامة الإسلام بانتظام الصلح بينى وبين أخى». قال عماد الدين الكاتب - رحمه الله -: قلت للملك الأفضل: «دعنى أكتب إلى أخيك وأستعطفه وأتلطف له، وأنا أعلم أنه لا يردّ قلمى بالسيف، وأنه يروقه براعتى، ويصغى إلى قولى، وإذا أهديت له نصيحة صحيحة قبلها منى». فقال له نصحاؤه: «هذا يوالى أخاك في هواه لا في هواك، فأعرض عن هذا وخذ في حديث غيره، فما عندنا سوى الإباء، ولا اعتدال مع الاعتداء (¬1)، وأين النخوة والحميّة، والنفوس الأبيّة، وما هذه الرقة والركّة، ولنا الشوكة والسكّة، ونحن عبيدك وخدمك، ونطرح نفوسنا تحت قدمك، فإياك أن تعرف إلا بالجد والعزيمة الصادقة». فأصغى إلى قولهم». ذكر خروج الملك الأفضل من دمشق لمحاربة أخيه الملك العزيز ثم خرج الملك الأفضل بعساكره، ونزل برأس الماء، ووصل إليه رسول أخيه الملك الظاهر - صاحب حلب - بالمظاهرة والمؤازرة، ووعده بالإنجاد ¬

(¬1) (ك): «الأعداء».

ذكر وصول الملك العزيز إلى الشام ورجوع الملك الأفضل إلى دمشق ومنازلة الملك العزيز لها

على الملك العزيز، وشرط عليه أن لا يبرم أمرا ولا يحله إلا بموافقته، وأن تكون كلمتهما واحدة (9 ا)، فوقع الاتفاق بينه وبين أخيه الملك الظاهر على ذلك، وحلف كل منهما لصاحبه بالمعاضدة والموافقة. وكان الملك الأفضل قبل ذلك قد سيّر إلى أخيه الملك العزيز رسولا يسأله عن سبب خروجه إلى الشام، فلم يصرّح له الملك العزيز بالجواب ومغلطه. ثم سيّر الملك الأفضل رسولا إلى عمه الملك العادل - وهو بالشرق كما ذكرنا - يستنجده ويخبره بقصد أخيه له، ويسأله أن يعلونه عليه، فأبطأ عليه الجواب، فسيّر الأمير عزّ الدين بن الزنجبيلى (¬1) إليه رسولا على نجيب ليسرع وصوله إليه، وأرسل رسلا أيضا إلى الملك المنصور - صاحب حماة -، والملك المجاهد - صاحب حمص -، والملك الأمجد - صاحب بعلبك -، يستنجد بهم، فوردت رسلهم كلهم إليه بأنهم على عزم نصرته ومساعدته، وأنهم لا يتأخرون عن الوصول إليه، وذلك في أوائل جمادى الآخرة من هذه السنة. ذكر وصول الملك العزيز إلى الشام ورجوع الملك الأفضل إلى دمشق ومنازلة الملك العزيز لها رحل الملك العزيز من الديار المصرية في العساكر المتوافرة من الصلاحية والأسدية والأكراد وغيرهم. ¬

(¬1) الأصل: «الزنجيلى»، والزنجبيلى نسبة إلى زنجبيلة قرية من قرى دمشق، وقد مر في (الجزء الثاني من هذا الكتاب، ص 103، هامش 1) ذكر للأمير عز الدين أبي عمرو عثمان بن على الزنجبيلى الذى كان أميرا من أمراء الأيوبيين باليمين ثم غضب عليه سيف الإسلام طغتكين فعاد إلى دمشق وتوفى بها سنة 583 هـ‍، ولا أحسب أنه هو المقصود هنا، فهذه أحداث سنة 590 هـ‍.

ذكر وصول الملوك إلى دمشق

وبلغ الملك الأفضل قرب الملك العزيز ونزوله بالقصير من الغور، والملك نازل بالفوّار، فضاق ذرعه، وكرّ راجعا إلى رأس الماء، فلم يشعر إلا بمقدّمة العساكر المصرية قد خالطت ساقته وكادوا يكبسونه، فولّى منهزما بمن معه إلى دمشق، ودخلها يوم الجمعة لخمس مضين من جمادى الآخرة. وغد ذلك اليوم وصل الملك العزيز إلى الكسوة في قوة ظاهرة، ثم رحل من الكسوة يوم الأحد ونازل دمشق؛ وكان الملك الأفضل قد استحلف أهل البلد وأنفق فيهم، وخلع على مقدّمى المحال، ونصب آلات القتال على الأسوار. ذكر وصول الملوك إلى دمشق ثم وصل الملك العادل سيف الدين - رحمه الله - إلى دمشق، ووصل الملك الظاهر - صاحب حلب -، والملك المنصور - صاحب حماة، - والملك المجاهد - صاحب حمص -، والملك الأمجد - صاحب بعلبك -، ودخلوا دمشق ونزلوا بها. (9 ب) ذكر اجتماع الملك العادل بابن أخيه الملك العزيز ووقوع الاتفاق ولما استقر الملك العادل بدمشق، سيّر إلى ابن أخيه الملك العزيز يشفع له في الملك الأفضل ويسأله الاجتماع به، فواعده الاجتماع بصحراء (¬1) المزّة، فركب الملك العادل والملك العزيز واجتمعا بها راكبين، وسأل الملك العادل الملك العزيز أن يصالح أخاه ويعود، فقال له الملك العزيز: ¬

(¬1) (ك): «بصحن المزة».

«أنا داخل في رضاك، وأى شىء أمرتنى به امتثلته: وأقبل كلّ شىء تشير به علىّ، وألتزم كلّ شرط تشترطه، وأنت عمّنا وشفقتك تشملنا». فقال له الملك العادل: «نفّس الآن الخناق عن البلد (¬1)». وكان البلد قد ضويق مضايقة شديدة، وقطعت أنهاره وثماره، وطارت البركة من بساتينه، وكان ذلك في أيام المشمش وزمان إقبال الثمار بدمشق، فقبل الملك العزيز ما أشار به عمّه الملك العادل، وتأخر إلى صوب داريا والأعوج. ثم بعث الأمير فخر الدين جهاركس - أستاذ داره، وهو أجل الأمراء الصلاحية وأمثلهم - إلى عمّه الملك العادل ليقرر معه قواعد الصلح على شرايط وقع الإتفاق عليها. ولما تقررت القواعد، رحل الملك العزيز من منزلته التي كان نازلا بها (¬2) إلى مرج الصّفّر فنزله، وحصل له مرض وقع الإرجاف عليه بسببه، ثم عوفى من ذلك المرض، وأمر بعمل نسخة لليمين جامعة لمقترحات جميع الملوك، حاسمة لمواد الخلاف، من جملة ما تتضمن. «أن الملك الأمجد بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه، والملك المجاهد أسد الدين شيركوه يكونان مؤازرين للملك الأفضل وتابعين له، وأن الملك ¬

(¬1) ابن واصل ينقل هنا عن رسالة «العتبى والعقبى» للعماد الأصفهاني، وقد لحصها أبو شامة في الصفحات الأخيرة من كتاب «الروضتين»، غير أن بن واصل ينقل هنا عن هذه الرسالة أخبارا كثيرة أسقطها أبو شامة في تلخيصه. (¬2) (ك): «من منزله التي كان نازلا به» وما هنا هو الصحيح.

قال عماد الدين الكاتب

المنصور - صاحب حماة - يكون في حيز الملك الظاهر - صاحب حلب - ومؤازرا له». وبعث كل من الملوك أميرا من عنده ليحضر الحلف. قال عماد الدين الكاتب: «وندبنى الملك الأفضل فيمن ندبه من الأماثل والأعيان لنكون شاهدين عقد (¬1) الحلف». قال: «فخرجنا من دمشق في جمع جمّ من الرسل والشهود والأتباع والحفود، وذلك ليلة السبت ثانى عشر رجب سنة تسعين وخمسمائة. (10 ا) وأدلجنا (¬2) تلك الليلة، وصبحّنا المخيّم بكرة، وضيّقنا النوبتيّة - مع سعتها - كثرة. ولما أذن لنا الملك العزيز، رفعنى واصطفانى لمشافهته، وتناول نسخة اليمين وتأملها، وأنكر منها كلمات، وابتكر (¬3) مقترحات، والتمس تغيير شروط فقال له الرسل - وأكثرهم ترك -: «نحن لا نقدر على تغيير ما قرّر، وما لنا إلا أن نعود ونذكر لمرسلينا الغرض». فقلنا لهم: «كيف نرجع بلا فائدة، والصواب إثبات المقترح، فإذا رجعنا أعلمناهم بالحال. ¬

(¬1) (ك): «شاهدين على الحلف». (¬2) يوجد على هامش هذه الصفحة تمليك هذا نصه: «نظر في هذا التاريخ المبارك العبد الفقير إلى (كذا) تعالى، وأحوجهم إلى عفوه وكرمه محمد بن المرحوم حسن غفر الله له ولوالديه ولمن دعا له بالتوبة والمغفرة وللمسلمين أجمعين (كذا)، آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله و (صحبه) وسلم تسليما كثيرا، في تاريخ الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة سبع وسبعين وثمانمائة من الهجرة النبوية»، انظر مقدمتنا لهذا الجزء. (¬3) (ك): «وأنكر مقترحات».

فقالوا للملك العزيز: «أحضر كاتبك وعيّن ما تلتمسه من الشروط». فأشار إلىّ الملك العزيز وقال: «هذا كاتب البيت ويمين الدولة، وبقلمه يتسدد (¬1) هذا الخلل». فعلمت أن ذلك يصعب على الملك الأفضل، ويعتب علىّ بسببه، ولم يمكن رد كرامة الملك العزيز، فأثبتّ جميع ما أملاه واشترطه؛ ولما خرجنا من عنده، ردّنى إليه وأجلسنى وآنسنى بالحديث، فرددت معى تاج الدين الكندى، فأجلسته عنده معى لئلا أتفرّد بالخلوة معه، فتظنّ بى الظنون، ويبتذل عند الملك الأفضل قدرى المصون، ولم يزل الملك العزيز معنا في المفاوضة حتى قربت العشاء، وأبطأنا عن الرسل، وقالوا: «ما هذا بخبر (¬2) صحيح، وما هذا إلا خبط، أحضرنا هؤلاء الشهود معنا على العهد وهم فروع فصاروا أصولا، واستجدوا علينا الفضول فصولا (¬3)». قال: «فخرجنا إليهم فوجدناهم يرجمون بنا الظنون، فاجتمعنا معهم على المشاورة» فقالوا: «لا يمكننا القعود ولا بد من سرعة العود». فعدنا إلى دمشق، فوصلناها بكرة الأحد والجماعة منتظرون لنا، فأنهينا القصة، وأعلمنا الملك الأفضل بانفرادنا بالملك العزيز، فأهمّه ذلك ولم يعجبه، وقال: «ربما ظنّ الملك العادل أن لى مقصودا باطنا ينافى مقصوده، وإنى إنما أرسلتكم إلى الملك العزيز برسالة باطنة تخالف الظاهر». ثم اجتمع بالملك العادل، ونفى عنه الريبة، وأطلعه على الصورة. ونفّذ الملك العزيز أمناءه وأمراءه ليتولوا إنشاء العهد». ¬

(¬1) (ك): «ينسد». (¬2) الأصل: «الخبر»، والتصحيح عن (ك، ص 440). (¬3) الأصل: «للفضول فضولا» والتصحيح عن (ك).

ذكر تزوج الملك العزيز بابنة عمه الملك العادل

ذكر تزوج الملك العزيز بابنة عمه الملك العادل وخطب الملك العزيز ابنة عمّه الملك العادل، وندب القاضى المرتضى محمد بن (10 ب) القاضى الجليس عبد العزيز السعدى وكيلا عنه، وحضر قاضى القضاة محيى الدين (¬1) بن زكى الدين وجميع عدوله، ووكّل الملك العادل القاضى محيى الدين أبا حامد بن الشيخ شرف الدين بن أبى عصرون في تزويج ابنته من ابن عمها الملك العزيز؛ وكتب عماد الدين الكاتب الكتاب في ثوب أطلس، وأنشأ خطبة العقد وهى (¬2): «الحمد لله الذى خلق من الماء بشرا، فجعله نسبا وصهرا، وشرع النكاح ووضعه صلة للأرحام وبرّا، وشدّ به أزرا، ورفع به قدرا، وأطلع بسناء سنته في العالم فجرا، وأجرى به أجرا. نحمده على أنعمه التي تجلّت لعيون مجتليها بيضا غرّا، وأياديه التي ملأت الأيدى حوافل غزرا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نتخذها يوم القيامة ذخرا، ونعدها يوم الفزع الأكبر جنّة وسترا، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف الأنبياء قدرا، وأسماهم وأسناهم في الدنيا والآخرة ذكرا، الذى بعثه إلى الخلق كافة عربا وعجما، وبدوا وحضرا، وبيّن لهم مناهج الهدى ¬

(¬1) هو قاضى القضاة محيى الدين أبو المعالى محمد بن القاضى زكى الدين على بن محمد، ولد بدمشق سنة 550 هـ‍ وكان أثيرا لدى صلاح الدين، وهو الذى اختاره ليلقى أول خطبة للجمعة في المسجد الأقصى بعد استعادته سنة 583 هـ‍، وتوفى بدمشق في سابع شعبان سنة 598 هـ‍، انظر ترجمته بالتفصيل في: (ابن خلكان: الوفيات، ج 3، ص 364 - 371) و (ابن تغرى بردى: النجوم، ج 6، ص 181). (¬2) هذا نموذج طريف لخطبة عقد الزواج في العصر الأيوبي.

ذكر انتظام الصلح بين الملوك والحلف

إيجابا وإباحة وندبا وحظرا، فقال صلى الله عليه وسلم: «تناكحوا تكثروا، فإنى أباهى بكم الأمم يوم القيامة»، وكفى بالنكاح في تحقيق مباهلته فخرا - صلى الله عليه وعلى آله صلاة تجمع لهم شرف الدنيا والأخرى -. وكان من قضاء الله وقدره النكاح المسطور في هذا الكتاب الذى فاح في مناشق الأولياء نشرا، ولاح في مشارق الآلاء يسرا، وجمع في سماء المعالى للأيام والليالى شمسا وبدرا، وأمر بأحكام عهده للدين أمرا، وسرّ بإبرام عقده للدولة سرّا، قرنه الله بالميامن والبركات التي تتأبد دهرا، وتتخلد عصرا». ثم قرئ كتاب الصداق، وعقد العقد بحضور الملك الظاهر صاحب حلب. ذكر انتظام الصلح بين الملوك والحلف ثم اجتمع الفقهاء من جانب الملوك آخر النهار، وعملوا نسخة اليمين، وطوّلوا المجلس بالمناظرة فيها والجدال. قال عماد الدين: «ولو أنهم توافقوا لوفّقوا، ولم يقعوا من المراء فيما وقعوا، ولأعطوا القوس باريها، وجرت القضية (11 ا) أحسن مجاريها، وكنت حرّرت نسخة يمين يعجز نسخها، ويبعد بعد لزوم عقدها فسخها، لكنهم اختلفوا ولم يتفقوا، وولّدوا من ذلك الاختلاف وفاقا، وهيهات أن يتفق الضدان، ويجتمع الفرقدان، فحرّروا يمينا في ألفاظها حنثها، وأبرموا نسخة في معانيها نقضها، لتعليق عقودها على شروط يمتنع وجودها».

ذكر خروج الملوك لوداع الملك العزيز وسفره إلى الديار المصرية

ذكر خروج الملوك لوداع الملك العزيز وسفره إلى الديار المصرية ولما كان يوم الجمعة مستهل شعبان من هذه السنة، خرج الملك الظاهر غازى - صاحب حلب - لوداع أخيه الملك العزيز. قال عماد الدين الكاتب: «وكنت خرجت في خدمة الملك العادل، فلما ظهر له موكب الملك الظاهر، تأخّر وعاد، فصحبت الملك الظاهر، وسرت في عراضه، فأشار علىّ بالسبق أحد حجابه، فسقت وسبقت، فلقيت الملك العزيز وقد ركب لتلقى أخيه، فوقف لى، وأبدى لى وجه البشاشة (¬1)، وهممت بالنزول فأبى، وهويت أقبّل يده فجذبها، وأحلى مساءلته ومسايرته وأعذبها، وعدت معه وأنا صاحبه ومجاوره ومحادثه، إلى أن لقى أخاه الملك الظاهر ورجع به إلى سرادقه، فنزلا ويده في يده، وجلس الملك العزيز والملك الظاهر إلى جانبه، وثافيت السيّدين، ونافثت القمرين، ثم أذن للخواص والأمراء والأعيان فدخلوا، ومدّ الخوان فأكلوا، ثم تفرق الملكان الأخوان بعد أن أهدى كلّ منهما للآخر أنواع الهدايا، ثم خرج الملك العادل لوداع الملك العزيز في خواصه، ثم خرج الملك الأفضل فودّع أخاه - وهو آخر من خرج - ولم يبق من الأكابر والملوك إلا من ودّعه، ثم رحل الملك العزيز من مرج الصّفر ثالث شعبان، وتوجه إلى الديار المصرية بعساكره». ¬

(¬1) هذه معلومات هامة وطريفة عن علاقة العماد الكاتب بملوك بنى أيوب.

ذكر رجوع الملوك إلى بلادهم

ذكر رجوع الملوك إلى بلادهم ولما كان يوم الأربعاء ثالث عشر شعبان، عمل الملك الأفضل بدمشق دعوة حضر فيها عمّه الملك العادل، وأخوه الملك الظاهر، وجميع الملوك والأمراء والأكابر. وفى يوم الخميس رابع عشر شعبان، رحل الملك الظاهر إلى حلب (11 ب) وتفرّق الملوك إلى بلادهم، وأقام الملك العادل بدمشق إلى ليلة الأحد تاسع شهر رمضان ورحل إلى بلاد الشرق. ذكر المتجدد من الحوادث في هذه السنة بعد ذلك قال عماد الدين الكاتب: «لما اتّسع الضيق، وابتلع الريق، دخلت على الملك الأفضل على العادة، وهو جالس في وساد السيادة، وتحدثنا في الحوادث، وحمدنا الله تعالى على حل لواء اللأواء (¬1)، فقال لى الملك الأفضل: «قد نظمت أبياتا أكتبها إلى أخى الملك العزيز في استعطافه واستمالته»، وقال: «كنت فارقت أخى منذ تسع سنين وما التقينا إلا في هذه السنة». وأنشدنى في المعنى لنفسه: نظرتك نظرة من بعد تسع ... تقضّت بالتفرّق من سنين ¬

(¬1) الأصل: الاوا، والتصحيح عن (ك)، واللأواء: الشدة.

قال عماد الدين

وغضّ الدّهر عنها طرف غدر ... مسافة قرب طرف (¬1) من جبين وعاد إلى سجيّته فأجرى ... بفرقتنا العيون من العيون فويح الدّهر لم يسمح بوصل ... يعيد به الهجوع إلى الجفون فراقا ثم يعقبه ببين ... يعيد إلى الحشا عدم السّكون ولا يبدى جيوش القرب حتى ... يرتّب جيش بعد في الكمين ولا يدنى محلّى منك إلاّ ... إذا دارت رحى الحرب الزّبون فليت الدّهر يسمح لى بأخرى ... ولو أمضى بها حكم المنون فقلت: «لله درّك، ما أبدع هذا المعنى، وألطف هذه الطريقة، وأكرم هذه السجية الكريمة!! فكاتب أخاك بما فيه استعطاف واستلطاف، فما يجرى منه بعد هذا خلاف». قلت (¬2): كان الملك الأفضل رحمه الله فاضلا متأدبا ينظم الشعر الجيد، وسأذكر بعد ذلك شيئا من شعره في موضعه. لكنه كان قليل السعادة، ضعيف الآراء. قال عماد الدين: «ولو ترك وفطنته الذكيّة، لجرت الأمور على السداد، لكن أصحابه وجلساؤه أفسدوا أحواله، ورموا أكابر أمرائه بالمكاتبة والخيانة، فتمكنت الوحشة في قلبه وقلوب (12 ا) أمرائه، وقالوا له: «أنت ولى عهد السلطان - رحمه الله - والأكبر من أولاده، وأحقّ بالملك من أخوتك»، وقصدوا ¬

(¬1) في (الروضتين، ج 2، ص 229): «قرب عين». (¬2) المتحدث هنا هو ابن واصل مؤلف الكتاب.

تشتيت الشمل الناصرى، وتشعيث البيت السلطانى، فتفرّق عن الملك الأفضل كبراء دولته، ففارقه الأمير عزّ الدين أسامة - صاحب عجلون وكوكب - وهو من أجلاء الأمراء الصلاحية، فإنه لما رأى من الأحوال ما لا يعجبه فارق الأفضل وتوجه إلى الملك العزيز، ففرح بوصوله إليه وأكرمه غاية (¬1) الإكرام، ولما استقر عز الدين أسامة عند الملك العزيز أخذ في تحريضه على الملك الأفضل، وتقوية عزمه على قصده وأخذ دمشق منه، وقال له: «إن لم تنصر الدولة الصلاحية خذلت، وإن لم تصنها ابتذلت، وأخوك [الملك الأفضل] (¬2) قد غلب على اختياره وحكم عليه وزيره الضياء الجزرى، وقد أفسد أحوال الدولة، فهو يتصرف فيها برأيه الفاسد، ويحمل أخاك على مقاطعتك ومباينتك، فإن أغفيت أغفلت، وإن أمهلت أهملت، وإن لنت غلظوا، وإن نمت تيقّظوا، ولا تلتزم باليمين فإن من شرطها صفو الوداد وصحة النيّة، ولم يوجد ذلك، فحنثهم في أيمانهم قد تحقق، وبرئت أنت من العهدة، فاقصد البلاد فإنها في يدك قبل أن يحصل للدولة من الفساد مالا يمكن تلافيه». ثم فارق الملك الأفضل الأمير شمس الدين بن السلار - وهو من أكابر الدولة الصلاحية (¬3) - وتوجّه إلى الملك العزيز، فساعد عز الدين أسامة على التحريض على الملك الأفضل، وتقوية عزم الملك العزيز على قصده. ثم وصل إلى الملك العزيز القاضى محيى الدين بن الشيخ شرف الدين ¬

(¬1) نسخة (س) بها خروم كثيرة كما سبق أن أوضحنا في الجزئين السابقين، والصفحات الماضية من هذا المجلد كلها لا مقابل لها في (س)، وبهذا اللفظ نتقابل مع نص نسخة (س) في صفحة 113 امنها، وسنعمل على مقابلة الأصل على هذه النسخة كلما وجدنا للأصل مقابلا بها. (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س)، ج 1، ص 113 ا. (¬3) هذه اللفظة ساقطة من (س).

ابن أبى عصرون، فاحترمه الملك العزيز وولاه القضاء بالديار المصرية، وضم إليه النظر في أوقافها. وأقبل الملك الأفضل بدمشق على القصف والشرب وسماع الأغانى والأوتار ليله ونهاره، وأشاع ندماؤه أن عمّه الملك العادل - لما كان عنده - حسّن له ذلك ورخّص له فيه، وأنه حضر عنده ليلة وهو في شربه ولهوه، فجلس وسمع الغناء، واستحسن المجلس واستطاب ما هو فيه وندماؤه، وقال للملك الأفضل: «أىّ حاجة بك إلى التكتم، اعلن بما أنت فيه وافعله (2 اب) ظاهرا، فلا خير في اللّذات من دونها ستر»، فقبل وصية عمه وتظاهر بلذاته، وصرف إليها سائر أوقاته، وفوّض أمر مملكته (¬1) إلى وزيره ضياء الدين بن الأثير يدبرها برأيه الفاسد، وبقى الأمر على ذلك مدة. ثم إن الملك الأفضل أصبح يوما تائبا من غير سبب يعلم (¬2)، وأزال المنكرات، وأمر بإراقة الخمور، وبضرب آنية الشرب دراهم ودنانير في دار الضرب، وأقبل على الزهد والعبادة، ولبس خشن الثياب (¬3)، وشرع في نسخ مصحف بيده، واتخذ لنفسه مسجدا يخلو فيه لعبادة ربه تعالى، وواظب على الصيام في أكثر الأوقات، وجالس الفقراء. ¬

(¬1) س): «المملكة». (¬2) هذا اللفظ ساقط من (س). (¬3) (س): «وليس ثياب القطن».

ودخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة

ودخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ووردت الأخبار في أولها أن الملك العزيز على عزم الخروج إلى الشام بعساكره، فأشار العقلاء من الناس على الملك الأفضل بمكاتبة أخيه الملك العزيز وملاطفته واسترضائه ومصافاته، ولو فعل لصلح حاله، واستمر ملكه، فإن أخاه الملك العزيز كان يقنعه أن يقيم الملك الأفضل الخطبة والسكّة بدمشق له، إذ هو صاحب الديار المصرية، وعنده معظم العساكر الصلاحية، ولو فعل ذلك الملك الأفضل وانقاد إلى أخيه الملك العزيز لما عارضه الملك العزيز في دمشق، ولأبقاها عليه، ولم يتمكن الملك العادل من الاستيلاء على ممالك أولاد أخيه، لكن ترك رأى العقلاء، وقبل ما أشار به عليه وزيره ضياء الدين ابن الأثير، فإنه أشار بأن يعتصم بعمّه الملك العادل، ويلتجىء إليه ويستجير به، ويستنجد به على أخيه، وكان هذا من فاسد (¬1) الرأى، (¬2) فإنه أدّى به (2) إلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر توجه الملك الأفضل إلى الشرق مستنجدا بالملك العادل (¬3) ولما تواترت الأخبار إلى الملك الأفضل بأن أخاه (¬4) الملك العزيز على عزم الخروج إلى الشام، وأن مقصده إقامة الخطبة والسكّة باسمه، وأن الجميع (13 ا) يكونون (¬5) تحت حكمه، اضطرب لذلك وانزعج له. ¬

(¬1) (س): «من أفسد الرأى». (¬2) هذه الجملة غير موجودة في (س). (¬3) هذا العنوان غير موجود في (س). (¬4) (س): «أخيه»، وما هنا هو الصحيح. (¬5) (س): «يكون».

قال عماد الدين الكاتب

قال عماد الدين الكاتب: «خطب (¬1) الأفضل الذعر، وذعّره الخطب، وقال: «ما أصدق ذلك عن أخى وإذا أتى من مصر أخى، فمن مصرخى»، قال: «فقلنا له: راسله وجامله، واستسعفه واستعطفه، وتقرب إليه وقاربه، ولعله يعتبك فعاتبه، ولا تتعلق بمن عهده (¬2) يهى، وتصرّفه على ما يشتهى لا ما تشتهى، فالأخ أولى بالمساعفة والمساعدة، وما يطلب إلا إقامة الخطبة له، فأجبه إلى ذلك، ولا تضايقه فيه ولا تنافسه». قال: «فكاد يصغى إلى هذا النصح، فلما خلا به وزيره الضياء وأصحابه، حرّفوه عن ذلك كله، وحسّنوا له أنه لا ينبغى له العدول عن عمّه الملك العادل، وأنه ينبغى له أن يرحل إليه مستجيرا به وملتجئا إليه، فقبل رأيهم، وبرز إلى القصر يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ثم توجه إلى الشرق، فلقيه الملك العادل بصفّين - وقد كان نازلا بالرقّة - فنزلا بالمخيم بصفين، وقال له الملك الأفضل: «أنت عمى ومقام والدى، وبقوة مساعدتك يقوى ساعدى، ومع إقامتك عندى بدمشق لا يقدم علىّ الملك العزيز»؛ وسأله وتضرع إليه أن يسير إلى دمشق، وألحّ عليه في المسألة، فأجابه الملك العادل إلى ذلك، فرحل الملك العادل من صفين متوجها إلى دمشق مستهل جمادى الآخرة في عساكره، ودخلها تاسع جمادى الآخرة واستقر بها (¬3)». ¬

(¬1) عند هذا اللفظ تنتهي ص 113 ب من نسخة (س)، ويضطرب النص هناك بعد ذلك فتنقطع المقابلة بين النصين. (¬2) (ك): عقده. (¬3) هذان اللفظان ساقطان من (ك).

ذكر توجه الملك الأفضل إلى أخيه الملك الظاهر وابن عمه الملك المنصور - صاحب حماة - واتفاقه معهما

ذكر توجه الملك الأفضل إلى أخيه الملك الظاهر وابن عمه الملك المنصور - صاحب حماة - واتفاقه معهما ولما رحل الملك العادل إلى دمشق، توجّه الملك الأفضل إلى حلب، فخرج إليه أخوه الملك الظاهر ملتقيا، وكان قد وقع بينهما حلف واتفاق ومراسلة تتضمن أنهما يكونان يدا (¬1) واحدة، ويجتمعان على حرب الملك العزيز إن قصد دمشق، وبذل الملك الأفضل للملك الظاهر جبلة واللاذقيّة وأعمالهما، فاستضافهما الملك الظاهر إلى ممالكه، ولما التقيا، ذكّره الملك الأفضل العهد (13 ب) السابق وألزمه إنجاز وعده، فأجابه إلى ذلك بشرائط اتفقا عليها، وصعد معه إلى قلعة حلب، فنزل بها ضيفا له، ثم رحل الملك الأفضل من عنده متوجها إلى حماة، فلما قاربها، خرج إلى لقائه ابن عمه الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر، وأضافه بحماة، وتحالفا وتعاهدا. ذكر وصول الملك الأفضل إلى دمشق ولما قضى الملك الأفضل أربه من اتفاق صاحب حلب وصاحب حماة معه، توجه إلى دمشق فدخلها ثالث عشر جمادى الآخرة وبها عمّه الملك العادل مظاهرا ¬

(¬1) (ك): «يد».

ذكر أمور وقعت أوجبت الاستيحاش عند الملك الظاهر من عمه الملك العادل وأخيه الملك الأفضل

له في الظاهر ومؤازرا، واتفق اجتماعهما وهو في أول إقبال ثمارها ومشمشها، وهى في غاية طيبتها وبهجتها، فأقاما بها كل يوم يركبان ويتسايران، وأفضى الملك الأفضل إلى الملك العادل بأسراره، وشاهد الملك العادل اختلال أحواله، ولم يعجبه سيرة وزيره ضياء الدين بن الأثير، وكان الملك العادل يجبه الملك الأفضل بالتحذير منه، وهو لا ينزل عنه ولا يبرأ منه. وأبطأ خبر الملك العزيز، وسكن ما في القلوب من الخوف منه، وبالغ الملك الأفضل في إكرام عمه الملك العادل والقيام بوظائفه، وأشار على الملك الأفضل أصحابه أن ينزل لعمه الملك العادل عن السنجق، ويتوثق منه بيمين، فاجتمعا يوما في الجوسق وطلب منه اليمين، وسأله الاختصاص بالركوب (¬1) بالسنجق، فأجابه إلى ذلك، وصار بعد ذلك الملك العادل يركب كل يوم بالسناجق السلطانية، ويركب الملك الأفضل في خدمته. ذكر أمور وقعت أوجبت الاستيحاش عند الملك الظاهر من عمه الملك العادل وأخيه الملك الأفضل كان الملك الأفضل قد اتفق معه أخوه الملك الظاهر على مواترة الرسل بينهما، فاتفق أن الملك الأفضل أرسل رسلا في مقاصد، فرجعوا من غير حصول مقصود، وكان السبب في ذلك أن الملك المنصور - صاحب حماة - ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من (ك)، وقد ذكر (القلقشندى: صبح الأعشي، ج 4، ص 8 - نقلا عن المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا -) أن أول من حمل السنجق على رأسه من الملوك في ركوبه هو سيف الدين غازى بن زنكى، ثم أصبح هذا من تقاليد سلاطين بنى أيوب والمماليك في مصر والشام، أما السنجق - كما عرفه صاحب صبح الأعشى - فكان راية صغيرة صفراء اللون.

والأمير عز الدين إبراهيم بن شمس الدين بن المقدّم - صاحب بعرين (¬1) وأفامية وكفر طاب - كان الشرط أنهما يكونان (14 ا) مضمومين إلى الملك الظاهر، فاتفقا أنهما نفرا من ذلك في هذا الوقت، وراسلا الملك العادل معتصمين به ولائذين بجنابه، فقبلهما وضمهما إليه، وكان شرط الملك الظاهر ردّ الخارجين إليه. وكان أيضا الأمير بدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق - صاحب تل باشر - قد حبسه الملك الظاهر في السنة الماضية ليسلّم إليه تل باشر، وحبس معه جماعة من بنى عمه، وكان الملك العادل - قبل مجىء الملك الأفضل إليه - قد توجّه إلى حلب وصعد إلى قلعتها، وشفع إلى ابن أخيه الملك الظاهر في المذكورين، وضمن للملك الظاهر عنهم ما يطلبه منهم، فقبل الملك الظاهر شفاعة عمه وأمر بإطلاقهم له، وقدموا مع الملك العادل إلى دمشق، فأحسن إليهم واستخدمهم، فبعث الملك الظاهر إلى الملك العادل يطلب منه أن يقوم له بما ضمنه عنهم، فلم تقع الإجابة إلى ذلك، فحصل عنده استيحاش من هذه الأمور. وكان السبب في ميل الملك المنصور إلى عمه الملك العادل وخروجه عن الملك الظاهر، أن الملك الظاهر كان قد اتفق معه أنه يضيف إليه جبلة واللاذقية، وبكسرائيل (¬2) وصهيون، وحلف له الملك الظاهر أنه يستخلص له ما ليس في يده منها، وإن احتاج إلى محاصرة حاصر، وكان هذا الاتفاق في السنة الماضية، وحلف الملك المنصور أنه يكون تبعا له ومؤازرا. ولما كانت هذه السنة، ووقع من الاضطراب ما ذكرناه، خاف الملك ¬

(¬1) (ك): «باربن» واللفظان صحيحان. (¬2) الأصل: «ببسرائيل»، والصحيح ما أثبتناه، راجع: (مفرج الكروب، نشرتنا هذه، الجزء الثانى، ص 259) حيث قال ابن واصل: «وفى الجبل على سمت طريق حماة حصن حصين يعرف ببكسرائيل»

ذكر قدوم الملك العزيز إلى الشام بعساكره

المنصور من اتفاق الملك العادل والملك الأفضل عليه، فالتجأ إلى الملك العادل، وفعل مثل ذلك عزّ الدين بن المقدم، فأجابهما الملك العادل إلى ما طلبا من الاتفاق معه، وتحالفوا على ذلك. ولما جرى ما ذكرناه، وتحقق الملك الظاهر أن عمّه الملك العادل وأخاه الملك الأفضل لم يفيا له بما عاهداه عليه، كاتب أخاه الملك العزيز واستنهضه لقصد الشام، ووعده القيام معه ونصرته، فقوى عزم الملك العزيز وتهيأ له. ذكر قدوم الملك العزيز إلى الشام بعساكره (14 ب) ثم خرج الملك العزيز إلى الشام بعساكره الكثيرة المتوافرة من الصلاحية والأسدية والأكراد، فوصل إلى الفوّار - من أرض السواد - وخيّم به، فكاتب الملك العادل الأمراء الذين مع الملك العزيز ووعدهم الوعود الجميلة وأخذ في إفسادهم عليه وتنفير قلوبهم منه. ذكر اضطراب بعض العسكر على الملك العزيز ومفارقتهم له وكانت الأمراء الصلاحية والأمراء الأسدية ينافس كل فريق منهم الآخر ويطلب عثاره، وكانت الأمراء الصلاحية متقدمة عند الملك العزيز، فحسدتها الأمراء الأسدية، وأخذ الملك العادل بدقيق حيله يعمل في تأكيد الإيقاع بين الفرقتين، ويوقع الفرقه والاستيحاش بينهما، وكذا في الإيحاش بين الأسدية والملك العزيز، فكاتب الملك العزيز سرا يخوفه من الأسدية ويغريه بإبعادهم، وكاتب الأسدية

بالتنفير من الملك العزيز وتخويفهم منه واستمالتهم إليه، فاستوحش الملك العزيز من الأسدية واستوحشوا منه، فكانوا إذا لقوه عرفوا في وجهه التنكر، وعرف في وجوههم مثله، وتمادى الأمر إلى أن تمكن الخوف منه في قلوبهم والخوف منهم في قلبه، ولما تمكن الاستيحاش منهم، عزموا على مفارقته وحسّنوا ذلك للأكراد المهرانية فوافقوهم (¬1) عليه. وكان مقدم الأمراء الأكراد حسام الدين أبا الهيجاء السمين، وما كان يظن الملك العزيز أنه يحنث في يمينه، وأنه تصدر منه مخامرة عليه، فاجتمعت عليه الأمراء الأسدية وخوّفوه من الملك العزيز، ولم يزالوا به حتى أجابهم إلى مفارقته والانضمام إلى الملك العادل والملك الأفضل، ولما اتفقوا على ذلك، عزموا على مضايقة الملك العزيز واتباعه في المنازل، وأن يكاتبوا نوّابهم وأصحابهم بالقاهرة ليستقبلوه ويحولوا بينه وبين القاهرة، ويكونوا هم والملك العادل والملك الأفضل خلفه، فيؤخذ أخذا باليد (15 ا) وتنتزع منه البلاد؛ فلما كانت عشية اليوم الرابع من شوال من هذه السنة، رحل الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين والأكراد المهرانية والأسدية رحلة واحدة بعد دخول الليل وهم لا بسون عدة الحرب. وكان الأمير هكندرى (¬2) - وهو أكبر الأمراء الحميدية - محالفا لهم ومعاقدا، فجاء إلى الملك العزيز وأخبره بما اجتمع عليه الفوم، فما تحلحل الملك العزيز ولا تزعزع من مكانه، ولا أظهر ارتياعا لما وقع من هذه الحادثة، بل ثبت مكانه واستقر، فقالت له الأمراء الصلاحية: ¬

(¬1) (ك): «فوافقوا منهم عليه». (¬2) كذا في الأصل وفى (ك)، ولم أجد له ذكرا في المراجع المعروفة المنداولة هنا في حواشى هذا الكتاب.

ذكرى رجوع الملك العزيز بمن بقى معه من عساكره إلى الديار المصرية واستقراره بها

«دعنا نتبعهم ونقاتلهم ونتركهم عبرة للمعتبر». فقال لهم الملك العزيز: «لا ترهبوهم واتركوهم يذهبوا أين شاءوا لعلنا نصفو من كدرهم، وهذا ليل، ولا يؤمن فيه الاختلاط، ولا يعرف الإنسان فيه صديقه من عدوه، والأولى الأخذ بالحزم والاحتياط». وكان المفارقون للملك العزيز معظم العسكر. وثبت الملك العزيز في معسكره بالفوّار ومعه خواص أصحابه على الخطر، وبات تلك الليلة ثابت الجأش والجنان، وما أظهر أسفا على فراق من فارقه من عسكره، واستدعى رسل الملوك الذين عنده وأجاب كلاّ منهم عن رسالته، وخلع عليهم وسرّحهم. ذكرى رجوع الملك العزيز بمن بقى معه من عساكره إلى الديار المصرية واستقراره بها وأصبح الملك العزيز راحلا بمن بقى معه من عساكره إلى الديار المصرية، وسار إليها على تيقظ وتحفظ ويزكيّة (¬1)، وسلك طريق اللجون والرملة، وخاف من الأسدية المقيمين بالقاهرة أن يوافقوا أصحابهم الغادرين ويسلكوا سيرتهم في الغدر به، فقدّم بين يديه أمراء على النجب، وكان نائبه بالقاهرة الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، فبقى على الصفاء للملك العزيز وخلوص النيّة، وتبعه على ذلك من بقى من الأسدية، ووصل الملك العزيز إلى البلاد، وأمّن كل من ¬

(¬1) اليزك لفظ فارسى، معناه: طلائع الجيش، انظر: (Dozy : Supp .Dict .Arab) .

وجده من مخلّفى الخارجين عليه، وطيّب قلوبهم وأكرمهم وأحسن إليهم، واستقر في كرسى ملكه. ومدحه القاضى السعيد (15 ب) ابن سناء الملك بقصيدة ذكر فيها نفاق الأسدية عليه وفراقهم له، منها: من فرّ منك فلا يلام ... وشريد (¬1) بأسك ما ينام وجناب عزّك ما يرا ... ع من الخطوب وما يضام (¬2) فرّت لخوفك غلمة ... ولربّما خاف (¬3) الغلام هابوا مقامك ذا العظي‍ ... ـم، فلم يكن لهم مقام (2) وشديد بطشك لا يقرّ ... (م) على سطاه ولا يقام (2) وهم الأسود، فما لهم ... طاروا كما طار النعام؟ (¬4) سخرت بهم أوهامهم (¬5) ... هزوا، وبالأوهام هاموا لا ينفعون، ولن يضرّ ... (م) وا إن مضوا، أو إن أقاموا (¬6) فلإن عفوت فإنّما ... يعفو عن الذّنب الكرام (2) وإن انتقمت فإنّ أي‍ ... ـسر ما استحقّوا الانتقام (2) (¬7) ما دارهم حرم (¬8)، ولا ... في الشّام (¬9) صيدهم حرام وهم به سكرى، ولي‍ ... ـس سوى الهموم لهم مدام (¬10) ¬

(¬1) الديوان: «وطريد» (¬2) هذا البيت غير موجود في الديوان (¬3) الديوان: «ولطالما فرّ» (¬4) الديوان: «الحمام». (¬5) الديوان: «أوهامه». (¬6) بين هذا البيت والذى قبله - في الديوان - بيت آخر لم يأت به ابن واصل هنا، ونصه: «ومضوا وما سلّ الحسام فكيف لو سلّ الحسام» (¬7) يوجد قبل هذا البيت في الديوان بيت آخر وهو: ولو اهتدوا بعد الضلالة لاستقالوا واستقاموا (¬8) الأصل: «حرما» والتصحيح عن الديوان. (¬9) الديوان: «بالشام». (¬10) ك: «بهم».

ذكر رحيل الملك العادل والملك الأفضل إلى مصر متبعين للملك العزيز

يتأسّفون، ومن ندا ... متهم يقال لهم ندام (¬1) ستسوقهم بيد الزّما ... ن، ففى أناملك الزّمام قم فاملك الدّنيا بأج‍ ... ـمعها، فقد آن القيام ورم السّماء تنل كوا ... كبها، فما يعيى (¬2) المرام ولأنت وحدك ليس ين‍ ... ـجى منك إلاّ الانهزام تغنى عن الجيش اللها ... م لأنّك الجيش اللهام وتنير آفاق (¬3) السّما ... ء لأنّك البدر التّمام (¬4) لا زال ملكك لا يزو ... ل ولا يضار ولا يضام تبقى موقّا لا انصرا ... ف تتقّيه (¬5) ولا انصرام (¬6) ونزيل (¬7) راحتك النّدى، ... وحليف دولتك الدّوام (16 ا) ذكر رحيل الملك العادل والملك الأفضل إلى مصر متبعين للملك العزيز ولما جرى [ما جرى] (¬8) من مفارقة الأمراء المذكورين للملك العزيز وصل إلى دمشق بكرة الثلاثاء (9) خامس شوال (¬9)، رسول حسام الدين أبى الهيجاء ¬

(¬1) الديوان: «يتنادمون، ومن بدا منهم يقال له ندام» ونص المتن هنا أوضح وأصح. (¬2) (ك) «يغنى». (¬3) (ك): «وتنير في فلق السماء». (¬4) الأبيات الأربعة السابقة لهذا البيت غير موجودة في الديوان، ومكانها هناك سبعة أبيات أخرى، فانظرها هناك. (¬5) (ك): «ينفيه». (¬6) هذا البيت غير موجود في الديوان. (¬7) الديوان: «وتريك». (¬8) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬9) هذان اللفظان ساقطان من (ك).

السمين إلى الملك العادل يحثه على سرعة (¬1) الرحيل إلى الديار المصرية، ويخبره أن الملك العزيز قد فارقه أكثر العسكر وهو في جمع قليل، فإن لم يسرع النهضة خلفه بالعساكر فات المقصود، وإن بادر بالنهضة هو والملك الأفضل ومن معهما من العساكر، ساعدوهما على اللحاق به وإدراكه (¬2) قبل أن يصل إلى مقر ملكه، وانتزعوا البلاد منه وسلموها إلى الملك العادل والملك الأفضل، فاستدعى الملك العادل الملك الأفضل وجلسا خلوة، وتوثق كل واحد منهما بصاحبه بالأيمان المؤكدة، فيقال إنهما اتفقا على أن يكون للملك العادل ثلث الديار لمصرية، وثلثاها للملك الأفضل، ولما وقع الاتفاق بين الملكين على هذا الأمر، ضربت كوسات (¬3) الملك العادل، ونفّرت بوفاته، ونشرت راياته، وبرز في عساكره متوجها في ساعته في عساكره وجموعه إلى الديار المصرية، وأصبح الملك الأفضل يوم الأربعاء غد ذلك اليوم راحلا في جموعه وحشده، واجتمع الملكان بالعسكر الخارجين على الملك العزيز، واتفقت كلمتهم، ورحلوا كلهم طالبين الديار المصرية. وكانت الأسدية قد حرصت على الجد في السير ليسبقوا الملك العزيز إلى مصر فلم يقدروا، واجتهدوا في أن يدركوه فلم يصلوا إلى ذلك وسبقهم (¬4) إليها، فأمرهم الملك العادل بالتثبت، وأخبرهم أن الغرض المقصود ما يفوت. ¬

(¬1) (ك): «مسارعة». (¬2) (ك): «فبادروا إليه قبل أن يصل. . .». (¬3) عرف (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 4، ص 9) الكوسات بقوله: «وهى صنوجات من نحاس شبه التّرس الصغير، يدق بأحدها على الآخر بايقاع خاص، ومع ذلك طبول وشبّابه، يدق بها مرتين في القلعة في كل ليلة، ويدار بها في جوانبها مرة بعد العشاء الآخرة، ومرة قبل التسبيح على الموادن، وتسمي الدورة بذلك في القلعة، وكذلك إذا كان السلطان في السفر تدور حول خيامه» ويقال للذى يضرب بالبوق المنفّر، وللذى يضرب بالصنوج النحاس بعضها على بعض الكوسى (نفس المرجع، ص 13). (¬4) (ك): «وأسبقهم».

ذكر نزول الملك العادل والملك الأفضل على بلبيس محاصرين لها

وكان عزّ الدين جرديك النورى نائبا عن الملك العزيز بالقدس، فبذل له الملك الأفضل (¬1) إقطاعا، وطلب منه تسليم القدس فسلّمه إليه، فسلّم الملك الأفضل (1) باتفاق منه ومن الملك العادل إلى حسام الدين أبى الهيجاء السمين، وسار معهما إلى الديار المصرية. ولما علم الملك العادل باستقرار ابن أخيه الملك العزيز (6 اب) بالديار المصرية، سرّه ذلك، إذ لم يكن في الباطن يختار إزالة ملكه، وكان شديد الميل إليه والمحبة له، وسار الملك العادل على سكون وهدوء إلى أن وصل في مدة مديدة. ذكر نزول الملك العادل والملك الأفضل (2) على بلبيس محاصرين لها ووصل الملك العادل والملك الأفضل (¬2) بعساكرهما ومن انضم إليهما من الأسدية والأكراد إلى الديار المصرية، ونازلوا بلبيس وبها جموع الصلاحية، وكان نزولهم عليها وزيادة النيل قد بلغت منتهاها، واحتمت البلاد بما غمرها من الماء، وغلا السعر وتعذرت الأقوات، والصلاحية بها مستظهرون، وقد اشتدت مئونة الأسدية والأكراد، وكثرت غراماتهم، وظهر ندمهم على ما فعلوا، وعرف الملك العادل أن المصلحة الشاملة في الصلح وانتظام الشمل، فبعث يستدعى القاضى الفاضل ليتفق معه على ما فيه صلاح ذات البين. ¬

(¬1) هذا سطر ساقط من نسخة (ك). (¬2) هذه الفقرة ساقطة من (ك).

ذكر وقوع الصلح بين الملوك

ذكر وقوع الصلح بين الملوك كان الملك العزيز لما رجع على الصورة التي ذكرناها، وتحقق أن عمه وأخاه قد قصداه بعساكرهما ومن انضاف إليهما من عساكره المفارقين له، احتاج إلى استخدام الرجال وتقوية من بقى معه بالمال، ولم يجد في بيت ماله ما يفى له بهذا المقصود، فعرض أهل مصر عليه بذل أموالهم، وتضرّع إليه الأماثل والأغنياء في أن يجيب سؤالهم في قبول أموالهم، فشكرهم على ذلك، ولم يقبل منه شيئا، وتحقّق محبتهم له وخلوص نيتهم وقال: «الله سبحانه يكفينى ويغنينى، وليس اعتمادى في النصر إلا عليه». وكان الملك العزيز - رحمه الله - محببا إلى الرعية لما كان متصفا به من حسن السيرة والعدل والكرم المفرط. ولما نازل عمّه وأخوه بلبيس، كان فيها خواصّ أصحابه وخلّص أجناده فبينما هو في ضيق ذات يده وخوفه، إذ ورد رسول عمه الملك العادل يطلب منه الاجتماع بالقاضى الفاضل - رحمه الله -، وكان القاضى الفاضل قد تنّزه عن ملابستهم (17 ا) ومخالطتهم، واعتزل بنفسه عنهم لما رأى من اختلال أحوالهم وفساد أمورهم، وأحوجه الملك العزيز أن يلبى دعوة عمه الملك العادل ويخرج إليه ليفرج هذه الغمة، فركب من القاهرة، وخرج إليه. ولما علم بذلك الملك العادل، ركب وتلقاه أحسن تلقّ، واجتمع به، واتفق معه على ما فيه المصلحة الشاملة للكل، وأشار بأنه ينبغى أن يعفو الملك العزيز عن الأمراء الأسدية والأكراد، وأن يصفح (¬1) عن جرمهم ليرجعوا ¬

(¬1) (ك): «يفرج».

ذكر رجوع الملك الأفضل إلى دمشق ومقام الملك العادل بمصر عند الملك العزيز

إلى خدمته ويردّ إليهم إقطاعاتهم، وحلف الملك العادل لابن أخيه الملك العزيز، واختار المقام عنده بمصر لتقرير قواعد ملكه، وأشار بأن يحلف كلّ من الأخوين لصاحبه، وأن يرجع الملك الأفضل إلى بلاده، ولما وقعت الأيمان والاتفاق، خرج الملك العزيز واجتمع بعمه الملك العادل وأخيه الملك الأفضل، واتفقوا في الظاهر (¬1) اتفاقا تاما. ذكر رجوع الملك الأفضل إلى دمشق ومقام الملك العادل بمصر عند الملك العزيز ولما انتظم الصلح، رجع الملك الأفضل إلى دمشق بعساكره، ورجع الملك العزيز إلى القاهرة وصحبته عمه الملك العادل، فنزل الملك العادل بالقصر، وأمر ونهى وحكم وتصرف في كبير الأمور وحقيرها، وعزل القاضى محيى الدين ابن أبى عصرون عن قضاء الديار المصرية، وولى القضاء زين الدين يوسف الدمشقى. ¬

(¬1) الأصل: «التظاهر»، وما هنا صيغة (ك)، وهى أفضل.

ودخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائه

ودخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائه يوم وصول الملك الأفضل إلى دمشق وفى اليوم السابع والعشرين من صفر؛ نقل تابوت والده الملك الناصر - رحمه الله - من القلعة إلى التربة التي هو مدفون بها الآن، وكانت مدة مقام تابوته بالقلعة ثلاث سنين. ولزم الملك الأفضل الزهد والقناعة، وأقبل على العبادة، والأمور كلها مفوضة إلى وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزرى، وقد اختلت الأحوال به غاية الاختلال، وكثر شاكوه، وقل شاكروه. وبلغ ذلك الملك العادل فأنكره، (17 ب) وتقرر بينه وبين الملك العزيز الخروج إلى الشام لتمهيد القواعد وإزالة ما حدث من المفاسد، وذلك بعد أن ضبط الملك العادل للملك العزيز الملك بمصر، وعيّن الإقطاعات، وثمّن (¬1) الارتفاعات، وعمّر الأعمال، ووفّر الأموال، وقرب إلى الملك العزيز عز الدين أسامة - صاحب عجلون وكوكب - فصار صاحب سر الملك العزيز وحاجبه والواسطة بينه وبين الملك العادل، وألصق أيضا به مملوك والده صارم الدين قايماز النجمى، فصار من أهل صفوته وخالصته. ¬

(¬1) الأصل: «ثمّر» وما هنا صيغة ك، وهى أفضل، والارتفاعات (والمفرد ارتفاع) هى أوجه الإيرادات المالية المختلفة للدولة.

ذكر تبريز الملك العادل بنية السفر إلى الشام وتقرير قواعده

ذكر تبريز الملك العادل بنية السفر إلى الشام وتقرير قواعده لما كثرت الأخبار بمصر بما يعتمده ضياء الدين بن الأثير - وزير الملك الأفضل - من الأحوال الرديئة والسيرة المذمومة بالشام، تحركت عزيمة الملك العادل للسفر بعساكر الملك العزيز، ووعد بإزالة ضياء الدين بن الأثير وطرده عن البلاد وإصلاح ما فسد من الأحوال. قلت (¬1): هكذا حكى عماد الدين الكاتب وعندى أنه ربما ذكر ذلك تقيّة في ذلك الوقت وخوفا من الملك العادل، وإلا فالذى أعتقده وبلغنى من جهات عديدة، أن الملك العادل لما قدم إلى دمشق نجدة للملك الأفضل، ورأى من ركة الملك الأفضل ما رأى، حدثته نفسه بالاستيلاء على دمشق وتملكها، وصار يعمل الحيلة في ذلك، ولما قصد الملك العزيز البلاد بعساكره، توصل الملك العادل إلى تحصيل غرضه بإيقاع الخلف بين الصلاحية والأسدية، وبين الأسدية والملك العزيز، ونفّر كلاّ (¬2) منهم من الآخر، وأوجب ذلك رجوع الملك العزيز إلى مصر على الصورة التي ذكرناها، ولما تم له ذلك، حسّن للملك الأفضل قصد الديار المصرية، واجتمعا بالخارجين على الملك العزيز، وكان قصد أولئك لحاق الملك العزيز ومنعه من الدخول إلى الديار المصرية، ولم يكن ذلك في الباطن من هوى الملك العادل ولا اختياره، ولم يزل يثبطهم ويستوقفهم (18 ا) حتى وصل الملك ¬

(¬1) لم يكن ابن واصل ليقنع بالنقل عن سابقيه من المؤرخين، بل هو يحاول أحيانا مناقشة آرائهم والإدلاء برأى له جديد، وهذا مثل لمناقشاته. (¬2) ك: «وتغير كل».

العزيز إلى كرسى ملكه، ووصل الملك العادل والملك الأفضل إلى بلبيس - كما ذكرنا - وحصراها، فلم يظن أحد إلا أن الأمر قد تم، وأن الملك العزيز قد تلاشى أمره بالكلية، فحينئذ أراد الملك العادل أن يقلّد المنة (1) العظمى للعزيز، بأن ردّ الملك العزيز إلى ملكه، وأبقى عليه بلاده بعد أن وقع الإشراف على أخذها، فحينئذ استدعى القاضى الفاضل - كما ذكرنا - وقرّر قواعد الصلح، وردّ الملك الأفضل إلى بلاده، (¬1) ووصل إلى مصر (¬2)، وقرّر قواعد الملك العزيز ورتّب أموره، وتمكّن منه التمكن الكلى، فحينئذ طلب منه في الباطن أن تكون دمشق له، ويكون نائبا عنه بها، ويعطى الملك الأفضل موضعا صغيرا بعد إخراجه من دمشق، وتكون الخطبة والسكة للملك العزيز في الممالك الأيوبية (¬3) كلها، ويكون هو السلطان الأعظم مكان أبيه، فأجابه الملك العزيز إلى ذلك، وتحالفا واتفقا عليه، لكن كان ذلك كله بينهما، ولم يظهر للناس سرّه إلا بعد وقوع ما وقع على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. فبرز الملك العادل إلى بركة الجب (¬4) ونزل بها، وبرزت العساكر المصرية وفى الظاهر أنه يسير وحده بالعساكر لإصلاح أحوال الشام ويقيم الملك العزيز بمصر، ولما نزل الملك العادل (¬5) بتلك المنزلة، خرج الملك العزيز بعزم تشييعه والمقام عنده في تلك المنزلة في ذلك الشهر إلى حين توديعه، وكان الخروج من القاهرة مستهل ربيع الأول من هذه السنة. وكان عماد الدين الكاتب قد سافر إلى الديار المصرية قبل ذلك لمهام تتعلق به. ¬

(¬1) في النسختين: «المانة» وما أثبتناه قراءة ترجيحية. (¬2) هذه الفقرة ساقطة من (ك). (¬3) هذا اللفظ ساقط من (ك). (¬4) (ك): «بركة الحبش»، وما هنا هو الصحيح. (¬5) (ك): «الملك العزيز»، وهو خطأ واضح.

قال عماد الدين

قال عماد الدين: «وخرجت أنا أيضا بخيمتى لملازمتى القاضى الأجل الفاضل، وحاجتى إليه في نجاح ما لى من المقاصد والرسائل، ووصل إلى مصر الملك الزاهر مجير الدين داود بن الملك الناصر رسولا إلى الملك العزيز من جهة أخيه الملك الظاهر - صاحب حلب -، ومعه سابق الدين عثمان بن الداية - صاحب شيزر -، والقاضى بهاء الدين بن شداد، فخيموا بتلك المنزلة عند الملك العزيز، وشاع أن الرحيل منها (18 ب) أول شهر ربيع الآخر لتجتمع العساكر وتنزاح علّتها». قال: «وكان الملك العادل يؤثر مسير الملك العزيز ليتمكن من أغراضه (¬1)، ولأن العساكر مع اختلافها تجتمع مع الملك العزيز لعلو همته، وسمو قدره، وسماحة يده، وسعة صدره». قال: «فاجتمع الملك العادل والملك العزيز وأشار عليه أن يسافر بنفسه، وقال له ما معناه: إن الدولة الصلاحية بإدارتك (¬2) صلاحها، وبفلاحك فلاحها، وبنهضتك ينهض جناحها، وبسعدك يسعد نجاحها، وإن لم تجتمع الكلمة عليك لم تجتمع كلمة الإسلام، ولم تستقر العصمة من الكفر بالشام، وفى كل بلد من إخوتك سلطان، ما منه لأمرك إذعان، وغدا عند الحاجة إلى الاستنفار والاستنصار، وكلّ منهم على سمة النفار، تنزل النوازل والدوائر بالديار، فاستخر الله تعالى وانشط، ولدولتك احتط (¬3)، وسر مستقبل النصر سارّا، ¬

(¬1) (ك): «أرضه». (¬2) في الأصل: «بادالتك»، ولا يستقيم بها المعنى، وفى ك: «تأدا إليك» وما هنا قراءة ترجيحية. (¬3) (ك): «وللذة قلبك أحبط».

وللجحفل المجر جارّا، وللدولة الناصرية ناصرا، ولأيدى المتعدى عنها قاصرا، وأنت سلطاننا ونحن الأتباع، والأنصار والأشياع». وذكر عماد الدين من هذا شيئا كثيرا عن الملك العادل، فأجابه الملك العزيز إلى ذلك، وضربت الخيام، ونصبت الأعلام، وتكاملت العساكر وتتامّت، واجتمعت وتضامت (¬4). قال: «وكان الملك الأفضل لما بلغه ذلك يكذب الحديث عنه تارة، ويصدقه أخرى، ويقول: قد استوثقت من كلّ منهم باليمين، وما منهم من يهى موثقه، وما وثقت - بعد الله تعالى - من الناس إلا بعمى، وهو يعصمنى، ويقينى إنه يقينى». وانفصل الملك الزاهر من مصر عند قرب الرحيل، ومعه القاضى بهاء الدين ابن شداد بعد قضاء الأرب من أداء الرسالة عائدين إلى صاحبهما، فلما عبرا بدمشق، أخبرا الملك الأفضل بجلية الحال، وأنهم على قصد السفر والاستيلاء على البلاد، فضاق ذرعه بذلك، واستشار أصحابه، فأشار عليه شيوخ الدولة وأكابرها من الأمراء وغيرهم بأن يستقبل أخاه وعمه وينقاد إلى أوامرهما، فإنه إذا استقبلهما على هذه الصورة (19 ا) لا يسعهما إلا قبوله لأنهما إن غيّرا عليه حالا بعد ذلك، حلّت بهما الغير، وأرّخت بقبح فعلهما السّير، فكاد يقبل هذا القول ويصغى إليه، فدخل عليه وزيره ضياء الدين بن الأثير فثنّاه عن هذا الرأى وصرفه عنه وقال له: «أنت أكبر الأخوة وأفضلهم، وما ثمّ عجز وفى الغيب لله قضايا، وله ألطاف خفايا، ودمشق مدينة حصينة وأهلها يحبونك ويؤثرونك». ¬

(¬4) (ك). «وتكاملت العساكر وتتامت، واجتمعت وتضامت».

ثم دخل عليه أخوه الملك الظافر خضر المعروف بالمشمّر، وهو شاب وعنده حمية وأنفة وقال: «أين حكم الإسلام، وقد استحلّت المحارم، وما ظننت أن أحدا يحنث في يمينه وينقض عهده، فلا تهن ولا تجزع فالبادى أظلم، والمسلّم إلى الله أسلم». وأحضر الملك الظافر المقدمين واستحلفهم، واستكثر من العدد والآلات، وتولى أسباب تحصين البلد، وقطع ما فوق المصلى عند مسجد فلوس بفصيل (¬1)، ورتّب الرجال حول البلد يتناوبون عليه لحفظه، وفرّق الأمراء على الأبراج والأسوار. وورد إلى الملك الأفضل رسل أخيه الملك الظاهر يشير عليه بتحصين بلده وتقوية عزمه على مقاتلة أخيه وعمه، ويعده من نفسه المؤازرة والمظاهرة. ثم أرسل الملك الأفضل الأمير فلك الدين - وهو أخو الملك العادل لأمه، وإليه تنسب المدرسة الفلكية (¬2) بدمشق - رسولا إلى الملك العادل. ¬

(¬1) (ك): «بالتفصيل» انظر أيضا: (الروضتين، ج 2، ص 230). (¬2) أنشأ هذه المدرسة الأمير أبو منصور فلك الدين سليمان بن عمروة بن خلدك أخو الملك العادل أبى بكر لأمه، وكانت اول الأمر دارا له فحولها إلى مدرسة، وبنى بها قبرا له دفن فيه بعد وفاته في المحرم من سنة 599 هـ‍، وأوقف عليها أوقافا، وموقعها بحارة الإفتريس داخل بابى الفراديس والفرج، انظر: (النعيمي: لدارس في تاريخ المدارس، نشر جعفر الحسنى، ج 1 ص 431 - 432) و (ابن شداد: الأعلاق الخطيرة - الجزء الخاص بتاريخ دمشق. نشر الدكتور سامى الدهان، دمشق، 1956، ص 236).

ذكر مسير الملك العزيز والملك العادل إلى الشام ومنازلتهما دمشق

ذكر مسير الملك العزيز والملك العادل إلى الشام ومنازلتهما دمشق ولما تكاملت العساكر ببركة الجب (¬1)، سار الملك العزيز والملك العادل بالجحافل والعساكر المتوافرة، ولما وصلا إلى الداروم، وصل فلك الدين أخو الملك العادل لأمه رسولا من الملك الأفضل إلى عمه بمشافهة منه، فأبلغه الرسالة، فأقبل عليه الملك العزيز وأنعم عليه. قال عماد الدين الكاتب: «وكنت حاضرا، وخلنا أن الأمر قد تم، وأنه قد صلح الصلح، ووضح الصبح، فأقام فلك الدين هناك أياما، ثم عاد إلى دمشق مثريا بجود النقود، وبدور البدر، وعاد حميد الورد والصدر (19 ب) وأقمنا نترقب كتابه فنفذ (¬2) من ذكر أنّ الملك الأفضل قد أبى ونبا، واستوثق وسوّر وخندق، وأنه لا يجنح إلى السلم، ويقول: كما كفانى الله في الماضى يكفينى في المستقبل». قال عماد الدين: «وجاءنى الخبر أن وزيره قد قرّر عنده عند قرب [العساكر من] (¬3) البلد نهب دورى وأملاكى، فاستأذنت الملك العزيز في الدخول إلى البلد، فأذن لى على ¬

(¬1) (ك): «بركة الحبش» وهو خطأ واضح. (¬2) (ك). «فورد». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).

ذكر استيلاء الملك العزيز على دمشق والاقتصار بالملك الأفضل على صرخد

كراهية، فلما دخلت البلد اجتمعت بالملك الأفضل، وقلت له القول الأفضل، فأبى أن يسمع أو أن يقبل، وحرمت في حظى الثانى والأول». ثم سار الملكان: العادل والعزيز إلى دمشق فنازلاها، ولم يحدثا قتالا، والملك العادل مظهر أنه على عهده وميثاقه، لم يتغير عنه ولم يحل، وأنه ليس مقصوده إلا إصلاح (¬1) ذات البين وانتظام الشمل، وكتب الأمراء بدمشق والأكابر متواصلة إلى الملك العادل والملك العزيز، لأن بعضهم كانت قد حصلت عنده نفرة من الملك الأفضل لأسباب وقعت منه ومن وزيره توجب الاستيحاش، وبعضهم كوتبوا من جهة الملك العادل والملك العزيز بما طيّب به قلوبهم وبسط في آمالهم، فكتبوا يحثونهما على معاجلة الزحف إلى البلد وانتهاز الفرصة، ويعدون من أنفسهم المساعدة وفتح الأبواب لهم. ذكر استيلاء الملك العزيز على دمشق والاقتصار بالملك الأفضل على صرخد ولما جرى ما ذكرناه (2) من المخامرة (¬2) من الأمراء المقيمين بدمشق والأكابر، وتوثق منهم الملك العزيز والملك العادل، ضرب البوق وزحف العسكر على البلد، وذلك ضحى يوم الأربعاء السادس والعشرين من رجب من هذه السنة - أعنى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة - مستظهرين بالعدد والآلات، فما صدّهم عن البلد صادّ، ولا ردّهم رادّ، ولم يجدوا في طريقهم من يقاتلهم غير الملك الظافر ¬

(¬1) الأصل: «صلاح»، والتصحيح عن (ك). (¬2) هذان اللفظان ساقطان من (ك)».

خضر (¬1) ابن الملك الناصر، فإنه قاتل وثبت معه جماعة من عسكر الملك الظاهر - صاحب حلب -، فقاتل ظنا أن عسكر دمشق يقاتلون معه، (20 ا) ولم يعلم حقيقة ما استقر في الباطن من المخامرة، فلما لم ير معه من يقاتل ولّى منهرما وقد جرح. ووصل الملك العزيز من جهة الميدان الأخضر، ودخل من باب الفرج (¬2) وقد فتح له، وبات عند عمته ست الشام (¬3) بنت أيوب - المعروفة بالحسامية - ¬

(¬1) هو الملك الظافر خضر، لقبه مظفر الدين، وكنيته أبو الدوام، وأبو العباس، قيل له «المشمر» لأن أباه لما قسم البلاد بين أولاده الكبار، قال: «وأنا مشمر» فغلب عليه هذا اللقب، ولد بالقاهرة في خامس شعبان سنة 568 هـ‍، وهو شقيق الملك الأفضل، حج على تيماء سنة 610 فلما وصل إلى بدر وجد عسكر الملك الكامل محمد قد سبقه خوفا منه على اليمن، وأمروه بالرجوع، فقال: «قد بقى بينى وبين مكة مسافة يسيرة ووالله ما قصدى إلا الحج، فقيدونى حتى أقضى مناسكى وأعود، فلم يلتفتوا إليه، فأراد أن يقاتلهم فلم يكن له بهم طافة، فعاد بلا حج، وتوفى في جمادى الأولى - أو الآخره - سنة 627 هـ‍ بحران عند ابن عمه الملك الأشرف موسى، ولم يكن وقئذاك ملكها، وإنما كان مجتازا لها عند دخوله بلاد الروم، انظر: (ابن خلكان: الوفيات، ج 6، ص 204 - 206) و (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 173) و (النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس، ج 2، ص 187). (¬2) قال (ابن شداد: الأعلاق الحطيرة - تاريخ مدينة دمشق -، ص 36) عند وصفه لهذا الباب: «محدث، أحدثه الملك العادل نور الدين، وسماه بهذا الاسم تفاؤلا، لما وجد من التفريج بفتحه، وكان بقربه باب يسمي «باب السمارة» فتح عند عمارة القلعة ثم سد، وأثره في السور باق». (¬3) ست الشام بنت أيوب، أخت صلاح الدين، وشقيقة لملك المعظم توران شاه بن أيوب فاتح اليمن، تزوجت الأمير لاجين وأنجبت منه ابنها حسام الدين عمر بن لاجين، ثم تزوجت ثانية من ابن عمها الأمير ناصر محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص، وكانت من أكثر النساء صدقة وإحسانا إلى الفقراء، وتعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير فيفرق على الناس، توفيت في 26 ذى القعدة سنة 616 هـ‍، وقال النعيمي في كتاب «الدارس في تاريخ المدارس»: «وقد صنف الشيخ تقى الدين بن قاضى شهبة في ست الشام كراسة، وهي عندى» وقد أنشأت ست الشام في دمشق مدرستين تعرفان باسم «المدرسة الشامية البرانية» و «المدرسة الشامية الجوانية» وتعرف أحيانا باسم «المدرسة الحسامية» نسبة إلى ابنها حسام الدين سالف الذكر فقد دفن بعد وفاته بها. انظر ترجمتها بالتفصيل في: (النعيمي: الدارس في المدارس، ج 1، س 277 - 313) و (الوفيات لابن خلكان) و (شفاء القلوب للحنبلى) و (البداية والنهاية لابن كثير) و (شذرات الذهب لابن العماد) و (ابن شداد: الأعلاق الخطيرة - تاريخ دمشق -، ص 233 و 241).

قال عماد الدين

والدة حسام الدين بن لاجين (¬1)، وإليها تنسب مدرسة ست الشام (¬2) بدمشق. وأما الملك العادل فإنه وصل إلى باب توما (¬3)، ففتحه له الأمير الذى كان مستحفظا عليه باتفاق كان بينهما، ودخل العسكر من هذا الباب وباب شرقى (¬4)، وبات الملك العادل في الدار الأسدية (¬5). ولما دخل الملك العزيز دمشق تلقّاه أخوه الملك الأفضل، فردّه الملك العزيز إلى القلعة، ثم خرج الملك العزيز في غد هذا اليوم إلى مخيّمه، وأقام به إلى أن انتقل الملك الأفضل من القلعة بأهله وأصحابه، وأخرج وزيره ضياء الدين بن الأثير مختفيا في صندوق من بعض صناديقه، خوفا عليه من القتل، وكان قد ترقبه أقوام ليقتلوه فلم يظفروا به. قال عماد الدين: «وكنا نظن أن للملك الأفضل مالا مجموعا فلم يظهر شىء (¬6) لسوء تدبير وزيره، فأقام الملك الأفضل بعد خروجه من القلعة نازلا بمسجد خاتون (¬7)، ووزيره مختف عنده إلى أن هرب إلى الموصل». ¬

(¬1) انظر الحاشية 3 في الصفحة السابقة. (¬2) انظر الحاشية 3 في الصفحة السابقة. (¬3) عرف به (ابن شداد: الأعلان الحطيرة - تاريخ مدينة دمشق -، ص 35) قال: «باب توما. ينسب إلى عظيم من عظماء الروم اسمه توما، وكانت له على بابه كنيسة جعلت بعد مسجدا، وهو الآن مسدود». (¬4) عرف (ابن شداد: المرجع السابق) هذا الباب بقوله: «سمي بذلك لأنه شرقى البلد، وكان ثلاثة أبواب: باب كبير في الوسط، وبابان صغيران من جانبيه، سد منهما الكبير والباب الصغير الذى من قبليه، وبقى الباب الصغير الشامى». (¬5) كانت الدار الأسدية تجاه المدرسة العزيزية وهي التي أنشأها الملك العزيز بن صلاح الدين لصق الجامع الأموى بالقرب من تربة صلاح الدين. انظر: (النعيمي: المرجع السابق، ج 1، ص 153 و 382). (¬6) (ك): «فلم يظفر بشىء». (¬7) أشار ابن شداد: الأعلاق الخطبرة، نشر سامى الدهان، ص 146 و 218) =

قال عماد الدين

قال عماد الدين: «ومن العجب أن الملك الأفضل مع علمه بشؤم وزيره، وأن كل ما هو فيه من النقص والنقض بادباره وسوء تدبيره، ضمه إليه (¬1) وترفرف بجناحه عليه، فأخرجه في قماشه، وسرّحه بريشه ورياشه، وكان ادعى عليه بمال فأقرّ الملك الأفضل بوصوله إلى خزانته، وبرّأه من حسابه وخيانته (¬2)، وانفصل إلى الموصل بمال دمشق وأعمالها ثلاث سنين، وجمع آلافا مؤلفة، ولم يفرّق الأفضل منها مائين». قال عماد الدين: «وعهدى بقوم دخلوا علىّ متأسفين على سلامته، واستقامة أمره في ظعنه وإقامته، فقلت: إنما سألنا الله تعالى كفاية شره وسوءه لا سواه، فقد أبعده الله فلا قرّب (¬3) نواه». ¬

= إلى مسجدين بدمشق كان كل منهما يعرف بمسجد خاتون، الأول يسمي «مسجد خاتون المغنية» وموقعه تحت القلعة على جسر باب الحديد، والثانى يعرف بمسجد خاتون أو المدرسة الخاتونية البرانية، وكان يقع على الشرف القبلى عند مكان يسمي صنعاء الشام المطل على وادى الشقراء، أوقفته صفوة الملوك زمرد خاتون ابنة الأمير جاولى، أخت دقاق لأمه، وزوجة الملك تاج الملوك بورى، توفيت سنة 557 هـ‍. وأرجح أن المقصود هنا هو المدرسة الأولى لمقتضى السياق في المتن. انظر أيضا: (النعيمي: المرجع السابق، ج 1، ص 502). (¬1) الأصل «عليه»، وما هنا صيغة (ك) وهي أفضل. (¬2) (ك): «وجنايته». (¬3) الأصل: «أبعد»، وما هنا صيغة (ك)، وهي أصح.

ذكر واقعة غريبة ذكرها عماد الدين الكاتب

ذكر واقعة غريبة ذكرها عماد الدين الكاتب (20 ب) قلت (¬1): ذكر عماد الدين أمرا عجيبا أنا أستبعده والله تعالى أعلم بصحته. قال: «كان قرار الملك العادل مع الملك العزيز أن يقيم الملك العزيز بدمشق، وأن يكون الملك العادل نائبا عنه بمصر، ويفوّض تدبيرها إليه، فلما ملك الملك العزيز دمشق، وظهرت الأمور، وانكشف المستور، ندم على ما كان قررّه مع عمه، فبعث إلى أخيه الملك الأفضل في السر، وقال: «إذا طالبناك فاثبت على الامتناع، ولا تبذل الرضى لنا إلا بإقامة الخطبة والسكّة، ولا تنزل عن رتبتك، فإنى أقصد لك الرضا وأفعل ما تريد، ويكون امتناعك عذرا عند عمى». فلما وصلت الرسالة بذلك إلى الملك الأفضل أظهر هذا السرّ لنصحائه المختصين؛ فقالوا: «لا تنخدع بهذا القول، فربما كان هذا خديعة من أخيك ليوقك، وهلا كان هذا القول منه قبل في أول الأمر؛ والمصلحة أن تطلع عمّك الملك العادل على هذا السر، فإنه كأبيك في الشفقة، وعلى كل حال لا يترك برّك، فإذا استشرته أشار عليك بالمصلحة، وقد جاء لك من السعادة ما لم يكن لك في حساب، فإن الملك العادل يحصل له باطلاعه على هذا الارتياب في الملك العزيز، وتتأكد نفاره منه». فأرسل الملك الأفضل الحاجب جمال الدين محاسن بن عجم الموصلى إلى الملك ¬

(¬1) هذا مثل آخر لمناقشة ابن واصل لآراء غيره من المؤرخين الذين ينقل عنهم.

العادل، فأعاد عليه ما ذكره الملك العزيز، فقامت قيامته وغضب غضبا شديدا، واجتمع بالملك العزيز، وعاتبه أشدّ العتب، وقرّعه غاية التقريع، وقال: «أنا أبنى وأنت تهدم»، وذكر له ما أنهى إليه، فأنكر الملك العزيز ذلك، وحقّق عند عمه بطلان هذا القول، وأنه لم يرسل إلى الملك الأفضل، ولم يقل له من هذا القول حرفا. وانحرف عن أخيه الملك الأفضل، وبعث إليه من أزعجه وأحرجه، وإلى صرخد أحوجه، وأخذ من الملك الظافر بصرى - وكانت بيده -، فرحل إلى حلب، فأقبل عليه الملك الظاهر وأحسن إليه؛ وسار الملك الأفضل إلى صرخد بأهله وحريمه (¬1)، ومعه أخوه الملك المفضل قطب الدين موسى فتسلموها واستوطنوها. ودخل الملك العزيز إلى دمشق يوم الأربعاء رابع شعبان من هذه السنة (21 ا) فأظهر العدل، وأبطل المكوس، وأزال المظالم، واعتقد الناس أن مقامه عندهم يطول، وفرحوا به لما كانوا يعرفونه به من الكرم والبذل، وإقامة منار العدل، ولم يشعروا به إلا وقد تقدم بالتبريز وأجمع على الرحيل إلى الديار المصرية». ¬

(¬1) هذا اللفظ غير موجود في (ك).

ذكر استيلاء الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب على دمشق وأعمالها وسفر الملك العزيز إلى مصر

ذكر استيلاء الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب على دمشق وأعمالها وسفر الملك العزيز إلى مصر ثم سلّم الملك العزيز دمشق إلى عمّه الملك العادل، ورحل من دمشق عشية يوم الاثنين تاسع شعبان من هذه السنة، فنزل بمسجد القدم (¬1)، ثم ارتحل إلى الكسوة (¬2)، وسافر بالعساكر إلى الديار المصرية. قال عماد الدين الكاتب: «ودعته يوم السبت رابع عشر شعبان، وقال لى عند وداعه: «أمّا مالك بالشام فإنى إلى الملك العادل به عادل، وأما قرارك بمصر فأنا بجميعه لك ضامن كافل» ولقد كان بوده إنجاز وعدى، واقتناء حمدى، لكن شرط مع عمه أن لا يفرد شيئا من رسمه، فدخلت في عموم الشرط وتبدل قربى بالسخط». وخرج الملك العادل لوداع الملك العزيز، ولما عاد من وداعه أمر فقرئ منشوره بالجامع بتفويض دمشق وأعمالها إليه. ¬

(¬1) عرّف به (ابن شداد: المرجع السابق، ص 155 - 156) بقوله: «مسجد القدم: بقرب عالية وعويليه، قديم، جدده أبو البركات محمد بن الحسن بن طاهر، وفيه قبر جد أبيه لأمه أبى الحسن بن الواعظ الزاهد، له منارة ووقف، ويقال إن قبر موسى - عليه السلام - فيه، وفيه بئر، وعلى بابه بئر»، انظر أيضا: (محمد كرد على: غوطة دمشق، ص 238). (¬2) عرّفها (ياقوت: معجم البلدان) بقوله: «قرية، هي أول منازل تنزله القوافل إذا خرجت من دمشق إلى مصر، قال الحافظ أبو القاسم: وبلغنى أن الكسوة إنما سميت بذلك لأن غان قتلت بها رسل ملك الروم لما أتوا إليهم لأخذ الجزية منهم، واقتسمت كسوتهم»، انظر أيضا: (ابن شداد: المراجع السابق، ص 19).

وكانت مدة مقام الملك العزيز بدمشق بعد أخذها أربعة عشر يوما. وكانت مدة ملك الأفضل لها ثلاث سنين وأشهرا. وأبقى الملك العادل السكة بدمشق والخطبة للملك العزيز، وأشاع أنه نائبه. ولما استقر الملك العزيز بصرخد هو وأهله كتب إلى الخليفة كتابا يشكو إليه فيه اغتصاب عمّه وأخيه ميراثه من أبيه. وأوله: مولاى إنّ أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد أخذا بالسيف إرث على فانظر إلى حظّ هذا الاسم كيف لقى ... من الأواخر ما لاقى من الأول فكتب الخليفة الناصر لدين الله إليه: وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا ... بالصدق، يخبر أنّ أصلك طاهر (21 ب) غصبوا علّيا حقّه إذ لم يكن ... بعد النبى له بيثرب (¬1) ناصر فاصبر، فإن غدا عليه حسابهم ... وابشر، فناصرك الإمام الناصر وللملك الأفضل أيضا في المعنى: أما آن للسعد الذى أنا طالب ... لإداركه يوما يرى وهو طالبى ترى [هل] (¬2) يرينى الدهر أيدى شيعتى ... تمكن يوما من نواصى النواصب يريد بالشيعة أصحابه، لأن اسمه على، وبالنواصب أصحاب العادل أبى بكر والعزيز عثمان (¬3). ¬

(¬1) (ك): «له معين ناصر». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬3) يوجد في هامش نسخة ك أمام هذه الأبيات بيتان آخران للأفضل أثبتهما أحد قراء النسخة ويدعي منصور، وهذا نص ما في الهامش، وقد صحح البيتان بعد مراجعة: (ابن الخنبلى شفاء القلوب في مناقب بنى أيوب، ص 70 ب): وله في المعنى: يا من يسوّد شعره بخضابه لعساه من أهل الشبيبة يحصل ها فاختضب بسواد حظي مرة ولك الأمان بأنه لا ينصل

ولما وصل الملك العزيز إلى القدس وبه أبو الهيجاء السمين، وكان خائفا من الملك العزيز لجرمه الذى تقدم ذكره، عزم على منازلته، فلاذ أبو الهيجاء بعفوه، وبذل القدس على أن يرحل بماله، فأجيب إلى ذلك، وتسلّم الملك العزيز منه القدس، وسلّمه إلى سنقر الكبير. ورحل أبو الهيجاء إلى بغداد، فاحترمه الخليفة وقدّمه على عسكر لمحاربة العجم، فصدر منه ما أوجب الإنكار عليه، فتوجّه إلى دقوقا فمات بها. وفى هذه السنة سيّر الملك الظاهر القاضى (¬1) بهاء الدين بن شدّاد، وغرس الدين قلج إلى [أخيه] (¬2) الملك العزيز - رحمه الله - بهدايا كثيرة وقود (¬3). وفيها (¬4) خرّب الملك العزيز حصنى الداروم وغزة ¬

(¬1) بهذا اللفظ نتقابل مرة ثانية مع نسخة س (ج 1، ص 132 ا) (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬3) مكان هذا اللفظ في (س): «لها قيمة جليلة». (¬4) النص في (س): «وفى هذه السنة في آخرها».

ودخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة

ودخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة: والملك العزيز مقيم بالديار المصرية، وهو سلطان البيت الأيوبى. وبدمشق الملك العادل. وفى أوائل صفر منها تسلم الملك الظاهر قلعة عزاز من سيف الدين بن علم الدين سليمان بن جندر (¬1)، وكان ملكها بعد أبيه. وفى السابع والعشرين من ربيع الآخر رحل من مصر القاضى بهاء الدين ابن شدّاد، وغرس الدين قلج بانتظام الصلح [بين الملك الظاهر وأخيه الملك العزيز] (¬2) فخطب بحلب للملك العزيز، وضربت السكة باسمه. وفى هذه السنة تحركت الفرنج لقصد بلاد الإسلام، فخرج الملك العادل بالعساكر، فخيّم بالقصبة، وهى قريب من صور، وجهّز إلى بيروت جماعة من العسكر ومعهم الحجارون والنقّابون، وأمرهم بهدم ربض بيروت ففعلوا، وحصّن (¬3) عزّ الدين (22 ا) أسامة القلعة، وترك (¬4) فيها جماعة من الأجناد ليحفظوها. ¬

(¬1) (س): «حيدر». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬3) (ك): «وجهز عز الدين أسامة للقلعة». (¬4) (س): «ونزلت».

ذكر وفاة سيف الإسلام صاحب اليمن

ذكر وفاة سيف الإسلام صاحب اليمن وفى شوال من هذه السنة توفى سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين ابن أيوب، وكان يلقب بالملك العزيز، وكان ملكا جوادا ممدّحا، وممن مدحه من الشعراء شرف الدين بن عنين ومن مدائحه فيه قصيدة منها: دمشق وبى شوق إليها مبرّح ... وإن لام (¬1) واش (¬2) أو ألحّ عذول بلاد (¬3) بها الحصباء در، وتربها ... عبير، وأنفاس الشمال شمول تسلسل منها (¬4) ماؤها وهو مطلق ... وصحّ نسيم الروض وهو عليل ومنها: وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأى ظهير الدين فىّ جميل؟ من القوم، أمّا أحنف فمسفّه ... لديهم، وأمّا حاتم فبخيل فتى (¬5) المجد، أمّا جاره فممنّع ... عزيز، وأما جندّه فذليل وأمّا عطايا ماله فمباحة (¬6) ... عذاب، وأما ظلّه فظليل ¬

(¬1) كذا في جميع النسخ، وفى الديوان: «وإن لجّ». (¬2) (س): «وال»، وما هنا هو الصحيح وكذلك في الديوان. (¬3) في الديوان: «ديار». (¬4) في الديوان: «فيها». (¬5) (س): «بنى» ولا يستقيم بها المعنى. (¬6) الديوان: «وأما عطايا كفه فسوابغ».

ذكر استيلاء الملك المعز إسماعيل بن سيف الإسلام على اليمن

ذكر استيلاء الملك المعز إسماعيل بن سيف الإسلام على اليمن وكان الملك المعز هذا شهما شجاعا، إلا أنه في عقله ضعف، فكان أبوه (¬1) يخافه على نفسه، فأبعده إلى الشام خوفا منه، فقدم على عمه السلطان الملك الناصر صلاح الدين قبل مرضه الذى مات منه بيوم واحد، وقد ذكرنا ذلك، ثم توجه راجعا إلى اليمن، فأدركته وفاة أبيه وهو بالسرين (¬2) فبعث إليه جمال الدولة كافور جماعة من الجند (3) فعزّوه بوالده، ومضوا به إلى ممالك أبيه فسلموها إليه. وسنذكر بقية أخباره إن شاء الله تعالى (¬3). ¬

(¬1) (س): «أبيه»، وهو خطأ واضح. (¬2) النص في (س) (ج 1، ص 132 ب): وهو في الطريق، وقد سار قريبا من بلاد أبيه، فبعث إليه جمال الدولة. . الخ». (¬3) النص في (س) مختلف شيئا ما، وهو: «فمضوا به إليه» فسلسّم إليه ممالك أبيه، وكان هذا جمال الدولة هو المدبر للدولة، وسنذكر إن شاء الله تعالى أخباره».

ودخلت سنة أربع وتسعين وخمسمائة

ودخلت سنة أربع وتسعين وخمسمائة والملك العزيز بالديار المصرية. وعمّه الملك العادل مرابط للفرنج، وقد وصل منهم جمع كثير من داخل البحر، وانتشروا في الساحل، وكثروا فيه. وكان عزّ الدين أسامة (22 ب) قد ترك جماعة من الأجناد - كما ذكرنا - في قلعة بيروت يحفظونها، وذلك بعد أن خرّب ربضها، فخافوا من الفرنج وانهزموا، وبقيت القلعة خالية ليس فيها من يذبّ عنها، وعلم الفرنج بذلك فملكوها واستولوا عليها، فلعن الناس أسامة لتفريطه فيها. وقال عماد الدين الكاتب في ذلك: إنّ بيع الحصون من غير حرب ... سنّة سنّها ببيروت سامه لعن الله كلّ من باع ذا البيع ... وأخزى بخزيه من سامه (¬1) وسيّر الملك العادل إلى الملك العزيز يطلب منه النجدة، فوصلت إليه العساكر من مصر، ووصل إليه سنقر الكبير (¬2) - صاحب القدس - وميمون القصرى - صاحب نابلس - ونزل بهم على تل العجول بالقرب من غزة، وكان قبل ذلك قد وقع جمع من الفرنج بأجناد في أطراف بلد القدس، فقتلوا منهم جماعة، وأسروا جماعة، ورجعوا بغنائم كثيرة. ¬

(¬1) أورد (أبو شامة: الروضين، ج 2 ص 233) بيتين آخرين في هذا المعنى: قال: «ونظم بعضهم والفرنج على تبنين: سلم الحصن ما عليك ملامه ما يلام الذى يروم السلامه فعطاء الحصون من غير حرب سنة سنّها ببيروت سلمة» (¬2) (س): «سيف الدين صاحب القدس».

ذكر فتح يافا

ذكر فتح يافا ثم قصد الملك العادل بالعساكر يافا، فدخلها هجما بالسيف وقتل مقاتلتها، وأعيان من بها من الفرنج، فامتلأت أيدى المسلمين بالسبى والغنائم. وكان هذا الفتح ثالث فتح لها، لأنها فتحت أولا في أول الفتوح، وثانيا وجاء ملك الانكلتير في جموعه فاسترجعها وهذا الفتح في الأيام الناصرية (¬1). وفتحت هذا الفتح الثالث على يد الملك العادل. وفتحت في زماننا فتحا رابعا في سنة أربع وستين وستمائة [على يد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس - صاحب الديار المصرية والشام] (¬2). ذكر منازلة الفرنج تبنين وقدوم الملك العزيز إلى الشام ولما جرى ما ذكرناه (¬3) عظم ذلك على الفرنج، فقصدوا تبنين، وكانت بيد حسام الدين بشارة، فنازلوها بفارسهم وراجلهم، وأحدقوا بها وضايقوها. ونزل الملك العادل قبالتهم، وبعث إلى الملك العزيز يحثّه على الخروج إليه ¬

(¬1) النص في نسخة الأصل ونسخة ك «وهذان الفتحتان في الأيام الناصرية» وقد صحح النص كما بالمتن ليستقيم المعنى، أما نسخة س (ج، ص 133 ا) فالنص فيها: «وثانيا فان ملك الانكلنير ملك الفرنج رحل إليها في جموع من الفرنج، فاسترجعها وفتحها في الأيام الناصرية بعد ذلك». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س)، ولهذا النص أهميته فهو يدل على أن المؤلف كان يكتب هذا الجزء من كتابه بعد سنة 664 هـ‍. (¬3) (س): «ما ذكرنا من فتح يافا».

ذكر رجوع الملك العزيز إلى الديار المصرية

[من مصر] (1) بنفسه، فتقدم الملك العزيز إلى من عنده من العساكر بالخروج (23 ا) وسار في آخرهم لا يلوى على شىء حتى وصل إلى تبنين، واجتمع بعمه الملك العادل على مناجزتهم ساعة وصوله، فمنعه من ذلك [عمّه الملك العادل] (¬1). فلما جنّ الليل رحل الفرنج (2) عن تبنين (¬2) عائدين إلى صور، وسار في أثرهم الملك العزيز والملك العادل بالعساكر يلتقطون من ظفروا به منهم [فغنموا المسلمون شيئا كثيرا من عسكرهم] (¬3). وأمر الملك العزيز بنقل الغلال إلى تبنين وإصلاح ما تهدم بالمنجنيقات من أسوارها. ذكر رجوع الملك العزيز إلى الديار المصرية ثم أبقى الملك العزيز العساكر برمتها عند عمه الملك العادل، وجعل إليه أمر الحرب والصلح، وعاد إلى مصر في جمع قليل. وكان سنقر الكبير (¬4) صاحب القدس قدمات، فولى الملك العزيز القدس صارم الدين ختلج (¬5)، مملوك عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه (¬6) بن أيوب. ولما قدم الملك العزيز مصر مدحه القاضى السعيد ابن سناء الملك بقصيدة هنأه فيها بالنصر والقدوم، أولها: ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬2) هذان اللفظان غير موجوين في (س). (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬4) (س): «سيف الدين». (¬5) (ك): «جناح». (¬6) الأصل: «شاهان شاه»، وما هنا صيعة (ك) و (س).

قدمت بالسعد (¬1) وبالمغنم ... كذا قدوم الملك المقدّم يا قاتل الكفر وأحزابه، ... بالسيف (¬2) والدينار والدرهم قميصك الموروث عن يوسف ... ما جاء إلا صادقا في الدم أغثت تبنين وخلّصتها ... فريسة من ماضغى ضيغم ومنها: فردّها سالمة منهم ... من بعد أن قيل (¬3) لها سلّمى ما انهزمت وانهزموا دونها ... متى غزا جيشا ولم يهزم؟! ومنها: لا عدم الإسلام عثمانه ... مصطلى الداهية الصّيلم شنشنة تعرف من يوسف ... في النصر (¬4) لا تعرف من أخزم ثمّ انثنى من وجهه ظافرا ... والسّيف لم يثلب ولم يثلم وجاء لمّا جاءنا بالحيا ... وعاد لمّا عاد بالأنعم مقدمه صار جمادى به ... كمثل ذى الحجة ذا موسم (¬5) ¬

(¬1) الديوان: «بالنصر». (¬2) الأصل: «والسيف»، والتصحيح عن (ك) وهذا البيت والذى يليه غير موجودين في الديوان. (¬3) الديوان: «من بعد ما قيل». (¬4) الأصل: «المصر»، والتصحيح عن (ك)، والديوان: «في النصر دع تعرف من أخزم». (¬5) القصيدة في الديوان أكثر أبياتا مما هى هنا، وهنا كذلك أبيات لا توجد في الديوان.

ذكر الهدنة مع الفرنج

ذكر الهدنة مع الفرنج وأقام الملك العادل يوالى الغارات على الفرنج، ويقصدهم بنفسه وجموعه مرة بعد أخرى، إلى أن أضجرهم وأسأمهم، فراسلوه في طلب الصلح، فأجاب إليه، وحلّف أمراء عسكره لهم، وأنفذ إلى مقدمى الفرنج من استحلفهم (¬1). واستقرت الهدنة ثلاث سنين، وأمن الناس شرّهم، ورجع الملك العادل إلى دمشق، وتفرقت الجند [جميعها إلى بلادها] (¬2). ذكر وفاة عماد الدين صاحب سنجار وقيام ولده قطب الدين محمد مقامه وفى هذه السنة توفى عماد الدين زنكى بن مودود بن زنكى - صاحب سنجار ونصيبين والخابور -، وكان شهما شجاعا. فملك هذه البلاد بعده ولده قطب الدين محمد، وقام بتدبير مملكته مملوك والده مجاهد الدين يرنقش (¬3). وعزم ابن عمه (¬4) نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكى - صاحب الموصل - على قصد نصيبين وأخذها من قطب الدين، وكان الحامل ¬

(¬1) (س): «الفرنح وملوكهم فحلفهم». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬3) (ك): «برنقش»، وس: «يرنقش». (¬4) (ك): «عمه»، أما (س) فالنص فيها «وعزم نور الدين».

له على هذا العزم (¬1) أن عماد الدين - صاحب سنجار - (2) كان قد تعدّى على بعض أعمال الموصل، وجرت بينهم مراجعات في ذلك، فلم يرجع عماد الدين عن تعديه، ووصل إليه رسول من نور الدين في معنى إعادة ما أخذ، فأغلظ [عماد الدين] (2) القول للرسول وردّه خائبا. فلما توفى عماد الدين جلس ابن أخيه نور الدين للعزاء في الموصل [ثلاثة أيام] (¬2) ثم قصد نصيبين فنازلها وأخذها، وكان قطب الدين بها فاحتمى بقلعتها، ثم هرب منها هو وأتابكه مجاهد الدين يرنقش ليلا (3) إلى ديار بكر ثم إلى حرآن (¬3). ثم دخل نور الدين قلعة نصيبين، (4) وملكها وملك بلادها (¬4)، وراسل قطب الدين الملك العادل، وبذل له الأموال الكثيرة لينجده على نور الدين، ويعيد إليه نصيبين، [فأجابه إلى ذلك] (2). ولما ملك نور الدين نصيبين وقع المرض بكافة أمرائه (¬5)، وعاد إلى الموصل وقد توفى منهم جماعة. ثم رجع نور الدين إلى الموصل (24 ا) لما بلغته حركة الملك العادل إلى الشرق. ثم رجع قطب الدين إلى نصيبين فملكها. ¬

(¬1) (س): «على ذلك». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬3) (س): «إلى بلده سنجار». (¬4) النص في (س): «منازلها وأخذها، واستولى على ما فيها من الذخائر وملك جميع بلادها». (¬5) النص في (س): «وقع في مرض هو وجميع أمرائه، وبلغه حركة الملك العادل إلى البلاد الشرقية».

ذكر توجه الملك العادل إلى البلاد الشرقية

ذكر توجه الملك العادل إلى البلاد الشرقية ومنازلته ماردين وأخذ ربضها (¬1) وورد على الملك العادل كتاب النظام مدبر مملكة حسام الدين يولق (¬2) أرسلان بن إيلغازى بن ألبى الأرتقى - صاحب ماردين - يستدعيه ليسلم إليه ماردين، ويأخذ منه عوضا عنها. ووردت عليه رسل قطب الدين - صاحب سنجار - يستدعيه إلى نجدته (¬3). فسار الملك العادل إلى الشرق، وقطع الفرات، فلما وصل البلاد لم يف له النظام بما تقرر بينهما باطنا، وندم على ما كاتبه به، فبعث الملك العادل إلى ابنى أخيه: الملك العزيز، والملك الظاهر، يستنجد بهما، فوصله عسكر من مصر وهم ألفا فارس (¬4)، ووصله عسكر من حلب، عدتهم خمسمائة فارس، مقدمهم سيف الدين بن علم الدين بن جندر (¬5). ونازل الملك العادل ماردين، وجدّ في حصارها ومضايقتها، فعدمت بها الأقوات، وأصاب أجنادها مرض عظيم، وملك الملك العادل الربض ونهبه، وبقى (¬6) محاصرا للقلعة. ¬

(¬1) (س): «أرضها». (¬2) (س): «ترلو». (¬3) (س): «نصرته». (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س) يعد التصحيح، فالنص هناك: «وهم ألفين فارس». (¬5) (س): «حيدر». (¬6) (س): «وجدّ في محاصرة القلعة».

وفى هذه السنة توفى الأمير غرس الدين قلج النورى، وكان أميرا جليلا، وكانت بيك [قلعتا] (1) الشغر وبكّاس، وشقيف در كوش، وهذه الحصون أعطاها السلطان الملك الناصر غرس الدين قلج - كما تقدم ذكره -، فلما مات غرس الدين عصى [ابنه] (1) شمس الدين محمود بن قلج - وهو الأكبر - بالشغر وبكّاس، وعصى أخوه سيف الدين على شقيف وركوس [على الملك الظاهر صاحب حلب] (1). فقصد الملك الظاهر شقيف وركوش، ونصب عليه المجانيق وضايقه، وطلب سيف الدين قلج الأمان [فأمّنه] (1) وسلّم [إليه] (1) الحصن [على ما تقرر بينهما] (1)؛ ثم توجّه الملك الظاهر إلى الشغر وبكّاس، ونصب عليها تسعة مجانيق، وحصرها أربعة أيام، فطلب شمس الدين الأمان، وأجاب إلى التسليم، وبعث أخاه عماد الدين أبا بكر فأخذ له الأمان، وقرّر حاله على أن يخرج بماله ورجاله، وجميع ما في القلعتين من سلاح وذخائر، وأن يعطى خبزا مبلغه خمسون ألف دينار، ثم عوّض الملك الظاهر (24 ب) شمس الدين عن ذخائر القلعتين بضيعة [كبيرة] (1) من جبل السماق. وكان تسلم [الملك الظاهر] (¬1) هذه الحصون في ذى الحجة من هذه السنة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة: والملك العادل مضايق قلعة ماردين، وقد أشرف على أخذها. ذكر وفاة الملك العزيز عماد الدين عثمان بن الملك الناصر - رحمهما الله - وكان الملك العزيز في ذى الحجة من السنة الماضية قد عزم على التوجه إلى اسكندرية ودمياط للنظر في مصالحهما، فبرز في السادس والعشرين من الشهر إلى ذات الصّفا (¬1)؛ وأقام بها متصيدا إلى سابع المحرم من هذه السنة، فاعترضه ذئب فركض خلفه، فعثر به فرسه، فسقط إلى الأرض [فحّم من ساعته] (¬2). ثم ركب وهو محموم، وعاد إلى (¬3) الأهرام، وقد اشدت حماه؛ ثم توجه إلى القاهرة (¬4) فدخلها يوم عاشوراء، وحدث به يرقان وقرحة في المعا، ثم احتبس ¬

(¬1) (ك): «دار الصفا» وما بالمتن هو الصحيح، وهى من القرى المندرسة، وقد ذكرها صاحب (التحفة السنية، ص 154) ضمن الأعمال الفيومية، وقد يفهم من النص هنا أنها بين القاهرة والإسكندرية، ولكن الصحيح أنها من قرى القيوم، يؤكد هذا ما ذكره المؤرخون الآخرون عن وفاة الملك العزيز، قال ابن خلكان: «وكان قد توجه إلى القيوم، فطرد فرسه وراء صيد فتقنطر به فرسه فأصابته الحمي من ذلك، وحمل إلى القاهرة فتوفى بها»، وقال سبط ابن الجوازى في مرآة الزمان: وكان سبب وفاته أنه خرج إلى القيوم يتصيد، فلاح له ظبى، فركض الفرس خلفه، فكبا به الفرس، فدخل مربوس السرج في فؤاده فحمل إلى القاهرة. . . إلخ». أنظر أيضا: (ابن تغزى بردى: النجوم، ج 6، ص 128 - 130) و (المقريزى: السلوك، ج 1، وفيات سنة 595) و (محمد رمزى: القاموس الجغرافى للبلاد المصرية، القسم الأول: البلاد المندرسة، القاهرة 1954، ص 264). (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬3) (ك): «وسار عماد الدين إلى الأهرام»: (¬4) (س): «إلى مصر».

ذكر سيرته - رحمه الله -

طبعه أياما، وانتقل إلى رحمة الله ورضوانه منتصف ليلة السابع والعشرين من المحرم. فكانت مدة ملكه ست سنين إلا شهرا. وكانت مدة عمره سبعا وعشرين سنة وأشهرا. ذكر سيرته - رحمه الله - كان في غاية السماحة والكرم والعدل، والرفق بالرعية والإحسان إليهم. فكانت الرعية، يحبونه محبة شديدة، وفجعوا بموته فجيعة عظيمة، إذ كانت الآمال معلقة بأنه يقوم مقام والده، ويسدّ مسدّه. وقد ذكرنا أن عمه الملك العادل وأخاه الملك الأفضل لمّا قصداه، ونازلا بلبيس وحاصراها، وأشرف ملكه على الزوال، بذلت له الرعية أموالها ليذبّ بها عن نفسه، فامتنع مع شدة حاجته في ذلك الوقت إلى المال. وقد حكى أنه لما امتنع من أخذ مال الرعية، أشير عليه بأن يقترض من القاضى الفاضل، فإن أمواله عظيمة، وهو غير محتاج إليها، فامتنع من مخاطبة القاضى الفاضل (25 ا) في ذلك، فألحوا عليه في ذلك حتى أجاب، وأرسل إلى القاضى الفاضل يستدعيه، فحضر، وكان الملك العزيز في منظرة من دار الوزارة مطلة على الطريق، فلما رأى القاضى الفاضل مقبلا لم يتمالك من شدة الحياء، ودخل إلى دار الحرم. فراسلت الأمراء الملك العزيز وشجعوه حتى خرج واستدعى القاضى الفاضل، وقال له - بعد أن أطنب في الثناء عليه والتقريظ له -: قد علمت أن الأمور

قد ضاقت علىّ، وقّلت الأموال عندى، وليس لى إلا حسن نظرك وإصلاح الأمر لنا بمالك أو برأيك أو بنفسك» فقال له القاضى الفاضل: «جميع ما أنا فيه من نعمتكم، ونحن نقدم أولا الرأى والحيلة، ومتى احتيج إلى المال فهو بين يديك». ووردت رسالة الملك العادل إلى القاضى الفاضل (¬1) باستدعائه، وجرى من انتظام الحال ما قدمنا ذكره. ولقد حكى عنه ما هو أبلغ من هذا وأحسن، وهو أن عبد الكريم بن على البيسانى (¬2) أخا القاضى الفاضل كان يتولى الحكم والإشراف بالبحيرة مدة طويلة، وحصّل من ذلك أموالا جليلة، وكان الناس يحترمونه لأجل القاضى الفاضل، فجرت بينه وبين أخيه نبوة أوجبت انضاع حاله عند الناس، فصرف عن عمله، وكان متزوجا بامرأة من قوم ذوى قدر ويسار، يعرفون ببنى ميسّر. فلما صرف عن عمله انتقل إلى الإسكندرية ومعه زوجته، فضايقها وأساء عشرته معها لسوء خلق كان فيه. واتصل ذلك بأبيها، فتوجه نحو الإسكندرية، وأثبت عند حاكمها ضررها، وأنه قد حصرها في محل ضيق من داره، فمضى القاضى بنفسه إلى الدار التي فيها الزوجة، ورام فتح الباب الذى هى فيه فلم يقدر عليه، فأحضر شهودا، وأحضر نقّابا، فنقب جانب الدار، واستخرج المرأة، وسلمت إلى أبيها، ثم أحضر بنّاء (¬3) فسدّ ذلك النقب (¬4). ¬

(¬1) (ك): «ووردت رسالة الملك العادل إلى الملك العزيز باستدعاء القاضى الفاضل». (¬2) (س): «النيسابورى» وهو خطأ واضح. (¬3) الأصل: «نقابا»، وما أثبتناه صيغة (ك) وهى أفضل. (¬4) الأصل: «البيت» وما هنا صيغة (ك) وهى أفضل.

واتصل ذلك بعبد الكريم، فاهتاج على قاضى الإسكندرية بسببه، وعزم على أن يبذل بذلا، ويأخذ منه قضاء الإسكندرية. فقصد الأمير فخر الدين جهاركس (25 ب) ومعه خمسة وأربعون ألف دينار مصرية، وقال له: «هذه خمسة آلاف دينار لخزانتك (¬1)، وهذه أربعون ألف دينار برسم خزانة السلطان، وأولّى قضاء الإسكندرية». فأخذ جهاركس المال، ووعده بقضاء الشغل، واجتمع بالملك العزيز ليلا (¬2)، وأحضر المال بين يديه، والملك العزيز حينئذ في غاية الضرورة إلى بعض ذلك المال، وقال: «هذه خزانة مال أتيتك بها من غير طلب ولا تعب». فقال: «من أي الجهات؟». فذكر له الحال. فأطرق مليا، ثم رفع رأسه وقال: «أعد المال إلى صاحبه، وقل له: إياك والعود إلى مثلها، فما كل ملك يكون عادلا، وعرّفه أننى إذا قبلت هذا القدر منه إنما أكون قد بعت [به] (¬3) أهل الإسكندرية، وهذا لا أفعله أبدا». قال فخر الدين جهاركس: «فلما سمعت ذلك منه وحمت وحمة ظهرت سمتها في وجهى، فقال لى: ¬

(¬1) (ك): «برسم خزانتك». (¬2) هذا اللفظ ساقط من (ك). (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) و (س) و (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 27 ا) حيث أورد هذه القصة مع اختلاف يسير في الألفاظ، وأغلب الظن أنه كان ينقل في هذا الموضع عن ابن واصل.

«أراك واجما، وأظنك أخذت شيئا على الوساطة (¬1) له؟». فقلت: «نعم» (¬2). فقال: «كم أخذت؟». فقلت له: «أخذت خمسة آلاف دينار». فأطرق كإطراقه أولا، ثم قال: «أعطاك ما لا تنتفع به إلا مرة واحدة، وأنا أعطيك في قبالته ما تنتفع به مرات عديدة». ثم أخذ القلم، ووقّع لى بخط يده بإطلاق جهة (3) تعرف بطنبذا (¬3) كنت أستغلها في السنة سبعة آلاف دينار». رحمه الله ورضى عنه. ¬

(¬1) (س): «على الرشا، فلهذا قد وجمت». (¬2) (س): «فقلت نعم قد أخذت خمسة آلاف دينار». (¬3) هذان اللفظان غير موجودين في (س)، هذا وقد رجعت إلى معظم الكتب الجغرافية لمصر الإسلامية فلم أجد بها بلدة بهذا الإسم، وأرجح أن يكون الرسم الصحيح لها «طنيشا» التي ورد ذكرها في: (ابن الجيعان: التحفة السنية، ص 85) وخاصة أنه ذكر إلى جانبها أن عبرتها 7200 دينار، وأنها كانت للمقطعين، وهذا مبلغ قرب جدا من مقدار ما كانت تغله على جهاركس، وهو 7000 دينار.

ذكر تمليك الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك العزيز الديار المصرية

ذكر تمليك الملك المنصور ناصر الدين محمد (¬1) ابن الملك العزيز الديار المصرية وخلف الملك العزيز الملك المنصور محمد، وكان عمره يوم توفى والده تسع سنين وشهورا. وكان الغالب على أمر (¬2) الملك العزيز فخر الدين جهاركس - وهو الحاكم في الدولة - فأحضر رجلا (¬3) من أصحاب الملك العادل وأراه الملك العزيز ميتا، وسيّره إلى الملك العادل وهو محاصر ماردين، يستدعيه إلى البلاد، فسار القاصد مجدّا. فلما كان بالشام رأى بعض أصحاب الملك الأفضل، وقال له: «قل لصاحبك إن أخاه الملك العزيز قد توفى، وليس في البلاد من يمنعها، فليسر (¬4) إليها»، [فأخبر الملك الأفضل بذلك] (¬5) فلم يلتفت الأفضل إلى هذا القول (26 ا). ومضى القاصد إلى الملك العادل فأخبره، فتوقف ليرد عليه بعد ذلك ما يعتمد عليه. وكانت الفرقة الأسدية والأكراد محبين للملك الأفضل، مؤثرين له؛ ¬

(¬1) ك: (أحمد) وهو خطأ. (¬2) هذا اللفظ ساقط من (ك) و (س). (¬3) (ك): «فأحضر رجلان من أصحاب الملك العادل وأراهما الملك العزيز ميتا، وسيره إلى الملك العادل» وهو خطأ واضح. (¬4) (س): «فليمض». (¬5) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ج 1، ص 137 ا).

والفرقة الصلاحية بالعكس من ذلك، لما كانوا قدموه من الإساءة إليه، وممالأة الملك العزيز عليه (¬1)، فكانوا مستوحشين (¬2) منه (¬3). فاجتمع فخر الدين جهاركس مقدّم الصلاحية، وسيف الدين ياركوج مقّدم الأسدية، ليتفقا على من يولى الملك. فقال فخر الدين: «تولى ابن الملك العزيز». فقال سيف الدين: «إنه طفل، وهذه البلاد ثغر الإسلام، ولا بد لها من قيّم يجمع العساكر ويقاتل بها، والرأى أنّا نجعل الملك في هذا الطفل، ونجعل معه بعض أولاد السلطان الملك الناصر يدبره إلى أن يكبر، فإن العساكر لا تنقاد (¬4) إلا لأمير». وكان الملك العزيز أوصى بالملك لولده، وأن يكون مدبرّه بهاء الدين قراقوش الأسدى. فاتفق فخر الدين [جهاركس] وسيف الدين على هذا الرأى. فقال فخر الدين: «فمن نولى؟» فأشار سيف الدين بغير الملك الأفضل لئلا يتّهم. فامتنع فخر الدين من ولايته. فلم يزل يذكر من أولاد السلطان واحدا بعد واحد إلى أن ذكر الملك الأفضل. ¬

(¬1) هذه الجملة ساقطة من (ك) و (س). (¬2) (ك): «متوحشين». (¬3) النص في (س): «فكانوا مستوحشين من الملك العزيز وخائفين من ابنه أن يتملك» (¬4) (ك): «فان العساكر بانتقاد الأمير».

هذا ما حكاه عز الدين بن الأثير

فقال فخر الدين: «هو بعيد عنا». فقال سيف الدين: «نطلبه من صرخد، (1) فيصل إلينا بسرعة (¬1)». فشرع فخر الدين يمغلطه. فقال سيف الدين: «نشاور القاضى الفاضل في ذلك». ثم اجتمعا بالقاضى الفاضل، وعرّفاه صورة الحال، فأشار الملك الأفضل. هذا ما حكاه عز الدين بن الأثير: وحكى غيره: أنه لما مات الملك العزيز اتفقت كلمة الأمراء على تنفيذ ما وصّى به الملك العزيز، وهو إقامة ابن الملك العزيز في الملك، وقيام بهاء الدين قراقوش بأتابكيته؛ فأجلسوا الملك لمنصور في مرتبة أبيه، وترتب بين يديه قراقوش، وحلفت الأمراء كلهم الملك المنصور، وامتنع عمّاه: الملك المؤيد، والملك المعز من الحلف (2) إلا بشرط أن تكون الأتابكية لهما، وجرت بينهما منازعة ومشاققة كثيرة، وأجابا بعد ذلك إلى الحلف (¬2)، وحلفا. ثم وقع الاختلاف بين أمراء الدولة، (26 ب) فقال قوم منهم: «لا بد لهذا الملك من رجل فحل مهيب يدبرّه، وقراقوش مضطرب الآراء، ضيق العطن، لا يصلح لهذا الأمر». وقال قوم: «نرضى بهذا الخادم، فإنه أطوع وأسلس (¬3) مقادة، ولا نحضر من يستطيل بسطوته (¬4) وقدرته». ¬

(¬1) هذه الجملة ساقطة من (ك). (¬2) س: «من الأيمان». (¬3) (س): «وأسوس». (¬4) هذا اللفظ ساقط من (ك).

وقال آخرون: «لا تحفظ هذه الديار إلا بملك مرهوب مخوف، وإن فيها بقايا من جند المصريين الذين (1) انتزعت البلاد من أيديهم قهرا، ويقصدها أعداء الدين (¬1) من جهة البحر، فمتى لم يقم بأمرها ملك قاهر لا تحفظ». وطال النزاع بينهم في ذلك، ففزعوا إلى رأى القاضى الفاضل، فقال لهم القاضى الفاضل: «إنى لا أشير عليكم بعزل أحد ولا ولاية أحد، لأن ذلك مما لا يوافق بعضكم فأستجلب عداوته، (2) ولكن اجتمعوا بعضكم ببعض وامخضوا بينكم الرأى، فإذا رضيتم أمرا فاعرضوه علىّ، ففعلوا ما أشار به، وتحاولوا بينهم الآراء ثلاثة أيام (¬2)، فاتفقت كلمتهم على مكاتبة الملك الأفضل على أن يقدم البلاد، ويكون أتابكا للملك المنصور سبع سنين، فإذا انتهى هذا الأجل سلّم الأمر إليه والتدبير، ويشترط على الملك الأفضل أن لا يرفع فوق رأسه سنجق، ولا يذكر إسمه في خطبة ولا سكّة. ولما اتفقوا على ذلك عرضوه على القاضى الفاضل. فقال: «قد أصبتم الرأى، واخترتم الذى اختاره السلطان الملك الناصر - رحمه الله - لكم، وهو ألين عريكة، وأسهل تناولا من غيره». فأرسلوا القصاد إلى الملك الأفضل يستدعونه، فلما وصلته القصّاد توجه إليهم مجدا. ¬

(¬1) هذه الجملة ساقطة من (ك). (¬2) هذه الفقرة ساقطة من (ك).

ذكر قيام الملك الأفضل بأتابكية ابن أخيه الملك المنصور بن الملك العزيز

ذكر قيام الملك الأفضل بأتابكية ابن أخيه الملك المنصور بن الملك العزيز وكان مسير الملك الأفضل من صرخد إلى الديار المصرية لليلتين بقيتا من صفر (1) من هذه السنة (¬1)، في تسعة عشر نفسا، متنكّرا خوفا على نفسه من أصحاب الملك العادل. ولما تقرر أمر الإرسال إليه في طلبه ارتأى فخر الدين جهاركس في نفسه، وتحقق أن الملك الأفضل لا يصلح له، فكاتب فارس الدين ميمون القصرى (27 ا) صاحب نابلس يشرح له الحال، ويعلمه أنه غير راض بما جرى، وأمره أن لا يطيع الملك الأفضل ولا يحلف له؛ فوقع الملك الأفضل بالقاصد الذى سيّره فخر الدين إلى ميمون، فأخذ منه كتاب فخر الدين فوقف عليه، ثم قال له: «ارجع فقد قضيت الحاجة». وسار الملك الأفضل مجدا وصحبته ذاك القاصد، وكان الأمراء قد أخرجوا خيمهم إلى بلبيس، (2) ونزلوا بها منتظرين وصول الملك الأفضل (¬2) ثم وصل الملك الأفضل بلبيس خامس ربيع الأول، وكان وصوله إليها من صرخد في سبعة أيام. ولقيه أخوته والأعيان والأمراء، وعمل له أخوه الملك المؤيد نجم الدين مسعود طعاما، وعمل له فخر الدين جهاركس طعاما، ووطّن نفسه على نزول الملك الأفضل عنده، فنزل الملك الأفضل في خيمة الملك المؤيد، فشقّ ذلك ¬

(¬1) هذه الكلمات ساقطة من (ك). (¬2) هذه الجملة ساقطة من (ك)

على فخر الدين، (1) وجاء إلى خدمة الملك الأفضل، فقام إليه وأكرمه وأجلسه قريبا منه. ثم لما فرغ من طعام أخيه صار إلى خيمة فخر الدين جهاركس فنزل فيها وأكل طعامه (¬1)، فحانت من فخر الدين التفاتة، فرأى قاصده الذى كان أرسله إلى ميمون القصرى، فدهش (2) لذلك وأسقط في يده (¬2)، واستوحش باطنه لعلمه بوقوف الملك الأفضل على سوء نيته ومقصده، فاستأذن الملك الأفضل في التوجه إلى العرب المختلفين بمصر (¬3) للإصلاح بينهم، فأذن له. فخرج، واجتمع (¬4) بزين الدين قراجا، وأسد الدين سرا سنقر، واتفق معهما على مفارقة الملك الأفضل، وأعلمهما أنه لا ينصلح لهم، فوافقاه على ذلك، (5) وسار مجدا إلى القدس، واتّبعاه، فوجدوا شجاع الدين طغرل السلحدار متوجها إلى مصر، فردّوه معهم، وقدموا القدس، واستمالوا ختلخ العزّى وإليه، فمال إليهم واستمالوا عز الدين أسامه، وميمون القصرى، فقدما عليهم (¬5)، ومع ميمون سبعمائة فارس منتخبة. ثم اتفقت كلمتهم على مكاتبة الملك العادل يستدعونه (6) ليقوم بأتابكية الملك المنصور (¬6)، وورد جوابه إليهم: أن لا يفارقوا مكانهم حتى يفرغ من ماردين، ويصل إليهم. ¬

(¬1) هذه الفقرة ساقطة من (ك) (¬2) هذه الجملة ساقطة من (ك) (¬3) هذا اللفظ ساقط من (ك) (¬4) (ك): «فخرج واجتمع» (¬5) النص في (ك) مختلف، وصيغته: «وساروا مجدين إلى القدس، واستمالوا صارم الدين فليج، ووجدوا شجاع الدين طغرل السلحدار متوجها إلى مصر، فردوه معهم، واستمالوا عز الدين أسامة وميمون القصرى، ومع ميمون. . . الخ» (¬6) هذه الجملة ساقطة من (ك)

ذكر مسير الملك الأفضل إلى دمشق

ثم سار الملك الأفضل (27 ب) من بلبيس إلى القاهرة، وكان الملك المنصور قد خرج إلى لقائه، فترجّل له الملك الأفضل، ودخل (¬1) بين يديه إلى دار الوزارة، وهى كانت مقر السلطنة. وكتب الملك الأفضل إلى عمه الملك العادل بأنه غير خارج عن الذى يأمره به، وأنه تحت حكمه، (2) ويستطلع أوامره ونواهيه (¬2) فيما يعتمده، فورد جوابه عليه بأن الملك العزيز (3) إن كان قدمات عن غير وصية فليكتب الأعيان خطوطهم له بذلك وشهادتهم له، حتى يرى رأيه؛ وإن كان قد مات عن وصية فلا يعدل عنها، ولا ينبغى له التعرض إلى ديار مصر (¬3). ذكر مسير الملك الأفضل إلى دمشق وعزم الملك الأفضل على قبض من بقى عنده من الأمراء الصلاحية، فهرب بهرام الرومى، وبهرام القاجى، وفخر الدين الحجاد (¬4) وجماعة من المغاردة (¬5) لما علموا ذلك ولحقوا بالقدس. ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من (ك) (¬2) هذه الجملة ساقطة من (ك) (¬3) النص في (ك) مختلف عما هنا، وصيغته: «إن مات عن غير وصية فليكتب الأعيان خطوطهم، وإن مات عن وصية فلا يعدلوا عنه، ولا ينبغي له التعرض إلى مصر» (¬4) كذا في الأصل، وفى (ك): «فخر الدين الحاجب» وفى س (ص 139 ا): فخر الدين الكفدانى»، ولم أستطع ترجيح إحدى القراءات إذا لم يرد لهذا القائد ذكر في المراجع الأخرى التي أرخت لهذا العصر. (¬5) هذا نص لة أهمية قصوى لمن يدرس تاريخ الجيش في العصر الأيوبى والمملوك، فهو يدل على أن لفظ «المغاردة» استعمل في الجيش الأيوبى منذ بدايته، والمغاردة (جمع مغردى) نوع من عساكر الجيش في ذلك العصر، وأغلب الطن أنهم كانوا أحرارا ولم يكونوا من المماليك؛ ففى كتاب السلوك للمقريزى مثلا نصوص مختلفة ذكرت المغاردة على أنهم عنصر آخر غير المماليك =

وقبض الملك الأفضل على من بقى (¬1)، منهم علاء الدين شقير، وعز الدين البكى (¬2) الفارس، وأيبك فطيس. وبرز الملك الأفضل إلى بركة الجب (¬3)، وأقام بها أربعة أشهر، واستحلف بها الأمراء والجند. وبلغه عن أخيه الملك المؤيد [مسعود] (¬4) أنه يريد الوثوب عليه (¬5)، فقبض عليه (¬6)، واعتقله، وأرسل الملك الظاهر موفق الدين بن النخاس إلى الملك الأفضل يحرضه على سرعة السير إلى دمشق، واغتنام الفرصة في أخذها. فلما مرّ موفق الدين بالقدس قبض عليه الصلاحية وأهانوه، ثم استخلصه منهم ميمون القصرى، وردّه إلى حلب، فأرسل الملك الظاهر وزيره نظام الدين الكاتب، وحملّه رسالة إلى الصلاحية بالقدس، يعرفهم أنه إنما أرسل إلى أخيه في إصلاح ذات البين، وحمّله رسالة في الباطن إلى الملك الأفضل يستحثه فيها على الخروج، وأمر نظام الدين أن لا يفارقه حتى يخرج. ¬

= منها على سبيل المثال: «وجمعت الأمراء والمغاردة وغيرهم، وقرئت عليهم الكتب» (السلوك 1/ 480)، و «خلع (السلطان على الأمراء والمغاردة والمقدمين وجميع حاشيته وغلمانه» (السلوك 1/ 493) و «وأعطي الأجناد والمغاردة من الحلقة والمقدمين والبحرية» (1/ 507) و «وخلعه لكل مغردى أو مملوك أو جندى (السلوك، 1/ 922). . إلخ وأغلب الظن كذلك أنهم سموا بهذا الإسم لتبعيتهم المباشرة لديوان المفرد، وكانت تخرج منه نفقة المماليك من جامكيات وعلق وكسوة الخ (¬1) النص في (ك) وهربوا إلى القدس، وبقى منهم علاء الدين. . الخ (¬2) (ك): «عز الدين أيبك» وما بالمتن هو الصحيح، فهكذا رسم الاسم في (ابن الأثير) الكامل، ج 12، ص 55 و (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 148) (¬3) (ك): «بركة الحبش» وهو خطأ واضح، أنظر ما فات هنا، ص (¬4) زيد ما بين الحاصرتين عن (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 148) حيث ينقل عن مفرج الكروب. (¬5) (ك): «إليه» (¬6) هذان اللفظان ساقطان من (ك)

ذكر وصول الملك الأفضل إلى دمشق ومنازلته لها

فاجتمع نظام الدين مع الصلاحية وخدعهم حتى مكنوه من الذهاب إلى مصر (¬1)، [ورجع نظام الدين إلى حلب، فوصل موفق الدين إلى عند الملك الأفضل، وأخبره بما قال الملك الظاهر] (¬2). ثم رحل الملك الأفضل من البركة ثالث رجب سائرا إلى دمشق، وكاتبت الصلاحية الملك العادل يخبرونه بقصد الملك الأفضل دمشق. ذكر وصول الملك الأفضل إلى دمشق ومنازلته لها ورتّب الملك العادل ولده الملك الكامل ناصر الدين محمدا على حصار قلعة ماردين، وسار في مائتى فارس إلى دمشق مجدا، ودخلها في ثمانية أنفس، وتبعه الباقون، ومن جملتهم بدر الدين دلدرم الياروقى، وعز الدين بن المقدم، وحسام الدين - صاحب عين تاب -، وكان دخوله إليها قبل منازلة الملك الأفضل لها بيومين. ونزل الملك الأفضل على جسر الخشب ثالث عشر شعبان، وزحف من الغد إلى البلد، وجرى قتال عظيم، ثم تقدم الملك الأفضل إلى الشرفين (¬3) والميدان الأخضر، وضرب دهليزه به. ¬

(¬1) هذه الفقرة ساقطة من (ك). (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن س. (¬3) (س): «الباب الشرقى».

ذكر هجوم بعض العسكر دمشق ثم خروجهم عنها مقهورين

ذكر هجوم بعض العسكر دمشق ثم خروجهم عنها مقهورين وتقدم مجد الدين أخو الفقيه عيسى الهكارى في جمع [قليل] (¬1) من العسكر قليل، فهجموا دمشق من باب السلامة (¬2)، بموافقة أمير يقال له شجاع [الدين] (¬3) يونس من الأكراد فدخلوا دمشق واخترقوها، ووصلوا إلى باب جيرون وباب البريد (¬4)، وشرب بعضهم الفقاع في المدينة، فكاد العسكر الذى بها يستسلم، ونزلوا عن الأسوار. وصاح مجد الدين: «يا أفضل يا منصور»، وصاحت (5) معهم العامة. لميلهم كان إلى الملك الأفضل (¬5)، ولم يتصل بهم مدد من خلفهم، وطمع الجند (¬6) الذين في البلد فيهم فطاردوهم، وخافوا لما رأوا أنه لا مدد لهم من ورائهم، فطلبوا باب الفراديس، وكسروا أقفاله، وخرجوا منه. وخرج الملك العادل من القلعة طالبا باب السلامة، فوجد ابن أخيه الملك الظافر قد قصده، ودخل منه جماعة، فحمل عليهم الملك العادل، ومعه بدر الدين دلدرم الياروقى، وعز الدين بن المقدم، وجماعة يناهزون سبعين فارسا، فأخرجوهم ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) (¬2) سمي بهذا الاسم تفاؤلا، لأنه لا يتهيأ القتال على البلد من ناحيته لما دونه من الأنهار والأشجار راجع: (ابن شداد: الأعلاق الخطيرة - تاريخ مدينة دمشق -، ص 35) (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) (¬4) للتعريف بهذين البابين أنظر المرجع السابق. (¬5) صيغة (ك): «وصاحت العامة مثلهم» (¬6) (ك): «الخيل»

ذكر تأخر الملك الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة

من البلد (¬1)؛ ثم أمر الملك العادل بغلقه (2) وحفظه على سائر الأبواب (¬2)، ورتّب على كل منها (¬3) جماعة. وقفز إلى البلد [الأمير] (¬4) رأس الكبش، وسنقر العزيزى (¬5)، وغيرهما (28 ب) فخلع الملك العادل عليهم وأحسن إليهم. ذكر تأخر الملك الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة ثم قفز من عسكر الملك الأفضل [إلى دمشق] (¬6) طغرل المهرانى، ومعه قطعة من العسكر، فقويت نفس الملك العادل بذلك، وكاتب علم الدين كرجى، وعز الدين درباس المهرانى، (¬7) وذكّرهما ما كان بينه وبينهما من الصحبة، وقال لهما: «إن بنى أخى لو ظفروا بى أهانونى، وكسروا ناموسى، وأنا مقصودى أن أذهب بمالى وأهلى وحرمى إلى الشرق وأترك لهم ملك مصر والشام، فتساعدوننى بتفنيد الملك الأفضل عن الحرب، وتوقفونه عنه، فيحصل غرصى وغرضهم، وتحصلون أنتم على الأجر»؛ وبعث لهما مالا جزيلا. ¬

(¬1) (ك): «الباب» (¬2) هذه الجملة ساقطة من (ك) (¬3) (ك) «على كل باب منها» (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬5) (س): «وسيف الدين العزيزى» (¬6) ما بين الحاصرتين زياده عن (س). (¬7) النص في (ك) مختلف كثيرا عماهنا، وهو: «وسبّر إلى علم الدين كرجي وعز الدين درباس المهرانى شىء (كذا) من المال وقال: اشتهي منكم تفندوا ابن أخي عن الحرب، فان غرضى أتوجه إلى الشرق، وأخلى لهم الشام ومصر، فأشاروا على الأفضل بالتأنى، فكاتب الملك العادل أمراء العسكر بالرغبة والرهبة، فدخل إلى دمشق - الخ»

ذكر وصول الملك الظاهر إلى ظاهر دمشق نجدة لأخيه الملك الأفضل

فأشارا على الملك الأفضل بالتوقف، وأن ينتظر قدوم الملك الظاهر، فيقع الاتفاق معه على المصلحة، فتوقف الملك الأفضل مدة. وشرع الملك العادل في تلك المدة يكاتب أمراء العسكر بالرغبة والرهبة وبذل المال، فدخل دمشق جماعة من الأمراء منهم: سيف الدين على بن مهران، وفخر الدين إياس البانياسى، وحسام الدين عيسى بن خوشترين، (1) وأخوه سيف الدين، وسابق الدين مثقال الجمدار، وجماعة من المفاردة؛ وبذل لهم الملك العادل العطاء، واستدان جملة من أموال التجار، وأنفقها في المقفرين إليه، فتواصلوا إليه. وعلم الملك الأفضل انتقاض أمره، فتأخر إلى ذيل عقبة الكسوة (¬1). ذكر وصول الملك الظاهر (2) إلى ظاهر دمشق (¬2) نجدة لأخيه الملك الأفضل ورحل الملك الظاهر من حلب (3) متوجها إلى إنجاد أخيه الملك الأفضل (¬3)، ولما وصل إلى حماة اجتمع به صاحبها الملك المنصور، وكان قد وافقه وحلف له، فبعث معه شطرا من عسكره، واستأذنه في قصد بعرين، وأخذها من عز الدين ابن المقدم، فأذن له في ذلك. ¬

(¬1) صيغة (ك) مختلفة عما هنا، ونصها: «وأخوه سابق الدين، واستدان جملة من أموال التجار، وبذل لهم الأموال، فلما رأى الملك الأفضل ذلك تأخر إلى ذيل العقبة» (¬2) هذه الكلمات ساقطة من (ك). (¬3) هذه الجملة ساقطة من (ك)

ذكر تقدم الملكين الأفضل والظاهر إلى دمشق ومضايقتهما لها

ولما وصل الملك الظاهر إلى (29 ا) حمص خرج إلى خدمته صاحبها الملك المجاهد أسد الدين، وتوجه معه بعسكره (¬1). (2) ولما قدم الملك الظاهر إلى معسكر أخيه الملك الأفضل قوى قلبه به، ونزل في ميمنة العسكر (¬2). ذكر تقدم الملكين (3) الأفضل والظاهر إلى دمشق ومضايقتهما لها (¬3) (4) ثم تقدم الملك الأفضل والملك الظاهر إلى دمشق، ونزلا فوق مسجد القدم، وأخذا في الحرب والقتال، وقلّت الأقوات بدمشق، وطال على أهلها مدة الحصار (¬4). وكان الملك العادل قد بعث إلى الأمراء الصلاحية المقيمين بالقدس يستدعيهم إليه، فأقبلوا متوجهين إليه، ولما علم ذلك الملك الأفضل جرّد عسكرا، وقدّم عليهم الملك المجاهد - صاحب حمص - ليحولوا بين الصلاحية ودخول دمشق (¬5)، ثم أردفهم بجماعة من الأسدية وعسكر حلب. فقدمت الصلاحية إلى دمشق من غير الطريق التي توجه الملك المجاهد إليها، ¬

(¬1) النص في (ك): «مجهز معه شطر عسكره (كذا)، ولما قدم الملك الظاهر إلى أخيه وكان قد شاوره صاحب حماة على حصار بعربن وأخذها من ابن المقدم» (¬2) الصيغة في (ك): «ولما وصل الملك الظاهر إلى الأفضل قوى قلبه به». (¬3) هذا الجزء من العنوان غير موجود في (ك). (¬4) الصيغة في (ك) مختلفة عما هنا، ونصها: «ثم تقدم الملك الأفضل والملك الظاهر وباشرا القتال، وضايقا دمشق، وقلت الأقوات على أهلها» (¬5) النص في (س): ليمنعوا الصلاحية من دخول دمشق».

ودخلوا من جهة عقبة مدره، واستقروا بدمشق سالمين، فقوى بهم الملك العادل. ثم جرّد الملك الأفضل شجاع الدين جوهر الخادم ليقصد الغور وما يليه، ويحمل الغلال إلى المعسكر، فسيّر الملك العادل عزّ الدين أسامة، والجحّاف إلى مقاتلة جوهر، وكان ميمون القصرى بنابلس، فالتقى بعسكر الملك العادل بظهر حمار، وانضاف إليهم، ولقوا جوهرا وقاتلوه، فأصاب جوهرا سهم غرب كانت فيه منيته، وولّي أصحابه مدبرين. فعظم على الملك الأفضل، ومضى العسكر العادلى إلى القدس، وأخذوا في قطع الميرة الواصلة من مصر إلى عسكر الملك الأفضل، فتضرروا بذلك [غاية الضرر] (¬1) واشتدت مضايقة الملكين الأفضل والظاهر لدمشق، وقلّت الأقوات عد (¬2) الملك العادل فجعل يستقرض من التجار ويحيلهم على قلعة جعبر، وكانت فيها أمواله، (3) وتخرّق في العطاء جدا لكنه أنس من الأجناد فشلا وضجرا (¬3)، ونال أهل دمشق من الغلاء ما تمنوا معه الموت. (29 ب) وزحف الملك الظاهر يوما إلى البلد، ووصل الحلبيون النقابون إلى السور ونقبوه، وما بقى لهم مانع دون البلد. وعاد الملك الظاهر [عند انصرام النهار إلى مخيمه وهو] (¬4) على عزم المباكرة والزحف. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬2) الأصل: «على»، والتصحيح عن (س) (¬3) مكان هذه الجملة في (س): «وطلبوا منه العسكر نفقة فلم يجد شيئا يعطيهم، فعند ذلك فشلوا عن القتال وضجروا، فلما علم الملك العادل ذلك أيقن بذهاب دمشق منه» (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س)

ذكر استيلاء الملك المنصور صاحب حماة على بعرين

وعزم الملك العادل على تسليم البلد لولا ما حدث من الاختلاف بين الملكين على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وخرجت هذه السنة والبلد محاصر مضايق (¬1). ذكر استيلاء الملك المنصور صاحب حماة على بعرين (2) وفى شهر رمضان من هذه السنة قصد الملك المنصور - صاحب حماة - بعرين، وبها نواب عز الدين إبراهيم بن المقدم، وبعض جنده، وضايقها مضايقة شديدة، وجدّ في الزحف على قلعتها، ونصب عليها المجانيق، وحصلت له جراحة حال الزحف، ثم فتحها في التاسع والعشرين من ذى القعدة (¬2). وبعث إلى الملكين الأفضل والظاهر يبشرهما بذلك، فسرّا به كثيرا، وأمرا فضربت البشائر في معسكريهما. (3) وأقام الملك المنصور بها مداويا لجراحته، وعيّد عيد الأضحى بها، وأصلح ما تهدم من سورها (¬3). ¬

(¬1) الخلاف واضح جدا بين النسختين، نسخة الأصل ونسخة كامبردج، ويبدو أن نسخة كامبردج هى النسخة الأولى التي كتبها المؤلف، ولكنه أعاد النظر فيها بعد ذلك، فعدل في النص كثيرا وأضاف إليه، والنسخة المعدلة هي نسخة استانبول التي اعتمدناها أصلا للنشر هنا، وخير مثال يؤكد ما ذكرناه أن هذه السطور وتبلغ صفحة في الأصل يقابلها في نسخة (ك) سطور قليلة هذا نصها:» وأن العادل أرسل إلى الأمراء الصلاحية الذين في القدس يستدعيهم، فعلم الأفضل بذلك، فجرد إليهم عسكرا، فخالفوهم في الطريق، فوصلوا إلى دمشق سالمين، وزحف الملك الظاهر يوما إلى البلد، ووصل النقابون إليه، ولم يبق إلا أخذها، لولا ما حدث من الاختلاف بين الملسكين على ما سنذكره». (¬2) الصيغة في (ك) مختلفة، ونصها: «فان الملك المنصور كما ذكرنا أخذ إذن الملك الظاهر وضايقها، ونصب عليها المجانيق، ثم فتحها في التاسع والعشرين من ذى القعدة» (¬3) هذه الفقرة ساقطة من (ك)

ذكر رحيل الملك الكامل بن الملك العادل

ذكر رحيل الملك الكامل بن الملك العادل عن ماردين وكانت رسل الملك الأفضل قد جاءت إلى نور الدين أرسلان بن مسعود - صاحب الموصل - تطلب منه موافقته (¬1) على الملك العادل، فأجابه إلى ذلك، وصالح ابن عمه قطب الدين بن عماد الدين - صاحب سنجار -، واتفقا على إنجاد صاحب ماردين على الملك الكامل. ثم سار نور الدين وقطب الدين بعساكر الموصل وسنجار والجزيرة، ونزلوا أسفل جبل ماردين. وشرع نور الدين في جمع الرجّالة ليزحف إلى الربض، وبه الملك الكامل، ويساعدهم عليه أهل القلعة من فوق. ولو أقام الملك الكامل في الربض لما تمكن عسكر الموصل منه، وكان قد تمكن تمكنا شديدا، وضاق خناق أهل القلعة حتى لم يبق إلا تسليمها إليه. فاتفق أن الملك الكامل نزل إلى الوطا، ولم يكن [ذلك] (¬2) رأيا، فوقعت الحرب بين الملك الكامل والمواصلة، وكانوا أكثر منه جمعا، (30 ا) فلم يثبت لهم، وانهزم مصعدا إلى الجبل، وأسر من أصحابه جماعة، ثم أطلقهم نور الدين؛ فرحل الملك الكامل ليلا إلى ميّافارقين، ثم منها إلى حرّان. ¬

(¬1) (ك): «نجدته (¬2) ما بين الحاصرتين عن (س)

وفى هذه السنة توفى مجاهد الدين قايماز (¬1) نائب المملكة بالموصل، وكان ديّنا عادلا، وهو الذى ينسب إليه الجامع المجاهدى (¬2) بظاهر الموصل (¬3). ¬

(¬1) أبو منصور مجاهد الدين قايماز بن عبد الله الزينى من أهل سجستان، اشتراه زين الدين والد الملك المعظم مظفر الدين كوكبورى صاحب إربل وقدمه في دولته حتى صار صاحب الأمر فيها وانتفل في سنة 571 هـ‍ (1175 م) إلى الموصل وتولى دزدارية قلعتها وصار من أرباب الدولة الذين يعتمد عليهم في أمورها. أنظر: (سعيد الديه جي: الموصل في العهد الأتابكى، ص 131 و (ياسين بن خير الله الخطيب العمرى: منية الأدباء في تاريخ الموصل الحدباء، نشر سعيد الديوه جي ص 63 - 65، 67، 99) (¬2) كان مجاهد الدين قايماز من الحكام البنائين المحبين للعمران، وقد أقام في الموصل منشآت دينية وعلمية وخيرية كثيرة، منها: الجامع والمارستان والجسر، والرباط، ومكتب الأيتام، والمدرسة، وكلها تنسب إليه رتسمي باسمه، فيقال الجامع المجاهدى، والمدرسة المجاهدية والرباط المجاهدى. . . الخ وقد بدئ في بناء الجامع المجاهدى في سنة 572 هـ‍، وباشر البناء مهرة البنائين والفنانين وصرفت عليه مبالغ طائلة، وأقيمت فيه صلاة الجمعة في سنة 575 قبل أن تكمل عمارة مرافقة، وتم بناؤه في سنة 576 وقد زين الجامع بزخارف وكتابات جميلة بعضها بالجبس، والبعض الآخر بالآجر وبالمرمر المطعم بالصدف. وقد زار الرحالة المعروف ابن جبير مدينة الموصل في سنة 580 هـ‍ وصلى في هذا الجامع، ووصفه وصفا رائعا، قال: «وأحدث فيه بعض أمراء البلدة - وكان يعرف بمجاهد الدين - جامعا على شط دجلة ما أرى وضع جامع أحفل منه بناء، يقصر الوصف عنه، وعن تزيينه وترتيبه، وكل ذلك في نقش الآجر، وأما مقصورته فنذكر بمقاصير الجنة، ويطيف به شبابيك حديد تتصل بها مصاطب تشرف على دجلة لا مقعد أشرف منها ولا أحسن. . . الخ» والجامع لا يزال موجودا حتى اليوم ويعرف بجامع الخضر أو الجامع الأحمر، ولكنه أصغر حجما مما كان عليه يوم بنى، وأجمل ما بقى منه محراب من العصر الأتابكى في أعلاه زخارف من الجيس فريدة في نوعها، فهي تتألف من زخارف نباتية تتخللها صور حيوانات كالأسد والغزال وطيور أليفة كالبط والحمام، متداخلة تداخلا كليا مع غيرها من الزخارف بصورة متناظرة بحيث تكون الصور متممة للزخارف النباتية ويصعب على الناظر تمييز ما فيها لأول وهلة. أنظر: (سعيد الديوه جي: الجامع المجاهدى في مختلف القصور، مجلة سومر، 11/ 177 - 187) و (نفس المؤلف: الموصل في العهد الأتابكى، ص 131 - 133) (¬3) النص في (ك) موجز ومختلف عما هنا، وهو: «فصالح ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار، واتفقا على إنجاد صاحب ماردين، ورحلوا وساروا، ونزلوا سفح جبل ماردين وكان الملك الكامل قد ضيق على أهل ماردين فوقعت الحرب بينه وبين المواصلة، فلم يثبت لهم وانهزم وأسر من أصحابه جماعة فأطلقهم نور الدين».

ودخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة

ودخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة والملكان الأفضل والظاهر محاصران لمدينة دمشق مضايقان لها. ذكر وصول الملك الكامل بن الملك العادل إلى دمشق لما اشتد الحصار على الملك العادل بدمشق (¬1)، وغلت الأقوات، وقلّ ما بيده، فارقه جماعة من أصحابه وخرجوا إلى الملك الأفضل. منهم شمس الدين الدكر. (¬2) الكبير العادلى (¬3)، وفخر الدين البانياس، وقاسم الدين، وجميع أصحاب صارم الدين قايماز النجمى. فاجتمع عند ذلك (¬4) جماعة من الصلاحية وغيرهم (¬5) من أكابر الأمراء عند الملك العادل، وقالوا: «السلطان يعلم أنه لا مال عنده بدمشق، والأجناد والعامة لا يقاتلون إلا بالمال، والأموال التي لك بالكرك وقلعة جعبر لا وصلة ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في (س). (¬2) في الأصل و (ك): «الذكر»، والتصحيح عن (س) (ج 1، ص 141 ب) (¬3) عند هذا اللفظ ينقطع النص في نسخة (س)، وبذلك تقف المقابلة. (¬4) (ك): «عنده» (¬5) الصيغة في (ك) مختلفة عما هنا كثيرا ومضطربة، ونصها:» من الأمراء، وقالوا: السلطان الملك العادل نعلم أن لامال له بدمشق، والأموال بالكرك، ولا وصول إليها، فحضروا بين يدى الملك العادل باقى امراء، وقالوا: إن المصلحة تستدعي ولدك الملك الكامل من الشرق بمن معه من العسكر، ويستصحب معه من الأموال ما تتقووا به والا نهلك ونملك وتذهب أنفسنا مع أولاد أخيك، فأجابهم إلى ذلك، وكتب إلى ولده الملك، الكامل يصل بمن معه من العسكر ويضر معه المال من قلعة جعبر ما يقوى به العسكر.

لك إليها، ونحن فقد هلكنا وضاق الأمر علينا، وقد بقى رأى واحد، إن أجبت إليه كانت فيه المصلحة، وإلا فاعلم أن دمشق تخرج من يدك، وتذهب أنفسنا مع الملوك أولاد أخيك، وهو أن تستدعى ولدك الملك الكامل من الشرق بجميع من معه من العسكر، ويستصحب معه من الأموال ما تتقوى به». فأجابهم إلى ذلك، وكتب إلى ولده الملك الكامل ليصل بمن بقى معه من العسكر، ومعه من المال ما يتقوى به الجند. وكتب إلى النائب بقلعة جعبر أن يسلم إلى الملك الكامل ما يستدعيه منه. فسار الملك الكامل في العسكر الذى معه، ونزل بقلعة جعبر، واستدعى من النائب بها أربعمائة ألف دينار، وسار مجدا إلى دمشق، ولما سمع الملكان الأفضل والظاهر بقدومه أخذا في التحيّل للقائه، وصدّه عن دمشق، ووقع اتفاقهما على أن ينفذا (30 ب) الملك المجاهد - صاحب حمص - ويكتبا إلى الملك المنصور - صاحب حماة - ليتوجه معه إلى لقائه. (1) فشرعوا في كتب الكتب إلى الملك المنصور في ذلك (1)، وعينوا جماعة من عسكر مصر يسيرون معهما. ثم قال الملك الظاهر: «أنا أسير بنفس وألقاه». فقال له الملك الأفضل: «إن رحلت لا تقوى نفسى على المقام بعدك (1) ساعة واحدة». فوقعت الفترة عن قصده (¬1) وصده. ووصل الملك الكامل (2) بمن معه من العسكر وما معه من المال سالما (¬2)، فقويت نفس أبيه به قوة عظيمة، وأيقن بظهور أمره واستيلائه. ¬

(¬1) هذه الفقرة ساقطة من (ك). (¬2) (ك): «ووصل الملك الكامل بالمال والعسكر»

ذكر وقوع الخلف بين الملكين: الأفضل والظاهر

ذكر وقوع الخلف بين الملكين: الأفضل والظاهر ولما استقر الملك الكامل وعسكره عند أبيه ظهر الوهن في عسكر الملك الأفضل، (1) وكثرت المخامرة والنفاق فيه (¬1)، وانحلت بذلك العزائم، ووقع من المفاسد القبيحة أن الملك الظاهر كان له مملوك خاص يؤثره (2) ويميل إليه جدا (¬2)، يقال له أيبك، فقد في عسكره، (3) فاغتم الملك الظاهر لفقده وعظم عليه ذهابه (¬3)، وظنّ أنه دخل إلى دمشق، فأنفذ إلى دمشق من يكشف خبره منها، واطلع الملك العادل على هذه الواقعة، فأرسل إلى الملك الظاهر يقول له: «إن محمود بن الشكرى أفسد غلامك، وحمله إلى أخيك الأفضل». فقبض الملك الظاهر على ابن الشكرى (¬4)، فظهر (¬5) المملوك عنده، فنفر قلب الملك الظاهر من أخيه الملك الأفضل، وامتنع (6) من لقائه مدة، وتقاعد (¬6) عن الحرب. ¬

(¬1) (ك): «وكثرت المخامرين» (¬2) (ك): «ويحبه حبا شديدا» (¬3) هذه الفقرة ساقطة من (ك) (¬4) (ك): «السكرى» (¬5) (ك) «فطلع» (¬6) هذه الجملة ساقطة من (ك)

ذكر تأخر العسكر إلى رأس الماء ثم تفرقهم

ذكر تأخر العسكر إلى رأس الماء ثم تفرقهم ولما وقعت النفرة عند الملك الظاهر من أخيه، واشتد البرد، وكثرت الأمطار، رحل الملكان: (1) الأفضل والظاهر (¬1) إلى سطح الكسوة، وعزم الملك الأفضل على المقام (¬2) هناك، ثم تغيّر (¬3) هذا العزم، فرحل هو والظاهر إلى مرج الصّفّر، فأقاما به إلى أواخر صفر من هذه السنة، ثم سارا إلى رأس الماء، وعزما على المقام به إلى أن ينسلخ الشتاء، فاشتد البرد وتواترت الأمطار، (31 ا) وغلت الأسعار جدا، فاجتمع الملك الأفضل بأخيه الملك الظاهر، ووقع اتفاقهما على الرحيل، وتأخير حصار دمشق إلى وقت انصرام الشتاء، ودخول الربيع، ووافقهما الأمراء على ذلك، فسار الملك الظاهر على القريتين، وسار الملك الأفضل قاصدا ديار مصر، وأحرقوا عند رحيلهم مالم يتمكنوا من حمله من الأثقال والخيم والغلات (¬4)، وأحرق الملك الأفضل خيمة أهداها له الملك الظاهر كانت (¬5) ثلاثين حملا، وهلك للملك الظاهر جماعة من مماليكه، ونفقت له دواب كثيرة بسبب فرط البرد (¬6) وعدم الأقوات والعلوفات، ووصل إلى حلب سادس شهر ربيع الأول. ¬

(¬1) هاتان الكلمتان ساقطتان من (ك) (¬2) (ك) «أن يقيم» (¬3) (ك): «ثم انثنى العزم» (¬4) مكان هذه الفقرة في (ك): «وأجتمع الأفضل بأخيه، ووقع أتفاقهما على الرحيل، وسار الملك الظاهر على القريتين، وسار الأفضل قاصدا ديار مصر، وأحرقوا من الأثقال ما لم يتمكنوا من حملة»، والفرق بين النسختين واضح، وفيه دليل كاف على أفضلية نسخه الأصل على نسخة (ك) (¬5) هذا اللفظ ساقط من (ك) (¬6) (ك): «لشده البرد، ووصل إلى حلب»

ذكر مسير الملك العادل إلى الديار المصرية

ولما وصل الملك الأفضل إلى أوائل الديار المصرية فارقه معظم العسكر، وتفرقوا في البلاد لإخراج دوابهم إلى الربيع، ودخل الملك الأفضل إلى القاهرة في جمع قليل. ذكر (¬1) مسير الملك العادل إلى الديار المصرية وكان الملك العادل وهو محصور يهيىء القرب والبقسماط وكل ما يحتاج إليه لدخول الرمل، فعلم الناس من ذلك أنه كان مباطنا لبعض العسكر المصرى، وتحققوا أنه يملك مصر. ولما سافر الملك الأفضل راجعا إلى مصر رحل الملك العادل من دمشق ومعه الأمراء الصلاحية، وردّ ابنه الملك الكامل في عسكره إلى الشرق. ومضى الملك العادل يطوى المراحل إلى أن دخل الرمل. وبلغ الملك الأفضل ذلك، فرام جمع عساكره، فتعذّر ذلك عليه لتفرقهم في أخبارهم (¬2)، وتشتتهم في الأماكن التي يربعون فيها خيلهم، فخرج في جمع قليل، ونزل السانح. ووصل الملك العادل، وضرب معه مصافا، فانكسر عسكر الملك الأفضل وولوا منهزمين لا يلوون على شىء، وكان فيهم جماعة مخاسرون مع الملك العادل. ¬

(¬1) قبل هذا اللفظ في نسخة (ك) توجد البسملة بخط كبير في أول الصفحة ويليها «رب يسر وأعن»، ويبدو أن كاتب هذه النسخة كان يريد أن يقسم الكتاب إلى أجزاء، فجعل الجزء الثانى يبدأ بمسير الملك العادل إلى مصر وتملكه لها، ولهذا بدأ هذا الجزء بالبسملة في صفحة جديدة، أما نسخة الأصل فالحوادث فيها متصلة غير منقطعة أو مجزأة (¬2) الخبز (ج: أخباز) بمعنى الإقطاع

ذكر منازلة الملك العادل القاهرة وتسلمه لها وقيامه بأتابكية الملك المنصور بن الملك العزيز

ذكر منازلة الملك العادل القاهرة وتسلمه لها (¬1) وقيامه بأتابكية الملك المنصور بن الملك العزيز ثم سار الملك العادل بالعساكر، ونزل بركة الجبّ، وسيّر إلى الملك الأفضل (31 ب) يقول له: «أنا لا أحب أن أكسر ناموس القاهرة، لأنها أعظم معاقل الإسلام، ولا تحوجنى إلى أخذها بالسيف، واذهب إلى صرخد وأنت آمن على نفسك» (¬2). فاستشار الملك الأفضل الأمراء، فرأى منهم تخاذلا، فأرسل إلى عمه يطلب منه أن يعوّضه عن الديار المصرية [بالشام] (¬3)، فامتنع من ذلك، فطلب أن يعوّضه حّران والرّها فامتنع، فطلب منه جانى وجبل جور، وميّا فارقين، وسميساط، فأجابه إلى ذلك، وتسلّم القاهرة منه. وكانت مدة مقام الملك العادل بالبركة ثمانية أيام. ودخل القاهرة في الحادى والعشرين من ربيع الآخر. وتوفى القاضى الفاضل عبد الرحيم بن على البيسانى - رحمه الله - في سابع عشر ربيع الآخر، وهو اليوم الذى خرج فيه الملك الأفضل من القاهرة. ¬

(¬1) (ك): «إياها» (¬2) لاحظ هو التعبير ودلالته التاريخية، فهكذا كانت مصر وكانت مكانتها على طول عصور التاريخ الإسلامى (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) ص 83؛

ذكر استقلال الملك العادل بالسلطة وإزالة أمر الملك المنصور بن الملك العزيز

وذكر عز الدين بن الأثير: أنه توفى في الليلة التي دخل فيها الملك الأفضل إلى القاهرة بعد انهزامه من السانح، وصلى على القاضى الفاضل - رحمه الله - وكان مولد القاضى الفاضل على ما بلغنى سنة ست وعشرين وخمسمائة، فكان عمره نحو سبعين سنة، ولقد ختمت به صناعة الإنشاء. ثم سافر الملك الأفضل إلى صرخد بعد اجتماعه بعمه الملك العادل. ذكر استقلال (¬1) الملك العادل بالسلطة وإزالة أمر الملك المنصور بن الملك العزيز ولما استقر الملك العادل بالقاهرة أبقى الملك المنصور على اسم السلطنة، فإن الصلاحية إنما حلفوا له ووافقوا على أن يكون أتابكا للملك المنصور، إلى أن يكبر ويسلّم البلاد إليه، فأظهر ذلك أياما، ثم عزم على إبطال ذلك. (2) وكانت الأيمان قد تقررت على ذلك (¬2) يوم الخميس الثانى والعشرين من ربيع الآخر، وهو ثانى يوم دخول الملك العادل؛ وفى الخميس الآخر انتقض هذا الأمر. ¬

(¬1) الأصل: «استيلاء»، والتصحيح عن (ك) (¬2) هذه الجملة ساقطة من (ك)

وذكر عز الدين بن الأثير: أن الأمر إنما انتقض في شوال من هذه السنة، وذكر أن السبب في ذلك أن الملك العادل أحضر جماعة من الأمراء (32 ا) ممن يعلم ميلهم إليه، وقال: «إنه قبيح بى أن أكون أتابكا لصبى مع الشيخوخة والتقدم، مع أن الملك ليس هو بالميراث، وإنما هو لمن غلب، ولقد كان يجب أن أكون بعد أخى السلطان الملك الناصر - رحمه الله - صاحب الأمر، غير أنى تركت ذلك إكراما لأخى ورعاية لحقه. فلما حصل من الاختلاف ما حصل خفت أن يخرج الملك من يدى ويد أولاد أخى، فمشّيت الأمر إلى آخره، فلم أر الأمر يصلح إلا بقيامى فيه، ونهوضى بأعبائه. ولما ملكت هذا البلد وطنّت نفسى على القيام بأتابكية هذا الصبى حتى يبلغ أشدّه، فرأيت العصبيات غير (¬1) مقلعة، والفتن ليست زائلة، فخشيت أن يطرأ علىّ ما طرأ على الأفضل، ولا آمن أن يجتمع جماعة ويطلبون إقامة آخر، وما أعلم ما يكون عاقبة ذلك. وأنا أرى أن هذا الصبى يمضى إلى الكتّاب، وأقيم له من يؤدبه ويعلّمه؛ فإذا بلغ أشده نظرت في أمره وقمت بمصالحه». وقيل إن السبب في ذلك أن الأسدية لما رأوا الصلاحية قد قاموا مع الملك العادل حتى أدخلوه مصر، وأخرجوا منها الأفضل، خافوا استيلاءهم على الأمر، ¬

(¬1) (ك): «ليس»

فحسنّوا للملك العادل الاستقلال بالأمر وعزل الملك المنصور، تقربا إليه، وحلفوا له على ذلك. فلما بلغ ذلك الصلاحية نفروا منه وأنكروه، واجتمع بعضهم ببعض، وعزموا على القيام على الملك العادل، وطلبوا من الأسدية موافقتهم على ذلك فلم يفعلوا. واستتب أمر الملك العادل، وحلف الجميع له. وكان ضياء الدين بن الأثير وزير الملك الأفضل قد اتصل بالملك الأفضل لمّا تمكّن أمره، فلما ملك الملك العادل مصر ركب نجيبا، وهرب خوفا على نفسه من الملك العادل. ووقفت على رسالة له إلى بعض إخوانه من جملتها: . . . ثم أقمنا بعد ذلك في حصار دمشق في حروب قائمة وغرامات لازمة، حتى استنفدت قوى النفوس والأجسام، ولم نحظ منها إلا بطول المقام، وسرنا عنها إلى الديار المصرية والعساكر برمتها، والمهابة باقية على حرمتها، وتركنا من بها في بادى الضعف مغضوض الطرف، لا يخشى منه عادية (32 ب) بعد استحصاره، ولا يرجى له خروج من وراء جداره، فوثب على خلعه، وتبعنا على قلة تبّعه، فصادف العسكر قد تفرقت في بلاده، والملك قد أمكن من قياده، فأقدم وما تردد، وفوّق سهم كيده وسدّد، ولقد ركب خطرا لا يسلم راكبه، وإن سلم لم تسلم له مطالبه، إلا أنه تهيأ له من صنع القدر، ما لم يكن في وسع البشر، فواتاه الزمان مبادرا، وكان محصورا فأصبح حاصرا». ولما استقر الملك بمصر الملك العادل استدعى أبنه الملك الكامل ناصر الدين محمدا من الشرق، وجعله نائبا عنه بالديار المصرية، وجعل خبزه الأعمال

الشرقية، وهى التي كانت خبز الملك العادل لما كان نائبا عن أخيه السلطان الملك الناصر بمصر (¬1). ولم يزل الملك الكامل ينوب عن أبيه بالديار المصرية إلى أن توفى أبوه، وذلك قريب من عشرين سنة، واستقل (¬2) بالملك بعده عشرين سنة وكسرا، فملكها نائبا ومستقلا قريبا من أربعين سنة. وفى هذه السنة أرسل الملك المنصور - صاحب حماة - إلى عمه الملك العادل يعتذر إليه من مساعدته الأفضل والظاهر، ويطلب رضاه عنه، وكان رسوله إليه زين الدين المعروف «بالهيطليّة»، فلما قدم عليه تلقاه بالترحيب والإكرام، وخلع عليه وأحسن إليه، وأظهر الرضى عن الملك المنصور. وبلغنى أن الملك العادل قال لكاتب إنشائه: اكتب إلى المولى الملك المنصور أبياتا في جواب كتابه. فكتب الكاتب أبياتا فيها نوع عتب وجفاء. فوقف الملك العادل عليها وقال: «ما يحسن أن يخاطب المولى (¬3) الملك المنصور بمثل هذا الخطاب، اكتب إليه: «أتظننى من جفوة أتعتب ... قلبى عليك أرقّ مما تحسب لا يوحشنّك ما جنيت فتنثنى ... متجنّبا، وهواك لا يتجنّب ما أنت إلا مهجتى، وهى التي ... أحيابها، فترى عليها أغضب؟! أنت البرئ من الإساءة كلّها ... ولك الرضى، وأنا المسىء المذنب» ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من (ك) (¬2) (ك): «واستقر» (¬3) هذا اللفظ ساقط من (ك)

ذكر تعويض ابن المقدم عن بعرين منبج وقلعة نجم

وحكى أنه قال لزين الدين هذا: «المولى الملك المنصور إن كانت قد صدرت منه (33 ا) هذه الزلة الواحدة، فله من الحسنات ما يمحوها ويمحقها. وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع ثم حلف الملك (¬1) المنصور، ووقعت الوصلة بعد ذلك بين الملك المنصور وعمه الملك العادل، فتزوج ابنته عصمة الدين ملكة خاتون، والدة الملك المظفر - رحمه الله - ذكر تعويض ابن المقدّم عن بعرين منبج وقلعة نجم كانت منبج وقلعة نجم من جملة بلاد الملك المنصور، فلما أخذ بعرين من عز الدين بن المقدّم، وكان محصورا مع الملك العادل بدمشق - كما تقدم ذكره -؛ وملك الملك العادل مصر طلب ابن المقدّم من الملك العادل إلزام الملك المنصور ردّ بعرين إليه، لكونه إنما قصد بسببه. فراسل الملك العادل الملك المنصور في إعادتها إليه، فاعتذر بأنها مجاورة لبلده، وما يؤثر مجاورة ابن المقدّم، وبذل له عوضا عن ذلك منبج وقلعة نجم، وهما خير من بعرين بكثير. فرضى ابن المقدم بذلك وتسلمهما، وكانت له أيضا أفامية، وكفر طاب، وخمسة وعشرون ضيعة من المعرّة يقال لها «المفردة». وفى هذه السنة وصل إلى مصر الأمير شمس الدين محمد بن قلج، ونظام الدين محمد بن الحسين الأصفهانى - وزير الملك الظاهر - رسولين منه إلى الملك العادل في أن يحلف للملك الظاهر على ما بيده من البلاد، ويقيم الملك الظاهر للملك العادل بحلب الخطبة والسكّة. ¬

(¬1) الأصل: «للملك»، والتصحيح عن (ك)

فركب الملك العادل إلى لقائهما، وأكرمهما (¬1) إكراما تاما. وقررّ الملك العادل للملك الظاهر على ما بيده، وحلف له عليه، وألزمه خمسمائة فارس تكون في خدمة الملك العادل في كل سنة من خيار عسكر حلب. فرجع الرسولان إلى الملك الظاهر، فأقيمت (¬2) الخطبة والسكّة بحلب وبلادها للملك العادل. وقصّر النيل في هذه السنة تقصيرا عظيما حتى أنه لم يستكمل أربعة عشر ذراعا، ولم يركب إلا القليل من الأرض، فكان ذلك سببا للغلاء المفرط في السنة القابلة. ¬

(¬1) الأصل: «وأكرما»، والتصحيح عن (ك) (¬2) (ك): «فأثبت»

ودخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة

(33 ب) ودخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة: والملك العادل بالديار المصرية، وعنده الملك الكامل نائبه بها. والملك الظاهر بحلب مجدّ في عمارة قلعتها، وتحصين أسوارها، وتعميق خنادقها. وبدمشق الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل نائبا عن أبيه بها. وبالشرق الملك الفائز إبراهيم بن الملك العادل في مقاتلة المواصلة ومن انضم إليهم. وبميّا فارقين الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل، وكان أبوه قد ملكّه إياها. وكان الملك الأفضل لما أخذت منه الديار المصرية بعث نوابه ليتسلموا ما وقع الاتفاق عليه من البلاد، ومن جملتها ميّا فارقين، فامتنع الملك الأوحد من تسليم ميّا فارقين، فشكا الملك الأفضل ذلك إلى الملك العادل، (1) فكتب الملك العادل إلى الملك (¬1) الأوحد يأمره بتسليم ميّا فارقين إليه فأصر على الامتناع، فجعل الملك العادل امتناعه عذرا له عند الملك الأفضل، وسلمت إليه باقى البلاد، وهى: حانى، وجبل جور، وسميساط، مضموما ذلك إلى صرخد. وقيل إنه لم يسلم إليه إلا سميساط، وامتنع الملك الأوحد من تسليم ما عدا ذلك من البلاد المضمومة إلى ميّا فارقين. ¬

(¬1) (ك): «فسير إلى الملك الأوحد يأمره»

ذكر استيحاش الصلاحية من الملك العادل وميلهم إلى الملك الأفضل

ذكر استيحاش الصلاحية من الملك العادل وميلهم إلى الملك الأفضل لما أبطل الملك العادل أمر الملك المنصور بن الملك العزيز نفروا من ذلك وكرهوه. وكان الملك العادل قد جهّز فخر الدين جهاركس إلى بانياس لحصرها وأخذها من حسام الدين بشّارة. «وإنما فعل الملك العادل ذلك استصلاحا لجهاركس، إذ هو مقدّم الصلاحية، وغضبا على بشارة لكونه كان لما توجه إلى مصر خلف الملك الأفضل طلبه ليحلف له ويكون معه، فامتنع. فنازل جهاركس بشارة، وأعانه الملك المعظم على ذلك، حتى تسلمها. وكان فارس الدين ميمون القصرى بنابلس، فكتب إلى الملك العادل، يقول له: «إنما دخلنا في طاعتك، ووافقناك، مراعاة لولد الملك العزيز ابن أستاذنا، خوفا أن يتطرق إلى ملكه (¬1) ضرر، والواجب (34 ا) أنك تعيده إلى ملكه، وإلا حصل الفساد في قلوب الجند، ودخل الوهن على الدولة». ولما وردت رسالته بذلك إلى الملك العادل، أغلظ له في الجوب. فأعاد ميمون القول: «بأنك إن استمررت على القاعدة التي اتفقنا عليها فنحن على طاعتك، وإن لم تفعل فأعطنا دستورا لنذهب حيث (¬2) شئنا، ويقوم عذرنا عند الله تعالى وعند الناس». ¬

(¬1) (ك): إلى بلدنا (¬2) (ك): «أين»

فأجاب الملك العادل: «بأنى لم أدخل في هذا الأمر حتى علمت ما يلزم من الضرر إن لم أدخل فيه، والجماعة راضون بى، فإذا كرهت مجاورتى فصر إلى أرذن الروم وتزوج بصاحبتها ماما خاتون، فإنها طلبت منى رجلا كبيرا تتزوج به، ويقوم بتدبير ملكها». فكاتب ميمون القصرى الصلاحية بأن يقوموا معه ويتفقوا على الملك العادل. فأجابوه: «بأنا قد افتضحنا بين الناس، بأنا نقيم كل يوم ملكا ونعزل ملكا، ثم إلى من نسلم الأمر؟ الأفضل ما فيه رجاء، وباقى (¬1) أخوته غير الظاهر ليست لهم في النفس عظمة، والظاهر فما يمكنه أن يخلى بلاده ويصير إلينا». فلما سمع ميمون جوابهم أنفذ إلى أرذن الروم، فكشفوا له حال المرأة المذكورة فوجدها محصورة محكوما عليها. وأرسل الملك الظاهر في شهر ربيع الأول من هذه السنة نظام الدين الأصفهانى - وزيره -، وعلم الدين قيصر الصلاحى، فلما وصلا إلى بلبيس أرسل إليهما الملك العادل يقول لهما: «أقيما مقامكما، ولا تدخلا مصر، وإن كانت معكما رسالة فحمّلاها لقاضى بلبيس حتى ينهيها إلىّ، وإن لم تفعلا فارجعا من حيث جئتما». فرجعا، فلما وصلا إلى نابلس اجتمعا بميمون القصرى، ورغّباه في الانحياز إلى الملك الظاهر، فوافقهما على ذلك، ورجعا إلى صاحبهما. ¬

(¬1) الأصل: «وما في» والتصحيح عن (ك)

وحصلت عند الملك نفرة من ردّ رسوليه على هذه الصورة، (1) وكاتب الصلاحية ورغّبهم، وكاتبهم ميمون القصرى (¬1)، فمال إليه جماعة منهم. وتكررت المكاتبات والمراسلات (¬2)، بينهم وبين الملك الأفضل وهو بصرخد، وبينهم وبين الملك الظاهر. وكان عز الدين أسامة - صاحب عجلون وكوكب - أمير الحاج في السنة الماضية، فلما رجع من الحج نزل إليه الملك الأفضل من صرخد، ودعاه إلى موافقته فأجابه، (34 ب) وحلف له، وعرّفه الملك الأفضل جلية الحال. فكتب عز الدين أسامة (¬3) إلى الملك العادل، فأخذ حذره وتيقظ لنفسه، وكتب إلى ولده الملك المعظم شرف الدين عيسى يأمره بقصد صرخد ومنازلتها، وكتب إلى الأمراء يأمرهم بالاجتماع مع ولده على ذلك. ولما علم الملك الأفضل بذلك ترك صرخد وتوجّه إلى أخيه الملك الظاهر عاشر جمادى الأولى من هذه السنة. وتوجه الملك المعظم إلى بصرى على قصد محاصرة صرخد، وكتب إلى فخر الدين جهاركس وميمون القصرى يدعوهما إلى منازلة صرخد (4) مع الملك المعظم (¬4) فمغلطاه ولم يصلا إليه. فبعث عز الدين أسامة إليهما وإلى جماعة الصلاحية، فجرى بين عز الدين وبين الفارس ألبلى الصلاحى منافرة، فأغلظ البلى القول وتعدى إلى الفعل باليد. ¬

(¬1) النص في (ك): «وكانت الصلاحية قد كاتبهم ميمون ورغسّهم. .» (¬2) هذا اللفظ ساقط من (ك) (¬3) (ك): «فكتب عز الدين أسامة بذلك إلى» (¬4) هذه الفقرة ساقطة من (ك)

ذكر استيلاء الملك الظاهر على منبج وقلعة نجم

وثارت الصلاحية على أسامة، فاستجار بميمون القصرى، فأجاره وأعاده إلى دمشق. وتوجه ميمون القصرى وجمع (¬1) من الصلاحية إلى صرخد، واجتمعوا (¬2) بالملك الظافر خضر، وكتبوا إلى الملك الظاهر يحثونه (¬3) على سرعة الحركة، ومنازلة دمشق ليأخذوها من الملك العادل، ويستعيدوا منه الديار المصرية. وفى هذه السنة توفى عز الدين إبراهيم بن المقدّم، وصارت البلاد بعده، وهى: منبج، وقلعة نجم، وكفر طاب، وأفامية لأخيه شمس الدين عبد الملك بن المقدّم. ولما وصلت كتب الصلاحية إلى الملك الظاهر، وعنده أخوه الملك الأفضل، جمع وحشد وعزم على قصد دمشق. ذكر استيلاء الملك الظاهر على منبج وقلعة نجم ثم قصد الملك الظاهر منبج وفيها شمس الدين عبد الملك بن المقدّم، فزحف عليها وتسلمها يوم نزوله عليها، وهو التاسع عشر من رجب من هذه السنة. وامتنع شمس الدين بالقلعة، فنازله الملك الظاهر سبعه أيام، وكان له خندق مملوء ماء، فوقف الملك الظاهر على حافة الخندق، وصاح في الحلبيين، فرموا أنفسهم في الخندق سباحة، وأخذوا في القلعة عدة نقوب. ¬

(¬1) (ك): «وجماعة» (¬2) (ك): «واجتمعا» (¬3) (ك): «يستحثونه»

فلما رأى صاحبها ذلك طلب الأمان، وسلّم الحصن إلى الملك الظاهر. ولما نزل إليه اعتقله. (35 ا) ثم سار الملك الظاهر إلى قلعة نجم، وبها سعد الدين بن فاخر (¬1) نائبا عن ابن المقدم، فنازلها وضايقها، ثم تسلمها في آخر رجب. ثم توجه الملك الظاهر إلى حلب، وأرسل الشيخ تقى الدين على بن أبى بكر الهروى إلى الملك المنصور - صاحب حماة - يطلب منه أن يسير معه، ويساعده على محاربة الملك العادل. وكان مضمون الرسالة: «أنك تعلم محبتى لك، وشفقتى عليك، واعتمادى عليك، وتعلم سوء باطن الملك العادل لنا، وأن مقصوده أن تكون البلاد كلها له، ولو قدر علينا ما أبقى منا أحدا، وقد علمت ما فعله (2) بأولاد أخيه السلطان الملك الناصر (¬2)، مع أنه هو الذى ملّكه وأظهره إلى الوجود، [بعد ما كان لا يؤبه له] (¬3). (4) وكيف تثق (¬4)، وقد أخذ منك منبج وقلعة نجم وأعطاهما لابن المقدم، واختاره عليك؟ وأنت متى وافقتنى عليه رددت عليك منبج وقلعة نجم، مضافة إلى كفر طاب وأفامية، والبارة، ومفردات المعرّة، وأحلف لك على هذا كله». ولما وردت الرسالة على الملك المنصور بذلك اعتذر من الإجابة إليه، واعتذر «بأنى حلفت له، ولا يسعنى أنى أحنث في يمينى». ¬

(¬1) (ك): «سعد الدين فاخر» (¬2) (ك): «ما فعله بأخواتى أولاد الملك الناصر» (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) (¬4) هذه الجملة ساقطة من ك

ذكر منازلة الملك الظاهر حماة ورحيله عنها

فلما تحقق الملك الظاهر استمرار الملك المنصور على طاعة الملك العادل، توجه إلى المعرّة فأقطعها، وذلك في العشر الأول من شعبان، ثم توجه إلى كفر طاب فأخذها، وهى لابن المقدّم. وبعث إلى قراقوش نائب ابن المقدم بأفامية يطلب منه تسليمها إليه، فامتنع وأصرّ على العصيان. ثم توجه الملك الظاهر إلى أفامية، واستحضر شمس الدين بن المقدّم، وكان معتقلا بحلب، ومعه جماعة من أصحابه، ونازل أفامية، وأمر بضرب جماعة ابن المقدم ليسلم قراقوش حصن أفامية، فرآهم قراقوش وهم يضربون، فلم يلتفت إليهم، فأمر بضرب شمس الدين بالسياط، فضرب ضربا مبرحا، وجعل يستغيث إلى قراقوش ليسلم الحصن (¬1)، فأمر قراقوش بضرب الطبول في أعلى القلعة لئلا يسمعوا صوته، ورموه بالنشاب. ولما أيس الملك الظاهر من أخذ الحصن ترك عليها من يحاصرها ثم رحل عنها. ذكر منازلة الملك الظاهر حماة ورحيله عنها ثم توجه الملك الظاهر إلى حماة ونازلها محاصرا لها لثلاث بقين من (35 ب) شعبان من هذه السنة. ونزل شمالى البلد، وشعّث التربة التقوية وبعض البساتين، وزحف من الغد من جهة الباب الغربى، وقاتل قتالا شديدا، ثم زحف في آخر ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من (ك)

ذكر منازلة الملك الأفضل والملك الظاهر دمشق وهى المنازلة الثانية

شعبان من جهة الباب الغربى والقبلى، ثم انحدر إلى جهة باب العميان، وجرى عنده قتال كثير، وجرح بسهم في ساقه. واستمرت الحرب أياما من رمضان، ولم يتحصل على مقصود ثم وقع الصلح بينه وبين الملك المنصور على مال بذله له الملك المنصور، قيل إن مبلغه ثلاثون ألف دينار صورية، وعلى أنه إن ملك الملك الأفضل والظاهر دمشق دخل في طاعتهما. ولما تقرر ذلك رحل الملك الظاهر عنه. ذكر منازلة الملك الأفضل والملك الظاهر دمشق وهى المنازلة الثانية ثم توجه الملك الظاهر إلى دمشق ونازلها هو وأخوه الملك الأفضل. وانضم إليهما فارس الدين ميمون القصرى، ومن وافقه من الأمراء الصلاحية. وبقلعة دمشق الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل. وأبوه بالديار المصرية. واستقرت القاعدة بين الملك الأفضل وأخيه الملك الظاهر أنهم إذا ملكوا دمشق يتسلمها الملك الأفضل، ثم يسيرون إلى الديار المصرية، فإذا ملكوها تسلم الملك الظاهر دمشق وكان الشام جميعه له، ويملك الملك الأفضل مصر.

ذكر تسليم صرخد إلى زين الدين قراجا

ذكر تسليم صرخد إلى زين الدين قراجا ولما نازل الملكان الأفضل والظاهر دمشق تخلّف عنهما فخر الدين جهاركس وزين الدين قراجا. فأرسل إليهما الملك الأفضل علم الدين قيصر الناصرى، فتوجه إليهما، ورغبّهما في الحضور، وموافقة الأفضل والظاهر، فأجابا بعد مراجعات كثيرة على أن يتسلم زين الدين قراجا صرخد، ويعطى عشرة آلاف دينار، ويعطى جهاركس عشرين (¬1) ألف دينار، فوقعت الإجابة إلى ذلك. وسلمت صرخد إلى قراجا، وأنزل الملك الأفضل والدته وأهله (36 ا) منها، وسيّرهم إلى حمص، فأقاموا عند الملك المجاهد صاحبها. وقدم جهاركس وقراجا العسكر، فقوى بحضورهما جأش الأفضل والظاهر، لأنهما كانا أكبر الأمراء الصلاحية. ذكر وصول الملك العادل إلى نابلس ولما بلغ الملك العادل توجّه الملك الأفضل والظاهر إلى دمشق انزعج لذلك، وخرج (2) من مصر (¬2) بعساكره، وقدم إلى الشام، ونزل بنابلس. وقدّم قطعة من عسكره إلى دمشق، فدخلوها قبل نزول الأفضل والظاهر عليها. ¬

(¬1) الأصد: «عز الدين» والتصيح عن (ك). (¬2) هذان اللفظان ساقطان من (ك).

ذكر مضايقة الملك الأفضل والظاهر دمشق

ذكر مضايقة الملك الأفضل والظاهر دمشق وضايق الأفضل والظاهر دمشق مضايقة شديدة، وزحفوا رابع عشر من ذى القعدة من هذه السنة، واشتد القتال، والتصق العسكر بالأسوار، ثم زحفوا لها ثانيا وثالثا. . وجدّ الظاهر في القتال، وترجل، ووصل إلى قريب السور، وأخذ فيه عدة نقوب، ولم يبق إلا أن يملك البلد، وصعد العسكر إلى سطح خان ابن المقدّم، وهو ملاصق السور فلو لم يدركهم الليل لملك البلد. ذكر الاختلاف بين الملكين: الأفضل والظاهر ولما تحقق الملك الظاهر (1) أن البلد مأخوذ لا محالة (¬1)، لم تطب نفسه بأن يملكه أخوه، فأرسل إلى الملك الأفضل يقول له: «إذا فتحت دمشق تسلمتها أنا، وسيّرت العساكر معك إلى الديار المصرية ليفتحوها لك». فأرسل إليه الملك الأفضل (2) يقول له (¬2): «قد علمت أن والدتى وأهلى - وهم أهلك - على الأرض، وليس لهم ¬

(¬1) (ك): «أخذ البلد لا محالة». (¬2) هذان اللفظان ساقطان من (ك).

موضع يأوون إليه، فأحسب أن هذا البلد لك تعيرنى إياه أسكنه أهلى هذه المدة إلى أن نملك مصر». فلم يجب الملك الظاهر إلى ذلك، ولجّ في أن يتعجل أخذه لنفسه. وقيل إن الذى أوجب هذا الاختلاف أن الملك العادل كتب إلى الملك الأفضل والملك الظاهر يقول لكل واحد منهما (36 ب): «إن أخاك لا يريد البلد إلا لنفسه، وإن العسكر متفقون معه في الباطن على ذلك». فطلب كلّ من الملكين البلد لنفسه، ووقع الخلف بينهما. وكتب الملك العادل إلى الأفضل يعده بالبلاد التي عينت له بالشرق، وبذل له مع ذلك مالا. ففترت همته، وقال للأمراء الصلاحية ومن جاء إليه من الجند: «إن كنتم جئتم إليّ، فقد أذنت لكم في العود إلى الملك العادل، وإن كنتم جئتم إلى أخى فأنتم وهو أخير». وكان الكل يريدون الأفضل للين عريكته، فقالوا: «ما نريد سواك والعادل أحب إلينا من أخيك». فأذن لهم في العود؛ فهرب فخر الدين جهاركس، وزين الدين قراجا - صاحب صرخد - والحجّاف، وعلاء الدين شقير، وسعد الدين بن علم الدين قيصر فمن هؤلاء من دخل دمشق، ومنهم من ذهب إلى إقطاعه، وتحلّلت العزائم. وخرجت هذه السنة والملكان الأفضل والظاهر منازلان دمشق. وفي هذه السنة تجهز نور الدين أرسلان شاه بن مودود - صاحب

الموصل - في عساكره إلى حرّان والرّها ليستولى عليها، ومعه ابن عمه قطب الدين محمد بن عماد الدين - صاحب سنجار -، وذلك في شعبان، وذلك لما تحققوه من قصد الملك الأفضل والملك الظاهر دمشق، وطمعوا أن يحصلوا في هذه الفترة على تلك البلاد. وسار معهما صاحب ماردين، وكان الزمان شديد الحر، فنزلوا رأس عين، وكثرت الأمراض في عسكرهم. وكان بحرّان الملك الفائز إبراهيم بن الملك العادل ومعه عسكر، فأرسل إليهم يطلب الصلح، وبلغهم اختلال حال الأفضل والظاهر، وأنه ربما يقع الصلح بينهما وبين عمهما العادل. فأجاب نور الدين إلى الصلح، وحلف الفائز ومن عنده من الأمراء على القاعدة التي استقرت، وحلفوا أيضا لنور الدين أنهم يحلفوا للملك العادل، فإن امتنع كانوا عليه. وحلف نور الدين للملك العادل، وسارت الرسل من عنده ومن عند الفائز إلى الملك العادل في طلب اليمين فأجاب إلى ذلك. ورجع نور الدين في ذى القعدة من السنة. وفى هذه السنة كان الغلاء العظيم بالديار المصرية، وتعذرت الأقوات بها حتى أكل الناس الميتة وأكل بعضهم بعضا، ثم تبع ذلك وباء (¬1)، عظيم وموتان. وفي هذه السنة توفى عماد الدين (37 أ) الكاتب - رحمه الله -، ¬

(¬1) ك: «فناء».

وكان جامعا (¬1) لفنون كثيرة: الأدب، والفقه، والخلاف، والتاريخ، وله النظم البديع والنثر الفائق، وكتب لنور الدين والملك الناصر صلاح الدين، ونال عنده المنزلة العالية، وله التصانيف البديعة: كالبرق الشامى، وخريدة القصر، والنصرة في أخبار وزراء الدولة السلجوقية، وغير ذلك. وكان مولده سنة تسع عشرة وخمسمائة، فكان عمره تسعا وسبعين سنة. ¬

(¬1) ك: «عالما».

ودخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

ودخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة: والملكان الأفضل والظاهر منازلان دمشق وقد اختلفا وفترت عزائمهما. ذكر رحيل الملك الأفضل والملك الظاهر عن دمشق ولما جرى ما ذكرناه من هرب فخر الدين جهاركس وزين الدين قراجا وغيرهما من الأمراء، ووقع الاختلاف بين الملكين؛ رحلا عن دمشق أول محرم من هذه السنة. فرجع الملك الظاهر إلى حلب، وتوجه الملك الأفضل إلى حمص. فلما قدم الملك العادل إلى دمشق (1) توجه إلى خدمته واجتمع به، ثم رحل إلى البلاد الشرقية التي اتفقا عليها. ذكر قدوم الملك العادل إلى دمشق ولما رحل الملكان عن دمشق، وبلغ ذلك الملك العادل، رحل إليها، فدخل إلى دمشق (¬1) واستقرّ بها. وفى انتصاره وظهوره يقول شرف الدين بن عنين قصيدة يمدح بها صفى الدين عبد الله بن على بن شكر - وزير الملك العادل - مطلعها: ¬

(¬1) النص في (ك): «بعد رحيلهما واستقربها»

ما قام - لولا هواك - المدنف (¬1) الوصب ... يبكى الطلول، وأهل المنحنى غيب (¬2) ومنها: يا أيّها الصاحب المولى الوزير ومن ... إلى مكارمه (¬3) العلياء تنتسب دعيت في الدولة الغرّاء صاحبها ... حقا، فظنّ جهول أنه كذب (¬4) كثرتهم في دمشق وهى خالية ... وقد أناخ عليها جحفل (¬5) لجب (27 ب) كتائب أضحت البيداء متأقة ... منهم (¬6)، وضاقت بها البطنان والحدب يقودهم من بنى أيوب كلّ فتى، ... ماضى العزائم، لا نكس ولا تخب (¬7) أسد مخالبها بيض الظّبى، ولها ... من الذّوابل غيل نبته أشب حتى إذا أشرفت منهم دمشق على ... حرب لها الويل من عقباه والحرب منحتها منك عزما صادقا خضعت ... له ظبى الهند والخطّيّة القضب (¬8) فكان رأيك فيها راية طلعت ... بالنصر، فانجابت اللأواء والكرب وبات أثبتهم جأشا وأحزمهم ... رأيا، وأمضى سلاحا عزمه الهرب وكان ظنّهم أن تلتقى بهم ... مصر البوار (¬9)، وتغشى النوبة النّوب فأجفلوا، وزعيم القوم غاية ما ... يرجو من الله أن تبقى له حلب ¬

(¬1) ك: الواله، وما هنا صيغة الأصل ولديوان (¬2) القصيدة في الديوان طويلة فراجعها هناك، وما هنا مقنطفات منها (¬3) في الديوان: «مفاخره» (¬4) كذا في الأصل وفى ك، والنص في الديوان: «وظن جهول أنه لقب» (¬5) الديوان: «الجحفل» (¬6) الديوان: «منها»، وما هنا صيغة الأصل و (ك) (¬7) الأصل: «لجب» والتصحيح عن الديوان، والنخب الجيان (¬8) الديوان: «السلب» (¬9) كذا في الأصل والديوان، وفى (ك): «الهوان

ولما رجع الملك الظاهر إلى حلب ذهب معه إليها جماعة من الأمراء الصلاحية، منهم: فارس الدين ميمون القصرى، وسرا سنقر، وألبكى الفارس. فأقطع الملك الظاهر ميمون القصرى عزاز وأماكن أخرى، وحمل إليه ثمانين ألف درهم، وخلعا كثيرة له ولأصحابه، وعشرة أرؤس من الخيل العراب، وعشر بغلات، وعشر زرديات، ومائة ثوب ألوانا، وحمل إلى ألبكى وأسد الدين سرا سنقر دون ذلك، فلم تطب قلوبهما به. ثم قصد الملك الظاهر منبج، وكان الملك الفائز بن الملك العادل قد قصدها في غيبته وملكها، فاستعادها وخرّب سورها وقلعتها، ونقل ذخائرها إلى حلب وأقطعها عماد الدين بن المشطوب. وفى هذه السنة أنفذ قراقوش - نائب شمس الدين بن المقدم بأفامية - إلى الملك الظاهر يبذل له أفامية، بشرط أن يعطى شمس الدين إقطاعا يقوم به، وكان بتقرير بينه وبين شمس الدين. فأجاب الملك الظاهر إلى ذلك، وأقطعه الراوندان، وكفر طاب ومفردة المعرّة، وحلف له على ذلك وتسلم أفامية. ثم في هذه السنة هرب شمس الدين إلى قلعة الرواندان وعصى بها، فقصده الملك الظاهر واستنزله منها، وأخذ كل ماله من الأموال والذخائر، فقصد بدر الدين دلدرم - صاحب تل باشر - (38 أ) مستشفعا به إلى الملك الظاهر في أن يعيد إليه ما أخذ منه، فلم يجد استشفاعه شيئا، فقصد الملك العادل فأقطعه إقطاعا وأحسن إليه.

ذكر وصول الملك العادل إلى حماة وانتظام الصلح بينه وبين الملك الظاهر

ذكر وصول الملك العادل إلى حماة وانتظام الصلح بينه وبين الملك الظاهر وفى هذه السنة توجّه الملك العادل بالعساكر إلى حماة، ونزل على تل صفرون، وقام الملك المنصور بجميع وظائفه وكلفه وما يحتاج إليه. وبلغ الملك الظاهر وصول عمّه إلى حماة بنيّة قصده وحصاره، فخاف واستشعر، وأمر بالاستعداد، وجمع المير والذخائر، واستحلف الحلبيين، وأحضر (¬1) إليه مقدميهم. وقال: «أنا واثق بعد الله تعالى بكم، وليس لى اعتماد إلا عليكم (¬2)». فقالوا: «نحن عبيدك، وسنبذل مهجنا بين يديك». وراسل عمّه، ولاطفه، وأهدى إليه، ووقعت بينهما مراسلات ومكاتبات، واستقرّ الأمر آخرا على أن قررت بيده منبج وأفامية وكفر طاب، وكان الملك العادل قد رام انتزاعها منه وردّها إلى ابن المقدّم. وانتزع منه من إقطاع ابن المقدّم مفردة المعرة، وهى خمس وعشرون ضيعة، وسلمت إلى الملك المنصور. وسلّمت قلعة نجم إلى الملك الأفضل مع سروج، ووعد بانتزاع رأس عين من (¬3) صاحب ماردين، وكانت بيده سميساط. ¬

(¬1) (ك): «وأخرج» (¬2) النص في (ك) مختلف قليلا، وهو «أنا واثق بالله تعالى ثم بكم، والاعتماد عليكم» (¬3) (ك): «من يد ساحب»

وحلف الملك العادل للملك الظاهر. وسلّم الملك العادل إلى ولده الملك الأشرف مظفر الدين [موسى] (¬1) حرّان وما معها، وسيّره إلى الشرق. وكان بميّا فارقين الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل. وتقرر بقلعة جعبر الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل. ثم رجع الملك العادل إلى دمشق، وأقام بها، وقد انتظمت الممالك الشامية والشرقية والديار المصرية كلّها في سلك ملكه، وخطب له على منابرها كلّها، وضربت السكة فيها باسمه. وفى هذه السنة توفى القاضى محيى الدين بن زكى الدين قاضى القضاة بدمشق وبلادها، وكان إليه قضاء حلب وبلادها (38 ب) من الأيام الناصرية. ولما ورد القاضى بهاء الدين بن شداد إلى حلب كان بحلب زين الدين بنا البانياسى ينوب في القضاء بها عن محيى الدين فعلم ميل الملك الظاهر إلى تولية القاضى بهاء الدين القضاء (¬2)، فطلب دستورا من الملك الظاهر فأعطاه، وسافر إلى دمشق، فولّي الملك الظاهر بهاء الدين القضاء، فأنكر محيى الدين بن زكى الدين على زين الدين طلب الدستور، وقال: «لو كنت أقمت وولّي غيرك ناظرت عنك، فأما إذ فعلت ما فعلت ما بقيت أتكلم في قضاء حلب». وكان محيى الدين - رحمه الله - فاضلا مترسلا، وله النظم والنثر البديعان. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة من (ك) (¬2) هذا اللفظ ساقط من (ك)

ولما توفى ولّي الملك العادل قضاء دمشق ولده زكىّ الدين، وهو الذى لما أراد الملك المعظم عزله والإخراق (¬1)؛ به بعث إليه قباء (¬2) وكمّه (¬3) وتقدم إليه بلبس ذلك، فلبسه، فحصل له غم بسبب ذلك، فمات بعد أيام قلائل. وفى هذه السنة قدمت إلى حماة عصمة الدين ملكه (¬4) خاتون ابنة الملك العادل، وزينت حماة لمقدمها، وكان يوما مشهودا. ¬

(¬1) الأصل: «الاحراق»، والتصحيح عن (ك) (¬2) شرح هذا اللفظ في (مفرج الكروب، ج، 1، ص 279؛ هامش 4) (¬3) الكمة (والجمع كمام) فسرها (Dozy : Supp .Dict .efrab) بأنهما قلنسوة مستديرة ومرتفعة Ponnet, hant et ronb ، وقد تترجم إلى bavecan أي الشكيمة من الحديد التي توضع في فم الحصان، والمعنى الأول هو المقصود هنا. (¬4) هذا اللفظ ساقط من (ك)

ودخلت سنة تسع وتسعين وخمسائة

ودخلت سنة تسع وتسعين وخمسائة والملك العادل مقيم بدمشق. وفى هذه السنة وردت الأخبار بوصول الفرنج إلى عكا، واجتماعهم بها، وبأن فرنج صقلية قاصدون الديار المصرية. فسيّر الملك الظاهر إلى الملك العادل خمسائة فارس، ومائة راجل من الحلبيين (¬1) حجّارين ونقّابين وزردخاناة (¬2)، ليبعث ذلك إلى مصر. ولليلة بقيت من المحرم من هذه السنة توفى فلك الدين سليمان (¬3) أخو الملك العادل لأمه، وكان يلقب الملك المبارز. ذكر حوادث (¬4) حدثت باليمن (¬5) في خامس صفر من هذه السنة ورد إلى الملك المنصور (¬6) - صاحب حماة - كتاب من المختص والى البرّ بحماة، وكان حجّ سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، يخبر ¬

(¬1) الأصل: «حلبين»، وللتصحيح عن (ك) (¬2) شرحنا هذا المصطلح في (مفرح الكروب، ج 2، ص 357، هامش 4) وذكرنا هناك أنه يعنى أصلا خزانة الزرد أو خزانة السلاح، وقد يعنى نوعا من السجن سجن فيه كبار الأمراء أر علية القوم؛ ولكن يبدو من السياق هنا أن اللفظ قد يطلق على صناع الزرد أو السلاح. (¬3) انظر ما فات هنا نص (¬4) بهذا اللفظ تتقابل ثانية مع نسخه س. (¬5) (ك): «صدرت» (¬6) هذا نص هام يشير إلى وظيفة لها أهميتها وهى «ولاية البر» وإن كنت لم أجد لها تفسيرا في المراجع المتداول ذكرها هنا

فيه بقتل الملك المعز إسماعيل بن سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين ابن أيوب. وسطر الكتاب يتيما في (¬1) رابع عشر المحرم، منه. «وأما أخبار اليمن: فإن ابن سيف الإسلام قتله جماعة من الأكراد، وتشوشت البلاد، (39 ا) وكلّ استقلّ بما تحت يده، والبلاد سايبة تريد رجلا [يحفظها] (¬2)، وسرّية بن سيف الإسلام عصت في قلعة منيعة (¬3)، هى أحصن القلاع وأمنعها، وعندها من الأموال ما لا يحصى عدده. وذكر عنها أنها قالت: ما نسلّم هذا الحصن وهذه الأموال إلا لرجل من ولد السلطان». هذا ما ذكره المختصّ في كتابه. ونحن نذكر ما بلغنا من أحوال الملك المعز: كنا قد ذكرنا تملكه بعد أبيه لبلاد اليمن، ثم إنه بعد ذلك جرت له باليمن حروب، منها: أنه خرج عليه الشريف عبد الله بن عبد الله (¬4) الحسنى (¬5) وضرب معه مصافا، فانكسر الشريف. ثم خرج عليه من مماليك أبيه نحو ثمانمائة مملوك، وحاربوه، واعتصموا بصنعاء، فكسرهم، وأخذها منهم. ثم ادعى بعد ذلك الخلافة، وانتسب إلى بنى أمية، وجعل شعاره ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ج 1، ص 146 ا) (¬3) هذه الكلمة ساقطة من (ك) (¬4) هذان اللفظان ساقطان من (ك) و (س) (¬5) (س): «الحسينى»

الخضرة (¬1)، وقطع خطبة بنى العباس، وخطب لنفسه بالخلافة على منابر اليمن، وخطب بنفسه على المنبر يوم الجمعة. وقد ذكر أن عقيدته كانت فاسدة، وأنه ادعى الربوبية، وأمر كاتبه أن يكتب: «من مقر الإلهية»، ثم نهى عن ذلك، فانتهى خوفا من القتل. [وبلغ عمه الملك العادل دعواه النسب إلى بنى أمية، فأنكره وساءه فعله، وجحد أن يكون لبنى أيوب نسب يتصل ببنى أمية. وخافته مماليك أبيه لهوجه وسفهه، ففارقوه وتحزبوا عليه وحاربوه، ووافقهم على ذلك جماعة من أمراء الأكراد، منهم: شمس الدين بن الدقيق (¬2)، وباخل، وغيرهم، فاتفقوا كلّهم على قتله، وضربوا معه مصافا في السنة الماضية، وهى سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، فكسروه وقتلوه، ونصبوا رأسه على رمح، وداروا به بلاد اليمن، ونهبوا زبيد تسعة أيام. وكان له أخ صغير يلقب بالملك الناصر، فجعلوا له اسم السلطنة، وترتب أتابكا له سيف الدين [سنقر] (¬3) - مملوك والده (¬4) -. ثم اضطربت الأمور على سيف الدين سنقر، وتحزّبت عليه العساكر وقاتلوه، وجرت بينهم حروب كثيرة، وآخرها أنه انتصر وقتل جماعة من الأكراد والأتراك، وحبس جماعة، وصفت له اليمن. ثم مات بعد أربع سنين. وكان تزوج أمّ الملك الناصر، وأولدها ولدا ذكرا، (39 ب) فتزوجها ¬

(¬1) (ك): «ودخل سعاده الحضره» وما هنا هو الصحيح (¬2) (س): «بن الرفيق» (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) (¬4) (س). «مملوك جده»

بعده أمير من أمراء الدولة، يقال له: «غازى بن جبريل» وقام بأتابكية الملك. ثم سمّ الملك الناصر في كوز فقاع على ما قيل، وبقى غازى متملكا البلاد [وحده] (¬1) مدة، ثم قتلته جماعة من عرب البلاد. وذكر أن سبب قتلهم (¬2) له، اتهامهم إياه بقتل الملك الناصر. وبقيت اليمن خالية بغير سلطان. ورأيت في بعض التواريخ أن الملك الناصر هو ابن الملك المعز إسماعيل، وهو خطأ، فإن الذى تحققته من جهة لا أشك في صحتها (¬3) ما ذكرته أولا. وكان لسعد الدين شاهان شاه بن الملك المظفر تقى الدين عمر - رحمه الله - ولد يقال له سليمان شاه، قد خلع لباس الجند، ولبس لباس (¬4) الفقراء، ويحمل ركوة على كتفه، وينتقل مع الفقراء من مكان إلى مكان. فاتفق أنه حجّ إلى مكة - شرفها الله تعالى - وكانت أمّ الملك الناصر قد تغلبت على زبيد، وأحرزت الأموال عندها وكانت تنتظر وصول رجل من بنى أيوب تتزوجه وتملكّه البلاد. فبعثت إلى مكة بعض (¬5) غلمانها يكشف (¬6) لها عن أخبار مصر والشام، فوقع بسليمان شاه، وقد جاء حاجا مع الفقراء، فسأله عن اسمه ونسبه فعرفه (¬7). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬2) (ك): «سبب قتله» (¬3) النص في س: «من جهة من لا شك فيه ولا في صحته، وهذا مثل طيب على تحرى ابن واصل الدقة في مؤلفه هذا، فهو لا ينقل دون تثبت، بل هو يناقش ويشير إلى إلى أخطاء غيره ويصححها. (¬4) ك وس: «ثياب» (¬5) هذا اللفظ ساقط من (ك) (¬6) (ك): «يكشفون» (¬7) (ك): «فسأله عن اسمه ونسبه شخش من غلمانهما فعرفوه» والنش في س: «معرفة أنه من ملوك بنى أيوب»

ذكر الحوادث المتجددة بالشرق

فكتب إليها [غلامها] (¬1) وعرفّها ذلك، فاستحضرته، وخلعت عليه. وتزوجته، وملكّته اليمن، فملأها ظلما وجورا، واطّرح زوجته التي ملكته البلاد، وأعرض عنها. وكتب إلى السلطان الملك العادل - وهو عمّ جدّه - كتابا جعل في أوله: «إنه من سليمان، وإنه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». فاستقلّ الملك العادل عقله، وعلم أنه لا بد لليمن من سلطان قاهر، يمضى إليها ويدبّر أمر (¬2) ملكها، [وكتبت هى أيضا إلى الملك العادل تشكوه فيه] (1) فكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر الحوادث المتجددة بالشرق تقدم الملك العادل في هذه السنة إلى ولده الملك الأشرف موسى بمنازلة ماردين (¬3)، فنازلها بعسكره، ومعه الملك الأفضل نور الدين، وانضاف إليهم عسكر الموصل وسنجار، ونزلوا بحرزم تحت جبل ماردين، وأقاموا مدة ولم يتحصلوا على غرض، فدخل الملك الظاهر في الصلح بينهم وبين الملك العادل، وأرسل (40 ا) إلى الملك العادل في ذلك، فأجاب إلى الصلح؛ على أن يحمل إليه صاحب ماردين مائة ألف وخمسين ألف دينار، ويخطب له ببلاده، وتضرب السكّة باسمه، ويكون عسكره (¬4) في خدمته متى طلبه. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن س (ج 1، ص 147 ا) (¬2) هذا اللفظ ساقط من ك والنص في س: «يمضى إليها ويملكها» (¬3) (ك): «ميافارقين» وهو خطأ (¬4) (ك): «عنده»

ذكر إخراج الملك العادل الملك المنصور

فأجيب إلى ذلك. وحصل الملك الظاهر بطريق هذه (¬1) الوساطة عشرة آلاف دينار، وضيعة تسمى «القرادى» من أعمال شبختان. فرحل الملك الأشرف عنهم وتفرقت العساكر. وفى هذه السنة نزل ابن لاون - صاحب الأرمن - على جسر الحديد، لحرب أهل أنطاكية، وأتلف مرزه الأبرنس صاحبها، وأخرب البلد المختص بالخيّالة والأبرنس، وقطع مادة الميرة المتواصلة من أنطاكية إلى حلب. وفى هذه السنة ورد الخبر أن الفرنج الذين كانوا اجتمعوا بعكا عاد أكثرهم إلى داخل البحر، وما تخلّف إلا من عجز عن السفر، وأن الغلاء كثر بعكا، ومتى قطعت عنهم الميرة هلكوا. ذكر إخراج الملك العادل الملك المنصور ابن الملك العزيز من الديار المصرية كنا ذكرنا استقلال الملك العادل بملك الديار المصرية وإزالة اسم الملك المنصور محمد بن الملك العزيز. ولما كانت هذه السنة تقدم الملك العادل بإخراجه من الديار المصرية، لأنه خاف من الصلاحية وممن يميل إلى الملك العزيز أن يقوموا مع ولده وتعود الفتنة والعصبية كما كانت. ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من (ك)

ذكر نزول الملك المنصور ببعرين مرابطا للفرنج

فأخرج [الملك المنصور بن العزيز] (¬1) من مصر في الخامس والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، ومعه والدته وأخوته ومن يختص به، وسيّروا إلى الرّها، فأقاموا بها مدة، ثم انتقلوا إلى حلب، وأقاموا عند الملك الظاهر صاحبها. وسنذكر إن شاء الله تعالى أن الملك الظاهر في مرض موته جعل الملك المنصور هذا ولىّ العهد بعد ولديه: الملك العزيز، والملك الصالح. وفى هذه السنة شرع الملك العادل في عمارة فصيل دائر حول سور دمشق بالكلس والحجر، وهو من سفل الخندق إلى مقدار قامة، وعمّق الخندق، وأجرى الماء فيه. ذكر نزول الملك المنصور ببعرين مرابطا للفرنج وفى هذه السنة توجّه الملك المنصور بعساكره إلى بعرين، فنزل بقلعتها مرابطا لفرنج الساحل، وأقام بها. وطلب من الملك العادل النجدة، فتقدّم الملك العادل إلى الملك الأمجد بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه - صاحب بعلبك -، وإلى الملك المجاهد - صاحب حمص - بإنجاده، [ففعلوا ذلك] (2). ووصل من الصاحب صفى الدين بن شكر كتاب إلى الملك المنصور - صاحب حماة - (¬2) منه: ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين عن (س) (¬2) ما بين الحاصرتين عن (س)

«علم المملوك حركة المولى ونزوله قبالة حصن الأكراد، وما عزم عليه من المصابرة والجهاد. وقد كتب السلطان - أعزّ الله أنصاره - إلى صاحب حمص وبعلبك - أبقاهما الله - بمقتضى ما أشار المجلس ونبّه عليه من إنفاذ عسكرهما إليه. وقد علم الله أن المملوك لا يألو جهدا في خدمته، التي يعدها من السعادة والمبادرة إلى امتثال أمثلته إلتى صارت له كالعادة». ثم ورد كتاب من الملك العادل إلى الملك المنصور يخبره بأنه قد كتب إلى الملك الظاهر يأمره بتسيير نجدة من عنده إلى خدمته، (1) وأنه قد أنكر على صاحب حمص وصاحب بعلبك تأخرّ النجدة عنه (¬1). وورد كتاب من صفّى الدين بن شكر إليه، منه: كن كيف شئت من البعاد ... فأنت في قلبى قريب عرض (¬2) المملوك كتاب المولى [على] (¬3) السلطان - خلّد الله ملكه -، وقد كتب إلى الملك الظاهر، والملك الأمحد، والملك المجاهد، - عزّ نصرهم - بتسيير عساكرهم إليه وورودها عليه، وإعانته على جهاده، ومرابطته والانقياد إلى آرائه وطاعته، فجزاه الله عن الإسلام ما جزاه، فقد أوتى من الفضل ما لم يؤت سواه، وقد قام بأمور الجهاد لما قعد عنه من عداه، وقد اقتنى الأجرين، وحاز الشكرين، وقام بالحقّين، وأدّى ما يجب عليه من الفرضين، فشكره مخلّد في صحائف الأيام، وحمده تنطق به ألسنة الأقلام. ¬

(¬1) هذه الجملة ساقطة من (س) (¬2) الأصل: «غرض»، والتصحيح عن (ك) و (س). (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) و (س).

ذكر الوقعة التى أوقعها الملك المنصور بالفرنج

وقد أهل له في الآخرة عن هذا السعى المشكور دار السلام». ولما وصلت نجدة الملك الظاهر إلى عند الملك المنصور، ونجدة الملك الأمجد تهيأ لملتقى الفرنج - خذلهم الله تعالى - (¬1). ذكر الوقعة التي أوقعها الملك المنصور بالفرنج (141) وكانت في ثالث شهر رمضان من هذه السنة وكان من حديثها: أن الفرنج اجتمعوا من حصن الأكراد وطرابلس والحصون التي حولها. وجاءوا في فارسهم وراجلهم. وركب الملك المنصور في العساكر التي معه، وتقدم إليهم، وقاتلهم، فهزمهم، وأخذ (¬2) جماعة من مقدميهم وخيّالتهم، وبعث بهم إلى حماة، فدخلوها راكبين خيولهم، لا بسين عددهم، وبأيديهم رماحهم، وكان يوما مشهودا. وفى ذلك يقول بهاء الدين أسعد يحيى السنجارى قصيدة يمدحه بها، ويهنئه بهذا الفتح الجليل: ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س) (¬2) (ك): «وقتل»، ولا يستنم بها المعنى، وما بالمتن هو الصحيح، والنص في س: «وقتل جماعة من مقدميهم ورجالتهم وخيالتهم، وأسر منهم جماعة كبيرة، وبعث بهم إلى حماة».

مطلعها: المجد يدرك بالعسّالة الذبل ... والمشرفيّة، لا بالوعد والأمل (¬1) والجدّ في الجدّ، فاجنبها (¬2) مسوّمة ... يقودها أسد بالأينق الذلل ما لذّة العيش إلا صوت معمعة ... ينال فيها المنى بالبيض والأسل يأيّها الملك المنصور نصح فتى (¬3) لم يلوه ... عن وفاء كثرة العذل اعزم ولا تترك الدنيا بلا ملك ... وجدّ، فالملك محتاج إلى رجل وأبرز إلى الموت (¬4) يوم الرّوع مدّرعا ... قلبا، إذا زالت الأفلاك لم يزل وهمّ في طلب العلياء مرتقيا (¬5) ... وأرسل الجيش أبدالا من الرسل واهصر عداك كهصر الليث طعمته (¬6) ... وصل إذا الليث في الهيجاء لم يصل ومنها: يا أوحد العصر، يا خير الملوك، ومن ... فاق البرية من حاف ومنتعل أسهرت عينيك (¬7) في كسب العلا ولكم ... من بات يسهرها في اللهو والجذل جاهدت في الله طوعا والملوك غدوا ... يستهترون (¬8) بذات الحلى والحلل ¬

(¬1) (ك): «الأهل» (¬2) (ك): «فأحيها» (¬3) (ك): ثق، وفى (س) لياض (¬4) (ك) و (س): «الحرب» (¬5) (ك): «مرتقيا (¬6) (ك): «داهم عداك كهم الليث طعمته» و (س): «وانهم عداك كنهم. . . الخ» (¬7) الأصل و (ك): «وعينيك» والتصحيح عن (س) (¬8) كذا في الأصل و (ك)، وفى (س): «يستنهضون»

يداك باطنها للجود مذ خلقت فينا ... وظاهرها للثم والقبل وأنت شرّفت أيوبا على شرف (¬1) ... فيه وفقت كرام السادة الاول أغمدت بيض المواضى في الرّقاب وقد (¬2) ... حلّيت عاطلها ضربا من القلل عاجلتهم بالمنايا والحتوف فلا تترك ... لهم أجلا يبقى إلى أجل (41 ب) صفّدهم عاجلا (¬3) واجعل حصونهم ... سجونهم فهم في غاية الفشل ولما كسر الملك المنصور - صاحب حماة - الفرنج كتب إلى عمّه السلطان الملك العادل - رحمهما الله - يعرّفه ذلك. فورد عليه كتاب الملك العادل ثامن عشر شهر رمضان، ومنه: «وردت مكاتبة المجلس، ووقف الخادم عليها، وفهم ما أشار إليها من يمن حركته، وسعادة وجهته، وبركة نصرته، ودخوله إلى بلاد الكفار، وما أثّره (¬4) فيها وفيهم من جميل الآثار، فاستبشر بما دلّت عليه من هذه النعم. الراهنة، والعوارف الظاهرة والباطنة، والله تعالى يجازيه أحسن الجزاء، (5) ويضاعف له من الحسنات أوفر الأجزاء (¬5)، ويرحم سلفه الكريم، ويحسن له في الحديث والقديم، ويؤيده في كل حركة بأحزاب الملائكة». ووصل في هذه المدة رسول من الداويّة [إلى الملك المنصور] (¬6) يخبر فيه ¬

(¬1) النص في (س): «وأنت شرفت بنى أيوب في شرف». (¬2) (س): «اغمضت». (¬3) (س): «عجلا». (¬4) (ك): «أثر». (¬5) هذه الجملة ساقطة من (ك). (¬6) ما بين الحاصرتين زيادة عن س.

بوصول الفرنج إلى عكا من داخل البحر في نحو ستين (¬1) ألفا من فارس تركبلىّ (¬2) وراجل، وأنهم يقصدون جهة جبلة واللاذقية. وأن مقدّم الاستبارية (¬3)، ومقدّم الداوية، والملك متوجهون إلى ابن لاون ملك الأرمن، ليصلحوا بينه وبين الأبرنس - صاحب أنطاكية - ويأتون بابن لاون ليلقى الفرنج، وتجتمع كلمة الكل على حرب المسلمين. وأن (¬4) المركيس وكند (¬5) قلنط (4) مقدمى العسكر الخارج إلى بلاد الشام وقع بينهم وبين ملك الهنكرية (¬6) وقعة عظيمة، وأخذوا مدينة كبيرة بالسيف، وقتلوا منهم خلقا كبيرا (¬7). وأن شينيا (¬8) قدم من عندهم يخبر بأنهم اصطلحوا، وأنهم خارجون إلى الشام في عيد الصليب. وإنما قصدت الداوية بهذه الأخبار الإرهاب، ليصالح (¬9) الملك المنصور بيت (¬10) الاستبار، فإن الداوية سألهم (¬11) الاستبار التوسط بينه وبينهم. ¬

(¬1) (ك) و (س): «سبعين ألف فارس من تركبلى وراجل. . . الخ». (¬2) شرحنا هذا المصطلح شرحا مفصلا فيما سرق (مفرج الكروب، ج 2، ص 149، هامش 1، ص 395، هامش 1) والنص هنا يضيف جديدا، فهو يشير إلى أن حملات الفرنجة الوافدين عبر البحار كان من بينهم فرق من التركبلى. (¬3) انظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 188، هامش 2). (¬4) (ك): «وأن دكيد قليط». (¬5) انظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 73، هامش 1). (¬6) (ك): «الاتنكرية». (¬7) (ك). «كثيرا». (¬8) شرحنا هذا اللفظ شرحا مفصلا في: (مفرج الكروب، ج 2، ص 13، هامش 1). (¬9) (ك): «ليصلح» (¬10) (ك): «بن» (¬11) (ك): سألوا»

فأجاب الملك المنصور: «بأنّا لا نجزع بما تقول ولا نكترث، ولو أنهم أضعاف ذلك لناجزتهم، فقد تحققنا قصدهم لنا، وعلمنا ذلك ولا سبيل إلى مصالحة الاستبار بوجه». فضرع الرسول حينئذ. وسأله تقليد الداوية (1) المائة في (¬1) صلحهم واعتذر من قوله الأول. فأجابه إلى ملتمسه. فسرّ الرسول بذلك (42 ا) وقام وكشف رأسه، وقبّل يده. وورد كتاب الملك العادل يخبره فيه بالفرنج الخارجين من البحر، وتوجههم إلى جهة اللاذقية وغيرها من البلاد. وفى هذه السنة ولد الملك المظفر تقى الدين محمود بن الملك المنصور، وسمّاه عمر، وإنما سمى محمودا بعد ذلك. وكانت ولادته بقلعة حماة ظهر يوم الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان من هذه السنة. وكان والده الملك المنصور بقلعة بعرين في مرابطة الفرنج، فلما بلغته ولادته قدم إلى حماة يوم الأحد منتصف شهر رمضان، فهنأه أكابر الدولة، ومدحه الشعراء وهنوه بذلك، فممن مدحه وهناه سالم بن سعادة الحمصى وهو من الشعراء المجيدين (¬2)، بقصيدة مطلعها: هذا الهناء الذى سرّت بشائره ... بمولد الملك الميمون طائره شبل أتى من هزبر سمر ذبّله ... آجامه ومواضيه بواتره ¬

(¬1) هذان اللفظان غير موجودين في (ك) (¬2) الأصل: «المحدثين»، وما أثبتناه صيغة (ك) وهى أصح.

ذكر الوقعة التى أوقعها الملك المنصور ببيت الاستبار

أضحى أمأ أبيه شربه، وله ... في الملك من جدّه جدّ يؤازره هنيته ولدا أطلعت كوكبه ... ويا له فلك إلا مفاخره سمّيته عمرا لما انطوى عمر ... وذكر أحسابه (¬1) في الخلق ناشره فجاء يشبهه بأسا ومحمدة ... ونائلا عمرا الآفاق عامره خضر معاينه حمر ما يكرّ به ... من الظّبى والقنا بيض مآثره خلج مناصله، عدد سوابغه ... أسد جحافله، فتح ضوامره ثرّت (¬2) مواهبه، كرّث كتائبه ... درّت سحائبه، سرّت عشائره ذكر الوقعة التي أوقعها الملك المنصور ببيت الاستبار ولما كان الحادى والعشرين من شهر رمضان من هذه السنة خرج جمع الاستبار من حصن الأكراد والمرقب، ومن وصل إليهم من الضرب، وأغاروا على عمل (¬3) بعرين. وعدتهم أربعمائة (¬4) فارس، خارجا عن التركبليّة (¬5)، وألف ومائتا (¬6) راجل ومن معهم من الجرخية (¬7)، ورماة الزنبورك (¬8). ¬

(¬1) ك: «إحسانه». (¬2) س: «درت». (¬3) (س): «بلدى». (¬4) (س): خمسمائة». (¬5) انظر ما فات من هذا الكتاب (مفرج الكروب، ج 2، ص 149، هامش 1؛ ص 395، هامش؛ ج 3 ص، هامش). (¬6) (س): «وأربعماية». (¬7) شرحنا هذا اللفظ شرحا الفصلا فيما فات (مفرج الكروب، ج 2، ص 150، هامش 3، ص 242، هامش 4). (¬8) انظر شرحنا لهذا المصطلح في (مفرج الكروب، ج 2، س 244 هامش 1).

فرتّب الملك المنصور - صاحب حماة - عسكره، وقصدهم والتقاهم، فكسرهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة. وكان (42 ب) من جملة القتلى مقدّم التركبليّة، وقومص من البحرية. وأسر منهم جماعة من الأخوة، منهم: «أفرميلو» (¬1) أخو (¬2) «الجرد». وانهزم الباقون لا يلوون على شىء، وكانوا قد كمنوا لهم كمينا، هم: مائة فارس، وألف وخمسمائة راجل، فلما علموا بالكسرة ولوا هاربين. وحملت الأسرى إلى حماة على خيولهم بعددهم، وبأيديهم قنطارياتهم (¬3). ومدح سالم بن سعادة الملك المنصور (4) مهنئا له بهذه الواقعة (¬4) بقصيدة مطلعها: أمن اللواحظ أن يفوّق أسهما ... ريم برامة مارمى (¬5) حتى رمى بصوائب تخطى النبال ونبلها يردى ... الرّمىّ، ولا يريق له دما فتّانة (¬6) بالسحر بل فتّاكة (¬7) ما ... جار قاضيهنّ حتى حكّما ومخلصها: أضحيت فيها مغرما كمحمد ... لما غدا بالأريحيّة مغرما وجرى بحلبة مجده، فتأخرت ... عنه الملوك الصيد حين تقدّما ¬

(¬1) (ك): «أبشر ميلو»، وس: «الروميلوا». (¬2) الأصل: «أخ» والتصحيح عن (ك). (¬3) أنظر شرحنا لهذا المصطلح في (مفرج الكروب، ج 1، ص 183، هامش 3) (¬4) هذه الفقرة غير موجودة في (ك). (¬5) (ك) و (س): «مارنا». (¬6) الأصل: «قنانة»، التصحيح عن (ك). (¬7) (س): «بل قتالة».

ذكر انتزاع ما كان أعطيه الملك الأفضل من البلاد ما عدا سميساط

كم بلدة للمشركين بناؤها ... بسطاك - في يوم المغار (¬1) - تهدّما وشننت منتقما بساحل (¬2) بحرها ... جيشا حكى البحر الخيضمّ عرموها أسدلت في الآفاق من هبواته (¬3) ... ليلا واطلعت الأسنّة أنجما (4) ودحيت أرض طلا الكماة براحه ... بنى العجاج لنجم صارمها سما وشدا لترقيص الجماجم صارم ... بلسانه كم شقّ من كلم فما سيف هو النهر الذى في سيفه ... تضحى نفوس بنى الأصيفر عوّما (¬4) ذكر انتزاع ما كان أعطيه الملك الأفضل من البلاد (¬5) ما عدا سميساط (¬6) وبلغ الملك العادل أن ابن أخيه (7) الملك الأفضل قد (¬7) كاتب جماعة من الأمراء، وحالفهم عليه. فكتب حين تحقق ذلك إلى ولده الملك الأشرف موسى لينتزع منه رأس عين وسروج، وكتب إلى الملك الظاهر أن يتوجه إلى قلعة نجم وينتزعها منه، ففعل ذلك ولم يبق بيده من البلاد إلا سميساط. ¬

(¬1) (س) (ج 1، ص 150 ب): «في يوم المعارك». (¬2) (ك): «باحة» وفى، (س) وتشتتت سفها باحل بحرها جيشا على البحر الحضم عرمرما. (¬3) (س): «أسدلت الآفاق من هفواته». (¬4) هذه لأبيات الثلاثة لم تزد في نسخة (س)، وإنما جاء فيها: «وهى قصدة طويلة اختصرنا منها هذا القدر خوفا من الإطالة، وفيه كفاية». (¬5) (ك): «خلا». (¬6) هذا العنوان غير موجود في (س). (¬7) هذه الكلمات ساقطة من (ك).

قال عز الدين بن الأثير

(43 ا) فلما رأى الملك الأفضل ذلك أرسل والدته إلى الملك المنصور - صاحب حماة -، وسأل أن يشفع له إلى الملك العادل، (1) وأن يرسل معها رسولا إليه. فلما وصلت إلى حماة أرسل معها القاضى زين الدين بن هندى المعروف بقاضى حمص. فمضت والدة الملك الأفضل إلى الملك العادل (¬1) ومعها القاضى زين الدين فلم تقع الإجابة إلى ما طلبت، ورجعت خائبة. قال عز الدين بن الأثير: «قد عوقب البيت الصلاحى بما فعله والدهم السلطان الملك الناصر، فإنه لما نازل - رحمه الله - الموصل محاصرا لها، خرج إليه الأتابكيات، ومن جملتهن إبنة نور الدين - رحمه الله - يشفعن إليه في أن يبقى الموصل على عز الدين مسعود، فلم يجبهن إلى ذلك، وردهنّ خائبات، ثم ندم - رحمه الله - على ردهن لما مرض غاية الندامة. وقد تقدم ذكر ذلك، فجرى الملك الأفضل من ردّ أمه خائبة غير مقبولة الشفاعة مثل ذلك سواء». ورجع القاضى زين الدين - قاضى حمص - وعلى يده من الملك العادل كتاب منه. «وكان ورود الكتاب الكريم على يد فلان (¬2)، وعرف ما ذكره ¬

(¬1) هذه الفقرة ساقطة من (س). (¬2) (س): «على يد زين الدين».

من أمر المجلس العالى الملكى الأفضلى، وما أبداه بسببه وسمع الرسالة ووعاها، وأصغى إلى إشارتها ومعناها، وقد أعاد القاضى زين الدين بعد أن شافهه بما يعيده على المجلس من الأحوال، ويورده لديه من الأقوال. والمجلس يجرى على عادته الجميلة في الإصغاء إليه، والاعتماد عليه. وكان مضمون المشافهة أن الملك الأفضل ظهرت منه أحوال، وبرزت منه أفعال لا يجب (¬1) إهمالها، فأوجب ذلك تغيرنا عليه. ولما جرى ما ذكرناه أقام الملك الأفضل بسميساط، وقطع خطبة عمه الملك العادل، وخطب للسلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود السلجوقى - صاحب بلاد الروم -، وانتمى إليه. ولما كسر الملك المنصور الاستبار كتب إلى الملك العادل يخبره بذلك، ويخبره برغبة الاستبار في الصلح، ويستطلع أوامره بذلك. فورد عليه كتاب الملك العادل، ومنه: «الذى يراه المجلس (43 ب) من الصواب يعتمده، والمصلحه إن شاء الله فيما يصقده. وأما الفرنج - خذلهم الله - فإن مادتهم قليلة، ونجدتهم متأخرة، وقد وصلت الكتب من كل جهة تخبر بضعفهم، ولم يتجدد سوى مضيهم إلى أنطاكية للصلح بين الإبرنس وابن لاون. والثغور - بحمد الله - قد تحصنت، والأمراء والعساكر إليها قد جردت، وهى بهم قد ملئت وشحنت. ¬

(¬1) (ك) و (س): «توجب».

والله تعالى يوزع شكر المجلس، فقد بلغ الغاية في الإحسان، وأتى بما يزيد على الإمكان في هذا الشأن. ويوعز (¬1) المجلس (¬2) بأن يقوى عليهم القول ويشدد عليهم الطول.» وفى ثامن شوال من هذه السنة وصلت نجدة من حلب إلى الملك المنصور، وهو نازل بقلعة بعرين. ¬

(¬1) (ك): «يؤكد». (¬2) (س): «المملوك».

ودخلت سنة ستمائة

ودخلت سنة ستمائة: والسلطان الملك العادل مقيم بقلعة دمشق. والملك الظاهر بحلب. والملك المنصور بقلعة بعرين، مرابط للفرنج المخذولين، ومعه عسكره، ومن ورد إليه من نجد الملوك. ذكر وقوع الهدنة بين الملك المنصور والفرنج (¬1) وتكررت بينه وبين الفرنج المراسلات في معنى الصلح. وآخر الأمر أنه عقد معهم عقد الهدنة، ورجع بعساكره إلى حماة، وتفرقت النجد. وفى سابع وعشرين ربيع الأول من هذه السنة نازل ابن لاون ملك الأرمن أنطاكية، وجدّ في حصارها والتضييق عليها، فخرج الملك الظاهر (2) من حلب وخيّم على حارم. واتصل ذلك بابن لاون، فرحل أنطاكية، فرجع الملك الظاهر (¬2) إلى حلب. وفى سابع عشر ربيع الآخر هجم ابن لاون أنطاكية: وذلك أنه راسله ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في (س). (¬2) هذه الجملة ساقطة من (ك).

ذكر إيقاع الملك الأشرف مظفر الدين موسى

أهلها، وضمنوا له تمليكها، فسار إليها بغتة، فلم يشعر الابرنس إلا وابن لاون (¬1) على بابها، فارتاع لذلك وقاتله ساعة. ثم هجم ابن لاون [البلد] (¬2) فالتجأ الابرنس إلى القلعة، واعتصم بها، ونادى بشعار الملك الظاهر. ووصل الخبر بذلك إلى الملك الظاهر على جناح طائر، فخرج من حلب بالعساكر، وقصد أنطاكية. وبلغ ذلك ابن لاون فكرّ راجعا إلى بلاده. ونزل الملك الظاهر بحارم. فلما رجع ابن لاون عاد الملك الظاهر إلى حلب. ذكر إيقاع الملك الأشرف مظفر الدين (¬3) موسى ابن الملك العادل بعسكر الموصل كان السبب في هذه الحرب أن قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكى - صاحب سنجار - كان بينه وبين نور الدين أرسلان شاه ابن مسعود - صاحب الموصل - وحشة - كما تقدم ذكره - ثم اتفقا بعد ذلك. ¬

(¬1) بالنص في (ك) مختلف عن الأصل، وهو هناك: «وفى سابع وعشرين ربيع الأول هجم ابن لاون على بابها، فارتاع لذلك. . . أخ»، أما النص في (س) فمختلف أيضا، وهو: «وكان ابن لاون قد هاجم انطاكية قبل ذلك، وذلك، وذلك أنه راسلوه أهلها، وضمنوا له تملكها، فسار إليها بغتة. . . الخ». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬3) هذا اللفظ ساقط من (س).

فلما كانت هذه السنة راسل الملك العادل قطب الدين واستماله، فخطب قطب الدين للملك العادل ومال إليه، فعظم ذلك على نور الدين. وسار إلى نصيبين في سلخ شوال من هذه السنة، فنازلها وملك (¬1) المدينة، ونازل القلعة عدة أيام. وبينما هو محاصر لها إذ ورد عليه مظفر الدين كوكبورى ابن زين الدين كوجك - صاحب إربل - قد قصد أعمال الموصل، فنهب نينوى، وأحرق غلاّتها. فلما بلغه ذلك سار إلى الموصل على عزم قصد إربل، ووصل إلى بلد، وعاد مظفر الدين إلى بلاده. وتحقق نور الدين أن الذى بلغه لم يكن على الصفة التي ذكرت له، فقصد تليعفر - وهى لقطب الدين - فحصرها وأخذها، ورتّب أمورها، وأقام عليها سبعة عشر يوما [وعاد إلى بلده الموصل] (¬2). واستنجد قطب الدين - صاحب سنجار - بالملك الأشرف فسار من حرّان نجدة له، ووافقه مظفر الدين (¬3) - صاحب إربل -، وصاحب آمد، وصاحب الجزيرة. ووصل الملك الأشرف إلى نصيبين، وجاءه أخوه الملك الأوحد نجم الدين - صاحب ميّافارقين -، (4) وصاحب الجزيرة (¬4) وصاحب دارا، وساروا نحو البقعاء (¬5). ¬

(¬1) (ك): «وطلب». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬3) (س): «موفق الدين». (¬4) هذان اللفظان ساقطان من (ك) و (س). (¬5) (س): «نحو الموصل».

وتقدم إليهم نور الدين في عساكره، فالتقى الفريقان بقرية يقال لها بوشزه، فانهزم نور الدين - صاحب الموصل - هزيمة قبيحة، وتفرّق عسكره (1) أيدى سبا (¬1). وساق نور الدين إلى الموصل، فدخلها في أربعة أنفس، وهو لا يصدق بالنجاة، وتلاحق أصحابه به، ونهبت أثقالهم، وكل ما حواه عسكرهم (¬2). ثم قصد الملك الأشرف في عسكره جهة الموصل، فنزلوا كفر زمار، ونهبوا البلاد نهبا عظيما. وكانت هذه الواقعة أول ما عرف من سعادة الملك الأشرف ويمن نقيبته، فإنه لم يلق بعد ذلك جيشا إلا فضّه، وعلا (44 ب) بهذه الواقعة ذكره، واشتهر صيته، وهنته الشعراء بما حصل له من هذا الفتح العظيم. ومن مدحه وهنّأه منهم كمال الدين على بن النبيه المصرى، فإنه مدحه بقصيدة مطلعها: لما انثنى الغصن فوق كثبانه ... جبرت قلبى بكسر رمّانه ونلت من ريقه وعارضه ... أطيب من راحه وريحانه ومنها: أغار في حلبة الطّراد على ... خدوده من غبار ميدانه تلقى أعادى موسى كما لقيت ... أكراته عند ضرب جوكانه الملك الأشرف الكريم يدا ... شاهر من دام عزّ سلطانه ¬

(¬1) النص في (ك): «إلى أماكن شتى». (¬2) النص في (ك): «وكلما في عسكرهم».

ملك، زمام الزمان في يده ... فاختلفت كاختلاف ألوانه (¬1) بيضاء يوم انطلاق أنعمه ... حمراء يوم اعتقال مرّانه يحكم أعداؤه بنصرته إذا ... استهلت نجوم (¬2) خرصانه عساكر الموصل التي انكسرت ... تخبر عن نفسه وفرسانه يوم أبو شزة (¬3) وقد قدحت ... سنابك الخيل زند نيرانه تفرعنوا باجتماع كيدهم ... فالتقفتهم آيات ثعبانه أغرقهم بحر جيشه، فهم ... كآل فرعون تحت طوفانه ومنها: ما تاج كسرى نظير همته ... وليس إيوانه كايوانه يا آل شاذى، زدتم به شرفا ... كلّ كتاب يدرى بعنوانه وكان من جملة النجد التي مع الملك الأشرف نجدة ابن عمّه الملك الظاهر - صاحب حلب - مقدّمها الملك الزاهر مجير الدين (¬4) داود ابن الملك الناصر - صاحب البيرة -. ثم ترددت الرسل بين الملك الأشرف و [بين] (¬5) نور الدين - صاحب الموصل - في الصلح. ¬

(¬1) (ك) و (س) «أكوانه». (¬2) (ك): «بنجوم». (¬3) (س): «أنو شزة». (¬4) (2) «نجم الدين». (¬5) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).

ذكر نزول الملك العادل على الطور لمحاربة الفرنج

فلم يجب الملك الأشرف إلا بشرط أن يعاد تليعفر إلى قطب الدين - صاحب سنجار -. فتوقف نور الدين في ذلك، ثم سلّمها، واصطلحوا في أول سنة إحدى وستمائة. (45 ا) ذكر نزول الملك العادل على الطور لمحاربة الفرنج (¬1) وفى هذه السنة خرج الملك العادل إلى الطور لحرب الفرنج، وسبب ذلك أنه اجتمع بعكا منهم جمع عظيم، وجاءوا من كل فج، وعزموا على قصد البيت المقدس واستنقاذه من أيدى المسلمين، وأخذوا في الإغارة، ونهبوا كثيرا من البلاد وسبوا وقتلوا في المسلمين. فخرج الملك العادل من دمشق بعساكره، وكتب إلى سائر البلاد يستدعى النجد، فجاءته النجد من كل ناحية. فنزل بالقرب من الطور، وبينه وبين عكا مسافة يسيرة، ليصدّهم ويردهم من البلاد. وخرج الفرنج بمجموعهم، فعسكروا بمرج عكا، وأغاروا على كفر (¬2) كنا وأخذوا كلّ من بها. واستمر الحال على ذلك إلى آخر السنة. ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في (س). (¬2) (س): «كوكب».

ذكر استيلاء الفرنج على قسطنطينية

ذكر استيلاء الفرنج على قسطنطينية لم تزل مدينة قسطنطينية بيد الروم من قديم الزمان إلى هذه السنة. فلما كانت هذه السنة خرجت الفرنج من بلادهم إليها في جموع عظيمة، وأناخوا عليها، فملكوها، وأزالوا أيدى الروم عنها. ثم لم تزل بأيدى الفرنج إلى سنة ستين وستمائة، فقصدتها الروم واستعادوها من الفرنج، وهى في أيدى الروم إلى الآن. وفى هذه السنة توفى السلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان (1) بن مسعود بن قلج أرسلان (¬1) بن سليمان بن قتلمش بن تبفو (¬2) أرسلان بن سلجوق سلطان بلاد الروم. وكانت وفاته سادس ذى القعدة، وكان موته بالقولنج (¬3)، تمادى به سبعة أيام. وكان قبل مرضه بخمسه أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية (¬4) - وهى أنقرة -، وكان حصره بها عدة سنين حتى ضعف وقلّت الأقوات عنده، فأذعن إلى التسليم على عوض يأخذه منه، فعوّضه قلعة في أطراف بلده، وحلف له عليها. ¬

(¬1) هذه الكلمات ساقطه من (ك). (¬2) (ك): «بن مسعود أرسلان بن سلجوق. . . الخ». (¬3) انظر شرحنا لهذا المصطلح فيما فات هنا (مفرج الكروب، 2، ص 106، هامش 3). (¬4) (ك) و (س): «أملورية».

فنزل عن أنقرة وسلّمها إليه، وسار ومعه ولدان له، فوضع ركن الدين من أخذه، وأخذ أولاده معه. فرماه الله تعالى عقوبة له بعد خمسة أيام بالقولنج فمات منه. ولما مات ملك ولده قلج أرسلان، وكان صغيرا، فلم يستتب أمره، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. (45 ب) وفى هذه السنة خرج أسطول من الفرنج إلى الديار المصرية، فدخلوا إلى النيل من جهة رشيد، ووصلوا إلى فوّة، وأقاموا خمسة أيام ينهبون ويسبون، وعساكر مصر تقاتلهم (¬1)، وليس لهم وصول إليهم، لأنه لم يكن هناك أسطول. وفى هذه السنة كانت زلزلة عظيمة عمّت أكثر البلاد: مصر، والشام، والجزيرة وبلاد الروم، وصقلية، وقبرص، والموصل، والعراق، ويقال إنها بلغت سبتة من أقصى المغرب. وفى هذه السنة ولد الملك الناصر صلاح الدين قلج أرسلان بن الملك المنصور - صاحب حماة - شقيق الملك المظفر تقى الدين محمود، وأمهما ملكة خاتون، ابنة الملك العادل. ¬

(¬1) (س) (ج 1، ص 153 ب): «مقابلهم».

ودخلت سنة إحدى وستمائة

ودخلت سنة إحدى وستمائة: والفرنج نازلون في جموعهم بمرج عكا، والسلطان الملك العادل في قبالتهم مرابط لهم، والرسل مترددة بينهم وبينه في الصلح. ذكرى الهدنة مع الفرنج (¬1) وآخر الأمر أنه تقررت بينهم وبينه الهدنة مدة اتفق عليها، وشرطوا أن تكون يافا لهم، واستنزلوه عن مناصفات لدّ والرملة. فأجابهم على ذلك وعقد الهدنة بينهم وبينه. ذكر رحيل الملك العادل إلى الديار المصرية ولما تقرر أمر الهدنة رحل الملك العادل إلى مصر بالعساكر المصرية، وتفرقت النجد والعساكر الشامية إلى أماكنها. وأقام بالقاهرة بدار الوزارة، وأخذ في ترتيب البلاد والنظر في مصالحها. ذكر إغارة الفرنج على حماة وفى هذه السنة أغارت الاستبارية على حماة، لأن هدنتهم مع الملك المنصور كانت قد انقضت، وانضم إليهم جمع عظيم من الفرنج، فنهبوا وقتلوا وسبوا ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في (س).

ذكر الهدنة بين الملك المنصور والفرنج

وساقوا إلى ضيعة على باب حماة تعرف «بالرقيطا»، قريبة جدا من الباب الغربى. وكان قد خرج من حماة من العامة خلق عظيم، فلما وصل العدو إلى هذا المكان (146) (1) تفرقوا، واختنق جماعة في أبواب المدنية (¬1)، ورمى خلق أنفسهم في الخنادق. ثم رجع الفرنج إلى بلادهم بعد أن ملأوا أيديهم بالسبى، وأسر من أكابر أهل حماة رجل يقال له شهاب الدين بن البلاعى (¬2)، كان فقيها شجاعا، وكان أول أمره معهما ثم خلع العمامة وتزيى بزي الجند، وتولّى البرّ (¬3) مرة بحماة، وتولّى مرة أخرى سلمية، فقاتل ذلك اليوم [قتالا شديدا] (¬4) ورمى فارسا ووقعت به فرسه، فأخذ أسيرا، وحمل إلى اطرابلس وغيره من الأسرى فهرب من اطرابلس، ورمى بنفسه في البحر، ثم تعلق بحبال (¬5) بعلبك، وجاء [بعد شدائد] (2) إلى أهله سالما. ذكر الهدنة بين الملك المنصور والفرنج ولما جرى ما ذكرناه استدعى الملك المنصور النجدة من الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل [وهو بدمشق نائبا عن أبيه] (¬6)، فسيّر إليه عسكرا. ¬

(¬1) النص في (ك) و (س): «هربوا واختبأوا جماعة في أبواب المدينة». (¬2) (س): «شهاب الدين البلاغى». (¬3) انظر ما فات بهذا الجزء، ص، هامش. (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬5) كذا في جميع النسخ، ولعلها «بجبال». (¬6) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

وترددت الرسل بين الملك المنصور والفرنج إلى أن استوثقت (¬1) الهدنة بينهم إلى مدة معلومة. وفى هذه السنة توجّه الملك المنصور إلى الديار المصرية، وكان عنده استشعار من الملك العادل، فلما وصل إلى القاهرة أحسن إليه الملك العادل إحسانا كثيرا، وأقام في خدمته شهورا (¬2)، ثم خلع عليه وعلى أصحابه وعاد إلى حماة مكرّما. وفى هذه السنة أغارت الفرنج على حمص، وقتلوا وقتلوا وأسروا جماعة. وفى هذه السنة جرّد القاضى بهاء الدين بن شدّاد - قاضى حلب - ونزع طيلسانه، وامتنع من القضاء. وكان السبب في ذلك أنه كان حضر (¬3) إملاكا لفتح الدين بن جمال الدين فرخ (¬4) على ابنة علاء الدين - صاحب نابلس (¬5) -، ولم يكن للزوجة ولىّ غير أخيها، فوكّل الأخ القاضى بهاء الدين في التزويج بعد الإشهاد عليها بالرضى. فحضر القاضى وزوجّها من الزوج المذكور، وكان كمال الدين عمر ابن العجمى حاضرا، فلما خرج مضى إلى دار علاء الدين، وأوهمهم أن العقد لا (¬6) يصح، وأحضر أخا الزوجة والزوج، وجدّد العقد، فغضب بهاء الدين، ونزع طيلسانه، وامتنع من الحكم. وعلم الملك الظاهر -[صاحب حلب] (¬7) - ذلك، فعظم عليه، وجلس ¬

(¬1) (س): «إلى أن استقرت بينهم». (¬2) (س): «شهرا». (¬3) الأصل و (س): «حصر»، والتصحيح عن (ك). (¬4) (ك) و (س): «خرج». (¬5) الأصل ك: نالس، والتصحيح عن (س). (¬6) (ك) و (س): «لم». (¬7) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

مجلسا عاما، (46 ب) أحضر فيه الأكابر من أهل حلب والفقهاء وأرباب المناصب، وأحضر كمال الدين، ثم أخذ الملك الظاهر في تعداد فضائل القاضى بهاء الدين ومناقبه، وأطنب في ذلك، ثم أخذ في ذكر معايب كمال الدين ابن العجمى، والطعن فيه، وبالغ في تبكيته وتخجيله وتقريعه، ثم أمر الحجّاب فجرّوه بأكمامه، وأخرجوه من عنده على أقبح صورة، وأمر بأن يمضوا به إلى الحبس. ثم قال للأكابر الحاضرين: «كلكم تمضون الساعة مشاة إلى دار القاضى بهاء الدين، وتكشفون رؤوسكم له، ولا تزالون به حتى يرضى». ففعلوا ذلك. ورضى القاضى بهاء الدين، وعاد إلى الحكم. ولم يعد إلى لبس الطيلسان. ثم شفع الشيخ أبو الحسن الفاسى الزاهد في كمال الدين عمر [بن العجمى] (1)، فأخرج من الحبس، وأمر أن يصير إلى دار القاضى بهاء الدين (¬1) وأمر أن يتضرع إليه حتى يرضى، ففعل. وفى هذه السنة بعث الظاهر عسكرا إلى المرقب (¬2)، وقدّم عليهم مبارز الدين أقجا (¬3)، فسار إلى المرقب (2) وحاصره، وهدم البرج الذى له على [باب] (4) الميناء فأصاب المبارز من الحصن سهم فقتله، وعاد العسكر بعد أن كادوا يفتحون الحصن، [وأيديهم ملآنة من الغنائم] (¬4). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬2) هذه الجملة ساقطة من (ك). (¬3) (س): «أقجبا». (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

ذكر إغارة الفرنج على جبلة واللاذقية

وفى هذه السنة ملك السلطان غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم. وكان لما تغلب أخوه ركن الدين على البلاد، قصد الملك الظاهر، وأقام عنده مديدة، ثم قصد صاحب قسطنطينية فأحسن إليه، وأقام عنده. فلما مات ركن الدين سليمان، وولى ابنه عزّ الدين قلج أرسلان، قصد كيخسرو البلاد، وانضم (¬1) إليه جمع كثير وملك البلاد، واستتب أمره. وفى حادى عشر شوال من هذه السنة ولد الملك الصالح أحمد بن الملك الظاهر صاحب حلب وأمّه أمّ ولد. وكان قبل ذلك ولد للملك الظاهر ولد سمّاه يوسف، من ابنة عمّه غازية ابنة السلطان الملك العادل، ثم توفى يوسف صغيرا، وتوفيت بعده أمه غازية خاتون، وهذه هى التي تزوجها الملك الظاهر في حياة أبيه الملك الناصر -[رحمهم الله تعالى] (¬2). ذكر إغارة الفرنج على جبلة واللاذقية (¬3) (47 ا) وفى ذى القعدة من هذه السنة أغارت فرنج اطرابلس على جبلة واللاذقية، وكمنوا قطعة وافرة منهم، وسرّحوا جماعة تراءوا لأهل جبلة. وبلغ ذلك عسكر الملك الظاهر النازلين بجبلة، فخرجوا إليهم فلم يشعروا ¬

(¬1) (ك): «واجتمع إليه». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬3) هذا العنوان غير موجود في (س).

ذكر واقعة غريبة

إلا بكمين الفرنج قد خرج إليهم، وبذلوا فيهم السيف فقتل من المسلمين جماعة كثيرة. وعاد الفرنج - لعنهم الله -[إلى طرابلس] (¬1) وقد ملأوا أيديهم بالسبى والغنائم. ذكر واقعة غريبة (¬2) كان القاضى أبو محمد مختار بن أبى محمد بن مختار المعروف بابن قاضى دارا، وزير الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل، وحاكما في دولته بالديار المصرية، والملك الكامل إذ ذاك ينوب عن والده الملك العادل بها. وكان الصاحب صفىّ الدين بن شكر وزير الملك العادل يبغضه ويضاده. فلما قدم الملك العادل مصر، لم يزل ابن شكر يقدح فيه عند الملك العادل (¬3) حتى نقم عليه فطلبه. فخاف عليه الملك الكامل، وأمره بالخروج من مصر، فخرج منها ومعه ولداه: فخر الدين، وشهاب الدين، واستصحب شيئا من المال يسيرا (¬4)، وورد إلى حلب، فأكرمه الملك الظاهر وأنزله (¬5). ثم ورد عليه أمر الملك الكامل يستدعيه إلى مصر، وكان الملك الظاهر قد عرض عليه أن يخدمه، فأبى، وخرج فنزل بعين المباركة على باب حلب، وأقام بها يتهيأ للسفر. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن. (س). (¬2) (ك) و (س) «عجيبة». (¬3) الأصل: «الكامل»، والتصحيح عن (ك). (¬4) (ك): «واستصحب شىء يسير من المال». (¬5) الأصل: «وأمر له» بدون نقط، والتصحيح عن (ك) و (س).

فلما كان الرابع والعشرون من ذى القعدة من هذه السنة لم يشعر أصحابه إلا بخمسين فارسا قد أحاطوا بمضربه وقد مضى ربع الليل، وقالوا: «نريد القاضى». فقالوا (¬1): «إنه نائم». فقالوا: «ينبة» (¬2). فخرج إليهم في ثياب النوم. فترجّل منهم ثلاثة نفر فقتلوه، ثم قالوا لغلمانه: «احفظوا أموالكم، فما كان لنا غرض سواه». واتصل الخبر بالملك الظاهر (¬3)، فركب وشاهده، وأعظم مصابه، وفرّق الرجال في الطرق، فلم تقف لقتلته على خبر، [فكان كما قيل: هرب من القتل إلى القتل، فما ينجى حذر من قدر] (¬4) وفى هذه السنة أغار الملك المجاهد أسد الدين - صاحب حمص - على الفرنج حتى وصلت غارته إلى حصن الأكراد، وأخذ من الغنم (¬5) والمواشى ما لا يحصى كثرة. وفى هذه السنة (47 ب) خلع الإمام الناصر لدين الله ولده عدّة (¬6) الدين أبا نصر محمدا من ولاية عهده. ¬

(¬1) (س): «فقيل لهم». (¬2) (س): «فقالوا: نبهوه، فأنبهوه». (¬3) النص في (ك): «ولم يصل الخبر بالملك الظاهر، فلما وصل خبره ركب وشاهده». (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ج 1، ص 155 ب). (¬5) س: «الغنائم». (¬6) س: «عمدة».

وكنا قد ذكرنا أن الإمام الناصر قد ولاّه عهده، فلما كانت هذه السنة انحرف عنه، ومال إلى أخيه الأصغر أبى الحسن، ولقّبه «الملك المعظم»، فأظهر في دار وزير الخليفة - وهو يومئذ الشريف نصير الدين بن ناصر الدين بن مهدى - ورقة بخط ولى العهد أبى نصر إلى الخليفة تتضمن العجز عن القيام بولاية العهد، ويطلب الإقالة؛ وشهد عدلان (¬1) أن الورقة بخطه، وعمل بذلك محضر، شهد فيه الفقهاء والقضاة والفقهاء العدول فقطعت الخطبة والسكة باسمه في سائر الآفاق (¬2). ¬

(¬1) (س): «وشهد شاهدين». (¬2) النص في ك: «فقطعت وخطب له في سائر الآفاق».

ودخلت سنة اثنتين وستمائة

ودخلت سنة اثنتين وستمائة: والسلطان الملك العادل بالديار المصرية، والممالك بحالها. وفى هذه السنة أغار ابن لاون - ملك الأرمن - على التركمان وهم نازلون بالنهر الأسود، فأخذ منهم عالما لا يحصى، واستاق نعمهم ومواشيهم، وسار إلى در بساك، فحرق ربضها، وعاد إلى بلاده. فبعث الملك الظاهر سيف الدين بن علم الدين بن جندر، وفارس الدين ميمون القصرى إلى حارم، وسار بعساكره حتى خيّم على [مرج] (¬1) دابق، وجمع إليه خلقا من التركمان. فأرسل ابن لاون إلى الملك الظاهر في أن يردّ جميع ما أخذ، وطلب رسولا يتحدث معه. فأرسل الملك الظاهر سعد الدين بن فاخر، فتحدث معه في الصلح، ورد الأخيذة، فاطمأنت القلوب، وأعطى الملك الظاهر التركمان الدستور بعد أن خلع عليهم. ولما تحقق ابن لاون طمأنينة الناس سار إلى حارم، وضرب على العسكر النازل حولها وقت الصباح، فقتل جماعة، واستاق من كان في سوق العسكر، والرجّالة، ومن عجز عن الهرب، ثم سار من يومه ودخل بلاده. فسار الملك الظاهر إلى حارم، فشاهد حالة قبيحة من كثرة القتلى، فسار حتى خيّم على جسر الحديد، وطلب جماعة من أنطاكية، واتفق معهم على أن ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن س.

يستخدم من الفرنج عشرة آلاف راجل، ويقصدون بلاد ابن لاون (¬1) من جهتهم، ويقصد الملك الظاهر بلاده من جهة قورص، ويجتمعون على إستئصال شأفته، وقلع أثره. واتصل ذلك بابن لاون، فخضع، وبذل أن يعطى (48 ا) كل أسير [عنده] (2) في بلده. فأجاب الملك الظاهر إلى صلحه، وأرسل سعد الدين فتسلّم الأسرى [وكانوا خلقا كثيرا] (¬2)، وعاد الملك الظاهر إلى حلب. ¬

(¬1) (س): «بلاد الأرمن». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) و (س).

ودخلت سنة ثلاث وستمائة

ودخلت سنة ثلاث وستمائة (1) والممالك على ما كانت في السنة التي قبلها. ذكر مسير الملك العادل إلى الشام (¬1) ولما تواترت الأخبار إلى السلطان الملك العادل بتطرق الفرنج بلاد المسلمين، وإغارة أهل حصن الأكراد وطرابلس على بلاد حمص خرج مبرزا إلى العباسة، وأغذّ السير إلى الشام، ونازل في طريقه عكّا، فصالحه أهلها على إطلاق جميع من (¬2) في أيديهم من أسرى المسلمين. ثم رحل عنهم ووصل إلى دمشق [فلما وصل إليها أقام فيها أياما] (¬3)، ثم خرج منها مبرزا إلى القصير على نيّة الجهاد. ذكر وصول الملك العادل إلى بحيرة قدس وما فعله بالساحل بعد ذلك (¬4) ثم وصل الملك العادل إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس، واستدعى الملوك من أهل بيته والعساكر، فجاءوه من كل ناحية. ¬

(¬1) هاتان الفقرتان غير موجودين في (س). (¬2) (ك) و (س) «جميع من». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬4) هذا العنوان غير موجود في (س).

وورد إلى خدمته: الملك المنصور - صاحب حماة - والملك المجاهد - صاحب حمص - ونجدة ابن أخيه الملك الظاهر؛ ووصل إليه الملك الأمجد، - صاحب بعلبك - وعسكر سنجار والموصل والجزيرة وآمد، وولداه: الملك المعظم، والملك الأشرف، فاجتمع عنده نحو عشرة آلاف فارس (¬1)، وعسكروا معه على البحيرة. وأشاع قصد اطرابلس. ولم يزل مقيما بالبحيرة حتى صام شهر رمضان كله، ثم سار متوجها إلى حصن الأكراد، فنازله، وقاتل أهله أشدّ قتال، وفتح برجا قريبا منه، يسمى أعنار، وأخذ منه خمسمائة رجل وأموالا وسلاحا كثيرا. ثم توجه إلى قلعة قريبة من أطرابلس، ونصب عليها المجانيق، ولم يزل مصابرا لها إلى أن افتتحها، وحصل على جميع ما كان فيها. ثم رحل منها ونازل أطرابلس، ونصب عليها المجانيق، وضيّق على أهلها أشد تضييق، وعاشت العساكر (¬2) في قرى أطرابلس وبساتينها، وقطعوا جميع ما عليها من الشجر، وهدموا كل حائط على ظاهرها، وقطعوا العين (48 ب) الواصلة إليها، وخرّبوا طرقها؛ ولم يزل الأمر (¬3) كذلك إلى أيام من ذى الحجة، فآنس الملك العادل من أصحابه فشلا وضجرا، فعاد إلى حمص، فنزل على البحيرة. فبعث إليه صاحب أطرابلس (4) يخضع له، وبعث له (¬4) مالا وهدايا، وثلاثمائة أسير، ورغب في الصلح، فصالحه في آخر ذى الحجة. ¬

(¬1) س (ج 1، ص 156 ب): «نحو خمسة عشر ألف فارس». (¬2) (ك): «وغارت العساكر على قرى. . الخ». (¬3) الأصل: «الأمراء»، والتصحيح عن (س). (¬4) هذه الجملة ساقطة من (ك) و (س).

وفى هذه المدة (¬1) ترددت رسل بين الملك الظاهر وعمه الملك العادل، ومكاتبات ومعاتبات استشعر منها الملك الظاهر. وتحدث الناس بأن الملك العادل عازم على قصد حلب، وكثرة الأراجيف. فأخذ الملك الظاهر في تحصين حلب، وجمع الغلال والأحطاب وغير ذلك، وبذل الأموال. ثم راسله الملك العادل بما طيّب قلبه، وتجددت بينهما الأيمان والعهود. ¬

(¬1) (س): «وفى هذه السنة».

ودخلت سنة أربع وستمائة

ودخلت سنة أربع وستمائة: والملك العادل نازل على بحيرة قدس، وقد فتك في الفرنج بالساحل فتكا عظيما، وأخاف أهله. ولما وقع الصلح بينه وبين صاحب اطرابلس رجع إلى دمشق فأقام بها. وفى هذه السنة توفى زين الدين قراجا الصلاحى [رحمه الله، وكان أميرا أديبا خيرا عادلا يحب العدل والإنصاف] (¬1). ذكر استيلاء الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل على خلاط وبلادها كانت خلاط قد صادرت - كما ذكرنا - بعد موت صاحبها شاهر من ابن سكمان لمملوكه سيف الدين بكتمر. ثم قتل بكتمر في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فملكها بعده ابن لبكتمر، ثم تغلّب عليها سيف الدين بلبان أحد مماليك شاهرمن. وكان الملك الأوحد قد ملكّه أبوه الملك العادل ميّافارقين وما معها من الأعمال. فقصد الملك الأوحد مدينة موش (¬2)، فأخذ غيرها مما يجاورها، وطمع في ملك خلاط وقصدها. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬2) س: «موس».

فخرج إليه سيف الدين بلبان، وتصافا، فانهزم الملك الأوحد ورجع إلى ميّافارقين، وجمع وحشد، واستنجد بأبيه الملك للعادل، فبعث إليه عسكرا، فقصد خلاط ثانيا، فخرج إليه بلبان، وتصافا، واقتتلا، فانهزم بلبان. وتمكّن الملك الأوحد من البلاد، وازداد طمعه فيها؛ واعتصم بلبان بخلاط، (49 ا) وبعث إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان السلجوقى - صاحب أرزن الروم - يستغيث به، ويستنجد به على الملك الأوحد. فحضر بنفسه ومعه عسكره، واجتمعا وصافا الملك الأوحد، فانهزم الملك الأوحد. وحصرا حصن موش حتى أشرف على أن يملك، فغدر مغيث الدين ببلبان، فقتله طمعا في بلاده، وسار إلى خلاط ليملكها، فمنعه أهلها، فسار إلى ملاذكرد، فردّه أهلها أيضا، فعاد إلى بلده. واستدعى أهل خلاط الملك الأوحد ليملكوه، فحضر إليهم فملكوه إياها في هذه السنة، وملك بلادها إلا اليسير منها، وكره المجاورون له ملكه [تلك البلاد] (¬1) خوفا من أبيه الملك العادل، وكذلك أيضا خافه الكرج، وكرهوه، فتابعوا الغارات على أعمال خلاط وبلادها، والملك الأوحد مقيم بخلاط لا يقدر على مفارقتها. واعتزل جماعة من عسكر خلاط، واستولوا على حصن «وان» وهو من أعظم الحصون، وعصوا على الملك الأوحد، واجتمع منهم جمع كثير، واستولوا على مدينة أرجيش. فكتب الملك الأوحد إلى أبيه الملك العادل يعلمه الحال، فسيّر إليه أخاه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

ذكر الفتنة بخلاط

الملك الأشرف موسى في عسكر كثيف، وحصروا قلعة وان، فسلموها صلحا وخرجوا منها. فرجع الملك الأشرف إلى بلاده. وهذه خلاط كانت من أعظم الممالك، وذكر أنها تقارب الديار المصرية في المنزلة، وأنها تشتمل على نحو سبعين بلدا، ويعرف إقليمها بأرمينية، وإنما خرّبت هى وغيرها من البلاد لما ملكها التتر. ذكر الفتنة بخلاط ولما ملك الملك الأوحد خلاط سار عنها إلى ملاذكرد ليقرّر قواعدها، فلما فارق خلاط وثب أهلها على من بها من عسكر الملك الأوحد، فأخرجوهم من عندهم، وحصروا القلعة وبها أصحاب الأوحد، ونادوا بشعار شاهرمن وإن كان قد مات قبل ذلك بزمان، وإنما يعنون بذلك ردّ الملك إلى مماليكه. وبلغ الخبر الملك الأوحد، فعاد إليها، وقد وافاه عسكر من عند (¬1) أخيه الملك الأشرف، (49 ب) وحصر خلاط، فملكها، وبذل السيف في أهلها، فقتل منهم خلقا عظيما (¬2)، وأسر جماعة من الأعيان (¬3)، وسيّرهم إلى ميافارقين، وكان كلّ يوم يرسل إليهم من يقتل منهم جماعة، فلم يسلم من أهلها (¬4) إلا القليل. وكان الملك الأوحد شهما مقداما على القتل، فذلّ بهذا الفعل ¬

(¬1) هذا اللفظ غير موجود في (ك) و (س). (¬2) (ك): «كثيرا». (¬3) (ك): «من أكابر أهلها». (¬4) (ك): «منهم»

[أهل] (¬1) خلاط، وتفرقت كلمة الفتيان بها. وكان الحكم لهم يملّكون كلّ يوم ملكا ويقتلون آخر. وفى هذه السنة عزل الخليفة الناصر لدين الله وزيره نصير الدين ناصر ابن مهدى العلوى، وكان متمكنا في وزارته، وأصله من الرىّ، من بيت كبير. وكان سبب عزله أنه أساء السيرة مع أكابر مماليك الخليفة، منهم: أمير الحاج مظفر الدين سنقر - المعروف بوجه السبع -، هرب من يده إلى الشام، واتصل بالملك العادل سنة ثلاث وستمائة، وأرسل يعتذر، ويقول: «هربت من يد الوزير». ثم تبعه في الهرب قشتمر، وهو أخصّ مماليك الخليفة، هرب إلى دسقان، وأرسل يقول: «إن الوزير يريد أن لا يبقى في خدمة الخليفة أحد من مماليكه، ولا شك أنه يريد أن يدّعى الخلافة لنفسه». وأكثر الناس القول فيه. وقال بعض الشعراء فيه أبياتا يعرّض فيها بأن الوزير يروم الخلافة لنفسه، لشرفه. وهى: ألا مبلغ عنى الخليفة أحمدا ... توقّ - وقيت السوء - ما أنت (¬2) صانع وزيرك هذا بين أمرين فيهما ... فعالك - يا خير البرّية - ضائع ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) و (س). (¬2) (س): «ما أنا صانع».

فإن كان حقّا من سلالة أحمد ... فهذا وزير في الخلافة طامع وإن كان فيما يدّعى غير صادق ... فأضيع ما كانت لديه الصّنائع فعزله الخليفة. وقيل: كان سبب عزله غير ذلك، والله أعلم. ولما عزل كتب إلى الخليفة: «إنى قدمت إلى هاهنا وليس لى دينار ولا درهم، (1) وقد حصل لى (¬1) من الأموال والأعلاق النفيسة وغير ذلك ما يزيد على خمسمائة ألف دينار». وسأل أن يؤخذ الجميع، وأن يفرج عنه، ويسكن في المشهد أسوة ببعض العلويين. فخرج الجواب: «ما أنعمنا عليك بشىء فنوينا استعادته منك، (50 ا) ولو كان ملء الأرض ذهبا، وأنت في أمان الله وأماننا، ولم يبلغنا عنك ما تستوجب به ذلك، غير أن الأعداء قد أكثروا فيك [القول] (¬2)، وأختر لنفسك موضعا تنتقل إليه موقرا محترما». فأختار أن يكون تحت استظهار من جانب الخليفة (¬3)، لئلا يتمكن منه عدو، فتذهب نفسه، ففعل به ذلك. وكان حسن السيرة قريبا من الناس حسن اللقاء لهم. ¬

(¬1) (ك): «ووصل إلىّ». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) و (س). (¬3) (س): «تحت ظل الخليفة».

ذكر التشريف الوارد إلى الملك العادل من الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين

ذكر التشريف الوارد إلى الملك العادل من الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين كان الملك العادل قد سيّر أستاذ داره ألدكز العادلىّ، والقاضى نجم الدين خليل بن المصمودى (¬1) الحنفى الحموى - قاضى العسكر - رسولين إلى الديوان العزيز، يطلب التشريف والتقليد على مصر، والشام، والبلاد الجزرية، وخلاط. فأكرما، وأحسن إليهما، وأجيبا إلى مطلوبهما. وأرسل من الديوان (¬2) إلى الملك العادل الشيخ الإمام قدوة العارفين، شيخ الطريقة والحقيقة شهاب الدين السهروردى - قدّس الله روحه - ومعه التشريف الإمامى. ولما وصل إلى حلب خرج الملك الظاهر إلى لقائه في جميع عساكره وأرباب دولته، وأنزل في إيوان دار العدل، [فأقام يومين للراحة] (¬3). وفى اليوم الثالث من مقدمه نصب له كرسى الوعظ، وكانت عادته جارية به، وحضره الملك الظاهر وأرباب المناصب في الإيوان. وتكلم الشيخ شهاب الدين، وذكر من مواعظه ما خشعت له القلوب، ودمعت له العيون، وأخبر وهو على المنبر أنه أطلق في بغداد وغيرها من المؤن والضرائب ما مبلغه (¬4) ثلاثة آلاف دينار، فارتفعت الأدعية للخليفة. ¬

(¬1) (ك): «خليل الصمودى». (¬2) (ك): «من الديوان السعيد»، و (س): «الديوان العزيز». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬4) (ك): «ثلاثين» و (س): «ثلاثة آلاف ألف دينار»

ثم سار الشيخ شهاب الدين من حلب، وأرسل معه الملك الظاهر القاضى بهاء الدين بن شدّاد، ومعه ثلاثة آلاف دينار، لأجل النثار إذا لبس الملك العادل خلعة الخليفة. وبعث الملك المنصور، والملك المجاهد أيضا ما ينثر. ولما قارب الشيخ شهاب الدين دمشق تقدّم الملك العادل إلى العساكر. (50 ب) بلقائه، فلقيه أول العسكر بالغسولة، ولقيه من القصر (¬1) الملك العادل، وولداه: الملك الأشرف، والملك المعظم، وغلّقت الأسواق، وخرج الناس كلّهم، وكان يوما مشهودا. وجلس الملك العادل غد ذلك اليوم في دار رضوان، بقلعة دمشق، ودخل القاضى بهاء الدين، ورسولا صاحبى حماة وحمص، وأفيضت على الملك العادل جبة أطلس أسود بطراز مذهب، (2) وعمامة سوداء بطراز مذهب (¬2)، وطوّق بطوق ذهب مجوهر ثقيل، وقلّد بسيف محلى جميع قرابه بذهب، وركب حصانا أشهب بمركب ذهب، ونشر على رأسه علم أسود مكتوب عليه بالبياض ألقاب الخليفة. وعند لبسه الخلعة نثر القاضى [بهاء الدين] (¬3) ورسولا صاحبى حماة وحمص عليه الذهب، وقدّم له القاضى بهاء الدين خمسين قطعة من أفخر القماش، ونثر عليه رسل سائر الملوك الذهب. ثم خلع رسول الخليفة على كلّ واحد من الملك الأشرف والملك المعظم، ¬

(¬1) الأصل: «العصر»، والتصحيح عن (ك) و (س). (¬2) هذه الجملة ساقطة من (ك) و (س). (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).

عمامة سوداء، وثوبا أسود واسع الكم، وخلع على الصاحب صفّى الدين ابن شكر كذلك. وركب الملك العادل وولداه ووزيره بالتشريفات [إلى ظاهر البلد] (1)، ثم عادوا إلى القلعة [من باب النصر] (¬1). وقرأ الصاحب صفّى الدين التقليد الإمامى على كرسىّ نصب له، وخوطب الملك العادل فيه: «بشاهان شاه، ملك الملوك خليل أمير المؤمنين» (¬2). ثم توجّه الشيخ شهاب الدين إلى الديار المصرية فخلع على الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل، وجرى بمصر نظير ما جرى بدمشق من الزينة وإعظام رسول الخليفة، وركوب الملك الكامل بالتشريف الإمامى. ثم عاد الشيخ [شهاب الدين] (3) إلى الديوان [العزيز] (¬3) مكر ما معظما. وفى هذه السنة أمر الملك العادل بعمارة قلعة دمشق، وألزم كلّ واحد من ملوك أهل بيته بعمارة برج من أبراجها من ماله. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬2) هذا مثال نادر لبيان الخلع التشريفية التي كان يخلعها الخليفة على صاحب مصر والشام من الأيوبين وعلى رجال دولته، وهذا أيضا وصف طريف لطريقة الاحتفال بالباس هذه الخلع. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).

ودخلت سنة خمس وستمائة

ودخلت سنة خمس وستمائة: والملك العادل مقيم بدمشق، وعنده بها ولداه: الملك الأشرف والملك المعظم. (51 أ) وفى هذه السنة سارت الكرج بجموعها إلى مدينة (¬1) خلاط، وقصدوا أرجيش، وملكوها عنوة، وأخذوا جميع ما فيها من الأموال والأمتعة، وسبوا أهلها، وأحرقوها وخرّبوها. وكان الملك الأوحد بخلاط، فلم يقدم على الكرج لكثرتهم وخوفه من أهل خلاط، لما كان أسداه إليهم من القتل والأذى، فخاف إن خرج أن لا يمكّن من العود إليها. ذكر قدوم الملك الأشرف إلى حلب ثم توجهه إلى الشرق وفى هذه السنة توجه الملك الأشرف راجعا إلى بلاده من دمشق. ولما وصل إلى حلب تلقاه الملك الظاهر، وأنزله بقلعة حلب، وبالغ في إكرامه وإتحافه. فذكر أنه كان -[مدة مقامه] (¬2) - يقيم له ولجميع عسكره وأتباعهم بجميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والحلواء وعلوفات الدواب، وكان ¬

(¬1) (ك) و (س): «ولاية». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).

يحمل إليه (¬1) كل يوم خلعة كاملة؛ غلالة، وقباء، وسراويل، وكمّة (¬2)، وفروة، وسيف، وحصان، ومنطقة، ومنديل، وسكين، وتلكش (¬3)؛ وخمس (¬4) خلع لأصحابه. وأقام على ذلك خمسة وعشرين يوما، وقدّم له تقدمة اشتملت على مائة ألف درهم، [وعند زواجه قدّم له] (¬5) مائة بقجة مع مائة مملوك. منها عشر في كل واحدة منها ثلاثة أثواب أطلس، وثوبان من الخطابى، وعلى كل بقجة جلد قندسى كبير. (ومنها: عشر في كل منها عشرة أثواب عتّابى (¬6) خوارزمى، وعليها عشرة جلود قندسى (¬7) كبار. ومنها عشر، في كل منها: خمسة أثواب عتّابى بغدادى وموصلى، وعليها عشرة جلود قندسى صغار. ¬

(¬1) (س): «إلى الملك الأشرف». (¬2) الكمة (والجمع كمام): فسرها (Dozy : Sup .Diet .arab) بأنها قلنسوة مستديرة ومرتفعة (bonne, hout et rond) وقد تترجم إلى (bavecon) أي الشكيمة من الحديد التي توضع في فم الحصان، والترجمة الأولى أقرب إلى الصحة. (¬3) هذا وصف تفصيلى هام لجميع أجزاء الخلعة التي كان يخلعها ملك على ملك في العصر الأيوبى وعن التلكش أو التركش. انظر: (مفرج الكروب، ج 1، ص 279، هامش 5). (¬4) هذا اللفظ ساقط من (ك). (¬5) ما بين الحاصرتين زيادة عن س (ج 1، ص 160 ا). (¬6) ذكر (ابن خلكان: الوفيات، ج 4، ص 22 - 23) و (ابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب) أن العنابى نسبة إلى «العتابيين» وهى إحدى محال بغداد في الجانب الغربى منها، وقد اشتهرت هذه المحلة بانتاج نوع من النسيج المخطط، ومن هنا عرف كل نسيج مخطط باسم العتابى مهما كان مكان صنعه. (¬7) القدس كلب الماء، راجع (Dozy : Supp .Dict .Atrab).

ومنها عشرون، في كل منها: خمسة أثواب معتق، وسيوسى (¬1) ودبيقى. (ومنها أربعون، في كل منها: خمسة أقبية، وخمس كمام (¬2) وحمل إليه خمس حصن عربية بعدتها، وعشرين أكديشا (¬3) [رومية] (4) وأربعة قطر بغال، وخمس بغلات فائقات بالسروج واللجم المكفتة [بالذهب] (¬4) وقطارين جمال. وخلع على أصحابه مائة وخمسين خلعة، وقاد إلى أكثرهم بغلات وأكاديش ومدح شرف الدين راجح الحلّى الملكين، وهنأهما باجتماعهما (51 ب) بقصيدة مطلعها: ما ضرّ من ألف القطيعة لو شفى ... صبّا يبيت من الغرام على شفا يترى كخط بين هدب جفونه ... سهم أظل لوقعه مستهدفا ومنها: تا لله لو أسعفتنى بزيارة ... ومآل أمرك أن ترقّ وتسعفا لجعلت ألزم معطفا لا ينثنى ... يوما إلى عطف، وألثم مرشفا وأرى دليل قبول صبرى أننى ... من فيك أرتشف الشمول القرقفا مثل ارتشافى الترب شكرا للذى ... أهدى إلى حلب المليك الأشرفا ملك أتاها في اقتبال سعادة ... أذنت لطرف معاند أن يطرفا ولأجله اكتست الأباطح والربى ... وشيا من الروض الأريض مزخرفا ¬

(¬1) هذا اللفظ غير موجود في (س). (¬2) (ك): «كمم»، انظر ما فات في هذا الجزء، ص. (¬3) شرحنا هذا اللفظ بالتفصيل في: (مفرج الكروب، 2، ص 427، هامش 1). (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

وسرى النسيم إلى الغصون معّرضا ... فيها لورق حمامة أن تهتفا وافترّ ثغر البرق حتى خلته ... ينضو على أعلام جوشر مرهفا فكأنّها كانت على بعد المدى ... تبدى إليك تشوّقا وتشوّفا آنست يا موسى بها نار الهدى ... فأتيت من شوق إليها موجفا وحللت بالوادى المقدّس قابسا ... نور التلاقى والدنوّ فلا انطفا وتباشرت حلب بمقدمك الذى ... هو مدّ ظلّ سرورنا حتى ضفا وغدا غياث الدين مبتهجا بها ... بشرى كأن الله أحيا يوسفا ومنها: يا ابن الذى بجهاده وجلاده ... أضحت بلاد الشرك قاعا صفصفا خلط الشجاعة بالندى فحسامه ... لمن اعتدى (¬1) وسماحه لمن اعتفا اليوم كفّ عن الجدال منقّصا ... من كان طوّل في المقال وسوّفا والملك قد قرّت قواعده بكم ... مذ غرتم لشموسه أن تكسفا فبقيتم ترعى الرعيّة عدلكم ... ويذبّ عن دين النبى المصطفى ما غرّدت أيكيّة أو صيّدت ... أيدى النسيم من الأراكة معطفا (52 ا) ثم سار الملك الأشرف إلى بلاده. وفى هذه السنة: أمر الملك الظاهر بإجراء القناة (¬2) من جيلان إلى حلب، ¬

(¬1) النص في ك: «خلط الشجاعة بالندى لمن اغتدى يرجو الجزاء. . . إلخ». (¬2) توجد مقابل هذا اللفظ في هامش ص 520 من نسخة (ك) وبخط مخالف الجملة الآتية: «وفى ساتوره (ولعلها باشورة) بقلعة حلب سقور في الحجر بأن بناها الملك الظاهر سنة تسع وتسعين وخمسمائة». وتحت هذه الجملة بخط آخر يخالف خط المتن والهامش الأول يوجد تصويب نصه: «وصوابه 509». والتصويب خطأ كما يتضح من السياق.

ذكر مقتل معز الدين سنجر شاه - صاحب الجزيرة -

وغرم على ذلك أموالا كثيرة، وتقسمت في البلد في القاعات والمدارس والخانقاهات والربط، وبقى البلد يجرى الماء فيه مضاهيا لدمشق. وفى هذه السنة: وصل غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقى - صاحب بلاد الروم - إلى مرعش، لقصد بلاد ابن لاون ملك الأرمن. فأنفذ إليه الملك الظاهر جماعة من عسكره، يكونون في خدمته مع سيف الدين ابن علم الدين بن جندر، وعز الدين أيبك فطيس. فدخل غياث الدين بلاد ابن لاون، وعاث فيها ونازل حصنا يعرف بغرقوس، وافتتحه بالأمان، وأبقاه وشيّد عمارته. وفتح قلاعا أخرى وخرّبها. ثم رجع غياث الدين لما وقع الثلج (¬1)، وقد فتح كثيرا من الحصون. ذكر مقتل معز الدين سنجر شاه - صاحب الجزيرة - وفى هذه السنة: قتل معز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازى (2) ابن مودود (¬2) بن زنكى - صاحب جزيرة ابن عمر -. وقد ذكرنا تملكه لها بعد أبيه سيف الدين غازى - صاحب الموصل -، وأخباره مع السلطان الملك الناصر صلاح الدين، وانتماءه إليه، ثم هربه منه بمرج عكّا، وغضب السلطان عليه، ثم عوده ورضى السلطان عنه. ¬

(¬1) الأصل: «البلح»، وما هنا صيغة (ك) و (س). (¬2) هذان اللفظان ساقطان من (ك).

وكان ظالما، قبيح السيرة جدا، سفّاكا للدماء لا يمتنع عن قبيح يفعله مع رعيته من القتل، وقطع الألسنة، والأنوف، والآذان، وحلق اللحى. وتعدّى ظلمه إلى أولاده [وجيرته] (¬1) وحريمه، فبعث ابنيه محمودا ومودودا إلى قلعة فرح، فحبسهما فيها، وحبس ابنه غازى في دار في المدينة، ووكّل به من يمنعه من الخروج منها؛ وكانت الدار إلى جانب بستان لبعض الرعيّة، فكان يدخل إليه منها العقارب والحيات وغيرها من المؤذيات، فاصطاد يوما حيّة، وسيّرها في مندبل إلى أبيه، لعله يرقّ له، فلم يزده ذلك إلا قسوة. فأعمل غازى الحيلة حتى تخلّص من الدار التي كان محبوسا بها، واختفى في بعض آدر البلد، وقرّر مع إنسان كان يخدمه (52 ب) أنه يسافر، ويظهر أنه غازى بن معز الدين، وتتم له في قتله الحيلة. فمضى ذلك الإنسان إلى الموصل، وأظهر أنه غازى. ولما سمع نور الدين أرسلان شاه - صاحب الموصل - به، سيّر له نفقة وأثاثا وخيلا، وأمره بالعود إلى أبيه؛ وقال له: «إن أباك يتجنى علينا الذنوب، ويقبّح عند الناس ذكرنا، فإذا أتيت إلينا جعل ذلك ذريعة للشناعات والشفاعات، ونقع معه في صراع». فسيّر ذلك الشخص إلى الشام، وأظهر أنه غازى ابن صاحب الجزيرة في كل مكان وصل إليه. وتحقّق أبوه (¬2) أن ابنه هرب، واطمأن قلبه بخروجه عنه. ثم إن غازى تسلّق إلى دار أبيه، واختفى عند بعض السرارى، وعلم به ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬2) الأصل: «أمره»، والتصحيح عن (ك).

أكثر من في الدار فسترن عليه بغضا لأبيه، وإيثارا للراحة منه، فبقى في دار أبيه أياما مختفيا. واتفق أن أباه شرب يوما ظاهر البلد، ولم يزل يقترح على المغنين في ذلك اليوم أن يغنوا له في أبيات الفراق وهو يبكى، فكأنه استشعر دنو أجله. ثم دخل إلى داره، ونزل عند بعض حظاياه وهو سكران، وكان ابنه عند تلك الحظية، فقام معز الدين ليدخل بيت الخلاء، فهجم عليه ولده غازى، فضربه بالسكين أربع عشرة ضربة، ثم ذبحه، وتركه ملقى ودخل الحمام، وقعد يلعب مع الجوارى؛ فلو أحضر الجند (¬1) واستحلفهم لملك البلد، لكنه سكن واطمأن، فخرج بعض الخدم الصغار، وأعلم أستاذ دار أبيه بالواقعة، فأحضر أعيان الدولة وعرّفهم ذلك. ثم أغلق أبواب (¬2) الدار على غازى، واستحلف الناس لأخيه معز الدين محمود بن سنجر شاه. ولما حلف الناس فتحوا الباب وهجموا على غازى فقتلوه، وألقوه على الباب فأكلت الكلاب بعض لحمه، ثم دفنوه. ووصل معزّ الدين محمود، واستقر ملكه بالجزيرة، وقبض على جوارى أبيه فغرّقهن في دجلة. فذكر أنه كان يأخذ الجارية، فيجعل وجهها في النار حتى يحترق، ثم يلقى بها في الماء (¬3) فتغرق، ثم قتل بعد ذلك محمود أخاه مودودا. ¬

(¬1) (ك): «أكابر الدولة» و (س): «فلو أنه استحضر الأمراء وأرباب الدولة في تلك الساعة. . . الخ». (¬2) (ك): «باب الدار». (¬3) (ك): «في التيار».

ودخلت سنة ست وستمائة

ودخلت سنة ست وستمائة: والملك العادل مقيم بدمشق. والممالك على ما كانت عليه في السنة الماضية. (53 ا) ذكر مسير الملك العادل إلى البلاد الشرفية كنا قد ذكرنا قصد الكرج الأعمال الخلاطية (¬1) وما فعلوه بأرحيش. وتكررت كتب الملك الأوحد إلى الملك (¬2) العادل يستصرخه عليهم، فسافر الملك العادل من دمشق، وقصد الفرات فقطعها (¬3)، وكتب إلى البلاد يطلب العساكر، وأظهر أنه يريد قصد الكرج. فوصل إليه الملك المنصور - صاحب حماة -، والملك (4) المجاهد - صاحب حمص -، والملك الأمجد - صاحب بعلبك - وعسكر من الملك الظاهر - صاحب حلب. ونزل بحرّان (¬4)، ووصل إليه ولده الملك الأوحد - صاحب خلاط وميّا فارقين -، والملك الأشرف، والملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان ¬

(¬1) (ك): «الأخلاطية». (¬2) (ك): «لأبيه الملك العادل». (¬3) (س): «وقصد إلى كفر طاب فأقطعها». (¬4) هذه الفقرة ساقطة من (ك).

الارتقى - صاحب آمد وحصن كيغا -، ووصل إليه صاحب السويداء، وصاحب دارا. فلما تكاملت العساكر عنده واجتمعت، كاتب قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكى - صاحب سنجار - ليسلم إليه سنجار ويعطيه عنها عوضا، فعزم قطب الدين على ذلك، فمنعه منه أحمد بن برتقش - مملوك أبيه -، وقام له بحفظ سنجار والذبّ عنها. وكان نور الدين أرسلان شاه - صاحب الموصل - قد راسله الملك العادل في السنة الماضية، يخطب منه ابنته لأحد أولاده، فوقعت الإجابة إلى ذلك. وحسّن بعض أصحاب نور الدين له مراسلة الملك العادل والاتفاق معه على أن يقتسموا البلاد التي لقطب الدين - صاحب سنجار وجزيرة ابن عمر وأعمالها - وهى التي بيد محمود بن سنجر شاه على أن تكون بلاد قطب الدين للملك العادل، والجزيرة لنور الدين. فراسله في ذلك، فأجابه الملك العادل إليه مستبشرا به وتحالفا وتعاقدا على ذلك. ولما دخل الملك العادل الشرق استشعر نور الدين وخاف، وأحضر أصحاب الرأى من أصحابه؛ واستشارهم فيما يفعله. فأما الذين كانوا أشاروا إليه باستدعاء الملك العادل إلى البلاد فسكتوا، وأما الذين لم يعلموا ذلك فأشاروا بالاستعداد والحصار، وجمع الرجال، وتحصيل الذخائر، وما يحتاج إليه. فقال نور الدين: «نحن فعلنا ذلك وكاتبنا الملك العادل بأن يجىء إلى البلاد»

(53 ب) فقالوا له: «بأى رأى تكتب إلى عدوك حتى يأتى إليك ويصير قريبا منك، ويزداد قوة إلى قوته، ثم إن الذى استقر بينكما أنه يكون له، وهو: سنجار وبلادها، يملكها بغير تعب ولا مشقة، والذى استقر أنه يكون لك، وهو الجزيرة لا يمكنك أن تتوجه إليه وتحصره، والملك العادل في البلاد؛ هذا إن وفى لك بما استقرت القاعدة عليه، بل لو لم يكن الملك العادل في البلاد لا يمكنك مفارقة الموصل، لأنه صار بيد أولاده ملك خلاط والبلاد الجزرية جميعها، وبعض ديار بكر، فمتى صرت عن الموصل حالوا بينك وبينها، فما زدت على أن آذيت نفسك وابن عمّك، وقوّيت عدوّك، ولكن فات الأمر وما بقى يجوز إلا أن تقف معه على ما استقرت إليه القاعدة بينكما، لئلا يجعل ذلك حجّة عليك، ويبتدئ بك». ثم رحل الملك العادل من حرّان، وكان قد بلغه أن الكرج لما بلغتهم حركته خافوا منه وكرّوا عائدين إلى بلادهم. فتقدم الملك العادل إلى الملك المنصور والملك الأشرف بأن ينازلا نصيبين ويأخذاها، وكانت لقطب الدين، وذلك حين أيس من إجابة قطب الدين إلى ما طلبه من تسليم سنجار إليه، وأخذ العوض عنها. فسارا إلى نصيبين فتسلماها وتسلما الخابور.

ذكر منازلة الملك العادل سنجار

ذكر منازلة الملك العادل سنجار وسار الملك العادل إلى سنجار ونازلها، وأخذ في حصارها، فأخرج إليه صاحبها قطب الدين نساءه وحرمه يضرعن إليه ويسألنه إبقاء المدينة عليهن. فلما حصل النسوة عنده أمر باعتقالهن إلا بتسليم سنجار، فاضطر قطب الدين إلى إلقاء المقاليد إليه، وأجاب إلى تسليم البلد على أن يعوض عنها الرقة وسروج وضياع من بلد حرّان. وأطلق الملك العادل النسوة؛ وأمر بادخال علمه إلى البلد. فلما حصلت النسوة بالبلد ودخل علم الملك العادل، أمر قطب الدين بكسر العلم، وعلّق على الباب (¬1)، واستعدّ للحصار، وأرسل إلى الملك العادل يقول له: «غدرة بغدرة والبادى أظلم». فجدّ الملك العادل (54 ا) في مضايقة البلد ومحاصرته، واصطلى أهل سنجار الحرب بأنفسهم، وصبروا أحسن صبر. وأمر الملك العادل بقطع ما على البلد من البساتين والجواسق، ونصب على البلد عدة مجانيق. وأخذ قطب الدين في مكانبة الملوك (2) والاستنجاد بالخليفة الناصر لدين الله (¬2). وكان نور الدين - صاحب الموصل - قد عزم على تسيير عسكر نجدة ¬

(¬1) (س): «وغلق الباب». (¬2) النص في س (ج 1، ص 163 ا): «والاستنجاد بهم، وكتب أيضا إلى الإمام الناصر لدين الله يستنجد به».

للملك العادل مع ولده الملك الظاهر عز الدين مسعود، وإذا برسول مظفر الدين كوكبورى - صاحب إربل - قد جاء يبذل له المساعدة والمعاضدة، ومنع الملك العادل عن سنجار. ولم يكن هذا في حساب نور الدين، فإن مظفر الدين كان مع الملك العادل. وكان السبب في الذى فعله مظفر الدين أن قطب الدين - صاحب سنجار - كان أرسل ولده إلى مظفر الدين يستشفع به إلى الملك العادل ليبقى عليه سنجار، وكان مظفر الدين يظن أنه لو شفع في نصف ملك [الملك] (¬1) العادل لشفّعه فيه، لما بينهما من المصاهرة، ولآثار جميلة تقدمت (¬2) من مظفر الدين في حق الملك العادل. فشفع مظفر الدين في قطب الدين عند الملك العادل، فلم يقبل شفاعته فيه، ظنّا منه أنه بعد اتفاقه مع نور الدين لا يبالى بمظفر الدين. فلما ردّ الملك العادل شفاعته غضب من ذلك، وسيّر وزيره إلى نور الدين، فوصل إلى الموصل ليلا، ووقف مقابل دار نور الدين وصاح، فعبرت إليه سفينته، فمبر (¬3) فيها، واجتمع بنور الدين ليلا، وأبلغه الرسالة. فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة، وحلف على ذلك، وعاد وزير مظفر الدين من ليلته، فأبلغ مظفر الدين الجواب. فسار مظفر الدين من إربل، واجتمع هو ونور الدين، وعسكرا بظاهر الموصل، وراسلا الملك الظاهر - صاحب حلب - يدعوانه إلى الاتفاق على الملك العادل، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬2) (ك) و (س): «والآثار الجميلة الذى تقدمت». (¬3) (ك): «يعبر»، وس: «شينية ليعبر فيها».

وراسلا أيضا السلطان غياث الدين - صاحب بلاد الروم -، وأخاه مغيث الدين طغرل شاه - صاحب أرزن الروم -. ولما وصلت رسالتهما إلى الملك الظاهر أجابهما ونقض ما كان بينه وبين الملك العادل، وكانت الملك الظاهر في عمل (¬1) ماردين ضيعة يقال لها القرادى، أعطاه إياها صاحب ماردين (54 ب) لما أصلح بينه وبين الملك العادل، فصارت في يد الملك الظاهر يستغلها. فلما كانت هذه السنة، والملك العادل على سنجار أقطعها الملك العادل للملك الصالح محمود الأرتقى - صاحب آمد -، فجعل الملك الظاهر ذلك حجة في نقض ما بينه وبين الملك العادل، وأحضر فقهاء حلب عنده، وقال: «ما تقولون في رجل حلف لرجل يمينا على أشياء، فحان أحد الرجلين في بعض تلك الأشياء، أينحل عقد تلك اليمين بتلك الأشياء أم لا؟». فأجابوا «بأنه ينحل اليمين ويبطل حكمها». فأظهر لهم صورة الحال، فأفتوه بأن اليمين قد بطلت، ولا يلزمه إذا نقض ما بينه وبينه حنث. فأجاب الملك الظاهر مظفر الدين ونور الدين إلى الاتفاق معهما، وأجابهما سلطان الروم وأخوه إلى ذلك. ثم أرسل مظفر الدين ونور الدين إلى الخليفة في أن يرسل رسولا في أمر الصلح، وأن يرحل الملك العادل عن سنجار. ¬

(¬1) (ك): «أعمال».

ذكر رحيل الملك العادل عن سنجار ورجوعه إلى حران بعد انتقاض ما بينه وبين ابن أخيه الملك الظاهر وصاحب الموصل وصاحب إربل

ذكر رحيل الملك العادل عن سنجار ورجوعه إلى حرّان بعد انتقاض ما بينه وبين ابن أخيه الملك الظاهر وصاحب الموصل وصاحب إربل ولما جرى ما ذكرناه من انتقاض الأمر (1) بين الملك العادل وابن أخيه الملك الظاهر وصاحب إربل وصاحب الموصل (¬1)، برز الملك الظاهر من حلب ونزل على جبل بانقوسا، وأرسل نظام الدين محمد بن الحسين، وأخاه الملك المؤيد نجم الدين مسعود إلى الملك العادل، وأنفذ معهما تحفا كثيرة وهدايا سنية، وكان مضمون الرسالة الشفاعة في صاحب سنجار. وقال لهما: «إن لم يقبل الشفاعة فأعلماه أنى خارج إلى بلاده (¬2)». ثم أمرهما إن لم يقبل الشفاعة أن يأمرا من عنده من عسكر حلب، وكانوا خمسمائة فارس، أن يفارقوه إلى الموصل أو إلى حلب. وحملّهما إلى الملك المنصور - صاحب حماة - والملك المجاهد - صاحب حمص -[رسالة أيضا في ذلك (¬3)]. واشتد الملك العادل في حصار سنجار والتضييق عليها. ولما وصل إليه نظام الدين وابن أخيه الملك المؤيد وأبلغاه الرسالة امتنع عن قبولها وأغلظ (55 ا) لهما في القول. ¬

(¬1) هذه الجملة ساقطة من (ك). (¬2) النص في (ك): «إن لم يقبل الشفاعة فأعلمانى وأعلماه أنى خارج إلى بلاده». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

فأمر الملك المؤيد ونظام الدين العسكر الحلبى بمفارقته، ففارقوه (¬1). ودسّا في الباطن إلى أصحاب الملك العادل دسائس أوجبت فساد أحوال الملك العادل، وأرسلا إلى من في البلد يأمرانهم بأن يكثروا (¬2) الشفاعات على الملوك والأمراء الذين في عسكر الملك العادل، ففعلوا. وتقدم عسكر الموصل إلى قريب سنجار. وبعث الخليفة أبا نصر. هبة الله بن المبارك بن الضحاك - أستاذ الدار - والأمير آق تاش، وهو من خواص مماليك الخليفة [رسلا إلى الملك العادل في رحيله عن سنجار] (¬3)؛ فوصلا إلى صاحب الموصل، ثم سارا إلى الملك العادل، وهو منازل سنجار، وأصحابه لا يناصحون في القتال، لا سيما الملك المجاهد - صاحب حمص -، فإنه كان يدخل إلى سنجار الأغنام وغيرها والأقوات، وكذلك غيره. فلما وصلت رسل الخليفة إلى الملك العادل أجاب إلى الرحيل، ثم امتنع من ذلك، وطاول في الأمر، لعله يبلغ منها غرضا، فلم يحصل له مقصود. فأجاب إلى الصلح على أن يكون له نصيبين، والخابور، وكل ما ملكه من البلاد، ويبقى لقطب الدين سنجار. ورحل الملك العادل عن سنجار عائدا إلى حرّان. وعاد مظفر الدين إلى إربل، وكان مظفر الدين مدة مقامه بالموصل قد زوّج ابنتيه بولدى نور الدين، وهما: عزّ الدين مسعود، وعماد الدين زنكى، وأمّ البنتين ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك العادل. ¬

(¬1) هذا اللفظ غير موجود في (ك). (¬2) (ك): «يكرروا». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

ذكر وفاة الملك المؤيد نجم الدين مسعود ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين

ذكر وفاة الملك المؤيد نجم الدين مسعود ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين ولما انفصل الملك المؤيد ونظام الدين من عند الملك العادل، سارا حتى نزلا رأس عين بظاهرها، فخرج إلى خدمتهما الوالى بها، وحمل إليهما طعاما وفاكهة كثيرة، فتناول من الرمان هو وبعض غلمانه، ثم دخل بيتا مجصّصّا، وكان يوما شديد البرد، فأشعل فيه النار، وسدوا كوى البيت، فاختنق الملك المؤيد ومن كان معه، ولم يسلم إلا اثنان وجد فيهما حياة ضعيفة. وتحدّث الناس بأنه سقى سمّا (¬1) في الرمان. ثم جهّز الملك المؤيد ووضع (55 ب) في تابوت وحمل إلى حلب فوصل إليها في الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة، ودفن في التربة الظاهرية بمقام إبراهيم عليه السلام. وحزن عليه أخوه الملك الظاهر حزنا شديدا، وغلقت أسواق حلب سبعة أيام. ورثاه شرف الدين الحلّى بقصيدة مطلعها: ترى من على نفس الهدى (¬2) جار واعتدى ... وفوّق نحو الملك سهما مسدّدا؟ ¬

(¬1) (س): «شيئا» (¬2) (س): «العلى».

ومن هدّ ركن المجد بعد بنائه؟ ... ومدّ إلى تشتيت شمل الهدى يدا ومن دكدك الطود الأشمّ وقد رسا ... وطال إلى أن جاز نسرا وفرقدا؟ ومن حجب البدر الذى كان مشرقا ... ومن غيّض البحر الذى كان مزيدا؟ ومن حبس الغيث الذى كان نوؤه ... إذا عمّ جدب لا يفت له ندا ومنها: فيا مانع الإسلام صبرا فإنما ... بصبرك في كلّ المواطن يقتدى فلو كان غير الموت دافعت دونه ... بطعن يردّ السمهرىّ مفصّدا وغادرت جفن الأفق بالسمر أو طفا ... وخدّ المواضى بالنجيع مورّدا ولكنه دهر إذا ما نعيمه تحوّل ... بؤسا هدّ ما كان شيّدا فدم يا غياث الدين سيبك للعلى ... يشيد مبانيها وسيفك للعدى ولا زالت الدنيا تبيحك ملكها ... ولا زلت مهديا لها وممهدا ولما بلغ الملك العادل وفاة ابن أخيه الملك المؤيد جلس للعزاء، واغتم لموته غما كثيرا، وخاف أن يظن الناس أنه سمّه. وبعد مفارقة الملك العادل رأس عين متوجها إلى حرّان، جرت (¬1) بينه وبين وزيره صفى الدين منافرة أوجبت حرد صفى الدين، وسافر في البرية (¬2). ¬

(¬1) (ك): «جرى». (¬2) (س): «وسار في البريد» وهى أقرب إلى الصحة.

فركب الملك المنصور - صاحب حماة -، والأمير فخر الدين جهاركس - صاحب بانياس -[خلفه] (¬1) حتى لحقاه وأحضراه إلى الملك العادل وأدخلاه عليه، وقبلّ يده، فرضى عنه الملك العادل، وطاب قلب صفى الدين. ووصل الملك العادل إلى حرّان وأقام بها. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).

ودخلت سنة سبع وستمائة

ودخلت سنة سبع وستمائة: فخرج في أولها الملك الظاهر وخيّم (56 ا) معاملا (كذا) لأنه بلغه أن عمه الملك العادل عازم على قصده، وأخذ حلب منه، (1) فعزم على جمع العساكر وقصد الفرات (¬1) ليمنع الملك العادل من عبور الفرات، وكاتب المواصلة وغيرهم في الاستعداد وأخذ الأهبة ليشغلوا قلب الملك العادل، ويمنعوه من قصد حلب، فأجابوه إلى ذلك. وحين تحقق الملك العادل ذلك أعرض عن قصد حلب، وقصد دمشق، فدخلها واستقر فيها، وتفرقت العساكر والملوك الذين معه. وفى هذه السنة قصدت الكرج خلاط وحصروها، فاتفق أن «أوانى» (¬2) ملك الكرج شرب الخمر، فحسّن له السّكر أن ركب وتقدم إلى جهة خلاط في عشرين فارسا، فتقنطر به فرسه، فأخذه المسلمون أسيرا، وأخذوا أصحابه معه، وحملوهم إلى الملك الأوحد، فبذل في نفسه مائة ألف (¬3) دينار، وخمسة آلاف أسير من المسلمين، وأن يلتزم الصلح ثلاثين سنة، وأن يزوّج إبنته الملك الأوحد، فوافقه على ذلك، وردّ على المسلمين عدة قلاع كانت أخذت منهم، وتقررت الأيمان بينهم على ذلك كله. وفى هذه السنة تحركت الفرنج إلى جهة الساحل، واجتمع منهم بعكّا جمع كثير. فخرج الملك العادل من دمشق، وترددت بينهم الرسل، حتى تقررت بينهم الهدنة مدة معلومة. ¬

(¬1) النص في (ك): «فجمع العساكر وطلب قصد الفراه». (¬2) (ك): «أواتى». (¬3) (ك) و (س): «مائة ألف ألف».

ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل

وأمر ولده الملك المعظم ببناء قلعة الطور، وهو حصن عال (¬1) قريب من عكا. ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل وفى هذه السنة توفى نور الدين (¬2) أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكى ابن آق سنقر - صاحب الموصل - في آخر رجب. وكان مرضه قد طال، ومزاجه قد فسد، وكانت مدة ملكه بالموصل سبع عشرة (¬3) سنة، وأحد عشر شهرا. ولما اشتد مرضه وأيس من نفسه، أشير عليه بالانحدار إلى عين القيارة ليستحم بها، فانحدر إليها، واستحم بها، ولم يجد راحة، وازداد ضعفا، فأخذه الأمير بدر الدين لؤلؤ مملوكه، وكان أستاذ داره والحاكم في دولته، وهو الذى صار إليه ملك الموصل فيما بعد على ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - (56 ب). وأصعده في شبّارة (¬4) إلى الموصل، فتوفى في الطريق ليلا، ومعه الملاحون والأطباء، بينه وبينهم ستر. ¬

(¬1) جميع النسخ: «عالى». (¬2) انظر ترجمته أيضا عند: (ابن الأثير: الكامل، ج 12، ص 121) و (ابن الأثير: الباهر، 346 - 365) و (سعيد الديوجي: الموصل في العهد الأتابكى، ص 33). (¬3) (س): «سبع وعشرين سنة» وما بالمتن هو الصحيح. (¬4) سفينة حربية صغيرة أكثر ما تستعمل في العراق، ورد ذكرها كثيرا في تاريخ الطبرى، فمما قال: «كل من أفلت من الأتراك رمى بنفسه في دجلة. . . فأخذه أصحاب الشبارات وكانت الشبارات قد شحنت بالمقاتلة، وجاء في (الروضتين، ج 1، ص 278):» قال ابن الأثير: وكنت حينئذ ببغداد عازما على الحج، فعبر عضد الدين دجلة في شبارة. . الخ» وجاء في (وفيات الأعيان لابن خلكان): «توفى أتابك الملقب الملك العادل نور الدين في شبارة بالشط بظاهر الموصل، والشبارة عندهم هى الحراقة بمصر» وقال (عبد اللطيف البغدادى عند وصفه لسفن مصر، الرحلة ص 54): وأما سفنهم فكثيرة الأصناف والأشكال، وأغرب ما رأيت فيها مركب يسمي العشيرى شكاء شكل شبارة داخلة، إلا أنه أوسع منها بكثير وأطول وأحسن هنداما وشكلا. . .»،: وجاء في رحلة ابن بطوطة: «رأيتهما بحراقة في الدجلة وتسمي عندهم شبارة، وهى شبه سلورة».

ذكر صفته وسيرته - رحمه الله -

وكان مع بدر الدين عند نور الدين مملوكان، فلما توفى إلى رحمة الله، قال بدر الدين لأحدهما (¬1): «لا يسمع أحد بموته»، وقال للأطباء والملاحين: «لا يتكلم أحد، فقد نام السلطان». فسكتوا ووصلوا إلى الموصل في الليل، فأمر الأطباء والملاحين بمفارقة الشبارة لئلا يروه ميتا، ففعلوا، وحمله هو والمملوكان وأدخله الدار، وتركه في الموضع الذى كان فيه وفيه المملوكان. وترك على بابه من يثق إليه، لا يمكّن أحدا من الدخول والخروج، وقعد يمضى الأمور التي يحتاج إليها. فلما فرغ من كل ما يحتاج إليه أظهر موته وقت العصر، ودفنه بالمدرسة التي أنشأها مقابل داره. ذكر صفته وسيرته - رحمه الله - كان أسمر، خفيف اللحية والعارضين جدا، مليح الوجه، قد أسرع إليه الشيب، وكان شهما، شجاعا، عادلا، ذا سياسة للرعية، شديدا على أصحابه يمنع بعضهم أن يتعدى على بعض، وكانوا يخافونه خوفا شديدا، فلا يجسرون بسبب الخوف منه على الظلم والتعدى. وكانت همته عالية، أعاد ناموس البيت الأتابكى ووجاهته (¬2) وحرمته بعد أن كان قد ذهب، وخافته الملوك، وكان سريع الحركة في طلب الملك، إلا أنه لم يكن له صبر، فلهذا لم يتسع ملكه. ¬

(¬1) (ك) و (س): «لهما». (¬2) (س): «وجاهه».

ومن محاسن ما ينقل عنه أنه لما توجه من الموصل في نجدة صاحب ماردين حين (¬1) كان الملك الكامل قد ملك ربضها، وكاد يستولى على قلعتها، وضرب المصاف مع الملك الكامل وكسره [كسرة قبيحة]، (¬2) وسافر الملك الكامل إلى حرّان، ولم يبق من عسكره بالمكان أحد، قال أصحاب نور الدين له: «اصعد بعسكرك إلى ربض ماردين، فما دونه مانع، واملكه، واملك القلعة، ويكون هذا موضع المثل السائر: «رب ساع لقاعد» فقال: «حاش لله أن يتحدث الناس عنى أن ناسا (¬3) اعتضدوا بى واستنصروا بى أغدر بهم». ثم قال لمجد الدين بن الأثير - وكان [من] (¬4) أكبر أصحابه -: «ما تقول يا مجد الدين؟». فقال: «الغادرون كثير، وقد أودعت (57 ا) غدراتهم الكتب، وهى باقية إلى الآن، ولم يؤرخ عن أحد أنه قدر على مثل ماردين وتركها وفاء وإنعاما وإحسانا». وقال لمجد الدين: «أرسل إلى صاحب ماردين ليرسل نوابه إلى ولاياته»، وكان قد أقطعها للعساكر التي معه، وأمر بكفّ أيديهم عنها، وتسليمها إلى صاحبها. فقال مجد الدين: «إن أصحابنا لم يأخذوا درهما واحدا لتأخر إدراك الغلات، فلو بقى الإفطاع في أيديهم إلى أن يأخذوا ما ينفقون عليهم في بيكارهم (¬5)» ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من (ك) و (س). (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬3) (س): «قوما». (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬5) البيكار (ج: بياكير) لفظ فارسى معناه الحرب، أنظر (Dozy : Supp .Dict Arab) .

فقال - رحمه الله -: «لا نكدر إنعامنا وإحساننا إليهم، ونحن نكفى أصحابنا». قال مجد الدين: «فأرسلت إلى صاحب ماردين ليتسلم بلاده فتسلمها، وأرسل إليها نوابه». قال مجد الدين: «ما قلت له عن شىء قط، من عدل (1) وبذل مال (¬1) وغير ذلك من الصلاح، فقال لا؛ وكنت معه في بعض أسفاره وله سرادار قد سرق ولده من داره قماشا، وكانت مفاتيح الدار مع السرادار، فأرسل إلىّ ليلا فأمرنى أن أكتب كتابا إلى الموصل بقطع يده، فأعدت الجواب: أننى ما أكتب هذا الكتاب الليلة، (2) وإذا اجتمعت به غدا عرفته ما في هذا (¬2). فأعاد مرة ثانية وثالثة وأنا أمتنع. فاستدعانى وقال لى: «لم لم تكتب الكتاب؟». فقلت له: «عادتى معكم (¬3) أننى لا أكتب إلا ما تجيزه الشريعة». فقال لى: «هذا سارق، توجب الشريعة المطهرة قطع يده». فقلت: «لا قطع عليه، لأنه سرق من غير حرز، لأن المفاتيح بيده». فعفا عنه. ¬

(¬1) هذان اللفظان ساقطان من (ك). (¬2) (س): «وإذا اجتمعت بالسلطان أعلمته ما في هذا». (¬3) (ك): «تعلم عادتى».

ذكر استيلاء الملك القاهر بن نور الدين على الموصل

ذكر استيلاء الملك القاهر بن نور الدين على الموصل (¬1) ولما مات نور الدين أرسلان شاه بن مسعود - صاحب الموصل - استقر في الملك بالموصل بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكى بن آق سنقر - رحمه الله -، وهو آخر ملوك البيت الأتابكى بالموصل. وقام بتدبير ملكه بدر الدين لؤلؤ مملوك والده. وملك عماد الدين زنكى بن نور الدين قلعتى عقر وشوس وهما بالقرب من الموصل. (57 ب) وفى هذه السنة: وردت رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كأس الفتوة (¬2)، ويلبسوا له سراويلها ويكون انتماؤهم إليه، ورعية كل ملك يشربون لذلك الملك ويلبسون له. ¬

(¬1) هذا العنوان غير موجود في (س). (¬2) الفتوة نظام اجتماعى إسلامى قديم يعتمد على ما نعتمد عليه الفروسية من آداب وصفات أهمها الشباب والقوة والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الكذب والرحمة باليتيم، وقرى الضيف ومساعدة الضعيف والإيثار. . . إلخ، ولها ذكر في الأحاديث النبوية، ثم نسبت إلى على بن أبى طالب وظل هذا النظام متبعا خلال العصور الإسلامية يتطور بتطورها، يقوى حينا، ويضعف أو يهجر حينا آخر، إلى أن عمل على إحيائه الخليفة الناصر لدين الله العباسى كما هو وارد في النص هنا، وكان للفتوة ناموس وكانت لها طقوس خاصة؛ فلا يقبل الفتى الجديد إلا إذا رشحه وزكاه فتيان آخرون، ويحتفل بانضمامه احتفالا خاصا له رسوم معينة، فيحزم بحزام وهو يعبر عنه «بشدة العقد» ويلى ذلك شرب كأس الفتوة، ثم لبس سراويل الفتوة. . . الخ، وكانت كأس الفتوة =

ذكر رحيل الملك العادل إلى الديار المصرية

ففعلوا ما أمروا به، وأيضا فانتسب الملوك إليه في رمى البندق (¬1)، وجعلوه قدوتهم فيه. ذكر رحيل الملك العادل إلى الديار المصرية (¬2) ثم سار الملك العادل إلى الديار المصرية،. وجعل طريقه على الكرك، فأقام به أياما ينظر في مصالحه. ثم رحل إلى مصر، فأقام بدار الوزارة بالقاهرة. ¬

= تحتوى الماء والملح؛ لاستيفاء الموضوع انظر أيضا: (ابن الفوطي: الحوادث الجامعة، ص 89 - 91، 106، 126، 130، 143)، وانظر منشور الخليفة الناصر بشأن الفتوة في: (ابن الساعي: الجامع المختصر، ص 233 - 225)، وقد نشرت أخيرا في القاهرة رسالة قديمة في هذا الموضوع تصرح أصول الفتوة وتاريخها وآدابها وطقوسها وأسرارها، وهى (ابن عمار البغدادى: الفتوة، نشر الدكتور فؤاد حسنين، القاهرة 1959) وانظر كذلك: (محمد فهمي عبد اللطيف، الفتوة الإسلامية، القاهرة 1948) (¬1) عرف (جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامى: ج 5، ص 159 - 160) البندق يقوله: «البندق كرات تصنع من الطين أو الحجارة أو الرصاص أو غيرها، وهى فارسية بلفظها واستعمالها، ويسمونها أيضا «الجلاهقات جمع جلاهق»، فكان الفرس يرمون هذا البندق عن الأقواس كما يرمون النبال، وأقتبس العرب هذه اللعبة في أواخر أيام عثمان بن عفان، وعدوا ظهورها في المدينة منكرا، ثم ألفوها حتى شكلوا فرقا من الجند ترمى بها. . وكان رماه البندق في العصر العباسى طائفة كبيرة يخرجون إلى ضواحي المدن يتسابقون في رميه على الطبر ونحوه، ويعدون ذلك من قبيل الفتوة، ولهم زى خاص يمتاز بسراويل كانوا يلبسونها ويسمونها سراويل الفتوة. . . وكان لرمى البندق شأن كبير في العصور الوسطي بالعراق والشام ومصر وفارس وغيرها ثم تفننوا في رمى البندق بالمراريق أو الأنابيب بضغط الهواء من مؤخر الأنبوب بما يشبة أنابيب البنادق، فلما اخترعوا البارود صاروا يرمون البندق به من تلك الأنايبب، وسموا هذه الآلة بندقية نسبة إليه، وقد عنى الخليفة الناصر العباسى (توفى 622 هـ‍) عناية خاصة بالبندق حتى جعل رميه فنا لا يتعاطاه إلا الذين يصربون كأس الفتوة ويلبسون سراويلها منه مباشرة أو من أحد رسله بالوكالة (¬2) هذا العنوان غير موجود في (س)

ذكر وفاة الملك الأوحد بن الملك العادل واستيلاء أخيه الملك الأشرف على خلاط

ووصل إليه عز الدين أسامة - صاحب عجلون وكوكب -. وتوفى في هذه السنة فخر الدين جهاركس مقدم الصلاحية وكبيرهم. ذكر وفاة الملك الأوحد بن الملك العادل واستيلاء أخيه الملك الأشرف على خلاط واتفق مرض الملك الأوحد بخلاط، ولما اشتد مرضه كتب إلى أخيه الملك الأشرف موسى يستدعيه، فقدم عليه، وأقام عنده مدة. (1) وأبلّ من مرضه ففارقه (¬1)، فلما توجه للعود عنه، عاود الملك الأوحد المرض، فمات. وعاد الملك الأشرف فملك خلاط. وقيل: إن الملك الأشرف لما تمت عافية أخيه الملك الأوحد ودّع أخاه عازما على العود. فقال له منجم خلاطى: «لا تفارق خلاط، فإن الأوحد يموت». فقال له الملك الأشرف: «إنه قد أكل اللحم، ولعب بالكرة». فقال له المنجم: «ما يضرك المقام أسبوعا واحدا». ففعل، فمات الأوحد في ذلك الأسبوع. ولما توفى استقل الملك الأشرف بملك خلاط مضافا إلى ما بيده من البلاد الشرقية، وعظم شأنه، ولقب «شاهرمن». وأضيفت ميافارقين إلى أخيه الملك المظفر شهاب الدين غازى. ¬

(¬1) (ك): «وأقام عنده مدة حتى أفاق من مرضه».

ودخلت سنة ثمان وستمائة

ودخلت سنة ثمان وستمائة: والممالك على ما كانت عليه في السنة الماضية. وفى هذه السنة وصل [السلطان] (1) الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل إلى خدمة أبيه بالديار المصرية، فاستشعر منه عز الدين (58 ا) أسامة [لسبب نذكره إن شاء الله تعالى] (1)، فخرج مظهرا أنه يتصيد، وهرب في جماعة من مماليكه. فخرج الملك المعظم خلفه جريدة. وترك عز الدين [أسامة] (1) مماليكه في الرمل، وانفرد بنفسه، وأخذ دليلا من العرب، وساق ليسبق إلى حصونه ويعتصم بها، فنزل بأرض الداروم يستريح، [ثم أراد الركوب] (1) وعجز عن الركوب لوجع المفاصل الذى كان يعتريه [قبل ذلك] (1)، فعرفه شخص وأخبر الملك المعظم به، وكان قد وصل إلى موضع قريب من المكان الذى نزل به أسامة. فسار الملك المعظم إليه، وقبض عليه، وبعث معه جماعة أو صلوه إلى الكرك، فاعتقلوه بها. ثم حوصر حصناه: كوكب وعجلون، فسلمهما غلمانه على عوض أخذوه. وأمر الملك العادل بهدم كوكب وتعفية أثره، وأبقى عجلون. وانقضى أمر الصلاحية بانقضاء [زين الدين] (1) قراجا، [والأمير فخر الدين] (¬1) وجهاركس، وعز الدين أسامة، وصفت حصونهم للملك العادل، والملك المعظم بعده. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زياد، عن (س).

ذكر الفتنة بمكة

وملك الملك المعظم بلاد جهاركس (1) لأخيه شقيقه الملك العزيز عماد الدين عثمان (¬1)، وأعطى صرخد مملوكه عزّ الدين أيبك أستاذ داره. ولم يزل أسامة معتقلا في الكرك إلى أن مات بها. (2) وقد قيل إن جماعة من الأمراء كانوا أشاروا على أسامة بتسليم كوكب وعجلون إلى الملك المعظم، ويأخذ عوضا عنهما، فما فعل، ولو فعل لم يطرأ عليه ما طرأ من الاعتقال وأخذ أمواله، وكانت جميع أمواله ودخائره بكوكب، فاستصفيت جميعها (¬2). ذكر الفتنة بمكة وفى هذه السنة كانت فتنة عظيمة بمكة، وسببها أن باطنيا وثب على قريب للشريف أبى عزيز قتادة - صاحب مكة - فقتله. وكانت أم ألكيا حسن - صاحب الألموت - قد قدمت حاجة مع الحاج العراقى؛ فركب الشريف (¬3)، (4) أبو عزيز في الأشراف والعربان، وقصد الحاج العراقى فنهبهم نهبا ذريعا، ورموهم بالحجارة والنبل (¬4). ¬

(¬1) هذه الفقرة ساقطة من (س). (¬2) مكان هذه الجملة في س (ص 169 ا) فقرة أكثر ايفاء وتفصيلا، وهذا نصها: وكان السبب في قبض الملك المعظم على أسامة أنه طلب من أسامة أن يسلم كوكب وعجلون إليه، فأبى ذلك، فأشار جماعة من الأمراء على أسامه بذلك، فلم يلتفت إليهم، وأغلظ لهم في القول، فبلغ الملك المعظم ذلك، فبقى في قلبه منه، وتم له مع أسامة ماتم، ولو فعل أسامة لم يطرأ عليه شىء من ذلك، وكان الملك المعظم قد بذل له عوضا عن هذه (كذا) الموضعين، فلم يفعل لأمر يريده الله أن يكون، ولما مات أسامة في الاعتقال أخذ الملك المعظم جميع أقواله، وكانت أمواله وذخائره كلها بكوكب فاستصفاها جميعها». (¬3) (ك): «السيد». (¬4) النص في (س) مضطرب غير مفهوم وهو: «فركب الشريف أبو عزيز بن قريب والأشراف والعربان، وقصدوا الحاج العراقى لما قتل أبوه، فنهبهم نهبا، ورموهم بالحجارة والنبل لأن الباطنى الذى قتل صاحب مكة كان في حاج العراقى».

فانتقل الحاج العراقى إلى الحاج الشامى، واستجاروا بهم، وكان في الحاج (¬1) الشامى ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك العادل [زوجة مظفر الدين صاحب إربل] (2)، فأجارت الحاج العراقى، ومنعت أبا عزيز منهم، ولولا إجارتها لهم لاستؤصلوا [عن آخرهم] (¬2)، وذلك بعد أن نهب من الحاج العراقى من الأحمال والجمال ما لا يمكن وصفه. ثم لما أرادوا دخول مكة منعوا منها، (58 ب) فما زالت ربيعة خاتون بأمير (¬3) مكة حتى أذن لهم، فدخلوا وقضوا حجهم. وفى هذه السنة أظهر ألكيا جلال الدين حسن - إمام الباطنية صاحب الألموت - شعائر الإسلام، وأمر رعيته بالصلوات والحج وصيام رمضان، وإقامة وظائف الشريعة. وكتب إلى الخليفة والملوك يعلمهم ذلك، وبعث والدته إلى مكة لتحج، فحجت كما ذكرنا، وأكرمت ببغداد لما دخلتها إكراما عظيما، وبعث جلال الدين حسن إلى الحصون التي لهم بالشام يلزمهم أن يفعلوا نظير ما فعله ببلاد العجم (¬4)، فأعلنوا بالأذان وإقامة الجمع وأظهروا أنهم قد التزموا بمذهب الشافعى - رحمه الله -. ¬

(¬1) (ك): «الركب». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬3) (س): «بابن أمير مكة». (¬4) (ك): «في العجم».

ذكر عود الملك العادل إلى الشام

ذكر عود الملك العادل إلى الشام وفى هذه السنة قدم الملك العادل إلى الشام. وأعطى ولده الملك المظفر شهاب الدين غازى الرّها. ذكر الاتفاق بين الملك الظاهر وعمه الملك العادل وخطبة الملك الظاهر ابنة الملك العادل وفى هذه السنة توجه القاضى بهاء الدين بن شداد من الملك الظاهر رسولا إلى عمه الملك العادل، فوصل إليه وهو بالديار المصرية. وكان مضمون الرسالة استعطافه واسترضاءه، وأن يجدد له اليمين على بلاده، وخطب ابنته ضيفة (¬1) خاتون - شقيقة الملك الكامل - وكانت أعز بنات الملك العادل عليه، وخطبها منه جماعة من الملوك، فلم ينعم عليهم بتزويجها. وكان الملك الظاهر قد طلبها من عمّه قبل ذلك لما ماتت زوجته أختها غازية خاتون، فلم يجب إلى ذلك. فلما وصل القاضى بهاء الدين وخاطبه في ذلك، أجابه إليه ورضى عن الملك الظاهر، وجدّد اليمين له، وسمح له بتزوج ابنته ضيفة خاتون. ورجع من عنده مكرما. ¬

(¬1) ولدت ضيفة خاتون بنت الملك العادل في سنة 581 أو 582 بقلعة حلب حين كان أبوها ملكا لحب، وكان عند أبيها ضيف فسماها ضيفة: انظر ترجمتها في: (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 88 ب).

ودخلت سنة تسع وستمائة

ودخلت سنة تسع وستمائة: والسلطان الملك العادل بدمشق (159 أ) ذكر (1) وصول الصاحبة ضيفة خاتون إبنة الملك العادل إلى حلب بعد عقد العقد بدمشق (¬1) ولا حدى عشرة ليلة مضت من المحرم من هذه السنة. بعث الملك الظاهر القاضى بهاء الدين بن شداد رسولا (¬2) إلى عمه الملك العادل في تقرير أمر العقد، ووكّله في قبوله، وأنفذ معه ثيابا كثيرة برسم الخلع على أرباب الدولة، ومالا برسم النثار [وقت عقده النكاح] (3) ولما ورد [القاضى بهاء الدين] (¬3) إلى دمشق عقد العقد، وكان النائب عن الملك العادل في الإيجاب شمس الدين بن التنبى. وقبل القاضى بهاء الدين العقد لموكله على صداق مبلغه خمسون ألف دينار، ونثر النثار على الشهود والقراء. وسرحت الخاتون في هذا الشهر إلى حلب، فوصلت إليها في تجمل (¬4) ¬

(¬1) هذا العنون غير موجود في «ك» و «س» والكلام هناك متصل. (¬2) هذا اللفظ ساقط من (ك). (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬4) (ك): «محمل» و (س): «محفل».

عظيم، والتقاها الملك الظاهر في أمراء حلب ومعمميها وأكابرها، وكان دخولها القامة يوما مشهودا، وقدم معها من القماش والآلات وأنواع المصاغ ما يحمله خمسون بغلا ومائة بختى وثلثمائة جمل، ومن الجوارى والوصائف والإماء والحرائر (1) في المحاير (¬1) والكجاوات ما يحملهن مائة جمل. وذكر أنه كان في خدمتها مائة جارية، كلهن مطربات يلعبن بأنواع الملاهى، ومائة جارية أخرى كلهن يعملن أنواع الصنائع البديعة. وذكر أنها لما دخلت على الملك الظاهر مشى لها عدة خطوات، واحترمها احتراما عظيما، وقدّم لها خمسة عقود (¬2) جوهر قيمتها مائة ألف وخمسون ألف درهم (¬3)، وعصابة بجوهرة ليس لها نظير، وعشر قلائد من العنبر المذهب، وخمسا غير مذهبة، ومائة وسبعين قطعة من الذهب والفضة، وعشرين تختا من الثياب المختلفة [الألوان] (¬4)، وعشرين جارية، وعشر خدم. وقال شرف الدين راجح الحلى يهنى الملك الظاهر بهذه الوصلة، ويمدحه بقصيدة مطلعها: نعم هى نعمى بشرها أوضح البشرى ... فما عذر من لم يخترع مدحه عذرا سما قدر هذا اليوم عن موقف به ... نصوغ حلّى النظم أو ننظم النثرا (¬5) ¬

(¬1) هذان اللفظان ساقطان من (ك) و (س). (¬2) (ك): «خمسون عقد» و (س): «خمس وخمسون». (¬3) (س)، «مائتين ألف وستون ألف درهم». (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬5) (ك)، «الدرا».

ذكر عمارة الطور

(59 ب) هى الآية الكبرى، فياعىّ مادح ... ولو نظم الشّعرى لأمثالها شعرا ومذ نشر اليوم لأغر ارداءه ... نشرنا على أعطافه المدح الغرّا ومنها: فقم (¬1) دون ملك عادلىّ حميته ... مواقع كيد القوم، واشدد به أزرا فبالأمس قد أوليته ما كفيته ... به الخطب إذ أصليت أفئدة جمرا ولا سيما أضفى ظلال ولاية ... وأصفى كما أصفيته السرّ والجهرا وما زال يدعوه إلى الرشد سعده ... إلى أن أقرّ الملك وانتخب الصهرا فلو رمت مصرا لاصطفاك بملكها ... لأنك لما شئت أخلى لك القصرا ذكر عمارة الطور وفى هذه السنة أو التي قبلها عمرّ السلطان الملك العادل قلعة على جبل الطور، وهو جبل عال مطل على عكا بالقرب منها. ولم يكن بناؤه مصلحة، فإن الفرنج بعد ذلك قصدوه وكادوا يملكونه، ولو ملكوه تعذر انتزاعه منهم، وتمكنوا به من بلاد الإسلام، وقطعت غاراتهم الطريق عن الديار المصرية. وكان على هذا الجبل قلعة من أيام الفرنج، وملكت في الفتوح الصلاحية، ثم خرّبه المسلمون لما ملكوا عكا وعفوا أثرها. ¬

(¬1) (س): «نعم».

ثم ترجّح عند الملك العادل تخريب حصن كوكب وعمارة قلعة الطور، فنزل بعساكره حولها، وأحضر الصناع من كل بلد، واستعمل جميع أمراء العسكر في البناء ونقل الحجارة. وكان فيه خمسمائة أمان ما عدا الفعلة والنحاتين، ولم يزل مقيما عليه حتى بناه. ومدحه كمال الدين بن النبيه المصرى، بقصيدة مطلعها. تنقّبت بالنّور والنّور ... واعتجرت لكن بديجور ساحرة الطّرف، ولكنها ... من فترة في زىّ مسحور ومنها: يا ليلة الوصل استقرى ويا ... سيرة سلطان الورى سيرى الملك العادل من أمّه ... فقد رأى موسى على الطور (160) إن كان قد دكّ قديما فقد ... عمّرته أحسن تعمير كأنّه تاج على مفرق ... لما استدارت شرف السور يزاحم النجم له منكب ... كالنجم في الرّفعة والنور كأنما أوقفته حارسا ... يحرس من عكّا إلى صور فكلما لاح به (¬1) بارق ... يرتعد الصّخر من الدور بنى سليمان بأعوانه ... وأنت بالغرّ الجماهير تصافح الأحجار أيد لهم ... لا ترتضى لمس الدنانير ¬

(¬1) (ك): «له».

ذكر قبض السلطان كيكاوس على أخيه كيقباذ

ومنها: كم لك في يافا وفى المرج (¬1) من ... وقائع غير مشاهير عشرون ألفا (¬2) غير أتباعهم ... ما بين مقتول (¬3) ومأسور طهّرت بيت القدس من رجسهم ... وكان مأوى للخنازير ذكر قبض السلطان كيكاوس على أخيه كيقباذ كنا قد ذكرنا استيلاء السلطان غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقى على بلاد الروم، ثم هلك غياث الدين، فقام بالملك بعده الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو. وفى هذه السنة قصد عمّه طغرل شاه بن قلج أرسلان - صاحب أرزن الروم -، وحاصره بسيواس، وضيّق عليه، واستعان على حصاره بابن لاون. فاستنجد عز الدين بالملك الأشرف بن الملك العادل، فخاف صاحب أرزن الروم من الملك الأشرف، ورحل عن سيواس إلى بلاده، فأفرج عن عز الدين ضيق الخناق. وسار أخوه علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو إلى أنكورية، وهى لعز الدين، فملكها. ¬

(¬1) (س): «الكرج». (¬2) الأصل: «ألف»، والتصحيح عن (ك). (¬3) (س): «مقبود».

وبلغ ذلك عز الدين، فسار في جيوشه حتى خيّم على أنكورية، وجدّ في حصارها، فاستشفع علاء الدين بالملك الظاهر إلى أخيه في الصلح بينهما. فبعث الملك الظاهر الشيخ تقّى الدين على بن أبى بكر الهروى، في المعنى، فلم يتم الصلح، ولم يزل عز الدين محاصرا لأنكورية حتى فتحها وقبض على أخيه علاء الدين، واعتقله ببعض القلاع (60 ب) وحلق لحى الأمراء الذين كانوا معه ورءوسهم، وأركب كل واحد منهم فرسا، وأركب قدامه وخلفه خاطيتين، مع كل واحدة منهما معلاقا تصفعه به، وبين يدى كل واحد منهم مناد (¬1) ينادى: «هذا جزاء من خان سلطانه». ¬

(¬1) (ك) و (س): «مناديا».

ودخلت سنة عشر وستمائة

ودخلت سنة عشر وستمائة: والممالك بحالها وفى هذه السنة ظفر عز الدين كيكاوس - صاحب بلاد الروم - بعمه، وأخذ بلاده وقتله، وذبح أكثر الأمراء. وأراد قتل أخيه علاء الدين فشفع فيه مجد الدين، فعلم عز الدين فعفا عنه، وتركه محبوسا. وهذه رذيلة كانت في البيت السلجوقى طهّر الله البيت الأيوبى منها، فإن البيت السلجوقى كان إذا ظفر واحد منهم بأخيه أو ابن عمه أعدمه، وأحسن أحواله أن يعتقله [حتى يموت]. (¬1) وكان بنو أيوب يتحاربون، وتجرى بينهم العداوة الشديدة، ثم يجتمع بعضهم ببعض، وربما صعد بعضهم إلى قلاع بعض، ثم يفارقه بعد المقام عنده على حال جميلة، (2) والعداوة والمنافرة باقية بحالها (¬2): وفى هذه السنة وثب بعض الباطنية على ابن الابرنس - صاحب أنطاكية - فقتله، وكان عمره ثمانى عشرة سنة، فحزن عليه أبوه حزنا شديدا، وأعظمت الفرنج ذلك وخافوا واحترزوا لأنفسهم. وفى هذه السنة حصل عند الملك الظاهر استشعار من عمه الملك العادل لشىء بلغه عنه، وأخذ في الاستخدام والاستعداد، ثم بعث القاضى نجم الدين بن الحجاج ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬2) هذه الجملة غير موجودة في (س).

ذكر ولادة الملك العزيز بن الملك الظاهر

نائب القاضى بهاء الدين بحلب إلى الملك العادل لإصلاح الحال، فانصلحت الحال. وورد من جهة الملك العادل ما طاب به قلب الملك الظاهر وزال استشعاره، فبعث الملك الظاهر إلى عمه هدية سنية من جملتها خمسون رأسا من الخيل. وفى رمضان من هذه السنة توفى فارس الدين ميمون القصرى، وهو آخر من بقى من كبار الأمراء الصلاحية، وكانت وفاته بحلب، وعتق في الليلة التي مات فيها ثمانين مملوكا، وزوّجهم [بثمانين جارية أيضا] (¬1) وخلّف أموالا كثيرة. ذكر ولادة الملك العزيز بن الملك الظاهر (61 ا) وفى يوم الخميس خامس ذى الحجة من هذه السنة ولد الملك الظاهر من ابنة عمه ضيفة خاتون بنت الملك العادل الملك العزيز غياث الدين محمد. وزينت حلب، واحتفل الملك الظاهر لمولده (¬2) احتفالا عظيما، من ذلك أنه أمر بإحضار شىء كثير من الفضة والذهب، وأمر الصوّاغ أن لا يتركوا شكلا ولا صورة من سائر الصور إلا ويصوغون مثلها، فصاغوا من ذلك ما وزن بالقناطير، وصاغوا عشرة مهود من الذهب والفضة سوى ما عمل من الأبنوس والعود والصندل وغير ذلك. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬2) الأصل: «لولده»، والتصحيح عن (ك).

ونسج للمولود ثلاث فرجيّات (¬1) من اللؤلؤ، في كل واحدة منها أربعون حبة من الياقوت والبلخش (¬2) والزمرد، (¬3) ودرعان وخوذتان وبرك أصطوان (¬4) من اللؤلؤ، وثلاث سروج مجوهرة، في كل واحد منها عدة من الياقوت والزمرد (3) وثلاث سيوف غلفها وقبضاتها ذهب مرصع بأنواع الجوهر (¬5) ورماح ذهب أسنتها جوهر منظوم. وفى هذه الأيام ختن الملك الظاهر ولده (6) الملك الصالح (¬6) صلاح الدين أحمد، وعمره يومئذ تسع سنين. وفى ولادة الملك العزيز وختان أخيه الملك الصالح يقول شرف الدين راجح الحلّى قصيدة مطلعها: نعم جادت الدنيا بما أنت آمله ... فحسبك من آمالها ما تقابله إذا ما هناء قال قوم: قد انقضت ... أواخره كرّت (¬7) عليه أوائله ¬

(¬1) فرجية (ج: فرجيات) عرفها (Dozy: Dict .Detaille des Noms des Vetements P. 327 - 334, Supp .Dict .Arab) بأنها نوع من الغباء المسترسل، ويصنع غالبا اليوم من الجوخ» وله أكمام واسعة طويلة تتعدى أطراف الأصابع، وهى غير مفتوحة أو مشقوقة. (¬2) جوهر أحمر شفاف يضاهى فائق الياقوت في اللون والرونق، سمي هكذا نسبة إلى مواطنه «بلخشان» حيث يكثر وجوده، وأهل إيران يسمونه «بذخشان»، وهو إقليم يقع في أقصى شرقى أفغانستان. أنظر: (ابن الأكفانى: نخب الذخائر في أحوال الجواهر، ص 63). (¬3) هذه الجملة غير موجودة في (س) (¬4) برك اسطوان، أو بركستوان غاشية الحصان أو الفيل المزركشة. انظر تعليقات الدكتور زيادة على كتاب (السلوك، ج 1 ص 177. هامش 5). (¬5) (ك): «الجواهر». (¬6) هذان اللفظان ساقطان من (ك) و (س). (¬7) (س): «هفت».

فيا حبذا دهر بملك أشرقت ... على أهله أسحاره وأصائله فلسنا نرى إلا نعيما يديمه ... صنيعك فينا، أو سرور يواصله ومنها: فلله مولود أنار به الهدى ... وأسفر وجه الملك واشتد كاهله تباشرت الدنيا بغرّة وجهه ... فبورك من نجل وبورك ناجله أتى ومحيّا الدهر أزهر مشرق ... لطلعته، والزّهر تزهو خمائله فبشرى لأبكار البلاد، فإنها ... على ثقة عما قليل تواصله كأنى به والجيش خلف لوائه ... وقد حجبت شمس النهار قساطله (61 ب) سيملؤها قسطا وعدلا كفاحه ... وتكلؤها أرماحه ومناصله وتحمد منه سيرة ظاهرية ... بها تشمل الآفاق طرّا شمائله عليه خلال من أبيه وجدّه ... تدلّ على أن البلاد معاقله ومنها في طهور الملك الصالح: ورثت خليل الله منصبه الذى ... سما، والنجوم الزاهرات تطاوله فأحييت بالتطهير سنّة، وكم ... تبعت نبيّا في الذى هو فاعله فدم يا غياث الدين للخلق رحمة ... تعمّهم كالغيث طبّق وابله

ودخلت سنة إحدى عشرة وستمائة

ودخلت سنة إحدى عشرة (¬1) وستمائة: والممالك على ما كانت عليه وفى صفر منها وصل إلى حلب الملك المنصور محمد بن الملك العزيز عثمان، وهو الذى كان له الملك بعد أبيه بالديار المصرية، وكان عمّه الملك الأفضل أتابكة، ثم صار الملك العادل - لما كسر الملك الأفضل أتابكه. وقد ذكرنا أن الملك العادل خلعه من الملك واستقل بالمملكة، وأنه سيّره إلى الشرق مع أخوته، فوصلوا في هذه السنة إلى حلب، فأقاموا عند عمهم الملك الظاهر مكرمين بها. وفى هذه السنة اجتمعت الفرنج من جزيرة قبرص واطرابلس وعكا وأنطاكية، وانضم إليهم عسكر ابن لاون - ملك الأرمن -، وكان تزوّج ابنة صاحب عكا، ونزلوا (¬2) ببقعة حصن الأكراد، فخافهم الملك المنصور - صاحب حماة - والملك المجاهد - صاحب حمص - فراسل الملك المنصور الملك الظاهر في ذلك، فأرسل الملك الظاهر إلى الفرنج في أن لا يتعرضوا لحماة، فلما وصلت رسالته إليهم بذلك أجابوا إليه، ورضوا من الملك المنصور بسبى (¬3) حمله إليهم واصطلحوا معه. ¬

(¬1) الأصل: «عشر». (¬2) هذه الكلمة ساقطة من (س). (¬3) (س): «بشىء».

ذكر منازلة الفرنج الخوابى ثم رحيلهم عنها

ذكر منازلة الفرنج الخوابى ثم رحيلهم عنها وقصدت الفرنج في هذه السنة بلاد الباطنية، ونازلوا من قلاعهم الخوابى، وحاصروها حصارا شديدا، وكانوا حانقين عليهم بسبب قتلهم ابن الإبرنس (62 ا) - صاحب أنطاكية -. ولما بلغ الملك الظاهر ذلك خرج من حلب في عساكره متوجها إلى بلاد الإسماعيلية ليدفع عنهم الفرنج. ولما بلغ ذلك الفرنج رحلوا عن الخوابى فتنفس خناق من كان فيه. ونزل الملك الظاهر بصلدىّ، وبعث نجدة إلى الخوابى، فصعدت إليه، وأنفذ إلى الحصن إقامة كثيرة وميرة، وبعث إلى الفرنج يعلمهم أنه لا يمكنهم من الإسماعيلية، فرحلوا إلى أنطاكية. وفى هذه السنة توفى الأمير بدر الدين دلدرم بن ياروق - صاحب تل باشر - وعمل عزاؤه بحلب، وولى تل باشر بعده ولده فتح الدين. وفى رمضان من هذه السنة توفى الشيخ تقى الدين على بن أبى بكر الهروى، وكان أثيرا عند الملك الظاهر، وأقام عند الملك المنصور - صاحب حماة - مدة وله التربة المعروفة شمالى حلب (¬1). ¬

(¬1) بعد هذا اللفظ في نسخة س (ص 173 ا) جملة) وأبيات من الشعر آثرنا إثباتها هنا إتماما للفائدة! «ولما أراد أن يموت (كذا) أمر فكتب على حائط التربة هذه الأبيات يقول. قل لمن يغتر بالدنيا لقد طال عناه هذه تربة من شيد هذا وبناه طالما أتعبه الحرص وقد هد قواه طلب الراحة في الدنيا فما نال مناه»

وكان عارفا بأنواع الحيل والشعبذة، وله أسفار (¬1) كثيرة، وتغرّب في البلاد، وكان قصد بغداد، وصنّف خطبا يخطب بها في الجمع والأعياد، وقدّمها للخليفة الناصر لدين الله، فتقدّم الخليفة بتوقيع له بالحسبة في سائر بلاد الإسلام (¬2)، وإحياء ما شاء من الموات، والخطابة بجامع حلب. وكان هذا التوقيع بيده (¬3) ليتشرف به، ولم يباشر شيئا من ذلك. وفى هذه السنة ظفر عز الدين كيكاوس - صاحب بلاد الروم - بملك الروم المعروف باللّشكرى (¬4)، وهو قاتل أبيه غياث الدين كيخسرو. وذلك أن اللشكرى خرج إلى الصيد، وانفرد عن أصحابه فعارضه قوم من التركمان وهم لا يعرفونه، وأرادوا أخذ سلاحه وفرسه وإطلاقه، فخاف القتل وعرّفهم بنفسه، وضمن لهم مالا، فاختطفوه (¬5)، وحملوه إلى السلطان عز الدين، فأعطى التركمان مالا جزيلا، وعزم على قتله، فضمن له أموالا جزيلة، وتسليم قلاع وبلاد، فتسلّم منه بلادا لم يملكها المسلمون قبل ذلك قط. ¬

(¬1) الأصل: «أشعارى»، والتصحيح عن (ك) و (س). (¬2) (س): «الشام». (¬3) (ك): بيد الإمام الناصر». (¬4) كذا في الأصل، وفى (ك): «بالأشكرى» وفى (س): «بالشكرى» وهو لقب أطلقه المؤرخون العرب أول الأمر على «Tbeodore Lascaris I» امبراطور الدولة البيزنطية في نيقية بعد استيلاء اللاتين على القسطنطينية، ثم غلب اسم الأشكرى بعد ذلك على كل أباطرة ببزنطة. انظر الحاشية الطويلة التي كتبها عن هذا الموضوع الدكتور زيادة في تعليقاته على كتاب (السلوك» ج 1، ص 179، هامش 2. (¬5) الأصل: «فاحتفظوه»؛ والتصحيح عن (س).

ذكر رحيل الملك العادل إلى الديار المصرية

ذكر رحيل الملك العادل إلى الديار المصرية ورحل الملك العادل في هذه السنة إلى الديار المصرية، بعد أن رتّب أمر الشام والشرق. ووصل إلى مصر، واستقر بدار الوزارة (62 ب).

ودخلت سنة اثنتى عشر وستمائة

ودخلت سنة اثنتى عشر (¬1) وستمائة: والممالك على ما كانت [عليه] (¬2) في السنة الماضية. ذكر استيلاء الملك المسعود بن الملك الكامل على اليمن قد ذكرنا استيلاء سليمان شاه بن سعد الدين بن تقى الدين على اليمن، وما أحدثه فيها من الجور والظلم، وأنه أطّرح زوجته التي ملكّته البلاد. فلما كانت هذه السنة بعث الملك الكامل ولده الملك المسعود صلاح الدين يوسف المعروف بالأقسيس (¬3)، وبعث معه جيشا كثيفا. فمضى إلى اليمن، واستولى على معاقله، وظفر بسليمان شاه وبعثه تحت الحوطة إلى مصر، فأجرى له الملك الكامل ما يقوم به. ولم يزل مقيما بالقاهرة إلى سنة سبع وأربعين وستمائة، فخرج إلى المنصورة غازيا، فقتل شهيدا - رحمه الله -[وأما زوجته ملك فإنها مكانها مكرمة عند الملك الكامل في غاية الاكرام والحرمة الوافرة] (¬4). ¬

(¬1) (ك): «اثنى عشر». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬3) صحة هذا الاسم «أطيس»؛ وقد شرحه (ابن خلكان: الوفيات؛ ج؛ ص 170) بقوله: «هي كلمة تركية معناها بالعربية ماله أسم؛ ويقال: إنما سمي بذلك لأن الملك الكامل ما كان يعيش له ولد؛ فلما ولد له المسعود قال بعض الحاضرين في مجلسه من الأتراك: في بلادنا إذا كان الرجل لا يعيش له ولد سماه أطيس» فسماه أطيس؛ والناس يقولون أقسيس بالقاف وصوابه بالطاء». (¬4) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

وفى هذه السنة وصل رسول الخليفة الناصر لدين الله إلى الشام ومصر، وفى يده كتاب ألفه الخليفة، وسمّاه: «روح العارفين»، يشتمل على أحاديث نبوية يرويها الخليفة بأسانيد عالية، وأمر أن يسمع بالسند عن الخليفة، فسمع في البلاد كلها. ولما وصل هذا الرسول إلى حلب قعد في شرقية الجامع، وأحضرت آلات الذهب والفضة التي تصلح للبخور والطيب، وحضر القاضى بهاء الدين بن شداد والأكابر، وحضر الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر، وقرئ الكتاب، فسمعه الجماعة، وكتبت أسماؤهم، [وقرئ أيضا على الملك الظاهر بجامع قلعة حلب] (¬1). قلت (¬2): سمعت أنا هذا الكتاب من رجل من أهل شيزر (¬3)، قدم علينا من العراق، وذكر أن له به إجازة من الخليفة، فرويته عنه في سنة ثمان عشرة وستمائة وعمرى إذ ذاك أربع عشرة سنة، فإن مولدى ثانى شوال سنة أربع وستمائة (¬4). وفى هذه السنة قتل الملك الظاهر محمود بن الشكرى خنقا، وهو الذى وجد عنده مملوك الملك الظاهر لما كان هو وأخوه الملك الأفضل محاصرين دمشق، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬2) مكان هذا اللفظ في (س): «قال القاضى جمال الدين بن واصل قاضى قضاة حماة وأعمالها صاحب هذا التاريخ». (¬3) (س): «من أهل شيراز». (¬4) هذا نص هام يحدد فيه ابن واصل مؤلف هذا الكتاب تاريخ مولده تحديدا واضحا لا لبس فيه ولا إبهام، فهو يذكر اليوم والشهر والسنة، وهو هنا يذكر كذلك أنه روى كتاب «روح العارفين» الذى ألفه الخليفة الناصر، عن رجل من شيزر له بالكتاب إجازة من الخليفة، وكان عمر ابن واصل حين روى هذا الكتاب أربع عشرة سنة.

ذكر وفاة أبى الحسن على ولد الخليفة الناصر لدين الله

وكان (63 ا) هذا أحد أسباب الفساد بين الأخوين حتى رحلا عن دمشق. وفى هذه السنة قتلت الباطنية أخا للملكة صاحبة عكا، وكان قد خرج من البحر في عالم [عظيم] (¬1) لا يحصى من الفرنج لنصرة صاحب أنطاكية، ونازلت الفرنج الخوابى، وجدّوا في حصاره وقتال أهله، وقاتلتهم رجّالة الحلبيين الذين بعثهم الملك الظاهر نجدة لأهل الخوابى. ذكر وفاة أبى الحسن على ولد الخليفة الناصر لدين الله وفى العشرين من ذى القعدة من هذه السنة توفى الأمير أبو الحسن علىّ بن الخليفة الناصر لدين الله. وكان الخليفة يحبه حبا شديدا، وقد رشحه لولاية العهد من بعده، وخلع لذلك أخاه عدة (¬2) الدين أبا نصر محمدا، وهو أكبر من علىّ هذا. وكان - رحمه الله - كثير الصدقة، كريما، كثير المعروف، حسن السيرة، محبوبا عند الخواص والعوام، وكان مرضه الإسهال؛ فحزن عليه الخليفة حزنا لم يسمع بمثله. ولما توفى أخرج نهارا، ومشى جميع الناس بين يدى تابوته إلى تربة جدته [الخيزران] (¬3)، وهى عند قبر معروف الكرخى (¬4) - رحمه الله - فدفن ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) و (س). (¬2) (ك): «علا الدين». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬4) هذا تحديد هام لموضع قبر الحيزران.

هناك، ولما دخل التابوت (¬1) أغلقت الأبواب وسمع الناس الصراخ العظيم من داخل التربة، فيقال إن ذلك كان صوت الخليفة. ودامت عليه المناحات في أقطار بغداد ليلا ونهارا أياما، فلم يبق في بغداد محلة إلا وفيها النوح، ولم تبق امرأة إلا وأظهرت الحزن [الشديد] (¬2) ولم يسمع ببغداد مثل ذلك في قديم الزمان ولا حديثه. ولما سمعت الملوك بموته جلسوا في العزاء له لابسين شعار الحزن خدمة للخليفة، ورثته الشعراء فأكثروا؛ فممن رثاه شرف الدين بن راجح بن اسماعيل الحلّى عند ما عمل الملك الظاهر غازى - صاحب حلب - عزاءه بقصيدة مطلعها: أكذا يهدّ الدهر أطواد الهدى ... ويردّ بالنكبات شاردة الرّدى؟! (63 ب) أكذا تعيب النيّرات وينطفى ... ما كان من أنوارها متوقّدا؟! يا للرجال لنكبة نبوبة ... طوت العلى قلبا عليها مكمّدا ولخطة شنعاء لاحظها الهدى ... دامى الجفون فغضّ جفنا أرمدا لو كنت بالشهباء يوم تواترت ... أنباؤها لرأيت يوما أسودا يوما تزاحمت الملائكة العلى ... فيه فعزّت عن علىّ أحمدا قصدت أمير المؤمنين رزية ... عادات وقع سهامها أن تقصدا هى ضعضت شمّ الجبال وأخضعت ... من لم يكن لمذلة متعوّدا شنّت على حرم الخليفة (¬3) غارة ... شعواء غادرت الفخار مطرّدا فسقى أبا حسن ثراك صنائع ... لك ليس تبرح غاديات عوّدا ¬

(¬1) (س): «ولما أدخل التابوت إلى التربة». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) و (س). (¬3) (ك): «الخلافة».

ومنها: ما للإمامة أصبحت مفجوعة ... بأعزّها حسبا وأزكى محتدا درت (¬1) الخلافة علم يوم مصابه ... فلأجله اتخذوا الشعار الأسودا صلّت ملائكة السماء عليه من ... آفاقها فرقا، وظلّت سجّدا جليت له حور الجنان وجلّيت ... قبل التلاقى لؤلؤا وزبرجدا ومنها: صبرا أمير المؤمنين، فلم تزل ... في كل حادثة بصبرك يقتدى وامنح غياث الدين صبرا منك لو ... أرشدته يوما إليه لاهتدى فهو الضعيف إذا تلمّ ملمة ... بكم وما زال القوىّ تجلّدا (¬2) واسلم، فلا سعت الليالى بعدها ... أبدا، إليك بما يسرّ به العدى ورثاه القاضى كمال الدين بن النبيه المصرى لما عمل الملك الأشرف ابن الملك العادل عزاءه بقصيدة مطلعها: الناس للموت كخيل الطراد ... فالسابق السابق منها الجواد والله لا يدعو إلى داره ... إلا من استصلح من ذا العباد والموت نقّاد على كفّه ... جواهر يختار منها الجياد (64 ا) والمرء كالظّل، ولا بدّ أن ... يزول ذاك الظلّ بعد امتداد لا تصلح الأرواح إلا إذا ... سرى إلى الأجساد هذا الفساد ¬

(¬1) (س): «ثوب». (¬2) (ك): «مخلدا» و (س): «مجلدا».

أرغمت يا موت أئوف القنا ... ودست أعناق السيوف الحداد كيف تخرّمت عليّا وما ... أنجده كلّ طويل النجاد نجل أمير المؤمنين الذى ... من خوفه يرعد قلب الجماد مصيبة أذكت قلوب الورى ... كأنها في كل قلب زناد نازلة حلّت، فمن أجلها ... سنّ بنو العباس لبس الحداد ومنها: خليفة الله اصطبر واحتسب ... فما وهى البيت وأنت العماد بالحلم والعلم بكم يقتدى ... إذا دجا الخطب وضلّ الرّشاد أنت سماء طلعت زهرها ... لا ينقص الآفل منها عداد وأنت لجّ البحر، ماضرّه ... أن سال من بعض نواحيه واد يا نوح رث أعمارنا، واحتكم ... ملّكك الله رقاب العباد وفى هذه السنة صالح الفرنج أهل الخوابى، ورحلوا عنهم بعد أن حاربوهم حربا شديدا، وكان المتوسط في الصلح بينهم الملك الظاهر. وفى رمضان من هذه السنة وصل إلى حلب الشيخ شهاب الدين السهروردى - رحمه الله - رسولا من الخليفة الناصر لدين الله إلى الملك الظاهر، ومعه تشريف جليل: فرجية فرو سمور مغشاة بثوب [أطلس] (¬1) أسود، وسيف محلى، وأسمع [عن] (¬2) الخليفة كتاب «روح العارفين» المشتمل على الأحاديث ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬2) أضفنا ما بين الحاصرتين ليستقيم المعنى.

النبوية الذى تقدم ذكره، وجلس الملك الظاهر وأكابر دولته. بين يدى الشيخ شهاب الدين، وكان كلما جرى ذكر الخليفة قام الملك الظاهر على رجليه. وبعد سماع الأحاديث (1) التي هى تخريج الخليفة (¬1)، نصب لشهاب الدين كرسى الوعظ، وأذن للعامة في الدخول لسماع وعظه. وفى هذه السنة ملك الفرنج أنطاكية من بلاد السلطان عز الدين كيكاوس - صاحب بلاد الروم - وقتلوا من بها من المسلمين، ثم استعادها (64 ب) منهم عز الدين في هذه السنة. وفى شوال من هذه السنة ملك ابن لاون - ملك الأرمن - أنطاكية، وأحسن إلى أهلها، وأظهر فيها العدل، وكان الابرنس صاحبها ظالما، فحسن موقع ابن لاون من (¬2) أهل أنطاكية، وأطلق جماعة من أسرى المسلمين بها، وحملهم [إلى حلب] (¬3)، ووقع الصلح بينه وبين الملك الظاهر. وفى هذه السنة فتح عز الدين صاحب الروم قلعة من بلاد الأرمن منيعة تسمى لؤلؤة. فسلّم ابن لاون بغراس إلى الداوية، واستناب ابن أخته بأنطاكية، وعاد إلى بلاده، خوفا من عز الدين كيكاوس. ووصلت إلى الملك الظاهر هدية عز الدين، والبشارة بعودة أنطاكية إلى المسلمين. ¬

(¬1) هذه الفقرة غير موجودة في (س). (¬2) (س): «عند». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

ودخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة

ودخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة: والسلطان الملك العادل [مقيم] (¬1) بالديار المصرية والممالك على حالها. وفى المحرم من هذه السنة وردت رسالة عز الدين كيكاوس إلى الملك الظاهر يطلب منه الاجتماع معه على مرعش بجيشه ليتفقا على قصد ابن لاون - ملك الأرمن - ويستخلصا أنطاكية منه. فأجاب الملك الظاهر إلى حرب ابن لاون، على أن يدخل عز الدين إلى بلاد ابن لاون من جهة مرعش، ويدخل الملك الظاهر من جهة دربساك (¬2) ويقصد الابرنس أنطاكية، ومعه عسكر دمشق وحماة وحمص، ليضيّق المسالك على ابن لاون. وأخذ الملك الظاهر في جمع الرجال وبذل الأموال، وبعث إلى عز الدين في جواب الرسالة إليه عبد الرحمن المنجى، فأدّى الرسالة، وحرّف فيها، وزاد فيها شروطا تضر الملك الظاهر، وتوافق (¬3) عز الدين لعدم كفايته. فسيّر الملك الظاهر إلى الملك العادل يستشيره في ذلك فهجّن عليه الملك العادل رأيه، وأشار إليه بأن لا يجتمع إليه أصلا، وعرّفه ما في ذلك من المفاسد. فوقع الملك الظاهر في حيرة عظيمة، بين أن يغدر بما وعد به عز الدين، وبين أن يخالف عمّه الملك العادل. وترددت الرسل من عز الدين مستحثة على سرعة الحركة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬2) الأصل: «دربال»، والتصحيح عن (ك) و (س). (¬3) (ك) و (س): «فوافق».

ووصل رسول ابن لاون إلى الملك الظاهر برسالة مضمونها: إنى مملوك السلطان، (65 أ) وغرس دولته (¬1)، وقد دخلت عليه دخول العرب، وأطلب منه إنقاذى من هذه الورطة، وأكون مملوكه ما عشت، وقد حفظت بلاد السلطان غير مرة، وخدمته، منها: «أن السلطان لما حاصر دمشق المرة الأولى وبقيت البلاد شاغرة من العساكر، ما شغلت قلبه ولا آذيت بلده، بل ساعدته وعاونته بمالى ورجالى (¬2)، وكذلك لما حاصر دمشق المرة الثانية، وقد بذلت لى الأموال كلها لأشغل قلبه ويفتر عن الحصار فلم أفعل. وإن كان الإبرنس قد خدم السلطان، فخدمتى أكثر من خدمته، (3) وسوف يبصر السلطان خدمتى، وملازمتى بابه الشريف، وقد أوصيت ابن أختى الذى نصبته بأنطاكية بملازمة خدمته» (¬3). وبعث ابن لاون مع هذه الرسالة هدية عظيمة فاخرة، فمال الملك الظاهر إلى قوله، وبقى مترددا. ثم ورد قاضى أقصرا، وهو قاضى عسكر عز الدين، رسولا منه إلى الملك الظاهر يحثّه على الحركة، وبينما هو عنده إذ ورد على الملك الظاهر من أخبره أن عسكر عز الدين بمرعش أغاروا على البلاط من بلد حلب، وقتلوا جماعة من الأرمن الذين به، وأسروا جماعة. فعظم ذلك على الملك الظاهر، وقوى عنده الرأى الذى أشار به عمّه الملك ¬

(¬1) (ك) و (س): «نعمته». (¬2) (ك): «وحالى». (¬3) هذه الجملة غير موجودة في (س).

ذكر توجه القاضى بهاء الدين [بن شداد] إلى مصر لتقرير قواعد الملك الظاهر

العادل، وقال للرسول:» أول الدية دردى (¬1)؟! العجب أنكم تطلبون منا المعاونة وتخربون بلادنا». فاعتذر الرسول بأنه وجد بالبلاط قسىّ مما غنه ابن لاون من بلاد الروم لما أغار عليها، فعلم بذلك أن أهل البلاط (¬2) كانوا معاونين لابن لاون على نهب بلاد المسلمين، والذى كشف هذه الحال قوم من التركمان، فلذلك أمر السلطان عزّ الدين نصرة الدين - صاحب مرعش - أن ينهب البلاد مجازاة لهم. فأعرض الملك الظاهر عن الحركة لنصرة عز الدين ورجع عن عزمه الأول. ذكر توجه القاضى بهاء الدين [بن شداد] (¬3) إلى مصر لتقرير قواعد الملك الظاهر وفى هذه السنة سيّر الملك الظاهر القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - (65 ب) إلى السلطان الملك العادل، وكان قبل ذلك قد أرسل (¬4) القاضى نجم الدين بن الحجاج - نائب القاضى بهاء الدين في الحكم بحلب -، فوجد من الملك العادل قبولا عظيما، وطيّب قلب الملك الظاهر، وبسط أمله. فأنفذ الملك الظاهر القاضى بهاء الدين شاكرا لإنعامه وطلب منه أمورا ثلاثة: ¬

(¬1) الدردى (ج: درادى) هو السم، انظر (Dozy : Snp .Dict .Arab) . (¬2) (س): «فعلم بذلك بشر أهل البلاط وأنهم معاونون لابن لاون. . . الخ (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) و (س). (¬4) (ك): «سيّد».

ذكر وفاة الملك الظاهر - صاحب حلب رحمه الله -

أحدها: أن يكون الملك العزيز محمد ولده ولىّ عهد أبيه وقائما بملك حلب وبلادها بعده. وثانيها: أن يزوّج الملك العزيز إبنة الملك الكامل. وثالثها: أن يكون صلح الملك الظاهر وصلح الملك العادل مع الفرنج واحدا، وفكسهما (¬1) معهم واحدا. قال القاضى بهاء الدين - رحمه الله -: «فتوجهت إلى الديار المصرية، فأنهيت إلى السلطان الملك العادل هذه الفصول، فأجاب إلى تولية الملك العزيز عهد أبيه، وإلى الموافقة في الصلح والفكس مع الفرنج، وأما فصل التزويج فقال: هذا لا يتعلق بى، فاجتمع بالملك الكامل وتحدث معه فيه». قال: «فاجتمعت بالسلطان الملك الكامل، وخاطبته فيه فأجابنى إليه، وأخذت يده على ذلك». ذكر وفاة الملك الظاهر - صاحب حلب رحمه الله - ولما كانت صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة ابتدأت بالملك الظاهر حمى حادّة، فتجلّد في ذلك اليوم، وركب، ثم نزل، ولم يعد إلى الركوب. ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى (ك)، وفى (س): «مكهما»، هذا ولم يجد الناشر تفسيرا لهذا اللفظ في المعاجم العربية المعروفة» ولعل مهناها «نسكئهما».

وفى الغد جلس، ودخل إليه أخوه الملك المحسن، وجماعة من الأكابر لعيادته، وفرحوا بمشاهدته. وفى التاسع والعشرين من هذا الشهر، وهو خامس يوم من مرضه اشتدت به الحمى، وحقن وخيف عليه. وفى اليوم السابع عشر من مرضه أحضر القاضى نجم الدين - نائب القاضى بهاء الدين -، وكان القاضى بهاء الدين كما ذكرنا قد توجه من الرسالة إلى مصر؛ فكتبت نسختا يمين (¬1) مضمونهما: أن الملك يكون بعد الملك الظاهر لولده الملك العزيز محمد، وبعده للملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر، وبعدهما لابن عمهما الملك المنصور محمد بن الملك العزيز عثمان. وأن الأمير شهاب الدين طغريل الخادم يكون مرتبا بالقلعة؛ والأمير سيف الدين على (66 أ) بن علم الدين سليمان بن حيدر يكون أتابك العسكر. وحلف الأمراء وأكابر الحلبيين بمقتضى النسختين. [(2) وأن يبعث نسخة للملك العادل، وتبقى الأخرى بيد أتابك شهاب الدين طغريل الخادم] (¬2). وفى هذا اليوم أمر الملك الظاهر أن يزوج ابنته من ابن أخيه الملك المنصور ابن الملك العزيز، وعقد النكاح بحضوره. وأحضر الرئيس جمال الدين علىّ بن صفىّ الدين أبى القسم بن الطريرة، وخلع عليه، وقلّد الرياسة بحلب، وكانت لأبيه قبله. ¬

(¬1) (ك) و (س): «نسختين»، وفى الأصل: «نسخة» وقد صححت لتتفق وسياق الكلام. (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س)، وهى زيادة لها أهميتها.

وأحضر شهاب الدين طغريل، وسلّم إليه مفاتيح الخزائن، وجعل له الحكم في جميع القلاع، وغدق به جميع أمور الدولة، وسلّم إليه (1) مدرجا بخطه فيه (¬1) جميع ما يعتمده. وبعث الملك الظاهر في هذا اليوم لكل واحد من إخوته خمسة آلاف دينار (¬2)، وأعتق جماعة من مماليكه. وخرج أمر الأتابك في هذا اليوم نبغى القينات وأهل الفساد. وحمل إلى الملك المنصور بن العزيز عشرون ألف درهم. واستحلف العامة بالجامع. ثم أعتق الملك الظاهر مائة مملوك، ومائة جارية [وزوّج بعضهم لبعض] (3) وأسقط كثيرا من المكوسى. ثم أنزل المماليك [والجوارى] (¬3) الذين أعتقوا (4) إلى البلد، وجمعوا بدار العدل، وأقيم عليهم الحفظة والحرّاس، فخرجوا إلى ظاهر باب العراق، ونهبوا من عارضهم من العامة (¬4)، فوقع الإرجاف، وغلّقت الأسواق. واجتمعت العامة تحت القلعة، وأشير على الرئيس جمال الدين بالنزول إلى الجامع وتسكين الناس، وأن يجعل مبيته في الجامع خوفا من طريان فتنة، وأصعد جماعة من المفاردة (¬5) إلى القلعة ليبيتوا بها. وفى الثالث عشر من جمادى الآخرة أقطع الملك الظافر خضر المعروف ¬

(¬1) هذه الفقرة ساقطة من (ك) و (س). (¬2) الأصل وس: «درهم»، وما هنا عن (ك)، وهو أقرب إلى المعقول. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬4) (س): «إلى دور أخليت لهم في المدينة» وأقيم عليهم الجراية والجامكية». (¬5) انظر ما فات بهذا الجزء. ص 93، هامش 5

بالمشمرّ كفر سوذ، وحمل إليه ثلاثون ألف درهم؛ وأخرج من ليلته من حلب بالتوكيل. وأخرج علم الدين قيصر - مملوك الملك الظاهر - إلى حارم، وأعطى علما وكوسا. وفى الخامس عشر من جمادى الآخرة، اشتد مرض الملك الظاهر، ومنع الناس من الوصول إليه، واضطرب البلد اضطرابا كثيرا (¬1). ولما أخرج (¬2) الملك الظافر من حلب سار إلى كفر سوذ، فبلغه أن أخاه الملك الزاهر مجير الدين داود - صاحب البيرة - وهو شقيق الملك الظاهر، قد استولى على حروص، وكفر سوذ ومرزبان، ونهرجور، وأخرج جميع العمال بها. فسار الملك الظافر إلى منبج، فخاف الأتابك (66 ب) شهاب الدين طغريل أن يبدو من الملك الظافر ضرر، فسيّر إليه عسكرا فرحّلوه عن منبج، فسار إلى الملك الأفضل صاحب سميساط - وهو شقيقه، فكان عنده. وفى السادس عشر من جمادى الآخرة أرجف بموت الملك الظاهر، وغلقت الأسواق، فخرج الأمر بتسكين العامة، ولجّت الأمراء في طلب النظر إلى الملك الظاهر، واقترح إخوته ذلك، فأدخلوا إليه بعض الأمراء فرأؤه، وكان آخر العهد به. واشتد مرضه جدا، فذكر أنه كان يفيق في بعض الأوقات، ويتشهد، ويقرأ قوله تعالى: {ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ»}، ثم يقول: «اللهم بك أستجير، وبرحمتك أثق» (¬3). ¬

(¬1) (ك): «عظيما». (¬2) (ك): «خرج». (¬3) هذه الجملة ساقطة من (س).

وفى اليوم الثامن عشر (¬1) من جمادى الآخرة حجب عنه الرجال، وتولاه الأتابك شهاب الدين طغريل، وزوجته ضيفة خاتون، بنت الملك العادل. ثم كانت وفاته ليلة الثلاثاء العشرين (¬2) من جمادى الآخرة. وكتم موته، ولم يعلمه غير الأتابك والخاتون، فشرع في تجهيزه وغسله، وتكفينه، وأحضر أمان، وحفر له قبرا في حجرة الذهب، ودفن بها إلى أن نقل بعد ذلك إلى مدرسته (¬3) التي بنيت له بحلب. وكان المتولى لغسله شهاب الدين بن حرب (¬4)، خطيب قلعة حلب، وصلى عليه هو والأتابك والفقيه ابن الدل (¬5)، والحاج بهاء الدين عمر بن أياز. ووقعت في البلد ضحوة يوم الثلاثاء العشرين (¬6) من جمادى الآخرة صبيحة الليلة التي مات فيها ضجة عظيمة، وكادت الفتنة تقوم، ثم سكن الناس، ولم يزل خبر موته مكتوما إلى آخر النهار، فأنفذ الأتابك لما رأى سكون الناس، فأعلم بموته بعض الناس، وأمرهم بمباكرة باب القلعة، فباكروها صبيحة يوم الأربعاء الحادى والعشرين من جمادى الآخرة (¬7)، وأكثر الناس حضر على العادة غير عالمين بالواقعة، فلم يشعروا إلا وقد فتح الباب، وخرج الملك العزيز وأخوه ¬

(¬1) (س): «الثامن والعشرين». (¬2) (س): «التاسع والعشرين». (¬3) ذكرها (ابن الشحنة: الدر المنتخب، ص 113) ضمن المدارس الشافعية التي بظاهر حلب، قال: «المدرسة الظاهرية أنشأها السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازى بن يوسف بن أيوب - صاحب حلب - وانتهت عمارتها في سنة 616، وأنشأ إلى جانبها تربة أرصدها ليدفن بها من يموت من الملوك والأمراء». (¬4) (ك) و (س): «شهاب الدين حرب». (¬5) (ك) و (س) «ابن الدكر». (¬6) (س): «التاسع والعشرين». (¬7) (س): «الأربعاء سلخ جمادى الآخرة».

الملك الصالح، وعليهما السواد، فوقع الأمراء عن خيولهم، وكشفوا رءوسهم، وقطعوا شعورهم، وضجوا ضجة واحدة. وفعل كذلك مماليكه وأهل القلعة. وكان منظرا فظيعا. وكان الملك العزيز وأخوه الملك الصالح راكبين، وبين يدى (67 ا) الملك العزيز سيف الدين على بن علم الدين يحمل الغاشية. وأقبل الأمراء وأولاد الملك الناصر صلاح الدين إلى الملك العزيز وأخيه الملك الصالح يقبلون أيديهما (¬1)، ثم رجعا إلى القلعة. وأقبل الناس على النوح والبكاء. وكان مولد الملك الظاهر بمصر في منتصف شهر رمضان سنة ثمان وستين (¬2) وخمسمائة، فكان عمره أربعا وأربعين سنة وشهورا. وكانت مدة ملكه بحلب من حين وهها له والده السلطان الملك الناصر - رحمه الله - ثانى مرة إحدى وثلاثين سنة، لأن ملكه لها كان في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. فإنا كنا ذكرنا أنه كان ملكّه لها أولا، ثم انتزعها منه، وملكّها لأخيه الملك العادل، ثم انتزعها من الملك العادل وملكّه لها في التاريخ المذكور. ¬

(¬1) وجد بعد هذا اللفظ في نسخة (س) جملة نصها: «والملك المنصور بن الملك العزيز راكب قدامهما». (¬2) (س): «وسبعين».

ذكر سيرته - رحمه الله -

ذكر سيرته - رحمه الله - كان [الملك الظاهر] في أول أمره عنده بطش شديد، وإقدام على سفك الدماء، ثم إنه قصر عن ذلك في آخر أيامه. وكان حازما، عادلا، حسن السياسة، محبوبا عند رعيته، شهما، متيقظا، ضمّ شمل البيت الصلاحى لما استولى عمّه على الممالك، وأحسن إليهم، ولولاه كان تفرّق الشمل. وكان محسنا إلى رعيته وأمرائه وأكابر دولته، أيّهم مات أقام ولده - ولو كان صغيرا - مقامه، وسلك في ذلك مسلك والده - رحمهما الله - وسلك مثل ذلك ولده الملك العزيز بعده، والملك الناصر بن الملك العزيز رحمهم الله أجمعين (¬1) وقدّس أرواحهم. وكان ذكيا، فطنا، حسن النادرة؛ ومما يروى في ذلك: أن شرف الدين راجح [الحلىّ] (¬2) بن إسماعيل الشاعر كان عنده ليلة ينادمه، فأخذ الملك الظاهر في مماجنته والعبث به. وكان الحلّى قد سكر، فحرد من عبث الملك الظاهر به، فقال متهددا له بالهجو: «أنظم؟». ¬

(¬1) النص في (س) مختلف اختلافا كبيرا، وهو هناك: «وأنهم لما مات أقاموا ولده الملك العزيز مقامه، وكان صغيرا، فلما كبر سلك مسلك والده - رحمه الله - وكان الملك الظاهر قد سلك مسلك أبيه الملك الناصر صلاح الدين رحمهم الله أجمعين». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).

فأشار الملك الظاهر بيده إلى السيف وقال في الحال: «إن نظمت يا حلّى، فأنا أنثر». وحكى أن الحلّى رأى على الملك الظاهر ليلة فروة أعجبته، فقال لبعض الحاضرين: «ما تقولون فيمن يأخذها منه؟». ثم أصبح ودخل عليه، وأنشده: يا ملك الأرض الذى ذكره ... له مذاق في فمى يعذب (67 ب) ومن إذا كرّرت أوصافه ... صحّت لى السّكرة والمطرب لله هذا السؤدد المعتلى ... والحسب الوضّاح والمنصب والخلق العذب الشهىّ الذى ... يكاد من رقّته يشرب فداك أملاك مواعيدهم ... بوارق أصدقها خلّب إن وعدوا مانوا، أو استؤمنوا ... خانوا، وإن هم سئلوا قطّبوا فدونهم في بخلهم ما در ... ودون من يرجوهم أشعب رأيت في بارحتى بعد ما ... مضيت والصهباء بى تلعب والليل قد أبهج جلبابه ... والشّهب قد غصّ بها المغرب والنوم مستول على مقلة ... مرآك من تهويمها أطيب أنّك قد ألبستنى فروة ... ذات غشاء ردنه مذهب فقمت في وقتى فصادفتها ... مشرّفا منى بها المنكب فقلت: سبحان الذى خصّه ... بمكرمات أصلها منجب حتى إلى النوّام يسرى الندى ... منه تعالى جدّه الأغلب فهذه الرّويا وتأويلها ... له بيان عنك ما يحجب

فقال له الملك الظاهر: «أضغاث أحلام يا حلّى». فأجابه في الوقت: والله ما حدثنى خاطرى ... إلا بظنّ فيك ما يكذب فرمى بالفروة إليه، وأمر له (¬1) بثلاثمائة درهم ثمن بقيار (¬2). وحكى أن مهذب الدين أبا المحاسن ماجد بن محمد بن القيسرانى كتب إلى الملك الظاهر أبياتا أولها: أما وضجيج (¬3) قهقهة القنانى ... وأصوات المثالث والمثانى لقد أضحى الشام يتيه عجبا ... بملك ماله في الأرض ثانى فلما وقف الملك الظاهر عليها كتب في جوابها: طلبنا الدرّ من بحر المعانى ... وعذب اللفظ من عضب اللسان وهل تجنى ثمار الفضل إلا ... فروع أصلها حلو المجانى (68 ا) ولا عجب أن استسقيت غيثا ... أو (¬4) استسقيت منطلق العنان وأنت السابق الغايات فضلا ... إذا ما قصّرت خيل الرّهان ¬

(¬1) (ك): «وأعطاه ثلاثمائة درهم». (¬2) الأصل: «مقبار، وقد صححت بعد مراجعة (Dozy : Supp .Dict .Arab) حيث عرفها بأنها نوع من العمامة السكيرة التي كان يلبسها الوزراء والقضاة والكتاب؛ وذكر الدكتور محمد مصطفى زيادة في تعليقات على (السلوك ج 1، ص 55) أنها كلمة فارسية؛ ومن معانيها: سجاد سوداء مصنوعة من وبر الجمل» وليس هذا المعنى هو المقصود هنا بل أصح منه منه المعنى الأول. (¬3) الأصل: «وصحيح»، والتصحيح عن (ك). (¬4) (ك): «لو»

فأهلا، ثم أهلا، ثم أهلا ... بما أرسلت من سحر البيان ولما مات الملك الظاهر عمل العزاء له ثلاثة أيام. وفى اليوم الثالث قام شرف الدين الحلّى وأنشد مرثية في الملك الظاهر، مطلعها: سل الخطب إن أصغى إلى من يعاتبه (¬1) ... بمن علقت أنيابه ومخالبه نشدتك عاتبه على نائباته ... وإن كان نابى السمع عمّن يعاتبه ومنها: أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا ... أما فيكم من مخبر أين صاحبه؟ ومنها: فإن يك نور من شهابك قد خفا ... فيا طالما جلّى دجى الليل ثاقبه وقد لاح بالملك العزيز محمد ... صباح هدى كنّا قديما نراقبه فتى لم يفته من أبيه وجدّه ... أب ثم جدّ غالب من يغالبه ومنها ما يخاطب به الملك العزيز وأخاه الملك الصالح. أيمكث بالشهباء عبد أبيكما ... ومادحه أم تستقل ركائبه فذكر أن الأتابك شهاب الدين لما سمع هذا البيت، قال: قولوا له: «يرحل فلا حاجة لنا إليه، فإنا لا نعطى الشعراء شيئا». فقال الحلّى قصيدة مطلعها: منع التأسّف قلبى المتبولا ... أن يستطيع إلى السّلو سبيلا ¬

(¬1) (ك) و (س): «يخاطبه».

ومنها: يا دهر قد أسرفت فيما ساءنى ... عمدا، فخفّف من أذاك قليلا ألبستنى ثوب الأسى، وسلبتنى ... عزّا عدمت له العزاء ذليلا وضعفت من نكبات صرفك بعد ما ... قد كنت جلدا للخطوب حمولا (68 ب) غازى بن يوسف: لا وحقّك ما خبت ... نارى ولا نقع البكاء غليلا أبقيت لى من بعد فقدك أنة ... تفرى الضلوع ورنة وعويلا يا للرجال لنائبات غادرت ... [بالغدر] (¬1) سيف تصبّرى مفلولا مالى أرى الإيوان أصبح بابه ... قفرا، وكان جنابه مأهولا فإن اكتسى ذلاّ، فكم قد ذلّلت ... للسائلين قطوفه تذليلا ومنها: يا تاركى صفر اليدين مكابدا ... للدّين، مهجور الفناء ضئيلا منذا أؤمّل في الورى لمطالبى؟ ... هيهات بعدك أرتجى مأمولا! أأظلّ أنتجع الملوك مرجّيا ... منهم كريما تارة وبخيلا حسبى حمى الملك العزيز، فإننى ... لا أبتغى ما عشت عنه بديلا ملك يلوح على أسرّة (¬2) وجهه ... بشر يبشّر أن أنال السّولا والصّالح الملك المؤمّل كافل ... لى خصب ربعى، إن شكوت محولا لا خاب لى في أحمد ومحمد ... أمل رجا أن ينعما وينيلا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) و (س). (¬2) الأصل: «الأسرة»؛ والتصحيح عن (س).

ذكر تمليك الملك العزيز بن الملك الظاهر حلب

مع أنّ آمالى المصرّد شربها ... أمّت فراتا للنوال ونيلا أمّت شهاب الدين ينبوع الجدى ... مروى العدى، محيى الندى طغريلا فلم يؤثر ذلك شيئا عند الأتابك شهاب الدين، وأمر بقطع ما كان للحلّى وفارق حلب، وسار إلى الملك الأشرف بن الملك العادل، فحظى عنده. ذكر تمليك (¬1) الملك العزيز بن الملك الظاهر حلب ولما رجع الملك العزيز وأخوه الملك الصالح [وابن عمهما الملك المنصور] (¬2) إلى القلعة، خرج أولاد الملك الناصر صلاح الدين، وأكابر الدولة، رجّالة إلى دار العدل، ووصل في ذلك الوقت القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - فحضر مع الجماعة، وأخذوا في قراءة القرآن. فقال القاضى بهاء الدين: «نحن إلى الاشتغال بغير العزاء أحوج» فصرف الناس، وأقبلوا على المشورة (69 ا) وترتيب الأمور. قال القاضى بهاء الدين - رحمه الله -: «لما انصرفت من مصر راجعا إلى حلب مررت في طريقى بنابلس وبها الملك المعظم، واجتمعت به، وذكرت له الفصول التي أنهيتها إلى أبيه، وإجابته إليها، ففرح الملك المعظم بذلك وسرّ به. ثم فارقته متوجها إلى حلب، فلما وصلت إلى حماة خرج إلىّ صاحبها الملك ¬

(¬1) (ك): «تملك». (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

المنصور، فعرّفته ما جرى، فحكى إلى المنصور اشتداد مرض الملك الظاهر - رحمه الله -. فلما وصلت إلى حلب وجدته قد مات، فصعدت إلى القلعة، وحضرت تربته (¬1)، وترحمت عليه وأنشدت: أين الوجوه أحبها ... وأود لو أنى فداها؟ ثم اجتمعت بالجماعة، ووقع الاتفاق معهم على ترتيب الملك العزيز غياث الدين محمد في الملك موضع والده» (¬2). وكان الوزير ابن أبى يعلى - وزير الملك الظاهر - مستوليا على الأمور كلها في الأيام الظاهرية، إلى أن وصل القاضى بهاء الدين، فاجتمع القاضى بهاء الدين بالأتابك شهاب الدين، وقرّر معه صرف الوزير عن النظر في الأمور، واتفق معه أن الجماعة يجتمعون، ويتشاورون فيما يقررونه من قواعد المملكة، وأن الأمر كله يكون معذوقا بشهاب الدين، فاجتمعوا بدار العدل، واتفقت آراؤهم كلهم على أن يكون الملك المنصور بن الملك العزيز أتابك العسكر، وأمر الإقطاع إليه، وحلفوا على ذلك. وركب الملك المنصور، والأمراء كلهم في خدمته. ونزل الملك العزيز، وأخوه الملك الصالح، وجلسا في دار العدل، ¬

(¬1) س: «وحضرت العزاء». (¬2) هذا قول مروى عن المؤرخ بهاء الدين بن شداد، والمعروف أن ابن شداد كتب كتابا واحدا في التاريخ هو «السيرة اليوسفية» أي سيرة صلاح الدين. ولم يعرف أنه أرخ للفترة التالية لعصر صلاح الدين. وأرجح أن هذا القول رواه أحد المؤرخين الذين أرخوا لهذه الفترة ثم نقله عنه ابن واصل.

و [جلس] (¬1) الملك العزيز في منصب أبيه، وإلى جانبه الملك الصالح، وابن عمهما الملك المنصور إلى جانبهما. ثم اضطربت الأمور، ولم يرض أولاد الملك الناصر صلاح الدين بولاية ابن أخيهم الملك المنصور. ووصل رسول من جهة السلطان عز الدين كيكاوس - صاحب بلاد الروم - وكان معسكرا - كما قدمنا ذكره - بالقرب من البلاد، منتظرا وصول الملك الظاهر إليه، فجاءهم (¬2) رسوله معزيا به، ومشيرا عليهم بالاتفاق معه، وأن يرتب الملك الأفضل بن الملك الناصر - صاحب سميساط - أتابك العسكر، فإنه أكبر أولاد صلاح الدين، وعم الملك العزيز، وأولى الناس بتربيته، وحفظ ملكه؛ (69 ب) فمال إلى هذا الرأى الأمراء المصريون، مثل مبارز الدين يوسف بن خطلخ، ومبارز الدين سنقر الحلبى، و [جمال الدين أحمد] (3) ابن أبى ذكرى، وغيرهم؛ وقالوا: «هذا هو الرأى، والملك الأفضل رجل كبير [القدر] (¬3)، ولا ينتظم حفظ المملكة إلا به، وإذا رجع إليه التدبير بحلب قدر على أخذ ثأره من عمه الملك العادل، وأخذ دمشق والديار المصرية منه». وأنكر القاضى بهاء الدين، وعلم الدين بن سيف الدين، وسيف الدين بن قلج هذا الرأى، وقالوا: «إن في هذا من الخطر ما لا يخفى على عاقل، لأن الملك العادل ملك عظيم، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س). (¬2) (ك): «فجهز». (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

صاحب الديار المصرية والشرق، ومعظم الشام [واليمن] (¬1)، فإن كانت الغلبة له انتزع الملك من أيدينا، وإن كانت الغلبة للملك الأفضل لم نأمن أن يتغلب على ابن أخيه الملك العزيز، وينتزع الملك منه، ويستقل به كما فعل الملك العادل بالملك المنصور بن الملك العزيز؛ والملك العادل فقد حلف للملك الظاهر، ولابنه الملك العزيز من بعده، وهو ابن بنته، وابنته بقلعة حلب، ونحن نطالبه بالوفاء بالعهد، وهو يذبّ عن حلب كما يذبّ عن غيرها من ممالكه، وأمور الخزائن بالقلعة راجعة إلى شهاب الدين طغريل، وقد رتّبه الملك الظاهر بالقلعة، وجعل أمرها إليه، والرأى أن تكون الأمور جميعها مفوضة إليه». فانفق رأيهم كلهم على هذا. وعملت نسخة يمين حلف عليها جماعة الأمراء والمقدمين بالبلد، مضمونها: «أن الملك يكون للملك العزيز، وبعده لأخيه الملك الصالح [صلاح الدين] (2)، وأن القائم بتدبير المملكة الأتابك شهاب الدين طغريل». ثم أبعد الوزير ابن أبى يعلى، وعزل عن الوزارة. وكان تمام استقرار هذا الأمر في أواخر شعبان من هذه السنة. وفى رمضان سافر ابن أبى يعلى عن حلب [إلى دمشق، وأقام بها إلى أن مات] (¬2)، واستقل الأتابك شهاب الدين في جميع الأمور، وانتظمت به أحسن انتظام، وقام بترتيب البلاد والقلاع، وتفريق الأموال والإقطاع، ولا يخرج في ذلك كله عن رأى القاضى بهاء الدين، وسيف الدين بن علم الدين، وسيف الدين بن قلج. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

ذكر وقوع الخلف بين أمراء الدولة بحلب ثم زوال الخلف ووقوع الاتفاق

ثم أقطع علم الدين قيصر در سال، وابن أمير التركمان اللاذقية (¬1). وكان (70 أ) قد سيّر علم الدين قيصر إلى الملك الزاهر، ليعاتبه على استيلائه على البلاد، فاعتقل [الملك الزاهر] علم الدين، وقال: «أنا أحق بذلك، فإنى كنت ولى عهد أخى الملك الظاهر، وقد حلف لى الناس». ثم إنه انقاد إلى الطاعة، وأطلق علم الدين، وأجاب إلى الخطبة، وشرط أن تبقى في يده البلاد التي استولى عليها، فوقعت الإجابة إلى ذلك. ذكر وقوع الخلف بين أمراء الدولة بحلب ثم زوال الخلف ووقوع الاتفاق (¬2) ولما استقر شهاب الدين طغريل بالأتابكية كره ذلك جماعة من مماليك الملك الظاهر، فاستضاف عزّ الدين أيبك الجمدار الظاهرى جماعة من المماليك والأجناد، وكاتب الأسد اقطفان (¬3) - والى حارم - واتفق معه أن يأتى إليه إلى حارم بالجماعة الذين وافقهم، ويفتح القلعة، فإذا حصلوا بها انضم إليهم جماعة غيرهم. وكان العسكر المقيم بحارم قد أصعد (¬4) إلى القلعة، ورتّب بها وفيهم المبارز أيوب بن المبارز أقجا، فأحسّوا (¬5) باختلال أمر الأسد الوالى (¬6)، وأنكروا عليه ¬

(¬1) هذه الجملة ساقطة من (ك) و (س). (¬2) هذا العنوان غير موجود في (س). (¬3) (ك): «أفطوان» و (س): «أقطعان». (¬4) (ك): «صعدوا» و (س): «صعد». (¬5) (ك): «فحسبوا حسابهم» وأحسوا. . الخ». (¬6) (س): «باحتلال الأمير أسد الدين الوالى».

أشياء، فاستيقظوا لأنفسهم، واتفقوا على حفظ القلعة، والاحتياط عليها. وسار أيبك الجمدار إلى حارم، ووقف تحت القلعة، ورام الصعود إليها، فمنعه الأمراء والأجناد الذين في القلعة من ذلك، واحتاطوا على الوالى. فسار أيبك إلى دربساك، وطمع أن يتم له فيها حيلة، فلم يتم له ذلك فتوجه إلى السلطان عز الدين - صاحب بلاد الروم - وصار معه. وعصى ألطنبغا بقلعة بهسنى، وانضاف إلى عز الدين - سلطان الروم -. ثم انتظم الأمر، ووقع الاتفاق، وسكنت الفتنة في آخر شوال من السنة (¬1). وكان عمر الملك العزيز لما ولى الملك بحلب سنتين وأشهرا، وعمر أخيه الملك الصالح - ولى عهده - نحو اثنتى عشرة سنة. ¬

(¬1) توجد بعد هذا اللفظ في نسخة (س) جملة هذا نصها: «وسيروا الأمراء الذين بحارم الأسد والى حارم إلى حلب، فأقام بها معزولة (كذا) إلى أن مات».

ودخلت سنة أربع عشرة وستمائة

ودخلت سنة أربع عشرة وستمائة: والسلطان الملك العادل بالديار المصرية، والممالك بحالها. (70 ب) ذكر خروج الفرنج من البحر (¬1) لاستعادة البيت المقدس وفى هذه السنة تتابعت أمداد الفرنج من رومية الكبرى، التي هى مقر طاغيتهم الأكبر، المعروف بالبابا - لعنه الله -، وغيرها من البلاد، وتواصلوا في البحر يتلو بعضهم بعضا، ومعهم جماعة من الملوك الأكابر، واجتمعوا كلهم بعكا، عازمين على قصد القدس الشريف، وانتزاعه من أيدى المسلمين، واسترداد كل ما أخذ لهم من البلاد الساحلية. وصاروا في جمع عظيم، لم يجتمع لهم بعكا بعد موت السلطان الملك الناصر صلاح الدين مثله. ذكر وصول الملك العادل إلى الشام وغارة الفرنج على المسلمين (¬2) ولما بلغ السلطان الملك العادل اجتماع الفرنج بعكا، خاف على البلاد الإسلامية، فخرج من مصر بالعساكر المصرية، ووصل إلى الرملة، ثم منها إلى لدّ. ¬

(¬1) (س): «من رومية». (¬2) هذا العنوان غير موجود في (س).

وبلغ الفرنج وصوله فبرزوا من عكا في جموعهم العظيمة. ووصل الملك العادل إلى نابلس، ثم إلى بيسان فقصدته الفرنج. فخاف الملك العادل إن لقيهم ولم يتكامل عنده العساكر الإسلامية أن يكسروه، فلا يقوم للإسلام بعد ذلك قائمة، فاندفع بين أيديهم صاعدا إلى عقبة فيق، لينزل بالقرب من دمشق، ويطلب العساكر لتجتمع عنده، ثم يلقاهم. . وكان الملك العادل - رحمه الله - كثير الحزم، نظّارا في العواقب. وكان أهل بيسان وسائر الأعمال التي حولها قد اطمأنوا بالملك العادل لما رأوه نازلا عندهم، فلم يهربوا (¬1)، فقصدتهم الفرنج لما رحل الملك العادل، وبذلوا فيهم السيف، ونهبوا البلاد والرساتيق (¬2)، وأخذوا جميع غلاتها وحواصلها، وغنموا من المسلمين ما لا يحصى كثرة، ونهبوا ما بين بيسان وبانياس، وبثّوا السرايا في القرى، ووصلت غاراتهم إلى خسفين وقرى (¬3) من بلاد السواد. ثم نازلا الفرنج بانياس، وأقاموا عليها ثلاثة أيام، ثم عادوا إلى مرج عكا ومعهم من الغنائم والسبى ما لا يحصى، سوى ما قتلوا وأحرقوا (71 ا) وأهلكوا. واستراحوا بالمرج أياما، ثم أغاروا ثانيا، ونزلوا بمكان بينه وبين بانياس فرسخان، ونهبوا صيدا والشقيف (¬4)، ثم عادوا إلى المرج. ¬

(¬1) (ك): «فلم ينهزموا» و (س): «فلم يجفلوا إلى مكان». (¬2) الرستاق - والرسداق - (ج. رساتيق) عرفها (الجواليقى: المعرب. ص 158) بأنها أرض السواد. والقرى. واللفظ معرب عن الفارسية. انظر أيضا: (الخفاجي: شفاء الغليل. ص 107). (¬3) الأصل: «ولوى». والتصحيح عن (ك). (¬4) الأصل: «السقيف». والتصحيح عن (ك).

وكل هذا ما بين منتصف شهر رمضان من هذه السنة وعيد الفطر. وأما الملك العادل فإنه توجه إلى مرج الصفر ونزل به، وذكر أنه رأى في طريقه رجلا يحمل شيئا، وهو تارة يقعد يستريح وتارة يمشى (¬1)، فعدل إليه الملك العادل وحده، وقال له: «يا شيخ لا تعجل، وارفق بنفسك». فعرفه الرجل، وقال: «يا سلطان المسلمين، أنت لا تعجل أو أنا، إذا رأيناك قد سرت إلى بلادك وتركتنا مع الأعداء كيف لا نعجل؟»، [فدمعت عين الملك العادل وأخذه معه، وأعطاه ثلاثمائة دينار وحمله إلى دمشق] (¬2) ولما استقل الملك العادل بمرج الصفر سيّر ولده الملك المعظم إلى نابلس، ومعه قطعة من العسكر ليمنع الفرنج عن البيت المقدس. وسيّر الملك العادل في هذه السنة بعد نزوله إلى الشام رسولا إلى الأتابك شهاب الدين طغريل، وسيّر خلعة للملك العزيز بن الملك الظاهر، وسنجقا، وحلف له يمينا أوجبت السكون والثقة. ¬

(¬1) الأصل: «تارة يقعد وتارة يستريح» والتصحيح عن (س). (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).

ذكر نزول الفرنج على الطور ومحاصرتهم له، ثم رحيلهم عنه

ذكر نزول الفرنج على الطور ومحاصرتهم له، ثم رحيلهم عنه ثم قصدت الفرنج الطور، فتقدموا إلى قلعته التي كنا ذكرنا بناء الملك العادل لها، وحصروها، وزحفوا إليها، وصعدوا إلى جبلها، حتى وصلوا إلى سور القلعة، وكادوا يملكونها، فاتفق أن بعض ملوكهم قتل، فعادوا عن القلعة وتركوها. وأقامت جموع الفرنج بعكا إلى أن خرجت هذه السنة. وفى هذه السنة عاد الشيخ صدر الدين بن حمويه من بغداد، وكان قد توجه إليها رسولا من الملك العادل إلى الخليفة الناصر لدين الله. وكان صدر الدين هذا جليلا معظما عند الملك العادل، وكان أبوه الشيخ عماد الدين قدم إلى الشام في الأيام النورية، ففوّض إليه الشهيد نور الدين - رحمه الله - مشيخة الصوفية بالشام، وجعل إليه نظر الخانكاهات (¬1) بها، ولما مات صار ذلك بعده لولده (¬2) صدر الدين. وولد لصدر الدين أولاد نجباء من ابنة شهاب الدين بن شرف الدين (71 ب) ابن أبى عصرون، وهم: فخر الدين، وعماد الدين، وكمال الدين، ومعين الدين؛ تقدموا في الأيام الكاملية (3) غاية التقدم (¬3)، وسيأتى إن شاء الله شيء من أخبارهم. ¬

(¬1) (ك): «الخانقهات». (¬2) عند هذا اللفظ تنتهي ص 183 ب في نسخة (س)، ثم ينقطع النص هناك ويبدأ الحديث عن موضوع آخر وبذلك تنتهي المقابلة بين نص الأصل هنا ونص نسخة (س). (¬3) هذان اللفظان ساقطان من (ك).

ودخلت سنة خمس عشرة وستمائة

ودخلت سنة خمس عشرة وستمائة: والسلطان الملك العادل مقيم بمرج الصّفّر، وعنده العساكر الإسلامية. وجموع الفرنج بمرج عكا على عزم قصد البلاد وتملكها. ذكر توجه الفرنج إلى الديار المصرية ومنازلتهم ثغر دمياط ولما طالت مدة اجتماع الفرنج بمرج عكا اجتمعوا للمشورة في ماذا يبدءون بقصده، فأشار عقلاؤهم بقصد الديار المصرية أولا، وقالوا: «إن الملك الناصر صلاح الدين (¬1) إنما استولى على الممالك، وأخرج القدس والساحل من أيدى الفرنج بملكه ديار مصر، وتقويته برجالها، فالمصلحة أن نقصد أو لا مصر ونملكها، وحينئذ فلا يبقى لنا مانع عن أخذ القدس وغيره من البلاد». فصمموا عزمهم على ذلك، وركبوا البحر، وقصدوا بجموعهم الديار المصرية، فوصلوها في شهر صفر من هذه السنة؛ ونزلوا على بر الجيزة (¬2)، وبينهم وبين ثغر دمياط بحر النيل. وكان على النيل برج منيع، وفيه سلاسل (¬3) من حديد غلاظ، تمد على النيل لتمنع المراكب الواصلة في البحر المالح إلى الديار المصرية. ¬

(¬1) (ك): «إن السلطان صلاح الدين». (¬2) المقصود بها جيزة دمياط، والجيزة في اللغة الناحية، وجيزة دمياط هي برها الغربى، ولعلها سميت كذلك لأنه يجاز إليها من دمياط. انظر (الشيال: بحمل تاريخ دمياط، ص 20). (¬3) عن البرج والسلاسل انظر: (الشيال: المرجع السابق، ص 22) و (ميخائيل عواد: كتاب المآصر).

وبحر النيل إذا انفصل من مصر انقسم شطرين: أحدهما يذهب شمالا إلى قرية تسمى رشيد، ويصب منها في البحر المالح. والشطر الآخر يذهب شمالا. وافتراق الشطرين من قرية تدعى شطنوف (¬1). ثم إن هذا الشطر الثانى يفترق عند قرية تسمى جوجر (¬2) شطرين: أحدهما يذهب إلى دمياط من غربيّها ويصب عندها في البحر المالح، ويفصل ما بين دمياط وجيزتها؛ والشطر الآخر (¬3) يذهب إلى أشمون طناح، ثم يصب في بحيرة هناك، وهى بحيرة تنيس ودمياط، وبرها محيط به هذان الشطران مع البحيرة المذكورة والبحر المالح. فكانت منزلة الفرنج في جيزة دمياط غربيها، وبينهم وبين بر (¬4) دمياط بحر النيل، ومراكبهم لا يمكنها (72 ا) الدخول في بحر النيل بسبب (¬5) السلسلة الممتدة من برج (¬6) السلسلة إلى دمياط، فبنوا عليهم خندقا وسورا، وهذه عادتهم أبدا إذا نزلوا محاربين في منزلة، وشرعوا في قتال أهل دمياط، وعملوا آلات ¬

(¬1) عرفها (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج، 1، ص 132) بقوله: «هي قرية من مديرية المتوفية بمركز منوف، موضوعة على رياح المنوفية بمسافة خمسمائة متر، وهي أول نواحي مركز أشمون جريس من جهة الجنوب، وهي من البلاد القديمة الموجودة من قبل الإسلام. الخ» (¬2) عرفها (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج 10، ص 70) بقوله: «هي قرية من مديرية الغربية بمركز سمنود على شاطيء فرع دمياط الغربى، كانت في السالف بلدة كبيرة ذات شهرة، وهي الآن، قريتان صغيرتان لا يبلغان عشر أصلهما، يفصلهما تل قديم، وفيهما جملة من مقامات الأولياء. . . وفى مقابلة هذه البلدة في بر المنصورة منية بدر خميس، وفى قبلها على البحر الأعظم منية الغرقى. . . الخ». (¬3) (ك): «الثانى». (¬4) هذا اللفظ ساقط من (ك). (¬5) (ك): «من السلسلة». (¬6) (ك). «وبرج السلسلة».

ومرمات (¬1) وأبراجا يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة، ليملكوه ويتمكنوا بملكهم إياه من دخول بحر النيل؛ وكان هذا البرج مشحونا بالرجال. ولما نزل الفرنج بر الجيزة نزل الملك الكامل بعساكره، ونزل منزلة في بر دمياط تسمى «العادلية» (¬2)، واتصلت العساكر من عنده إلى دمياط، ليمنع العدو من العبور إلى برها. ¬

(¬1) المرمة (ج: مرمات) نوع من السفن الحربية الكبيرة في العصور الوسطي، قال (الأستاذ حبيب زيات: معجم المراكب والسفن في الإسلام، ص 360): يظهر أنها من أصل أيطالى Maremma وهى اسم ناحية في أيطالية؛ وقد تردد ذكر المرمة في مراجع التاريخ الإسلامى المختلفة التي أرخت للحروب الصليبية، وقال (ابن الأثير: الكامل، أخبار سنة 615 هـ‍): «فعملوا (أي الفرنج) آلات ومرمات وأبراجا يزحفون بها في المراكب»، وقال أيضا (ج 12، ص 151): «وصل مركب كبير للفرنج من أعظم المراكب يسمي «مرمة» وحوله عدة حراقات تحميه، والجميع مملوه من الميرة والسلاح وما يحتاجون إليه، فوقع عليها شوانى المسلمين وقاتلوهم، فضفروا بالمرمة وبما معها من الخراقات وأخذوها» وقال (المقريزى: السلوك ج 1، ص 189؛ والخطط، ج 1 ص 216) في حوادث سنة 615 هـ‍: «أخذ الفرنج في محاربة أهل دمياط، وعملوا آلات ومرمات وأبراجا يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، فأرسل الله سبحانه ريحا قطعت مراسى مرمة كانت للفرنج من عجائب الدنيا، فمرت تلك المرمة إلى البر الذى فيه المسلمون فملكوها، فاذا هي مصفحة بالحديد لا تعمل فيها النار، ومساحتها خمسمائة ذراع، وفيها من المسامير مازنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلا»، وقال أيضا في (السلوك، ج 1، ص 348): «وفى سنة 647 هـ‍ احترقت للفرنج مرمة عظيمه في البحر»، هذا وتجد وصفا لبناء المرمة في كتاب سير بطاركة الاسكندرية: (Hitoire des Patriaches d' Aleyaudrie .trad : Blocbot, Revue de L' Orieut Latin 1907, P. 243) انظر أيضا. (الشبال: مجمل تاريخ دمياط) و (الشيال معجم السفن العربية، مخطوطه لم تطبع بعد و (Kindermann : Scbibtim arabiscben. P. 97 - 98) . (¬2) عرفها (محمد رمزى: القاموس الجغرافى للبلاد المصرية، ق 2، ج 1، ص 242) بقوله: «هي من القرى القديمة، أسسها الملك العادل أبو بكر بن أيوب في سنه 614 هـ‍، عندما تتابع ورود امداد غزاة الفرنج إلى الشرق في زمن الحروب الصليبية وتهديدهم مدينة دمياط وردت في التحفة السنية من نواحي ثغر دمياط» انظر أيضا (ابن الجيعان: التحفة السنية، س 62)

ذكر وفاة الملك القاهر عز الدين - صاحب الموصل -

وأدام الفرنج الحرب، وقاتلوه (¬1) فلم يظفروا بشىء وكسرت مرماتهم وآلاتهم، واستمر الحال كذلك أربعة أشهر. ولما بلغ السلطان الملك العادل قصد الفرنج الديار المصرية تقدم إلى من عنده من العساكر بالتوجه إلى مصر؛ فتوجهوا إليها أولا فأولا، حتى لم يبق عنده من العسكر إلا القليل، واجتمعت العساكر عند الملك الكامل، وأخذوا في مقاتلة الفرنج ومدافعتهم عن دمياط، وعظم عند الملك العادل قصد الفرنج لمصر، وخاف عليها خوفا شديدا. ذكر وفاة الملك القاهر (¬2) عز الدين - صاحب الموصل - وفى هذه السنة توفى الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكى بن آق سنقر صاحب الموصل -. وكانت وفاته لثلاث بقين من شهر ربيع الأول. وكانت مدة ملكه سبع سنين وتسعة أشهر. وكان سبب موته أنه حمّ، ثم فارقته الحمى [من] (3) الغد، وبقى موعوكا، ثم عاودته مع قىء كثير وكرب شديد، ثم برد بدنه وعرق، وبقى كذلك إلى وسط الليل؛ ثم توفى [إلى رحمة الله تعالى] (¬3)، والقرض بانقراضه ملك (¬4) البيت الأتابكى. ¬

(¬1) (ك):، ودام الفرنج يقاتلوه فلم يظفروا». . . (¬2) (ك): «الظامر» وهو خطأ واضح، انظر ترجمة الملك القاهر عز الدين مسعود في: (ابن الأثير: الكامل، وفيات سنة 615) و (سعيد الديوه جي: الموصل في العهد الأنابسكى، ص 4 -) 353. (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬4) هذا اللفظ ساقط من (ك).

ذكر سيرته - رحمه الله -

ذكر سيرته - رحمه الله - كان كريما، جليلا، حليما، قليل الطمع في أموال الرعية، كافّا عن أذاهم، مقبلا على لذاته، كأنما ينهبها نهبا، ويبادر الموت، وكانت عنده رقة شديدة. وكان يكثر ذكر الموت، فحكى بعض من كان يلازمه، قال: «كنا عنده قبل وفاته بنصف شهر، (72 ب) فقال لى: قد وجدت ضجرا من القعود، فقم بنا نتمشى إلى الباب العمادى، فقمنا نخرج من بابه نحو الباب العمادى، فوصل إلى التربة التي عملها لنفسه عند داره، فوقف عندها مفكرا لا يتكلم، وقال لى: والله ما نحن في شىء، أليس مصيرنا إلى هاهنا وندفن نحن تحت هذه الأرض؟ وأطال الحديث في هذا ونحوه، ثم عاد إلى الدار فقلت له: ألا نمشى إلى الباب العمادى؟ فقال لى: ما بقى عندى نشاط إلى هذا ولا إلى غيره، ودخل داره، وتوفى بعد أيام - رحمه الله -». ذكر قيام بدر الدين لؤلؤ بتدبير مملكة الموصل أتابكا لنور الدين بن الملك القاهر لما حضرت الملك القاهر الوفاة كان له ولدان، أكبرهما نور الدين أرسلان شاه، وكان عمره يومئذ [نحو] (¬1) عشر سنين، فأوصى بالملك له، وأن يقوم بتدبير مملكة بدر الدين لؤلؤ. فلما مات الملك القاهر نصّب بدر الدين لؤلؤ نور الدين في مملكة والده، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).

ذكر قصد عز الدين - سلطان الروم - حلب

وأقام له الخطبة والسكّة باسمه، وأرسل إلى الخليفة الناصر لدين الله يطلب التقليد له، وكاتب ملوك الأطراف يطلب منهم تجديد العهود لنور الدين على القاعدة التي كانت بينهم وبين أبيه. ولم تنقض الليلة التي مات فيها الملك القاهر حتى فرغ من كل ما يحتاج إليه، وجلس للعزاء، وحلفّ الأمراء والجند، وقام بتدبير المملكة أحسن قيام، وأحسن إلى الأجناد والأمراء، وخلع عليهم الخلع الفاخرة، وأحسن السيرة، وكشف الظلامات. ووصل بعد أيام التقليد من الخليفة لنور الدين أرسلان شاه بالمملكة، ولبدر الدين بالنظر في أمور الدولة والتشريفات. وأتت رسل الملوك بالتعزية، وبذل ما طلب منهم من العهود. ذكر قصد عز الدين - سلطان الروم - حلب لما مات الملك الظاهر، وصار الملك بعده لابنه الملك العزيز غياث الدين محمد، وهو طفل، وقع الطمع في بلاده، فحسّن بعض الناس للملك الغالب عز الدين (73 ا) كيكاوس بن كيخسرو - سلطان الروم - قصد بلاد حلب وتملكها، وقالوا: «إن المصلحة أن تستعين في ذلك بالملك الأفضل نور الدين بن الملك الناصر - صاحب سميساط - فإنه في طاعتك ويخطب لك، والناس مائلون إليه، فتكتب إليه تستدعيه». فكتب إليه يستدعيه (¬1) من سميساط، فقدم عليه، فأكرمه إكراما ¬

(¬1) هذا اللفظ ساقط من (ك).

عظيما، وحمل إليه شيئا كثيرا من الخيل والخيام والسلاح وغير ذلك، وتقرر بينهما أن الملك الأفضل يجىء في صحبة السلطان عز الدين، ويقصدون البلاد، وأن ما يفتحون من حلب وأعمالها يكون للملك الأفضل، ويكون في طاعة عز الدين، ويقيم الخطبة والسكة باسمه، ثم يقصدون بلاد الشرق التي بيد الملك الأشرف، مثل: حرّان، والرّها، وغيرها، ويكون ذلك لعز الدين، وجرت الأيمان بينهما على ذلك. وجمعوا العساكر، وساروا فملكوا قلعة رعبان، فتسلمها الملك الأفضل، ومال الناس حينئذ إلى عز الدين، لميله إلى الملك الأفضل. ثم ساروا إلى تل باشر، وبها فتح الدين بن بدر الدين دلدرم، وكان ملكها بعد أبيه بدر الدين - كما ذكرنا - فحصروه بها، وضيقوا عليه، وملكوها، فتسلمها عز الدين لنفسه، ولم يسلمها إلى الملك الأفضل، فنفرت نفس الملك الأفضل من ذلك، وفترت همته، وقال: «هذا أول الغدر»، وخاف أنه إن تسلم عز الدين حلب أن يأخذها لنفسه؛ ولا يحصل إلا على قلع الملك من أولاد أخيه، ونقله إلى الأجانب. ونفر أيضا من هذا الفعل أهل البلاد، فإنهم كانوا فرحين بمملكة الملك الأفضل، فلما رأوا ضد ذلك خافوا. وخاف الأتابك شهاب الدين طغريل أن يسلم أهل حلب البلد إلى الملك الأفضل لميلهم إليه، فكتب إلى الملك الأشرف بن الملك العادل يستدعيه لإنجاد ابن أخته الملك العزيز.

ذكر قدوم الملك الأشرف إلى حلب لنجدة الملك العزيز

ذكر قدوم الملك الأشرف إلى حلب لنجدة الملك العزيز ولما سارت الفرنج إلى الديار المصرية، ونازلوا ثغر دمياط - كما ذكرنا - (73 ب) تقدم الملك العادل إلى ولده الملك الأشرف أن يدخل إلى بلاد الفرنج، ويغار إليها. فرحل في عساكره إلى حمص، ودخل إلى بلاد الفرنج ليشغلهم عن محاصرة دمياط، فدخل إلى صافيثا، فحرّب ربضها، ونهب رستاقها، وهدم ما حولها من الحصون، ودخل إلى ربض حصن الأكراد، ونهبه، وحاصر القلعة حتى أشرفت على الأخذ، ثم نزل على بحيرة قدس في مقابلة الفرنج. ولما وصله رسول الأتابك يدعوه إلى النجدة سارع إلى ذلك، وسار في عسكره الذين كانوا معه في الغارة، وبعث يستدعى باقى عساكره وحضر عنده عرب طىّ. وغيرهم، ووصل إلى حلب فنزل ظاهرها. وحكى الصاحب كمال الدين بن العديم: أن عز الدين لما قصد البلاد أطمع الملك الأفضل أنه يملكه حلب طمعا أن يميل الأمراء بحلب إليه، لميلهم إلى الملك الأفضل، وكاتب جماعة من أمراء حلب، وكتب لهم التواقيع، ومن جملة من كاتبه علم الدين قيصر، وكتب له توقيعا بأبلستان. واغتنم عز الدين والأفضل شغل قلب الملك العادل بالفرنج، ووافقهما الملك الصالح الأرتقى - صاحب آمد -.

وكان قصد عز الدين الملك لنفسه، وإنما جعل الملك الأفضل ذريعة لتحصيل غرضه، وكاتب عزّ الدين الأمراء الحلبيون الذين كانوا يؤثرون الملك الأفضل، فجمع وحشد، وقصد البلاد في شهر ربيع الأول من هذه السنة، فنازل رعبان وفتحها. . . فسيّر الأتابك القاضى زين الدين بن الأستاذ إلى الملك العادل يستصرخه على عز الدين والملك الأفضل. فكتب الملك العادل إلى ولده الملك الأشرف (1) يأمره أن يرحل إلى حلب بالعساكر، وسيّر إليه خزانة، وجعل الملك المجاهد أسد الدين - صاحب حمص - في مقابلة الفرنج. فسار الملك الأشرف (¬1) حتى نزل حلب، وخيّم بالميدان الأخضر، وخرج الأمراء إلى خدمته، واستحلفهم، وخلع عليهم، ووصل إليه الأمير مانع بن حديثه - أمير العرب - في جمع عظيم من العرب، وعاشت العرب في بلد حلب، والملك الأشرف يداريهم لحاجته إليهم. وسار علم الدين قيصر الظاهرى (74 أ) إلى السلطان عز الدين من دربساك وجاهر بالعصيان، ونزل إليه أيضا ألطنبغا من بهسنا، وكان قد عصى بها. وتسلم عزّ الدين المرزبان، ثم نازل تل باشر ففتحها، ولم يسلمها إلى الملك الأفضل، فعلم حينئذ الأفضل فساد نيته. ثم سار عز الدين إلى منبج، فسلّمها أهلها إليه، وشرع في ترميم سورها وإصلاحه. ¬

(¬1) هذه الجملة كلها ساقطة من (ك).

ذكر انهزام عز الدين - سلطان الروم - من الملك الأشرف

ذكر انهزام عز الدين - سلطان الروم - من الملك الأشرف وكان الملك الأفضل يشير على عز الدين قبل أخذه تل باشر بمعاجلة حلب، وأخذها قبل اجتماع العساكر بها، فلما أخذ عزّ الدين تل باشر ولم يسلمها إليه تحقق سوء باطنه، فصار بعد ذلك يشير عليه بأن يقصد باقى البلاد ويأخذها أولا، ثم بعد ذلك يقصد حلب، ففتح منبج - كما ذكرنا -. وإنما قصد الملك الأفضل التمادى ومرور الزمان في غير فائدة، لئلا يتحصل لعز الدين مقصود. ولما استحلف الملك الأشرف الأمراء بحلب، واستوثق منهم رحل من حلب في عساكره وعسكر حلب، وفى صحبته جماعة من الأمراء المخامرين، فنزل وادى بزاغة. ولما سمع عز الدين بتقدم الملك الأشرف إليه سيّر ألف فارس هم خيار عسكره وأبطالهم، وقدّم عليهم سوباش سيواس، فنزلوا تل قباسين، فوقعت عليهم عرب الملك الأشرف، وقاتلوهم، ومعهم جماعة من العسكر، فانهزمت مقدمة عسكر عز الدين، وقد استبيحت أموالهم، وقتل منهم جماعة، وأسرت جماعة. ووصل إليهم الملك الأشرف وقد فرغت العرب منهم، وسيّرت الأسرى إلى حلب، ودخلوا بهم والبشائر تضرب بين أيديهم، وأودعوا السجن.

ولما بلغ عز الدين ذلك [وهو بمنبج] (¬1) ولّى منهزما، وقد ملأ الرعب قلبه. ورحل الملك الأشرف متبعا له، يتخطف أطراف عسكره، حتى وصل إلى تل باشر، فحاصرها وافتتحها، وكان بها جماعة من عسكر عز الدين، فمنّ عليهم (74 ب) الملك الأشرف، وأطلقهم. ثم سلّم الملك الأشرف تل باشر إلى نواب الملك العزيز، وقال: «هذه كانت أولا للملك الظاهر، وكان يؤثر ارتجاعها إليه، وأنا أردها إلى ولده». وكان افتتاحها في جمادى الأولى من هذه السنة. ثم ملكها الأتابك شهاب الدين في سنة ثمان عشرة وستمائة بجميع قراها. ثم سار الملك الأشرف إلى رعبان وتل خالد، فافتتحهما، وافتتح برج الرصاص، وأعطى الجميع لابن أخته الملك العزيز. وأما عز الدين فإنه طوى المراحل هاربا لا يلوى على شىء بل مرّ على وجهه خائفا يترقب، ولما وصل إلى أطراف بلاده أقام بها. ولما وصل إليه العسكر الذين كانوا بتل باشر جعلهم في دار، وأمر بأن تحرق عليهم، فاحترقوا عن آخرهم، فلم يمهله الله تعالى، وعجّل عقوبته، وأهلكه لسوء فعلته. وصار (¬2) الملك بعده إلى أخيه الذى كان في حبسه، وهو علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك). (¬2) (ك): «وانقل».

وتوجه الملك الأفضل إلى سميساط، ولم يتحرك بعد ذلك حركة في طلب ملك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة - على ما سنذكره -. وعاد الملك الأشرف إلى حلب وقد بلغه وفاة والده السلطان الملك العادل - رحمه الله - وقد كان عازما على قصد عز الدين، وأتباعه إلى بلاده، فلما وردت عليه وفاة والده لم يمكنه ذلك، مع علمه بحلول الفرنج بالديار المصرية، وشدة طمعهم فيها سيما وقد مات سلطان البلاد. ونزل الملك الأشرف ببانقوسا، وجلس في خيمته للعزاء، وخرج أكابر البلد والأمراء إلى خدمته، وأنشده الشعراء مراثى الملك العادل، ووعظ الوعاظ. ولما انفصل أمر العزاء سيرّ الأتابك شهاب الدين إليه في أن يكون هو السلطان موضع أبيه الملك العادل، ويخطب له في البلاد، وتضرب السكة باسمه، وتكون العساكر الحلبية في خدمته. فقال الملك الأشرف: «لا والله، لا أغيّر قاعدة قررها أبى، بل يكون السلطان أخى الملك الكامل، ويكون قائما مقام أبى». ثم تقررت الحال بين الأتابك شهاب الدين وبينه برأى (75 ا) القاضى بهاء الدين بن شداد، وسيف الدين بن علم الدين، وسيف الدين بن قلج على الخطبة بحلب وأعمالها للسلطان الملك الكامل ناصر الدين أبى المعالى محمد ابن الملك العادل، وبعده للملك الأشرف، وبعدها للمملك العزيز. وضرب اسم الملك الكامل والملك العزيز على السكة، وجعل أمر الأجناد والأقطاع في عسكر حلب إلى الملك الأشرف، وأخليت له دار الملك الظافر

ذكر وفاة السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب - رحمه الله -

خضر بن الملك الناصر بالياروقية، فنزل بها، ورتب له برسم المعونة (¬1) من أعمال حلب سرمين وبزاعة والجبول، ووصلت إليه رسل البلاد من جميع الجهات، وصاروا أتباعا، وأمر ونهى ببلد حلب، في الأجناد والإقطاع لا غير، وتردد إليه أكابر الحلبيين، وخلع عليهم، وأقام بحلب إلى آخر هذه السنة. ذكر وفاة السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب - رحمه الله - قد ذكرنا أن السلطان الملك العادل لما بلغه نزول الفرنج بديار مصر، ومحاصرتهم ثغر دمياط، خاف على مصر خوفا شديدا، وأرسل العساكر أولا فأولا إلى مصر، وكان نازلا بمرج الصّفّر، ثم رحل منها إلى عالقين، فنزل بها، ومرض واشتد مرضه، ثم توفى إلى رحمة الله تعالى سابع جمادى الآخرة من هذه السنة، أعنى سنة خمس عشرة وستمائة. وكان مولده سنة أربعين وخمسمائة. فكان عمره خمسا وسبعين سنة. وكان ملكه لدمشق سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة (¬2)، فكانت مدة ملكه لها ثلاثا وعشرين سنة. وملك مصر سنة ست وتسعين وخمسمائة، فكانت مدة ملكه لها نحو تسع عشرة سنة. ¬

(¬1) (ك): «المؤنة». (¬2) (ك): «سنة أربعين وخمسمائة» وهو خطأ واضح.

قال عز الدين بن الأثير

قال عز الدين بن الأثير: ومن الاتفاقات العجيبة أن الملك الأفضل بن الملك الناصر لم يملك مملكة إلا أخذها عمّه الملك العادل: فأول ذلك أن الملك الناصر أقطع ابنه الملك الأفضل حرّان والرّها وميّافارفين بعد وفاة الملك المظفر تقى الدين، فسار إليها الملك الأفضل، فلما وصل إلى حلب أرسل إليه أبوه السلطان الملك العادل فردّه عن حلب ليأخذ البلاد منه. ثم (75 ب) ملك الأفضل بعد أبيه دمشق، فأخذها الملك العادل منه. ثم ملك مصر، فأخذها أيضا منه. ثم ملك صرخد، فأخذها منه. قلت: «وأعطاه قلعة نجم، وسروج بعد ذلك، وعاد استرجعها منه». ذكر سيرته - رحمه الله - كان الملك العادل - رحمه الله - حازما، متيقظا، عزير العقل، سديد لأراء، ذا مكر شديد وخديعة، صبورا، حليما، ذا أناة وتؤدة، يسمع ما يكره ويغضى عنه كأنه لم يسمعه، كثير البذل والخرج عند الحاجة لا يقف في شيء، وأما في غير وقت الحاجة فلا، عظمت هيبته في القلوب، واتسع ملكه، وواتته السعادة، وكثر أولاده، ورأى فيهم ما يحب من اتساع الممالك (¬1) والظفر بالأعداء ¬

(¬1) (ك): «الملك».

ومنها فى مدح الملك العادل

ولم يبلغنا عن أحد من الملوك الماضيين أنه رأى في أولاده ما رأى، فإنه اجتمع في كل واحد منهم من النجابة والكفاية والشهامة والفضيلة ما لا مزيد عليه. فهم كما قال الشاعر: من تلق منهم تقل لا قيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يسرى بها السّارى ولقد أجاد في وصفهم شرف الدين بن عنين حيث يقول من قصيدة يمدح بها أباهم الملك العادل، مطلعها: ماذا على طيف الأحبّة لو سرى ... وعليهم لو سامحونى بالكرى ومنها في مدح الملك العادل: العادل الملك الذى أسماؤه ... في كلّ ناحية تشرّف (¬1) منبرا وبكلّ أرض جنّة من عدله ال‍ ... ضافى أفاض (¬2) نداه فيها كوثرا عدل يبيت الذئب منه على الطوى ... غرثان وهو يرى الغزال الأعفرا ما في أبى بكر لمعتقد الهدى ... شكّ يريب بأنه خير الورى بين الملوك الغابرين وبينه ... في الفضل ما بين الثريّا والثرى نسخت خلائقة الحميدة (¬3) ما أتى ... في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا (76 أ) لا تسمعنّ حديث ملك غيره ... يروى، فكلّ الصّيد في جوف الفرا ¬

(¬1) الأصل: «يشرف»، والتصحيح عن الديوان. (¬2) الديوان: «أسال». (¬3) الديوان: «الكريمة».

ومنها فى مدح أولاد الملك العادل ووصفهم - رحمهم الله أجمعين -

ومنها في مدح أولاد الملك العادل ووصفهم - رحمهم الله أجمعين - وله الملوك (¬1) بكلّ أرض منهم ... ملك يجرّ (¬2) إلى الأغادى عسكرا من كلّ وضّاح الجبين تخاله ... بدرا، فإن شهد الوغى فغضنفرا يسمو (3) إلى نار الوغى شغفا بها ... ويجلّ أن يسمو (¬3) إلى نار القرى متقدم حتى إذا النّقع انجلى ... بالبيد (¬4) عن سبى الحريم تأخّرا وتعاف خيلهم الورود بمنهل ... ما لم يكن بدم الأعادى مسجّرا (¬5) ذكر أولاد (¬6) الملك العادل كان للملك العادل فيما أعلم ستة عشر ولدا ذكرا، سوى البنات: الملك الأوحد نجم الدين أيوب - صاحب خلاط -، وتوفى في حياة والده، وقد تقدم ذكره، وكان قصيرا جدا، شهما، مقداما، سفاكا للدماء. والملك المغيث عمر، وتوفى أيضا في حياة أبيه. وخلّف المغيث ولدا صغيرا، وهو الملك المغيث شهاب الدين محمود، ورثاه عمّه الملك - صاحب دمشق -، وكان جميل الصورة جدا، ومات في سنة ثلاثين وستمائة. ¬

(¬1) الديوان: «البنون». (¬2) الديوان: «يقود» (¬3) الديوان: «يعشو». (¬4) الديوان: «بالبيض». (¬5) الديوان: «بدم الوقائع أحمرا». (¬6) انظر تراجم مفصلة لأولاد العادل جميعا في: (الحنبلى: شفاء القلوب، ص 73 أ - 88 ب).

وشفيفاه

والملك الجواد شمس الدين مودود، وتوفى أيضا في حياة أبيه، وخلّف ولده الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود، وكان في خدمة عمه الملك الكامل، وسنذكر أخباره وتملكه لدمشق وغيرها، وكان جوادا إلى الغاية، شجاعا. والملك الكامل ناصر الدين محمد - صاحب الديار المصرية - وصاحب الخطبة والسكة في جميع الممالك الأيوبية. والملك المعظم شرف الدين أبو العزائم عيسى - صاحب دمشق وبلادها إلى عريش مصر -: وشفيفاه: الملك العزيز عماد عثمان - صاحب بانياس وعدة مواضع كانت بيد فخر الدين جهاركس -، وكان جوادا شهما. والملك الأمجد مجد الدين حسن (76 ب)، وتوفى في حياة والده، ودفن بالقدس الشريف، في مدرسة بنيت له، ثم نقل بعد ذلك إلى الكرك، فدفن جوار الشهداء بموتة. والملك الأشرف مظفر الدين موسى، صاحب البلاد الشرقية وخلاط بعد أخيه الملك الأوحد. الملك المظفر شهاب الدين غازى - صاحب ميافارقين -. وشفيفاه: والملك المعز مجير الدين يعقوب. وتاج الملوك (¬1) إسحاق. ¬

(¬1) (ك): «تاج الدين».

ذكر ما استقر عليه الحال بعد وفاة الملك العادل

والملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وكانت له من أبيه بصرى، وملك بعد ذلك دمشق وبعلبك، على ما سنذكره - إن شاء الله تعالى -. والملك المفضل قطب الدين، وتوفى بمصر في أيام الملك الكامل. والملك الفائز إبراهيم، وسنذكر إن شاء الله خبره. والملك الأمجد تقى الدين عباس، وهو أصغرهم، مولده سنة ثلاث وستمائة، وهو آخرهم موتا، توفى بدمشق في سنة تسع وستين وستمائة. والملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه. ذكر ما استقر عليه الحال بعد وفاة (¬1) الملك العادل ولما توفى الملك العادل - رحمه الله - بعالقين (¬2) لم يكن عنده أحد من أولاده حاضرا، وكان الملك المعظم بنابلس، ولم يطلع على موته إلا كريم الدين الخلاطى، وكان أخصّ أصحابه، فكتم موته، وأمر الأطباء بملازمة الدهليز، ليظنّ الناس حياته. وبعث سوّاقا إلى المعظم يحثّه على سرعة الحركة، فقدم سريعا، واجتمع بكريم الدين، واتفقا على كتمان هذا الأمر، وأظهرا أن السلطان قد عزم على الرحيل إلى دمشق، فرحلوا من عالقين (¬3). وأودع الملك العادل المحفّة، وجعل فيها عنده خادم، والأطباء حول المحفة ¬

(¬1) (ك)، موت». (¬2) هذا اللفظ غير موجود في (ك). (¬3) (ك): «عاكفين».

يشيرون بما يسقى من الأشربة، ويناول الخادم في بعض الأوقات قدح الشراب، فيشربه الخادم، ويظن الناس أن الملك العادل حىّ، وأنه [هو] (¬1) الذى شرب القدح. ولما وصلوا بالمحفّة إلى دمشق غسّل وكفّن، ودفن في القلعة سرا. واستحضر الملك المعظم وكريم الدين الخلاطى أكابر الدولة والأمراء، فحلفوا للملك العادل، وبعده للملك المعظم، فلما تمّ للملك المعظم ما أراد من ذلك اظهر موته، وجلس في العزاء، وكتب إلى سائر الملوك يخبرهم بموته. واحتوى الملك المعظم على جميع ما كان مع الملك العادل من الأموال والجواهر النفيسة، والذخائر، والعدد، والأثقال، والخيول، وغير ذلك. وقد ذكر أنه كان في خزانته سبعمائة ألف دينار مصرية عينا. وكان للملك العادل بالكرك مال عظيم، فاحتوى أيضا عليه الملك المعظم. واحتوى أخوه الملك الحافظ أرسلان شاه بن الملك العادل على ما في قلعة جعبر من المال. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).

الملاحق

الملاحق

(1) خطاب بقلم القاضى الفاضل، مرسل من السلطان صلاح الدين إلى الخليفة المستضىء بنور الله ببغداد، يبشره بفتح بلد من بلاد النوبة، والنصرة عليها

(1) خطاب بقلم القاضى الفاضل، مرسل من السلطان صلاح الدين إلى الخليفة المستضىء بنور الله ببغداد، يبشره بفتح بلد من بلاد النوبة، والنّصرة عليها عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 6، ص 506 - 511) {(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ):} {(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ:} ({فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ).} وصلاة يتبعها تسليم، وكأس يمزجها تسنيم. وذكر من الله سبحانه في الملأ الأعلى ورحمة الله وبركاته معلومة من النشأة الأولى على مولانا الإمام «المستضىء بالله» المستضاء بأنواره، المستضاف بداره، الداعى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، الراعى للخلق كما يرعى النسيم النسيم، العامّ فضله، التامّ عدله، المطروق مورد فنائه، المصدوق في مورد ثنائه؛ المحقوق من كل ولى بولائه، ابن السادة الغرّ، والقادة الزهر. والذادة الحمس، والشادة للحق على الأسّ، سقاة الكوثر وزمزم والسحاب، وولاة الموسم والموقف والكتاب، والموصول الأنساب [يوم] إذا نفخ في الصور فلا أنساب، والصابرون على حساب أنفسهم فهم الذين يؤتون أجرهم بغير حساب. مملوك العتبات الشريفة وعبدها؛ ومن اشتمل على خاطره ولاؤها وودها، وكانت المشاهدة لأنواره العلية التي يودّها، ومن يقرن بفرض الله سبحانه فرضها، ويسابق بطاعته إلى جنة وصفها الله تعالى بقوله {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا:} يلثم وجه ترابها، ويرى على بعد دارها الأنوار التي ترى بها، ويقف لديها وقوف الخاضع، ويضع

أثقال الآثام عن ظهره منها بأشرف المواضع للواضع، ويخبت إليها إخبات الطائح الطائع، ويرجو فضلها رجاء الطامح الطامع. ولولا أن الكتاب حجاب بينه وبين المهابة التي تحول بين المرء وقلبه، والجلالة التي هو في تعظيمها على نور من ربه، لكان خاطره في قبضة الهلع أسيرا، ولانقلب إليه البصر خاسئا حسيرا، ولكن قلمه قد تشاجع، أن كان لسانه عن الإبانه قد راجع. فيقول: إن الله قد رفع ملة الإسلام على الملل، وكفل نصرها وكفى ما كفل، وحمى ملكها وحمل، وجعل لها الأرض في أيدى المخالفين ودائع، ومكّن يده من أعناقهم فهى إما تعقد الأغلال أو تصوغ الصنائع، والحق بها قائم العمود، والسيف للكفاية لازم الغمود؛ والبشائر تمسك الصباح وتخلق الدجى، والخيل على طول ما تشتمل الوحا تنتعل الوجى، والأيام زاهرة، والآيات باهرة، وعزة أوليائها قاهرة، وذلة أعدائها ظاهرة، وعنايات الله لديها متوالية متظاهرة. إذا تغرب اسمها يوما عن منبر أعيد إلى وطنه غدا، وإذا أوقدت نار فتنة في معصيتها أوقدت في طاعتها نار هدى. وقد كان النيل قدما فرّت عن الفرات أبناؤه، وتحصنت غلل المؤمنين عنه فلم يتغلغل إليها ماؤه، وكادت السماء لا تعينه بمطرها، والأرض لا توشّيه بزهرها والأعناق قد تقاصر دون الراجين بدو مبعصها (1)، والقلوب قد لاذت بأستار الجدار مبعصها (¬1)، والأوثان منصوبة، والآيات مغصوبة، والتيجان بغير أكفائها من الهامات معصوبة، والدين أديانا، والمذكّرون بالآيات يخرون عليها صمّا وعميانا؛ والعادلون بالله قد وطّنوا ألسنة وصرحوا عقائد، والمعتدون قد أضلّوا فعالا وضلوا مقاصد، وكراسىّ خلافة الله قد ألقى عليها أجساد كانت تقعد منها مقاعد، ومنابر كلمات الله قد كاد كيدهم يأتى بنيانها من القواعد، وحرت على بنوّة النّبوة أشدّ نبوة، ¬

(¬1) كذا في الأصول بهذا الرسم.

وقصرت الأيدى فلا حدّ سوط ولا حد سطوة، ثم قست قلوب {(فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)} وغرّت الأيام وما وعدت، وأوردت الهمم وما أصدرت، وطغى طوفان الطغيان ولا عاصم، وسما بناء البهتان ولا هادم، وضاقت الصدور، ورحلت بغليلها إلى القبور، وظن أن طىّ دولنهم معدوق بالنشور؛ حتى إذا جلاّها الله لوقتها، وأنجز جموع الضلال إلى ميعاد شتها، وأراهم آية معدلته ({وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها})، و ({جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ)}، ({وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}). كانت نعمة من الله يمنها على المملوك أن أنتجبه من بين أهل أرضه، وانتخبه لإقامة ما أمات الباطل من فرضه، ويسره لما يسره من نصرة الحق وأهله، وبشره بما بشره من لواء النصر، ومدّ من ظله، وألهمه الهمة التي افترع منها بكرا، ومنحه النصرة فما يستطيع العدو صرفا ولا نصرا. مكنه من صياصيهم فحلّها، ومن دمائهم فطلّها، ومن سيوفهم ففلّها، ومن أقدامهم فاستزلها، ومن منابر دعاتهم فعجل تداعيها، ومن أنفس أعدائهم فأكثر تناعيها، وأبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، ويسر الذين كتب لهم العفو إلى منافعهم، ونثر خرزات الملك من تيجانها، وفضح على يده وبلسانه مازورته من أنسابها، وحسابها فأظهر زيف حسابها، ونقلها من ظهور أسرتها إلى بطون ترابها، وعمد إلى أهل دعوتها الذين بسقوا بسوق النخل فأعلاهم على جذوعها، وحملت قلوبهم فوف الحقد فأخرجها من أكمام طلوعها، فهل ترى لهم من باقية، أو تسمع لهم من لاغية، أو تجد إليهم من صاخية، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم أو مساكينهم، وحصدوا حصد الحشيش ثم لا تخاف سيوفهم ولا سكاكينهم، واستنزلوا من عقاب اللّوح وسجنوا في الهمّ من طول مداومة عقاب الروح؛ ثم تداركوا إلى الدرك، واشتركوا في الشرك، وأقفرت منهم عراص،

وزهدت فيهم خواص، وعلم أن ليس لله غالب، وأن ليس يفوته طالب، وأن الملك لله وحده، وأن الويل لمن تجاوز أمره وحده. وكان المملوك ممن عطل من أوثانهم، وأبطل من أديانهم، فائزا بحسنة ينظر إلى حسنات خليل الله صلى الله عليه وسلم في كيده الأصنام وتكسيرها، وتضليله عابديها وتكفيرها. وعمد المملوك إلى المحاضر فجمعها، وإلى المنابر فرفعها، والجمعة فأطاع من شرعها، وأسماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصلها باسمه وما قطعها، وعمومتها رضوان الله عليهم فتلاها له وآتبعها، وأشاد باسم أمير المؤمنين لتكون الصلاة جامعة، والذكرى شاملة والإمامة للجماعة شارعة، والهداية للضلالة صارعة، فعادت للملة أعياد، وأخضرت للمنبر أعواد، وأنجز للأمة ميعاد. وبعد ذلك تحاشدت أولياء الذاهبين وتنادت، وتساعت نحو مستقر المملوك وتعادت ({وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ)} وكانوا حمية حامية من بنى حام كالجراد أرجلا، إلا أن الله أصلاها بنيرانه، وكالماء مدا إلا أن الله أغرقها بطوفانه، وكالنمل لونا وطرقا إلا أن الله حطمها بسليمانه، مع من انضم إليهم من ألفاف وأطراف، وأوشاب وأوباش: من جندى كسبه سيفه ذلّه، وطرده عن مواقف الكرام وبمحالّ الخزى أحله، ومن أرمنىّ كانوا يفزعون إلى نصرة نصرانيته، ويعتمدون منه على ابن معموديته، ومن عامى أجابهم لفرط عماه وتفريط عاميته، فملأ العيون سوادهم الأعظم، ووراءهم بأس الله الذى لا يرد عمن أجرم، فأمطرتهم السيوف مطرا كانوا غثاء لسيوله الجوارف، وعصفت بهم الأعنة عصفا كانوا هباء لهوجه العواصف ({فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ}) وعوتبت الأنفس والأرؤس ف‍ ({قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ.}) وظلت قحاف بنى حام تحت غربان الفلا غربانا، وشوهدت ظلمات بعضها

فوق بعض أفعالا وألوانا، وصفت موارد السلطان من القذى، وطفىء ذلك الفحم فلا يجد النفاق بعده ما تتعلق به الجذى، وبلغت الغايات في كشف كل أذى، لا بضرب موعد يقال فيه إذا. وكاتب المملوك، واسم أمير المؤمنين قد كتب سطره على جبين النقدين، وسمع لفظه من فم المنبرين بالبلدين، ومد كل منبر يدا بل يدين، فحين سمع الناس قالوا حقا ما قاله ذو اليدين، وصارت تلك الأسماء دبر الآذان ووراء الظهور، وحصلت المحبة العباسية سرا من أسرار القلوب إذا حصّل ما في الصدور، والخلائق مبايعة متابعة وافية بعهده متوافية، داخلون في الحق أفواجا، سالكون منه شرعة ومنهاجا. والحمد لله الذى جعل أمير المؤمنين إماما لخلفه، ووارثا لأرضه ولم يذر فوق الأرض منازعا لحقه، ولا مناهبا لأرضه، وارتجع له الحق الذى كان نادّا، ورد عليه الأمر الذى لم يكن له غير الله رادا، وبلغ كل مؤمن من إعلاء كلمة الإيمان به ما كان له وادّا، وأخذ بيد انتقامه من كان عن سبيله صادّا، والإسلام قد استنار كنشأته، والزمان قد استدار كهيئته، والحق قد قرّ في نصابه، والأمر قد فر عن صوابه. فقد وفى الله القرار له بضمانه، وأخذ بيده ما روى عن ابن عمه صلى الله عليه وسلم وأصفى من لسانه. فالحمد لله الذى صدقه وعده، وأورثه الأرض وحده، وجدد علاه وأعلى جده، وأسعد نجمه وأنجم سعده، ووعده نجحه وأنجح وعده، وأورده وصفه وأصفى ورده.

المملوك ينتظر الأمثلة ليتمثلها، والأمانة ليتحملها، والتقليدات المطاعة ليتلوها، والتشريفات الشريفة ليجلوها، والسواد ليجلى الحلك عن ضمائر المبطلين والسيف الحالى لحكمه في رقاب المعطلين، وللآراء الشريفة فصل برهانها، وفضل سلطانها، وأمرها الذى لا يخرج حين يخرج عن عز الملة وتوطيد بنيانها، وعزمها الذى يرفع حين يرفع ظلمة أدخانها. إن شاء الله تعالى.

(2) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى الخليفة ببغداد، يبشره بفتح بلد من بلاد النوبة لذلك، وانهزام ملكها بعساكره

(2) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى الخليفة ببغداد، يبشره بفتح بلد من بلاد النوبة لذلك، وانهزام ملكها بعساكره عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 6، ص 512 - 515) صلوات الله التي أعدها لأوليائه وذخرها، وتحياته التي قذف بشهبها شياطين أعدائه ودحرها، وبركاته التي دعا بها كل موحد فأجاب، وانقشع بها غمام الغمّ وظلام الظّلم فانجاب عن أنجاب، وزكاته التي هى للمؤمنين سكن، وسلامه الذى لا يعترى الموقنين في ترديده حصر ولا لكن. على مولانا عاقد ألوية الإيمان، وصاحب دور الزمان، وساحب ذيل الإحسان، وغالب حزب الشيطان، الذى زلزلت إمامته قدم الباطل، وحلت خلافته ترائب الدهر العاطل، واقتضت سيوفه ديون الدّين من كل غريم ماطل، وأمضت غرب كل عزم للحق مفلول، وأطلعت غارب مجم كل هدى آفل، وشفعت يقظات استغفاره إلى غافر ذنب كلّ غافل؛ وعلى آبائه الغاية والمفزع، والملاذ في وقت الفزع، والقائمين بحقوق الله إذ قعد الناس، والحاكمين بعدل الله إذ عدم القسطاس، والمستضيئين بأنوار الإلهام الموروثة من الوحى إذا عجز الاقتباس، والصابرين في البأساء والضراء وحين الباس؛ خزّان الحكم، وحفّاظها، ومعانى النّعم، وألفاظها، وأعلام العلوم المنشورة إلى يوم القيامة، وكالئى السروح المنتشرة من كلا (¬1) سديد الإمامة؛ ومن لا ينفذ سهم ¬

(¬1) كذا في الأصول مضببا عليه، وفى الضوء «المنتشرة بين الإمامة».

عمل إلا إذا شحذ بموالاتهم، ولا يتألق صبح هداية إلا إذا استصبح السارى بدلالاتهم. المملوك يقبل الأرض بمطالع الشرف ومنازله، ومرابع المجد ومعاقله؛ ومجالس الجود، ومحال السجود؛ ومختلف أنباء الرحمة المنزلة، ومرسى أطواد البسيطة المتزلزله؛ ومفتر مباسم الإمامة، ومجر مساحب الكرامة؛ ومكان جنوح أجنحة الملائك، ومشتجر مناسك المناسك، حيث يدخلون من كل باب مسلمين، ويتبعهم ملوك الأرض مستسلمين؛ ومشاهد الإسلام ليوم أنزل فيه اليوم «أكملت لكم دينكم». وينعقد على الولاية فأما غيره فله قوله: «قاتلوا الذين يلونكم». ويناجيها بلسان جلى الإخلاص الصادق عقيدته، وأنشط الولاء السابق عقيلته، وأرهف الإيمان الناصع مضاربه، وفسح المعتقد الناصح مذاهبه، فأعرب عن خاطر لم يخطر فيه لغير الولاء خطره، وقلب أعانه على ورود الولاء [أن] صفاء المصافاة فيه خطره، ويخبر أنه ما وهن عما أوجبته آلاؤه ولا وهى، ولا انثنى عزمه عن أن يقف حيث أظلت سدرة المنتهى، ووضحت الآيات لأولى النهى. والله سبحانه يزيل عنه في شرف المثول عوائق القدر وموانعه، ويكشف له عن قناع الأنوار التي ليست همته بما دون نظرها قانعة - وكان توجه منصورا بجيش دعائه قبل جيش لوائه، وبعسكر إقباله، قبل عسكر قتاله، وبنصال سلطانه، قبل نصال أجفانه، لا جرم أن كتائب الرعب سارت أمام الكتائب، وقواضب الحذر غمضت في جفونها عيون القواضب - وسار أولياء أمير المؤمنين الذين تجمعوا من كل أمة، وتداعوا بلسان النعمة، متواخية نياتهم في الإقدام، متألفة طوياتهم في طاعة الإمام، كالبنيان المرصوص انتظاما، وكالغاب الشجر أعلاما، وكالنهار المانع حديدا وهاجا، وكالليل الشامل عجاجا عجاجا، وكالنهر

المتدافع أصحابا، وكالمشط المطرد اصطحابا، والأرض ترجل برجلهم لما ترفعه الحوافر من غيومها، والسماء تنزل نزولهم لما تضعه الذوابل من نجومها، فما انتشرت رياضها المزهرة، وغياضها المشجرة، إلا دلت على أن السحاب الذى سقاهم كريم، والإنعام الذى غمرهم عظيم، والدنيا التي وسعتهم من عزمتهم تظعن وتقيم. ولما علم العدو أن الخطب المظنون قد صرح خطابه، والأمل المخدوع قد صفر وطابه، راسل ورأى سل السيوف يغمده، وماكر وماكّر لعلمه أن الحتف يعمده، واندفع هاربا هائبا، وخضع كائبا كاذبا، فمضى المملوك قدما، وحمّله ظلمه وقد خاب من حمل ظلما، وأجابه بأنه وطئ البساط برجله وإلا وطئه برأسه، وإن قدم على المملوك بأمله وإلا أقدمه بيأسه، وإن لم يظهر أثر التوبة وإلا أقام عليه الحد بسكرة الموت من كأسه، فلم يخرج من مراوغة تحتها مغاوره، ومكاسرة وراءها مكاشرة. فاستخار الله في طلبه، وانتهز فيه فرصة شغل قلبه بريبة، ولم يغره ما أملى له في البلاد من تقلّبه، وسار ولم يزل مقتحما، وتقدم أول العسكر محتدما، وإذا الدار قد ترحل أهلها منها فبانوا وظعنوا عن ساحتها فكأنهم ما كانوا، ولم يبق إلا مواقد نيران رحلت قلوبهم بضرامها، وأثافى دهم أعجلت المهابة ما رد سغبهم عن طعامها، وغربان بيّن كأنها في الديار ما قطع من رءوس بنى حامها، وعوافى طير كانت تنتظر من أشلائهم فطر صيامها، وعادت الرسل المنفذة لاقتفاء آثارهم وأداء أخبارهم، ذاكرة أنهم لبسوا الليل حدادا على النعمة التي خلعت، وغسلوا بماء الصبح أطماع نفس كانت قد تطلعت، وأنهم طلعوا الأوعار أوعالا والعقاب عقبانا، وكانوا لمهابط الأودية سيولا، ولأعالى الشجر قضيانا - فرأى المملوك أن الكتاب فيهم قد بلغ أجله، والحزم منهم قد نال أمله، والفتك بهم قد أعمل متصله، وأن سيوف عساكر أمير المؤمنين منزهة أن تريق الإدماء

أكفائها من الأبطال، وأن تلقى إلا وجوه أنظارها من الرجال، وأن المذكورين نمل حطمه سليمان عليه السلام وجنوده، ورحل أطاره العاصف الذى يسحفه ويقوده - وأصدر هذه الخدمة والبلاد من معرتهم عارية، والكلمة بانخفاضهم غالية عالية، ويدا الله على أعدائه عادية، وأنفس المخاذيل في وثاق مهابته العالية عانية - فرأى المملوك أن يرتب بعده الأمير فلانا ليبذل الأمانات، لسوقة أهل البلاد ومزارعيها، ويفصل المحاكمات، بين متابعى السلطنة ومطاوعيها، ويفسح مجال الإحسان لمعاودى المواطن ومراجعيها، فيعمر من البلاد ما قد شغر، ويشعر بالأمنة من لا شعر، فإن مقام المملوك ومن معه من عساكر تمنع الشمس من مطلعها، وترد جرية البحر عن موقعها، مما يضر بالغلال وينسفها، ويحجف بالرعايا ويعسفها. فالحمد لله الذى جعل النص لائذا بأعطاف اعتزامه، وأنامل الرعب السائر إلى الأعداء محركة عذبات أعلامه، والعساكر المناضلة بسلاح ولائه، تغنى بأسمائها عن مرهفاتها، والكتائب المقاتلة بشعار علائه تقرأ كتب النصر من حماتها.

(3) تذكرة أنشأها القاضى الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأرسلها صحبة الأمير شمس الدين الخطيب - أحد أمراء الدولة الصلاحية - إلى أبواب الخلافة ببغداد، فى خلافة الناصر لدين الله

(3) تذكرة أنشأها القاضى الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأرسلها صحبة الأمير شمس الدين الخطيب - أحد أمراء الدولة الصلاحية - إلى أبواب الخلافة ببغداد، في خلافة الناصر لدين الله وفى هذه التذكرة يعدد صلاح الدين فتوحه وانتصاراته في مصر واليمن والمغرب، ويسأل الخليفة أن يرسل إليه التقاليد بتوليته على هذه البلاد وعلى ما قد يفتحه في المستقبل من بلاد أخرى (¬1). (عن: صبح الأعشى، ج 13، ص 81 - 90) تذكرة مباركة ولم تزل الذكرى للمؤمنين نافعة ولعوارض الشكّ دافعة؛ ضمّنت أغراضا يقيّدها الكتاب، إلى أن يطلقها الخطاب، على أن السائر سيّار البيان، والرسول يمضى على رسل التبيان؛ والله سبحانه يسدّده قائلا وفاعلا، ويحفظه بادئا وعائدا، ومقيما وراحلا. الأمير الفقيه شمس الدين خطيب الخطباء - أدام الله نعمته وكتب سلامته، ¬

(¬1) كنا نشرنا نص هذه التذكرة في ملاحق الجزء الثانى من طبعتنا هذه لمفرج الكروب نقلا عن الروضتين، غير أنا وجدنا بعد هذا أن صاحب صبح الأعشى قد أثبت نص هذه التذكرة كاملا، في حين أنه في الروضتين ينقص المقدمة والخاتمة، ولهذا آثرنا نشر النص الكامل هنا مرة أخرى.

وأحسن صحابته - يتوجه بعد الاستخارة، ويقصد دار السلام، والخطّة التي هى عشّ بيضة الإسلام؛ ومجتمع رجاء الرجال، ومتسع رحاب الرّحال؛ فإذا نظر تلك الدار الدارّ سحابها، وشافه بالنظر معالم ذلك الحرم المحرّم خطابها؛ ووقف أمام تلك المواقف التي تحسد الأرجل عليها الرءوس، وقام بتلك المنازل التي تنافس الأجسام فيها النفوس، فلو استطاعت لزارت الأرواح محرمة من أجسادها، وطافت بكعبتها متجردة من أغمادها، فليمطر الأرض هناك عنّا قبلا تخضّلها، بأعداد لا نحصّلها؛ وليسلّم عليها سلاما نعتدّه من شعائر الدين اللازمة، وسنن الإسلام القائمة، وليورد عنا تحيّة يستنزلها من عند الله تحية مباركة طيّبة، وصلاة تخترق أنوارها الأستار المحجّبة، وليصافح عنّا بوجهه صفحة الثّرى، وليستشرف عنا بنظره فقد ظفر بصباح السّرى، وليستلم الأركان الشريفة، فإن الدّين إليها مستند، وليستدم الملاحظات اللطيفة، فإن النور منها مستمدّ، وإذا قضى التسليم وحقّ اللقاء، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء، فليعد وليعد حوادث ما كانت حديثا يفترى، وجوارى أمور إن قال منها كثيرا فأكثر منه ما جرى، وليشرح صدرا منها لعله يشرح منا صدرا، وليوضّح الأحوال المستسرة فإنّ الله لا يعبد سرّا: ومن الغرائب أن تسير غرائب ... في الأرض لم يعلم بها المأمول كالعيس أقتل ما يكون لها الظّما ... والماء فوق ظهورها محمول فإنا كنا نقتبس النار بأيدينا، وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدنا، وغيرنا يستمير، ونلقى السّهام بنحورنا، وغيرنا يغيّر التصوير، ونصافح الصّفاح بصدورنا، وغيرنا يدّعى التصدير، ولا بدّ أن نستردّ بضاعتنا، بموقف العدل الذى تردّ به الغصوب، ونظهر ظاعتنا، فنأخذ بحظّ الألسنة كما أخذنا بحظّ القلوب، وما كان العائق إلا أنّا كنا ننظر ابتداء من الجانب الشريف بالنعمة،

يضاهى ابتداءنا بالخدمة، وإيجابا للحق، يشاكل إيجابنا للسبق، إلى أن يكون سحابها بغير يد مستنزلا، وروضها بغير غرس مطفلا. كان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتح الفتوحات مباشرين بأنفسنا، ونجاهد الكفّار متقدمين لعساكره نحن ووالدنا وعمّنا، فأىّ مدينة فتحت، أو معقل ملك، أو عسكر للعدو كسر، أو مصافّ للإسلام معه ضرب، فما يجهل أحد، ولا يجحد عدو، أنّا نصطلى الجمره، ونملك الكسره، ونتقدم الجماعة ونرتّب المقاتلة، وندبّر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرّنا أن يكون لغيرنا ذكرها. وكانت أخبار مصر تتصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء التدبير، ومما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النظام قد فسد، والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كل قائم بها وقعد، والفرنج قد احتاج من يدبرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير خطيرة، وأن كلمة السّنّة بها وإن كانت مجموعة، فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسمّاة، فإنها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضلالات فيها على ما يفتى منها بفراق الإسلام ويحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تتّخذ من دون الله تعظّم وتفخّم، فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غرّه تقلّب الذين كفروا في البلاد. فسمت هممنا دون همم ملوك الأرض إلى أن نستفتح مقفلها، ونسترجع للإسلام شاردها، ونعيد على الدين ضالّته منها، فسرنا إليها بعساكر ضخمة، وجموع جمّة، وبأموال انتهكت الموجود، وبلغت منا المجهود، وأنفقناها، من خالص ذممنا وكسب أيدينا، ومن أسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا، فعرضت عوارض منعت، وتوجّهت

للمصريين حيل باستنجاد الفرنج تمّت: (ولكلّ أجل كتاب). ولكلّ أمل باب. وكان في تقدير الله سبحانه أنا نملكها على الوجه الأحسن، ونأخذها بالحكم الأقوى الأمكن، فغدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها، وعلم أنّ استئصال كلمة الإسلام محطّها، وكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان، كما كاتبنا المسلمون من الشام في هذا الأوان، بأنا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج من اليد، وإن لم ندفع غريم اليوم لم يمهل إلى الغد، فسرنا بالعساكر الموجودة والأمراء الأهل المعروفة إلى بلاد قد تمهّد لنا بها أمران، وتقرر لنا فيها في القلوب ودّان: الأول لما علموه من إيثارنا المذهب الأقوم، وإحياء الحقّ الأقدم، والآخر لما يرجونه من فكّ إسارهم، وإقالة عثارهم، ففعل الله ما هو أهله، وجاء الخبر إلى العدو فانقطع حبله، وصاقت به سبله، وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها وبلادها وإقليمها قد نفذت فيها أوامره، وخفقت عليها صلبانه، وأمن من أن يسترجع ما كان بأيديهم حاصلا، وأن يستنقذ ما صار في ملكهم داخلا، ووصلنا البلاد وبها أجناد، عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السر منهم أنفذ من العزيمة في الجهر. وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف رجل، كلهم أغتام أعجام، إن هم إلا كالأنعام، لا يعرفون ربّا إلا ساكن قصره، ولا قبلة إلا ما يتوجهون إليه من ركنه، وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية، موضوعة عنهم الجزية، كانت لهم شوكة وشكّة، وحمية وحمة، ولهم حواش لقصرهم من بين داع تلطف في الضلال مداخله، وتصيب العقول مخاتله، ومن بين كتّاب، أقلامهم تفعل أفعال الأسل، وخدّام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النّحل، ودولة

قد كبر عليها الصغير، ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع خطرات الضمير، فكيف لحظات التدبير. هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادة جارية، وتحريف للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله في التنزيل، وكفر سمى بغير اسمه، وشرع يستربه، ويحكم بغير حكمه. فمازلنا نسحتهم سحت المبارد للشفار، ونتحيفهم تحيّف الليل والنهار للأعمار، بعجائب تدبير، لا تحتملها المساطير، وغرائب تقرير لا تحملها الأساطير، ولطف توصل ما كان في حيلة البشر ولا قدرتهم إلا إعانة المقادير، وفى أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج دفعة إلى بلبيس، ودفعة إلى دمياط، وفى كل منهما وصلوا بالعدو المجهر والحشد الأوفر، وخصوصا في نوبة دمياط فإنهم نازلوها بحرا في ألف مركب مقاتل وحامل، وبرأ في مائتى ألف فارس وراجل، وحصروها شهرين يباكرونها ويراوحونها، ويماسونها ويصابحونها، القتال الذى يصليه الصليب، والقراع الذى ينادى به من مكان قريب، ونحن نقاتل العدوين: الباطن والظاهر، ونصابر الضدين: المنافق والكافر، حتى أتى الله بأمره، وأيّدنا بنصره، وخابت المطامع من المصريين ومن الفرنج، ومن ملك الروم ومن الجنويين وأجناس الروم، لأن أنفارهم تنافرت، ونصاراهم تناصرت، وأناجيل طواغيتهم رفعت، وصلب صلبوتهم أخرجت، وشرعنا في تلك الطوائف من الأجناد والسودان والأرمن فأخرجناهم من القاهرة تارة بالأوامر المرهقة لهم، وبالذنوب الفاضحة منهم، وبالسيوف المجردة وبالنار المحرقة، حتى بقى القصر ومن به من خدمه قد تفرقت شيعه، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخفيت ضلالته. فهنالك تمت لنا إقامة الكلمة والجهر بالخطبة، والرفع للواء السواد الأعظم،

والجمع لكلمة السواد الأعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بفنائه، وبرأنا من عهدة يمين كان حنثها أيسر من إثم إبقائه، إلا أنه عوجل لفرط روعته ووافق هلاك شخصه هلاك دولته. ولما خلا ذرعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار، فلم تخرج سنة إلا عن سنّة أقيمت فيها برا وبحرا، ومركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أخذت من أيديهم، وما أوجفت فيها خيلهم ولا ركابهم مذ ملكها أعاديهم، فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما استولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة كان العدو قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم فسبى منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستوى على أصلها، ومساجد الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل صلوات الله عليه أن يقوم به من ناره غير برد وسلام، ومضجع الرسول شرّفه الله أن يتطرقه من لا يدين بما جاء به من الإسلام، ففتح الله هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسفار البلاد، وغيرهم من عباد العباد، فلو شرح ما تم بها للمسلمين من الأثر الجليل، وما استدّ من خلاتهم، وأحرق من زروع المشركين ورعى من غلاتهم، إلى أن ضعفت ثغورهم، واختلت أمورهم، لاحتيج فيه إلى زمن يشغل عن المهمات الشريفة لسماع مورده، وإيضاح مقصده. وكان باليمن ما علم من ابن مهدى الضال وله آثار في الإسلام، وثأر طالبه النبى عليه الصلاة والسلام، لأنه سبى الشرائف الصالحات وباعهن بالثمن البخس، واستباح منهن كل ما لا تقر عليه نفس، وكان ببدعه دعا إلى قبر أبيه وسماه كعبه، وأخذ أموال الرعايا المعصومة وأجاحها، وأحلّ الفروج المحرّمة وأباحها، فأنهضنا

إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلفنا له نفقلت واسعة، وأسلحة رائعة، وسار فأخذناه ولله الحمد، وأنجح الله فيه القصد، ووردتنا. كتب عساكرنا وأمرائنا بما نفذ في ابن مهدى وبلاده المفتتحة ومعاقله المستضافة، والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سارية، وإلى ما لم يفتض الإسلام عذرته منذ أقام الله كلمته متمادية. ولنا في المغرب، أثر أغرب، وفى أعماله أعمال دون مطلبها كما يكون المهلك دون المطلب، وذلك أن بنى عبد المؤمن قد اشتهر أن أمرهم أمر، وملكهم قد عمر، وجيوشهم لاتطاق، وأوامرهم لا تشاق، ونحن والحمد لله قد ملكنا مما يجاورنا منه بلادا تزيد مسافتها على شهر، وسيرّنا عسكرا بعد عسكر رجع بنصر بعد نصر، ومن البلاد المشاهير، والأقاليم الجماهير: - لك، برقة، قفصة، قسطيلية، توزر. كل هذه تقام فيها الخطبة لمولانا الإمام المستضىء بالله - سلام الله عليه - ولا عهد للإسلام بإقامتها، وتنفذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها. وفى هذه السنة كان عندنا وفد قد شاهده وفود الأمصار، مقداره سبعون راكبا كلهم يطلب لسلطان بلده تقليدا، ويرجو منا وعدا ويخاف وعيدا. وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها، وألقيت إلينا مقاليدها، وسيرّنا الخلع والألوية، والمناشير بما فيها من الأوامر والأقضية. وأما الأعداء الذين يحدقون بهذه البلاد، والكفار الذين يقاتلونها بالممالك العظام والعزائم الشداد، فمنهم: صاحب قسطنطينية وهو الطاغية الأكبر، والجبار الأكفر، وصاحب المملكة التي أكلت على الدهر وشربت، وقائم النصرانية التي حكمت دولته على ممالكها وغلبت، وجرت لنا معه غزوات بحرية، ومناقلات ظاهرية وسرية، وكانت له في البلاد مطامع، منها أن يجبى خراجا،

ومنها أن يملك منها فجاجا، وكانت غصة لا يسيغها الماء، وداهية لا ترجى لها الأرض بل السماء، فأخذنا ولله الحمد بكظمه، وأقمناه على قدمه، ولم نخرج من مصر، إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة في نوبتين بكتابين، كل واحد منهما يظهر فيه خفض الجناح، وإلقاء السلاح، والانتقال من معاداة، إلى مهاداة، ومن مناضحة إلى مناصحة، حتى إنه أنذر بصاحب صقلية وأساطيله التي يرد ذكرها، وعساكره التي لم يخف أمرها. ومن هؤلاء الكفار صاحب صقلية هذا، كان حين علم أن صاحب الشام وصاحب قسطنطينية قد اجتمعا في نوبة دمياط، فغلبا وهزما وكسرا، أراد أن يظهر قوته المستقلة بمفردها، وعزمته القائمة بمجردها، فعمّر أسطولا استوعب فيه ماله وزمانه: فإنه إلى الآن منذ خمس سنين يكثّر عدته، وينتخب عدته، ويجتلب مقاتلته إلى أن وصل منها في السنة الخالية إلى اسكندرية أمر رائع، وخطب هائل، وما أثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ صدره مثل خيله ورجله، ما هو إقليم بل أقاليم نقله، وجيش ما احتفل ملك قط بنظيره لولا أن الله خذله؟ ولو ذهبنا نصف ما ذهب، فيه من ذهب، وما أخذ منه من سلاح وخيل وعدد ومجانيق، ومن أسر منه من خيالة كبار ومقدمين ذوى أقدار وملوك يقاطعون بالجمال التي لها مقدار، وكيف أخذه وهو في العدد الأكثر بالعدد الأقل من رجالنا، وكيف نصر الله عليه مع الأصعب من قتاله بالأسهل من قتالنا، لعلم أن عناية الله بالإسلام تغنيه عن السلاح، وكفاية الله لهذا الدين تكفيه مؤنة الكفاح. ومن هؤلاء الجنوبين الذين يسربون الجيوش: البنادقة - البياشنة - الجنوية، كل هؤلاء تارة لا تطاق ضراوة ضرهم، ولا تطفأ شرارة شرهم، وتارة يجهزون سفّارا، يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقتصر عنهم يد الأحكام

المرهوبة؛ وما منهم الآن إلا من يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرب إلينا بإهداء طرائف أعماله وبلاده، وكلهم قد قررت معه المواصفة، وانتظمت معه المسالمة؛ على ما نريد ويكرهون، ونؤثر ولا يؤثرون. ولما قضى الله بالوفاة النورية، وكنا في تلك السنة على نية الغزو، والعساكر قد ظهرت، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج بانياس وأشرفوا على احتيازها، ورأوها فرصة مدوا إليها يد انتهازها، استصرخ بنا صاحبها للمانعة، واستنهضنا لتفريج الكرب الواقعة؛ فسرنا مراحل اتصل بالعدو أمرها، وعوجل بالهدنة الدمشقية التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها ولا قبل كثيرها ولا قليلها؛ ثم عدنا إلى البلاد فتوافت إلينا الأخبار بما الدولة النورية عليه من تشعب الآراء وتوزعها، وتشتت الأمور وتقطعها؛ وأنّ كل قلعة قد حصل فيها صاحب، وكل جانب قد طمح إليه طالب، والفرنج قد بنوا بلادا يتحيّفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشامية، وأمراء الدولة قد سجن أكابرهم وعوقبوا وصودروا، والمماليك الذين للمتوفى أغرار خلقوا للأطراف لا للصدور، وجعلوا للقيام لا للجلوس في المحفل المحصور، وقد مدّوا الأعين والأيدى والسيوف، وساءت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف، وكلّ واحد يتخذ عند الفرنج يدا، ويجعلهم لظهره سندا ويرفع عنهم ذخيرة كانت للإسلام، ويفرج لهم عن أسير من أكابر الكفار كان مقامه مما يدفع شرا، ولا يزيد نار الكفر جمرا، وإطلاقه يجلب قطيعة تقوى إسلاما وتضعف كفرا، فكثرت إلينا مكاتبات أهل الآراء الصائبة، ونظرنا للاسلام ولنا ولبلاد الإسلام في العاقبة. وعرفنا أن البيت المقدس إن لم تتيسر الأسباب لفتحه. وأمر الكفر إن لم يجرد العزم في قلعه، وإلا ثبتت عروقه، واتسعت على أهل الدين خروقه؛

وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آئمة، وإنا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة وكلال الدواب، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والبلاد قريبة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة والخيل مستريحة. والعساكر كثيرة. والجموع متيسرة. والأوقات مساعدة. وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتلة. وأمور مختلة. وآراء فاسدة، وأمراء متحاسدة؛ وأطماع غالبة، وعقول غائبة؛ وحفظنا الولد القائم بعد أبيه. وكفلناه كفالة من يقضى الحقّ ويوفيه، فإنا به أولى من قوم يأكلون الدنيا باسمه، ويظهرون الوفاء بخدمه وهم عاملون بظلمه؛ والمراد الآن هو كل ما يقوى الدولة، ويؤكد الدعوة؛ ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الزلفة، ويفتح بقية البلاد. ويطبق بالاسم العباسى كل ما تخطئه العهاد - ونحن نقترح على الأحكام المعهودة، وننتظر أن يأتى الإنعام على الغايات المزيدة؛ وهو: تقليد جامع لمصر والمغرب واليمن والشام، وكل ما تشتمل عليه الولاية النورية، وكل ما يفتحه الله الدولة بسيوفنا وسيوف عساكرنا. ولمن نقيمه من أخ وولد من بعدنا، تقليدا يضمن للنعمة تخليدا. وللدعوة تجديدا؛ مع ما ينعم به من السمات التي يقتضيها الملك، فإن الإمارة اليوم بحسن نيتنا في الخدمة تصرّف بأقلامنا. وتستفاد من تحت أعلامنا. ويتبين أن أمراء الدولة النورية يحتاج إليهم في فتح البلاد القدسية ضرورة: لأنها منازل العساكر، ومجمع الأنفار والعشائر، فمتى لم يكن عليهم يد حاكمة، وفيهم كلمة نافذة، منعهم ولاة البلاد وبغاة العناد. وبالجملة فالشام لا ينتظم أمره بمن فيه، وفتح بيت المقدس ليس له قرن يقوم به ويكفيه؛ والفرنج، فهم يعرفون منا خصما لا يمل الشر حتى يملوا، وقرنا لا يزال يحرم السيف حتى يحلوا؛ حتى إنا لما جاورناهم في هذا الأمد القريب، وعلموا أن المصحف قد جاء بأيدينا يخاصم الصليب؛ استشعروا بفراق بلاهم. وتهادوا

التعازى لأرواحهم بأجسادهم، وإذا سدّد رأينا حسن الرأى ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله ويد كل مسلم تحت برده، واستنقذنا أسيرا من المسجد الذى أسرى الله إليه بعبده. هذا ما لاح طلبه على قدر الزمان. والأنفس تطلب على مقدار الإحسان؛ فإن في استنهاض نيات الخدام بالإنعام ما يعود على الدولة منافعه، وتنكأ الأعداء مواقعه؛ وتبعث العزائم من موت منامها، وتنفض البصائر غبار ظلامها، والله تعالى ينجد إرادتنا في الخدمة بمضاعفة الاقتدار، ومساعدة الأقدار إن شاء الله تعالى.

(4) صورة العهد الصادر عن ديوان الإنشاء ببغداد بتولية صلاح الدين ملك مصر وأعمالها، والصعيد الأعلى، والاسكندرية وما يفتحه من بلاد الغرب والساحل، وبلاد اليمن وما افتتحه منها، ويستخلصه بعد من ولايتها

(4) صورة العهد الصادر عن ديوان الإنشاء ببغداد بتولية صلاح الدين ملك مصر وأعمالها، والصعيد الأعلى، والاسكندرية وما يفتحه من بلاد الغرب والساحل، وبلاد اليمن وما افتتحه منها، ويستخلصه بعد من ولايتها عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 10، ص 145 - 152) «إنّ أولى من جادت رباعه سحب الاصطناع، وخصّ من الاصطفاء والاجتباء بالصّفايا والمرباع، من ترسّم انتهاج الجدد القويم، والطريق الواضح المستقيم، واعتلق من الولاء بأوثق عصمه وحباله، والفناء الذى يهتدى بأنواره في متصّرفاته وأعماله، والتحلّى بجميل الذكر في سيرته، وخلوص الاعتناء بأمور رعيّته، وكان راغبا في اقتناء حميد الخلال، مجتهدا في طاعة الله بما يرضيه من العدل الممتدّ الظّلال، عاملا فيما يناط به بما يتضوّع نشر خبره، ويجتنى بحسن صنعه يانع ثمره، باذلا وسعه في الصلاح، مؤذنة مساعيه بفوز القداح. ولمّا كان الملك الأجلّ، السيد، صلاح الدين، ناصر الإسلام، عماد الدولة جمال الملك، فخر الملّة، صفّى الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، فامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتّمردين، عزّ المجاهدين، ألب غازى بك بن يوسف بن أيّوب - أدام الله علوّه - على هذه السّجايا مقبلا، وبصفاتها الكاملة مشتملا، مؤثرا تضاعف المأثرات، مثابرا على ما تزكو به الأعمال

الصالحات، متحلّيا بالمحامد الرائعة، مستبدّا بالمناقب التي هى لجميل أفعاله موافقة مطابقة، محصّلا من رضا الله تعالى ما يؤثره ويرومه، [و] من طاعة الدّار العزيزة - لا زالت مشيّدة البناء، سابغة النّعماء، دائمة الاستبشار، عزيزة الأنصار -[و] من استمرار الظّفر ما يستديمه - اقتضت الآراء الشريفة - لازال التوفيق قرينها، والتأييد مظافرها ومعينها - إمضاء تصرّفه وإنفاذ حكمه في بلاد مصر وأعمالها، والصعيد الأعلى، والإسكندرية، وما يفتحه من بلاد الغرب والساحل، وبلاد اليمن وما افتتحه منها ويستخلصه بعد من ولايتها؛ والتعويل في هذه الولايات عليه، واستنفاذ ما استولى عليه الكفّار من البلاد، وإعزاز كلّ من أذلّوه واضطهدوه من العباد، لتعود الثّغور بيمن نقيبته ضاحكة المباسم، وبإصابة رأيه قائمة المواسم. أمره بادئا بتقوى الله التي هى الجنّة الواقية. والذّخيرة الباقية. والعصمة الكافية. والزاد إذا أنفض وفد الآخرة وأرملوا، والعتاد النافع إذا وجدوا شاهدا لهم وعليهم ما عملوا: فإنّها العلم المنصوب للرّشد، قال الله تعالى: ({يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ.}) وأمره أن يتّخذ كتاب الله - سبحانه - العلم الذى به يقتدى. وبأنواره إلى حدود الصواب يهتدى، ويستمع لزواجره ومواعظه، ويعتبر بتخويفه وملاحظه، ويصغى إليه بسمعه وقلبه، وجوارحه ولبّه، ويعمل بأوامره المحكمة ويقف عند نواهيه المبرمة، ويتدبّر ما حوته آياته من الوعد والوعيد، والزّجر والتّهديد، وقال الله عز وجل: ({وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.}) وأمره أن يكون على صلاته محافظا، ولنفسه عن الإخلال والتقصير في أداء

فرضها واعظا؛ فيغتنم الاستعداد أمام أوقاتها للأداء، ويحترز من فواتها والحاجة إلى القضاء، موفّيا حقّها من الرّكوع والسّجود، على الوصف الواجب المحدود، مخلصا سرّه عند الدّخول فيها، وناهيا نفسه عمّا يصدّها بالأفكار ويلهيها، مجتهدا في نفى الفكر والوسواس من قلبه، منتصبا في إخلاص العبادة لربّه: ليغدو بوصف الأبرار منعوتا، قال الله تعالى: ({إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً.}) وأمره بقصد المساجد الجامعة في أيّام الجمع، امتثالا لأمر الله المتّبع، بعزيمة في الخير صادقة، ونيّة للعبادة موافقة، وفى الأعياد إلى المصلّيات المصحرة المجمّلة بالمنابر الحالية، التي هى عن الأدناس مطّهرة نائية، فإنّها من مواضع العبادة ومواطنها ومظانّ تلاوة القرآن المأمور بحفظ آدابها وسننها، فقد وصف الله تعالى من وفّقه لتحميل مؤنه بالعمارة، بما أوضح فيه الإشارة، وشرّفه بوضع سمة الإيمان عليه بالإكرام الفاخر، فقال: ({إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)} فيقيم الدعوة الهادية على المنابر على عادة من تقدّمه ومنتهيا فيها إلى أحسن ما عهده وعلمه. وأمره بلزوم نزاهة الحرمات، واجتناب المحّرمات، والتحلىّ من العفاف والورع بأجمل القلائد الرائقة، والتقمصّ بملابس التقوى التي هى بأمثاله لاثقة؛ وسلوك مناهج الصّلاح الذى يجمل به فعله؛ ويصفو له علّه ونهله؛ وأن يمنع نفسه من الغضب؛ ويردّها عمّا تأمر به من سوء المكتسب؛ ويأخذها بآداب الله سبحانه في تهيها عن الهوى؛ وحملها على التقوى؛ وردعها عن التورط في المهاوى والشّبه وكلّ أمر يلتبس فيه الحقّ ويشتبه؛ ويلزمها الأخذ بالعفو والصّفح. والتأمل لمكان الأعمال فيه واللّمح؛ قال الله تعالى: ({خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ.})

وأمره بإحسان السّيرة في الرعايا بتلك البلاد، واختصاصهم بالصّون الرائح الغاد، ونشر جناح الرّعاية على البعيد منهم والقريب، وإحلال كلّ منهم محلّة على القاعدة والترتيب؛ وإشاعة المعدلة فيهم، وإسهام دانيهم من وافر ملاحظته وقاصيهم، وأن يحمى سرحهم من كل داعر، ويذود عنهم كل موارب بالفساد ومظاهر، حتّى تصفو لهم من الأمن الشرائع، وتضفو عليهم من بركة ولايته المدارع، وتستنير بضوء العدل منهم المطالع، ويحترم أكابرهم، ويحنو على أصاغرهم، ويشملهم بكنفه ودرعه، وينتهى في مصالحهم إلى غاية وسعه، ولا يألوهم في النصح جهدا، ولا يخلف لهم في الخير وعدا، ويشاورهم في أمره فإنّ المشورة داعية إلى الفلاح، ومفتاح باب الصلاح، قال الله تعالى: ({فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.}) وأمره بإظهار العدل في الرّعية التي تضمها جميع الأكناف والأطراف، والتحلّى من النّصفة بأكمل الأوصاف، وحمل كافّتهم على أقوم جدد، وعصيان الهوى في تقويم كلّ أود، والمساواة بين الفاضل والمفضول في الحقّ إذا ظهر صدق دليله، والاشتمال عليهم بالأمن الذى يعذب لهم برد مقيله، وكشف ظلامة من انبسطت إلى تحيّفه الأيدى والأطماع، وأعجزته النصرة لنفسه والدّفاع، وتصفّح أحوالهم بعين لا ترنو إلى هوى يميل بها عن الواجب، وسمع لا يصغى إلى مقالة مائن ولا كاذب، ولا يغفل عن مصلحة تعود إليهم، ويرجع نفعها عليهم، ولا عن كشف ظلامات بعضهم عن بعض، وردّهم إلى الحقّ في كلّ رفع من أحوالهم وخفض، فلا يرى إلا بالحقّ عاملا، وللأمور على سنن الشريعة حاملا، مجتنبا إغفال مصالحهم وإهمالها، وحارسا نظامها على تتابع الأيام واتصالها،

ليكون ذلك إلى وفور الأجر داعيا، وبحسن الأحدوثة قاضيا، مقتديا بما نطق به القرآن. ({إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ.}) وأمره أن يأمر بالمعروف ويقيم مناره، وينهى عن المنكر ويمحو آثاره، فلا يترك ممكنا من إظهار الحقّ وإعلانه وقمع الباطل، وإخماد نيرانه، ويعتمد مساعدة كل مرشد إلى الطريق الأقصد، وناه عن التظاهر بالمحظور في كل مشهد، وكل من تضحى معونته مشاركة في إحراز المثوبة ومساهمة، ومساومة في اقتناء الأجر ومقاسمه، وأن يوعز بإزالة مظان الريب والفساد في الدانى من الأعمال والقاصى، فإنها مواطن الشيطان وأماكن المعاصى، وأن يشدّ على أيدى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويعينهم على ذلك بما يطيب ذكره في كل مشهد ومحضر، ويجتهد في إزالة كل محظور ومنكر، مقدم في الباطل ومؤخر، قال الله تعالى: ({وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَاِنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ.}) وأمره أن يقدّم الاحتياط في حفظ الثغور ومجاوريها من الكفّار، ويستعمل غاية التيقظ في ذلك والاستظهار، ليأمن عليها غوائل المكايد، ويفوز من التوفيق لذلك بأنواع المحامد، ويتجرّد لجهاد أعداء الدين والانتقام من الكفرة المارقين أخذا بقول رب العالمين: ({اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}) وأن يعمل فيما يحصل من الغنائم عند فلّ جموعهم، وافتتاح بلادهم وربوعهم، بقول الله وما أمر به في قسمتها، وإيفاء كلّ صاحب حصته منها؛ سالكا سبل من غدا لآثار الصلاح مقتفيا، وللفرض في ذلك مؤديا، وبهدى ذوى الرّشد مهتديا، قال الله تعالى في محكم التنزيل: ({وَاِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ.})

وأمره أن يجيب إلى الأمان من طلبه منه، ويكون وفاؤه مقترنا بما تضمّنه، غير مضمر خلاف ما يعطى به صفقة أمانه، ويجتنب الغدر وما فيه من العار، وإسخاط الملك الجبّار، قال الله عز وجل: ({وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).} وأمره بأن يأمر أصحاب المعاون بمساعدة القضاة والحكّام، ومعونتهم بما يقضى [بلمّ] شمل الصلاح في تنفيذ القضايا والانتظام، وأخذ الخصوم بإجابة الداعى إذا استحضر [وإلى] أبوابهم للإنصاف، والمسارعة إلى الحقّ الواجب عليهم من غير خلاف، قال الله تعالى: ({وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ.}) وأمره بالتعويل في المظالم وأسواق الرقيق ودور الضرب والحسبة على من يأوى إلى عفاف ودين، وعلم بأحكام الشريعة وصحة يقين، لا يخفى عليه ما حرّمه الله تعالى وأحلّه، ولا يلتبس على علمه ما أوضح إلى الحقّ الواضح سبله؛ وإلى من يتولى المظالم بإيصال الخصوم إليه، وإنصافهم كما أوجب الله تعالى عليه؛ واستماع ظلاماتهم، وإحسان النظر في مشاجراتهم، فإن أسفر للحقّ ضياء تبعه، أو اشتبه الأمر ردّه إلى الحكام ورفعه. و [إلى] الناظر في أسواق الرقيق بالاحتراز والإستظهار، وتعرية الأحوال من الشبه في امتزاج العبيد بالأحرار. لتضحى الأنساب مصونة مرعية، والأموال عن الثّلم محروسة محمية، وإلى من ينظر في الحسبة بتصفح أحوال العامة في متاجرهم وأموالهم، وتتبع آثار صحتهم في المعاملة واعتلالهم. واعتبار الموازين والمكاييل، وإلزام أربابها الصحة والتعديل؛ قال الله سبحانه وتعالى: ({وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ.}) وأن يعمل الجفن في تطهير البلاد، من كلّ مدخول الاعتقاد، معروف

بالشبه في دينه والإلحاد، ومن يسعى منهم في الفساد، ويأمر المرتبين في المراكز والأطراف باقتناصهم، وكفّ فسادهم وإجلائهم عن عراصهم، وأن يجرى عليهم في السياسة ما يجب على أمثالهم من الزنادقة والذين توبتهم لا تقبل؛ وأمرهم على حكم المخاطبين لا يحمل، قال الله تعالى: ({إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ.}) وأمره أن يتلقى النعمة التي أفرغت عليه، وانساقت إليه؛ بشكر ينطق به لسانه، ويترجم عنه بيانه: ليستديم بذلك الإكرام؛ ويقترن الإحسان عنده بالالتئام؛ وأن يوفيها حقّها من دوام الحمد، والقصد إلى شكرها والعمد؛ قال الله تعالى: ({وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ.}) وليعلم أن أمير المؤمنين قد بيّن له من الصلاح ما اتضحت أعلامه؛ وأثبتت في المرامى سهامه؛ وأرشد إلى ما أودع هذا المنشور من جدد الفوز بمرضاة الله تعالى وشكر عباده؛ عاملا في ذلك بمقتضى جدّه واجتهاده: ليحرز السبق في دنياه وعقباه؛ ويتوفر عنده ما منح به مما أرهف عزمه وحباه؛ وغدا بمكانه رافلا في ملابس الفخر والبهاء؛ نائلا منى ما طال به مناكب القرناء؛ واختصّ بما أعلى درجته، فتقاعست عنه آمال حاسديه وتفّرد بالمكانة عن مقام من يباريه ويناويه؛ وأولى من الإنعام ما أمّن به سرب النعمة عنده؛ وأصفى من مناهل الإحسان ورده؛ وأهدى إليه من المواعظ ما يجب أن يودعه واعية الأسماع؛ ويأخذ بالعمل به كلّ راع؛ فينهج - أدام الله علوّه - محاجّ الولاء؛ الذى عهده من أمثاله من الأولياء؛ متنزها عن تقصير منه في عامة الأوقات؛ ومراعيا أفعاله في جميع التصرفات؛ ويعلم أنه مسئول عن كل ما تلفّظ به لسانه ناطقا؛ ونظر طرفه إليه رامقا؛ قبل أن يجانب هواه؛ ويبقى رهينا بما اكتسبت يداه؛

ولا يغترّ من الدنيا وزخرفها بغرار ليس الوفاء من طباعه؛ ومعير ما أقصر مدة ارتجاعه! وسبيل كافّة القضاة والأعيان ومقدّمى العساكر والأجناد؛ ورؤساء البلاد؛ متابعته وموافقته؛ وطلب مصالحهم من جنابه؛ والتصرّف على استصوابه؛ وقد أكّدت وصاته في الرفق بهم والاشتمال عليهم؛ والإحسان إليهم، وإجمال السّيرة فيهم؛ وكلّما أشكل عليه أمر من المتجددات يطالع به الديوان العزيز - مجّده الله تعالى - لينهج له السبيل إلى فتح رتاجه؛ وسلوك منهاجه؛ والله ولىّ التوفيق والهداية، وجمع الكلمة في كل إعادة وبداية؛ والمعونة على العصمة من الزلل؛ والتأييد في القول والعمل؛ إن شاء الله تعالى؛ وهو حسبنا ونعم الوكيل».

(5) كان صلاح الدين قد أناب عنه فى سنة 582 ابنه العزيز فى حكم مصر، وأقطع أخاه العادل مديرية الشرقية، فغضب ابن أخيه تقى الدين عمر، وأخذ يعد العدة للمسير بجيشه لفتح المغرب، يلتمس لنفسه ملكا هناك

(5) كان صلاح الدين قد أناب عنه في سنة 582 ابنه العزيز في حكم مصر، وأقطع أخاه العادل مديرية الشرقية، فغضب ابن أخيه تقى الدين عمر، وأخذ يعد العدة للمسير بجيشه لفتح المغرب، يلتمس لنفسه ملكا هناك، وهذه قطعة من خطاب بقلم القاضى الفاضل أرسله صلاح الدين إلى ابن أخيه تقى الدين عمر في هذا المعنى عن (أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 70) سبب هذه الخدمة ما اتصل بالملوك من تردّد رسائل مولانا في التماس السّفر إلى الغرب، والدستور إليه. (يكفى الزمان فما لنا نستعجل). يا مولانا: ما هذا الواقع الذى وقع، وما هذا الغريم من الهمّ الذى ما اندفع، بالأمس ما كان لكم من الدنيا إلا البلغة، واليوم قد وهب الله هذه النعمة، وقد كان الشمل مجموعا، والهمّ مقطوعا ممنوعا، أفتصبح الآن الدنيا ضيقة علينا وقد وسعت؟ والأسباب بنا مقطوعة، ولا والله، ما انقطعت؟. يا مولانا: إلى أين؟ وما الغاية؟ وهل نحن في ضائقة من عيش، أو في قلة من عدد، أو في عدم من بلاد، أو في شكوى من عدم؟. كيف نختار على الله وقد اختار لنا؟ وكيف ندبر لأنفسنا وهو قد دبّر لنا؟

وكيف ننتجع الجدب ونحن في دار الخصب؟ وكيف نعدل إلى حرب الإسلام المنهىّ عنها ونحن في المدعو إليها من حرب أهل الحرب؟. معاشر الخدّام والجيش وأرباب العقول والآراء أليس فيكم رجل رشيد؟! تعقّب الرّأى، وانظر في أواخره ... فطالما التهمت قدما أوائله لازال مولانا يمضى الآراء صائبة، ويلحظها بادية وعاقبة، ولا خلت منه دار - إن خلت - فهيهات أن تعمر، ولا عدمته أيام إن لم تطلع فيها شمس وجهه دخلت في عداد الليالى فلم تذكر.

(6) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى ديوان الخلافة ببغداد يعتذر له عن تأخر الكتب، ويذكر له خبر صاحب قسطنطينية وصاحب صقلية من ملوك النصرانية من الروم والفرنج

(6) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى ديوان الخلافة ببغداد يعتذر له عن تأخر الكتب، ويذكر له خبر صاحب قسطنطينية وصاحب صقلية من ملوك النصرانية من الروم والفرنج عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 6، ص 515 - 516) سلام الله الأطيب، وبركاته التي يستدرّها الحضّر والغيّب؛ وزكواته التي ترفع أولياءه إلى الدّرج، ونعمه التي لم تجعل على أهل طاعته في الدين من حرج - على مولانا سيد الخلق، وسادّ الخرق، ومسدّد أهل الحق، ولابس الشعار لأطهر سوادا، ومستحقّ الطاعة التي أسعد الله من خصّه بها بدءا ومعادا، ومولى الأمة الذى تشابه يوم نداه وبأسه إن ركض جودا أو جوادا؛ وواحد الدهر الذى لا يثنّى وإليه القلوب تثنى، ولا يقبل الله جمعا لا يكون لولائه جمع سلامة لا جمع تكسير، ولا استقبال قبلة ممن لا تكون محبته في قلبه تقيم واسمه في عمله إلى الله يسير، مولانا أمير المؤمنين، وعلى آبائه المالئى الأرض عدلا، الملاء أهلا وفضلا، والضاربين فيصلا والقائلين فصلا، ومن تقول الجنة لأهلها بهم أهلا، المخصوصين بالعناية الإلهية، الحاكمين فكلّ أمة بطاعتهم مأمورة وعن معصيتهم منهية، والمشرفى الأسارير على أسرّة الشرف فكم ملأت البهو مناظر هم البهية. المملوك يخدم الحرم الشريف باحترامه، والفناء الكريم بإعظامه؛

والبساط المقبّل بطول استلامه، والستر الذى أسبله الله على العباد بتحيته وسلامه؛ وينهى أنه آخر الخدم عن أن ينتظم الأوقات المتجددة، ويقتضب الحالات المتجردة، والرسل عن أن تتوارد دراكا، وتتوالى وشاكا؛ والإنهاءات عن أن تثبت بالمقامات الشريفة النبوية، ومجالس العرض العليّة؛ ما انتهت إليه الأقدار، وما أفضى إليه من كثير المناجح وقليل الأعذار؛ فإن أدب الأمالى عن المطالعة كالصوم لا يفضّ ختامه، ولا يحلّ نظامه إلا بعيد يطلع هلاله مبشرا، ويبثّ خبره في الآفاق معطّرا، فلو أن متكلفا أفطر قبل موعده، وورد الماء قبل مورده، لكان مفسدا لعقده، ناكثا لعهده. كذلك المملوك أمسك حين كانت الأخبار بجانبه مشتبهة، والحقائق لديه غير متوجّهة، فإن طاغيتى الكفر بقسطنطينية وصقلية كانا قد أو قدا للحرب نارا، ورفعا لها أوزارا، واتخذا لها أسطولا جاريا وعسكرا جرارا، وتباريا ولم يزد الله الظالمين إلا تبارا؛ وكتبا إلى الفرنج بعد انهزامهم بالنجدة والنصرة، وتضمنا لهم الخروج والكره، ويصفان ما استعدا به بما لا يعبر عنه إلا بالكثرة، واستطارت الشناعة وتداولتها الألسن، وخرجت من الأفواه حتى لقد كادت تدخل فيما رأته الأعين، وورد إلى المملوك رسول من طاغية القسطنطينية، وهو أقدم ملوك النصرانية قدما وأكثرهم ما لا منتمى، فعرض عليه موادعة يكون بها عسكره مودعا، ويكون له بها مفزعا، له ولصاحب صقلية الذى زعم أنه أصل للشريكون الشر منه مفرّعا؛ فلم. . . ولم يجب إلى السلم، ولم يزعه أن عسكره - خذله الله - مبار في البرّ وفى اليمّ، إن شاء الله تعالى.

(7) رسالة بقلم القاضى الفاضل مرسلة من السلطان الملك الناصر صلاح الدين إلى أخيه الملك العادل أبى بكر

(7) رسالة بقلم القاضى الفاضل مرسلة من السلطان الملك الناصر صلاح الدين إلى أخيه الملك العادل أبى بكر بشأن انتصار الأسطول المصرى بقيادة أميره حسام الدين لؤلؤ على أسطول الصليبيين الذى جرؤ فعبر مياه البحر الأحمر قاصدا مهاجمة مدينتى مكة والمدينة وذلك في شوال سنة 578 (عن: أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 36) «وصل كتابه المؤرخ بخامس ذى القعدة المسفر عن المسفر من الأخبار، المتبسّم عن المتبسم من الآثار، وهى نعمة تضمنت نعما، ونصرة جعلت الحرم حرما، وكفاية ما كان الله ليؤخّر معجزة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - بتأخيرها، وعجيبة من عجائب البحر التي يحدّث عن تسييرها وتسخيرها، وما كان الحاجب لؤلؤ فيها إلا سهما أصاب، وحمد مسدّده، وسيفا قطع، وشكر مجرّده، ورسولا عليه البلاغ وإن لم يجهل ما أثرته يده، وقد غبطناه بأجر جهاده، ونجح اجتهاده، ركب السبيلين: برا وبحرا، وامتطى السابقين: مركبا وظهرا، وخطا فأوسع الخطو، وغزا فأنجح الغزو، وحبذا العنان الذى في هذه الغزوة أطلق، والمال الذى في هذه الكرّة أنفق. وهؤلاء الأسارى فقد ظهروا على عورة الإسلام وكشفوها، وتطرّقوا بلاد القبلة وتطوّفوها، ولو جرى في ذلك سبب - والعياذ بالله - لضاقت الأعذار

إلى الله والخلق، وانطلقت الألسن بالمذّمة في الغرب والشرق، ولا بد من تطهير الأرض من أرجاسهم، والهواء من أنفاسهم، بحيث لا يعود منهم مخبر يدلّ الكفّار على عورات المسلمين، وإن هذا العدد القليل، قد نال ذلك المنال الجليل، وهذا مقام إن روعى فيه حراسة الظاهر، والوفاء للكافر، حدث الفتق الذى لا يمكن في كل الأوقات سدّه ورتقه، ولدغ المؤمن مرتين، والأولى تكفى لمن له في النظر تفقّه».

(8) قطعة من خطاب ثان بقلم القاضى الفاضل، مرسل من صلاح الدين - وكان فى الشام - إلى أخيه العادل - فى مصر - بشأن الانتصار سالف الذكر، وفيه يأمره بالإسراع بقتل أسرى الفرنج حتى لا يبقى منهم أحد يخبر بطريق ذلك البحر (الأحمر)

(8) قطعة من خطاب ثان بقلم القاضى الفاضل، مرسل من صلاح الدين - وكان في الشام - إلى أخيه العادل - في مصر - بشأن الانتصار سالف الذكر، وفيه يأمره بالإسراع بقتل أسرى الفرنج حتى لا يبقى منهم أحد يخبر بطريق ذلك البحر (الأحمر) عن: (أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 36) «ونحن نهنىء المجلس السامى بظفره ولم لا يكمّله وينصره؟ ولم لا يعجّله ويشكره؟ وليس في قتل هؤلاء الكفّار مراجعة، ولا للشرع في إبقائهم فسحة، ولا في استبقاء واحد منهم مصلحة، ولا في التغاضى عنهم عند الله عذر مقبول، ولا حكم الله في أمثالهم عند أهل العلم بمشكل ولا مجهول، فليمض العزم في قتلهم، ليتناهى أمثالهم عن فعلهم، وقد كانت عظيمة ما طرق الإسلام بمثلها، وقد أتى الله بعدها بلطيفة أجراها على يد من رآه من أهلها».

(9) قطعة من خطاب ثالث بقلم الفاضل مرسل من صلاح الدين إلى العادل فى مصر يكرر فيه ضرورة القضاء على أسرى الفرنج فى الموقعة السابقة الذين جرءوا على اجتياز بحر الحجاز

(9) قطعة من خطاب ثالث بقلم الفاضل مرسل من صلاح الدين إلى العادل في مصر يكرر فيه ضرورة القضاء على أسرى الفرنج في الموقعة السابقة الذين جرءوا على اجتياز بحر الحجاز عن: (أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 36 - 37) «قد تكرّر القول في معنى أسارى بحر الحجاز، فلا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا، ولا توردهم بعد ماء البحر إلا نارا، فأقلّهم إذا بقى جنى الأمر الأصعب، ومتى لم تعجل الراحة منهم وعدت العاقبة بالأشقّ الأتعب».

(10) قطعة من خطاب آخر مرسل من صلاح الدين إلى الخليفة فى بغداد بشأن الغزوة الفرنجية سالفة الذكر فى البحر الأحمر

(10) قطعة من خطاب آخر مرسل من صلاح الدين إلى الخليفة في بغداد بشأن الغزوة الفرنجية سالفة الذكر في البحر الأحمر عن: (أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 37) «وسارت المراكب الإسلامية طالبة شوكة المراكب الحربية المتعرضة للمراكب الحجازية واليمنية، وكانت مراكب العدو قد أوغلت في البحر، ودلّها على عورات الساحلين من العرب من أشبه ركّلبها في الكفر، فوصلت إلى عيذاب فلم ينل منها مرادا، غير أن ما وجدته في طريقها أو في فرضة عيذاب نالت منه وشعّثت، وأفسدت فيه وعثت، وتمادت في الساحل الحجازى إلى رابغ إلى سواحل الحوراء، وهناك وقع عليها أصحابنا وأوقعوا بها أشد إيقاع، وأخذوا المراكب الفرنجية على حكم البدار والإسراع، ففرّ فرنجها إلى الساحل، فركب أصحابنا وراءهم خيول العربان التي وجدوها، وأخذوا الكفّار من شعاب وجبال اعتصموا بها وقصدوها، وكفى المسلمون أشدّ فساد في أرضهم، وأقطع قاطع لفرضهم، وانبسطت آمالهم بقبضهم، وعميت على الكفّار هذه الطريق التي لو كشف لهم غطاؤها قدما، ولو أحاطوا بها علما، لاشتطت نكايتهم، واشتدت جنايتهم، وعزّ على قدماء ملوك مصر أن يصرعوا هذه الأقران، ويطفئوا هذه النيران ويركبوا غوارب اللجج، ويرخصوا غوالى المهج، ويقتنصوا هذا هذا الطائر من جوّه الذى لا يدرك لوحه، ويدركوا هذا العدوّ الذى لا يدرك إلا أن تستنجد عليه ملائكة الله وروحه».

(11) قطعة من خطاب آخر مرسل من صلاح الدين إلى الخليفة ببغداد بشأن غزوة الفرنج سالفة الذكر فى البحر الأحمر، وبهذا الخطاب تفصيلات جديدة هامة

(11) قطعة من خطاب آخر مرسل من صلاح الدين إلى الخليفة ببغداد بشأن غزوة الفرنج سالفة الذكر في البحر الأحمر، وبهذا الخطاب تفصيلات جديدة هامة عن (أبو شامة: الروضتين؛ ج 2، ص 37) «كان الفرنج قد ركبوا من الأمر نكرا، وافتضّوا من البحر بكرا، وعمّروا مراكب حربية شحنوها بالمقاتلة والأسلحة والأزواد، وضربوا بها سواحل اليمن والحجاز، وأثخنوا وأوغلوا في البلاد، واشتدت مخافة أهل تلك الجوانب، بل أهل القبلة لما أومض إليهم من خلل العواقب، وما ظنّ المسلمون إلا أنها الساعة وقد نشر مطوىّ أشراطها، والدنيا وقد طوى منشور بساطها، وانتظر غضب الله لفناء بيته المحرّم، ومقام خليله الأكرم، وتراث أنبيائه الأقدم، وضريح نبيّه الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ورجوا أن تشحذ البصائر آية كآية هذا البيت إذ قصده أصحاب الفيل، ووكلوا إلى الله الأمر، وكان حسبهم ونعم الوكيل. وكان للفرنج مقصدان: أحدهما قلعة أيلة، التي هى على فوّهة بحر الحجاز ومداخله، والآخر الخوض في هذا البحر الذى تجاوره بلادهم من ساحله، وانقسموا فريقين، وسلكوا طريقين: فأما الفريق الذى قصد قلعة أيلة فإنّه قدّر أن يمنع أهلها من مورد الماء الذى به قوام الحياة، ويقاتلهم بنار العطش المشبوب الشباه؛ وأما الفريق القاصد سواحل الحجاز واليمن، فقدّر أن يمنع طريق الحاج عن حجّه، ويحول بينه وبين فجّه، ويأخذ تجّار اليمن وأكارم

عدن، ويلمّ بسواحل الحجاز، فيستبيح - والعياذ بالله - المحارم، ويهيج جزيرة العرب بعظيمة دونها العظائم. وكان الأخّ سيف الدين بمصر قد عمّر مراكب وفرّقّها على الفرقتين، وأمرها بأن تطوى وراءهم الشقتين: فأما السائرة إلى قلعة أيلة فإنها انقضّت على مرابطى الماء انقضاض الجوارح على بنات الماء، وقذفتها قذف شهب السماء، مسترقى سمع الظلماء، فأخذت مراكب العدوّ برمّتها، وقتلت أكثر مقاتلتها إلا من تعلّق بهضبة وما كاد، أو دخل في شعب وما عاد، فإنّ العربان اقتصّوا آثارهم، والتزموا إحضارهم، فلم ينج منهم إلا من ينهى عن المعاودة، ومن قد علم أنّ أمر الساعة واحدة؛ وأما السائرة إلى بحر الحجاز فتمادت في الساحل الحجازى إلى رابغ وسواحل الحوراء، فأخذت تجّارا، وأخافت رفاقا، ودلّها على غوارب البلاد من الأعراب من هو أشدّ كفرا ونفاقا، وهناك وقع عليها أصحابنا، وأخذت المراكب بأسرها، وفرّ فرنجها بعد إسلام المراكب، وسلكوا في الجبال مهاوى المهالك ومعاطن المعاطب، وركب أصحابنا وراءهم خيل العرب يشلونهم شلا، ويقنصونهم أسرا وقتلا، وما زالوا يتبعونهم خمسة أيام خيلا ورجلا، نهارا وليلا، حتى لم يتركوا عنهم خبرا، ولم يبقوا لهم أثرا، {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً} وقيد منهم مائة وسبعون أسيرا».

(12) قطعة من خطاب مرسل من صلاح الدين - وكان بالشام - إلى الخليفة فى بغداد ينقل إليه أخبار بعض انتصارات أسطوله على الفرنج فى البحر المتوسط، وبعض انتصارات عسكره فى المغرب

(12) قطعة من خطاب مرسل من صلاح الدين - وكان بالشام - إلى الخليفة في بغداد ينقل إليه أخبار بعض انتصارات أسطوله على الفرنج في البحر المتوسط، وبعض انتصارات عسكره في المغرب عن: (أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 37) «ومن جملة البشائر الواصلة من مصر عود الأسطول مرة ثانية كاسرا كاسبا، غانما غالبا، بعد نكايته في أهل الجزائر، وإخراب ما وجده فيها من الأعمال والعمائر، ومن جملة ما ظفر به في طريقة: بطشة من مراكب الفرنج تحمل أخشابا منجورة إلى عكا، ومعها تجارون ليبنوا منها شوانى، فأسر النجارون ومن معهم، وهم نيف وسبعون، وأما الأخشاب فقد انتفع بها المجاهدون، وكفى شرّها المؤمنون، وللخادم في المغرب عسكر قد بلغت أقصى إفريقية فتوحه، وعاود به شخص الدين في تلك للبلاد روحه».

(13) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى «بردويل» أحد ملوك الفرنج، وهو يومئذ مستول على بيت المقدس وما معه، معزيا له فى أبيه، ومهنئا له بجلوسه فى الملك بعده

(13) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى «بردويل» أحد ملوك الفرنج، وهو يومئذ مستول على بيت المقدس وما معه، معزّيا له في أبيه، ومهنئا له بجلوسه في الملك بعده عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 7، ص 115 - 116) أما بعد - خصّ الله الملك المعظّم حافظ بيت المقدس بالجدّ الصاعد، والسّعد الساعد، والحظّ الزائد. والتوفيق الوارد، وهنأه من ملك قومه ما ورّثه، وأحسن من هداه فيما أتى به الدهر وأحدثه؛ فإن كتابنا صادر إليه عند ورود الخبر بما ساء قلوب الأصادق، والنّعى الذى وددنا أن قائله غير صادق؛ بالملك العادل الأعزّ الذى لقّاه الله خير ما لقّى مثله، وبلّغ الأرض سعادته كما بلّغه محلّه؛ معزّ بما يجب فيه العزاء، ومتأسّف لفقده الذى عظمت به الأرزاء؛ إلا أنّ الله سبحانه قد هوّن الحادث، بأن جعل ولده الوارث، وأنسى المصاب، بأن حفظ به النّصاب، ووهبه النعمتين: الملك والشّباب، فهنيئا له ما حاز، وسقيا لقبر والده الذى حقّ له الفداء لو جاز؛ ورسولنا الرئيس العميد مختار الدين أدام الله سلامته قائم عنا بإقامة العزاء من لسانه، ووصف ما نالنا من الوحشة لفراق ذلك الصديق وخلوّ مكانه، وكيف لا يستوحش ربّ الدار لفرقة جيرانه. وقد استفتحنا الملك بكتابنا وارتيادنا، وودّنا الذى هو ميراثه عن والده

من ودادنا، فليلق التحيّة بمثلها وليأت الحسنة ليكون من أهلها، وليعلم أنّا له كما كنا لأبيه: مودّة صافية، وعقيدة وافية، ومحبّة ثبت عقدها في الحياة والوفاة، وسريرة حكمت في الدنيا بالموافاة، مع ما في الدّين من المخالفات. فليسترسل إلينا استرسال الواثق الذى لا يخجل، وليعتمد علينا اعتماد الولد الذى لا يحمل عن والده ما تحمّل، والله يديم تعميره، ويحرس تأميره، ويقضى له بموافقة التوفيق، ويلهمه تصديق ظنّ الصديق.

(14) قطعة من خطاب مرسل من القاضى الفاضل إلى السلطان صلاح الدين فى نفس السنة 582 بشأن موقف أخيه العادل وابن أخيه المظفر تقى الدين عمر منه وطمعهما فى ملك يطمئنان إليه

(14) قطعة من خطاب مرسل من القاضى الفاضل إلى السلطان صلاح الدين في نفس السنة 582 بشأن موقف أخيه العادل وابن أخيه المظفر تقى الدين عمر منه وطمعهما في ملك يطمئنان إليه (عن: أبو شامة الروضتين، ج 2؛ ص 71) «الملك العادل والملك المظفر المذكوران ما هما أخ وابن أخ، بل هما ولدان لا يعرفان إلا المولى والدا ومنعما، وكل واحد منهما له عشّ كثير الفراخ، وبيت كرقعة الشطرنج فيه صغار وكبار كالبيادق والرخاخ، فلا يقنع كلّ واحد منهما إلا طرف يملكه وأقليم يتفرّد به، فيدبّر مولانا في ذلك بما يقتضيه صدره الواسع وجوده الذى ما نظر مثله الناظر ولا سمع السامع، ولا ينسى قول عمر بن الخطاب - رضى الله عنه -: «مروا القرابة أن يتزاوروا ولا يتجاوروا». وما على مولانا عجلة في تدبير يدبّره ولا في أمر يبيّته، (وستبدى لك الأيام ما كنت عارفا). وفى غد ما ليس في اليوم، ولله أقدار، ولها أمد، وقد رزق الله مولانا ذرية تودّ لو قدمت أنفسها بين يديه، ولو اكتحلت أجفانها بغبار قدميه،

ما فيها من يشكى منه إلا التزيد في الطّلب، وهو من باب الثقة بكرم المنعم، ولهم أولاد، والمولى مدّ الآمال لهم، كما قال مولى الأمة: «تناكحوا، تناسلوا، فإنى مكائر بكم الأمم». طالما قال لهم المولى: «لدوا، وعلىّ تجهيز الإناث. وغنى الذكور، وسواء على أفق هذا البيت طلوع الشمس والبدور».

(15) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين فى جواب كتاب ورد عليه مخبرا فيه بالحركة للقاء العدو

(15) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين في جواب كتاب ورد عليه مخبرا فيه بالحركة للقاء العدو عن: (القلقشندى: صبح الأعشى. ج 7. ص 111 - 112) ورد على المملوك - أدام الله أيام المجلس العالى الملكىّ الناصرى، ونصره على أعدائه، وملّكه أرضه بعدل حكم سمائه، ولا أخلى من نعمتى خيره ونظره قلوب وعيون أوليائه، وأعزّ الإسلام ورفع عن أهله البلوى بلوائه. الكتب القديمة التي تسرّ الناظرين من شعارها الأصفر، وتبشّر الأولياء إن كانوا غائبين مع الغيّب بأن حظّهم حاضر مع الحضّر؛ وقد كانت الفترة قد طالت أيامها، واستطالت آلامها، والطّرقات قد سبق إلى الأنفس إبهامها. فالحمد لله الذى أذهب عنّا الحزن وأولى من النعمة ما اشترى الحمد بلا ثمن؛ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ووعد الله سبحانه منتظر، إذ يقول في كتابه: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} وصدق صلّى الله عليه وسلم في قوله: «إنّ اختيار الله للمؤمن خير من اختياره، وإنّ مواضع الأمل للعبد خير منها مواقع أقضية الله وأقداره». فقد كانت حركة احتاجت إليها البلاد التي انفصل عنها، والبلاد التي قدم عليها. أما المصرية منها فبكونها على عدّة

من نجدته آجلا، وأما الشامية فبكونها على ثقة من نصره عاجلا؛ فقد تماسكت من المسلمين الأرماق، وقد انقطعت من المشركين الأعناق: تهاب بك البلاد تحلّ فيها ... ولولا اللّيث ما هيب العرين وعرض المملوك ما وصل إليه من مكاتبات المولى على العلم العادلىّ وأدركها تحصيلا، وأحاط بها جملة وتفصيلا؛ والمولى - خلّد الله ملكه - فكلّ ما أشار إليه من عزيمة أبداها، ونية أمضاها، فهو الصواب الذى أوضح الله له مالكه، والتوفيق الذى قرّب الله عليه مداركه؛ ومن أطاع الله أطاعه كلّ شىء؛ ومن استخاره بيّن له الرّشد من الغىّ؛ والله تعالى يجعل له من كلّ حادثة نخوة، ويكتب أجره في كلّ حركة ونفس وخطوه. إن شاء الله تعالى.

(16) قطعة من خطاب أرسله السلطان صلاح الدين إلى بعض إخوانه وهو يجمع الجموع ويحشد الحشود فى سنة 582 هـ‍ استعدادا لموقعة حطين

(16) قطعة من خطاب أرسله السلطان صلاح الدين إلى بعض إخوانه وهو يجمع الجموع ويحشد الحشود في سنة 582 هـ‍ استعدادا لموقعة حطين (عن: أبو شامة: الروضتين: ج 2: ص 75) «كتبت هذه المكاتبة من جسر الخشب ظاهر دمشق، وقد ورد السلطان أعزّ الله أنصاره للغزاة إلى بلاد الكفر، في عسكر فيه عساكر، وفى جمع البادى فيه كأنه حاضر، وفى حشد يتجاوز أن يحصّله الناظر إلى أن لا يحصله الخاطر، وقد نهضت به همّة لا يرجى غير الله لإنهاضها، وحجبت به عزمة الله المسئول في حسم عوارض اعتراضها، وباع الله نفسا يستمتع أهل الإسلام بصفقتها، ويذهب الله الشّرك بهيبتها، وأرجو أن يتمخّض عن زبدة، وتستريح الأيدى بعدها عن المخض، وأن يكون الله قد بعث سنتجة نصرة الإسلام وسلطانه قد نهض للقبض».

(17) خطاب مرسل من عبد الله بن أحمد المقدسى - وكان مقيما بعسقلان - إلى بغداد فى وصف موقعة حطين

(17) خطاب مرسل من عبد الله بن أحمد المقدسى - وكان مقيما بعسقلان - إلى بغداد في وصف موقعة حطين (أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 81 - 82، عن ابن القادسى المؤرخ البغدادى) «كتبت هذا الكتاب من عسقلان يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وفيه»: ولو حمدنا الله عزّ وجلّ طول أعمارنا ما وفينا بعشر معشار نعمته التي أنعم بها علينا من هذا الفتح العظيم: فإنا خرجنا إلى عسكر صلاح الدين، وتلاحق الأجناد حتى جاء الناس من: الموصل، وديار بكر، وإربل، فجمع صلاح الدين الأمراء، وقال: «هذا اليوم الذى كنت أنتظره، وقد جمع الله لنا العساكر، وأنا رجل قد كبرت، وما أدرى متى أجلى، فاغتنموا هذا اليوم، وقاتلوا لله تعالى لا من أجلى»، فاختلفوا في الجواب، وكان رأى أكثرهم لقاء الكفّار، فعرض جنده ورتّبهم، وجعل تقىّ الدين في الميمنة، ومظفّر الدين في الميسرة، وكان هو في القلب، وجعل بقيّة العسكر في الجناحين. ثم ساروا على مراتبهم حتى نزلوا الأقحوانة، فتركوا بها أثقالهم، وساروا حتى نزلوا بكفر سبت، فأقاموا يومين ينتظرون أن يبرز لهم الكفّار، وكان عسكر الكفار على صفورية، فلم يبرزوا، فعاد صلاح الدين حتى نزل على طبرية، فتقدّم

فرسانه وحماته ورماته والنقابون فدخلوا تحت الحصن، فلما تمكن النقب منه انهال؟؟؟ من غير وقودنا، ودخل المسلمون فانتهبوا يوم الخميس. وأصبحوا يوم الجمعة فشرعوا في نقب القلعة، فلما كان وقت الصلاة جاء الخبر أن الكفّار قد توجهوا إلينا، فارتحل صلاح الدين على صفوفه، فلقيهم، ثم لم يزالوا يتقدمون حتى صار المسلمون محيطين بهم، وصار قالب المسلمين خلفهم، فتراموا ساعة، وبات كل فريق على مصافهم. ثم أصبحوا، فسار الكفّار يقصدون طبرية، والمسلمون حولهم يلحون عليهم بالرمى، فاقتلع المسلمون منهم فوارس، وقتلوا خيّالة ورجّالة، فانحاز المشركون إلى تلّ حطين، فنزلوا عنده، ونصبوا الخيام، وأقام الناس حولهم إلى أن انتصف النهار، وهبت الرياح، فهجم المسلمون عليهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، ولم يفلت منهم إلا نحو من مائتين، وكانوا كما قيل اثنين وثلاثين ألفا، وقيل ثلاثة وعشرين ألفا، لم يتركوا في بلادهم من يقدر على القتال إلا قليلا. وكان الذى أسر الملك هو درباس الكردى، وغلام الأمير إبراهيم المهرانى أسر الإبرنس، وقتل صلاح الدين الإبرنس بيده لأنه كان قد غدر وأخذ قافلة من طريق مصر. ثم عاد صلاح الدين إلى طبرية، فأخذ قلعتها بالأمان، ثم ضرب أعناق الأسارى الذين كانوا في العسكر، وأرسل إلى دمشق فضربت أعناق الذين بها منهم».

(18) لم يكن القاضى الفاضل حاضرا موقعة حطين، بل كان فى دمشق، ومنها أرسل هذا الخطاب إلى صلاح الدين يهنئه بالنصر العظيم

(18) لم يكن القاضى الفاضل حاضرا موقعة حطين، بل كان في دمشق، ومنها أرسل هذا الخطاب إلى صلاح الدين يهنئه بالنصر العظيم (عن: أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 82 - 83) «ليهن المولى أنّ الله قد أقام به الدين القيّم؛ وأنه كما قيل: أصبحت مولاى ومولى كل مسلم، وأنّه قد أسبغ عليه النعمتين الباطنة والظاهرة، وأورثه الملكين: ملك الدنيا وملك الآخرة. كتب المملوك هذه الخدمة والرءوس إلى الآن لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، وكلما فكّر الخادم أن البّيع تعود وهى مساجد، والمكان الذى كان يقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة يقال اليوم فيه إنّه الواحد، جدّد لله شكرا: تارة يفيض من لسانه، وتارة يفيض من جفنه؛ وجزاء يوسف خيرا عن إخراجه من سجنه؛ والمماليك ينتظرون أمر المولى؛ فكلّ من أراد أن يدخل الحمّام بدمشق قد عوّل على دخول حمّام طبرية، تلك المكارم لاقعيان من لبن، وذلك الفتح لا عمان واليمن؛ وذلك السيف لا سيف ابن ذى يزن، وللألسنة بعد في هذا الفتح شرح طويل، وقول جليل».

(19) خطاب من السلطان صلاح الدين إلى بغداد فى وصف وقعة حطين، والخطاب بقلم القاضى الفاضل كتبه من عكا بعد أن فتحها صلاح الدين بعيد انتصاره فى حطين

(19) خطاب من السلطان صلاح الدين إلى بغداد في وصف وقعة حطين، والخطاب بقلم القاضى الفاضل كتبه من عكا بعد أن فتحها صلاح الدين بعيد انتصاره في حطين (عن: أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 87) «صبّح الخادم طبرية فافتضّ عذرتها بالسيف، وهجم عليها هجوم الطيف، وتفرّق أهلها بين الأسر والقتل، وعاجلهم الأمر فلم يقدروا على الخداع والختل، وجاء الملك ومن معه من كفارّه، ولم يشعر أن ليل الكفر قد آن وقت إسفاره، فأضرم الخادم عليهم نارا ذات شرار، أذكرت بما أعدّ الله لهم في دار القرار، فترجّل هو ومن معه عن صهوات الجياد، وتسنّموا هضبة رجاء أن تنجيهم من حرّ السيوف الحداد، ونصبوا للملك خيمة حمراء وضعوا على الشّرك عمادها، وتولّت الرجال حفظ أطنابها فكانوا أوتادها، فأخذ الملك أسيرا، وكان يوما على الكافرين عسيرا، وأسر الإبرنس - لعنه الله - فحصد بذره، وقتله الخادم بيده، ووفّى بذلك نذره. وأسر جماعة من مقدمى دولته، وكبراء ضلالته، وكانت القتلى تزيد على أربعين ألفا، ولم يبق أحد من الديوية، فلله هو من يوم تصاحب فيه الذئب أو النسر، وتداول فيه القتل والأسر. أصدر الخادم هذه الخدمة من ثغر عكّا، والإسلام قد اتسع مجاله، وتصرّف أنصاره ورجاله، والكفر قد ثبتت أوجاله ودنت آجاله».

(20) قطعة من خطاب آخر مرسل من صلاح الدين وهو فى عكا للبشرى بانتصاره فى وقعة حطين

(20) قطعة من خطاب آخر مرسل من صلاح الدين وهو في عكا للبشرى بانتصاره في وقعة حطين (أبو شامة: الروضتين، ج 2 ص 87، عن العماد الأصفهانى) «ولما أحيط بالقوم أوى ملكهم إلى جبل يعصمه من العوم، فأسمعه السيف: لا عاصم اليوم، واستولى الخذلان عليهم بأسرهم، وبردت أيدى المؤمنين بحرّ قتلهم وأسرهم، ولم يبق لهم باقيه، وغصّت بقتلاهم في الدنيا والآخرة أرض الله الواسعة ونار الله الحامية، فما يطأ من يصل إلى مخيّمهم إلى على رممهم البالية، وأسر الملك وأخوه، وبارونيته ومقدّموه، ولم يفلت منهم إلا القمّص وهو مسلوب، ولا بد أن ندركه فهو مطلوب. وقد كنّا نظرنا ضرب رقبة الابرنس صاحب الكرك الغدّار، كافر الكفّار، ونشيدة النار، فلما رأيناه ضربنا عنقه سريعا، وسرنا إلى عكّا وهى بيضة ملكهم، وواسطة سلكهم، ومركز دائرة كفرهم، ومجمع جمع برّهم وبحرهم، فتسلمناها بالآمان. والصخرة المقدّسة الآن بنا تصرخ وتستغيث، وعباد الله الصالحون قد وصلت إليهم بوعد الله الصادق المواريث، والبشارة بفتح القدس لا تتأخر، والهمم بعد هذا الفتح السنى على ذلك تتوفر، والحمد لله الذى تتمّ الصالحات بمحمده، ما يفتح الله للنّاس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده» (¬1) ¬

(¬1) الآية 2 (ك) سورة فاطر.

(21) خطاب بقلم العماد الأصفهانى مرسل من صلاح الدين إلى الديوان العزيز ببغداد يصف فيه انتصاراته فى حطين وعكا، واستيلاءه على معظم مدن الساحل وهو يتهيأ لاستعادة بيت المقدس (أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 89، عن العماد)

(21) خطاب بقلم العماد الأصفهانى مرسل من صلاح الدين إلى الديوان العزيز ببغداد يصف فيه انتصاراته في حطين وعكا، واستيلاءه على معظم مدن الساحل وهو يتهيأ لاستعادة بيت المقدس (أبو شامة: الروضتين، ج 2، ص 89، عن العماد) «ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون. الحمد لله على ما أنجز من هذا الوعد، وعلى نصرته لهذا الدين الحنيف من قبل ومن بعد، وجعل بعد عسر يسرا، وقد أحدث الله بعد ذلك أمرا، وهوّن الأمر الذى ما كان الإسلام يستطيع عليه صبرا، وخوطب الدين بقوله: «ولقد مننّا عليك مرّة أخرى»، فالأولى في عصر النبى - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، والأخرى هذه التي عتق فيها من رقّ الكآبة فهو قد أصبح حرا، ربّان الكبد الحرّى، والزمان كهيئته استدار، والحق ببهجته قد استنار، والكفر قد ردّ ما كان عنده من المتاع المستعار. فالحمد لله الذى أعاد الإسلام جديدا ثوبه، بعد أن كان جذيذا حبله، مبيضا نصره، مخضرّا نصله، متسعا فضله، مجتمعا شمله. والخادم يشرح من نبأ هذا الفتح العظيم والنصر الكريم ما يشرح صدور المؤمنين، وليمنح الحبور لكافّة المسلمين، ويورد البشرى بما أنعم الله به من يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر إلى يوم الخميس منسلخة،

وتلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما، سخّرها الله على الكفار، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز تخل خاوية، وإذا رأيت ثمّ رأيت البلاد على عروشها خالية ورأيتها إلى الإسلام ضاحكة كما كانت من الكفر باكية. فيوم الخميس الأول فتحت طبرية. ويوم الجمعة والسبت نوزل الفرنج فكسروا الكسرة التي ما لهم بعدها قائمة، وأخذ الله أعداءه بأيدى أوليائه أخذ القرى وهى ظالمة. وفى يوم الخميس منسلخ الشهر فتحت عكا بالأمان، ورفعت بها أعلام الإيمان، وهى أمّ البلاد، وأخت إرم ذات العماد. وقد أصدر هذه المطالعة وصليب الصلبوت مأسور، وقلب ملك الكفر الأسير بجيشه المكسور مكسور، والحديد الكافر الذى كان في يد الكفر يضرب وجه الإسلام قد صار حديدا مسلما يعوق خطوات الكفر عن الإقدام، وأنصار الصليب وكباره وكلّ من المعمودية عمّدته والدير داره قد أحاطت به يد القبضة وغلّق رهنه فلا تقبل فيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. وطبرية قد رفعت أعلام الإسلام عليها، ونكصت من عكا ملّة الكفر على عقبيها، وعمرت إلى أن شهدت يوم الإسلام وهو خير يوميها، وقد صارت البيع مساجد يعمرها من آمن بالله واليوم الآخر، وصارت المذابح مواقف لخطباء المنابر، واهتزت أرضها لموقف المسلم فيها وطالما ارنجت لموقف الكافر، فأما القتلى والأسرى فإنها تزيد على ثلاثين ألفا. وأما فرسان الداوية والاسبتارية فقد أمضى حكم الله فيهم، وقطع بهم سوق نار الجحيم ورحل الراحل منهم إلى الشقاء المقيم، وقتل الابرنس كافر الكفّار، ونشيدة النار، من يده في الإسلام كما كانت يد الكليم.

والبلاد والمعاقل التي فتحت هى: طبرية. عكا. الناصرة صفورية. قيسارية. نابلس. حيفا. معليا. الفوله. الطور. الشقيف. وقلاع بين هذه كبيرة. والملك المظفر. تقىّ الدين - ظفّره الله - مضايق لصور وحص تبنين. والأخ العادل سيف الدين - نصره الله - قد كوتب بالوصول بمن عنده من العساكر لينزل في طريقه على غزة وعسقلان، ويجهّز مراكب الأسطول المنصورة إلى عكا. وما يتأخر النهوض إلى القدس، فهذا هو أوان فتحه، ولقد دام عليه ليل الضلال وقد آن يسفر فيه الهدى عن صبحه».

(22) خطاب أرسله السلطان صلاح الدين إلى بعض أهله يشير فيه إلى فتح معظم مدن الساحل وتهيئه للمسير لفتح بيت المقدس

(22) خطاب أرسله السلطان صلاح الدين إلى بعض أهله يشير فيه إلى فتح معظم مدن الساحل وتهيئه للمسير لفتح بيت المقدس (أبو شامة الروضتين، ج 2، ص 91، عن ابن القادسى) «انتقلنا إلى الجانب الذى فيه القدس وعسقلان، ففتحنا قلاعه كلّها، وحصونه جميعها، ومعاقله بجملتها، ومدنه بأسرها، وهى: حيفا. وقيسارية. وأرسوف. ويافا. والرملة. ولدّ. وتل الصافية. وبيت جبريل. والدير. والخليل. ونازلنا عسقلان، وهى المعقل المنيع، والحصن الحصين، والتلّ الرفيع، وفيهم من القوة والعدة والعدد ما تتقاصر الآمال عن نيل مثله، فافتتحناها سلما لتمام أربعة عشر يوما من يوم نزولنا عليها، ونصبت أعلام التوحيد على أبراجها وأسوارها، وعمرت بالمسلمين، وخلت من مشركيها وكفارها، وكبّر المؤذنون في أقطارها. ولم يبق في الساحل من جبيل إلى أوائل حدود مصر سوى القدس وصور، والعزم مصمم على قصد القدس، فالله يسمّله ويعجّله، فإذا يسّر الله تعالى فتح القدس ملنا إلى صور، والسلام».

(23) خطاب بقلم القاضى الفاضل أرسله السلطان صلاح الدين إلى الديوان العزيز - أيام الخليفة الناصر لدين الله - ينبئه بفتح القدس الشريف واستنقاذه من أيدى الصليبيين

(23) خطاب بقلم القاضى الفاضل أرسله السلطان صلاح الدين إلى الديوان العزيز - أيام الخليفة الناصر لدين الله - ينبئه بفتح القدس الشريف واستنقاذه من أيدى الصليبيين عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 8 ص 282 - 289، ج 6 ص 496 - 504 أدام الله أيام الديوان العزيز النبوى الناصرى، ولا زال مظفّر الجدّ بكلّ جاحد، غنىّ التوفيق عن رأى كل رائد، موقوف المساعى على اقتناء مطلقات المحامد؛ مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد الجود والسّحاب على الأرض غير وارد؛ متعدّد مساعى الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضى [حكم القول] بعزم لا يمضى إلا بنسل غوىّ وريش رشد، ولا زالت غيوث فضله [إلى الأولياء] أنداء إلى المرابع وأنوارا إلى المساجد، وبعدت رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد. كتب الخادم هذه الخدمة تلوما صدر عنه ممّا كان يجرى مجرى التباشير لصبح هذه الخدمة، والعنوان لكتاب وصف هذه النعمة، فإنها بحر للأقلام فيه سبح طويل، ولطف تحمّل الشكر فيه عب ثقيل؛ وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب؛ ولله في إعادة شكره رضا، وللنعمة الرّاهنة به دوام لا يقال معه هذا مضى، وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، واستتبّت عقائد أهله على أبين بصائرها،

وتقلّص ظلّ رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه، فلمّا وقع الشرط حصل المشروط؛ وكان الدّين غريبا فهو الآن في وطنه، والفوز معروضا فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمر الحقّ وكان مستضعفا، وأهل ربعه وكان قد عيف حين عفا؛ وجاء أمر الله وأنوف أهل الشّرك راغمه، فأدلجت السيوف إلى الآجال وهى نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوار أبانت أنّ الصبح عندها حيان الحين؛ واستردّ المسلمون تراثا كان عنهم آبقا، وظفروا يقظة بما لم يصدّقوا أنهم يظفرون به طيفا على النّأى طارقا؛ واستقرّت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم؛ وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة [قلوبهم] كما تشفى بالماء غللهم. ولمّا قدم الدّين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنّا كفؤها الحجر الأسود ببتّ عصمتها من الكافر بحربه، وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسى تلك البؤسى إلا رجاء هذه النّعمى، ولا يناجز من يستمطله في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنامن يتمادى في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعه، والدعوة إلى سامعها مرفوعة، فتكون كلمة الله هى العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا؛ وكانت الألسنة ربما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار؛ ومن طلب خطيرا خاطر، ومن رام صفقة رابحة تجاسر، ومن سما لأن يجلّى غمرة غامر؛ وإلا فإنّ القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فتعضّها، ويضعف بأيديها مهز القوائم فتقضّها؛ هذا إلى كون القعود لا يقضى فرض الله في الجهاد، ولا يرعى به حقّ الله في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذى تطوّقه الخادم من أئمة قضوا بالحقّ وبه كانوا

يعدلون، وخلفاء الله كانوا في مثل هذا اليوم لله يسألون؛ لا جرم أنّهم أورثوا سرّهم وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيّتهم الشريفة، وطلعتهم المنيفة، وعنوان صحيفة فضلهم لا عدم سواد العلم وبياض الصحيفه، فما غابوا لمّا حضر، ولا غضّوا لما نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولا، وشاطروه العمل لما كان عنه منقولا ومنه مقبولا؛ وخلص إليهم إلى المضاجع ما اطمأنّت به جنوبها، وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها، وفاز منها بذكر لا يزال الليل به سميرا، والنهار به بصيرا، والشّرق يهتدى بأنواره، بل إن أبدى نورا من ذاته هتف به الغرب بأن واره؛ فإنه نور لا تكنّه أغساق السّدف، وذكر لا تواريه أوراق الصّحف. وكتاب الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدوّ الذى تشظّت قناته شفقا، وطارت فرقه فرقا، وفلّ سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عددا وحصا؛ وكلّت حملاته وكانت قدرة الله تصرّف فيه العيان بالعنان، عقوبة من الله ليس لصاحب يدبها يدان؛ وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفه، وغضت عينه وكانت [عيون] السيوف دونها كسيفه؛ ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون؛ وأضحت الأرض المقدّسة الطاهرة وكانت الطّامث، والرّبّ المعبود الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشّرك مهدومه، [ونيوب الكفر مهتومه] وطوائفه المحاميه، مجتمعة على تسليم البلاد الحاميه، وشجعانه المتوافية مذعنة لبذل المطامع الوافية؛ لا يرون في ماء الحديد لهم عصره، ولا في فناء الأفنية لهم نصره؛ وقد ضربت عليهم الذّلّة والمسكنه، وبدّل الله مكان السّيئة الحسنة؛ ونقل بيت عبادته من أيدى أصحاب المشأمة إلى أيدى أصحاب الميمنة

وقد كان الخادم لقيهم اللقاة الأولى، فأمدّه الله بمداركته، وأنجده بملائكته؛ فكسرهم كسرة ما بعدها جبر، وصرعهم صرعة لا ينتعش بعدها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل، وقتل منهم من فتكت به المناصل؛ وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسلاح [والكفار، وعن أنصاف محيل فإنه قتلهم بالسيوف الأفلاق والرماح الأكسار، فنيلوا بثأر من السلاح ونالوه أيضا بثار] فكم أهلّة سيوف تعارض الضّراب بها حتى صارت كالعراجين؛ وكم أنجم أسنّة تبادلت الطّعان حتى صارت كالمطاعين، وكم فارسية ركض عليها فارسها الشهم إلى أجل فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة فافترسه. وكان اليوم مشهودا، وكانت الملائكة شهودا؛ وكان الكفر مفقودا، والإسلام مولودا، وجعل الله ضلوع الكفار لنار جهنّم وقودا؛ وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وآكد وصله بالدين وعلائقه، وهو صليب الصلبوت، وقائد أهل الجبروت؛ وما دهموا قطّ بأمر إلا وقام بين دهمائهم يبسط لهم باعه، ويحرضّهم، وكان مدّ اليدين في هذه الدفعة وداعه؛ لا جرم أنهم يتهافت على ناره فراشهم، ويجتمع في ظل ظلامه خشاشهم، ويقاتلون تحت ذلك الصليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقا يبنون عليه أشدّ عقد وأوثقه، ويعدونه سورا تحفر حوافر الخيل خندقه. وفى هذا اليوم أسرت سراتهم، وذهبت دهاتهم [ولم يفلت منهم معروف إلا القومص، وكان لعنه الله مليّا يوم الظّفر بالقتال، ومليّا يوم الخذلان] بالاحتيال، فنجا ولكن كيف، وطار خوفا من أن يلحقه منسر الرمح أو جناح السيف؛ ثم أخذه الله تعالى بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدتهم فذلك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك.

وبعد الكسرة مرّ الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صبغا، البيضاء صنعا، الخافقة هى وقلوب أعدائها، الغالبة هى [وعزائم أوليائها]، المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر، فافتتح بلد كذا وكذا، وهذه [كلها] أمصار ومدن، وقد تسمى البلاد بلادا وهى مزارع وفدن؛ وكلّ هذه ذوات معاقل ومعاقر، ومجار وجزائر، وجوامع ومنائر، وجموع وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها، ويحصد منها كفرا ويزرع إيمانا، ويحط من منابر جوامعها صلبانا، ويرفع أذانا، ويبدل المذابح منابر، والكنائس مساجد، ويبوئ بعد أهل الصلبان أهل القرءان للذبّ عن دين الله مقاعد. ويقرّ عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلّق النصر منه ومن عسكره بجار ومجرور، وأن ظفر بكل سور، وما كان يخاف زلزاله وزياله إلى يوم النفخ في الصور. ولمّا لم يبق إلا القدس وقد اجتمع إليها كلّ شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كلّ قريب منهم وبعيد؛ وظنوا أنّها من الله مانعتهم، وأنّ كنيستها إلى الله شافعتهم؛ فلما نازلها الخادم رأى بلدا كبلاد، وجمعا كيوم التناد؛ وعزائم قد تألبت وتألفت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصّته، فزاول البلد من جانب فإذا أودية عميقة ولجج وعرة غريقة، وسور قد انعطف عطف السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار؛ فعدل إلى جهة أخرى كان للمطامع عليها معرّج، وللخيل فيها متولّج، فنزل عليها، وأحاط بها وقرب منها؛ وضرب خيمته بحيث يناله السلاح بأطرافه ويزاحمه السور بأكتافه؛ وقابلها ثمّ قاتلها، ونزلها ثم نازلها، وبرز إليها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمها ضمة ارتقب بعدها الفتح، وصدع أهلها فإذا هم لا يصبرون - على عبودية الخد - عن عتق الصفح، فراسلوه ببذل

قطيعة إلى مدّة، وقصدوا نظرة من شدة وانتظارا لنجدة؛ فعرفهم الخادم في لحن القول، وأجابهم بلسان الطول، وقدّم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التي تضرب فلا تفارقها سهامها، ولا يفارق سهامها نصالها؛ فصافحت السور بأكنافه، فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدّم النصر نشرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوّه إلى السماك، فشجّ مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها [صمّ أعلاجها] ورفع مثار عجاجها، فأخلى السور من السيّارة، والحرب من النظارة؛ فأمكن النقّاب، أن يسفر للحرب النّقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته [الأولى] من التراب؛ فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده يأنياب معوله، وحلّ عقده بضربه الأخرق الدالّ على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترقّ لمقبّله، وتبرّأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن تبرح الأرض، وفتح في السور بابا سدّ من نجاتهم أبوابا، وأخذ ينقّب في حجره فقال عنده الكافر: {يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً،} فحينئذ يئس الكفّار من أصحاب الدور، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرّهم بالله الغرور. وفى الحال خرج طاغية كفرهم، وزمام أمرهم، ابن بارزان سائلا أن يؤخذ البلد بالسلام لا بالعنوه، وبالأمان لا بالسّطوه، وألقى بيده إلى التهلكه، وعلاه ذلّ الملكة بعد عزّ المملكة، وطرح جبينه في التراب، وكان جبينا لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغا من القطيعة لا يطمح إليه طرف آمل طامح، وقال: هاهنا أسارى مؤمنون يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحمّلت الحرب على ظهورهم الأوزار، بدى بهم فعجّلوا وثنّى بنساء الفرنج وأطفالهم فقتّلوا؛ ثم استقتلوا بعد ذلك فلم يقتل خصم إلا بعد أن ينتصف، ولم يسلّ سيف من يد إلا بعد أن تنقطع أو ينقصف، وأشار الأمراء

بالأخذ بالميسور، من البلد المأسور، فإنه إن أخذ حربا فلا بد أن تقتحم الرجال الأنجاد، وتبذل أنفسها في آخر أمر قد نيل من أوله المراد؛ وكانت الجراح في العساكر قد تقدم منها ما اعتقل الفتكات، واعتاق الحركات، فقبل منهم المبذول عن يد وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون؛ وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكّان، فحدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان؛ لا جرم أن الله أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحقّ وأسخطهم، فإنهم - خذلهم الله - حموها بالأسل والصّفاح [وبنوها بالعمد والصّفاح]، أودعوا الكنائس بها وبيوت الديوية والأستبارية منها كل غريبة من الرخام الذى يطّرد ماؤه، ولا يطرد لألاؤه، وقد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنّن في توشيعه، إلى صار الحديد، الذى فيه بأس شديد، كالذهب الذى فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد كالرياض، لها من بياض الترخيم رقراق [وعمدا كالأشجار لها من التنبيت أوراق]. وأوعز الخادم بردّ الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمة من يوفيه ورده المورود. وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شهر شعبان فكادت السموات يتفطرن للسجوم لا للوجوم، والكواكب [منها] ينتثرن للطرب لا للوجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد، وكانت طرائقها مسدودة، وظهرت قبور الأنبياء وكانت بالنجاسات مكدودة؛ وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها [وجهرت الألسن بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها]، وجهر باسم أمير المؤمنين في وطنه الأشرف من المنبر، فرحّب به ترحيب من برّ بمن برّ، وخفق علماه في حفافيه، فلو طار به سرورا لطار بجناحيه.

وكتاب الخادم وهو مجدّ في استفتاح بقية الثغور، واستشراح ماضاق بتمادى الحرب من الصدور، فإنّ قوى العساكر قد استنفدت مواردها، [وأيام الشتاء قد مردت مواردها]، والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها؛ فهى بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجمّ ولا تستنفد، وينفق عليها ولا ينفق منها؛ وتجهّز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط لبرّها، ويدأب في عمارة أسوارها، ومرمّات معاقلها، وكلّ مشقة فهى بالإضافة إلى نعمة الفتح محتملة، وأطماع الفرنج فيما بعد ذلك مذاهبها غير مرجئة ولا معتزلة، فلن يدعوا دعوة يرجو الخادم من الله أنها لا تسمع، ولن تزول أيديهم من أطواق البلاد حتى تقطع. وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخص، ولا بما سوى المشافهة تتلخص، فلذلك نفّذنا لسانا شارحا، ومبشّرا صالحا؛ ينشر الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرّة من طليعته إلى ساقته».

(24) خطاب بقلم العماد الأصفهانى صادر عن صلاح الدين إلى الخليفة الناصر لدين الله ببغداد ينبئه بفتح القدس

(24) خطاب بقلم العماد الأصفهانى صادر عن صلاح الدين إلى الخليفة الناصر لدين الله ببغداد ينبئه بفتح القدس عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 6، ص 517 - 520) {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ.} الحمد لله على ما أنجز من هذا الوعد، على نصرته لهذا الدين الحنيف من قبل ومن بعد؛ وعلى أن أجرى هذه الحسنة التي ما اشتمل على شبهها كرام الصحائف، ولم يجادل عن مثلها في المواقف؛ في الأيام الإمامية الناصرية زادها الله غررا وأوضاحا، ووالى البشائر فيها بالفتوح غدوا ورواحا؛ ومكّن سيوفها في كل مازق، من كل كافر ومارق، ولا أخلاها من سيرة سرية تجمع بين مصلحة مخلوق وطاعة خالق، وأطال أيدى أوليائها لتحمى بالحقيقة حمى الحقائق، وأنجزها الحقّ وقذف به على الباطل الزاهق، وملكها هوادى المغارب ومرامى المشارق؛ ولا زالت أراؤها في الظلمات مصابح، وسيوفها للبلاد مفاتح، وأطراف أسنتها لدماء الأعداء نوازح. والحمد لله الذى نصر سلطان الديوان العزيز وأيّده، وأظفر جنده الغالب وأنجده، وجلا به جلابيب الظلماء وجدّد جدده؛ وجعل بعد عسر يسرا، وقد أحدث الله بعد ذلك أمرا، وهوّن الأمر الذى ما كان الإسلام يستطيع عليه صبرا، وخوطب الدين بقوله: {وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى.}

فالأولى في عصر النبى - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، والأخرى هذه التي عتق فيها من رقّ الكآبة، فهو قد أصبح حرا فالزمان كهيئته استدار، والحق بمهجته قد استنار؛ والكفر قد ردّ ما كان عنده من المستعار، وغسل ثوب الليل بما فجّر الفجر من أنهار النهار؛ وأتى الله بنيان الكفر من القواعد، وشفى غليل صدور المؤمنين برقراق ماء الموردات البوارد، أنزل ملائكة لم تظهر للعيون اللاحظة، ولم تخف عن القلوب الحافظة؛ عزت سيما الإسلام بمسومها، وترادف نصره بمردفها، وأخذت القرى وهى ظالمة فترى مترفيها كأن لم تؤو فيها؛ فكم أقدم بها حيزوم، وركض فاتبعه سحاب عجاج مركوم، وضرب فإذا ضربه كتاب جراح مرقوم. وإلا فإن الحروب إنما عقدت سجالا، وإنما جمعت رجالا وإنما دعت خفافا وثقالا؛ فإما سيوف تقاتل سيوفا، أو زحوف تقاتل زحوفا؛ فيكون حدّ الحديد بيد مذكرا وبيد مؤنثا، ويكون السيف في اليد الموحدة يغنى بالضربة الموحدة، ومن اليد المثلثة لا يغنى بالضرب مثلثا، وذلك أنه في فئتين التقتا، وعدوتين لغير مودة اعتنقتا، وإن هذه النصرة إن زويت عن ملائكة الله جحدت كراماتهم، وإن زويت عن البشر فقد عرفت قبلها مقامتهم، فما كان سيف يتيقظ من جفنه قبل أن ينبهه الصريخ، ولا كان ضرب يطير الهام قبل ضرب يراه الناظر ويسمعه المصيخ، فكم ضربة كأنها هجرة الموت وبها التاريخ، وكم طعنة تحزّ لها هضاب الحديد ولها شماريخ. والحمد لله الذى أعاد الإسلام جديدا ثوبه، بعد أن كان جديدا حبله، مبيضّا نصره، مخضّرا نصله، متسعا فضله، مجتمعا شمله. والخادم يشرح من نبإ هذا الفتح العظيم، والنصر الكريم؛ ما يشرح صدور المؤمنين، ويمنح الحبور لكافة المسلمين؛ ويكرر البشرى بما أنعم الله به

- من يوم الخميس الثالث والعشرين من ربيع الآخر إلى يوم الخميس منسلخه - وتلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما سخّرها الله على الكفار {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ} ورايتها إلى الإسلام ضاحكة كما كانت من الكفر باكية. فيوم الخميس الأول فتحت طبرية، وفاض رىّ النصر من بحيرتها، وقضت على جسرها الفرنج فقضت نحبها بحيرتها. وفى يوم الجمعة والسبت كسر الفرنج الكسرة التي ما لهم بعدها قائمة، وأخذ الله أعداءه بأيدى أوليائه أخذ القرى وهى ظالمة. وفى يوم الخميس منسلخ الشهر فتحت عكا بالأمان، ورفعت بها أعلام الإيمان؛ وهى أمّ البلاد، وأخت إرم ذات العماد؛ وقد أصبحت كأن لم تغن بالكفر وكأن لم تفتقر من الإسلام. وقد أصدر هذه المطالعة وصليب الصلبوت مأسور، وقلب ملك الكفر الأسير جيشه المكسور مكسور؛ والحديد الكافر الذى كان في الكفر يضرب وجه الإسلام، وقد صار حديدا مسلما يفرّق خطوات الكفر عن الأقدام؛ وأنصار الصليب وكباره، وكلّ من المعمودية عمدته والدّير داره؛ وقد أحاطت به يد القبضه، وأخذ رهنا فلا تقبل فيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؛ وطبرية قد رفعت أعلام الإسلام عليها، ونكصت من عكّا ملّة الكفر على عقبيها، وعمّرت إلى أن شهدت يوم الإسلام، وهو خير يوميها؛ بل ليس من أيام الكفر يوم فيه خير، وقد غسل عن بلاد الإسلام بدماء الشرك ما كان يتخللها فلا ضرر ولا ضيّر؛ وقد صارت البيع مساجدهم، بها من آمن بالله واليوم الآخر، وصارت المناحر مواقف لخطباء المنابر، واهتزت

أرضها لوقوف المسلمين فيها وطالما ارتجّت لمواقف الكافر، والبأس الإمامى الناصرى قد أمضى مشكاته على يد الخادم حتى بالدّنىّ في الكنائس، وإنّ عزّ أول الإسلام بحطّ تاج فارس، فكم حطّت سيوفه في هذا اليوم من تاج فارس. فأما القتلى والأسارى فإنها تزيد على ثلاثين ألفا. وأما فرسان الديوية والاسبتارية فقد أمضى الله حكمه فيهم وقطع بهم سيوف نار الجحيم، ووصّل الراحل منهم إلى الشقاء المقيم؛ وفتك بافرنس كافر الكفّار، ومشيّد النار، من يده في الإسلام كما كانت يد الكليم؛ وافتّرت النصرة عن ثغر عكّا بحمد الله الذى يسّر فتحها، وتسلمتها الملّة الإسلامية بالأمان وعرفت في هذه الصفقة ربحها. وأما طبريّة فافترتها يد الحرب فأنهرت الحرب جرحها. فالحمد لله حمدا لا تضرب عليه الحدود، ولا تزكى بأزكى منه العقود؛ وكأنه بالبيت المقدس وقددنا الأقصى من أقصاه، وبلّغ الله فيه الأمل الذى علم أن يحصيه وأحاط بأجلّه وأقصاه؛ لكل أجل كتاب، وأجل العدو هذه الكتائب الجامعة، ولكل عمل ثواب، وثواب من هدى لطاعته جنات نعيمه الواسعه؛ والله المشكور على ما وهب، والمسئول في إدامة ما استيقظ من جد الإسلام وهب. وقد توجّه من جانبه الأمير رشيد الدين دام تأييده في إهداء هذه البشرى نيابة عن الخادم، ووصف ما يسّره الله لأوليائه من العزائم، والبلاد والمعاقل التي فتحت هى: «طبرية، عكا، الناصرة، صفوريّة، قيسارية، نابلس، حيفا، معليا، القزله، الطور، الشقيف، وقلاع بين هذه كثيرة».

والولد المظفر تقى الدين بصور وحصن تبنين. والأخ العادل سيف الدين - نصره الله - قد أوفت بالوصول من عنده من العساكر فينزل في طريقه على غزة وعسقلان، ويجهز مراكب الأسطول المنصور ويكثر عددها، ويسير بها إلى ثغر عكا المحروس ويشحنها بالرجال، ويوفر سلاحها وعددها؛ والنهوض إلى القدس فهذا أوان فتحه ولقد دام عليه ليل الضلال، وقد آن أن يستقر فيه الهدى مشكور الإحسان، إن شاء الله تعالى.

(25) خطاب مرسل من السلطان صلاح الدين إلى أخيه سيف الإسلام - صاحب اليمن - يستقدمه إليه، معاونا له على قتال الفرنج، ويخبره بما وقع له من الفتوحات فى سنة أربع وثمانين وخمسمائة

(25) خطاب مرسل من السلطان صلاح الدين إلى أخيه سيف الإسلام - صاحب اليمن - يستقدمه إليه، معاونا له على قتال الفرنج، ويخبره بما وقع له من الفتوحات في سنة أربع وثمانين وخمسمائة عن: (القلقشندى: صبح الأعشى ج 7 ص 340 - 344. ج 7 س 23 - 27) أصدرنا هذه المكاتبة إلى المجلس، ومما تجدّد بحضرتنا فتوح «كوكب» وهى كرسىّ الإستبارية ودار كفرهم، ومستقرّ صاحب أمرهم، وموضع سلاحهم وذخرهم، وكان بمجمع الطّرق قاعدا، ولملتقى السبل راصدا؛ فتعلّقت بفتحه بلاد الفتح واستوطنت، وسلكت الطرق فيها وأمّنت، وعمّرت بلادها وسكنت؛ ولم يبق في هذا الجانب إلا «صور»، ولولا أنّ البحر ينجدها والمراكب تردها، لكان قيادها قد أمكن، وجماحها قد أذعن؛ وما هم بحمد الله في حصن يحميهم، بل في سجن يحويهم، بل هم أسارى وإن كانوا طلقاء، وأموات وإن كانوا أحياء؛ قال الله عز وجلّ: ({فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}) ولكل امرى أجل لا بدّ أن يصدقه غائبه، وأمل لا بدّ أن يكذبه خائبه. وكان نزولنا على «كوكب» بعد أن فتحنا «صفد» بلد الدّيويّة ومعقلهم، ومشتغلهم وعملهم، ومحلّهم الأحصن ومنزلهم؛ وبعد أن فتحنا

«الكرك» وحصونه، والمجلس السيفى - أسماه الله - أعلم بما كان على الإسلام من مئونته المثقله، وقضيّته المشكلة وعلّته المعضله؛ وأن الفرنج - لعنهم الله - كانوا يقعدون منه مقاعد للسّمع، ويتبوّءون منه مواضع للنّفع؛ ويحولون بين قات وراكبها، فيذللّون الأرض بما كان منه ثقلا على مناكبها. والآن ما أمن بلاد الهرمين، بأشدّ من بلاد الحرمين؛ فكلّها كان مشتركا في نصرة المسلمين بهذه القلعة التي كان ترامى ولا ترام، وتسامى ولا تسام؛ وطالما استفرغنا عليها بيوت الأموال، وأنفقنا فيها أعمار الرجال، وقرعنا الحديد بالحديد إلى أن ضجّت النّصال؛ والله المشكور على ما انطوى من كلمة الكفر وانتشر من كلمة الإسلام. وإن بلاد الشام اليوم لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما فادخلوها بسلام. وكان نزولنا على «كوكب» والشتاء في كوكبه، وقد طلع بيمن الأنواء في موكبه، والثلوج تنشر على البلاد ملاءها الفضيض، وتكسو الجبال عمائمها البيض؛ والأودية قد عجّت بمائها، وفاضت عند امتلائها؛ وشمخت أنوفها سيولا، فخرقت الأرض وبلغت الجبال طولا؛ والأوحال قد اعتقلت الطّرقات، ومشى المطلق فيها مشية الأسير في الحلقات؛ فتجشّمنا العناء نحن ورجال العساكر، وكاثرنا العدوّ والزّمان وقد يحرز الحظّ المكاثر؛ وعلم الله النيّة فأنجدنا بفضلها، وضمير الأمانة فأعان على حملها؛ ونزلنا من رءوس الجبال بمنازل كان الاستقرار عليها أصعب من نقلها، والوقوف بساحتها أهون من نقلها {وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.} والحمد لله الذى ألهمنا بنعمته الحديث، ونصر بسيف الإسلام الذى هو سيفه وسيف الإسلام الذى هو أخونا الطّيب على الخبيث، فمدح السيف ينقسم على حدّيه، ومدح الكريم يتعدّى إلى يديه؛ والآن فالمجلس

- أسماه الله - يعلم أنّ الفرنج لا يسلون عما فتحنا، ولا يصبرون على ما جرحنا؛ فإنّهم - خذلهم الله - أمم لا تحصى، وجيوش لا تستقصى؛ ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كلّ سفينة غصبا، ويطمع في كلّ مدينة كسبا، ويد الله فوق أيديهم، والله محيط بأقر بيهم وأبعديهم؛ و {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً.} ({لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً.} وما هم إلا كلاب قد تعاوت، وشياطين قد تغاوت، وإن لم يقذفوا من كلّ جانب دحورا، ويتبعوا بكلّ شهاب ثاقب مدحورا؛ استأسدوا واستكلبوا، وتألّبوا وجلّبوا وأجلبوا، وحاربوا، وخرّبوا؛ وكانوا لباطلهم الدّاحض، أنصر منّا لحقنا الناهض؛ وفى ضلالهم الفاضح، أبصر منّا لهدانا الواضح؛ ولله درّ جرير حيث يقول: إنّ الكريمة ينصر الكرم ابنها ... وابن اللّئيمة للّئام نصور فالبدار إلى النجدة البدار، والمسارعة إلى الجنّة فإنها لن تنال إلا بإيقاد نار الحرب على أهل النار، والهمّة الهمّة فإن البحار لا تلقى إلا بالبحار، والملوك الكبار لا يقف في وجوهها إلا الملوك الكبار. وما هى إلا نهضة تورث العلا ... ليومك ما حنّت روازم نيب ونحن في هذه السنة - إن شاء الله تعالى - ننزل على أنطاكية، وينزل ولدنا الملك المظفّر - أظفره الله - على طرابلس؛ ويستقرّ الرّكاب العادلىّ - أعلاه الله - بمصر فإنها مذكورة عند العدوّ - خذله الله - بأنها تطرق، وأنّ الطلب على الشام ومصر تفرّق؛ ولا غنى عن أن يكون المجلس السيفى - أسماء الله - بحرا في بلاد الساحل يزخر سلاحا، ويجرّد سيفا يكون على ما فتحناه قفلا ولما لم يفتح بعد مفتاحا؛ فإنه ليس لأحد ما للأخ

من سمعة لها في كل مسمع سمعه، وفى كلّ روع روعه، وفى كل محضر محضر، وفى كل مسجد منبر، وفى كل مشهد مخبر؛ فما يدعى العظيم إلا للعظيم، ولا يرجى لموقف الصبر الكريم إلا الكريم؛ والأقدار ماضيه، وبمشيئة الله جاريه؛ فإن يشاء الله ينصر على العدوّ المضعّف، بالعدد الأضعف؛ ويوصّل إلى الجوهر الأعلى، بالعرض الأدنى؛ فإنّا لا نرتاب بأنّ الله ما فتح علينا هذه الفتوح ليغلقها، ولا جمع علينا هذه الأمة ليفرّقها؛ وأنّ العدوّ إن خرج من داره بطرا، ودخل إلى دارنا كان فيها جزرا، وما بقى إن شاء الله تعالى إلا أموال تساق إلى ناهبها، ورقاب تقاد إلى ضاربها، وأسلحة تحمل إلى كاسبها، وإنما نؤثر أن لا تنطوى صحائف الحمد خالية من اسمه، ومواقف الرّشد خاوية من عزمه؛ ونؤثر أن يساهم آل أيوب في ميراثهم منه مواقع الصبر، ومطالع النصر؛ فو الله إنّا على أن نعطيه عطايا الأخرة الفاخره، أشدّ منّا حرصا على أن نعطيه عطايا الدنيا القاصره، وإنّا لا يسرنّا أن ينقضى عمره في قتال غير الكافر، ونزال غير الكفء المناظر؛ ولا شكّ أنّ سيفه لو اتّصل بلسان ناطق وفم، لقال مادمت هناك فلست ثمّ؛ وما هو محمول على خطّة يخافها، ولا متكلّف قضية بحكمنا يعافها؛ والذى بيده لا نستكثره، بل نستقصره عن حقّه ونستصغره؛ وما ناولناه لفتح أرضه السّلاح، ولا أعرناه لملك مركزه النّجاح؛ إلا على سخاء من النفس به وبأمثاله، على علم منّا أنه لا يقعد عنا إذا قامت الحرب بنفسه وماله، ولا نكن به ظنّا أحسن منه فعلا، ولا نرضى وقد جعلنا الله أهلا أن لا نراه لنصرنا أهلا، وليستشر أهل الرشاد فإنهم لا يألونه حقّا واستنهاضا، وليعص أهل الغواية فإنهم إنما يتغالون به لمصالحهم أغراضا؛ ومن بيته يظعن وإلى بيته يقفل، وهو يجيبنا جواب مثله لمثلنا، وينوى في هذه الزيارة جمع شمل الإسلام قبل نيّة جمع شملنا؛ ولا تقعد به في الله نهضة قائم، ولا تخذله

عزمة عازم؛ ولا يستفت فيها فوت طالب، ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ فإنما هى سفرة قاصدة، وزجرة واحدة؛ فإذا هو قد بيّض الصحيفة والوجه والذّكر والسّمعة، ودان الله أحسن دين، ولا حرج عليه إن فاء إلى أرضه بالرّجعة، وليتدبّر ما كتبناه، وليتفهّم ما أردناه؛ وليقدّم الاستخارة، فإنها سراج الاستنارة، وليغضب لله ولرسوله ولدينه ولأخيه، فإنها مكان الاستغضاب والاستئارة، وليحضر حتى يشاهد أولاد أخيه، يستشعرون لفرقته غمّا، وقد عاشوا ما عاشوا لا يعرفون أنّ لهم مع عمّهم عمّا، والله سبحانه يلهمه توفيقا، ويسلك به إليه طريقا، وينجدنا به سيفا لرقبة الكفر ممزقا، ودمه مريقا، ويجعله في مضمار الطاعات سابقا لا مسبوقا. إن شاء الله تعالى.

(26) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من صلاح الدين إلى ديوان الخلافة ببغداد

(26) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من صلاح الدين إلى ديوان الخلافة ببغداد عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 6، ص 504 - 506) أسعد الله عظماء الأملاك بالانتساب إلى الخدمة الشريفة النبوية، وأوزعهم ما أمرهم به من طاعتها، وخلّد ملك الديوان العزيز النبوى ما دامت الأفلاك قائمة، والنجوم ناجمة، ونقع بغمائمها غلل الآمال الحائمة، وفسّر بمكارمها حلم الأمانى الحالمة، ورتق بتدبيراتها المعصومة فتوق النّوب المتعاظمة، وأظهر على أيدى أوليائها معجزات نصرها، وصرّف الأيام والليالى بين المرضيين لله نهيها وأمرها، وأودع بركات السماء والأرض بمودعها ومستقرّها. المملوك - وإن كان قد يسّر الله له مذ أطلقت عذبة لسانه، خدمة الدولة العباسية، فتفسّح في وسيع مآثرها، وتخيّر من بديع جواهرها، وامتاح من نمير زواخرها، فإنه لا يعتذر عن الحصر الذى اعتراه في وصف المنعم عليه به من الخطاب الشريف، الذى لولا أنّ عصمة الموالاة تثبّت فؤاده الخافق، وتسدّد لسانه الناطق، لما تعاطى وصف ما أعطاه من كتابه المرقوم، وسبق إليه من سحابه المركوم، فإنه مما يشفّ عنه الأمل ناكصا وهو كسير، وينقلب دونه البصر خاسئا وهو حسير، إلا أن الإنعام الشريف يبدأ الأولياء بما لو وكلهم إلى أمانيهم لتهيّبت أن تتعاطى حظيّته، ولو فوّضه إلى راحتهم، لنكلت عن أن تترقى

نصيّته، ولا غرو للسحاب أن يصافح قطره الثرى، والفجر أن يشرق نوره على عين الكرى والسرى. فالحمد لله الذى قرّب على المملوك منال الآمال، وثبّت حصاة فؤاده لما لا تستقل بحمله صمّ الجبال، ويستنيب عن جهر الشكر بسرّ الأدعية، ويقتصر على ما يفضى به إلى المحاريب وإن لم يقصّر عمّا يقصّه في الأندية؛ ويطالع بأن مملوك الخدمه وابن مملوكها أخذ الكتاب بقوة، وشمّر لخدمة أشرف خلافة لأشرف نبوة، وتلقّاه تلقى أبيه الأول الكلمات؛ ورأى إطلاع الله لأمير المؤمنين على ما في ضميره من طاعته، إحدى المعجزات والكرامات، وسمع المشافهة خاشعا متصدعا، واشتمل عليها بفهمه ساميا طرفه متطلعا. ولقد أشبه هذا الكتاب الكريم بيعة أخذت عليه، مدّ إليها يده آخذا بكلتا يديه، والمملوك يرجو، بل يتحقق، أن هذا العبد المشار إليه، سيوفى على سابقه من عبيد الدولة العباسية في الزمان، ويكون بمشيئة الله أسبق منهم بالإحسان؛ وقد صدرت خدمتان من جهته، وبعدهما تصدر الخدم، ولا يألو جهدا في الخدمتين مباشرا بيده السيف، ومستنيبا عنها العلم، وله نصرة باقية في الولاء وهو غنى بها عن النصير، وسريرة بادية في الطاعة هو إليها أسكن منها إلى كل مشير. يعود المملوك إلى ما لا يزال يفتتح به الصلوات المفروضة، ويختتم به الختمات المعروضه؛ من الدعاء الصالح الذى [وإن] أغنى الله وليّه عنه فقد أحوج ذوى العقائد السليمة إليه؛ لأنه مزكّ لأعمالهم؛ بل متمم لإسلامهم، وكيف لا يدعون لمن يدعون به يوم يدعى كلّ أناس بإمامهم، فيقول: جمع الله لأمير المؤمنين طاعة خلقه! وأذلّ رقاب الباطل سيف حقه!، وجعل الله ما هو

قبضته في الأخرى قبضة أمير المؤمنين في الأولى! من الأرض التي هى موطوءة كالسموات العلى، وأدام نعمه على هذه الأمة بإمامته، وأظهر كرامة نبيّه عليه السلام بما يظاهره من كرامته؛ وعجّل لمن لا يقوم بغرض ولايته إقامة قيامته، وردّ بسيوفه التي لا تردّ ما الإسلام ممطول به من ظلامته، وأقام به مناهج الدين لأهله، وأظهره بمظاهرته على الدين كلّه، حتى يلقى الله وما خلّف في الدنيا كافرا ولا ضميرا إلا بالتوحيد عامرا، ولا بلدا إلا وقد بات الإسلام به آهلا، وقد أصبح منه الكفر دائرا، إن شاء الله تعالى.

(27) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى الخليفة الناصر لدين الله بخبر ملك الألمان والقتال معه، فى جواب كتاب ورد عليه

(27) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى الخليفة الناصر لدين الله بخبر ملك الألمان والقتال معه، في جواب كتاب ورد عليه عن: (القلقشندى. صبح الأعشى، ج 7، ص 126 - 130) أدام الله ظلّ الديوان العزيز النبوىّ، الإمامىّ، الشريف الناصرىّ؛ ومدّه على الأمة ظليلا، وجعل الأنوار عليه دليلا؛ وحاطه بلطفه وتقبّل أعماله بقبول حسن وأنبتها، وأرغم أعداءه وكبتها، ومسّها بعذاب من عنده وسحتها؛ ولا زالت رايته السوداء بيضاء الخبر، محمرّة المخبر في العداة مسودّة الأثر. ورد على الخادم ما كوتب به من الديوان العزيز رائدا في استخلاصه، مبرهنا عن اختصاصه، مطلقا في الشكر للسانه، وفى الحرب لعنانه؛ ومقتضيا لأمنيّة كان يتهيّبها، ومفيضا لمكرمة لو سمت نفسه إليها، كان يتهمها، فلله هو! من كتاب كأنّه سورة وكلّ آية منه سجدة، قابله بالخشوع كأنما قلم الكتاب القضيب وطرسه البردة؛ وتلاه على من قبله من الأولياء مسترهفا به لعزائمهم، مستجزلا به لمغانمهم؛ مستثبتا به للازمهم، مستدعيا به الخدمة للوازمهم؛ مرهفا به ظباهم في القتال، فاسحا به خطاهم يوم النّزال؛ فأثّر فيهم كالاقتداح في الزّند، وكالانبجاس من الصّلد، وكالاستلال من الغمد، فشمّر من كان قد أسبل، وانتهى من كان قد أجبل؛ وكأنّما أعطوا كتابا من الدّهر بالأمان، أو سمعوا مناديا ينادى للإيمان؛ وقالوا سمعنا

وأطعنا، وعلينا من الخدمة ما استطعنا؛ هذا مع كونهم أنضاء زحوف، وأشلاء حتوف، وضرائب سيوف؛ قد وسمت وجوههم علامات الكفاح، وأحالت غرضهم أقلام الرّماح؛ صابرين مصابرين، مكائرين مكابرين، مناضلين مناظرين؛ قد قاموا عن المسلمين بما قعد عنه سائرهم؛ ونزلوا بقارعة القراع فلا يسير عنها سائرهم؛ وسدّست كعوب الرّماح أنملهم، وأثبتوا في معترك الموت أرجلهم؛ كلّ ذلك طاعة لله ولرسوله ولخليفتهما، وإذا رموا فأصابوا، قالوا: ولكنّ الله رمى. ومن خبر الكفّار أنهم إلى الآن، على عكاّ يمدّهم البحر بمراكب أكثر عدّة من أمواجه، ويخرج للمسلمين منهم أمرّ من أجاجه؛ قد تعاضدت ملوك الكفر على أن ينهضوا إليهم من كلّ فرقة منهم طائفة، ويقلّدوا لهم من كل قرن يعجز بالكرّة واصفه؛ فإذا قتل المسلمون واحدا في البرّ، بعث البحر عوضه ألفا، وإذا ذهب بالقتل صنف منهم، أخلف بدله صنفا؛ فالزّرع أكثر من الجداد، والثمرة أنمى من الحصاد. وهذا العدوّ المقاتل - قاتله الله - قد زرّ عليه من الخنادق أدراعا متينة، واستجنّ من الجنويات بحصون حصينة؛ مصحرا ومتمنّعا، وجاسرا ومتدرّعا، ومواصلا ومنقطعا، وكلّما أخرج رأسا قد قطعت منه رءوس، وكلّما كشف وجها كشفت من غطاء أجسادها نفوس؛ فكم من يوم أرسلوا أعنّة السوابق فذمّوا عقبى إرسالها، وكم من ساعاة فضّوا فيها أقفال الخنادق، فأفضى إليهم البلاء عند فضّ أقفالها؛ إلا أنّ عددهم الجمّ قد كاثر القتل، ورقابهم الغلب قد قطعت النّصل لشدّة ما قطعها النصل، ومن قبل الخادم من الأولياء قد أثرت المدة الطويلة والكلف الثقيلة في استطاعتهم، لا في طاعتهم، وفى أجوالهم لا في شجاعتهم؛ فالبرك قد أنضوه،

والسّلاح قد أحفوه، والدّرهم قد أفنوه، وكل من يعرفهم من أهل المعرفة، ويراهم بالعين فما هم مثل من يراهم بالصّفة؛ يناشد الله المناشدة النبويّة، في الصّيحة البدرية؛ اللهم أن تهلك هذه العصابة، ويخلص الدعاء ويرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة. هذا والساحل قد تماسك، وما تهلك؛ وتجلّد، وما تبلّد؛ وشجّعته مواعد النّجدة الخارجة. وأسلته عن مصارع العدّة الدّارجة؛ فكيف به إذا خرج داعية الألمان، وملوك الصّلبان؛ وجموع ما وراء البحر، وحشود أجناس الكفر؟ وقد حرّم باباهم - لعنة الله عليهم وعليه - كلّ مباح واستخرج منهم كلّ مذخور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبس وألبسهم الحداد، وحكم عليهم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة، ويعيدوا القمامة. ({وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ.}) أللهم أخفر جواره، واصرف جوره، وأخلف وعده، واكسر ضمانه، وأنكصه على عقبه، وعجّل في الدنيا والآخرة منهم تبابه. وما بدأتنا به من نعمتك فلا تقطعه، وما وهبتنا من نصرك فلا تسلبه، وما سترته من عجزنا فلا تهتكه. وفى دون ما الدّين مستقبله، وعدوّه خذله الله يؤمّله؛ ما يستفرغ عزائم الرجال، ويستنفد خزائن الأموال؛ ويوجب لإمام هذه الأمة أن يحفظ عليها قبلتها، ويزيح في قتل عدوّها علّتها؛ ولولا أنّ في التصريح، ما يعود على عدالته بالتّجريح، لقال ما يبكى العين ويبكى القلوب، وتنشقّ له المرائر وتشقّ له الجيوب، ولكنّه صابر محتسب، منتظر لنصر الله مرتقب، قائم من نفسه بما يجب؛ {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَأَخِي،} وها هو قد هاجر

إليك هجرة يرجوها عندك مقبولة، وولدى وقد أبرزت لعدوّك صفحات وجوههم، وهان علىّ محبوبك بمكروهى فيهم ومكروههم، ونقف عند هذا الحدّ، ولله الأمر من قبل ومن بعد؛ وإن لم يشتك الدّين إلى «ناصره» والحقّ إلى من قام بأوّله وإلى اليوم الآخر يقوم بآخره؛ فإلى من يشتكى البثّ، وعند من يتفرج بالنفث؟ ومنفعة الغوث قبل العطب، والنّجاء قبل أن يصل الحزام الطّبيين، والبلاغ قبل أن يصل السيل الزّبى. فياعصبة محمد - صلّى الله عليه وسلم - اخلفه في أمّته بما تطمئن به مضاجعه، ووفّه الحقّ فينا فإنّا وإنّ المسلمين عندك ودائعه، وما مثّل الخادم نفسه في هذا القول إلا بحالة من وقف بالباب ضارعا، وناجى بالقول صادعا؛ ولو رفعت عنه العوائق لهاجر، وشافه طبيب الإسلام بل مسيجه بالداء الذى خامر؛ ولو أمن عدوّ الله أن يقول فرّ لسافر، وبعد ففيه وإن عضّ الزمان بقية، وقبله وإن تدارأت الشّهّاد دريّة؛ فلا يزال قائما حتىّ ينصر أو يعذر، فلا يصل إلى حرم ذرّية أحمد - صلّى الله عليه وسلم - ومن ذرّية أيوب واحد يذكر. أنجز الله لأمير المؤمنين مواعد نصره! وتمم مساعدة دهره! وأصفى موارد إحسانه! وأرسى قواعد سلطانه! وحفظه وحفظ به فهو خير حافظا، ونصره ونصر على يديه فهو أقوى ناصرا، إن شاء الله تعالى.

(28) نسخة العهد المكتوب به من ديوان الخلافة ببغداد إلى السلطان الملك العادل أبى بكر بن أيوب - أخى السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب -

(28) نسخة العهد المكتوب به من ديوان الخلافة ببغداد إلى السلطان الملك العادل أبى بكر بن أيوب - أخى السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب - عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج.1، ص 99 - 111) الحمد لله الذى اطمأنت القلوب بذكره، ووجب على الخلائق جزيل حمده وشكره، ووسعت كلّ شىء رحمته، وظهرت في كل أمر حكمته، ودلّ على وحدانيته بعجائب ما أحكمه صنعا وتدبيرا، وخلق كل شىء فقدّره تقديرا؛ ممدّ الشاكرين بنعمه التي لا تحصى عددا، وعالم الغيب الذى لا يظهر على غيبه أحدا؛ لا معقب لحكمه في الإبرام والنقض، ولا يؤده حفظ السموات والأرض؛ تعالى أن يحيط بحكمه الضمير، وجل أن يبلغ وصفه البيان والتفسير: ({لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.} والحمد لله الذى أرسل - محمد صلى الله عليه وسلم - بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ وابتعثه هاديا للخلق، وأوضح به مناهج الرشد وسبل الحق؛ واصطفاه من أشرف الأنساب وأعز القبائل، واجتباه لإيضاح البراهين والدلائل؛ وجعله لديه أعظم الشفعاء وأقرب الوسائل، فقذف - صلى الله عليه وسلم - بالحق على الباطل، وحمل الناس بشريعته الهادية على المحجة البيضاء والسنن العادل، حتى استقام اعوجاج كل زائغ، ورجع إلى الحق كل حائد عنه ومائل؛ وسجد لله كل شىء تتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه

الكرام الأفاضل، صلاة مستمرة بالغدوات والأصائل؛ خصوصا على عمّه وصنو أبيه العباس بن عبد المطلب الذى اشتهرت مناقبه في المجامع والمحافل؛ ودرّت ببركة الاستسقاء به أخلاف السحب الهواطل، وفاز من تنصيص الرسول على عقبه في الخلافة بما لم يفز به أحد من الأوائل. والحمد لله الذى حاز مواريث النبوة والإمامة، ووفر جزيل الأقسام من الفضل والكرامة، لعبده وخليفته، ووارث نبيّه ومحيى شريعته، الذى أحله الله عز وجل من معارج الشرف والجلال في أرفع ذروة، وأعلقه من حسن التوفيق الإلهى بأمتن عصمة وأوثق عروه؛ واستخرجه من أشرف نجار وعنصر، واختصه بأزكى منحة وأعظم مفخر؛ ونصبه للمؤمنين علما، واختاره للمسلمين إماما وحكما؛ وناط به أمر دينه الحنيف، وجعله قائما بالعدل والإنصاف بين القوى والضعيف؛ إمام المسلمين، وخليفة رب العالمين؛ أبى جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين؛ ابن الإمام السعيد التقى، أبى نصر محمد الظاهر بأمر الله، ابن الإمام السعيد الوفى أبى العباس أحمد الناصر لدين الله، ابن الإمام السعيد أبى محمد المستضىء بأمر الله أمير المؤمنين، صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى آبائه الطاهرين، الأئمة المهديين؛ الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، ولقوا الله تعالى وهو عنهم راض، وهم عنه راضون. وبعد، فبحسب ما أفاضه الله على أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وسلامه - من خلافته في الأرض، وفوضه إلى نظره المقدس في الأمور من الإبرام والنقض، وما استخلصه له من حياطة بلاده وعباده، ووكله إلى شريف نظره ومقدس اجتهاده؛ لا يزال - صلوات الله عليه - يكلأ العباد بعين الرعاية، ويسلك بهم في المصالح العامة والخاصة مذاهب الرشد وسبل

الهدايه؛ وينشر عليهم جناحى عدله وإحسانه، وينعم لهم النظر في ارتياد الأمناء والصلحاء من خلصاء أكفائه وأعوانه؛ متخيرا للاسترعاء من استحمد إليه بمشكور المساعى، وتعرف إليه في سياسة الرعايا بجميل الأسباب والدواعى؛ وسلك في مفترض الطاعة الواجبة على الخلائق قصد السبيل، وعلم منه حسن الاضطلاع في مصالح المسلمين بالعبء الثقيل، والله عز وجل يؤيد آراء أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - بالتأييد والتسديد، ويمده أبدا من أقسام التوفيق الإلهى بالموفور والمزيد؛ ويقرن عزائمه الشريفة باليمن والنجاح، ويسنى له فيما يأتى ويذر أسباب الخير والصلاح، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب. ولما وفق الله تعالى نصير الدين محمد بن سيف الدين أبى بكر بن أيوب من الطاعة المشهورة، والخدم المشكورة، والحظوة في جهاد أعداء الدين بالمساعى الصالحة؛ والفوز من المراضى الشريفة الإمامية - أجلها الله تعالى - بالمغانم الجزيلة والصفقة الرابحة؛ لما وصل فيه سالف شريف الاختصاص بآنفه، وشفع تالده في تحصيل مأثور الاستخلاص بطارفه؛ واستوجب بسلوكه في الطاعة المفروضة مزيد الإكرام والتفضيل، وضرع في الإنعام عليه بمنشور شريف إمامى يسلك في اتباعه هداه والعمل بمراشده سواء الصراط وقصد السبيل - اقتضت الآراء الشريفة المقدسة - زادها الله تعالى جلالا متألق الأنوار، وقدسا يتساوى في تعظيمه من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار - الإيعاز بإجابته إلى ما وجّه أمله إلى الإنافة فيه به إليه، والجذب بضبعيه إلى ذروة الاجتباء الذى تظهر أشعة أنواره الباهرة عليه؛ فقلده - على خيرة الله تعالى - الزعامة والغلات، وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والضياع والصدقات، والجوالى وسائر وجوه الجبايات، والعرض والعطاء، والنفقة في الأولياء؛ والمظالم

والحسبة في بلاده، وما يفتتحه ويستولى عليه من بلاد الفرنج الملاحين، وبلاد من تبرز إليه الأوامر الشريفة بقصده من الشاذين عن الإجماح المنعقد من المسلمين؛ و [من] يتعدى حدود الله تعالى بمخالفة من يصل (؟) من الأعمال الصالحات بولائه المفروض على الخلائق مقبولة، وطاعته ضاعف الله جلاله بطاعته وطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم موصولة؛ حيث قال عز من قال: ({يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}) واعتمد - صلوات الله عليه وسلامه - في ذلك على حسن نظره ومدد رعايته، وألقى مقاليد التفويض إلى وفور اجتهاده وكمال سياسته؛ وخصه من هذا الإنعام الجزيل بما يبقى له على تعاقب الدهر واستمراره، ويخلد له على ممر الزمان حسن ذكره وجزيل فحاره؛ وحباه بتقليد يوطد له قواعد الممالك، ويفتح بإقليده رتاج الأبواب والمسالك؛ ويفيد قاعدته في بلاده زيادة تقرير وتمهيد، ويطير به صيته في كل قريب وبعيد، ووسمه بالملك الأجل، السيد، الكامل، المجاهد، المرابط؛ نصير الدين، ركن الإسلام، أثير الأنام، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، غازى بك محمد، بن أبى بكر، ابن أيوب، معين أمير المؤمنين، رعاية لسوابق خدمه وخدم أسلافه وآبائه، عن وفور اجتبائه، وكمال ازدلافه، وإنافة من ذروة القرب إلى محل كريم، واختصاصا له بالإحسان الذى لا يلقاه إلا من هو كما قال تعالى: ({ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.}) وثوقا بصحة ديانته التي يسلك فيها سواء سبيله، وإستنامة إلى أمانته في الخدمة التي ينصح فيها لله تعالى ولرسوله، وركونا إلى [كون] الإنعام عليه موضوعا بحمد الله تعالى في أحسن موضع، واقعا به لديه في خير مستقر ومستودع. وأمير المؤمنين - صلوات الله عليه - (لا زالت الخيرة موصوله بآرائه،

والتأييد الإلهى مقرونا بإنفاذه وإمضائه) يستمد من الله عز وجل حسن الإعانة في اصطفائه الذى اقتضاه نظره الشريف واعتماده، وأدى إليه ارتياده المقدس الإمامى واجتهاده؛ وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل. أمره بتقوى الله تعالى التي هى الجنة الواقية، والنعمة الباقية؛ والملجأ المنيع، والعماد الرفيع؛ والذخيرة النافعة في السر والنجوى، والجذوة المقتبسة من قوله سبحانه: ({وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى}) وأن يدرع بشعارها، في جميع الأقوال والأفعال، ويهتدى بأنوارها، في مشكلات الأمور والأحوال، وأن يعمل بها سرا وجهرا، ويشرح للقيام بحدودها الواجبة صدرا؛ قال الله تعالى: ({وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}). وأمره بتلاوة كتاب الله متدبرا غوامض عجائبه، سالكا سبيل الرشاد والهداية في العمل به، وأن يجعله مثالا يتبعه ويقتفيه، ودليلا يهتدى بمراشده الواضحة في أوامره ونواهيه؛ فإنه الثقل الأعظم، وسبب الله المحكم، والنور الذى يهدى به إلى التي هى أقوم؛ ضرب الله تعالى فيه لعباده جوامع الأمثال، وبين لهم بهداه الرشد والضلال، وفرق بدلائله الواضحة الحرام والحلال؛ فقال عز من قائل: ({هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}). وقال تعالى: ({كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.}) وأمره بالمحافظة على مفروض الصلوات، والدخول فيها على أكمل هيئة من قوانين الخشوع والإخبات؛ وأن يكون نظره في موضع سجوده من الأرض، وأن يمثل لنفسه في ذلك موقفه بين يدى الله تعالى يوم العرض؛ قال الله تعالى: ({قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ})، وقال تعالى: ({إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً.}) وأن لا يشتغل بشاغل عن أداء فروضها

الواجبة، ولا يلهو بسبب عن إقامة سنتها الذاتية؛ فإنها عماد الدين الذى نمت أعاليه، ومهاد الشرع الذى تمت قواعده ومبانيه؛ قال الله تعالى: ({حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ،}) وقال سبحانه: ({إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ.}) وأمره أن يسعى إلى صلوات الجمع والأعياد، ويقوم في ذلك بما فرضه الله تعالى عليه وعلى العباد؛ وأن يتوجه إلى الجوامع والمساجد متواضعا، ويبرز إلى المصليات الضاحية في الأعياد خاشعا؛ وأن يحافظ في تشييد قواعد الإسلام على الواجب والمندوب، ويعظم باعتماد ذلك شعائر الله التي هى من تقوى القلوب، وأن يشمل بوافر اهتمامه واعتنائه، وكمال نظره وإرعائه؛ بيوت الله التي هى محال البركات، ومواطن العبادات؛ والمساجد التي تأكد في تعظيمها وإجلالها حكمه، والبيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه؛ وأن يرتب لها من الخدم من يتبتل لإزالة أدناسها، ويتصدى لإذكاء مصابيحها في الظلام وإيناسها؛ ويقوم لها بما تحتاج إليه من أسباب الصلاح والعمارات، ويحضر إليها ما يليق من الفرش والكسوات وأمره باتباع سنة النبى صلى الله عليه وسلم التي أوضح جددها، وثقف - عليه السلام - أودها؛ وأن يعتمد فيها على الأسانيد التي نقلها الثقات، والأحاديث التي صحت بالطرق السليمة والروايات؛ وأن يقتدى بما جاءت به من مكارم الأخلاق التي ندب صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بسببها، ورغب أمته في الأخذ بها والعمل بأدبها؛ وقال الله تعالى: ({وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.}) وقال سبحانه وتعالى: ({مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ.}) وأمره بمراعاة أحوال الجند والعسكر في ثغوره، وأن يشملهم بحسن نظره

وجميل تدبيره؛ مستصلحا نياتهم بإدامة التلطف والتعهد، مستوضحا أحوالهم بمواصلة التفحص والتفقد؛ وأن يسوسهم سياسة تبعثهم على سلوك المنهج السليم، ويهديهم في انتظامها واتساقها إلى الصراط المستقيم، ويحملهم على القيام بشرائط الخدم، والتمسك منها بأقوى الأسباب وأمتن العصم؛ ويدعوهم إلى مصلحة التواصل والائتلاف، ويصدهم عن موجبات التخاذل والاختلاف؛ وأن يعتمد فيهم شرائط الحزم في الإعطاء والمنع، وما تقتضيه مصلحة أحوالهم من أسباب الخفض والرفع؛ وأن يثيب المحسن على إحسانه، ويسيل على المسىء ما وسعه العفو واحتمله الأمر ذيل صفحه وامتنانه؛ وأن يأخذ برأى ذوى التجارب منهم والحنكة، ويجتنى بمشاورتهم في الأمر ثمر الشركة؛ إذ في ذلك أمن من خطا الانفراد، وتزحزح عن مقام الزيغ والاستبداد. وأمره بالتبتل لما يليه من البلاد، ويتصل بنواحيه من ثغور أولى الشرك والعناد؛ وأن يصرف مجامع الالتفات إليها، ويخصها بوفور الاهتمام بها والتطلع عليها؛ وأن يشمل ما ببلاده من الحصون والمعاقل بالإحكام والإتقان، وينتهى في أسباب مصالحها إلى غاية الوسع ونهاية الإمكان، وأن يشحنها بالميرة الكثيرة والذخائر، ويمدها من الأسلحة والآلات بالعدد المستصلح الوافر، وأن يتخير لحراستها [من يختاره] من الأمناء التقاة، ولسدها من ينتخبه من الشجعان الكماة؛ وأن يؤكد عليهم في استعمال أسباب الحفظة والاستظهار، ويوقظهم للاحتراس من غوائل الغفلة والاغترار؛ وأن يكون المشار إليهم ممن ربوا في ممارسة الحروب على مكافحة الشدائد، وتدربوا في نصب الحبائل للمشركين والأخذ عليهم بالمراصد، وأن يعتمد هذا القبيل بمواصلة المدد، وكثرة العدد، والتوسعة في النفقة والعطاء؛ والعمل معهم بما يقتضيه حالهم وتفاوتهم في التقصير والفناء؛ إذ في ذلك حسم لمادة الأطماع في بلاد الإسلام، ورد لكيد المعاندين

من عبدة الأصنام؛ فمعلوم أن هذا الفرض أولى ما وجهت إليه العنايات وصرفت، وأحق ما قصرت عليه الهمم، ووقفت؛ فإن الله تعالى جعله من أهم الفروض التي كرم فيها القيام بحقه، وأكبر الواجبات التي كتب العمل بها على خلقه؛ فقال سبحانه وتعالى هاديا في ذلك إلى سبيل الرشاد، ومحرضا لعباده على قيامهم بفروض الجهاد: {(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)}. وقال تعالى: ({وَاُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}). وقال النبى صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا يخيف فيه المشركين ويخيفونه، كان له كأجر ساجد لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة، وأجر قائم لا يقعد إلى يوم القيامة، وأجر صائم لا يفطر». وقال عليه السلام: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس». هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من سمع هذه المقالة فوقف لديها، فكيف بمن كان كما قال عليه السلام: «ألا أخبركم بخير الناس: ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها». وأمره باقتفاء أوامر الله تعالى في رعاياه، والاهتداء إلى رعاية العدل والإنصاف والإحسان بمراشده الواضحة ووصاياه؛ وأن يسلك في السياسة [بهم] سبل الصلاح، ويشملهم بلين الكنف وخفض الجناح، ويمد ظل رعايته على سلمهم ومعاهدهم ويزحزح الأقذاء والشوائب عن مناهلهم في العدل ومواردهم، وينظر في مصالحهم نظرا يساوى فيه بين الضعيف والقوى، ويقوم بأودهم قياما يهتدى به ويهديهم فيه إلى الصراط السوى؛ قال الله تعالى: ({إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.})

وأمره باعتبار أسباب الاستظهار والأمنه. واستقصاء الطاعة والقدرة الممكنة، في المساعدة على قضاء تفث حجاج بيت الله الحرام، وزوار نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، وأن يمدهم بالإعانة في ذلك على تحقيق الرجاء وبلوغ المرام، ويحرسهم من التخطف والأذى في حالتى الظعن والمقام؛ فإن الحج أحد أركان الدين المشيّدة، وفروضه الواجبة المؤكدة؛ قال الله تعالى «ولله على الناس حج البيت». وأمره بتقوية أيدى العاملين بحكم الشرع في الرعايا، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام والقضايا؛ والعمل بأقوالهم فيما يثبت لذوى الاستحقاق، والشد على أيديهم فيما يرونه من المنع والإطلاق، وأنه متى تأخر أحد الخصمين عن أجابة داعى الحكم أو تقاعس في ذلك لما يلزم من الأداء والعدم، جذبه بعنان القسر إلى مجلس الشرع واضطره بقوة الانصاف إلى الأداء بعد المنع. وأن يتوخّى عمال الوقوف التي تقرّب المتقربون بها، واستمسكوا في ثواب الله بمتين حبلها. وأن يمدهم بجميل المعاونة والمساعدة، وحسن الموازرة والمعاضدة، في الأسباب التي تؤذن بالعمارة والاستنماء، وتعود عليها بالمصلحة والاستخلاص والاستيفاء؛ قال الله تعالى: ({وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى}) وأمره أن يتخير من أولى الكفاءة والنزاهة من يستخلصه للخدم والأعمال، والقيام بالواجب: من أداء الأمانة والحراسة والتمييز لبيت المال. وأن يكونوا من ذوى الاضطلاع بشرائط الخدم المعينة وأمورها؛ والمهتدين إلى مسالك صلاحها وتدبيرها. وأن يتقدم إليهم بأخذ الحقوق من وجوهها المتيقنة، وجبايتها في أوقاتها المعينة؛ إذ ذاك من لوازم الجند ووفور الاستظهار، وموجبات قوة الشوكة بكثير الأعوان والأنصار، وأسباب الحيطة التي تحمى بها البلاد والأمصار؛ ويأمرهم بالجرى في الطسوق والشروط على النمط المعتاد، والقيام في مصالح الأعمال

على أقدام الجدو الاجتهاد. وإلى العاملين على الصدقات بأخذ الزكوات على مشروع السنن المهيع، وقصد الصراط المتبع؛ من غير عدول في ذلك عن المنهاج الشرعى؛ أو تساهل في تبديل حكمها المفروض وقانونها المرعى، فإذا أخذت من أربابها الذين يطهرون ويزكون بها؛ كان العمل في صرفها إلى مستحقها بحكم الشريعة النبوية وموجبها. وإلى جباة الجزية من أهل الذمة بالمطالبة بأدائها في أول السنة، واستيفائها منهم حسب أحوالهم بحكم العادة في الثروة والمسكنة؛ إجراء في ذلك على حكم الاستمرار والانتظام، ومحافظة على عظيم شعائر الإسلام. وأمره أن يتطلع على أحوال كل من يستعمله في أمر من الأمور، ويصرفه في مصلحة من مصالح الجمهور، تطلعا يقتضى الوقوف على حقائق أماناتهم، وموجب تهذيبهم في حركاتهم وسكناتهم، ذهابا مع النصح لله تعالى في بريته وعملا فيه بقول النبى صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته». وأمره أن يستصلح من ذوى الاضطلاع والغناء، من يرتب العرض والعطاء والنفقة في الأولياء، وأن يكونوا من المشهورين بالحزم والبصيرة، والموسومين في المناصحة بإخلاص الطويّة وإصفاء السريرة، حالين من الأمانة والصون بما يزين؛ ناكبين عن مظان الشبه والطمع الذى يصم ويشين؛ وأن يأمرهم باتباع عادات أمثالهم في ضبط أسماء الرجال، وتحلية الأشخاص والأشكال، واعتبار شيات الخيول وإثبات أعدادها، وتحريض الجند على تخيرها واقتناء جيادها، وبذل الجهد في قيامهم من الكراع واليزك والسلاح بما يلزمهم والعمل بقوله تعالى: ({وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ}). فإذا نطقت جرائد الجند المذكورين بما أثبت لديهم، وحقق الاعتبار والعيان

قيامهم بما وجب عليهم، أطلقت لهم المعايش والأرزاق بحسب إقراراتهم وأوصلت إليهم بمقتضى واجباتهم واستحقاقهم: فإن هذا الحال أصل حراسة البلاد والعباد، وقيام الأمر بما أوجبه الله تعالى من الاستعداد بفرض الجهاد، قال تعالى: ({وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.}) وأمره بتفويض أمر الحسبة إلى من يكون بأمرها مضطلعا، وللسنة النبوية في إقامة حدودها متبعا، فيعتمد في الكشف عن أحوال العامة في تصرفاتها الواجب، ويسلك في التطلع إلى معاملاتهم السبيل الواضح والسنن اللاحب، في الأسواق لاعتبار المكاييل والموازين. ويقيمه [مقامه] في مؤاخذة المطففين، وتأديبهم بما تقتضيه شريعة الدين، ويحذرهم في تعدى حدود الإنصاف شدة نكاله، ويقابل المستحق المؤاخذة بما يرتدع به الجمع الكثير من أمثاله، قال الله تعالى: ({أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}). وقال سبحانه: ({وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ.}) فليتول الملك السيد الكامل، المجاهد، المرابط، نصير الدين، ركن الإسلام، أثير الأنام، جلال الدولة، فخر الملة، عز الأمة، سند الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، أمير المجاهدين غازى بك معين أمير المؤمنين - ما قلده عبد الله وخليفته في أرضه، القائم له

بحقه الواجب وفرضه، أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين، تقليد مطمئن بالإيمان، وينصح لله ولرسوله وخليفته - صلوات الله عليه - في السر والإعلان، وليشرح بما فوض إليه من هذه الأمور صدرا، وليقم بالواجب عليه من شكر هذا الإنعام الجزيل سرا وجهرا، وليعمل بهذه الوصايا الشريفة الأمامية، وليقف آثار مراشدها المقدسة النبوية، وليظهر من أثر الجد في هذا الأمر والاجتهاد، وتحقيق النظر الجميل لله والإرشاد، ما يكون دليلا على تأييد الرأى الأشرف المقدس - أجله الله تعالى - في اصطناعه واستكفائه، وإصابة مواقع النجح والرشد في التفويض إلى حسن قيامه وكمال اعتنائه، فليقدر النعمة في هذه الحال حق قدرها، وليمتر بأداء الواجب بما غلب عليه من جزيل الشكر غزير درها، وليطالع مع الأوقات بما يشكل عليه من الأمور الغوامض، ولينه إلى العلوم الشريفة المقدسة - أجلها الله تعالى - ما يلتبس عليه من الشكوك والغوامض (؟) ليرد عليه من الأمثلة ما يوضح له وجه الصواب في الأمور. ويستمد من المراشد الشريفة التي هى شفاء لما في الصدور بما يكون وروده عليه وتتابعه إليه نورا على نور، إن شاء الله تعالى.

(29) مرسوم بقلم القاضى الفاضل صادر عن صلاح الدين لتحويل السنة الخراجية إلى سنة هلالية

(29) مرسوم بقلم القاضى الفاضل صادر عن صلاح الدين لتحويل السنة الخراجية إلى سنة هلالية عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 13، ص 71 - 74) خرجت الأوامر الصلاحية بكتب هذا المنشور وتلاوة مودّعه بحيث يستمر، ونسخه في الدواوين بحيث يستقر؛ ومضمونه. إنّ نظرنا لم يزل تتجلّى له الجلائل والدقائق، ويتوخى من الحسنات ما تسير به الحقائب والحقائق، ويخلّد من الأخبار المشروعة، كلّ عذب الطرائق رائق، ويجدّد من الآثار المتبوعة، ما هو بثناء الخلائق لائق، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير إلا جهدنا أن نكتسبها، ولا يثوّب بنا الداعى إلى مثوبة إلا رأينا أن نحتسبها، لا سيما ما يكون للسنين الماضية ممضيا، وإلى القضايا العادلة مغضيا، ولمحاسن الشريعة مجلّيا، ولعوارض الشّبه رافعا، ولتناقض الخبر دافعا، ولأبواب المعاملات حافظا، ولأسباب المغالطات لافظا، وللخواطر من أمراض الشكوك مصحّحا، وعن حقائق اليقين مفصحا، وللأسماع من طيف الاختلاف معفيا، ولغاية الإشكال من طرق الأفهام معفّيا. ولما استهلّت سنة كذا الهلالية، وقد تباعد ما بينها وبين السنة الخراجية إلى أن صارت غلاّتها منسوبة إلى ما قبلها، وفى ذلك ما فيه: من أخذ الدرهم المنقود عن غير الوقت المفقود، وتسمية بيت المال ممطلا وقد أنجز، ووصف

الحق المتلف بأنه دين وقد أعجز، وأكل رزق اليوم وتسميته منسوبا إلى أمسه، وإخراج المعتدّ لسنة هلاله إلى حساب المعتدّ إلى سنة شمسه. وكان الله تعالى قد أجرى أمر هذه الأمة على تاريخ منزّه عن اللّبس، موقّر عن الكبس، وصرّح كتابه العزيز بتحريمه، وذكر ما فيه من تأخير وقت النّسىء وتقديمه، والأمّة المحمدية لا ينبغى أن يدركها الكسر، كما أن الشمس لا ينبغى أن تدرك القمر، وسننها بين الحق والباطل فارقة، وسنتها أبدا سابقة، والسّنون بعدها لاحقة، يتعاورها الكسر الذى يزحزح أوقات العبادات عن مواضعها، ولا يدرك عملها إلا من دقّ نظره، واستفرغت في الحساب فكره، والسنة العربية تقطع بخناجر أهلّتها الاشتباه، وتردّ شهورها حالية بعقودها موسومة الجباه، وإذا تقاعست السنة الشمسية عن أن نطأ أعقابها، وتواطى حسابها، اجتذبت قراها قسرا، وأوجبت لحقّها ذكرا، وتزوجت سنة الشمس سنة الهلال وكان الهلال بينهما مهرا؛ فسنتهم المؤنثة وسنتنا المذكّرة، وآية الهلال هنا دون آية الليل هى المبصرة، وفى السنة العربية إلى ما فيها من عربية الإفصاح وراحة الإيضاح الزيادة التي تظهر في كل ثلاث وثلاثين سنة توفى على عدد الأمم قطعا، وقد أشار الله إليها بقوله: ({وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَاِزْدَادُوا تِسْعاً.}) وفى السنة الزائدة زيادة، من لطائف السعادة، ووظائف العبادة، لأن أهل ملّة الإسلام يمتازون على كل ملة بسنة في نظير تلك المدة قصدوا صلاتها، وأدّوا زكاتها، وحجّوا فيها البيت العتيق الكريم، وصاموا فيها الشهر العظيم، واستوجبوا فيها الأجور الجليلة، وأنست فيها أسماعهم بالأعمار الطويلة، ومخالفوهم فيها قد عطلت

صحائفهم في عدوانهم، وإن كانت عاطلة، وخلت مواقفهم في أديانهم، وإن لم تكن قطّ آهلة. وقد رأينا باستخارة الله سبحانه ولتيمن باتباع العوائد التي سلكها السلف، ولم تسلك فيها السّرف، أن ينسخوا أسماءها من الخراج، ويذهب ما بين السنين من الاضطراب والاعوجاج، لا سيما والشهور الخراجية قد وافقت في هذه الشهور الشهور الهلالية، وألقى الله في أيامنا الوفاق بين الأيام، كما ألقى باعتلائنا الوفاق بين الأنام، وأسكن بنظرنا ما في الأوقات من اضطراب وفى القلوب من اصطرام. فليستأنف التاريخ في الدواوين المعمورة، لاستقبال السنة المذكورة، بأن توسم بالهلالية الخراجية لإزالة الالتباس، ولإقامة القسطاس، [وإيضاحا] لمن أمره عليه غمّة من الناس، وعلى هذا التقرير تكتب سجلات التحضير، وتنتظم الحسبانات المرفوعة، والمشارع الموضوعة، وتطرد القوانين المشروعة، وتثبت المكلفات المقطوعة، ولو لم يكن بين دواعى نقلها، وعوارض زللها وزوالها، إلا أن الأجناد إذا قبضوا واجباتهم عن منشور إلى سنة خمس في أواخر سنة سبع وسقط ساقطهم بالوفاة، وجرى بحكم السمع لا بالشرع إلى أن يرث وارثه دون بيت المال مستغلّ السنة الخراجية التي يلتقى فيها تاريخ وفاته من السنة الهلالية وفى ذلك ما فيه، مما يباين الإنصاف وينافيه [لكفى]. وإذا كان العدل وضع الأشياء في مواضعها فلسنا نحرم أيّامنا المحرّمة بذمامنا ما رزقته أبناؤها من عدل أحكامنا، بل نخلع عن جديدها المس كل المس، و [نمنع] تبعة الضّلال أن تسند مهادنته إلى نور الشمس، ولا نجعل أيامنا

معمورة بالأسقاط التي تجمعها، بل مغمورة بالأقساط التي تنفعها، فليبن التاريخ على بنيانه وليحسم الخلف الواقع في السنين، بهذا الحقّ الصادع المبين، ولينسخ المشهود به في جميع الدواوين، وليكاتب بحكمه من الخراج إلى من يمكنه من المستخدمين؛ ومنها أن المستجدّ من الأجناد لو حمل على السنة الخراجية في استغلاله، وعلى الهلالية في استقباله، لكان محالا على ما يكون محالا، وكان يتعجل استقبالا، ويباطن استعلالا، وفى ذلك ما ينافر أوصاف الإنصاف، ويصون الفلاح إن شاء الله.

(30) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى صاحب مكة، جوابا عن كتاب ورد منه عليه فى معنى وصول غلال بعث بها إلى مكة

(30) خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى صاحب مكة، جوابا عن كتاب ورد منه عليه في معنى وصول غلال بعث بها إلى مكة عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 7، ص 109 - 110) وصل كتابك، أيّها الشريف معربا عن المشايعة الشائعة أنباؤها، والمخالصة الخالصة أسرارها الوافرة أنصباؤها؛ وحسان الخلال، التي اقتسم طرفى الحمد إعادتها، وإبداؤها، ومكرمات الآل، التي تساوى في اقتناء المجد أبناؤها وآباؤها؛ وفضائل الإفضال التي لا تخفّ على غير أهل العباء صلوات الله عليهم أعباؤها. ونشر كتابك من محاسنك ما انطوى، ووردنا منه منهلا أروى وارده وارتوى؛ ووقفنا منه على أثر فضل اشتمل على عين الكرم واحتوى، ووفقنا وإياه من الحمد ما لا نخلفه نحن ولا هو مكانا سوى؛ فاقتضانا مزيدا في رفع قدره، واختصاصه من الإنعام بكلّ غريب الموقع ندره، وأصرنا كتابه إلى مستقرّ كاتبه من قلب الودّ وصدره؛ وكيف لا يكون ذلك وقد اشمخرّت لبيته الأنساب، وخرّت الأنصاب، وسجدت الرّقاب، وردّت له بعد ما توارت بالحجاب، وشهد بفضل توقيعهم الحرب وبفضل ليلهم المحراب. فأمّا ما أشار إليه من الشّكر على ما سيّر من الغلاّت التي كان الوعد بها علينا نذرا، وروّحنا بإرسالها قلبا، وشرحنا بتسيبرها صدرا، وأنّها حلّت ربقة

الجدب وفكّتها، وجلت هبوة القحط وكفّتها؛ وهوّنت مصاعب المساغب، وخلّفت سواحب السحائب، وأطفأت - ولله الحمد - بوار النّوائب؛ فقد سررنا بحسنتنا جعله الله ممن تسرّه الحسنة، وقد نبّهنا من سنتنا لأن نستقبل بالحمد الولى السنة، وقد قوّى النية وقوّمها، واستزاد لهم بلسان الشكر الفصيح، وتناول لهم بباع التلطّف الفسيح، وألقح لهم سحائب، محلّه منها محلّ ملقحها من الرّيح، واقتضى ما يعرضه أن خرج الأمر بأن يضاعف المحمول في كل عام، ولا يخصّ به خاصّ دون عام؛ وأمرنا أن يوفّر جلب الجلاّب، وتوقر ظهور الرّكاب، ليجمع للحرم الشريف بين برّ البر والبحر. وبين حمل البطن والظّهر؛ فتظلّ السنة ودودا ولودا، ويشاهد المحلّ الشريف وقد نأى عنه المحل شريدا؛ وتحطّ القلوع عما يحطّ عنه أمثالها من السحائب، وتستريح الأنفس اللواغب، فأما ما ألقاه إلى رسوله، فقد أسمع ما أسنده إليه، وأعيد بما يعيده عليه؛ وقد تكاثرت بولاء الشريف الأشهاد، فغنى عن الاستشهاد، وأغنته الحظوة بجميل رأينا عما نأى أخذه لشفعة العطاء، بل لشفاعة الاجتهاد، إن شاء الله تعالى.

(31) خطاب أرسله القاضى الفاضل إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يهنئه بمولود ولدله

(31) خطاب أرسله القاضى الفاضل إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يهنئه بمولود ولدله عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 7، ص 90 - 91) المملوك يقبّل الأرض بالمقام العالى الناصرىّ، نصر الله الإسلام بمقامه، وأهلك أعداء الحقّ بانتقامه، ولا أعدم الأمة المحمدية عقد اعتزائه بكفالتها ومضاء اعتزامه. يهنّى المملوك المولى بنعمة الله عنده وعند الإسلام وأهله بمن زاده في ولده، وكثّرة في عدده؛ وهو الأمير «أبو سليمان داود» (¬1) أنشأه الله إنشاء الصالحين، ومنّ الله بكمال خلقه، ووسامة وجهه، وسلامة أعضائه، وتهلّل غرّته، وابتسام أسرّته، ودلّ على أن هذا البيت الكريم فلك الإسلام، لا يطلع فيه إلا البدور، كما دلّ على عناية الله بأبيه، فإنّ الله تعالى قال: {(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ).} فطريق المولى هذه قد توالت فيها البشائر، ونصر الله فيها بألطاف أغنت بلطف الخواطر عن قوّة العساكر واشتملت عليه (؟) في الغائب من أمره ¬

(¬1) الملك الزاهر أبو سليمان مجير الدين داود - شقيق الملك الظاهر - وابن صلاح الدين ولد في مصر في ذى القعدة سنه 573 هـ‍، فهذا إذن هو تاريخ كتابة هذه الوثيقة، انظر: (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 276) و (ابن واصل: مفرج الكروب، ج 2، ص 424).

والحاضر ({وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها}) وكيف يحصيها ويحصرها الحاصر، أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟. فالحمد لله الذى جعل كتب المولى إلى أوليائه وكتبهم إليه مبتسمة عن المسارّ، ناطقة بأطيب الأخبار، منكشفة أسرارها عمّا يروّح الأسرار. وهذا الولد المبارك هو الموفّى لاثنى عشر ولدا، بل اثنى عشر نجما متوقّدا؛ فقد زاد الله في أنجمه عن أنجم يوسف عليه السلام نجما، ورآهم المولى يقظة ورأى ذلك الأنجم حلما؛ ورآهم ساجدين له ورأينا الخلق له سجودا، وهو سبحانه قادر أن يزيد جدود المولى إلى ان يراهم آباء وجدودا.

(32) نسخة خطاب مرسل إلى الملك العادل أبى بكر بن أيوب فى جواب كتاب ورد منه بالبشارة بفتح خلاط

(32) نسخة خطاب مرسل إلى الملك العادل أبى بكر بن أيوب في جواب كتاب ورد منه بالبشارة بفتح خلاط عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 7، ص 88 - 89) أدام الله سلطان مولانا الملك العادل وزاده من فضله!، ومدّ على خلقه وارف ظلّه، وأظهر به دينه على الدّين كلّه؛ وأوضح إلى مرضاته ما يسلكه من سبله، ولا عدمت يد الإسلام والمسلمين التعلّق بوثيق حبله؛ وفرّج به الخطط المطبقة، وفتح به البلاد المستغلقة، وأخضع لطاعته الأعناق، وعمّ بفتوحه الآفاق؛ ودمّر الكفر بمقامه، وطوى أيّامهم بما ينشره ويديمه من أيامه، وأنزل النصر في مواقف النّزال بما ترفعه راياته من أعلامه. وقف المملوك على ما أنعم به مولانا: من كتاب البشارة التي وصلت إلى كلّ قلب وسمع، وأمّل بها كلّ مسلم كلّ خير ونفع؛ وعلم ما وراءها من جمع شمل كان عزيز الجمع، وعلم ما يتبعها من عواطف مولانا التي عوّدها منه أكرم طبع؛ وتحقّق أن الله سبحانه قد قلّد الدين منه سيفا خلقه للوصل، وخلق السّيوف للقطع. وبالجملة إن الله سبحانه نظر إلى هذه الملّة بنظر مولانا لها، وكفالته لأهلها، وسياستهم بشرف السجيّة وعدلها؛ وإنّ كل ما اختلس الملك الناصر - رحمه الله - فإن الله يتمّه على يديه، ويجبر به تارة بصفحه وتارة بحدّيه، ويهب له

عمرا نوحيّا إلى أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّارا، وإلى أن يورث الإسلام بسيفه منهم أرضا ومالا وديارا؛ وهذه مخايل لا يخلف الله بارقتها، بل يردّ إلى جهة الكفر صاعقتها؛ فما يحسب المملوك أنّ جانبا يتلوّى على طاعة مولانا ولا ينحرف، ولا أنّ كلمة عليه بعد اليوم تختلف، ولا أنّ ممتنعا بالأمس يكون معه اليوم إلا أن يرضى عنه مولانا وعليه ينعطف. وعلى هذا فالشام الفرنجىّ متأخّذ بجناح إلى الأخذ وبقية عمر المؤمن كما قال - صلى الله عليه وسلم - لا ثمن لها، والفرص تمرّ مرّ السحاب، والمستعاذ بالله من حسرات الفوت بعد الإمكان {(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)}، وما يشخص لخطاب الله تعالى بالجهاد إلا مولانا، النية خالصة، والبصيرة ثاقبة، والعزيمة ماضية؛ والشجاعة منحة من الله له موهوبة، والسماحة خليفة من خلائقه الكريمة موجودة؛ والرجال تطأ عقبيه، والملوك تطيع أمره، والشّجعان تبذل أنفسهم بين يديه، والعدوّ يعرف منه خصما طالما خاطبه بلسان السيف منه إليه، وليس كلّ من قدر عليه أراده. وعكّا أقرب من (خلاط) وأنفع المسلمين فتحا، وأعظم في الكفّار قدحا؛ فو الله لئن انغلق باب الشام في وجه الكفر، لتنقطعنّ آمال أهل البحر والبرّ، وما دام في الشام بقية من الكفر فهو يقبل الزّيادة، وينتظر النّجدة ويؤمّل الاستعادة؛ وما كررّ المملوك هذا الحديث جهلا بما يجب في خدمة الملوك من الأدب في أن لا يتكلّم في القضية إلا من استشير فيها، ولا يجترئ على الكلام إلا إذا كان مجيبا بما يؤمر بالإجابة عنه، ولكن المملوك غلب على الصّحبة، وانقطع عن الخدمة؛ وعلم أنه لو كان حاضرا لكان مولانا يبسطه ولا يقبضه، ويستشفّ ما عنده ويستعرضه، ويشفّع قلبه في لسانه إذا هفا، ويحمله على صفاء ضميره فيما يقوله فلا يقابل

بالتكدير من صفا؛ فقد علم الله أن المملوك يتمنّى للمسلمين أن يردّ عليهم حقّهم، وترجع إليهم بلادهم؛ وأن تكون هذه الأمنيّة جارية على يد مولانا ومستفادة من عزيمته، ومكتوبة في صحيفته؛ ومغتنمة فيما يمدّه الله في حياته؛ فإن الأمور فيما بعد ملموحه، ولكن أبواب قدرة الله مفتوحه، فالله يجعل منها أن يفتح على مولانا فيه بلاد الساحل، وأن يأخذ للإسلام به أهبة المقيم وللمقيم أهبة الراحل؛ وما يخلط المملوك هذا المهمّ بغيره، طالع به، ولمولانا علوّ الرأى.

(33) نسخة توقيع صادر عن السلطان صلاح الدين إلى أخيه الملك العادل أبى بكر بإقطاع بالديار المصرية، وبلاد الشام، وبلاد الجزيرة، وديار بكر، وذلك فى سنة 580 هـ‍ بعد الانفصال من حرب الفرنج بعكا وعقد الهدنة معهم

(33) نسخة توقيع صادر عن السلطان صلاح الدين إلى أخيه الملك العادل أبى بكر بإقطاع بالديار المصرية، وبلاد الشام، وبلاد الجزيرة، وديار بكر، وذلك في سنة 580 هـ‍ بعد الانفصال من حرب الفرنج بعكا وعقد الهدنة معهم عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 13، ص 144 - 148) الحمد لله الذى جعل أيامنا حسانا، وأعلى لنا يدا ولسانا، وأطاب محتدنا أوراقا وأغصانا، ورفع لمجدنا لواء ولجدنا برهانا؛ وحقق فينا قوله: ({سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً}). نحمده على سبوغ نعمته، ونسأله أن يجعلنا من الداخلين في رحمته. ثم نصلى على رسوله محمد الذى أيده بحكمته، وعصمه من الناس بعصمته، وأخرج به كل قلب من ظلمته؛ وعلى آله وأصحابه الذين خلفوه فأحسنوا الخلافة في أمته. أما بعد، فإن فروع الشجرة يأوى بعضها إلى بعض لمكان قربه، ويؤثر بعضها من فضل شربه؛ ونحن أهل بيت عرف منا وفاق القلوب ودا، وإيثار الأيدى رفدا، وذلك وإن كان من الحسنات التي يكثر فيها إثبات الأقلام، فإنه من مصالح الملك التي دلت عليها تجارب الأيام، وكلا هذين الأمرين مشكورة مذاهبه، محمودة عواقبه، مرفوعة على رءوس الأشهاد مناقبه، وما من أحد من أدانينا إلا وقد وسمناه بعوارف يختال في ملابسها، ويسر في كل حين بزفاف

عرائسها، ولم نرض في بل أرحامهم بمواصلة سلامها دون مواصلة برها وإدناء مجالسها؛ ولإخوتنا من ذلك أوفر الأقسام، كما أن لهم منازحما هو أقرب الأرحام؛ وقد أمرنا بتجديد العارفة لأخينا الملك العادل، الأجلّ السيد، الكبير؛ سيف الدين، ناصر الإسلام «أبى بكر» أبقاه الله. ولو لم نفعل ذلك قضاء لحق إخائه الذى ترف عليه حوانى الأضالع، لفعلناه جزاء لذائع خدمه التي هى نعم الذرائع؛ فهو من لزوم آداب الخدمة بعيد وقف منها على قدم الاجتهاد، وفى لحمة شوابك النسب قريب وصل حرمة نسبه بحرمة الوداد؛ وعنده من الغناء ما يحكم لآماله ببسطة الخيار، ويرفع مكانته عن مكانة الأشباه والأنظار، ويجعله شريكا في الملك والشريك مساو في النقض والإمرار؛ فكم من موقف وقفه في خدمتنا فجعل وعره سهلا، وفاز فيه بإرضائنا وبفضيلة التقدم فانقلب بالمجندين إرضاء وفضلا، ويكفى من ذلك ما أبلاه من لقاء العدو الكافر الذى استشرى في هياجه، وتمادى في لجاجه، ونزل على ساحل البحر فأطل عليه بمثل أمواجه، وقال: لا براح، دون استفتاح، الأمر الذى عسرت معالجة رتاجه؛ وتلك وقائع استضأنا فيها برأيه الذى ينوب مناب الكمين في مضمره، وسيفه الذى ينسب من الاسم إلى أبيضه ومن اللون إلى أخضره، ولقد استغنينا عنهما بنضرة لقبه الذى تولت يد الله طبع فضله، وعنيت يد السيادة برونق صقله، فهو يفرى قلوب الأعداء قبل الأجساد، ويسرى إليهم من غير حامل لمناط النجاد، ويستقصى في استلابهم حتى ينتزع من عيونهم لذة الرقاد، وليس للحديد جوهر معدنه المستخرج من زكاء الحسيب، وإذا استنجد قيل له: ياذا المعالى! كما يقال لسميّه: ياذا الشطب، ولو أخذنا في شرح مناقبه، لظل القلم واقفا على أعواد منبره، وامتد شأو القول فيه فلم ينته مورده إلى مصدره، فمهما خولناه من العطايا فإنه يسير في جنب غنائه، ومهما أثنينا عليه فإنه سطر في كتاب ثنائه.

وقد جعلنا له من البلاد ما هو مقتسم من الديار المصرية والشامية، وبلاد الجزيرة وديار بكر: ليكون له من كل حظ تفيض يده في أمواله، ويركب في حشد من رجاله؛ ويصبح وهو في كل جانب من جوانب ملكنا كالطليعة في تقدم مكانها، وكالربيئة في إسهار أجفانها. فليتسلم ذلك بيد معظم قدرا، ولا يستكثر كثرا، ويحمل منها رفدها غيثا أو بحرا؛ كذلك فليعدل في الرعيّة الذين هم عنده ودائع، وليجاوز بهم درجة العدل إلى إحسان الصنائع، فإذا أسند هذا الأمر إلى ولاته فليكونوا تقاة لا يجد الهوى عليهم سبيلا، ولا يحمد الشيطان عندهم مقيلا، وإذا حملوا ثقلا لا يجدون حمله ثقيلا. وقد فشا في هذا الزمن أخذ الرشوة، وهى سحت أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنبذه، ونهى عن أخذه، وعن الرغبة في تداوله، وهو كأخذ الربا الذى قرنت اللعنة بمؤكله وآكله. وأما القضاة الذين هم للشريعة أوتاد، ولأعضاء أحكامها أجناد، ولحفظ علومها كنوز لا يتطرق إليها النفاد، فينبغى أن يعول فيهم على الواحد دون الإثنين، وأن يستعان منهم في الفصل بذى الأيدى، وفى اليقظة بذى اليدين، ومن رام هذا المنصب سائلا فليلمه وليغلظ القول في تجريع ملامه، وليعرف أنه ممن رام أمرا فأخطأ الطريق في استجلاب مرامه، وأمر الحكام لا يتولاه من سأله، وإنما يتولاه من غفل عنه وأغفله. وإذا قضينا حق الله في هذه الوصايا فلنعطقها على ما يكون لها تابعا، ولقواعد الملك رافعا، وذاك أن البلاد التي أضفناها إليك: فيها مدن ذات أعمال واسعة، ومعاقل [ذات] حصانة مانعة، وكلها يفتقر إلى استخدام الفكر في تدبيره، وتصريف الزمان في تعميره، فولّ وجهك إليها غير وان في تكثير قليلها،

وترويض مخيلها، وبث الأمنة على أوساطها، وإهداء الغبطة إلى أفئدة أهلها حتى تسمع باغتباطها، وعند ذلك يتحدث كل منهم بلسان الشكور، ويتمثل بقوله تعالى: ({بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}). واعلم أنه قد يجاورك في بعضها جبران ذو بلاد وعساكر، وأسرة ومنابر، وأوائل للمجد وأواخر، وما منهم إلا من يتمسك منا بود سليم، وعهد قديم، وله مساعدة نعرف له حقها (والحق يعرفه الكريم). فكن لهؤلاء جارا يودون جواره، ويحمدون آثاره، وإن سألوك عهدا فابذله لهم بذل وفىّ واقف على السنن، مساو بين السر والعلن، ولا يكن وفاؤك لخوف تتّقى مراصده، ولا لرجاء ترقب فوائده، فالله قد أغناك أن تكون إلى المعاهدة لاجيا، وجعلك بنا مخوفا ومرجوا لا خائفا ولا راجيا، وقد زدناك فضلة في محلك تكون بها على غيرك مفضلا، وقد كنت من قبلها أعز فأوفت بك أغر محجلا، وذاك أنّا جعلناك على آية الخيل تقودها إلى خوض الغمار، وتصرفها في منارل الأسفار، وترتب قلوبها وأجنحتها على اختلاف مراتب الأطوار، فنحن لا نلقى عدوا ولا ننهد إلى بلد إلا وأنت كوكبنا الذى نهتدى بمطلعه، ومفتاحنا الذى نستفتح المغلق بيمن موقعه، ونوقن بالنصر في ذهابه وبالغنيمة في مرجعه، والله يشرح لك صدرا، وبيسر لك منا أمرا، ويشد أزرنا بك كما شد لموسى بأخيه أزرا، والسلام.

مقدمة [للدكتور سعيد عباس الفاتح عاشور]

مقدمة [للدكتور سعيد عباس الفاتح عاشور] بسم الله الرّحمن الرّحيم إذا كانت الحضارة العربية الإسلامية هى باعتراف الباحثين أعظم حضارة شهدها العالم أجمع طوال العصور الوسطى؛ فإن جزءا هاما من هذه الحضارة يكمن بين طيات الكتب التي تشكل ركنا أساسيا من التراث العربى. ومنذ فجر النهضة الأوربية الحديثة والتراث العربى يحظى بعناية فائقة، ظهرت في القرنين الثانى عشر والثالث عشر للميلاد، عند ما أقبل الأوربيون على ترجمة كل ما وصل إلى أيديهم من ثمار الفكر العربى إلى اللاتينية، ثم إلى اللغات القومية التي ظهرت في الغرب الأوربى مع أواخر العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة. ثم كان أن اشتد تيار الإستشراق وخاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فظهرت مجموعة من المستشرقين الذين تعمقوا في دراسة تراث الفكر العربى، وهؤلاء لم يكتفوا بترجمة أجزاء من هذا التراث، وإنما امتد نشاطهم إلى التحقيق والمقارنة ونشر المتون في صورتها الأصلية العربية. ومن الطبيعى أن يدرك أبناء العروبة في نهضتهم الحديثة أنهم أحق الناس برعاية تراث آبائهم وأجدادهم، وأقدرهم على تحقيق ذلك التراث ونشره. وهكذا أخذ علماء العرب زمام حركة إحياء التراث العربى، ووجدوا في هذا الإحياء إحساسا بالأمل وشعورا بالفخر وتعبيرا عن الوفاء للسلف العظيم.

على أن حركة تحقيق التراث العربى شابتها في جميع أدوارها ظاهرة واضحة، هى أن العمل كان يبدأ بحماسة وسرعة في تحقيق كثير من الموسوعات، ثم لا يلبث أن يتوقف العمل في تحقيق هذه الموسوعة أو تلك قبل أن تكتمل. وهكذا ألفينا أنفسنا أمام حقيقة لا نستطيع أن ننكرها أو نتغاضى عنها، هى أن جزءا لا يستهان به من تراث الفكر العربى تم تحقيقه ونشره في صورة مبتورة، بحيث ظهرت الأجزاء الأولى من الكتاب أو الموسوعة في حين ظلت بقية الأجزاء في صورتها الخطية المليئة بأخطاء النساخ، يصعب الرجوع إليها، ويتعذر الإستفادة منها فائدة كاملة. ولا تقتصر خطورة هذا الوضع على المصاعب التي يصادفها الباحثون في الرجوع إلى الأجزاء الخطية من تراثنا العربى، وبالتالى على عدم الإفادة من هذا التراث فائدة تامة متكاملة، وإنما هناك ما هو أشد خطرا وأبعد أثرا. ذلك أن الأجزاء الأخيرة من أية موسوعة تاريخية هى في كثير من الحالات أعظم أهمية وأكثر فائدة، لأن المؤلف كان يدونها في وقت متأخر نسبيا وقد اكتمل نضجه الفكرى، وازدادت دائرة علمه اتساعا. وفى موسوعات علم التاريخ وحولياته - بوجه خاص - نجد هذه الظاهرة أشد ما تكون وضوحا، لأن المؤرخ إذا اعتمد على الرواية والنقل في تسجيل أحداث السنوات الأولى من كتابه، فإنه في تأريخه للسنوات الأخيرة من موسوعته يروى أحداثا شاهدها بنفسه وربما شارك في صنعها. ولا تخفى علينا الأسباب الحقيقية لتوقف العمل في تحقيق ونشر كثير من المخطوطات العربية عند مرحلة معينة. فتراث الفكر العربى جمع بين كثرة العدد وضخامة الحجم من ناحية، وبين العمق والأصالة من ناحية أخرى. وهكذا تبدو معظم الموسوعات العربية - من ناحيتى الكم والكيف - أعظم من أن

يستطيع عالم من علماء عصرنا الحديث - مهما يبلغ علمه وجهده - أن يحققه بمفرده. وكانت النتيجة الحتمية لهذا الوضع، أن يبدأ العمل في تحقيق الموسوعة بداية تتصف بالنشاط والحماسة - وربما السرعة في الإنجاز - وما زال هذا العالم أو ذلك يطلق العنان لحماسته وجهده، حتى يضطره قانون الطبيعة إلى الرضوخ، فيجد نفسه وقد نفدت طاقته وعجزت قدرته عن الاستمرار في المضى في حمل الأمانة، فيتوقف العمل بطريقة تلقائية قد تكون تدريجية وقد تكون مفاجئة. على أن توقف العمل في إنجاز تحقيق بعض جوانب التراث العربى على هذه الصورة، لا ينبغى - من وجهة نظرنا - أن يكون أكثر من نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى. فالأمانة تقع على كواهل الأجيال المتعاقبة لا على كاهل جيل بعينه. وإذا كان الجيل السابق قد وضع حجر الأساس في بناء حركة إحياء التراث العربى، فلا أقل من أن ينهض الجيل اللاحق بالأمانة كاملة، فينهض بدوره ويؤدى واجبه في إتمام البناء الكبير. وهكذا أرى أنه قبل أن نفكر في الشروع في تحقيق وإحياء جانب جديد من جوانب تراثنا العربى، فإنه يجب أن نستكمل أولا الجوانب السابقة التي بدأ بالعمل فيها الجيل أو الأجيال السابقة. وتنفيذا لهذا المبدأ بدأنا باستكمال تحقيق كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزى، وهو الكتاب الذى أتم أستاذنا المرحوم الدكتور محمد مصطفى زيادة تحقيق نصفه ممثلا في الجزأين الأول والثانى. وكان أن نهضنا نحن بتحقيق النصف الباقى من كتاب السلوك ممثلا في الجزأين الثالث والرابع، وانتهينا تماما من تحقيقه حتى نهايته، ونرجو أن تفرغ مطبعة دار الكتب المصرية من استكمال طبعه قريبا.

ومع كتاب السلوك للمقريزى أخذنا في اعتبارنا ضرورة إتمام نشر كتاب آخر، هو كتاب مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب لابن واصل، بعد أن حقق المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال ما يقرب من نصفه، وترك للخلف مهمة إتمام النصف الآخر. ولما كان تحقيق بقية كتاب السلوك للمقريزى كفيلا بأن يستنفد كل طاقتى وجهدى، فإننى اخترت للعمل في تحقيق بقية كتاب مفرج الكروب، تلميذى وزميلى الدكتور حسنين محمد ربيع، مدرس تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب بجامعة القاهرة. وكان أن رسمت معه خطة العمل، ولازمته الشهور الطوال، نجلس سويا في مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية، أعيش مع المقريزى، ويعيش هو مع ابن واصل. وهكذا حتى أتم الدكتور حسنين محمد ربيع تحقيق هذا الجزء الذى نقدمه اليوم لمقدرى مكانة التراث العربى. وإذا قلت أننى قمت بمراجعة هذا الجزء مراجعة دقيقة قبل أن أسمح بطبعه، فإننى لا أقول هذا لا نتقص من قيمة الجهد الشاق الكبير الذى قام به الدكتور حسنين ربيع في تحقيق هذا الجزء ووضع حواشيه، وإنما لأتحمل نصيبى كاملا في المسئولية عن كل لفظ ورد في المتن. ... ويعالج هذا الجزء الرابع من مفرج الكروب السنوات من سنة 615 هـ‍ التي توقف عندها في التحقيق المرحوم الدكتور الشيال، حتى سنة 628 هـ‍. أما السبب في اختيارنا سنة 628 هـ‍ بالذات لتكون حدا للجزء الرابع من تاريخ مفرج الكروب، فلأنها السنة التي ينتهى بها كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير، وهو الكتاب الذى اعتمد عليه واستفاد منه ابن واصل، مما يجعل هذه السنة تمثل نهاية مرحلة وبداية مرحلة بالنسبة لكتاب مفرج الكروب.

وفى هذا الجزء الرابع من كتاب مفرج الكروب، نلمس نغمة جديدة من ابن واصل عند ما يستخدم ضمير المتكلم في كتابته، مما يوضح أنه صار فتى يعى بعض الأحداث التي يسردها، والتي رآها بنفسه أو سمعها من بعض المقربين والثقات. من ذلك ما يرويه ابن واصل من وفاة أم الملك المظفر - وهى زوج الملك المنصور - سنة 616 هـ‍، وكيف أن والد ابن واصل أمّ المصلين عليها في قلعة حماه، ثم يسترسل ابن واصل متحدثا عن نفسه، فيقول ما نصه: «وحضرت معه يومئذ وعمرى نحو اثنتى عشرة سنة. ثم عمل السلطان - رحمه الله - عزاها بالمدرسة المنصورية ظاهر حماه، ورأيته وهو جالس يمنة المحراب وهو مكتئب حزين، وهو لابس الحداد ثوب أزرق وعمامته زرقاء، وإلى جانبه أولاده الملك الناصر قلج أرسلان وإخوته، وعليهم كلهم الحداد. . .». وفى حوادث سنة 619 هـ‍ يروى ابن واصل كيف أنه شاهد بعينيه دخول الملك المعظم عيسى حماه، فيقول: «وشاهدته - رحمه الله - حين دخوله إليها، وعمرى خمس عشرة سنة يومئذ». وفى حوادث سنة 625 هـ‍ يروى ابن واصل كيف استنجد الملك الناصر داود بعمه الملك الأشرف ضد عمه الآخر الملك الكامل، ويحكى عن نفسه فيقول أنه عند وصول الأشرف إلى دمشق «خرج الملك الناصر لاستقباله، وكنت يومئذ بدمشق وشاهدت دخوله القلعة. . .». وإذا كان ابن واصل لم يشاهد بعينيه بعض الأحداث التي تعرض لها بالذكر في هذا الجزء الرابع من كتابه، فإنه سمع بأذنيه الكثير مما رواه شاهد والعيان لتلك الأحداث. من ذلك ما يقوله ابن واصل في حوادث سنة 623 هـ‍: «ولقد حكى لى ظهير الدين التفليسى - رحمه الله - وكان حضر فتح جلال الدين لها [لمدينة تفليس] قال. . .». وعن الهدنة بين السلطان الكامل والامبراطور فردريك الثانى، يقول ابن واصل في حوادث سنة 625 هـ‍: «حكى

لى والدى. . .». ثم يمضى ابن واصل في روايته فيقول «حكى لى شمس الدين رحمه الله قال: لما قدم الانبرطور القدس لازمته كما أمرنى السلطان الملك الكامل، ودخلت معه إلى الحرم الشريف. . .». ويروى قصة الأحداث كما رواها له القاضى شمس الدين قاضى نابلس، الذى أمره السلطان الكامل بملازمة خدمة الامبراطور فردريك ومرافقته إلى أن يزور القدس ويرجع إلى عكا (حوادث سنة 625، 626 هـ‍). وينتهز ابن واصل الفرصة للاستطراد في الكلام عن علاقة بنى أيوب من سلالة السلطان الكامل بالامبراطور فردريك بعد عودته إلى بلاده، ثم بابنه مانفرد. ويحكى كيف أن السلطان الظاهر بيبرس أرسله سنة 659 هـ‍ رسولا إلى الملك مانفرد. . . ويحكى الكثير عن مشاهداته في صقلية وجنوب إيطاليا وأوضاع المسلمين فيهما. هذا بالإضافة إلى ما نصادفه في هذا الجزء من إشارات تلقى أضواء على حياة ابن واصل نفسه، فهو يحكى عن نفسه أنه في سنة 624 هـ‍ قرأ بالحرم الشريف بالقدس على الشيخ شمس الدين رزمين البعلبكى كتاب الإيضاح لأبى على الفارسى، وأنه جود عليه القرآن الكريم. وفى حوادث سنة 625 هـ‍ يحكى ابن واصل كيف أنه حل محل أبيه في المدرسة الناصرية الصلاحية بالقدس، عند ما حج أبوه في تلك السنة. ويقول في حوادث سنة 628 هـ‍ أنه كان بحلب في تلك السنة، «توجهت إليها للاشتغال فيها بالعلم على الشيخ نجم الدين الخباز في المذهب والأصولين، وعلى الشيخ موفق الدين بن يعيش في علم النحو واللغة، ولتحصل لى البركة بالقاضى بهاء الدين بن شداد، رحمه الله». أما عن الاشارات التي أوردها ابن واصل في هذا الجزء عن أبيه ومكانته عند ملوك بنى أيوب من ناحية، ثم ولاء ابن واصل نفسه للبيت الأيوبى والإشادة بمناقبه من ناحية أخرى، فهى عديدة، تزداد كثرة كلما

ازداد ابن واصل نفسه إدراكا ورشدا. ففى سنة 621 هـ‍ يروى ابن واصل كيف أرسل السلطان الملك المعظم يستدعى أباه إلى خدمته، «فسافرنا من حماه في أواخر شعبان، فوجدنا منه - رحمه الله - إقبالا عظيما». ... أما عن الخطة التي اتبعت في تحقيق هذا الجزء والأجزاء التالية من كتاب مفرج الكروب، فقد روعى فيها الالتزام بالقواعد التي وضعها المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال في تحقيق الأجزاء السابقة من الكتاب، تقديرا لجهده الرائد من ناحية، ومحافظة على وحدة الصورة المتكاملة للكتاب من ناحية أخرى. وبذلك يأتى هذا العمل الذى ينهض به الدكتور حسنين ربيع متمما للعمل الكبير الذى بدأه الدكتور الشيال. وقد أشار المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال في مقدمته للجزء الأول من مفرج الكروب إلى أنه يوجد من هذا الكتاب أربع نسخ خطية معروفة هى:. 1 - نسخة مكتبة جامعة كمبردج رقم 1079، ويوجد منها صورة شمسية بمكتبه جامعة القاهرة رقم 24050، وتنتهى هذه النسخة بحوادث سنة 616 هـ‍، أي السنة التي مات فيها العادل الأول وتولى فيها السلطان الكامل محمد. 2 - نسخة باريس رقم 1702 وتوجد منها صورة شمسية بدار الكتب المصرية رقم 5319، وتحتوى على 442 ورقة وتشتمل على مخطوطة ابن واصل بأكملها. 3 - نسخة باريس رقم 1703، وتوجد منها صورة شمسية بمكتبة جامعة الإسكندرية، وتقع هذه النسخة في 216 ورقة، وتبدأ ببعض حوادث سنة 635 هـ‍ وتنتهى بحوادث سنه 659 هـ‍.

4 - نسخة بمكتبة مللا جلبى باستانبول رقم 119، وتوجد منها صورة شمسية بمكتبة جامعة الاسكندرية رقم 498، وتقع في 200 ورقة وتحتوى هذه النسخه على أواسط الكتاب، إذ تبدأ بالتأريخ للحوادث بعد وفاة صلاح الدين سنه 589 هـ‍، وتنتهى بحوادث سنه 635 هـ‍. ومن الواضح أنه في تحقيق هذا الجزء الذى يبدأ ببقية حوادث سنة 615 هـ‍ ويمتد حتى حوادث سنة 628 هـ‍، كان علينا أن نعتمد على النسختين الثانية والرابعة، حيث أن السنوات التي احتوتها نسخة كامبردج تم تحقيقها ونشرها في الأجزاء السابقة، في حين أن النسخة الباريسية رقم 1703 تبدأ بحوادث سنة 635 هـ‍. واستقر رأينا - مع الدكتور حسنين ربيع - على اتخاذ نسخة مللا جلبى أصلا للنشر، ورمز لها في التحقيق بحرف [م]، مع مقابلتها بنسخة باريس رقم 1702 التي رمز لها في التحقيق بحرف [س]. ذلك أنه بالأضافة إلى ما ذكره المرحوم الدكتور الشيال من أن نسخة مللا جلبى تمثل أقدم النسخ الموجودة من مخطوطة ابن واصل، في حين تمثل نسخة باريس (1702) أحدثها، فإن نسخة مللا جلبى أكثر صحة واستيفاء ودقة من نسخة باريس التي يزيد من قصورها ما بها من خروم أضاعت من المتن صفحات عديدة، فضلا عما في ترقيم ورقاتها من اضطراب، وما في عباراتها من تحريف وأخطاء، أشار المحقق إلى بعضها أثناء تحقيقه، في هوامش الصفحات. ... وبعد، فإنه لا يسعنى في ختام هذه الكلمة الموجزة سوى أن أذكر فضل المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال في التنبيه إلى أهمية كتاب مفرج الكروب لابن واصل، وفى وضع الأسس السليمة لتحقيق هذا الكتاب ونشره، ثم في تحقيق ونشر الأجزاء الثلاثة الأولى منه.

ومن ناحية أخرى فإننى أبارك الجهد الكبير الذى يبذله الدكتور حسنين محمد ربيع في تحقيق بقية كتاب مفرج الكروب، وأدعو له بالتوفيق في إتمام بقية هذا الكتاب الهام، ليتم بذلك إضافة لبنة جديدة في صرح إحياء تراثنا العربى. والله ولى التوفيق دكتور سعيد عبد الفتاح عاشور أستاذ كرسى تاريخ العصور الوسطى كلية الآداب - جامعة القاهرة

تنويه

تنويه تم تحقيق هذا الجزء من كتاب «مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب» لابن واصل، بمركز تحقيق التراث بدار الكتب والوثائق القومية بجمهورية مصر العربية. ويطيب لنا في هذا الصدد أن ننوه بالجهد المشكور الذى بذله كل من الآنسة لبيبة ابراهيم مصطفى، والسيدة فاطمة مصطفى الحكيم، والأساتذة يحيى عبد الحميد الحدينى، وفراج عطا سالم، وعبد العزيز محمود عبد الدايم، وجميعهم من مساعدى الباحثين في مركز تحقيق التراث، وأسهموا في إخراج هذا الجزء. أما الأستاذ محمد محمد حسن أبو حسن فله الشكر الخاص لمساعدته في وزن أبيات الشعر التي وردت في هذا الجزء من كتاب ابن واصل.

*

[77 أ] ذكر (¬1) اضطراب العسكر على الملك الكامل وتأخره عن منزلته ونهب الافرنج أثقال المسلمين (¬2) ولما بلغ الملك الكامل موت والده، وهو بمنزلته المعروفة بالعادلية في بردمياط (¬3)، مرابط للفرنج، جلس في العزاء، وعظم عليه موت والده جدا لا سيما في مثل ذلك الوقت الصعب. وخاف أن يتخلى عنه إخوته ولا يطيق دفع الفرنج عن الديار المصرية؛ وفى ملكهم لها بوار الاسلام بالكلية. ولم يزل الفرنج ملازمين حصار برج السلسلة (¬4) الذى تقدم ذكره حتى استولوا عليه وملكوه، وقطعوا السلاسل المتصلة لتجوز مراكبهم في بحر النيل ويتمكنوا من البلاد. فنصب الملك الكامل عوض السلاسل جسرا عظيما ليمنع العدو به من سلوك النيل، فقاتلت الفرنج عليه قتالا عظيما حتى قطعوه، فأمر ¬

(¬1) بقية حوادث سنة خمس عشرة وستمائه. (¬2) اعتمدنا في تحقيق الصفحات التالية على نسخة (م) وحدها لضياع هذه الصفحات من نسخة (س). وقد قورنت هذه الصفحات بما ورد في المراجع التاريخية المعاصرة المعروفة. (¬3) عن قرية العادلية التي أسسها السلطان الملك العادل سنة 614 هـ‍ - 1217 م، انظر ابن واصل، ج 3، ص 260 حاشيه 2؛ حسنين ربيع، النظم المالية في مصر زمن الأيوبيين، ص 69. (¬4) يذكر ابن أيبك الدوادارى (الدر المطلوب، ورقة 142) أن برج السلسلة «كان برجا عاليا بنى في وسط النيل وفى ناحيتيه سلسلة وسلسلة تمتد احداهما على النيل إلى دمياط، وتمتد الأخرى على النيل إلى الجزيرة يمنعا من عبور المراكب إلى بحر النيل من المالح».

السلطان عند ذلك بتغريق عدة من المراكب في النيل، فمنعت مراكب الفرنج من سلوك النيل. فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجا هنالك يعرف بالأزرق (¬1) كان النيل يجرى فيه قديما، فحفروه وعمقوه فوق المراكب التي جعلت في النيل، فأجروا الماء فيه إلى البحر المالح وأصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يسمى بوره (¬2) على أرض [جيزة دمياط (¬3)] مقابل المنزلة التي بها السلطان ليقاتلوه من هنالك. فلما صاروا في بوره حاربوه وقاتلوه في الماء وزحفوا إليه غير مرة، فلم يظفروا بطائل. ولم يتغير على أهل دمياط شىء لأن الميرة والامداد متصلة إليهم، والنيل يحجز بينهم وبين الفرنج [77 ب] وأبواب المدينة مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر. ولما علم العسكر بموت السلطان الملك العادل بالشام حصل عند بعضهم الطمع. وكان في العسكر عماد الدين أحمد بن سيف الدين على بن المشطوب، وكان معظما عظيما في الأكراد الهكارية (¬4). فاتفق مع جماعة من الجند والأكراد ¬

(¬1) كان الخليج الأزرق يجرى من بورة إلى شمالى المنزلة العادلية، انظر، المقريزى، السلوك، ج 1 ص 195 حاشية 2. (¬2) كانت بوره حصنا على ساحل البحر من عمل دمياط وهى الآن تعرف باسم كفر البطيخ مركز شربين بمحافظة الغربية، انظر ياقوت (معجم البلدان)؛ رمزى (القاموس الجغرافى، ج 2 قسم 2، ص 78 - 79.) (¬3) في الأصل «الجيزة» وما هنا من المقريزى (الخطط، ج 1، ص 216)، وكانت جيزة دمياط تقع على الشاطىء الغربى للنيل تجاه مدينة دمياط وعرفت بعد ذلك باسم منية سنان الدولة، وتعرف الآن بالسنانية، انظر، ابن الجيعان، التحفة، ص 63؛ رمزى، القاموس، ج 2، قسم 2، ص 77. (¬4) الهكارية، إحدى قبائل الأكراد، عاشوا في أعالى الجزيرة حياة مستقلة في تحصيناتهم الجبلية وسط غيرهم من قبائل الكرد. وحاول أتابك زنكى إخضاعهم واستولى على كثير من تحصيناتهم، انظر ياقوت، معجم البلدان (Macdonald : article «Hakkari,» in E .I, Ist, ed) .

ذكر وصول الملك المعظم إلى العسكر الكاملى وتقرير قواعد أخيه الملك الكامل

ينقادون إليه يطيعونه، على خلع الملك الكامل من السلطنة، وأن يملّكوا الديار المصرية أخاه الملك الفائز ابراهيم بن الملك العادل، ليصير لهم الحكم عليه وعلى البلاد. ولما أحس الملك الكامل بذلك فارق منزلته المعروفة بالعادلية ليلا جريدة، وتوجه إلى أشمون طناح (¬1) فنزل عندها. وأصبح العسكر وقد فقدوا سلطانهم، فركب كل سلطان منهم هواه، ولم يقف الأخ على أخيه، وتركوا أثقالهم وخيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلا ما خف عليهم حمله، ولحقوا بالسلطان الملك الكامل. ولما أصبح الفرنج لم يروا أحدا من المسلمين على شاطىء النيل، فعبروا إلى بر دمياط، وملكوه آمنين بغير منازع ولا مدافع. وكان ذلك في ذى القعدة من هذه السنة، وغنموا كل ما في معسكر المسلمين، وكان شيئا لا يحدّ ولا يوصف. ذكر وصول الملك المعظم إلى العسكر الكاملىّ وتقرير قواعد أخيه الملك الكامل واتفق بعد يومين من هذه الواقعة الصعبة وصول الملك المعظم، فقوى به قلب أخيه الملك الكامل واشتد به أزره، ووعده الملك المعظم بأزالة جميع المفاسد. وكان الملك الكامل قد عزم قبل وصول أخيه - على ما يقال - على مفارقة البلاد وتركها بيد الفرنج والتوجه إلى بلاد اليمن، وكانت - كما تقدم ذكره - ¬

(¬1) أشمون أو أشموم طناح من أقدم المدن المصرية واسمها القبطى Chemoum Erman وسماها العرب أشمون الرمان نسبة إلى اسمها القبطى كما سميت أيضا أشموم طناح نسبة إلى طناح التي كانت معها في كورة واحدة. وأشمون الرمان هى الآن قرية عادية من قرى مركز دكرنس محافظة الدقهلية؛ انظر، ياقوت (معجم البلدان)؛ ابن مماتى، ص 89؛ ابن دقماق، الانتصار، ج 5، ص 68؛ رمزى، القاموس، ج 1، ق 2، ص 229؛ وكذلك: (Ball : Egypt in the Classical Geographies, P. 27) .

بيد ولده الملك المسعود صلاح الدين يوسف (¬1). فثبته الملك المعظم وشجعه، وركب الملك المعظم إلى خيمة عماد الدين بن المشطوب فاستدعاه ليركب معه ويسايره، فاستنظره ليلبس خفيه وثيابه فلم ينظره ولم يمهله، فركب معه وسايره إلى أن خرج به من العسكر، ثم سلمه إلى جماعة من أصحابه [78 ا] وأمرهم أن لا يفارقوه حتى يخرجوه من الديار المصرية، وينفوه إلى الشام. فمضى إلى الشام ووصل إلى حماه، وأقام عند صاحبها الملك المنصور مديدة، وجرى له ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - في حوادث السنة الآتية. ثم بعدئذ (¬2) بمدة أمر الملك الكامل أخاه الملك الفائز أن يمضى رسولا عنه لإحضار العساكر بسبب الجهاد؛ وكان الغرض إخراجه من البلاد. فمضى [الفائز] إلى حماه، وحمل إليه الملك المنصور صاحبها شيئا كثيرا، ثم مضى إلى الشرق فمات به. وقيل إنه مات مسموما والله أعلم بحقيقة ذلك، وسنذكر وفاته في السنة التي مات فيها إن شاء الله تعالى. ولما أخرج عماد الدين بن المشطوب والملك الفائز من العسكر الكاملى، انتظم أمر السلطان الملك الكامل وقوى جنانه. وأما الفرنج فإنهم لما ملكوا بر دمياط احتاطوا بها برا وبحرا وأحدقوا بها، وأخذوا في محاصرتها والتضييق عليها. وامتنع دخول الأقوات إليها بالكلية، وكل هذا كان بسبب حركة ابن المشطوب ونيته الردية. لا جرم أن الله تعالى لم يمهله وعاقبه بعد ذلك - بما سنذكره إن شاء الله تعالى. وحفر الفرنج على معسكرهم المحيط بدمياط خندقا، وبنوا عليه سورا على عادتهم، وأهل دمياط ¬

(¬1) انظر ما سبق ابن واصل، ج 3 ص 227؛ وانظر أيضا يحيى بن الحسين، غاية الأمانى (تحقيق الدكتور سعيد عاشور) ج 1، ص 403 - 417. (¬2) في الأصل «بعدذ».

يقاتلونهم أشد قتال ويمانعونهم، وصبروا صبرا لم ير مثله، وقلّت عندهم الأقوات وغلت الأسعار. ولما رتب الملك المعظم القواعد بمصر عاد إلى بلاده، واستمر الملك الكامل إلى آخر هذه السنة محاربا للفرنج منازلا لهم، وهم محاربون لأهل دمياط منازلون لهم محدقون بدمياط، حائلون بينها وبين عساكر المسلمين، على ما كانت عليه الحال بعكا في أيام السلطان الملك الناصر صلاح الدين. وكان الذى يدخل إلى دمياط من أصحاب الملك الكامل إنما يدخل عليهم بمخاطرة عظيمة، بأن يسبح في بحر النيل، وهو مملوء من مراكب العدو وشوانيهم. وكان عند السلطان جاندار (¬1) يسمى شمايل (¬2) من أهل قرية من قرى حماه تسمى معرذفتين (¬3)، كان من فلاحى هذه القرية، فوصل إلى أن خدم في الركاب السلطانى جاندارا. وكانت عنده قوة نفس وشهامة، فكان يخاطر بنفسه ويسبح في النيل ومراكب الفرنج به محيطة [78 ب] ويدخل إلى دمياط فيقوى قلوب أهلها عن السلطان، ويعدهم وصول النجد لإزاحة العدو عنهم، ثم يأتى السلطان سباحة ويعلمه بأخبار أهلها. فحظى بذلك عند السلطان ¬

(¬1) الجاندار كلمة مركبة من لفظين فارسيين أحدهما جان ومعناه سلاح، والثانى دار ومعناه ممسك. وموضوع وظيفة الجاندارية أن متوليها يستأذن السلطان قبل دخول الأمراء للخدمة، ويدخل أمامهم إلى الديوان، انظر القلقشندى (صبح، ج 4، ص 20)؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 133، حاشية 1، (Sobernheim,article Djandar in E .I). (¬2) هو الأمير علم الدين شمايل الذى نسبت إليه - فيما بعد - خزانة شمايل أشهر سجون العصر المملوكى الذى كان مأوى لمن وجب عليه القتل من اللصوص وقطاع الطريق وأصحاب الجرائم العظيمة ومن أراد السلطان إهلاكه. انظر المقريزى، الخطط، ج 2، ص 188؛ زيادة، «السجون في مصر في العصور الوسطى»، مجلة الثقافة (1943 - 1944). (¬3) في الأصل «معرذفش» ومعرذفتين قرية تبعد مسافة 6 كيلو مترا غربى مدينة حماه وما زالت تحمل نفس الأسم حتى الآن.

ذكر حوادث فى هذه السنة فى الشرق

وتقدم عنده تقدما كثيرا، حتى آل أمره إلى أن جعله من أكبر الأمراء، وجعله أمير جاندار له وسيف نقمته (¬1)، وولاه القاهرة. ذكر حوادث في هذه السنة في الشرق ومما جرى من الحوادث في هذه السنة في الشرق ما كان من استيلاء عماد الدين زنكى بن نور الدين أرسلان شاه على قلاع الهكارية وبلاد الزوزان (¬2). ذكر الخبر عن ذلك كان عماد الدين زنكى هو الأصغر من ولدى نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل، وكان هو وأخوه الملك القاهر عز الدين مسعود قد تزوجا إبنتى مظفر الدين كوكبورى بن زين الدين صاحب إربل في حياة أبيهما. وأم الابنتين ربيعه خاتون بنت أيوب أخت الملك العادل، وقد ذكرنا ذلك (¬3). فلما مات نور الدين وملك الموصل ولده الملك القاهر، صار لعماد الدين من البلاد - بحكم الوصية من أبيه - قلعتا العقر وشوش (¬4). فلما مات الملك القاهر وصار إسم [السلطنه لابنه نور الدين أرسلان شاه، وهو طفل صغير، وقام بتدبير ملكه بدر الدين لؤلؤ، طمع عماد الدين زنكى في البلاد. وكان بقلعة العمادية (¬5) مملوك من مماليك عز الدين مسعود بن مودود ¬

(¬1) في الأصل «لعمه» والصيغة المثبته من المقريزى، الخطط، ج 2، ص 188. (¬2) زوزان شرقى دجلة بين أرمينيه وبين أخلاط وأذربيجان وديار بكر والموصل. وكان أهلها أرمن بينهم طوائف من الأكراد، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬3) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 3، ص 197. (¬4) العقر قلعة حصينة شرقى الموصل تعرف بعقر الحميدية، والشوش قلعة عالية على مقربة منها، انظر ياقوت، (معجم البلدان). (¬5) العمادية قلعة شمالى الموصل بناها عماد الدين زنكى سنة 537 هـ‍ - 1142 م مكان قلعة خربه من قلاع الأكراد تسمى قلعة الشعبانى، انظر ابن الأثير، التاريخ الباهر، ص 64، ياقوت، معجم البلدان.

جدّ عماد الدين زنكى، فجرت بينه وبين عماد الدين زنكى مراسلات في معنى تسليم العمادية إليه. وبلغ ذلك بدر الدين لؤلؤ فبادر إلى عزل ذلك المملوك وولاها أميرا كبيرا، ورتب فيها جماعة من الجند، وكذلك فعل في غيرها من القلاع. وكان نور الدين أرسلان شاه [بن القاهر (¬1)] الذى له أسم السلطنه، لا يزال مريضا من خراج كان به (¬2) وغيرها من الأمراض، فكان يبقى المدد الطويلة لا يركب ولا يظهر للناس. فأرسل عماد الدين زنكى إلى من بالعمادية من الجند يقول لهم: «أن إبن أخى قد مات، ويريد بدر الدين لؤلؤ [أن (¬3)] يملك البلاد لنفسه، وأنا أحق بملك آبائى وأجدادى». ولم يزل بالجند حتى [79 ا] استدعوه وسلّموا إليه قلعة العمادية في ثامن عشر شهر رمضان من هذه السنة، وقبضوا على نائب بدر الدين وعلى من معه. وبلغ ذلك بدر الدين فأمر العسكر بالرحيل إلى العمادية ليحصروا بها عماد الدين، فساروا إليه وحصروه فيها وذلك في قوة الشتاء. فاشتد البرد، وكاتب عماد الدين مظفر الدين [كوكبورى (¬4)] بن زين الدين مستنجدا به على بدر الدين لؤلؤ، فأجاب إلى نصرته لكون عماد الدين زوج ابنته - كما ذكرنا. فكتب بدر الدين لؤلؤ إلى مظفر الدين يذكّره الأيمان والعهود [التي من جملتها أنه لا يتعرض إلى شىء من أعمال الموصل (¬5)]، فلم يلتفت إليه وأصر على معاضدة صهره. فلم ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 335. (¬2) في ابن الأثير (الكامل، ج 12، حوادث سنة 615، ص 335) «من جروح كانت به». (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين لتوضيح المعنى، انظر أيضا ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 335 - 336. (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين لتوضيح المعنى، انظر أيضا ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 335 - 336. (¬5) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 336)، وفى الأصل: «وأنه لا يتعرض لأعمال الموصل».

ذكر اعتضاد بدر الدين لؤلؤ بالملك الأشرف ودخوله فى طاعته

يتمكن بدر الدين من مكابرة العمادية بالرجال لئلا تخلو الموصل فيتمكن مظفر الدين من قصدها، ويأخذها لعماد الدين إذ هو الأولى بملك أبيه وأخيه. ونزل عماد الدين بمن معه من الجند إلى العسكر المحاصرين له، فهزموهم أقبح هزيمة، وعادوا إلى الموصل مكسورين. وحينئذ راسل عماد الدين زنكى أهل قلاع الهكارية والزوزان، واستدعاهم إلى طاعته فسلموا القلاع إليه فاستولى عليها وملكها. ذكر اعتضاد بدر الدين لؤلؤ بالملك الأشرف ودخوله في طاعته ولما رأى بدر الدين خروج هذه القلاع من يده، واتفاق مظفر الدين صاحب إربل مع عماد الدين، خاف من استيلاء عماد الدين على البلاد وتملكه لها، وكانت نفس بدر الدين قد أطمعته في ملك البلاد وقطع البيت الأتابكى. فلم ير لنفسه أحسن من الأعتصام بالملك الأشرف [موسى بن الملك العادل (¬1)] والاعتضاد به ليندفع عنه ما يخافه من مظفر الدين وعماد الدين. فكاتب الملك الأشرف في ذلك فأجابه إلى قبوله فرحا مستبشرا به. وكتب إلى مظفر الدين يقبح عليه معاضدة عماد الدين ومساعدته على صاحب الموصل، ويقول له: «إن امتنعت من قبول شفاعتى وأصررت على معاضدته قصدتك بنفسى وعساكرى وأخذت بلادك». فلم يجب مظفر الدين إلى موافقته، وأصرّ على نصرة عماد الدين. وكاتب مظفر الدين الملك المنصور ناصر الدين أرتق [79 ب] بن أدزى بن البى بن تمرتاش بن أيلغازى بن أرتق صاحب ماردين، وناصر الدين محمود بن محمد بن قرا آرسلان بن سقمان بن أرتق صاحب آمد والحصن (¬2) ليتفقا معه على الملك الأشرف وبدر الدين لؤلؤ، فأجاباه إلى ذلك واتفقا معه. ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن الحصن موضع بين حلب والرقة.

ودخلت سنة ست عشرة وستمائة

ودخلت سنة ست عشرة وستمائة والملك الأشرف مقيم بظاهر حلب، يدبر أمر جندها وإقطاعاتها، والملك الكامل صاحب مصر في مقابلة الفرنج ومحاربتهم، والفرنج محدقون بثغر دمياط محاصرون له، وقد ضاقت بهم الأمور، وقلت عندهم الأقوات، والفرنج يزحفون إلى البلاد ليلا ونهارا لا يفترون عن مقاتلتهم، وكتب الملك الكامل ورسله متواصلة إلى إخوته وغيرهم من الملوك في طلب النجدة. ولما وصلت رسل الملك الكامل إلى أخيه الملك الأشرف في طلب النجدة (¬1)، كان (¬2) مقيما بحلب لتدبير أمورها - كما ذكرنا - ولا يفعل شيئا من ذلك إلا بمشاورة الأتابك شهاب الدين طغريل. وبدا من الأمراء المصريين بحلب تخزل في أمر الملك الأشرف (¬3)، وكرهوا أمره ونهيه في حلب، وخافوا من إستيلائه عليها، وانتقامه منهم بسبب ميلهم إلى الملك الأفضل. وبلغه عنهم أشياء عزموا عليها من التوثب وهو ثابت لذلك كله. ولما وصلته رسل أخيه تطلب منه إنجاده على الفرنج، اجتمع رأيه على تسيير الأمراء الذين علم منهم أنه يضمرون الغدر به. فسيرهم نجدة للملك الكامل وهم مبارز الدين بن خطلخ، ومبارز الدين سنقر الحلبى، وابن ¬

(¬1) عند هذا اللفظ تبدأ المقابلة مع نسخة س، انظر ما سبق ص 15 حاشية 2. (¬2) في نسخة س «وكان» والصيغة المثبتة من م. (¬3) وردت هذه الجملة في نسخة س كما يلى «ولما رأى الأمراء المصريين بحلب في أمر الملك الأشرف وأمره ونهيه» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م.

ذكر الوقعة الكائنة بين بدر الدين لؤلؤ وعماد الدين زنكى بن أرسلان شاه وانهزام عماد الدين

كهدان وغيرهم (¬1). وخاف ابن خطلخ منه، فحلف له أنه لا يؤذيه، وسيرهم إلى أخيه الملك الكامل فأقاموا عنده بالكلية. ذكر الوقعة الكائنة بين بدر الدين لؤلؤ وعماد الدين زنكى بن أرسلان شاه وانهزام عماد الدين [قال (¬2)] ولما كسر عماد الدين زنكى المحاصرين له من عسكر بدر الدين لؤلؤ قويت نفسه، وفارق العمادية وعاد إلى قلعة العقر التي له ليتسلّط على أعمال الموصل بالصحراء، لأن بلد الجبل (¬3) كان قد فرغ منه، وأمده مظفر الدين صاحب إربل بطائفة من عسكره. ولما بلغ ذلك بدر الدين لؤلؤ سير جماعة من عسكره [80 ا] إلى أطراف بلد (¬4) الموصل ليحموها فأقاموا على أربعة فراسخ من الموصل، ثم اتفقوا فيما بينهم على قصد عماد الدين وهو عند العقر في عسكره فساروا إليه جريدة، ولقوه بكرة الأحد لأربع بقين من المحرم من هذه السنة [فاقتتلوا قتالا شديدا فكسروا عماد الدين فمضى هو (¬5)] وعسكره منهزمين إلى إربل، وعاد عسكر ¬

(¬1) كذا في المتن وفى نسخة س «فسيرهم نجدة للملك الكامل، وهو (كذا) مبارز الدين خطلح ومبارز الدين سنقر الحلبى والأمير بن كهدان وغيرهم». وورد في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3 ص 186) «فسيرهم نجدة إلى أخيه، وهم المبارزان: ابن خطلخ وسنقر الحلبيان وابن كهدان وغيرهم». (¬2) اعتاد ناسخ نسخة س كتابة كلمة «قال» في بداية كل فقرة جديدة ويقصد «قال ابن واصل». ولما كانت نسخة م هى الأصل في التحقيق فلن يحرص المحقق على إثبات هذه الكلمة. (¬3) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن الجبل اسم جامع للأعمال التي يقال لها الجبال. وذكر أن الجبال يقصد بها البلاد الواقعة «ما بين اصبهان إلى زنجان وقزوين وهمذان والدينور وقرميسين والرى». (¬4) في نسخة س «بلاد». (¬5) في الأصل «فكسروه فمضى عماد الدين» وما هنا مذكور في س.

ذكر وفاة نور الدين بن الملك القاهر وإقامة بدر الدين لؤلؤ أخاه ناصر الدين مقامه

بدر الدين إلى منزلته التي كان بها. ثم وردت رسل الخليفة الناصر لدين الله [تعالى (¬1)]، ورسل الملك الأشرف، وكان بعد مقيما بحلب في تجديد الصلح فتحالفوا واصطلحوا بحضور الرسل. ذكر وفاة نور الدين بن الملك القاهر وإقامة بدر الدين لؤلؤ أخاه ناصر الدين مقامه ولما انقضى أمر الصلح توفى نور الدين أرسلان شاه بن الملك القاهر عز الدين مسعود، وكان لا يزال مريضا فاستحلف بدر الدين [لؤلؤ (¬2)] الجند بالموصل لأخيه ناصر الدين محمود بن الملك القاهر وعمره يومئذ ثلاث سنين. ولم يبق للملك القاهر ولد غيره، وهو آخر من خطب له من بيت أتابك بالسلطنة. [وكان أبوه الملك القاهر أحب ما كان إليه استقلال هذا الولد بالسلطنة (¬3)]. وأركب بدر الدين لؤلؤ ناصر الدين بالسناجق السلطانية (¬4) وطابت قلوب الرعية. ثم أن هذا الصبى مات بعد مده، واستقل بدر الدين لؤلؤ بالملك واستمر ملكا بالموصل إلى أن توفى بالموصل بعد أخذ التتر بغداد، فطالت مدة ملكه جدا، وواتته السعادة، وكان حسن السياسه حازما كريما. ذكر الوقعة الكائنة بين بدر الدين لؤلؤ ومظفر الدين صاحب إربل وانهزام بدر الدين ولما مات نور الدين بن الملك القاهر، ورتب أخوه ناصر الدين محمود في موضعه، تجدّد لعماد الدين زنكى ولمظفر الدين صاحب إربل طمع في ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في الأصل «وكان أبوه القاهر آخر من كان له استقلال بالملك منهم» وما هنا من س. (¬4) عن السناجق السلطانية انظر ما سبق ابن واصل، مفرج الكروب، ج 3، ص 25 حاشية 1، وانظر القلقشندى، صبح، ج 4 ص 8، ج 5، ص 458.

الموصل لصغر سن ناصر الدين، فجمعا الرجال وتجهزا للحركة وأرسلا جماعة للإغارة على بلد الموصل. وكان بدر الدين لؤلؤ قبل ذلك قد أرسل ولده إلى الملك الأشرف في جمع كثيف من عسكره، والملك الأشرف نازل بظاهر حلب نجدة بسبب [80 ب] منازلة الفرنج بلد دمياط. وكان الملك الأشرف يريد أن يدخل إلى بلاد الساحل ينهبها ويخربها ليعود بعض من بالديار المصرية إلى بلادهم؛ فيخف الأمر على الملك الكامل صاحب مصر. فلما رأى بدر الدين تحرك مظفر الدين وعماد الدين وأن بعض عسكره بالشام، أرسل إلى عسكر الملك الأشرف [المقيمين] (¬1) بنصيبين يستدعيهم ليعتضد بهم. وكان مقدمهم مملوكا للملك الأشرف يسمى أيبك، فساروا إلى الموصل في رابع رجب من هذه السنه، فلما رآهم بدر الدين [لؤلؤ] (¬2) استقلهم لأنهم كانوا أقل من العسكر الذين له بالشام. وألح أيبك على عبور دجلة وقصد بلاد إربل فمنعه بدر الدين [لؤلؤ (¬3)] من ذلك وأمره بالاستراحة، فنزل [أيبك (¬4)] ظاهر الموصل أياما وأصر [بعد ذلك (¬5)] على عبور دجلة فعبرها بدر الدين [لؤلؤ (¬6)] موافقة له، ونزلوا شرقى دجلة على فرسخ من الموصل. وبلغ ذلك مظفر الدين وعماد الدين زنكى فسارا في [العساكر إلى بدر الدين لؤلؤ (¬7)] فعبى بدر الدين [لؤلؤ (¬8)] أصحابه، وجعل أيبك في الجاليشية (¬9) ومعه شجعان ¬

(¬1) في الأصل «الذين» وما هنا من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) في الأصل «العسكر اليه» وما هنا من نسخة س. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬9) الجاليش، الراية العظيمة في رأسها خصلة من الشعر، ومعناها هنا الطليعة من الجيش، انظر القلقشندى، (صبح، ج 4، ص 8)؛ المقريزى، (السلوك، ج 1، ص 628 وحاشيه 4)؛ ابن تغرى بردى (النجوم، ج 7، ص 101، حاشيه 3)؛ سعيد عاشور، (العصر المماليكى، ص 403).

أصحابه. ولم يبق معه إلا اليسير، وجعل في ميسرته أميرا كبيرا فطلب الأنتقال إلى الميمنة فنقله. ثم وقت العشاء الآخره طلب [أيبك (¬1)] العود إلى الميسرة، فقال له بدر الدين «متى انتقلت ظنه الناس هزيمة فلا يقف أحد»، فأقام مكانه وهو في جمع كثير من العسكر. فلما انتصف الليل سار أيبك [طالب الميسرة] (¬2) فأمره بدر الدين بالمقام إلى الصبح لقرب (¬3) العدو فلم يفعل [وسار من ساعته (¬4)]. واضطر بدر الدين [لؤلؤ (¬5)] إلى إتباعه، فالتقواهم ومظفر الدين وعماد الدين في العشرين من رجب. فأما أيبك فإنه تيامن والتحق بالميمنة وحمل في أطلابه (¬6) هو والميمنة على ميسرة مظفر الدين فهزمها. وكان في الميمنة ذلك الأمير الذى انتقل إليها، فحمل مع أيبك على الميسرة. وأما ميمنة مظفر الدين فإنها حملت على ميسرة بدر الدين [لؤلؤ (¬7)] فهزمتها، وبقى بدر الدين في النفر اليسير الذين معه، وكان عماد الدين [زنكى بن أرسلان شاه (¬8)] في الميسرة وقد انهزم بانهزامها. وتقدم مظفر الدين فيمن معه في القلب إلى بدر الدين ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة س «لحرب». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) أطلاب جمع طلب، وهو لفظ كردى، معناه وحدة تتألف من قائد (أمير) له علم معقود وبوق مضروب يقود عددا من الفرسان يتفاوت عددهم بين 70 - 200 فارسا، انظر المقريزى (الخطط، ج 1 ص 86)؛ نظير حسان سعداوى، التاريخ الحربى المصرى في عهد صلاح الدين الأيوبى، ص 29 - 30 وحاشيه 1؛ السيد الباز العرينى، مصر في عصر الأيوبيين ص 154؛ انظر أيضا Gibb, «The armies of Saladin» in Studies on the civilization of Islam,pp .76, 84. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح.

ذكر ما تجدد لعماد الدين بن المشطوب بعد إخراجه من مصر

[لؤلؤ (¬1)] فهزمه واندفع [بدر الدين (¬2)] موليا إلى الموصل، وعبر دجلة إلى القلعة ونزل منها إلى [81 ا] البلد. ولما رآه الناس فرحوا به وساروا معه وقصد باب الجسر والعدو [نازل (¬3)] بازائه. ونزل مظفر الدين فيمن سلم معه من عسكره وراء حصن نينوى (¬4)، وأقام به ثلاثة أيام. ولما رأى [مظفر الدين (¬5)] اجتماع العسكر الذين لبدر الدين معه بالموصل، وأنه لم يفقد منهم إلا اليسير، وبلغه أن بدر الدين [لؤلؤ] (¬6) يريد العبور إليه ليلا في الفارس والراجل على الجسور وفى السفن ويكبسه، خاف من ذلك، ورحل نحو إربل. فلما عبر الزاب (¬7) نزل به وجاءت الرسل [إليه] (¬8) وسعوا في الصلح، فاصطلحوا وتقررت بينهم العهود والأيمان. ذكر ما تجدد لعماد الدين بن المشطوب بعد إخراجه من مصر قد ذكرنا في حوادث السنة الماضية ما صدر من عماد الدين بن المشطوب من المخامرة، وإفساد الأمراء، والسعى في تغيير الدولة [الكاملية (¬9)] حتى أدى ذلك إلى رحيل السلطان الملك الكامل من منزلته، واستيلاء العدو على بردمياط، والحيلوله بين عسكر المسلمين وبينها وتمكنهم من مضايقتها. وذكرنا وصول الملك المعظم [عيسى (¬10)] إلى أخيه الملك الكامل، وصلاح الأحوال على يده، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) نينوى اسم قرية كانت بالموصل، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) المقصود به الزاب الأعلى وهو نهر بين الموصل وإربل، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬10) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح.

ونفيه عماد الدين بن المشطوب إلى الشام، وأن عماد الدين وصل إلى حماه. ولما قدم إلى حماه أقام عند الملك المنصور [محمد بن الملك المظفر تقى الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب] (¬1) صاحبها، فأكرمه وقام بضيافته. فحدث عماد الدين نفسه بالفساد، وأنه يتغلب على بعض الأطراف لما يعلمه من شجاعته، وانقياد الأكراد الهكاريه إليه لما يعلمونه من شجاعته وكرمه، فانضم إليه جماعة [كبيرة (¬2)]. وسافر من حماة وفى صحبته القاضى نجم الدين أبو البركات ابن الشيخ شرف الدين بن أبى عصرون - الذى كان قاضى حماه - حسّن له عماد الدين أنه يصحبه فيحكمه فيما يملكه من البلاد، وأنه لا يخرج عن رأيه. واجتمع معه لما سافر من حماه نحو ثمان مائة فارس والفا راجل. وكان الملك الأشرف [موسى بن الملك العادل (¬3)] مقيما بحلب كما ذكرنا (¬4)، فراسله [ليتصل به] (¬5)، ويقطعه بعض البلاد. فامتنع عماد الدين [81 ب] من الوصول إليه، وقصد جهة بلاد الروم، والملك الأفضل نور الدين [على بن صلاح الدين يوسف (¬6)] صاحب سميساط (¬7) ليتفق معه ومع سلطان الروم [عز الدين كيكاوس (¬8)] على قتال الملك الأشرف وانتزاع البلاد منه. وكانت مكاتبته قد سبقت إلى الملك الأفضل وسلطان الروم. فدخل عماد الدين بلاد حلب ¬

(¬1) أنظر أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 125؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 153. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬4) أنظر ما سبق ص 23. (¬5) في الأصل «ليتصل إليه» وفى نسخة س «ليصير إليه». (¬6) أنظر، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 216. (¬7) سميساط مدينة على الشاطىء الغربى لنهر الفرات على أطراف بلاد سلاجقة الروم، أنظر ياقوت، معجم البلدان. (¬8) أنظر زامباور، ج 2، ص 215.

بغتة، وخاضها وكان الزمن زمن الربيع، وخيول الأجناد متفرقة في الجشار (¬1)، فوصل قنسرين ونفد منها إلى تل عون، وبلغ إلى الساجور (¬2) واستاق في طريقه ما وجده من الخيل وغيرها. وبلغ خبره الملك الأشرف وهو نازل في الدار التي أخليت له ظاهر حلب، فأركب من كان بحضرته من العسكر خلفه، وكان فيهم عماد الدين صاحب قرقيسيا (¬3)، فلحقوه على الساجور ومعه القاضى نجم الدين بن أبى عصرون، فقبضوا عليهما فأتوا بهما [إلى (¬4)] الملك الأشرف فعفا عنه وعن ابن أبى عصرون. وأقطع عماد الدين رأس عين (¬5)، وأقام عنده إلى أن دخل شعبان من هذه السنة، فرحل الملك الأشرف إلى بلاده الشرقيه لأصلاح أمر الموصل. فسافر عماد الدين إلى الشرق وله من جهة الملك الأشرف رأس عين. ونزل الملك الأشرف حران وكان قد طال مقامه بحلب أكثر من سنة، وأقام الملك الأشرف بحران ومعه عسكر حلب. وتوفى عز الدين كيكاوس سلطان الروم، وقام بسلطنة الروم بعده أخوه (¬6) علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان فراسل الملك الأشرف واتفق معه. ¬

(¬1) الجشار هو مكان رعى الماشية من خيل وغيرها، أنظر المقريزى، السلوك، ج 1، ص 490، حاشيه 2. (¬2) الساجور، نهر بجهات منبج وتقع عليه عينتاب وتل باشر، انظر ياقوت، معجم البلدان؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 584، حاشيه 3. (¬3) قرقيسيا أو قرقيسياء تقع عند ملتقى نهير الخابور بنهر الفرات، (ياقوت، معجم البلدان). (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) رأس عين مدينة كبيرة من مدن الجزيرة بين حران ونصيبين ودنيسر، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬6) في نسخة س «ولده» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م، انظر أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 84.

وكان السبب في وصول الملك الأشرف إلى الشرق أنه بعد ما تقرر الصلح بين مظفر الدين [كوكبورى بن زين الدين] (¬1) صاحب إربل وبدر الدين لؤلؤ، تسلم عماد الدين زنكى قلعة كواشى (¬2) بتسليم أهلها إليه، فأرسل بدر الدين لؤلؤ إلى مظفر الدين يذكّره العهود والإيمان، ويطلب منه إعادة كواشى، فلم تقع الإجابة إلى ذلك. فأرسل حينئذ بدر الدين إلى الملك الأشرف وهو بحلب يستنجد به، فلذلك توجه إلى الشرق وأقام بحران ثم كان بعد ذلك ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفى هذه السنة، أعنى سنة ست عشرة وستمائة، توفى قطب الدين محمد [82 أ] بن عماد الدين زنكى بن مودود صاحب سنجار، فملك سنجار بعده ولده عماد الدين [شاهنشاه] (¬3). وكان قطب الدين حسن السيرة في رعيته كثير الإحسان اليهم. وبقى عماد الدين في الملك شهورا، ثم وثب عليه أخوه عمر بن محمد (¬4) في تليعفر (¬5)، وكان قد سار إليها عماد الدين محمود، إذهى من جملة بلاده، فذبحه وملك سنجار، وهو آخر من ملك سنجار من ملوك البيت الأتابكى. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) كواشى كانت تسمى قديما أردمشت وهى قلعة حصينة في الجبال الواقعة شرقى الموصل، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬3) في الأصل «شاهان شاه» والصيغة المثبته من نسخة س. (¬4) في نسخة س «أخو عمر بن قطب الدين محمد»، والصيغة الصحيحة المثبته من نسخة م، انظر ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 355؛ المقريزى السلوك، ج 1، ص 204. (¬5) تليعفر أوتل أعفر قلعة حصينة بين سنجار والموصل، انظر ياقوت (معجم البلدان).

ذكر تخريب البيت المقدس

ذكر تخريب البيت المقدس لما اشتدت مضايقة الفرنج لثغر دمياط، وأشرفت على الأخذ خاف الملك المعظم شرف الدين [عيسى بن الملك العادل (¬1)] صاحب دمشق أن تصل من البحر أمم عظيمة من الفرنج، إذا سمعوا بقوة أصحابهم وتمكنهم من الديار المصرية، والملك الكامل مشغول بمحاربة من بديار مصر من الفرنج، فيقصدون البيت المقدس، وهو عامر فيملكونه، ولا يمكن بعد ذلك استنقاذه منهم. فتقدم بخراب [أبراج البيت المقدس وأسواره (¬2)]، وكانت قد صارت في غاية العظمه والوثاقة، فإنه من حين استنقذه الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - من الفرنج، ما زالت فيه العمارة قائمة، فكان كل برج من أبراجه نظير قلعة. فجمع له الحجارين والنقابين، وعلّق أسواره وأبراجه فهدمها ما خلا برج داود عليه السلام فإنه أبقاه. ولما هدمت أسواره انتقل عنه أكثر المقيمين به، وكان فيه خلق لا يحصون، فلم يبق فيه إلا القليل من الناس. ثم تقدم [الملك المعظم (¬3)] بنقل ما كان فيه من الزرد خاناه (¬4) وآلات القتال وغير ذلك، فعظم على المسلمين خرابه، وتأسفوا عليه غاية الأسف. ذكر استيلاء الفرنج على ثغر دمياط ولم يزل الفرنج يضايقون دمياط، ويقاتلون أهلها بجميع آلات القتال حتى نفد ما عند أهلها من الأقوات، واشتد الغلاء بها جدا، واشتد بأهلها الجوع حتى مات أكثرهم وعجزوا عن الحركة والمدافعة. ووصل إلى الفرنج نجد ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين من أبى الفدا (المختصر، ج 3، ص 122.). (¬2) في الأصل «أسواره وأبراجه» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) أنظر ما سبق من هذا الكتاب (ابن واصل، ج 2 ص 357 حاشية 4).

ذكر بناء المنصورة ونزول الملك الكامل بها

من البحر، وكثر الوباء في أهل دمياط وضعفوا عن حفظها. فحينئذ هجم الفرنج البلد على غفلة من أهلها، واستولى الفرنج عليهم واسترقوهم، وجعلوا الجامع [82 ب] كنيسة. واشتد طمع الفرنج [حينئذ (¬1)] في ملك الديار المصرية، وظنوا أنهم يملكون بملكها البيت المقدس وسائر [بلاد (¬2)] الشام. ذكر بناء المنصورة ونزول الملك الكامل بها وحين جرى هذا الأمر الفظيع ابتنى الملك الكامل مدينة وسماها المنصورة (¬3)، عند مفرق البحرين الآخذ أحدهما إلى دمياط، الفاصل بينها وبين جيزتها (¬4)، والآخر إلى أشمون طنّاح (¬5) ومصبه في بحيرة تنيس (¬6). ونزل فيها بعساكره وبنى عليها سورا على بحر النيل، وشوانى المسلمين في بحر النيل غربى المنصورة. ونفدت كتبه إلى سائر الأقطار يستحث على وصول النجد اليه. وكان تملك الفرنج لثغر دمياط في العاشر من شهر رمضان من هذه السنة. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) عن بناء مدينة المنصورة زمن السلطان الكامل، انظر: (ابن أيبك، الدر المطلوب، ورقة 152)، المقريزى (السلوك، ج 1، ص 201 - 202)؛ أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 122)؛ حسنين ربيع (النظم المالية، ص 70). (¬4) عن جيزة دمياط انظر ما سبق ص 16. (¬5) انظر ما سبق ص 17 حاشية 1. (¬6) في نسخة س «بحيرة المسلمين». وبحيرة تنيس هى بحيرة المنزلة حاليا وفى الشمال الشرقى منها كانت تقع مدينة تنيس على جزيرة تحمل اسمها. عن هذه البحيرة انظر: محمد بن أحمد ابن بسام المحتسب، أنيس الجليس في أخبار تنيس، نشر وتحقيق الدكتور جمال الدين الشيال في مجلة المجمع العلمى العراقى، ج 14 (1967) ص 151 - 189.

ذكر ظهور التتر واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين

ذكر ظهور التتر واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين لم ينكب المسلمون نكبة أعظم مما نكبوا هذه السنة، فانه جرى فيها من قتل المسلمين واسترقاقهم والاستيلاء على أكثر ممالكهم ما لم يجر لهم قبل هذه السنة مثله، ولا قريب منه. فمن ذلك ما ذكرنا من تمكن الفرنج - لعنهم الله - بتملكهم ثغر الديار المصريه [وهى (¬1)] دمياط واستيلائهم على أهلها قتلا وأسرا. ومنه الواقعة العظمى والمصيبة الكبرى، وهو ظهور التتر وتملكهم في المده القريبة أكثر بلاد المسلمين ومعاقلهم، وسفك دماء المسلمين وسبى حريمهم وذراريهم (¬2). ومذ بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم وأظهر به الدين الحنيفى (¬3) ونصره على أهل الشرك، لم يفجع المسلمون (¬4) فجيعة أعظم من هذه الفجيعة. فإلى (¬5) الله سبحانه [وتعالى (¬6)] الرغبه في قلع شأفتهم، واجتثاث أصلهم. ونحن [إن شاء الله تعالى (¬7)] نذكر مبدأ خروجهم وما فعلوه ببلاد الأسلام. كان (¬8) سلطان العجم في هذه السنة علاء الدين محمد بن تكش (¬9) ونسبه ينتهى ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) عن خروج التتر إلى بلاد الأسلام، انظر ايضا، ابن الأثير (الكامل ج 12، ص 358 وما بعدها، حوادث سنة 617)؛ أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 122 - 123). (¬3) في الأصل «الحنفى» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬4) في الأصل «المسلمين» والصيغة الصحيحة هى المثبتة من نسخة س. (¬5) في الأصل «قال»، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة س «قال صاحب الكتاب القاضى جمال الدين بن واصل قاضى القضاة بحماه المحروسة كان. .»، انظر ما سبق ص 24 حاشية 2. (¬9) عن علاء الدين محمد بن تكش انظر ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 371 (حوادث 617).

إلى بلتكين (¬1)، أحد مماليك السلطان ألب ارسلان [83 ا] بن جغرى بك (¬2) داود ابن ميكائيل بن سلجق، وكان له ولاية ملك خوارزم من جهة السلاطين السلجوقيه، فلهذا كان يقال لكل واحد منهم [إذا ملك مدينة (¬3)] خوارزم شاه. فلما زال ملك السلجوقية ببلاد العجم، وملكت بلادهم مماليكهم، وتفرقت كلمتهم، قوى شأن هذا علاء الدين، واستولى على خراسان وبلاد الجبل وهى التي تسمى عراق العجم كأصبهان والرى وما معهما من البلاد. وملك أيضا ماوراء النهر كبخارا وسمرقند وغيرهما، وكان المستولى عليها الخطا (¬4) وهم كفار لكنهم استولوا على بلاد المسلمين بما وراء النهر، وحكموا عليهم. فاتسع ملك السلطان علاء الدين جدا، وعظم [سلطانه و (¬5)] جيشه، حتى قيل أنه بلغ أربع مائة الف مقاتل، وحدثته نفسه بقصد العراق وتملكه، وتصير الخليفة تحت حكمه كما كان الأمر في استيلاء السلجوقيه وبنى بويه قبلهم على الخلفاء. فقصد [السلطان علاء الدين (¬6)] في عساكره بغداد فأرسل إليه الخليفة الناصر لدين الله الشيخ شهاب الدين السهروردى (¬7) - رحمه الله - ليرده عن مقصده. ¬

(¬1) في نسخة س «بكسكى» بدون تنقيط وهو تصحيف. (¬2) في نسخة س «جغرى بن داود» والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م، انظر زامباور، معجم الأنساب، ج 1 ص 80. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) عن الأتراك الخطا، انظر مايلى ص 37، وكذلك ابن الأثير (الكامل، ج 9 ص 297، 520، ج 11 ص 81 - 88) انظر أيضا: Barthold,Turkestan down to the Mongol invasion P. 230 note 1 . (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬7) في نسخة س «الشهرزورى»، والصيغة المثبتة وهى الصحيحة من نسخة (م)، وعن الشيخ شهاب الدين أبى حفص عمر السهروردى، انظر ابن خلكان (وفيات، ج 1، ص 380 - 381).

فلما وصل إلى السلطان علاء الدين [خوارزم شاه (¬1)] أعظمه وتأدب معه، فاستفتح الشيخ شهاب الدين رسالته بحديث نبوى يتضمن الثناء على أهل بيت النبوة، وزجر من يتعرض لهم بالأذى، فجلس السلطان [علاء الدين (¬2)] على ركبتيه تعظيما لحديث النبى صلّى الله عليه وسلم. فلما أنهى الشيخ شهاب الدين الحديث قال له السلطان: «هذا ينبغى أن يورده الشيخ على سمع أمير المؤمنين، فإنه [هو (¬3)] الذى آذى أهل بيت النبوه باعتقاله لهم في السجن، وأنا فما فعلت شيئا من ذلك». وأصر السلطان علاء الدين على قصد بغداد ليكون له بها دار السلطنه كما كان للسلجوقيه. ثم اتفق [بعد ذلك (¬4)] وقوع ثلوج كثيره عاقته عن مقصده، فرجع إلى بلاده على عزم العود إلى العراق. ثم اتفق في هذه السنة خروج التتر عليه. ومن حديث هؤلاء القوم أنهم كانوا يسكنون في آخر الشرق في البرارى [والقفار، (¬5) وهم] أهل خيام وعمد، ليس لهم إلا الأغنام والخيل يأكلون لحومها، ويشربون من ألبانها، ولا مأكل لدوابهم سوى الحشيش، وتحفر بحوافرها الأرض وتأكل عروق النبات. فإذا نزلوا منزلا لا يحتاجون [83 ب] إلى شئ من خارج، وهم مع هذا لا يدينون بدين غير أنهم يعترفون بالصانع سبحانه وتعالى ويعظمونه، ولا يعتقدون شريعة من الشرائع. واتفق أن ملكهم جنكزخان المعروف بتمرجى (¬6) وضع لهم ضوابط يدينون بها ويعملون بما تقتضيه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) هذا الاسم غير مذكور في نسخة س وورد بالصيغة المثبتة في نسخة م وكذلك في أبى الفدأ (المختصر، ج 3 ص 123)، بينما ورد اسم (تموجين) في ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 361 حوادث 617) وكذلك في زامباور، معجم الأنساب، ج 2 ص 360. وتموجين هو الاسم الأصلى لجنكيزخان. ويقال أن أباه شماه هذا الاسم بعد أن هزم أميرا يسمى تموجين قبيل مولد جنكيزخان، انظر Barthold, article «Cingiz - Khan» in EI,1 st ed ويكتب الاسم أحيانا تمرجى أو تمرجين انظر، ابن أيبك الدوادارى، كنز الدرر، ج 9 (الدر الفاخر في سيرة الملك الناصر)، ص 24 حاشية 1 للمحقق هانس روبرت رويمر.

يسمونها الآسه (¬1). وصار هذا الرجل [جنكزخان (¬2)] عندهم بمثابه نبى يرجعون إليه في كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه. واتفق أنه استولى على أكثر بلاد الصين، وأهله أمة عظيمة يقال لهم الخطا، ديانتهم عبادة الأوثان كأهل الهند. فلما ملك بلاد الصين تمكن وقوى وعظم شأنه، فهذا كان مبدأ أمره. ثم سار [جنكزخان (¬3)] إلى تركستان فملك كاشغر (¬4) وبلاساغون (¬5) وغيرها، وأزال ما كان بها من الترك. ثم سير [بعد ذلك (¬6)] ¬

(¬1) كذا في نسختى س، م والآسه أو الياسا أو اليسق هى مجموعة الشرائع المغولية التي وضعها جنكيزخان لتنظيم نواحى الحياه السياسية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها بين المغول. واشتهرت الياسا بقسوة أحكامها وقد حفظ لنا المقريزى (الخطط، ج 2 ص 220 - 221) بعض أحكام الياسا وذكر أنه أخبره بها العبد الصالح أبو هاشم أحمد بن البرهان الذى رأى نسخة من الياسة بخزانة المدرسة المستنصرية ببغداد، انظر أيضا Vernadsky, «The scope and contents of Chingis Khan's Yasa» in H J .A .S .,iii (1938),pp .337 - 60; Riasanovsky, Fundamental principles of Mongol law,pp .25 - 40, 83 - 86. ومن المعروف أن المغول (الوافدية) الذين قدموا إلى مصر زمن المماليك حملوا معهم شريعة الياسا التي تأثرت بها النظم المملوكية إلى حد أن المقريزى ذكر أن تشريعات الياسا أصبحت تسمى زمن المماليك باسم (سياسة) لتمييزها عن أحكام الشريعة. لتفصيل ذلك انظر: المقريزى، الخطط، ج 2 ص 220 وكذلك Poliak, The influence of Chingiz - Khan's yasa upon the gene - ral organization of the Mamluk state, «B S O A S, X (1940 - 2), PP 862 - 4; Hassanein Rabie, The financial system of Egypt,PP .30 - 31 and notes. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن كاشغر كانت «مدينة وقرى ورساتيق يسافر إليها من سمرقند». (¬5) بلاساغون مدينة كانت تقع وراء نهر سيحون قريبة من كاشغر، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

جماعة من التجار الأتراك (¬1) ومعهم شئ كثير من الفضة النقرة (¬2) والقندس (¬3) وغير ذلك إلى بلاد ماوراء جيحون [مثل (¬4)] سمرقند وبخارا ليشترى له بها ثياب كسوة، فوصل هؤلاء التجار إلى بلد [يقال لها (¬5)] أترار (¬6) من بلاد الترك وهى آخر ولاية السلطان علاء الدين خوارزم شاه، وكان له نائب هناك. فلما ورد هؤلاء عليه أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم، ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال، فقتلهم وسير ما معهم إلى خوارزم شاه، وكان شيئا عظيما ففرقه خوارزم شاه على تجار بخارا وسمرقند وأخذ ثمنه منهم. وكان ملك ماوراء النهر، كما قدمنا ذكره، بيد الخطا، فانتزعها خوارزم شاه منهم وقتلهم وأبادهم، فبذلك قوى التتر على بلاد تركستان؛ لأن الخطا كانوا يحاربون التتر ويدفعونهم عن التطرق إلى هذه البلاد، وكانوا سدا بين الإسلام والتتر. فلما أبادهم خوارزم شاه وملك ماوراء النهر، ملك التتر تركستان، وأخذوا في الأغارة على أطراف بلاد خوارزم شاه، فلذلك ¬

(¬1) في ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 361 حوادث 617) «من التجار والأتراك». (¬2) كلمة نقرة تدل على سبيكة الذهب أو الفضة النقيه، انظر (ابن منظور، لسان العرب، ج 7 ص 87؛ (Dozy, Supp .Dict, AR, II, P. 710) وفى العصور الوسطى استخدم مصطلح درهم نقرة لتعريف الدراهم التي سكت بفضة خالصة، لتفصيل ذلك انظر (Hassanein Rabie, The financial system of Egypt, P. 174 note 4) . (¬3) القندس هو حيوان السمور وهو في (محيط المحيط) كلب الماء، ولعل المقصود هنا هو القماش المنسوج من فراء القندس، انظر المقريزى، الخطط ج 2 ص 104، القلقشندى، صبح ج 5 ص 419؛ Dozy,Supp .Dict Ar .II ,410 . انظر أيضا المقريزى، السلوك ج 2 ص 336 حاشية 2. (¬4) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) اترار أو اطرار اسم مدينة حصينة في اقليم ما وراء النهر على نهر سيحون واطلق الاسم أيضا على ولاية. انظر، ياقوت، معجم البلدان.

منع عنهم [علاء الدين خوارزم شاه] الميرة من الكسوة وغيرها، وفعل بتجارهم ما ذكرنا، فهذا هو كان السبب في حركتهم وخروجهم. (¬1) وذكر عز الدين بن الأثير (¬2) أنه قد قيل أن السبب في خروجهم كان غير هذا مما لا يمكن أن يودع [في (¬3)] بطون الدفاتر وأنشد: وكان ما كان مما لست أذكره ... فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر (¬4) [84 ا] قلت إنما أراد ابن الأثير بهذا أنه قيل أن الخليفة الناصر لدين الله لما قصد خوارزم شاه ليستولى على العراق، كتب [الخليفة (¬5)] إلى جنكزخان ملك التتر يطمعه في البلاد، ويحسن له الخروج عليه، ويهون عليه أمره. وقد بلغنى أن الخليفة [الإمام الناصر لدين الله (¬6)] كتب إلى خوارزم شاه كتابا، وضمنه بيتا يتهدده به وهو: ستعلم إن حانت من الدهر لفتة ... عمود دواتى (¬7) أم سنانك أقوم وإنما لم يصرح ابن الأثير بذلك خوفا من الخليفة والله أعلم بحقيقة ذلك. ولما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكزخان، أرسل خوارزم شاه جواسيس إلى عسكر جنكزخان لينظر ما هو وكم مقدار ما معه من التتر، فمضوا ثم عادوا إليه بعد مدة طويلة، وأخبروه أنهم عدد يفوق الأحصاء، وأنهم من أصبر الناس على القتال. فندم خوارزم شاه على قتل من قتل من ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) انظر ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 362 (حوادث 617). (¬3) ما بين الحاصرتين من س وكذلك ابن الأثير، نفس المرجع والصفحة. (¬4) انظر ديوان ابن المعتز (ط. استانبول 1950)، ج 3، ص 95. (¬5) ما بين الحاصرتين في هامش نسخة م وساقط من س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) في المتن «دوانى» والصيغة المثبتة من نسخة س.

تجارهم وأخذ أموالهم، ووقع في فكر عظيم. وأحضر الأمام شهاب الدين الخيوقى (¬1)، وكان إماما عالما كبير المحل عند السلطان لا يخالفه فيما يشير به، وأخبره بحال هؤلاء القوم، وكثرتهم وشجاعتهم، واستشاره [بعد ذلك (¬2)] فيما يفعل. فأشار [عليه شهاب الدين (¬3)] بمكاتبة الأطراف، وجمع العساكر والمضى بهم إلى جانب نهر سيحون، وهو نهر عظيم يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام، لينزل هناك بالعساكر. فإذا جاء العدو وهو تعب من مسافة بعيده لقيه بالعساكر المستريحة. فجمع خوارزم شاه أمراءه وأرباب الرأى والمشورة، وعرض عليهم ما أشار به شهاب الدين فلم يوافقوه، وقالوا «بل الرأى أن نتركهم يعبرون نهر سيحون إلينا، ويسلكون هذه الجبال والمضايق، فأنهم جاهلون بطرقها، ونحن عارفون بها، فنقوى حينئذ عليهم، ونهلكهم ولا ينجو منهم أحد». وبينما هم كذلك إذ ورد رسول جنكزخان ملك التتر ومعه جماعة، فتهددوا علاء الدين خوارزم شاه لقتله من قتل من التجار، وقالوا له: «يقول لك جنكزخان استعد للحرب، فها أنا واصل بما لا قبل لك به». فغضب خوارزم شاه لما سمع هذه الرسالة، وأمر بقتل الرسول، وحلق لحى الذين معه، وأعادهم إلى صاحبهم [جنكزخان (¬4)] ليخبروه بقتل رسوله، ويقولوا له: «أن خوارزم شاه سائر إليك، ولو أنك في آخر الدنيا [84 ب] لينتقم منك». [فلما عاد الذين كانوا مع الرسول، سار علاء الدين (¬5)] خوارزم شاه ¬

(¬1) في نسخة س «الحنفى» وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 362) «الشهاب الخيوفى»، والصيغة الصحيحة هى الصيغة المثبتة من نسخة م، والخيوقى نسبة إلى خيوق وهى بلدة من نواحى خوارزم أهلها شافعية انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وفى نسخة م «ثم سار خوارزم شاه».

بعد تسييرهم مبادرا ليسبق خبرهم ويكبسهم، فقطع مسيرة أربعة أشهر، ووصل إلى بيوتهم، فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والأثقال، فأوقع بهم وسبى الذرية والنساء. وكان سبب غيبتهم عن بيوتهم أنهم قصدوا ملكا من الترك يقال له كشليخان (¬1)، فقاتلوه وهزموه وغنموا أمواله، فعادوا فوصل إليهم - وهم راجعون - الخبر بما فعل خوارزم شاه ببيوتهم، فجدوا في السير، فأدركوه قبل أن يخرج من بيوتهم، وتصافوا للحرب، واقتتلوا ثلاثة أيام بلياليها، فقتل من الفريقين ما لا يحصى. واستنفد الطائفتان وسعهم في الصبر والقتال، ولم يحضر هذه الحرب جنكزخان بل حضرها إبنه. وأحصى من قتل من المسلمين فكانوا عشرين ألفا، وقتل من التتر ما لا يحصى كثرة. وفى الليلة الرابعة افترقوا، ونزل بعضهم مقابل بعض، ولما أظلم الليل أوقد التتر نيرانهم وتركوها بحالها وساروا، وكذلك فعل المسلمون لأنهم سئموا القتال هم والتتر. وعاد التتر إلى ملكهم جنكزخان، وعاد المسلمون إلى بخارا [ولم يعلموا بحديث التتر وهروبهم (¬2)]. واستعد خوارزم شاه للحصار لعلمه بعجزه عن التتر، لأن طائفة منهم لم تقدر على الظفر بهم، فكيف إذا جاءوا بجمعهم مع ملكهم. فتقدم [علاء الدين خوارزم شاه (¬3)] إلى أهل بخارا وسمرقند بالأستعداد للحصار، وجمع الذخائر للأمتناع، وجعل في بخارا عشرين الف (¬4) فارس يحفظونها، وفى سمرقند خمسين الفا وقال لهم: «احفظوا البلاد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان، وأجمع العساكر وأعود اليكم». ورحل نحو خراسان فعبر نهر جيحون، ونزل بالقرب من بلخ فعسكر هنا لك. ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن الاثير (ج 12، ص 364) «كشلوخان». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة س «ثلاثين ألف» والصيغة المثبتة من نسخة م ومن ابن الأثير، (الكامل، ج 12، ص 365 (حوادث 617).

قلت هكذا ذكر عز الدين بن الأثير (¬1)، وسمعت من جماعة أن عسكره كان كفوا للقائهم، وانما كان فيه جماعة نياتهم فاسدة، وجماعة من الملوك وأبناء الملوك الذين أزال ممالكهم فهم موغروا الصدور عليه، [وعلم بذلك (¬2)] فخاف أن يسلموه ولا يناصحوه في الحرب. واستعدت التتر وعبروا بجموعهم نهر سيحون ومعهم ملكهم جنكزخان، ووصلوا إلى بخارا بعد خمسة أشهر، وحصروها ثلاثة أيام، فلم يكن للعسكر الخوارزمى بهم طاقة ففارقوا البلد ليلا [85 ا] ومضوا إلى خراسان. وأصبح أهل البلد وليس عندهم من العسكر إلا القليل، فضعفت قلوبهم [عند ذلك (¬3)] فأرسلوا قاضى البلد وهو بدر الدين بن قاضى خان - رحمه الله - ليطلب الأمان للناس، فأعطوهم الأمان. وكان بقى في البلد بعض العسكر لم يمكنهم الهرب، فاعتصموا بالقلعة. وفتحت أبواب بخارا للتتر يوم الثلاثاء رابع ذى الحجة من هذه السنه، أعنى سنة ست عشرة وستمائة، فدخلها التتر ولم يتعرضوا أولا لأحد بل قالوا: «كل ما عند كم للسلطان من ذخيرة وغيره أخرجوه إلينا، وساعدونا على قتال من بالقلعة [من الجند] (¬4)»، وأظهروا العدل وحسن السيرة. ودخل جنكزخان وأحاط بالقلعة ونودى في البلد «من تخلف عن مساعدتنا قتل». فحضر جميعهم وأمرهم بسد الخندق، فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك حتى بمنبر (¬5) الجامع وربعات القرآن المجيد. ¬

(¬1) استعان ابن واصل بما ذكره ابن الأثير عند تأريخه لهذه الأحداث؛ انظر، (الكامل ج 12 ص 361 وما بعدها (حوادث سنة 617). (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في الأصل «منابر» والصيغة المثبتة من س.

وتابعوا الزحف إلى القلعة وبها أربعمائة فارس من المسلمين، فصابروا القتال أثنى عشر يوما، ثم نقب سور القلعة وملكها التتر، وقتلوا جميع من كان بها. ثم أمر جنكزخان بأحضار وجوه البلد وطالبهم بالفضه النقرة (¬1) التي باعهم إياها خوارزم شاه. فأحضروا ما عندهم منها ثم أخرجهم مجردين من أموالهم. ودخل التتر البلد، وبذلوا فيه السيف، وسبوا ما فيه من النساء والذرية، وارتكبوا من النساء العظائم، ورجالهم ينظرون ولا يستطيعون الدفع. ومن الناس من اختار الموت فقاتل حتى قتل، وممن فعل ذلك الإمام ركن الدين إمام زاده (¬2) وولده، والقاضى صدر الدين خان، [وقتل القاضى بدر الدين ابن قاضى خان (¬3)] رحمهم الله. ومن استسلم أخذ أسيرا، وألقوا النار في المساجد والمدارس [والجوامع (¬4)]. ثم توجهوا إلى سمرقند واستصحبوا معهم من أهل بخارا أسارى مشاة، ومن عجز عن المشى قتلوه. ووصلوا إلى سمرقند، وأحاطوا بها وبها خمسون ألفا من الجند، ومن العامة ما لا يحصى كثرة. فخرج إلى قتالهم شجعان البلد [وأبطاله (¬5)]، ولم يخرج أحد من العسكر [الخوارزمى] (¬6) لما خامرهم من الرعب. فقاتلهم هؤلاء الذين خرجوا [من البلد] (¬7)، واندفعت التتر بين أيديهم، وهم يتبعونهم، وأكمنت التتر لهم كمينا، فلما جازوا الكمين خرجوا عليهم وحالوا بينهم [85 ب] وبين البلد، وقتلوهم عن آخرهم، فضعفت نفوس من بالبلد من الجند وطلبوا ¬

(¬1) عن الفضة النقرة انظر ما سبق ص 38 حاشيه رقم 2. (¬2) في الأصل «ذاذ» وفى نسخة س «زاد» والصيغة المثبته من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 367 (حوادث سنة 617). (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 367. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

الأمان من التتر [طمعا أن يسلموا لكونهم من الترك (¬1)]. فأعطاهم التتر الأمان، ففتحوا للتتر أبواب البلد [وهم يزيدون على خمسين ألف فارس]. (¬2) وخرجوا إلى التتر بأهلهم وأموالهم فقال لهم التتر «أدفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم». ففعلوا ذلك. فلما أخذوا ذلك منهم قتلوهم عن آخرهم. وفى اليوم الرابع نادوا في البلد ليخرج أهله بأجمعهم، ومن تأخر قتل، فخرج الجميع. ففعل التتر بهم فعلهم بأهل بخارا، ثم أحرقوا البلد وجامعه (¬3). وكان هذا في المحرم سنة سبع عشرة وستمائه. ولنذكر ما فعلوه بعد ذلك وإن كان خارجا عن السنة التي نحن ذاكرون حوادثها ليتصل الحديث بعضه ببعض ولا ينبتر (¬4). واعلم أن هذا كله جرى والسلطان علاء الدين خوارزم شاه مقيم بمنزلته التي هى بالقرب من بلخ، وكلما اجتمع عنده عسكره سيره إلى سمرقند فيرجعون ولا يقدمون على الوصول إليها. ولما ملكت التتر سمرقند سير جنكزخان عشرين ألفا وأمرهم بطلب خوارزم شاه أين كان. وتسمى هذه الطائفة المغرّبة لأنهم ساروا (¬5) غربى خراسان، وأوغلوا في البلاد، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. فقصدوا أولا مكانا يسمى بنج (¬6) آب ومعناه خمسة مياه. ولما وصلوا إليه لم يجدوا سفينة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش. (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س، ولم يرد في ابن الأثير (نفس المرجع والجزء ص 368). (¬3) الصيغة المثبتة من نسختى م، س وورد في ابن الأثير (نفس المرجع والجزء ص 368) «وأحرقوا الجامع وتركوا باقى البلد على حاله». (¬4) في الأصل «تبتر». (¬5) في الأصل «سارو». (¬6) في نسخة س «بسحراب»، وذكر ياقوت (معجم البلدان) وابن عبد الحق البغدادى (مراصد) قرية تسمى بنج من نواحى سمرقند وخمس قرى متقاربه تسمى بنج ديه من نواحى مرو الروذ بخراسان.

تجيزهم نهر جيحون، فعملوا من الخشب مثل الأحواض الكبار لا يدخلها الماء، ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم، وألقوا الخيل في الماء وتعلقوا بأذناب خيلهم وشدوا تلك الحياض إلى أنفسهم، فكان الفرس يجذب الرجل، والرجل يجذب الحوض، فعبروا كلهم دفعة [واحدة (¬1)]. ولم يشعر خوارزم شاه إلا وهم معه في أرض واحدة، فولى منهزما لا يلوى على شئ، وتفرق أصحابه أيدى سبا. وذهب كل فريق [منهم (¬2)] إلى جهة خذلانا من الله تعالى. وقصد خوارزم شاه مدينة نيسابور، فاجتمع إليه بها بعض العسكر، فلم يشعروا إلا وأولئك (¬3) التتر قد وصلوا إليهم. فرحل من بين أيديهم منهزما إلى مازندارن (¬4)، فرحل التتر في أثره طالبين له، فكان كلما رحل من منزلة نزلوها. ووصل إلى الرى وهى من عراق العجم، ثم منها إلى همذان [86 ا] والتتر في أثره، فرحل في نفر يسير لينكتم خبره. وعاد [خوارزم شاه (¬5)] إلى مازندران، ثم قصد مرسى على بحر طبرستان يعرف بآب سكون (¬6) فنزل في السفن ومضى إلى قلعة له في البحر فاعتصم بها وأدركته منيته فمات [بها (¬7)] رحمه الله. وكان ملكا جليلا عظيم المقدار، عزيز الفضل، يحب العلماء ويعظمهم جدا. وكان قد اعتنى بالأمام فخر الدين بن خطيب الرى، صاحب التصانيف البديعة والعلوم الجمة، وكان ينزل إلى داره ماشيا، ويجلس بين يديه ويتعلم العلم منه. وكانت مملكته من حد العراق إلى تركستان ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في الأصل «وأوايل» والصيغة المثبتة من نسخة س، انظر كذلك ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 370. (¬4) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن مازندران اسم لولاية طبرستان. (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬6) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن أبسكون كانت فرضة للسفن والمراكب على ساحل بحر طبرستان. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

من بلاد الترك، مضافا إلى غزنة وبعض الهند وسجستان وكرمان وطبرستان وغير ذلك من الممالك. وبالجملة لم يملك أحد بعد انقراض الدولة السلجوقية مثله، غير أن السعادة أدبرت عنه، وزال [بزوال ملكه (¬1)] ملك البلاد الإسلامية في جميع هذه الممالك فسبحان من لا يزول ملكه. ولما أيس التتر المغربون من إدراك خوارزم شاه، قصدوا مازندران فملكوها مع صعوبة مسالكها وحصانتها، وأن المسلمين في أول الأسلام لما ملكوا بلاد العجم، لم يقدروا على دخولها فقنعوا من أهلها بالخراج إلى أن ملكت في خلافة سليمان بن عبد الملك. وهؤلاء الملاعين ملكوها على أسرع وقت، وقتلوا وسبوا وأحرقوا البلاد، ثم سلكوا نحو الرى فوقعوا على والدة خوارزم شاه - وكانت قاصدة أصفهان وهمذان لما بلغتها ما جرى على ولدها - فأخذوها وما معها، ووجدوا معها من المتاع ونفائس الجواهر ما ملأ أعينهم، وسيروا الجميع إلى ملكهم جنكزخان وهو نازل بسمرقند [وكان آخر العهد بها (¬2)]. ثم رحل هؤلاء إلى الرى، وقد انضاف إليهم من عساكر المسلمين والكفار والمفسدين خلق كثير، فملكوا الرى ونهبوا وسبوا، ثم فارقوها ومضوا مسرعين يطلبون خوارزم شاه، لأنهم لم يعرفوا له خبرا. فلم يمروا بقرية إلا أحرقوها وقتلوا أهلها وسبوا نساءهم وذريتهم، وتركوا كل ما مروا به قاعا صفصفا. ثم قصدوا همذان، فلما قاربوها خرج رئيسها إليهم بالخيل والأموال والدواب والثياب وغير ذلك، وطلب الأمان لأهل البلد فآمنوهم، وتركوا ¬

(¬1) في نسخة م «وزال بملكة» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

بها لهم شحنة (¬1). ثم قصدوا زنجان (¬2) [86 ب] فملكوها وقتلوا فيها [خلقا (¬3)]، ثم قصدوا قزوين، فاعتصم أهلها بمدينتهم فحاصروها [مدة (¬4)] ثم هجموها [بالسيف (¬5)]، واقتتلوا هم وأهل البلد في البلد بالسكاكين، فقتل من التتر وأهل البلد خلق كثير. فذكر أنه عد قتلى قزوين فكانوا أربعين ألفا، [ومن التتر ما لا يحصى (¬6)]. ثم قصدوا إقليم أذربيجان وأهلكوا كل (¬7) ما في طريقهم من القرى والمدن. وكان صاحب أذربيجان مظفر الدين أزبك بن البهلوان أحد غلمان السلجوقيه، فلم يخرج اليهم لاشتغاله بالشرب واللهو، وإنما أرسل إليهم وصالحهم على مال وثياب ودواب حملها إليهم، فساروا إلى ساحل البحر؛ لأن البرد كان قد اشتد، فأرادوا أن يشتوا في أماكن قليلة البرد كثيرة المراعى. فوصلوا إلى موقان (¬8)، ومروا في طريقهم بأطراف بلاد الكرج، فخرج إليهم نحو عشرة آلاف من الكرج، فقاتلوهم فانهزمت الكرج، وقتل أكثرهم. فأرسلت الكرج إلى أزبك صاحب أذربيجان يطلبون منه الصلح والأتفاق معهم على ¬

(¬1) صاحب الشحنة هو متولى رياسة الشرطة ويقال للوظيفة الشحنة أو الشحنكية، انظر ما سبق (ابن واصل، ج 1 ص 7 حاشية 5). (¬2) زنجان بلد كبير مشهور كانت قريبة من ابهر وقزوين، انظر ياقوت (معجم البلدان)؛ ابن عبد الحق البغدادى (مراصد الأطلاع). (¬3) في نسخة س «خلق» والكلمة غير مذكورة في نسخة م. (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) في نسختى المخطوطة «كلما». (¬8) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن موقان ولاية بأذربيجان فيها قرى ومروج كثيرة كانت تحتلها التركمان للرعى.

دفع التتر عن البلاد، ليجتمعوا إذا انحسر الشتاء. وكذلك راسلوا (¬1) الملك الأشرف بن الملك العادل. وظنوا جميعهم أن التتر يصبرون إلى زمن الربيع، فلم يفعلوا وساروا إلى بلد الكرج. وانضاف اليهم مملوك لأزبك يسمى آقوش، وجمع من المفسدين من أهل تلك الجبال من التركمان والأكراد وغيرهم، وساروا في مقدمة التتر إلى الكرج، ففتحوا حصنا من حصونهم، وخربوا البلاد ونهبوها، وقتلوا أهلها، وسبوا ما لا يحصى حتى قربوا من تفليس. فخرجت إليهم جموع الكرج في حدها وحديدها، فلقيتهم التتر فيمن اجتمع إليهم واقتتلوا قتالا شديدا. فقتل من أصحاب آقوش خلق كثير، وأدركتهم التتر وقد تعبت الكرج من القتال، فانهزموا من التتر أقبح هزيمة، وركبتهم السيوف من كل جانب، فقتل منهم ما لا يحصى كثرة، وكان ذلك في ذى القعدة سنة سبع عشرة وستمائة. ثم قصدوا في أوائل سنة ثمانى عشرة وستمائة توريز (¬2)، فصانعهم أهلها بمال وثياب ودواب. فقصدوا مراغة وصاحبتها إمرأة مقيمة بقلعة رويندز (¬3)، فنصبوا على مراغه المجانيق وحاصروها عدة أيام، وبين أيديهم أسارى المسلمين يزحفون إليها [87 ا]، وهذه عادتهم أبدا في حروبهم. ثم ملكوا مراغه رابع صفر من السنة، ووضعوا السيف في أهلها، فقتلوا منهم ما لا يحصى كثرة، وأحرقوا البلد، ورمى الله تعالى الخذلان العظيم في المسلمين. فذكر ¬

(¬1) في نسخة س وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 375) «أرسلوا إلى». (¬2) في نسختى المخطوطة «توريز»، وتوريز هو الأسم الذى كان جاريا على ألسنة العامة للدلالة على مدينة تبريز أشهر مدن أذربيجان، انظر، القلقشندى، ج 4، ص 357. (¬3) في نسخة م «روندز»، وفى نسخة س «رويدن»، والصيغة المثبتة من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 377 (حوادث 617)، وياقوت (معجم البلدان)، وقد ذكر الأخير أن رويندز قلعة حصينة من أعمال أذربيجان قرب تبريز.

أن إمرأة من التتر دخلت دارا وقتلت جماعة من أهلها [وأسرت الباقين (¬1)] وهم يظنون أنها رجل، ثم وضعت السلاح فعرف أنها إمرأة فقتلها بعض أسراها. وذكر أن رجلا من التتر دخل دربا فيه ما يزيد على مائة رجل، فقتلهم واحدا واحدا حتى أفناهم، لم يمد أحد يده إليه، لما ركبهم من الخذلان والمذلة. ثم رحل التتر قاصدين بلاد إربل، ووصل خبرهم إلى الموصل، فهم أهلها بالهرب خوفا من السيف. فأرسل مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل إلى بدر الدين لؤلؤ يطلب منه نجدة. فسير إليه جمعا من العسكر، وأراد أن يمضى إلى أطراف البلاد ويحفظ المضايق لئلا يجوزوها، وهى مضايق لا يجوزها إلا الفارس بعد الفارس. ووصلت كتب الخليفة الناصر لدين الله ورسله إلى مظفر الدين [صاحب إربل (¬2)] وبدر الدين [لؤلؤ صاحب الموصل (¬3)] يأمرهم بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا (¬4) ليمنعوا التتر، فإنهم ربما عدلوا عن جبال إربل لصعوبتها إلى هذه الناحية، ويتطرقون العراق. فسار مظفر الدين في عسكره وعسكر الموصل، وتبعهم من المطوعة خلق كثير. وأرسل الخليفة إلى الملك الأشرف يأمره بالحضور بنفسه في عساكره ليجتمع الجميع على قصد التتر. فاتفق في ذلك الوقت أن الملك المعظم صاحب دمشق وصل إلى الشرق، كما سنذكره، يطلب من أخيه الملك الأشرف أن يسير معه بنفسه إلى مصر ليستنقذوا ثغر دمياط من الفرنج. فاعتذر الملك الأشرف إلى الخليفة بأخيه الملك الكامل، وقوة الفرنج بالديار المصرية، فإنهم إن لم يتداركوها ملكت الفرنج مصر والشام، واستؤصلت بلاد الإسلام. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) دقوقا أو دقوقاء مدينة بين إربل وبغداد، انظر ياقوت (معجم البلدان).

ولما اجتمع مظفر الدين والعساكر بدقوقا، بعث الخليفة إليه مملوكه قشتمر، وهو أكبر أمراء الخليفة، ومعه نحو ثمان مائه فارس، فاجتمعوا هناك ليصل باقى عسكر الخليفة، والمقدم على الجميع مظفر الدين [87 ب]. فلما رأى قلة العسكر لم يقدم على قصد التتر. وحكى مظفر الدين [بن زين الدين صاحب إربل (¬1)] قال: «لما أرسل إلىّ الخليفة في معنى قصد التتر، قلت له إن العدو قوى وليس عندى من العسكر ما ألقاه به. فإن [اجتمع عندى] (¬2) عشرة آلاف فارس، استنقذت به ما أخذوا من البلاد، فأمرنى بالمسير، ووعدنى بوصول العسكر. فلما سرت لم يحضر عندى سوى عدد لم يبلغوا ثمان مائة طواشى، فأقمت وما رأيت أننى أغرر بنفسى وبالمسلمين». ولما سمعت التتر إجتماع العساكر لهم، رجعوا القهقرى ظنا منهم أن العساكر تتبعهم. فلما لم يروا أن أحدا يتبعهم، أقاموا وأقام العسكر الإسلامى عند دقوقا، فلما لم يروا أن أحدا يقصدهم، ولا المدد يأتيهم [من عند الخليفة (¬3)] تفرقوا. فلما تفرقوا رحل التتر إلى همذان ونزلوا بالقرب منها، ولهم بها شحنة كما ذكرنا، فأرسلوا إليه يأمرونه ليأخذ من أهلها مالا وثيابا. وكان رئيس همذان شريفا علويا من بيت رياسة بهمذان، فلما طولب أهل همذان بالمال حضروا عند الرئيس المذكور، وعنده فقيه يؤثر إجتماع الكلمة على ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) في الأصل «اجتمع على»، وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 379) «اجتمع معى» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

[مخالفة (¬1)] التتر [والعصيان عليهم (¬2)] فقالوا: «هؤلاء الكفار قد أفنوا أموالنا، ولم يبق لنا ما نعطيهم، وقد هلكنا من أخذهم أموالنا وما يفعله النائب معنا من الهوان». فقال لهم الشريف: «إذا كنا نعجز عنهم فليس لنا إلا مصانعتهم بالأموال». فقالوا له: «أنت أشد علينا من الكفار». وأغلظوا له في القول، فقال [الشريف (¬3)] «أنا واحد منكم فاصنعوا ما شئتم». فأشار الفقيه عليهم بإخراج شحنة التتر من البلد والأمتناع فيه، ومقاتلة التتر. فوثبت العامه على الشحنه فقتلوه وامتنعوا في البلد؛ فقصدتهم التتر، وزحفوا إلى البلد وحاصروه. وقاتلهم أهله قتالا كثيرا، فقتل من التتر (¬4) خلق كثير، وجرح ذلك الفقيه جراحات مثخنة [فمات منها (¬5)]. وهرب الرئيس المذكور إلى قلعة قريبة من همذان حصينة، فامتنع بها [ومات بها عن مدة قليلة (¬6)]. وبقى أهل البلد بلا رأس، إلا أنهم صبروا وقاتلوا [إلى أن غلبوا (¬7)]. ودخل التتر البلد هجما، وبذلوا السيف فيه، وقاتلهم الناس في الدروب، فقتل من الفريقين ما لا يحصى، ولم يسلم من أهل البلد إلا من اختفى في نفق تحت الأرض [88 ا]. وألقى التتر النار في البلد فأحرقوه. وكانت هذه الوقعة في رجب سنة ثمانى (¬8) عشرة وستمائه. ولما فرغ التتر من همذان ساروا إلى أذربيجان فوصلوا إلى أردويل (¬9) فملكوها وقتلوا أهلها وأحرقوها. ثم ساروا إلى توريز، وقد قام بأمرها رجل يعرف ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) كذا في الأصل، وكذلك في ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 380 - 381، حوادث 617)، وفى نسخة س «فقتل من الفريقين ما لا يحصى». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في الأصل وكذلك في س «ثمان». (¬9) كذا في نسختى المخطوطة وكذلك ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 381)، وأردويل وتعرف أيضا باسم أردبيل كانت من أشهر مدن أذربيجان، انظر، ياقوت، معجم البلدان؛ أبو الفدا، تقويم البلدان ص 398 - 399.

بشمس الدين الطغرائى أحسن قيام، وجمع الكلمة وحصن البلد، وذلك بعد مفارقة مظفر الدين أزبك بن البهلوان صاحب إقليم أذربيجان لها، خوفا من التتر ومصيره إلى نقجوان (¬1). ولما سمع التتر بقوة البلد وتحصينه، صالحوا شمس الدين الطغرائى على مال حمله إليهم، وقصدوا مدينة سراو (¬2)، فقتلوا كل من فيها، ثم قصدوا بيلقان (¬3)، وأحرقوا كل ما في طريقهم من البلاد وقتلوا وسبوا. ولما وصلوا إلى بيلقان حصروها، فاستدعى أهل البلد منهم رسولا ليقرروا معه أمر الصلح، فأرسلوا إليهم رسولا من مقدميهم فقتله أهل البلد، فزحف (¬4) التتر إلى البلد وملكوه في رمضان من السنة المذكورة. ولم يبقوا فيه على صغير ولا كبير، وبقروا بطون الحبالى، وقتلوا الأجنة، وفجروا بالنساء، ثم قتلوهن. وكان الواحد منهم يدخل إلى الدرب وفيه جماعة فيقتلهم كلهم وحده. ثم ساروا إلى كنجة (¬5) وهى كرسى مملكة أران، وعلموا بكثرة أهلها وشجاعتهم وحصانة بلدتهم، وأنهم لا يقدرون عليها، فطلبوا من أهل البلد ¬

(¬1) في نسختى المخطوطة «نقشوان»، وما هنا من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 382. وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن نقجوان كانت بلدا من نواحى أران. (¬2) في الأصل وفى نسخة س «سرا»، والصيغة المثبتة من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 382. وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن سراو مدينة بأذربيجان، بين أردبيل وتبريز. (¬3) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن بيلقان كانت تعد في أرمينية الكبرى قريبة من شروان، وأن قوما عدها من أعمال أران. (¬4) في الأصل «فزحفت»، والصيغة المثبته من نسخة س، ومن ابن الأثير، نفس المرجع، ص 383. (¬5) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن كنجة مدينة عظيمة بين خوزستان واصبهان وكانت قصبة أران، وكان أهل الأدب يسمونها جنزة.

مالا وثيابا فحمل ذلك إليهم. ثم قصدوا بلد الكرج، وكان الكرج (¬1) قد استعدوا لهم، وبعثوا إلى أطراف بلادهم جيشا كبيرا ليمنع التتر عنهم، فلقيتهم التتر فولّت الكرج منهزمين بين أيديهم وأخذهم السيف، فلم يسلم منهم إلا الشريد [الفريد (¬2)]. فذكر أنه قتل منهم ثلاثون ألفا، ودخلوا بلاد الكرج يخربون وينهبون. فلما وصل المنهزمون إلى تفليس، وبها ملكهم، جمع جموعا أخرى وسيرهم إلى التتر، فعادوا ولم يلقوا التتر خوفا منهم، وأخلوا البلاد للتتر فخربوا كل مامروا به وأفنوا من فيه. ولما رأى التتر كثرة المضايق والدربندات، لم يتجاسروا على الوغول فيها، وقد داخل (¬3) الكرج منهم خوف شديد. ثم قصد التتر دربند شروان (¬4) فقصدوا مدينة شماخى (¬5) فحصروا أهلها، فصبر [88 ب] أهلها على الحصر. فجمع التتر كثيرا من البقر والغنم وجيف القتلى وغير ذلك، فألقوا بعضه على بعض، وصعدوا عليه فأشرفوا على السور والمدينة، وقاتلوا أهلها ثلاثة أيام، وانتنت تلك الجيف وانهضمت، فلم يبق للتتر على السور إستعلاء. ¬

(¬1) الكرج جماعة من المسيحيين كانوا يسكنون في جبال القبق (القوقاز)، وقويت شوكتهم حتى ملكوا تفليس، انظر ياقوت، معجم البلدان، وانظر ما سبق ابن واصل، ج 1 ص 192 حاشية 1. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في الأصل «دخل» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك ابن الأثير الكامل، ج 12، ص 384. (¬4) في نسختى المخطوطة «درب شروان» والصيغة المثبتة من ابن الأثير، نفس المرجع والجزء ص 384. وقد ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن شروان كانت «مدينة من نواحى باب الأبواب الذى يسمونه الفرس الدربند». (¬5) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن شماخى كانت «قصبة بلاد شروان في طرف أران».

فعاودوا (¬1) الزحف والقتال حتى كلّ أهل البلد وضعفوا عن القتال، ودخل التتر البلد فقتلوا وأكثروا ونهبوا. ولما فرغوا منه عبروا دربند (¬2) شروان لينفذوا منه إلى بلاد القفجاق من الترك، وبلاد اللان (¬3)، وبلاد الروس وغيرهم من الأمم، فلم يقدروا على ذلك. فأرسلوا رسولا إلى شروان ملك الدربند، يطلبون منه رسولا يسعى في الصلح بينهم، فأرسل اليهم عشرة أنفس من أعيان أصحابه فقتلوا منهم واحدا وقالوا للباقين: «إن عرّفتمونا طريقا نعبر منه (¬4) فلكم الأمان، وإلا قتلناكم كما قتلنا هذا». فدلّوهم على موضع ذكروا أنه أسهل الطرق. فساروا وهم معهم حتى عبروا تلك الطريق، وتركوا الدربند وراءهم. ¬

(¬1) في الأصل «فعاود» والصيغة المثبتة من نسخة س، وابن الأثير، نفس المرجع والجزء، ص 385. (¬2) في نسختى المخطوطة «درب» انظر ما سبق، ص 53 حاشية 4. (¬3) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن اللان «بلاد واسعة في طرف أرمينية قرب باب الأبواب مجاورون للخزر». واللان اسم قبيلة فارسية الأصل، ذكرت أحيانا في المصادر العربية (أبو الفدا، تقويم البلدان ص 203) باسم العلان. ولا يعرف الجغرافيون العرب سوى بلاد اللان، ويذكرون أنها كانت واقعة على المنحدر الشمالى لجبال القوقاز. وفى القرن الثالث عشر ذكرت المصادر أن اللان يعتنقون المسيحية. وعند بداية الغزو التترى كانت بلادهم قد امتدت إلى المناطق الواقعة شمالى الدربند، وكذلك كانت المنطقة الواقعة عند مصب الفولجا خاضعة لهم، وربما كان ذلك نتيجة سقوط مملكة الخزر، انظر، ابن خرداذبة، المسالك والممالك، ص 123 - 124، 163، 173؛ Barthold,article «AIIan», in E I; Dunlop,The History of the Jewish Khazars,pp .5, 12, 19, 26, 43, 66, 162, 164 - 5, 194, 249. (¬4) في الأصل «منهم» والصيغة المثبتة من نسخة س.

ولما عبروا الدربند ساروا في تلك الأعمال، وبها أمم لا تحصى منهم (¬1): اللان واللكز (¬2) وطوائف من الترك، فنهبوا وقتلوا من اللكز كثيرا، وهم مسلمون وكفار، وأوقعوا بمن عداهم من أهل تلك البلاد. ثم قصدوا اللان، وهم أمم كثيرة ودينهم النصرانيه، وكان بلغهم خبرهم فحذروا، وجمعوا جمعا عظيما من القفجق، وقاتلوهم فلم تظفر إحدى الطائفتين بالأخرى. فأرسلت التتر إلى قفجاق [يقولون (¬3)]: «بأنا نحن وأنتم جنس واحد، واللان ليسوا منكم حتى تنصروهم، ولا دينكم مثل دينهم، ونحن نعاهدكم أنّا لا نتعرض لكم، ونحمل لكم من الأموال والثياب ما شئتم، وتتركون بيننا وبينهم». واستقر الأمر بينهم على مال وثياب يحملها التتر إليهم، فتخلوا عن اللان، وأوقعت التتر باللان فقتلوا منهم كثيرا ونهبوا وسبوا. ثم عاد التتر إلى قفجاق، وهم آمنون متفرقون لما استقر بينهم من الصلح، فلم يشعروا بهم [القفجاق (¬4)] إلا وقد طرقوهم ودخلوا بلادهم، وأوقعوا بهم وأخذوا منهم أضعاف ما حملوه إليهم. واعتصم بعضهم بالشعاب وبعضهم بالجبال، ولحق بعضهم ببلاد الروس، وأقام هؤلاء التتر ببلاد قفجاق؛ وهى أرض كثيرة المرعى في الشتاء [89 ا] والصيف، وفيها أماكن باردة في الصيف كثيرة المرعى، وأماكن حارة في الشتاء كثيرة المرعى. ووصلوا إلى مدينة سوداق (¬5) - وهى مدينة قفجاق التي منها مادتهم وهى عند ¬

(¬1) في الأصل «من» والصيغة المثبتة من نسخة س، وابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 385. (¬2) لم تذكر المصادر والمراجع المتداولة شيئا عن هذه القبيلة ولعلها من القبائل التي جاورت قبائل اللان، انظر ما سبق ص 54 حاشية 3. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) سوداق أو صوداق بلده مسورة على شاطئ بحر القرم كانت فرضة التجار يسافرون منها إلى خليج القسطنطينية، انظر أبو الفدا (تقويم البلدان، ص 214 - 215.)

بحر متصل بخليج القسطنطينية (¬1) - فملكها التتر وتفرق أهلها؛ فبعضهم اعتصم بالجبال، وبعضهم ركب البحر وسار إلى بلاد السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو [سلطان سلاجقة الروم (¬2)]. ثم سارت طائفة من هؤلاء [التتر (¬3)] إلى بلاد الروس، وهى بلاد طويلة عريضة، يدين أهلها بالنصرانية. وكان وصول التتر اليها في سنة عشرين وستمائة. وسمع الروس ومن جاء إليهم من قفجاق خبرهم، فاستعدوا لقتالهم، فساروا ليلقوا التتر ويردوهم عن بلادهم. فعاد التتر لما بلغهم ذلك على أعقابهم، فطمعت الروس وقفجاق فيهم، وظنوا أن رجوعهم أنما كان خوفا منهم وعجزا عنهم، فاتبعوهم مسافة إثنى عشر يوما. ثم عطفت التتر عليهم، وقد أمنوا وتفرقوا لاستشعارهم القدرة على التتر، فلم يجتمعوا للقتال إلا وقد بلغت التتر منهم مبلغا عظيما. فصبرت الطائفتان وتقاتلوا قتالا لم يسمع بمثله عدة أيام. ثم هزمتهم التتر هزيمة عظيمة وأثخنوا فيهم القتل، فلم يسلم منهم إلا القليل، ومن سلم وصل إلى البلاد على أقبح صورة لبعد الشقه. وتبعهم التتر يقتلون ويخربون حتى خلت أكثر البلاد، واجتمع كثير من أعيان تجار الروس وغيرهم، وحملوا ماعز عليهم إلى بلاد السلطان علاء الدين. ولما سمع أهل بلغار بقربهم منهم، كمنوا لهم في عدة مواضع، وخرجوا فقاتلوهم. واستجروهم إلى أن جاوزوا مواضع (¬4) الكمناء، فخرجوا عليهم من وراء ظهورهم، وبقوا في الوسط، وأخذهم السيف من كل ناحية، فقتل أكثرهم وسلم الباقون. ¬

(¬1) في نسخة م «القستنطينية» والصيغة المثبتة من س. (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في الأصل «موضع» والصيغة المثبتة من نسخة س.

ثم أن هذه الطائفة [من التتر (¬1)] سارت إلى سقسين (¬2) عائدين إلى ملكهم جنكزخان [فوصلوا إليه (¬3)]. فهذه أخبار الطائفة التي يقال لها المغربة؛ وهى التي سارت غربى خراسان، وتوغلت في البلاد التوغل العظيم الهائل الذى لم يسمع قط أن طائفة من الأمم أو غلته وفعلت فيه فعل هؤلاء في هذه المدة القريبة. وأما جنكزخان فإنه بعد أن سير هذه الطائفة قسم أصحابه عدة أقسام، فسير قسما [89 ب] إلى بلد فرغانه ليملكوها، وسير قسما إلى ترمذ (¬4)، وقسما إلى كلانه (¬5) وهى قلعة حصينة إلى جانب نهر جيحون، فسارت كل طائفة إلى الجهة التي أمروا بقصدها ونازلوها واستولوا عليها، وفعلوا من القتل والسبى والنهب والتخريب مثل فعل أصحابهم. ولما فرغوا من ذلك عادوا إلى جنكزخان وهو بسمرقند، فجهز جيشا عظيما وقدم أحد أولاده وبعثهم إلى خوارزم. وبعث جيشا آخر إلى خراسان، فعبروا جيحون وقصدوا بلخ وتسلموها بالأمان سنة سبع عشرة وستمائة، وجعلوا فيها شحنة ولم يتعرضوا لنهبها. وكذلك فعلوا ببلاد أخرى، وأخذوا رجال هذه البلاد ليقاتلوا بهم من امتنع عليهم. ثم وصلوا [إلى (¬6)] الطالقان وهى ولاية تشتمل على عدة بلاد، وفيها قلعة حصينة يقال لها منصور كوه، لا ترام علوا وارتفاعا، وبها ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ذكر أبو الفدا (تقويم البلدان، ص 202، 205) هذه المدينة وقال أنها «مدينة مشهورة»، ويبدو من وصفه أنها كانت تقع على نهر طنابرس الكبير شمالى البحر الأسود. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسختى المخطوطة «ترمد» والصيغة المثبتة من ابن الأثير، الكامل ج 12، ص 389. وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن مدينة ترمذ كانت واقعة شرقى نهر جيحون. (¬5) في الأصل «كلاة» وفى نسخة س «كلابة» والصيغة المثبتة من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 389. (¬6) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س وابن الأثير، نفس المرجع والجزء، ص 390.

مقاتلة في غاية الشجاعة فحصروها ستة أشهر يقاتلون أهلها بالليل والنهار، فلم ينالوا منها غرضا فأرسلوا إلى جنكزخان يعرّفونه عجزهم عن ملك هذه القلعة لحصانتها وكثرة مقاتليها وشجاعتهم. فسار بنفسه بمن معه من جموعه فحصرها، ومعه خلق من المسلمين أسرى مكرهين على القتال، فأقام على حصارها أربعة أشهر أخرى وقتل من التتر عليها خلق كثير. ثم أمر [جنكزخان] (¬1) أن يجمع له من الحطب والأخشاب ما أمكن جمعه، وصاروا يعملون صفا من خشب وصفا من تراب. ولم يزالوا كذلك حتى صار تلا عاليا يوازى القلعة، وصعدت الرجالة (¬2) فيه ونصبوا عليه منجنيقا فصار يرمى إلى وسط القلعة. فاجتمع من بها وفتحوا بابها وخرجوا وحملوا على التتر حملة واحدة، فسلمت الخيالة منهم ونجوا وسلكوا الجبال والشعاب، وقتلت الرجالة وملكت التتر القلعة، وسبوا النساء والأطفال ونهبوا الأموال. ثم أن جنكزخان جمع رجال البلاد الذين أعطاهم الأمان كأهل بلخ وغيرهم، وسيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو، فوصلوا إليها وبها من المسلمين المقاتله ما يزيد على مائتى ألف رجل من جند وتجار وعرب وترك، وهم معسكرون بظاهر مرو عازمون على لقاء التتر [90 ا]. فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم المسلمون ووضع التتر السيف فيهم فلم يسلم منهم إلا القليل، ونهبت أموالهم وسلاحهم. ثم أرسل التتر إلى ما حولهم من البلاد ليأتيه رجال أهلها، فلما اجتمعوا عنده زحفوا إلى مرو وجدوا في حصارها أربعة أيام، وقد ضعفت قلوب أهل مرو لانكسار عسكرهم. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) في نسختى المخطوطة «الرجال» والصيغة الصحيحة المثبتة من ابن الأثير، الكامل، (ج 12، ص، 391، حوادث 617).

ولما كان اليوم الخامس أرسل التتر إلى المقدم الذى في البلد يقولون له: «لا تهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا فنحن نجعلك أمير هذه البلده (¬1)، ونرحل عنك.» فأرسل ذلك المقدم يطلب الأمان لنفسه ولأهل البلد (¬2) فأمنوهم، فخرج فخلع عليه ابن جنكزخان وقال له: «أريد أن تعرض علىّ أصحابك حتى ننظر من يصلح لخدمتنا استخدمناه، وأعطيناه إقطاعا». فلما حضروا عنده وتمكن منهم، قبض عليهم وعلى أميرهم. ولما فرغ من قبضهم أمر أن يكتبوا له تجار البلد ورؤسائه وأرباب الأموال في جريدة (¬3)، وأرباب الحرف والصناعات في جريدة أخرى، ففعلوا ما أمرهم به. ولما وقف على النسخ أمر بأن يخرج أهل البلد بأهلهم وأموالهم، فخرجوا كلهم إليه، فجلس على كرسى من ذهب، وأمر بحضور الأجناد الذين أمر بالقبض عليهم، وأن تضرب أعناقهم، ففعل ذلك والناس ينظرون إليهم ويبكون. ثم قسم رجال العامة ونسائهم وولدانهم وأموالهم، وكان يوما مشهودا من كثرة الصراخ والبكاء والعويل. وأمر بضرب أرباب الأموال وتعذيبهم بأنواع العقوبات حتى استصفى ما معهم. ثم أمر بإحراق البلد [فأحرق جميعه وأحرقت (¬4)] تربة السلطان سنجر بن ملكشاه، ظنا من التتر أن ¬

(¬1) في نسخة م «هذا البلد» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك (ابن الأثير، نفس المرجع والجزء، ص 392). (¬2) في نسخة م «وأهل» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬3) المقصود بالجريدة الدفتر أو السجل انظر، الخوارزمى، مفاتيح العلوم، ص 56 - 57، 64؛ Lewis, article «Daftar,» in E I,2 nd ed . (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «فاحرقت».

فيها مالا، وبقى الأمر كذلك ثلاثة أيام. وفى اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة، فأحصيت القتلى فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل. ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة أيام وبها جمع [كثير (¬1)] من العسكر الأسلامى، فلم يكن لهم بالتتر قوة، وملكت التتر البلد، وأخرجوا أهله إلى الصحراء فقتلوهم، وسبوا حريمهم، وعاقبوا من اتهموه بالمال. وأقاموا بها خمسة عشر يوما يخربون، وينبشون المنازل عن المال. ثم سيروا طائفة إلى طوس وفعلوا بها كذلك [90 ب]. وخربوا المشهد الذى فيه على بن موسى الرضى (¬2) عليهما السلام، وفيه قبر هارون الرشيد. ثم ساروا إلى هراة (¬3)، وهى من أحسن البلاد، فحصروها عشرة أيام ثم ملكوها وأمنوا أهلها، وقتلوا منهم البعض وتركوا عند الباقين شحنة. ثم ساروا إلى غزنة فلقيهم السلطان جلال الدين منكبرتى بن السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه فكسرهم - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. [فوثب أهل هراة حينئذ على شحنة التتر فقتلوه، فلما عاد المنهزمون عنه دخلوا البلد عنوة، وقتلوا كل من فيه، وسبوا الحريم، وخرقوا البلد وأحرقوه، وعادوا إلى جنكزخان وهو بالطالقان يرسل التتر إلى جميع بلاد خراسان يخربون وينهبون ويقتلون. وكل هذا كان سنة سبع عشرة وستمائة] (¬4). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 393) «جمع صالح». (¬2) أنظر ترجمته في ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 1 ص 321 - 322) وانظر أيضا ابن الأثير، (الكامل، ج 6 ص 197، 326). (¬3) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن هراة كانت مدينة عظيمة مشهورة من أمهات مدن خراسان. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ورقه 197 ب، ثم عاد ناسخ هذه النسخة فأثبتها خطئا في ورقه 198 ب - 199 ا؛ انظر ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 393.

ذكر ما جرى بين جلال الدين خوارزم شاه وبين التتر من الحروب ثم توجهه إلى بلاد الهند

وأما السرية التي سيرها جنكزخان إلى مدينة خوارزم (¬1)، فإنها كانت أعظم السرايا لعظم البلد. فوصلوا إليها وبها عسكر ورجال شجعان من أهل البلد، فحصروها خمسة أشهر، وقتل من الفريقين خلق كثير، إلا أن القتل في التتر [كان (¬2)] أكثر لاحتماء المسلمين بالسور. فاستمد التتر ملكهم جنكزخان فأمدهم بخلق كثير، فزحفوا إلى البلد زحفا متتابعا، فملكوا طرفا من البلد. فاجتمع أهل البلد وقاتلوهم في الموضع الذى ملكوه، فلم يقدروا على إزاحتهم عنه، ولم يزالوا يقاتلونهم والتتر يملكون محلّة (¬3) بعد محلة، وكلما ملكوا محلة قاتلهم المسلمون من المحلة التي تليهم، وكان النساء والصبيان يقاتلون مع الرجال. ولم يزالوا كذلك حتى ملكوا البلد جميعه، وقتلوا كل من فيه، ونهبوه، ثم فتحوا الجسر الذى كان يمنع ماء جيحون عن ركوب البلد، فدخله الماء، وغرق البلد جميعه، وتهدمت أبنيته وبقى لجة ماء. ولما فرغ التتر من ملك خراسان وعادوا إلى ملكهم، جهز جيشا كثيفا وسيره إلى غزنة. ذكر ما جرى بين جلال الدين خوارزم شاه وبين التتر من الحروب ثم توجهه إلى بلاد الهند وكان جلال الدين منكبرتى بن علاء الدين خوارزم شاه مقيما بغزنة وعنده [91 ا] من سلم من عسكر أبيه خوارزم شاه، وكانوا ستين ألفا، وكان العسكر الذى سيره جنكزخان إلى غزنة [نحو (¬4)] إثنى عشر ألفا. فلما وصلوا إلى أعمال ¬

(¬1) ذكر ياقوت أن خوارزم ليس «اسما للمدينة إنما للناحية بجملتها». وذكر أيضا أن عاصمة هذا الأقليم كانت تسمى الجرجانية على شاطئ جيحون. وزار ياقوت تلك المدينة قبل الغزو التترى بسنة واحدة، انظر ياقوت، معجم البلدان، مادتى خوارزم، والجرجانية. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) المحلة هى المنزل، انظر القاموس المحيط. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

غزنة خرج إليهم جلال الدين مع العسكر [الذى كان (¬1)] عنده، ووقع المصاف بمكان يعرف ببلق (¬2). واقتتل الفريقان قتالا شديدا، فنصر الله تعالى المسلمين، وانهزم التتر، وقتلهم المسلمون كيف شاؤا. وعاد المنهزمون الذين سلموا إلى جنكزخان، فسير جنكزخان عسكرا أكثر من الأول مع بعض أولاده، فوصل إلى كابل، فتوجه العسكر الأسلامى إليه [مع جلال الدين (¬3)]. ووقع المصاف، واقتتلوا قتالا عظيما، فانهزم التتر هزيمة ثانية، وقتل منهم خلق [عظيم (¬4)]، وغنم المسلمون أموالهم وكانت عظيمة، وكان معهم من أسرى المسلمين خلق [عظيم (¬5)] فخلصوا من الأسر. ثم [بعد ذلك (¬6)] جرت بين المسلمين فتنة لأجل قسمة الغنائم، لما يريده الله تعالى من بوار الأسلام. وحديث هذه الفتنة (¬7) أن أميرا منهم يقال له سيف الدين بغراق، تركى من الخلج (¬8)، وكان شجاعا مقداما، ذا رأى في الحرب ومكيدة، وكان اصطلى حرب التتر بنفسه، وقع بينه وبين أمير آخر يقال له ملك خان - بينه وبين السلطان جلال الدين نسب - خلف في الغنيمة، واقتتلوا فقتل بينهم أخ لبغراق، فقال بغراق: «أنا أهزم الكفار ويقتل أخى لأجل هذا السحت». فغضب وفارق العسكر وسار إلى الهند، ومعه من العسكر ثلاثون ألفا كلهم يريده. واستعطفه جلال الدين بكل طريق، وسار بنفسه إليه، وذكّره الجهاد، وخوفه من الله تعالى، وبكى بين يديه، فلم يرجع ¬

(¬1) في نسخة م «الذين» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) في نسخة م «بتلف»، وفى نسخة س «تتلف» والصيغة الصحيحة المثبتة من ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 395). وبلق كانت ناحية بغزنة، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) عن هذه الفتنة انظر ايضا، النسوى، سيرة السلطان جلال الدين منكبرتى، ص 155 - 156. (¬8) الخلج موضع قرب غزنه من نواحى زابلستان، انظر ياقوت (معجم البلدان).

وسار مغاضبا. فبينما هم كذلك (¬1) إذ ورد الخبر بوصول جنكزخان في جموعه. فلما رأى جلال الدين ضعف المسلمين لأجل من فارقهم من العسكر، لم يقدر على المقام، فسار نحو بلاد الهند، فوصل إلى ماء السند، وهو نهر كبير، فلم يجد من السفن ما يعبر فيه. وكان جنكزخان يقتص أثره مسرعا، فلم يتمكن جلال الدين من العبور حتى أدركه جنكزخان في التتر، فتصافوا للقتال، واقتتلوا قتالا كثيرا [91 ب] حتى قيل أن ما مضى من الحروب قبله كان لعبا بالنسبة إليه. ودام هذا القتال ثلاثة أيام، وقتل من الفريقين خلق كثير، وممن قتل فيه ملك خان المقدم ذكره، وكان القتل في التتر أكثر والجراح أعظم، فرجع التتر وأبعدوا ونزلوا [على بعد (¬2)]. ولما رأى المسلمون أنه لا مدد لهم، وأنهم لا يزدادوا إلا ضعفا، أرسلوا يطلبون السفن فوصلت إليهم فعبروا بها ذلك النهر. ولم يعلموا بما أصاب التتر من الجراح والقتل، ولو علموا بذلك لرجعوا إليهم، وكانوا ربما انتصروا عليهم، لكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه. ولما عبر جلال الدين النهر ومن معه [من العساكر (¬3)] وتوجهوا إلى الهند، قدم التتر إلى غزنة، وملكوها لوقتها لخلوها عن من يحامى عنها، وقتلوا [أهلها (¬4)] ونهبوا وسبوا الحريم، ولم يبقوا على أحد. ثم أحرقوها فأصبحت {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (¬5)}». ¬

(¬1) في الأصل «فانهم لكذلك» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 397). (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 397)؛ عن المصاف بين جلال الدين وبين جنكزخان على حافة ماء السند انظر، النسوى (سيرة السلطان جلال الدين، ص 158 - 159). (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسختى المخطوطة «بها» والصيغة المثبتة من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 397. (¬5) القرآن الكريم، سورة يونس، آية 24.

ذكر بقية حوادث سنة ست عشرة وستمائة

فهذا خبر هؤلاء القوم في مبدأ أمرهم، وسنذكر - إن شاء الله تعالى - بعد ذلك ما تجدد من أخبارهم. وقد لخصت حديثهم بقدر الأمكان، ولو أتيت به على وجهه لملأت به مجلدات. ولم يجر في زمن الأسلام قبل هؤلاء - بل أقول ولا قبل الإسلام - نظير ما جرى لهؤلاء، فإنهم استأصلوا أكثر المعمورة من البلاد في مدة قريبة جدا. والأسكندر إنما ملك البلاد في نحو أربع عشرة سنة، ولم يسلك مسلك هؤلاء [القوم (¬1)]، وإنما كان يصل أهل كل مملكة بالعدل والأحسان. وهؤلاء ملكوا بسفك الدماء، وتخريب البلاد وقتل الأنفس، فالله المستعان وإليه الرغبة في أن ينصر المسلمين عليهم، ويقضى باستئصالهم واصطلامهم بالكلية، كما ورد في الخبر عن النبى صلّى الله عليه وسلم، فإنه ورد أن لهم ثلاث سياقات؛ في الأولى يلحقون المسلمين بجزيرة العرب، وفى الثانية يقتل بعض ويسلم بعض؛ وفى الثالثة يصطلمون [فلا تقوم لهم قائمة بعدها (¬2)]. ولنرجع إلى ذكر بقية الحوادث الحادثة في السنة التي انتهينا إلى ذكرها. ذكر بقية حوادث سنة ست عشرة وستمائة [92 ا] في هذه السنة تقدم الملك المنصور صاحب حماة بتحليف أهل بلده لولده الملك المظفر تقى الدين محمود. وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة لأن مولده، كما قدمنا [ذكره (¬3)] سنة تسع وتسعين وخمس مائة. فكتب والدى - رحمه الله - نسخة اليمين (¬4)، واستحلف الناس له بولاية العهد عن والده. ثم تقدم الملك المنصور إلى ولده الملك المظفر بالمضى إلى الديار المصرية، لإنجاد خاله الملك الكامل على الفرنج. وضم إليه جماعة من العسكر، وأصحبه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة م «يمين» والصيغة المثبتة من نسخة س.

الطواشى شجاع الدين مرشد المنصورى. ولما ودّعه والده الملك المنصور أنشده بيتين من نظمه (¬1) هما: ومنك قد فارقت منّى مهجة ... خطيرة أمسيت منها في خطر ايدك الله بنصركى أرى ... وجهك قد وافى منيرا بالظفر ولما وصل الملك المظفر إلى العسكر الكاملى التقاه الملك الكامل أحسن تلق وأنزله في ميمنة عسكره، وهى منزلة أبيه وجده في الأيام الناصرية الصلاحية. وبعد سفر الملك المظفر إلى مصر، توفيت والدته ملكه خاتون بنت الملك العادل، وحزن عليها زوجها الملك المنصور حزنا عظيما، ولبس الحداد، وأمر بصعود أكابر حماة إلى القلعة للصلاة عليها، فصلوا عليها وأمّ بهم والدى - رحمه الله - وحضرت معه يومئذ وعمرى نحو أثنتى عشرة سنة. ثم عمل السلطان - رحمه الله - عزاها (¬2) بالمدرسة المنصورية (¬3) ظاهر حماة. ورأيته وهو جالس يمنة المحراب وهو مكتئب حزين وهو لابس الحداد، ثوب أزرق وعمامة زرقاء، وإلى جانبه أولاده الملك الناصر قلج أرسلان وأخوته وعليهم كلهم الحداد. وقرأت القراء بين يديه، ووعظت الوعاظ، وانشدت الشعراء المراثى. وكان اقترح له أن تنظم المراثى على وزن قصيدة أبى [العلاء (¬4)] المعرى ورويتها التي مطلعها: يا ساهر البرق أيقظ راقد السّمر ... لعل بالجزع أعوانا على السّهر (¬5) ¬

(¬1) في الأصل «قطعة» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) في الأصل «عزاه» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) في نسخة م «المدرسة التقوية» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة س، انظر مايلى ص 78، 87. (¬4) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش في نسخة م ومثبت في نسخة س. (¬5) انظر شروح سقط الزند، السفر الثانى، القسم الأول، ص 114.

فعمل جماعة من الشعراء قصائد على هذا الوزن والروى، وأجود قصيدة [92 ب] عملت قصيدة حسام الدين خشترين بن تليل (¬1)، وهو جندى كردى وكان شاعرا مجيدا، غير أنه كان ألكن لحانا، وإذا نظم أجاد وأحسن. ووصف لبس السلطان الحداد، وأبدع في المعنى، والقصيدة مطلعها: الطرف في لجة والقلب في سعر ... له دخان زفير طار (¬2) بالشرر ظللت ما بين إنكار ومعرفة ... أقلب الطرف بين الخبر والخبر حتى رأيت نجوما أطلعت شفقا ... على شموس وجوه في دجى شعر من كل بيضاء خود خلتها جمدت ... من السكينة أو ذابت من الخفر ما كنت أعلم أن الخطب متصل ... بأفضل الناس من أنثى ومن ذكر أباد ألفا من الدنيا بواحدة ... شلّت يداه فما أمضاه في العير (¬3) فليفعل الدهر بى ما شاء بعدهم ... ها قد أمنت فلا ألوى على حذر فقل لمن راح يرجو طيف من ظعنوا ... لمّا غدا الطرف موقوفا على السّهر ناشدتك الله لا تنسى الوداد فقد ... بانت سعاد وهذا آخر الخبر لم يبق للخلق قلب بعد ما ظعنت ... إلا وفيه لها بيت من الفكر ومنها في وصف لبس السلطان الحداد ما كنت أعلم أن الشمس قد غربت ... حتى رأيت الدجى ملقى على القمر ¬

(¬1) كذا بالأصل وفى نسخة س «تايل». (¬2) في نسخة س «طاير» وفيه لا يستقيم الوزن. (¬3) العير السيد والملك وعير القوم سيدهم، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 6 ص 300.

ومنها قل للغزالة أىّ الروع (¬1) نّفرها ... ودونها أسد وقف على الحذر ملك على كل خطب جلّ أصغره ... على الورى قادر (¬2) إلا على القدر لو كان من مات يفدى قبلها لفدى ... أمّ المظفّر آلاف من البشر وراح من دونها للطعن أسد شرى (¬3) ... على خيول لديها نزوة النّمر (¬4) صيد إذا شهروا أسيافهم كتبوا ... بها حروفا على الهامات في سطر ومنها أين التبابعة الصّيد الألى هدروا ... من الملوك نجيعا غير منهدر أين البهاليل من غسان يقدمها ... على الجياد ذو والتيجان من مضر أين المظّفر من كانت (¬5) عزائمه ... في مأزق الحرب لا تلوى على خور فكم له ضربة في الهام هائمة ... وكم له ثغرة بالطعن في الثغر وأين أولاد أيوب الذين لهم ... مواقف أوقفت (¬6) عكا على الغير وكم جرت دون صور من صوارمهم ... جرد الجياد على أرض من الصّور كأنهم ما بدت في ليل عثيرهم (¬7) ... نجوم سمر ولا برق من البتر (¬8) ولا أتتهم ظهور الخيل حاملة ... ليوث غيل لها الغابات من سمر يبادرون إلى الأعداء سمرهم ... يوم الوغى، وإلى القصّاد بالبدر جمال ذى (¬9) الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير ¬

(¬1) في نسخة س «الربع» وفيه المعنى يختل. (¬2) في نسخة س «حاذر» ومعها لا يستقيم المعنى. (¬3) في نسخة س «وغى». (¬4) في نسخة س «السمر» ولعله تحريف. (¬5) في نسخة س «دانت» ولعله تحريف. (¬6) في نسخة س «أوقعت». (¬7) في نسخة س «عنتهم» ومعها يختل الوزن. (¬8) في نسخة س «التبر» ولا يستقيم الوزن. (¬9) في نسخة س «ذا» وهو تصحيف.

ومنها يا ناصر الدين خذها بنت ذى أدب ... جاءتك ترفل في وشى وفى حبر من البسيط تهادى بعد ما كملت ... راح الطويل لها في غاية القصر واسلم فأنت الذى في تاجه قمر ... ما زال يشرق بين النصر والظفر لا زال ربعك يا منصور مبتسما ... منزّها بعدها من عابس الغير وللملك المنصور زوجها في رثائها عدة قصائد، من ذلك قصيدة مطلعها: دموع كالغيوث (¬1) الهاطلات ... لماض من [كآباتى وآتى (¬2)] ولوعات على لها إحتكام ... يرق لها ملام اللائمات على من في الضريح لها أنيس ... صلاة واصلتها بالصلات أيا من وجهها عندى عزيز ... ويا من موتها أوهى حياتى سلام الله كل صباح يوم ... على تلك العظام الباليات أساكنة اللحود عليك منى ... دموع دونها ماء الفرات لقد كانت بك الساعات تزهو ... لعينى كالنجوم الزاهرات وفقدك صير الأيام عندى ... لبعدك كالليالى الحالكات وكنت بعصمة الدين المهنى ... بعصمتها العلية عن صفات [93 ب] فصرت بها المعزى (¬3) من جميع ال‍ ... ـجهات فيا حياتى من حياتى ولم أك للحداد (¬4) أخا لباس ... يعين على صروف النائبات ولكنى أذبت سواد عينى ... فسال مع الدموع السائلات ¬

(¬1) في نسخة س «كالعيون». (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في نسخة م. (¬3) في نسخة س «المردى» وهو تصحيف. (¬4) في نسخة س «الحداد» ولا يستقيم الوزن.

ومنها وها أنا منك في أصفاد حزن ... لغير سماع نوح (¬1) لا أو اتى وأبكى كلما غنّى حمام ... وأندب (¬2) في العشيّة والغداة وتبكى الصالحات عليك حزنا ... بكاء الأمّهات على البنات فلا كنّ الليالى إذ أرتنى ... سراك إلى ذراك بلا أناه (¬3) ولا كان الحمام فكل شمل ... به متجرع كأس الستات ¬

(¬1) في نسخة س «حزن». (¬2) في الأصل «وأبدت» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) في نسخة س «نيات» ويختل الوزن.

ودخلت سنة سبع عشرة وستمائة

ودخلت سنة سبع عشرة وستمائة والفرنج متملكون ثغر دمياط، والسلطان الملك الكامل مستقر في المنصورة، مرابط لجهاد الفرنج، ورسله متواصلة إلى الملوك لاستدعاء النجد، وأخوه الملك الأشرف [موسى بن الملك العادل (¬1)] نازل في حران، وعماد الدين أحمد ابن المشطوب في إقطاعه الذى أقطعه إياه الملك الأشرف، وهو رأس عين - كما قدمنا ذكره (¬2). وكنا ذكرنا ما جرى من إنتقاض الصلح بين مظفر الدين ابن زين الدين صاحب إربل، وبدر الدين [لؤلؤ (¬3)] صاحب الموصل (¬4). فراسل مظفر الدين الذين مع الملك الأشرف يستميلهم إليه، ويفسدهم على الملك الأشرف. وكاتب ملوك الأطراف يحسن لهم الخروج عليه. وكاتب صاحب ماردين، وصاحب آمد واستمالهما إليه. وإنما فعل ذلك بسبب قيام الملك الأشرف بنصرة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكونه ندب عنه. وكان ممن أجاب مظفر الدين إلى ما طلب من الأمراء، عماد الدين بن المشطوب، لما في نفسه من الغدر والفساد. ووافقه على ذلك عز الدين محمد بن بدر الحميدى وغيرهما. وجمع جمعا كثيرا من الأكراد والمفسدين. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) انظر ما سبق ص 30. (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬4) انظر ما سبق ص 31.

ذكر خروج ابن المشطوب على الملك الأشرف ثم انتصار الملك الأشرف عليه واعتقاله

ذكر خروج ابن المشطوب على الملك الأشرف ثم انتصار الملك الأشرف عليه واعتقاله [94 ا] ولما جرى ما ذكرنا من اجتماع صاحب ماردين، وصاحب آمد، وابن المشطوب، ومن وافقه من الأمراء على الملك الأشرف، نزل عماد الدين ومن وافقه من الأمراء والمفسدين بدنيسر (¬1) تحت ماردين ليجتمعوا مع صاحب آمد، وصاحب ماردين ويتفقوا كلهم على منع الأشرف من نصرته لصاحب الموصل. فلما اجتمعوا هناك، رجّع صاحب آمد الملك الصالح عن موافقتهم، ومال إلى الملك الأشرف، واستقر الصلح بينهما وأعطاه الملك الأشرف حانى (¬2) وجبل جور (¬3)، وضمن له أخذ دارا (¬4) وتسليمها إليه. ولما جرى هذا [الأمر (¬5)] انحل أمرهم، واضطر بعض تلك الأمراء إلى الرجوع إلى طاعة الملك الأشرف. وبقى عماد الدين بن المشطوب في جمع قليل، فسار إلى نصيبين ليسير منها إلى إربل، ويجتمع مع مظفر الدين صاحب إربل. فقصده والى نصيبين ابن صبرة في جمع [قليل (¬6)] من عسكر الملك الأشرف واقتتلوا، فانهزم عماد الدين، وتفرق عنه من كان معه من الجند. ومضى منهزما فاجتاز بطرف بلد سنجار، فسير إليه فروخ شاه محمود بن ¬

(¬1) دنيسر بلدة عظيمة قرب ماردين كان يقال لها قوج حصار، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬2) حانى اسم مدينة بديار بكر، ذكر ياقوت (معجم البلدان) انها اشتهرت بمعدن الحديد الذى كان يجلب منها إلى سائر البلاد. (¬3) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن جبل جور اسم لكورة كبيرة متصلة بديار بكر من نواحى أرمينية، كان أهلها نصارى أرمن وفيها قلاع وقرى. (¬4) في نسخة م «دلدا» وهو تحريف في النسخ، والصيغة المثبتة من نسخة س، وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن دارا بلدة في لحف جبل بين نصيبين وماردين. (¬5) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س، هامش ورقة 201 ب.

قطب الدين صاحبها عسكرا، وكان موافقا للملك الأشرف، فأخذوه أسيرا وحملوه إلى سنجار. فلما صار عنده حسن له موافقة مظفر الدين ومخالفة الملك الأشرف والخروج عليه وعلى بدر الدين لؤلؤ، فأجابه إلى ذلك. وأرسل الملك الأشرف إلى صاحب سنجار يستدعى منه إنفاذ عماد الدين [أحمد بن المشطوب (¬1)] إليه، فامتنع من ذلك. وأطلق عماد الدين فانضم إليه جمع كثير من المفسدين، فقصد بهم البقعاء (¬2) من أعمال الموصل، ونهبوا عدة قرى، وعاد بهم إلى سنجار. ثم سار بهم إلى تليعفر، وهى لصاحب سنجار، ليقصد بلد الموصل، وينهب تلك الناحية. وبلغ خبره بدر الدين لؤلؤ، فسير إليه عسكرا من الموصل فقاتلوه، فمضى منهزما وصعد [عماد الدين بن المشطوب (¬3)] إلى تليعفر واحتمى بها، فنازلوه وحاصروه بها [فلم يقدروا عليه (¬4)]. ثم سار إليه بدر الدين لؤلؤ من الموصل يوم الثلاثاء لتسع (¬5) بقين من شهر ربيع الأول من هذه السنة، وجدّ في حصره والزحف اليها مرة بعد أخرى، فنزل إليه بالأمان فأكرمه [بدر الدين لؤلؤ (¬6)] وقدم له تقدمة، واستصحبه معه إلى الموصل. ولما دخل مع بدر الدين الموصل فرح الناس به، ودعوا له لمحبتهم له. وفى اليوم الثالث [94 ب] من دخول بدر الدين الموصل قبض عليه، وغدر به وحبسه، وسير إلى الملك الأشرف يعرفه ذلك، ففرح بذلك وشكره عليه. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س للتوضيح. (¬2) كانت البقعاء كورة كبيرة بين الموصل ونصيبين، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «لسبع» والصيغة المثبتة هى الصحيحة، وهذا التاريخ يوافق يوم الثلاثاء 26 مايو 1220 م. (¬6) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر إستيلاء الملك الأشرف على سنجار

ذكر إستيلاء الملك الأشرف على سنجار ثم رحل الملك الأشرف من حران إلى دنيسر واستولى عليها وعلى بلد ماردين؛ لميل صاحب ماردين الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن أيلغازى الأرتقى إلى مظفر الدين صاحب إربل. وشحن (¬1) على البلاد، وأقطعها. ثم ترددت الرسل بين الملك الأشرف والملك المنصور صاحب ماردين. وحضر الملك الصالح نور الدين محمود بن محمد الأرتقى (¬2) صاحب آمد عند الملك الأشرف، فوقع الصلح بين الملك الأشرف وصاحب ماردين [على أن تكون رأس العين للملك الأشرف؛ وكانت قبل ذلك لصاحب ماردين، فأخذها منه الملك الأشرف وأقطعها لابن المشطوب كما ذكرنا (¬3)]، وعلى أن يكون لصاحب آمد الموزّر (¬4)، ويحمل صاحب ماردين للملك الأشرف ثلاثين ألف دينار (¬5). ثم سار الملك الأشرف إلى نصيبين يريد الموصل، [فوقع في قلب صاحب سنجار خوف من الملك الأشرف لأجل أنه لم يسلم إليه عماد الدين بن المشطوب لما كان عنده، فأرسل إلى الملك الأشرف (¬6)] محمود فروخشاه بن قطب الدين، صاحب سنجار، يطلب منه الرقة، على أن يسلم إليه سنجار. ¬

(¬1) في الأصل «سحن» والصيغة المثبتة من نسخة س، ويبدو أن معناها هنا «ضبط البلاد» (انظر القاموس المحيط) أو لعل معناها وعين شحنة على البلاد (انظر ما سبق ص 47 حاشية 1). (¬2) في نسخة س محمد بن محمد الأرتقى والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م، انظر زامباور (ج 2 ص 344.) (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت بدلها «على مال حمله اليه». (¬4) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن موزر كانت كورة بالجزيرة منها نصيبين الروم. (¬5) وردت هذه الجملة في نسخة س «ويعطى صاحب ماردين للملك الأشرف عشر ضياع من بلاده». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س ومثبت بدلها في نسخة م «فأتته رسل».

فأجاب الملك الأشرف إلى ذلك، وتسلم سّنجار وسلم الرقة إلى ابن قطب الدين. وكانت هذه الواقعة من جملة سعادة الملك الأشرف الخارقة. فإن أباه الملك العادل كان نازلها في جميع (¬1) ملوك أهل بيته ما خلا الملك الظاهر. وكانت معه نجدته، وجدّ في قتالها ومضايقتها المدة المتطاولة، فلم ينل منها غرضا، وأخذها الملك الأشرف عفوا بلا تعب. وكان السبب فيما فعله محمود بن قطب الدين [ما قدمنا ذكره من الخوف من الملك الأشرف وأيضا من ثقاته ونصحائه لأنه كان كثير التهدد لهم (¬2)]، فطلبوا التغدى به قبل أن يتعشى بهم. فخاف منهم فراسل الملك الأشرف في النزول عنها، وتسليمها [إليه (¬3)] فأجيب إلى ذلك، وسلّم سنجار، وتسلم ابن قطب الدين الرقة، وذلك في مستهل جمادى الأولى من هذه السنة [وهى سنة سبعة عشر وستمائه (¬4)]. ثم أخذ الملك الأشرف الرقة بعد ذلك، وعاقب الله تعالى محمودا بن قطب الدين [صاحب سنجار (¬5)] بقطع رحمه وقتله (¬6) أخاه شاهان شاه. ومحمود هذا آخر ملوك البيت الاتابكى بسنجار. [95 ا] واجتمع للملك الأشرف بلاد خلاط، وبلاد الجزيرة وسنجار. ¬

(¬1) في نسخة س «جموع». (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س وبدلها في نسخة م «أن ثقاته ونصحاءه خانوه لأنه كان يتهددهم». (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في م. (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة س «وقتل» وذكر أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 122 حوادث سنة 616) أن قطب الدين وثب على أخيه عماد الدين شاهنشاه وذبحه وملك سنجار.

ذكر وصول الملك الأشرف إلى الموصل واستقرار الصلح مع مظفر الدين [صاحب إربل]

ذكر وصول الملك الأشرف إلى الموصل واستقرار الصلح مع مظفر الدين [صاحب إربل (¬1)] ولما ملك الملك الأشرف سنجار سار يريد الموصل، وقدم بين يديه العساكر، فكان يصل كل يوم [إلى الموصل (¬2)] جمع كثير، ثم وصل هو في آخرهم تاسع عشر جمادى الأولى (¬3) من السنة. وكان يوم وصوله اليها يوما مشهودا. ووردت رسل الخليفة الناصر لدين الله ومظفر الدين بن زين الدين [كوكبورى (¬4)] في الصلح، وبذل تسليم القلاع المأخوذه جميعها إلى بدر الدين [لؤلؤ (¬5)] ما عدا العمادية، فإنها تبقى في يد عماد الدين زنكى بن أرسلان شاه، مع الذى كان بيده من جهة والده. فوقع الأتفاق على ذلك لأجل المصلحة الشاملة، وليقع التفرغ لجهاد الفرنج، ودفعهم عن الديار المصرية، ثم جعل التسليم القلاع أجل معلوم. وجاء عماد الدين زنكى إلى الملك الأشرف ليكون رهنا عنده إلى حين تسلم القلاع. وسلمت قلعتا العقر والشوش، وهما القلعتان اللتان هما لعماد الدين من جهة والده، إلى الملك الأشرف ليكون رهنا عنده أيضا على ما استقر تسليمه من القلاع، فاذا سلّمت أطلق عماد الدين، وأعيد إليه قلعتاه. وتحالفوا على ذلك، وتسلم الملك الأشرف عماد الدين والقلعتين، ورحل عن الموصل ثانى شهر رمضان من هذه السنة. وعاد إلى سنجار وأرسلوا إلى القلاع لتسلم إلى بدر الدين لؤلؤ، فلم تسلم إليه غير قلعة جبل جور (¬6) من أعمال الهكارية. وأما باقى القلاع فان جندها أظهروا الأمتناع من ذلك، ومضى الأجل ولم يسلّم منها إلا ما ذكرنا. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) الجزء التالى ساقط من نسخة س واعتمد في تحقيقه على نسخة م مع الاستعانه بالمصادر التاريخية المتداولة. وسوف ينوه عند نهاية هذا الجزء الساقط. (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح، انظر (أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 125). (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح، انظر (أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 125). (¬6) في المتن «جبل صور»، انظر ما سبق ص 71.

ذكر ما آلت إليه حال عماد الدين بن المشطوب

ولازم عماد الدين زنكى الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل، وخدمه وتقرب إليه فاستعطف له أخاه الملك الأشرف، فمال إليه وأطلقه وأزال نوابه عن قلعة العقر والشوش، وسلمهما إليه. وبلغ بدر الدين لؤلؤ عن الملك الأشرف ميله إلى قلعة تليعفر، فسلمها إلى الملك الأشرف. ذكر ما آلت إليه حال عماد الدين بن المشطوب [95 ب] ولما عاد الملك الأشرف إلى سنجار أقام بها حتى انسلخ الشتاء، وسير إلى بدر الدين لؤلؤ يطلب منه عماد الدين بن المشطوب، وكان في إعتقاله كما ذكرنا. وكان الرسول في ذلك الحاجب على الموصلى، وهو أكبر أصحاب الملك الأشرف، وممن علت منزلته عنده جدا. فلما قدم الحاجب علىّ على بدر الدين، أحضر إليه عماد الدين، فحين رآه الحاجب علىّ قال «وقع زريق في القفص (¬1)». فقال له عماد الدين «إنما وقع غدرا». فحمله الحاجب علىّ إلى الملك الأشرف فقيّده، وقبض على حسام الدين بن خشترين، وهو من أمراء حلب، لغدر بلغه منه، وأمر بحملهما إلى حران، فحبسا في جبّ بها فماتا فيه. وكانت وفاة عماد الدين في الجب سنة تسع عشرة وستمائة، ولقاه الله سبحانه عاقبة ما فعله بالمسلمين بدمياط وسعيه الردى إلى أن كادت ديار مصر تنتزع من أيدى المسلمين (¬2). وأطلق الملك الأشرف الجماعة الذين قبض عليهم إبن صبرة لما حارب ابن المشطوب. وقبض على القاضى نجم الدين بن أبى عصرون، ووجد معه ¬

(¬1) بالبحث في كتب الأمثال والمعاجم وكتب اللغة لم يستدل على هذا المثل. (¬2) انظر ترجمة عماد الدين بن المشطوب في ابن خلكان، وفيات، ج 1، ص 58.

ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حماة رحمه الله

حرمدان (¬1) فيه نسخ الأيمان التي استحلف بها من وافق ابن المشطوب، وكتب الأمراء والملوك الواصلة إليه. فشفع فيه الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه - وكان ورد رسولا إلى الملك الأشرف من السلطان الملك الكامل، وهو قريب القاضى نجم الدين لأن أم فخر الدين هى إبنة شهاب الدين بن شرف الدين بن أبى عصرون - فأطلقه الملك الأشرف لأجل فخر الدين فورد إلى حماة، وتوفى بها سنة إثنتين وعشرين وستمائة. ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حماة رحمه الله (¬2) وفى ذى القعدة من هذه السنة، توفى الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهان شاه بن أيوب - رحمه الله - بقلعة حماة. وكانت مدة مرضه احدى (¬3) وعشرين يوما. وكان مرضه حمى حادة محرقة، وتأدت به إلى أن ورم دماغه، واشتعل ذهنه. وأوصى في مرضه باخراج [96 ا] من في حبسه، وقال: «في حبسنا من قد ظلمنا بأخذ مالنا». وأعتق جميع مماليكه وإمائه، وأثمانهم تجل عن الحصر. ذكر سيرته رحمه الله كان رحمه الله ملكا جليلا، شجاعا مقداما، عالما فاضلا، يحب العلماء والفضلاء وأهل الأدب والشعر، ويحب سماع المديح ويجيز عليه الجائزة ¬

(¬1) الحرمدان، لفظ فارسى معناه المحفظة الخاصة، التي يحمل فيها الفرد أوراقه ونقوده، انظر المقريزى (السلوك ج 1، ص 697 حاشية 2 للدكتور زيادة)، وانظر كذلك: Steingass, Persian - English Dict Dozy : Supp .Dict .Ar. (¬2) انظر أيضا أبو الفدا، (المختصر، ج 3، ص 125 - 126). (¬3) في الأصل «احدا».

الكثيرة. ويحب أن يكون في بلده من كل طائفة من أهل العلم أفضلهم. فورد إلى بابه جماعة من العلماء الأماثل، وممن ورد عليه منهم الشيخ الإمام سيف الدين أبو الحسن على الآمدى رحمه الله، وكان إماما عظيما متقدما في علمى الكلام وأصول الفقه وعلم المنطق وسائر العلوم الحكمية. وكان علما في هذه العلوم، عظم في الآفاق صيته، واشتهر ذكره، وصنّف التصانيف البديعه في جميع هذه الفنون، وردّ فيها على الإمام فخر الدين الرازى، والإمام أبى حامد الغزالى، وغيرهما من أكابر المتقدمين، وبيّن بطلان أقاويلهم. ولما قدم [الآمدى (¬1)] إلى حماة بنى له السلطان الملك المنصور مدرسته المعروفة (¬2) به، التي بقرب الباب الشمالى المعروف بباب الجسر الشمالى. وأجرى [الملك المنصور (¬3)] له الجامكية الكثيرة والجراية. وواظب حضور مجلسه، والإشتغال عليه بجميع فنونه. وورد عليه من الشعراء المجيدين جماعة، فأجرى عليهم الجامكيات والجرايات، واستخدمهم. وصنف الملك المنصور - رحمه الله - عدة تصانيف منها كتاب طبقات الشعراء، وكتاب مضمار الحقائق في التاريخ (¬4)، وهو نحو عشرين مجلدة، وصنّف غير ذلك. وكان له العسكر الكثير المجمل. وخدمه عدة من أكابر الأمراء المشهورين، منهم الأمير شمس الدين بن قلج، والأمراء من بنى برطاس، وكل منهم كان أميرا جليلا. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) انظر ما سبق ص 65 وحاشية 3 وانظر مايلى ص 87. (¬3) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬4) هو كتاب مضمار الحقائق وسر الخلائق، والكتاب لا يوجد منه الآن سوى جزء واحد نشره الدكتور حسن حبشى (القاهرة 1968).

وولى قضاء بلده للقاضى ضياء الدين بن الشهرزورى (¬1) قاضى القضاة ببغداد وسائر البلاد الإسلامية. وحين وليها من جهة الملك المنصور، كانت له ولاية بالبلاد الأسلامية كلها، فانه خرج من بغداد بإذن الخليفة [96 ب] الناصر لدين الله وهو باق على ولايته مستمر عليها. وأذن له الخليفة في أن يحكم في كل بلدة يحل بها من بلاد الإسلام. ولما قدم [الشهرزورى (¬2)] إلى حماه أكرمه الملك المنصور، وولاه قضاء بلاده، ثم توفى بعد أشهر من مقدمه. وولى أيضا له القضاء القاضى نجم الدين أبو البركات عبد الرحمن بن الشيخ الإمام شرف الدين بن أبى عصرون، وكان عظيما كبير القدر، جليلا عند الملوك بسبب والده الشيخ شرف الدين قاضى القضاة، كان بدمشق، ومتولى المدارس النورية وأوقافها بالشام جميعه (¬3). وكان في خدمة الملك المنصور ما يناهز مائتا معمم من الفقهاء والنحاة، وأهل اللغة، والمشتغلين بالعلوم الحكمية، والمهندسين، والمنجمين، والشعراء، والكتاب، والأماثل. ¬

(¬1) هو القاسم بن يحيى بن عبد الله الشهرزورى الشافعى تفقه ببغداد ثم قدم الشام واتصل بخدمة السلطان صلاح الدين الذى أرسله عدة مرات رسولا إلى الخليفة العباسى ببغداد. وقد ولى قضاء الشام ثم انتقل إلى الموصل وولى قضاءها، ثم قلد قضاء القضاه ببغداد واستعفى وعاد إلى حماه قاضيا إلى حين وفاته سنة 599 هـ‍، انظر السبكى (طبقات الشافعية. ج 4 ص 298)؛ الأصفهانى (الفتح، ص 69 - 71)؛ أبو شامة (الروضتين، ج 2 ص 139)، ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6 ص 184). (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) كان شرف الدين بن عصرون من أعيان الفقهاء وفضلاء عصره، صنف كتبا كثيرة في المذهب الشافعى وتوفى بدمشق سنة 585 هـ‍، انظر: الأصفهانى (الفتح، ص 236)؛ أبو شامة (الروضتين، ج 2 ص 150)؛ ابن خلكان (وفيات، ج 1 ص 255)؛ ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6 ص 110).

وكان - رحمه الله - متصديا لتدبير أمور المملكة والرعية من حين يصلى صلوات الصبح إلى أن يدخل الليل، وترد عليه القصص والمهام في جميع النهار، ويقضى أشغال الرعية، ولا يحتجب عنهم في أكثر أوقاته. وجمع في خزانته من كتب العلوم ما لا مزيد عليه، واعتنى بها جدا، وكان يكثر مطالعة الكتب ومراجعتها، واستحضار العلماء والبحث معهم. وكان مؤثرا لعمارة بلده، وتحصينه وتقوية أسواره، والعناية بها. بنى بظاهر حماة الجسر المعروف بالحديد، خارج الباب المعروف بباب حمص. وخرّب أسوار قلعة حماه التي كان بناها والده، وكانت من لبن، فبناها الملك المنصور كلها بالحجر والكلس حتى جاءت في غاية الحسن. وعمّق خنادقها جدا، ووسعها (¬1). وجعل [الملك المنصور] (¬2) في القلعة من الزردخاناه والذخائر ما لا مزيد عليه، حتى صارت مضاهية لقلعة حلب التي تضرب بها الأمثال، بل أجود وأحصن. وبنى بظاهر حماه من شماليها (¬3) مدرسة عند قبر والده [تقى الدين (¬4)] رحمه الله. ووقف عليها وقفا جليلا. وكان له رحمه الله - بعد وفاة والده - من البلاد حماه، والمعرة (¬5)، وسلميه، ومنبج، وقلعة نجم (¬6). ¬

(¬1) نهاية الجزء الساقط من نسخة س، انظر ما سبق ص 75 حاشية 3. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) في نسخة م «الشمالى» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في الأصل «معرة» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬6) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن قلعة النجم كانت قلعة حصينة مطلة على الفرات عليه جسر تعبره القوافل من حران إلى الشام.

فلما فتح بارين (¬1)، وكانت بيد عز الدين ابراهيم بن المقدم، ألزمه عمه السلطان الملك العادل [97 ا] أن يردها عليه، فامتنع من ذلك، وعوّض ابن المقدم عنها منبج وقلعة نجم، وهما خير من بارين، لكنه إختار عليهما بارين لأنها بالقرب منه. وكان - رحمه الله - مع قلة بلاده يداريه عمه السلطان الملك العادل، وابن عمه الملك الظاهر. ويخاف كل منهما أن يميل مع الآخر عليه. وكان موكبه من أجلّ المواكب تجذب السيوف الكثيرة بين يديه، ويركب في خدمته جمع كثير من المعممين من الفضلاء [والأماثل من أهل (¬2)] البلد، ومن الأمراء الأكابر والأجناد. فكان موكبه يضاهى موكب عمه الملك العادل وابن عمه الملك الظاهر، مع سعة مملكتهما وقلة مملكته بالنسبة إليهما. وجرت له حروب مع الفرنج، وانتصر فيها عليهم [وقد قتل فيها كثيرا] (¬3)، وقد قدمنا ذكر ذلك، وظهرت فيها شجاعته وفروسيته. وكانت له أشعار حسنة جمعت في ديوان فنذكر بعضها. من ذلك قوله من قصيدة مطلعها: - سحّا الدموع فإن القوم قدبانوا ... وأقفر الصّبر لمّا أقفر البان أتسعدانى (¬4) بوجد بعد بينهم؟ ... فالشّان لمّا نأوا عنّى له شان ومنها يا ظبية البان هل وصل يسربه (¬5) ... لينجلى بلذيذ الوصل أشجان ¬

(¬1) بارين أو بعرين مدينة بين حلب وحماه من جهة الغرب. (¬2) في نسخة م «وأماثل» وما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في الأصل «وأسعدانى» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) في نسخة س «أسربه».

لا تبعثوا في (¬1) نسيم الريح نشركم ... فإننّى من نسيم الريح غيران كيف السّلّو ولى قلب يخالفنى ... وفى الهوادج أقمار وغزلان (¬2) سقاهم الغيث في قبلىّ كاظمة ... سحّا وروّى ثراهم أينما كانوا وقوله من قصيدة يفتخر فيها، مطلعها: - الفخر بالفضل ليس الفخر بالنسب ... والناس في ذاك من درّ ومن خشب وكل فخر سوى فخرى فمختلق ... زور وقائله ينمى إلى الكذب أنا الذى لم ينل من ذا الورى أحد ... مانلته قط من عجم ومن عرب سموت فيهم بأصل لا يقاومه ... أصل ومن بعده بالعلم والأدب بآل شادى ملوك الناس كلّهم ... أكرم بذلك من مجد ومن حسب أيوب جدّى حقيقا حين ينسبنى ... يا حسنها رتبة تعلو على الرّتب نحن الملوك الذرى (¬3) والناس كلهم ... لنا عبيد (¬4) وليس الرأس كالذّنب كم قد أبدت بسيفى كل مفتخر ... حامى الحقيقة يوم الجحفل اللّجب وكم تركت بنى الإفرنج في رعب ... فصرت أدعى لديهم جالب الرّعب وكم أبحتهم يومى وغى ولعا ... رأس السنان وحدّ (¬5) المخذم الذرب وكم جررت إليهم جحفلا لجبا ... بالسابرّية والماذىّ واليلب كفعل آبائى الغرّ الذين هم ... كانوا لدين الهدى كالوالد الحدب من كلّ محتسب في الله منتسب ... مؤيّد بجميل النصر مرتقب أغرّ أبلج وضّاح، لغرته ... فضل على الأنجم السيّارة الشهب ¬

(¬1) في نسخة س «مع». (¬2) في نسخة س «وأغصان» والصيغة المثبتة أبلغ. (¬3) في نسخة س «نحن ملوك الورى» ومعها يختل الوزن. (¬4) في نسخة س «عبيدا» وهو تصحيف. (¬5) في نسخة س «يوجد» وهو تحريف.

وقوله من أرجوزة يفتخر فيها مطلعها: - يا من يبارينى ويذكر إسمى ... إنّى من قوم كرام شمّ (¬1) بحار جود وبحار حلم ... من كل ذى بأس شجاع شهم يذبّ عن هام العلا ويحمى ... يسعى إلى الغنم لها بالرّغم كم رتبة (¬2) فوق السما والنجم ... بلغتها قبل أوان حلمى ينبيك من معرفتى وفهمى ... إن علوم ذا (¬3) الورى من علمى وحزمهم قلامة من حزمى ... ولى لسان قوله كالسهم ينفذ في الصّخر الصلاد الصّم ... ولى يد (¬4) مثل السحاب تهمى على العفاة بالنّوال الجمّ ... ينتعش العانى به وينمى يسبح من عطائها في يمّ ... ولى حسام مسرع (¬5) في الجسم يكلم قبل ضربه ويدمى ... طوبى لمن حاول يوما سلمى ربّ حسود لى ولا أسمّى ... يهرب من سهمى حين أرمى أغفل عنه غفلة الأصمّ ... ولا يمر قتله بوهمى لو حلّ من خوفى محل العصم ... إذا سمت في شاهق أشم أدركته بهمتى وعزمى [98 ا] ومنها أيوب جدّى يا سديد الفهم ... ويوسف خير البرايا عمّى (¬6) ¬

(¬1) في نسخة س «شيم» ولا يستقيم الوزن. (¬2) في نسخة س «وثبه» والصيغة المثبتة أبلغ. (¬3) في نسخة س «ذى». (¬4) في نسخة س «يدا» وهو تصحيف. (¬5) في نسخة س «مسرعا» وهو تصحيف. (¬6) هذا البيت في نسخة م يأتى بعد البيت التالى له، والرواية المثبتة من نسخة س وهى التي يتلاءم معها المعنى.

ومن محلّى في الورى وعظمى ... أنّى من نسل ملوك شمّ من مثلنا في عربها والعجم ... فجدنا يعلو فويق النجم (¬1) وقوله في صدر كتاب إلى عمه الملك العادل رحمهما الله: - سلام محبّ في الولاء محقّق ... يكاد لفرط الشوق بالدمع يشرق وينشد بيتا قيل في مدح مجدكم ... له بثناكم حين ينشد رونق تقول لى الآمال إن كنت نازلا ... بباب إبن أيوب فأنت الموفّق وحكى في تاريخه المسمى [بمضمار الحقائق في علوم الخلائق (¬2)] أنه رأى في منامه شخصا ينشده قصيدة مدحا فيه، فلما انتبه من منامه لم بحفظ منها إلا بيتا واحدا، وهو: - ملك إذا سمته القوافى ... وافاك منها بألف فاء فضم إليه - رحمه الله - أبياتا على الروى والوزن، منها: - يا ملكا من يديه يبدى ... بذل نداه بلا نداء ومن غدا بابه يسمى ... لمرتجيه باب الرجاء أوفى الورى نائلا وعهدا ... فعنه يروى حفظ الوفاء أحيا الورى جوده فأضحى ... في وجهه رونق الحياء قد بذل الجود منه حتى ... تخلّل الجود بالعباء فصيفه صيفنا ولكن ... في كفه دممة الشّتاء أسنى الورى محتدا وفرعا ... فقد تعدّى حدّ السناء مهابة في علاه جلّت ... عن فرط عجب وكبرياء والاسم منه إذا إبتلينا ... طلسم سعد بسيمياء ¬

(¬1) هذا البيت ساقط من نسخة س. (¬2) في نسخة م «بالمضمار» والصيغة المثبتة من س، انظر ما سبق ص 78 حاشية 4.

في كفه الحيدرى سيف ... تراه نارا شيبت بماء تخاله في الحروب يبدى ... شعلة نار على هباء (¬1) ومنها [98 ب] لا ينتهى جود راحتيه ... وكل شئ إلى إنتهاء لله من مالك كريم ... توّجه الله بالبهاء رقا علّوا على البرايا ... وزاد في المجد والعلاء (¬2) سما وحاز العلياء (¬3) حتى ... سما به عالم السماء يعطى عطاء (¬4) بلا امتنان ... فهو إذن كعبة العطاء ملك إذا سمته القوافى ... وافاك منه (¬5) بألف فاء ومن شعره رحمه الله: - دع الوقوف بتسآل على طلل ... عن من سرى منه بالوخّادة البزل وذكر سلمى وسعدى والرباب وما ... يعلو الغصون من الأقمار في الكلل (¬6) ومل إلى العز بالجرد العتاق وبال‍ ... ـبيض (¬7) الرقاق وما أعددت من أسل لم ترض خيلى إذا ما الحرب (¬8) حوّلها ال‍ ... ـوفاء (¬9) نعلا سوى ما عزّ من مقل ومن شعره: - وجود سلافة الصّهبا ... ء عند وجوده عدم ¬

(¬1) في نسخة س «هناء» وهو تصحيف. (¬2) في نسخة س «والكلاء» وهو تصحيف. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة ومعها يختل الوزن وربما صحتها «العلو» أو «العلاء». (¬4) في نسخة س «عطايا». (¬5) في نسخة س «منها». (¬6) في نسخة س «والكلل» وهو تصحيف. (¬7) في نسخة س «وبالسمر». (¬8) في نسخة س «الحزن» وهو تصحيف. (¬9) في نسخة س «نعل» والصيغة المثبته من م.

ذكر إستيلاء الملك الناصر بن الملك المنصور على حماة

وللحظات في خدّي‍ ... هـ أنى (¬1) حلّ مزدحم (¬2) وليس يصدّها عنه ... لثام حين يلتثم ذكر إستيلاء الملك الناصر بن الملك المنصور على حماة لما توفى الملك المنصور، كان ولده الملك المظفر - وهو المعهود إليه بالسلطنة - بالديار المصرية في معسكر خاله الملك الكامل في مقابلة الفرنج، وهم قد تملكوا ثغر دمياط كما تقدم ذكره. وكان ولده [الآخر (¬3)] الملك الناصر صلاح الدين قلج أرسلان عند خاله الملك المعظم شرف الدين [عيسى (¬4)] صاحب دمشق، وكان بالساحل محاصرا لحصون الفرنج، وكان قد فتح قيسارية وهدمها، وقصد عثليث (¬5) ونازلها. وكان الوزير بحماة زين الدين بن فريج (¬6)، فاتفق هو وجماعة من أرباب الدولة على استدعاء الملك الناصر وتسليم الملك اليه [99 ا] لما يعلمونه من لين عريكته، وشهامة الملك المظفر وقوة بأسه. وقصدوا أن تكون البلاد بأيديهم يتصرفون فيها كيف شاءوا. فكتبوا إلى الملك الناصر يستدعونه ليملكوه. ¬

(¬1) في نسخة س «إلى» وهو تصحيف. (¬2) في نسخة س «ومزدحم» وهو تصحيف. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من أبى الفدا (المختصر، ج 3، ص 126). (¬4) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) عثليث اسم حصن بسواحل الشام ويعرف بالحصن الأحمر فتحه الملك الناصر يوسف ابن أيوب سنة 583، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬6) جاء الأسم غير منقوط في نسختى المخطوطة والصيغة المثبتة من أبى الفدا، (نفس المرجع والجزء، ص 126).

فلما أتت كتبهم بذلك إليه عرف الملك المعظم ذلك، فمنعه من التوجه اليهم إلا بشرط أن يحلف له على مال يحمله إليه، فحلف له على ذلك. فيقال أن مبلغه كان أربع مائة ألف درهم. فأذن له [حينئذ (¬1)] في التوجه إلى حماة، فقدم اليها واجتمع بالوزير زين الدين بن فريج والجماعة الذين كانوا كاتبوه. فاستحلفوه على ما أرادوا، فحلف لهم، وأصعدوه إلى القلعة وأظهروا أن والده حى، وأنهم جمعوا بينهم وبينه، وأنه عهد إليه بالسلطنة. ثم أخرجوه من القلعة راكبا في السناجق السلطانية. ونادوا في البلد بشعاره، وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها لأخيه الملك المظفر. وكان عمر الملك الناصر، لما ولى الملك بحماة، سبع عشرة سنة؛ لأن مولده سنة ستمائة. ولما ملك استوزر زين الدين بن فريج مدة، ثم بعد ذلك تغير عليه وأبعده. وتقدم عنده رجل من أهل حماة يعرف (¬2) بشهاب الدين بن القطب، كان أبوه رجلا كبيرا في العلم والفتوى، وكان إبنه شهاب الدين عنده نباهة في الفقه والخلاف والأدب. وكان [شهاب الدين (¬3)] سافر إلى العراق، واشتغل ببغداد مدة، ثم قدم حماه، وصار معيدا بالمدرسة السلطانية المنصورية عند الشيخ سيف الدين الآمدى. ثم اتفق أنه ولى أمرا وخان فيه، فحبسه الملك المنصور بجامع القلعه. [وكان له أخ يقال له عماد الدين بن القطب، كان فقيها فاضلا في المذهب فولاه] (¬4) الملك المنصور القضاء بحماة. ولما حبس شهاب الدين بالقلعة، كان يجتمع به الملك الناصر بجامع القلعة، فأنس به جدا وصار يكثر التردد إليه. فقال له شهاب الدين بن ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في المتن «من أهل حماة نعته يعرف» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) الصيغة المثبتة من س وفى نسخة م «وكان أخوه عماد الدين فقيها فاضلا في المذهب وولاه».

القطب يوما «[إنى (¬1)] أبشرك ببشارة»، فقال [الملك الناصر (¬2)] «ما هى؟». قال «إنك تلى الملك بعد أبيك، ولا يليه أخوك الملك المظفر». فقال له الملك الناصر «من أين لك هذا؟». قال «إنى سمعت في النوم قائلا ينشدنى أبياتا من الشعر، فيها ذكر هذا» وأنشده أبياتا من جملتها [99 ب]: - وليس يملك من أولاده أحد ... إلا قليج الذى لا يملك النّشبا ففرح الملك الناصر بذلك، ووعده أنه إذا وقع ذلك يحسن إليه، ويحكّمه في دولته. فلما ولى أحسن إليه، وأقطعه إقطاعا جليلا. فنزع شهاب الدين عن رأسه العمامة، ولبس الشربوش (¬3)، وتزيا بزى الجند. وولاه الملك الناصر المعرة، فتصرف فيها تصرف الملوك في بلادهم. ثم نزل عن ولاية المعرة، وصارت إليه أتابكية العسكر (¬4) والنظر في أكثر الأمور، وإلى أخيه عماد الدين القضاء بحماة. ثم غضب عليه الملك الناصر بعد ذلك في سنة إثنتين وعشرين وستمائة، فاعتقله وعزل أخاه عن القضاء. فهرب عماد الدين، وبقى شهاب الدين محبوسا بقلعة حماة مضيقا عليه في أقبح حال، إلى أن ملك الملك المظفر حماه فأطلقه [وأحسن إليه (¬5)]. ولما ولى الملك الناصر حماة، وبلغ أخاه الملك المظفر وفاة أبيه، استأذن خاله السلطان الملك الكامل في التوجه إلى حماة؛ ظنا منه أنه إذا وصلها سلمت ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) الشربوش قلنسوة طويلة تلبس بدل العمامة وكانت شارة الأمراء، انظر: Dozy, supp .Dict .Ar . (¬4) عن لقب «أتابك» انظر ما سبق من هذا الكتاب، ج 1، ص 33 حاشية 5. (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر إستيلاء الملك المظفر شهاب الدين غازى ابن الملك العادل على خلاط وبلادها مع ميافارقين

إليه، لما علم من حلف أهلها له وأكابر الدولة، فأذن له في ذلك فسار مسرعا. فلما وصل إلى الغور، وجد به خاله الملك المعظم، فسأله [خاله (¬1)] عن سبب مقدمه. فذكر له أن مقصوده التوجه إلى حماه، ليملك بلاد والده. فقال له الملك المعظم «إن أخاك الملك الناصر قد ملكها، وأطاعه أهلها، والملك عقيم (¬2)، وأخاف عليك منه إن وصلت إلى حماة أن يعتقلك أخوك، والمصلحة أن تتوجه إلى دمشق ولا تتجاوزها، وتكتب إلى أرباب الدولة، وتذكرهم ما حلفوا به لك، فان اتفقوا على مساعدتك وإزالة أخيك من الملك، توجهت حينئذ إلى بلدك». فقدم إلى دمشق، ونزل بدار والده المعروفة بابن الزنجيلى (¬3). وقتل بها رجلا من أصحابه يعرف بابن الفصافصه، ذكر أنه كان يكتم عنه خبر مرض والده حتى مات، وجرى من ملك الملك الناصر ما جرى. وأقام الملك المظفر بدمشق مدة، ولم يتأت له أمر. ثم رجع إلى مصر فأقطعه السلطان الملك الكامل بها إقطاعا. وأقام في خدمته إلى أن جرى من الأمر ما سنذكره إن شاء الله تعالى. [100 ا] ذكر إستيلاء الملك المظفر شهاب الدين غازى ابن الملك العادل على خلاط وبلادها مع ميافارقين كان بيد الملك المظفر شهاب الدين غازى من أيام والده السلطان الملك العادل، الرها وسروج. فلما كانت هذه السنة أخذهما منه أخوه الملك ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) الملك عقيم أي لا ينفع فيه نسب لأنه يقتل في طلبه الأب والولد والأخ والعم، انظر (القاموس المحيط). (¬3) الصيغة المثبتة من نسخة م وكذلك أبو الفدا، ج 3، ص 126؛ وفى نسخة س «بن الزنجارى».

الأشرف، وأعطاه ميافارقين وحانى، وسلم إليه بلاد خلاط جميعها؛ وهى مملكة عظيمة تضاهى ملك مصر، وجعله ولى عهده في الملك؛ فان الملك الأشرف لم يكن له ولد ذكر. فقدم الملك المظفر شهاب الدين (¬1) بلاد خلاط في أوائل سنة ثمان عشرة وستمائة. وكان السبب في تسليم الملك الأشرف هذه البلاد إليه أن التتر لما قصدوا بلاد الكرج، وهزموهم ونهبوا بلادهم، وقتلوا كثيرا من أهلها، أرسل الكرج إلى أزبك بن البهلوان، صاحب بلاد أذربيجان وأرّان، يطلبون منه المهادنة ودفع التتر عن البلاد. وأرسلوا إلى الملك الأشرف في هذا المعنى، وقالوا للجميع «إن لم توافقونا على قتال التتر ودفعهم عن البلاد، وتحضروا بنفوسكم وعساكركم لهذا المهم، وإلا صالحناهم عليكم». فوصلت رسلهم إلى الملك الأشرف وهو يتجهز للمسير إلى نجدة أخيه السلطان الملك الكامل، ليدفع الفرنج عن الديار المصرية. وكان ذلك عنده أهم الوجوه، لأمور: أحدها أن الفرنج ملكوا ثغر دمياط، وقد أشرفت الديار المصرية على أن تملك، ولو ملكت لم يبق بالشام ولا غيره معهم ملك لأحد. وثانيها: أن الفرنج أشد شكيمة من التتر، وطالبوا ملك وإقامة ملة، وإذا ملكوا قرية لا يفارقونها إلا بعد العجز عن حفظها يوما واحدا. وثالثها: أن الفرنج قد طمعوا في كرسى مملكة البيت الأيوبى؛ وهو مصر. والتتر لم يجاوزوا بلاد العجم، وليس غرضهم إلا النهب والقتل وتخريب البلاد، والإنتقال من بلد إلى آخر. ¬

(¬1) في نسخة م «الملك الأشرف» والصيغة المثبتة من س، انظر أيضا ابن الأثير (ج 12، ص 398).

فلما وصل إلى الملك الأشرف رسل الكرج بما ذكرنا، اعتذر اليهم بالمسير إلى مصر لدفع الفرنج. وقال لهم: «إننى قد أقطعت مملكة خلاط لأخى، وسيرته إليها ليكون بالقرب منكم، وتركت عنده العساكر، فمتى احتجتم إلى نصرته لدفع التتر حضر معكم، ودفع التتر (¬1) عنكم». [100 ب] وفى هذه السنة توفى نصير الدين ناصر بن مهدى الشريف العلوى، الذى كان وزير الخليفة الناصر لدين الله. وقد ذكرنا أخباره (¬2). وفيها توفى الشيخ صدر الدين أبو الحسن محمد بن عمر بن حمويه شيخ الشيوخ بمصر والشام. وكانت وفاته بالموصل، وكان فقيها فاضلا، وصوفيا صالحا من بيت كبير بخراسان. وخلف بنين أربعة تقدموا عند السلطان الملك الكامل، وسنذكر إن شاء الله تعالى بعض أخبارهم، وكان قدم الموصل رسولا من الملك الكامل إلى بدر الدين لؤلؤ صاحبها (¬3). ¬

(¬1) استعان ابن واصل كثيرا بما ذكره ابن الأثير عند «ذكر تسليم الأشرف خلاط إلى أخيه شهاب الدين غازى» انظر، كتاب الكامل، ج 12، ص 398 - 399 (حوادث سنة 617). (¬2) انظر ايضا، ابن الأثير، نفس المرجع والجزء، ص 400. (¬3) ينتمى أولاد الشيخ (بنو حمويه) إلى أسرة فارسية متصوفة، وكانوا فقهاء شافعية، هاجر فرع من هذه الأسرة إلى الشام وتمتعوا بنفوذ كبير زمن بنى أيوب الأواخر خاصة السلطان الكامل وأولاده، عن أسرة أولاد الشيخ انظر: Gottschalk, article «Awld al - Shaykh» in EI.

ودخلت سنة ثمان عشرة وستمائة

ودخلت سنة ثمان (¬1) عشرة وستمائة والفرنج متملكون لثغر دمياط. وقد طمعوا في تملك الديار المصرية، وعزموا على التقدم إلى المسلمين ليدفعوهم عن المنزلة التي نزلوا بها، وهى المنصورة التي ابتناها السلطان الملك الكامل ونزلها. ذكر مسير الملوك والعساكر الأسلامية إلى مصر نجدة للسلطان الملك الكامل رحمه الله ولما قوى أمر الفرنج واستفحل بالديار المصرية، واصل السلطان الملك الكامل كتبه إلى إخوته وأهل بيته يحثهم على سرعة الحركة، والقدوم عليه في العساكر [الإسلامية (¬2)] لدفع العدو عن مصر. فسار أخوه الملك المعظم شرف الدين عيسى إلى الشرق، واجتمع بأخيه الملك الأشرف، وأشار عليه بأن يسرع التوجه إلى مصر في عساكره، ويستصحب معه ملوك أهل البيت وعساكرهم. فأجابه [الملك الأشرف (¬3)] إلى ذلك، وجهز العساكر، واستدعى عسكر حلب، فسير إليه الأتابك شهاب الدين طغريل عسكرا كثيفا، وعبر الفرات، وعسكر بحلب. ¬

(¬1) في نسخة م «ثمانى» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

وكان الملك الناصر صاحب حماة [ابن الملك المنصور (¬1)] قد سير إلى الأتابك شهاب الدين يطلب الأعتضاد به، والسفارة بينه وبين خاله الملك الأشرف، على أن ينتمى إليه ويكون من قبله ليأمن بذلك من خاله السلطان الملك الكامل؛ فانه كان خائفا منه أن ينتزع حماة منه ويسلمها إلى أخيه الملك المظفر محمود، إذ هو المعهود له بالسلطنة من أبيه الملك المنصور، وقد انتمى إلى الملك الكامل. [101 ا] فراسل الأتابك شهاب الدين الملك الأشرف في ذلك، فأجاب إليه وحلف له أنه يمنع منه من يقصده. فخرج الملك الناصر من حماة في عساكره، ولقى خاله الملك الأشرف وانضوى إليه، وخرج إليه أيضا الملك المجاهد [صاحب خمص (¬2)] أسد الدين شير كوه، والملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه [صاحب بعلبك (¬3)] في عساكرهما. ثم سار الملك الأشرف وأخوه الملك المعظم ومن انضاف اليهما من العساكر المذكورة إلى الديار المصرية نجدة للملك الكامل على الفرنج. وكان أشار على الملك الأشرف بعض خواصه بانفاذ العساكر إلى مصر، والعود إلى بلاده خوفا من إختلاف يحدث بعده، فلم يقبل قولهم وقال: «قد خرجت بنية الجهاد ولا بد من إتمام هذا العزم». ولما بلغ الفرنج الذين هم داخل البحر ملك إخوانهم ثغر دمياط وتمكنهم بالديار المصرية، ساروا إلى مصر مجدين واتخذوا مصر دار هجرتهم، وقدم منهم إلى دمياط أمم لا تحصى. ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س، أنظر أيضا، أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 129. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س، أنظر أيضا، أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 129.

ذكر نزول الفرنج فى مقابلة السلطان الملك الكامل

ولما كثر الفرنج بدمياط أخذوا في التجهز للوغول في ديار مصر، ودفع العساكر الإسلامية عنها، فساروا من دمياط في حدهم وحديدهم. ذكر نزول الفرنج في مقابلة السلطان الملك الكامل ووصل الفرنج، فنزلوا في قبالة المسلمين في طرف جزيرة دمياط، وبينهم وبين المسلمين بحر أشمون، والمنزلة - كما قدمنا ذكرها - للمسلمين هى المنصورة؛ وهى على بحر النيل عند ملتقى البحرين اللذين أحدهما يذهب إلى أشمون (¬1) والآخر يذهب إلى دمياط. وغربى المنصورة سور ماد عليها، عليه الستاير وآلات الحرب، وهو متصل بجوسق (¬2) إبتناه السلطان [الملك الكامل (¬3)] ونزله، وغربى السور البحر الذى يفترق منه البحران المذكوران. وللمسلمين أيضا عسكر نازلون من غريبه في مقابلة الفرنج، والفرنج في طرف الجزيرة التي يحيط بها البحران المذكوران، وشوانى المسلمين في البحر تقاتل شوانى الفرنج، وشرع الفريقان في القتال برا وبحرا. ذكر قدوم الملوك والعساكر الإسلامية إلى مصر ولما بلغ السلطان الملك الكامل قرب أخيه الملك الأشرف منه، توجه إليه [101 ب] ملتقيا له، وفرح به وسر سرورا شديدا، وأيقن بحصول النصر والظفر بالعدو. ووصل الملك المعظم، والملك الناصر صاحب حماة، ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 17 حاشية ا. (¬2) الجوسق لفظ فارسى معناه القصر، ويجمع على جواسق، انظر محيط المحيط؛ Steingass, Persian - English Dict . (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

وكان خائفا من الملك الكامل أن يأخذ حماة منه لأخيه الملك المظفر، فطيب قلبه الملك الأشرف، وأصلح له قلب السلطان الملك الكامل. ووصل الملك المجاهد صاحب حمص، والملك الأمجد صاحب بعلبك، وعسكر حلب. وأتت العساكر تتبع بعضها بعضا، ونزلوا كلهم بالمنصورة في خدمة السلطان الملك الكامل. ورأى الفرنج من العساكر الإسلامية ما هالهم وفتّ في أعضادهم، واشتد القتال بين الفريقين برا وبحرا، واجتمع من رجالة المسلمين بالمنصورة ما لا يقع عليه الإحصاء، فكانوا ينكون في العدو أكثر من نكاية الجند. ثم تقدم جماعة من العسكر إلى خليج من النيل في البر الغربى، يعرف ببحر المحلة، وقاتلوا الفرنج منه. وتقدمت شوانى المسلمين في بحر النيل، وقاتلت (¬1) شوانى الفرنج، وأخذوا منها ثلاث قطع بمن فيها من الرجال، وما فيها من الأموال والسلاح. ففرح المسلمون بذلك واستبشروا به، وقويت نفوسهم واستطالوا على عدوهم. وهذا كله يجرى ورسل الفرنج مترددة بينهم في تقرير قواعد الصلح، وبذل المسلمون لهم البيت المقدس، وعسقلان، وطبرية واللاذقية وجبله، وجميع ما فتحه السلطان الملك الناصر صلاح الدين من الساحل ما عدا الكرك والشوبك ليسلموا دمياط ويرحلوا عن الديار المصرية. فلم يرضوا بذلك وطلبوا ثلثمائة ألف دينار عوضا عن الأسوار التي خربت بالقدس ليعمروه بها. وقالوا لابد من تسليم الكرك والشوبك إليهم، فلم يتم بينهم أمر، واضطر المسلمون إلى قتالهم ومصابرتهم لما يريده الله تعالى من النصرة عليهم، وسلامة القدس والبلاد الساحلية منهم (¬2). ¬

(¬1) في نسخة م «وقاتلوا» والصيغة المثبتة من س. (¬2) انظر أيضا عن قواعد الصلح الذى لم يتم، ابن ايبك الدوادارى، (الدر المطلوب، ورقة 153 - 154)؛ ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 329، حوادث 614)؛ أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 129)؛ المقريزى (السلوك، ج 1، ص 206 - 207).

ذكر فتح دمياط والنصرة على الفرنج

ذكر فتح دمياط والنصرة على الفرنج وبينما الأمر متردد في معنى الصلح، والفرنج ممتنعون إلا على الشرط الذى اقترحوه، عبر جماعة من عساكر المسلمين في بحر المحلة (¬1) إلى الأرض التي [102 ا] عليها الفرنج من بر دمياط، ففجروا فجرة عظيمة في النيل، وكان ذلك في قوة زيادته، والفرنج لا خبرة لهم بأمر النيل، وكيفية فجر جسوره. فركب الماء أكثر تلك الأرض، وصار حائلا بينهم وبين دمياط. ولم يبق للفرنج جهة يسلكوها غير جهة واحدة فيها ضيق، فأمر السلطان الملك الكامل عند ذلك بنصب جسور عند أشمون طناح، فعبرت العساكر عليها، وملكوا الطريق التي يسلكها الفرنج إلى دمياط إن أرادوا العود إليها، فلم يبق لهم خلاص، وبقوا محصورين من جميع الجهات. واتفق في تلك الحال أنه وصل إلى الفرنج مركب عظيم يسمى مرمه (¬2) وحوله عدة حراقات (¬3) يحمونه، والجميع مملوء من الميرة والسلاح، وما يحتاجون إليه. فوقعت عليه شوانى المسلمين وقاتلوهم قتالا شديدا، فظفر المسلمون بالمرمة وما معها من الحراقات فأخذوها. فلما رأى الفرنج ذلك سقط في أيديهم، وعلموا أنهم قد ضلوا الصواب بمفارقتهم دمياط، وتوغلهم في طرق لا يعرفونها. وأحاطت عساكر المسلمين بهم من كل ناحية يرمونهم بالنشاب، ويحملون على أطرافهم. ¬

(¬1) في نسخة م «الحلة» والصيغة المثبتة وهى الصحيحة من نسخة س، انظر ايضا المقريزى، نفس المرجع والجزء، ص 207؛ أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 129. (¬2) المرمة نوع من السفن الكبيرة في العصور الوسطى، انظر ما سبق ابن واصل، ج 3، ص 206 حاشية 1. (¬3) الحراقة (والجمع حراقات وحراريق) نوع من السفن الحربية كان يستعمل بكثرة في البحر المتوسط وفى نهر النيل، انظر ما سبق، ج 2 ص 331 حاشيه 1.

ولما اشتد الأمر على الفرنج أحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأثقالهم، وأرادوا الزحف إلى المسلمين ومقاتلتهم، لعلهم يقدرون على العود إلى دمياط والإعتصام بها، فعجزوا عن ذلك، وحيل بينهم وبينه لكثرة الوحل والمياه الراكبة للأراضى حولهم. فلما رأوا عجزهم عن دفع المسلمين عنهم، وأن المنايا قد كثرت [لهم (¬1)] عن أنيابها، وكانت الأقوات قد عدمت عندهم جدا، ولم يبق لهم سبيل إلى وصول ميرة اليهم، ذلت نفوسهم، وتنكست صلبانهم، فراسلوا السلطان الملك الكامل وأخويه الملك الأشرف، والملك المعظم، يطلبون منهم الأمان لأنفسهم ليسلموا اليهم دمياط من غير عوض. فاستشار السلطان الملك الكامل ملوك أهل بيته في ذلك، فأشار بعضهم بأن لا يؤمنهم ويأخذهم أخذا باليد، فانهم قد صاروا في قبضته، وهم جمهور أهل الشرك، [102 ب] وأنه إذا فعل ذلك أخذ منهم دمياط، وجميع ما بقى لهم من البلاد الساحلية. فلم ير السلطان الملك الكامل ذلك مصلحة وقال «إن هؤلاء ليسوا جميع الفرنج، وإذا أبدناهم لا نقدر على أخذ دمياط إلا بمطاولة وحروب كثيرة مدة، ويسمع ملوك ما وراء البحر من الفرنج وباباهم (¬2) بما يجرى على الفرنج، فيقدم [إلينا (¬3)] أضعاف هؤلاء وتعود للحرب خدعة، وقد ضجرت العساكر من الحرب وكلّت». ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من ابن الأثير، الكامل (ج 12 ص 330، حوادث 614)، وقد استعان ابن واصل إلى حد كبير بما ذكره ابن الأثير. (¬2) في نسخة س «ما نالهم وما جرى عليهم» والصيغة المثبتة من نسخة م، ومن الثابت أن لفظ «البابا» كان معروفا عند الكتاب المسلمين، انظر، القلقشندى (صبح، ج 5، ص 472). (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

وكانت مدة مقام الفرنج بالديار المصرية ثلاث سنين وشهورا. فاتفق رأى الكل على بذل الأمان لهم، وتسلم دمياط منهم، فأجيبوا إلى ما طلبوا على أن يأخذ منهم السلطان الملك الكامل ملوكهم رهائن إلى أن يسلموا دمياط، وطلبوا هم أن يأخذوا ولد السلطان وجماعة من خواصه رهائن إلى أن يرجع ملوكهم اليهم. فتقررت القاعدة على ذلك والأيمان سابع رجب من هذه السنة، أعنى سنة ثمان عشرة وستمائة. وكانت رهائن الفرنج: ملك عكا (¬1)، واللكاف (¬2) نائب البابا صاحب رومية الكبرى، وكندريس (¬3) وغير هؤلاء من الملوك تتمة عشرين ملكا (¬4). وكانت رهائن السلطان الملك الكامل، ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجماعة من خواصه. وكان عمر الملك الصالح يومئذ خمس عشرة سنة؛ لأن مولده سنة ثلاث وستمائة. ولما قدم هؤلاء الملوك إلى السلطان الملك الكامل جلس لهم مجلسا عظيما. ووقف بين الملوك من إخوته وأهل بيته جميعهم، [ورأى الفرنج (¬5)] من ¬

(¬1) ملك عكا في تلك السنة كان حنا برين Jean de Brienne. (¬2) في المتن «والكاب» بدون تنقيط والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من ابن أيبك (الدر المطلوب ورقة 156) حيث ورد «المعروف بالكاف» وقد ورد الاسم في ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6 ص 241) في صيغة «اللوكان» والمقصود به الكاردينال بلاجيوس Cardinal Pelage. (¬3) في نسخة س «كندرس» والصيغة المثبتة من نسخة م وورد الاسم في ابن ايبك (الدر المطلوب، ورقة 156) «كندريس الكبير» بينما ذكر ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 330 حوادث سنة 614) الأسم في صيغة «كندريش» والمقصود بكلمة «كند» الكلمة الانجليزية Count (كونت) ولعله يعنى لويس دوق بافاريا الذى كان أحد رهائن الصليبيين. (¬4) ذكر ابن ايبك (الدر المطلوب ورقة 156) أن رهائن الفرنج كانوا أربعة عشر ملكا وذكر أسماءهم وأنهم «أعظم ملوك دين الصليب». (¬5) في الأصل «ورأوا» وفى نسخة س «فراؤا الفرنج».

عظمته وناموسه ما هالهم. ثم أرسلت الفرنج قسوسهم ورهبانهم إلى دمياط لتسلم إلى المسلمين، فسلمت اليهم تاسع عشر رجب من هذه السنة. وكان يوم تسلمها يوما مشهودا عاد به الدين الإسلامى جديدا بعد أن كانت قد ساءت [به] (¬1) الظنون، وخيف على الديار المصرية والشامية من الفرنج خوفا شديدا. وفى اليوم الذى سلمت فيه دمياط، وصل إلى الفرنج نجدة عظيمة من البحر، فلو سبقوا المسلمين اليهم لا متنعوا من تسليمها (¬2). ولما دخلها المسلمون رأوها وقد حصنها الفرنج [103 ا] تحصينا عظيما بحيث بقيت لا ترام، ولا يوصل إليها. ورجعت رهائن الفرنج إليهم، [ورهائن المسلمين اليهم (¬3)]. وولاها السلطان الأمير شجاع الدين جلدك المظفرى التقوى (¬4)، وكان رجلا خيرا شهما. وكان للفرنج بدمياط لما وقع الصلح صوار (¬5) عظام جدا، فأرادوا أخذها وحملها معهم إلى بلادهم، فمنعهم من ذلك شجاع الدين، فبعثوا إلى السلطان الملك الكامل يشكونه (¬6) ويقولون: «إن هذه الصوارى لنا، وأن مقتضى الصلح أن ترد إلينا». فكتب الملك الكامل إلى شجاع الدين يأمره أن يرد الصوارى اليهم. فأصر على الأمتناع وقال: «إن الفرنج أخذوا منبر جامع دمياط وكسروه، ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ذكر ابن ايبك (الدر المطلوب، ورقة 157) أن هذه النجدة اشتملت على «الف مركب موسوقة رجال وعدد وسلاح ومأكول»، ومثل هذا العدد مبالغ فيه. (¬3) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش في نسخة م. (¬4) في نسخة س «الورى» والصيغة المثبتة من نسخة م، وقد ذكر أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 130) أنه من مماليك الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب. (¬5) في نسخة س «صوارى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) في نسخة م «يسألونه» والصيغة المثبتة من نسخة س.

وأهدوا كل قطعة منه إلى ملك من ملوكهم، فيأمرهم السلطان أن يردوا إلينا المنبر لنرد عليهم الصوارى». فكتب السلطان اليهم، وذكر لهم ما ذكره شجاع الدين فعجزوا عن رد المنبر وأعرضوا عن ذكر الصوارى. وهنت الشعراء الملك الكامل وإخوته بفتح دمياط، وأكثروا. فمما قيل في ذلك، قصيدة لشرف الدين بن عنين يمدح بها السلطان الملك المعظم عيسى - رحمه الله - ومطلعها: - سلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنا ... إذا جهلت آياتنا والقنا اللّدنا غداة لقينا دون دمياط جحفلا ... من الروم لا يحصى يقينا ولا ظنّا قد اتفقوا رأيا وعزما وهمة ... ودينا وإن كانوا قد اختلفوا لسنا تداعوا بأنصار الصليب فأقبلت (¬1) ... جموع كأن الموج كان لهم (¬2) سفنا عليهم من الماذى كل مفاضة ... دلاص كقرن الشمس قد أحكمت وضنا وأطمعهم فينا غرور فأرقلوا ... إلينا سراعا بالجياد وأرقلنا فما برحت شمر الرماح تنوشهم ... بأطرافها حتى استجاروا بنامنّا سقيناهم كأسا نفت عنهم الكرى ... وكيف ينام الليل من عدم الأمنا لقد صبروا صبرا جميلا ودافعوا ... طويلا فما أجدى دفاع ولا أغنى لقوا (¬3) الموت من زرق الأسنة أحمرا ... فألقوا بأيديهم إلينا فأحسنا وما برح الإحسان منا سجية ... توارثها عن صيد آبائنا الأبنا [103 ب] وقد جرّبونا قبلها في وقائع ... تعلّم غمر القوم منا بها الطعنا ¬

(¬1) في نسختى المخطوطة «وأقبلت» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، نشره وحققه خليل مردم، ص 30. (¬2) في نسختى المخطوطة «لها» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 30. (¬3) في نسختى المخطوطة وكذلك في السلوك للمقريزى (ج 1، ص 211) «بدا» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 30.

أسود وغى لولا قراع سيوفنا (¬1) ... لما ركبوا قيدا ولا سكنوا سجنا وكم يوم حرّ ما لقينا هجيره ... بستر وقرّ ما طلبنا له كنّا فإن نعيم الملك في شظف الشقا ... ينال وحلو العيش من مرّه يجنى يسير بنا من آل أيوب ماجد ... أبى عزمه أن يستقر به مغنى كريم الثنا (¬2) عار من العارباسل ... جميل المحيا كامل الحسن والحسنى سرى نحو دمياط بكل سميذع ... نجيب يرى [ورد الوغى المورد الأهنا] (¬3) مآثر مجد خلّدتها سيوفه ... لها نبأ يفنى الزمان ولا يفنى وقد عرفت أسيافنا ورقابهم ... مواقعها فيها (¬4) فإن عاودوا عدنا منحناهم منا حياة جديدة ... فعاشوا بأعناق مقلدة منّا ولو ملكوا لم يأتلوا في دمائنا ... ولوغا ولكنا ملكنا فأسجحنا ومن ذلك قصيدة لشرف الدين بن عنين يمدح بها السلطان الملك الأشرف [بن الملك العادل (¬5)] مطلعها: - جعل العتاب إلى الصدود توصّلا ... ريم رمى فأصاب منى المقتلا أغراه بى واش تقوّل كاذبا ... فأطاعه وعصيت فيه العذّلا ما عمّه بالحسن عنبر خاله ... إلا ليصبح بالسواد مجملا صافى أديم الحسن ما خطت يد ال‍ ... أيام في خديه سطرا مشكلا كل مقر بالجمال له فما ... يحتاج حاكم حسنه أن يسجلا ¬

(¬1) في نسختى المخطوطة وكذلك في السلوك (ج 1، ص 211) «وقائع سمرنا» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 31. (¬2) في نسخة م «الينا» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك ديوان ابن عنين، ص 31، والسلوك للمقريزى، ج 1، ص 211. (¬3) في نسختى المخطوطة «كسب الثنا المغنم الأسنى» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 31. (¬4) في نسختى المخطوطة وكذلك في السلوك (ج 1، ص 211) «منا» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 32. (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ومنها في التخلص إلى المدح (¬1) ولربّ لائمة علىّ حريصة ... باتت وقد جمعت علىّ العذّلا قالت أما تخشى الزمان وصرفه ... وتقل من إتلاف مالك قلت: لا أأخاف من فقر، وجود الأشرف الس‍ ... لطان [قد ملأ البسيطة والملا (¬2)] الواهب (¬3) الأمصار محتقرا لها (¬4) ... إن غيره وهب الهجان والبزّلا (¬5) ملك غدا جيد الزمان بجوده ... حال ولولاه لكان معطّلا ومنها لولاك لا نفصمت (¬6) عرى الأسلام في ... مصر وأهمل (¬7) ذكره وتبدّلا وتحكمت فيها الفرنج وغادرت ... أعلاجها محراب عمرو هيكلا أنت الذى أجليت عن (¬8) حلب العدا ... وحميت بالسّمر اللدان الموصلا كم موقف ضنك فرجت مضيقه ... وطريقه لخفائه قد أشكلا ونثرت بالبيض المهندة الطّلى ... ونظمت بالسّمر المثقفة الكلا فالله يخرق في بقائك عادة الد ... نيا ويعطيك البقاء الأطولا ¬

(¬1) الأبيات الخمسة التالية غير مذكورة في نسخة س. (¬2) في ديوان ابن عنين، ص 11 «في الآفاق قد ملا الملا». (¬3) في نسخة م «الراهب» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 11. (¬4) في نسخة م «بها» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 11. (¬5) ورد هذا الشطر في نسخة م «اذ غيره يهب الجياد البزلا» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 11. (¬6) في نسختى المخطوطة «لا نتقضت» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 11. (¬7) في ديوان ابن عنين، ص 11 «وأخمل». (¬8) في نسخة م «من» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ديوان ابن عنين، ص 11.

ومن ذلك قصيدة لبهاء الدين زهير بن محمد بن على القوصى - رحمه الله - يمدح بها السلطان الملك الكامل مطلعها: - بك اهتزّ عطف الدين في حلل النصر ... وردّت على أعقابها ملّة الكفر ومنها: وما فرحت مصر بذا الفتح وحدها ... لقد فرحت بغداد أكثر (¬1) من مصر ولو (¬2) لم يقم في الله حق قيامه ... لما سلمت دار السلام من الذعر وأقسم لولا عزمة كاملية (¬3) ... لخافت رجال بالمقام وبالحجر ومنها: وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى ... لما (¬4) حلمت إلا بأعلامك (¬5) الصفر عجبت لبحر جاء فيه سفينهم ... ألسنا نراه [عندنا ملك (¬6)] الغمر ألا إنها من فعله لعجيبة ... سيطلب عفوا من أناملك العشر (¬7) ثلاثة أعوام أقمت وأشهرا ... تجاهد فيهم لا بزيد ولا عمرو ومنها: وليلة نفر للعدو وإنها (¬8) ... بكثرة من أرديته ليلة النحر فيا ليلة قد شرف الله قدرها ... فلا غرو إن سميتها ليلة القدر ¬

(¬1) في نسختى المخطوطة «أعظم» والصيغة المثبتة من شرح ديوان بهاء الدين زهير (ط. بيروت 1968)، ص 98. (¬2) كذا في نسختى المخطوطة وفى شرح ديوان بهاء الدين زهير، ص 98 «فلو». (¬3) هذا البيت ساقط في نسخة «س»، وفى شرح ديوان ابن زهير، ص 98 «همة كاملية». (¬4) في نسختى المخطوطة «لما» وفى شرح الديوان، ص 99 «فلا». (¬5) في نسختى المخطوطة «بأعلامك» وفى شرح الديوان، ص 99 «بأعلامه». (¬6) في نسخة م «عبدنا يلك» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن شرح الديوان، ص 99. (¬7) كذا في نسختى م، س وورد البيت في شرح الديوان، ص 99: الا إنها من فعله لكبيرة سيطلب منها عفو حلمك واليسر (¬8) كذا في نسختى المخطوطة، وفى شرح الديوان، ص 99 ورد هذا الشطر: «وليلة غزو للعدو كأنها»

سددت سبيل البر والبحر عنهم ... بسابحة دهم وسابقة (¬1) غر أساطيل ليست في أساطير من مضى ... فكل غراب راح أقنص من (¬2) صقر وباتت جنود الله فوق ضوامر ... بأوضاحها تغنى السراة عن الفجر فما زلت حتى أيد الله حزبه ... وأشرق وجه الدين جذلان بالنصر فروّيت منهم ظامئ البيض والقنا ... وأشبعت منهم طاوى الذئب والنسر وجاءت ملوك الروم نحوك خضّعا ... تجرر أذيال المذلة (¬3) والصّغر أتوا ملكا فوق السّماك (¬4) محلّه ... فمن جوده ذاك السحاب الذى يسرى فمنّ عليهم بالأمان تكرما ... على الرغم من بيض الصوارم والسمر كفى الله دمياط المخافة (¬5) إنها ... لمن قبلة الإسلام من موضع البحر وما طاب ماء النيل إلا لأنه ... يحل محل الريق من ذلك الثغر فلله يوم الفتح يوم دخولها ... لقد (¬6) طارت الأعلام منه (¬7) على وكر ومنها: لك الله من أثنى عليك فإنما ... من القتل قد أنجيته أو من الأسر يقصّر عنك المدح من كلّ مادح ... ولو جاء بالشمس المنيرة والبدر قلت: لقد أبدع بهاء الدين زهير - رحمه الله - في هذه القصيدة، وأتى بكل معنى بديع لطيف، وكذا أكثر شعره رحمه الله. وسنذكر شيئا من أخباره إذا انتهينا إلى ذكر مخدومه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب - رحمه الله. ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وفى شرح الديوان، ص 99 «وسابحة». (¬2) كذا في نسختى المخطوطة وفى شرح الديوان، ص 99 «أفتك». (¬3) كذا في نسختى المخطوطة وفى شرح الديوان، ص 100 «المهانة». (¬4) في نسخة م «السماء» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن شرح الديوان، ص 100. (¬5) في نسخة س «المحاجة» وفى شرح الديوان، ص 100 «المكاره». (¬6) كذا في نسختى المخطوطة وفى شرح الديوان، ص 100 «وقد». (¬7) كذا في نسختى المخطوطة وفى شرح الديوان، ص 100 «منها».

وقد [والله (¬1)] أبدع بعض الشعراء في ذكر إنجاد السلطانين الملك المعظم والملك الأشرف أخاهما السلطان الملك الكامل، قدس الله أرواحهم، في قوله من قصيدة: - أعبّاد عيسى إن عيسى أتاكم ... وموسى جميعا ينصران محمدا وقالت ست الفخر بنت التاجر مغنية الملك الأشرف تمدحه، وتذكر كسره الفرنج، وقد أبدعت في المعنى: - ولما طغى فرعون عكا وقومه (¬2) ... وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض أتى نحوهم موسى وفى يده العصا ... فغرّقهم في اليمّ بعضا على بعض ولما فتحت دمياط دخلها السلطان الملك الكامل، وفى خدمته إخوته، وملوك [105 ا] أهل بيته، وكان يوم دخوله إليها يوما مشهودا. ثم توجه إلى القاهرة، وأذن للملوك في الرجوع إلى بلادهم، فرجع كل ملك منهم إلى بلاده. وعمت هذه البشارة آفاق الأرض؛ فان التتر كانوا قد أهلكوا بلاد العجم، وكادت باقى البلاد الإسلامية تستأصل بالفرنج، فنصر الله المسلمين عليهم وكفاهم شرهم (¬3). وعقدت الهدنة مع الفرنج مدة معلومة. وتوجه الملك الأشرف إلى الشرق، وانتزع الرقة من الملك الأمجد محمود ابن قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكى بن مودود بن زنكى، ولقى محمود بغيه على أخيه وقد ذكرنا قتله له. وأقام الملك الأشرف بالرقة، وورد إلى خدمته الملك الناصر صلاح الدين قلج أرسلان بن الملك المنصور صاحب حماة، فأقام معه مدة ثم رجع إلى بلده (¬4). ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) كذا في نسختى المخطوطة وفى السلوك للمقريزى، ج 1، ص 209 «ببغيه». (¬3) الجزء التالى ساقط من نسخة س، وسوف ينوه عند نهاية هذا الجزء الساقط. (¬4) انظر أيضا أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 130).

وورد إلى الملك الأشرف وهو بالرقة كتاب من الخليفة الأمام الناصر لدين الله، يأمر فيه بإقامة الخطبة بولاية العهد لابنه عدة الدين أبى نصر محمد، وهو الذى ولى الخلافة بعده، ولقب الظاهر بأمر الله. وكنا قد ذكرنا (¬1) أن الخليفة كان قد ولاه عهده، وكتب بذلك إلى السلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - وسائر ملوك الأطراف، وأنه خطب له بذلك على سائر البلاد الإسلامية، وضربت السكة باسمه بعد إسم والده. ثم ذكرنا أن أباه بعد ذلك خلعه من ولاية عهده، وكتب بذلك إلى ملوك الأطراف فطرحوا إسمه من السكة والخطبة. وأن الخليفة مال إلى ولده الأصغر أبى الحسن على وأهله لولاية عهده (¬2). ثم ذكرنا وفاة علىّ سنة إثنتى عشرة وستمائة، وحزن الخليفة عليه (¬3). ولما كانت هذه السنة ألجأت الخليفة الضرورة إلى إعادة إبنه أبى نصر إلى ولايه عهده، وتقدم إلى الملوك بإعادة الخطبة له بولاية العهد. وفى هذه السنة سير الملك الأشرف إلى الأتابك شهاب الدين طغريل مربى الملك العزيز بن الملك الظاهر رسالة تتضمن أنه: «لما وقع الأتفاق في الأبتداء، وعرض علىّ الجبول وبزاعا وسرمين (¬4) أحببت أن آخذ (¬5) ذلك [105 ب] ليعلم المخالف والعدو أن البلاد قد صارت واحدة، والكلمة متفقة. والآن فقد تحقق الناس كلهم ذلك، وأوثر الآن التقدم إلى نواب المولى الملك العزيز ¬

(¬1) انظر ما سبق من هذا الكتاب (ابن واصل، ج 2، ص 278 - 279). (¬2) انظر ما سبق من هذا الكتاب (ابن واصل، ج 3، ص 168 - 169). (¬3) انظر ما سبق من هذا الكتاب (ابن واصل، ج 3، ص 229). (¬4) الجبول قرية كبيرة إلى جانب ملاحة حلب، وبزاعه وسرمين بلدتين من أعمال حلب، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬5) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 191) «أجبت إلى ذلك».

في قبضها، وإجرائها على العادة، وصرفها في مصالح بلاده». فوقعت الأجابة إلى ذلك، ورفع الملك الأشرف نوابه عنها (¬1). وتوفى في هذه السنة الملك الصالح ناصر الدين محمود بن نور الدين محمد ابن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا وآمد بالقولنج (¬2)، وقام بملك تلك البلاد بعده ولده الملك المسعود (¬3)، وهو الذى انتزع منه السلطان الملك الكامل آمد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) في ابن العديم، نفس المرجع والصفحة «أيدى نوابه عنها». (¬2) انظر ما سبق من هذا الكتاب (ابن واصل، ج 2، ص 106 حاشية 3). (¬3) انظر أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 130؛ المقريزى، السلوك، ج 1 ص 212؛ وذكر ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 412) وفاته في حوادث سنة 619.

ودخلت سنة تسع عشرة وستمائة

ودخلت سنة تسع عشرة وستمائة والسلطان الملك الكامل بديار مصر، والممالك على ما كانت عليه في السنة الماضية. ذكر الحرب بين الترك القفجاق وبين الكرج كنا قد ذكرنا في أخبار خروج التتر أن الطائفة المغرّبة (¬1) منهم استولت على بلد القفجاق، وأن القفجاق تفرقوا فذهبت طائفة منهم إلى بلد الروس، وطائفة ذهبت في جبالهم. ثم بعد ذلك اجتمعت طائفة كبيرة منهم، وساروا إلى دربند شروان، وأرسلوا إلى ملك الدربند وإسمه رشيد يقولون له «إن التتر قد ملكوا بلادنا، ونهبوا أموالنا، وقد قصدناك لنقيم في بلادك، ونحن مماليكك، ونفتح البلاد لك، و [تكون (¬2)] أنت سلطاننا». فمنعهم من ذلك وخافهم، فأعادوا الرسالة إليه «إننا نحن نرهن عندك أولادنا ونساءنا على الطاعة والخدمة لك، والإنقياد لحكمك». فلم يجبهم إلى ما طلبوا. فسألوه أن يمكنهم ليدخلوا بلده ويتزودوا منه، وأن لا يدخل إلا عشرة عشرة، فإذا اشتروا ما يحتاجون إليه فارقوا بلاده فأجابهم إلى ذلك، فصاروا يدخلون متفرقين ويشترون ما يريدون ويخرجون. ثم إن بعض كبرائهم والمقدمين منهم ¬

(¬1) يقصد ابن واصل بالطائفة المغرّبه طائفة التتر التي سارت غربى خراسان، انظر ما سبق ص 57 وما قبلها. (¬2) الاضافة من ابن الأثير، ج 12، ص 406.

جاء إلى رشيد ملك الدربند وقال: «إننى كنت في خدمة السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه، وأنا مسلم (¬1) والدين يحملنى على نصحك، واعلم أن القفجاق [106 ا] [أعداوك (¬2)] يريدون الغدر بك، فلا تمكنهم من المقام ببلادك، واعطنى عسكرا [من عندك (¬3)] حتى أقاتلهم وأخرجهم من البلاد». فسلم إليه طائفة من عسكره، وقواهم بالسلاح والعدة، وساروا مع ذلك المقدم فأوقعوا بطائفة من القفجاق، وقتلوا منهم جماعة، وسبوا، فلم يتحرك القفجاق لقتال بل قالوا: «نحن عبيد السلطان شروان شاه رشيد ومماليكه، ولولا ذلك لقاتلنا عسكره». فعاد ذلك المقدم ومن معه من عسكر رشيد إليه سالمين. ثم أن القفجاق فارقوا موضعهم، وساروا مسيرة ثلاثة أيام. فقال ذلك المقدم القفجاقى [لملك الدربند رشيد (¬4)]: «أريد عسكرا أتبعهم». [فأمر له من العسكر بما أراد، فسار يقفو (¬5)] أثرهم، فأوقع بهم وغنم منهم، وقصده جمع كثير من القفجاق من الرجال والنساء وهم يبكون، وقد جزوا شعورهم ومعهم تابوت وهم محيطون به يبكون حوله، وقالوا له «إن فلانا صديقك قد مات، وأوصى [أن نحمله (¬6)] إليك لتدفنه في أي موضع شئت، ونكون نحن عندك». فحمله [القفجاقى (¬7)] معه والذين يبكون عليه أيضا، وعاد إلى ¬

(¬1) نهاية الجزء الساقط من نسخة س، انظر ما سبق ص 105 حاشية 3. (¬2) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 406 (حوادث 619). (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وفى ابن الأثير (نفس المرجع والجزء، ص 407) «لرشيد». (¬5) كذا في الأصل وفى ابن الأثير، نفس المرجع والجزء، ص 407، وفى نسخة س «فأجابه إلى ذلك وقال خذ من العسكر ما أردت فأخذ ما اختار منهم ثم سار يقفوا». (¬6) في الأصل «بحمله» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 407). (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

شروان شاه رشيد وأعلمه أن الميت صديق له، وقد حمله معه، وقد طلب أهله أن يكونوا عنده [في خدمته. فأمر أن يدخلوا البلد وأنزلهم فيه، فكان أولئك الجماعة يسيرون مع ذلك المقدم ويركبون بركوبه ويصعدون معه إلى القلعة التي لرشيد ويقعدون عنده (¬1)] ويشربون عنده هم ونساؤهم. فأحب رشيد إمرأة ذلك الرجل الذى قيل [له (¬2)] أنه ميت ولم يكن مات، وإنما فعلوا ذلك مكيدة حتى دخلوا البلد، والذى أظهروا موته معهم، ولا يعرفه رشيد، وهو من أكبر مقدمى القفجاق. فبقوا كذلك عدة (¬3) أيام، وكل يوم تجئ جماعة من القفجاق متفرقين (¬4). فاجتمع بالقلعة منهم جماعة وأرادوا قبض رشيد، وملك بلاده، ففطن (¬5) لذلك فخرج من باب القلعة الذى هو باب السر وهرب إلى شروان، وملك القفجاق القلعة. وقالوا لأهل البلد «نحن لكم وبين أيديكم خير [لكم (¬6)] من رشيد». وأعادوا باقى (¬7) أصحابهم إليهم، وأخذوا السلاح الذى في القلعة جميعه، واستولوا على ما في القلعة من الأموال ورحلوا عن القلعة، وقصدوا قبله (¬8)، أحد بلاد الكرج، وحصروها. ورجع رشيد إلى قلعته فملكها، ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين لتوضيح المعنى من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 407. (¬2) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬3) كذا في الأصل وابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة، وفى نسخة س «عشرة». (¬4) في الأصل «متفرقون» والصيغة المثبتة من نسخة س وابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬5) في الأصل «وفطن» والصيغة المثبتة من س وابن الأثير نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬6) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬7) في الأصل «بعض» والصيغة المثبتة من س ومن ابن الأثير. (¬8) في الأصل «قيلة» وكتبها ناسخ نسخة م بهذا الشكل فيما يلى؛ والصيغة المثبتة من س ومن ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة، وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن قبله مدينة قديمة قرب الدربند من أعمال أرمينية.

وقتل من كان فيها من القفجاق. فلم يعلم القفجاق المنازلون لقبله بذلك، فأرسلوا طائفة منهم إلى القلعة التي لرشيد، فقتلهم رشيد. فلما بلغ ذلك القفجاق [106 ب] عادوا إلى الدربند، ولم يبق لهم في القلعة طمع. وكان صاحب قبله لما حصروه أرسل يقول لهم: «إنى أرسل إلى ملك الكرج حتى يرسل إليكم الخلع والأموال، ونجتمع نحن وأنتم، ونملك البلاد». فكفوا عن نهب ولايته أياما، ثم مدوا أيديهم إلى النهب والفساد، ونهبوا بلاد قبله جميعها، وساروا إلى قريب كنجة من بلاد أرّان، وهى للمسلمين، فنزلوا هنالك. فأرسل إليهم الأمير بكنجة (¬1)، وهو مملوك مظفر الدين ازبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأرّان، عسكرا منعهم من الوصول إلى بلاده، وسير إليهم رسولا يقول لهم: «غدرتم بملك شروان وأخذتم قلعته، وغدرتم بصاحب قبله ونهبتم بلاده، فما يثق بكم أحد». فأجابوا: «إننا (¬2) ما جئنا إلا قصدا لخدمة سلطانكم، فمنعنا شروان شاه (¬3) عنكم، فلهذا أخذنا قلعته، ثم تركناها من غير خوف. وأما صاحب قبله، فهو عدوكم وعدونا، ولو أردنا أن نكون عند الكرج جعلنا طريقنا على دربند شروان، فانه أصعب وأشق وأبعد، وكنا جئنا إلى بلادهم على عادتنا، ونحن نوجه الرهائن إليكم». فلما سمع صاحب كنجة هذا سار إليهم، فلما سمع القفجاق بمسيره إليهم، ركب إليه أميران منهم هما مقدماهم في نفر يسير، وجاؤا (¬4) إليه ولقوه وخدموه ¬

(¬1) ذكر ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 408) أن اسمه كوشخرة. (¬2) في نسخة م «بأننا» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 408). (¬3) في نسخة م «شروانشاه» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬4) وجاؤا. . . لسلطانكم، ساقط من نسخة س.

وقالوا [له (¬1)]: «قد أتيناك جريدة [في قلة من العدد (¬2)] لتعلم أننا ما قصدنا إلا الوفاء، والخدمة لسلطانكم» وأعطوه رهائنهم. فأمرهم صاحب كنجة بالنزول في أرضه، وتزوج ابنة أحدهم، وأرسل إلى مخدومه مظفر الدين أزبك [ابن البهلوان (¬3)] يعرفه حالهم، فأمر لهم بالخلع والنزول بجبل كيلكون (¬4)، ففعلوا ذلك وخافتهم الكرج، فجمعوا لهم ليكبسوهم. فوصل الخبر بذلك إلى صاحب كنجة، فأخبرهم وأمرهم بالنزول عند كنجة، فعادوا ونزلوا عندها. وسار أمير من أمراء القفجاق إلى الكرج فكبسهم وقتل خلقا منهم، وغنم وسبى سبيا (¬5) كثيرا. ورجعت القفجاق إلى جبل كيلكون فنزلوا به. وأحب أمير آخر منهم أن يفعل كمثل ما فعل صاحبه، فأرسل إليه صاحب كنجة ينهاه عن ذلك إلى أن ينكشف له خبر الكرج فلم يقبل منه، وسار إلى بلاد الكرج في طائفة [107 ا] [من القفجاق (¬6)] فخرب وغنم [وعاد (¬7)]. وسارت الكرج على طريق يعرفونها وسبقوه. فلما وصل إليهم (¬8) قاتلوه وحملوا عليه وعلى أصحابه على غرة، ووضعوا السيف في القفجاق وأكثروا القتل فيهم، واستنقذوا منهم الغنائم. فعاد [القفجاقى (¬9)] هو ومن بقى معه على أقبح ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير (الكامل ج 12، ص 409). (¬2) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير (الكامل ج 12، ص 409). (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) كذا في نسختى المخطوطة وكذلك في ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 409، وورد الأسم بصيغة «كيكلون» في مصدر آخر (انظر، ابن الأثير، نفس المرجع والصفحة، حاشية 2)، ولم تساعدنا المصادر المتداولة في تحقيق الصيغة الصحيحة. (¬5) في نسخة س «شيئا» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في الأصل «وصلوا إليه» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، (الكامل، ج 12، ص 409). (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر نهب الكرج مدينة بيلقان

حال، وقصدوا مدينه برذعة (¬1)، وأرسلوا إلى صاحب كنجه يطلبون أن يحضر عندهم بنفسه وعسكره ليقصدوا الكرج، ويأخذوا منهم بثأرهم. فلم يفعل وخافهم، وقال: «أنتم خالفتمونى وعملتم برأيكم فلا أنجدكم بفارس واحد». فأرسلوا يطلبون منه رهائنهم فلم يعطهم إياها. فأخذوا كثيرا من المسلمين عوضا عن الرهائن، وثأر لهم المسلمون من أهل البلاد وقاتلوهم، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، فخافوا وساروا نحو شروان وجازوا إلى بلاد اللكز. وطمع فيهم المسلمون والكرج [واللكز (¬2)] وغيرهم فأفنوهم قتلا وأسرا، فكان المملوك منهم يباع في دربند شروان بالثمن البخس، وامتلأت البلاد من سبيهم. ذكر نهب الكرج مدينة بيلقان وفى رمضان من هذه السنة - أعنى سنة تسع عشرة وستمائة - سارت الكرج من بلادهم إلى بلاد أران، وقصدوا بيلقان وكان التتر قد خربوها ونهبوها كما تقدم ذكره (¬3). فلما سارت التتر إلى بلاد قفجاق، عاد من سلم من أهلها إليها وعمروا منها ما أمكن عمارته. فأتتهم الكرج في هذه السنة، وهجموها ووضعوا السيف فيها، وفعلوا فيها من النهب والقتل أكثر مما فعلته التتر. وكل هذا يجرى وصاحب البلاد مظفر الدين أزبك بن البهلوان مشتغل عن الرعية بشربه ولهوه. وملوك الإسلام كل منهم قد اشتغل بصلاح قطره، وكذلك ¬

(¬1) برذعة: بلد في أقصى أذربيجان وقيل قصبتها انظر (ياقوت، معجم البلدان). (¬2) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 410، الذى ينقل منه ابن واصل نقلا قد يكون حرفيا في كثير من الأحيان. (¬3) انظر ما سبق ص 52.

ذكر المتجددات بالموصل فى هذه السنة

خليفة الزمان [الإمام (¬1)] الناصر لدين الله لا يعدو قطره (¬2) العراق وما يتعلق به، ولو كانت الكلمة انتظمت، واتفقت الآراء على دفع عدو الدين وقصده، لأزاحوا التتر وغيرهم من الكفار [عن البلاد، ولم يجر ما سنذكره إن شاء الله تعالى (¬3)]، لكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه. ذكر المتجددات بالموصل في هذه السنة [107 ب] [قد ذكرنا (¬4)] تغلب بدر الدين على الموصل بعد وفاة ابن أستاذه الملك القاهر عز الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكى. وأنه نصب ابن الملك القاهر للملك وهو صغير ليس له معه إلا مجرد الاسم، وأن ذلك الصغير مات وأنه أقام أخا له صغيرا، وأمهما ابنة الملك المعظم مظفر الدين كوكبورى بن زين الدين على كوجك صاحب الموصل، وأمها ربيعة خاتون أخت الملك العادل. ثم أن ذلك الصغير الثانى الذى أقامه بدر الدين وتغلب على الملك بطريقه، مات. فاستقل بدر الدين لؤلؤ بالملك وسمى نفسه الملك الرحيم. وكان اعتضد - كما قدمنا ذكره - بالملك الأشرف بن الملك العادل فذب عنه ودافع، ومنع مظفر الدين من قصده. وكنا ذكرنا معاداته لعماد الدين زنكى بن نور الدين، وهو أخو ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة س «نظره». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) انظر ما سبق ص 20 - 21 وما بعدها وانظر الحاشية التالية.

الملك القاهر وزوج إبنة مظفر الدين بن زين الدين، وما جرى له معه من الوقائع (¬1)]. وكان عماد الدين [زنكى] لما جرى عليه من بدر الدين لؤلؤ قصد مظفر الدين أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران، واتصل به وصار معه، وأقطعه إقطاعا ببلاده، وأقام عنده. [فقصد بدر الدين قلعة شوش، وهى لعماد الدين، وهى قلعة حصينة فحاصرها (¬2)] لبعد صاحبها عنها، وطال مقام بدر الدين [لؤلؤ (¬3)] عليها إلى أن سلمها النواب الذين [لعماد الدين (¬4)] إليه في هذه السنة، وبذل لهم إقطاعا ومالا لما تسلمها. ثم عاد إلى الموصل، وقوى شأنه واستفحل، وقلع البيت الأتابكى بالكلية. ودار الخليفة الناصر لدين الله حتى بعث له الخلع والتقليد بالسلطنة، وكاتبه ملوك الأطراف؛ فتمت أموره، وتقررت قواعده، فسبحان من يؤتى الملك من يشاء وينزعه عن من يشاء. ولم يزل مالكا للموصل وسائر بلادها إلى أن ¬

(¬1) يلاحظ أن هناك خلافا فيما ورد في نسخة م وما ورد في نسخة س بخصوص هذا الجزء المحصور بين حاصرتين وقد ورد في نسخة س ورقة 213 ب - 214 ا: «وفى هذه السنة قصد الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ المتغلب على مملكة الموصل قلعة شوش وهى قلعة حصينة، وكانت - كما ذكرنا - لعماد الدين زنكى بن نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكى بن أقسنقر، وهو زوج ابنة مظفر الدين كوكبورى بن زين الدين على كوجك صاحب إربل، وأمها ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب أخت الملك الناصر صلاح الدين والملك العادل. وكان الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه متزوجا بابنة مظفر الدين الأخرى وهى أم الصبيين ولدى الملك القاهر اللذين أقام بدر الدين لؤلؤ بأتابكيتهما، وتغلب على الملك بسببهما». (¬2) في نسخة س «فحاصر بدر الدين لؤلؤ هذه القلعة» والصيغة المثبتة من م. (¬3) الإضافة من نسخة س. (¬4) في نسخة م «بها» والصيغة المثبتة من س.

ذكر مسير السلطان الملك الأشرف إلى الديار المصريه ومقامه بها عند أخيه السلطان الملك الكامل رحمهما الله

ملك التتر بغداد، واستولوا على العراق والجزيرة سنة ست وخمسين وستمائة. فوفد إلى هولاكو ملك التتر (¬1) فأقره على ولايته، ورجع إلى الموصل فمات بها، فكانت مدة ملكه [108 ا] نيفا وأربعين سنة سوى ما تقدم له من الاستيلاء والتحكم في أيام أستاذه نور الدين أرسلان شاه، وابنه الملك القاهر عز الدين، وسيأتى له ذكر وأخبار في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ذكر مسير السلطان الملك الأشرف إلى الديار المصريه ومقامه بها عند أخيه السلطان الملك الكامل رحمهما الله وفى هذه السنة سار السلطان الملك الأشرف [مظفر الدين موسى بن الملك العادل صاحب سنجار والبلاد الشرقية وأخلاط وأعمالها (¬2)] إلى خدمة أخيه السلطان الملك الكامل، فأقام عنده بالديار المصرية متنزها إلى أن خرجت هذه السنة. وفى هذه السنة فوض الأتابك شهاب الدين طغريل القائم بتدبير مملكة الملك العزيز [غياث الدين محمد (¬3)] بن الملك الظاهر صاحب حلب، إلى الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر الشغر وبكاس (¬4). فتوجه من حلب إليهما، واستولى عليهما، وأضيف إليه الرّوج (¬5) ومعرّة مصرين (¬6)، ورتب جماعة من الحجاب والمماليك في خدمته، وذلك في جمادى الآخرة من هذه السنة. ¬

(¬1) في نسخة م «ملكهم» والصيغة المثبتة من س. (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) بكاس قلعة من نواحى حلب على شاطئ العاصى تقابلها قلعة الشغر بينهما واد كالخندق وهما قرب انطاكية، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬5) الروج كورة من كور حلب المشهورة في غربيها، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬6) معرة مصرين بليدة وكورة بنواحى حلب، انظر ياقوت (معجم البلدان).

ذكر قصد الملك المعظم شرف الدين عيسى صاحب دمشق حماة وبلادها

ذكر قصد الملك المعظم شرف الدين عيسى صاحب دمشق حماة وبلادها وفى شهر ذى الحجة من هذه السنة قصد السلطان الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق حماة بعساكره. وكنا قد ذكرنا (¬1) أن الملك المنصور صاحب حماة - رحمه الله - لما توفى، كتب [وزيره (¬2)] زين الدين بن فريج وأرباب الدولة بحماة إلى ولده الملك الناصر قلج أرسلان، وكان في خدمة خاله الملك المعظم في الساحل نجدة له على الفرنج، يستدعونه ليملكوه [حماة (¬3)]، إذ كان أخوه الملك المظفر تقى الدين محمود [بن الملك المنصور (¬4)] في خدمة [خاله (¬5)] الملك الكامل نجدة له على الفرنج المتغلبين على دمياط. وأن الملك المعظم أذن للملك الناصر [بن الملك المنصور (¬6)] في التوجه إلى حماة، بشرط أن يحمل إليه مالا، وأنه توجّه إليها وملكها. ولما لم يف الملك الناصر للملك المعظم بما اتفق معه عليه، غاظ ذلك الملك المعظم، وعزم على قصده وأخذ بلاده. واتفق في هذه السنة أن أميرا من أمراء الملك الكامل يقال له مجاهد الدين (¬7) إقبال [108 ب] هرب من مصر، فكتب الملك الكامل إلى أخيه الملك المعظم [صاحب دمشق (¬8)] يأمره بطلبه، والقبض عليه، وحمله إليه، فاتخذ ذلك الملك ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 86 - 87. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) في نسخة م «المجاهد» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك فيما يلى ص 120. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

المعظم حجة وذريعة إلى قصد حماة، [فتوجه إليها بعساكره مظهرا أن مقصوده طلب الأمير مجاهد الدين إقبال. فكان الملك الناصر صاحب حماة قد اتفق أنه خرج إلى الصيد، فجد الملك المعظم في السير رجاء أن يسبق الملك الناصر إليها، ويحول بينه وبين حماة (¬1)]. وانتهى الخبر بذلك إلى الملك الناصر، فسارع إلى الدخول إليها قبل أن يصل الملك المعظم. ووصل الملك المعظم إلى حماة فوجد الملك الناصر قد وصلها وتحصن بقلعتها، فنزل [بقرية يقال لها نقيرين (¬2)]، وأمر الملك الناصر بغلق أبواب البلد، والاستعداد للحصار. فأرسل الملك المعظم يقول له: «أننى لم أقصد قتالا وإنما أتيت لطلب [مجاهد (¬3) الدين] إقبال، فحيث سلكت طريق المحاربة والقتال، فنحن نسلكه أيضا معك». ثم أمر جماعة من العسكر فتقدموا إلى الأسوار وباشروا القتال قليلا، [ففعلوا ذلك (¬4)]. ثم رحل من ظاهر حماة بعساكره متوجها إلى سلمية، فنزل بها، واحتاط على ما فيها من الحواصل، وولى فيها واليا من قبله. ثم رحل [بالعساكر (¬5)] إلى معرة النعمان، وكان الوالى بها من قبل الملك الناصر شهاب الدين بن القطب كما تقدم ذكره (¬6). وكان والدى - رحمه الله - يتقلد القضاء بها، وكان قبل ذلك قلده الملك المنصور القضاء بحماة، وعزل القاضى حجة الدين بن مراحل السلمانى (¬7) عنه. ثم استعفى والدى من القضاء بحماة مراعاة للقاضى حجة الدين لما كان بينهما من قديم المودة فأعفى. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وقد ورد مختصرا في نسخة م. (¬2) في نسخة م «فنزل صقرين» بدون تنقيط والصيغة المثبتة من نسخة س بينما ورد في أبى الفدا (المختصر، ج 3، ص 131) «ونزل بقيرين»، ونقيرين اسم قرية تقع الآن في ضواحى مدينة حماة. (¬3) في نسخة م «المجاهد» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) انظر ما سبق، ص 88. (¬7) في نسخة م «حجة الدين السلمانى بن مراحل» والصيغة المثبتة من س.

ولما اعتقل الملك المنصور القاضى شهاب الدين بن سليمان المعرى أحمد بن مدرك بن سليمان قاضى المعرة، استدعى الملك المنصور والدى وألزمه قبول قضاء المعرة، فامتثل مرسومه وتوجه إليها. وعاد القاضى حجة الدين إلى قضاء حماة. ثم توفى حجة الدين في شعبان سنة سبع عشرة وستمائة (¬1)، فولى الملك المنصور قضاء حماة عماد الدين بن القطب، أخا شهاب الدين المقدم ذكره. ولما توفى الملك المنصور [سنة سبع عشرة وستمائة (¬2)]، وولى الملك الناصر ولده، تقدم عنده - كما ذكرنا - شهاب الدين [بن قطب، وكان معمما فقيها فألبسه الملك الناصر (¬3)] الشربوش (¬4) ونادمه وولاه المعرة، وقد ذكرنا ذلك كله (¬5)، وأقر أخاه على قضاء حماة. ولما وصل الخبر إلى المعرة بدنو الملك المعظم منها [109 ا] هرب شهاب الدين بن القطب إلى حماة. وخرج والدى وأعيان أهل المعرة إلى لقاء الملك المعظم. فأقبل على والدى والجماعة إقبالا عظيما، ونزل بدار الملك الناصر صاحب حماة، وهى دار ابتناها له شهاب الدين بن القطب غربى المعرة. [وشاهدته - رحمه الله - حين دخوله إليها، وعمرى خمس عشرة سنة يومئذ. وحين استقر في الدار المذكورة، سير إليه والدى هدية وكتبا من العلم نفيسة، فقبلها وأخذ يسيرا منها، وأمر بحمل الباقى إلى ولده الملك الناصر صلاح الدين ¬

(¬1) في نسخة س «في شعبان في آخر سنة ستة عشر وستمائه» والصيغة المثبتة من نسخة م ولم ترد له ترجمة في كتب التراجم المعروفة. (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وفى نسخة م «وألبسه». (¬4) عن الشربوش، انظر ما سبق، ص 88 حاشية 3. (¬5) انظر ما سبق، ص 87 - 88.

داود رحمه الله، وكان نازلا معه في تلك الدار. وعمر الملك الناصر يومئذ ست عشرة سنة، لأن مولده سنة ثلاث وستمائة (¬1)]. واستولى الملك المعظم على المعرة وما فيها من الحواصل. وولى فيها واليا من قبله. ووصل إلى خدمته وهو بالمعرة الأمير شهاب الدين يوسف بن عز الدين مسعود بن سابق الدين عثمان بن الداية، صاحب شيزر (¬2). ثم ورد إليه شهاب الدين بن القطب رسولا من الملك الناصر يستعطفه ويستميله، فلم يلتفت إليه ورجع إلى حماة خائبا. ووصل أيضا إليه وهو بالمعرة الأمير مظفر الدين بن جرديك رسولا من الأتابك شهاب الدين طغريل، وعلى يده تقدمة فقبلها، واعتذر بأنه إنما جاء بكتاب وصله من أخيه السلطان الملك الكامل يأمره أن يقبض على خادمه المعروف بمجاهد الدين إقبال، وأنه خرج خلفه ليدركه، فلما قرب من حماة بدا من صاحبها من الإمتهان وعدم النزل (¬3) والإقامة ما لا يليق. [وتجنى الملك المعظم على الناصر صاحب حماة ذنوبا لا أصل (¬4) لها]. وكان الحلبيون إذ ذاك والملك الناصر صاحب حماة تجمعهم رابطة الإنتماء إلى الملك الأشرف والانحياز إليه. ثم رحل الملك المعظم إلى سلمية، وأقام بها إلى أن خرجت هذه السنة، وهو على قصد منازلة حماة وانتزاعها من الملك الناصر صاحبها. ¬

(¬1) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س مع بعض التقديم والتأخير. (¬2) ورث شهاب الدين يوسف حكم شيزر عن أبيه وجده، انظر المقريزى، السلوك، ج 1، ص 125. (¬3) في نسخة س «النزول» والصيغة المثبتة من م وكذلك من ابن العديم، بغية الطلب، ج 3، ص 192. (¬4) في نسخة م «وتجنى عليه الملك المعظم ذنوبا غير ذلك» والصيغة المثبتة من نسخة س.

ذكر استيلاء الملك المسعود بن الملك الكامل صاحب اليمن على مكة حرسها الله تعالى

ذكر استيلاء الملك المسعود بن الملك الكامل صاحب اليمن على مكة حرسها الله تعالى [109 ب] كنا قد ذكرنا (¬1) في حوادث سنة إثنتى عشرة وستمائة إستيلاء الملك المسعود صلاح [الدين (¬2)] يوسف بن السلطان الملك الكامل على اليمن وقبضه على سليمان شاه بن سعد الدين شاهان شاه بن الملك المظفر تقى الدين الذى كان تغلب عليها؛ وتسييره إياه إلى مصر. وكان الملك المسعود يسمى أتسز (¬3) وهو اسم بلغة الترك، والعامة يسمونه الأقسيس (¬4). وكانت للملك المسعود صرامة عظيمة وهيبة شديدة. وكان صاحب مكة الشريف أبا عزيز قتادة بن إدريس العلوى الحسنى (¬5) وكان عظيم الشأن شما شجاعا. وكانت ولايته قد اتسعت من حدود اليمن إلى مدينة النبى - صلّى الله عليه وسلّم - وبلغ من العمر نحو تسعين سنة. وكانت له قلعة ينبع بنواحى المدينة، وكثر عسكره، واستكثر من المماليك الترك، وخافته العرب في تلك البلاد خوفا عظيما. وكان في أول أمره لما ملك مكة حسن السيرة، أزال عنها المفسدين، وأحسن إلى الحجاج وأكرمهم. ثم إنه ¬

(¬1) انظر ما سبق من ابن واصل، ج 3، ص 227. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) كذا في ابن الأثير، ج 12، ص 413 (حوادث سنة 620) وفى أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 131) ورد اللقب «أطسز». (¬4) صحة هذا الاسم «أطسيس» انظر ما سبق من ابن واصل، ج 3 ص 227 حاشية 3 للدكتور الشيال. وقد ذكر ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6 ص 272) الأسم «أضسيس». (¬5) في نسخة س «الحسينى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م، انظر زامباور، معجم الأنساب، ج 1 ص 30 - 31؛ المقريزى، السلوك، ج 1 ص 206.

[بعد ذلك (¬1)] أساء السيرة وجدد المكوس بمكة، وفعل أفعالا منكرة شنيعة، ونهب الحجاج في بعض السنين وقد ذكرنا ذلك. وكان يقول الشعر الجيد، فذكر أنه طلب مرة ليحضر عند أمير الحاج العراقى كما جرت عادة أمراء مكة فلم يفعل، فعوتب من جهة الخليفة على ذلك، فكتب إلى الإمام الناصر لدين الله [أمير المؤمنين هذه الأبيات (¬2)]: ولى كفّ ضرغام أدلّ (¬3) ببطشها ... وأشرى بها بين الورى وأبيع تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفى وسطها للمجدبين (¬4) ربيع أأتركها (¬5) تحت الرحا ثم ابتغى ... خلاصا لها؟ أنى إذا لرقيع وما أنا إلا المسك في كل بلدة ... يضوع، وأما (¬6) عندكم فيضيع فلما كانت سنة ثمانى عشرة وستمائة جمع جموعا كثيرة وسار عن مكة يريد مدينة النبى صلّى الله عليه وسلم، فنزل بوادى السباع (¬7) وهو مريض. وسير أخا له على الجيش ومعه ابنه الحسن بن قتادة، فلما أبعدوا بلغ الحسن أن عمه قال ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من س. (¬2) ما بين الحاصرتين من س. (¬3) في نسخة م «أصول» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 403. (¬4) في نسخة م «للمجتدين» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، نفس المرجع والصفحة؛ انظر أيضا، ابن كثير، البداية، ج 13، ص 92. (¬5) في ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 404) «أأجعلها». (¬6) في نسخة م «فأما» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، ص 404، وابن كثير، ج 13، ص 92. (¬7) كذا في نسختى المخطوطة، وورد في ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 402 (حوادث سنة 618) «وادى الفرع»، وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن وادى السباع «بين البصرة ومكة بينه وبين البصرة خمسة أميال». كما ذكر ياقوت أيضا (نفس المرجع) أن الفرع قرية من نواحى الربذة على طريق مكة بينها وبين المدينة ثمانية برد.

لبعض الجند «إن أخى مريض وهو ميت لا محالة»، وطلب منهم أن يحلفوا له على أن يكون له ملك مكة بعد أخيه قتادة. ولما بلغ ذلك الحسن أحضر عمه واجتمع إليه كثير [110 ا] من الأشراف ومماليك أبيه، وقال لعمه: بلغنى أنك فعلت كذا وكذا. فقال عمه: «لم أفعل ذلك». فأمر الحسن الحاضرين بقتل عمه فامتنعوا، وقالوا له: «أنت أمير وهذا أمير، فلا نمد (¬1) أيدينا إلى قتل أحدكما». فقال له مملوكان لأبيه قتادة: «نحن عبيدك فمرنا بما شئت». فأمرهما [بقتله (¬2)] فوضعا عمامة عمه في عنقه وقتلاه (¬3). وبلغ ذلك قتادة، فبلغ منه الغيظ كل مبلغ، وحلف ليقتلن ابنه، فكتب بعض أصحابه إلى الحسن وعرّفه ذلك وقال له: «ابدأ به قبل أن يقتلك». فعاد الحسن إلى مكة وقصد دار أبيه في نفر يسير، فرأى على الباب جمعا كثيرا فأمرهم فانصرفوا، ودخل الحسن على أبيه قتادة، فلما رآه [أبوه (¬4)] شتمه وبالغ في ذمه وتهدده. فوثب الحسن على أبيه فخنقه لوقته، ثم خرج إلى الحرم الشريف، وأحضر الأشراف وقال: «إن أبى قد اشتد مرضه وقد أمركم أن تحلفوا لى على أن أكون أميركم». فحلفوا له ثم أنه أظهر تابوتا ودفنه ليظن الناس أنه مات حتف أنفه وأنه في التابوت، وكان قد دفنه سرا. فلما استقرت له الأمارة بمكة أرسل إلى أخيه الذى بقلعة ينبع على لسان أبيه يستدعيه، فلما حضر أخوه عنده قتله أيضا، وارتكب أمرا عظيما بقتل أبيه وعمه وأخيه، فلم يمهله الله تعالى وعجل زوال أمره. ¬

(¬1) في نسخة م «تمتد» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، ج 12، ص 402. (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة م «وقتله» والصيغة المثبتة من س. (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن الأثير، ج 12، ص 403.

وكان لقتادة ابن آخر أسمه راجح وكان مقيما عند العرب بظاهر مكة، يفسد وينازع أخاه الحسن في ملك مكة. فلما قدم الحاج العراقى إلى مكة - سنة ثمان عشرة وستمائة - وكان أميرهم مملوكا من مماليك الخليفة الناصر لدين الله أسمه آق باش (¬1)، وكان حسن السيرة [مع الحاج (¬2)] في الطريق، كثير الحماية لهم، فأتاه راجح بن قتادة وبذل له وللخليفة مالا ليساعده على استنزاع مكة من الحسن، وأن يكون هو أميرها. فأجابه آق باش إلى ذلك ووصلوا إلى مكة ونزلوا بالزاهر. وتقدم راجح وآق باش إلى مكة مقاتلين لحسن بن قتادة. وكان حسن قد جمع جموعا كثيرة من العرب وغيرهم، فخرج إليهما من مكة وقاتلهما. وتقدم آق باش من بين عسكره منفردا، وصعد جبلا هناك إدلالا بنفسه، وأنه لا يقدم عليه أحد، فاحتاط به أصحاب حسن وقتلوه وعلقوا رأسه على رمح، فانهزم العسكر العراقى. واحتاط [110 ب] أصحاب حسن بالحاج لينهبوهم، فأرسل اليهم حسن عمامته أمانا لهم، فعاد أصحابه عنهم ولم ينهبوا منهم شيئا. وسكن الناس وأذن حسن لهم في دخول مكة، وإقامة مناسك الحج، فدخل الحاج وقضوا مناسكهم، وعادوا إلى العراق سالمين. وعظم على الخليفة الناصر لدين الله ما فعله حسن بن قتادة [في قتل أمير الحاج (¬3)]، فوصلت رسل حسن [بن قتادة إلى الخليفة (¬4)] يعتذر ويطلب العفو عنه فأجيب إلى ذلك. [ولم يظهر لراجح بن قتادة خبر بعد الوقعة (¬5)]. فلما كان الموسم من هذه السنة - أعنى سنة تسع عشرة وستمائة - قدم الملك المسعود بن الملك الكامل من اليمن إلى مكة حاجا، فلما كان يوم عرفة وقد ¬

(¬1) في نسخة م «آق تاش» وبدون تنقيط في نسخة س، وورد الأسم في ابن الأثير، ج 12، ص 401، وفى ابن كثير، ج 13، ص 92 «آقباش». (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن الأثير، ج 12، ص 401. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

تقدمت أعلام الخليفة لترفع على الجبل، تقدم الملك المسعود بعساكره ومنع من ذلك، وأمر بتقديم أعلام أبيه السلطان الملك الكامل الواردة من الديار المصرية على أعلام الخليفة، ولم يقدر أصحاب الخليفة على منعه من ذلك، ثم رجع إلى اليمن بعد قضاء مناسك الحج. ولما بلغ الخليفة ذلك عظم عليه، وراسل السلطان الملك الكامل في إنكار ذلك، فوقع الاعتذار عنه، فقبل الخليفة العذر. وأقام الملك المسعود باليمن بعد قدومه إليها مدة يسيرة، ثم حدثته نفسه بقصد مكة وانتزاعها من حسن بن قتادة، وكان حسن قد أساء السيرة في الأشراف ومماليك أبيه وتفرقوا عنه، ولم يبق عنده إلا نفر قليل. فقدم الملك المسعود مكة في رابع شهر ربيع الأول (¬1) من سنة عشرين وستمائة، فلقيه حسن بن قتادة في المسعى، وقاتله ببطن مكة، فانهزم الحسن وفارق مكة بمن معه. وملك الملك المسعود مكة واستولى عليها، وأمر أن ينبش قبر أبى عزيز قتادة ويحرق، فنبشوه فظهر التابوت الذى دفنه الحسن والناس ينظرون اليه، فلم يروا فيه شيئا، فعلموا حينئذ أن الحسن كان دفن أباه سرا، وأنه لم يجعل في التابوت شيئا. وذاق الحسن وبال أمره [وقطيعة رحمه (¬2)] بقتله أباه وعمه وأخاه، وولى الملك المسعود بمكة واليا من قبله وعاد إلى اليمن. ¬

(¬1) في نسخة س «سابع شهر ربيع الأول» بينما ذكر ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 413 حاشية 2) ونقل عنه الفاسى (العقد الثمين، ج 4 ص 168 - 169) أن الملك المسعود وصل إلى مكة «رابع ربيع الآخر». (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ابن الأثير، ج 12، ص 413 «وذاق الحسن عاقبة قطيعة الرحم».

ودخلت سنة عشرين وستمائة

ودخلت سنة عشرين وستمائة والسلطان الملك الأشرف مظفر الدين موسى مقيم بالديار المصرية عند أخيه السلطان الملك الكامل، مجتمعان على مسراتهما ومتنزهاتهما وأخوهما الملك المعظم [111 ا] شرف الدين عيسى مقيم بسلمية مستول عليها وعلى المعرة من أعمال حماة، مصمم العزم على حصار حماه [وأخذها (¬1)]. وتقدم الملك المعظم إلى العرب بقطع الميرة عن حماه ومنع من يقصدها من الجند لانجاد صاحبها [الملك الناصر (¬2)]، وجعل طريق القوافل على سلمية. وتحدث الناس بأن الأمير حسام الدين بن أمير التركمان قد اتفق مع الملك المعظم وأنه قد صاهر الأمير ناصر الدين منكورس بن ناصح الدين خمارتكين صاحب صهيون. وكان الأمير سيف الدين على بن قلج (¬3) هو الذى أشار على الأتابك شهاب الدين طغريل بترتيب ابن أمير التركمان بجبلة واللاذقية وضمنه. فلما تحدث الناس بذلك توجه الأمير سيف الدين بن قلج إلى ابن أمير التركمان وتقدم إليه بتسليم جبلة واللاذقية إليه فلم يمتنع من ذلك حسام الدين، فعلم بذلك أنه لم يكن لما ذكر صحة، فترك سيف الدين باللاذقية وجبلة أخاه عماد الدين بن قلج، واستصحب حسام الدين معه إلى حلب فأقام بها إلى أن زال الأستشعار من الملك المعظم وردتا إليه. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسختى المخطوطة (قليج) وسوف يرد الأسم (قلج) بعد ذلك في نسخة م وكذلك في ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 193 والمقريزى، السلوك، ج 1، ص 284، 289، 321، 326.

ذكر رحيل الملك المعظم عن سلمية ورجوعه إلى دمشق وابتداء الوحشة بينه وبين أخويه باطنا

ذكر رحيل الملك المعظم عن سلمية ورجوعه إلى دمشق وابتداء الوحشة بينه وبين أخويه باطنا ولما وصلت الأخبار إلى الديار المصرية إلى الملك الأشرف بما فعله أخوه الملك المعظم [بالملك الناصر (¬1)] عظم ذلك عليه جدا وتنمر منه، وخاطب في ذلك أخاه السلطان الملك الكامل وقال: «إن تركنا الملك المعظم يحاصر حماة ويأخذها، تعدى ذلك إلى غيرها، وأطمعته نفسه بالاستيلاء على البلاد كلها، والمصلحة الأنكار عليه وتهديده وتخويفه من مغبة فعله، والتقدم إليه بالرجوع إلى بلاده، وأن يسلم بلاد صاحب حماة إليه». فوقع الاتفاق على أن كاتب الملك الأشرف الحاجب حسام الدين على الموصل، وهو نائب الملك الأشرف في بلاده، بأن يمضى إلى حلب ويجتمع بالأتابك شهاب الدين طغريل ويعلمه إن الملك الأشرف كتب إليه في ترحيل الملك المعظم عن بلاد صاحب حماة، وأن يعلم الأتابك أن هذا الذى وقع لم يكن يرضى السلطانين (¬2) الملك الكامل والملك الأشرف وأنهما لا يوافقانه على ذلك [111 ب]. ثم سار الحاجب إلى الملك المعظم [بعد أن أخبر الأتابك شهاب الدين ذلك (¬3)] في هذا المعنى. وأرسل السلطان الملك الكامل الأمير ناصح الدين أبا المعالى الفارسى - أحد الأمراء الحلبيين وكان بمصر في خدمة الملك الأشرف - إلى الملك المعظم في [هذا (¬4)] المعنى. فاجتمعا معا بالملك المعظم وقال له ناصح الدين الفارسى: «مولانا السلطان الملك الكامل يأمر المولى بالرحيل، وترك الخلاف». فقال: «السمع والطاعة». فترددت الرسالة بين الملك المعظم والملك الناصر صاحب ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة س «لم يكن بعلم الملكين». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر انتزاع سلمية من الملك الناصر صاحب حماه وتسليمها إلى أخيه الملك المظفر تقى الدين محمود

حماه على يد عفيف الدين عبد الله السلمانى بن مراخل، وهو ابن أخى القاضى حجة الدين قاضى حماه، وكان متقدما عند ملوك بنى أيوب متوجها عندهم، بسبب مكارمته لهم ولغامانهم ولكل من يرد إلى سلمية من جهتهم. فتقررت قواعد الصلح بين الملك المعظم وابن أخته (¬1) الملك الناصر على دخن. ورحل الملك المعظم عن سلمية مغضبا محنقا على أخويه، وكان ذلك ابتداء الوحشة بينه وبينهما، وكانت أطماعه قد تعلقت بالاستيلاء على حماه وبلادها وإضافتها (¬2) إلى ممالكه. وفى هذه السنة نقل تابوت السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازى صاحب حلب - رحمه الله - من الحجرة [التي دفن (¬3)] بها بقلعة حلب إلى القبة التي بنيت له بالمدرسة التي أنشأها الأتابك شهاب الدين طغريل له ولدفنه (¬4) بها، وذلك في مستهل شعبان. ذكر انتزاع سلمية من الملك الناصر صاحب حماه وتسليمها إلى أخيه الملك المظفر تقى الدين محمود وكان الملك المظفر [محمود بن الملك المنصور محمد بن تقى الدين عمر (¬5)]- كما ذكرنا (¬6) - مقيما عند خاله السلطان الملك الكامل بالديار المصرية. وكان الملك الكامل يؤثر تمليكه حماة، إذ هو ولى عهد أبيه الملك المنصور والأكبر من ¬

(¬1) في نسخة م «ابن أخيه» والصيغة المثبتة وهى الصحيحة من نسخة س، انظر ابو الفدا (المختصر ج 3، ص 126). (¬2) في المتن «واستضافتها» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من س، انظر أيضا، ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 194. (¬4) عرفت هذه المدرسة بالمدرسة الأتابكية نسبة إلى مؤسسها الأتابك شهاب الدين طغريل عتيق الملك الظاهر، وقد بنيت هذه المدرسة سنة 620 هـ‍، انظر محمد كرد على، خطط الشام، ج 6، ص 114. (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح من أبى الفدا، المختصر، ج 3، ص 132. (¬6) انظر ما سبق ص 86.

ذكر وصول الملك الأشرف إلى حلب بالخلع السلطانية والتقليد للسلطان الملك العزيز بن الملك الظاهر رحمه الله

أولاده، ولخدمته السلطان الملك الكامل وانتمائه إليه، لكن الملك الأشرف غير مجيب إلى ذلك لانتماء الملك الناصر [صاحب حماه (¬1)] إليه. وجرت بين السلطانين الملك الكامل والملك الأشرف في ذلك مراجعات كثيرة. وآخر ما استقر الأمر بينهما عليه أن ينتزع الملك المظفر من أخيه بعض بلاد [112 ا] والده، فلم يسمح الملك الأشرف له إلا بسلمية وحدها، وتبقى حماه والمعرة وبعرين بيد الملك الناصر. فوقع الاتفاق على ذلك، فتسلم الملك المظفر سلمية وسير إليها من قبله الأمير حسام الدين أبا على بن محمد بن أبى على الهذبانى رحمه الله، وأمره بعمارة القلعة التي في داخلها، فوصل حسام الدين إلى سلمية وشرع في عمارة قلعتها وتحصينها. ذكر وصول الملك الأشرف إلى حلب بالخلع السلطانية والتقليد للسلطان الملك العزيز بن الملك الظاهر رحمه الله وفى هذه السنة رحل السلطان الملك الأشرف من الديار المصرية متوجها إلى بلاده، واستصحب معه من السلطان الملك الكامل الخلع السلطانية وتقليد السلطنة بممالك حلب والسناجق (¬2) للملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر. ولما وصل إلى دمشق التقاه أخوه الملك المعظم وأنزله بقلعة دمشق [فأقام عنده ثلاثة أيام] (¬3). ووصل [الملك الأشرف (¬4)] إلى حلب في شوال من هذه السنة، والتقاه الملك العزيز صاحب حلب - رحمه الله - وعمره يومئذ عشر سنين. ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من أبى الفدا، المختصر، ج 3، ص 132. (¬2) عن السنجق، انظر ما سبق ابن واصل، ج 1، ص 117 حاشية 2. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح.

ذكر الحرب بين عسكر خلاط والكرج

ونزل الملك الأشرف بخيمة قبلى المقام وشرقيه بالقرب من قرنبيا (¬1). وجمع الملك العزيز أهل البلد من الأكابر والأمراء والمعممين ودخلوا الخيمة في خدمة الملك العزيز، ومد السماط للناس فأكلوا. فلما رفع السماط وخرج الناس أحضرت الخلع الكاملية وأفيضت على الملك العزيز، ووقف الملك الأشرف في خدمته، ثم أحضر له المركوب فركبه، وحمل الملك الأشرف الغاشية بين يديه حتى خرج من الخيمة وركب إلى القلعة. وأقام الملك الأشرف بحلب عشرة أيام، واتفق رأيه مع الأمراء على إخراب قلعة اللاذقية، فسار العسكر إليها فخربوها، ثم توجه الملك الأشرف إلى حران. ذكر الحرب بين عسكر خلاط والكرج [كان (¬2) صاحب سرمارى (¬3) في طاعة الملك المظفر شهاب الدين صاحب خلاط. وكنا ذكرنا تمليك الأشرف [موسى بن العادل (¬4)] أخاه الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل [112 ب] خلاط وبلادها وميافارقين (¬5)، وكان قد جعله ولى عهده. فقدم في هذه السنة صاحب سرمارى على الملك المظفر شهاب الدين. وكان صاحب سرمارى لما توجه إلى خدمة الملك ¬

(¬1) في الأصل «فرنبيا» وبدون تنقيط في س والصيغة المثبتة من ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 194. وعرف سامى الدهان هذه القرية بقوله أنها «مشهد تره بين قرية النيرب وحلب قيل انه محرف عن مقر الأنبياء». (¬2) ورد ما بين الحاصرتين مختصرا قليلا في نسخة س مع بعض التقديم والتأخير، انظر أيضا، ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 414 حوادث سنة 620. (¬3) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن سرمارى قلعة عظيمة وولاية واسعة بين تفليس وخلاط وأن بينها وبين بخارا قرية تسمى سرمارى أيضا. (¬4) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬5) انظر ما سبق ص 89 وما بعدها.

المظفر استخلف] بها أميرا من أمرائه، فجمع ذلك الأمير جمعا [كثيرا (¬1)] وسار إلى [بلاد (¬2)] الكرج، ونهب عدة قرى وعاد. فجمع صاحب دوين (¬3)، وهو من أكبر أمراء الكرج، عسكرا، وسار إلى سرمارى، فحصرها أياما ونهب بلادها [وسوادها (¬4)] ورجع. ولما بلغ ذلك صاحب سرمارى عاد إليها، فوصل إليها في اليوم الذى رجع فيه الكرج عنها، فأخذ عسكرا وتبع الكرج، فأوقع بساقتهم فقتل منهم وغنم، واستنقذ منهم بعض ما أخذوه من الغنائم [ورجع (¬5)]. ثم جمع صاحب دوين جمعا كثيرا من الكرج وسار إلى سرمارى ليحصرها، فوصل الخبر بذلك إلى صاحبها فحصّنها وجمع ما يحتاج إليه من الذخائر. وأتاه من أخبره أن الكرج بواد ضيق، فسار بجميع عسكره وفرقه فرقتين: فرقة في أعلى الوادى وفرقة في أسفله، ثم حملوا على الكرج وهم غافلون، ووضعوا السيف فيهم، فقتلوا وأسروا خلقا [كثيرا (¬6)]. وكان في جملة الأسرى صاحب دوين نفسه في جماعة من مقدمى جنده. وسلم من هرب منهم في أسوأ حال. ولما بلغ ذلك ملك الكرج أرسل إلى الملك الأشرف [موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة، وهو الذى أعطى خلاط وأعمالها الأمير شهاب الدين (¬7)] ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) دوين بلدة من نواحى أران في آخر حدود أذربيجان بقرب تفليس. (انظر ياقوت، معجم البلدان)، وذكر ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 414) أن صاحب دوين في هذه السنة اسمه شلوة. (¬4) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) اضيف ما بين الحاصرتين من ابن الأثير، نفس المرجع والجزء، ص 415 وهو مصدر ابن واصل.

ذكر ما تجدد ببلاد العجم فى هذه السنة

يقول له: «كنا نظن أننا صلح، والآن فقد عمل صاحب سرمارى هذا العمل، فان كنا على الصلح فنريد إطلاق أصحابنا من الأسر، وإن كان الصلح قد انفسخ [بيننا (¬1)] فتعرفونا (¬2) ذلك حتى ندبر أمرنا». فأرسل الملك الأشرف إلى صاحب سرمارى يأمره (¬3) بإطلاق الأسرى، وتجديد الصلح مع الكرج. ففعل ذلك، وأطلق الأسرى واستقرت قاعدة الصلح. ذكر ما تجدد ببلاد العجم (¬4) في هذه السنة كنا قد ذكرنا (¬5) ملك التتر لبلاد العجم وما فعلوه فيها من السفك والنهب، وما جرى بينهم وبين السلطان جلال الدين منكبرتى بن السلطان علاء الدين محمد ابن تكش وتوجهه إلى بلاد الهند هربا منهم لما اختلف عليه عسكره [113 ا]. وكان قد ملّك أخاه غياث الدين بن علاء الدين كرمان، فلما توجه جلال الدين إلى الهند تغلب غياث الدين على الرى واصفهان وهمذان وغير ذلك من عراق العجم وهى البلاد المعروفة ببلاد الجبل. وكان مع غياث الدين في خدمته خاله إيغان طايسى (¬6)، وهو أكبر أمير معه، لا يصدر [غياث الدين (¬7)] إلا عن رأيه والحكم إليه في جميع المملكة. فلما ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬2) في نسخة م «فتعرفوننا» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) في نسخة م «فأمره» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، ج 12 ص 415. (¬4) في نسخة م «بالعجم» والصيغة المثبتة من س. (¬5) انظر ما سبق، ص 61 وما بعدها. (¬6) في نسخة م «الغان طايشى»، وفى نسخة س «ايغان طاسى» وفى ابى الفدا (المختصر، ج 3، ص 133) «يعيان طابسى»، وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 415) «إيغان طائيسى» وقد ورد الاسم «يغان طايسى» في كتاب النسوى، سيرة السلطان جلال الدين منكبرتى، ص 144 - 149، 190، 193 - 194، 198، 237. (¬7) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

عظم شأنه حدثته نفسه بالإستيلاء على الملك، وحسن له ذلك غيره وأطمعه فيه. وقد ذكر أن الخليفة الناصر لدين الله أقطعه البلاد سرا، وأمره بذلك، فقويت نفسه على الخلاف واستفسد جماعة من العسكر واستمالهم إليه. فلما تم أمره أظهر الخلاف على غياث الدين بن خوارزم شاه، وخرج عن طاعته، وقصد بلاد أذربيجان وبها مملوك من مماليك مظفر الدين أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران، يقال له بغدى، قد عصى على أستاذه أزبك وصار يفسد في البلاد، ويقطع الطريق، وينهب القرى. وانضاف إليه جمع كثير من المفسدين ومعه مملوك آخر يقال له أيبك الساقى (¬1) قد وافقه على الفساد والعصيان، فاجتمع إيغان طايسى خال غياث الدين بهما، [واتفقوا (¬2)] وساروا جميعا إلى غياث الدين بن خوارزم شاه ليقاتلوه، ويملكوا البلاد ويخرجوه منها. فجمع غياث الدين عسكره والتقوا [واقتتلوا قتالا شديدا (¬3)]، فانهزم ايغان طايسى ومن معه وقتل من عسكره وأسر خلق كثير. وعاد المنهزمون إلى أذربيجان على أقبح حال، وأقام غياث الدين في بلاده التي بيده. وعم الجراد في هذه السنة أكثر البلاد فأهلك كثيرا من الغلات والخضروات بالعراق والجزيرة وديار بكر والشام. ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وورد الاسم في ابن الاثير، الكامل، ج 12، ص 416 «أيبك الشامى». (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ودخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة

ودخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة والممالك على ما كانت عليه في السنة الماضية ذكر عود التتر إلى الرى وهمذان كان أهل عراق العجم بعد أن قتلت فيهم الطائفة المغربة (¬1) من التتر ما قتلوا (¬2)، وسبوا [ما سبوا (¬3)] ثم رجعوا عنهم، قد عاد من سلم منهم من أهل البلاد من المسلمين [113 ب] إلى البلاد وعمروها واطمأنوا، وظنوا أن التتر لم تبق لهم معاودة إلى البلاد. فلم يشعروا في هذه السنة إلا والتتر قد وصلوا إليهم في أولها، فلم يمتنعوا عنهم، فوضعوا في أهل الرى السيف وقتلوهم كيف شاؤوا (¬4). ثم ساروا إلى ساوة (¬5) ففعلوا بها كذلك، ثم قصدوا قم (¬6) وقاشان، وكانتا قد سلمتا من التتر في النوبة الاولى؛ فأنهم لم يقربوهما (¬7) في تلك المرة، ولم يصب ¬

(¬1) انظر ما سبق، ص 57. (¬2) في نسخة م «وقتلوا» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة م «شا» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 419 (حوادث سنة 621). (¬5) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن ساوه مدينة حسنة بين الرى وهمذان وأنه كان بها دار كتب «لم يكن في الدنيا أعظم منها» حرقها التتر. (¬6) قم مدينة كبيرة من بلاد الجبل حسنة بين ساوة واصبهان، وتذكر عادة مع مدينة قاشان وبينهما اثنا عشر فرسخا، انظر ياقوت، معجم البلدان؛ أبوا الفدا، تقويم البلدان، ص 420 - 421. (¬7) في نسختى المخطوطة «يقربوها» والصيغة المثبتة من ابن الأثير، ج 12، ص 419.

أهلها أذى، فأتوهما في هذه المرة وقتلوا أهلهما وخربوهما، وألحقوهما بغيرهما من البلاد في الخراب. ثم ساروا في البلاد يخربون وينهبون ويقتلون، ثم قصدوا همذان وكان قد اجتمع بها كثير من الذين سلموا من أهلها، فأبادهم التتر قتلا وسبيا. وخربوا البلاد وكانوا لما وصلوا إلى الرى وجدوا بها عسكرا كثيرا من عسكر خوارزم شاه، فكبسوهم وقتلوا فيهم، وهرب من بقى منهم إلى أذربيجان ونزلوا بأطرافها. فلم يشعروا إلا والتتر قد كبسوهم [مرة ثانية (¬1)] ووضعوا فيهم السيف، فولوا منهزمين. ووصلت طائفة منهم إلى توريز وتفرق الباقون. ووصل التتر إلى قريب توريز وأرسلوا إلى صاحبها مظفر الدين أزبك بن البهلوان يقولون له: «إن كنت موافقنا فسلم إلينا من عندك من الخوارزمية وإلا فتعرفنا إنك غير موافق لنا». فعمد إلى من عنده من الخوارزمية فقتل بعضهم وأسر بعضهم، وحمل الأسرى والرؤس إلى التتر، وأنفذ معهم (¬2) من الأموال والثياب والدواب شيئا كثيرا، فعادوا عن بلاده طالبين خراسان. وقد ذكر أن هذه الطائفة من التتر كانوا ثلاثة آلاف فارس، وكان الخوارزميه الذين انهزموا ستة آلاف فارس، وعسكر أزبك [مظفر الدين بن البهلوان (¬3)] صاحب أذربيجان أكثر من الجميع، فألقى الله تعالى الخذلان في الكل، ولم يقدر لهم الدفع عن أنفسهم فنعوذ بالله من الخذلان. ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة م «معهما» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر استيلاء غياث الدين بن خوارزم شاه على بلاد فارس

ذكر استيلاء غياث الدين بن خوارزم شاه على بلاد فارس قد ذكرنا استيلاء غياث الدين على عراق العجم مضافة إلى بلاد كرمان [114 ا]، وذكرنا ما جرى له مع خاله إيغان طايسى وانتصاره عليه، وكان قد جعل مدينه اصفهان كرسى مملكته (¬1)، وأقام بها وحصنها. وكان التتر في المرة الاولى قد حصروا أصفهان فلم يقدروا عليها لكثرة الخلق بها، وعظمها وحصانتها، فرجعوا عنها. وفى أول هذه السنة قصد غياث الدين مملكة فارس وصاحبها أتابك سعد ابن دكلا. ولما صار غياث الدين في أطرافها خافه أتابك سعد فهرب منه إلى اصطخر (¬2) واحتمى بها، وسار غياث الدين إلى مدينة شيراز، وهى كرسى مملكة فارس وأعظمها، فملكها بغير تعب، واستولى على أكثر بلاد فارس، ولم يبق بيد أتابك سعد غير الحصون المنيعة، فلما طال الأمر على سعد صالح غياث الدين على أن يكون لسعد من البلاد قسم اتفقوا عليه، ولغياث الدين الباقى. وأقام غياث الدين بشيراز وازداد رغبته في المقام بها وعزما عليه (¬3)، لما سمع أن التتر قد طرقوا الرى والبلاد التي له وأخربوها. ¬

(¬1) في نسخة م «ملكه» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن اصطخر «من أعيان حصون فارس ومدنها وكورها» وينسب اليها أبو اسحاق ابراهيم بن محمد الفارسى الاصطخرى صاحب كتاب المسالك والممالك. (¬3) في ابن الأثير الذى ينقل منه ابن واصل «وازداد إقامة وعزما»، انظر الكامل، ج 12، ص 421.

ذكر عصيان الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل على أخيه الملك الأشرف بخلاط

ذكر عصيان الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل على أخيه الملك الأشرف بخلاط كنا قد ذكرنا (¬1) أن الملك الأشرف [موسى بن العادل أبى بكر بن أيوب (¬2)] أنعم على أخيه الملك المظفر شهاب الدين غازى خلاط وأعمالها، وهى مملكة عظيمة جدا، وهى التي يسمى أقليمها بأرمينية، وتناهز مملكته على ما قيل مملكة مصر. وأضاف إليه ميافارقين وحانى وجبل جور، ولم يقنع [الملك الأشرف (¬3)] له بذلك حتى جعله ولى عهده في جميع بلاده، وحلف له العساكر وجميع النواب بالبلاد، إذ لم يكن للملك الأشرف ولد ذكر. وكنا ذكرنا (¬4) وقوع الوحشة بين الملك المعظم صاحب دمشق وأخويه الملك الكامل والملك الأشرف بسبب ما قدمنا ذكره من ترحيلهما إياه عن بلاد حماه. وكان قد طال مقام الملك الأشرف عند أخيه الملك الكامل، وبلغه عنهما اتفاق وتصاف شديد، وتوهم منهما أنهما يقصدان أخذ بلاده منه، فاستوحش لذلك فأرسل إلى مظفر الدين كوكبورى بن زين الدين على كوجك صاحب إربل يدعوه إلى الأتفاق معه، ويأمره أن يقصد بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ويحصره. وكان بدر الدين [114 ب]- كما قدمنا ذكره - منتميا إلى الملك الأشرف، وكان مظفر الدين يعادى بدر الدين لؤلؤ ويبغضه لقلعه البيت الأتابكى واستيلائه على ولدى الملك القاهر؛ وهما ابنا بنت مظفر الدين التي هى من ربيعه خاتون أخت الملك العادل، ولأخذه من زوج إبنته الأخرى ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 89 - 91. (¬2) الأضافة للتوضيح. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) انظر ما سبق ص 127 - 128.

ذكر انتصار الملك الأشرف على أخيه الملك المظفر وانتزاع خلاط منه ثم عفوه عنه وإقراره على ميافارقين

عماد الدين زنكى بن نور الدين بلاده. فأجاب مظفر الدين إلى ذلك وتجهز لقصد الموصل وحصارها. وكاتب الملك المعظم أيضا أخاه الملك المظفر شهاب الدين يحسن له الخروج على الملك الأشرف ومحاربته، ووعدهما من نفسه أنه يخرج من دمشق في عساكره ويقصد البلاد الشرقية، وينتزعها من يد الملك الأشرف. فأجاب الملك المظفر [شهاب الدين غازى (¬1) بن العادل] أخاه الملك المعظم إلى ذلك، وعصى بخلاط على أخيه الملك الأشرف وأظهر مغاضبته (¬2)، والتجنى عليه، والخروج عن طاعته. فراسله الملك الأشرف [لما سمع بذلك (¬3)]، واستماله وعاتبه على ما فعل فلم يرعو (¬4) إلى ذلك، وأصر على خلافه. واتفق الملك المعظم والملك المظفر ومظفر الدين صاحب إربل على محاربة الملك الأشرف. ثم رحل الملك المعظم في عساكره من دمشق، ونزل القطنه (¬5) في البرية على نية قصد الشرق. ذكر انتصار (¬6) الملك الأشرف على أخيه الملك المظفر وانتزاع خلاط منه ثم عفوه عنه وإقراره على ميافارقين ولما جرى ما ذكرناه أرسل الملك الأشرف إلى أخيه الملك الكامل يعرفه الحال، فأرسل الملك الكامل إلى أخيه الملك المعظم يقول له: «إن ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) في نسخة م «مخاطبته» وهو خطأ واضح والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) الرعو هو «النزوع عن الجهل وحسن الرجوع عنه»، انظر القاموس المحيط. (¬5) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن «قطنا من قرى دمشق». (¬6) في نسخة س «غضب» والصيغة المثبتة من م.

تحركت من بلدك سرت إليه (¬1) وأخذته منك»، فلما وصلت (¬2) إلى الملك المعظم رسالة أخيه بذلك خاف وعاد إلى دمشق. وجمع مظفر الدين صاحب إربل العساكر وسار إلى الموصل وحصرها ونازلها يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة من هذه السنة أعنى سنة إحدى وعشرين وستمائة؛ ظنا منه أن الملك الأشرف إذا سمع بمنازلة الموصل لا يقصد خلاط، ويخرج عليه [إخوته] (¬3) الملك المظفر والملك المعظم، وتتخبط أحواله. فلما نازل [مظفر الدين (¬4)] الموصل لم يجد فيها مطمعا لأن صاحبها بدر الدين [لؤلؤ (¬5)] كان قد أحكم أمورها من استخدام الجند [على الأسوار (¬6)] والأستكثار [115 ا] من آلات الحرب والذخائر. وكان مما قوى طمع مظفر الدين في الموصل إن أكثر عساكرها سيرهم بدر الدين لؤلؤ إلى الملك الأشرف نجدة له على أخيه [الملك المظفر (¬7)]، فقل العسكر بها. وكان الغلاء شديدا في البلاد جميعها، بسبب ما ذكرنا من كثرة الجراد (¬8). وأقام مظفر الدين محاصرا لها عشرة أيام ثم رحل عنها يوم الجمعة لسبع (¬9) ليال بقين من جمادى الآخرة. وكان سبب رحيله عنها ما رآه من ¬

(¬1) كذا في م وفى ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 422 وفى نسخة س «سيرت إليه العساكر». (¬2) في نسخة م «وصل» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن الأثير، ج 12، ص 423. (¬7) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) انظر ما سبق ص 133. (¬9) في الأصل وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 423) «لتسع» والصيغة المثبتة من نسخة س وهى الصيغة الصحيحة لأن 23 جمادى الآخرة سنة 621 يوافق يوم الجمعة 12 يوليو سنة 1224.

قوتها، وما بلغه من إستيلاء الملك الأشرف على خلاط. فرحل [مظفر الدين (¬1)] عائدا إلى بلده وأقام بالزاب. وكان الملك الأشرف قد استدعى عسكر حلب فسار إليه عسكر قوى فيهم سيف الدين قلج وعلم الدين قيصر وحسام الدين بلدق، وسار بالعساكر إلى خلاط ومعه (¬2) مع عسكر حلب عساكر الجزيره وعسكر الموصل. ولما قرب من خلاط خافه أخوه الملك المظفر، ولم يكن له قوة على لقائه ومحاربته، ففرق عساكره في البلاد لتحصينها، وانتظر أن يسير مظفر الدين صاحب إربل إلى ما يجاوره من الموصل وسنجار، وأن يسير أخوه الملك المعظم إلى بلاد الملك الأشرف فيضطر حينئذ الملك الأشرف إلى العود عنه. فلم يحصل له ما تمناه من ذلك. وحصر الملك الأشرف خلاط، وكان أهل البلد يحبونه لعدله وحسن سيرته وفرط كرمه وسوء سيرة الملك المظفر شهاب الدين. فلما نازلها الملك الأشرف سلمها أهلها إليه يوم الأثنين ثانى عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، وامتنع الملك المظفر بالقلعة. فلما جن الليل نزل إلى أخيه الملك الأشرف معتذرا إليه، فعاتبه الملك الأشرف ولم يعاقبه على ما ارتكب من عصيانه، وأبقى عليه ميافارقين. وهذه مكرمة للبيت الأيوبى لم يكن مثلها لأحد من الملوك قبلهم، فإن من كان قبلهم، وخصوصا آل سلجوق، كان إذا ظفر [أحد (¬3)] منهم بأخيه أو ابن عمه الخارج عليه لا يبقيه أصلا، بل إما أن يوسطه بالسيف أو يخنقه بوتر القوس، وأحسن أحواله أن يعتقله ويضيق عليه إلى أن يموت كمدا. وسيأتى من أخبار هذا البيت ما يؤكد ما ذكرناه. ثم ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة س «وتبعه». (¬3) ما بين الحاصرتين مذكور في هامش نسخة م وفى نسخة س «أحدهم».

عاد الملك الأشرف وعساكر حلب في شهر رمضان من هذه السنة [115 ب]، وشتى الملك الأشرف بسنجار. وفى هذه السنة انهدم من سور [قلعة (¬1)] حلب الأبراج التي تلى [باب (¬2)] الجبل من حد المركز وهى عشرة أبراج، وتساقطت مع أبدانها وذلك في سلخ ذى القعدة، ووافق ذلك شدة البرد في الاربعينيات (¬3)، فاهتم الأتابك شهاب الدين طغريل بعمارتها وتحصيل آلاتها، ولازمها بنفسه حتى أتمها. وفى هذه السنة ورد إلى والدى - رحمه الله - كتاب من السلطان الملك المعظم - رحمه الله - يستدعيه إلى خدمته على يد عفيف الدين بن مراحل السلمانى (¬4). وكان مترددا في الرسائل بين الملك المعظم والملك الناصر صاحب حماه، فسافرنا من حماه في أواخر شعبان، فوجدنا منه - رحمه الله - إقبالا عظيما. ولازم والدى الأجتماع به والحضور في خدمته. وكان الملك المعظم - رحمه الله - في أكثر الأوقات يحاضر الفقهاء والعلماء ويباحثهم في دقائق العلوم، فطلب والدى منه المقام بالقدس الشريف لينقطع فيه للعباده. وتوقف الملك المعظم في إجابته إلى ذلك وقال للقاضى نجم الدين خليل بن المصمودى الحموى قاضى العسكر: «قل له يقيم بدمشق لأوليه أحد المنصبين القضاء أو الخطابة بجامع دمشق»، فأبى والدى إلا المضى إلى القدس. ففوض السلطان [الملك ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3 ص 196. (¬2) ما بين الحاصرتين من ابن العديم، نفس الجزء والصفحة، انظر حاشية 2: إذورد فيها أن الملك الظاهر فتح في سور القلعة بابا يسمى باب الجبل شرقى باب القلعة. (¬3) هى مدة أربعين يوما في الشتاء يكون البرد فيها قارسا، انظر: Dozy, Supp .Dict .Ar, I, P. 504. (¬4) عن أخيه القاضى حجة الدين بن مراحل، انظر ما سبق ص 118.

المعظم (¬1)] إليه تدريس المدرسة الناصرية الصلاحية (¬2)، وهى المدرسة التي كان فوض صلاح الدين - رحمه لله - تدريسها إلى القاضى بهاء الدين بن شداد. ووليها بعده جماعة أكابر منهم الشيخ فخر الدين بن عساكر (¬3) والشيخ تقى الدين بن الصلاح (¬4) رحمهما الله. فمضينا إلى القدس في أوائل سنة إثنتين وعشرين وستمائه وأقمنا به. وفى هذه السنة سير الملك المعظم ولده الملك الناصر صلاح الدين داود إلى إربل ليكون عند عمته ربيعة خاتون بنت أيوب زوجة مظفر الدين بن زين الدين. وقصد بذلك توفيق (¬5) الحال بينه وبين مظفر الدين، وذلك بعد إتفاقهما على المعاضده والتظاهر والتوازر، وأن يكونا يدا واحدة وذلك لما استحكم من الوحشة بين الملك المعظم وأخويه الملك الكامل والملك الأشرف. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) بنى هذه المدرسة السلطان نور الدين محمود بن زنكى بالقرب من البيمارستان النورى، ونسبت إلى الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب، انظر النعيمى، الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 331 - 333. (¬3) كان ابو منصور عبد الرحمن بن محمد الملقب فخر الدين بن عساكر إمام وقته في علمه ودينه ودرس بالقدس ثم دمشق، وتخرج عليه جماعة من الأئمة والفضلاء وتوفى سنة 620 هـ‍، انظر ابن خلكان، وفيات، ج 1، ص 277 - 278. (¬4) في نسخة س «تقى الدين بن صلاح الدين» والصواب الصيغة المثبتة من نسخة م. وتقى الدين بن الصلاح هو الفقيه الشافعى أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الكردى الشهرزورى أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال، قام بالتدريس في عدة مدارس بدمشق منها المدرسة الناصرية الصلاحية والمدرسة الرواحية ودار الحديث وتوفى تقى الدين بدمشق سنة 643 هـ‍ - 1245 م انظر ابن خلكان، وفيات، ج 1، ص 312 - 313. (¬5) في نسخة م «توثيق» والصيغة المثبتة من نسخة س.

ودخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة

ودخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة والممالك على ما كانت عليه في السنة الماضية. [116 ا] ذكر وصول السلطان جلال الدين منكبرتى بن خوارزمشاه من الهند إلى البلاد وقوة أمره كنا قد ذكرنا (¬1) ما جرى بين السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه وبين التتر بعد وفاة والده السلطان علاء الدين محمد بن تكش وانتصاره عليهم، وكسره لمن كسر منهم، ثم ذكرنا اختلاف عسكره عليه وتوجهه إلى بلاد الهند. فلما كانت هذه السنة، قدم [جلال الدين بن خوارزم شاه] (¬2) من الهند ووصل إلى كرمان ثم وصل إلى أصفهان، وكانت - كما ذكرنا (¬3) - قد امتنعت على التتر لعظمها وكثرة أهلها. وكانت عراق العجم كما ذكرنا (¬4) بيد أخيه غياث الدين، وقد سار عنها إلى بلاد فارس وملك بعض بلادها، وبقى بعضها بيد أتابك سعد. فلما وصل السلطان جلال الدين إلى أصفهان ملكها واستولى على عراق العجم، ثم سار إلى فارس واستعاد ما أخذه أخوه منها، وسلمه إلى صاحبها سعد ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 61 وما بعدها. (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) انظر ما سبق ص 136. (¬4) انظر ما سبق ص 132.

ابن دكلا، ودخل أتابك سعد وأخوه غياث الدين في طاعته. ثم سار جلال الدين إلى خوزستان، وكانت بيد الخليفة [الإمام (¬1)] الناصر لدين الله، فحاصر مدينة تستر في المحرم من هذه السنه. وكان بها مملوك الخليفة مظفر الدين المعروف بوجه السبع، فحصره جلال الدين وضيق عليه. وبالغ [الأمير (¬2)] وجه السبع في حفظ تستر وتفرق عسكر جلال الدين (¬3) ينهبون، حتى وصلوا إلى بادرايا (¬4) وباكسايا (¬5) وغيرهما من أعمال بغداد. وانحدر بعضهم إلى ناحية البصرة فسار اليهم والى البصرة وهو بلتكين من قبل الخليفه، فأوقع بهم وقتل منهم جماعه. ودام حصار جلال الدين لمدينة تستر شهرين، ثم رحل عنهم بغته. وكان بالقرب منه عسكر الخليفه مع الأمير جمال الدين قشتمر، مملوك الخليفه، فلم يجسر على التقدم إليه. ثم سار جلال الدين إلى بعقوبا (¬6)، وهى قرية كبيرة مشهورة بينها وبين بغداد نحو سبعة فراسخ. ولما وصل الخبر بذلك إلى بغداد تجهزوا للحصار، وأصلحوا آلات الحرب، وعاد عسكر الخليفة الذى كان بإزاء جلال الدين إلى بغداد. ونهب جلال الدين البلاد وأهلكها، وغنم هو وأصحابه ما لا يقع ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 426 «وتفرق الخوارزمية. . .» (¬4) في نسخة م «بادرابا» وفى نسخة س «باذرايا» والاسم الصحيح وهو المثبت من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 426 (حوادث 622)، وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن بادرايا بليدة بالقرب من باكسايا. (¬5) في نسخة م «ياكسيا» وفى نسخة س «باكسنا» والاسم الصحيح وهو المثبت من ابن الأثير، نفس المرجع والصفحة، وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن باكسايا بلدة قرب البندنيجين وبادرايا، بين بغداد وواسط من الجانب الشرقى في أقصى النهروان. (¬6) بعقوبا ويقال باعقوبا قرية كبيرة كان بينها وبين بغداد عشرة فراسخ من أعمال طريق خراسان، وهى كثيرة الأنهار والبساتين، انظر ياقوت، معجم البلدان.

عليه الأحصاء [116 ب]، وكانوا قبل ذلك في ضائقة عظيمة، وقلة من الظهر والسلاح. ثم سار [جلال الدين (¬1)] إلى دقوقا فحصرها، وصعد أهلها على الأسوار وقاتلوه وشتموه، وأكثروا من التكبير (¬2) عليه فعظم ذلك عليه، وجد في قتالهم، ثم أخذ المدينة عنوة، وبذل السيف في أهلها، وفعل أشنع من فعل التتر، فقتل أكثر أهلها، وذهب من سلم منهم وتفرقوا في البلاد (¬3). واستولى جلال الدين على ما في دقوقا من الأموال، وكان فيها متمولون كثيرون تجار. ولما جرى ما ذكرنا على أهل دقوقا خاف أهل البوازيج (¬4) من جلال الدين، وهى لبدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فطلبوا الأمان من جلال الدين وسألوه أن يبعث إليهم شحنة من قبله، وبذلوا له مالا فأجابهم [إلى ذلك (¬5)]، وسير إليهم من يحميهم. وذكر أن الشخص الذى سيره لحمايتهم هو أحد أولاد جنكزخان ملك التتر، كان أسره جلال الدين في بعض حروبه ثم أكرمه فصار من أصحابه فحمى أهل البوازيج. وأقام جلال الدين مكانه إلى آخر شهر ربيع الأول (¬6) من هذه السنة، والرسل مترددة بينه وبين مظفر الدين ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) في نسخة م «التكثير» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 427. (¬3) عن استيلاء جلال الدين على دقوقا، انظر، النسوى، سيرة السلطان جلال الدين، ص 193. (¬4) البوازيج بلدة قرب تكريت انظر ما سبق ابن واصل، ج 1، ص 13 حاشية 4 وصفحة 34 حاشية 1. (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن الأثير، نفس المرجع والجزء، ص 427. (¬6) كذا في نسختى س، م وفى ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 428 «إلى أواخر ربيع الآخر».

ذكر الحرب فى هذه السنة بين المسلمين والكرج

صاحب إربل [في الصلح (¬1)]، ثم تقررت بينهما قاعدة الصلح وسار [مظفر الدين (¬2)] إلى جلال الدين ودخل في طاعته. وراسل السلطان الملك المعظم صاحب دمشق جلال الدين، واتفق معه، وصار هؤلاء الثلاثة جلال الدين وصاحب إربل والملك المعظم يدا واحدة. وفعل الملك المعظم ذلك معاندة لأخويه [الملك الكامل والملك الأشرف (¬3)]. ذكر الحرب في هذه السنة بين المسلمين والكرج كان شروانشاه رشيد صاحب الدربند - الذى قدمنا ذكره (¬4) - سيئ السيرة، كثير الفساد والظلم للرعية، وكان يتعرض لنسائهم وأولادهم، واشتدت وطأته عليهم، فاتفق بعض العسكر مع ولده عليه، فأخرجوه من البلاد وملكوا ولده [عليهم (¬5)] فأحسن السيرة، فأحبته العساكر والرعية. وأرسل إلى والده يقول له: «المصلحة أن تكون في بعض القلاع وأجرى لك من الجرايات ما يقوم بك وبكل من تحب أن يكون عندك (¬6)، والذى حملنى على ما فعلت معك سوء سيرتك وظلمك لأهل البلاد، وكراهيتهم لدولتك». فلما سمع شروانشاه [117 ا] رسالة إبنه إليه سار إلى الكرج واستنصر بهم، وطلب منهم أن يسيروا معه عسكرا ليستعيد البلاد إلى نفسه، ويأخذها من ولده. فسيروا معه عسكرا كثيرا، فسار بهم حتى قرب من مدينة شروان. فلما سمع إبنه مسيره إليه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) انظر ما سبق ص 108 - 109. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة م «معك» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 430.

سار إليه في عسكره وكانوا نحو ألف فارس، ولقى أباه والكرج وهم نحو ثلاثة آلاف فارس، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت الكرج وقتل منهم وأسر خلق كثير، وعاد من سلم منهم بأسوأ حال، ومعهم شروانشاه المخلوع. فقال (¬1) له مقدمو [الكرج (¬2)]: «إنا لم نلق بسببك خيرا، ولا نؤاخذك بما كان منك، فلا تقم ببلادنا». ففارق بلادهم وبقى مترددا لا يأوى إلى أحد. واستقر ولده في الملك ورد إلى الرعية ما اغتصبه أبوه من أملاكهم وما أخذه منهم، فاغتبطوا به وأحبوه. وفى هذه السنة سار جمع من الكرج من تفليس يقصدون بلاد أذربيجان وهى بيد مظفر الدين أزبك بن البهلوان. ونزلوا وراء مضيق في الجبال لا يسلكه إلا الفارس بعد الفارس، فأقاموا به آمنين من المسلمين، استضعافا لهم واغترارا بحصانة موضعهم، وأنه لا طريق اليهم. فركبت طائفة من العساكر الإسلامية وقصدوهم في ذلك المضيق مخاطرين، فلم يشعر الكرج إلا وقد كبسهم المسلمون وبذلوا السيف فيهم، فقتلوهم كيف شاءوا، وولى الباقون منهزمين، وأسر منهم جمع صالح. فعظم ذلك على الكرج، وعزموا على قصد أذربيجان واستئصال المسلمين، والأخذ بثأرهم. وبينما هم كذلك إذ وصل اليهم الخبر بوصول السلطان جلال الدين منكبرتى بن خوارزم شاه إلى مراغة - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى - فنزلوا عن ذلك العزم، وراسلوا [مظفر الدين (¬3)] أزبك بن البهلوان صاحب البلاد يدعونه إلى الأتفاق معهم والصلح، ليردوا جلال ¬

(¬1) في نسخة م «فقالوا» وهو خطأ واضح والصيغة الصحيحة من نسخة س ومن ابن الأثير، ج 12، ص 431. (¬2) ما بين الحاصرتين مثبت بالهامش في نسخة م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر استيلاء جلال الدين خوارزم شاه على بلاد أذربيجان

الدين وخوفوه منه وقالوا له: «إن لم نتفق نحن وأنت، وإلا أخذك ثم أخذنا»؛ فعاجلهم جلال الدين قبل اتفاقهم. ذكر استيلاء جلال الدين خوارزم شاه على بلاد أذربيجان (¬1) [117 ب] كان إيغان طايسى خال غياث الدين بن خوارزم شاه، الذى تقدم ذكره وذكر الحرب بينه وبين غياث الدين (¬2)، قد جمع بعد ذلك عسكرا مبلغه خمسة آلاف فارس، ونهب كثيرا من بلاد أذربيجان، ثم سار إلى البحر من بلاد أران فشتى هنالك (¬3) لقلة البرد في تلك البلاد. ولما ملك السلطان [جلال الدين (¬4)] دقوقا، وقتل أهلها، كما قدمنا ذكره (¬5)، سار في عساكره متوجها إلى بلاد أذربيجان فقصد مراغة وهى من أحسن البلاد بها، فنازلها وملكها وأقام بها وشرع في عمارة البلد واستحسنه. ثم وصل إليه الخبر بأن إيغان طايسى قد جمع عسكرا وسار إلى همذان ليملكها ويستولى على عراق العجم. وكان سبب قصد إيغان طايسى هذه الناحية أن الخليفة الناصر لدين الله كتب إليه يطمعه فيها، وأقطعه إياها وغيرها، فسار إلى تلك الناحية ليستولى عليها. ولما بلغ ذلك السلطان جلال الدين سار إليه جريدة، فوصل إليه ليلا. وكان إيغان طايسى إذا نزل جمع (¬6) حول عسكره جميع ما غنمه من أذربيجان ¬

(¬1) ورد خبر ذكر ملك السلطان جلال الدين أذربيجان مختصرا في النسوى، سيرة السلطان جلال الدين، ص 194 - 196. (¬2) انظر ما سبق ص 132 - 133. (¬3) في نسخة م «هناك» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، ج 12، ص 432. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) انظر ما سبق ص 145. (¬6) كذا في نسختى المخطوطة، وفى ابن الأثير (نفس المرجع والجزء، ص 432) «جعل».

وأران من خيل وبغال وحمير وبقر وغنم، فلما وصل جلال الدين أحاط بالجميع. ولما أصبح إيغان طايسى ورأى العسكر والجتر (¬1) الذى يكون على رأس السلطان علم أنه جلال الدين، فسقط في يده لأنه كان يظن أنه [كان (¬2)] عند دقوقا بالعراق. فأرسل إيغان طايسى زوجته وهى أخت جلال الدين يطلب منه الأمان، فآمنه وأحضره عنده، وانضاف عسكره إلى عسكر جلال الدين، وبقى إيغان طايسى وحده، ثم أضاف إليه [جلال الدين (¬3)] عسكرا غير عسكره، وعاد إلى مراغة، وأعجبه المقام بها. وكان مظفر الدين أزبك [بن البهلوان (¬4)] صاحب أذربيجان وأران قد سار من توريز - التي هى كرسى مملكة أذربيجان - إلى كنجة خوفا من جلال الدين، فأرسل جلال الدين إلى من بتوريز من وال وأمير ورئيس، يطلب منهم أن يتردد عسكره اليهم يمتارون منه فأجابوه إلى ذلك وأطاعوه. وتردد العسكر إليها وباعوا واشتروا الأقوات وغيرها، ومدوا أيديهم إلى أموال الناس؛ فكان أحدهم [118 ا] يأخذ الشيء قهرا ويعطى من الثمن ما يريد، فشكا بعض أهل توريز إلى جلال الدين ما يفعلون بالناس، فأرسل اليهم جلال الدين شحنة يكون عندهم، وأمره أن يقيم بتوريز، ويكف الجند عن أهلها، ومن تعدى على أحد منهم صلبه. وأقام الشحنة ومنع [الجند (¬5)] من التعدى على أحد ¬

(¬1) الجتر عبارة عن مظلة أو قبة من حرير أصفر مزركش بالذهب على أعلاها طائر من فضة مطلية بالذهب. وعرف الجتر في مصر زمن الفاطميين واستخدم أيضا زمن الأيوبيين والمماليك حيث كان يحمل على رأس السلطان في العيدين انظر (القلقشندى، صبح، ج 4، ص 7 - 8). (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن الأثير، ج 12، ص 432. (¬4) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن الأثير، ج 12، ص 432 - 433. (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن الأثير، ج 12، ص 432 - 433.

من الناس. وكانت زوجه مظفر الدين أزبك، وهى إبنة السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه السلجوقى مقيمة بتوريز؛ [وهذه أبوها هو آخر السلاطين السلجوقية الذين ملكوا ببلاد العجم (¬1)]، وهى إبنة عم أزبك من جهة الأمومة لأن البهلوان محمد بن الدكز أبا مظفر الدين كان أخا أرسلان بن طغرل جدها لأمه، والدكز كان مملوك جد أبيها طغرل بن محمد بن ملكشاه [الأكبر] (¬2) بن ألب أرسلان. وتغلب الدكز وأولاده على البلاد وحكموا على أرسلان وطغرل من بعده بحكم الأتابكية لهما. ثم قتل طغرل الأصغر وهو آخر الملوك السلجوقية ببلاد العجم، واستقل مظفر الدين أزبك بالملك، [ولم يبق من السلجوقية ملك إلا أولاد قلج أرسلان بن سليمان ابن قطلمش ملوك بلاد الروم الذين اسم الملك لهم باق بتلك البلاد إلى اليوم (¬3)]. [ولم يكن لمظفر الدين أزبك همة ولا قيام بمصالح الملك لإشتغاله بشربه ولهوه وملاذه، فأعرض بسبب ذلك عن إبنة السلطان طغرل وأقامت هى بمدينة توريز (¬4)]. ثم إن أهل توريز شكوا من الشحنة، [الذى (¬5) رتبه عند السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه] وقالوا: «أنه يكلفنا أكثر من طاقتنا». فأمر جلال الدين أن لا يعطى إلا ما يقيم به لا غير، ففعلوا ذلك. ثم سار جلال الدين إلى توريز وحصرها وقاتل أهلها قتالا شديدا، وزحف إليها فوصل العسكر إلى ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬4) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س مع بعض التقديم والتأخير. (¬5) في نسخة م «التي» وهو خطأ واضح وما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س وكذلك من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 433.

السور فأذعن أهلها بالطاعة. وطلبوا من جلال الدين الأمان، وكانوا خائفين منه جدا؛ لأن جلال الدين كان يذمهم ويقول: «قتلوا أصحابنا المسلمين وأرسلوا رؤوسهم (¬1) إلى التتر الكفار»، وقد ذكرنا ذلك في موضعه (¬2). فلما طلبوا منه الأمان ذكر [لهم (¬3)] فعلهم بالخوارزمية أصحاب أبيه وقتلهم إياهم [118 ب]، فاعتذروا بأنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإنما فعله صاحبهم أزبك بن البهلون ولم يكن لهم قدرة على منعه من ذلك. فقبل عذرهم وآمنهم، فطلبوا منه أن يؤمن بنت السلطان طغرل زوجة أزبك، ولا يعارضها في الذى لها من بلاد أذربيجان وهى مدينة خوىّ (¬4) وغيرها من ملك ومال وغيره، فأجابهم إلى ذلك. وملك توريز في السابع عشر من هذه السنة، أعنى سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وسير زوجة أزبك إلى خوى، ومعها طائفة من العسكر، ودخل جلال الدين إلى توريز وأمر أن لا يحجب عنه أحد، وأحسن إلى الناس وبث فيهم العدل، ووعدهم الإحسان إليهم، وقال: «قد رأيتم ما فعلت بمراغة من الإحسان والعمارة بعد أن كانت خرابا، وسترون ما أصنع معكم من العدل فيكم، وعمارة بلدكم». وحضر الجامع يوم الجمعة، فلما خطب الخطيب ودعا للخليفة الناصر لدين الله قام قائما ولم يزل كذلك حتى فرغ من الدعاء وجلس. ثم دخل [بعد الصلاة (¬5)] إلى جوسق كان قد ¬

(¬1) في نسخة م «برؤسهم» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 433. (¬2) انظر ما سبق، ص 135. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن الأثير، نفس المرجع والجزء، ص 433 وفى نسخة س «ذكرهم فعلهم». (¬4) خوى بلدة مشهورة من أعمال أذربيجان ينسب اليها الثياب الخوية، انظر (ياقوت، معجم البلدان). (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر إيقاع السلطان جلال الدين [بن علاء الدين] خوارزم شاه بالكرج

عمره أزبك وأنفق عليه مالا جليلا، وهو في غاية الحسن يشرف على البساتين، فلما طاف فيه وخرج منه قال: «هذا من مساكن الكسالى ولا يصلح لنا». ذكر إيقاع السلطان جلال الدين [بن علاء الدين (¬1)] خوارزم شاه بالكرج ولما ملك جلال الدين [توريز وأكثر بلاد أذربيجان (¬2)] واستفحل أمره وكثرت عساكره، أرسل إلى الكرج يؤذنهم بالحرب فأجابوه: «بأننا قصدنا التتر الذين فعلوا بأبيك علاء الدين خوارزم شاه الذى فعلوا، وبددوا عساكره وملكوا بلاده، وأفنوا أهلها قتلا وأسرا (¬3)، ثم هرب منهم إلى جزيرة في البحر فمات فيها كمدا، وكان أعظم منك ملكا (¬4)، وأبعد صيتا، وأكثر عسكرا، وأقوى نفسا، ولم ينال بحربهم، وكان قصاراهم (¬5) أن سالمونا». وشرعت الكرج في جمع العساكر فجمعوا ما يزيد عل ستين (¬6) ألفا فسار إليهم جلال الدين [وقد أغاظه كلامهم (¬7)]، ونازل مدينة دوين وهى من بلادهم، وكانت قبل ذلك للمسلمين [فأخذها بالأمان (¬8)] ثم سار منها إليهم، وضرب معهم مصافا، واقتتلوا قتالا كثيرا، فانهزمت الكرج أقبح هزيمة، فأمر ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في الأصل «بلاد أذربيجان» والصيغة المثبتة من س. (¬3) في نسخة س «قتلا ونهبا وسبيا». (¬4) كذا في نسخة س وفى الأصل «ملكا منك». (¬5) في نسخة م «قصارانا» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 435. (¬6) كذا في نسختى المخطوطة، وفى ابن الأثير، نفس المرجع والصفحة «سبعين». (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

جلال الدين أن يقتلوا بكل طريق، ولا يبقى على أحد منهم. وبلغت عدة القتلى منهم عشرين ألفا وقيل أكثر من ذلك [119 ا]، وأسر كثير من أعيانهم، ومضى إيوانى مقدم الكرج منهزما، ولم يكن ملكهم بالحقيقة، وإنما كان الملك يومئذ في امرأة وقد قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «لن (¬1) يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة». ولما انهزم إيوانى أدركه الطلب فصعد إلى قلعة لهم على طريقه فاحتمى بها، فرتب جلال الدين عليها من يحصرها ويمنعه من النزول منها، ثم فرق عساكره في بلاد الكرج ينهبون ويقتلون ويسبون ويخربون (¬2) البلاد. فلولا ما عرض ما سنذكره (¬3) الآن لملك جلال الدين بلاد الكرج، واستأصل أهلها قتلا وسبيا. ولما فرغ جلال الدين من هزيمة الكرج ودخل بلادهم بث العساكر فيها وأمرهم بالمقام بها مع أخيه غياث الدين بن خوارزم شاه - وكان قد انضم إليه كما ذكرنا وصار من أتباعه - وكان قد بلغ جلال الدين قبل هزيمة الكرج من جهة وزيره شرف الملك، وكان قد تركه بتوريز لحفظ البلد والنظر في مصالح الرعية، أنه اتفق شمس الدين الطغرائى (¬4) مقدم أهل توريز مع الرئيس بها (¬5) وسائر المقدمين بالبلد، [وتحالفوا (¬6)] وتعاقدوا على العصيان على جلال ¬

(¬1) في نسخة م «لا» والصيغة المثبته من س وابن الأثير (ج 12 ص 436). (¬2) في نسخة م «يحرقون» والصيغة المثبتة من س وابن الأثير، ج 12 ص 436. (¬3) في نسخة م «مما سنذكره» والصيغة المثبتة من س. (¬4) في نسخة م «شمس الطغرائى» والصيغة المثبتة من س وابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 436؛ عن شمس الدين الطغرائى انظر، النسوى، سيرة السلطان جلال الدين، ص 195 - 196، 201، 203، 208 - 209، 316، 359. (¬5) ذكر النسوى (سيرة السلطان جلال الدين، ص 200) أن اسم الرئيس هو نظام الدين وأنه كان أبن أخى الطغرائى. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

الدين، وإعادة البلد إلى مظفر الدين أزبك بن البهلوان، وقالوا: «[إن (¬1)] جلال الدين قد قصد بلاد الكرج فإذا عصينا عليه وأحضرنا أزبك إلينا ومن معه من العسكر، يضطر جلال الدين إلى العود إلينا، فإذا عاد تبعه الكرج فلا يقدر على المقام ببلاد أذربيجان، ويجتمع أزبك والكرج ويقصدونه فينحل نظام أمره، وتتم عليه الهزيمة». ولما بلغ ذلك جلال الدين كتمه إلى أن كسر الكرج، فلما كسرهم وفرغ من أمرهم أحضر أمراء عسكره وقال [لهم]: «(¬2) قد بلغنى كذا وكذا، فتقيمون أنتم بالبلاد على ما أنتم عليه من قتل من ظفرتم [به (¬3)] من الكرج وتخريب ما أمكنكم من بلادهم، فأنى خفت أن أعرفكم ذلك قبل هزيمة الكرج، لئلا يلحقكم وهن وخوف». فأقاموا على حالهم وعاد جلال الدين إلى توريز، وقبض على الرئيس وغيره من المقدمين، وأمر أن يطاف بالرئيس البلد [وشمس الدين الطغرائى، ونادى على الرئيس (¬4)] كل من له عليه مظلمة يأخذها منه، وكان ظالما. ففرح أهل البلد بذلك ثم أمر بقتله (¬5). وأما الباقون فحبسوا. [مدة ثم عفا عنهم (¬6)]. ولما فرغ من ذلك واستقام له أمر البلد أثبت عند الحاكم ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن الأثير، ج 12 ص 436. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وكذلك ابن الأثير نفس المرجع والجزء ص 437. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «ثم أمر بقتله وقتل شمس الدين الطغرائى»، وهذا غير صحيح لأن الطغرائى عاش حتى سنة 628 هـ‍ - 1231 م انظر: النسوى (سيرة السلطان جلال الدين، ص 359)؛ ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 503 حوادث سنة 628 هـ‍). (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر وفاة الملك الأفضل نور الدين أبى الحسن على بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمهما الله

بالبلد أن مظفر الدين أزبك بن البهلوان [119 ب] حلف بطلاق زوجته إبنة السلطان طغرل [السلجوقى (¬1)] أنه لا يقتل مملوكا له عيّنه ثم إنه قتله، فوقع عليه الطلاق بحكم ذلك. فلما ثبت ذلك عند الحاكم تزوج جلال الدين ابنة السلطان طغرل، وأقام بتوريز مدة، ثم سير منها جيشا إلى مدينة كنجه ففتحوها. وهرب مظفر الدين أزبك وكان بها (¬2) إلى قلعة هناك فتحصن بها ثم هلك وتلاشى أمره. وغلب جلال الدين على البلاد بأسرها، وقصد الكرج في آخر هذه السنة وأغار عليهم. ذكر وفاة الملك الأفضل نور الدين أبى الحسن على بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمهما الله وفى هذه السنة - أعنى سنة اثنتين وعشرين وستمائة - توفى الملك الأفضل بن صلاح الدين - رحمهما الله - وليس بيده من البلاد إلا سميساط، وذلك في شهر صفر، وكان موته فجأة وعمره سبع وخمسين سنة، فملك البلد بعده أخوه الملك المفضل قطب الدين موسى وهو شقيقه. ذكر سيرته - رحمه الله كان فاضلا متأدبا حليما عادلا، حسن السيرة، متدينا قلّ أن يعاقب على ذنب، وكان يكتب خطا حسنا، وبالجملة فقد كان مستجمعا لفضائل ومناقب تفرقت في كثير من الملوك. وكان مع ذلك قليل الحظ والسعادة جدا وهذا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) أي بمدينة كنجة.

هو الغالب في أهل الفضل. ولله در القائل في عبد الله بن المعتز بالله، وكان تام الفضيلة في بنى العباس ولم يزل مبغضا طول عمره، ولما بويع بالخلافة وظن أن السعادة قد أقبلت عليه لم يتم له الأمر غير يوم واحد، ثم قبض عليه وقتل: لله درّك من ملك بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب ما فيه لو ولا ليت (¬1) فينقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب وهكذا كان حال الملك الناصر داود بن الملك المعظم [بن الملك العادل (¬2)]، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. لم تنتظم للملك الأفضل حال منذتوفى والده صلاح الدين رحمهما الله [120 ا]. ملك [الأفضل (¬3)] دمشق بعده مدة يسيرة، ثم أخذها منه أخوه الملك العزيز عثمان، ثم ملك مصر بعد الملك العزيز وقصد دمشق وحاصرها، فلم يبق إلا أن يملكها فقطع عليه سوء الحظ ورجع عنها إلى مصر، واتبعه عمه الملك العادل وانتزع مصر منه، ولم يبق بيده غير صرخد. ثم قصد دمشق ثانيا مع أخيه الملك الظاهر فلم يتم لهما أمر واختلفا، فلم يحصل إلا على سميساط وحدها. وبعد وفاة أخيه الملك الظاهر [طمع في حلب (¬4) و] خرج عز الدين كيكاوس سلطان ¬

(¬1) في نسخة س «ما قبله لا ولا ليت» والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح، انظر سيرة الملك الأفضل نور الدين بن صلاح الدين في (ابن خلكان، وفيات، ج 1، ص 371 - 372)؛ وكذلك ابن الأثير؛ (الكامل، ج 12، ص 428 - 429، حوادث 622)؛ وأبو الفدا، (المختصر، ج 3، ص 135). (¬4) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

الروم ووعده المساعدة على أخذ حلب [له (¬1)] وبلادها، فلم يتم لهما أمر. ورجع عز الدين مكسورا، ورجع الأفضل إلى سميساط متجرعا غصته حتى أتته منيته، فمات كمدا، وله شعر حسن ذكرنا بعضه فيما سلف. ومن شعره قوله في السلطان غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان حين طعن بالرمح (¬2): وشمس غياث الدين عند ضيائها ... وإشراقها في كل شرق ومغرب أنار (¬3) لديها كوكب الرمح فاختفت ... ولم أر شمسا قط تخفى بكوكب ومن شعره في خضاب الشعر ويعرض بسوء حظه: يا من يسوّد شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل ها: فاختضب بسواد حظى مرة (¬4) ... ولك الأمان بأنه لا ينصل وذكر أنه لما أخذت منه دمشق كتب إلى بعض أصحابه كتابا من جملة فصوله: «وأما أصحابنا بدمشق فلا علم لى بأحد منهم وسبب ذلك أن: أىّ صديق سألت عنه ففى ... الذلّ وتحت الخمول في الوطن وأى ضد سألت حالته (¬5) ... سمعت ما لا تحبه أذنى فتركت السؤال عنهم (¬6)» ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة س «وقد أصابته طعنة في الحرب». (¬3) في نسخة س «أبان». (¬4) في نسخة س «لحظة» والصيغة المثبتة من نسخة م وكذلك أبو الفدا (المختصر، ج 3 ص 135). (¬5) صدر البيت غير مستقيم من ناحية الوزن. (¬6) انظر ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 429).

ذكر وفاة الإمام الناصر لدين الله أبى العباس أحمد بن المستضيئ بنور الله - رحمه الله -

واختلف أولاده وإخوته [بعد موته (¬1)] في ملك سميساط، ولم يقو أحد منهم على الباقين ليستبد بالأمر (¬2). ذكر وفاة الإمام الناصر لدين الله أبى العباس أحمد بن المستضيئ بنور الله - رحمه الله - وفى أول شوال من هذه السنة توفى الخليفة الناصر لدين الله، وكانت [120 ب] مدة خلافته نحوا من سبع وأربعين سنه، فإنه ولى الخلافة في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، بعد ملك الملك الناصر صلاح الدين دمشق بخمس سنين. ولم تبلغ مدة خلافة أحد من الخلفاء قبله إلى هذا الحد، وأطول من ولى منهم مدة اثنان [وهما (¬3)] القادر بالله أحمد بن إسحاق بن المقتدر وكانت مدة خلافته ثلاث وأربعين سنة (¬4)، وابنه القائم بأمر الله وكانت مدة خلافته نحو خمس وأربعين (¬5) سنة. وأما الذين دعى لهم بالخلافة في الأطراف وكانوا في حكم الخوارج على الخلفاء، فمنهم من زادت مدته على مدة الإمام الناصر؛ فإن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك صاحب الأندلس الملقب أيضا الناصر لدين الله ولى نحوا من خمسين سنة؛ والمستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهر العلوى صاحب ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش في نسخة م. (¬2) في نسخة س «فلم يوافق أحد منهم لصاحبه ليتملكها فأخذت منهم كلهم». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) تولى الخلافة بين سنتى 381 - 422 هـ‍ - 991 - 1031 م. (¬5) تولى الخلافة بين سنتى 422 - 467 هـ‍ - 1031 - 1075 م.

مصر ولى نحوا من ستين سنة. ولم يصل إلى هذه المدة أحد غيره ممن دعى له بالخلافة. وكان الإمام الناصر قد عمى في آخر عمره، وقيل بل ذهبت إحدى عينيه، وكان يبصر بالأخرى إبصارا ضعيفا، وكان موته بالدوسنطاريا مرض به نحو عشرين يوما. ولنذكر نسبه المتصل برسول الله صلّى الله عليه وسلم: هو أبو العباس أحمد بن المستضيىء بنور الله (¬1) أبى محمد الحسن بن المستنجد بالله أبى المظفر يوسف بن المقتفى لأمر الله أبى عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبى العباس أحمد ابن المقتدى بأمر الله أبى القاسم عبد الله بن الأمير ذخيرة الدين ولى العهد أبى عبد الله محمد بن القائم بأمر الله أبى جعفر عبد الله بن القادر بالله أبى العباس أحمد بن الأمير اسحاق بن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد بن الموفق بالله الناصر لدين (¬2) الله أبى أحمد طلحة وقيل محمد - ولم يل الخلافة وإنما كان ولى عهد غالبا على الأمر كله - بن المتوكل على الله أبى الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبى اسحاق محمد بن الرشيد أبى جعفر هرون بن المهدى أبى عبد الله محمد بن المنصور أبى جعفر عبد الله بن الإمام ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن الأثير، الكامل ج 12، ص 438 وزامباور، معجم الأنساب، ج 1 ص 4 «المستضئ بأمر الله»، عن الألقاب العباسية انظر: B. Lewis, " The regnal titles of the first Abbasid Caliphs" in Dr. Zakir Husain Presentation Volume,P P. 13 - 22. (¬2) في نسخة س «بن الناصر لدين الله» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م حيث أن أبا أحمد الموفق بالله هو ابن المتوكل، انظر ابن الأثير (الكامل، ج 7 ص 441)، زامباور (معجم الأنساب، ج 1، ص 3).

المدعو له بالامامة في خراسان سرا محمد بن السجاد أبى الحسن على بن الحبر (¬1) صاحب رسول الله [121 أ]- صلّى الله عليه وسلم - والعالم بتفسير القرآن العزيز والفقه أبى العباس عبد الله بن عم رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وصنو أبيه أبى الفضل العباس بن عبد المطلب شيبه الحمد جد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بن هاشم. نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نورا، ومن فلق الصباح عمودا والنسب بعد ذلك إلى آدم معروف مشهور. [وفى آبائه ما بين أبى جعفر المنصور وبين الإمام الناصر لدين الله أربع عشرة خليفة، واثنان لم يليا الخلافة وإنما كانا وليا عهد؛ وهما جعفر الموفق بالله وذخيرة الدين، وواحد لم يكن خليفة ولا ولى عهد. وما فوق أبى جعفر المنصور فليس فيهم خليفة وباقى خلفاء بنى العباس لم يكونوا من آبائه (¬2)]؛ فالسفاح أبو العباس عبد الله هو أخو المنصور [وولى قبله] (¬3)، [والهادى موسى أخو الرشيد ولى قبله] (¬4)، ومحمد الأمين وعبد الله المأمون أخوا المعتصم ووليا [الخلافة (¬5)] قبله، والواثق بالله هرون أخو المتوكل وولى قبله، والمنتصر أخو الموفق ولى بعد المتوكل، والمستعين أحمد بن محمد بن المعتصم بن عم الموفق ولى بعد المنتصر، والمعتز بالله أبو عبد الله محمد وقيل الزبير ¬

(¬1) في نسخة س «على بن الحسين بن صاحب رسول الله» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة هى المثبتة من نسخة م والمقصود بالحبر أي «الصالح من العلماء» وهو عبد الله بن عباس. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في نسخة م «في آبائه أربعة عشر خليفة أولهم المنصور وآخرهم المستضئ وباقى الخلفاء العباسيين الذين كانوا قبله فهم في حواشى النسب فأولهم السفاح». (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من م ومذكور في نسخة س وفى ابن الأثير الكامل، ج 12 ص 438. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

أخو الموفق ولى بعد المستعين، والمهتدى بالله محمد بن الواثق ابن عم الموفق ولى بعد المعتز، والمعتمد على الله أحمد أخو الموفق ولى بعد المهتدى، والمكتفى بالله على بن المعتضد أخو المقتدر ولى قبله، والقاهر بالله أبو منصور محمد أخو المقتدر ولى بعده، والراضى بالله أبو العباس أحمد أخو اسحاق بن المقتدر ولى بعد القاهر، والمتقى لله أبو إسحاق ابراهيم أخو إسحاق ولى بعد الراضى، والمستكفى بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفى ابن عم إسحاق ولى بعد المتقى، والمطيع لله أبو منصور الفضل أخو إسحاق ولى بعد المستكفى، والطائع لله أبو بكر عبد الكريم بن المطيع [ابن أخى اسحاق ولى بعد أبيه المطيع لله (¬1)]، وولى بعده القادر ابن إسحاق وهو على عمود النسب. ولم يل بعد ذلك من ليس على عمود النسب إلا اثنان المسترشد بالله أبو منصور الفضل أخو المقتفى ولى بعد أبيه المستظهر، وولى بعده ابنه الراشد بالله أبو جعفر المنصور بن أخى المقتفى، ثم ولى المقتفى وهو على عمود النسب، ثم لم يل بعد ذلك إلا من هو على عمود النسب. ثم ولى بعد الناصر ابنه الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد، وولى بعد الظاهر المستنصر بالله أبو جعفر المنصور ثم [121 ب] ولى بعد المستنصر المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله وهو آخر من ولى الخلافة ببغداد من بنى العباس، فجميع خلفائهم الذين ولوا بالعراق سبعة وثلاثون خليفة. ¬

(¬1) في نسخة م «ابن عم إسحاق ولى بعد الطائع» وما بين الحاصرتين وهو الصحيح مذكور في نسخة س.

واتفق فيهم اتفاق عجيب وهو أن كل سادس منهم مخلوع أو مقتول، ولم ينتقض ذلك إلا في المستنصر بالله [وإنما قتل ابنه المستعصم بالله بأيدى التتر وهو سابع (¬1)]، ولنذكر ذلك لغرابته فنقول: أول خلفاء بنى العباس السفاح، ثم المنصور أخوه، ثم ابنه المهدى، ثم ابنه الهادى، ثم أخوه الرشيد، ثم ابنه الأمين وهو سادس فخلع مرتين وقتل. ثم ولى أخوه المأمون، ثم أخوه المعتصم، ثم إبنه الواثق، ثم أخوه المتوكل، ثم إبنه المنتصر، ثم ابن عمه المستعين وهو سادس فخلع وقتل. ثم ولى ابن عمه المعتز، ثم ابن عمه المهتدى، ثم ابن عمه المعتمد، ثم ابن أخيه المعتضد، ثم إبنه المكتفى، ثم أخوه المقتدر وهو سادس فخلع مرتين وقتل. ثم ولى أخوه القاهر ثم ابن أخيه الراضى، ثم أخوه المتقى، ثم ابن عمه المستكفى، ثم ابن عمه المطيع، ثم ابنه الطائع ودو سادس فخلع. ثم ولى ابن عمه القادر، ثم ابنه القائم، ثم ابن ابنه المقتدى، ثم إبنه المستظهر، ثم ابنه المسترشد، ثم ابنه الراشد وهو سادس فخلع وقتل. ثم ولى عمه المقتفى، ثم ابنه المستنجد، ثم إبنه المستضيىء، ثم إبنه الناصر، ثم ابنه الظاهر، ثم ابنه المستنصر وهو سادس لكن لم يشتهر أنه خلع ولا قتل فانخرمت القاعدة فيه وحده. لكنى سمعت من جماعة منهم الوجيه بن سويد - رحمه الله - وكان خبيرا بأمور الدول خصوصا بدولة الخليفة، أن المستنصر بالله فصد بمبضع مسموم [فمات (¬2)] فإن كان الأمر كذلك، كان [الأمر (¬3)] جاريا على ما ذكرنا من هذا الأتفاق العجيب. ولم يل بعده إلا ابنه المستعصم ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر سيرة الأمام الناصر لدين الله - رحمه الله

بالله - رحمه الله - وهو آخرهم، وقتل شهيدا بيد التتر، وزال بزواله الدولة العباسية بالعراق. ذكر سيرة الأمام الناصر لدين الله - رحمه الله كان شهما شجاعا أبى النفس حازما متيقظا، ذا فكرة صائبة وعقل رصين، ودهاء ومكر، وكانت هيبته عظيمة جدا، وكان له أصحاب أخبار في العراق [122 ا] وسائر الأطراف يطالعونه بجزئيات الأمور وكلياتها، فكان لا يخفى عنه من الأمور إلا ما قل، وكان ذا سطوة شديدة فكان أهل العراق يخاف أحدهم أن يتحدث مع زوجته في منزله بما يظن أن الخليفة إذا بلغه عاقب عليه. وقد ذكر أن رجلا من أهل بغداد عمل دعوة وغسل يده قبل أضيافه، فطالع أصحاب الأخبار الخليفة بذلك، فكتب [الخليفة (¬1)] في جواب ذلك: سوء أدب من صاحب الدار، وفضول من كاتب المطالعة. وكان مع ذلك ردئ السيرة في رعيته، مائلا إلى الظلم والعسف، فخربت في أيامه العراق، وتفرق أهلها في البلاد. وأخذ أموالهم وأملاكهم، ومع هذا فكان له بر ومعروف وصدقات دارة. وكان يفعل أفعالا متضادة؛ عمل دار الضيافة (¬2) ببغداد ليفطر عليها الناس في شهر رمضان، فبقيت مدة ثم قطع ذلك، ثم عمل دور الضيافة للحجاج فبقيت مدة ثم أبطلها. وأطلق بعض المكوس التي جددها ببغداد خاصة ثم أعادها. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) كذا في نسختى المخطوطة، وفى ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 440 «دور الضيافة».

وكان يميل إلى رمى البندق (¬1) واللعب بالطيور المناسيب، ولبس سراويلات النبوة والفتوة (¬2). وكاتب سائر ملوك الأطراف في أن ينتموا إليه في رمى البندق وفى الفتوة. فبطل الفتوة في البلاد جميعها إلا من يلبس منه سراويلها ويدعى له فيها، فلبس سائر ملوك الأطراف سراويلات الفتوة له، وادعوا له في رمى البندق. ووصل رسوله إلى حماة في أيام الملك المنصور [ناصر الدين أبو المعالى محمد (¬3)]- رحمه الله - وتقدم إليه بأن يلبس للخليفة [سراويل الفتوة (¬4)] ويلبس الأكابر له. فتقدم الملك المنصور بأن يعمل خطبة في الفتوة، فعمل والدى - رحمه الله - خطبة بديعة في هذا المعنى، واستشهد بآيات من القرآن منها قوله تعالى: {قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ (¬5)}»، ومنها قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ (¬6)}» وغير ذلك من الأخبار والآثار التي [يحض فيها (¬7)] على عمل الطاعات واجتناب المآثم، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ونصر المظلوم على الظالم، وإغاثة الملهوف وحفظ الجار، وغير ذلك مما يشترطونه في الفتوة. ¬

(¬1) البندق كرات تصنع من الطين أو الحجارة أو الرصاص كان يستخدمها الرماة في تطيير الطير ونحوه ويعدون ذلك من قبيل الفتوة، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 3 ص 207 حاشية 1؛ جورجى زيدان، تاريخ التمدن الاسلامى، ج 5 ص 180 - 181. (¬2) الفتوة نظام اجتماعى اسلامى يعتمد على آداب وصفات الفروسية، عن أصول الفتوة وتاريخها وآدابها وطقوسها أنظر ما سبق؛ ابن واصل، ج 3 ص 206 حاشية 2، وكذلك ابن عمار البغدادى، الفتوة، تحقيق وتقديم الدكتور فؤاد حسنين، سلسلة كتب ثقافية (التراث القديم 3)، القاهرة 1959. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) القرآن الكريم، سورة الأنبياء آية 60، وفى نسختى المخطوطة «إنا وجدنا فتى يذكرهم». (¬6) القرآن الكريم، سورة الكهف آية 10. (¬7) في الأصل «تحض فيه» وفى نسخة س «محص فيها».

وبالجملة (¬1) ذلك كله من محاسن الأخلاق الممدوحة شرعا وعقلا [122 ب]، وقرئت هذه الخطبة بمحضر من السلطان والأكابر. وكان القاضى بحماة يومئذ بهاء الدين أبا اليسر بن موهوب (¬2) فأمره السلطان بلبس سراويل الفتوة في المجلس فلبسها ولبسوها الجماعة. وكذلك [أيضا (¬3)] منع الخليفة من الدعوة في البندق إلا له، وأبطل المناسيب في جميع البلاد إلا (¬4) له، فأجابه الناس بالعراق وسائر الأمصار إلى ذلك ما خلا رجلا واحدا راميا بالبندق من أهل بغداد فإنه امتنع من إجابته، وهرب من العراق ولحق بالشام، فأرسل إليه [الخليفة (¬5)] يرغبه بالأموال الجزيلة ليرمى عنه، فامتنع من الرمى له والانتساب اليه، فأنكر ذلك عليه بعض الناس فقال: «يكفينى فخرا أنه ليس في الأرض أحد من الرماة إلا وهو منسوب إلى الخليفة غيرى». وصنف الخليفة كتابا في الحديث النبوى فيه أسانيد صحيحة عالية رواها الخليفة عن أكابر من المحدثين، وسمى الكتاب «روح العارفين (¬6)». ثم أجازه الخليفة [الناصر لدين الله (¬7)] لجماعة وأمرهم أن يسمعوه في العراق وفى سائر الآفاق. ووصل هذا [الكتاب (¬8)] في سنة ثمان عشرة وستمائة على يد ¬

(¬1) في نسخة س «وما يحمله». (¬2) في نسخة م «مرهوب» والصيغة المثبتة من س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) وردت الجملة في ابن الأثير (الكامل ج 12 ص 440) أكثر وضوحا: «وكذلك أيضا منع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره، ومنع الرمى بالبندق إلا من ينتمى اليه). (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ذكر حاجى خليفة هذا الكتاب في كشف الظنون (ج 1 ص 915، ط. طهران 1947) ونسبه للخليفة الناصر لدين الله أحمد، انظر أيضا ابن واصل، ج 3 ص 228. (¬7) الاضافة من نسخة س. (¬8) الاضافة من نسخة س.

رجل من أهل شيزر يرويه عن الخليفة إجازة، وسمعناه عنه [وقد تقدم ذكره (¬1)]. وكان الناصر لدين الله يتشيع ويميل إلى مذهب الأمامية (¬2) وهو خلاف ما كان عليه أباؤه من القادر [بالله (¬3)] إلى المستضيئ [بنور (¬4) الله] فإنهم كانوا يذهبون مذهب السلف، وللخليفة القادر (¬5) عقيدة مشهورة في ذلك. فتقدم عند الناصر جماعة من الشيعة، وبلغنى أنه بلغه أن شخصا من أهل بغداد كان يرى صحة خلافة يزيد بن معاوية فأحضره الخليفة ليعاقبه على هذه المقالة، فلما حضر [الرجل (¬6)] قيل له: «أنت تقول بصحة خلافة يزيد؟». فقال في الجواب: «أنا أقول أن الإمام لا ينعزل عن الأمامة بارتكاب الفسق». فأعرض الخليفة عنه، وأمر باطلاقه إذ لم يمكنه محاققته في ذلك لئلا يرد عليه ما يرد. وكان الشيخ جمال الدين بن الجوزى وغيره من الوعاظ إذا تكلموا بحضرته ربما أتوا بأمر موهم خوفا منه. سئل الشيخ جمال الدين وهو على المنبر والخليفة يسمع: «من أفضل الناس بعد رسول الله؟» وقصد بذلك [123 ا] أن ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س، أنظر ابن واصل، ج 3 ص 228. (¬2) ذكر الشهرستانى (الملل والنحل، ص 324) عن الأمامية: «هم القائلون بإمامه على رضى الله عنه بعد النبى عليه السلام نصا ظاهرا وتعيينا صادقا من غير تعريض بالوصف بل إشارة إليه بالعين» انظر أيضا المقريزى، الخطط، ج 2 ص 351. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «وللخليفة الناصر» وهو خطأ واضح كما يفهم من سياق المعنى، انظر كذلك ابن الأثير، ج 9، ص 415. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

يقول جمال الدين صريحا ما يخالف رأى الخليفة. فقال [الشيخ جمال الدين (¬1)] مسرعا: «أفضلهم بعده من كانت إبنته تحته»؛ وهذا القول كما علم محتمل للأمرين معا. وذكر أنه سئل مرة أخرى عن ذلك فأنشد: لا تسألونى إلاّ عن أواخرهم ... فأوّل الركب ما عندى له خبر وكان إبنه أبو نصر محمد - وهو الذى ولى [الخلافة (¬2)] بعده ولقب الظاهر بأمر الله - على خلاف مذهبه، وكان يرى رأى الحنابلة ويبغض الروافض (¬3). وكان [للناصر لدين الله (¬4)] إبن آخر أصغر منه أسمه على، موافق لأبيه على رأيه فأحبه الخليفة وأبغض إبنه أبا نصر، وكان قد ولاه عهده فخلعه من العهد كما قدمنا ذكره (¬5). ثم توفى على فحزن عليه الخليفة حزنا شديدا، وكتب إلى سائر الأطراف يأمر بأن يتقدم إلى الشعراء بالرثاء له وإقامة شعار الحزن، وقد ذكرنا ذلك كله (¬6). ثم دعته الضرورة إلى تجديد العهد لإبنه أبى نصر كما ذكرنا في سنة ثمان عشرة وستمائة (¬7)، وهو مع ذلك محبوس - على ما بلغنى - مضيّق ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) الروافض هم الغلاة في حب على بن أبى طالب وبغض أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية وبعض الصحابة، وسموا رافضة لأن زيد بن على بن الحسين، امتنع من لعن أبى بكر وعمر وقال: «هما وزيرا جدى محمد صلى الله عليه وسلم»، فرفضوا رأيه، ومنهم من قال لأنهم رفضوا رأى الصحابة حيث بايعوا أبا بكر وعمر. وقد اختلف الروافض في الامامه اختلافا كثيرا وانقسموا إلى فرق كثيرة، انظر ابن طاهر البغدادى، الفرق بين الفرق، ص 18، 22 - 44؛ المقريزى، الخطط، ج 2 ص 351، وعن الأمامية انظر الشهرستانى، الملل والنحل، ص 324 - 362. (¬4) في الأصل «له» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) انظر هذا الكتاب (ابن واصل، ج 3 ص 168 - 169)، وانظر ما سبق من هذا الجزء ص 106. (¬6) انظر ابن واصل، ج 3 ص 229 - 232. (¬7) انظر ما سبق ص 106.

عليه فأنه كان شديد البأس جدا شهما، فكان يخاف منه. ومامات أبوه حتى قارب أبو نصر ستين سنة من العمر، فلهذا لما ولى بعد أبيه قال: «من فتح دكانه بعد العصرأى شيئ يربح (¬1)». وللناصر شعر مشهور من ذلك ما قدمنا ذكره في جواب لشعر كتب به إليه الملك الأفضل بن صلاح الدين يشكو فيه عمه الملك العادل وأخاه الملك العزيز، وفى شعره ما يدل على ما ذكرنا من تشيعه وهو (¬2): وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا ... بالصّدق يخبر أنّ أصلك طاهر غصبوا عليا حقّه إذ لم يكن ... بعد النبى له بيثرب ناصر فاصبر فإنّ غدا عليه حسابهم ... وابشر فناصرك الإمام النّاصر وذكر أنه اعتقل بعض كتاب دولته فكتب إلى الخليفة: ألقنى في لظى فإن غيرتنى ... فتيقّن أن لست بالياقوت عرف النّسج كلّ من حاك لكن ... نسج داود ليس كالعنكبوت [123 ب] فكتب الخليفة في جوابها: - نسج داود لم يفد صاحب ال‍ ... ‍غار وكان الفخار للعنكبوت وبقاء السمند (¬3) في لهب الن‍ ... ـار مزيل فضيلة الياقوت ¬

(¬1) يقصد عدم جدوى توليه الخلافه بعد أن بلغ الستين من العمر. (¬2) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 3، ص 69. (¬3) يقال أن السمند أو السمندل دابة دون الثعلب ذات ذنب طويل ينسج من وبرها مناديل إذا اتسخت ألقيت في النار فلا تحترق، كما يقال أن السمندل طائر ببلاد الهند لا تؤثر فيه النار، ويعمل من ريشه مناديل تحمل إلى بلاد الشام، فإذا اتسخ بعضها طرح في النار فتأكل النار وسخه ولا يحترق المنديل، انظر الدميرى، حياة الحيوان الكبرى (ط. القاهرة 1963)، ج 2 ص 33 - 34؛ محيط المحيط؛ Dozy .Supp .Dict .Ar .I . P. 687.

[و (¬1) هذا جواب فائق وشعر مفلق ومعنى بديع. وكان الإمام الناصر - رحمه الله - يحب على ابن أبى طالب رضى الله عنه ويحب أولاده، ويميل إليهم ويمدحهم ويقدمهم ويفضلهم. ومما روى له فيهم من الشعر قوله: لا بلّغتنى همتى مطالبى ... ولا سطت في معرك قواضبى ولا علت نارى لأهدى طارقا ... ولا غدت مجنوبة جنائبى إن لم أعدها ضمّرا سواريا ... لأخذ تار الملك الحباحب الباقرين أحمد بن حيدر ... سلالة الأبرار آل طالب واصطليها في ولائه (¬2) جماجما ... مضرمة في قمم النواصب حتى يعود البيض في ضيائها ... من هامهم مغلولة المضارب واستمد من قوى عزمه ... ما يجعل الآساد كالثعالب حتى يقول الناس إن أحمد ... قد أتى بالفتح والنصر لآل طالب] [وكان (¬3) فطنا إلى الغاية، حسن الجواب لطيفه؛ ورد اليه رسولا من القاضى كمال الدين بن الشهرزورى (¬4) فكتب إليه يوما مطالعة في «أولها المملوك محمد بن عبد الله الرسول»، فكتب الخليفة تحتها «صلى الله عليه وسلم». وكتب إليه خادم من ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س ورقة 233 ب - 234 اوساقط من نسخة م. (¬2) في الأصل «ولاه» ومعها لا يستقيم الوزن. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة م وغير مذكور في نسخة س. (¬4) ذكر ابن خلكان (وفيات، ج 1 ص 473) عند ترجمته لكمال الدين الشهرزورى أن كمال الدين توفى سنة 572 هـ‍ بدمشق أي قبل أن يتولى الناصر الخلافة بثلاث سنين.

خدامه أسمه يمن ورقة فيها إذلال كثير وتعنت، فوقع [الخليفة] على ظهرها ما صورته ممن ممن ممن ممن ممن ممن ممن فعرض الجواب على جماعة فلم يفهم أحد معناها، لتشابه الصورة وعدم النقط. ووقف عليها بعضهم وقال أراد الخليفة بهذا: يمن يمنّ يمن [؟] ثمن (¬1) يمن ثمن ثمن. وسمعت له أجوبة كثيرة بديعة في الحسن فلا نطول بذكرها]. وفى أيام الناصر عظمت حشمة الخلافة جدا، وقوى شأنها، واستولى مع العراق على إقليم خوزستان وغيرها من الأطراف، وملك همذان وأصفهان ثم انتزعتا منه. وقصده سلطان العجم علاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه يريد أن يستولى على بغداد ويكون له فيها دار سلطنة وشحنة، كما كان ذلك السلاطين السلجوقية، وقد ذكرنا ذلك (¬2)، فحيل بينه وبين مقصده بما وقع من الثلوج في تلك السنة، فرجع إلى بلاده. وأعقب ذلك خروج التتر وجرى على خوارزم شاه ومعظم بلاد الإسلام ما قدمنا ذكره (¬3)، [حتى قيل إن الخليفة هو الذى حسن للتتر الخروج وأطمعهم فيه (¬4)]، [فإن كان صح ذلك فقد قدر ¬

(¬1) التنقيط غير واضح في المتن وذكر اللفظ ثمان مرات ولعل الصيغة المثبتة اجتهادا هى المقصودة. (¬2) انظر ما سبق ص 35. (¬3) انظر ما سبق ص 34 وما بعدها، وفى نسخة س «وخرج التتر على السلطان علاء الدين خوارزمشاه وجرى له ما قدمنا ذكره». (¬4) ورد ما بين القوسين في نسخة س ورقة 234 م بتفصيل أكثر كمايلى: «حتى قيل أن الخليفة الناصر لدين الله هو الذى أخرج التتر على علاء الدين خوارزم شاه وأطمعهم فيه. وقد ذكرنا أن السلطان علاء الدين كتب إلى الخليفة كتابا فيه غلظه وتهديد، فكتب اليه الخليفة كتابا وضمنه هذا البيت: ستعلم أن حانت من الدهر لفتة عمود دواتى أم سنانك أقوم انظر ما سبق ص 39.

ذكر خلافة الأمام الظاهر بأمر الله [أمير المؤمنين] أبى نصر محمد بن [الامام] الناصر لدين الله

الله تعالى من عقوبة ذلك انقطاع الدولة بهم، وهلاك ذريته، والله تعالى أعلم بما كان {قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ (¬1)}». أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون (¬2)]. وقد ذكرنا ما كان [وقع (¬3)] بينه وبين السلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - من الوحشة و (¬4) العتب. وذكر أن الملك [124 أ] الناصر [صلاح الدين (¬5)] بقيت في نفسه من الخليفة نفرة، وأنه كان عزم بعد استقرار الهدنة بينه وبين الفرنج في سنة ثمان وثمانين وخمس مائة على قصد بغداد، والله تعالى أعلم بغيبه. ذكر خلافة الأمام الظاهر بأمر الله [أمير المؤمنين (¬6)] أبى نصر محمد بن [الامام (¬7)] الناصر لدين الله ولما توفى الخليفة الناصر بويع ولده وولى عهده الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد، فأظهر العدل وأزال المكوس والمظالم، وأخرج المحبسين وظهر للناس، وكان الناصر ومن قبله لا يظهرون إلا نادرا. ولم تطل مدته في الخلافة إلا تسعة أشهر وأياما. وفى هذه السنة توفى القاضى جمال الدين المصرى قاضى القضاه بدمشق وبلادها. وكان القاضى قبله زكى الدين بن محيى الدين بن زكى الدين فحكم بحكم ¬

(¬1) سورة الزمر، آيه 46. (¬2) ما بين الحاصرتين غير مذكور في نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 2 ص 248 - 250. (¬5) الاضافة من نسخة س. (¬6) الاضافة من نسخة س. (¬7) الاضافة من نسخة س.

أنكره الملك المعظم [عيسى بن العادل (¬1)] عليه، فغضب عليه وبعث إليه كلوتة (¬2) وقبا (¬3) وألزم بأن يلبسها في الملأ إهانه له وإخراقا به، وإشعارا بأنه لا يصلح له لباس أهل العلم، وأن اللائق به أن يكون جنديا. فحزن لهذه الواقعة واغتم، ومات بعدها بمدة قليلة. ولما عزله ولى جمال الدين المصرى، وكان قبل ذلك وكيل بيت المال (¬4)، وكان شديد السمره، يلثغ بالقاف ويجعلها همزة، فصلى ليلة بالملك المعظم، فلم يفتح له من القرآن إلا قوله تعالى: {وَاُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) الكلوته غطاء للرأس تلبس وحدها أو بعمامه وتسمى أيضا كلفتاه وكلفة، انظر: Dozy, Dictionaire detaille des noms des vetements, pp. 387 - 8; id, Supp .Dict .Ar, I, P. 284; Mayer, Mamluk Costume, pp. 16 - 18. انظر ايضا المقريزى (السلوك، ج 1 ص 493 حاشية 1). 81 - 61 وذكر القلقشندى (صبح، ج 4 ص 5) أن الأتابكه ومن بعدهم بنى أيوب «كان من شأنهم أنهم يلبسون الكلوتات الصفر على رءوسهم مكشوفة بغير عمائم، وذوائب شعورهم مرخاة تحتها، سواء في ذلك المماليك والأمراء وغيرهم». وذكر المقريزى (الخطط، ج 2 ص 98) «أنه كان من الرسم في الدولة التركية أن السلطان والأمراء وسائر العساكر انما يلبسون على رءوسهم كلوته صفراء مضربة تضريبا عريضا ولها كلاليب بغير عمامه فوقها» مما يوضح استمرار استخدام الكلوته زمن المماليك. (¬3) عن القبا وهو ثوب يلبس فوق الثياب أو فوق القميص على شكل معطف انظر ما سبق ابن واصل، ج 1، ص 279 حاشية 4، عن أنواع الأقبية المختلفة انظر: Mayer, Mamluk Costume, pp .13 - 14, 18 - 19, 21 - 24, 27, 29 (¬4) وكيل بيت المال موظف مالى كبير كان يحل مكان ناظر بيت المال عند غيابه ويقوم بمهامه. وبالتالى كان وكيل بيت المال يتصرف كرئيس للخزانة ومسئول عن الموارد المالية المتبقية في الدواوين الأخرى الواردة إلى بيت المال، انظر: Hassanein Rabie, The Financial System of Egypt, pp. 147 - 8.

اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ (¬1)}» الآية، فأبدل كل قاف فيها همزة، فضحك الملك المعظم وقطع الصلاة. وكان جمال الدين هذا فقيها، له معرفة بالمذهب متوسطة، وله شعر حسن، ذكر أنه خرج [يوما (¬2)] مع جماعة الشهود لترآئى الهلال فرأوه وتحته شفق أحمر فقال جمال الدين المصرى: كأنما هلالنا ... في الشفق المرتكم سفينة من فضة ... تجرى على بحر دم وكأنه نحا في هذا نحو قول ابن المعتز: أهلا بعيد قد أنار هلاله ... الآن، فاغد على الشراب وبكر وانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر [وكان فاضلا عالما في كل فن. ولما توفى القاضى جمال الدين المصرى ودفن في داره، فقال شرف الدين بن عنين: ما قصر المصرى في حكمه ... إذ صير التربة في داره (¬3) فخلص الأحياء من رجمه ... وخلص الأموات من ناره (¬4) ] ولما توفى ولى السلطان الملك المعظم القضاء شمس الدين الخويى (¬5)، وكان فاضلا عالما متفننا في فنون شتى، وقاد الذهن (¬6). وقبض الملك الناصر صاحب ¬

(¬1) سورة المائدة آية 27. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ورد هذا البيت في ديوان ابن عنين (ط، دمشق 1946، ص 238) كما يلى: ما قصر المصرى في فعله إذ جعل الحفرة في داره (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س ورقة 234 ب وغير مذكور في نسخة م. (¬5) في نسخة س «شمس الدين الخويّى» والصيغة المثبتة من م، ولعلها نسبة إلى خوىّ انظر ما سبق ص 151 حاشية 4. (¬6) في نسخة س «وذهنه قابل لجميع العلوم».

حماة، في هذه السنة، على شهاب الدين بن القطب الذى كنا قدمنا ذكره (¬1)، وهرب أخوه عماد الدين وكانا غالبين على ملكه، وولى الملك الناصر القضاء بحماة شهاب الدين إبراهيم بن عبد لله بن أبى الدم (¬2)، وكان فاضلا متفننا في المذهب والأدب والتاريخ، سافر في صباه إلى بغداد واشتغل بالعلم، وخلع عليه الخليفة [الإمام] (¬3) الناصر لدين الله، وقدم إلى حماة وعليه خلعة الخليفة. ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 87 - 88. (¬2) ابن أبى الدم الحموى (583 - 642 هـ‍. /1187 - 1244 م) مؤرخ من علماء الشافعية تفقه ببغداد وسمع بالقاهرة وثولى قضاء حماه وتوجه رسولا إلى بغداد ومن تصانيفه (التاريخ المظفرى)، انظر الزركلى، الأعلام، ج 1 ص 42؛ حاجى خليفة، كشف الظنون، ج 1، ص 305. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ودخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة

ودخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة والممالك على حالها، وقد قوى أمر السلطان جلال الدين منكبرتى بن [علاء الدين (¬1)] خوارزم شاه، وعظم شأنه، وصارت له مملكة عراق العجم وآذربيجان. وترددت الرسل بينه وبين الملك المعظم [عيسى بن العادل (¬2)] صاحب دمشق، ومظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل [وصارت كلمتهم واحدة (¬3)]. وتمكنت الوحشة بين الملك المعظم وأخويه الملك الكامل والملك الأشرف [صاحب بلاد الشرق (¬4)]. وفى هذه السنة توجه الصاحب محيى الدين أبو المظفر يوسف بن الشيخ جمال الدين أبى الفرج بن الجوزى من الخليفة الظاهر بأمر الله ومعه التشريفات لملوك بنى أيوب فوصل أولا إلى الملك الأشرف وأفاض عليه الخلع الأمامية الظاهرية. ثم وصل إلى حلب فتلقاه السلطان الملك العزيز [غياث الدين محمد (¬5)] ابن الملك الظاهر وقد ترعرع وقارب [من العمر (¬6)] ثلاث عشرة سنة. فألبسه محيى الدين خلعة الخليفة واسعه الكم سوداء، وعمامة سوداء مذهبة. والثوب بالزركش، وركب الملك العزيز بها. ثم توجه [محيى الدين (¬7)] إلى دمشق وألبس ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر منازلة الملك المعظم مدينة حمص [125 ا]

الملك المعظم خلعة الخلافة [مكمله (¬1)]. ثم توجه إلى مصر فألبس الملك الكامل خلعة الخلافة المكملة [أيضا (¬2)] بالطوق الذهب، والمركوب السنى، وركب بذلك (¬3) ثم رجع [محيى الدين بن الجوزى (¬4)] إلى العراق. ذكر منازلة الملك المعظم مدينة حمص [125 ا] ولما اتفق الملك المعظم [ومظفر الدين بن زين الدين كوكبورى بن على كوجك (¬5)] صاحب إربل، وجلال [الدين (¬6)] بن خوارزم شاه وصاروا يدا واحدة، وقع عزمهم على أن يقصد مظفر الدين الموصل، ويقصد جلال الدين خلاط، ويقصد الملك المعظم حمص وحماه ليشتغل كل منهم بنفسه؛ وذلك أن صاحب حمص وصاحب حماة والحلبيين وصاحب الموصل كانوا يدا واحدة مع الملك الأشرف، ولم يكن مع الملك المعظم من أهل بيته إلا الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه [صاحب بعلبك (¬7)] والملك العزيز والملك الصالح ابنا الملك العادل. [وكان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل صاحب بصرى والسواد، وكان هذين الأخين ملازمين خدمة أخيهما الملك المعظم لا يفارقانه (¬8)]. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س هامش ورقة 235 ا. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ذكر ابن أيبك الدوادارى (الدر المطلوب ورقة 225) معلومات وافيه عن وصول القاضى محيى الدين بن الجوزى إلى القاهرة بخلعة الخلافة للسلطان الكامل والاحتفال بذلك اليوم. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في نسخة م «فإنهما كانا من جملة عسكر أخيهما الملك المعظم».

والذى قوى طمع الملك المعظم أن [أخاه (¬1)] الملك الكامل كان خائفا من جنده، وأوهمه الملك المعظم أنه إن خرج من مصر أخذه بعسكره، فلم يجسر على الحركة من مصر. فصمم الملك المعظم على قصد حمص وحماة، ورأى البداية بحمص [أوفق له (¬2)] فسير أولا جماعة من عرب دمشق فأغاروا على قرى حمص ونهبوها وأخربوها. ووصل من جهة الملك الأشرف الأمير مانع بن حديثه أمير آل فضل (¬3) في جموع كثيرة من العرب لأنجاد الملك المجاهد أسد الدين [شير كوه (¬4)] صاحب حمص، فانتهبوا قرى المعرة وحماة وقسموا البيادر (¬5). ثم خرج الملك المعظم من دمشق في عساكره ووصل إلى حمص فاندفع مانع وعرب حلب والجزيرة إلى قنسرين، ثم نزلوا قرى حصار (¬6)، ثم تركوا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) آل فضل هم بنو فضل بن ربيعة وهم عدة بطون من طى من القحطانية ومنازلهم من حمص إلى قلعة جعبر إلى الرحبة آخذين على شقى الفرات وأطراف العراق إلى البصره، انظر القلقشندى؛ نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب (ط بغداد 1958) ص 106. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) البيادر جمع بيدر وهو الموضع الذى تدرس فيه الغلال، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 5 ص 114؛ سعيد عاشور، العصر المماليكى، ص 399. (¬6) في نسخة س «فنزلوا إلى قرى حصار» والصيغة المثبتة من نسخة م وكذلك من ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 197. وقرى أوقرا حصار (الحصن الأسود) اسم يطلق على أماكن كثيرة مختلفة بآسيا الصغرى مثل قرى حصار صاحب وقرى حصار شرقى وقرى حصار بهرامشاه. . وكل هذه الأماكن كانت واقعة على مرتفعات حصينة من الصعب الوصول اليها أحيانا، ويحتمل أن تكون قد شيدت كمأوى لبعض جماعات السكان وقت الحروب في آسيا الصغرى، انظر: J. Mordtmann, article Kara Hisar in EI, ist edition .

أظعانهم بمرج دابق، وساروا جريدة إلى أرض حمص [نجدة لها (¬1)]، فوقعت بين عرب مانع وعرب دمشق عدة وقعات. وجرد الأتابك شهاب الدين [طغريل الخادم أتابك الملك العزيز محمد بن الظاهر (¬2)] عسكرا من حلب نجدة لصاحب حمص، [فوصلوا إليها قبل أن ينازلها الملك المعظم (¬3)]. واتفق عند وصولهم [إلى حمص (¬4)] وصول عسكر الملك المعظم، فتواقعوا واقتتلوا ثم دخلوا (¬5) إلى حمص. وكان الملك الأشرف نازلا بالرقة وجاءه الخبر بحركة السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقى - صاحب بلاد الروم - إلى جهة آمد، وصاحبها الملك المسعود بن الملك الصالح الأرتقى وأنه استولى من بلاد [صاحب آمد (¬6)] على حصن منصور والكختين (¬7). فسير الملك الأشرف نجدة [125 ب] إلى صاحب آمد فالتقاهم عسكر السلطان علاء الدين فهزمهم، فرحل الملك ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) ما بين الحاصرتين غير مذكور في نسخة س ومذكور في نسخة م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «ثم دخلوا الحلبيين». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «استولى من بلاده». (¬7) ذكر أبو الفدا (تقويم البلدان ص 262 - 263) قلعة اسمها كختا وذكر أنها قلعة عالية البناء حصينة، بينها وبين ملطيه مسيرة يومين في طرف الحد الشمالى للشام، على مرحلة من حصن منصور. ولعل كختا هى الكختين الواردة في المتن، انظر أيضا ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3 ص 198 وحاشيه 1.

ذكر رحيل الملك المعظم عن حمص وقدوم الملك الأشرف عليه ومقامه عنده بدمشق

الأشرف إلى حران وخرج من بقى من عسكر حلب إلى حاضر قنسرين (¬1) لأنجاد الملك المجاهد صاحب حمص. وأخرب الملك المعظم قرايا حمص ومزارعها، وامتدت غاراته إلى سلميه، وهى يومئذ للملك المظفر بن المنصور وهو عند خاله الملك الكامل بمصر. وطال مقام الملك المعظم على حمص، ولم ينل من قلعتها ومدينتها غرضا، ووقع الفناء في عسكره وماتت دوابهم وكثر المرض فيهم. ذكر رحيل الملك المعظم عن حمص وقدوم الملك الأشرف عليه ومقامه عنده بدمشق ولما جرى [للملك المعظم] (¬2) ما ذكرناه، ولم ينل بحصاره لحمص غرضا، رحل عنها راجعا إلى دمشق في شهر رمضان من هذه السنة، أعنى سنة ثلاث وعشرين وستمائة. ورحل الملك الأشرف جريدة إليه قصدا لقطع مادة الشر، فالتقاه أخوه الملك المعظم وأظهر السرور بمقدمه، وضربت البشائر بدمشق، وزين البلد، ونصبت القباب، وأظهر [الملك المعظم (¬3)] الابتهاج العظيم به، وحاله في الباطن بخلاف ما أظهر، والرسل مع ذلك مترددة بين الملك المعظم وبين السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه. ووصل رسول جلال الدين ومعه خلعة سنية للملك المعظم فلبسها وركب بها، وعزم الملك المعظم على تزويج إحدى بناته من جلال الدين. وجرت ¬

(¬1) ذكر ياقوت (معجم البلدان، ج 2 ص 185) أن حاضر قنسرين كان لتنوخ منذ أول نزولهم بالشام وأنه لما فتح أبو عبيدة قنسرين دعا أهل حاضرها إلى الأسلام، فأسلم بعضهم وأقام بعضهم على النصرانية فصالحهم على الجزية، وأن جماعة من أهلها أسلم في خلافة المهدى. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

بينهما مراسلة في ذلك، وصار بينهما إتحاد كلى. ولما انقضى شهر رمضان خرج الملك المعظم ومعه أخوه الملك الأشرف متنزهين ومتصيدين. وورد إليهما من حلب القاضى زين الدين بن الأستاذ نائب القاضى بهاء الدين بن شداد (¬1) رحمهما الله، ومظفر الدين بن جرديك (¬2) رسولين يطلبان تجديد الأيمان للملك العزيز، ولأتابكه شهاب الدين طغريل. ولما قدما دمشق وجدا الملك الأشرف كالتّبع للملك المعظم لا يمكنه أن ينفرد عنه بأمر ولا يتجاسر - لكونه في قبضته وكالأسير عنده - على مخالفته [126 أ] في قليل ولا كثير، ولا يتأتى له الأنفراد عنه بسر. فدامت المراجعات بينهما وبين الأتابك [شهاب الدين مستمرة (¬3)] مدة شهرين إلى أن ورد الخبر بنزول السلطان جلال الدين خوارزم شاه على خلاط ومحاصرته لها، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. واشتدت ندامة الملك الأشرف على قدومه على أخيه الملك المعظم، واغتنم الملك المعظم قدوم أخيه عليه، ليتمكن من إلزامه بموافقته على ما يؤثره ويريده، وأن يمكنه من قصد حمص وحماه [وتمليكهما (¬4)]. والملك الأشرف يداريه ويمغلطه ولا يمكنه مخاشنته لأنه كالأسير في قبضته، وهما في الظاهر متصافيان متحابان متعاشران على [اللهو (¬5) و] اللذات. واشتهر عند الناس كلهم أن ¬

(¬1) هو بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع المعروف باسم ابن شداد جده لأمه، وقد توفى القاضى بهاء الدين بحلب سنة 632 هـ‍ - 1239 م وهو صاحب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية أو سيرة صلاح الدين. (¬2) في نسخة م «خرديك» والصيغة الصحيحه المثبتة من نسخة س انظر ما سبق ص 120. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر إستيلاء جلال الدين بن خوارزم شاه على تفليس

الملك الأشرف معتقل موصى عليه من جهة الملك المعظم، وأنه لا يطلقه حتى يأخذ منه جميع بلاده. ولم يكن الأمر على ما ظنوه وإنما كانت ملازمته له ليساعده على أغراضه. ثم استدعيا رسولى حلب، وحلفالهما، ورجعا إلى حلب. وخرجت هذه السنة والملك الأشرف عند أخيه الملك المعظم بمنزلة الأسير، ثم انتقلا إلى البلاد الغورية (¬1) فشتيا بها، وهما في الظاهر على غاية التصافى والتواد. وهذا أيضا من محاسن هذا البيت [الأيوبى (¬2)]، ومما تميزوا به على من تقدمهم من الملوك؛ وهو أن يجتمع ملكان عظيمان كل منهما مالك إقليم عظيم، ويصير أحدهما في قبضة الآخر وليس معه جند ولا عسكر، ويكون بينهما في الباطن غاية التعادى والتنافس، ثم لا يعدو القاهر منهما على المقهور، بل يطلقه ليمضى إلى بلاده [بعد الأكرام الزائد وإظهار المودة والبر الذى ما فوقه مزيد (¬3)]. ذكر إستيلاء جلال الدين بن خوارزم شاه على تفليس هذه تفليس مدينة عظيمة من أحسن البلاد وأحصنها وأمنعها، وكانت قبل الإسلام أعظم الثغور ضررا على مجاوريها من الفرس. فلما جاء الإسلام كانت في أول الإسلام من أعظم الثغور ضررا على المسلمين ونكاية، ثم ملكها المسلمون، فلم تزل في أيديهم إلى سنة خمس عشرة وخمس مائة، فملكها الكرج ¬

(¬1) يقصد غور الأردن أي القرى والأماكن الواقعة بين بيت المقدس ودمشق، انظر ياقوت معجم البلدان. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س.

واستولوا عليها. وكان الملك (¬1) في ذلك الزمان السلطان محمود بن محمد بن [126 ب] ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقى، وكان من أعظم السلاطين السلجوقية شأنا، وأوسعهم مملكة، وأكثرهم عساكر. وكانت بيده مملكة بغداد والخليفة تحت حكمه والعراق كله، وبلاد الجبل المسماه عراق العجم، [و (¬2)] أصفهان، وهمذان، والرى وغيرها. وكانت له أيضا مملكة خوزستان وأذربيجان وأرّان (¬3) وأرمينية، وديار بكر [والجزيرة (¬4)] والموصل، والشام وغير ذلك، وعمه السلطان سنجر صاحب خراسان وغيرها. وبالجملة فمعظم (¬5) البلاد الإسلامية كانت بأيديهم، ومع ذلك فملكت الكرج تفليس ولم يقدر [السلطان محمود ابن ملكشاه (¬6)] على دفعهم عن تفليس، [وجمع العساكر سنة سبع عشرة وخمس مائة وسار إلى الكرج فلم يقدر على دفعهم عنها (¬7)]. ثم لما ملك بعد السلطان محمود أخوه السلطان مسعود - وهو الذى ذكرنا أنه كسر عسكر الخليفة المسترشد بالله وقبض عليه وعمل على قتله، ثم ملك بغداد وولى فيها الخليفة المقتقى لأمر (¬8) الله - لم يقدم على الكرج ولم يقدر على استنقاذ تفليس منهم. ثم لما زالت مملكة السلاطين السلجوقية ببلاد ¬

(¬1) في نسخة س «السلطان». (¬2) أضيفت الواو من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 452 حوادث 623. (¬3) في نسخة س «والرى» والصيغة المثبتة من م ومن ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين من س ومن ابن الأثير، نفس المرجع والصفحة. (¬5) في نسخة م «معظم» والصيغة المثبتة من س. (¬6) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من س. (¬8) انظر ما سبق ابن واصل، ج 1 ص 58 - 68.

العجم وملك الدكز - وهو أحد مماليكهم - عراق العجم وأذربيجان وأران، وأطاعه صاحب فارس وصاحب خوزستان، وشاهر من (¬1) صاحب خلاط، حشد للكرج (¬2) وجمع، وكان قصاراه أن يتخلص منهم (¬3). ثم ملك بعده ابنه البهلوان محمد، ثم ابن البهلوان مظفر الدين أزبك وكانت البلاد عامرة في يد أولئك كلهم. ثم جاءت التتر - كما ذكرنا - وخربوا البلاد، وزادها الكرج خرابا وضعفا، فقدر الله سبحانه [وتعالى (¬4)] للسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه - بعد أن هرب إلى الهند من التتر وكاد يتلاشى أمره - أن قدم من الهند وقوى وكسر الكرج الكسرة العظيمة التي ذكرناها (¬5)، واستنقذ منهم مدينة تفليس، فعظم هذا الفتح عند المسلمين جدا، وفرحوا به. وكان الكرج لما ملكوا تفليس أبقوا من فيها من المسلمين (¬6)، وأذنوا لهم في إقامة شعائر الإسلام، فكانت الجمع تقام فيها ويعلن بالآذان، ومع هذا فكان من فيها من المسلمين يتمنون أن يستنقذها الله تعالى من الكفار. ولقد حكى لى ظهير الدين التفليسى - رحمه الله - وكان حضر فتح جلال الدين لها، قال: «كان [127 ا] الرجل من أهل تفليس يقول لأولاده، ¬

(¬1) كذا في المتن، ومن الواضح أنه يقصد «شاه أرمن» وهو لقب حكام خلاط، انظر: زامباور: (معجم الأنساب، ج 2 ص 348). (¬2) في نسخة م «الكرج» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) في نسخة م «أن يخلص منهم» والصيغة المثبتة من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 453. ووردت هذه الجملة في نسخة س كما يلى: «وكان قصده أن يخلص منهم تفليس فلم يقدر على ذلك». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) انظر ما سبق ص 143 وما بعدها. (¬6) في نسخة س «أبقوا فيها من المسلمين جماعة كبيرة».

إذا فتح الله [تعالى (¬1)] تفليس على المسلمين [وأنا قدمت (¬2)] فقوموا عند قبرى، وقولوا إن الله تعالى قد فتح تفليس على المسلمين». فلما فتحها جلال الدين، كان أحدهم يمضى إلى قبر والده ويقول عند قبره ذلك. ولنذكر صورة فتحه لها، وذلك أنه لما غزا جلال الدين الكرج وعاد عنهم جمعوا بعد ذلك وحشدوا وجمعوا خلقا [كثيرا (¬3)] من الأمم المجاورة لهم وهم اللان واللكز والقفجاق وغيرهم، واجتمعوا في أمم لا تحصى، فلقيهم السلطان جلال الدين وقد رتب لهم الكمناء (¬4) في عدة مواضع، والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فولت الكرج لا يلوى أحد منهم على أحد، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب، فلم ينج منهم إلا الشاذ (¬5) اليسير، فأمر جلال الدين أن لا يبقوا على أحد منهم، فتبعوا المنهزمين يقتلونهم. وأشار على جلال الدين أصحابه بقصد مدينة تفليس فإنها كرسى مملكتهم، فقال: «لا حاجة أن نقتل رجالنا تحت الأسوار، وإنما إذا فنيت الكرج أخذنا بلادهم صفوا عفوا». فلم يزل [جلال الدين (¬6)] يتبعهم ويستقضى في طلبهم، حتى كاد يأتى عليهم [أجمعين (¬7)]. ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) هذا اللفظ غير واضح في هامش ورقة 127 افى نسخة م ومذكور في نسخة س، وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 450) ورد اللفظ «الكمين». (¬5) كذا في نسخة م وفى ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة، بينما ورد في نسخة س «الشارد». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ثم قصد تفليس ونزل بالقرب منها، ثم سار في بعض الأيام بطائفة من العسكر لينظر إليها، ويبصر مواضع النزول عليها، وكيف يقاتلها (¬1). فلما قاربها كمن أكثر العسكر الذين معه في عدة مواضع، ثم تقدم إليها في نحو ثلاثة آلاف فارس، فلما رآه من بها من الكرج، طمعوا فيه لقلة من معه، ولم يعلموا أنه في ذلك الجمع، فخرجوا من المدينة إليه وقاتلوه، فتأخر عنهم فقوى طمعهم فيه وظنوه منهزما فتبعوه. فلما توسطوا الكمين (¬2) خرجوا (¬3) عليهم وبذلوا فيهم السيف، فقتل أكثرهم، وانهزم الباقون إلى المدينة فدخلوها، وتبعهم المسلمون. فلما وصلوا إليها نادى المسلمون من أهل البلد بشعار الإسلام وشعار جلال الدين، فأبقى الكرج بأيديهم واستسلموا. ودخل المسلمون مدينة تفليس [قهراو (¬4)] عنوة في ثامن شهر ربيع الأول من هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وعشرين وستمائة - بغير أمان. وقتل كل من فيها من الكرج، ولم يبق على كبير منهم ولا صغير، إلا من أذعن بالاسلام وأقر بكلمة الشهادة فإنه [127 ب] أبقى عليهم وأمر بهم فختنوا. ونهب المسلمون الأموال، وسبوا النساء والذرية (¬5)، ووصل إلى [بعض (¬6)] المسلمين من أهلها بعض الأذى من قتل ونهب وغيره. ¬

(¬1) في نسخة س «وكيف يكون قتاله لها» والصيغة المثبتة من م وهى الواردة في ابن الأثير (ج 12 ص 451) الذى ينقل عنه ابن واصل. (¬2) في نسخة س «الكمناء» وكلاهما صحيح. (¬3) في نسخة م «خرج» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، ج 12 ص 451. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ابن الأثير نفس المرجع والجزء والصفحة «عنوة وقهرا» (¬5) في نسخة م س «والأولاد». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ابن الأثير، ج 12 ص 451 «ووصل إلى المسلمين الذين بها».

ذكر مسير جلال الدين بن خوارزم شاه إلى كرمان لعصيان أهلها عليه

ذكر مسير جلال الدين بن خوارزم شاه إلى كرمان لعصيان أهلها عليه وفى جمادى الآخره من هذه السنه، بلغ جلال الدين أن نائبه بكرمان - وهو بلاق (¬1) حاجب - قد عصى عليه، ونزع يده من طاعته، وطمع في تملكها لبعد جلال الدين عنه واشتغاله بحرب الكرج وغيرهم. وأرسل إلى التتر يعرفهم قوة جلال الدين واستيلائه على كثير من البلاد، وأنه إن أخذ الباقى عظمت مملكته، وكثرت عساكره، «وسار إليكم واستعاد ما بأيديكم من البلاد». وكان جلال الدين قد عزم على قصد خلاط وأخذها من الملك الأشرف، كما (¬2) ذكرنا من مكاتبة الملك المعظم صاحب دمشق إليه بذلك، فصمم عزمه على ذلك وتوجه إليها. فلما بلغه ما فعله نائبه بكرمان عدل عن قصد خلاط، وسار يطوى المراحل، وقدم بين يده رسولا إلى نائبه بكرمان، وعلى يده الخلع ليطمئن [قلبه (¬3)] ويأتيه وهو غير محتاط ولا مستعد للامتناع. فلما وصل إليه الرسول (¬4) بذلك، علم أن ذلك مكيدة من جلال الدين لما يعرفه من عادته، فأخذ [النائب (¬5)] ما يعز عليه، وصعد إلى قلعة حصينه فامتنع بها، وجعل من ¬

(¬1) في نسخة س «بلان» والصيغة المثبتة من نسخة م ومن ابن الأثير، ج 12 ص 454. (¬2) انظر ما سبق ص 174 - 175. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة س «رسول جلال الدين». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س للتوضيح وغير مذكور في ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 455) الذى ينقل عنه ابن واصل.

ذكر الحرب بين عسكر الملك الأشرف وجلال الدين بن خوارزم شاه

يثق به من أصحابه في الحصون يمتنعون بها. وأرسل إلى جلال الدين يقول له: «إننى (¬1) أنا العبد المملوك (¬2)، ولما سمعت بمسير السلطان إلى هذه البلاد أخليتها له لأنها بلاده، ولو علمت أنه يبقى علىّ لحضرت إلى بابه، ولكنى أخاف منه». وحلف الرسول له أن السلطان جلال الدين بتفليس، وهو لا يلتفت إلى قوله. وعاد الرسول، وعلم جلال الدين أنه لا يمكنه أخذ ما بيده من الحصون، لأنه يحتاج لحصرها إلى مدة طويلة (¬3) [وقتل المسلمين عليها (¬4)]. فأقام [جلال الدين (¬5)] بالقرب من أصفهان، وأرسل إليه (¬6) الخلع وأقره على ولايته. وبينما الرسل تتردد بينهما إذ وصل رسول من شرف الملك وزيره - وكان بتفليس - يعرفه أن عسكر الملك الأشرف الذين بخلاط قد هزموا بعض عسكره، وأوقعوا بهم، ويحثه على العود إلى تفليس فعاد إليها مسرعا. [128 ا] ذكر الحرب بين عسكر الملك الأشرف وجلال الدين بن خوارزم شاه كان جلال الدين لما سار إلى كرمان ترك بتفليس عسكرا مع وزيره شرف الملك، فقلت عليهم الميرة، فساروا إلى أرزن الروم (¬7) فوصلوا إليها ¬

(¬1) في نسخة م «إنى» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، ج 12 ص 455. (¬2) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن الأثير، نفس الجزء والصفحة «والمملوك». (¬3) في نسخة س «إلا بحصرها مدة طويلة» وفى ابن الأثير، نفس الجزء والصفحة «لأنه يحتاج أن يحصرها مدة طويلة». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وغير وارد في ابن الأثير. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة س «إلى نائبه بكرمان». (¬7) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن أرزن الروم بلدة من بلاد أرمينيا أهلها أو من.

ذكر منازلة مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل الموصل

ونهبوا، وسبوا النساء، وأخذوا من الغنائم ما لا يحصى وعادوا. فكان (¬1) طريقهم على أطراف ولاية خلاط، والنائب بخلاط عن السلطان الملك الأشرف الحاجب حسام الدين على، وهو أخص أصحاب الملك الأشرف ونائبه بخلاط، فجمع العساكر وسار إليهم فأوقع بهم، واستنقذ ما معهم من الغنائم، وغنم كثيرا مما معهم، وعاد هو وعسكره سالمين. فلما فعل ذلك خاف وزير جلال الدين منهم فأرسل إليه (¬2) يعرفه بالحال، ويخوفه عاقبة التوانى، فعاد جلال الدين إلى تفليس كما ذكرنا (¬3). ذكر منازلة مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل الموصل قد ذكرنا مكاتبة الملك المعظم صاحب دمشق [إلى (¬4)] مظفر الدين بن زين الدين واعتضاده به والتقدم إليه بمنازلة الموصل (¬5)، فتوجه في جمادى الأولى (¬6) من هذه السنة، أعنى سنة ثلاث وعشرين وستمائه، لقصد حصارها فنزل الزاب، وكان بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، قد أرسل إلى الملك الأشرف يستنجد به، ويطلب أن يحضر بنفسه إلى الموصل. وكان الملك الأشرف إذ ذاك بالرقة، فسار منها إلى حران، ومن حران إلى دنيسر فخرب بلد ماردين، ¬

(¬1) في نسخة م «وكانت» وفى نسخة س «فكانت» والصيغة المثبتة الصحيحة من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 455. (¬2) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن الأثير، ج 12 ص 456 «إلى صاحبه بكرمان». (¬3) انظر ما سبق ص 187. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) انظر ما سبق ص 137. (¬6) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 453 «في جمادى الآخرة»

ذكر حصر جلال الدين بن خوارزم شاه آنى وقرس من أعمال الكرج

ثم سار بعد ذلك إلى دمشق - كما قدمنا (¬1) ذكره - وأقام عند أخيه الملك المعظم إلى أن خرجت هذه السنة. ولم يجسر مظفر الدين على المطاوله في قتال من بالموصل، وعلم عجزه عن ذلك، فعاد إلى إربل بعد أن أخرب بعض أعمال الموصل، وكان الغلاء شديدا، فأجحفت هذه الواقعة بأهل البلاد. ذكر حصر جلال الدين بن خوارزم شاه آنى وقرس (¬2) من أعمال الكرج [128 ب] وفى شهر رمضان من هذه السنة، سار جلال الدين من تفليس بعد أن عاد إليها من بلاد كرمان، وقصد آنى مدينة وبها إيوانى مقدم الكرج فيمن بقى معه من أعيانهم فحصرهم. وسير طائفة من العسكر إلى قرس، وهاتان البلدتان من أحصن البلاد، فنازلهما [جلال الدين (¬3)] ونصب عليهما المجانيق، وجدّ في القتال عليهما. وأقام عليهما إلى بعد انقضاء شوال، ثم ترك العسكر عليهما يحصرونهما، وعاد إلى تفليس، ثم سار من تفليس مجدا إلى بلاد أبخاز (¬4) وبقايا الكرج فأوقع بمن فيها وقتل وسبى، وغنم عساكره ما فيها ثم عاد إلى تفليس. ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 179. (¬2) آنى قلعة حصينة ومدينة بأرض ارمينية بين خلاط وكنجة، وقرس كتبها ياقوت وابن عبد الحق قرص مدينة بأرمينيه من نواحى تفليس، انظر ياقوت، (معجم البلدان)؛ ابن عبد الحق (مراصد الأطلاع، ج 1 ص 6، ج 3 ص 1078). (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) أبخاز اسم ناحية من جبل القبق المتصل بباب الأبواب تجاور بلاد اللان يسكنها الكرج النصارى، انظر ياقوت، معجم البلدان.

ذكر حصر جلال الدين بن خوارزم شاه خلاط وهو الحصر الأول

ذكر حصر جلال الدين بن خوارزم شاه خلاط وهو الحصر الأول ولما رجع جلال الدين من غزو الأبخاز سار مجدا إلى ملاذكرت (¬1) من بلد خلاط، فنازلها يوم السبت ثالث عشر ذى القعدة من هذه السنه، ثم رحل منها فنزل على خلاط، وبها الحاجب حسام الدين على الموصلى نائب الملك الأشرف، وقاتل أهلها قتالا شديدا. ووصل عسكره إلى سور المدينة ودخلوا الربض (¬2) الذى لها، وذلك بعد أن زحفوا إلى السور، وقتل منهم قتلى كثيرة. ثم زحفوا إليها (¬3) مرة ثانية، وقاتل أهل البلد قتالا شديدا، وعظمت نكاية عسكر جلال الدين بأهل خلاط، [ووصلوا إلى سور البلد، ودخلوا الربض الذى له (¬4)]. ولما هجموا الربض مدوا أيديهم في النهب وسبى الحريم. فلما رأى أهل خلاط ذلك حرض بعضهم بعضا فقاتلوا العسكر قتالا شديدا، وأخرجوهم من البلد، وقتل بينهم خلق كثير، وترجل الحاجب علىّ ووقف في نحر العدو، وأبلى بلاء حسنا. وأسر عسكر جلال الدين من أمراء خلاط جماعة، وقتل منهم كثير. ثم استراح جلال الدين عدة أيام، وعاود الزحف مثل أول يوم، فقاتله أهل خلاط حتى أبعدوا عسكره عن البلد. ¬

(¬1) ملازكرد وتعرف أيضا منازجرد ومنازكرد - كما ذكر ياقوت - وملاسكرد وملسجرد مدينة بأرمينية تقع إلى شمال بحيرة فان وفيها وقعت سنة 1071 وقعة فاصلة مشهورة بين السلاجقة والبيز نطيين، أسر فيها الأمبراطور البيزنطى رومانوس الرابع (ديوجينس)، انظر ياقوت، معجم البلدان Buchner, article Malazgerd in EI Cahen, Pre - Ottoman Turkey, pp. 29, 66 - 9, 83, 129 - 130. (¬2) الربض سور المدينة وما حولها من بيوت ومساكن، انظر محيط المحيط. (¬3) في نسخة م «اليه» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 461 (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة.

ذكر وفاة الإمام الظاهر [بأمر الله]- رحمه الله

وأقام جلال الدين محاصرا لخلاط إلى أن اشتد البرد، ونزل الثلج فرحل عنها، لسبع بقين من ذى الحجة من السنة. وكان سبب رحيله مع خوف الثلج ما بلغه من فساد التركمان الايوانية (¬1) - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة الإمام الظاهر [بأمر الله (¬2)]- رحمه الله وفى رابع عشر رجب من هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وعشرين وستمائه - مات الخليفة الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله، وكانت مدة خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر (¬3) يوما. ولقد تباعد ما بينه وبين أبيه الناصر لدين الله تباعدا جدا في أمور، أحدها: أن مدة خلافته كانت قصيرة جدا، فلم يل من بنى العباس من هو أقصر مدة في الولاية منه إلا المنتصر بالله ابن المتوكل فإنه كانت مدة خلافته نحو خمسة أشهر. وطالت مدة أبيه الناصر [لدين الله] (¬4) في الخلافة جدا، فلم يل من بنى العباس، بل ولا من الخلفاء قبلهم، أطول مدة في الخلافة منه. وثانيها: أنه كان في غاية العدل والإحسان إلى الخلق، وكان أبوه في غاية الظلم والعسف. وثالثها: أنه كان في غاية التعصب لمذهب [أهل (¬5)] السنة [والبغض للروافض، وكان أبوه في غاية الميل إلى الروافض (¬6)]. ¬

(¬1) عن قبائل التركمان في وسط آسيا أنظر: Barthold, Turkestan down to the Mongol invasion, pp. 234, 257, 284 - 5, 293, 295, 297 - 302, 333, 408, 416, 440, 449; id, article Turkomans in EI . (¬2) في نسخة م «بالله» والصيغة المثبتة من نسخة س، انظر أيضا زامباور، معجم الأنساب، ج 1، ص 4. (¬3) في نسخة س «وأربع عشر يوما» وهو تصحيف وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 456) «وأربعة وعشرين يوما» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س «وكان أبيه متعصبا جدا لمذهب الروافض».

ذكر سيرته رحمه الله

ذكر سيرته رحمه الله كان - رحمه الله - إماما عادلا متواضعا، محسنا إلى الرعية جدا، وكان قبل وفاته قد أخرج توقيعا إلى الوزير بخطه ليقرأه على أرباب الدولة، وقال الرسول: «أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم أو نفّذ (¬1) مثال، ولا يبين له أثر، بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال». ثم أمر بقراءة التوقيع على الجماعة فقرئ عليهم ونسخته: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالا، ولا إغضاؤنا، إغفالا، ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملا، وقد غفرنا (¬2) لكم ما سلف من خراب (¬3) البلاد، وتشريد الرعايا، وتقبيح السمعه، وإظهار الباطل الجلى في صورة الحق الخفى حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح إستيفاء، واستدراكا لأغراض انتهزتم فرصتها مختلسه من براثن أسد (¬4) باسل، وأنياب أسد مهيب، تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم [129 ب] أمناؤه وثقاته، فتميلون رأيه إلى هواكم (¬5)، وتمزجون باطلكم بحقه، [فيطيعكم (¬6)] وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون. والآن فقد بدل الله سبحانه بخوفكم ¬

(¬1) في نسخة م «ونفذ» وفى نسخة س «أو تقدم» والصيغة المثبتة من ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 456). (¬2) في ابن الأثير، الكامل ج 12 ص 457 «عفونا». (¬3) في ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة «إخراب». (¬4) في ابن الأثير، «ليث». (¬5) في نسخة م «رأيكم» والصيغة المثبتة من س ومن ابن الأثير، نفس الجزء والصفحة. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 457) وغير مثبت في نسخة م.

أمنا، وبفقركم غنى، وبباطلكم حقا، ورزقكم سلطانا يقيل العثرة، ويقبل المعذرة، ولا يؤاخذ إلا من أصر، ولا ينتقم إلا ممن استمر. يأمركم بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى، وهو يخوفكم مكره، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته، فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا [هلكتم (¬1)] والسلام». ولما توفى وجد في داره ألوف رقاع كلها مختومه لم يفتحها، وقال: «لا حاجة لنا فيها، كلها سعايات». ومن مآثره الحسنة الجليلة أنه أعاد من الأملاك المغصوبة في أيام أبيه وقبلها شيئا كثيرا. وأطلق المكوس في جميع البلاد، وأمر بالاقتصار على الخراج القديم في جميع البلاد، وأن يسقط جميع ما جدده أبوه، وكان كثيرا لا يحصى؛ فمن ذلك أن القرية المسماة بعقوبا كان يؤخذ منها كل سنة عشرة الآف دينار (¬2)، فلما ولى أبوه الناصر الخلافة كان يؤخذ منها كل سنة ثمانون ألف دينار، فحضر أهلها واستغاثوا، وذكروا أن أملاكم قد أخذت لأنه لا يتحصل منها هذا المبلغ، فأمر [الأمام الظاهر بأمر الله (¬3)] بأن يقتصر على الخراج الأول وهو عشرة آلاف دينار (¬4)، وأطلق لهم سبعون ألف دينار، فاذا كان هذا القدر العظيم قد أطلق من قرية واحدة، فما الظن بباقى البلاد؟. ¬

(¬1) اضيف ما بين الحاصرتين من ابن الأثير، الكامل (ج 12، ص 457) وغير مثبت في نسختى المخطوطة. (¬2) في نسخة س «درهم» وهو تحريف والصحيح الصيغة المثبتة من نسخة م ومن ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 441. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة س «درهم» انظر حاشية رقم 2.

ولما فعل ذلك تضور الديوان وقالوا: «إن هذا القدر يصل إلى المخزن (¬1) فمن أين يكون العوض؟». فأقام لهم العوض من جهات أخرى. ومن ذلك أن المخزن كانت له صنجة يقبضون بها المال، ويعطون بالصنجة التي يتعامل بها الناس. فسمع بذلك فخرج توقيعه إلى الوزير أوله [قوله تعالى (¬2)] {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} (¬3)». قد بلغنا [أن الأمر] (¬4) كذا وكذا فتعاد صنجة المخزن إلى الصنجة التي يتعامل بها المسلمون واليهود والنصارى». وكتب إليه بعض النواب يقول: «إن هذا مبلغ [كثيرو (¬5)] قد حسبناه فكان في السنة الماضية خمسة وثلاثين ألف دينار [قد ذهبت علينا (¬6)]»، فأعاد الجواب: «لو أنه ثلثمائه ألف وخمسون ألف دينار يطلق». وكذلك فعل أيضا في إطلاق زيادة الصنجة التي للديوان، وهى في كل دينار (¬7) حبه. وتقدم إلى القاضى بأن كل من عرض عليه كتابا صحيحا [بملك (¬8)] ¬

(¬1) عن المخزن وصاحب المخزن انظر ما سبق من هذا الكتاب (ابن واصل، ج 1 ص 59 حاشية 3.) (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) سورة المطففين آيات 1 - 6. (¬4) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 442). (¬5) ما بين الحاصرتين غير مثبت في نسخة م وفى نسخة س «عظيم» والصيغة المثبتة من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 442. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) الحبة هى 72/ 1 من الدينار أنظر: Goitein, A Mediterranean Society, Vol. I, P. 359; Zambaur article Habba in EI (¬8) في نسخة س «في ملك» والكلمة ساقطة من نسخة م والصيغة المثبتة من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 442.

يعيده إلى صاحبه ولا يراجع (¬1) فيه. وأقام رجلا حنبليا صالحا في ولاية الحشرى (¬2) وبيت المال فكتب إليه: «إن من مذهبى توريث ذوى الأرحام؛ فإن أذن أمير المؤمنين أن أفعل ذلك وليت وإلا فلا». فكتب إليه الخليفة: «اعط كل ذى حق حقه، واتق الله ولا تتق سواه». وكانت العادة جارية في بغداد أن حارس كل درب يبكر ويكتب مطالعة إلى الخليفة بما تجدد في دربه من إجتماع بعض الأصدقاء ببعض على نزهة أو سماع أو غير ذلك، وكذلك يكتب بكل ما تجدد من صغير وكبير، فكان الناس من هذا في حجر عظيم. فلما تولى الظاهر الخلافة أتته المطالعات على العادة فأمر بقطعها وقال: «أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم، فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا». فقيل له إن العامة تفسد بذلك، ويعظم شرها. فقال: «نحن ندعو الله أن يصلحهم (¬3)». ولما ولى الخلافة وصل صاحب الديوان (¬4) من واسط، وكان قد سار إليها في أيام الناصر لتحصيل الأموال، فلما وصل وصل معه ما يزيد على مائه الف ¬

(¬1) في نسخة م «يعيده اليه ولا يراجع» وفى ابن الأثير، ج 12 ص 442 «يعيده اليه من غير إذن». (¬2) في نسخة س «في ولاية الجسر» والصيغة المثبتة من م ومن ابن الأثير، نفس الجزء والصفحة؛ وولاية الحشرى وظيفة يتولى صاحبها النظر في شئون أموال الحشريين، وهم الذين يتوفون بلا وارث شرعى وكذلك أموال المتوفين الذين يتركون ورثة لا يستحقون كل الميراث، انظر ابن مماتى، قوانين الدواوين، ص 319؛ القلقشندى، صبح الأعشى، ج 3 ص 464؛ حسنين ربيع، النظم المالية في مصر زمن الأيوبيين، ص 47؛ انظر أيضا: Hassanein Rabie, The financial system of Egypt, pp. 127 ff . (¬3) في نسخة م «في أن يصلحهم» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 443. (¬4) في نسخة م «المخزن» والصيغة المثبتة من س ومن ابن الأثير، نفس الجزء والصفحة.

خلافة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين بن الظاهر

دينار، وكتب مطالعة تتضمن ذلك، ويستخرج الأمر في جملة. فخرج الجواب بأن يعاد المال إلى أربابه. وأخرج لما ولى كل من في الحبوس (¬1)، وأمر بإعادة ما أخذ منهم، وبعث إلى القاضى عشرة آلاف دينار ليعطيها كل من هو محبوس في حبس الشرع وليس له مال. ولما عوقب في بذل الأموال التي لم يبذلها خليفة قبله، قال: «أنا فتحت دكانا بعد العصر فاتركونى أفعل الخير [فكم أعيش (¬2)]؟». وأطلق في ليلة عيد النحر (¬3) [130 ب] من السنة الماضية - ولم يشهد عيدا في خلافته سواه - مائه ألف دينار للعلماء وأهل الدين (¬4). خلافة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين بن الظاهر ولما توفى الظاهر بأمر الله ولى الخلافة بعده ولده الأكبر المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، وكان جده الناصر لدين الله يسميه القاضى، وكان له ولد آخر يلقب الخفاجى، عنده شهامة عظيمة وشجاعة، وأظنه بقى حيا إلى أن ملك التتر بغداد، وقتل مع من قتل من بنى العباس. وكان جديرا بالخلافة بعد أخيه المستنصر، لكن لما يريده الله تعالى من بوار الأسلام، عدلوا عنه إلى المستعصم بن المستنصر - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) في نسخة س «الحبس» وفى ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 443 «السجون». (¬2) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير الكامل، ج 12 ص 444. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن الأثير (نفس المرجع والجزء والصفحة) «عيد الفطر». (¬4) في نسخة س «مائة ألف دينار للصدقه ومائه ألف دينار أخرى للعلماء وأهل الدين»، وفى ابن الأثير (الكامل ج 12 ص 444) «وفرق في العلماء وأهل الدين مائة ألف دينار».

ولما ولى المستنصر بالله الخلافة سلك في العدل والأحسان إلى الرعية واتباع السنة مسلك أبيه الظاهر [بأمر الله (¬1)]. وأمر فنودى ببغداد بإفاضة العدل وإن من كانت له حاجة أو مظلمه يطالع بها لتقضى حاجته، وتكشف مظلمته. فلما كانت أول جمعه أتت على خلافته أراد أن يصلى الجمعه في المقصورة التي جرت عادة الخلفاء بالصلاة فيها، فقيل له إن المطبق (¬2) - الذى يسلك منه إليها (¬3) فيه - خراب لا يمكن سلوكه، فركب فرسا وسار إلى جامع القصر ظاهرا بحيث يراه الناس بقميص أبيض وعمامة بيضاء بسكاكين حرير (¬4). ولم يترك أحدا يمشى معه، بل أمر كل من أراد [أن] (¬5) يمشى معه من أصحابه بالصلاة في الموضع الذى كان يصلى فيه. وسار ومعه خادمان وركاب دار لا غير (¬6)، وصلى وعاد. وكذلك فعل في الجمعة الثانية حتى أصلح له المطبق. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) المطبق هو السجن المقام تحت الأرض لأنه أطبق على من فيه، ويبدو أنه هنا بمعنى طريق تحت الأرض؛ انظر، الزبيدى، تاج العروس، ج 6، ص 417؛ Dozy, Supp.Dict. Ar, II, P. 26. (¬3) في نسخة م «يسلك إليها» والصيغة المثبتة من نسخة س، وفى ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 458 وردت الصيغة «يسلك فيه إليها». (¬4) في نسخة م «وسكاكين حريرية». وفى نسخة س «بسكاكين حريرى» والصيغة المثبتة من ابن الأثير، ج 12 ص 458. والمقصود أن طرف العمامة من الحرير المشرشر كالسكاكين، أنظر Dozy, Supp. Dict, Ar, I, P. 669. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 458) وغير مثبت في نسخة م. (¬6) الركا بدارية أو الركبدارية هم الذين يحملون الغاشية في المواكب الكبيرة رافعين لها يلفتونها يمينا وشمالا، انظر القلقشندى (صبح الأعشى، ج 4 ص 7، 12)؛ سعيد عاشور (العصر المماليكى، ص 420).

ولما توفى الخليفة الظاهر وولى الخلافة المستنصر بالله، وردت إليه رسل ملوك الأطراف مهنئين له بخلافته، ومعزين له عن والده الظاهر. وممن ورد في هذا المعنى ضياء الدين [بن الأثير (¬1)] الجزرى - الذى تقدم ذكره (¬2) في أخبار الملك الأفضل بن صلاح الدين -[131 ا] وهو أبو الفتح نصر الله، وكان قد فارق الملك الأفضل واتصل ببدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وقدم إلى بغداد رسولا من [عند] (¬3) بدر الدين مهنئا للمستنصر بالله، ومعزيا بالظاهر بأمر الله. وكان فاضلا بالأدب وعلم البديع، ومن تصانيفه «المثل السائر» المشهور (¬4)، وله الترسل البليغ البديع، وتوفى - على ما بلغنى - في سنة تسع وثلاثين وستمائة. ولما حضر الديوان قال: «ما لليل (¬5) والنهار لا يعتذران وقد عظم حادثهما؟، وما للشمس (¬6) والقمر لا يكسفان وقد فقد ثالثهما؟». [شعر (¬7)] فيا وحشة الدنيا وكانت أنيسة ... ووحشة من فيها لمصرع واحد وذلك الواحد هو سيدنا ومولانا الأمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين، الذى كانت ولايته رحمة للعالمين (¬8). واختير من أرومة النبى الذى هو سيد ولد آدم ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) انظر ما سبق ابن واصل، ج 3 ص 10 - 11، 40 - 41، 44، 56، 59، 64، 112. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) يقصد كتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» وقد حقق هذا الكتاب وعلق عليه أحمد الحوفى وبدوى طبانة في أربعة أقسام، القاهرة 1959 - 1965. (¬5) في نسخة س «فالليل» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «وللشمس» والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة م «للعالم» والصيغة المثبتة من نسخة س.

[وخاتم النبيين] (¬1)، فذمته موصولة بذمته، فهو شقيقه في نسبه، وخليفته في أمته، ولقد وقف على السنن، وأتانا بالحسن، وحمدت الأيام في زمنه، فلم يشك أحد من الزمن، ومما عظم الرزية أنه أتى عقيب رزء، وصل فجعة بفجعة، وكان يستهول أحدهما وهو وتر، فشفع الوتر بشفعه. فياويح الإسلام، فجع أولا بناصره وفجع الآن بظاهره، وقرب الوقت بينهما حتى كاد يعثر أولهما بآخره، فلم نفق النفوس ببرحائها (¬2) حتى وافت ما طوى مضضا على مضض، ووقع ذلك موقع نكسة عطفت على مرض، ونكا القرح بالقرح أوجع، وذهاب فرع العليا بعد أصله ذهاب بالعلياء أجمع، وكلا هذين الرزءين رمى الناس بسهم [غائر (¬3)] ليس عليه من صابر، وما كان الله ليسوء دينه بمصاب خليفتين، ولا يجلو ظلمته بصباح سافر. وقد جاء بسيدنا ومولانا الأمام المستنصر بالله أمير المؤمنين فأرضى به كل قلب سخط ولم يرض، وقيل هذا بدل الكل من الكل، لا بدل البعض من البعض. وكان الناس على خطر من انتقاض أمرهم، فأبيح لهم إبرام ذلك النقض، ونسى ما تقدم من البرح (¬4)، ودمل ما أعضل من القدح. ولئن عظم الأسف على ليلتين مضيتا برامة لقد أسلت عنهما [131 ب] ليلة السفح، والعبد قائم بهذا (¬5) المقام وقلبه مقسم للعزا شطرا وللهنا شطرا، فإذا نطق بهذا أسبل دمعا، وإذا نطق بهذا أبدى ثغرا، وهو نائب عن مرسله في أخذ البيعة التي يد الله ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة س «من برحائها». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) البرح الشدة والشر، انظر محيط المحيط. (¬5) في نسخة س «هذا».

فوق يدها، والسابق إلى يومها أفضل من المتأخر إلى غدها، وهى التي تجملت بها (¬1) أقلام الكرام السفرة، وجعلها الله معدودة في بيعة العقبة، وبيعة الشجرة ولها يصح قول القائل: وبيعة من قلوب غير شاردة ... ما كان في عودها ضعف ولا خور لو أنها لعتيق لم يمت حسرا ... سعد ولا قال كانت فلتة عمر وكذلك فإن العبد ينهى طاعة مرسله التي جعل يومه فيها كأمسه، وزادها (¬2) في (¬3) مبانى الإسلام فهو يبنى بها على ستة لا على خمسة، وقد أعدها في الدنيا معقلا يكتن بذراه، وفى الآخرة عتادا [صالحا (¬4)] يسره أن يراه». قلت: لقد أبدع ضياء الدين - رحمه الله - في هذا القول، وسلك في مزج التهنئة بالتعزية مسلك أبى نواس الحسن بن هانىء حيث يقول في التهنئة بولاية محمد الأمين والتعزية بأبيه هارون الرشيد: جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في وحشة وفى أنس يضحكنا القائم الأمين وتب‍ ... كينا وفاة الرشيد بالأمس العين تبكى والسن ضاحكة ... فنحن في مأتم وفى عرس بدران: بدر بدا ببغداد في ال‍ ... حلل وبدر بطوس في الرمس وسلك أبو نواس في ذلك مسلك أبى دلامة حيث يقول في التهنئة بولاية المهدى والتعزية بالمنصور: ¬

(¬1) في نسخة س «بحسنها». (¬2) في نسخة س «وزاد». (¬3) في المتن «سائر» والصيغة المثبتة من نسخة س ولعله يقصد أنه جعل طاعته ركنا سادسا يضاف إلى الأركان الخمسة التي بنى الأسلام عليها. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

عيناى: واحدة ترى مسرورة ... بإمامها جزلى، وأخرى تذرف تبكى وتضحك تارة ويسوؤها ... ما أنكرت، ويسرها ما تعرف فيسؤوها موت الخليفة محرما ... ويسرها أن قام هذا الأرأف أهدى - لهذا - الله فضل خلافة ... ولذاك جنات النعيم تزخرف فابكوا لمصرع خيركم ووليكم ... واستبشروا بمقام ذا وتشرفوا لكن أساء ضياء الدين [بن الأثير] (¬1) الأدب على خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[132 ا] وبيعة المهاجرين والأنصار له إذ قدم عليها بيعة المستنصر، إذ قضى بأنها لو كانت للصديق لم يمت بحسرتها سعد بن عبادة الأنصارى، ولم يقل الفاروق رضى الله عنه أن بيعة أبى بكر رضى الله عنهما كانت فلته. ولفد افترى في ذلك فإن بيعة الصديق لم تكن بيعة أفضل منها إلا البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما يشبه ما فعله ضياء الدين من سوء أدبه ما سنذكره في خبر قدوم الملك الناصر داود بن الملك المعظم على المستنصر بالله، فإنه عقد محفل للعلماء حضره الملك الناصر، وكان الخليفة بمرأى منه ومسمع، فقام فقيه وأنشد قصيدة يمدح فيها الخليفة (¬2) ومن جملتها: لو كنت في يوم السقيفة حاضرا ... كنت المقدّم والأمام الأروعا فعظم هذا القول على الملك الناصر - رحمه الله - وقال في ذلك الملأ ما معناه: كذبت كان جد مولانا أمير المؤمنين العباس بن عبد المطلب يوم السقيفة حاضرا، ولم يكن المقدم والأمام الأروع إلا أبو بكر الصديق رضى الله عنه. فخرج المرسوم بنفى ذلك الفقيه فنفى. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة س «الامام المستنصر بالله».

ذكر إيقاع جلال الدين بن خوارزم شاه بالأيوانية

ذكر إيقاع جلال الدين بن خوارزم شاه بالأيوانية (¬1) كانت الأيوانية (¬2) قد تغلبت على أشنه وأرميه (¬3) وكثير من بلاد أذربيجان، وأخذوا الخراج من أهل خوى ليكفوا عنهم، واغتروا باشتغال السلطان جلال الدين بالكرج وخلاط، وازداد طمعهم وانبسطوا في البلاد يقطعون الطريق وينهبون. وأتت الأخبار بذلك إلى جلال الدين وهو متغافل عنهم لاشتغاله بما هو أهم منه. وبلغ من طمعهم أنهم قطعوا الطريق بقرب توريز، وأخذوا من تجار أهلها شيئا كثيرا. ولما اشتد ذلك على الناس أرسلت إبنة السلطان طغرل إلى زوجها جلال الدين تستغيث به، وتعرفه أن البلاد قد استولى عليها الأيوانية (¬4) وإن لم يتداركها وإلا هلكت بالكلية. فلما أتته الرسالة رحل عن خلاط، وكان منازلها - كما ذكرنا - وجد في السير وأتى الأيوانية (¬5) وهم آمنون، فأوقع بهم وأخذتهم السيوف وهم [عارون من السلاح] غافلون (¬6)، فقتل منهم ما لا يحصى، واسترق حريمهم وأولادهم، ولما فرغ منهم عاد إلى توريز وأقام بها. [132 ب] ذكر الحرب في هذه السنة بين صاحب آمد وسلطان الروم كان صاحب آمد الملك المسعود بن الملك الصالح الأرتقى قد وافق الملك المعظم صاحب دمشق ومظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل وجلال الدين ¬

(¬1) في نسختى المخطوطة «الأيوية» والصيغة المثبتة مما سبق ص 191 وكذلك من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 462. (¬2) في نسختى المخطوطة «الأيوية» والصيغة المثبتة مما سبق ص 191 وكذلك من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 462. (¬3) في نسخة س «أسنه وأرمينيه» وهو تصحيف، والصيغة الصحيحة هى المثبتة من نسخة م وأشنه بلدة في طرف أذربيجان من جهة إربل ذات بساتين وأرمية مدينة كبيرة بأذربيجان أيضا، انظر (ياقوت: معجم البلدان). (¬4) انظر ما سبق حاشية 1 - 2. (¬5) انظر ما سبق حاشية 1 - 2. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «غارون».

ابن خوارزم شاه، وكان السلطان علاء (¬1) الدين كيقباذ بن كيخسرو خائفا من جلال الدين فاتفق مع الملك الأشرف فأرسل إليه الملك الأشرف يطلب منه أن يقصد بلاد آمد، فسار علاء الدين إلى ملطيه وسير منها العساكر إلى بلاد آمد، ففتحوا حصن منصور وغيره، وقد تقدم ذكرنا (¬2) ذلك. فلما رأى ذلك صاحب آمدراسل الملك الأشرف وعاد إلى موافقته، فأرسل الملك الأشرف يسأل علاء الدين أن يعيد إلى صاحب آمد ما أخذ منه، ويعرفه موافقة الملك المسعود صاحب آمد له، فامتنع [ملك الروم علاء الدين كيقباذ (¬3)] من ذلك، وقال: «ما كنت نائبا للأشرف يأمرنى مره وينهانى أخرى». فأمر الملك الأشرف عسكره بمساعدة صاحب آمد. وجمع صاحب آمد عسكره وسار الجميع إلى عسكر الروم وهم يحاصرون الكختين من بلاد صاحب آمد، فاقتتلوا هنالك، فانهزم صاحب آمد ومن معه، وجرح وأسر منهم خلق. وملك عسكر علاء الدين الكختين، وهى من أمنع الحصون، ثم عادوا إلى صاحبهم. ¬

(¬1) في نسخة س «عز الدين» وهو تحريف. (¬2) انظر ما سبق ص 178 - 179. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ودخلت سنة أربع وعشرين وستمائه

ودخلت سنة أربع وعشرين وستمائه والسلطان الملك الكامل بالديار المصرية، والسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه مالك بلاد أذربيجان وأران وبعض بلاد الكرج وعراق العجم وغيرها، وهو موافق للملك المعظم على أخويه الملك الكامل والملك الأشرف. وتزوج جلال الدين إحدى بنات الملك المعظم إلا أنها لم تحمل إليه، والرسل لا تنقطع بينهما، وقد تأكدت بينهما (¬1) المودة. والملك الأشرف مقيم عند أخيه الملك المعظم كالأسير في قبضته، يظهر كل منهما لصاحبه التصافى والأمر في الباطن بخلافه، والملك الأشرف لا يتجاسر أن يخالف أخاه في أمر من الأمور، والملك المعظم يتلون معه تلون الحرباء، وكلما أجابه الملك الأشرف إلى أمر من الأمور رجع عنه (¬2) إلى غيره. وانقطعت مراسلة الملك الأشرف عن الحلبيين لكثرة عيون الملك المعظم عليه، لأنه أصبح كالأسير [133 ا] في قبضته، فذكر الصاحب كمال الدين ابن العديم - رحمه الله - قال: «وصلت إلى دمشق من الحج في هذه السنه (¬3)، فاستدعانى الملك الأشرف وحملنى رسالة إلى الأتابك (¬4) شهاب الدين مضمونها ¬

(¬1) في نسخة م «ما بينهما» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) في نسخة م «منه» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) في كمال الدين بن العديم (زبدة الحلب، ج 3 ص 200) «واتفق وصولى من الحج في صفر من هذه السنة». (¬4) في ابن العديم «أتابك».

ذكر رجوع الملك الأشرف إلا بلاده وتخلصه من أخيه الملك المعظم

ما قد وقع فيه مع أخيه وأنه كثير التلون معه (¬1) ولا يثبت على أمر من الأمور». وأنه آخر ما وقع بينه (¬2) وبينه أنه التمس منه (¬3) أن يحلف له أتابك على مساعدته ومعاضدته، وأن لا يوافق السلطان الملك الكامل عليه، وأنه متى قصده الملك الكامل كان عوناله على الملك الكامل، قال [كمال الدين (¬4)]: «فلما بلّغت الأتابك (¬5) ما قال لى امتنع من الموافقة على ذلك، وقال أنا حلفنى الملك الأشرف للملك الكامل وفى جملة يمينه أن (¬6) لا أهادن أحدا من الملوك على قضية إلا بأمره، فإذا أراد هذا منى فليأتنى بأمر من الملك الكامل حتى أساعده على ذلك». وحين تحقق الملك الأشرف أنه لا خلاص له من أخيه وأنه لا يخلص من اعتقاله إلا بمساعدته على كل ما يريده، ساعده في حكم المكره على كل ما طلبه منه، وحلف له أنه يعاضده على الملك الكامل والملك المجاهد صاحب حمص والملك الناصر صاحب حماه. ذكر رجوع الملك الأشرف إلا بلاده وتخلصه من أخيه الملك المعظم ولما حلف الملك الأشرف للملك المعظم على ما أراد مكرها، أطمأن أخوه الملك المعظم إلى ذلك، ومكنه من الرحيل إلى بلاده، ولم يظن أحد أنه ينفلت من يده إلا بأخذ معظم بلاده منه. وكان رحيله من (¬7) دمشق في جمادى الآخره من هذه السنة، فكانت مدة مقامه عنده نحو عشرة أشهر. ولما رجع الملك الأشرف إلى بلاده رجع عن جميع ما تقرر بينه وبين الملك المعظم، وتأول في ¬

(¬1) في ابن العديم «يتلون معه تلون الحرباء». (¬2) يقصد هنا ابن العديم، انظر زبدة الحلب، ص 200. (¬3) يقصد هنا ابن العديم، انظر زبدة الحلب، ص 200. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في ابن العديم «أبلغت أتابك». (¬6) في ابن العديم «أننى». (¬7) في نسخة م «إلى» والصيغة المثبتة من نسخة س.

إيمانه التي حلفها أنه كان مكرها عليها، وأنه تحقق أنه لا ينجيه منه (¬1) إلا موافقته على مراده. وندم الملك المعظم من تمكينه من الانفصال عنه، وسير العرب إلى بلد حمص وحماه فعاثوا فيها (¬2). وفى هذه السنه رجع الملك الناصر داود بن الملك المعظم إلى أبيه من إربل وصحبته الشيخ شمس الدين عبد الحميد الخسروشاهى تلميذ الأمام فخر الدين بن الخطيب الرازى (¬3) وكان الملك الناصر يشتغل عليه في العلوم [العقلية (¬4)]. ولما تأكدت الوحشه [133 ب] بين الملك المعظم وأخويه [الملك الكامل والملك الأشرف (¬5)]، وعلم الملك الكامل انتماءه إلى سلطان العجم جلال الدين بن خوارزم شاه خاف أن يكون اتفاقهما سببا لزوال الدوله، فأرسل الأمير فخر الدين يوسف بن صدر الدين شيخ الشيوخ إلى الأنبرطور فردريك صاحب بلاد انبوليه وجزيرة صقلية (¬6) يطلب منه القدوم إلى عكا، ووعده أن يعطيه البيت المقدس وبعض الفتوح الناصرى (¬7)، وقصد بذلك إشغال سر أخيه الملك المعظم ليحتاج إلى ¬

(¬1) في ابن العديم (زبدة ج 3 ص 201) «لا ينجيه من يدى أخيه» ويلاحظ أن ابن واصل ينقل هذه الأحداث من ابن العديم مع قليل من التغيير في الألفاظ. (¬2) في ابن العديم (زبدة ج 3 ص 201) «فعاثوا فيهما ونهبوا». (¬3) هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين التيمى الطبرستانى الرازى ذكر ابن خلكان (وفيات ج 1 ص 474) في ترجمته أنه فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلم الأوائل. وقد توفى سنة 606 هـ‍ - 1210 م بمدينة هراة. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة س «الأنبرطور وردريك ملك الأفرنج وطلب منه القدوم إلى عكا»، والأمبراطور المقصود هنا هو فردريك الثانى امبراطور الدولة الرومانية المقدسة (1194 - 1250)، وذكر أبو الفدا (تقويم، ص 198) والقلقشندى (صبح، ج 5، ص 410) أن مملكة بوليه ويقال لها أنبولية «مملكة على بحر الروم عند فم جون البنادقه من غربيه». (¬7) في نسخة س «الصلاحى».

ذكر إستيلاء عساكر الملك الأشرف على بعض بلاد جلال الدين ثم خروجها عنهم

موافقته، والدخول في طاعته. فتجهز الأنبرطور لقصد الساحل وبلغ ذلك الملك المعظم، فكاتب أخاه الملك الأشرف ولاطفه، فأرسل إليه يطلب موافقته فعنفه على أفعاله التي عامله بها، وقرّعه على ما اعتمده في حقه وحق أهله. وفى هذه السنة انتزع الأتابك شهاب الدين طغريل الشغر وبكاس من الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر، وما كان في يده معهما، وسلمت إليه عين تاب والراوندان والروب (¬1). ذكر إستيلاء عساكر الملك الأشرف على بعض بلاد جلال الدين ثم خروجها عنهم كنا قد ذكرنا قبل أن السلطان جلال الدين تزوج إبنة السلطان طغرل، وأنها كانت قبله مزوجه بمظفر الدين أزبك بن البهلوان (¬2)، وكانت في أيام، أزبك متحكمة في البلاد، وليس له معها حكم. فلما تزوجها جلال الدين، أعرض عنها ولم يلتفت إليها، فخافته مع ما فاتها من الحكم في البلاد، ونفوذ الكلمة، فأرسلت هى وأهل خوى (¬3) إلى الأمير حسام الدين على الحاجب، نائب الملك الأشرف بخلاط، يستدعونه ليسلموا البلاد إليه، فسار في عساكر ¬

(¬1) روب موضع بالقرب من سمنجان من نواحى بلخ، وكتبها ياقوت «رؤب» أنظر، ياقوت، معجم البلدان؛ ابن عبد الحق، مراصد الأطلاع. (¬2) انظر ما سبق ص 155. (¬3) في نسخة س «فأرسلت والى خوى» وهو تحريف والصيغة المثبتة الصحيحة من نسخة م وكذلك من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 471.

ذكر وفاة السلطان الملك المعظم رحمه الله

خلاط، واستولى على مدينة خوى وسلماس ومرند (¬1)، وكاتبه أهل نقجوان (¬2) فمضى إليهم فسلموها إليه، وقويت شوكتهم بتلك البلاد، فلو أنهم أقاموا بها لاستمر ملكهم لها، لكنهم عادوا إلى خلاط، واستصحبوا معهم زوجة جلال الدين إبنة السلطان طغرل. [فلما رجعوا استرجع جلال الدين البلاد التي أخذت منه وأقامت زوجة جلال الدين بمدينة خلاط مكرمة محترمة] (¬3). [وكتب والدى - رحمه الله - في هذه السنة وهو مقيم بالقدس بالمدرسة الناصرية الصلاحية إلى السلطان الملك المعظم يستأذنه [134 ا] في الحج فأذن له في ذلك، وأحرم عند الصخرة الشريفة، وسافر إلى مكة محرما، وحج وجاور، ثم حج سنة خمس وعشرين وعاد في سنة ست وعشرين، وأقمت مكانه بالمدرسة المذكورة (¬4)]. ذكر وفاة السلطان الملك المعظم رحمه الله وفى ذى القعدة من هذه السنة - أعنى سنة أربع وعشرين وستمائة - توفى الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل - رحمهما الله - بالدوسنطاريا بقلعة دمشق، وكان عمره على ما ذكر سبع (¬5) وأربعين سنة، وكانت مدة ملكه لدمشق إستقلالا [بعد موت أبيه الملك العادل] (¬6) تسع سنين وشهورا. ¬

(¬1) سلماس ومرند من مشاهير مدن أذربيجان، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬2) نقجوان وتكتب أيضا نخجوان بلد من نواحى أران، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وورد مكانها في نسخة م «تم بعد رجوعهم استرجعها جلال الدين». (¬4) ما بين الحاصرتين غير مذكور في نسخة س. (¬5) في نسخة م «تسعا وأربعين» والصيغة المثبتة لعلها الصحيحه من نسخة س وكذلك من ابن أيبك، الدر المطلوب، هامش ورقة 72؛ وذكر ابن خلكان (وفيات، ج 1 ص 396) أن المعظم عيسى ولد في سنة ثمان وسبعين وخمسمائه بينما ذكر سبط بن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 425) أنه ولد سنة ست وسبعين وخمسمائه. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

[ذكر سيرته رحمه الله]

[ذكر سيرته رحمه الله] (¬1) كان رحمه الله ملكا جليلا شجاعا مقداما، شديد البأس مهيبا، وكانت مملكته ما بين حمص وعريش مصر، وكان عسكره قريب ثلاثة آلاف (¬2) فارس، ولم يكن عند أحد من إخوته جند مثلهم، في فرط تجملهم وحسن زيهم. وكان بهذا العسكر القليل يقاوم أخويه الملك الكامل والملك الأشرف ويباريهما. وكان الملك الكامل يخافه لما يتوهمه من ميل عسكر مصر إليه ومحبتهم له، ولما يعلمونه من قيامه بأمر الجند وعنايته بهم. وكان الملك الكامل - مع أن عسكره كان يناهز إثنى عشر ألفا (¬3) وسعة ملكه - لا يجسر على الخروج إلى الشام، ويظن أنه إن خرج [إلى الشام (¬4)] إنحاز أكثر عسكره (¬5) إلى الملك المعظم، وحيل بينه وبين الديار المصرية، [وكان والله الأمر كذلك] (¬6)؛ فكان لذلك يداريه ويهادنه في الظاهر، وكان الملك المعظم مع ذلك يدارى أخاه الملك الكامل ويخطب له على منابر بلاده، ولا يذكر إسمه معه [في غالب أوقاته] (¬7)، ويضرب السكة باسمه، وكذلك يدارى أخاه الملك الأشرف. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين غير مذكور في نسخة س، وعن ترجمة الملك المعظم عيسى انظر: ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 471 - 472؛ ابن خلكان، وفيات، ج 1 ص 396 - 397؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 424 - 431. (¬2) في نسخة س «من أربعة آلاف». (¬3) في نسخة س «مع أن عسكره ما يزيد على اثنى عشر ألف فارس». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «انحاز عسكره أو معظمه». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

وكان مع شهامته وعظم هيبته قليل التكلف جدا، لا يركب في السناجق السلطانية في غالب أوقاته، بل يركب في جمع قليل، وعلى رأسه كلوته صفراء بلا شاش علم، ويتخرق الأسراق والطرق، ولا يطرّق بين يديه [134 ب] كما جرت عادة الملوك (¬1). ولقد رأيته بالبيت المقدس في سنة ثلاث وعشرين وستمائة، والرجال والنساء والصبيان بالجامع الأقصى يزاحمونه ولا يردهم أحد عنه، وهذا المسلك لم يسلكه أحد من أهل بيته ولا غيرهم. ولما كثر هذا منه ضرب به المثل، فكان الانسان إذا فعل فعلا لا تكلف فيه قيل قد «فعل بالمعظمى». وكان عالما فاضلا متفننا في الفقه والنحو وغيرهما، وشيخه في النحو وعلم الأدب الشيخ تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندى - رحمه الله - وقد قدمنا ذكره في أخبار عز الدين فرخشاه بن شاهان شاه بن أيوب، وذكرنا فضله وشيئا من شعره (¬2). وكان شيخه في الفقه الأمام جمال الدين الحصيرى (¬3) - رحمه الله. وكان يتردد [إلى الشيخين] (¬4) في معظم الأوقات، وربما أتى إليهما ماشيا. وقرأ على الشيخ تاج الدين كتاب سيبويه. ولقد وقفت على نسخة من كتاب سيبويه وعليها خط الملك المعظم في عدة مواضع أظنها ستة، يقول في بعضها: ¬

(¬1) ذكر القلقشندى (صبح، ج 4 ص 5) أن الأيوبيين ساروا على نهج ما كانت عليه الدولة الأتابكية من لبس الكلوتات الصفر بغير عمائم وذوائب الشعر مرخاة تحتها. (¬2) انظر ما سبق ابن واصل، ج 2، ص 125 - 126 وكذلك انظر ابن خلكان، ج 1 ص 196. (¬3) في نسخة س «الحصرى» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة هى المثبتة من نسخة م، انظر: السبكى، طبقات الشافعية (ط. القاهرة 1965)، ج 3، ص 365 وهامش 4، 372 - 373. (¬4) في نسخة م «اليهما» والصيغة المثبتة للتوضيح من نسخة م.

«أتممت هذا الكتاب مطالعة ومراجعة وأنا منازل مدينة (¬1) أرسوف»، وفى بعضها يقول: «أتممته مطالعة ومراجعة وأنا بنابلس». وكان ملوك هذا البيت كلهم شافعية، وانفرد هو - رحمه الله - بالانتماء إلى مذهب أبى حنيفة رحمه الله. وبلغنى أن أباه السلطان الملك العادل لامه [في ذلك] (¬2) وقال له: «كيف اخترت مذهب أبى حنيفه، وأهلك كلهم شافعية؟». فقال لأبيه على سبيل المداعبة: «ياخوند أما ترضون أن يكون فيكم رجل واحد مسلم». وكان شديد التعصب لمذهب أبى حنيفه - رحمه الله - عزل خطيب الأقصى وكان شافعيا، وولى خطابة الأقصى رجلا حنفيا بغداديا يقال له شهاب الدين، كان متميزا في الفقه، ومدرسا بالمدرسة الحنفية (¬3) التي على باب الحرم الشريف المعروفة بالأمجدية؛ وهى منسوبه إلى الملك الأمجد حسن شقيق الملك المعظم، وكان مدفونا بها، ثم نقل [بعد ذلك] (¬4) إلى مشهد جعفر بن أبى طالب - رضى الله عنه - بمؤته من أعمال الكرك. [135 ا] وأبقى الملك المعظم بالصخرة الإمامة للشافعية، وأمر المؤذنين أن لا يبلغوا (¬5) في تكبير الصلوات بالحرم الشريف إلا خلف الأمام الحنفى إمام الأقصى لا غير. وبلغه مرة أن المؤذنين بلّغوا بالحرم خلف إمام الصخرة الشافعى، فأنكر ذلك غاية الانكار. ثم بنى بالحرم الشريف قبة ووقف عليها وقفا جليلا على أن يشتغل في تلك القبة بالقرآت السبع، وشرط أن لا يصرف من وقفها شئ إلا للحنفيه فقط، ¬

(¬1) في نسخة س «لمدينة». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة س «الحنيفية». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «يؤذنوا».

وولى تدريسها للشيخ شمس الدين بن رزين (¬1) البعلبكى تلميذ الشيخ تاج الدين [الكندى] (¬2)، وقرأت عليه في تلك القبة الإيضاح لأبى على الفارسى (¬3)، وجودت عليه القرآن العظيم، وكان حسن القرآءة جيد الأداء، حافظا للقراءات العشر وطرقها. ولما وقف الملك المعظم على تاريخ بغداد الذى صنفه الشيخ الحافظ أبو بكر أحمد بن ثابت (¬4)، وفيه مطاعن على أبى حنيفه رحمه الله، رواها الخطيب عن جماعة من المحدثين، رد عليه الملك المعظم في ذلك، وصنف كتابا سماه «السهم المصيب في الرد على الخطيب». وأجاب الملك المعظم في هذا الكتاب عن كل مطعن ذكره بأحسن جواب، وذكر فيه مباحث جليله دقيقه في الفقه والنحو، ووقفت على هذا الكتاب بالقدس الشريف، وطالعته جميعه ووجدته في غاية الحسن. ثم ذكر في آخره مطاعن على الخطيب [صاحب تاريخ بغداد] (¬5)، وروى له أشعارا غزليه طعن بسببها في عدالته، وقرربها جرحه وصنف غير ذلك من الكتب. ¬

(¬1) في الأصل «رزمين» والصيغة المثبتة من نسخة س، ولم تمدنا المصادر المتداولة بأى ترجمة لهذا الفقيه. (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) يقصد كتاب الإيضاح في النحو لأبى على حسن بن أحمد الفارسى النحوى المتوفى سنة 377 هـ‍. (¬4) في نسخة س «أحمد بن نايب»، وهو تحريف والصيغة الصحيحه المثبتة من نسخة م؛ وهو الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن على بن ثابت البغدادى المعروف بالخطيب المتوفى سنة 463 هـ‍ - 1072 م صاحب كتاب تاريخ بغداد، انظر: حاجى خليفة (كشف الظنون، ج 1، ص 288)؛ سركيس، (معجم المطبوعات العربية، ج 1، ص 827)؛ الزركلى (الأعلام، ج 1 ص 166). (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ولما قدم الملك المعظم - رحمه الله - القدس الشريف سنة ثلاث وعشرين وستمائة، جلس خارج الصخرة الشريفة، واستدعى جماعة الفقهاء، واستدعى والدى - رحمه الله - وباحثهم في مسائل لغويه وفقهيه (¬1). [ومما سأل عنه يومئذ أنه كيف ورد في القراءات الست، أعنى ما عدا قراءه أبى عمرو بن العلاء {إِنْ هذانِ لَساحِرانِ} (¬2)» وهذه القراءة هى المطابقة لخط المصحف الإمام، ومن شأن إن أن ينتصب ما بعدها، فقال بعضهم: إن ها هنا بمعنى نعم [135 ب] كما في قول الشاعر (¬3): ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنّه أي: نعم. فأجاب هذا القائل بعضهم: أن هذا القول يعكر عليه ورود اللام في الخبر، فإنه لا يقال «نعم زيد لقائم». فقال السلطان - رحمه الله - «لا يعكر عليه، بل جاز أن تأتى هذه اللام رعاية للفظ إن فإنه يقتضى جواز وقوع اللام في الخبر، ورعاية اللفظ واعتباره قد جاء كثيرا، يقولون يا زيد الظريف، فيراعون اللفظ، ويحملون عليه، وإن كان زيد منصوبا في التقدير». فاستحسن الجماعة هذا الجواب من السلطان وأطنبوا في الثناء عليه] (¬4). وقال لوالدى يومئذ: «أكان لمدينة المعرّه سور؟». فقال له والدى: «نعم وإنما الفرنج لما ملكو المعرّه ثم استنقذها منهم أتابك زنكى الشهيد بن آق سنقر هدم سورها». ثم ذكر له والدى واقعة جميله فعلها أتابك - رحمه الله - ¬

(¬1) في نسخة س «فقهية ونحوية». (¬2) القرآن الكريم، سورة طه آية 63. (¬3) هو عبيد الله بن قيس الرقيات. (¬4) ما بين الحاصرتين غير مذكور في نسخة س.

مع المعريين، وهى أنهم طلبوا أن يرد عليهم أملاكهم التي كانت بأيديهم قبل أن يملكها الفرنج، فرسم بردها إليهم، فقال له بعض الفقهاء إن من مذهب أبى حنيفة - رحمه الله - أن الكفار إذا أخذوا من المسلمين بلدة وفيها أملاك للمسلمين ملكوها، فإذا فتح المسلمون تلك البلدة كانت تلك الأملاك لبيت المال، وحسنوا لأتابك الإستيلاء على تلك الأملاك ولا يردها إلى ملاكها لأنه حنفى المذهب. فقال أتابك: «لا والله بل نردها عليهم، إذا كنا نحن نأخذ أملاكهم، والفرنج يأخذون أملاكهم، فأى فرق بيننا وبين الفرنج». قال والدى - رحمه الله - لى بعد ذلك: «[لقد (¬1)] غلطت في إيراد هذه الحكاية لأن السلطان حنفى، وفى هذا القول تشنيع على أبى حنيفة». قال [والدى] (¬2): «لكن السلطان تغاضى عن ذلك وأظهر استحسانه». وكان عند الملك المعظم - رحمه الله - جماعة من الفضلاء لا يفارقونه في سفر ولا حضر؛ منهم فخر القضاة نصر الله بن براقه المصرى رحمه الله، وكان فاضلا في فنون الأدب والنظم والرسائل [136 ا]، ومنهم شرف الدين أبو المحاسن بن عنين [الدمشقى كاتب الأنشاء وغيره (¬3)]، وأصله من حوران، وله ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

النظم البديع الذى لا يجاريه فيه أحد. وولاه الملك المعظم مرة نظر الدواوين (¬1) بدمشق، وعلت مرتبته جدا عنده. ولما علت سنه كتب إلى الملك المعظم يستعفيه من النظر: أقلنى عثارى واحتسبها (¬2) صنيعة ... يكون برحماها لك الله جازيا كفى حزنا أن لست ترضى ولا أرى ... فتى راضيا عنّى ولا الله راضيا ولست أرجى بعد سبعين حجّة ... حياة وقد لاقيت منها (¬3) الدواهيا ولا بدّ أن ألقى الردى من مصمّم ... وكم (¬4) يتوقّى من تخطّى الأفاعيا ومنهم (¬5) جمال الدين بن شيث كاتب الإنشاء (¬6)، وكان جيد الترسل فاضلا متأدبا، وكان مع ذلك مغرى بصناعة الكيمياء. وكان شرف الدين بن عنين كثير الهجو، وكان الملك المعظم يعجبه هجوه ويضحكه. فقال شرف الدين يوما أبياتا وهو في المعسكر المعظمى (¬7) يعرّض بجمال الدين كاتب الإنشاء وجماعة من أصحاب الملك المعظم]، ويذكر غرام جمال الدين بعلم الكيمياء وهجا مع ذلك نفسه فقال: ¬

(¬1) كان لمتولى وظيفة نظر الدواوين - ويلقب بناظر الدواوين - حق الأشراف الكامل على أعمال الدواوين المختلفة مثل ديوان الجوالى وديوان المواريث وديوان الأحباس وغيرها، لتفصيل ذلك انظر: Hassanein Rabie, The financial system of Egypt, pp. 149 - 150. (¬2) في نسخة م «واتخذها» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من ديوان ابن عنين، ص 93. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة وفى ديوان ابن عنين، ص 93 «فيها». (¬4) كذا في نسختى المخطوطة وفى ديوان ابن عنين، ص 93 «فكم». (¬5) في س «وكان أيضا من مجالسين الملك المعظم جمال الدين بن شيث». (¬6) هو عبد الرحيم بن على بن شيث القرشى صاحب كتاب معالم الكتابة المتوفى سنة 625 هـ‍ - 1228 م، وقد نشر الخورى قسطنطين الباشا المخلصى هذا الكتاب في بيروت سنة 1913. (¬7) في نسخة س «يهجو العسكر المعظمى ويذكر غرام جمال الدين بعلم الكيمياء» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة هى المثبتة من نسخة م.

أنا وابن شيث في الخيام زيادة ... وابن النفيس وذا الملقّ الصوفى لا نيلنا يرجى ولا أضيا فنا ... تقرى ولا نرجى (¬1) لدفع مخوف أما الملقّ كما علمت فنسكه (¬2) ... وقف (¬3) على زبدية ورغيف وفتى بجيله إن قراما خطّه ... عاينت (¬4) منه غرائب التصحيف ومهوس بالكيمياء يقطع الأ ... وقات بالآمال والتسويف يبغى من الأبوال تبرا خالصا ... عقل لعمر أبيك جدّ سخيف وأنا وشعرى كم يعنّفنى الورى ... فيه (¬5) ولا أصغى إلى التعنيف ولما بلغ ذلك جمال الدين بن شيث غضب وشكا شرف الدين بن عنين إلى الملك المعظم فأحضر الملك المعظم ابن عنين، وأمره أن لا يعود يتعرض لجمال الدين بن شيث، فقال: «السمع والطاعة»، وقال [بديها (¬6)]: [136 ب] كذب كلّ ما ادّعيت وزور ... أنا وحدى زيادة في الخيام ولزوم السّماط أكبر همى ... ويداى الطوال عند الطعام وضيوفى هم يبيتون غرثى ... وعلاج الأبوال أقصى مرامى (¬7) ¬

(¬1) في ديوان ابن عنين، ص 147 «ولا ندعى». (¬2) في نسخة س «وشكه» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة هى المثبتة من نسخة م ومن ديوان ابن عنين، ص 147. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة وفى ديوان ابن عنين، ص 147 «نصب» بمعنى الاحتيال كما يستعمله أهل دمشق. (¬4) كذا في نسختى المخطوطة وفى ديوان ابن عنين، ص 148 «أبصرت». (¬5) كذا في نسختى المخطوطة وفى ديوان ابن عنين، ص 148 «فلا». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ورد البيتان الأخيران في ديوان ابن عنين ص 148 كما يلى: ولزوم السماط أكبر همى وعلاج الأبوال أقصى مرامى وضيوفى الأولى يبيتون غرثى ويداى الطوال عند الطعام

فأتى هذا الأعتذار بما هو أعظم من الأول، وأضحك الملك المعظم وأعجبه. وذكر أن المعظم كان نازلا مرة بنابلس وفى معسكره بهاء الدين نصر بن محمد بن القيسرانى، وبعث الملك المعظم جماعة من عسكره وأغاروا على [مدينة] (¬1) قيسارية من الساحل، وكانت يومئذ بيد الفرنج، فأسروا وقتلوا وعادوا مظفرين منصورين، ومعهم من ثمار قيسارية أترج كثير وليمون. وكان الملك المعظم عند قد ومهم في دعوة الأمير ظهير الدين بن سنقر الحلبى، وهو من أكبر أمراء الملك المعظم، وأبوه سنقر كان مملوكا لبيت القيسرانى. فقال الملك المعظم لظهير الدين: «يا ظهير هذه الهدية من بلد أستاذك»؛ يعنى ابن القيسرانى لأن جده من أهل قيساريه. وأمر الملك المعظم بتعبئة طبق كبير من ذلك الليمون والأترج، وأمر بعض الغلمان بحمله إلى بهاء الدين بن القيسرانى، ومضى مع الهدية ظهير الدين بن سنقر الحلبى، وكان في ذلك الوقت قد وصل إلى الملك المعظم الأمير سعد الدين بن كمشبة (¬2) الأسدى، وهو ابن أخت السلطان الملك العادل - رحمه الله - وقد سر الملك المعظم بوصوله إليه. ولما وصلت الهدية إلى بهاء الدين بن القيسرانى كتب إلى الملك المعظم: - يا أيّها الملك المعظم والذى ... أضحت له الدنيا تزف عروسا أوليتنى نعما (¬3) إذا أظهرتها ... للناس أظهر حاسدوها بوسا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة س «كمينا» وفى م «كمشبا» والصيغة الصحيحة المثبتة من العماد الأصفهانى، (الفتح القسى في الفتح القدسى، ص 161) حيث ورد: «وكان صهره أي صهر الملك العادل) سعد الدين كمشبه الأسدى بالكرك موكلا». (¬3) في نسخة م «نعمى» والصيغة المثبتة من نسخة س.

[ذكر أولاده رحمه الله]

فليهنك اليوم الذى قد أطلعت ... فيه الكؤوس كواكبا وشموسا وقدوم سعد الدين سعد ذابح ... للكفر يمنحهم أذى ونجوسا فكتب إليه الملك المعظم رحمه الله: - يا من تفرّد بالفضائل دائبا ... أبدا يؤسس مجدها تأسيسا لا زلت في درج المكارم راقيا ... تعلو وربعك بالثنا محروسا (¬1) فكتب إليه بهاء الدين بن القيسرانى: - مدح بمدح يستطاب وما أرى ... ما بين ذين دراهما وفلوسا فأمر له الملك المعظم بقماش كثير وذهب وحنطة وشعير وشمع، وخلع عليه. ذكر أن قيمة الجميع يناهز ألف دينار صورية (¬2)، وقال للرسول: «قل لبهاء الدين فلوس ما بيننا». [ذكر أولاده رحمه الله] ولد للملك المعظم أولاد (¬3) كثيرة مات بعضهم في حياته (¬4)] وخلّف من الذكور أربعة مات أحدهم [صغيرا (¬5)] بعده بقليل، والثلاثة الباقون أحدهم الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر داود، وكان يلقب قبل ذلك الملك الحاكم، ¬

(¬1) في نسخة س «بالثنا مأنوسا». (¬2) في نسخة س «مصرية» والصيغة المثبتة من نسخة م، ويبدو أن المقصود بالدنانير الصورية العملة الذهبية التي كانت تضرب في مدينة صور في عصر الحروب الصليبية؛ انظر حسنين ربيع، النظم المالية في مصر زمن الأيوبيين، ص 98، وانظر: Ehrenkreutz, The standard of fineness of gold coins circulating in Egypt at the time of the Crusades, in J. A. O. S. (1954), P. 163, note 13. (¬3) في الأصل «كثير». (¬4) ما بين الحاصرتين غير مذكور في نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

وهو أكبرهم [و (¬1)] مولده سنة ثلاث وستمائه، وكان عمره لما مات أبوه وولى الملك بعده إحدى وعشرين سنه، وأمه تركية عاشت بعد وفاة ولدها الملك الناصر بمدة طويلة، وعميت في آخر عمرها، ثم توفيت سنة إثنتين وسبعين وستمائة [وقد بلغت من العمر تسعين (¬2) سنة]. وكانت عندها شهامة حفظت لابنها الكرك لما حاصر الملك الكامل دمشق، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وثانيهم الملك المغيث شهاب الدين عبد العزيز، وأمه تركية [أيضا وكان جميل الصورة فيه شبه كثير بوالده (¬3)]، وتوفى سنة تسع وأربعين وستمائه ببلاد الشرق، وخلف عدة أولاد. وثالثهم الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك وأمه (¬4) روميه، وتوفى بدمشق في أوائل سنة ست وسبعين وستمائة. وخلف [الملك المعظم بن العادل أيضا (¬5)] عدة بنات إحداهن التي كان زوجها [السلطان (¬6)] جلال الدين بن خوارزم شاه ولم يتفق حملها إليه، [وماتت بعد أبيها بمدة يسيرة (¬7)]. ولما توفى دفن - رحمه الله - في مدرسة حنفية بناها (¬8) تحت جبل قاسيون في طرف الصالحية الغربى، وكان وقف عليها وقفا جليلا. [ودفن بها والدته وهى أم ولد تركية، ودفن فيها جماعة من أهله (¬9)]. وبنى بدمشق المدرسة الكبيرة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من س. (¬2) ما بين الحاصرتين من س. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س. (¬4) ورد بعد هذه الجملة في نسخة س «وهو الآن حى بدمشق في خدمة مولانا السلطان الأعظم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس خلد الله ملكه ورحمه». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة م «في مدرسة بناها حنفية» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س.

الشافعية المعروفه بالمدرسة العادلية [137 ب]، ودفن بها والدة السلطان الملك العادل، ووقف عليها وقوفا بدمشق، ودفن بها أيضا الملك المعز مجير الدين يعقوب بن الملك العادل في أيام السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز [صاحب حلب - رحمه الله - بعد سنة خمسين (¬1) وستمائة]. ولما توفى الملك المعظم [رثته الشعراء؛ فمن ذلك مارثاه به (¬2)] شرف الدين ابن عنين ومدح ولده الملك الناصر داود وهى: يا دهر ويحك ما عدا مما بدا ... أرسلت سهم الحادثات فأقصدا أغمدت سيفا مرهفا شفراته ... قد كان في ذات الأله مجرّدا فافعل بجهدك ما تشاء فإننى ... بعد المعظّم لا أبالى بالرّدى ما خلته يفنى وأبقى بعده ... يابؤس [عيشى (¬3)] ما أمرّ وأنكدا لهفى على بدر تغيب في ثرى ... رمس وبحر في ضريح ألحدا أبقيت لى يادهر بعد فراقه ... كبدا مقرّحة وجفنا أرمدا وجوى يؤجج (¬4) بين أثناء الحشا ... نارا تزايد بالدموع توقّدا لو كان خلق بالمكارم والتقى ... يبقى لكنت مع (¬5) الزمان مخلّدا أو كان شقّ الجيب ينقذ من ردى ... شقّت عليك بنو أبيك الأكبدا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة م «دهر» وفى نسخة س «دهرا» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 59. (¬4) في نسخة م «تاجج» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ديوان ابن عنين ص 59. (¬5) كذا في نسختى المخطوطة وفى ديوان ابن عنين، ص 59 ورد «لكان مدى» بدلا من «لكنت مع».

أو كان ينجى (¬1) عنك دفع بالقنا ال‍ ... ـخطىّ غادرت الوشيج مقصدا ولقد تمنّت أن تكون فوارس ... من آل أيوب الكرام لك الفدا أبكيت حتى نثرة وطمرة ... وحزنت حتى ذابلا ومهندا كم ليلة قد بت فيها لا ترى ... إلا ظهور الأعوجيّة مرقدا تحمى حمى الإسلام منتصرا له ... بعزائم تستقرب المستبعدا ولرب ملهوف دعاه لحادث ... جلل فكان جوابه قبل الصدى ولطالما شمنا (¬2) بوارق كفه ... فهمت سحائبها علينا عسجدا يا مالكا من بعد فقدى وجهه ... جار الزمان علىّ بعدك واعتدا أعزز علىّ بأن يزورك راثيا ... من كان زارك بالمدائح منشدا كم مورد ضنك وردت وطعمه ... مر وقد عاف الكماة الموردا وعزيز قوم مترف سربلته ... ذلاّ وكان الطاغى المتمردا أركبته حلقات أدهم قصرت ... منه الخطى من بعد أشقر أجردا (¬3) لولا دفاعك بالصوارم والقنا ... عن حوزة الإسلام عاد كما بدا وديار مصر لو ونت عزماته ... عن نصرها لتحكّمت (¬4) فيها العدى ولأمست البيض الحرائر بينهم ... فيها إماء والموالى أعبدا (¬5) ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وفى ديوان ابن عنين، ص 60 «يغنى». (¬2) كذا في نسختى المخطوطة وفى ديوان ابن عنين، ص 60 «شيمت». (¬3) ورد الشطر الثانى في نسخة م «عنه الخطى من أشقر أو أجردا» وفى نسخة س «عنه الخطى من أشقر وأجردا» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 61. (¬4) كذا في نسختى المخطوطة وفى الديوان، ص 61 «لتمكنت». (¬5) كذا في نسختى المخطوطة وورد هذا البيت في الديوان، ص 61: «ولأمست البيض الحرائر أسهما فيها سبايا والموالى أعبدا»

ولأصبحت خيل الفرنج مغيرة ... تجتاب ما بين البقيع إلى كدا (¬1) وبثغر دمياط فكم من بيعة ... عبد الصليب بها وكانت مسجدا أجليت (¬2) ليل الكفر عنها فانطوى ... وأنرت في عرصاتها فجر الهدى ولقد شهدتك يوم قيسارية ... والشمس قد نسج القتام لهاردا والكفر معتصم بسور مشرف ال‍ ... أبراج أحكم بالصفيح وشيدا فجعلت عاليها مكان أساسها ... وألنت للأخشاب (¬3) فيها الجلمدا قل للأعادى إن فقدنا سيدا ... يحمى الذمار فقد رزقنا سيدا الناصر الملك الذى أضحى برو ... ح القدس في كل الأمور مؤيّدا أعلى الملوك محلّة وأسرّهم ... رأيا وأشجعهم وأنداهم (¬4) يدا ماضى العزائم (¬5) لا يرى في رأيه ... يوم الكريهة حائرا مترددا يقظ يكاد يريه ثاقب رأيه (¬6) ... في يومه ما سوف يأتيه غدا وبعد وفاة الملك المعظم توفى له ولد صغير فرثاه شرف الدين بن عنين على لسان الملك الناصر أخيه بقصيدة مطلعها: لو أن غير الدهر كان العادى ... لتبادرت قومى إلى إنجادى ¬

(¬1) البقيع هى مقبرة أهل المدينة وكذا موضع بأسفل مكة، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬2) في نسخة م «جليت» وفى نسخة س «فجليت» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 61. (¬3) في نسختى المخطوطة «كالأخشاب» والصيغة المثبتة من الديوان، ص 61. (¬4) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الديوان، ص 61 «وأطوغم». (¬5) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الديوان، ص 61 «العزيمة». (¬6) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الديوان، ص 62 «فكره».

ولدافعت عنك (¬1) المنون فوارس ... بيض الوجوه كريمة الأجداد قوم بنى شاذى وأيوب لهم ... مجدا (¬2) تليدا فوق مجد عادى من كلّ وضح إذا شهد الوغى ... روّى الأسنة من دم الأوراد (¬3) المبصرون إذا السنابك أطلعت ... شمس الظهيرة في ثياب حداد لم تنب في يوم الهياج سيوفهم ... عن مضرب ونبت عن الأغماد قسما لوأن الموت يقبل فدية ... عزّت (¬4) لكنت بمهجتى لك فادى قد كنت أرجوأن أراك مقاسمى ... في خفض عيش أو لقاء أعادى وأراك في يومى وغى ومسرة ... قلب الخميس وصدر أهل النادى خانتنى الأيام فيك فقرّبت ... يوم الرّدى من ليلة الميلاد ورمتنى الأيام (¬5) منك بلوعة ... باتت تأجّح في صميم فؤادى ومنها فسقى ضريحك كل دان مسبل ... متواصل الأبراق والإرعاد حتى ترى عرصات قبرك روضة ... موشية كوشائع (¬6) الأبراد ¬

(¬1) في نسختى المخطوطة «عنه»، والصيغة المثبتة من الديوان، ص 62. (¬2) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الديوان، ص 62 «فخرا». (¬3) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الديوان، ص 62 «الأكباد». (¬4) في نسختى المخطوطة «عرضت» والصيغة المثبتة من الديوان، ص 63. (¬5) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الديوان، ص 63 «الأقدار». (¬6) في نسختى م «بوسائع» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ديوان ابن عنين، ص 64.

ذكر استيلاء الملك الناصر داود بن الملك المعظم على مملكة والده

ذكر استيلاء الملك الناصر داود بن الملك المعظم على مملكة والده ولما توفى الملك المعظم ترتب في ممالكه بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، وقام بأمره كله أستاذدار (¬1) والده الأمير عز الدين أيبك المعظمى، وكانت بيده صرخد وأعمالها، واستمر في خدمته عماه الملك العزيز عماد الدين عثمان شقيق والده صاحب بانياس وبلادها، والملك الصالح عماد الدين إسماعيل صاحب بصرى والسّواد وابن عمه الملك المغيث شهاب الدين محمود بن الملك المغيث عمر بن الملك العادل. ونفذت كتبه ورسله إلى عميه الملك الكامل والملك الأشرف بالتعزية بأبيه الملك المعظم، فقعد كل منهما في عزائه. وورد من مصر الأمير علاء الدين بن شجاع الدين جلدك المظفرى التقوى رسولا من الملك الكامل، ومعه الخلعة للملك الناصر وسنجق السلطنة، وكتب إليه بما طيب قلبه، وأقره على ممالك أبيه، فلبس خلعة عمه وركب بالسنجق الواصل إليه. ¬

(¬1) الأستاذدار هو الذى تولى شؤون مسكن السلطان أو الأمير وله الأشراف على كل من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان، وكان له مطلق التصرف في استدعاء ما يحتاجه المسكن من النفقات والكساوى. وفى عصر سلاطين المماليك أصبح الأستادار من كبار موظفى الدولة، وأصبحت وظيفته من وظائف أرباب السيوف، انظر القلقشندى، صبح، ج 4 ص 20؛ ج 5 ص 457.

ودخلت سنة خمس وعشرين وستمائة

ودخلت سنة خمس وعشرين وستمائة والسلطان الملك الكامل مقيم بالديار المصرية، والملك الناصر داود بن الملك المعظم مستول على مملكة والده ما بين حمص وعريش مصر (¬1). [وورد إليه من جهة [139 ا] عمه الملك الكامل يطلب منه أن يسمح له من بلاده بقلعة الشوبك فقط ليجعلها خزانة، فلم يقع منه الإجابة إلى ذلك. ورأى الملك الكامل منه إعراضا عنه وجفاء؛ ولو أنه بادر إلى تسليم الشوبك إليه وألقى إليه مقاليده لا ستمر ملكه، ولم تغير عليه قاعدة، فكان امتناعه من تسليم الشوبك وإعراضه عن جنبته (¬2) سببا لوقوع الوحشة بينه وبينه. وأدى ذلك إلى تصميم عزم الملك الكامل على الخروج إلى الشام وأخذ دمشق وغيرها منه] (¬3). ذكر مسير السلطان الملك الكامل [بعساكره (¬4)] إلى الشام ونزوله بتل العجول ولما جرى ما ذكرناه - (من امتناع الملك الناصر من تسليم الشوبك إلى عمه الملك الكامل واستيحاش عمه منه (¬5)]- ولى إبنه الملك الصالح نجم الدين أيوب ¬

(¬1) بعدها في نسخة س «والملك الأشرف ببلاد الشرق». (¬2) أي عن ناحيته، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 1 ص 267. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ولاية عهده (¬1)، وأركبه بالقاهرة، وحملت الأمراء الغاشية (¬2) بين يديه بالنوبة، وجعله نائبا عنه في الديار المصرية، وأنزله بدار الوزارة، وعمره يومئذ اثنتان وعشرون سنة لأن مولده سنة ثلاث وستمائة. ثم خرج السلطان الملك الكامل من مصر في عساكره المتوافرة وفى صحبته [ابن أخيه (¬3)] الملك المظفر تقى الدين محمود بن الملك المنصور، وهو موعود من جهته بأن ينتزع له حماه وبلادها (¬4) من أخيه الملك الناصر قلج أرسلان وتسليمها إليه، وفى صحبته [من أهله (¬5)] أيضا ابن أخيه الملك الجواد مظفر الدين يونس بن الملك الجواد شمس الدين مودود بن الملك العادل. وكان مودود توفى في حياة والده الملك العادل، وربى ولده الملك الجواد في خدمة عمه السلطان الملك الكامل، وكان قريبا منه في السن، وكانت البحيرة (¬6) من ديار مصر إقطاعه. وفى أواخر أيام (¬7) الملك المعظم فارق عمه الملك الكامل وانتقل إلى خدمة الملك المعظم، فأقطعه مدينة غزة، ثم راسله الملك الكامل وطيب قلبه، فعاد إلى خدمته. وكان مسير الملك الكامل من مصر في شهر رمضان من ¬

(¬1) في نسخة س «عهد السلطان الملك الكامل إلى ولده السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بالسلطنة بعده» والصيغة المثبتة من م. (¬2) عن الغاشيه انظر ما سبق ابن واصل، ج 3 ص 25 حاشية 2. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة م «وهو موعود منه بانتزاع حماة» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة س «أعمال الجيزة» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة انظر، المقريزى، السلوك، ج 1 ص 226. (¬7) هنا ينقطع النص في نسخة س وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط.

ذكر مفارقة الملك العزيز بن الملك العادل ابن أخيه الملك الناصر ومضيه إلى أخيه الملك الكامل

هذه السنة. ولما وصل إلى غزة نزل بها مخيما بتل العجول، وبعث ولاته إلى نابلس والقدس والخليل وغيرها [من الأعمال، فانزعج الملك الناصر لذلك وخاف منه خوفا شديدا (¬1)]. [139 ب] ذكر مفارقة الملك العزيز بن الملك العادل ابن أخيه الملك الناصر ومضيه إلى أخيه الملك الكامل كان جماعة من الجند بقلعة بعلبك - في هذه السنة - قد تواطؤا على تسليمها إلى الملك العزيز عثمان بن الملك العادل صاحب بانياس، وأطلع صاحب بعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه على ذلك، فاعتقل بعضهم وقتل بعضهم - على ما حكى لى -، ولم يتم للملك العزيز ما أراد. فقصد الملك العزيز بعلبك ونازلها وعزم على مضايقتها وأخذها من صاحبها. وبلغ ذلك الملك الناصر صاحب دمشق فانزعج له، وشق عليه قصد عمه الملك العزيز الملك الأمجد، فإنه كان صديق والده ومنتميا إليه، فسير إليه رسولا يأمره أن يرحل عنه، فرحل عن بعلبك قهرا. وغضب الملك العزيز بسبب ذلك على الملك الناصر، ورحل إلى أخيه الملك الكامل. فسر بقدومه الملك الكامل، ووعده بتسليم بعلبك إليه، فأقام في خدمته ونزل في معسكره. وفى هذه السنة جلس السلطان الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر صاحب حلب في منصب أبيه الملك الظاهر، ورفعت إليه الشكاوى، فأجاب عنها وأمر ونهى، وكان قد ناهز سن البلوغ خمس عشرة سنة. وأحضر الفقهاء عنده في ليالى الجمع يتكلمون في مسائل العلم بين يديه، ثم ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش.

ذكر قدوم الملك الأشرف إلى دمشق نجدة لابن أخيه الملك الناصر [داود بن الملك المعظم]

حضر عيد الفطر من هذه السنة، فخلع على كافة الأمراء، ومقدمى البلد وأرباب المناصب، وعمل عيدا عظيما احتفل فيه، ولم يعمل بحلب عيد قبل هذه السنة مذ مات أبوه الملك الظاهر - رحمهما الله. (¬1) ذكر قدوم الملك الأشرف إلى دمشق نجدة لابن أخيه الملك الناصر [داود بن الملك المعظم (¬2)] ولما قدم السلطان الملك الكامل إلى غزة وولى على بعض بلاد الملك الناصر، رحل منها إلى نابلس ونزل بها بدار الملك المعظم. ولما تحقق الملك الناصر قصد عمه الملك الكامل له، أرسل إلى عمه الملك الأشرف يعتضد به، ويستمسك بذيله، ويستنصر به على الملك الكامل. وكان الرسول في ذلك الأمير عماد الدين [140 ا] ابن موشك (¬3) وفخر القضاة نصر الله بن براقة (¬4) فمضيا إلى الشرق واجتمعا بالملك الأشرف وكان بسنجار. وطلباه ليأتى إلى دمشق، ويعاضد ابن أخيه الملك الناصر، ويدفع عنه الملك الكامل، فسار إلى دمشق، وزينت دمشق لقدومه، وضربت بها البشائر، ونصبت القباب. وخرج الملك الناصر لاستقباله، وكنت (¬5) يومئذ بدمشق، وشاهدت دخوله إلى القلعة، وعلى رأسه شاش علم كبير، وهو مشدود الوسط بمنديل، والملك ¬

(¬1) انظر أيضا ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 205. (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) كذا في المخطوطة وفى المقريزى (السلوك، ج 1، ص 226) «عماد الدين بن موسك». (¬4) كذا في المخطوطة وفى المقريزى (السلوك، ج 1، ص 226) «فخر القضاه نصر الله بن بصاقة». (¬5) أي القاضى جمال الدين بن واصل انظر أيضا، أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 140) حيث ينقل من ابن واصل.

الناصر إلى جانبه. ولما قربا من باب القلعة أهوى الملك الأشرف للترجل للملك الناصر، فحلف عليه الملك الناصر أن لا يفعل، ثم أهوى الملك الناصر للترجل للملك الأشرف فحلف عليه الملك الأشرف أن لا يفعل. ودخلا القلعة راكبين، وذلك في العشر الأخير (¬1) من شهر رمضان من هذه السنة - أعنى سنة خمس وعشرين وستمائة. وفرح الملك الناصر به غاية الفرح، وطاب قلبه، وأقام الملك الأشرف مدة يتنزه في بساتينها، هو والملك الناصر؛ وكان الوقت صيفا، وبساتينها في غاية النضارة والحسن وكثرة الفواكه. وفى قلب الملك الأشرف من محبة دمشق، والميل إلى تملكها ما فيه، فهو يعمل على ذلك باطنا، وقام الملك الناصر بجميع وظائفه. ثم قدم إلى دمشق الملك المجاهد أسد الدين [شيركوه بن محمد (¬2)] صاحب حمص فإنه كان - كما ذكرنا (¬3) - من المنتمين إلى الملك الأشرف، ونزل بداره داخل البلد. ثم سير الملك الأشرف رسولا إلى أخيه السلطان الملك الكامل الأمير سيف الدين [على] (¬4) بن قلج - وهو من أكبر أمراء الحلبيين - يشفع في الملك الناصر، ويطلب منه إبقاء دمشق عليه، ويقول: «إننا كلنا في طاعتك، ولم نخرج عن ¬

(¬1) في المخطوطة «الآخر» ولصيغة المثبتة من أبى الفدا (المختصر، ج 3 ص 140)؛ وفى السلوك المقريزى (ج 1 ص 226) وردت الصيغة «في أخريات شهر رمضان». (¬2) ما بين الحاصرتين من المقريزى (السلوك، ج 1، ص 227)، أنظر أيضا، أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 140). (¬3) انظر ما سبق ص 176. (¬4) ما بين الحاصرتين من المقريزى، السلوك، نفس الجزء والصفحة.

ذكر مسير الملك الأشرف إلى نابلس وصحبته الملك الناصر وصاحب حمص

موافقتك». فلم يجب الملك الكامل إلى ذلك، وخاطب سيف الدين بما فيه إطماع للملك الأشرف بملك دمشق. ذكر مسير الملك الأشرف إلى نابلس وصحبته الملك الناصر وصاحب حمص ولما جرى ما ذكرناه، أشار الملك الأشرف على ابن أخيه الملك الناصر [140 ب] بأن يمضى في صحبته إلى نابلس، ويقيم الملك الناصر بنابلس، ويمضى هو إلى السلطان الملك الكامل، ويصلح الأمر معه. فأجابه الملك الناصر إلى ذلك، ورحلا معا من دمشق، ومعهما الملك المجاهد صاحب حمص. وكنا قد ذكرنا أن الملك الكامل وصل إلى نابلس، ونزل بدار الملك المعظم بها. ولما بلغه حلول الملك الأشرف بدمشق، رحل من نابلس على عزم العود إلى الديار المصرية، ووصل إلى تل العجول فنزل به. ووصل الملك الأشرف والملك الناصر والملك المجاهد إلى نابلس. ذكر وصول الملك الأشرف إلى معسكر أخيه الملك الكامل وما جرى بينهما من الاتفاق ثم أقام الملك الناصر بنابلس، ورحل الملك الأشرف (¬1) ومعه الملك المجاهد صاحب حمص إلى غزه للاجتماع بالملك الكامل. ولما سمع الملك الكامل بقرب أخيه الملك الأشرف، خرج إلى استقباله، وعاد به إلى العسكر (¬2) بتل العجول ونزلا به ¬

(¬1) في متن المخطوطة «المجاهد» والكلمة مصححة بالهامش، انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1، ص 227. (¬2) كذا في المخطوطة وفى المقريزى (السلوك، نفس الجزء والصفحة) «وقدم به إلى معسكره».

ذكر ما تجدد فى هذه السنة من الحرب بين التتر وجلال الدين بن خوارزم شاه

ثم وقع الاتفاق بين السلطانين على انتزاع دمشق من ابن أخيهما الملك الناصر، وأنها تكون للملك الأشرف وما معها من الأعمال إلى عقبة فيق (¬1)، ويكون للملك الكامل ما بين غزه وعقبة فيق من البلاد والحصون، ويكون للملك الناصر داود عوضا عن بلاده - من بلاد الملك الأشرف - حران والرقه والرها وسروج ورأس عين وجملين والموزر (¬2)، وأن ينتزع بعلبك من الملك الأمجد بهرام شاه وتعطى هى وأعمالها للملك العزيز عثمان، وينتزع حماه والمعره وبعرين من الملك الناصر قلج أرسلان [بن المنصور (¬3)] وتعطى للملك المظفر [تقى الدين محمود (¬4)] بن المنصور، وتؤخذ سلميه من الملك المظفر وتعطى للملك المجاهد صاحب حمص؛ وكان طلبها من الملك الكامل لأنها كانت جارية في إقطاع ابنه ناصر الدين محمد بن شيركوه، وإنما أضيفت إلى الملك المظفر تقى الدين عمر ابن شاهان شاه في أيام صلاح الدين بعد موت ناصر الدين. وخرجت السنة [141 ا] والأمر على ما ذكرناه. ذكر ما تجدد في هذه السنة من الحرب بين التتر وجلال الدين بن خوارزم شاه وفى هذه السنة عاود التتر الخروج إلى بلاد الإسلام، وأتاهم السلطان جلال الدين في عساكره، وجرت بينهم حروب كثيرة كان في أكثرها الظفر للتتر ¬

(¬1) عقبة فيق أو أفيق ينحدر منها إلى غور الأردن ومنها يشرف على طبرية وبحيرتها؛ انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬2) جملين والموز قلعتان كانتا على مسافة يوم من حران بين ديار مضر وديار بكر، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 2، ص 237 حاشية 4 - 5. (¬3) ما بين الحاصرتين للتوضيح من المقريزى (السلوك، ج 1، ص 227). (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من المقريزى (السلوك، ج 1، ص 227).

عليه، وفى آخرها كان الظفر له. وقد ذكر في حديث هذه الحروب أن التتر الذين قصدوا البلاد في هذه السنة، لم يكن قصدهم لها بأمر ألقان، وإنما كان سخط على مقدمهم وأبعده عنه وأخرجه من بلاده فقصد بلاد خراسان فرآها خرابا، فقصد الرى ليتغلب عليها وعلى غيرها من عراق العجم، فلقيه السلطان جلال الدين وضرب معه مصافا، فانهزم جلال الدين. ثم عاود القتال وانهزم ثانيا، وقصد أصفهان وأقام بينها وبين الرى، وجمع عساكره ومن في طاعته. وورد عليه ابن أتابك سعد بن دكلا صاحب فارس، وكان أبوه سعد قدمات وملك فارس بعده إبنه. ثم عاود جلال الدين لقاء التتر مرة ثالثه، وضرب معهم مصافا. وبينما (¬1) هم مصطفون انفرد من عسكر جلال الدين أخوه غياث الدين وجماعة آخرون وافقوه من الأمراء والجند، فاعتزلوا وقصدوا جهة ساروا إليها. فلما رآهم التتر قد فارقوا العسكر ظنوا أنهم يريدون أن يأتوهم من وراء ظهورهم ويقاتلوهم من جهتين، فانهزمت التتر لهذا الظن (¬2)؛ وهذا من أغرب شئ وقع. وتبعهم ابن سعد صاحب بلاد فارس. وأما جلال الدين فلما رأى مفارقة أخيه له ومن فارقه من الأمراء، ورأى التتر راجعين عنه، ظن أن ذلك خديعة منهم ليستدر جوه، فولى منهز ما ولم يجسر على دخول أصفهان لئلا يحصره التتر، فمضى إلى سميرم (¬3). وأما صاحب فارس فلما أبعد في أثر التتر، ولم ير جلال الدين خاف التتر فعاد [عنهم (¬4)]. ¬

(¬1) في المخطوطة «وبينهما» وهو تصحيف. (¬2) اعتمد ابن واصل كثيرا على ابن الأثير في سرده لهذه الأحداث، انظر ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 476 حوادث سنة 625. (¬3) سميرم بلدة تقع في منتصف المسافة بين أصبهان وشيراز، انظر ياقوت، معجم البلدان؛ أبو الفدا، تقويم البلدان، ص 411. (¬4) الإضافة من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 477.

ذكر قدوم الأنبرطور فردريك ملك الفرنج إلى عكا وعمارة صيدا

وأما التتر [141 ب] فلما لم يروا أحدا يطلبهم، عادوا إلى أصفهان فلم يجدوا في طريقهم أحدا يمنعهم، ووصلوا إلى أصفهان وحصروها. وكانت أصفهان إلى ذلك الوقت لم يتمكن التتر منها لعظمها وكثرة أهلها وشجاعتهم. ولما حصر التتر أصفهان ظن أهلها أن جلال الدين قد عدم، فبينما هم كذلك والتتر يحصرونهم [إذ] (¬1) وصل قاصد من جلال الدين [إليهم] (¬2) يعرفهم بسلامته، ويقول لهم: «لا بد أن يجتمع إلىّ من تفرق من العساكر وأقصدكم، وأتفق أنا وأنتم على إزعاج التتر وترحيلهم عنكم». وأرسلوا إليه يستدعونه إليهم، ويعدونه (¬3) النصرة والخروج إلى عدوه، فسار إليهم واجتمع بهم، وخرج أهل أصفهان معه، وقاتلوا التتر، فانهزم التتر أقبح هزيمة، وتبعهم جلال الدين إلى الرى يقتل ويأسر. فلما أبعدوا عن الرى أقام بها، وجاء إليه رسول ألقان وهو ابن جنكزخان يقول له: «إن هؤلاء ليسوا من أصحابنا، وإنما نحن أبعدناهم [عنا] (¬4)». فلما آمن جلال الدين من جهة ابن جنكز خان عاد إلى بلاد أذربيجان. ذكر قدوم الأنبرطور فردريك ملك الفرنج إلى عكا وعمارة صيدا (¬5) في هذه السنة قدم الأنبرطور إلى عكا في جموع كثيرة من الألمانية وغيرها من الفرنج. وقد ذكرنا (¬6) مسير الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ إلى الأنبرطور ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير. (¬2) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير. (¬3) في المخطوطة «ويعدون» والصيغة المثبتة من ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬4) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 477. (¬5) انظر سعيد عاشور، الأمبراطور فردريك الثانى والشرق العربى، المجلة التاريخية المصرية، المجلد 11 (1963)، ص 195 - 213. (¬6) انظر ما سبق ص 206.

من جهة السلطان الملك الكامل، وكان ذلك في آخر أيام الملك المعظم، وإنما قصد الملك الكامل بالأتفاق مع الأنبرطور واستدعائه لإشغال سر الملك المعظم، ولئلا يتمكن الملك المعظم بالاتفاق مع جلال الدين خوارزم شاه وصاحب إربل من قصده وقصد الملك الأشرف. فتجهز الأنبرطور ووصل في عساكره إلى الساحل، ونزل بعكا. وكان قد تقدمه جمع كثير من الفرنج، لكنهم لم يتمكنوا من الحركة خوفا من الملك المعظم ولانتظارهم مقدمهم الأنبرطور. ومعنى هذا الأسم [142 ا] بالفرنجية ملك الأمراء (¬1)، ومملكته جزيرة صقلية، ومن البر الطويل بلاد أنبولية (¬2) والأنبردية. وقد رأيت تلك الممالك وتوجهت إليها لما توجهت رسولا من جهة السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس - رحمه الله - إلى ولد الانبراطور فردريك هذا المسمى منفريدا. وكان الانبرطور - من بين ملوك الفرنج - فاضلا، محبا للحكمة والمنطق والطب، مائلا إلى المسلمين لأن مقامه في الأصل ومرباه بلاد صقلية، وهو وأبوه وجده كانوا ملوكها، وأهل تلك الجزيرة غالبهم المسلمون. ولما وصل الأنبرطور إلى عكا نشب به (¬3) الملك الكامل لأن أخاه الملك المعظم الذى كان السبب في استدعائه توفى وقد استغنى عنه، ولم يمكنه دفعه ومحاربته لما تقدم بينهما من الاتفاق، ولأنه كان يؤدى [ذلك (¬4)] إلى فوات ¬

(¬1) نهاية الجزء الساقط من نسخة س، انظر ما سبق ص 226 حاشية 7. (¬2) عن أنبولية انظر ما سبق ص 206 حاشية 6. (¬3) في نسخة س «فسب الملك الكامل به» والصيغة المثبتة من نسخة م، وفى القاموس المحيط «تناشبوا تضاموا وتعلق بعضهم ببعض». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر نهب السلطان جلال الدين خوارزم شاه أعمال خلاط

أغراضه التي كان في ذلك الوقت بصددها. فراسله ولا طفه وجرى بعد ذلك ما سنذكره - إن شاء الله تعالى. وبعد وصول الأنبرطور إلى عكا شرع الفرنج في عمارة صيدا، وكانت مناصفة بين [المسلمين] (¬1) وبين الفرنج، وسورها خراب، فعمروها واستولوا عليها، وأزالوا عنها حكم المسلمين. ولم يزل الأنبرطور بعكا، والرسل مترددة بينه وبين الملك الكامل إلى أن خرجت [هذه] (¬2) السنة. ذكر نهب السلطان جلال الدين خوارزم شاه أعمال خلاط ولما فرغ جلال الدين من حرب التتر وهزمهم ووصل إلى أذربيجان بعساكره وخلا سره، قصد خلاط وتعداها إلى صحراء موش (¬3) وجبل جور، ونهب الجميع، وسبى الحريم، واسترق الأولاد، وقتل الرجال، وخرب القرى، وعاد [بعد ذلك] (¬4) إلى بلاده. وخافه أهل حران والرها وسروج وسائر البلاد الأشرفية (¬5). وعزم بعضهم على الانتقال إلى الشام، ووصل بعض أهل سروج إلى منبج، وكان الوقت شتاء، ثم وصلت الأخبار بأنه عاد بسبب كثرة وقوع الثلج. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين مذكور في هامش نسخة م وفى نسخة س «بينهم وبين الفرنج». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) موش بلده من ناحية خلاط بأرمينية، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «بلاد الملك الأشرف».

ودخلت سنة ست وعشرين وستمائة

ودخلت سنة ست وعشرين وستمائة والسلطانان (¬1) الملك الكامل والملك الأشرف نازلان بتل العجول في العساكر الكثيرة، [والملك الناصر داود بن الملك المعظم بنابلس] (¬2). وفى المحرم منها سير الأتابك شهاب الدين طغريل عسكرا من حلب نجدة للملك الأشرف فوصلوا إلى الغور. [ذكر رجوع الملك الناصر بن الملك المعظم إلى دمشق ومنازلة الملك الأشرف (¬3) لها] ولما جرى ما ذكرناه من اتفاق السلطانين الملك الكامل والملك الأشرف، وانتهى إلى الملك الناصر [داود] (¬4) ما اتفقا عليه، رحل من نابلس عائدا إلى دمشق. [وكان في مدة مقامه بنابلس قد أنكر على الأمير عز الدين أيدمر المعظمى صاحب جينين (¬5) - وهو من أكبر أمراء أبيه وهو يتلو عز الدين أيبك صاحب صرخد في المرتبة - شيئا صدر منه، فأحضره وأمر بضربه وإهانته، فهرب ¬

(¬1) في نسخة س «والسلطان» والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن جينين «بليدة حسنة بين نابلس وبيسان من أرض الأردن بها عيون ومياه».

منه بجماعته، ومضى إلى السلطان الملك الكامل، فأقبل عليه إقبالا كثيرا، وأحسن إليه. وانهدّ بذلك ركن من أركان الملك الناصر، مع ما تقدم من مفارقة الملك العزيز له. ولما رحل الملك الناصر عائدا إلى دمشق] (¬1) رحل الملك الأشرف من تل العجول قاصدا الاجتماع [بابن أخيه الملك الناصر] (¬2) ليعرفه ما وقع الاتفاق عليه، وليأمره بالنزول عن دمشق، والرضى بما قرر له من البلاد الشرقية. فلحقه بالقصير (¬3) المعروف بقصير (¬4) ابن معين الدين بالغور تحت عقبة فيق (¬5)، فاجتمع به وحضر اجتماعهما الملك الصالح اسماعيل بن الملك العادل وابن أخيه الملك المغيث بن الملك المغيث (¬6) وكانا مع الملك الناصر، والأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد أستاذ الدار. فقال الملك الأشرف للملك الناصر: «إنى اجتعت بخدمه عمك السلطان الملك الكامل، وقصدت الأصلاح بينك وبينه بجهدى، وحرصت على أن يرجع عنك ويقر عليك بلادك لكنه امتنع وأبى إلا أن يأخذ دمشق منك، وأنت تعلم أنه سلطان البيت [الأيوبى] (¬7)، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «به». (¬3) في نسخة س «بالقصر» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م، انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1 ص 229. (¬4) في نسخة س «بقصر» والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة م «العقبة» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن المقريزى (السلوك، ج 1 ص 229) انظر ما سبق ص 231 حاشية 1. (¬6) يقصد الملك المغيث شهاب الدين محمود بن الملك المغيث عمر بن العادل، انظر المقريزى السلوك، ج 1 ص 191، وانظر ما يلى ص 238. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

وكبيرهم، وصاحب الديار المصرية، ولا يمكن الخروج عما أمر به، وقد وقع الاتفاق على أن تسلم [إليه] (¬1) دمشق وتعوض عنها من الشرق كذا وكذا» وذكر ما وقع الاتفاق عليه. فلما أنهى قوله [143 ا] قام عز الدين أيبك المعظمى وقال: «لا كيد ولا كرامة ولا نسلم من البلاد حجرا واحدا، ونحن قادرون على دفع الجميع ومقاومتهم، ومعنا العساكر المتوافرة (¬2)». وقال للملك الناصر: «قم وامض (¬3) إلى دمشق». فركب الملك الناصر وأمر بتقويض الخيام، ورحل الملك الناصر وأصحابه إلى دمشق. ولم يتمكن الملك الأشرف من مقاومته [ومنعه من ذلك] (¬4)؛ [إذ لم يكن معه إلا جمع قليل مع عسكر حلب، فإنهم كانوا وصلوا إلى نجدته، وانتهوا إلى الغور] (¬5). وتخلف عن الملك الناصر - ممن كان معه - عمه الملك الصالح [عماد الدين] (¬6) اسماعيل [صاحب بصرى] (¬7) وابن عمه الملك المغيث، [شهاب الدين بن الملك المغيث بن الملك العادل] (¬8) ومن معهما، والأمير كريم الدين الخلاطى وكان من أخص أصحاب الملك المعظم. وانضم هؤلاء إلى الملك الأشرف. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح من المقريزى، السلوك، ج 1 ص 229. (¬2) في نسخة م «العساكر الكثيرة» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من المقريزى، السلوك، ج 1 ص 229. (¬3) في نسخة س «انهض بنا وامض» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س، انظر ايضا زامباور، معجم الأنساب، ج 1، ص 155. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س، انظر ايضا زامباور، معجم الأنساب، ج 1، ص 155. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ووصل الملك الناصر إلى دمشق، واستعد للحصار، وقام أهل دمشق بنصرته أحسن قيام، لأنهم كانوا يحبونه ويحبون والده. وبقى معه عسكر قوى إلى الغاية من حيث الشهامة وكمال العدة والآلة، [لكنه نقص منهم جمع كثير بمفارقة الملك العزيز وابن أخيهما الملك المغيث، ومن تبعهم من أجنادهم] (¬1). ورحل الملك الأشرف من القصير (¬2) بمن معه من عسكر حلب، ومن انضم إليه من عسكر الملك الناصر. ولم يكن معه من عسكره المختصين به إلا قليل لأنه كان قدم دمشق جريدة (¬3)، وعساكره في الشرق في قبالة جلال الدين ابن خوارزم شاه. ولما وصل الملك [الأشرف] (¬4) إلى دمشق نزل ظاهرها من قبليها، وقطع عنها النهر الواصل إلى قلعتها المسمى باناس (¬5) والنهر الواصل من باب الجابية المسمى القنوات (¬6)، فخرج [إليهم] (¬7) عسكر دمشق وقاتلوا أصحاب الملك الأشرف أشد قتال، وساعدهم على ذلك عامة البلد لفرط محبتهم لصاحبهم حتى أعادوا الماء إلى دمشق. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في س «المنزلة». (¬3) وردت هذه الجملة في نسخة س «فإنه لم يأت إلى دمشق حين قدمها لنجدة الملك الناصر إلا جريدة» والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش في نسخة م. (¬5) بدون تنقيط في م وفى نسخة س «بانياس» وكلاهما صحيح وهو نهير من نهيرات دمشق فرع من فروع نهر بردى، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬6) القنوات رابع فروع نهر بردى ويسمى أيضا نهر القناة، انظر المقريزى، السلوك، ج 1 ص 230 حاشية 3. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

[وكان قبل وصول الملك الناصر [داود (¬1)] إلى دمشق بأيام قد وصل إلى دمشق الملك الناصر قلج أرسلان - صاحب حماة - بعسكره نجدة للملك الأشرف؛ لأنه كان - كما ذكرنا - منتميا إليه فظن أن الحال بينه وبين الملك الأشرف على ما كان أولا من ذبه عنه وقيامه دونه (¬2)]. فلما بلغه ما تجدد ورجوع الملك الناصر [داود] (¬3) إلى بلده مستحصرا أسرع العود بعسكره إلى بلده، ليهتم بمصلحة نفسه إذ تحقق أنهم إذا فرغوا (¬4) [143 ب] من دمشق لم يبق لهم إلا قصده. [وسير الملك الناصر داود الشيخ شمس الدين الخسرو شاهى (¬5) رسولا إلى السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، يعلمه أن أعمامه إنما قصدوه لانتمائه هو وأبيه إليه، ويحثه بمعاجلة النزول على خلاط ومضايقتها، ليشتغل (¬6) سر الملك الأشرف وليندفع عنه شره. فلما وصل شمس الدين إلى جلال الدين بهذه الرسالة اهتم لقصد خلاط وحصارها، وجرى ما سنذكره إن شاء الله تعالى] (¬7). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) ورد ما بين الحاصرتين في قليل من التعديل في نسخة س والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) الكلمة مكرره في نسخة م. (¬5) نسبة إلى خسرو شاه وهى قرية في فارس بينها وبين تبريز ستة فراسخ، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬6) كذا في نسختى المخطوطة. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م.

ذكر تسليم القدس [الشريف] إلى الفرنج

ذكر تسليم القدس [الشريف (¬1)] إلى الفرنج [وأقام السلطان الملك الكامل بتل العجول بعد توجه الملك الأشرف إلى دمشق لتتميم أمر الصلح مع الفرنج، وليخلو سره من جهتهم (¬2)]. ولم تزل الرسل تتردد (¬3) بينه وبين الانبراطور ملك الفرنج وأطماعه متعلقة بما استقر بينه وبين الملك الكامل أولا قبل موت الملك المعظم. وأبى [ملك الإفرنج (¬4)] أن يرجع إلى بلاده إلا بما وقع الشرط عليه من تسليم القدس إليه، وبعض الفتوح الصلاحى. وامتنع الملك الكامل أن يسلم إليه كل ذلك، وآخر الأمر أنه تقرر بينهما (¬5) أن يسلم إليه القدس على شريطة أنه يبقى خرابا، ولا يجدد سوره، وأن لا يكون للفرنج شىء من ظاهره ألبتة، بل يكون جميع قراياه للمسلمين، وللمسلمين وال عليها يكون مقامه بالبيرة من عمل القدس من شماليه، وأن الحرم الشريف بما حواه من الصخرة المقدسة والمسجد الأقصى يكون بأيدى المسلمين، وشعار المسلمين فيه ظاهر، ولا يدخلها الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه قوام المسلمين. واستثنى الفرنج قرايا معدودة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬3) في نسخة م «تترد» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) عن شروط تسليم بيت المقدس إلى الفرنج انظر أيضا: ابن أيبك، الدر المطلوب، ورقة 236 وما بعدها؛ ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 482 - 483 (حوادث 626)؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 431 - 432؛ ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 205؛ أبو الفدا، المختصر، ج 3 ص 141؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 230.

هى طريقهم إذا توجهوا من عكا إلى القدس، تكون هذه القرايا بأيديهم، خوفا أن يغتالهم أحد من المسلمين. ورأى الملك الكامل أنه إن شاقق الانبراطور ولم يف له بالكلية أن يفتح له باب محاربة مع الفرنج، ويتسع الخرق ويفوت عليه كلما خرج بسببه، فرأى أن يرضى الفرنج بمدينة القدس خرابا ويهادنهم مدة، ثم هو قادر على انتزاع ذلك منهم متى شاء. وكان المتردد بينه وبين الملك [144 ا] الانبراطور [في الرسائل (¬1)] الأمير فخر الدين بن الشيخ (¬2)، وكانت تجرى بينهما محاورات في أشياء شتى. وسير الأنبرطور إلى الملك الكامل في أثناء ذلك مسائل حكمية ومسائل هندسية ورياضية مشكلة، ليمتحن بها من عنده من الفضلاء. فعرض الملك الكامل ما أورده من المسائل الرياضية على الشيخ علم الدين قيصر بن أبى القاسم إمام هذه الصناعة (¬3). وعرض الباقى على جماعة من الأفاضل فأجابوا عن الجميع. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) عن أسرة شيخ الشيوخ انظر ما سبق ص 91 حاشية 3، وذكر المقريزى (الخطط، ج 2 ص 34) أن فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بعثه السلطان الكامل «في الرسالة عنه إلى ملك الفرنج». (¬3) ينقطع النص في نسخة س (ورقة 253 ب) وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط. والشيخ علم الدين قيصر هو الفقيه الحنفى وعالم الرياضيات المشهور علم الدين قيصر بن أبى القاسم ابن عبد الغنى بن مسافر الأسفونى ويعرف بتعاسيف. ولد بأصفون أو أسفون وهى قرية بصعيد مصر سنة 574 وقيل 564 هـ‍، وسمع على مشاهير عصره بمصر وحلب وعلى الشيخ كمال الدين ابن يونس بالموصل. وأقام بحماه حيث تولى تدريس المدرسة النوريه، وعمل لحاكمها طاحونا على نهر العاصى، وبنى له أبراجا تحيل فيها بحيل هندسية. ولما وردت أسئلة فردريك الثانى في أنواع الحكمة والرياضيات على الملك الكامل كان الشيخ علم الدين قيصر مكلفا بالأجابة عنها، وتوفى بدمشق سنة 649 هـ‍، انظر الأدفوى (الطالع السعيد، ص 469 - 471)؛ المقريزى (السلوك، ج 1 ص 232، 382).

ثم حلف السلطان الملك الكامل على ما وقع الاتفاق عليه، وحلف الأنبراطور، وعقدوا عقد الهدنة مدة معلومة، وانتظم بينهم الأمر، وأمن كل من الفريقين صاحبه. وبلغنى أن الأنبرطور قال للأمير فخر الدين: «لولا أنى أخاف انكسار جاهى عند الفرنج، لما كلفت السلطان شيئا من ذلك، وما لى غرض في القدس ولا غيره وإنما قصدت حفظ ناموسى عندهم (¬1)». ولما وقعت الهدنة بعث السلطان من نادى في القدس بخروج المسلمين، وتسليمه إلى الفرنج، فحكى لى والدى رحمه الله - وكان لما وقعت هذه الواقعة بالقدس الشريف قد وصل إليه من مكة حرسها الله فإنه كان جاور فيها السنة الماضية، وكنت قد سافرت إلى دمشق في السنة الماضية، وأقمت بدمشق - قال: لما نودى بالقدس بخروج المسلمين، وتسليم القدس إلى الفرنج، وقع في أهل القدس الضجيج والبكاء، وعظم ذلك على المسلمين، وحزنوا لخروج القدس من أيديهم. وأنكروا على الملك الكامل هذا الفعل، واستشنعوه منه، إذ كان فتح هذا البلد الشريف واستنقاذه من الكفار من أعظم مآثر عمه الملك الناصر صلاح الدين - قدس الله روحه - لكن علم الملك الكامل رحمه الله إن الفرنج لا يمكنهم الامتناع بالقدس مع خراب أسواره، وإنه إذا قضى غرضه واستتبت الأمور له، كان متمكنا من تطهيره من الفرنج وإخراجهم منه. وقال [السلطان الكامل (¬2)] «إنا لم نسمح لهم إلا بكنائس وآدر خراب، والحرم وما فيه من الصخرة المقدسة وسائر المزارات بأيدى المسلمين على ¬

(¬1) انظر ايضا: المقريزى، السلوك، ج 1 ص 230. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

حاله، وشعار الإسلام قائم على ما كان عليه، ووالى المسلمين متحكم على رساتيقه وأعماله». [144 ب] ولما تم أمر الهدنة استأذن الأنبراطور السلطان في زيارة القدس فأذن له، وتقدم السلطان إلى القاضى شمس الدين قاضى نابلس - رحمه الله - وكان جليلا في الدولة متقدما عند ملوك بنى أيوب، أن يلازم خدمة الأنبرطور إلى أن يزور القدس ويرجع إلى عكا. فحكى لى شمس الدين - رحمه الله - قال: لما قدم الأنبراطور القدس لازمته كما أمرنى السلطان الملك الكامل، ودخلت معه إلى الحرم الشريف فرأى ما فيه من المزارات. ثم دخلت معه إلى المسجد الأقصى فأعجبته عمارته وعمارة قبة الصخرة المقدسة. ولما وصل إلى محراب الأقصى أعجبه حسنه وحسن المنبر، وصعد في درجة إلى أعلاه، ثم نزل وأخذ بيدى وخرجنا من الأقصى، فرأى قسيسا وبيده الإنجيل، وهو يريد دخول الأقصى (¬1) فصاح عليه صيحة منكرة وقال: «ما الذى أتى بك إلى هاهنا، والله لئن عاد أحد منكم يدخل إلى هاهنا بغير إذنى لآخذن ما في عينيه، نحن مماليك هذا السلطان الملك الكامل وعبيده، وإنما تصدق على وعليكم بهذه الكنائس على سبيل الإنعام منه، ولا يتعدى أحد منكم طوره»، فمضى ذلك ¬

(¬1) كذا في المخطوطة وفى قليل من التعديل في المقريزى (السلوك، ج 1 ص 231)، بينما ورد في ابن أيبك (الدر المطلوب، ق 237) وسبط ابن الجوزى (مرآة الزما، ج 8، ص 433) مايلى: «أنه لما دخل الصخرة رأى قسيسا جالسا عند الصخرة عند القدم يأخذ من الفرنج القراطيس، فجاء إليه كأنه يطلب منه الدعاء، ثم لكمه فرماه إلى الأرض وقال له ياخنزير، السلطان قد تصدق علينا بزيارة هذا المكان وتفعلوا فيه هذه الأفاعيل القباح، إن عاد منكم أحد إلى هذا الفعل قتلته».

القسيس وهو يرعد خيفة منه. ومضى الأنبرطور إلى الدار التي عيّن نزوله فيها، فنزل بها. قال القاضى شمس الدين [قاضى نابلس (¬1)]: وأوصيت المؤذنين أنهم لا يؤذنون تلك الليلة احتراما له. فلما أصبحنا ودخلت عليه قال لى: «يا قاضى لم لم يؤذن المؤذنون على المنابر على جارى عادتهم؟». فقلت له: «إن المملوك منعهم من ذلك إعظاما للملك واحتراما له». فقال لى: «أخطأت فيما فعلت، والله إنه أكثر غرضى في المبيت في القدس أن أسمع آذان المؤذنين وتسبيحهم بالليل (¬2)»، ثم رحل إلى عكا (¬3). ولما ورد الخبر إلى دمشق بتسليم القدس إلى الفرنج أخذ الملك الناصر [داود (¬4)] في التشنيع على عمه الملك الكامل. وتقدم إلى الشيخ شمس الدين يوسف سبط الشيخ جمال الدين بن الجوزى الواعظ - وكان له قبول عند الناس [145 ا] في الوعظ - في أن يجلس بجامع دمشق للوعظ، ويذكر فضائل القدس وما ورد فيه من الأخبار والآثار، وأن يحزن الناس ويذكر ما في تسليمه إلى الكفار من الصغار للمسلمين والعار. وقصد بذلك تنفير الناس من عمه ليناصحوه في قتاله. فجلس شمس الدين للوعظ كما أمره، وحضر الناس ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) هناك رواية مخالفة بخصوص ما حدث من المؤذنين بالقدس في ابن أيبك (الدر المطلوب ق 238) وسبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8 ص 433 - 434). (¬3) كذا في المتن وكذلك في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 232) بينما ورد في ابن أيبك (الدر المطلوب، ق 238 - 239) وسبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8 ص 434) أن الأمبراطور «لم يقم بالقدس غير ليلتين وعاد إلى يافا». (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

لاستماع وعظه، وكان يوما مشهودا، وعلا يومئذ ضجيج الناس وبكاؤهم وعويلهم (¬1). وحضرت أنا (¬2) هذا المجلس، ومما سمعته يومئذ يورد قصيدة تائية وازن بها قصيدة دعبل بن على الخزاعى وضمنها بيتا من القصيدة وهو: مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحى مقفر العرصات وعلق بذهنى منها بيت واحد وهو: على قبة المعراج والصخرة التي ... تفاخر ما في الأرض من صخرات فلم ير في ذلك اليوم إلا باك أو باكية. ولما تقررت قواعد الهدنة بين السلطان الملك الكامل والأنبراطور، أقلع الأنبراطور راجعا إلى بلاده، واستمر مصافيا للملك الكامل، مواد له، والمراسلة بينهما متصلة إلى أن توفى الملك الكامل وملك ولده الملك العادل سيف الدين، فصافى [الأنبراطور] (¬3) الملك العادل وواده، وراسله. ¬

(¬1) ذكر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8 ص 432): «وأشار الملك الناصر داود بأن أجلس بجامع دمشق وأذكر ما جرى على البيت المقدس فما أمكننى مخالفته فرأيت من جملة الديانة الحمية للاسلام موافقته، فجلست بجامع دمشق، وحضر الناصر داود على باب مشهد على، وكان يوما مشهودا لم يتخلف من أهل دمشق أحد. وكان من جملة الكلام: انقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين، يا وحشة المجاورين، كم كانت لهم في تلك الأماكن من ركعة، كم جرت لهم على تلك المساكن من دمعة، تالله لو صارت عيونهم عيونا لما وفت، ولو تقطعت قلوبهم أسفا لما شفت. أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين. لمثل هذه الحادثه تسكب العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات». (¬2) أي جمال الدين بن واصل مؤلف الكتاب. (¬3) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

ولما قبض على الملك العادل وولى أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب استمر الأمر على ذلك. وأرسل إليه الملك الصالح الشيخ العلامة سراج الدين الأرموى الذى هو قاضى قونية من بلاد الروم الآن. وأقام سراج الدين عنده مكرما مدة، وصنف له كتابا في المنطق، وأحسن إليه الأنبرطور إحسانا كبيرا. وعاد سراج الدين إلى الملك الصالح مكرما. ولما قصد ريدا فرنس (¬1) - وهو من أكبر ملوك الفرنج - الديار المصرية سنة سبع وأربعين وستمائة، بعث إليه الأنبراطور ينهاه عن ذلك، ويخوفه ويحذره عاقبة الأمر، فلم يقبل منه. فحكى لى سرنرد وهو مهمنددار (¬2) منفريد (¬3) ابن الأنبراطور قال: «أرسلنى [145 ب] الأنبراطور في السر إلى الملك الصالح نجم الدين لأعرفه عزم قصد ريدافرنس على الديار المصرية وأحذره منه، وأشير عليه بالاستعداد له. فاستعد له الملك الصالح، ورجعت إلى الأنبراطور، وكان ذهابى إلى مصر ورجوعى في زى تاجر (¬4). ولم يشعر أحد باجتماعى بالملك الصالح خوفا من الفرنج أن يعلموا ممالأة الأنبراطور للمسلمين عليهم». ¬

(¬1) في المخطوطة «ريدافريس» والصيغة الصحيحة هى المثبتة، انظر مايلى وكذلك المقريزى (السلوك، ج 1 ص 333)؛ والمقصود به الملك لويس التاسع ملك فرنسا. (¬2) يقصد ابن واصل ذلك الموظف الذى كان يقوم في الدولة الرومانية المقدسة بعمل شبيه لعمل المهمندار في دولتى الأيوبيين والمماليك وهو الذى كان يتلقى الرسل الواردين على السلطان وينزلهم دار الضيافة، ويتحدث في القيام بأمرهم؛ انظر القلقشندى، صبح الأعشى، ج 4 ص 22، ج 5 ص 459. (¬3) يقصد ما نفردبن فردريك الثانى ملك صقلية (1258 - 1266 م). (¬4) ورد في المقريزى (الخطط، ج 1 ص 219): «ونزل [الملك الصالح نجم الدين أيوب] بقلعة دمشق فورد عليه رسول الإمبراطور ملك الفرنج الألمانية بجزيرة صقلية في هيئة تاجر وأخبره سرا بأن بواش الذى يقال له رواد فرنس عازم على المسير إلى أرض مصر وأخذها». انظر أيضا لتفصيل ذلك، سعيد عاشور، الإمبراطور فردريك الثانى والشرق العربى (المجلة التاريخية المصرية مجلد 11 سنة 1963) ص 212 - 213.

ولما مات الملك الصالح، وجرى لريدافرنس ما جرى من هلاك عسكره واستئصالهم، وأسر الملك المعظم تورانشاه بن الملك الصالح له، ثم خلاصه من الأسر بعد قتل الملك المعظم ورجوعه إلى بلاده، بعث الأنبرطور إليه (¬1) يذكره نصحه له، وما جرّ عليه لجاجه (¬2) ومخالفته، ويعنفه على ذلك. وتوفى الأنبراطور في تلك السنة، وهى سنة ثمان وأربعين وستمائة، بعد موت الملك الصالح بسنة. وولى بعده ولده (¬3) كرا ثم مات كرا وولى أخوه منفريدا، وهؤلاء كلهم كانوا ممقوتين عند البابا خليفة الفرنج صاحب رومية، لميلهم إلى المسلمين، وجرى بين منفريدا والبابا حرب انتصر فيها منفريدا. وتوجهت (¬4) رسولا إلى منفريدا من جهة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس - رحمه الله - في شهر رمضان سنة تسع وخمسين وستمائة، فأقمت عنده مكرما بمدينة من مدائن أنبوليه في البر الطويل، المتصل ببر أندلس. واجتمعت به مرارا، ووجدته متميزا ومحبا للعلوم العقلية، يحفظ عشر مقالات من كتاب أو قليدس في الهندسة. وبالقرب من البلد الذى كنت نازلا به مدينة تسمى لوجاره أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية، تقام فيها الجمعة، ويعلن بشعار الإسلام، وهى على هذه الصفة من عهد أبيه الأنبرطور. وكان منفريدا قد شرع في بناء دار علم بها، ليشتغل فيها بجميع أنواع العلوم النظرية. ووجدت أكثر أصحابه الذين يتولون أموره الخاصة به مسلمين. ويعلن في معسكره بالأذان والصلاة. ¬

(¬1) أي إلى لويس التاسع ملك فرنسا. (¬2) لج في الأمر تمادى عليه وأبى أن ينصرف عنه، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 3، ص 177. (¬3) يقصد كونراد الرابع الذى توفى سنة 1254 م. (¬4) أي ابن واصل مؤلف الكتاب.

ولما رجعت من تلك البلاد جاءت الأخبار بأنه اتفق على قصده [146 ا] البابا صاحب رومية العظمى - وبينها وبين البلد الذى كنا به مسافة خمسة أيام - وأخو ريدا فرنس المقدم ذكره. وذلك أن البابا كان قد حرّم (¬1) منفريدا لميله إلى المسلمين وخرقه ناموس شرعهم، وكذلك كان كرا أخوه والأنبراطور كل هؤلاء كانوا محرمين من جهة البابا برومية. والبابا برومية هو خليفة المسيح عندهم، والقائم مقامه، وإليه التحريم والتحليل والقطع والفصل (¬2). وهو الذى يلبس الملوك تيجان الملك ويقيمهم. ولا يتم لهم أمر في شريعتهم إلا به. ويكون راهبا، وإذا مات قام مقامه من هو أيضا متصف بصفة الرهبانية. ولقد حكى لى وأنا ببلادهم حكاية عجيبة، وهى أن مرتبة الأنبرطورية [كانت قبل الأنبرطور (¬3)] فردريك - الذى تقدم ذكره - لأبيه، وأنه لما ¬

(¬1) يقصد أن البابا أصدر ضده قرار الحرمان excommunication كنوع من العقاب، وبالتالى حرر جميع رعاياه وأتباعه من أيمان الطاعة والتبعية التي أقسموها له. وتطورت قرارات الحرمان في العصور الوسطى حتى أصبحت من درجتين: قرارات حرمان صغرى تحرم الفرد من أداء الشعائر والطقوس الكنسيه؛ وقرارات حرمان كبرى تبعد الفرد تماما من الأيمان وتحرمه من جميع المزايا التي يتمتع بها المسيحيون. ولا يستطيع الفرد في هذه الحالة من أداء الشعائر الكنسية، ويفقد جميع الهبات التي منحتها له الكنيسة، ولا يدفن في مدافن المسيحيين. وفى كلنا الحالتين يكون الجحيم مصير الفرد المحروم من الكنيسة، ويعيش محروما من صحبة المسيحيين، وأى شخص يتعاون معه يكون هو الآخر معرضا للعقاب بتوقيع قرار الحرمان ضده، انظر Thompson and Johnson, An introduction to medieval Europe (New York 1937), P. 656 سعيد عاشور، أوربا العصور الوسطى، ج 1، ص 354، 396، ج 2 ص 3. (¬2) عن البابا صاحب رومية انظر القلقشندى (صبح الأعشى، ج 5، ص 472). (¬3) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش.

مات كان ابنه فردريك شابا في أول ترعرعه، وأنه طمع في هذه المرتبة جماعة من ملوك الفرنج، كل منهم رجا أن يفوضها إليه بابا رومية. وكان فردريك ماكرا خبيثا، وهو من الألمانية، وهم جنس من أجناس الفرنج. فاجتمع بكل واحد من الملوك الذين طمعوا في مرتبة الأنبرطورية على انفراده وقال لكل واحد منهم: «إنى لا أريد هذه المرتبة لأنى لا أصلح لها، فإذا اجتمعنا عند البابا فقل أنت له إن هذا الأمر ينبغى أن يتقلد الحديث فيه ابن الأنبرطور الماضى، وأن من رضى بتقليده الأنبرطورية فأنا راض به، فإن البابا إذا رد الاختيار إلىّ في ذلك، إخترتك ولا أختار غيرك، وقصدى الانتماء إليك والاعتضاد بك». ولما قال [فردريك (¬1)] هذه المقالة لكل واحد من الملوك، أجابه كل واحد منهم، ووثق به، واعتمد صدقه فيما قال. فلما اجتمعوا عند البابا بمدينة رومية ومعهم فردريك، وكان قد تقدم إلى جماعة من أصحابه الألمانية الشجعان، أن يكونوا مستعدين راكبين خيولهم قريبا من الكنيسة العظمى التي برومية التي فيها المجمع الكبير. قال البابا للملوك لما اجتمعوا عنده: «ما ترون في أمر هذه المرتبة، ومن هو الأحق بها؟ [146 ب]» ووضع التاج بين أيديهم. فكل واحد منهم قال: «حكمت فردريك في ذلك، وما يشير به فهو الذى أقبله وأسير به، فإنه ولد الأنبرطور، وأحق الجماعة بأن يسمع قوله في ذلك». فقام فردريك وقال: «أنا ابن الأنبرطور وأنا أحق بمرتبته وتاجه، والجماعة كلهم قد (¬2) رضوا بى واختارونى». ووضع التاج على رأسه فانكسوا كلهم، وخرج مسرعا والتاج على رأسه. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) في المتن: «فقد».

وركب وركب معه الألمانية - الذين تقدم إليهم بأن يقفوا قرب الكنيسة - وسار بهم على حمية إلى بلاده. ثم بعد ذلك صدرت منه أمور توجب - عند البابا على ما يقتضيه مذهبهم - تحريمه فحرمه. وبلغنى أنه لما كان الأنبرطور بعكا قال للأمير فخر الدين بن الشيخ - رحمه الله - أخبرنى عن الخليفة الذى لكم ما أصله؟». فقال فخر الدين: «هو ابن عم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أخذ الخلافة عن أبيه، وأخذها أبوه عن أبيه، فالخلافة مستمرة في بيت النبوة، لا تخرج منهم». فقال الأنبرطور: «ما أحسن هذا، لكن هؤلاء القليلوا (¬1) العقول - يعنى الفرنج - يأخذون رجلا من المزبلة ليس بينه وبين المسيح نسبة ولا سبب، جاهلا فدما (¬2)، يجعلونه خليفة عليهم، قائما مقام المسيح فيهم، وأنتم خليفتكم ابن عم نبيكم، فهو أحق الناس بمرتبته». ولما قصد البابا وأخو ريدا فرنس منفريدا بن الأنبراطور قاتلاه وهزما عسكره، وقبضا عليه. وتقدم البابا بذبحه فذبح، وملك أخو ريدافرنس البلاد التي كانت بيد ابن الأنبرطور، واستولى عليها، وكان هذا في سنة ثلاث وستين وستمائة في غالب ظنى (¬3). ¬

(¬1) كذا في المخطوطة. (¬2) ذكر ابن منظور (لسان العرب، ج 15 ص 347) أن الفدم من الناس العييى عن الحجة والكلام مع ثقل ورخاوة وقلة فهم، وهو أيضا الغليظ السمين الأحمق الجافى. (¬3) كانت البابوية قد خرجت ظافرة من نزاعها الطويل الذى استمر عدة قرون مع أباطرة الدولة الرومانية المقدسة من أسرة هوهنشتا وفن، واعتبرت البابوية نفسها وصية على أراضى هؤلاء الأباطرة في جنوب ايطاليا وصقلية. ورفض مانفرد بن فردريك الثانى ملك صقلية أن يعترف بمطالب البابوية، مما جعل البابا يعرض مملكة صقلية على شارل الأنجوى الفرنسى ليحكمها تابعا للبابا. وقبل شارل - أخو لويس التاسع - عرض البابوية وغزا صقلية ليقتل مانفرد ويحكم الجزيرة حكما تعسفيا، انظر سعيد عاشور، أوربا العصور الوسطى، ج 1 ص 559 - 560.

ذكر منازلة السلطان الملك الكامل دمشق وحصاره لها

ذكر منازلة السلطان الملك الكامل دمشق وحصاره لها قد ذكرنا (¬1) منازلة السلطان الملك الأشرف دمشق بمن معه من أصحابه وعسكر حلب، والملك الصالح بن الملك العادل وابن أخيه الملك المغيث ومن اجتمع معهم من عسكر دمشق، والملك المجاهد صاحب حمص، وتأخّر قدوم السلطان الملك الكامل. فأرسل إليه الملك الأشرف يستعجله على [147 ا] القدوم ويحثه عليه، فأرسل إليه الملك الكامل بعد فراغه من صلح الفرنج يقول له: «إن البلاد التي قد عينت لى حصون ومعاقل مثل الكرك والشوبك والصلت ربما تعذر أخذها علىّ لحصانتها، وتحصل أنت على دمشق». فقررت القاعدة بينهما على أن تكون البلاد الشرقيه التي عينت للملك الناصر للسلطان الملك الكامل، ويكون للملك الأشرف دمشق وبلادها إلى عقبة فيق (¬2)، ويعوض الملك الناصر بما يقع الاتفاق عليه إذا فتحت دمشق من البلاد التي ما بين عقبة فيق وغزة، وما يبقى منها يكون للملك الكامل. ولما وقع الاتفاق على ذلك رحل الملك الكامل من تل العجول بعد طول مقامه بها، ووصل إلى ظاهر دمشق في جمادى الأولى من هذه السنة - أعنى سنة ست وعشرين وستمائة - واتفق هو والملك الأشرف على محاصرتها ومضايقتها. وكانت منزلته بمسجد القدم (¬3) قبلى دمشق، وقطع عنها نهر باناس ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 236 - 240. (¬2) انظر ما سبق، ص 231 حاشية 1. (¬3) يعرف هذا المسجد باسم «مسجد القدم» أو «مشهد القدم» انظر ابن العديم (زبدة الحلب ج 3، ص 207)؛ المقريزى (السلوك، ج 1 ص 234).

والقنوات، وضويق البلد مضايقة شديدة حتى جاف البلد لانقطاع الماء عنه. وبقى شرب الناس من الآبار، فكان أهل دمشق يخرجون كل يوم مع العسكر. ويقاتلون أشد قتال، ويناصحون صاحبهم (¬1) أشد مناصحة لمحبتهم له ولوالده الملك المعظم، وكراهية لخروج الملك من أولاده. وكنت في أكثر الأوقات أصعد مع جماعة على منارة دمشق، ونشاهد القتال، فكان ربما كر الدمشقيون على العسكر المصرى، وطاردوهم وأنكوا فيهم. وأحرقت مواضع للبلد، وطالت المدة إلى آخر رجب من هذه السنة، فاشتد ذلك على أهل دمشق لإقبال الصيف وعدم الفواكه عندهم، وغلاء السعر. ولم يكن بدمشق رخيص غير السكر والحلواء، فكانت الحلوى الصابونية (¬2) وغيرها من الحلاوات أرخص من الجبن والخبز لكثرة السكر [الذى (¬3)] كان بدمشق. ونفر من العسكر الدمشقى جماعة قليلة منهم أرغش المعظمى. ونفدت النفقات عند الملك الناصر فأنفق في هذه المدة [147 ب] جميع ما في الخزائن، ثم شرع في ضرب ما عنده من الأوانى الفضية والذهبية دراهم ودنانير، وأنفقها حتى أتى على أكثر ما عنده من الذخائر (¬4). ¬

(¬1) أي الملك الناصر داود بن الملك المعظم. (¬2) نوع من الحلوى تصنع من الدقيق الذى يحمص بالسمن، ثم يضاف إليه السكر واللبن، ويعمل منه قوالب مثل الصابون، توضع في طبق وتبقى في الفرن حتى تنضج، انظر: الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب (مخطوط بدار الكتب 74 علوم صناعية) ورقة 52 ب؛ الشيزرى، نهاية الرتبه في طلب الحسبة، ص 41 حاشية 6 للدكتور العرينى. (¬3) ما بين الحاصرتين يقتضيه السياق. (¬4) انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1، ص 234.

ذكر الوصلة بين الملك العزيز بن الملك الظاهر صاحب حلب وخاله السلطان اللملك الكامل بظاهر دمشق

ذكر الوصلة بين الملك العزيز بن الملك الظاهر صاحب حلب وخاله السلطان اللملك الكامل بظاهر دمشق كنا ذكرنا (¬1) مسير القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - رسولا من الملك الظاهر إلى عمه السلطان الملك العادل - رحمهما الله - في حوادث سنة ثلاث عشرة وستمائة في معنى الخطبة والوصلة بين ابنه (¬2) الملك العزيز وإبنة الملك الكامل وغير ذلك، وأنه أجيب إلى ذلك، ورجع إلى حلب ووجد الملك الظاهر قد مات. فلما كانت هذه السنة - أعنى سنة ست وعشرين وستمائة - وحاصر السلطان الملك الكامل دمشق، سيّر من حلب القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - وفى صحبته أكابر حلب وعدولها لإتمام هذه الوصلة [السعيدة (¬3)] وعقد النكاح. وجاءوا إلى دمشق من ناحية ضمير (¬4)، وخرج السلطان الملك الكامل من دهليزه (¬5) بمسجد القدم (¬6) لاستقباله، ثم عاد به إلى المخيم وأنزله بالقرب منه، ثم أحضره إلى خدمته، فقدم للسلطان ما كان أحضره من حلب من التقدمة. ¬

(¬1) انظر ما سبق ابن واصل، ج 3، ص 236 - 237. (¬2) هنا ينتهى الجزء الساقط من نسخة س، انظر ما سبق ص 242 حاشية 3. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ضمير قرية مشهورة من قرى الغوطه قرب دمشق، انظر ياقوت، معجم البلدان؛ ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 206 حاشية 3. (¬5) في ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 206 «من المخيم». (¬6) في نسخة س «من دهليزه وكان مضروبا عند مسجد القدم».

ثم نقل السلطان بهاء الدين إلى جوسق الملك العزيز بالمزة (¬1). وكان السلطان يتردد إليه لمكانته العظيمة وقدم (¬2) سابقته في خدمة عمه الملك الناصر صلاح الدين ثم الملك الظاهر بعده [رحمهما الله أجمعين (¬3)]، إلى أن اتفق [الأمر على أن (¬4)] حمل الذهب الواصل لتقدمة المهر، والجوارى، والخدم، والدراهم، والمتاع. ثم عقد العقد بحضور السلطان الملك الأشرف في مسجد خاتون. وولى عقد النكاح من جهة السلطان الملك الكامل الأمير عماد الدين بن شيخ الشيوخ لابنته فاطمة خاتون - وهى شقيقة الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن الملك الكامل - على صداق مبلغه خمسون ألف دينار. وقبل النكاح عن الملك العزيز القاضى بهاء الدين [بن شداد (¬5)] وذلك سحر يوم الأحد سادس عشر رجب، والحصار بعد قائم على دمشق [148 ا]. وبعد فتح دمشق خلع السلطان على القاضى بهاء الدين و [على (¬6)] جميع أصحابه وعلى الحاج بشير أمير لالا (¬7) الملك العزيز رحمه الله. وعاد القاضى بهاء الدين ومن كان في صحبته إلى حلب. ¬

(¬1) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن المزة كانت قرية كبيرة في وسط بساتين دمشق، كان بينها وبين دمشق نصف فرسخ. ومن المعروف أن المزة أصبحت الآن بفضل العمران من ضواحى دمشق. (¬2) في نسخة س «وقديم». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن العديم، زبدة الحلب ج 3، ص 207. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) الإضافة من نسخة س وكذلك من ابن العديم، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬7) كذا في نسختى المخطوطة بينما ورد الاسم في ابن العديم (نفس المرجع والجزء والصفحة) «الحاجى بشر أمير لالا»، واللالا لفظ فارسى معناه الشخص المكلف بالعناية بأولاد سيده وتعليمهم؛ انظر Steingass : A Pers. Eng. Dict.

ذكر استيلاء الملك الكامل على مدينة دمشق وتعويض الملك الناصر بن الملك المعظم عنها الكرك وما معها من البلاد

ذكر استيلاء الملك الكامل على مدينة دمشق وتعويض الملك الناصر بن الملك المعظم عنها الكرك وما معها من البلاد ولما طالت مدة الحصار، ونفد ما في يد الملك الناصر من المال، علم الملك الناصر [بن الملك المعظم (¬1)] حينئذ أنه لا قبل له بعمه السلطان الملك الكامل، وأن الأصلح له الخروج إليه ليرى فيه رأيه. فخرج ليلا من قلعة دمشق في العشر الأخر من رجب من هذه السنة، وقصد جهة الدهليز في نفر يسير من أصحابه. ولما بلغ السلطان مجيئه، خرج إليه وتلقاه وأكرمه إكراما كبيرا. وتحدث معه وباسطه وطيب قلبه، بعد أن عاتبه عتابا كثيرا، ثم أمره بالرجوع إلى قلعة دمشق فعاد إليها. ثم بعد يومين دخل إلى القلعة الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ من جهة السلطان الملك الكامل. وكان يوم الجمعة فصلى الجمعة بجامع القلعة، ثم خرج هو والملك الناصر إلى [عند (¬2)] السلطان [الملك الكامل (¬3)] فوقع الاتفاق والتحالف. وأقر الأمير عز الدين أيبك المعظمى على صرخد، والملك الصالح والملك العزيز وابن أخيهما الملك المغيث على ما بأيديهم. وقرر للملك الناصر داود الكرك والشوبك وأعمالهما، والصلت والبلقاء والأغوار جميعها، ونابلس، وأعمال القدس، وبيت جبريل. فنزل الملك الناصر [بعد ذلك (¬4)] عن الشوبك وسأل السلطان قبولها منه، فقبلها. وبقى للسلطان الملك الكامل مع الشوبك ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر إستيلاء الملك الأشرف على دمشق بتسليم السلطان الملك الكامل إياها إليه

الخليل وغزة (¬1)، وطبرية وعسقلان والرملة، ولدّ (¬2) وسائر الساحل الذى بأيدى المسلمين. ثم رجع الملك الناصر [داود] (¬3) إلى القلعة، وفتحت أبواب البلد مستهل شعبان، وكان ذلك [في أول إقبال المشمش والفواكه (¬4)]، وأهل دمشق قد يبست أكبادهم لعدم الخضروات والفواكه والثلج، وانقطاع الماء، فانفرج عنهم الضيق؛ لكن حصل في قلوب الدمشقيين من الأسف والحزن [148 ب] ما لا مزيد عليه. ولقد كنت عند باب القلعة ذلك اليوم، وقد دخل العسكر المصرى من جميع الأبواب، وامتلأت المدينة منهم، وكان إلى جانبى إنسان من أهل دمشق، فلما رأى ذلك بكى بكاء عاليا، وأعلن بالعويل. وما رأيت يومئذ أحدا من الدمشقيين إلا ورأيته في صورة من فجع بموت ولد أو أب. ودخل والى السلطان الملك الكامل إلى القلعة وتسلمها، وولى في المدينة الأمير عز الدين بن ملكيشو. ذكر إستيلاء الملك الأشرف على دمشق بتسليم السلطان الملك الكامل إياها إليه (¬5) ولما تسلم السلطان الملك الكامل مدينة دمشق، سلمها إلى أخيه الملك الأشرف بعد الاتفاق معه على بعث نوابه إلى البلاد الشرقية التي كانت عينت ¬

(¬1) في نسخة م «وغيره» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة س، انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1 ص 235. (¬2) لد بالضم والتشديد قرية قرب بيت المقدس من نواحى فلسطين، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة م «في إقبال الفواكه» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) كذا في نسخة م وفى نسخة س «ذكر تسليم السلطان الملك الكامل دمشق إلى الملك الأشرف وأخذه البلاد الشرقية عوضا عنها».

أولا للملك الناصر [داود (¬1)] وهى حران والرقة والرها وسروج ورأس عين وجملين والموزر، فبعث الملك الكامل نوابه إليها، فتسلموها من نواب الملك الأشرف. [وبقى للملك الأشرف بالبلاد الشرقية نصيبين وسنجار والخابور وبلاد خلاط، وكانت ميافارقين يومئذ بيد أخيهما الملك المظفر شهاب الدين غازى، وقلعة جعبر بيد أخيهما الملك الحافظ أرسلان شاه (¬2)]. ثم سافر الملك الناصر بأهله [وإخوته (¬3)] ومن يتعلق به إلى الكرك، وتسلم البلاد التي عينت له. وكان قبل أن تفتح دمشق قد سير الملك الكامل نور الدين الكركى (¬4) - وكان من أصحاب الملك المعظم ثم صار مع الملك الكامل - وسير معه الملك الكامل جماعة من العسكر، فحاصروا الكرك وبها أم الملك الناصر، فأخرجت إليهم جماعة من أهل الكرك فأوقعوا بهم ونهبوهم، وأسروا نور الدين وأميرا آخر كان من أصحاب الملك المعظم يقال له شقيفات، فحبستهما في جب بالكرك، ولم يزالا فيه حتى ماتا. ثم أمر السلطان الملك الكامل العساكر (¬5) بالتبريز إلى جهة حماة لأخذها من صاحبها الملك الناصر قلج (¬6) أرسلان بن الملك المنصور. [وكان الملك المظفر ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) كذا في نسخة م نسبة إلى الكرك بينما ورد اللقب في نسخة س «الكرجى». (¬5) في نسخة س «العسكر». (¬6) في نسخة س «قليج» والصيغة المثبتة من م، انظر: زامباور، معجم الأنساب، ج 1، ص 153.

ذكر وفاة الملك المسعود صلاح الدين يوسف ابن السلطان الملك الكامل صاحب اليمن رحمه الله

تقى الدين محمود بن الملك المنصور - كما ذكرنا (¬1) - صحبة خاله الملك الكامل، وهو موعود بتسليم حماة إليه. وكان في صحبة الملك المظفر - لما خرج من الديار المصرية - الأمير حسام الدين أبو على بن محمد بن أبى على، وكان متقدما عنده [149 ا]، وهو الذى ذكرنا أنه ولاه الملك المظفر سلمية لما أضيفت إليه، وبنى له بها القلعة التي هى داخل البلد. وكان لما وصل العسكر إلى غزة، وقعت بينه وبين الملك المظفر أمور أوجبت المنافرة بينهما، ففارق حسام الدين الملك المظفر ومضى إلى مصر، فاتصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، وهو نائب أبيه كما ذكرنا بالديار المصرية، وصار أستاذ داره وأخص الناس به. ولم تزل هذه منزلته عنده إلى آخر أيام الملك الصالح - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولازم الملك المظفر ابن عم حسام الدين وهو سيف الدين على بن أبى على، وتقدم عنده كثيرا وألقى إليه مقاليده. ولم يزل عنده عالى المنزلة إلى أن جرى له ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى (¬2)] ذكر وفاة الملك المسعود صلاح الدين يوسف ابن السلطان الملك الكامل صاحب اليمن رحمه الله ولما كان السلطان الملك الكامل محاصرا لدمشق ورد إليه الخبر بوفاة ولده الملك المسعود صاحب اليمن، فجلس للعزاء لابسا الحداد. وكان الملك المسعود مرض باليمن في هذه السنة مرضا شديدا، وكره المقام باليمن، وعزم على مفارقتها بالكلية والتوجه إلى الديار المصرية. فسار إلى مكة شرفها الله ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 226. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في نسخة م.

ذكر سيرته رحمه الله

تعالى وكانت قد صارت له - كما تقدم ذكره (¬1) - واشتد مرضه بها، وتوفى ودفن بالمعلى (¬2) وعمره نحو ست وعشرين سنة. وكانت مدة ملكه اليمن أربع عشرة سنة، لأنه ملكها سنة اثنتى عشرة وستمائة، وعمره اثنتا عشرة سنة. ذكر سيرته رحمه الله (¬3) كان ملكا شجاعا مقداما، ذا بأس شديد، وهمة عالية، وشهامة عظيمة. وكان أبوه يخاف منه على بقية أولاده. ولما تملك الملك المسعود (¬4) اليمن والحجاز دوخهما (¬5) وأزال عنهما المفسدين، وسفك دماء خلق من أهل الشر والعيث (¬6)، وجماعة من الأشراف المفسدين. فخافته العرب وغيرهم، وعظمت هيبته جدا [149 ب]. وكان قدم إلى والده زائرا سنة عشرين وستمائة، بعد استيلائه على مكة شرفها الله تعالى. وأقام بالقاهرة [بالقصر (¬7)] مدة، وأقام هيبة والده وناموسه، وخافته الأمراء والجند [بمصر وهابوه، ثم رجع إلى بلاده (¬8)]. ¬

(¬1) انظر ما سبق، ص 251. (¬2) ذكر ابن خلكان (وفيات، ج 2 ص 52) أن الملك المسعود «أوصى أنه لا يبنى عليه قبة بل يدفن في جانب المعلى جبانة دمشق شرفها الله تعالى». (¬3) عن سيرة الملك المسعود بن الكامل انظر سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8 ص 435؛ ابن خلكان، وفيات، ج 2 ص 51 - 52؛ أبو الفدا، المختصر، ج 3 ص 142. (¬4) في نسخة م «ولما ملك. . .» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) ورد في ابن منظور (لسان العرب، ج 3 ص 493) «داخ البلاد يدوخها قهرها واستولى على أهلها». (¬6) في نسخة س «العبث» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وورد بدلها في نسخة م «وهابوه».

[وحكى لى أنه طلع يوما إلى القلعة فرأى جماعة من الأمراء وعلى رءوسهم الشرابيش (¬1)، فأنكر ذلك عليهم وقال: «إذا كنتم أنتم تلبسون الشرابيش والسلطان يلبس الشربوش، فبأى شىء يتميز عنكم السلطان، ويعرف منكم؟. والله لا أعود أرى أحدا منكم في دار السلطان أو موكبه يلبس شربوشا إلا ضربت عنقه». فما جسر منهم أحد بعد ذلك يلبس بحضرة السلطان ولا في موكبه شربوشا] (¬2). ومدحه لما قدم مصر كاتب أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، بهاء الدين زهير بن محمد القوصى (¬3) وهنأه بقدومه إلى مصر، وذكر قدومه في البحر بقصيدة مطلعها: لكم حيث ما كنتم مكان وإمكان ... وملك له تعنوا الملوك وسلطان ضربتم من العزّ المنيع سرادقا ... فأنتم له بين السماكين سكان وليست نجوما ما أرى وسحائبا ... ولكنها منكم وجوه وإيمان ¬

(¬1) الشرابيش جمع شربوش، انظر ما سبق ص 88 حاشية 3. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في. (¬3) في نسخة س «ولما قدم إلى مصر مدحه بهاء الدين زهير بن محمد كاتب الإنشاء لأخيه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب» والصيغة المثبتة من نسخة م.

ومنها في ذكر مجيئه في البحر: جزى الله بالإحسان سفنا حملنه ... لقد حلّ معروف (¬1) لهن وإحسان حوين جميع الحسن حتى كأنما ... يلوح بها في ساحة اليم خيلان وما هاج ذاك البحر حين سرى به ... ولكن هذا (¬2) من خوفه وهو ثهلان (¬3) لقد كان ذاك الموج يرعد خيفة ... ويخفق قلب منه بالروع ملآن ومنها: قدمت قدوم الليث والليث باسل ... وجئت مجىء الغيث والغيث هتّان وما برحت مصر إليك مشوقة ... ومثلك من يشتاق لقياه صديان (¬4) تحنّ فتبدى (¬5) نيلها لك دمعة ... ويعول قمرى على الدوح مرنان ولما أتاها العلم أنك قادم ... تهلل منها وجهها وهو جذلان تصفق أوراق وتشدو حمائم (¬6) ... وترقص أغصان وتفتر غدران فحسبك قد وافاك يا مصر يوسف ... وحسبك قد وافاك يا نيل طوفان وخلف الملك المسعود ولدا صغيرا فسماه الملك الكامل يوسف باسم أبيه، ولقبه بلقبه صلاح الدين (¬7). [وكان في كفالة جده الملك الكامل إلى أن توفى ¬

(¬1) في نسخة س «معروفا» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «هدى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) ثهلان جبل من جبال نجد، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬4) في نسخة س «بلدان» والصيغة المثبتة من نسخة م، والصدى شدة العطش، انظر ابن منظور (لسان العرب، ج 19، ص 185). (¬5) في س «فدرى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) في س «حمائما» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬7) في نسخة س «ولقبه الملك المسعود صلاح الدين يوسف».

ذكر القبض على حسام الدين الحاجب علي نائب الملك الأشرف بخلاط وقتله

الملك الكامل] (¬1). ثم توفى صلاح الدين يوسف هذا في أيام عمه السلطان الملك الصالح [نجم الدين (¬2) أيوب] رحمه الله. [ورأيته وكان ضئيلا مصفر الوجه (¬3)]. وخلف ولدا صغيرا اسمه موسى ولقبه الملك الأشرف مظفر الدين، وهو الذى أقامه الترك سلطانا بمصر بعد قتل ابن عم أبيه الملك المعظم تورانشاه ابن الملك الصالح، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر القبض على حسام الدين الحاجب عليّ نائب الملك الأشرف بخلاط وقتله كان الحاجب على من أهل الموصل، واتصل بخدمة السلطان الملك الأشرف وصار من أخص أصحابه وألزامه، وناب عنه بخلاط وأعمالها. وكان من أشد الناس مناصحة له وحفظا لبلاده، مع حسن السيرة والعدل في الرعية. ووقف في وجه جلال الدين بن خوارزم شاه مع عظمته وكثرة جنوده - كما ذكرنا - مدة طويله، ودفعه عن خلاط بعد أن كاد يملكها، ثم دخل بلاد أذربيجان واحتوى منها على بلاد ومعا قل: فاتفق في هذه السنة أن سير إليه الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك الأشرفى، وهو أكبر الأمراء عنده (¬4)، فقبض عليه واعتقله ثم قتله. ولم يعلم أحد من الناس السبب [في قتله (¬5)]؛ ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬4) في ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 485 حوادث سنة 626) «وهو أمير كبير في دولته». (¬5) في نسخة م «فيه» والصيغة المثبتة من نسخة س.

فقيل إن السلطان الملك الكامل أمر أخاه الملك الأشرف بذلك لأشياء باطنة لم يطلع الناس عليها. وكان - رحمه الله - حسن السيرة، كريما كثير البر والصدقات، عمر الخانات في طرق (¬1) السبيل من ذلك الخان الذى بين حران ونصيبين المعروف (¬2) به؛ ومن ذلك الخان الذى بين حمص ودمشق المعروف بخان برج العطش، وكان هناك برج منهدم قديم ليس فيه ماء فلذلك سمى [150 ب] برج العطش. وكان أبدا مأوى قطاع الطريق فقلّ إن كان أحد يمر به منفردا فيسلم من الحرامية، فأصلح عمارة ذلك البرج، ووصله بخان كبير بناه بالحجر النحيت. وعمل عليه بابا كبيرا وحفر فيه جبا (¬3) للماء، فصار منزلا للقوافل، وعاد الطريق به آمنا بعد أن كان مخوفا. ثم لم يمهل الله عز الدين أيبك، [على قتل الحاجب على] (¬4) بل أخذه سريعا، فإن جلال الدين بن خوارزم شاه لما ملك خلاط - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى - قبض عليه مع غيره من أمراء الملك الأشرف. وكان للحاجب على مملوك هرب إلى جلال الدين، فلما قبض جلال الدين على عز الدين أيبك، مملوك الملك الأشرف، قال ذلك المملوك لجلال الدين: «هذا قتل أستاذى». وطلبه من جلال الدين، فسلمه إليه فقتله بأستاذه. وحكى أن الملك الأشرف ¬

(¬1) في نسخة م «الطرق» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) في نسخة م «المعرف» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) في نسخة م «صهريجا» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر منازلة [عسكر] السلطان الملك الكامل [مدينة] حماه

رأى في منامه الحاجب عليا قد دخل عليه، وعند الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك، فوضع الحاجب منديله في عنق أيبك وأخذه وخرج. وكان ذلك بعد أخذ جلال الدين لخلاط وقبضه على أيبك. فلما أصبح الملك الأشرف قال: «قد مات أيبك، رأيت في المنام كذا وكذا». [فبينما هو يحدث إذ جاء من أخبره أن عز الدين أيبك قد قتل (¬1)]. ذكر منازلة [عسكر (¬2)] السلطان الملك الكامل [مدينة] (¬3) حماه ولما سلم السلطان الملك الكامل لأخيه الملك الأشرف دمشق (¬4)، تقدم إلى العساكر بالتوجه إلى حماة (¬5)، فخرجوا إلى جهة القصير (¬6) مبرزين، وضرب ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س، ووردت هذه القصة أيضا في ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 486. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) وردت هذه الجملة في نسخة س «ولما فتحت دمشق وسلمها السلطان الملك الكامل للملك الأشرف» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) ذكر ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 486 حوادث 626) السبب الذى دفع الكامل إلى الإستيلاء على مدينة حماه وهو أن الملك المنصور محمد بن تقى الدين عمر صاحب حماه عندما «حضرته الوفاة حلّف الجند وأكابر البلد لولده الأكبر، ويلقب بالملك المظفر، وكان قد سيره أبوه إلى الملك الكامل، صاحب مصر، لأنه كان قد تزوج بابنته، وكان لمحمد ولد آخر اسمه قلج أرسلان، ولقبه صلاح الدين، وهو بدمشق، فحضر إلى مدينة حماه فسلمت إليه، واستولى على المدينة وعلى قلعتها، فأرسل الملك الكامل يأمره أن يسلم البلد إلى أخيه الأكبر، فإن أباه أوصى له به، فلم يفعل». (¬6) القصير اسم لعدة مواضع والمقصود هنا الضيعة الواقعة في طريق حمص انظر: (ياقوت، معجم البلدان).

الدهليز السلطانى به. ثم رحل السلطان الملك الكامل من دمشق بعساكره المتوافرة، ووصل إلى مجمع المروج من أرض حمص، ثم رحل من مجمع المروج بمعظم عسكره إلى سلمية فنزل بها على قصد التوجه إلى الشرق للإشراف على بلاده التي تسلمها من الملك الأشرف. وتقدم [الكامل (¬1)] إلى الملك المظفر تقى الدين محمود بن الملك المنصور أن يرحل ببعض العسكر إلى حماة ليحاصرها، وبعث معه الملك المجاهد أسد الدين [شيركوه] (¬2) صاحب حمص، والملك العزيز والملك الصالح إبنا الملك العادل. فنازل الملك المظفر بمن معه من العساكر حماة. وكان صاحبها [151 ا] الملك الناصر قلج أرسلان قد استعد للحصار، وهيأ أسباب الامتناع، وجعل في قلعة حماة من الذخائر والعدد شيئا كبيرا. ولو امتنع بقلعتها لم يتمكن الملك الكامل من أخذها إلا بعد مطاولة (¬3) كثيرة. ولو طلب عنها عوضا - وهو فيها - يرتضيه لأجيب إليه ولحلف الملك الكامل له عليه. وكان الملك الكامل قد تعلق طمعه بها، فلو سلمها الملك الناصر إليه على عوض يأخذه منه لأخذها لنفسه. وكان أرضى الملك المظفر ببعض بلادها، لكنه استعجل النزول إلى الملك الكامل، فلم يتحصل على غرض. ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة س «منازلة».

ذكر إستيلاء الملك المظفر تقى الدين [ابو الفتح] محمود بن الملك المنصور على حماة [وبلادها]

ذكر إستيلاء الملك المظفر تقى الدين [ابو الفتح (¬1)] محمود بن الملك المنصور على حماة [وبلادها (¬2)] ولما نازل العسكر حماة نصبوا عليها المجانيق (¬3) من جهة الباب (¬4) الغربى، فنزل (¬5) الملك الناصر إلى البلد ومضى إلى سور باب (¬6) الغربى، وصعد إليه (¬7) ورأى من كثرة العساكر المحيطة به والمجانيق (¬8) المنصوبة على البلد ما هاله، وتمكن الرعب في قلبه. ووقعت حجرة من حجارة المنجنيق فأصابت رجلا كان واقفا على السور قريبا من الملك الناصر فأذهبت (¬9) قحف رأسه، وظهر دماغه من تحت القحف. وكان الملك الناصر عنده خوروجبن فارتاع لذلك، وأضمر في نفسه العزم على النزول إلى خاله السلطان الملك الكامل. وكان نزول العسكر على حماة في [أوائل (¬10)] شهر رمضان وفى [آخر (¬11)] زمان البطيخ وشدة الحر. واستمر الحال والحصار إلى أول العشر الأخير (¬12) من الشهر، والسلطان الملك الكامل مقيم بسلمية من شماليها. وفى سلمية يومئذ نواب الملك المظفر [تقى الدين وقد بنى ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة س «المناجنيق» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة م «باب» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) في نسخة م «ونزل» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬6) كذا في نسختى المخطوطة. (¬7) في نسخة س «فوقه» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬8) انظر حاشية 3 من هذه الصفحة. (¬9) في نسخة س «فطيرت» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬12) في نسخة م «الآخر» والصيغة المثبتة من نسخة س.

قلعتها التي هى داخل البلد (¬1)]، وكانت [سلمية (¬2)] في يده من سنة عشرين وستمائة كما تقدم ذكره (¬3). وفى العشر الأخير (¬4) من شهر رمضان نزل الملك الناصر قلج أرسلان سحرا (¬5) من قلعة حماة بعد أن أرسل إلى الملك المجاهد [أسد الدين (¬6)] صاحب حمص يخبره أنه ينزل إليه ويمضى معه إلى خدمة السلطان الملك الكامل، فركب الملك المجاهد ووقف خارج البلد ينتظره. فلما نزل [إليه (¬7)] الملك الناصر مضى معه إلى المعسكر الكاملى [151 ب] بسلمية. [وحكى لى أن ساعة خروج الملك الناصر من القلعة كان المؤذن بمنارة جامع القلعة يقول في تسبيحه: {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ} (¬8)» وهذا اتفاق عجيب (¬9)]. ولما وصل الملك الناصر ودخل دهليز السلطان، ووقعت عينه عليه شتمه وانتهره (¬10)، وكان ممتلئا غيظا منه لأشياء بلغته عنه، وكان اعتماده على [خاله (¬11)] الملك الأشرف أوجب له إهمال جانب [خاله (¬12)] الملك الكامل. ثم أمر السلطان ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) انظر ما سبق ص 128 - 129. (¬4) في نسخة م «الآخر» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) في نسختى المخطوطة «سحر». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) قرآن كريم، سورة آل عمران آية 26. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬10) في نسخة س: «فلما دخل الملك الناصر على السلطان الملك الكامل صاح عليه وانتهره» (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

باعتقاله فاعتقل. ثم بعث إليه يأمره أن يبعث إلى النواب بقلعة حماة علامة يعرفونها ليسلموا القلعة إلى نواب السلطان الملك الكامل، فأجاب إلى ذلك، وبعث العلامة إلى النواب يأمرهم بتسليم القلعة إلى نواب السلطان الملك الكامل. وكان بالقلعة (¬1) الطواشيان بشير وشجاع الدين مرشد المنصوريان. وسير السلطان من قبله لأجل تسلم القلعة الأمير مجد الدين أخا الفقيه ضياء الدين عيسى الهكارى الصلاحى وسابق الدين مثقال الجمدار الناصرى الصلاحى. وكان هذا مثقال الجمدار - قبل أن يصير إلى الملك الناصر - أحد خدام العاضد خليفة مصر، ثم صار للسلطان الملك الناصر صلاح الدين، وعمّر عمرا طويلا إلى آخر أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، فأدرك أول الدولة الأيوبية بمصر وآخرها. ولما وصلت رسالة الملك الناصر إلى النواب بقلعة حماة وبها الطواشيان المذكوران، وجماعة من الخدام، والمماليك المنصورية، وجماعة من أولاد الملك المنصور، امتنعوا من ذلك، وأبوا أن يسلموا القلعة إلى الملك الكامل. وأركبوا الملك المعز (¬2) بن الملك المنصور، شقيق الملك المظفر والملك الناصر، [أمهم جميعا ملكة خاتون بنت السلطان الملك العادل (¬3)]، ونادوا في حماة (¬4) بشعاره. وكان يومئذ صبيا صغيرا، وقالوا هذا بدل الملك الناصر والبلد له. ¬

(¬1) في نسخة س «بقلعة حماه». (¬2) في نسخة س «العزيز» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م وسوف يرد الاسم صحيحا فيما يلى. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة م «الحماة» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة س.

ولما وصل مجد الدين ومثقال الجمدار فتحوا لهما باب القصر فدخلا المدينة ولم يمكنو هما من الصعود إلى القلعة [152 ا]، وأنزلوا إليهما الملك المعز فاجتمع بهما وقال لهما: «هذه القلعة لى ولأخوتى يقوم بملكها أحدنا، وأى واحد منا مات كان فينا من يقوم مقامه. وليس بيننا وبين من يقصدنا إلا السيف» ثم رجع إلى القلعة. ورجع مجد الدين ومثقال الجمدار، وصاحت العامة (¬1) عليهما، ورجموهما بالحجارة، فرجعا إلى السلطان وأخبراه بذلك. فحينئذ أرسل السلطان الملك الكامل إلى الملك المظفر تقى الدين محمود يأمره أن يتفق مع مماليك أبيه على تسليم القلعة إليه. وكان [الملك المظفر (¬2)] نازلا بظاهر البلد مع العسكر محاصرا له، فراسلهم السلطان الملك المظفر في ذلك، فأجابوه إلى تسليم البلد والقلعة إليه. وأرسلوا إليه من يستحلفه لهم ويستحلفهم له (¬3)، فخرج إليه جماعة من الأعيان أحدهم خال (¬4) القاضى برهان الدين [اسماعيل (¬5)] بن أبى الدم - رحمه الله - وهو ابن عم القاضى شهاب الدين بن أبى الدم وكان يومئذ متولى القضاء بحماة. فاجتمعوا به بالجوسق الذى بناه الملك الناصر أخوه على العاصى شمالى تربة جدهما الملك المظفر تقى الدين عمر - رحمه الله - واستحلفوه لمن في القلعة، واشترطوا عليه أن لا يدخل البلد إلا بجماعته خاصة، وأن لا يدخله ¬

(¬1) في نسخة س «عامة البلد». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة م «من استحلفه على ذلك» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬4) في نسخة س «خالى» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

أحد من عسكر الملك الكامل. فأجابهم (¬1) إلى ذلك، وواعدوه الوصول بجماعته إلى باب النصر ليلا ليفتحوه له. ولما كان وقت السحر من الليلة التي وقع الاتفاق عليها (¬2)، ورد [الملك المظفر (¬3)] بجماعته إلى باب النصر [ومعه من أصحابه الأمير سيف الدين ابن أبى على - وقد ذكرنا تقدمه عنده وعلو منزلته بعد مفارقته ابن عمه حسام الدين ومصير حسام الدين إلى الملك الصالح نجم الدين (¬4) - وفى بعض أيام الحصار أصابت عينه نشابة فأذهبتها. وذكر لى أنه كان يقول للملك المظفر: «أشتهى أن أراك صاحب حماة وأكون بعين واحدة» فقضى له أن جرى الأمر على وفق ما نطق به لسانه. ولما ورد الملك المظفر بجماعته باب النصر فتح له (¬5)] فدخله بجماعته، ثم أغلق الباب ومضى إلى دار أبيه المعروفة بوزيره خطير الدين [152 ب] الأكرم بن الدخماسى بالجانب من حماة المعروف بالسوق الأعلى (¬6)، فنزلها. وأصبح أهل البلد قاصدين بابه، ومهنئين له. [وجاءه إخوته ومماليك والده، والعسكر الذين بالبلد، وسروا به غاية السرور، مستبشرين بولايته، ومصير ملك والده إليه (¬7)]؛ فإن أهل حماه - كما قدمنا ذكره - كانوا قد حلفوا له ¬

(¬1) في نسخة م «فأجاب» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) في نسخة س «ولما كان وقت السحر من الليلة الثانية لاجتماعهم به». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) انظر ما سبق ص 259. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬6) في نسخة س «إلى دار أبيه المعروفه بدار الأكرم». (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س.

بولاية عهد أبيه الملك المنصور سنة ست عشرة وستمائة (¬1). وجرى من تغلب أخيه على الملك ما جرى، وعاد الحق إلى نصابه، واستقر في أربابه، وفرحت الرعية بملكه؛ لما يعلمونه من شهامته وصرامته، ووفور عقله وكمال يقظته وفطنته. وكانوا خائفين من تغلب الملك الكامل على البلد، فأمنوا ذلك بدخول الملك المظفر إليه واستقراره به. وزال ما حذروه من زوال ملك البيت التقوى إلى غيره، فإن أهل هذا البلد جبلت قلوبهم على محبة هذا البيت الكريم، صغيرهم وكبيرهم لأنهم ربوا في صدقاتهم وإحسانهم، فالله تعالى يديم دولتهم [لهم] (¬2) ليعيشوا في ظلها وكنفها. (¬3) وكانت مدة ملك الملك الناصر قلج أرسلان بحماة وبلادها تسع سنين إلا نحو شهرين؛ فإن ابتداء ملكه كان في ذى القعدة سنة سبع عشرة وستمائة. وأقام الملك المظفر في دار الأكرم يومين، وصعد في اليوم الثالث إلى القلعة [المحروسة (¬4)] وتسلمها. وجاء عيد الفطر من هذه السنة -[أعنى سنة ستة وعشرين وستمائة (¬5)]- وهو مالك حماة وبلادها، وعمره يومئذ نحو سبع وعشرين سنة، لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمس مائة، ومولد أخيه الملك الناصر سنة ستمائة، بينهما سنة واحدة. ولما ملك [الملك المظفر (¬6)] حماة [فوض الأمور كلها صغيرها وكبيرها إلى الأمير سيف الدين على بن أبى على؛ ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 64 - 65. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) هذا دليل على ولاء وتقدير المؤرخ ابن واصل للبيت التقوى في حماه. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

فبقيت أمور الدولة كلها معدوقة (¬1) به. ثم] (¬2) انتزع السلطان الملك الكامل سلمية منه وسلمها إلى الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص - حسب ما كان (¬3) وقع عليه الاتفاق على غزة. وبقى في يد الملك المظفر حماة والمعرة وبعرين. [ثم إن الملك الكامل أطلق الملك الناصر بعد رحيله من سلمية، وكتب إلى الملك المظفر أن يسلم إلى أخيه الملك الناصر بعرين وأن يحمل إليه ما في قلعة حماة من المال، وكان مبلغه على ما ذكر [153 ا] أربع مائة ألف درهم، فأجاب إلى ذلك. وقدم الملك الناصر إلى بعرين فسلم إليه الملك المظفر قلعتها فتسلمها. وبعث يستدعى المال المأذون في تسليمه إليه. فسير إليه الملك المظفر بعضه، فامتنع الملك الناصر من قبض ما بعث به الملك المظفر إليه ورده. وقال: «لا أقنع إلا بجميع ما أمر لى السلطان الملك الكامل، ولا أنزل منه درهما واحدا». فأخذ الملك المظفر الذى كان بعث به إليه، وامتنع أن يرسل إليه شيئا من المال، وبقى مع الملك المظفر من البلاد المعرة وحماة فقط (¬4)]. [وكان في خدمة الملك المظفر لما ملك حماة الشيخ شرف الدين عبد العزيز ابن محمد بن عبد المحسن بن منصور بن خلف الأنصارى الدمشقى. وكان أبوه زين الدين ينوب في القضاء بحماة عن القاضى ضياء الدين بن الشهرزورى لما ¬

(¬1) في اللغة عدقه يعدقه بمعنى جمعه، انظر القاموس المحيط، والمعنى هنا أن أمور الدولة كلها مجموعة في يده. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬3) في نسخة س «حسبما وقع». (¬4) ورد ما بين الحاصرتين في قليل من التغيير في غير مكانه في نسخة س ورقة 261 ا - ب تحت عنوان «ذكر رحيل السلطان الملك الكامل رحمه الله تعالى إلى البلاد الشرقية».

ولى الحكم بحماة. وأقره الملك المنصور بعده مدة يسيرة، ثم ولى قضاء بعرين ومات بها. وكان الشيخ شرف الدين فاضلا متأدبا، جيد النظم والترسل، وخدم مدة طويلة الملك الأمجد مجد الدين صاحب بعلبك. ثم صحب الأمير حسام الدين بن أبى على - الذى قدمنا ذكره (¬1). ثم اتصل بابن عمه الأمير سيف الدين فأوصله إلى الملك المظفر فخدمه، وأقام عنده بحماة. ومدحه لما ولى الملك بحماة بقوله] (¬2): تناهى إليك الملك واشتد كاهله ... وحل بك الراجى فحطت رواحله ألا هكذا فليمنع المجدّ مانع ... ألا هكذا فليبذل البذل باذله ترحلت عن مصر فامحل روضها ... ولما حللت الشام روّض ما حله وعزّت (¬3) حماة في حمى أنت غابه ... بصولته يحمى كليب ووائله وقد طالما ذلت (¬4) بتدبير أهوج ... يجنب مرجيه ويحرم سائله فأضحى (¬5) عليها الشكر فرضا لفوزها (¬6) ... بذى كرم فاضت عليها نوافله سبقت إلى ورد العلى كل سابق ... فما نال إلا فضل ما أنت نائله وعدلت بالعدل الزمان وزدتّه ... سناء، فاستوت أسحاره وأصائله إذا فاعل رام ارتفاعا بفعله ... ففعلك مرفوع لأنك فاعله ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 259. (¬2) ورد ما بين الحاصرتين مختصرا في نسخة س والصيغة المثبتة من م. (¬3) في س «فوعرت» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة م «ظلت»، والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) في نسخة س «فأمضى» والصيغة المثبتة من نسخة م لاستقامة المعنى. (¬6) في نسخة س «بقوتها» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م.

وذى أمل أعطيته فوق سؤله ... فغاضت أمانيه وفاضت مناهله وغاو سبقت العذل بالسيف رادعا ... له، فاهتدى لما أصاب مقاتله أبرّ تقى الدين مجدا وسؤددا ... فتمت عطاياه وتمت فضائله وفاق على الأملاك معنى وصورة ... فراق محياه وراقت (¬1) شمائله هم القوم إن سيموا وعودا بآجل ... سماهم جواد يسبق الوعد عاجله وإن شغلتهم دمية (¬2) أو مدامة ... بلهو فلا (¬3) هزل عن الجد شاغله فما لبنى أيوب ملك مساجل ... ولا (¬4) في بنى أيوب ملك يساجله فكم فضّ ضيق حين زادت هباته ... وضاق (¬5) فضاء حين زادت جحافله مليك، لشمل المكرمات مجمّع ... فلا جمع إلا وهو بالبذل شامله وبحر طويل الباع منشرح الندى ... بسيط المعالى، وافر الفضل كامله يذل (¬6) معاديه ويعتز جاره ... وترجى عطاياه وتخشى غوائله وتلقى حصينات الدروع غنيمة ... إذا ما التقى ماذيّها (¬7) وعوامله دعاه إلى حب (¬8) المواضى مضاؤه ... وهل يصحب الإنسان من لا يشاكله وعمّ اليتامى والأرامل برّة ... فكل الورى أيتامه وأرامله ¬

(¬1) في نسخة س «ورقت»، والصيغة المثبتة من نسخة م وهى أبلغ. (¬2) في نسخة س «ديمة» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) في نسخة س «أفلا» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة س «وما» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) في نسخة س «وضاقت»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) في نسخة س «مذل»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬7) في نسخة س «أرماحها»، والصيغة المثبتة من نسخة م، والماذية من الدروع البيضاء، والماذى السلاح كله من الحديد، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 20 ص 143. (¬8) في نسخة م «حل» والصيغة المثبتة من نسخة س وهى أبلغ.

ذكر رحيل السلطان الملك الكامل إلى الشرق والوصلة بين الملك المظفر وبينه

وقد كانت الدنيا تحاول كاملا ... فقد أدركت في عصره ما تحاوله بلغت بمدحى فيه أبعد غاية ... فبلغت من جدواه ما أنا آمله ومن جوده شكرى، ولم تثن روضة ... على المزن بل أثنى على المزن وابله تعدى نداه (¬1) الجم أقصى مآربى ... فأفضلت مما أمطرتنى فواضله وقر قرارى في جنان جنابه ... وقد قلقلت (¬2) بابن الحسين قلاقله وصار قريضى مدح أشرف ضيغم ... فلم ابتذله في غزال أغازله ذكر رحيل السلطان الملك الكامل إلى الشرق والوصلة بين الملك المظفر وبينه ولما ملك الملك المظفر حماة رحل السلطان الملك الكامل إلى البلاد الشرقية التي أخذها من الملك الأشرف فنظر في مصالحها وولى عليها (¬3). [واستدعى [154 ا] الملك المظفر فسافر من حماة إلى خدمته، فعقد له العقد في معسكره على إبنة السلطان غازية خاتون شقيقة الملك المسعود صاحب اليمن، وهى والدة مولانا السلطان الملك المنصور رحمه الله تعالى (¬4)]. وكتب ¬

(¬1) في نسخة س «ملاء» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) في نسخة م «قلعت» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) في نسخة س «الذى سلمها إليه أخوه السلطان الملك الأشرف فنزل بالرقة وولى على البلاد، ونظر في مصالحها، وجاءته ملوك الشرق» ويلى بعد ذلك في نسخة س السطور السابق الأشاره إليها، انظر ما سبق ص 273 حاشية 4. (¬4) في المتن في نسخة م «خلد الله سلطانه» والجملة مصححه في الهامش مما يدل على أن نسخة م كتبت في زمن ابن واصل وصححت بعض ألفاظها بعد ذلك ربما بخط ابن واصل نفسه، انظر ما سبق ص 10، وما بين الحاصرتين ورد في نسخة س كما يلى: «وبعد ذلك سافر السلطان الملك المظفر إلى الشرق واجتمع بخاله الملك الكامل، وتقدم بأن يعقد العقد على ابنته الصاحبة وهى الصاحبة سيدة الخواتين غازية خاتون، نعقد العقد بالعسكر المنصور».

ذكر رجوع السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية

له التقليد بمملكة حماة وعاد إلى حماة مسرورا، وقد قضيت لبانته (¬1) باستقراره في مملكة والده، ووصلته بخاله وكان ذلك مما كانت أمانيه متعلقة به في الديار المصرية. وكان في صحبته رجل بمصر يقال له الزكى القوصى (¬2)، وكان متأدبا، فأنشده ليلة بمصر بيتين من نظمه يذكر فيهما تمنى (¬3) عود ملك أبيه إليه، وتزوجه (¬4) بابنة خاله الملك الكامل وهما: متى أراك كما أهوى وأنت ومن ... تهوى كأنكما (¬5) روحان في بدن هناك أنشد والأقدار مصغية ... هنيت بالملك والأحباب والوطن فقال [الملك المظفر (¬6)]: «يا زكى، والله لئن كان ذلك لأعطينك ألف دينار». فلما ملك حماة، [وعيد العيد (¬7)]، وعقد العقد ذكّره الزكى (¬8) به، فأمر له بألف دينار فحملت إليه. ذكر رجوع السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية ولما قرر السلطان الملك الكامل أمر الشرق رجع إلى الديار المصرية بعساكره، وكان قد وردت عليه كتب من أم ولده (¬9) الملك العادل سيف الدين ¬

(¬1) في نسخة س «أمانيه»؛ واللبانه هى الحاجة التي يهم الإنسان قضاؤها، انظر القاموس. (¬2) في نسخة س «رجل من أهلها يقال له زكى الدين القوصى»، والصيغة المثبته من نسخة م. (¬3) في نسخة س «تمنيه». (¬4) في نسخة س «وتزيجه». (¬5) في نسخة م «كأنما» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة س «زكى الدين». (¬9) في س «والده» وهو تصحيف، انظر المقريزى، السلوك ج 1 ص 238.

أبى بكر تشكو من ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب - نائب أبيه في الملك بالديار (¬1) المصرية وولى عهده - وتذكر عنه أنه قد عزم على التوثب على [أخذ (¬2)] الملك [من والده الملك الكامل، وأنه قد اشترى (¬3)] جماعة كثيرة من المماليك الترك، وأخذ جملة من أموال التجار عظيمة. وبذل جملا عظيمة (¬4) من بيت المال: «وإن لم تدرك البلاد، وإلا غلب (¬5) عليها، وأخرجنى وولدك الملك العادل من البلاد». ولما ورد عليه ذلك من أم الملك العادل أغضبه [وأحنقه (¬6)] وأسرع الرجوع إلى الديار المصرية. ولما وصل أظهر التغير على [ولده (¬7)] الملك الصالح، وقبض على جماعة من أصحابه واعتقلهم، وطالبهم بالأموال التي فرط فيها. وكان هذا هو السبب الذى صرف عزم الملك الكامل إلى تولية عهده لإبنه الملك العادل وإبعاد الملك الصالح إلى الشرق، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى (¬8). [وعهد بالسلطنة بعده إلى ولده الملك العادل سيف الدين أبى بكر (¬9)]، [154 ب] وكان عمر ¬

(¬1) في نسخة س «في الديار» والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وورد بدلها في نسخة م «واشترى». (¬4) في نسخة س «وبذل كثيرا من. .» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) في نسخة س «تغلب»، والصيغة المثبتة من نسخة م وكذلك من المقريزى، السلوك، ج 1 ص 238. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة س وردت هذه الجملة كما يلى: «وكان هذا هو السبب في انحرافه عن الملك الصالح إلى الملك العادل حتى أودى ذلك إلى انفاد الملك الصالح إلى الشرق على ما سنذكره إن شاء الله تعالى». (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

الملك العادل يومئذ إحدى عشرة (¬1) سنة؛ [فإن مولده - على ما ذكر لى - سنة خمس عشرة وستمائة، بعد موت جده، ولهذا سماه باسمه ولقبه بلقبه (¬2)]. وكان الملك الكامل شديد الميل إليه وإلى والدته؛ [وهى كانت جارية للفقيه نصر، وأصله من حماة من بنى هلال. وبلغنى أنه كان أهدى للملك الكامل طعاما فاستطابه جدا. وسأله من صنع هذا الطعام، فأخبره أنه صنعته جارية له، فطلبها منه، فأهداها إليه فأولدها الملك العادل وعدة بنات؛ إحداهن فاطمة خاتون التي زوجها الملك العزيز بن الملك الظاهر صاحب حلب؛ ومنهن عاشورا خاتون التي زوجها لابن أخيه الملك الناصر بن الملك المعظم، ولم يدخل بها على ما سنذكره؛ ومنهن التي تزوجها الملك السعيد عبد الملك ابن الملك الصالح عماد الدين اسماعيل بن الملك العادل، وأولدها الملك الكامل ناصر الدين محمدا وهو الآن حى (¬3)]. وفى أواخر هذه السنة - أعنى سنة ست وعشرين وستمائة - قصدت الفرنج حصن بعرين وصاحبها الملك الناصر قلج أرسلان - كما ذكرنا - فنهبوا بلده وأعماله، وسبوا، ومن جملة من ظفروا به طائفة من التركمان كانوا نازلين في ولاية بعرين، فلم يسلم منهم إلا النادر والشارد (¬4). ¬

(¬1) في نسخة س «نحو أحد عشر سنة»، والصيغة المثبتة من نسخة م، انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1 ص 247. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في نسخة م. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في نسخة م. (¬4) في نسخة م «الشاذ» والصيغة المثبتة من نسخة س.

ذكر محاصرة عسكر السلطان الملك الأشرف بعلبك

ذكر محاصرة عسكر السلطان الملك الأشرف بعلبك [وفى هذه السنة نازل عسكر دمشق بعلبك ومقدمهم الملك الصالح اسماعيل ابن الملك العادل. وكنا قد ذكرنا أن الاتفاق وقع والسلطان الملك الكامل نازل بتل العجول على تسليم بعلبك إلى الملك العزيز عماد الدين عثمان بن الملك (¬1) العادل. فلما تسلم الملك الأشرف دمشق، والملك المظفر حماة، امتنع الملك الأشرف من أن تكون بعلبك لأخيه الملك العزيز، وطلب استضافتها إلى ملك دمشق. ولم يمكن الملك الكامل مشاققته في ذلك، فحاصرها عسكر دمشق وضايقوها، ونصبوا عليها المجانيق إلى أن خرجت هذه السنة (¬2)]. ذكر محاصرة السلطان جلال الدين بن [155 ا] خوارزم شاه خلاط ومنازلته لها وهى المنازلة الثانية كنا ذكرنا ما جرى من الاتفاق بين الملك المعظم صاحب دمشق، وجلال الدين بن خوارزم شاه، [وإنفاذ الملك الناصر - بعد موت أبيه واتفاق عميه عليه - الشيخ شمس الدين الخسرو شاهى ينتصر به عليهما، ويحثه على قصد خلاط، لينفرج عنه الخناق (¬3)]. فقصد جلال الدين خلاط بعساكره ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 231. (¬2) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س في قليل من التعديل، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س في قليل من التعديل، والصيغة المثبتة من نسخة م.

وبها عز الدين أيبك الأشرفى مملوك الملك الأشرف، وهو الذى كان سيره [الملك الأشرف (¬1)] للقبض على الحاجب علىّ وقتله. وكان بها أيضا الملك المعز مجير الدين يعقوب بن الملك العادل، وهو شقيق الملك المظفر شهاب الدين غازى [صاحب ميافارقين. فنازل جلال الدين خلاط وحاصرها (¬2)]. ولم يزل الحصار مستمرا على خلاط [إلى أن خرجت هذه السنة، وهى سنة ست وعشرين وستمائة (¬3)]. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وورد بدلها في نسخة م «إلى آخر هذه السنة»، ولتفصيل ما جرى من مسير جلال الدين إلى خلاط وحصارها والحوادث التي جرت مدة الحصار، انظر النسوى، سيرة السلطان جلال الدين منكبرتى، ص 299 - 319.

ودخلت سنة سبع وعشرين وستمائة

ودخلت سنة سبع وعشرين وستمائة والسلطان الملك الكامل بالديار المصرية، وأخوه الملك الأشرف مقيم بدمشق مالك لها ولبلادها [إلى العقبة (¬1)]، وعسكره محاصر (¬2) لبعلبك [وفيها الملك الأمجد بهرام شاه (¬3)]؛ وبحماة الملك المظفر وله معها المعرة (¬4)؛ وأخوه الملك الناصر [قلج أرسلان (¬5)] بقلعة بعرين؛ والملك المجاهد بحمص وقد زيد عليها سلمية (¬6). ولما كان الملك الكامل نازلا بها كان معسكره بالقرب من تل عال يقال له شميميش (¬7). فقال الملك الكامل: «لو بنى فوق هذا التل قلعة، كانت تكون في غاية الحصانة». فاستأذنه الملك المجاهد أن يبنى لنفسه فوقها قلعة فأذن له فيه (¬8). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة س «منازل». (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س. (¬4) وردت هذه الفقرة في س «والملك المظفر بن الملك المنصور مالك حماه والمعرة». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة س «وسلمية بيد الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص». (¬7) في نسخة م «سميميس» وفى نسخة س «تل شميمس» والصيغة المثبتة من المقريزى (السلوك، ج 1 ص 446) وابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 234)، وهى إحدى بلاد كورة حمص. (¬8) في نسخة س «فقال له الملك المجاهد: فتأذن لى أن أبنى فوقه قلعة فأذن له في ذلك».

ذكر مولد الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب

فشرع في هذه السنة في عمارة قلعة فوق التل. وبلغ ذلك الملك المظفر صاحب حماة فشق ذلك عليه، وجمع جمعا وأراد المنع منه، وتخريب ما بناه صاحب حمص. ثم لم يتأت ذلك له لعلمه أن الملك الكامل لا يمكنه من معارضة صاحب حمص في ذلك فأعرض عنه. وأتم الملك المجاهد القلعة (¬1)، وجاءت في غاية الحصانة [والعلو] (¬2)، وسماها ماردين الشام، ومنع من تسميتها بغير هذا الاسم، ولزمها الأسم الأول. وخرب القلعة التي هى داخل السور التي كان جددها حسام الدين ابن أبى على للملك المظفر بسلمية (¬3). [155 ب] ذكر مولد (¬4) الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب وفى هذه السنة ولد الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن الملك العزيز صاحب حلب. وكان ولد له في هذه السنة ولدان آخران: أحدهما الملك الظاهر غازى، وهو أول مولود ولد له، وليس هو الملك الظاهر شقيق الملك الناصر فإن ذلك أصغر من الملك الناصر. وزين لهذا المولود الأول البلد، وعقدت القباب، ولبس العسكر في أتم زينة وهيئة، وعمل زورق من القلعة إلى المدينة، وانقطعت بكرة برجل منهم، فوقع في سفح القلعة فمات، وبطل [الملك العزيز (¬5)] الزورق؛ وثانيهما [ولد أسماه] (¬6) الملك العادل. ¬

(¬1) في نسخة س «الحصن» وهو تصحيف كما يفهم من سياق المعنى. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) وردت هذه الجملة في نسخة س: «ثم خرب القلعة التي كانت داخل البلد التي كانت جددها الملك المظفر حين كانت سلمية له». (¬4) في نسخة س «ولادة». (¬5) ما بين الحاصرتين من ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3 ص 208. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك

ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك ولما طالت مدة الحصار على بعلبك، وكانت قريبا من عشرة أشهر واشتدت مضايقة العسكر الدمشقى لها، أذعن صاحبها الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهان شاه (¬1) بن أيوب إلى تسليم بعلبك وأعمالها إلى ابن عمه الملك الأشرف، وأقطعه الملك الأشرف (¬2) قصير دمشق الذى تنزل فيه القوافل والزّبدانى (¬3) ومواضع أخر، وتوجه الملك الأمجد إلى دمشق ونزل بداره التي عند باب النصر المعروفة اليوم بدار السعادة التي ينزلها نواب السلطنة. ذكر مقتل الملك الأمجد صاحب بعلبك وفى هذه السنة قتل الملك الأمجد - رحمه الله - بداره بدمشق. وحديث مقتله أنه كان له مملوك من أخص مماليكه ففقد الملك الأمجد (¬4) له دواة محلاة، واتهمه بها وألزمه إحضارها، فلم يعترف بها. وأمر باعتقاله في مرقد بإيوان الدار التي هو نازل بها. وجلس الملك الأمجد على باب ذلك المرقد يلعب بالنرد مع [بعض (¬5)] أصحابه، فخرج ذلك المملوك وبيده سيف مسلول فضرب به أستاذه الملك الأمجد ضربا مثخنا. ثم طلع المملوك [156 ا] إلى سطح الدار، ¬

(¬1) في نسخة س «شاهنشاه». (¬2) ورد بدل هذه الفقرة في نسخة س «على تعويضه قصير دمشق». (¬3) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن الزبدانى كورة مشهورة بين دمشق وبعلبك. (¬4) في نسخة س «فقد للملك الأمجد». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر سيرته رحمه الله

ورمى بنفسه من قاعتها فمات لوقته (¬1). وعاش الملك الأمجد - رحمه الله - إلى الليل ثم توفى ودفن في مدرسة والده التي على الشرق بظاهر دمشق. فكانت مدة ملكه لبعلبك نحو تسع وأربعين سنة لأنه ملّكه إياها (¬2) عم أبيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما مات أبوه عز الدين فرخشاه [بن شاهنشاه بن أيوب (¬3)] سنة ثمان وسبعين وخمس مائة. واستمر مالكا لها إلى أن انتزعت منه هذه السنة - أعنى سنة سبع وعشرين وستمائة، فذلك خمسون سنة إلا سنة. [وكان بين أخذ بعلبك منه وبين مقتله مدة يسيرة مقدارها خمسة أشهر (¬4)]. ذكر سيرته رحمه الله كان [الملك الأمجد (¬5)] ملكا جليلا، فاضلا متأدبا، يحب العلماء والفضلاء والشعراء وأهل الأدب، ويجيزهم بالجوائز الكثيرة. وكان يقول الشعر الجيد البديع الذى يضاهى به شعر شعراء عصره المجيدين. [وله ديوان شعر مشهور، ويعنى بشىء من شعره] (¬6). ولم يكن في بنى أيوب أشعر منه (¬7)، وبعده الملك الناصر ¬

(¬1) ذكر سبط ابن الجوزى (مرآة الجنان، ج 8 ص 441 - 442) معلومات هامة عن حادث مقتل الأمجد واستهل ذلك بقوله: «ذكر لى جماعة أنه سرقت له حياصة لها قيمة. .». (¬2) في نسخة س «أيام». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬7) ذكر ابن شاكر الكتبى في ترجمته للملك الأمجد أنه «كان أديبا فاضلا شاعرا، له ديوان شعر موجود بأيدى الناس» انظر فوات الوفيات (تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد)، ج 1 ص 150. وللملك الأمجد ديوان في النسيب والتغزل والحماسة في المكتبة الأهلية بباريس (رقم 3142) وفى ما نشستر (رقم 457) انظر: Brockelmann, Geschichte der Arabischen Litteratur, I, P. 298, Supp. I, P. 456.

[داود (¬1)] بن الملك المعظم. [وكان فيهم من يقول الشعردون ذلك؛ منهم الملك المظفر تقى الدين عمر، وتاج الملوك بورى بن أيوب وله ديوان مشهور، والملك المنصور بن الملك المظفر صاحب حماة وله أيضا ديوان، وقد ذكرنا شيئا من شعرهم (¬2)]. ومن المختار (¬3) من شعر الملك الأمجد - رحمه الله - قوله: حىّ عنى الحمى، وحى المصلى ... وزمانا بالرقمتين تولى كان أغلى الأوقات في النفس قدرا ... فتلاشى زمانه واضمحلا ثم لما نوى الفريق فراقا ... نهل الحى من دموعى وعلاّ مربع الوجد فيه أرسلت دمعى ... بعد بعد الأحباب وبلا وكلاّ منزل (¬4) لم تبق فيه العوادى ... ودموعى والدهر إلا الأقلا لست أسلو ما كان فيه من العي‍ ... ـش وحاشى المحبّ أن يتسلى ما استحق الفراق نجد فتسلو ... ـه ولا استأهل الحمى أن يملا أيها الظاعنون هذى دموعى ... بعدكم في الرسوم تسقى المحلا قد وقفنا بها (¬5) فكل خليل ... بعزالى دمعه (¬6) ما أحلاّ ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين ورد في قليل من التغيير في غير مكانه في نسخة س، إذ ورد في آخر الحديث عن سيرة الملك الأمجد. (¬3) في نسخة س «مختار»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة س «منزلا»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «فيها»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) في نسخة س «بغزالى» وهو تصحيف، والصيغة المثبته من نسخة م؛ والعزالى جمع العزلاء وهو فم المزادة الأسفل، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 13، ص 470.

وتذكرت من سنا الوصل نورا ... زال عنى في الحال حين تجلى فهو مثل الشباب ما زار إلا (¬1) ... قيل سارت أظعانه واستقلاّ أيها الهاجرون قد كان صبرى ... صارما (¬2) قبل هجركم لم (¬3) يفلاّ أتراكم ترضون بالهجر حقا ... للمحبّ (¬4) المشوق، حاشى وكلا؟ أم تقيلونه العثار امتنانا ... منكم في الغرام إن كان زلا إن تراخى عن الغرام أناس ... وتخلوا عنه فما نتخلا كيف أنسى أيام وصل تقضّت ... بكم والزمان منها محلا هل إلى ذلك الزمان سبيل ... وضلال أن يقتضى الشوق «هلاّ» إن تقينى فإن حزنى مقيم ... صار إلبا علي مذ صار كلا (¬5) أين طي الأراك طابا جميعا ... بين روض العقيق طيبا وظلا لى إليه تطلع وحنين (¬6) ... حيثما سار في البلاد وحلا بان عنى وكنت وهو قريب ... ذا سرور به وقدحى المعلا فاسألاه عن هجر مثلى اعتداء ... بعد ذاك (¬7) الوصال كيف استحلا يا فؤادى، وكيف أدعو فؤادا ... يوم بين الخليط هام وضلا لست أرضى له الدناءة خدنا ... فعلام ارتضى لى الوجد (¬8) خلا ¬

(¬1) في نسخة س «مازال حتى»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) في نسخة س «صارم» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) في نسخة م «لن»، والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬4) في نسخة س «لمجب» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) هذا البيت من نسخة س وساقط في م. (¬6) في نسخة س «وحنينا» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬7) في نسخة س «ذلك» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬8) في نسخة س «للوجد» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م.

وبريق قد بات يلمع وهنا ... كالحسام الصقيل - في الروع - سلاّ بت والبرق لا أمل دموعى ... عند إيماضه، ولا البرق ملا مستهاما (¬1) ألقى الغرام بجسم ... منذ أبلاه هجركم ما أبلا ذا غليل من حرقة البين والهج‍ ... ـر بغير اقترابكم لن (¬2) يبلا أيها الناظمون هذا قريضى ... دق في صنعة القريض وجلا يتمشى على السماك افتخارا ... ثم يضحى منه عليكم مطلا وبغيض إلى من ليس يدرى ... صنعة الشعر أن يكون مذلا بقريض إذا كسى الشعر عزّا ... قائليه (¬3)، كساه هونا وذلك ما يسمى في حلبة الشعر يوما ... سابقا لا، ولا استخف (¬4) فضلا (¬5) ومن شعره المختار قوله: حالى غدا عاطلا من وصلك الحالى ... فكم أغالط عن ذا الهجر آمالى كتمته فوشت بى وهى جاهلة ... مدامع أرخصت من سرّى الغالى يا جيرة الحىّ اشمتم بهجركم ... قبل التفرق لوامى وعذالى أبكى على مربع من بعد بينكم ... عاف، وجسم على أطلالكم بال بأدمع لم يزل في الوجد صيّبها ... وقفا على جيرة تنأى وأطلال وزّعته بين هجر أو أليم نوى ... ما بين ساكب تهماع وتهمال في أربع حكمت أيدى النوى عبثا ... فيها، بما لا جرى منى على بال ¬

(¬1) في نسخة س «مستهام» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) في نسخة س «لم» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) في نسخة س «قابلته» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة م «ولا استحث»، والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) هنا ينقطع النص في نسخة س، وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط.

باهل يردّ زمانا بان مذهبه ... بكاى في رسم دار غير مخلال وقفت فيها فلم ألمح وقد درست ... سوى رسوم كبرد الصبر أسمال يا منحنى الجزع لى قلب يطالبنى ... بما تقضّى لنا في عصرك الخال من حسن ألفة أحباب ومجتمع ... وطيب أوقات أعصار وآصال تلك المنازل أبكتنا حمائمها ... وقد تغنين فوق الطلح والضال أجرين بالنوح دمعى في ملاعبها ... فنحن ما بين تغريد وإعوال منازل درستها الريح سافية ... والقطر ما بين منهلّ ومنهال يا ريم رامة قد أمسيت تسلمنى ... إلى الممضّين: نسيانى وإغفالى قلبى وجسمى هماما قد عرفتهما ... في النائبات لأوجاع وأوجال لا تبعدّن بكم في الحب من نغص ... ومن ملام، ومن قيل، ومن قال ومنها يا طالب الشعر تعييه مذاهبه ... فتنثنى منه في ضيق وإشكال خذها، فكم من فنون في طرائفها ... فيها ومن حكم تسرى وأمثال ومن شعره: هل بعد ذا كلف بكم وغرام ... جسد يذوب وعبرة وسقام وحمامة تدعو الهديل وطالما ... جلب الحنين حمامة وحمام هتفت، وكم شاقتك فوق غصونها ... ورق تجاوب والعيون نيام فسهرت من دون الرفاق لنوحها ... ولبارق بالرقمتين يشام أمسى يلوح ولى فؤاد خافق ... بوميضه، دون القلوب يضام

رحل الأحبة عن زرود (¬1) وخلفوا ... مضنى تكنفه أسى وهيام ومتى خلا ربع الهوى من أهله ... فكرى الجفون على الجفون حرام من مبلغ خبرا بنا بطويلع (¬2) ... أنّى سهرت من الغرم وناموا قوم إذا ذكروا طربت صبابة ... فكّأنما دارت علىّ مدام بانوا، وقد كانوا علىّ أعزة ... وهم وإن بانوا علىّ كرام أهوى رجوع الراحلين وطالما ... كذبت أمانىّ، وعزّ مرام ومن شعره في الخال: يا أيها البدر الذى ريقه ... خمر له فيه جريال خدك أضحى كالشقيق الذى ... له على وجنته خال ومن شعره فيه أيضا: وبدر تمّ يحاكى ريق مبسمه ... [خمرا (¬3)] سقيت بها من فيه جريالا لو لم يكن خدّه مثل الشقيق لما ... كان السواد الذى تحتلّه خالا ومن شعره: قد أورثت خاطر المشتاق نوم نأت ... سعاد عن أثلات المنحنى ولها لا تحسب الصب مذ زمّت أيانقها ... إلى العقيق تناسى عهدها ولها قلبى وإن كنت لا أفك أعتبه ... قد صار طوعا وكرها ملكها ولها ¬

(¬1) زرود رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة، وذكر ياقوت (معجم البلدان) أنه يجوز أن هذا الاسم مأخوذ من قولهم «جمل زرود» أي بلوع، ولعلها سميت بذلك لابتلاعها المياه التي تمطرها السحائب. (¬2) طويلع اسم لأماكن كثيرة منها هضبه بمكة عليها بيوت ومساكن لأهلها، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬3) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش.

لو شاء قصّر من أيام كاظمة (¬1) ... بالوصل من كان بالهجران طولها فليت آخر أيام الحمى بهم ... كانت على غرّة الواشين أولها ومن شعره: ومصفر أوراق الغصون وخضرها ... لعينيك في فصل الخريف تروق فذا ذهب فيها وذاك زبرجد ... جلته لكاسات المدام بروق بروق رحيق في الزجاجات لمع ... لدى الشرب لا يخشى لهن حريق معتقة من بات يعمل كاسها ... فذاك من الهمّ الطويل عتيق ومن شعره جوابا لكتاب ورد إليه: كتابك كالروض الذى فاح نشره ... وفاضت به الغدران وابتسم الزّهر ففى كل سمع منه شنف مرصعّ ... وفى كل قطر من تأرّجه عطر فلله ما تحوى السطور التي به ... كأن رياض الحزن ما قد حوى السطر (¬2) ومدح الملك الأمجد جماعة من الشعراء ممن وفد إليه وقصده، ومنهم من لازمه وأقام عنده، وممن مدحه من الوافدين (¬3) شرف الدين بن عنين، ومدح شعره [وأثنى عليه] (¬4) بقصيدة مطلعها: عجبت للطيف يالمياء حين سرى (¬5) ... نحوى وما جال في عينى لذيذ كرى ¬

(¬1) مكان إلى جانب البحر في طريق البحرين، بينها وبين البصره مرحلتان، انظر ياقوت معجم البلدان. (¬2) نهاية الجزء الساقط من نسخة س، انظر ما سبق ص 288 حاشية 5. (¬3) في نسخة س «الواردين» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬5) في نسخة م «كيف» وفى نسخة س «حين كيف» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين ص 55.

وكيف ترقد عين طول ليلتها ... تدافع المقلتين (¬1) الدمع والسهرا [ومنها في المخلص إلى المدح (¬2)]: وليلة مثل موج البحر بتّ بها (¬3) ... أكابد المزعجين: الخوف والخطرا حتى وقفت (¬4) بآمالى على (¬5) ملك ... لو رام ماضى أمس كان قد قدرا (¬6) فأصبح الدهر مما كان أسلفه ... إلىّ في سالف الأيام معتذرا يذود (¬7) عنى الرزايا حين أبصرنى ... بعزة الأمجد السلطان منتصرا أعز ما نزعت عنه تمائمه ... حتى تردّى رداء الملك واتّزرا (¬8) من آل أيوب أغنتنا عوارفه ... في كالح الجدب أن نستنزل المطرا ثبت الجنان له حلم يوقره ... إن خامر الطيش ركنى يذبل وحرا (¬9) ومنها في وصف شعر الملك الأمجد رحمه الله: لما تخيرنى أروى قصائده ... مضيت قدما وخلّفت الرواة ورا فاعجب لبحر غدا في رأس شاهقة ... من العواصم طام يقذف الدررا ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة بينما في ديوان ابن عنين، ص 55 وردت كلمة «المقلقين». (¬2) ورد بدلها في نسخة س «ومنها يقول». (¬3) كذا في نسخة م وكذلك في الديوان، وفى نسخة س «لها». (¬4) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الديوان، ص 56 «وردت». (¬5) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الديوان «إلى». (¬6) كذا في نسختى المخطوطة وورد الشطر الثانى في الديوان كما يلى: «لو رام ردا لماضى أمسه قدرا». (¬7) كذا في نسختى المخطوطة وفى الديوان «وذاد». (¬8) ورد هذا البيت بعد البيت التالى في نسخة م، بينما ورد الترتيب المثبت في نسخة س وكذلك في الديوان. (¬9) يذبل جبل في نجد، وحراء جبل في مكة، انظر ياقوت (معجم البلدان).

شعر سمت باسمه (¬1) الشعرى لشركتها ... فيه فباتت تباهى (¬2) الشمس والقمرا سحر ولكنّ هاروتا وصاحبه ... ماروت ما نهيا فيه ولا أمرا كم قمت في مجلس السادات أنشده ... فلم يكن لحسود في علاه مرا عجبت من معشر كيف ادّعو اسفها ... من بعد ما سمعوه أنهم شعرا أنا الذى سار في الدنيا له مثل ... أهديت من سفه (¬3) تمرا إلى هجرا (¬4) والشعر صيد فهذا جل طاقته ... حرش الضباب وهذا يقتل البقرا (¬5) وليس مستنزل الأوعال من يفع ... كمن أتى نفق اليربوع فاحتفرا وإن من شارف التسعين (¬6) في شغل ... عن القوافى جدير أن يقول هرا وممن لازم خدمة الملك الأمجد من الفضلاء وأقام عنده زمانا الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن، وله فيه قصائد حسان مذكورة في ديوانه، وهى مشهورة. ووفد إليه [أيضا (¬7)] ولازمه مدة الشيخ مهذب الدين أبو سعد النحوى الضرير، وكان فاضلا في العربية وله فيها تصانيف مشهورة. ¬

(¬1) في نسختى المخطوطة «ثمت به» والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 57. (¬2) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الديوان ورد الفعل «فقامت». (¬3) في نسخة س «سعه» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م ومن الديوان، ص 58. (¬4) هجر: المقصود بها بلاد البحرين وهى كثيرة التمور؛ انظر أبو الفدا، تقويم البلدان ص 99؛ ياقوت، معجم البلدان؛ ابن عبد الحق، مراصد الاطلاع، ج 3، ص 145. (¬5) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الديوان ورد آخر البيت «وهذا صائد بقرا». (¬6) في نسخة م «السبعين» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ديوان ابن عنين، ص 58. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر إستيلاء جلال الدين [بن علاء الدين] خوارزم شاه على خلاط

ذكر إستيلاء جلال الدين [بن علاء الدين] (¬1) خوارزم شاه على خلاط (¬2) قد ذكرنا منازلة جلال الدين خلاط في السنة الماضية (¬3). ولم يزل مجدا في حصارها وقاتله أهل البلد قتالا كثيرا [لما يعلمون من سوء سيرته (¬4)]. وأسرفوا في شتمه على الأسوار وسبه والوقيعة فيه. وأخذه اللجاج في قتالهم، ودخل الشتاء ووقع الثلج فلم يرحل عنهم. وأقام جميع الشتاء محاصرا لهم ومضايقا. وفرق كثيرا من عساكره في البلاد والقرى القريبة من شدة البرد وكثرة الثلج، فإن خلاط من أشد البلاد بردا، وأكثرها ثلجا. وأبان جلال الدين عن عزم قوى، وصبر شديد تتحير العقول فيه (¬5)، ونصب عليها عدة مجانيق، وواتر رمى الحجارة عليها (¬6) حتى خرب بعض أسوارها. وكان أهل البلد كلما خرب شيئا من السور أعادوه. ولم يزل مصابرهم ومضايقهم إلى أواخر جمادى الأولى من هذه السنة - أعنى سنة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) انظر لتفصيل ذلك، النسوى، سيرة السلطان جلال الدين منكبرتى، ص 320 - 327؛ ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 487 - 488؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 436؛ ابن ايبك، الدر المطلوب ورقة 242 - 243؛ ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3 ص ص 208. (¬3) انظر ما سبق ص 280 - 281. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «تحير العقول فيه» وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 487 حوادث 626) «تحار العقول منه» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) في نسخة م «وأثر رمى الحجارة اليها»، وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 488) «ولم يزل يرميها بالحجارة» والصيغة المثبتة من نسخة س.

سبع وعشرين وستمائة (¬1) -[159 ا] فزحف يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الأولى، ففتح له باب المدينة أمير من الأمراء كان موكلا به. فدخل جلال الدين البلد بعسكره، ووضع السيف في أهله، وفعل في ذلك فعل التتر؛ فقتل كل من وجد في البلد، وكانوا قد قلوا، فبعضهم كان فارق خوفا بعد الحصار الأول، وبعضهم مات في البلد جوعا (¬2)، وبعضهم صعد إلى القلعة مع من صعد إليها من الأمراء والأجناد. وكانت الأقوات قد قلت بل عدمت بخلاط، حتى أكل أهلها البغال والحمير والكلاب والسنانير (¬3). وكانوا يصطادون الفار ويأكلونه، وصبروا صبرا لم يصبرها محاصر (¬4) خوفا من جلال الدين وما يعرفونه [منه من إقدامه على (¬5)] سفك الدماء. ولما فتحت سبى عسكره بها الحريم، وباعوا الأولاد كما يفعل بالكفرة، ونهبت الأموال، وجرى منه نظير ما جرى من التتر. فلا جرم أن الله سبحانه (¬6) عاقبه ببغيه ولم يمهله، وقلع شأفته [بكسر السلطان الملك الأشرف له أولا، ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وكذلك في ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 488) وابن العديم (زبدة الحلب، ج 3 ص 208) بينما ذكر النسوى (سيرة السلطان جلال الدين منكبرتى، ص 320) أن استيلاء جلال الدين على مدينة خلاط كان «في أواخر سنة ست وعشرين وستمائة». (¬2) في نسخة س «خوفا»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) ذكر النسوى (سيرة السلطان جلال الدين، ص 320) عند ذكر ملك السلطان خلاط «وتلفت الأنفس بالغلاء، واقتسمت بأيدى البوار، وأكلت بها الكلاب والسنانير، وذلت الدراهم والدنانير، فصارت خلاط كلا لمن يأخذها، ووبالا على من يملكها». (¬4) في نسخة س «وأضروا ضرارا لم يضره محاصر» وفى ابن الأثير (نفس المرجع والجزء والصفحة) «وصبروا صبرا لم يلحقهم فيه أحد» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد مكانها في نسخة م «من». (¬6) في نسخة س «تعالى» والصيغة المثبة من نسخة م.

وكبس التتر لعسكره ثانيا، وهلاكه ودماره ببلد ميافارقين ثالثا، على ما سنذكره ذلك كله في موضعه إن شاء الله تعالى (¬1)]. ومع هذا فكان في هلاكه وتدميره بوار الإسلام (¬2) بيد التتر؛ فإنه كان - بعد موت والده [علاء الدين خوارزم شاه (¬3)] وما جرى من التتر في إخراب (¬4) البلاد وقتل أهلها، وهرب جلال الدين إلى الهند - قد عاد كما ذكرنا وقوى أمره واستفحل، وملك كرمان وعراق العجم وأذربيجان وأران. وصارت معه عساكر عظيمة. فلو أحسن السيرة وعدل، ولم يسفك الدماء، [وصالح سلطان الروم علاء الدين والملك الأشرف وغيرهما من المجاورين والخليفة، واعتضد بالجميع، لكان مع تقدير الله تعالى (¬5)]، قاوم (¬6) التتر، وكان هو وعساكره سدا بيننا وبينهم لكنه أساء (¬7) السيرة، وظلم وعادى (¬8) مجاوريه من الملوك، وعاملهم بالغدر والبغى (¬9)، [وشره إلى ما في أيديهم (¬10)] فأدى ذلك إلى هلاكه وهلاك عساكره (¬11) واستيلاء التتر على البلاد (¬12). وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه. ولما ملك ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط في نسخة س ومثبت في نسخة م. (¬2) في نسخة س «المسلمين». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة س «خراب». (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في نسخة م. (¬6) في نسخة س «لصادم» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬7) في نسخة س «ولكنه». (¬8) في نسخة س «وعادا» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬9) في نسخة س «والسعى». (¬10) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في نسخة م. (¬11) في نسخة س «عسكره» والصيغة المثبتة من م. (¬12) في نسخة س «فأعقب ذلك خروج التتر واستيلاؤهم على البلاد» والصيغة المثبته من نسخة م.

[ذكر كسرة السلطان جلال الدين منكبرتى ابن علاء الدين] بن خوارزم شاه

جلال الدين مدينة خلاط نازل قلعة خلاط ثم طلبوا منه الأمان فأمنهم وتسلم القلعة (¬1). وقبض على الملك المعز مجير الدين يعقوب بن [السلطان (¬2)] الملك العادل [159 ب] ثم أطلقه بعد ذلك ومضى إلى أخيه الملك الأشرف. وقبض أيضا على [الأمير (¬3)] عز الدين أيبك [نائب الملك الأشرف ثم (¬4)] قتله (¬5). [وكانت زوجته بخلاط - كما تقدم ذكرها - فماتت في الحصار فطلبها فقيل له إنها قد توفيت، وكان ذلك سعادة لها لأنها عملت في حقه ما قد تقدم ذكره (¬6)]. [ذكر كسرة السلطان جلال الدين منكبرتى ابن علاء الدين (¬7)] بن خوارزم شاه (¬8) كنا قد ذكرنا أن مظفر الدين بن زين الدين كان موافقا في الباطن لجلال الدين مع الملك المعظم صاحب دمشق. ولما مات الملك المعظم استمر مظفر الدين على موافقة جلال الدين وكذلك أيضا كان الملك المسعود ¬

(¬1) ورد بدل هذه الجملة في نسخة س «ثم أخذ القلعة التي لأخلاط بالأمان واستحضر من فيها لما تسلمها». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س ومثبت في نسخة م. (¬5) في نسخة س «فقتله». (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة م ومثبت في نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة م ومثبت في نسخة س. (¬8) عبارات هذا الخبر مضطربة في نسخة س (ورقة 266 ا - ب) وبها كثير من التقديم والتأخير والحذف والإضافة مما أدى إلى اضطراب المعنى. وسوف يشير المحقق إلى الإضافات المأخوذة من نسخة س والتي تزيد المعنى وضوحا بعد الرجوع إلى المؤلفات التاريخية الأخرى. عن هزيمة جلال الدين على يد كيقباذ والأشرف، انظر النسوى، سيرة السلطان جلال الدين، ص 329 - 332؛ ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 489 - 490؛ ابن العديم، زبدة العديم، زبدة الحلب، ج 3 ص 209.

ابن الملك الصالح الأرتقى صاحب آمد موافقا له. وكان صاحب أرزن الروم - وهو ابن عم السلطان علاء الدين كيقباذ [بن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقى (¬1)] صاحب [بلاد] (¬2) الروم - معاديا لابن عمه علاء الدين، فانتمى إلى جلال الدين ودخل في طاعته، وحضر معه حصار خلاط وفتحها. فخاف علاء الدين من جلال الدين أن يقصد بلاد الروم ويأخذها منه، ويملك بعضها لابن عمه، فاستنجد علاء الدين بالسلطان الملك الكامل والملك الأشرف على جلال الدين. فجمع الملك الأشرف عساكر الشام والجزيرة وسار بنفسه إلى سيواس، واجتمع بالسلطان علاء الدين كيقباذ وسارا معا إلى خلاط، ولم يكن جلال الدين استولى على شىء من معاقلها. وكان مع الملك الأشرف خمسة آلاف فارس (¬3) بعضهم عسكر دمشق وعسكر الجزيرة، وبعضهم عسكر حمص ومقدمهم الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه نجدة للملك الأشرف وبعضهم من عسكر الملك المظفر صاحب حماة، وبعضهم من عسكر حلب ومقدمهم الأمير عز الدين بن مجلى. وكان مع السلطان علاء الدين سلطان الروم نحو عشرين ألفا إلا أنهم لم يكونوا في قوة العسكر الذين مع الملك الأشرف؛ فإنهم كانوا في غاية التجمل بالسلاح الكثير والدواب الفارهة والأبهة العظيمة، وكانوا نقاوة العسكر الشامى والجزرى وجياده. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة س «وكان مبلغ عسكر السلطان الملك الأشرف ثمان آلاف فارس من العساكر الجيدة الشجعان» والصيغة المثبتة من نسخة م وكذلك من ابن الأثير (الكامل ج 12 ص 490).

ولما سمع السلطان جلال الدين باجتماع العساكر مع الملك الأشرف وعلاء الدين، وتصميم العزم على لقائه، وضرب المصاف معه سار مجدا ليلقاهم فوصل إليهم ولقيهم بناحية أرزنكان (¬1). واصطفت العساكر للقتال. فلما رأى جلال الدين [160 ا] قوة العسكر الذين مع الملك الأشرف وتجملهم وفراهة دوابهم وحسن سلاحهم وقوتهم بهت وملىء منهم رعبا. ثم وقع القتال بينهم، فلم يلبث (¬2) جلال الدين أن ولى منهزما لا يلوى على شىء، وتفرقت عساكره وتمزقت، وهلك منهم خلق كثير قتلا وترديا من رءوس الجبال التي كانت في طريقهم. وصادفوا شقيقا (¬3) فوقع فيه أكثر الخوارزمية فهلكوا. واسترجع الملك الأشرف خلاط وقد صارت خرابا يبابا (¬4). ودخل جلال الدين بلاد أذربيجان وقد قل جمعه وضعف ركنه، وبلغ التتر ذلك فقصدوه. وكان من بواره وهلاكه بوار الإسلام بتلك البلاد وغيرها، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وكانت هذه الكسرة في اليوم التاسع ¬

(¬1) أرزنكان أو أرزنجان من بلاد أرمينيا، ذكر ياقوت (معجم البلدان) أنها كانت بين بلاد الروم وخلاط، قريبة من أرزن الروم، وغالب أهلها أرمن وفيها مسلمون. (¬2) في نسخة س «فلم يثبت جلال الدين بل ولى منهزما لا يلوى على شئ»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) كذا في المخطوطة بينما ورد في النسوى (سيرة السلطان جلال الدين، ص 331) «ووقع خلق منهم في شقيف متهافتين من حر الطلب وركض الأتراك والعرب» وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 209) «وانهزموا، وصادفوا شقيفا في طريقهم فوقع فيه أكثر الخوارزمية فهلكوا». والشقيقة في اللغة «الأرض بين الجبلين، صلبة يستنقع الماء فيها» انظر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (معجم مقاييس اللغة، ج 3 ص 172) وفى لسان العرب، ج 12 ص 52 «الشقيقه الفرجة بين الجبلين». (¬4) يبابا أي خرابا انظر: القاموس المحيط.

ذكر إستيلاء علاء الدين [كيقباذ بن كيخسرو السلجوقى] سلطان الروم على أرزن الروم

والعشرين من شهر رمضان من هذه السنة أعنى سنة سبع وعشرين وستمائة. وكان مما ساعد على وقوع هذه الكسرة هبوب رياح عاصفة في وجوه عساكره. ذكر إستيلاء علاء الدين [كيقباذ بن كيخسرو السلجوقى (¬1)] سلطان الروم على أرزن الروم ولما جرى ما ذكرنا (¬2) من هزيمة جلال الدين بن [علاء الدين (¬3)] خوارزم شاه، وكان معه صاحب أرزن الروم في المصاف، فأخذ أسيرا وأتى به [إلى (¬4)] ابن عمه علاء الدين [كيقباذ (¬5)] فقبض عليه وأتى به (¬6) إلى أرزن الروم فتسلمها [منه (¬7)] وجميع (¬8) معاقلها وبلادها، [واعتقل ابن عمه إلى أن مات في اعتقاله (¬9)]. ذكر وقوع الصلح بين الملك الأشرف وعلاء الدين [كيقباذ (¬10)] وبين جلال الدين [بن علاء الدين خوارزم شاه (¬11)] ولما رجع جلال الدين إلى بلاد أذربيجان نزل مدينة خوى، وترددت الرسل بينه وبين الملك الأشرف وعلاء الدين سلطان الروم في معنى الصلح. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة س «ما ذكرناه» والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين مثبت في س ومذكور في الهامش في نسخة م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة س «ومضى به» والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة س «وجمع» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في م. وعلق ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 491) على هذا الحادث بقوله «وهكذا هذا المسكين جاء إلى جلال الدين يطلب الزيادة، فوعده بشىء من بلاد علاء الدين، فأخذ ما له وما بيديه من البلاد وبقى أسيرا، فسبحان من لا يزول ملكه». (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر إستيلاء الملك المظفر شهاب الدين غازى [بن الملك العادل] على [مدينة] أرزن من ديار بكر [160 ب]

وآخر الأمر أنه وقع الاتفاق بينهم على أن يقتصر كل واحد منهم على ما بيده من البلاد، واستقرت القواعد (¬1) على ذلك وجرت الأيمان المؤكدة بينهم. ولما تم ذلك سار الملك الأشرف إلى سنجار فنظر في مصالحها ثم توجه إلى دمشق فأقام بها. ذكر إستيلاء الملك المظفر شهاب الدين غازى [بن الملك العادل (¬2)] على [مدينة (¬3)] أرزن من ديار بكر [160 ب] كان حسام الدين صاحب أرزن من ديار بكر من بيت قديم [عريق في الملك (¬4)] يقال لهم بيت طغان أرسلان، كان لهم مع أرزن بدليس (¬5) وغيرها، ويقال لهم بيت الأحدب. [وأرزن (¬6)] لم تزل بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه ابن ألب أرسلان السلجوقى. وكان بكتمر صاحب خلاط قد أخذ بدليس من عم حسام الدين هذا، لموافقته للسلطان (¬7) الملك الناصر صلاح الدين يوسف ¬

(¬1) في نسخة م «القاعدة»، والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 491). (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س والسطور التالية وردت في غير مكانها في نسخة س مع بعض التغيير. (¬5) بدليس بلدة من نواحى أرمينيه قرب خلاط، ذكر ياقوت (معجم البلدان) أنها كانت «ذات بساتين كثيرة وتفاحها يضرب به المثل في الجودة والكثرة والرخص، ويحمل إلى بلدان كثيرة». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) في نسخة م «لموافقته كانت للسلطان» وهو تصحيف وفى نسخة س «لموافقته للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب» وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 492) وردت هذه الجملة «لأنه كان موافقا لصلاح الدين يوسف بن أيوب».

ابن أيوب. ولم يزل حسام الدين مصاحبا للملك الأشرف ومساعدا (¬1) له في جميع حروبه، ينفق أمواله في طاعته، ويبذل عساكره وأمواله في مساعدته. ومن جملة موافقته له أنه كان في خلاط - لما حاصرها جلال الدين - ولقى من الشدة والخوف ما لقيه من كان بها. ولما فتحت خلاط أسره جلال الدين فيمن أسر، وأراد أخذ مدينته أرزن منه. فقيل [لجلال الدين (¬2)] إنه من بيت قديم عريق في الملك، وأن أرزن وصلت إليه من أسلافه مع غيرها من البلاد، فخرج الجميع من أيديهم، فتعطف عليه [جلال الدين (¬3)] ورق له وأبقى عليه مدينته، وأخذ عليه العهود والمواثيق أن لا يقاتله، فعاد إلى بلده وأقام به. فلما جاء الملك الأشرف وعلاء الدين [صاحب الروم (¬4)] لمحاربة جلال الدين لم يحضر معهم الحرب وفاء لجلال الدين. ولما انهزم جلال الدين سار إليه (¬5) الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل صاحب ميافارقين، فحصره بأرزن وملكها [صلحا (¬6)]، وعوضه عنها بمدينة حانى من ديار بكر. وكان هذا حسام الدين حسن السيرة، كريما جوادا، لا يخلو بابه من جماعة يردون إليه، ولكل أمر آخر، فسبحان من لا يزول ملكه. ¬

(¬1) في نسخة س «ومناصحا». (¬2) في نسخة م «له» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) أي سار إلى حسام الدين صاحب أرزن. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وكذلك من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 492.

ذكر انتصار الملك المظفر صاحب حماة على الفرنج بظاهر حماة

ذكر انتصار الملك المظفر صاحب حماة على الفرنج بظاهر حماة وفى رمضان من هذه السنة (¬1) - أعنى سنة سبع وعشرين وستمائة - قصدت الفرنج من حصن الأكراد وغيرها حماة في جمع كثير من خيالة ورجالة فخرج إليهم الملك المظفر تقى الدين محمود [بن الملك المنصور - رحمه الله -] (¬2) صاحب حماة كالأسد الخادر والليث الباسل في عسكر حماة. ووصل الفرنج إلى أفنون (¬3) - وهى ما بين حماة وبعرين - فقاتلهم وحمل [161 ا] عليهم حملة بعد حملة، فلم يثبتوا له، وولوا منهزمين (¬4). وقتل من خيالتهم (¬5) ورجالتهم [خلق كثير، وأسر جماعة، واسترد ما غنموه (¬6)]، ودخل حماة مظفرا منصورا. وامتدحه الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد الأنصارى (¬7) بقصيدة مطلعها: أبشر بما شئت من نصر وتأييد ... فعنك يروى حديث البأس والجود وأنت ليث وغى تدمى مخالبه ... في نحر كل طويل الباع صنديد ¬

(¬1) في نسخة م «وفى هذه السنة» والصيغة المثبتة من نسخة س، انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1 ص 240. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) يبدو أن المقصود بها قرية قفيلون الحالية قرب بعرين (بيرين)، وهى الآن تبعد عن حماه مسافة 35 كيلومتر والطريق الذى يصلها بحماه طريق ترابى، انظر كتاب التقسيمات الإدارية، ص 411. (¬4) في نسخة س «فثبتوا له ثم ولوا بعد ذلك منهزمين». (¬5) في نسخة س «فرسانهم». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في نسخة م كلمة «جماعة». (¬7) هو شيخ الشيوخ الصاحب شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصارى الأوسى الدمشقى الحموى، ابن قاضى حماه ولد سنة 586 هـ‍ بدمشق وتوفى سنة 662، عن ترجمته وبعض شعره، انظر ابن شاكر الكتبى، فوات الوفيات، ج 1 ص 598 - 607؛ السبكى، طبقات الشافعية الكبرى، ج 5 ص 108؛ أبو المحاسن، النجوم، ج 7، ص 214 - 215.

وأنت غيث ندى تجرى عوائده ... بجوده قبل جرى الماء في العود فرّقت بين المعالى والثراء كما ... جمعت في العدل بين الشاء (¬1) والسيد (¬2) يذم بعض الورى بعضا وقولهم ... ما في البرية محمود كمحمود ملك إذا أغرق الأملاك في قنص ... فصيده غلب آل الأصفر الصيد وإن سبتهم ذوات الحسن مال به ... قطع الطلى عن وصال الخرّد الغيد (¬3) وإن تلاهوا بشرب الراح قال لهم ... دماء بنى الحرب لا بنت العناقيد وإن هفت بهم الألحان أطربه ... وقع الصوارم إطراب الأغاريد لو (¬4) نال ملك على مقدار همته ... لنلت (¬5) ملك سليمان بن داود كم عزمة لك لا تنفك عن ظفر ... فالجدّ منك لجد منك مسعود وكم سطى (¬6) أعربت عنها العروبة من ... فحول أبطالك الغر المناجيد كانوا الجلاميد في بأس وفى جلد ... فوق الجلاميد ترمى بالجلاميد (¬7) كتائب حكمت في كل مملكة ... حتى لقد خلتها كتبا بتقليد فكم جبان غذته بأس ذى لبد ... وكم شجاع كسته ثوب رعديد أما الفرنج فقد أخمدت نارهم ... ولم تزل ذات إضرام وتوقيد من بعد ما حاد أملاك الطوائف عن ... حفظ البلاد وألقوا بالمقاليد ¬

(¬1) في نسخة س «الساس» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) السيد في اللغة الأسد والذئب، انظر القاموس المحيط. (¬3) في نسخة م «الصييد» والصيغة المثبتة من س. (¬4) في نسخة س «قال» والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «لقلت» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «سطا» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬7) هذا البيت ساقط في نسخة م ومثبت في نسخة س.

رجا بنو الأحد (¬1) الكفار عودهم ... بالفوز عن رب إخلاص وتوحيد فباكروا (¬2) في كثيف الحشدذى لجب ... تبيد (¬3) في ساحتيه (¬4) ساحة البيد مستشعرى سحب نقع من هماهمة ... ونقعه (¬5) ذات إبراق وترعيد فما جنحت إلى سلم على غبن ... ولا قنعت بإرهاب وتهديد أقباتهم رحب صدر ليس يحرجه ... ضيق المجال وقلبا غير مرءود (¬6) وسابحا سطعت (¬7) بالنصر غرته ... ما سار في الحرب أقداما بتغريد وحدّ عضب عليهم منه صاعقة ... كنفخة الصور كلّ عندها مودى ورعتهم بخميس فلّ جمعهم ... بحرّ ضرب وطعن كالأخاديد فغودروا بين مجروح ومختبل ... يبكى على هالك منهم ومفقود (¬8) إن خبّروا عنك بالبأس الفظيع لقد ... قام العيان بتصديق الأسانيد صاروا قطائع إذ راموا القطائع لل‍ ... ـقواطع البيض في حجب الوغى السود فلا تدع غزوهم في عقر دارهم ... صغوا إلى الزود من لوم وتفنيد واسلم، لك الملك مقصورا عليك ولا ... زال الورى تحت ظل منك ممدود ¬

(¬1) في نسخة س «وحاسوا احد» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «فبادروا» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة م «تئيد» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬4) في نسخة س «جانبيه» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) في نسخة س «ولمعه» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) في نسخة س «مردود» والصيغة المثبتة من نسخة م و «الرئد» هو الضيق انظر: القاموس المحيط. (¬7) في نسخة س «شفعت» والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة س «ومصفود» والصيغة المثبتة من م.

ذكر حادثة غريبة

ذكر حادثة غريبة (¬1) ظهر أمير من أمراء التركمان يقال له شمس الدين سونج (¬2)، ويقال لقبيلته قيشالوا (¬3)، وقوى أمره وقطع الطريق، وكثر جمعه. وكان قطعه الطريق ما بين إربل وهمذان، ثم إنه تعدى إلى قلعة حصينة [اسمها سارو (¬4)] لمظفر الدين ابن زين الدين صاحب إربل، [فأخذها وقتل عندها أميرا كبيرا من أمراء مظفر الدين (¬5)] يقال له عز الدين الحميدى، فجمع مظفر الدين وأراد استعادتها منه، فلم يمكنه ذلك لحصانة القلعة، وكثرة جموع هذا الرجل، فاصطلحا على ترك القلعة بيده. وكان عسكر السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه يحصرون قلعة رويندز (¬6) وهى من قلاع أذربيجان، وهى من أحصن القلاع وأمنعها، لا يوجد مثلها. وقد طال الحصار على من بها فأذعنوا (¬7) إلى (¬8) التسليم فأرسل جلال الدين بعض (¬9) ¬

(¬1) في نسخة س ورد بدلها العنوان التالى: «قال صاحب التاريخ: ومن الحوادث الغريبة في هذه السنة أعنى سنه سبع وعشرين وستمائه أنه. . .». (¬2) في نسخة م «صونج» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 493. (¬3) في نسخة م «قيثالو» وفى نسخة س «فسالو» والصيغة المثبتة من ابن الأثير، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬4) ما بين الحاصرتين من ابن الأثير. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن الأثير (الكامل، ج 12، ص 493) وورد بدلها في نسخة م «وقتل عندها أميرا كبيرا». (¬6) في نسختى المخطوطة «روندر» والصيغة المثبتة من ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 493) وكذلك من ياقوت (معجم البلدان) الذى ذكر أنها قلعة حصينة من أعمال أذربيجان قرب تبريز. (¬7) في نسخة م «وأذعنوا» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من ابن الأثير. (¬8) في نسخة س «في» وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 493) «بالتسليم» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬9) في نسخة م «يحرض» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من ابن الأثير، (الكامل، ج 12 ص 493).

خواص أصحابه وثقاته ليتسلموا القلعة (¬1)، وأرسل معه (¬2) الخلع [والمال (¬3)] للذين هم بها. فلما صعد ذلك القاصد إلى القلعة وتسلمها، أعطى بعض من بالقلعة (¬4) ولم يعط البعض، واستذلهم وطمع فيهم، حيث استولى على الحصن. فلما رأى من لم يأخذ شيئا من الخلع والمال ما فعل بهم أرسلوا إلى [الأمير التركمانى (¬5)] شمس الدين سونج (¬6) المذكور ليسلموا إليه القلعة، فسار في أصحابه إليهم (¬7) فسلموها إليه، وهذا من غريب الاتفاق؛ فإن هذه رويندز (¬8) لم تزل أكابر الملوك تتقاصر عنها قدرتهم من قديم الزمان وحديثه [162 ا] فسهل الله تعالى أمرها لهذا الرجل الضعيف بغير قتال ولا تعب فملكها، وأزال عنها أصحاب جلال الدين الذى كان التتر وسائر الملوك تهابه وتخاف جانبه. ولما ملكها شمس الدين (¬9) سونج (¬10) طمع في غيرها - لا سيما وقد اتفق ضعف جلال الدين بما أصابه من الهزيمة العظيمة التي هدت ركنه وفرقت جمعه - فنزل من القلعة إلى مراغة (¬11) وحصرها، فأتاه منها سهم غرب (¬12) فقتله. فلما قتل ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن الأثير «ليتسلمها». (¬2) في نسخة م «معهم» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من ابن الأثير. (¬3) اضيف ما بين الحاصرتين من ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 493. (¬4) في نسخة س «في القلعة». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في نسخة م. (¬6) في نسخة م «صونج» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن الأثير. (¬7) في نسخة س «اليها» والصيغة المثبتة من نسخة م وكذلك من ابن الأثير. (¬8) انظر ما سبق ص 306 حاشية 6. (¬9) في نسخة س «سيف الدين» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬10) انظر ما سبق حاشية 6 من هذه الصفحة. (¬11) مراغة بلدة عظيمة وأشهر بلاد اذربيجان، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬12) سهم غرب أي لا يدرى راميه، انظر: القاموس المحيط.

[سونج (¬1)] ملك رويندز أخوه، ثم إنه نزل من القلعة فقصد أعمال توريز ونهبها وعاد إلى القلعة بالنهب ليجعله مدخرا فيها، فصادفه طائفة من التتر [في الطريق (¬2)] فقتلوه وأخذوا ما معه، فملكت القلعة أخت (¬3) له، وكل هذا كان في مدة سنتين، أولاهما هذه السنة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في نسخة م. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة، ووردت الجملة في ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 494) «ملك القلعة ابن أخت له».

ودخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة

ودخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة والسلطان الملك الكامل مقيم بالديار المصرية، وأخوه الملك الأشرف مقيم بدمشق، والممالك الباقية على ما كانت عليه في السنة الماضية. [ذكر استقلال السلطان الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر صاحب حلب بالسلطنة وقيامه بأعبائها (¬1)] وفى هذه السنة انفرد الملك العزيز - رحمه الله - بأمر الملك وقام به أحسن قيام، وكان قد بلغ من العمر ثمان عشرة (¬2) سنة، وسلم إليه أتابكه شهاب الدين طغريل - أحسن الله جزاءه - الخزائن. ورتب الملك العزيز الولاة من قبله، واستحلف الأمراء والأجناد لنفسه، ثم خرج بنفسه وزار القلاع والحصون. وركب الأتابك شهاب الدين ونزل من القلعة، وركب الناس في خدمته، وذلك في منتصف شهر رمضان [المعظم (¬3)] من هذه السنة. ولم يخرج الأتابك منذ توفى الملك الظاهر [أبو الفتح غازى (¬4)] من القلعة إلى هذا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين مثبت في نسخة م وورد بدله في نسخة س «قال القاضى جمال الدين ابن واصل قاضى قضاة حماة المحروسة». (¬2) في نسخة س «ثمانية عشر» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح، انظر زامباور، معجم الأنساب، ج 1 ص 152.

التاريخ، فكانت مدة ملازمته [للقلعة نحو (¬1)] خمس عشرة (¬2) سنة، فجزاه الله خيرا، فما سمعنا في شىء من التواريخ أن أحدا نصح [نصحه (¬3)] في خدمة بيت أستاذه وقام قيامه. ولقد فعل بدر الدين لؤلؤ في البيت الأتابكى ضد فعله، فالله تعالى يجازى يوم القيامة كلا بفعله. ثم عاد الأتابك - يوم ركوبه - إلى القلعة، وكان [162 ب] يركب منها في الأحايين (¬4) ويعود إليها إلى أن دخل [السلطان (¬5)] الملك العزيز بابنة خاله السلطان الملك الكامل. وبقى الأتابك [شهاب الدين (¬6)] بعد ذلك مدة، ثم نزل [من القلعة (¬7)] وسكن بداره المعروفة بصاحب عين تاب تجاه باب القلعة، [إلى أن توفى رحمه الله تعالى (¬8)]. وفى هذه السنة كانت للفرنج حركة فخرج عسكر حلب مع الأمير بدر الدين الوالى وأغاروا على ناحية المرقب ونهبوا حصن بلنياس (¬9) وخربوه، وخلصوا من وجدوه من أسرى المسلمين وسيروه إلى حلب. [وهذا بدر الدين ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «لها». (¬2) في نسخة س «خمسة عشر» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة م «وصار يركب منها في الأحايين» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 211. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وكذلك من ابن العديم، نفس المرجع والجزء والصفحة. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «منها». (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في م. (¬9) في نسخة م بليناس وهو تصحيف وبلنياس كانت كورة ومدينة صغيرة وحصن بساحل حمص على البحر، انظر ياقوت (معجم البلدان)؛ أبو الفدا، تقويم البلدان، ص 255.

الوالى كان أميرا جليلا، وكان متولى قلعة جعبر في أيام الملك الظاهر إلى أن أخذها الملك العادل فولاه الملك الظاهر بعد ذلك قلعة حلب إلى حين وفاته، أنزله من قلعة حلب وولاها للأتابك شهاب الدين رحمه الله. وفى هذه السنة (¬1)] وقعت (¬2) وقعة أخرى بين المسلمين والفرنج [قتل من الفريقين جماعة، واستظهر فيها الفرنج على المسلمين (¬3)]، فجهزت العساكر من حلب في منتصف شهر ربيع الآخر، ثم استقرت الهدنة بين عسكر حلب والداوية والاسبتارية في العشرين من شعبان. وكنت بحلب في هذه السنة توجهت إليها للاشتغال فيها بالعلم على الشيخ نجم الدين بن الخباز (¬4) في المذهب والأصول (¬5)، وعلى الشيخ موفق الدين بن يعيش (¬6) في علم النحو [واللغة (¬7)]، ولتحصل لى البركة بالقاضى بهاء الدين بن شداد، رحمه الله. وكان سفرى إلى حلب في أواخر سنة سبع وعشرين وستمائة [أنا والشيخ الإمام تاج الدين أحمد بن الشيخ زين الدين أحمد - رحمها الله (¬8)]. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في نسخة م. (¬2) في نسخة م «ثم وقعت» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في نسخة م. (¬4) ورد اسمه كاملا في السبكى (طبقات الشافعية، ج 5 ص 46) دون ذكر أي شىء من ترجمته وهو محمد بن أبى بكر بن على الشيخ نجم الدين بن الخباز الموصلى. (¬5) في نسخة س «وكان إماما في المذهب والأصولين» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) في نسخة س «نفيس» والصيغة الصحيحة المثبتة من م انظر ابن خلكان (وفيات، ج 2 ص 356). (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط في نسخة س ومثبت في م.

وأقمنا (¬1) بها إلى شعبان من سنة ثمان وعشرين وستمائة، وترددنا (¬2) في هذه المدة إلى خدمة القاضى بهاء الدين بن شداد، وكان نزولنا (¬3) بالمدرسة التي أنشأها بالقرب من داره. واحتبس الغيث في حلب في هذه السنة احتباسا كثيرا وارتفعت الأسعار فخرج الناس إلى جبل بانقوسا، واستسقوا. وحضر الإستسقاء القاضى بهاء الدين ابن شداد - رحمه الله - فجاء مطر يسير بعد ذلك، وانحطت الأسعار قليلا (¬4). وكان الوزير بحلب [في ذلك الوقت (¬5)] القاضى الأكرم جمال الدين بن القفطى (¬6). [وكان حسن السيرة وعنده فضيلة وغرام عظيم بالكتب، وحصل منها جملة كثيرة (¬7)] فعزله - في هذه السنة - الملك العزيز عن الوزارة، وفوض الوزارة إلى خطيب قلعة حلب زين الدين عبد المحسن بن محمد بن حرب، وكان يألفه ¬

(¬1) في نسخة س «وأقمت». (¬2) في نسخة س «وترددت». (¬3) في نسخة س «نزولى». (¬4) انظر عن احتباس الغيث في حلب، ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3 ص 210. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في م. (¬6) هو الوزير جمال الدين أبو الحسن على بن يوسف القفطى أحد الكتاب المشهورين، ولد بقفط من الصعيد الأعلى بالديار المصرية وأقام بحلب واشتغل بعلوم اللغة والنحو والفقه والحديث وعلوم القرآن والأصول والمنطق والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل، وله كتب كثيرة أشهرها «إخبار العلماء بأخبار الحكماء»، وتوفى بحلب سنة 646 هـ‍؛ انظر الأدفوى، الطالع السعيد، ص 436 - 438؛ الكتبى، فوات الوفيات، ج 2 ص 191 - 193؛ سركيس، معجم المطبوعات، ج 6 ص 1518 - 1519. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في نسخة م.

ذكر مسير القاضى بهاء الدين بن شداد إلى الديار المصرية بسبب نقل الجهة الكاملية - رحمها الله - إلى حلب

ويجتمع به كثيرا قبل أن يستقل بأمر السلطنة، فلما استقل الملك العزيز فوض إليه الأمور كلها (¬1). [وعدق به الأمور جميعها، ومال إليه ميلا كليا [163 ا]، وأذن له في قبول كل ما يهدى من الأموال وغيرها من الأمراء والأكابر، فأهدى إليه شىء كثير فأخذه وصار له في مدة يسيرة جملة عظيمة من المال بعد أن كان فقيرا مقتنعا بجامكية الخطابة (¬2)]. ذكر مسير القاضى بهاء الدين بن شداد إلى الديار المصرية بسبب نقل (¬3) الجهة الكاملية - رحمها الله (¬4) - إلى حلب كان القاضى بهاء الدين بن شداد هو الذى كان توجه لإحضار الصاحبة ضيفة (¬5) خاتون [بنت السلطان الملك العادل (¬6)] والدة الملك العزيز إلى حلب وقد تقدم ذكر ذلك (¬7). ثم هو الذى توجه ليخطب للملك العزيز فاطمة خاتون بنت السلطان الملك الكامل، وعمر الملك العزيز إذ ذاك سنتان وكسرا كما ذكرنا (¬8). ¬

(¬1) وردت هذه الجملة في نسخة م مختصرة كمايلى «وكان قبل استقلاله يألفه كثيرا ويجتمع به ففوض إليه الأمور كلها» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في نسخة م. (¬3) في نسخة س «لنقله» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة س «قدس الله روحها» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) في نسخة س «صفية» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م وأصل تسميتها أنه كان عند أبيها الملك العادل يوم مولدها ضيف فسماها ضيفه، انظر ما سبق ابن واصل، ج 3، ص 212 حاشيه 1 وكذلك المقريزى، السلوك، ج 1 ص 271 حاشيه 2. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬7) انظر ما سبق ابن واصل، ج 3، ص 213 - 214. (¬8) وردت هذه الجملة في نسخة س كمايلى: «ثم توجه إلى مصر ليخطب للملك العزيز ابنة خاله الملك الكامل، وعمره سنتان وكسر» والصيغة المثبتة من نسخة م، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 3 ص 236 - 237.

ذكر خروج التتر فى هذه السنة إلى البلاد وما فعلوه من سفك الدماء والإفساد

ثم توجه في سنة ست وعشرين وستمائة إلى دمشق لإبرام العقد فأبرمه ظاهر دمشق كما ذكرنا (¬1). ثم في هذه السنة سيره الملك العزيز إلى الديار المصرية لإحضارها فتوجه إلى مصر في محفة وعمره تسع وثمانون سنة، وقد صار من الكبر (¬2) منطويا (¬3). وتوجه في خدمته جماعة من الفضلاء والأعيان من جملتهم الشيخ نجم الدين بن الخباز - رحمه الله. فأقام القاضى بهاء الدين ابن شداد بالديار المصرية إلى أن خرجت هذه السنة. وفى هذه السنة سافر السلطان الملك الأشرف إلى الديار المصرية (¬4) فأقام عند أخيه السلطان الملك الكامل متنزها في الديار المصرية إلى أن خرجت السنة. ذكر خروج التتر في هذه السنة إلى البلاد وما فعلوه من سفك الدماء والإفساد لما كسر السلطان جلال الدين بن [علاء الدين (¬5)] خوارزم شاه، وهلك بعض عسكره، وضعف الباقون منهم طمعت التتر في البلاد، فخرجوا ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 254 - 255. (¬2) في نسخة م «وقد صار للكبر» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) في نسخة س «منطوى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. وذكر ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 2 ص 357) عند ترجمته لابن شداد أن «الهرم كان قد أثر فيه حتى صار كفرخ الطائر من الضعف لا يقدر على الحركة للصلوات وغيرها إلا بمشقة عظيمة». (¬4) وردت هذه الجملة في نسخة س «وسافر في هذه السنة الملك الأشرف إلى خدمة أخيه السلطان الملك الكامل» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

في هذه السنة من بلاد ماوراء النهر وقصدوا بلاد أذربيجان. وكانت بلاد ماوراء النهر - بعد تخريبهم إياها [163 ب] كسمرقند وبخارا وغيرهما - قد عمرت وصلحت أحوالها. وأما مدينة خوارزم فإنه عمرت مدينة تقاربها عظيمة. وأما مدائن خراسان فبقيت خرابا يبابا لا يجسر أحد من المسلمين أن يسكنها. وكانت التتر تدخل كل حين طائفة منهم إليها وينهبون ما يجدونه فيها، والبلاد خاوية على عروشها، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن ظهر (¬1) منهم في سنة خمس وعشرين وستمائة [طائفة، وجرى بينهم وبين جلال الدين ما قدمنا ذكره]. فلما كانت هذه السنة - أعنى سنة ثمان وعشرين وستمائة - (¬2)] وجرى على جلال الدين من الهزيمة ما ذكرناه، أرسل إمام (¬3) الإسماعيلية - وهو صاحب الألموت (¬4)، ¬

(¬1) في نسخة س (ظهرت) والصيغة المثبتة من نسخة م وكذلك من ابن الاثير، الكامل، ج 12 ص 495 (حوادث سنة 628). (¬2) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش في نسخة س ومثبت في م. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن الاثير (الكامل، ج 12 ص 495) «مقدم الإسماعيليه». (¬4) عن أصل قلعة ألموت - من نواحى قزوين - ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 494 هـ‍ «أن ملكا من ملوك الديلم كان كثير التصيد فأرسل يوما عقابا وتبعه فرآه قد سقط على موضع هذه القلعة. فوجده موضعا حصينا فأمر ببناء قلعة عالية فسماها آله موت، ومعناه بلسان الديلم تعليم العقاب». وعند ما أخذ حسن الصباح يبحث أثناء رحلاته عن قاعدة نائية حصينة صعبة المنال يستطيع منها أن يوجه هجماته ضد الدولة السلجوقية، وقع اختياره على قلعة ألموت إذ وجدها مشيدة على شعب ضيق على قمة صخرة عالية في قلب جبال البرز، وتتحكم في واد مزروع مغلق طوله نحو ثلاثين ميلا وعرضه نحو ثلاثة أميال. ووجد الصباح أيضا أن هذه القلعة على ارتفاع أكثر من 6000 قدم فوق سطح البحر، وأنها شيدت فوق قاعدة الصخرة ولا يمكن الوصول إليها إلا بواسطة ممر ضيق منحدر حلزونى. وكان الوصول إلى الصخرة يتم خلال الممر الضيق لنهر ألموت بين منحدرات شديدة وشعاب معلقة أيضا. وكانت قلعة ألموت عند ما استولى عليها حسن الصباح سنة 1090 م بيد رجل علوى اسمه مهدى كان قد أخذها من السلاجقة. واتخذ الصباح ودعاة الإسماعيلية من بعده هذه القلعة مقرا وقاعدة للدعوة الإسماعيلية للاستيلاء على قلاع جديدة ولكى يخرج الدعاة منها لنشر الدعوة في كل مكان، انظر ابن الأثير، الكامل، ج 10، ص 316 - 317 انظر أيضا: Bernard Lewis, The Assassins pp. 42 - 44. والترجمة العربية للدكتور سهيل زكار (بيروت 1971)، ص 57 - 58.

[وما معها من الحصون ببلاد العجم مثل كردكوه (¬1) وغيرها، وله بالشام الحصون المعروفة وله النواب بها - فعرّف التتر ضعف جلال الدين بالهزيمة الكائنة عليه من الملك الأشرف وسلطان الروم (¬2)]، وحثهم على قصده عقيب هذا الضعف، وضمن لهم الظفر به للوهن الذى صار إليه. وكان جلال الدين - كما قدمنا ذكره - قبيح السيرة، سيء التدبير جدا. وهو الذى أفسد حاله وحال المسلمين التابعين (¬3) لفساد حاله؛ [فأول أفعاله الردية التي صدرت منه ونفرت الناس وخوفتهم منه (¬4)] أنه أول ما ظهر أمره عقيب خروجه من [بلاد (¬5)] الهند وحلوله في أصفهان أنه قصد خوزستان وقصد مدينة ششتر (¬6) وهى للخليفة (¬7)، وسار إلى دقوقا وهى أيضا للخليفة فنهبها، وقتل كل من وجد فيها من المسلمين، وفعل من الإفساد [وسفك الدماء أعظم من (¬8)] فعل التتر الكفار. ¬

(¬1) كردكوه من قلاع الإسماعيلية المشهورة ذكرها أبو الفدا (تقويم البلدان، ص 466) عند وصفه لزابلستان وقال أن معنى هذا الاسم «جبل مدور لأن معنى لفظة كرد المدور ومعنى كوة الجبل». انظر أيضا لسترنج، بلدان الخلافة الشرقية، ص 405 (الترجمة العربية). (¬2) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س في بعض الأختصار والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) في نسخة م «التابع» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من س. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س وورد بدلها «فلا جزاه الله عن الإسلام خيرا». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في نسخة م. (¬6) ششتر هى مدينة تستر أعظم مدن خوزستان، انظر ياقوت، معجم البلدان؛ أبو الفدا، تقويم البلدان، ص 314 - 315. (¬7) ورد بعدها في نسخة س «فنهبها» واللفظ غير وارد في م وكذلك غير مذكور في ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 495. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في نسخة م «والسفك».

ثم ملك أذربيجان [وهرب صاحبها أزبك مظفر الدين بن البهلوان إلى حصن من حصونه فمات به، وكان طول عمره مشتغلا باللهو والطرب (¬1)]. ثم عادى (¬2) السلطان علاء الدين - سلطان الروم - والملك الأشرف والملك الكامل، وعادى أيضا الكرج، ولم يبق له صديقا من ملوك الأطراف غير الملك المعظم صاحب دمشق ومظفر الدين صاحب إربل. واتفق موت الملك المعظم، ولم يكن لمظفر الدين تلك القوة فصارت كلمة الجميع متفقة عليه وأيديهم سواء في حربه ومجاهدته. وانضاف إلى ذلك سوء السيرة في الرعية والإقدام على سفك الدماء. ولما [164 ا] ملك (¬3) خلاط بذل سيفه فيها، وفعل أكثر مما تفعله الكفرة، وأساء إلى صاحب الألموت، وأطرح جانبه، وقصد بلاده في سنة أربع وعشرين وستمائة، فقتل (¬4) الإسماعيلية أميرا من أمرائه كان مقطعا من قبله كنجة (¬5)، فغضب لذلك جلال الدين ونهب بلاد الإسماعيلية نهبا شنيعا، وخرب ضياعهم، وقتل أهلها، وسبى الحريم، واسترق الأولاد، وعمل فيهم الأعمال الفظيعة. ولما وصلت رسل الإسماعيلية في هذه السنة - أعنى سنة ثمان وعشرين وستمائة - إلى التتر يحرضونهم على قصد جلال الدين (¬6)، قصدت طائفة منهم ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة م ومثبت في س. (¬2) في نسخة م «فعادى» والصيغة المثبتة من س. (¬3) في نسخة س «فتح» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة م «لقتل» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) كان اسم هذا الأمير أورخان وقد اغتاله الإسماعيلية لإغارته على بعض معاقلهم انظر: Lewis, The Assassins. P. 84 . (¬6) عن العلاقات الودية بين الإسماعيلية والمغول أعداء الخوارزمية، انظر: Lewis, op. cit, P. 86.

[ذكر واقعة غريبة وقعت لجلال الدين]

بلاده، واستولوا على الرى وهمذان وما بينهما من البلاد، ولم يتمكنوا من أصفهان وإنما ملكوها بعد هلاك جلال الدين، لوقوع الاختلاف بين أهلها. ثم قصدوا في هذه السنة بلاد أذربيجان فجاسوا خلالها ينهبون ويقتلون من ظفروا به، وجلال الدين لا يقدم على لقائهم، ولا يقدر على منعهم من البلاد، وقد ملىء منهم رعبا وخوفا، وانضاف إلى ذلك أن عسكره اختلفوا عليه وتفرقت كلمتهم. [ذكر واقعة غريبة وقعت لجلال (¬1) الدين] قد وقعت لجلال الدين واقعة غريبة تؤذن بفساد عقله واختلال مزاجه؛ وهو أنه كان له مملوك يحبه محبة شديدة مفرطة يقال له قلج، وكان خصيا، فاتفق موته بعد الكسرة، فحزن عليه جلال الدين حزنا شديدا وأظهر من الجزع والهلع ما لا مزيد عليه، ولم يسمع من أحد بمثله، ولا لمجنون ليلى. وكان موته بمكان بينه وبين توريز عدة فراسخ، فمشى الناس في جنازته هذه المسافة كلها، ومشى هو بعض الطريق راجلا، حتى ألزمه أمراؤه ووزيره بالركوب فركب. ولما قرب من توريز أرسل إلى أهل البلد يأمرهم بالخروج من البلد لتلقى التابوت، ففعلوا. وأنكر عليهم كونهم لم يبعدوا، ولم يظهر عليهم من الحزن والبكاء أكثر مما فعلوا. وأراد أن يعاقبهم على ذلك فشفع فيهم أمراؤه فتركهم. ثم إنه لم يدفن ذلك المملوك وإنما كان يستصحبه معه [164 ب] حيث سار وهو يلطم ويبكى، وامتنع من الأكل والشرب. وكان إذا قدم إليه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م.

الطعام يقول: «احملوا من هذا إلى قلج (¬1)». ولم يتجاسر أحد أن يتفوه عنده أنه مات. وأنه قيل له يوما أنه مات فقتل الذى قال ذلك. وكانوا يحملون إلى قلج (¬2) الطعام، ثم يعودون إليه ويقولون إنه: «يقبل الأرض ويقول (¬3) إننى الآن أصلح مما كنت». فلحق أمراءه من الغيظ والأنفة لهذا الأمر السيىء ما شوش قلوبهم عليه. فذكر عز الدين بن الأثير [في تاريخه (¬4)] أنهم فارقوه وانحازوا عنه مع وزيره، وأنه بقى حيران لا يدرى ما يصنع لا سيما لما خرج التتر عليه، فحينئذ دفن الغلام، وراسل الوزير، واستماله وخدعه إلى أن حضر عنده. فلما وصل إليه بقى عنده أياما، ثم قتله جلال الدين (¬5). هذا ما حكاه ابن الأثير، وحكى لى الأمير حسام الدين بن أبى على عن بعض من أخبره أن الغلام (¬6) كان يحمل مع جلال الدين من منزلة إلى منزلة، وإذا نزل أحضر التابوت وجعل قريبا منه بحيث يراه، وإذا أكل وشرب بعث له شيئا من المأكول أو المشروب، وبقى كذلك مدة. وفى بعض الأيام تقدم وزير السلطان (¬7) إلى التابوت - وهم سائرون - فأمر بإنزاله فأنزل، ثم أمر من حفر له حفيرة فحفرت، ثم أمر بدفنه فيها. ولما نزل جلال الدين في خيمته ¬

(¬1) في نسخة س «قليج يعنى ذلك المملوك الميت» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) في نسخة س «المملوك الميت» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «ويقول لك» والصيغة المثبتة من م وكذلك من ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 497). (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) انظر ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 497. (¬6) في نسخة س «المملوك الميت» والصيغة المثبتة من م. (¬7) في نسخة س «وزير جلال الدين» والصيغة المثبتة من م.

ذكر استيلاء التتر على مراغة

ولم ير التابوت سكت ولم ينكر. وهذه الواقعة من أعجب الأشياء، وقد بلغتنى من جهات، ولا أشك فيها (¬1) من حيث الجملة وإن اختلف في تفصيلها. ذكر استيلاء التتر على مراغة ثم حصر التتر - مدينة مراغة وهى من أعظم بلاد أذربيجان، فامتنع أهلها أولا ثم أذعنوا بالتسليم (¬2) على أمان طلبوه [فأمنوهم (¬3)]، فدخل التتر البلد (¬4). ولما دخلوه قتلوا فيه، إلا أنهم لم يكثروا في القتل، وأقاموا في البلد شحنة من قبلهم، وعظم حينئذ شأن التتر، واشتد خوف الناس منهم بأذربيجان. ذكر كبس التتر السلطان جلال الدين [بن علاء (¬5) الدين] بن خوارزم شاه عند آمد وهزيمته منهم ثم مقتله [165 ا] ولما تمكن التتر في بلاد أذربيجان، يقتلون ويخربون السواد، وينهبون الأموال، وهم عازمون على قصد جلال الدين وتتبعه، ورأى [جلال الدين] (¬6) ما هو فيه من الوهن والضعف، فارق بلاد أذربيجان وقصد بلاد خلاط، وأرسل إلى نائب السلطان الملك الأشرف بها يقول: «إنا لم نأت للحرب والأذى، وإنما خوف هذا العدو حملنا على قصد بلادكم». ¬

(¬1) في نسخة س «ولا شك فيها» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة م «للتسليم» والصيغة المثبتة من نسخة م وكذلك من ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 497. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في م وفى ابن الاثير (نفس المرجع والجزء والصفحة) «فبذلوا لهم الأمان». (¬4) في نسخة س «وفتحوا لهم البلد» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

وكان عزم على أن يقصد بلاد ديار بكر والجزيرة، ويقصد بعد ذلك الخليفة [المستنصر بالله ملتجئا إليه، ومستنجدا به وبملوك المسلمين على التتر، ويطلب منهم المساعدة على دفعهم، ويحذرهم عاقبة (¬1) إهمالهم]. ولما وصل إلى خلاط، وبلغه أن التتر في طلبه، سار إلى آمد وبها صاحبها الملك المسعود بن الملك الصالح محمود بن محمد الأرتقى [فنزل بالقرب منها، وجعل له اليزك (¬2) في عدة مواضع خوفا من كبس التتر له. والذى خافه وقع فيه فإن التتر كبسوه ليلا (¬3)]. فلم يشعر إلا والتتر قد خالطوا معسكره. فذكر لى أنه كان له حظية يحبها فخرج من خيمته وأركبها فرسا؛ وسلمها إلى بعض أصحابه، وأمره أن يذهب بها إلى موضع يأمن عليها فيه. ثم ركب جلال الدين ومعه نفر يسير من أصحابه وولوا منهزمين. ونهب التتر المعسكر، وقتلوا من ظفروا به من العسكر، والباقون ولوا منهزمين يمينا وشمالا، وتمزقوا كل ممزق (¬4). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م؛ انظر أيضا ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 498. (¬2) اليزك معناه طلائع الجيش انظر ما سبق، ابن واصل، ج 2 ص 38 حاشيه 3. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م وذكر النسوى - الذى كان ملازما لجلال الدين منكبرتى حتى آخر أيامه وكان موضعا لثقته يشاوره في كل أمر، ويعهد إليه بكل ما هو خطير من أمور دولته - أن التجاء جلال الدين إلى آمد «مثل الغريق يتعلق بما تصل إليه يده، وقد قصر عن السباحه وكده، وشرب تلك الليلة فسكر، فناله من سكرة خماره دوار الرأس وقطع الأنفاس، فلا صحو إلا إذا نفخ في الصور وبعثر ما في القبور» انظر سيرة السلطان جلال الدين منكبرتى، ص 377 - 378. (¬4) ذكر النسوى أيضا - وكان ملازما للسلطان جلال الدين - أنه هرب فقال: «وكنت قد سهرت تلك الليلة للكتابة فغلبنى النوم في أخرياتها، فلم أشعر إلا بالغلام ينبهنى ويقول: قم فقد قامت القيامة، فلبست سريعا، وخرجت هريعا، وتركت في المنزلة ما ملكته جميعا» انظر سيرة السلطان جلال الدين، ص 378.

وقصد جلال الدين ومن معه جهة ميافارقين، وقصد أن يصل إلى صاحبها الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل، ويمتنع بميافارقين أو ببعض معاقلها من التتر، إلى أن يتراجع أصحابه إليه. وساق جلال الدين سوقا عنيفا لشدة ما خالطه من الرعب، وانقطع عنه من انهزم معه من أصحابه. وكان فرسه أسبق من خيلهم وأنجب. وبقى وحده ليس معه أحد، فوصل إلى قرية من قرى ميافارقين وبعث بعض أهل القرية إلى الملك المظفر شهاب الدين يعرفه [بوصول جلال الدين إلى تلك القرية (¬1)]. وكان بتلك القرية رجل كردى كان عسكر جلال الدين قتلوا أباه وأخاه، فوثب [ذلك الكردى (¬2)] على جلال الدين فقتله (¬3). وبلغ قتله الملك المظفر شهاب الدين [غازى بن الملك العادل (¬4)] فعظم ذلك عليه، وتألم له. وحكى [أن شهاب الدين] (¬5) سير إلى تلك القرية ليكشف عن أمره [165 ب] فأحضرت له عدة جلال الدين وملبوسه، فعرف ذلك بعض الخوارزمية الذين كانوا هربوا إليه من أصحاب جلال الدين، وشهد عنده أن هذه عدة جلال الدين وملبوسه، فتحقق حينئذ قتله. وكان [الملك المظفر (¬6)] يؤثر أن يجتمع به ليحسن إليه ويتخذ عنده يدا. ولو سلم [جلال الدين] (¬7) حتى يجتمع به ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «وصول إليه». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) انظر أيضا النسوى (سيرة السلطان جلال الدين، ص 382). (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى م «أنه». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

لعاضده، وكان أصحاب جلال الدين المنهزمين (¬1) اجتمعوا عنده، ولكن إذا قضى الله أمرا فلا مرد له. واشتهر في البلاد أن جلال الدين انقطع خبره، وكان الناس يظنون أنه ذهب إلى [بلاد (¬2)] الهند كما فعل أول مرة، أو إلى بعض الجهات، وبقوا مدة يترجونه. وبقى جماعة من العجم والخوارزمية بعد موته مدة طويلة ينتظرون عوده كما ينتظر الحاكمية عود (¬3) الحاكم، والإمامية محمد بن الحسن المنتظر، والكيسانية محمد بن الحنفية. [وأما حظيته الذى بعثها جلال الدين مع بعض أصحابه فإنه لما سمع بفقد جلال الدين وصح ذلك عنه، أخذها ومضى بها إلى بغداد، وأهداها للخليفة الإمام المستنصر بالله، فكانت عنده من أجل حظاياه إلى أن ماتت في أيامه (¬4)]. وكان هذا الرجل [جلال الدين (¬5)] مع ما حكيناه من ظلمه وسفكه الدماء، ذا شهامة وعزم وإقدام وهمة عالية. وكان سدا بيننا وبين التتر، فبهلاكه تمكنت التتر من العراق والروم والجزيرة والتطرق إلى الشام، ولله تعالى تدبير هو بالغه. ¬

(¬1) في نسخة م «المتفرقون» والصيغة المثبتة مكتوبة في هامش نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة س «عودة» والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في نسخة م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في نسخة م.

ولم تزل هيبة التتر في القلوب عظيمة إلى أن كسرهم الملك المظفر سيف الدين قطز [صاحب الديار المصرية بعين جالوت - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه جنات النعيم -؛ ثم كسروا ثانية بحمص على يد الملك الأشرف صاحب حمص ابن الملك المنصور، وعلى يد الملك المنصور صاحب حماة ابن الملك المظفر تقى الدين؛ ثم كسرهم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس صاحب الديار المصرية على الفرات وهى الكسرة الثالثة، ثم كسروا رابعة على يده ببلاد الروم. ثم كسرهم الملك المنصور سيف الدين قلاون صاحب الديار المصرية والشام - بتأييد من الله - على مدينة حمص وهى الكسرة الخامسة التي لم يتقدمها مثلها. ونحن نرجوا من الله تعالى استئصالهم، وقلع شأفتهم قريبا غير بعيد إن شاء الله تعالى (¬1)]. ولما هلك جلال الدين [بن علاء الدين خوارزم شاه (¬2)] تمكنت التتر الملاعين من البلاد، واستولوا على بلاد أذربيجان وأرّان وعراق العجم، وكرمان وغيرها. ونازلوا أصفهان، وكانت قد سلمت منهم [إلى هذه الغاية (¬3)]، وفيها جمع عظيم من العجم، فوقع بين أهلها خلف فتمكنت التتر منهم بسبب ذلك، وملكوها وملكوا بقية البلاد. وساقت التتر بعد كسرهم جلال الدين في هذه السنة إلى الفرات، وهذه أول سنة وصلوا فيها إلى الفرات، ونهبوا ما وجدوه في طريقهم وأحرقوا وقتلوا، واضطرب الشام بسبب وصولهم [166 ا] إلى الفرات اضطرابا شديدا. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد مختصرا في نسخة م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

وقصدت الخوارزمية - أصحاب جلال الدين وقد اجتمعوا في نحو اثنى عشر ألف فارس - السلطان علاء الدين [كيقباذ بن كيخسرو السلجوقى (¬1)] سلطان الروم فاستخدمهم، وأقاموا عنده، ثم كان من أمرهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى (¬2). ونهب التتر سواد آمد وأرزن وميافارقين، وقصدوا أسعرد (¬3) فقاتلهم أهلها، فبذل لهم التتر الأمان، واطمأن أهل البلد إلى أمانهم واستسلموا. فلما تمكن التتر منهم، بذلوا (¬4) فيهم السيف وقتلوهم حتى كادوا يأتون عليهم فلم يسلم إلا الشاذ النادر. وحكى (¬5) بعض التجار أنهم حزروا القتلى فكانوا يزيدون على خمسة عشر ألفا. وكانت مدة الحصار على أسعرد خمسة أيام. ثم بعد فراغهم منها ساروا إلى [طنزة (¬6)] ففعلوا فيها كذلك. ثم ساروا إلى واد قريب من طنزة يقال له وادى القريشية (¬7)، فيه قوم من الأكراد يقال لهم القريشية (¬8). وفى الوادى مياه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س، انظر أيضا زامباور، معجم الأنساب ج 2 ص 215. (¬2) هنا ينقطع النص في نسخة س، وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط. (¬3) كذا في المتن وكذلك في ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 499) بينما ورد اسم هذه المدينة في أبى الفدا (تقويم البلدان، ص 288 - 289) سعرت وقيل اسعرذ وذكر أنها بالقرب من شط دجلة. (¬4) في ابن الأثير، الكامل، ج 12، ص 499: «وضعوا». (¬5) في ابن الأثير (نفس المرجع والجزء والصفحة): «وحكى لى». (¬6) طنزة بلدة بجزيرة ابن عمر من ديار بكر، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬7) في المخطوطة القرشية والصيغة المثبته من ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 499). وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن القرشية قرية قرب جزيرة ابن عمر من نواحى الجزيرة. (¬8) في المخطوطة القرشية والصيغة المثبته من ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 499). وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن القرشية قرية قرب جزيرة ابن عمر من نواحى الجزيرة.

جارية، وبساتين كثيرة، والطريق إليه ضيق، فقاتلتهم القريشية (¬1) ومنعوهم منه، فامتنعوا عليهم، وقتل منهم كثير، فعاد التتر ولم يبلغوا منهم غرضا. ثم ساروا في البلاد يقتلون ويخربون فلا يمنعهم مانع، ولا يقف بين أيديهم أحد. ثم ساروا إلى ماردين فنهبوا ما وجدوا في بلدها، واحتمى الملك المنصور ناصر الدين الأرتقى صاحبها ومن معه وأهل دنيسر بقلعة ماردين. ثم وصلوا نصيبين فأقاموا عليها بعض نهار، ونهبوا سوادها، وقتلوا من ظفروا به، وغلقت أبوابها فعادوا عنها ومضوا إلى سنجار، ووصلوا إلى الجبال وبلد سنجار فنهبوها، ثم دخلوا الخابور، فوصلوا إلى عرابان (¬2) فنهبوا وقتلوا وعادوا. ومضت طائفة إلى طريق الموصل، فوصلوا إلى المؤنسة (¬3) - وهى قرية بين الموصل ونصيبين - فنهبوها واحتمى أهلها وغيرهم بخان فيها فدخلوه وقتلوا كل من فيه. وحكى رجل منهم (¬4) قال: اختفيت منهم في بيت فيه تبن فلم يظفروا بى، وكنت أراهم من منفذ من البيت، وكانوا إذا أرادوا قتل إنسان، فيقول (¬5): «لا بالله»، فيقتلونه. فلما فرغوا من القوم (¬6)، ونهبوا الذى نهبوا، وسبوا الحريم ¬

(¬1) في المخطوطة القرشية والصيغة المثبتة من ابن الأثير. (¬2) عرابان او عربان بليدة بالخابور من أرض الجزيرة، أنظر ياقوت (معجم البلدان). (¬3) في المتن «المونسته» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 500) ومن ياقوت (معجم البلدان). (¬4) ذكر ابن الأثير (نفس المرجع والجزء والصفحة) «وحكى لى عن رجل منهم. . . . .». (¬5) في الأصل «يقول» والصيغة المثبتة من ابن الأثير. (¬6) كذا في الأصل وفى ابن الأثير: «القرية».

رأيتهم يلعبون على الخيل ويغنون بلغتهم، ويقولون: «لا بالله» - حكاية لما سمعوه من الذين قتلوهم. ثم مضت طائفة منهم إلى نصيبين الروم [166 ب] وهى على الفرات، وهى من أعمال آمد فنهبوها وقتلوا [من] فيها، ثم عادوا إلى آمد، ثم قصدوا بدليس (¬1) فتحصن أهلها بالقلعة وبالجبال، فقتلوا من وجدوه، وأحرقوا المدينة. وحكى شخص من أهل بد ليس قال: «لو كان عندنا خمس مائة فارس لم يسلم من التتر أحد؛ لأن الطريق ضيق بين الجبال، والقليل يقدر على منع الكثير». ثم ساروا إلى أعمال خلاط ففعلوا كذلك، وألقى الله سبحانه في قلوب المسلمين منهم الرعب، حتى كان الرجل منهم يدخل الدرب وفيه جماعة كثيرة، أو القرية وفيه جمع كثير، فلا يزال يقتلهم واحدا واحدا حتى يأتى عليهم، ولا يجسر أحد منهم يمد يده إليه. وقد ذكر أن واحدا منهم أخذ رجلا، ولم يكن مع التترى سلاح (¬2)، وقال لذلك الرجل: «ضع رأسك على الأرض»، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التترى وأحضر سيفا فقتله به. وحكى شخص قال: كنت أنا وسبعة عشر رجلا في طريق فجاءنا إنسان من التتر (¬3)، وأمرنا أن يكتف بعضنا بعضا، فشرع أصحابى يفعلون كذلك، فقلت لهم: «هذا رجل واحد فلم لا نقتله ونهرب». فقالوا: ¬

(¬1) بد ليس بلدة من نواحى أرمينية قرب خلاط. انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬2) كذا في المخطوطة وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 501) «ولم يكن مع التترى ما يقتله به». (¬3) كذا في المخطوطة وفى ابن الأثير «فارس من التتر».

«نخاف». فقلت لهم: «هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا». فما جسر أحد منهم يفعل ذلك، فأخذت سكينا فقتلته بها وهربنا فنجونا. ووصلت طائفة منهم إلى إربل من ناحية أذربيجان فقتلوا في طريقهم من الإيوانية (¬1) والأكراد وغيرهم خلقا. ثم دخلوا بلاد إربل فنهبوا القرى، وقتلوا من ظفروا به، فبرز مظفر الدين بن زين الدين - رحمه الله - في عسكره، وبعث إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، يستمده، فسير إليه عساكره، فلم يصلوا إلى إربل. وعاد التتر إلى أذربيجان بعد أن وصلوا الكرخينى (¬2) ودقوقا، وقتلوا خلقا من المسلمين، ولم يذعرهم أحد، ولم يقف أحد في وجوههم من المسلمين، وهذا غاية الخذلان. وامتلأت قلوب أهل الآفاق رعبا منهم، ولم يحدث أحد نفسه بأنه يمكن لقاؤهم إلى أن انتصر الله للمسلمين بهذه الطائفة من الترك الذين هم عسكر مصر، فإنهم أسقطوا هيبتهم من القلوب، مع ما يسره الله تعالى [167 ا] من تفرق كلمة التتر بعد أن كانت مجتمعة متفقة. وقد جاء في الحديث أنهم يسوقون المسلمين ثلاث سياقات، وفى الثالثة يصطلمون (¬3). وأظن - إن شاء الله - أن السياقة الأولى هى السياقة التي ملكوا فيها الشام، وبلغت خيلهم إلى غزه، وهرب الناس بين أيديهم ¬

(¬1) في الأصل «الأيوية» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 501)، عن الإيوانية انظر ما سبق ص 202. (¬2) بدون تنقيط في الأصل وكرخينى قلعة حصينة بين دقوقا وإربل، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬3) اصطلمه أي استأصله (القاموس المحيط).

ذكر طاعة أهل أذربيجان للتتر

إلى الحجاز. والسياقة الثانية هى السياقة التي وصلوا فيها إلى حمص، ولقيهم فيها السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون (¬1) - أعز الله أنصاره - فقتل البعض، وسلم البعض. وتكون السياقة الثالثة بعد هذه، وفيها يكون - إن شاء الله تعالى - اصطلامهم وبوارهم بالكلية. ذكر طاعة أهل أذربيجان للتتر ولما جرى ما ذكرنا من هلاك جلال الدين وتفرق عساكره وما فعلوه بالبلاد الجزرية وغيرها، سقط في أيدى أهل أذربيجان وراسلوا التتر بالطاعة، وحملوا إلى التتر ما طلب منهم من الأموال والثياب. فأرسل إليهم أهل توريز المال الكثير والتحف، وطلبوا الأمان لأنفسهم وأموالهم وبلادهم، فأجابهم التتر بذلك. فحضر عند مقدم التتر قاضى توريز ورئيسها والأعيان منهم، وتخلف عنهم شمس الدين الطغرائى، وهو مقدم البلد وهو الذى يرجع الجميع إليه. فلما حضروا عند مقدم التتر سألهم عن امتناع الطغرائى عن الحضور معهم، فقالوا: «إنه رجل منقطع ليس له بالملوك تعلق، ونحن الأصل». وكان الأمر بخلاف ذلك، لكنهم قصدوا الدفع إذ علموا عدم إيثاره لذلك. ثم طلب أن يحضروا عنده صناع الثياب الخطائى وغيرها ليستعمل القان الذى هو ملكهم ما يحتاج إليه. ثم أمرهم أن يعملوا للقان خركاة (¬2) عظيمة، فعملوا له خركاة لم يعمل قبلها مثلها، غشاؤها من الأطلس الجيد والزركش، وبطنوا ¬

(¬1) في الأصل قلاوز وهو تصحيف. (¬2) الخركاه نوع من الخيام، انظر ما سبق ابن واصل، ج 2 ص 45 حاشيه 2.

داخلها بالسمور والقندس فجاءت عليهم بجملة عظيمة (¬1)، وقرروا عليهم في كل سنة من المال والثياب شيئا كثيرا (¬2). وفى هذه السنة ورد إلى والدى - رحمه الله - كتاب من الملك الناصر [167 ب] صلاح الدين داود بن الملك المعظم [صاحب الكرك (¬3)] يستدعيه، وذلك بعد قدومى من حلب، فسافرنا إلى خدمته في أواخر هذه السنة - أعنى سنة ثمان وعشرين وستمائة - ووصلنا إلى خدمته في أوائل سنة تسع وعشرين [وستمائة (¬4)]، فوجدنا منه إحسانا كثيرا، وتفضلا زائدا. وشاهدنا ملكا ذا فضل باهر، وعلم زاخر. وكان أول اجتماعنا بخدمته في الجوسق الذى في وادى الكرك، ووجدنا في خدمته القاضى جمال الدين عبد الحق المغربى قاضى البلقاء (¬5)، وهو رجل عالم زاهد (¬6). وكان الله تعالى قد أيده في علم الرمل لا يخطئ في استخراج الخبئ، وينص عليه باسمه وصفته [حتى كان يعتقد جماعة فيه إن ما يقوله إنما هو من جهة كشوف لصلاحه، وإنما كان يتستر بالرمل] (¬7). ومن أغرب ما شاهدت منه عيانا أنّا لما اجتمعنا في الجوسق المذكور [ليلة والقاضى عبد الحق حاضرا (¬8)]، [أراد السلطان الملك الناصر - رحمه الله - ¬

(¬1) كذا في الأصل وفى ابن الأثير (الكامل، ج 12 ص 503) «كثيرة». (¬2) نهاية الجزء الساقط من نسخة س، انظر ما سبق ص 325 حاشية 2. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س، انظر زامباور (معجم الأنساب، ج 1 ص 153). (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) البلقاء كانت كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادى القرى قصبتها عمان، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬6) كذا في نسخة م وفى نسخة س «عالم عامل». (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد بدلها في نسخة س «قال صاحب هذا التاريخ». (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

أن يطلع والدى على معرفة القاضى عبد الحق باستخراج الخبية. فسأل القاضى عبد الحق أن يكشف له عن خبية اتفق والدى والسلطان على إضمارها. فاتفقا على إضمار مسواك، ولم يطلع القاضى عبد الحق ولا أنا على ما أضمراه. وأمر السلطان بإحضار دقيق، فحضر. وقال للقاضى عبد الحق: «اظهر لنا ما أضمرناه». فضرب بيده في الدقيق، واستخرج أشكال الرمل وقال: «اضمر تما شيئا من نبات الأرض»، ثم قال: «هو مستطيل»، ثم قال: «هو مما يوضع في الفم»، ثم قال: «هو مسواك». فصرح باسمه بعد ذكر صفاته (¬1)]. ثم حكى السلطان عنه بحضوره أشياء غريبة استخرجها؛ من ذلك أنه قال: «أضمرت في نفسى مرة عمى السلطان الملك الأشرف». فقال: «أضمرت إنسانا»، ثم قال: «أضمرت لحيانيا (¬2)»، ثم قال: «أضمرت رجلا جليلا»، ثم قال: «هو ملك»، [ثم قال: «هو من أهلك (¬3)]»، ثم قال: «في أصله (¬4) من يعبد الصليب». قال: [الملك الناصر داود (¬5)] «فلم أنكر في قوله إلا هذا، وقلت هذا باطل ليس من جنسنا من يعبد الصليب». قال: فلما اجتمعت بعمى الملك الأشرف ذكرت له ذلك فقال: «صدق، أمى أرمنية، وهى ممن يعبد الصليب». ثم صعدنا إلى الكرك، فأقمنا به نتفيأ ظلاله ويجدينا بشره وما له. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد مختصرا في نسخة س. (¬2) الصيغة المثبتة من نسخة م وفى نسخة س «ثم قال هو لحيانى». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من نسخة م. (¬4) في نسخة س «في جنسه» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع المذكورة في حواشي الجزء الرابع من كتاب مفرج الكروب تحتوى القائمة التالية على أسماء المصادر والمراجع الإضافية التي استلزمها تحقيق الجزء الرابع من كتاب مفرج الكروب لابن واصل. أولا: المصادر العربية ابن الأثير (على بن محمد، ت 630 هـ‍ - 1233 م): 1 - الكامل في التاريخ، 14 جزءا، ليدن 1851 - 1876. 2 - التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، القاهرة 1963. ابن الأثير (ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد، ت 637 هـ‍ - 1239 م): المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق أحمد الحوفى وبدوى طبانه، 4 أقسام، القاهرة 1959 - 1965. ابن أيبك الدوادارى (أبو بكر بن عبد الله - ت بعد 736 هـ‍ - 1335 م): كنز الدرر وجامع الغرر الجزء السابع: الدر المطلوب في أخبار بنى أيوب، صورة شمسية بدار الكتب المصرية رقم 2578 تاريخ؛ حققه سعيد عبد الفتاح عاشور، القاهرة 1972. الجزء الثامن: الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية، حققه أولرخ هارمان، القاهرة 1971. الجزء التاسع: الدر الفاخر في سيرة الملك الناصر، حققه هانس روبرت رويمر، القاهرة 1960.

ابن بسام (محمد بن أحمد المحتسب، أواخر القرن السادس وأوائل السابع الهجرى): كتاب أنيس الجليس في أخبار تنيس، حققه محمد جمال الدين الشيال، مجلة المجمع العلمى العراقى، ج 14 (1967) ص 151 - 189. ابن تغرى بردى (أبو المحاسن يوسف، ت 874 هـ‍ - 1470 م): النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 14 جزءا، القاهرة 1929 - 1971. ابن الجيعان (يحى بن شاكر، ت 885 هـ‍ - 1480 م): التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية، نشره موريتز، القاهرة 1898. ابن خرداذبة (عبيد الله بن عبد الله، ت حوالى 300 هـ‍ - 912 م): كتاب المسالك والممالك، ليدن 1889. ابن خلكان (أحمد بن محمد، ت 681 هـ‍ - 1282 م): كتاب وفيات الأعيان، جزءان، القاهرة 1299 هـ‍ - 1882 م. ابن دقماق (إبراهيم بن محمد، ت 809 هـ‍ - 1406 م): الانتصار لواسطة عقد الأمصار، نشر فولرزج 4 - 5، القاهرة 1893. ابن شاكر الكتبى (محمد بن شاكر بن أحمد ت 764 هـ‍ - 1363 م): فوات الوفيات، جزءان، القاهرة 1951 م. ابن شاهنشاه الأيوبى (الملك المنصور ناصر الدين محمد بن تقى الدين عمر ت 617 هـ‍ - 1220 م): مضمار الحقائق وسر الخلائق، تحقيق حسن حبشى، القاهرة 1968. ابن شداد (بهاء الدين يوسف بن رافع ت 632 هـ‍ - 1234 م): النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين)، تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة 1964.

ابن عبد الحق البغدادى (صفى الدين عبد المؤمن، ت 739 هـ‍ - 1338 م): مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، تحقيق محمد على البجاوى، 3 أجزاء، القاهرة 1954 - 1955. ابن العديم (كمال الدين عمر بن أحمد، ت 660 هـ‍ - 1262 م): زبدة الحلب من تاريخ حلب، حققه سامى الدهان، 3 أجزاء، دمشق 1951 - 1968. ابن عماد البغدادى: الفتوة، تحقيق فؤاد حسنين، سلسلة كتب ثقافية (التراث القديم - 3)، القاهرة 1959. ابن عنين (محمد بن نصر الله، ت 630 هـ‍ - 1233 م): ديوان ابن عنين، تحقيق خليل مردم، دمشق 1946. ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت 395 هـ‍ - 1004 م): معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، 6 أجزاء، القاهرة 1366 - 1371 هـ‍ - 1946 - 1951 م. ابن كثير (إسماعيل بن عمر، ت 774 هـ‍ - 1373 م): البداية والنهاية، 14 جزءا، القاهرة 1932 - 1939. ابن المعتز (أبو العباس عبد الله المرتضى بن المعتز بن المتوكل العباسى، ت 296 هـ‍ - 909 م): ديوان ابن المعتز، استانبول 1950. ابن مماتى (الأسعد بن الخطير، ت 606 هـ‍ - 1209 م): كتاب قوانين الدواوين، تحقيق عزيز سوريال عطية، القاهرة 1943. ابن منظور (محمد بن مكرم، ت 711 هـ‍ - 1311 م): لسان العرب، 20 جزءا، القاهرة 1882 - 1891.

ابن واصل (محمد بن سالم، ت 697 هـ‍ - 1298 م): مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب، أجزاء 1 - 3 تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة 1953 - 1960. أبو الفدا (إسماعيل بن على، ت 732 هـ‍ - 1331 م): 1 - تقويم البلدان، باريس 1840. 2 - المختصر في أخبار البشر، 4 أجزاء، استانبول 1281 هـ‍ - 1864 - 1865 م. أبو شامة (عبد الرحمن بن إسماعيل، ت 665 هـ‍ - 1268 م): كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، جزءان، القاهرة 1870؛ الجزء الأول (قسم 1 - 2) تحقيق محمد حلمى أحمد، القاهرة 1956، 1962. الأدفوى (جعفر بن ثعلب، ت 748 هـ‍ - 1347 م): الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد، تحقيق سعد محمد حسن، القاهرة 1966. الأصفهانى (عماد الدين محمد بن محمد، ت 597 هـ‍ - 1201 م): الفتح القسى في الفتح القدسى، ليدن 1888. البغدادى (أبو منصور عبد القاهر بن طاهر، ت 429 هـ‍ - 1037 م): - الفرق بين الفرق، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، القاهرة (بدون تاريخ). التبريزى (أبو زكريا يحيى بن على الشيبانى، ت 502 هـ‍ - 1108 م) وآخرون: - شروح سقط الزند (السفر الثانى - القسم الأول)، تحقيق طه حسين وآخرون، القاهرة 1945. حاجى خليفة (مصطفى بن عبد الله كاتب جلبى، ت 1067 هـ‍ - 1656 م): - كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون، ط استانبول 1360 هـ‍ - 1941 م.

الدميرى (كمال الدين محمد بن موسى، ت 808 هـ‍ - 1405 م): حياة الحيوان الكبرى؛ جزءان، القاهرة 1963. الزبيدى (محمد مرتضى الحسينى، ت 1205 هـ‍ - 1790 - 1791 م): تاج العروس في جواهر القاموس، 10 أجزاء، القاهرة 1306 هـ‍ - 1888 - 1889 م. سبط ابن الجوزى (يوسف بن قزغلو، ت 654 هـ‍ - 1257 م): مرآة الزمان، شيكاغو 1907. السبكى (عبد الوهاب بن على، ت 771 هـ‍ - 1370 م): طبقات الشافعية الكبرى، 6 أجزاء، القاهرة 1324 هـ‍ - 1906 - 1907 م. الشهرستانى (محمد بن عبد الكريم، ت 548 هـ‍ - 1153 م): الملل والنحل، القاهرة 1947. الشيزرى (عبد الرحمن بن نصر، ت حوالى 589 هـ‍ - 1193 م): كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة، تحقيق السيد الباز العرينى، القاهرة 1946. الفيروز آبادى (محمد بن يعقوب الشيرازى، ت 803 هـ‍ - 1400 م): القاموس المحيط، 4 أجزاء، القاهرة 1952 القلقشندى (أحمد بن على، ت 821 هـ‍ - 1418 م): - صبح الأعشى في صناعة الإنشا، 14 جزءا، القاهرة 1919 - 1922. - نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، بغداد 1958. مجهول: كتاب الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب، كتب هذا الكتاب لابن أخى السلطان الغورى (مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم 74 صناعات).

ثانيا: المراجع العربية

المقريزى (أحمد بن على، ت 845 هـ‍ - 1442 م): - كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، ج 1 - 2 (في 6 أقسام) تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة 1934 - 1958؛ ج 3 (في 3 أقسام) تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، القاهرة 1970 - 1972. - كتاب المواعظ والاعتبار (الخطط)، جزءان، القاهرة 1270 هـ‍ - 1854 م. النسوى (محمد بن أحمد): سيرة السلطان جلال الدين منكبرتى، تحقيق حافظ أحمد حمدى، القاهرة 1953. النعيمى (عبد القادر بن محمد، ت 927 هـ‍ - 1521 م): الدارس في تاريخ المدارس، دمشق 1948. ياقوت الرومى (ابن عبد الله الحموى، ت 626 هـ‍ - 1229 م): معجم البلدان، 6 أجزاء، ليبزج 1866 - 1870. يحيى بن الحسين (ت 1100 هـ‍ - 1689 م): غاية الأمانى في أخبار القطر اليمانى، تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، جزءان، القاهرة 1968. ثانيا: المراجع العربية ابراهيم جزينى: شرح ديوان بهاء الدين زهير، بيروت 1968. بطرس البستانى: محيط المحيط، جزءان، 1867 م. جورجى زيدان: تاريخ التمدن الإسلامى، نشره حسين مؤنس، القاهرة 1968.

حسنين محمد ربيع: النظم المالية في مصر زمن الأيوبيين، القاهرة 1964. خير الدين الزركلى: الأعلام، 10 أجزاء، القاهرة 1954 - 1959. زامباور (ادوارد فون): معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامى، أخرجه زكى محمد حسن وحسن أحمد محمود، جزءان، القاهرة 1951 - 1952. سركيس (يوسف اليان): معجم المطبوعات العربية والمعربة، القاهرة 1928. سعيد عبد الفتاح عاشور: - العصر المماليكى في مصر والشام، القاهرة، 1965 - أوربا العصور الوسطى، جزءان، الطبعة الخامسة، القاهرة 1972. - الأمبراطور فردريك الثانى والشرق العربى، المجلة التاريخية المصرية، المجلد 11 (1963)، ص 195 - 213. السيد الباز العرينى: مصر في عصر الأيوبيين، القاهرة 1960. محمد رمزى: القاموس الجغرافى للبلاد المصرية، قسمان في 5 أجزاء، القاهرة 1953 - 1963. محمد كرد على: خطط الشام، 6 أجزاء، دمشق 1925. محمد مصطفى زيادة: السجون في مصر في العصور الوسطى، مجلة الثقافة أعداد 260، 262، 279 (1943 - 1944). نظير حسان سعداوى: التاريخ الحربى المصرى في عهد صلاح الدين الأيوبى، القاهرة 1957. كتاب التقسيمات الإدارية، كتاب أصدرته وزارة التخطيط بالجمهورية العربية السورية.

ثالثا: المراجع الأوربية

ثالثا: المراجع الأوربية

ترجمه إلى اللغة العربية بشير فرنسيس وكوركيس عواد: بلدان الخلافة الشرقية، بغداد 1954. ترجمه إلى اللغة العربية سهبل زكار، بيروت 1971.

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة وبعد، فهذا هو الجزء الخامس من كتاب مفرج الكروب لابن واصل، نتشرف بتقديمه اليوم للباحثين والمشتغلين في حقل تاريخ الشرق الأدنى في العصور الوسطى، وذلك بعد أن أتم تحقيقه الدكتور حسنين محمد ربيع. ويعالج المؤرخ ابن واصل في هذا الجزء الفترة الزمنية الواقعة بين سنتى 629 هـ‍، 645 هـ‍، وهى فترة مليئة بالأحداث المحلية، تشابكت فيها العلاقات بين أبناء البيت الأيوبى في المنطقة من ناحية، وتداخلت مع القوى الأخرى المجاورة من ناحية أخرى. وحسب هذه الحلقة في تاريخ الشرق الأدنى أنها شهدت الإحساس بتزايد خطر التتار يوما بعد يوم، وتطرق الخوارزمية إلى قلب الوطن العربى، في الوقت الذى دخلت العلاقات بين أمراء بنى أيوب وسلاجقة الروم دورا عاصفا في أطراف بلاد الشام والجزيرة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الكيان الصليبى كان لا يزال قائما في بلاد الشام يؤثر في الأحداث الدائرة في المنطقة وفى سياسة الحكام والأمراء من بنى أيوب بوجه خاص، أدركنا مدى أهمية هذه الفترة التي تعرض لعلاجها ابن واصل في هذا الجزء الخامس من كتابه مفرج الكروب.

وإذا كان ابن واصل قد استهدف من كتابه مفرج الكروب أن يكون قبل أي اعتبار آخر سجلا لأخبار بنى أيوب؛ فإننا نلمس في هذا الجزء عنايته الخاصة باستقصاء وتسجيل أخبار المعاصرين من أمراء الأيوبيين، وما كان بينهم وبين بعض من صلات وروابط تفاوتت بين الزواج والمصاهرة والتحالف والمودة حينا وبين الخلاف والوحشة والعداء والحرب أحيانا. والحق إن ابن واصل نجح في أن يجعل كتابه مفرج الكروب المصدر الأول لأخبار بنى أيوب في تلك الفترة القلقة من تاريخ الشرق الأدنى، وهو المصدر الذى اعتمد عليه ونقل منه معظم من أرخوا لتلك الحلقة من تاريخ الشرق الأدنى من المؤرخين اللاحقين. وساعد ابن واصل فيما حققه من نجاح الصلات القوية التي ربطته بكثير من أمراء البيت الأيوبى، حتى أن بعضهم - كما يقول ابن واصل نفسه في حوادث سنة 634 هـ‍ - كان"يؤثر كثيرا مقامى عنده". وقد أدى ذلك إلى اختيار ابن واصل عضوا في بعض السفارات مثل السفارة التي أرسلها المظفر الأيوبى صاحب حماة إلى الخليفة المستعصم بالله العباسى، والتي أشار إليها ابن واصل في أحداث سنة 641 هـ‍. وإذا ذكرنا أن هذا الجزء الخامس يعالج أخبار الفترة الواقعة بين سنتى 629 هـ‍، 645 هـ‍، فإنه علينا أن نشير إلى أن هذه الفترة تمثل مرحلة الشباب والطموح والوعى في حياة ابن واصل، إذ تراوح عمره فيها بين الخامسة والعشرين والحادية والأربعين، مما أهله لأن يكون جليسا للرجال، صديقا للكبار، ندا لأرباب المسئولية. وهكذا نراه يشير إلى أن بعض الأحداث التي رواها في هذا الجزء شاهدها بنفسه، والبعض الآخر استقاه من كبار الملوك والأمراء وصانعى التاريخ الذين جالسهم في ذلك الدور مثل السلطان الملك المنصور ابراهيم صاحب

حمص؛ في حين استمد بعض معلوماته مما حكاه له مباشرة رجال مسئولون ممن يحتلون مكانة خاصة في العصر الأيوبى مثل كاتب الإنشاء بهاء الدين زهير والأمير حسام الدين أبى على الهذبانى. هذا فضلا عن كبار القضاة والعلماء المعاصرين الذين جالسهم ابن واصل ورووا له كثيرا من الأحداث مثل القاضى شهاب الدين ابن أبى الدم الحموى والقاضى كمال الدين بن العديم. وهكذا تهيأت لابن واصل في تلك المرحلة كافة أسباب النجاح لكتابة تاريخ محكم البنيان صادق الرواية، جمع بين الدقة في رواية أحداث الفترة التي تعرض لها بالعلاج، وبين العناية بذكر الكثير عن مشاهير المعاصرين من سلاطين وملوك وأمراء وعلماء وشعراء وغيرهم. أما عن الخطة التي اتبعها المحقق الدكتور حسنين محمد ربيع في تحقيق هذا الجزء فهى تتفق مع الإطار العام الذى رسمناه معا لإتمام كتاب مفرج الكروب والذى يسير في نفس الاتجاه الذى سبق أن حدده المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال، محقق الأجزاء الثلاثة الأولى من هذا الكتاب. هذا مع ملاحظة أن تحقيق الجزء الرابع الذى ينتهى بسنة 628 هـ‍، اعتمد في المقام الأول على كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير، وهو المصدر الذى استقى منه ابن واصل وأخذ عنه الكثير، حيث أن ابن واصل لم يع أحداث ذلك الدور. وقد اخترنا أن ننهى الجزء الرابع من كتاب مفرج الكروب بحوادث سنة 628 هـ‍ وهى نفس السنة التي انتهى بها كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير. أما الجزء الخامس من كتاب مفرج الكروب، وهو الجزء الذى نقدمه اليوم للباحثين، فإن ابن واصل اعتمد فيما سرده فيه من معلومات على ما شاهده بنفسه

وما سمعه من الثقات، كما سبق أن أشرنا. وبعبارة أخرى فإنه لم يعتمد فيما كتبه اعتبارا من سنة 629 هـ‍ على كتاب بعينه ينقل عنه بقدر ما اعتمد على بصره وسمعه وحسه. وفى الفترة بين سنتى 629 هـ‍، 635 هـ‍ اتخذ المحقق نسخة مللا جلبى أصلا للتحقيق، ورمز لها بحرف [م]، مع مقابلتها بنسخة باريس رقم 1702 التي رمز لها في التحقيق بحرف [س]. ولما كانت نسخة مللا جلبى تنتهى وسط حوادث سنة 635 هـ‍، فإن المحقق في تحقيقه بقية الجزء الخامس اتخذ نسخة باريس رقم 1703 أصلا للنشر ورمز إليها بحرف [ب] مع مقابلتها بنسخة باريس رقم 1702 التي احتفظت لنفسها برمز [س]. ... وأخيرا، فلعلنا لسنا في حاجة إلى الإشارة إلى الجهد الكبير الذى بذله الدكتور حسنين محمد ربيع في تحقيق هذا الجزء. فكل صفحة بل كل سطر في هذا المجلد هو في حقيقة أمره ثمرة ساعات طويلة متصلة قضاها الدكتور حسنين ربيع في عمل شاق في مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية. ولا يسعنى سوى أن أهنأه على هذا العمل من ناحية، ثم أدعو له بمزيد من الصبر والمثابرة حتى يتم إنجاز الجزء السادس والأخير من كتاب مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب لابن واصل، وبذلك نكون قد أتممنا صرحا آخر في حركة إحياء تراثنا العربى. رمضان 1395 هـ‍ دكتور سعيد عبد الفتاح عاشور سبتمبر 1975 م أستاذ تاريخ العصور الوسطى كلية الآداب - جامعة القاهرة

تنويه

تنويه تم تحقيق هذا الجزء من كتاب (مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب) لابن واصل بمركز تحقيق التراث بدار الكتب والوثائق القومية بجمهورية مصر العربية. ويطيب لنا في هذا الصدد أن ننوّه بالجهد المشكور الذى بذله في إخراج هذا الجزء كل من الآنسة لبيبة ابراهيم مصطفى والسيدة نجوى مصطفى كامل والسيدة فاطمة مصطفى الحكيم والأستاذ محمد محمد أبو حسن، وجميعهم من مساعدى الباحثين بمركز تحقيق التراث.

ودخلت سنة تسع وعشرين وستمائة

[168 أ] ودخلت سنة تسع وعشرين وستمائة (*) والسلطان الملك الكامل بالديار المصرية، وعنده أخوه الملك الأشرف، والملك المظفر [تقى الدين محمود (¬1)] بحماة مالك (¬2) لها [وللمعرة (¬3)]، وأخوه الملك الناصر [قليج أرسلان (¬4)] ببعرين (¬5)، [والملك العزيز بن الملك الظاهر قد استبد بأمر الملك بحلب واستقل بالتدبير، ورسوله القاضى بهاء الدين بن شداد بالديار المصرية ومعه جماعة من الأكابر والأعيان لإحضار جهته الكريمة (¬6)]. ذكر انتزاع [السلطان الملك العزيز (¬7)] تل باشر من يد الأتابك شهاب الدين طغريل كانت تل باشر من أيام الملك الناصر صلاح الدين إقطاعا للأمير بدر الدين دلدرم بن ياروق (¬8) وصارت بعده لولده. ولما خرج عز الدين كيكاوس سلطان الروم ¬

(*) يوافق أولها 29 اكتوبر سنة 1231 ميلادية. (¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح انظر زامباور: معجم الأنساب، ج 1 ص 153. (¬2) في نسخة س «مالكان» والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «بحصن بعرين» والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة م، أما في نسخة س فقد ورد ما يلى: «والسلطان الملك العزيز ابن السلطان الملك الظاهر قد اشتغل بملك حلب، وانفرد بتدبير ممالكها، وقد استولى التتر على بلاد العجم كلها وبلاد العراق، وباقيها للخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين». (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) كذا في نسختى المخطوطة وورد الإسم في ابن الأثير (الكامل، ج 11، ص 499، 530) في صيغتى داروم ودلدرم الياروقى.

إلى (¬1) الشام ومعه الملك الأفضل بن الملك الناصر بعد وفاة الملك الظاهر [صاحب حلب (¬2)]، انتزع [السلطان عز الدين ملك الروم (¬3)] تل باشر من يد ابن (¬4) دلدرم وأخذها لنفسه. فلما انهزم كيكاوس بين يدى الملك الأشرف - كما قدمنا ذكره - فتح الملك الأشرف تل باشر وسلمها إلى الأتابك شهاب الدين طغريل [أتابك السلطان الملك العزيز (¬5)]، فكانت في يده إلى هذه الغاية، وفيها خزائنه. فخرج الملك العزيز في هذه السنة إلى الصيد ورمى البندق (¬6) بنواحى العمق، فحسن له بعض أصحابه أن يسير إلى قلعة تل باشر ويأخذها لنفسه، ويبقى على الأتابك رستاقها (¬7) وأن لا يكون شىء من القلاع إلا بيده. فوصل الخبر (¬8) بذلك إلى الأتابك فسير إلى نائبه بقلعة تل باشر يأمره أن لا يعارض الملك العزيز في القلعة، وأن يسلمها إليه، واستدعى خزائنه التي كانت بها. وتوجه الملك العزيز إلى عزاز (¬9) وكانت في يد والدة أخيه (¬10) ¬

(¬1) الصيغة المثبتة من نسخة م وفى س «ولما خرج السلطان الملك الغالب عز الدين كيكاوس ابن كيخسرو السلجوقى إلى الشام». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة س «ولد بدر الدين دلردم» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) عن رمى البندق، انظر ما سبق ابن واصل: مفرج الكروب، ج 4 ص 164 حاشية 1. (¬7) رستاق لفظ فارسى ومنه بالعربية كلمة الرزداق بمعنى السواد والقرى، انظر: القاموس المحيط؛ Steingass : Per. Eng. Dict. (¬8) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3 ص 213) «فنمى الخير». (¬9) في نسخة س «أعزاز» والصيغة المثبتة من نسخة م وكلاهما صحيح، وهى بليدة شمالى حلب، انظر ياقوت: معجم البلدان. (¬10) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3 ص 213) «أخت» ولعله تصحيف انظر زامباور (معجم الأنساب، ج 1، ص 156)

الملك الصالح [صلاح الدين (¬1)] أحمد وبنى ألطنبغا (¬2)، عوضهم بها الأتابك [شهاب الدين (¬3)] عن بهسنا (¬4) بعد أن قتل [السلطان عز الدين كيكاوس صاحب ملك الروم (¬5)] أباهم ألطنيغا. فصعد الملك العزيز إلى قلعة عزاز (¬6) فولى عليها واليا من قبله، وأبقى عليهم ما كان في أيديهم من عملها. ثم سار الملك العزيز إلى تل باشر، وصعد إلى القلعة، وولى فيها واليا من جهته، [وانتزعها من أيدى نواب الأتابك (¬7)]. وبلغه أخذ الخزانة من تل باشر فسير من اعترض أصحاب الأتابك في الطريق، وأخذ الخزانة منهم. وكان يظن أن فيها ما لا كثيرا، فلم يجد الأمر (¬8) كما ذكر له (¬9). فأعاد الخزانة إلى الأتابك [168 ب] فامتنع الأتابك من أخذها وقال: «ما ادخرت المال إلا (¬10) لك». ثم دخل الملك العزيز إلى حلب. [وبقيت الخزانة في دار العدل إلى أن مات الأتابك فرفعت إلى قلعة حلب] (¬11). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س (¬2) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة) ورد «وأولادها بنى ألطنبغا» (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) في نسخة س «بهنسا» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة م «عز الدين سلطان الروم» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬6) انظر حاشية 9 الصفحة السابقة. (¬7) في نسخة م «وانتزع ما في أيدى نواب الأتابك»، والصيغة المثبتة من نسخة س وفى ابن العديم: زبدة الحلب ج 3 ص 213 «وانتزعها من أيدى نوب أتابكه». (¬8) كذا في نسخة م وابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة)، وفى نسخة س ورد: «فلم يكن الأمر». (¬9) في نسخة م «على ما ذكر له» والصيغة المثبتة من نسخة س، انظر أيضا ابن العديم. (¬10) في نسخة س «إلا للسلطان الملك العزيز» والصيغة المثبتة من نسخة م وكذلك من ابن العديم. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م

ذكر مسير السلطان الملك الكامل من الديار المصرية إلى الشرق

ذكر مسير السلطان الملك الكامل من الديار المصرية إلى الشرق وفى هذه السنة -[أعنى سنة تسع وعشرين وستمائة] (¬1) - رحل السلطان الملك الكامل وأخوه الملك الأشرف بالعساكر المصرية [والشامية (¬2)] إلى الشرق لانتزاع آمد وبلادها من يد الملك (¬3) المسعود بن الملك الصالح [الارتقى. وكانت آمد من فتوح السلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - أخذها من ابن بيسان وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا آرسلان بن سقمان بن أرتق جد الملك المسعود هذا. وكانت له قبل ذلك حصن كيفا فقط، وقد تقدم ذكر ذلك. وكان محمد (¬4) حسن السيرة، ولما مات ملك بعده الملك الصالح محمود، ثم ملك بعد الملك الصالح ولده الملك المسعود. وكان ردئ السيرة جدا يتعرض لحرمهم (¬5)]. وأكثر من النساء (¬6)، وكانت (¬7) عنده امرأة يقال لها الأزاه (¬8) رأيتها بالقاهرة تستعطى وهى عجوز كبيرة كان يرسلها إلى نساء الرعية لتؤلف بينهن وبينه. (¬9) وفعل ذلك مع نساء الأعيان والأكابر ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬3) في نسخة س «من صاحبها» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) يقصد نور الدين محمد بن قرا آرسلان. (¬5) ورد ما بين الحاصرتين في قليل من التعديل وبنفس المعنى في نسخة س، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) في نسخة س «الفساد» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬7) في نسخة س «وكان» والصيغة المثبتة من م. (¬8) ورد الاسم بالصيغة المثبتة في نسختى المخطوطة ولعل المقصود «الأذاة» من الأذى، انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 18، ص 28. (¬9) في نسخة س «وفعلت» والصيغة المثبتة من م.

[ذكر الوصلة بين الملك الناصر داود ابن الملك المعظم وعمه الملك الكامل]

من أهل البلد، وربما تعدى ذلك إلى بعض نساء (¬1) ملوك الشرق، فكثرت الشكاوى منه إلى السلطان الملك الكامل - رحمه الله - فأجمع رأيه ورأى أخيه الملك الأشرف على قصده (¬2) وأخذ آمد منه. [وانضاف إلى ذلك ما في قلوبهما من الحنق عليه بسبب معاضدة جلال الدين بن خوارزم شاه عليهما]. (¬3) ولما خرج الملك الكامل بالعساكر تقدمه أخوه الأشرف بالعساكر إلى دمشق (¬4). وأما السلطان الملك الكامل فمضى جريدة إلى الشوبك [ليتوجه منه إلى الكرك ثم إلى دمشق. فوصل إلى الشوبك، وكان قد سلمه إليه الملك الناصر صلاح الدين داود بن الملك المعظم] (¬5)، وشاهده ونظر في مصالحه ثم توجه إلى جهة الكرك (¬6). [ذكر الوصلة بين الملك الناصر داود ابن الملك المعظم وعمه الملك الكامل] (¬7) ورتب الملك الناصر الإقامات الكثيرة بالمنزلة التي هى شرقى الكرك [169 أ] المعروفة باللّجون (¬8)، وهى منزلة الحجاج إذا توجهوا إلى الحجاز. وأمر فضربت للسلطان الملك الكامل بها خيمة ودهليز كانا قبل ذلك للملك الصالح صاحب ¬

(¬1) في نسخة س «نساء بعض» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «فاجتمع هو وأخوه الملك الأشرف واتفقا على قصده» والصيغة المثبتة من نسخة م (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬4) وردت هذا الجملة مع بعض التعديل ولكن بنفس المعنى في نسخة س، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد مكانها في نسخة م «وكان قد صار له بتسليم الملك الناصر إليه». (¬6) في نسخة س «ثم رحل من الشوبك إلى جهة الكرك» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬8) اللجون بلد بالأردن، انظر ياقوت (معجم البلدان).

آمد في غاية الحسن، قد صوّرت فيهما الصور البديعة، وأمر فذبح (¬1) شىء عظيم من البقر والغنم والخيل (¬2) وشويت قشلميشا (¬3). ومد سماطا عظيما عاما لينتهب [على عادة الترك (¬4)]، [وجعل حوله أبراجا عالية من الحلوى (¬5)]. [واحتفل الملك الناصر بعمه السلطان الملك الكامل احتفالا عظيما (¬6)] لم يسمع بمثله، غرم فيه جملة جليلة. [وكان لما قرب عمه قد خرج إلى لقائه وبات عنده ليلة ومعه الشيخ شمس الدين الخسرو شاهى - رحمه الله - شيخه، ثم رجع إلى الكرك قبل أن يصل عمه. واجتمعت به أنا ووالدى في قلعة الكرك فسمعته - رحمه الله - يقول لوالدى: «تباحثنا مع السلطان وأصحابه البارحة في الفقه، فكانوا جميعهم علىّ لأنهم كلهم شافعية؛ السلطان وصلاح الدين الأربلى والشيخ شمس الدين قاضى العسكر الشريف وكمال الدين بن شيخ الشيوخ. وخرج شمس الدين الخسرو شاهى معى فصار معهم علىّ لأنه شافعى، وبقيت أنا وحدى في مقابلة الجميع ما معى من ينصرنى عليهم». ثم خرج الملك الناصر إلى اللجون، وخرجنا في خدمته، والتقينا معه السلطان الملك الكامل - رحمه الله. ونزل الملك الكامل في الدهليز الذى ضرب له وأنهب ¬

(¬1) في نسخة س «وأمر بذبح» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) في نسخة س «والخيل والجمال». (¬3) في نسخة م «قشلمشا» والصيغة المثبتة من نسخة س. انظر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 451) حيث ورد في خبر آخر «عددت على السماط مائة فرس قشلميش وخمسة آلاف رأس شوى وعشرة ألف دجاجة. . .» ويبدو أنها كانت طريقة من طرق شىّ لحوم الخيل، انظر أيضا: Dozy, Supp. Dict. Ar, II, PP. 252, 351 . (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «واحتفل لعمه الملك الكامل احتفالا».

السماط، وتسلقت العامة والغلمان في أبراج الحلوى لينتهبوها وتساقطوا منها، والسلطان الملك الكامل واقف، وإلى جانبه الملك الناصر وهما يضحكان مما يجرى من الانتهاب من العامة ووقوع بعضهم على بعض] (¬1). ولما كانت صبيحة الغد من ذلك اليوم اجتمعنا في خيمة إلى جانب خيمة السلطان الملك الكامل، وحضر فيها القاضى الشريف شمس الدين قاضى العسكر [المنصور (¬2)] الكاملى، وكمال الدين بن شيخ الشيوخ، [ومن أصحاب الملك الناصر الشيخ شمس الدين الخسروشاهى شيخ الملك الناصر، والشيخ شهاب الدين الكاشى معلمه، والقاضى شمس الدين قاضى نابلس والقدس وما معهما من البلاد، وكان متقدما عند الملك الناصر [169 ب] وأبيه الملك المعظم من قبل ومحترما عند ملوك البيت لكرمه ورياسته (¬3)]. [وعقد العقد للملك الناصر على إبنة عمه عاشوراء خاتون بنت السلطان الملك الكامل وهى شقيقة الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن الملك الكامل. وكان متولى العقد من جهة الملك الكامل كمال الدين بن شيخ (¬4) الشيوخ]، [ومتولى القبول (¬5)] من جهة الملك الناصر الطواشى عزيز الدولة ريحان نائب الملك الناصر بالكرك. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد مختصرا في نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة م، وورد بدلها في س «وجمع كثير من الأمائل من أصحاب السلطان الملك الكامل وأصحاب السلطان الملك الناصر». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد في قليل من التعديل في نسخة س ورقة 278 ا. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر رحيل الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل إلى الشرق ومقامه به

[فلما عقد العقد نثر النثار من الذهب والفضة، وحصل الاتصال بين الملك الناصر ابن الملك المعظم وبين عمه الملك الكامل، ولو كان الملك الناصر التجأ إلى عمه الملك الكامل في أول أمره لم تخرج بلاد أبيه من يده (¬1)]. ووصل [بعد (¬2) ذلك] إلى اللجون الملك المظفر تقى الدين صاحب حماه ملتقيا لخاله الملك الكامل، وكان حلول الملك الكامل باللجون في العشر (¬3) الأخير من شعبان. ثم رحل الملك الكامل متوجها إلى دمشق ومعه الملك الناصر بعسكره. واجتمعت العساكر بدمشق، [ثم رحل منها متوجها إلى الشرق في عساكر يضيق بها الفضاء، ومعه جماعة ملوك أهل بيته الملك العزيز والملك الصالح أخوه، وابن أخيه الملك المغيث، والملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص، والملك المظفر صاحب حماه، والملك المظفر شهاب الدين صاحب ميافارقين، والملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل صاحب تل باشر، وعسكر حلب] (¬4). ذكر رحيل الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل إلى الشرق ومقامه به (¬5) كنا قد ذكرنا (¬6) أن الملك الكامل في خرجته الأولى التي فتح فيها دمشق كان عهد إلى ابنه الملك الصالح واستنابه بالديار المصرية، ثم ذكرنا (¬7) تغير الملك الكامل عليه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في م «ونثر النثار من الذهب والفضة». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة م «الآخر» والصيغة المثبتة من س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط في س. (¬5) ورد هذا الخبر مختصرا في نسخة س والصيغة المثبتة من م. (¬6) انظر ما سبق ابن واصل، مفرج الكروب، ج‍ 4 ص 225 - 226. (¬7) انظر ما سبق ابن واصل، ج‍ 4 ص 277 - 278.

ذكر استيلاء السلطان الملك الكامل على آمد وبلادها

لما بلغه عنه من جهة أم الملك العادل. ولما كانت هذه السنة تقدم الملك الكامل - عند رحيله من مصر - إلى ابنه الملك الصالح في المسير إلى الشرق ليكون به نائبا عنه فيه. ورتب ابنه الملك العادل في الديار المصرية بقلعة الجبل مع أمه والخزائن والأموال بحكمها، وكانت أحظى الناس عنده. وجعل لابنها [170 ا] ولاية العهد. ورحل الملك الصالح إلى الشرق فحضر مع أبيه فتح آمد، ثم أقام في الشرق وجعله ولى عهده فيه، والمتصرف في الشرق نيابة عن الملك الكامل الأمير شمس الدين صواب العادلى. ذكر استيلاء السلطان الملك الكامل على آمد وبلادها [ثم رحل السلطان الملك الكامل بعد اجتماع العساكر معه بسلمية إلى الشرق وقطع الفرات وقصد إلى آمد، فلما وصل إليها نازلها بالعساكر التي معه (¬1)]. ونصب عليها المجانيق (¬2) ولها أسوار [عظيمة (¬3)] منيعة حصينة جدا؛ لكن الرعية بآمد كانوا مبغضين لصاحبهم (¬4) مبغضين لدولته (¬5) لما (¬6) قدّمنا من سوء سيرته معهم، فلذلك تخلوا عنه، وأحبّوا زوال ملكه. ثم زحف الملك الكامل على البلد يوما واحدا فأذعن صاحبها بالتسليم علما منه بتخلى الرعية عنه، وأنه إن أخذت منه المدينة عنوة لم يأمن الملك (¬7) الكامل أن يعتقله، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى م «ونازل الملك الكامل بالعساكر التي اجتمعت معه آمد». (¬2) في نسخة س «المناجنيق» والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة س «لصاحبها» والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «للدولة» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «كما» والصيغة المثبتة من م. (¬7) في نسخة س «لم يأمن من الملك» والصيغة المثبتة من م.

وخاف أيضا أن تسلمه الرعية (¬1) إلى الملك الكامل فيقع في يده بغير عقد ولا عهد (¬2)، فلذلك سارع إلى التسليم، فبادر إلى الخروج إلى خدمة الملك الكامل، وسلم آمد وبلادها إليه. وهى مملكة عظيمة، ومن جملة معاقلها حصن (¬3) كيفا الذى هو في غاية الوثاقة والحصانة. فأحسن الملك الكامل إليه ووعده بإقطاع جليل (¬4) في الديار المصرية. ولما رجع معه إلى مصر وفّى له بما وعده، وأقام عنده مدة، ثم بدت منه أشياء ردية فاعتقله. ولم يزل معتقلا إلى أن مات السلطان الملك الكامل فأخرجه ابنه الملك العادل، فورد إلى حماة فأقام بها عند الملك المظفر [تقى الدين محمود (¬5)] أياما، ثم سافر إلى الشرق فاتصل بالتتر (¬6) فقتلوه. وهذا عاقبة البغى والفساد. [وكنت مقيما بالكرك في هذه السنة في خدمة الملك الناصر، وسافر معه والدى - رحمه الله - لما سافر في صحبة السلطان الملك الكامل. فلما وصل الملك الكامل إلى سلمية، ونزل بها استأذن والدى الملك الناصر في الدخول إلى بلده فأذن له، فدخل إلى حماة وعرضت له حمى حادة وأعقبها دوسنطاريا فتوفى لعشر بقين من ذى القعدة وعمره ثمان وخمسون سنة، فإنه أخبرنى أن مولده سنة إحدى وسبعين وخمسمائة (¬7)]. ¬

(¬1) في نسخة س «وخاف أيضا من تسليم الرعية البلد» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «بغير ولاية عهد» والصيغة المثبتة من م. (¬3) حصن كيفا بلدة وقلعة عظيمة كانت مشرفة على دجلة بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬4) في نسخة س «جليلة» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬6) في نسخة س «بالبيرة» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬7) ورد ما بين الحاصرتين في غير موضعه ومختصرا في نسخة س ورقة 278 ب، والصيغة المثبتة من م.

وورد إلى الكرك كتاب من الملك الناصر إلى نائبه الطواشى عزيز الدولة ريحان (¬1) يذكر فيه فتح آمد ويصف صورة الواقعة بإنشاء شرف الدين بن جمال الدين [ابن شيث (¬2)] ولم يكن جيد الترسل. فتقدم الطواشى عزيز الدولة [ريحان (¬3)] إلى فخر القضاة [نصر الله (¬4)] بن بزاقة (¬5) [بأن يكتب جوابه فكتب الجواب، وذكر صورة الواقعة أحسن ذكر. وهنأ السلطان الملك الناصر بهذا الفتح (¬6)] وأوّله: أعز الله أيام المقر (¬7) العالى المولوى السلطانى الملكى الناصرى الصلاحى، ولا زالت البشائر عنه صادرة، وإليه واردة، والأقدار لمعاليه مساعفة، ولمساعيه مساعدة، والألسن لسيرته مادحة، ولسريرته حامدة. المملوك يقبل الأرض ¬

(¬1) في نسخة س «ولما فتحت آمد كتب الملك الناصر بن الملك المعظم إلى نائبه بالكرك الطواشى عزيز الدولة ريحان» والصيغة المثبتة من م (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) ولد فخر الدين فخر القضاة نصر الله بن هبة الله بن بزاقة أو بصاقة بقوص سنة 577 هـ‍، ونشأ بمصر واشتغل بالأدب بها وبالشام. وكان أكتب أهل زمانه وأعرفهم بالقواعد الانشائية وأجودهم ترسلا، وأحسنهم عبارة، وأطولهم باعا في الأدب، وله ديوان شعر. اتصل بالملك المعظم عيسى ثم بابنه الناصر داود وتقدم عندهما وكان كاتب الأنشاء لهما. توفى بدمشق سنة 650 أو 649 هـ‍؛ انظر: ابن سعيد: النجوم الزاهرة في حلى حضرة القاهرة ص 299 - 300؛ ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب، الجزء الأول من القسم الخاص بمصر، ص 300؛ الأدفوى، الطالع السعيد، ص 676 - 681؛ السيوطى: حسن المحاضرة، ج 1، ص 567. (¬6) ما بين الحاصرتين ورد مختصرا في نسخة س، والصيغة المثبتة من م، ويلاحظ أن السطور التالية وردت في غير موضعها في نسخة س، وسوف يلتزم المحقق بنسخة م في ترتيب الموضوعات انظر ما بلى ص 28 حاشية 6 (¬7) في نسخة س «المقام»، والصيغة المثبتة من م

خدمة لا تزال - حتى يزول - زائدة (¬1)، وطاعة يعدها لدنياه فائدة ولأخراه عائدة. ويواصل الأدعية الصالحة ما دامت (¬2) قامته قائمة، وهامته ساجدة، وينهى ورود المثال الشريف الذى سرّ النفوس (¬3) وأبهجها، وشرح الصدور وأثلجها، وسكن الخواطر بعد أن أقلقها البين وأزعجها، وفتح باب (¬4) الأفراح فما أغلقها ولا أرتجها (¬5)؛ متضمنا أن مولانا السلطان سار مصحوبا بالسلامة صحبة مولانا السلطان الأعظم في عساكر تضاهى النجوم إشراقا وعددا، والبحور إغراقا ومددا، وجحافل لم يجتمع مثلها في عصر من الأعصار، ولهاذم (¬6) ومخاذم (¬7) يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار، وفرسان كالأسود إلا أن براثنها السلاح، وخيول كالطيور إلا أنها تسبق الرياح بلا جناح، [وأنهم أحاطوا بها إحاطة الخواتم بالخناصر والمناطق بالخصور، وأظهروا بما أبدوه من قدرتهم ما في خصمهم من العجز والقصور (¬8)]. وأنه رتب عليها نوب اليزك (¬9) [للمخاتلة لا للمقاتلة (¬10)]، وقصد حفظ حرمة البلد وقتاله (¬11) بالمطاولة. وانتظر من صاحبها أن (¬12) يخرج إليه خاضعا (¬13) ومتضرعا، وان يفد إليه تائبا (¬14) عما ارتكبه ¬

(¬1) في نسخة س «لا تزال بنزله زائدة» والصيغة المثبتة من م (¬2) في نسخة س «قائمته» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) في نسخة س «الأنفس» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة س «أبواب» والصيغة المثبتة من م. (¬5) رتج الباب بمعنى أغلقه (القاموس المحيط). (¬6) لهاذم جمع لهذم وهو السيف الحاد القاطع، انظر لسان العرب، ج 16 ص 30. (¬7) الخذم سرعة القطع وسمى السيف مخذما، انظر لسان لعرب، ج 15، ص 58. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬9) اليزك معناه طلائع الجيش، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 2 ص 38 حاشية 3. (¬10) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش في نسخة م. (¬11) في المتن «في قتالها» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬12) في نسخة م «أنه» والصيغة المثبتة من م. (¬13) في نسخة س «تائبا» والصيغة المثبتة من م. (¬14) في نسخة س «وأن يغد راجعا» والصيغة المثبتة من م.

من قبح السيرة، ومقلعا لأنه - أعز الله أنصاره - لم يقصده إلا غضبا لله لما انتهكه من محارمه، وإقامة لمنار العدل الذى شرع في هدم [171 ا] معالمه (¬1)، وشفقة على خلق الله الذين بسط عليهم - لمّا (¬2) وليهم - أيدى مظالمه. فلما أبى إلا التمادى في الطغيان والإيغال في مهالك العصيان، وظن أن الثلوج تنجده، وأن الشيطان يفى له بوعده وطالما أخلف من يعده، واغتر بأصحابه الذين هم معه بأجسامهم (¬3) وعليه بقلوبهم، ووثق برعاياه الذين كانوا قد وقعوا معه بذنوبهم، أمر السلطان [الأعظم (¬4)]- أعز الله أنصاره - أبطاله (¬5) بالزحف فتقدمت وزحفت، وتقدم إلى عساكره بالتحرك فتزلزلت الأرض لحركتهم ورجفت، ودنا (¬6) الجيش المنصور من السور فدنا (¬7) وتدلى، ورأى الخصم عين القصم (¬8) فعبس وتولى، وأطلق الجاليش عقائل التراكيش (¬9) فكشفت السور وهتكت حجابه، وأماط الزراقون (¬10) لثامه، وسفر النقابون نقابه، وأرسلت عليهم الجنايا رسل المنايا، وخرجت لهم خبايا البلايا من ¬

(¬1) في نسخة س «واقامة لمنار الدين الذى أعرى بمنتك محارمه» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «مذ» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) في نسخة س «بأجسادهم» والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) في نسخة س «أجناده» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «ودنى» والصيغة الصحيحة المثبتة من م. (¬7) في نسخة س «ودنى» والصيغة الصحيحة المثبتة من م. (¬8) القصم كسر الشىء الشديد ويقال للظالم قصم الله ظهرك، انظر لسان العرب، ج 15، ص 386. (¬9) جمع تركاش وهو لفظ فارسى معناه الجعبة أو الكنانة التي توضع فيها النشاب، انظر ما سبق ابن واصل، ج 1 ص 279 حاشية 5. (¬10) جمع زراق وهو رامى النفط من الزراقة، انظر: Dozy, Supp. Dict. Ar, I, pp. 587

الزوايا، (¬1) وأوردتهم الرماح الشّرع مشارع الحتوف، وتفرّقت منهم الصفوف لمّا صلت (¬2) عليهم السيوف، وطلعت على الأسوار المنيفة من الأعلام الشريفة كل راية صفراء فاقع لونها تسر الناظرين. وأيد الله الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين. وأنهم لما عاينوا من حشد (¬3) السلطان وحده ما لا قبل لهم بمقابلته، وتحققوا عجزهم عن مقاومة أقل أمرائه ومقاتلته (¬4)، ورأوا أعلامهم تخفض خفضا، وأعلام السلطان وأحزابه ترفع رفعا، وأفكروا في صاحبهم فرأوا أنه لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا، [لا ذوا بالأمان فدخلوا فيه آمنين والتزموا الطاعة (¬5)]، فذلت أعناقهم لها خاضعين. وأن مولانا السلطان - أعز الله أنصاره - آمن الرعايا وأجارها، ومنّ بكفّ كف (¬6) القتال، فوضعت الحرب أوزارها. وقد أخذ المملوك بخطه من هذه البشرى وإن عجز عن كنه مقدارها، وقابل هذه النعمة بالشكر لله وإن كان لا يقوم بعشر معشارها (¬7). وأمر فضربت البشارة على قلّة (¬8) القلعة وأرجاء المدينة، وحشر الناس ضحى لأنه كان في الحقيقة يوم الزينة، فالله سبحانه المسئول أن يعطى مولانا الحظ الأوفى والمحل الأعلى وهو القائل تعالى [171 ب] {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلاً} (¬9) وإليه الرغبة في أن يجعل هذا الفتح ¬

(¬1) في نسخة س «الزرايا» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) في نسخة س «لما وصلت» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة م «جد» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬4) في نسخة س «وتحققوا عجزهم عن مقاومته أقبل أمرائه ومقاتلته» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س «لاذوا بالأمان طائعين ودخلوا في الطاعة». (¬6) كذا في نسختى المخطوطة. (¬7) في نسخة س «أعشارها» والصيغة المثبتة من نسخة م وهى أبلغ. (¬8) ورد في لسان العرب، ج 14 ص 83 أن «قلة كل شىء رأسه والقلة أعلى الجبل». (¬9) القرآن الكريم سورة سبأ آية 10.

مبشرا بأمثاله، [وهذا النصر أنموذجا تنسج الأقدار على منواله (¬1)]. ويبقى لمولانا من سلطانه [الأعظم (¬2)] ركنا لا تطمع الأيام في زواله (¬3) بمحمد وآله». وسيّر مع الرسالة إلى الملك الناصر قصيدة امتدحه بها فخر الدين فخر القضاة وهى هذه القصيدة (¬4): قد طوانى (¬5) الصدّ والهجران طى ... في هوى ظبى (¬6) حمى من آل طى كنت في طيى من أسد الشرى ... قبل أن يفرسنى هذا الرّشى (¬7) ومتى ينشر ميت (¬8) قد غدا ... قلبه مفتسما في كلّ حى جدة السلوة أبلتها بلى ... واقتراب الوصل (¬9) أقصته قصى غلبتنى أعين من غالب ... ولوت دينى قدود (¬10) من لؤى كلما رمت خلاصا منهم ... سدّت الأبواب والطرق على يا أخى حرت وضاقت حيلى (¬11) ... دلّنى كيف احتيالى يا أخى ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط في م. (¬3) في نسخة م «لا يطمع في الأيام في زواله» والصيغة المثبتة من س. (¬4) في نسخة م «وسير فخر الدين مع هذه الرسالة إلى الملك الناصر قصيدة امتدحه بها مطلعها:» والصيغة المثبتة من س. (¬5) في نسخة م «طوى بى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) في نسخة س «ضوى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬7) الرشا من أولاد الظباء اذا تحرك ومشى، انظر ابن منظور (لسان العرب)، ج 19، ص 37. (¬8) في نسخة س «ميتا» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬9) في نسخة م «الصبر»، والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬10) في نسخة س «قدودا» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م. (¬11) في نسخة س «حيلتى» والصيغة المثبتة من نسخة م.

وبأى الطرق أسلو عنهم ... خبّرونى يا أخلاّى بأى؟ وانظروا ما حلّ بى واعتبروا ... أننى شيخ سبى (¬1) عقلى صبى نافر عنى وإن آنسته ... قاطع إن قلت: صلنى يا بنى ما دها مجنون ليلى في الهوى ... مادها قلبى، ولا غيلان مى (¬2) أيها العاذل كى يرشدنى ... عدّ (¬3) عن نصحى، فهذا الرشد غى قد نبا عن كل عذل مسمعى ... فكأنى أطرش أو بى هوى ولقد خفت على عينى العمى (¬4) ... عند ما أعشى (¬5) فؤادى ناظرى يا أطبائى - وأنتم مرضى - ... هل لدائى في هوا كم من دوى؟ قد كوى الهجر فؤادى يا ترى ... آخر الطب كما قد قيل كى؟ فأقلوا (¬6) من عذابى وارحموا ... من يرى مر الجفا منكم حلى وعسى أن تهبوا جفنى الكرى ... فلعل الطيف أن يسرى إلى ليس لى محيى من الموت سوى ... أن يرى داود (¬7) عينى في محى (¬8) يبتغى الصيد على عادته ... من رشا ريش إلى أطراف عى ¬

(¬1) في نسخة س «سبا» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) مى هى محبوبة الشاعر المعروف ذى الرمة وهو غيلان بن عقبه العدوى، توفى سنة 117 هـ‍، وقال شعرا كثيرا في محبوبته يغلب عليه العفة والتأدب، انظر ديوان شعر ذى الرمة، ص 3، 7، 170 - 171، 420؛ يوسف خليف، ذو الرمة ص 29 - 44. (¬3) في نسخة س «غد»، وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة س «العما»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «أبكى»، والصيغة المثبتة وهى الأبلغ من نسخة م. (¬6) في نسخة س «واقتلوا» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخه م. (¬7) يقصد الناصر داود. (¬8) في نسخة س «ضحى» والصيغة المثبتة من م، والمح: الثوب البالى، ولعل المقصود هنا أنه لم يعد سوى هيكل في ثوب بال لا تبدو منه سوى عينيه، انظر القاموس المحيط.

ملك سيرته سائرة ... من فلسطين إلى أقصى خوى (¬1) وإمام يقتدى البحر به ... كلما نادى نداه الغمر حى ذو خوان يرخص اللحم به ... منضجا لكن يغالى (¬2) فيه نى فهو للناس ربيع دائم ... في خريف ومصيف وشتى عن سواه أذنى ما سمعت ... ما رأته من علاه مقلتى فلدى (¬3) علياه أهدى مدحى ... مثل ما دنياه قد أضحت لدى أنا أفديه بأمى وأبى ... وقليل في فداه والدى قد كفانا كلّ شىء يختشى ... فكفانا الله فيه كل شى ولما وصلت الرسالة و [هذه (¬4)] القصيدة إلى الملك الناصر [داود (¬5)] سر بهما سرورا شديدا. [وكان فخر الدين (¬6) مجيدا في النظم والنثر]، (¬7) لوذعيا فطنا، حسن المجالسة، لا يمل من حديثه ومحاورته. وكان من أخص أصحاب السلطان الملك المعظم - رحمه الله تعالى. وبعد وفاة الملك المعظم صحب ولده الملك الناصر وحظى عنده جدا. وكان الملك الناصر قد تغير عليه واتهمه بمكاتبة عمه الملك الأشرف والميل إليه، فاعتقله في جب في القلعة مظلم، لم يكن يفرق فيه بين الليل والنهار. فحكى لى أنه ¬

(¬1) خوى بلد من أعمال أذربيجان، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬2) في نسخة س «تغالى» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسختى المخطوطة «فلدا» والمعنى هنا «عند». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) انظر ما سبق، ص 19 حاشية 5. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س (ورقة 279 ا) «وكان بالكرك، وكان فاضلا في النظم والنثر مجيدا».

[ما كان يعرف الليل من النهار (¬1) إلا] بصوت الحديد في الزردخاناه. وأقام في الحبس مدة. وكان ينظم القصائد في الجب، ويكرر على القصيدة - على ما حكى لى - مرارا كثيرة لتثبت عنده ولا ينساها، إذ لم يكن عنده شىء يقيدها فيه. فمما عمل في الجب قصيدة مطلعها: ليس حالى يا رب عنك (¬2) بخافى ... فأقل عثرتى وآمن مخافى ثم ذكر فيها ما نسبه أعداؤه إليه من الميل عن الملك الناصر والانحراف عنه، وممالأة الملك الأشرف عليه. [وأتى في هذا بنوع من التهكم بهم لطيف، وهو (¬3)]: حسدونى قربى من الملك النا ... صر حتى تسببوا في تلافى وادّعوا أننى أميل إلى الغي‍ ... ـر بكليتى وأبدى انحرافى وأشق العصا وأقدح في الم‍ ... ـلك وأغرى أنصاره بالخلاف (¬4) عظّموا قصتى كأنى كسرى ... أو كأنى سابور ذى (¬5) الأكتاف ومنها في مدح أهل البيت - عليهم السلام - والاستشفاع بهم (¬6): ليس لى شافع سوى الخمسة الغرّ ... (م) (¬7) بنى هاشم بن عبد مناف النبى الأمى وابنته الزهرا ... ء والأترع (¬8) الفتى السياف ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى م «إنما كان يعرف النهار». (¬2) في نسخة س «ليس حالى عنك يا رب» والصيغة المثبتة من م (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س «أتى في هذا بتوبيخ من التكذيب لهم وهو:» (¬4) في نسخة س «بانحرافى» وهو تصحيف وذكرها في البيت السابق، والصيغة المثبتة من نسخة م (¬5) في نسخة م «ذو» والصيغة المثبتة من نسخة س (¬6) في نسخة س «ومنها يقول في مدح أهل البيت» والصيغة المثبتة من م (¬7) (م) معناها أن البيت يقرأ موصولا. (¬8) الأترع هو الشديد، انظر؛ لسان العرب، ج 9 ص 382؛ الزبيدى، تاج العروس، ج 5 ص 290.

والشهيدين إبنيه منها قت‍ ... ـيل الطفّ (¬1) والمبتلى بسم ذعاف (¬2) نسب يبهر (¬3) الدرارىّ بالنو ... ر ويزرى بالجوهر الشفاف أهل طه والحج والنور والف‍ ... ـرقان والذاريات والأعراف (¬4) أهل بيت رضوا بما قسم الله ... تعالى من رحلة الأيلاف قنعوا بالقليل من هذه الدن‍ ... ـيا وعاشوا فيها بدون الكفاف ما أعزوا العزّى ولا واددوا ودّا ... ولا استأسفوا لفقد (¬5) أساف (¬6) فعلى حبهم جعلت اعتمادى ... وعلى مدحهم جعلت اعتكافى ومن لطيف شعره قوله في الغزل: لو وفى (¬7) طيفكم لى وألمّ ... لشفى غلة وجد وألم فابعثوه لمحب ما سلا ... عن ظباء الحىّ من وادى سلم دميت بعد الدمى أجفانه ... واستهلّت فهى تزرى (¬8) بالديم لقصير الوصل منكم لم ينل (¬9) ... ولطول الهجر فيكم لم ينم كلما لاح له برق لمى (¬10) ... بالحمى حلّ به قرب لمم ¬

(¬1) في نسخة س «اللطف» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م، والطف أرض من ضاحية الكوفة فيها كان مقتل الحسين بن على، انظر ياقوت (معجم البلدان) (¬2) في نسخة س «الرعاف» والصيغة المثبتة من م، والمقصود الحسن بن على. (¬3) في نسخة س «ينهر» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م (¬4) في نسخة س «الأحقاف» والصيغة المثبتة من م (¬5) في نسخة م «بفقد» والصيغة المثبتة من س. (¬6) العزى وود وأساف أسماء أصنام كانت تعبد في الجاهلية. (¬7) في نسخة س «وفا» والصيغة المثبتة من م (¬8) في نسخة س «تردى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م (¬9) في نسخة س «يكن» والصيغة المثبتة من م (¬10) اللمى سمرة في الشفة، انظر القاموس المحيط.

لا تلومونى على حبى لكم ... تأثموا في لومكم لى إن ألم (¬1) قد زجرت القلب لكن ما ارعوى ... وكتمت الحب لكن ما انكتم من عذيرى من قدير (¬2) كلما ... رمت منه العدل في الحب ظلم (¬3) حاكم بالجور في شرع الهوى ... للمحبين ومن عزّ حكم وقبل سفر الملك الناصر بقليل إلى آمد أخرج فخر القضاة هذا من الجب (¬4) ووعده الاحسان (¬5) إليه (¬6) إذا عاد. ولما عاد من آمد خلع عليه وأعاده إلى مرتبته عنده، ورضى عليه، وصار أقرب الناس إليه، ونادمه. وأمره ليلة بإنشاد [173 ا] القصيدة اليائيه (¬7) التي تقدم ذكرها وتسييرها (¬8) إليه إلى آمد. فأنشده إياها فأطلق له خمسة آلاف درهم، وضعت تلك الليلة بين يديه، وأقطعه اقطاعا سنيا، واستمر في خدمته [إلى أن مات. ولما فتح السلطان الملك الكامل - رحمه الله - آمد وبلادها واستولى عليها، رتب نوابه فيها وجعل أمرهم كلهم راجعا إلى الأمير شمس الدين صواب الدين ¬

(¬1) الشطر الثانى في نسخة م ورد محرفا كما يلى: «تأثموا لى نومكم لى أن أن ألم» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) في نسخة س «جدير» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «أبا وظلم» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م (¬4) في نسخة س «وكان السلطان الملك الناصر داود بن الملك المعظم قبل سفره إلى آمد في خدمة السلطان الملك الكامل قد أخرجه من الجب» والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «بالاحسان» والصيغة المثبتة من م (¬6) نهاية الجزء المضطرب في نسخة س، انظر ما سبق ص 19 حاشية 6 (¬7) في نسخة س «الثانية» والصيغة المثبتة من م (¬8) في نسخة س «وتسيرها» والصيغة المثبتة من م

ذكر وصول الجهتين الكريمتين الكامليتين إلى حماه وحلب

العادلى. ورتب عنده ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب نائبا عنه في السلطنة، وجعله ولى عهده في البلاد الشرقية خاصة. وأقام الملك الكامل بالشرق إلى آخر السنة (¬1)]. ذكر وصول الجهتين الكريمتين الكامليّتين (¬2) إلى حماه وحلب كنا ذكرنا توجه القاضى بهاء الدين بن شداد إلى مصر في السنة الماضية لإحضار جهة الملك العزيز إلى حلب (¬3). [ولما كانت هذه السنة - أعنى سنة تسع وعشرين وستمائة - وخرج السلطان الملك الكامل من الديار المصرية لأخذ آمد من صاحبها خرج في صحبته الستر العالى فاطمه خاتون زوجة الملك العزيز صاحب حلب، والستر العالى غازيه خاتون زوجة الملك المظفر صاحب حماه، وخرج القاضى بهاء الدين بن شداد، فوصلت الصاحبه غازية خاتون والدة مولانا السلطان الملك المنصور - قدس الله روحه (¬4) - إلى حماة في أحسن تجمل وزى، وزينت حماة لقدومها (¬5)]. ووصلت الستر العالى فاطمه خاتون إلى حلب وصحبتها (¬6) القاضى بهاء الدين ابن شدّاد رحمه الله، والقاضى الشريف شمس الدين قاضى العسكر [المنصور ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م (¬2) في نسخة س «الكامليين» والصيغة الصحيحة المثبتة من م. (¬3) انظر ما سبق ابن واصل، ج 4، ص 313 - 314. (¬4) في المتن «خلد الله ملكه» ومصححة في الهامش «قدس الله روحه» وهذا دليل على أن نسخة م كتبت زمن ابن واصل وربما روجعت في حياته. (¬5) ورد ما بين الحاصرتين مختصرا في نسخة س والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «ووصلت الستر الصاحبة زوجة السلطان الملك العزيز إلى حلب وصحبة محفتها» والصيغة المثبتة من م.

الكاملى (¬1)] [والأمير فخر الدين البانياسى من أمراء السلطان الملك الكامل (¬2)]. وكان قد خرج [من حلب (¬3)] زين الدين عبد المحسن بن محمد بن حرب وزير الملك العزيز وأعيان الدولة، والتقوا المحفة من حماة. والتقتها الستر العالى الصاحبة ضيفة (¬4) خاتون بنت السلطان الملك العادل والدة الملك العزيز من جباب (¬5) التركمان، ثم التقتها بقبة العساكر بتل السلطان. والتقاها الملك الصالح صلاح الدين أحمد ابن الملك الظاهر صاحب عين تاب في عسكره، وتجمّله. وعادت العساكر معها في تجملها، واصطفت أطلابا طلبا بعد طلب، إلى الوضيحى (¬6). وخرج الملك العزيز إلى الوضيحى إلى لقائها، وصعدت إلى قلعة حلب، [أعاد الله عمارتها للمسلمين لأن التتر الملاعين أخربوها في سنة ثمان وخمسين وستمائة (¬7)]، وذلك كله في شهر رمضان من هذه السنة [أعنى سنة تسع وعشرين وستمائة (¬8)]. وفى الوصلة [السعيدة (¬9)] بين الملك المظفر وخاله الملك الكامل يقول الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد [بن عبد المحسن الأنصارى قصيدة مطلعها (¬10)]: ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى م: «والأمير فخر الدين بن البانياسى»، انظر ابن العديم: زبدة الحلب، ج 3، ص 211؛ المقريزى، السلوك، ج 1 ص 243. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) في نسخة س «صفية» والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 313، حاشية 5 (¬5) بدون تنقيط في نسختى المخطوطة والصيغة المثبتة من ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 212، وجباب جمع جب وهو البئر، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 1، ص 243 (¬6) الوضيحى قرية قرب حلب، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 212 حاشية 2. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س «يهنيه ويمدحه»؛ عن الشيخ عبد العزيز الأنصارى انظر ما سبق ابن واصل ج 4، ص 273 - 274

هنيئا (¬1) لياليه حوال بواسم ... وأيّامه بالمكرمات مواسم ووصلة ملك لا يقاوم جدّه ... بملك له تعنو الملوك الأكارم و (¬2) إهداء شمس دونها الشمس رتبة ... إلى أسد تخشى سطاه الضراغم قران سعود في بروج سيادة ... بها العيش صفو (¬3) والزمان مسالم فو الله ما أدرى أموسى وأهله ... بجنات عدن، أم على وفاطم عظيمة قدر كافأت منك ماجدا ... تكف (¬4) به البؤس وتكفى العظائم يمانّية الفتك عضبا (¬5) يمانيا ... يشاركها في وصفها ويلائم فحامت عزوفا (¬6) عن سواك وخيمت ... بحيث المعالى جمة والمكارم بمغنى ملوك الأرض باد خضوعها ... لديه وأملاك السماء حوائم فيا ليلة تمضى الليالى وذكرها ... تزان به العليا وتزهى المعالم غذتها أفاويق الفخار وجادها ... كمال لأدواء النقائص حاسم ونور لأظلام الدياجى مشرد ... ونشر لأنف البدر بالطيب فاغم وأضحت بها طير البشائر سبقا ... تبارى خوافيها الصبا والقوادم فظلت بها الأمصار مصرا فشملها (¬7) ... وإن كن شتى جامع (¬8) متلائم فلله كم أدنت على بعد دارها ... لناظرنا ما أطربته الحمائم ¬

(¬1) في نسخة م «هنا» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) في نسخة س «وأهداله» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «صفوا» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة س «يكف» والصيغة المثبتة من م. (¬5) العضب هو السيف، أنظر القاموس المحيط. (¬6) في نسخة س «عروقا» والصيغة المثبتة من م. (¬7) في نسخة م «بشملها» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من س. (¬8) في نسخة م «جمعها» والصيغة المثبتة من س.

عممت الرعايا بالعطايا فسرها ... قدومك بالغنم الذى أنت غانم مهم له ما بعده إذ قضيته ... قضى الله إن العدل للجور هادم رأيتك يا محمود يا ابن محمد ... فتى حمده فرض على الناس لازم وإنك للملك الذى بنوا له ... وعدل سطاه بشّرتنا الملاحم يدين له في الناس عمرو وعامر ... ويعنوله في الجود كعب وحاتم أخو نقمات قارنت مهلكاتها ... عواطف تنتاش الورى ومراحم يهاب (¬1) فلا قلب الموالف ساكن ... ويرجى (¬2) فلا وجه المخالف واجم ويحلم فالشم (¬3) الرواسى طوائش (¬4) ... ويكرم فالجون السوارى لائم ويدنو فمرّ الصاب شهد (¬5) لذائق ... وينأى فكاسات الرحيق علاقم ويفنى اللهى جودا ليقنى بها العلا (¬6) ... ألا هكذا فليغنم المجد غانم إذا صال فالغلب الوقاح فرائس ... وإن قال فالعرب الفصاح أعاجم وإن ضاق رزق أو محال فإنه ... خضم وخصم للحوادث خاصم كذا أيها الملك المظفر فليكن ... من الناس مخدوم (¬7) له الدهر خادم أبت لك عار (¬8) الميل نفس أبيّة ... وفكر بمجهول العواقب عالم وناظر عين ليس يغفى وعامل ... بأمر الوغى في الرفع والخفض حازم ¬

(¬1) في نسخة س «تهاب»، والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «وترجى»، والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «ويحكم في الشم» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة س «طائش»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «شهدا» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة م «العلى»، والصيغة المثبتة من س. (¬7) في نسخة س «مخدوما» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة م «عند»، والصيغة المثبتة وهى أبلغ من نسخة س.

وجأش وجيش رابط ومرابط (¬1) ... مغازيه لا تنحل منه العزائم وليل ببرق البيض أبلج زاهر ... ويوم بدجن النقع أكلف قاتم فهنيت بالدهر الذى أنت مالك ... جديديه والشهر الذى أنت صائم وبلّغت ما يرضيك من طول خالق ... تحارب في مرضاته وتسالم نوالك مقسوم وفضلك شائع ... ومجدك محروس (¬2) وعزك سالم ¬

(¬1) في نسخة س «رابطا ومرابطا»، والصيغة المثبتة من م وكلاهما صحيح. (¬2) في نسخة س «محروسا»، وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م.

ودخلت سنة ثلاثين وستمائة

ودخلت سنة ثلاثين وستمائة والسلطان الملك الكامل ببلاد الشرق، [وفى خدمته ملوك أهل بيته (¬1)] وقد انتظمت (¬2) آمد وبلادها [وحصونها وقلاعها في سلك ممالكه؛ ومن جملتها حصن كيفا وقلعة الهيثم والسويداء وغيرها من المعاقل (¬3)]. ودانت لطاعته ملوك الشرق كلهم وخافوه. واستشعر منه سلطان الروم (¬4) علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقى. [ورتب الملك الكامل بالشرق ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعله ولى عهده في ممالك الشرق خاصة، ورتب معه الطواشى شمس الدين صواب العادلى لأنه كان من أكبر الخدام العادلية وأوثقهم عنده، وجعل إليه النقض والأبرام في جميع الأمور، والملك الصالح معه صورة. ذكر رجوع السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية ولما قضى الملك الكامل إربه من تسلم آمد وبلادها، وترتيب ممالكها وممالك الشرق، رجع إلى الديار المصرية فأقام بها إلى أن خرجت هذه السنة. ورجع كل من الملوك إلى بلده (¬5)]، ووصل الملك الناصر صلاح الدين ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) في س «وقد افتح»، والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س، ومثبت في م. (¬4) في نسخة س «سلطان بلاد الروم»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين ورد مختصرا في نسخة س، والصيغة المثبتة من م.

داود بن الملك المعظم إلى الكرك. والتقيته بموضع يقال له العلفدان بالقرب من زيزا (¬1) من أعمال البلقاء. وتصدق وأحسن إلىّ وقرّر لى ما كان لوالدى، ولازمت خدمته والحضور في مجلسه في غالب الأوقات والاستفادة معه على الشيخ شمس الدين الخسرو شاهى في العلوم النظرية. وفى شوّال من هذه السنة سافر الملك الناصر من الكرك إلى الديار المصرية، وفى صحبته الشيخ شمس الدين الخسرو شاهى و [فخر الدين (¬2)] فخر القضاه بن بزاقه. ولما وصل إلى الديار المصرية أنزله السلطان الملك الكامل في دار الوزارة (¬3). وأقام بالديار المصرية في خدمة عمه [الملك الكامل (¬4)] إلى أن خرجت هذه السنة. وفى هذه السنة توفى الشيخ سيف الدين على الآمدى (¬5) - رحمه الله - وكان إمام وقته في الأصولين والمنطق وغير ذلك من العلوم العقلية والخلاف. وسافر إلى ¬

(¬1) ورد في ياقوت (معجم البلدان) أن زيزاء من قرى البلقاء وأنها كانت قرية كبيرة في طريق الحاج «يقام بها لهم سوق وفيها بركة عظيمة» وذكر أبو الفدا (تقويم البلدان، ص 247) أن مدينة عمان كانت شمالى بركة زيزا على نحو مرحلة منها. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) عن دار الوزارة التي أنشأها الأفضل بن بدر الجمالى وجعلت منزلا لضيافة الرسل منذ عصر السلطان الكامل انظر ما سبق، ابن واصل، ج 1 ص 164 حاشية 1. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) هو أبو الحسن على بن أبى على محمد بن سالم التغلبى الفقيه الأصولى، ولد سنة 551 هـ‍ بآمد وأقام ببغداد، وكان في أول اشتغاله حنبلى المذهب ثم انتقل إلى مذهب الأمام الشافعى، وانتقل إلى الشام، واشتغل بفنون المعقول «ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم». ثم انتقل إلى مصر ودرس بالمدرسة المجاورة لضريح الامام الشافعى وانتفع به الناس، وحسده جماعة من الفقهاء، ونسبوا إليه فساد العقيدة ومذهب الفلاسفة، فخرج الآمدى مستخفيا إلى الشام، واستوطن مدينة حماه، وصنف كتبا كثيرة في أصول الدين والفقه والمنطق والحكمة، وانتقل إلى دمشق حيث توفى سنة 631 هـ‍؛ انظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 329 - 330، وانظر ما سبق ابن واصل؛ ج 4 ص 78.

العراق، وذكر لى أنه دخل بغداد في خلافة المستنجد بالله (¬1) وعمره خمس عشرة سنة، والوزير ببغداد يومئذ عون الدين بن هبيرة. واشتغل فيها بالأصول ومذهب الشافعى، وكان قبل ذلك حنبليا. وسافر إلى الديار المصرية وأقام بها مدّة طويلة، وقدم إلى حماة بعد سنة ستمائة. واعتنى به الملك المنصور [ناصر الدين أبو المعالى محمد صاحب حماه (¬2)] وبنى له مدرسة بحماه، واشتغل عليه بالعلم ولازمه. وصنف بحماه كتبا كثيرة (¬3) في الأصولين والخلاف والمنطق. وكان يغرى (¬4) بالرد على فخر الدين ابن خطيب الرازى (¬5)، ويتتبع كلامه وإفساده. وإذا ذكره في تصانيفه يقول: «قال بعض المتأخرين»، ويبالغ في ثلبه والوقيعة فيه. وغالب ظنى أنه كان يفعل ذلك حسدا لفخر الدين، فإنه كان يعتقد في نفسه أنه أعلم (¬6) من فخر الدين أو مساويه في العلم، ويرى أن فخر الدين أشهر عند الناس منه، وإقبال الناس على تصانيف فخر الدين أكثر من إقبالهم على تصانيفه، وتعظيمهم له أكثر لا سيما العجم. وكان يبلغه أن السلطان علاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه (¬7) كان ينزل إلى خدمة فخر الدين راجلا، ويأخذ العلم عنه، ويعظمه ¬

(¬1) تولى المستنجد بالله الخلافة بين سنتى 555 - 566 هـ‍. (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. وقد تولى الملك المنصور [الأول] حماه سنة 587 هـ‍ وتوفى سنة 617 هـ‍، انظر زامباور، معجم الأنساب، ج 1 ص 153. (¬3) في نسخة س «كتب كثيرة»، وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة س «مغرى»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) كلمة «الرازى» غير واضحة تماما في نسخة م وفى نسخة س وردت «الرى» وهو تصحيف، وهو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستانى الرازى المعروف بابن الخطيب الفقيه الشافعى. فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلم الأوائل، ولد بالرى سنة 544 هـ‍، وتوفى في هراة سنة 606 هـ‍، انظر ترجمته في ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 474 - 476. (¬6) في نسخة م «فانه كان يعتقد أنه في نفسه» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬7) حكم بين سنتى 596 - 617 هـ‍، انظر زامباور، معجم الأنساب، ج 2، ص 317.

التعظيم العظيم (¬1). [175 ا] وكثرت عند فخر الدين الأموال العظيمة، والمماليك الكثيرة، والخيل المسوّمة، وفى خدمته من علماء العجم من لا يحصى (¬2) كثرة، ويرى هو في نفسه ضد ذلك من قلة التعظيم له، وعدم الاحتفال به، وقلة ما يتناوله من العلوم. فكان ذلك مما أظن سبب وقيعته فيه. وكتب إلى سيف الدين - وهو بحماة - الملك المسعود صاحب آمد يطلبه ليوليه قضاء بلاده. وبلغ ذلك الملك المنصور [بن تقى الدين (¬3)] فعظم عليه ذلك، ولم يؤثر فراقه. وبعث إليه الربعة وشاهدين عدلين استحلفاه بالمصحف والطلاق والأيمان المغلظة أن لا (¬4) يفارق حماة إلا بإذنه فحلف له. ثم في سنة سبع عشرة وستمائة، قبل وفاة الملك المنصور بأشهر، كتب الملك المعظم صاحب دمشق إلى سيف الدين [الآمدى (¬5)] يستدعيه ليكون عنده بدمشق، ووعده الوعود الجميلة، فهرب إليه فولاه الملك المعظم تدريس المدرسة العزيزية (¬6)، ¬

(¬1) في نسخة س «التعظيم الكثير» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «ما لا يحصى»، والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) في نسخة س «أنه» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح والسطور التالية مضطربة في نسخة س. (¬6) كانت هذه المدرسة شرقى التربة الصلاحية وغربى التربة الأشرفية وشمالى دار الحديث الفاضلية بدمشق. أمر بتشيبدها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين سنة 592 هـ‍. وقيل أن أول من أسسها الملك الأفضل بن صلاح الدين وأتمها الملك العزيز عثمان. وقام بالتدريس بها جماعة من المشهورين مثل سيف الدين الآمدى، وبهاء الدين بن الزكى وغيرهما؛ انظر: ابن كثير، البداية والنهاية، ج 13، ص 12؛ النعيمى، الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 382 - 398؛ محمد كرد على، كتاب خطط الشام، ج 6، ص 86.

وأنزله في دار بدرب عزيزة (¬1)، وأحسن إليه إلا أنه كان يظن أن الملك المعظم يفعل في حقه من الإحسان أضعاف ما وقع منه. وبلغنى أن سبب تقصير الملك المعظم في حقه أن شرف الدين بن عنين (¬2) كان من المتعصبين (¬3) لفخر الدين الرازى، ولفخر الدين إحسان إليه عظيم - على ما سنذكر إن شاء الله تعالى، وأن شرف الدين [بن عنين (¬4)] اجتمع بسيف الدين [على (¬5)] فسمعه يغض من قدر فخر الدين (¬6) [بن خطيب الرازى (¬7)]، ويكثر الوقيعة فيه. فغاظه ذلك، ووقع فيه عند الملك المعظم، وصغر منزلته عنده، إلا أنه مع هذا كان يحضره الملك المعظم ليالى الجمع مع علماء دمشق، ويسمع بحثه ومجادلته (¬8). وكان سيف الدين [على الآمدى (¬9)] بليغا إلى الغاية حسن العبارة، إذا أخذ في الاحتجاج والمناظرة لا يقدر أحد على مجاراته (¬10). ¬

(¬1) في نسخة م «بدرب غريرة» والصيغة المثبتة من س. (¬2) شرف الدين بن عنين هو شرف الدين أبو المحاسن محمد بن نصر المشهور بابن عنين الأنصارى الدمشقى المتوفى سنة 630 هـ‍، وله ديوان مطبوع، انظر ما سبق ابن واصل، ج 4 ص 100 - 101، 173، 214 - 216، 220، 222، 291 وانظر ما يلى ص 41 وما بعدها. (¬3) في نسخة س «من المحبين» والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬6) في نسخة س «فسمعه سيف الدين شىء من نقص قدر فخر الدين»، والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬8) في نسخة س «ومحاوراته» والصيغة المثبتة من م. (¬9) ما بين الحاصرتين للتوضيح، وورد في نسخه س «سيف الدين على بن خطيب الرى»، وهو تصحيف. (¬10) في نسخة س «لا يقدر على مجاراته» والصيغة المثبتة من م.

وحكى لى السلطان الملك الناصر داود - رحمه الله - ونحن في خدمته بالكرك قال: «كان إذا حضر الشيخ سيف الدين عند والدى - رحمه الله - أقصد الحضور لأسمع كلامه، وأتعجب من بلاغته وفصاحته، وحسن احتجاجه واستعلائه على الجماعة في المناظرة». وقلت للملك الناصر: «أي الرجلين عند مولانا السلطان أفضل شمس الدين الخسرو شاهى أم سيف الدين [على الآمدى]؟ (¬1)». فقال [175 ب]: «سبحان الله، كيف تقول هذا، كل هؤلاء عند سيف الدين فراريج للذبح، سيف الدين كان يرى أنه أفضل من أستاذهم فخر الدين فهو لا يعتد بهم». ولما توفى الملك المعظم - رحمه الله - تقدم سيف الدين عند الملك الناصر التقدم العظيم، ومال إليه بكليته، وأعطاه ثمانية آلاف درهم اشترى بها جوسقا وبستانا. ولازم الملك الناصر مع ملازمة شمس الدين الخسرو شاهى للملك الناصر. وفى بعض الأيام عقد الملك الناصر مجلسا جمع فيه جماعة الفضلاء الأعيان بدمشق - قبل أن تؤخذ منه - حضر المجلس الشيخ شمس الدين الخسرو شاهى والشيخ سيف الدين [الآمدى (¬2)] والشيخ تاج الدين الأرموى وهو من الأكابر المصنفين الفضلاء، والقاضى شمس الدين الخويى (¬3) قاضى دمشق، وكان جامعا لفنون ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) في نسخة س «الحويى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م، وهو قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن الخليل الخويى نسبة إلى خوى وهى بلد مشهور من أعمال أذربيجان، أنظر ما سبق ابن واصل، ج 4 ص 173؛ السبكى، طبقات الشافعية، ج 5 ص 8؛ المقريزى، السلوك، ج 1 ص 273؛ ياقوت، معجم البلدان؛ وعن ترجمة ابنه قاضى القضاة محمد بن أحمد الخويى انظر، الكتبى، فوات الوفيات، ج 2، ص 368 - 369.

الفضائل. وتناظروا فاجتمعت كلمة هؤلاء الأعاجم على سيف الدين وصاروا عليه يدا واحدة، وقهروه في البحث يومئذ لتظافرهم واتفاقهم (¬1). وصنف سيف الدين بدمشق للملك الناصر كتابا في العلوم العقلية سماه «فرائد القلائد (¬2)» طلبه الملك الناصر منه فصنفه على حسب اقتراحه. ولما أخذ الملك الكامل دمشق من الملك الناصر ومضى إلى الكرك وأقام بها، أحب ان يكون عنده جماعة من أهل العلم يستأنس بهم، فطلب والدى أولا، فمضينا إلى خدمته وأقمنا عنده - كما ذكرت أولا (¬3). ثم بعد ذلك طلب شمس الدين الخسرو شاهى، وكان قد سيّره وهو بدمشق إلى سلطان العجم جلال الدين [ابن علاء الدين خوارزم شاه (¬4)] يستنصر به على أعمامه، وعاد من عنده وجرى ما ذكرنا. وبقى شمس الدين في دمشق مضطهدا، فطلبه الملك الناصر فقدم عليه إلى الكرك، ولازمه وقرأ عليه ولم يفارقه في سفر ولا حضر (¬5) إلى أن أخذت الكرك من الملك الناصر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وبقى سيف الدين [الآمدى (¬6)] في دمشق، والملك الأشرف معرض عنه (¬7) كاره له. فبعث الملك المسعود صاحب آمد يطلبه، وعقيب ذلك جرى ما ذكرنا ¬

(¬1) ورد بعد ذلك في نسخة س وحدها «غير أنه خلص منهم مليح». (¬2) لم يرد اسم هذا الكتاب في صيغته المثبتة في المصادر المتداولة، وإنما ورد كتاب للآمدى عنوانه (فرائد الفوائد) في الحكمة، انظر البغدادى، هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، ج 1، ص 707. (¬3) انظر ما سبق ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4، ص 330 - 331. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) في نسخة س «لا في سفر ولا في حضر»، والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬7) في نسخة س «يعرض عنه»، والصيغة المثبتة من م.

من أخذ آمد من صاحبها (¬1). ولما أخذت منه قال الملك الكامل [176 ا] فيما بلغنى لصاحب آمد: «ما عندك في بلدك من عنده (¬2) فضيلة». فغلط وقال «كنت سيّرت إلى الشيخ سيف الدين أطلبه، وقد وعدنى أنه يأتى إلىّ». فعظم هذا على الملك الأشرف والملك الكامل وغاظهما على سيف الدين [على الآمدى (¬3)]؛ فعزله الملك الأشرف عن تدريس المدرسة العزيزية، فخرج إلى بستانه وأقام فيه مضطهدا إلى أن مات في هذه السنة وقد نيف على ثمانين سنة - رحمه الله. وفى هذه السنة توفى شرف الدين بن عنين [وهو أبو المحاسن محمد بن نصر الله ابن الحسين بن عنين الأنصارى الكوفى الأصل، الدمشقى المولد] (¬4). وكان شاعرا مجيدا، إلا أنه كان كثير الهجاء، فكان له إبداع فيه. تعرض في الدولة الصلاحية لهجو (¬5) جماعة من أكابر الدولة منهم القاضى الفاضل رحمه الله. وأمر الملك الناصر [صلاح الدين - رحمه الله (¬6) -] بنفيه فذكر أنه كتب على شجرة من جوز دمشق لمّا نفى: فعلام أبعدتم أخا ثقة ... لم يجترم (¬7) ذنبا (¬8) ولا سرقا انفوا المؤذّن من بلادكم ... إن كان ينفى كلّ من صدقا ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 17 (¬2) في نسخة س «من له»، والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من نسخة س، انظر ترجمة ابن عنين في ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 2 ص 25 - 26. (¬5) في نسخة س «يهجو» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) أي لم يقترف ذنبا. (¬8) في نسخة م «دينا» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ديوان ابن عنين، ص 94.

وسافر إلى اليمن، وخدم عند سيف الاسلام طغتكين بن أيوب وله فيه مدائح حسان، وأقام عنده مدة (¬1). وسافر إلى بلاد العجم، [واجتمع بفخر الدين بن خطيب الرازى ومدحه. وكان فخر الدين (¬2)] يجلس في بعض الأيام للوعظ، على عادة العجم، فجلس يوما واتفق أن صقرا طلب حمامة ليفترسها، فهربت الحمامة منه ووقعت في حجر فخر الدين، فضم عليها ثيابه حتى هرب الصقر ثم أطلقها. فقام شرف الدين [ابن عنين (¬3)] وأنشده (¬4) أبياتا منها: يا ابن الكرام المطعمين إذا شتوا ... في كل مسغبة (¬5) وثلج خاشف (¬6) ويقول فيها: جاءت سليمان الزمان بشجوها (¬7) ... والموت يلمع من (¬8) جناحى خاطف ¬

(¬1) في نسخة س «وأقام في اليمن مدة»، والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «واجتمع مع تقى الدين خطيب الرى ومدحه وكان ولده فخر الدين. . .» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م، انظر أيضا ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 475؛ ابن أبى أصيبعة، طبقات الأطباء، ج 2، ص 23 - 24. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) في نسخة م «وأنشد»، والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) كذا في نسختى المخطوطه وكذلك في ابن خلكان (وفيات، ج 1، ص 475) بينما وردت كلمة «مخمصة» في ديوان ابن عنين، ص 95 وفى ابن أبى أصيبعة، طبقات الأطباء، ج 2 ص 24. (¬6) في نسخة م «حاسف» وفى نسخة س «خاسف» والصيغة الصحيحة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 95 ومن ابن خلكان، ج 1 ص 475، وابن أبى أصيبعة ص 24، والخشف والخشيف الثلج وقيل الثلج الخشن، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 10، ص 417. (¬7) في نسخة س «حمامة» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م ومن ابن أبى أصيبعة ص 24، وفى ديوان ابن عنين، ص 95 وابن خلكان، ج 1، ص 475 «بشكوها». (¬8) في نسخة م «في» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ديوان ابن عنين ومن ابن خلكان وابن أبى أصيبعة نفس الجزء والصفحة.

قرم طواه الجوع (¬1) حتى ظله ... من تحته يمشى بقلب راجف (¬2) من أنبأ (¬3) الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف [176 ب] فأعطاه فخر الدين - على ما بلغنى - ألف دينار. ثم قدم شرف الدين الشام، واتصل بخدمة الملك المعظم ولازمه، وله فيه وفى أبيه الملك العادل - رحمهما الله - المدائح البديعة، وقد ذكرنا بعضها (¬4). وبعد وفاة الملك المعظم بقى مقيما بدمشق في خدمة الملك الأشرف، وله فيه أيضا مدائح. ولما مرض كان له جماعة مماليك قد رباهم، فكتب إلى الملك الأشرف يعرض باستخدامه لهم: (¬5) يا أيها المولى الذى سيفه (¬6) ... يفنى وجدوى كفه تغنى لى أعبد قد ضاق ذرعى بهم ... واضجرتهم علتى منى يشكون منى مثل ما اشتكى ... منهم فخلصهم وخلصنى فاستخدمهم الملك الأشرف وجعل لهم أخبازا (¬7). ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وفى الديوان وابن خلكان وابن أبى أصيبعة «لواه القوت». (¬2) ورد الشطر الثانى من البيت في الديوان وابن خلكان: «بازائه يجرى بقلب واجف» وفى ابن أبى أصيبعة «بازائه يجرى بقلب راجف» والصيغة المثبتة من نسختى المخطوطة. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة وفى الديوان وابن خلكان وابن أبى أصيبعه (نفس الجزء والصفحة) «من نبأ». (¬4) في نسخة س «ذكرناها». (¬5) في نسخة س «باستخدامهم له» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م. (¬6) ورد الشطر الأول في ديوان ابن عنين، ص 103 «يا ملك الدنيا الذى سخطه» والصيغة المثبتة من نسختى المخطوطة. (¬7) في نسخة س «أخباز جيدة» والصيغة المثبتة من نسخة م والأخباز هنا بمعنى إقطاعات.

وكان مولد شرف الدين سنة تسع وأربعين وخمسمائة [وذلك بدمشق يوم الاثنين تاسع شعبان. وكانت وفاته عشية يوم الاثنين لعشر بقين من شهر ربيع الأول من هذه السنة - أعنى سنة ثلاثين وستمائة (¬1)] فكان عمره نحو احدى وثمانين سنة (¬2). ودفن من الغد في مسجده الذى أنشأه بأرض المزّه ظاهر دمشق. ولنذكر شيئا من أشعاره فأنها كلها بديعة مستظرفة؛ من ذلك أنه لما نفاه السلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - من دمشق، وعاد إليها حين أذن له الملك العادل - رحمه الله - في العود إليها قال: هجوت الأكابر في جلّق (¬3) ... ورعت الوضيع بسب الرفيع وأخرجت منها ولكننى ... رجعت إليها برغم الجميع (¬4) وكان السلطان الملك المعظم بن الملك العادل - رحمه الله - قد تغيّر على قاضى دمشق زكى الدين بن محيى الدين بن زكى الدين فبعث إليه كلوته وقبا (¬5) وأمره بلبسه في المجلس، فلبسه وقام من المجلس، ومرض أياما غمّا ومات. واتفق في تلك المدة ان ابن عنين تزهد وانقطع في مسجد، فسير إليه الملك المعظم خمرا ودست نرد (¬6) فكتب إليه: ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬2) الصفحات التالية ساقطة من نسخة س ومثبتة في نسخة م وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط، انظر ما يلى ص 48 حاشية 4. (¬3) جلق هى دمشق، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬4) ورد الشطر الثانى في الديوان ص 94 «رجعت على رغم أنف الجميع» والصيغة المثبتة من م. (¬5) عن الكلوته والقبا انظر ما سبق ابن واصل، ج 4 ص 172، حاشية 2، 3. (¬6) لعبة فارسية الأصل والنرد يلعب به، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 4 ص 430 - 431.

يا أيها الملك المعظم سنّة ... أجريتها (¬1) تبقى على الآباد (¬2) تجرى الملوك على طريقك بعدها ... خلع القضاة وتحفة الزّهاد وأمر الملك المعظم بنزح ماء (¬3) بئر فأعيى الناس نزحه لكثرة ما فيه من الماء فقال ابن عنين: أرح من نزح ماء البئر (¬4) قوما (¬5) ... فقد أفضى إلى تعب وعي مر القاضى بوضع يديه فيه ... فيصبح مثل رأس الدولعى (¬6) وكان القاضى بدمشق يومئذ جمال الدين المصرى وقد تقدم ذكره (¬7)، والدولعى هو جمال الدين خطيب جامع دمشق، وهو منسوب إلى الدولعيّة قرية على باب الموصل في طريق الذاهب إلى الموصل من جهة نصيبين وقد رأيتها. وبلغه أن قائلا قال في أكل النواب أوقاف الجامع: لمّا رأى الجامع أمواله ... منهوبة (¬8) ما بين نوّابه جنّ فمن أجل جنون غدا ... مسلسلا ما بين أبوابه ¬

(¬1) في ديوان ابن عنين، ص 93 «أحدثتها» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) في نسخة المخطوطة «الأياد»، والصيغة المثبتة من ديوان ابن عنين، ص 93. (¬3) في ديوان ابن عنين، ص 235 أن الملك المعظم أمر بنزح ماء خندق القلعة بدمشق، والصيغة المثبتة من المخطوطة. (¬4) في ديوان ابن عنين، ص 235 «البرج»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في الديوان «يوما» والصيغة المثبتة من م. (¬6) ورد الشطر الثانى في ديوان ابن عنين، ص 235 «وقد أضحى كرأس الدولعى». (¬7) انظر ما سبق ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4 ص 171 - 173. (¬8) في ديوان ابن عنين، ص 143 «مأكولة» والصيغة المثبتة من نسخة م.

وكيف لا تغتال جنّة ... وقد رأى خسة أربابه القرد في شبّاكه حاكم ... والكلب في قبلة محرابه (¬1) فتمم بذلك الوقيعة في القاضى والخطيب المذكورين (¬2). وله في هذا الباب شىء كثير أربى فيه على ابن منير (¬3) بل على ابن الرومى (¬4). وكان مجيدا في عمل الألغاز وحلها. كتب إليه بعض الأدباء (¬5) لغزا في الزّر والعروة (¬6): وما أنثى وينكحها أخوها ... بعقد وهو حل مستباح رآه معشر منا حلالا (¬7) ... وفى أعناقهم ذاك النكاح ¬

(¬1) وردت الأبيات الثلاثة الأخيرة في ديوان ابن عنين، ص 143 برواية أخرى: جن فمن خوف عليه غدا مسلسلا من كل أبوابه وكيف لا تعتاده جنة وقد رأى المسخ لأربابه القرد في شباكه حاكم والتيس في قبة محرابه والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) وردت هذه الجملة في المخطوطة قبل البيتين الأخيرين. (¬3) هو الشاعر المشهور أبو الحسين أحمد بن منير بن أحمد بن مفلح الطرابلسى الملقب مهذب الدين عين الزمان. ذكر ابن خلكان أنه كان رافضيا كثير الهجاء خبيث اللسان، وأنه لما كثر منه ذلك سجنه بورى بن أتابك طغتكين صاحب دمشق مدة وعزم على قطع لسانه ثم شفعوا فيه فنفاه، وتوفى سنة 548 أو سنة 547 هـ‍، انظر ابن خلكان، وفيات، ج 1 ص 49 - 51. (¬4) هو الشاعر الكبير المشهور على بن العباس بن جريج الرومى المتوفى سنة 283 هـ‍ - 896 م، يقال أنه ما مدح أحدا من رئيس أو مرؤوس إلا عاد إليه وهجاه، انظر الخطيب البغدادى، تاريخ بغداد، ج 12، ص 23 - 26. (¬5) كلمة «الأدباء» مكتوبة في الهامش. (¬6) الزر هو الذى يوضع في القميص والعروة هى التي تجعل الحبة فيها، انظر، ابن منظور، لسان العرب، ج 5، س 409. (¬7) في ديوان ابن عنين، ص 170 «مباحا» والصيغة المثبتة من م.

فحلّ اللغز وكتب الجواب ملغزا فيهما: أتانى منك لفظ مثل (¬1) در ... له من فكرك الوارى فصاح ببعل كله ذكر صحيح ... وأنثى كلها فرج مباح وتفضى هذه ويحبّ هذا ... ولا يؤذيهما ذاك (¬2) الجراح وقد قدمنا ذكره في أخبار سيرة الملكين العادل والمعظم - رحمهما الله - والقصيدة الرائية التي مدح بها السلطان الملك العادل في غاية الحسن [177 ب] قد ذكرنا بعضها (¬3). وذكر في آخرها تغربه، وشكر الحوادث التي أوصلته إلى جناب الملك العادل وهو: أشكو إليك نوى تمادى عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهرا لا عيشتى تصفو، ولا رسم الهوى ... يعفو، ولا جفنى يخالطه (¬4) الكرى أضحى عن الأحوى (¬5) المريع محلّأ ... وأبيت عن ورد النمير (¬6) منفّرا ومن العجائب أن يقيّل (¬7) ظلكم ... كل الورى ونبذت وحدى بالعرا ولقد سمئت من القريض ونظمه ... ما حاجتى (¬8) ببضاعة لا تشترى ¬

(¬1) ورد الشطر الأول في ديوان ابن عنين، ص 170 «تحاجينى ولفظك مثل درّ»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) في ديوان ابن عنين، ص 170 «ولا تؤذيهما تلك»، والصيغة المثبتة من نسخة م وكلتاهما صحيح. (¬3) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 3، ص 129 - 130، 272 - 273؛ ج 4 ص 100 - 101، 214 - 216، 220 (¬4) في ديوان ابن عنين، ص 8 «يصافحه»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) الأحوى هو الأسود من الخضرة، انظر لسان العرب، ج 18، ص 226. (¬6) ورد النمير هو الماء الناجع الذى يشرب منه، انظر لسان العرب، ج 7، ص 94. (¬7) في ديوان ابن عنين «أن تفيّأ» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬8) في ديوان ابن عنين «ما حيلتى»، والصيغة المثبتة من نسخة م.

ذكر وفاة [الملك المعطم] مظفر الدين كوكبورى ابن زين الدين على كوجك بن بكتكين صاحب أربل رحمه الله

كسدت فلما قمت ممتدحا بها ... ربّ الممالك نلت أربح متجرا (¬1) ولأشكرن (¬2) حوادثا قذفت بآ ... مالى إليك وحقّها أن تشكرا لا زلت ممتدّ (¬3) البقا حتى ترى ... عيسى بعيسى في الورى مستنصرا أراد بعيسى الثانى ولده الملك المعظم - رحمهما الله (¬4). ذكر وفاة [الملك المعطم (¬5)] مظفر الدين كوكبورى ابن زين الدين على كوجك بن بكتكين صاحب أربل رحمه الله [قد ذكرنا أخبار مظفر الدين بن زين الدين على كوجك في أخبار السلطان الملك الناصر صلاح الدين وبعدها (¬6). وكان أبوه زين الدين على كوجك متحكما في الدولة الأتابكية ونائبا عن الملك عندهم. وقد ذكرنا أنه لما مات ملك أربل وبلادها مظفر الدين كوكبورى هذا، وانه صرف عن الملك بعد ذلك وولّيت البلاد لأخيه زين الدين يوسف، وكان أصغر منه في السن، وأنه أعطى بدلها الرها، وأنه لما ظهر الملك الناصر صلاح الدين ¬

(¬1) ورد الشطر الثانى في ديوان ابن عنين «ملك الملوك غدوت أربح متجرا»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) في ديوان ابن عنين «فلأشكرنّ»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) في ديوان ابن عنين «ممدود»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) نهاية الجزء الساقط من نسخة س، انظر ما سبق ص 44 حاشية 2 والصفحات التالية وردت في غير مكانها في نسخة س (ورقة 288 ب) (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬6) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 2 ص 339 - 340؛ ج 3 ص 156، 194 - 195، 197.

التجأ إليه (¬1) مظفر الدين وفارق البيت الأتابكى وخدمه (¬2)]. ولما ملك السلطان [صلاح الدين] (¬3) الشرق، أقطعه حرّان مضافة إلى الرها (¬4)، [وأنه نقم عليه بعد ذلك وأخذها منه، ثم رضى عنه وردها إليه] (¬5). ولما كان السلطان [صلاح الدين (¬6)] بمرج عكافى مقابلة الفرنج المنازلين (¬7) لها توفى زين الدين يوسف (¬8) بن زين الدين صاحب أربل بالمعسكر، وكان من جملة النجد الذين في خدمة السلطان (¬9)، فنزل مظفر الدين عن حران والرها [178 ا]، وطلب بدلا منهما أربل وبلادها فأجيب إلى ذلك (¬10)، وقلده السلطان ذلك، فمضى مظفر الدين إليها، [واستولى على ممالكها (¬11)]، ولم يتفق بعد ذلك عوده إلى السلطان. ثم صار بعد وفاة السلطان منتميا إلى البيت الأيوبى؛ لأن الملك صار إليه بطريقهم، وتزوّج ربيعة خاتون بنت أيوب أخت [السلطان الملك الناصر صلاح الدين وأخت (¬12)] الملك العادل، وأولدها ابنتين تزوّج إحداهما (¬13) الملك القاهر ¬

(¬1) في نسختى المخطوطة «التجى». (¬2) ورد ما بين الحاصرتين في قليل من التغيير في نسخة س مبتدئا «وفى هذه السنة توفى مظفر الدين بن زين الدين على كوجك. . .» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) في نسخة س «جمع له بين الرها وحران» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) في نسخة س «النازلين عليها» والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة م «زين يوسف» وهو تصحيف، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة س (¬9) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 2 ص 339 - 340. (¬10) في نسخة س «فأجابه السلطان الملك الناصر إلى ذلك» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬13) في نسخة م «أحديهما» وهو تصحيف، والصيغة الصحيحة المثبتة من س.

عز الدين مسعود [بن أرسلان شاه (¬1)] صاحب الموصل وأولدها ابنين، والأخرى تزوّجها أخوه عماد الدين زنكى. ومات الملك القاهر وتغلب بدر الدين لؤلؤ - مملوك أبيه - على الموصل، وأقام ولديه الصغيرين في الملك صورة واحدا بعد واحد (¬2). ولما هلك الثانى منهما استقل (¬3) بالملك، فقامت بسبب [ذلك (¬4)] العداوة بين مظفر الدين وبدر الدين لؤلؤ، وجرى بينهما من الحروب ما تقدم ذكره. وكان مظفر الدين يلقب بالملك المعظم، ولما حضره الموت لم يكن له ولد يخلفه في الملك، فأوصى بتسليم البلاد إلى الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين (¬5). [فلما مات ورد نوّاب الديوان العزيز إلى أربل وتسلموها، وولى فيها وال من قبل الخليفة، فأقام مدة ثم عزله، وولى بعده أربل الشريف تاج الدين بن صلايا (¬6)]، وكان كريما حسن السيرة. ولم يزل حاكما بالبلاد من قبل الخليفة إلى أن ملك التتر بغداد، وقتلوا (¬7) الخليفة المستعصم بالله أبا أحمد عبد الله بن المستنصر بالله، وملكت التتر البلاد. [فوفد إلى أولاكو (¬8) ملكهم الشريف تاج الدين وبدر الدين لؤلؤ ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) في نسخة س «فمات واحد بعد واحد»، والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «استقر»، والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) في نسخة م «الخليفة المستنصر بالله»، والصيغة المثبتة من س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد مختصرا في نسخة م. (¬7) في نسخة س «وقتل» والصيغة المثبتة من م. (¬8) يقصد هولاكو.

ذكر سيرة مظفر الدين رحمه الله

صاحب الموصل فقتل ملك التتر الشريف ابن صلايا لأنه على ما ذكر حسّن له صاحب الموصل قتله، وقال أنه شريف وربما طمع في الخلافة. ورجع بدر الدين إلى الموصل على ما سنذكره إن شاء الله تعالى (¬1)]. ذكر سيرة مظفر الدين رحمه الله كان ملكا جليلا، شجاعا مقداما، ذا همة عالية [وبأس شديد، إلا أنه كان فيه ظلم وعسف وإلحاح في استخراج الأموال. ومع هذا، فكانت له (¬2)] صدقات كثيرة دارّة، ومعروف كثير، واستفكاك الأسارى من أيدى الفرنج. وكان مقصدا للفقهاء والشعراء والأدباء والصوفية وأهل الدين، يبّرهم بالأموال الجزيلة، ولا ينصرفون من عنده إلا راضين شاكرين. [وكان يعمل السماعات كثيرا للفقراء ويحضر بينهم، وكان متنزها عن شرب الخمر والمعاصى، قائما بوظائف الصلوات في أوقاتها (¬3)]. [واتخذ اليوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول في كل سنة موسما لكون مثل ذلك اليوم هو الذى ولد فيه النبى - صلى الله عليه وسلم - فكان ينفق فيه الأموال الجزيلة، ويعمل السماعات والاجتماعات للقراءة. وكان يحضر هذه المجامع ويبذل فيها الدنانير والدراهم الكثيرة، ويبعث إلى الشام كل سنة جملة كثيرة بسبب استفكاك الأسرى (¬4)]. ¬

(¬1) ورد ما بين الحاصرتين مختصرا في نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬4) ورد ما بين الحاصرتين في قليل من التعديل وفى غير مكانه في نسخة س (ق 289 ا - ب)، والصيغة المثبتة من م

وممن قدم عليه (¬1) الحافظ مجد الدين أبو الخطاب عمر بن دحية (¬2) [وكان إمام وقته في علم الحديث وله فيه رحل كثيرة. ولما قدم عليه (¬3)] امتدحه بقصيدة مطلعها: لولا الوشاة وهم (¬4) ... أعداؤنا ما وهموا وساح جفنى وهما (¬5) ... بالدمع لمّا فهموا فأعطاه ألف دينار (¬6). وقد حكى القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان قاضى دمشق - رحمه الله - عنه أشياء حسنة أودعها كتابه المسمى وفيات الأعيان (¬7)، وهو أخبر الناس بأحواله لأنه نشأ بأربل، وأكثر ما ذكر يعرفه مشاهدة لا سماعا فلنذكره: ¬

(¬1) في نسخة س «ووصل إليه» والصيغة المثبتة من م. (¬2) هو الحافظ أبو الخطاب عمر بن الحسن بن على المعروف بذى النسبين الأندلسى البلنسى، وينتهى نسبه إلى دحية الكلبى صاحب رسول الله. كان من أعيان العلماء متقنا لعلم الحديث النبوى، عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها. انتقل من بلاد الأندلس إلى مصر والشام والعراق في طلب الحديث والاستفادة منه، وتوفى في القاهرة سنة 633 هـ‍ - 1235 م؛ انظر ترجمته في ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 381 - 382؛ المقرى التلمسانى، نفح الطيب، ج 2، ص 99 - 104؛ ومن كتب ابن دحية كتاب المطرب في أشعار أهل المغرب، ط. الخرطوم، سنة 1954. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬4) في نسخة س «وهموا» ولعله تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م ومن ابن خلكان (وفيات، ج 1، ص 381). (¬5) الصيغة المثبتة من نسخة م، وفى نسخة س «وساح دمعى فهما» ومعه لا يستقيم المعنى في الشطر الثانى، ولم يرد هذا البيت في ابن خلكان. (¬6) سوف يتكرر ذكر هذا الخير فيما بعد: انظر ما يلى ص 60 والصفحات التالية ساقطة من نسخة س ومثبتة في نسخة م، وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط، انظر ما يلى ص 62 حاشية 5. (¬7) انظر ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 1 ص 435 - 438)؛ وعن سيرة مظفر الدين، انظر أيضا، سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 450 - 452

قال [ابن خلكان (¬1)] ما معناه أن والده على بن بكتكين كان قصيرا ولهذا قيل له كجك، وهو لفظ عجمى معناه بالعربى صغير أي صغير القدر، وأصله من التركمان. وملك أربل وبلادا كثيرة في تلك النواحى وفرقها على أولاد [أتابك (¬2)] قطب الدين مودود بن زنكى بن آق سنقر صاحب الموصل، ولم يبق له سوى أربل. وعمر عمرا طويلا فيقال أنه جاوز مائة سنة، وعمى في آخر عمره، وتوفى بأربل ليلة الأحد حادى عشر ذى القعدة سنة ثلاث وستين وخمسمائة. قال [ابن خلكان (¬3)]: وقال بهاء الدين بن شداد [في سيرة صلاح الدين (¬4)] مات في ذى الحجه ودفن بتربته المعروفة به المجاورة للجامع العتيق داخل البلد. ولما توفى ولى أربل بعده ولده مظفر الدين كوكبورى، وعمره يومئذ أربع عشرة سنة، وقام بأتابكيته مجاهد الدين قايماز، ثم تعصب عليه مجاهد الدين وكتب محضرا بأنه ليس أهلا للولاية. وشاور الخليفة في أمره فعزله واعتقله، وولى أربل أخاه زين الدين يوسف وكان أصغر منه. ثم أخرج مظفر الدين من البلاد [179 ا] فتوجه إلى بغداد فلم يحصل على مقصود، ثم انتقل إلى الموصل وصاحبها يومئذ سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود بن زنكى، واتصل بخدمته وأقطعه مدينة حران فانتقل إليها. ثم اتصل بخدمة السلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - وحظى عنده وتمكن منه، وزاد في أقطاعه الرها سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وزاده سميساط وذلك حين أخذ الملك الناصر الرها من ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) ما بين الحاصرتين من ابن خلكان، ج 1 ص 435. (¬3) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬4) ما بين الحاصرتين من ابن خلكان: ج 1، ص 435؛ انظر أيضا ابن شداد، النوادر السلطانية، ص 39.

فخر الدين بن الزعفرانى، وزوّج مظفر الدين أخته ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب ابن شادى، وكانت قبله مزوّجة بسعد الدين (¬1) مسعود بن معين الدين آنر. وتوفى عنها مسعود سنة احدى وثمانين وخمسمائة. وشهد مظفر الدين مع الملك الناصر صلاح الدين حروبه مع الفرنج، وكان أخوه زين الدين يوسف قد وفد إلى السلطان - رحمه الله - نجدة وهو محاصر للفرنج المحاصرين لعكا، فتوفى بالناصرة وهى قرية بالقرب من عكا، كان انتقل إليها من العسكر السلطانى لما مرض، وذلك في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة ست وثمانين وخمسمائه. فالتمس مظفر الدين من السلطان أن ينزل عن الرها وحران وسميساط ويعوضه عن ذلك أربل، فأجابه إلى ذلك وضم إليه شهرزور فتوجه إلى أربل ودخل إليها في ذى الحجة من السنة المذكورة. هذه خلاصة أمره. قال [ابن خلكان (¬2)]: وكان له في فعل الخير غرائب لم يسمع أن أحدا فعل مثلها، من ذلك أنه لم يكن شىء أحب إليه من الصدقة، كان له كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز (¬3) تفرق على المحاويج في عدة مواضع من البلد، يجتمع في كل موضع (¬4) خلق كثير، ويفرق عليهم في أول النهار. [وإذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع جمع كثير عند بابه فيدخلهم إليه، ويدفع لكل واحد منهم كسوة على قدر الفصل من الشتاء والصيف. ومع الكسوة شىء من الذهب من الدينار ¬

(¬1) في ابن خلكان (وفيات، ج 1، ص 435) «زوجة سعد الدين». (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) في المخطوطة «الخير» وهو تصحيف، انظر ابن خلكان، ص 436. (¬4) في المخطوطة «يوم» وهو تصحيف، انظر ابن خلكان، ص 436.

والاثنين (¬1) والثلاثة وأقل وأكثر. وكان قد بنى أربع خانكاهات للزّمنى (¬2) والعميان، وملأها من هذين الصنفين، وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم. وكان يأتيهم بنفسه في عصرية كل اثنين وخميس (¬3)، ويدخل إلى كل واحد منهم [179 ب] في بيته ويسأله عن حاله، ويتفقده بشىء من النفقة، ويباسطهم ويمزح معهم ويجبر قلوبهم. وبنى دارا للنساء الأرامل، ودارا للصغار الأيتام، ودارا للقطاء، ورتب بها جماعة من المراضع، وكل مولود يلتقط يحمل إليهن فيرضعنه. وأجرى لأهل كل دار ما يحتاجون إليه في كل يوم. [وكان يدخل إليها في كل وقت ويتفقد أحوالهن ويعطيهن النفقات زيادة على المقرر لهن (¬4)]. وكان يدخل إلى البيمارستان ويقف على مريض مريض، ويسأله عن مبيته وكيفية حاله. وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم إلى البلد من فقيه أو فقير أو غيرهما، وما كان يمنع منها كل من قصد الدخول إليها، وله الراتب الدار في الغداء والعشاء. وإذا عزم الانسان على السفر أعطى نفقة على ما يليق بمثله. وبنى مدرسة رتب فيها فقهاء الفريقين من الشافعية والحنفية. وكان كل وقت يأتيها بنفسه ويعمل السماط بها، ويبيت [بها (¬5)] ويعمل السماع. وإذا طاب ¬

(¬1) في المخطوطة «الدنانير الاثنين» والصيغة المثبتة من ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 436. (¬2) رجل ز من أي مبتلى والزمانة العاهة، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 17، ص 60. (¬3) كذا في المتن وفى ابن خلكان (ج 1، ص 436) «في كل عصرية اثنين وخميس». (¬4) ورد ما بين الحاصرتين في قليل من التعديل في المخطوطة، والصيغة المثبتة من ابن خلكان (ج 1، ص 436) الذى ينقل عنه ابن واصل. (¬5) ما بين الحاصرتين من ابن خلكان، ج 1 ص 436.

خلع شيئا من ثيابه وسيّر (¬1) إلى الجماعة بكرة شيئا من الأنعام. ولم يكن له لذة سوى السماع، فإنه لم يكن يتعاطى شرب المسكر (¬2)، ولا يمكّن أحدا من إدخاله إلى البلد. وبنى للصوفية خانقاتين، فيهما خلق كثير من المقيمين والواردين. ويجتمع في أيام المواسم فيهما خلق كثير يفوت الأحصاء. ورتّب لهما أوقافا كثيرة تقوم بجميع ما يحتاج إليه ذلك الخلق العظيم. ولا بد عند سفر كل واحد من صوفية الخانقاتين من نفقة يأخذها. وكان ينزل بنفسه إليهم، يعمل عندهم السماعات في كثير من الأوقات. وكان يسيّر في كل سنة دفعتين من أمنائه (¬3) جماعة إلى ساحل الشام ومعهم جملة كثيرة من المال لا ستفكاك أسرى المسلمين من الكفار. وإذا وصلت إليه الأسرى أعطى كل واحد منهم شيئا، ومن لم يصل منهم أعطاه الأمناء شيئا بوصيته إليهم بذلك. وكان يقيم في كل سنة سبيلا للحاج، ويسير مع السبيل جميع ما تدعو حاجة المسافر إليه في الطريق، ويسير صحبته أمينا [معه (¬4)] خمسة أو ستة آلاف دينار (¬5) لينفق بالحرمين على المحاويج وأرباب الرواتب. وله بمكة - حرسها الله تعالى -[180 ا] آثار جميلة، وبعضها باق إلى الآن. وهو أول من أجرى الماء إلى جبل عرفات ¬

(¬1) في المتن «ويسير»، والصيغة المثبتة من ابن خلكان (نفس الجزء والصفحة). (¬2) في ابن خلكان «المنكر»، والصيغة المثبتة من المخطوطة. (¬3) في المتن «أمرائه»، والصيغة المثبتة من ابن خلكان، ج 1، ص 436. (¬4) ما بين الحاصرتين مذكورة في هامش المتن. (¬5) في المخطوطة «خمسة آلاف ستة آلاف دينار» والصيغة المثبتة من ابن خلكان (وفيات، ج 1، ص 436)

ليلة الوقوف، وغرم عليه جملة كثيرة. وعمر بالجبل مصانع للماء (¬1) وبنى تربة هناك. وأما احتفاله بمولد النبى - صلى الله عليه وسلم - فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به. قال [ابن خلكان (¬2)]: ولكنا نذكر طرفا منه، وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه، فكانوا كل سنة يصل من البلاد القريبة من أربل مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحى من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء خلق عظيم. ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى شهر ربيع الأوّل. ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب كل قبة أربع طبقات أو خمس، ويكون عدد القباب عشرين قبة، وأكبرها قبة له والباقى (¬3) للأمراء وأعيان الدولة، لكل واحد قبة. فإذا كان أول صفر زينوا (¬4) تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، وقعد في كل قبة جوق من المغانى، وجوق من أرباب الخيال، وفى كل طبقة من طبقات تلك القباب يكون فيها جوق. وتبطل معايش الناس في تلك المدة كلها، ولا يبقى للناس شغل إلا التفرج والدوران على تلك القباب. وكانت القباب تنصب من حدّ باب القلعة إلى باب الخانقاة المجاورة للميدان. وينزل مظفر الدين كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة قبة إلى آخرها، ويسمع غناء المغانى، ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب. ثم يبيت في الخانقاة بعد الفراغ (¬5)، ويركب عقيب صلاة الصبح ¬

(¬1) المصانع هنا بمعنى ما يصنعه الناس من الآبار، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 10، ص 79. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) في المخطوطة «البواقى»، والصيغة المثبتة من ابن خلكان، ج 1، ص 437. (¬4) في المخطوطة «بنوا» والصيغة المثبتة من ابن خلكان (نفس الجزء والصفحة). (¬5) كذا في المخطوطة وفى ابن خلكان (ج 1، ص 437) ورد «ثم يبيت في الخانقاه ويعمل السماع فيها».

ويتصيد، ثم يرجع إلى القلعة بعد الظهر (¬1)، هكذا يفعل في كل يوم إلى ليلة المولد (¬2). وكان يعمله سنة في ثامن الشهر، وسنة في ثانى عشره، لأجل الخلاف الذى وقع فيه. فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئا عظيما يجل عن الوصف، وزفّها بجميع ما عنده من الطبول والمغانى، حتى يؤتى بها إلى الميدان، ثم يشرع في نحرها وتنصب القدور، ويطبخ الطباخون الألوان المختلفة. وإذا كانت ليلة المولد (¬3) عملت السماعات بعد أن يصلى المغرب في القلعة، [180 ب] ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة (¬4) شىء كثير، وفى جملتها شمعتان أو أكثر (¬5). قال [ابن خلكان (¬6)]: أشك في ذلك من الشموع الموكبية (¬7) التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها، وهى مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهى إلى الخانقاة. فإذا كان صبيحة ليلة المولد أنزل الخلع من القلعة [إلى الخانقاة (¬8)] على أيدى الصوفية، على يد كل شخص منهم بقجه، وهم متتابعون كل واحد وراء الآخر، فينزل من ذلك شىء كثير لا يحصى عدده. ثم ينزل مظفر الدين إلى الخانقاة، ¬

(¬1) كذا في المخطوطة، وفى ابن خلكان (نفس الجزء والصفحة) «قبل الظهر». (¬2) في المخطوطة «ليلة الميلاد»، والصيغة المثبتة من ابن خلكان. (¬3) في المخطوطة «ليلة الميلاد»، والصيغة المثبتة من ابن خلكان. (¬4) في المخطوطة «المشعلة» والصيغة المثبتة من ابن خلكان (ج 1، ص 437). (¬5) كذا في المخطوطة، وفى ابن خلكان «شمعتان أو أربع». (¬6) ما بين الحاصرتين للتوضيح، انظر ابن خلكان (ج 1، ص 437). (¬7) ذكر المقريزى (الخطط، ج 2، ص 96) عند حديثه عن سوق الشماعين بالقاهرة أن الواحدة من الشموع الموكبية كانت تزن عشرة أرطال، ومن الشمع ما كان يحمل على العجل ويبلغ وزن الواحدة منها قنطار. (¬8) ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن خلكان (ج 1 ص 437).

ويجتمع به الأعيان والأكابر وطائفة كبيرة من بياض البلد. وينصب كرسى الوعظ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذى فيه الناس وكرسى الوعظ، وشبابيك أخر للبرج أيضا إلى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع. ويجتمع فيه الجند، ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند، وتارة ينظر إلى مجلس الوعظ. ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم. وعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطا عاما عظيما (¬1). ويمد سماط آخر في الخانقاه للمجتمعين عند كرسى الوعظ. وفى مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحد واحد من (¬2) الأعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم، ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، فيخلع على كل واحد منهم ويعاد إلى مكانه. فإذا تكامل ذلك كله حضروا السماط، وحمل من يعتاد الحمل إلى داره. (¬3) ولا يزالون كذلك إلى العصر أو بعدها. ويبيت تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة، هكذا يعمل في كل سنة. وإذا فرغ هذا الموسم تجهزوا للانصراف إلى بلدانهم (¬4)، فيدفع إلى كل شخص شىء من النفقة. وممن وفد إليه من العلماء الشيخ الحافظ أبو الخطاب عمر بن الحسن المعروف بابن دحية المحدث (¬5) - وسيأتى ذكره فيما يأتى إن شاء الله تعالى - فأكرمه إكراما ¬

(¬1) كذا في المخطوطة وفى ابن خلكان (ج 1، ص 437) «ويكون سماطا عاما فيه من الطعام والخبز شىء كثير لا يحد ولا يوصف». (¬2) كذا في المخطوطة وفى ابن خلكان «يطلب واحدا واحدا». (¬3) أي حملوا من طعام السماط وفى ابن خلكان (وفيات، ج 1، ص 437) «وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره» والصيغة المثبتة من المخطوطة. (¬4) كذا في المتن وفى ابن خلكان «تجهز كل انسان للعود إلى بلده». (¬5) انظر ما سبق ص 52 حاشية 2.

عظيما. ولما رأى غرام مظفر الدين لمولد النبى، صلى الله عليه وسلم، صنف له كتابا سماه (التنوير في مولد السراج المنير) وقرأه [181 ا] على مظفر الدين بنفسه. قال القاضى شمس الدين [أحمد بن خلكان (¬1)]: وسمعناه على مظفر الدين في ست مجالس، وختم الحافظ بن دحيه هذا الكتاب بقصيدة أولها: لولا الوشاة وهم ... أعداؤنا ما وهموا فدفع الملك المعظم [مظفر الدين كوكبورى] (¬2) إلى الحافظ بن دحيه ألف دينار. وذكر القاضى شمس الدين أن هذه القصيدة في ديوان الأسعد بن مماتى المصرى (¬3). قال القاضى شمس الدين [ابن خلكان (¬4)]: وكان مظفر الدين إذا استطاب شيئا من الطعام لا يختص به، بل إذا أكل من زبدية منه لقمة [طيبة (¬5)] قال لبعض الجاندارية: «احمل هذه إلى الشيخ فلان أو فلانة» ممن هم عنده مشهورون بالصلاح. وكذلك كان يعمل في الحلوى والفاكهة وغير ذلك من المطاعم [والمشارب والكساء (¬6)]. وكان حسن الأخلاق، كثير التواضع، حسن العقيدة، سالم الطوية (¬7)، شديد الميل إلى أهل السنة والجماعة، لا ينفق عنده من أرباب العلوم سوى الفقهاء والمحدثين، ومن عداهم لا يعطيه شيئا إلا تكلفا. وكذلك الشعراء لا يقول ¬

(¬1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) ذكر ابن خلكان (وفيات، ج 1 ص 69) عند ترجمته الأسعد بن مماتى أنه قرأ هذه القصيدة في مجموعة منسوبة إلى ابن مماتى. (¬4) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬5) ما بين الحاصرتين من ابن خلكان، ج 1، ص 437. (¬6) ما بين الحاصرتين من ابن خلكان، ج 1، ص 437. (¬7) في ابن خلكان (نفس الجزء والصفحة) «سالم البطانة» والصيغة المثبتة من المخطوطة.

بهم، ولا يعطيهم إلا إذا قصدوه فما كان يضيع قصدهم. وكان يميل إلى علم التاريخ، وعلى خاطره شىء يذاكر به (¬1). ولم يزل مؤيدا في مواقفه ومصافاته (¬2) مع كثرتها، لم ينقل أنه انكسر في مصاف قط. قال شمس الدين: ولم أذكر عنه شيئا على سبيل المبالغة بل كل ما ذكرته عن مشاهدة وعيان، وربما (¬3) حذفت بعضه طلبا للإيجاز. قال: وكانت ولادته بقلعة الموصل ليلة الثلاثاء السابعة والعشرين من المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفى - رحمه الله - وقت الظهر يوم الأربعاء ثامن عشر شهر رمضان سنة ثلاثين وستمائة بداره التي كانت لمملوكه (¬4) شهاب الدين قرطايا (¬5) لما قبض عليه سنة أربع عشرة وستمائة أخذها وصار يسكنها بعض الأوقات. ثم نقل إلى قلعة أربل ودفن بها، ثم حمل بوصية منه إلى مكة (¬6) [181 ب]- شرفها الله تعالى - وكان قد أعدّ له بها قبة تحت جبل عرفات في ذيله ليدفن بها. فلما توجه الركب إلى الحجاز سنة إحدى وثلاثين وستمائة سيروه في الصحبة. واتفق رجوع الحجاج قبل أن يصلوا إلى مكة بسبب حادثة لينة (¬7). قلت: وهى التي سنذكرها في حوادث تلك السنة، فردوه ودفنوه بالكوفة بالقرب من مشهد أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه. ¬

(¬1) في المخطوطة «تذاكر به» ولعله تصحيف، والصيغة المثبتة من ابن خلكان، ج 1، ص 437. (¬2) في المخطوطة «ومصفاته». (¬3) في المخطوطة «وإنما» والصيغة المثبتة من ابن خلكان (ج 1، ص 438). (¬4) كذا في المتن وفى ابن خلكان (وفيات ج 1، ص 438) «بداره في البلدة التي كانت لمملوكه». (¬5) كذا في المخطوطة بينما وورد الاسم في ابن خلكان (نفس الجزء والصفحة) «شهاب الدين قراطا». (¬6) الكلمة مكررة في المتن. (¬7) لينة موضع في بلاد نجد وهو المنزل الرابع لقاصد مكة من واسط، انظر ياقوت (معجم البلدان).

وتوفيت زوجته الخاتون ربيعة بنت أيوب، أخت الملك العادل - رحمهما الله - في شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة. قال [ابن خلكان (¬1)]: وغالب ظنى أنها جاوزت ثمانين سنة، وأدركت من محارمها الملوك من أخوتها وأولادهم وأولاد أولادهم أكثر من خمسين ملكا، غير محارمها (¬2) من غير الملوك. كانت أربل لزوجها المذكور، والموصل لولدى بنتها (¬3) اللذين تغلب عليهم بدر الدين لؤلؤ وأبوهما وعمهما؛ أعنى الملك القاهر وعماد الدين زنكى صهراها، والملك الأشرف صاحب خلاط وبلاد الشرق ابن أخيها، والملك الظاهر وابنه الملك العزيز ابنا (¬4) أخيها، والملك المنصور وأبناه الملك الناصر والملك المظفر من ذرية أخيها، والملك الأمجد صاحب بعلبك ابن ابن أخيها، والملك المعظم وابنه الملك الناصر داود صاحبا دمشق والملك العزيز صاحب بانياس وولداه أولاد أخيها، والملك الكامل وأولاده الملك العادل والملك الصالح والملك المنصور أصحاب مصر واليمن أولاد أخيها، وغير هؤلاء ممن لم نذكرهم. قلت: وكان مظفر الدين مع ما ذكرنا فيه ظلم وعسف على رعيته، والحاح في استخراج الأموال، وأحدث مكوسا ومظالم. وقد حكى لى من ذلك شىء كثير فكرهت ذكره - رحمه الله وعفا عنه (¬5). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) في المتن «ومحمارمها» والصيغة المثبتة من ابن خلكان (ج 1، ص 448). (¬3) السطور التالية حتى نهاية الخبر وردت في ابن خلكان في صيغة مختلفة انظر (وفيات، ج 1، ص 438. (¬4) كذا في المخطوطة. (¬5) نهاية الجزء الساقط من نسخة س، انظر ما سبق، ص 52 حاشية 6.

ذكر استيلاء الملك العزيز [بن السلطان الملك الظاهر] صاحب حلب على شيزر

ذكر استيلاء الملك العزيز [بن السلطان الملك الظاهر (¬1)] صاحب حلب على شيزر كانت شيزر بيد الأمير شهاب الدين يوسف بن عز الدين مسعود [182 ا] ابن سابق الدين عثمان بن الداية، وقد كنا ذكرنا فيما سلف أن سابق الدين هذا كان هو وأخوته شمس الدين وبدر الدين [ومجد الدين أولاد الدايه (¬2)] عظماء الدولة النورية، وكانت بأيديهم الإقطاعات الجليلة، وكانوا هم القائمين بأعباء دولة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى - رحمه الله. ثم كنا ذكرنا أنه (¬3) بعد وفاة نور الدين - رحمه الله - وملك ولده الملك الصالح اسماعيل أنه اعتقل [المدبرون لدولة الملك الصالح (¬4)] شمس الدين وسابق الدين بحلب، وأن الملك الناصر صلاح الدين - رحمه الله - أنكر على مقدمى الملك الصالح (¬5) ذلك، وجعل ذلك (¬6) ذريعة إلى قصد الشام [وخلصهما (¬7)]، وجرى ما ذكرناه (¬8) من تملكه الشام. ثم أنه اتصل الأمير سابق الدين بخدمة الملك الناصر [صلاح الدين (¬9)] ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة م، وورد بدلها في نسخة س «كانوا». (¬3) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 2، ص 10 - 11. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬5) في نسخة س «على المقدمين من أصحاب الملك الصالح»، والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «وجعله» والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) في نسخة س «وجرى ما قدمنا ذكره» والصيغة المثبتة من نسخة م، وانظر ما سبق، ابن واصل، ج 2 ص 17 - 21. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

وكانت شيزر إقطاعا له في الأيام النورية وأقره عليها (¬1)، فبقيت في يده. وزاده الملك الناصر حصن بوقبيس (¬2) بعد قتل صاحبه ناصح الدين خمارتكين. ولم يزل هذا الإقطاع في يده إلى أن مات بعد موت (¬3) الملك الناصر صلاح الدين، وصار بعده لولده عز الدين (¬4) مسعود واستمر في يده، وكان مضافا إلى الملك الظاهر صاحب حلب. ثم مات عز الدين فصار الإقطاع المذكور إلى ولده شهاب الدين يوسف، واستمر على الإضافة إلى مملكة حلب. فلما كانت هذه السنة - أعنى سنة ثلاثين وستمائة - خرج الملك العزيز [ابن الملك الظاهر (¬5)] صاحب حلب لرمى البندق (¬6) في العمق وحارم (¬7)، ثم توجه إلى دركوش ثم إلى أفاميه (¬8)، فلم يحتفل به شهاب الدين [يوسف بن عز الدين مسعود ابن الداية (¬9)] صاحب شيزر، وسير أقامة يسيرة وهى شىء قليل من الشعير على حمير سخرها من بلد شيزر، فغضب من ذلك الملك العزيز [وبقى في قلبه منه (¬10)]. ¬

(¬1) في نسخة س «فأقر إقطاعه عليه» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬2) في نسخة س «أبو قبيس» والصيغة المثبتة من م وكلاهما صحيح، وأبو قبيس حصن في مقابلة شيزر، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬3) في نسخة س «وفاة» والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة م «لعز الدين» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬6) عن رمى البندق، انظر ما سبق ابن واصل ج 4، ص 164 حاشية 1. (¬7) في نسخة س «لرمى البندق إلى حارم» والصيغة المثبتة من نسخة م، والعمق كورة من نواحى حلب وحارم حصن حصين وكورة تجاه أنطاكية من أعمال حلب، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬8) دركوش حصن قرب أنطاكية، وأفاميه مدينة حصينة من سواحل الشام وكانت كورة من كور حمص، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬9) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م، وعقب ابن العديم (زيدة الحلب، ج 3 ص 214) على الحادث بقوله «فشقّ عليه ذلك».

ولما دخل إلى حلب سير الأمير سيف الدين على بن قلج إلى خاله السلطان الملك الكامل، يستأذنه في حصار شيزر وأخذها من شهاب الدين (¬1). وكان السلطان الملك الكامل بدمشق فقرر [سيف الدين (¬2)] مع السلطان [الملك الكامل (¬3)] الأمر على ما يختاره الملك العزيز. فسير سيف الدين إلى الملك العزيز يعلمه بذلك، فحينئذ أخرج الملك العزيز عسكر حلب والزردخاناه (¬4)، وسار إلى شيزر بعد أن وصل إليه سيف الدين بن قلج [182 ب]، ونصب عليها المجانيق (¬5) من جهة الجبل وهو شرقيها، ونصب المنجنيق المغربى (¬6) قبالة بابها. وأرسل السلطان الملك الكامل إلى الملك العزيز نجابين، ومعهما خمسة آلاف دينار مصرية، ليستخدم بها رجالة، يستعين بهم على الحصار. [وقدم نجدة للملك العزيز ابن خالته الملك المظفر صاحب حماة ومساعدا ومعاضدا. واحتيط على ما في رستاق شيزر من المغلات (¬7)]. وسير الملك العزيز إلى شهاب الدين صاحب شيزر يقول له: «والله لئن قتل واحد من أصحابى لأشنقنك بدله، فتقدم شهاب الدين إلى الجرخيه (¬8) الذين بالقلعة أن لا يرمى أحد منهم بسهم، وأسقط ¬

(¬1) في نسخة م «منه» والصيغة المثبتة من س. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 214. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) عن الزردخاناه أي خزانة السلاح، انظر ما سبق ابن واصل، ج 2 ص 357 حاشية 4. (¬5) في نسخة س «المناجنيق» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «الغربى»، والصيغة المثبتة من نسخة م ومن ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 215. (¬7) ورد ما بين الحاصرتين مختصرا في نسخة س والصيغة المثبتة من م. (¬8) جمع جرخى أي رامى الجرخ وهى آلة حربية كانت تستعمل لرمى السهام والنفوط والحجارة، انظر: محيط المحيط؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 1003 حاشية 1؛ Dozy : Supp. Dict. Ar, Vol. I, P. 182. .

في يده (¬1)، وخاف خوفا شديدا. وأرسل إلى الملك العزيز يبذل له تسليمها وتسليم بوقبيس (¬2)، على أن يبقى عليه أمواله التي بشيزر، ويحلف له على أملاكه التي بحلب. [فامتنع أن يجيبه إلى ذلك إلا بشرط أن يقرر عليه جملة كثيرة من المال، حكى لى أنها مائة ألف دينار، فنزل إلى خدمته ونادمه. وكان شهاب الدين - على ما حكى لى - يعانى اللعب بالجغانة (¬3)، فأمره الملك العزيز أن يلعب بها بين يديه ففعل، فأطلق له الملك العزيز ما كان ألزمه أياه من المال، وأذن له في حمل أمواله معه إلى حلب وأبقاها جميعها عليه، ووفى له بأبقاء أملاكه بحلب عليه. وصعد الملك العزيز إلى قلعة شيزر وأقام بها ثم رحل إلى حلب (¬4)]. ولما فتحت شيزر هنأ شهاب الدين يحيى بن موفق الدين خالد بن القيسرانى (¬5) - كاتب الأنشاء - الملك العزيز بفتح شيزر بقوله (¬6): يا مالكا عم أهل الأرض نائله ... وخص أحسانه الدانى مع القاصى لما رأت شيزر رايات نصرك في ... أرجائها ألقت العاصى إلى العاصى ¬

(¬1) في نسخة س «وقد سقط في يده» والصيغة المثبتة من م، انظر أيضا ابن العديم، ج 3، ص 215. (¬2) في نسخة س «أبو قبيس»، والصيغة المثبتة من م وكلاهما صحيح. (¬3) الجغانة اسم آلة موسيقية، انظر Dozy, Supp. Dict. Ar, I, P.199. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد بدلها في نسخة س «فأجابه إلى ذلك. ونزل شهاب الدين من شيزر إلى خدمة الملك العزيز، ووفى له الملك العزيز بما شرطه عليه، وصعد إلى القلعة فأقام بها أياما، ثم رحل إلى حلب ومعه شهاب الدين فأقام بحلب إلى أن مات». (¬5) والده هو الوزير موفق الدين خالد بن محمد القيسرانى خال السلطان نور الدين محمود، أرسله نور الدين سنة 568 هـ‍ إلى مصر بعد أن كثرت الإشاعات بخروج صلاح الدين على الدولة النورية لعمل حساب البلاد المصرية وكشف أحوالها واختبار طاعة صلاح الدين؛ انظر المقريزى، السلوك، ج 1، ص 51 - 52، 54؛ حسنين ربيع، النظم المالية، ص 60. (¬6) في نسخة س «ولما فتحت شيزر هنأ شهاب الدين صاحب ديوان انشائه يحيى بن موفق الدين خالد بن القيسرانى الملك العزيز صاحب حلب بقوله» والصيغة المثبتة من نسخة م.

ذكر استيلاء الملك المظفر صاحب حماة على [حصن] بعرين وانتزاعها من أخيه الملك الناصر [قلج أرسلان]

ذكر استيلاء الملك المظفر صاحب حماة على [حصن (¬1)] بعرين وانتزاعها من أخيه الملك الناصر [قلج أرسلان (¬2)] كنا قد ذكرنا (¬3) أن الملك المظفر لما تسلم حماة تقدم إليه الملك الكامل أن يسلم بعرين إلى أخيه الملك الناصر قلج أرسلان، فسلمها إليه فبقيت في يده [183 ا] إلى هذه الغاية. ثم أنه (¬4) بعد أن فتح السلطان الملك الكامل آمد طلب منه الملك المظفر الإذن في أن يقصد بعرين وينتزعها من أخيه الملك الناصر، واعتذر إليه بأنه يخاف إن تركها في يده أن يقصدها الفرنج لأنهم جيرانها، فيأخذوها منه لضعفه عن حمايتها، فيقوى الضرر بذلك على المسلمين؛ فأن بعرين تجاور حصن الأكراد وصافيتا، ولهم عليها قطيعة، وهم في كل وقت يقصدونها، وبعض قراياها (¬5) بين المسلمين والفرنج مناصفة، فأذن له السلطان [الملك الكامل (¬6)] في ذلك. فقصدها الملك المظفر في هذه السنة - أعنى سنة ثلاثين وستمائة، ونازلها بعسكره بعد أن بعث إلى أخيه يأمره بالنزول عنها، وأن يسلمها إليه، ويتهدده إن لم يجبه إلى ذلك، فلم يلتفت وأصر على العصيان والامتناع. ولما نازلها الملك المظفر زحف عليها، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م انظر أيضا، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 244. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م انظر أيضا، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 244. (¬3) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 273 والسطور التالية وردت في نسخة س مع بعض التقديم والتأخير، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة س «ولما كانت هذه السنة، وهى سنة ثلاثين وستمائة. . .»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬5) في نسخة س «قراها»، والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

فأذعن حينئذ الملك الناصر إلى التسليم فسلمها إليه، ونزل إلى خدمته، واجتمع به، فطلب الملك المظفر منه أن يقيم عنده ويعطيه [من الأقطاع (¬1)] ما يقوم به، فامتنع [من ذلك (¬2)] وسار إلى الديار المصرية، فبذل له خاله السلطان الملك الكامل خبزا بالديار المصرية يقوم بمائتى فارس (¬3)، وأن يسلم إليه أملاك والده بمصر والغور. فحكى لى (¬4) أنه نزل إليه فلك الدين المسيرى (¬5) من عند السلطان وعرض عليه ما قال السلطان فغضب وقال: «لا والله، لا أرضى إلا بعود بلادى إلىّ»، وأراد عليها شيئا آخر. فرجع فلك الدين بهذا الجواب إلى السلطان، فعلم السلطان أنه قد اختل واضطرب مزاجه، فاعتقله بقلعة الجبل. ولم يزل معتقلا إلى أن مات سنة خمس وثلاثين وستمائة قبل موت السلطان الملك الكامل بأيام. ودفن في تربة الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين تور انشاه بن أيوب - رحمه الله - خارج باب النصر. وورد كتاب السلطان الملك الكامل إلى الملك المظفر يخبره بموت أخيه، ويعزيه به، وفى الكتاب أنه ملك تسعا واعتقل تسعا (5). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخه س وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخه س وساقط من م. (¬3) في نسخة س «خبز مائتى فارس»، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) ورد هذا الخبر مختصرا في نسخة س، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة م «فلك الدين السرى» بدون تنقيط ولم يرد الإسم في نسخة س، ولعل الصيغة المثبتة هى الصحيحة، إذ المعروف أن فلك الدين عبد الرحمن المسيرى كان من كبار موظفى السلطان الكامل وتولى منصب الوزارة زمن السلطان العادل الثانى بن الكامل؛ انظر: المقريزى، الخطط، ج 2 ص 51؛ السلوك، ج 1 ص 274، وحاشية 1؛ ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 229.

ولما (¬1) ملك الملك المظفر بعرين، مدحه الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد (¬2) وهنّاه بما تيسر له من هذا الفتح بقصيدة مطلعها: يوم نصرت به العلياء والجودا ... وساعة غادرت صيدا لك الصيدا وموقف سؤت كل الحاسدين به ... كما سررت به عدلا وتوحيدا أنطقت بالفتح أعواد الوشيج وما ... أحللت (¬3) من ذكره من منبر عودا لولاك ما شدّ أزر المسلمين كما ... بنيان عزّهم لولاك ما شيدا بادرت «بارين (¬4)» إذ بارت رعيتها ... جهدا وغودر عنها الأمن مطرودا واستبطأت منك وعدا لا تخاف له ... خلفا فأنجزتها تلك (¬5) المواعيدا بكرت مفترعا بالسيف عذرتها ... من دون كل الورى حيّا ومولودا لم تطلع الشمس قيد الرمح (¬6) ضاحية ... حتى غدا إرثك الممنوع مردودا ولا انقضى يومها حتى دلفت لها ... مصرفا أمرها: عزلا وتقليدا فأصبحت كحماة في حمى ملك ... بالعدل يجمع فيها الشاء والسيدا (¬7) ¬

(¬1) وردت الجملة التالية في صيغة مختلفة في نسخة س، والصيغة المثبتة من م. (¬2) هو العلامة الأديب الشاعر شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد الحموى المعروف بابن قاضى حماه. ولد في دمشق سنة 586 هـ‍، وتعلم على شيوخ عصره وبرع في العلم والأدب، وسكن حماه. وكان صدرا كبيرا نبيلا فصيحا، جيد الشعر وله في لزوم ما لا يلزم مجلدا كبيرا، وتوفى سنة 662 هـ‍، انظر: أبو المحاسن، المنهل الصافى، ترجمة عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن؛ الكتبى، فوات الوفيات، ج 1، ص 598 - 607؛ الزركلى، الأعلام، ج 4 ص 151. (¬3) في نسخة س «وما أحليت» ولعله تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬4) بارين أي بعرين وهى بليدة بين حمص والساحل، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬5) في نسخة س «منك»؛ والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «الصبح» والصيغة المثبتة من م وهى أبلغ. (¬7) المقصود بالسيد الذئب، انظر لسان العرب، ج 4، ص 217.

ألهى شقيقك عن إلف (¬1) الشقاق بها ... رنات (¬2) بيض حكت (¬3) في الهام تغريدا لم ينه إصراره حتى بذلت له ... طعنا دراكا وضربات أخاديدا ارجأته مدة الأسبوع ترشده ... عدلا وتوسعه لوما وتهديدا حتى إذا قعد الرأى السديد به ... وعاد عنه سبيل الرشد مسدودا صبّحت أشياعه فيها بصاعقة ... تخرّمت والدا منهم ومولودا أبقى خميسك يوم الأربعاء به ... ما حلّ فيه بعاد إذ عصوا هودا أظمأته (¬4) بظبى كالنار مشعلة ... فروّه ورد أمن منك مورودا قد كان بالخوف مصفودا فغادره ... بدل الأمان له بالعفو مصفودا ألقى مقاليده في كف ذى لبد ... لو ساور الدهر أعطاه المقاليدا أكذبت ماظنه من سلب مهجته ... منه وصدقت من سمّاك محمودا كم رام صدّك عما جئت طالبه ... جهلا، متى كنت عمارمت مصدودا؟ أيوم (¬5) دمياط إذرعت الفرنج بما ... أبقى ثناءك (¬6) اذ لم (¬7) تبق مقصودا أم يوم أفيون (¬8) إذ بددت جمعهم ... وقد أتوا في لهام يملأ البيدا ¬

(¬1) في نسخة س «انف» ولعله تحريف والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «ومات» ولعله تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة م «حلب» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬4) في نسخة س «اطماته» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «كيوم» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «بما أبغى مال» وهو تحريف، وفى نسخة م «بما أبقى ثناك» وهى الصيغة المثبتة والصحيحة. (¬7) في نسخة س «إذا»، والصيغة المثبتة من م. (¬8) بلدة ببلاد الروم ما زالت قائمة بالأناضول عرفت بهذا الاسم لكثرة ما يزرع فيها من الأفيون، وكانت تعرف باسم قرا حصار، ويلاحظ أن اسم قرا حصار أطلق على أماكن كثيرة أغلبها في بلاد الروم؛ انظر، ياقوت، معجم البلدان، ج 4، ص 44 (قرا حصار)، لسترج، بلدان الخلافة الشرقية، ص 185.

أم يوم آمد إذ زاحفتها (¬1) عجلا ... مصادما بالجلاميد البلاميدا وقائع عجزت عن وصفها فطن ال‍ ... ـورى وإن أكثروا فيها الأسانيدا (¬2) عمرى: لقد خص هذا الفتح جانبنا ... وعمّ إقليمنا أمنا وتمهيدا حتى لقد عاد يوم الأربعاء لنا ... مثل العروبة (¬3) في أسبوعنا عيدا لا زلت تفدى لمن (¬4) جاوزت رتبته ... كيما يخلدك الرحمن تخليدا ودام قولى في مدحيك (¬5) مشتهرا ... ودام فعلك يا محمود محمودا ¬

(¬1) في نسخة س «راجفتها»، والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «وإن أكثروا الأناشيدها» وبها يختل الوزن، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م. (¬3) في نسخة س «العروسة» وهو تحريف، والصيغة المثبتة الصحيحة من نسخة م والمقصود بالعروبة يوم الجمعة، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 3 ص 82. (¬4) في نسخة س «بما» والصيغة المثبتة من م. (¬5) أي مدحى لك.

ودخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة

ودخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة (*) والسلطان الملك الكامل مقيم بالديار المصرية، وعنده ابن أخيه الملك (¬1) الناصر داود بن الملك المعظم [نازل بدار الوزارة (¬2)، وحصل له مرض شديد، ثم أبلّ منه. ووصل إلينا كتابه وأنا مقيم بالكرك في خدمته، وإنعامه الغزير متصل به يبشر بما منّ الله سبحانه عليه من العافية بعد أن كان به حمى حادة داخل العروق قارب فيها التلف، فشكرنا الله سبحانه على ما منّ به من عافيته (¬3)]. والملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل ببلاد الشرق (¬4)، وأتابكه الأمير شمس الدين صواب [العادلى (¬5)] وهو الحاكم في البلاد الشرقية [والمتصرف فيها] (¬6) عن السلطان الملك الكامل. ذكر وفاة الأتابك شهاب الدين طغريل رحمه الله [واتفق مرض الأتابك شهاب الدين طغريل في السنة الماضية، ودام مرضه إلى أن توفى (¬7)] ليلة الإثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم من هذه السنة. فحضر ¬

(*) يوافق أولها 7 اكتوبر سنة 1233 ميلادية. (¬1) في نسخة س «السلطان الملك» والصيغة المثبتة من م. (¬2) دار الوزارة أنشأها الأفضل بن بدر الجمالى واستقر بها صلاح الدين والأيوبيون من بعده وصاروا يسمونها الدار السلطانية، انظر ما سبق ابن واصل ج 1 ص 164 حاشية 1. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬4) في نسخة م «بالشرق» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س كما يلى «وكانت وفاته بحلب. . .» والصيغة المثبتة من نسخة م.

السلطان الملك العزيز [صاحب حلب (¬1)]- رحمه الله - جنازته في صبيحة الليلة المذكورة. ومشى خلف جنازته من داره إلى أن صلى عليه خارج باب الأربعين (¬2). ودفن في تربته التي بناها (¬3) ووقفها مدرسة على مذهب (¬4) الإمام أبى حنيفة - رحمه الله. وبكى الملك العزيز بكاء عظيما. ثم حضر عزاءه يومين بالمدرسة السلطانية التي أنشأها الأتابك تحت القلعة، وجعل فيها تربة السلطان الملك الظاهر [غياث الدين غازى] (¬5) - رحمه الله. وكان (¬6) - رحمه الله - صالحا عادلا، كثير المعروف. وحافظ على مملكة ولد أستاذه الملك الظاهر من حين مات الملك الظاهر، و [عمر (¬7)] الملك العزيز سنتان وكسر، إلى أن جاوز الملك العزيز عشرين سنة واستقل بالملك. وكان خصيا روميا شاهدته وأنا بحلب، وأنا على باب المدرسة السلطانية، وهو على برج من أبراج القلعة. وكان قد وقع منها في تلك السنة عدة أبراج، ولم يزل مهتما بها إلى أن نجزت، رحمه الله، وجازاه عن قيامه بدولة أستاذه أحسن الجزاء. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) باب الأربعين من أبواب حلب القديمة، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 216 حاشية 1؛ وانظر أيضا سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 453. (¬3) ورد في ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة) أنه أنشأها بتل قيقان، ومن المعروف أن تل قيقان بظاهر حلب. (¬4) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم «أصحاب». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) السطور التالية حتى نهاية الخبر وردت في هامش نسخة م وساقطة من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

ذكر مسير السلطان الملك الكامل من الديار المصرية لقصد الدخول إلى مملكة الروم

ذكر مسير السلطان الملك الكامل من الديار المصرية لقصد الدخول إلى مملكة الروم وكان السبب في خروج السلطان الملك الكامل من الديار المصرية في هذه السنة [184 ب] أن السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو صاحب بلاد الروم قصد ولاية خلاط (¬1) وتعرض لأخذها (¬2)، فاتفق رأى السلطان الملك الكامل وأخيه الملك الأشرف على قصده وانتزاع البلاد [الرومية (¬3)] التي في يده منه. فخرج السلطان الملك الكامل من مصر في عساكره المتوافرة، [وتوجه الملك الناصر من مصر إلى الكرك لترتيب أموره وتهيئته لأسباب الحركة. ووصلت أنا بعد سفره إلى دمشق من الكرك، فشاهدت يوم وصولى إليها وصول العساكر المصرية وهم في أحسن تجمل وزى (¬4)]. وخرج أهل دمشق للتفرج عليهم وكان يوما مشهودا. ثم رحل السلطان الملك الكامل من دمشق بالعساكر العظيمة قاصدا بلاد الروم، فنزل شمالى سلميه بالقرب من شميميش (¬5) وهى القلعة التي أنشأها الملك المجاهد صاحب حمص. واجتمعت بالملك الناصر - رحمه الله - في تلك المنزلة، فأخذت منه دستور الأقيم بوطنى، وفارقته في تلك المنزلة على كره منه لذلك (¬6). وشاهدت ¬

(¬1) في نسخة س «أخلاط» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «وتعرض لها حتى يأخذها» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ورد ما بين الحاصرتين مختصرا في نسخة م، والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) وردت في نسختى المخطوطة «سميميس» والصيغة المثبتة من المقريزى، السلوك، ج 1، ص 446، وابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 234، وهى إحدى بلاد كورة حمص. (¬6) وردت هذه الجملة في نسخة س «وكنت أنا مع الملك الناصر داود فاستأذنته في العود إلى وطنى ونحن بسلمية فأذن لى بالكره منه»، والصيغة المثبتة من نسخة م.

من عظمة العساكر وكثرتها يومئذ ما غلب على ظنى أنه لم يجتمع مثله في الأعصار القريبة من الملك من الملوك. وكان نزول العساكر بسلميه في شهر رمضان من هذه السنة، [ووصلت أنا إلى حماه (¬1)]. ثم رحل السلطان بالعساكر ونزل بمنبج، وهى من بلاد الملك العزيز صاحب حلب، بعد أن استأذن الملك العزيز في ذلك، فأذن له وسير إليه الملك العزيز الأقامه الكثيرة والزردخاناة. وسير إليه عسكر حلب نجدة. وقدم عليهم عمه الملك المعظم فخر الدين تورانشاه بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين. ثم سار (¬2) السلطان الملك الكامل من جهة تل باشر، فوصل إلى خدمته ابن عمه الملك الزاهر مجير الدين داود بن الملك الناصر صلاح الدين صاحب البيرة وأخوه الملك المفضل موسى صاحب سميساط وابن أخيهما الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر صاحب عين تاب. ووصل أيضا إليه الملك المظفر شهاب الدين غازى ابن الملك العادل صاحب ميافارقين وأخوه الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه (¬3) ابن الملك العادل صاحب قلعة جعبر [وغيرهم] (¬4). فذكر لى أنه كان في معسكر السلطان الملك الكامل (¬5) ستة عشر دهليزا لستة عشر ملكا [185 أ] لم يجتمع مثلهم (¬6) لملك قبل الملك الكامل؛ منهم الذين عددنا الآن ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) في نسخة س «سافر» والصيغة المثبتة من نسخة م انظر أيضا ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 217. (¬3) في نسخة م «رسلان شاه» والصيغة المثبتة من نسخة س (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) في نسخة م «الملك العادل» وهو تصحيف وورد في نسخة س «فاجتمع في العسكر الكاملى ستة عشر دهليزا»، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 217؛ وورد في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 248) «فسار وقد سار معه ستة عشر دهليزا لستة عشر ملكا، وقيل بل كانوا ثمانية عشر ملكا». (¬6) في نسخة س «قبلهم» والصيغة المثبتة من م.

ومنهم السلطان الملك الأشرف [بن الملك العادل (¬1)] وأخوه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل. [وكان أخوهما الملك العزيز قد توفى في سنة ثلاثين وستمائة (¬2)، وملك بانياس وبلادها ولده الملك الظاهر. ثم توفى بعده بمدة يسيرة، وولى أخوه الملك السعيد بن الملك العزيز وهو طفل صغير، فأقرها السلطان الملك الكامل له. وكان في العسكر من الملوك السلطان الملك المظفر صاحب حماه، والملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص، والسلطان الملك الناصر داود بن الملك المعظم بن الملك العادل صاحب الكرك. وبالجملة فكان عسكرا عظيما في كثرة رجاله وملوكه وتجملهم. لولا ما عرض على ما سنذكره إن شاء الله تعالى لم يتأخر فتح بلاد الروم ولا غيرها (¬3)]. وسير السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب بلاد الروم - لما تحقق قصد السلطان الملك الكامل له - إلى الملك العزيز صاحب حلب يقول له: «أنا راض بأن تمده (¬4) بالأجناد والرجال على أن لا تنزل إليه أبدا». وأعفى الملك الكامل الملك العزيز من النزول إليه. ورضى كل من السلطانين بفعله. ثم تقدم السلطان بعساكره (¬5) إلى جهة الدربند (¬6)، فوجد السلطان علاء الدين ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) عن وفاة الملك العزيز عثمان بن العادل، انظر سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 448 - 449. (¬3) ورد ما بين الحاصرتين مختصرا في نسخة م والصيغة المثبتة من س. (¬4) في نسخة س «بأن تمد الملك الكامل» والصيغة المثبتة من م، انظر أيضا ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 217. (¬5) في نسخة س «ثم تقدمت العساكر الكاملية» والصيغة المثبتة من م. (¬6) الدربند أو دربند شروان هى باب الأبواب وكانت مدينة على شاطئ بحر الخزر (قزوين) قرب تفليس، انظر ياقوت، (معجم البلدان)؛ البغدادى (مراصد الاطلاع).

[كيقباذ (¬1)] قد حفظ طرقاته (¬2) بالأجناد والرجال، وهى طرقات صعبة ضيقة جدا، يصعب سلوكها على العساكر. فنزل السلطان الملك الكامل على النهر الأزرق (¬3) وهو في أوائل بلد الروم. وجاءت عساكر السلطان علاء الدين حتى نزلوا قبلى مكان يقال له زلّى، بينها (¬4) وبين الدربند. وصعدت الرجاله الذين للروم (¬5) إلى فم (¬6) الدربند بالقرب من نور كغال (¬7)، وبنوا عليه (¬8) سورا وقاتلوا منه، ومنعوا أن تطلع عساكر الملك الكامل إليهم. وقلت الأفوات في عسكر الملك الكامل جدا (¬9). وانضاف إلى ذلك أنه نمى إلى السلطان الملك الأشرف والملك المجاهد صاحب حمص أن السلطان الملك الكامل ذكر في الباطن أنه إن ملك بلاد الروم نقل الملوك من أهل بيته إليها، وفرقها عليهم، وانفرد [هو (¬10)] بملك الشام مع الديار المصرية. فاستوحشا من ذلك وأطلعا ملوك أهل البيت الأيوبى عليه، فتغيرت (¬11) نيات الجميع وتخاذلوا ولم ينصحوا، إلا أن ذلك [لم يعلم عند الجمهور ذلك الوقت وإنما ظهر (¬12)] تأثيره فيما بعد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) في نسخة س «طرقات بلاده» والصيغة المثبتة من م. (¬3) النهر الأزرق، نهر بين بهسنا وحصن منصور كان يجرى في طرف بلاد الروم من جهة حلب، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬4) في نسخة م «بينه» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 217. (¬5) في نسخة س «رجالة الروم» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «فم» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م ومن ابن العديم، نفس المصدر والجزء والصفحة. (¬7) كذا في نسختى المخطوطة وكذلك في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 217) ولم نهتد إلى موقعها. (¬8) في نسخة س «عليهم» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م ومن ابن العديم. (¬9) كلمة «جدا» غير واردة في نسخة س ومثبتة في م. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬11) في نسخة س «فضعفت» والصيغة المثبتة من م (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في م «لم يشتهر وظهر».

ذكر رحيل السلطان الملك الكامل إلى السويداء ونزوله بها، وما جرى للملك المظفر صاحب حماة وبعض العسكر الكاملى بخرتبرت

ولما أحس [186 ب] الملك الكامل بتخاذلهم وعدم نصحهم، وكثرة الغلاء وعزة الأقوات، وامتناع الدربند بمن عليه من الرجال، رحل (¬1) بالعساكر إلى أطراف بلد بهسنا، ونزل على بحيرة اىرىىىـ (¬2). وجهز بعض الأمراء إلى حصن منصور فهدموه. ووصل إلى خدمته صاحب خرتبرت ودخل في طاعته، وأشار عليه بالدخول إلى بلاد الروم من جهة خرتبرت (¬3). ذكر رحيل السلطان الملك الكامل إلى السويداء ونزوله بها، وما جرى للملك المظفر صاحب حماة وبعض العسكر الكاملى بخرتبرت (¬4) ولما جرى ما ذكرناه من الذى أشار به صاحب خرتبرت على السلطان الملك الكامل، رحل بالعساكر وقطع الفرات من جسر العادل (¬5)، [وكان قطع العساكر له في أيام متعددة لكثرتهم (¬6)]. ثم سار [الملك الكامل (¬7)] إلى السويداء من بلد آمد فنزل بها، وتقدم إلى الملك المظفر صاحب حماه بأن (¬8) يستصحب معه ميمنة العسكر ويمضى بهم إلى خرتبرت. [وبعث معهم الأمير شمس الدين صواب ¬

(¬1) في نسخة س «خرج» والصيغة المثبتة من م. (¬2) بدون تنقيط في نسختى المخطوطة وكذلك في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 218) ولم يرد ذكرها في المصادر المتداولة. (¬3) في نسخة س «إلى بلد الروم من جهته» والصيغة المثبتة من م، ولعل صاحب خرتبرت هو الخضر بن إبراهيم الأرتقى عامل السلاجقة منذ سنة 631 هـ‍، انظر زامباور، ج 2، ص 344. (¬4) في نسخة س ورد «ذكر رحيل السلطان الملك الكامل نحو خرتبرت، وحصر الملك المظفر صاحب حماه فيها وخلاصه منها»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «جسر العادلى» والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد في س «فقطعوه في أيام كثيرة لكثرة العساكر». (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) في نسخة س «أن» والصيغة المثبتة من م.

العادلى (¬1)]. وكان عزمه أن يرحل [خلفه (¬2)] ببقية العسكر ليكون الدخول إلى بلاد الروم من تلك الجهة. [فرحل الملك المظفر وشمس الدين صواب ومن معهما من العسكر، وكانوا ألفين وخمس مائة فارس؛ فيهم الأمير فخر الدين البانياسى وهو من أجلّ الأمراء المصرية وغيره من الأمراء (¬3)]، فتوجهوا إلى ارقنين (¬4) ثم منها إلى البهرمان (¬5)، ثم منها إلى البحيرة الصغيرة، ثم منها إلى خرتبرت، فوصلوا إليها جرائد بغير خيم. ولما طلع الفجر أقبلت عساكر السلطان علاء الدين صاحب الروم في اثنى عشر ألف فارس (¬6) ومقدمهم القيمرى، وضربوا معهم مصافا. واستمر القتال بينهم من أول النهار إلى آخره، فانكسر عسكر الملك الكامل (¬7)، وظهر عسكر علاء الدين عليهم. ودخل الملك المظفر إلى قلعة خرتبرت مع صاحبها ومعهما شمس الدين صواب العادلى وفخر الدين البانياسى. ونزل باقى العسكر في ربض خرتبرت. وزحف (¬8) إليهم عسكر علاء الدين [186 ا] وهم في الربض (¬9)، فملكوه عنوة، وأسر أكثر من كان فيه من عسكر الملك الكامل. ورمى بعضهم بأنفسهم إلى باب القلعة، وعبروا إليها. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س، ومثبت في م. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س، ومثبت في م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد في نسخة س «فرحل الملك المظفر في ثلاثة آلاف وخمسمائة فارس وفيهم الأمير شمس الدين صواب العادلى نائب الملك الكامل بالشرق، وفخر الدين البانياسى وغيره من الأمراء». وورد في سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 453) «وتقدم صواب في خمسة ألف وقاتل». (¬4) ورد في ياقوت (معجم البلدان) أن أرقنين بلد بالروم غزاه سيف الدولة بن حمدان، وذكره أبو فراس في شعره. (¬5) كذا في نسخة م، وفى نسخة س «السهرمان» ولم يرد ذكرها في المصادر المتداولة. (¬6) في نسخة س «في أربعة عشر ألف فارس»، والصيغة المثبتة من م. (¬7) في نسخة س «فانكسر العسكر الكاملى» والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة س «فزحف» والصيغة المثبتة من م. (¬9) في نسخة س «وهجموا الربض» والصيغة المثبتة من م.

ذكر استيلاء السلطان علاء الدين [كيقباذ] [صاحب بلاد الروم] على خرتبرت وتخلص الملك المظفر [صاحب حماة منه]

ثم (¬1) وصل السلطان علاء الدين ومعه بقية عساكره وأحدقوا بقلعة خرتبرت، ونصبوا عليها تسعة عشر منجنيقا. ودام الحصار عليها أربعة وعشرين يوما. ووجد المحاصرون من قلة الماء وكثرة العطش ما لا يمكن وصفه. وعدم الزاد عندهم لقلة المؤن المدخرة بها؛ فإنه اجتمع في القلعة مع ذلك اثنا عشر ألف نفس من الأجناد والعوام. فأخرج الملك المظفر قريبا من نصفهم وضاق الأمر به وبمن معه جدا. وذكر أن جميع ما كان في القلعة من الغلة قريبا من خمس مائة مكوكا (¬2) بالحلبى، وكانت الذخائر قليلة جدا. ذكر استيلاء السلطان علاء الدين [كيقباذ (¬3)] [صاحب بلاد الروم (¬4)] على خرتبرت وتخلص الملك المظفر [صاحب حماة منه (¬5)] ولما رأى الملك المظفر ما هو فيه ومن معه من عساكر [السلطان (¬6)] الملك الكامل من الصائفة رأى المصلحة في طلب الأمان له ولمن معه [فراسل السلطان علاء الدين كيقباذ (¬7)] على لسان الأمير بهاء الدين بن ملكيشو (¬8) أحد أمراء السلطان ¬

(¬1) وردت السطور التالية إلى نهاية الخبر في قليل من التعديل في نسخة س، والصيغة المثبتة من م. (¬2) المكوك - وجمعه مكاكيك - مكيال للحبوب يسع صاعا ونصفا، انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 12 ص 381؛ القاموس المحيط. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد بدلها في نسخة س «مها». (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س، ومثبت في م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وفى م «فراسله». (¬8) في نسخة س «بهاء الدين مكورش» والصيغة المثبتة من نسخة م ومن ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 328.

الملك الكامل (¬1) في طلب الأمان وتسليم القلعة (¬2) إليه فأجاب [السلطان علاء الدين كيقباذ ملك الروم (¬3)] إلى ذلك. ودخل في الأمان صاحب خرتبرت أيضا فأمنهم علاء الدين على أنفسهم وأموالهم وأصحابهم، وحلف لهم على ذلك. فنزل الملك المظفر والأمراء الذين معه وأصحابهم (¬4) إلى مخيم علاء الدين [كيقباذ (¬5)] سلطان الروم. فتلقى علاء الدين الملك المظفر أحسن تلق (¬6)، ونادمه وخلع عليه، وقدم له تحفا جليلة. وتسلم علاء الدين خرتبرت وما معها من القلاع وكانت [سبع قلاع. وكان صاحبها (¬7)] من الملوك الأرتقية. والتزم له علاء الدين أن يسلم إليه عوضا عنها من بلاد الروم أقشهر (¬8) وغيرها، فلم يف له علاء الدين بما التزم [به (¬9)] وإنما عفا عن مهجته. وكان نزول الملك المظفر من قلعة خرتبرت يوم الأحد لسبع بقين [186 ب] من ذى القعدة من هذه السنة - أعنى سنة إحدى وثلاثين وستمائة. [وأقطع علاء الدين صاحب خرتبرت إقطاعا يقوم به، ورحل معه إلى بلده فأقام به عنده إلى أن مات (¬10)]. ¬

(¬1) في نسخة س «أحد الأمراء الكاملية» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «في تسليم القلعة إليه وأخذ الأمان»، والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «علاء الدين». (¬4) في نسخة س «وصاحب خرتبرت» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬6) في نسخة س «ملتقا» والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وورد بدلها في م «سبعة» وهو تصحيف. (¬8) أقشهر ويقال لها أقشار، ذكر أبو الفدا (تقويم البلدان، ص 383) نقلا عن ابن سعيد أنها كانت من أنزه المدن وبها بساتين كثيرة، وكانت على مسافة ثلاثة أيام من قونية. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م، وعن هذا الإقطاع انظر، ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 218.

ذكر استيحاش الملك الكامل من ابن أخيه الملك الناصر داود بن الملك المعظم

ورحل [الملك المظفر (¬1)] من معسكر علاء الدين [كيقباذ (¬2)] لخمس بقين من ذى القعدة بأصحابه وبمن بقى معه من العسكر [الكاملى (¬3)]، فوصل إلى السلطان الملك الكامل وهو نازل بالسويداء فعظم فرحه به واشتد سروره (¬4) بسلامته. ذكر استيحاش الملك الكامل من ابن أخيه الملك الناصر داود بن الملك المعظم وفى هذه المدة (¬5) حصل في قلب السلطان الملك الكامل استيحاش وتغير [ونفرة من (¬6)] ابن أخيه الملك الناصر [داود (¬7)] بن الملك المعظم بسبب أشياء باطنة [لم يطلع عليها (¬8)]، [أوحشت قلب الملك الكامل منه (¬9)]. وكنا قد ذكرنا (¬10) أنه لما وصل الملك الكامل اللجون في سنة تسع وعشرين عقد عقد نكاحه على عاشوراء بنت الملك الكامل. فلما حصل عند الملك الكامل فيه ما حصل في هذه السنة تقدم إليه بأن يطلق ابنته فطلقها، وأشهد عليه بذلك ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة م، وساقط من س. (¬4) في نسخة س «سرورا» والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «السنة» والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في م «على». (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬10) انظر ما سبق، ص 13 - 16 والفقرة التالية إلى نهاية الخبر وردت مختصرة وفى قليل من التعديل في نسخة س والصيغة المثبتة من م.

[ذكر بناء قلعة المعره]

وأعرض عنه بالكلية. وحكى لى بعض أولاد الملك الناصر - رحمه الله - أن ذلك كان بسبب اتفاقه مع الملوك لما كانوا داخلين من جهة الدربند، وقد كنا أشرنا إلى ذلك. [ذكر بناء قلعة المعره (¬1)] في هذه السنة [أعنى سنة إحدى وثلاثين وستمائة (¬2)] كان أشار على الملك المظفر صاحب حماه سيف الدين بن أبى على [الهذبانى (¬3)]- وكان غالبا على أمره كله ومتحكما في دولته التحكم الكلى والأمور كلها راجعة اليه - أن تبنى في المعرة قلعة (¬4). وأوهمه أن في ذلك مصلحة ظاهرة، فأجابه إلى ذلك وجدّ في بنائها فبنيت في مدة شهرين. وساعده على ذلك ما في المعره من الحجارة (¬5) المنحوتة المهيأة ظاهر البلد وباطنه (¬6). وسلم إلى كل أمير من أمراء الدولة برج من أبراجها، فكمل بناؤها في هذه المدة اليسيرة. ورتب فيها جامع، وحشدت بالرجالة والوالى. وأودعت من العدد وآلات الحرب ماجرت به العادة. ولم يكن بناؤها مصلحة، ولم يكن [الرأى (¬7)] الذى أشار به سيف الدين صوابا [187 ا]. وظهر فساد هذا الرأى لما انتزعها الحلبيون من أيدى نواب الملك المظفر، وصارت بأيدى الحلبيين. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س (¬4) وردت هذه الفقرة في نسخة س بصيغة مخالفة ولكن بنفس المعنى، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «الأحجار» والصيغة المثبتة من م (¬6) في نسخة س «وداخله» والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من نسخة م.

ولما كمل بناؤها (¬1) مدح الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد الأنصارى الملك المظفر وهنأه ببنائها بقصيدة مطلعها: - مضى بمضاء عزمتك القضاء ... وشاء لك (¬2) المهيمن ما تشاء فمر وانه الزمان تجده طوعا ... له منك ائتمار وانتهاء وما أيام دهرك والليالى ... إذن إلا عبيد أو إماء (¬3) بهرت خلائقا شرفت كمالا ... فللدنيا بها ولك الهناء وصلت كما وصلت فكل قلب ... تعارض فيه خوفك والرجاء ومنها [يقول (¬4)]: ووافيت المعرة مستجدا ... بناء لا يطاوله (¬5) بناء لديه تخضع الأملاك صغرا ... وفيه تحسد الأرض السمآء دلفت له بجد غير كاب وجدّ ... لا يفتره التوآء حميت به حمى ثغر مذال ... تصول على الأسود به الظبآء (¬6) مضيت على يقين الرشد حتى ... شفيت سقامه والشك داء فأضحى (¬7) والبلاد سوى حماة ... وما فيها لقلعتها فداء (¬8) ¬

(¬1) في نسخة س «ولما كملت قلعة المعرة» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «وأعطاك» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «إلا عبيدك والأماء»، والصيغة المثبتة من م وكلاهما صحيح. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) في نسخة م «لا يطاولها»، والصيغة المثبتة من س. (¬6) سقط البيت من نسخة س ومثبت في نسخة م. (¬7) في نسخة س «وأضحى»، والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة س «كفاء»، والصيغة المثبتة من م.

تتيه على بروج الشمس فخرا ... وأنت لكل أبرجها (¬1) ذكاء (¬2) لقد أتممتها (¬3) نورا ومجدا ... فتم بها السنا ونمى السناء لها بوقارك الوافى ثبات (¬4) ... ومن طماح همتك اعتلاء تناهت في مدى ستين يوما ... وقد (¬5) بارى أياديك الشتاء ولولا لزبة عرضت وطالت ... لكان لها على الشهر (¬6) استواء وآخرها [يقول (¬7)]: سما برّا ففداه البرايا ... بأنفسهم وقلّ له الفداء وبدّ (¬8) العالمين إلى المعالى ... وطاولهم (¬9) فطال له البقاء وفى (¬10) هذه السنة سافر القاضى شهاب الدين قاضى حماه إلى جهة العراق بنية الحج مع الحاج العراقى. واستناب بحماة القاضى شمس الدين ابراهيم ابن عبد الله بن البارزى (¬11). ولما وصل إلى بغداد سافر مع الحاج العراقى، ولما وصلوا ¬

(¬1) في نسخة س «أبراجها» ومعها يختل الوزن، والصيغة المثبتة من م. (¬2) ذكاء بالضم اسم الشمس، انظر، لسان العرب، ج 18، ص 314. (¬3) في نسخة م «ألممتها» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من س. (¬4) في نسخة س «لها بوقارك الباقى ثنايا»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «بوقد» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «الدهر» وهو تحريف كما يفهم من البيت السابق عليه، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) في نسخة س «ويد» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م. (¬9) في نسخة س «وطالهم» وبها يختل الوزن وهو تحريف، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م. (¬10) السطور التالية حتى نهاية حوادث السنة ساقطة من نسخة س ومثبتة في م. (¬11) هو قاضى حماه شمس الدين ابراهيم المعروف بابن البارزى المتوفى سنة 669 هـ‍ عن تسع وثمانين سنة، انظر ابن العماد: شذرات الذهب، ج 5، ص 328.

إلى منزلة يقال لها لينه (¬1)، قطع عليهم العرب الطريق وجرت عليهم شدة عظيمة، ورجعوا إلى بغداد فخلع الخليفة على القاضى شهاب الدين، وعاد إلى حماه في السنة القابلة. ¬

(¬1) لينة موضع في بلاد نجد كانت المنزل الرابع لقاصد مكة من واسط، انظر ياقوت (معجم البلدان).

ودخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة

ودخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة (*) والسلطان الملك الكامل بالشرق (¬1)، وقد انثنى عزمه عن قصد بلاد الروم [لما حصل بينه وبين أخيه وأهل بيته في الباطن من الاستيحاش، ولما جرى على عسكره والملك المظفر من الكسرة بخرتبرت، فعزم على العود إلى الديار المصرية. ذكر رجوع السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية والملوك إلى بلادهم ورجع السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية (¬2)]. ومضى كل واحد من الملوك إلى بلده، فرجع الملك الأشرف إلى دمشق، والملك الناصر إلى الكرك وهو خائف من عمه الملك الكامل لما ظهر [له (¬3)] من تغيره عليه واستيحاشه منه، وإلزامه تطليق ابنته. وعلم أنه يقصد الكرك وما بيده من البلاد التي بقيت له فينتزعها منه، فصمم [عزمه (¬4)] على قصد العراق والاعتصام بخليفة الزمان المستنصر بالله (¬5)، فكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

(*) يوافق أولها 26 سبتمبر سنة 1234 ميلادية. (¬1) في نسخة س «بالبلاد الشرقية» والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد مكانه في نسخة س «ثم رحل إلى الديار المصرية». (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬5) هو الخليفة العباسى أبو جعفر المنصور المستنصر بالله بن الظاهر تولى الخلافة بين صنتى 623 - 640 هـ‍، انظر، زامباور، ج 1، ص 4؛ Bosworth : Islamic Dynasties, P. 8.

ذكر وفاة الملك الزاهر واستيلاء الملك العزيز على البيرة

ومضى [الملك المظفر (¬1)] شهاب الدين غازى إلى ميافارقين، والملك الحافظ إلى قلعة جعبر، والملك المجاهد إلى حمص، وأقاموا ببلادهم. [وأما الملك الزاهر مجير الدين داود بن الملك الناصر صلاح الدين فإنه كان مرض بالمعسكر الكاملى فرجع إلى البيرة مريضا (¬2)]. ذكر وفاة الملك الزاهر (¬3) واستيلاء الملك العزيز على البيرة [188 ا] [ولما اشتد مرض الملك الزاهر (¬4)] بالبيرة استدعى ابن أخيه السلطان الملك العزيز صاحب حلب (¬5) فوصل إليه، فأوصى له بالبيرة، وبخزائنه وقلاعه، وعين لأولاده شيئا من ماله. ثم توفى بالبيرة والملك العزيز [بن الملك الظاهر (¬6)] عنده في أوائل صفر من هذه السنة. ولما توفى تسلم الملك العزيز البيرة وبلادها. وأقام الملك العزيز بها يرتب أحوالها. [وكان الملك الزاهر شقيق الملك الظاهر رحمهما الله تعالى. ورتب الملك العزيز بها واليا من قبله (¬7)] ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من هامش نسخة س، وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬3) هو أبو سليمان داود الملقب الملك الزاهر مجير الدين بن السلطان صلاح الدين، ولد بالقاهرة سنة 573 هـ‍، انظر ترجمته في ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 176 - 177. (¬4) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س بصيغة مخالفة وبنفس المعنى، والصيغة المثبتة من م. (¬5) ورد في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 218) أن الملك الزاهر عندما مرض طمع بعض أولاده بملك البيرة، وشرعوا في تحصينها وتقويتها، وعندما بلغ الملك الزاهر ذلك سير إلى الملك العزيز واستدعاه. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى م «وأقام بها واليا من قبله».

ذكر وفاة القاضى بهاء الدين بن شداد رحمه الله تعالى

ذكر وفاة القاضى بهاء الدين بن شداد رحمه الله تعالى (¬1) [وورد على الملك العزيز الخبر بوفاة القاضى بهاء الدين بن شداد رحمه الله. وهو يوسف بن رافع بن تميم، وإنما اشتهر بالنسبة إلى شداد (¬2)]. وكانت وفاته - رحمه الله - يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر من هذه السنة، وكان عمره نحو ثلاث وتسعين سنة؛ لأن مولده - رحمه الله - سنة تسع وثلاثين وخمسمائة (¬3). وصحب السلطان الملك الناصر صلاح الدين، وكان قاضى عسكره ومن أجل أصحابه. ولما توفى الملك الناصر صلاح الدين كان [عمر القاضى بهاء الدين ابن شداد إذ ذاك (¬4)] نحو خمسين سنة. ثم عاش بعده نحو ثلاث وأربعين سنة، [عند إبنه الملك الظاهر، ثم عند إبن إبنه الملك العزيز محترما مكرما، متوليا الحكم في جميع ممالك حلب، ومرجوعا إلى رأيه ومشورته في أمر الملك. ونال من المنزلة والحرمة والمكانة ونفاذ الكلمة ما لا أعرف أن معمما في عصرنا هذا ناله. وبنى بحلب مدرسة عظيمة بالقرب من داره، ووقف عليها وقفا جليلا. وبنى إلى جانب المدرسة دارا لسماع حديث النبى صلى الله عليه وسلم] (¬5). [وأوقف ¬

(¬1) عنوان الخبر ساقط من نسخة م ومثبت في س، وعن ترجمة بهاء الدين بن شداد، انظر ابن خلكان، ج 2 ص 354 - 360. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س «وفى هذه السنة توفى القاضى بهاء الدين بن شداد رحمه الله». (¬3) في نسخة س «تسع وستين وخمسمائة» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م، انظر ابن خلكان، ج 2، ص 354 (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وفى م «عمره» (¬5) ورد ما بين الحاصرتين مختصرا وبنفس المعنى في س، والصيغة المثبتة من م.

عليها أيضا وقفا كثيرا، وبنى موضعا لتربته بين دار الحديث والمدرسة متصلة بدار الحديث ولها شباك إلى المدرسة (¬1)]. ورتب مقرئين يقرؤن القرآن في التربة في حال حياته، واستمروا كذلك بعد وفاته. وكان ولى مشيخة دار الحديث الإمام (¬2) العلامة نجم الدين بن الخباز الموصلى (¬3) شيخنا - رحمه الله. وكان [نجم الدين (¬4)] فريد عصره في المذهب والخلاف والأصولين وغير ذلك من الفنون (¬5). وكان القاضى بهاء الدين يذكر بنفسه الدرس في مدرسته، فلما أسن [188 ب] وضعف عن ذكر الدرس، بقى المعيدون [في كل يوم (¬6)] يقرأ عليهم في المدرسة العلم، ولا يذكر أحد درسا بالمدرسة إلى أن توفى. وكنت بحلب سنة سبع وعشرين وسنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان الأمر جاريا على ذلك. وكانت الربعة تحضر في كل يوم فيقرأ [منها (¬7)] ما تيسر ثم يدعو الداعى له ولا يذكر له لقبا بل يقول: «وارض عن واقف هذه البنيه، راجى رحمة ربه الكريم، يوسف بن رافع بن تميم (¬8)». [وكان قد غلبت عليه النسبة إلى شداد، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى م «وجعل بين المدرسة ودار الحديث مكانا يدفن فيه»، وفى ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 2، ص 356) أنه جعل للتربة «بابان باب إلى المدرسة وباب إلى دار الحديث وشباكان إلى الجهتين وهما متقابلان». (¬2) في نسخة س «وكان ولى تدريس دار الحديث للشيخ الإمام» والصيغة المثبتة من م. (¬3) عن الإمام نجم الدين بن الخباز، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 311، 314 (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من س. (¬5) في نسخة س «في الحديث والفقه والأصولين والخلاف وغير ذلك من العلوم» والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) في نسخة س «وارض عن بان هذه البنيه أو واقف هذه البنية، الفقير إلى رحمتك يوسف ابن رافع بن تميم» والصيغة المثبتة من م.

بل لعل ذلك في نسب أمه، ولم يكن في أيامه من اسمه شداد، وأصله من الموصل (¬1)]. وكان - رحمه الله - عالما فاضلا دينا محسنا إلى كل من يرد إلى حلب من الفقهاء وأهل العلم. وكان اقطاعه على السلطان يزيد على مائة ألف درهم في السنة. ولم يعقب وتزوّج ابنتى الشيخ الصالح عبد الرحمن بن علوان المعروف بابن الأستاذ واحدة بعد أخرى، [لما ماتت الأولى تزوّج الثانية (¬2)]. كانتا في غاية الصلاح والدين، لم تلد واحدة منهما له ولدا. وكان والدهما (¬3) من المشهورين بالزهد. وولى القاضى بهاء الدين أخاهما زين الدين أبا محمد عبد الله نيابة الحكم بحلب بعد نجم الدين ابن الحجاج. وكان زين الدين هذا فاضلا يقظا شديد الأحكام. [وكان يذكر الدرس في أيام القاضى بهاء الدين في المدرسة الظاهرية التي فيها تربة الملك الظاهر تحت القلعة، ويحكم في المدرسة التي أنشأها القاضى بهاء الدين (¬4)]. ولما توفى القاضى بهاء الدين كان السلطان الملك العزيز بالبيرة - كما ذكرنا -[وورد عليه الخبر بموت القاضى بهاء الدين. وكان كمال الدين عمر بن العجمى، وهو من أكابر حلب وأغنيائها، متطاولا إلى منصب القضاء (¬5)] فكاتب السلطان يطلب منه أن يوليه القضاء (¬6)، فلم يجب إلى ذلك. وسار [الملك العزيز] (¬7) من البيرة [لما رتب أمورها (¬8)] إلى حارم. [فتوجه كمال الدين إلى حارم (¬9)]، وبذل له في قضاء حلب ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من س وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من س وساقط من م. (¬3) في نسخة س «أبوهما» والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬6) في نسخة س «أن يوليه قضاء حلب»، والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م.

ستين ألف درهم، وأن يحمل إليه كل سنة من فواضل أوقاف الصدقة (¬1) ومن كتابة الشروط خمسين ألف درهم. فلم يصغ الملك العزيز - رحمه الله - إلى شىء من ذلك. وكتب إلى القاضى زين الدين أبى محمد عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن [بن علوان (¬2)] المعروف بابن الأستاذ [يأمره (¬3)] أن يحكم بين الناس على جارى [189 ا] عادته في أيام القاضى بهاء الدين - رحمه الله - إلى أن يدخل إلى حلب. فلما دخل الملك العزيز إلى حلب اجتهد كمال الدين [عمر (¬4)] بن العجمى في قبول ما بذله [له. وبذل شيئا غير ذلك لخواص الملك العزيز، فحسنوا للملك العزيز قبول ما بذله (¬5)] وإجابته إلى ما سأله. فجرى على منهاج أبيه [الملك الظاهر (¬6)] وجده الملك الناصر صلاح الدين [رحمهما الله (¬7)] في الإحسان. ولم يبع الشريعة المطهرة ومنصب المصطفى صلى الله عليه وسلم بالأثمان (¬8). ونظر في مصلحة الرعية، وأرضى الله [تعالى (¬9)] ونبيه [صلى الله عليه وسلم (¬10)]، وقلد القضاء لزين الدين بن الأستاذ المقدم ذكره يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول من هذه السنة. ¬

(¬1) في نسخة م «الأوقاف»، والصيغة المثبتة من س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬8) في نسخة س «ولم يرى بيع منصب النبى صلى الله عليه وسلم بالأثمان» والصيغة المثبتة من م. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م.

ذكر قدوم السلطان الملك المظفر صاحب حماه إلى حماه ومولد ولده مولانا السلطان الملك المنصور ناصر الدين أبى المعالى محمد قدس الله روحه

ذكر قدوم السلطان الملك المظفر صاحب حماه إلى حماه ومولد ولده مولانا السلطان الملك المنصور ناصر الدين أبى المعالى محمد قدس الله روحه (¬1) ولما رجع السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية ورجعت الملوك إلى بلادهم رجع السلطان الملك المظفر إلى حماة. وكان دخوله إليها [يوم الخميس (¬2)] لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة؛ أعنى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. واتفقت ولادة ولده الملك المنصور ناصر الدين [أبى المعالى (¬3)] محمد - عز نصره (¬4) - في الساعة الخامسة من يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول بعد مقدم والده بيومين (¬5). [وأمه الصاحبة غازية خاتون بنت السلطان الملك الكامل، فعظمت المسرة عند العامة والخاصة بمولده (¬6)]. وعملت له عقيقة (¬7) بالقلعة المحروسة في اليوم السابع [من مولده (¬8)] حضرها أكابر المعممين والأجناد، وكان يوما فيه قرة عين الأولياء، وكبت قلوب الحساد [والأعداء (¬9)]. وفى الهنا بهذه النعمة العظيمة والمنحة ¬

(¬1) ورد عنوان الخبر في نسخة س: «ذكر قدوم السلطان الملك المظفر رحمه الله إلى حماه ومولد السلطان الملك المنصور ناصر الدين أبى المعالى محمد رحمه الله» والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من م. (¬4) في نسخة س شطبت الكلمتان وكتب في الهامش «رحمه الله» بخط مخالف، مما يبرهن على صحة القول بأن نسخة م كتبت في زمن ابن واصل. (¬5) في نسخة س «بعد يومين من قدوم والده» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «فتضاعف بقدوم الوالد والولد السرور، وشمل الخاصة والعامة الفرح والحبور» والصيغة المثبتة من م. (¬7) العقيق شعر كل مولود يخرج على رأسه في بطن أمه، وعق عن ابنه أي حلق عقيقته أو ذبح عنه شاة ولذلك سميت الشاة المذبوحة لهذا الغرض عقيقه، وكان يتم ذلك عادة في احتفال، انظر: ابن منظور، لسان العرب، ج 12، ص 130؛ الزبيدى، تاج العروس، ج 7، ص 15؛ القاموس المحيط. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م.

الجسيمة قال الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد الأنصارى - رحمه الله - مهنئا [للملك المظفر - رحمه الله - ومادحا بقصيدة مطلعها (¬1)]: غدا الملك محروس الذرى والقواعد ... بأشرف مولود لأشرف والد بملك تمنته الممالك حقبة ... فأوفى عليها مرغما كلّ حاسد حبينا به يوم الخميس كأنه ... خميس (¬2) بدا للناس في شخص (¬3) واحد تهيأ منه للمعالى مثقف (¬4) ... تجمع من أشتاتها كلّ شارد دعته أباها وهو في المهد فأعجبوا ... لفرع مساو (¬5) أصله في الموالد وسميته باسم النبى محمد ... وجدّ به فاستوفى جميع المحامد تردّد في أصلاب صيد أشاوس ... كلا طرفيه ماجد من أماجد فجيئت به رحب الذراعين واضح ال‍ ... ـجبينين سبط (¬6) الكف صدق السواعد محاسن خلق آذنت بخلائق ... يقصر عنها كل شهم وجائد (¬7) تخوّف منه كل أغلب ضيغم ... وتصبو (¬8) إليه كلّ عذراء ناهد كأنى به في سدة الملك جالسا ... وقد ساد في أوصافه كلّ سائد وقام بما أوليته متأيدا (¬9) ... وزاد على جهد الورى غير جاهد ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س «ومادحا يقول:». (¬2) الخميس هو الجيش الجرار، انظر لسان العرب، ج 7، ص 372. (¬3) في نسخة م «زى» والصيغة المثبتة من نسخة س وهى أبلغ. (¬4) في نسخة س «مثقفا» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «نشا» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «بسط» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬7) في نسخة س «وحاسد» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة س «وتصبى» وهو تحريف والصيغة الصحيحة من نسخة م. (¬9) في نسخة س «متأدبا»، والصيغة المثبتة من نسخة م وكلاهما صحيح.

ووافاك من أبنائه وبنيهم ... بأنجم سعد نورها غير خامد وأولى ملوك الأرض منشور (¬1) بره ... وأثبت (¬2) من معروفه في الجرائد وزهد في عصيانه (¬3) [كلّ راغب (¬4)] ... ورغّب في إحسانه كلّ زاهد وأعلاه من (¬5) أبناء أيوب كلّهم ... علوك عنهم في جميع المشاهد (¬6) ألست الذى بذ الأكارم سؤددا (¬7) ... بدمياط كرّارا (¬8) على كل مارد وروّى قناه من دم القرن مقدما ... يحلّق لمّا فر كل مجالد ووافى حماة وافيا بعهوده ... لمن حلها (¬9) من مسلم ومعاهد فآيتن منها كل طاغ مغافص (¬10) ... وشرد عنها كلّ باغ وحاسد (¬11) ولم (¬12) يثنه حر الجراح عن العدى ... فأفضى إلى ظل من العيش بارد وفازت به ملكا وفاز (¬13) برشفه ... سلافتها من بين سم الأساود وأذكر بدرا يوم أفنون إذ سطا ... على شمسه بالبارقات الرواعد ¬

(¬1) في نسخة س «منسوب» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «فأثبت»، والصيغة المثبتة من نسخة م وكلاهما صحيح. (¬3) في نسخة س «إحسانه» وهو تحريف كما يفهم من سياق المعنى، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش في نسخة س. (¬5) في نسخة س «عن» والصيغة المثبتة من م. (¬6) هذا البيت مذكور في الهامش في نسخة س. (¬7) في نسخة س «سودد» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬8) في نسخة س «كرار» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬9) في نسخة س «خلقا» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬10) في نسخة س «وناقض» والصيغة المثبتة من نسخة م، وورد في (لسان العرب، ج 8، ص 328) «غافص الرجل أخذه على غرة». (¬11) في نسخة س «معاند» والصيغة المثبتة من م. (¬12) في نسخة س «وكم» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬13) في نسخة س «وقارب ملكا وقار» وهو تحريف والصيغة المثبتة من م.

محوت (¬1) من الكفار فيه كتائبا ... يضيق (¬2) بها طرس الربا والفدافد وصلت على بارين بالزحف (¬3) صولة ... أغدّت إلى فتح لمجدك شائد فولجتها (¬4) بالسيف [صلتا (¬5)] وأذعنت ... فأغمدته بالعفو يا خير غامد وجزت المدى (¬6) في خرتبرت إلى العلا ... بأضعاف ما أحرزت في فتح آمد غداة أغص الموت من ورد (¬7) الوغى ... وضاقت على المحتال طرق المكائد أقمت بها سوق الحروب فسوقها ... ترى القتل فيها نافقا غير كاسد لقيت على فقد المواسى (¬8) جموعهم (¬9) ... فروعت قلب الحجفل المتعاقد علوتهم كالبدر من فوق شامخ ... سنابكه محذوة بالفراقد (¬10) تقدّم لا ترديه (¬11) طعنة شاجر ... برمح، ولا يلويه صدمة طارد فطاعنتهم حتى تحطمت القنا ... وضاربت حتى فلّ حدّ الحدائد وعانقت أبطال النزال مكافحا (¬12) ... وقد حام عنه صادرا (¬13) كلّ وارد ¬

(¬1) في نسخة س «حوت» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «يطيق» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «بالفتح» والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة س «تولجتها» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬6) في نسخة س «الذى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬7) في نسخة س «مورد» والصيغة المثبتة من م وكلاهما صحيح. (¬8) في نسخة س «المواشى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬9) في نسخة س «جميعهم»، والصيغة المثبتة من م. (¬10) الفرقدان نجمان في السماء لا يغربان وقالوا فيهما الفراقد، انظر لسان العرب، ج 4، ص 331. (¬11) في نسخة س «لا ترويه»، وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬12) في نسخة س «مكافحها» وهو تحريف يخل بالوزن، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م. (¬13) في نسخة س «صادر» وهو تحريف والصيغة المثبتة من م.

وخضت غمارا (¬1) ينفد العمر دونها ... فأحرزت منها سؤددا غير نافد تفردت بالبأس الشديد فلم يقم ... بوصفك (¬2) ما أحكمته في قلائدى (¬3) وإن كان تبرا غير زيف (¬4) فإنه ... يرى منك معروضا على خير ناقد مليك كفاه الله عين كماله ... يراعى للعلا طرف (¬5) له غير هاجد فتى الحرب كم شدت بما رام أزره ... وجشمه غشيانها من شدائد يراها - على ما كان منها - حبيبة ... فأكرم به (¬6) من عاشق غير حاقد يريك نداه بخل كعب وحاتم (¬7) ... ويروى سطاه عن على وخالد مساع (¬8) لمجد أقعدت كل ناهض ... وهباته قد انهضت كل قاعد (¬9) ألا أيها الملك المظفر دعوة (¬10) ... سيورى بها زندى ويشتد ساعدى هنيئا لك الملك الذى بقدومه ... ترحّل عنا كلّ هم معاود (¬11) وبشرنا من قبل مولده به ... من الله آى صادقات المواعد ¬

(¬1) في نسخة س «غمار» وهو تحريف والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «لوصفك» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «ما أحرزته من فرائد» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة س «وان كان تبرى غير رهب» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «يراعى العلا طرفا» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «بها» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من م. (¬7) يقصد كعب بن مامة وحاتم الطائى وكلاهما من أجواد العرب. (¬8) في نسخة س «مشاع» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م. (¬9) ورد الشطر الثانى من البيت في نسخة س مختلا، والصيغة المثبتة من م. (¬10) في نسخة س «دعوى» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من م. (¬11) في نسخة س «معاودى» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م.

ذكر استيلاء السلطان علاء الدين سلطان الروم على حران والرها من بلاد السلطان الملك الكامل وخلاط من بلاد الملك الأشرف

فحمدا وشكرا للإله مخلدا ... على منن منه جسام خوالد فذا اليوم نال الملك أشرف مقصد (¬1) ... وحققت النعمى (¬2) ظنون القصائد (¬3) ذكر استيلاء السلطان علاء الدين سلطان الروم على حران والرها من بلاد السلطان الملك الكامل وخلاط من بلاد الملك الأشرف (¬4) ولما رجع السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية وخرج فصل الشتاء، [190 ب] خرج السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو صاحب بلاد الروم إلى الشرق مقابلة للملك الكامل على قصد بلاده. واشتد طمعه لرجوع الملك الكامل من غير أن يحفل بطائل (¬5)، وما انتهى إليه من تقاعد ملوك بنى أيوب عن الملك الكامل (¬6)، فنازل الرها وضايقها ونصب عليها المجانيق (¬7) وجدّ في حصارها. ووقع (¬8) حجر من حجارة المنجنيق على القاضى علاء الدين قاضى القضاة بالشرق، وكان في قلعة الرها، فقتله (¬9). [وكان فقيها فاضلا يعرف المذهب الشافعى، وكان له كرم ¬

(¬1) في نسخة س «مقصدا» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «بالنعمى» والصيغة المثبتة من م. (¬3) ورد بعد ذلك في نسخة س خمسة أسطر غير مثبتة في م عن رجوع الملك الناصر داود إلى الكرك، وهو تكرار لما ذكر آنفا، انظر ما سبق ص 87. (¬4) في نسخة س «ذكر خروج السلطان علاء الدين كيقباذ ملك الروم إلى الشرق واستيلائه على حران والرها»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «يحظى بطائل» والصيغة المثبتة من م، وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3 ص 220) «ولم يحظ بطائل». (¬6) في نسخة س «ولما فهمه من تقاعد الملوك من أهل بيته عنه» والصيغة المثبتة من م. (¬7) في نسخة س «المناجنيق»، والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة م «ووقعت»، والصيغة المثبتة من س. (¬9) في نسخة م «فقتلته»، والصيغة المثبتة من س.

ورياسة، وحشمة وسؤدد، وهو من أكابر الفقهاء الأكراد (¬1)]. وكان له تقدم عظيم (¬2) في الدولة الكاملية والأشرفيه، [وبه تقدم القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن - رحمه الله - الذى كان في آخر أمره قاضى القضاة بالديار المصرية. وسنذكر أوصافه ومناقبه في أخبار الملك الصالح نجم الدين - رحمه الله (¬3)] ولم يزل الحصار مستمرا على الرها إلى أن ملكها علاء (¬4) الدين واستولى عليها. وحاصر أيضا حران واستولى عليها وعلى قلعتها، وولى في حران والرها وما معهما من البلاد نوابه، ثم رجع إلى بلاده لخروج الصيف وإقبال الشتاء (¬5). [ثم استولى على خلاط وبلادها وانتزعها من أيدى نواب الملك الأشرف (¬6)]. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة م، وورد بدلها في س «وكان فقيها جيدا يفرق في المذهب الشافعى». (¬2) في نسخة س «وكان مقدم» والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬4) في نسخة س «كيقباذ»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) وردت هذه الفقرة في نسخة س مع قليل من التعديل والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س.

ودخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة

ودخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة (*) والسلطان الملك الكامل بالديار المصرية، وأخوه الملك الأشرف بدمشق [وقد تغير ما بينهما في الباطن (¬1)]، [والممالك الباقية على حالها في السنة الماضية (¬2)]. ذكر توجه الملك الناصر داود بن الملك المعظم [إلى بغداد واعتضاده بالخليفة المستنصر بالله رحمه الله (¬3)] وقد ذكرنا استشعار الملك الناصر من عمه السلطان الملك الكامل وخوفه منه، وأنه صمم العزم على قصد الخليفة والاستجارة به، فحصل عنده من النجب والروايا (¬4) ما يحتاج إليه لسفر البرية. ثم سافر ملتجئا إلى الخليفة ومستجيرا (¬5) به ومتمسكا بذيله، ومعه فخر القضاة نصر الله بن بزاقه (¬6) والشيخ شمس الدين [عبد الحميد (¬7)] الخسرو شاهى ¬

(*) يوافق أولها 16 سبتمبر سنة 1235 ميلادية. (¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س «إلى الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين واعتضاده به». (¬4) النجيب من الأبل والجمع النجب هو القوى منها الخفيف السريع، والروايا جمع الراوية وهو البعير أو البغل أو الحمار الذى يستقى عليه الماء، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 2 ص 245؛ ج 19، ص 64. (¬5) في نسخة س «ثم سافر قاصد مدينة السلام بغداد ملتجئا إلى الخليفة» والصيغة المثبتة من م. (¬6) عن الصاحب الوزير فخر القضاة نصر الله بن هبة الله بن بزاقة الغفارى انظر، ما سبق، ص 19 حاشية 5 وانظر أيضا؛ الملك الأمجد بن الناصر داود، كتاب الفوائد الجلية في الفرائد الناصرية، ص 37، 39 - 42؛ ابن تغرى بردى، المنهل الصافى، ج 5، ق 431 - 432؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 385. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م.

والخواص من مماليكه وألزامه. ولما قرب من بغداد [191 ا] أمر الخليفة [المستنصر بالله (¬1)] بتلقيه (¬2) وإكرامه. ودخل بغداد ونزل (¬3) بها مكرما معظما. وقدم للخليفة ما استصحبه (¬4) معه من الجواهر النفيسة [المثمنة (¬5)] والتحف الجليلة. وأمر الخليفة له بالأقامات الكثيرة، [وله ولأصحابه بالخلع والعطايا. وكان طامعا أن يأذن له الخليفة بالحضور بين يديه ويقبل يده ويشاهد صورته (¬6)]، كما فعل ذلك بمظفر الدين كوكبورى ابن زين الدين [على كوجك (¬7)] [صاحب إربل (¬8)]؛ فإنه كان قدم إلى بغداد (¬9)، وطلب الاجتماع بالخليفة فأذن له في ذلك، فحضر وبرز له الخليفة، فشاهد صورته. فرغب الملك الناصر [داود (¬10)] أن يعامل بتلك المعاملة فإنه أكبر بيتا من بيت مظفر الدين، وأعرق في الملك، وإنه بطريق الأولى جدير بأن ينال هذه المرتبة السنية. فلم يؤذن له في ذلك، وطال مقامه ببغداد وهو يردد الضراعة وسؤال ذلك (¬11)، فلم تقع الإجابة. وكان مقصود الخليفة من ذلك أن لا يحصل ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) في نسخة س «بلقياه» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «فأنزل» والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة س «ما استضمه» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬6) ورد ما بين الحاصرتين مع قليل من التعديل في نسخة س، والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬9) في نسخة س «الديوان العزيز» والصيغة المثبتة من م. (¬10) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬11) في نسخة س «والسؤال في ذلك» والصيغة المثبتة من م.

بسبب ذلك عتب من السلطان الملك الكامل (¬1)؛ فإنهم يعلمون أنه ما ورد عليهم إلا وهو ساخط على عمه مباين له. فعمل الملك الناصر [داود (¬2)] قصيدة يعرض فيها بقصده (¬3)، ويذكر مهاجرته إلى الأبواب [العزيزة (¬4)] العالية مرتكبا متن الخطر مع بعد المسافة، ويعرض فيها بأن مظفر الدين بن زين الدين (¬5) وصل من مسافة قريبة وليس هو مثله في أصالته وبيته، وأنه شرف (¬6) بهذا الأمر الجليل، ويعرض بأنه أحق من مظفر الدين بذلك. والقصيدة في غاية الحسن، وازن بها (¬7) قصيدة أبى تمام التي منها [يقول (¬8)]: لأمر عليهم أن تتم (¬9) صدوره ... وليس عليهم أن تتمّ (¬10) عواقبه والقصيدة هى هذه: ودان ألمت بالكثيب ذوائبه ... وجنح الدجى وحف (¬11) تجول غياهبه تقهقه في تلك الربوع رعوده ... وتبكى على تلك الطلول سحائبه ¬

(¬1) في نسخة س «وكان مقصود الخليفة أن لا يقع بذلك مراغمة لعمه الملك الكامل» والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة س «بمقصده» والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) في نسخة س «وتعرض لمظفر الدين» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «شرف» والصيغة المثبتة من م. (¬7) في نسخة س «منها» والصيغة المثبتة من م. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬9) في نسخة م «نتم» وفى نسخة س «يتم» والصيغة المثبتة من ديوان أبى تمام (شرح وتعليق شاهين عطية)، ص 44. (¬10) في نسخة س «تنم» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ديوان أبى تمام ص 44. (¬11) الوحف الشعر الأسود، انظر لسان العرب، ج 11، ص 268.

أرقت له لما توالت بروقه ... وحلّت عزاليه وأسبل ساكبه إلى أن بدا من أشقر الصبح قادم ... يراع له من أدهم الليل هاربه وأصبح ثغر الأقحوانة ضاحكا ... تدعدعه (¬1) ريح الصبا وتداعبه (¬2) تمر (¬3) على نبت الرياض بليلة (¬4) ... تجمشه (¬5) طورا وطورا تلاعبه وأقبل وجه الأرض طلقا وطالما ... غدا مكفهرا موحشات جوانبه كساه الحيا وشيا (¬6) من النبت فاخرا ... فعاد قشيبا غوره وغواربه كما عاد بالمستنصر بن محمد ... نظام المعالى حين قلّت كتائبه إمام تحلّى الدين منه بماجد ... تحلت بآثار النبى مناكبه هو العارض الهتّان لا البرق مخلف ... لديه ولا أنواره وكواكبه إذا السنة الشهباء شحت بطلّها ... سخا وابل منه وسخت سواكبه فأحيى ضيآء البرق ضوء جبينه ... كما بخلت جود العوادى مواهبه له العزمات اللائى لولا نضالها ... تزعزع ركن الدين وانهد جانبه بصير بأحوال الزمان وأهله ... حذور فما تخشى عليه نوائبه بديهته تغنيه عن كل مشكل ... وإن حنكته في الأمور تجاربه (¬7) ¬

(¬1) في نسخة س وفى الفوائد الجلية في الفرائد الناصرية للملك الأمجد بن الملك الناصر داود، ص 137، «يدغدغه» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «ويداعبه»، وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «يمر» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬4) كذا في نسختى المخطوطة وفى الفوائد الجلية، ص 137 «كليلة». (¬5) في نسخة س «تخمسه» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م، والجمش المغازلة وقد جمشه وهو يجمشها أي يقرصها ويلاعبها، انظر لسان العرب، ج 8، ص 163. (¬6) في الفوائد الجلية، ص 137 «وشيئا» وهو تصحيف. (¬7) هذا البيت ساقط من نسخة م ومثبت في س وكذلك في الفوائد الجلبة، ص 137.

حوى قصبات السبق مذكان يافعا ... وأربت على زهر النجوم مناقبه (¬1) تزينت الدنيا به وتشرفت ... بنورها فأضحى خافض (¬2) العيش ناصبه لئن فوّهت باسم الإمام خلافة ... ورفّعت (¬3) الزاكى النجار (¬4) مناسبه فأنت إمام العدل (¬5) والمعرق الذى ... به شرّفت (¬6) أنسابه ومناصبه جمعت شتيت المجد بعد افتراقه ... وفرقت جمع المال فانهال كاثبه واغنيت حتى ليس في الأرض معدم ... يجور عليه دهره ويحاربه ألا يا أمير المؤمنين ومن غدت ... على كاهل الجوزاء تعلو مراتبه ومن جدّه عم النبى وخدنه ... إذا صارمته أهله وأقاربه أيحسن في شرع المعالى ودينها ... وأنت الذى تعزى إليه مذاهبه وأنت الذى يعنى حبيب (¬7) بقوله ... [الا هكذا فليكسب الحمد كاسبه (¬8)] بأنى أخوض الدوّ (¬9) والدوّ مقفر (¬10) ... سباريته (¬11) مغبرة وسباسبه (¬12) ¬

(¬1) في نسخة س «ثواقبه» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة م «خاصب» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن الفوائد الجلية ص 138. (¬3) في نسخة س «ورجعت» وهو تحريف والصيغة المثبتة من م. (¬4) النجار معناه الأصل والحسب، انظر لسان العرب، ج 7، ص 45. (¬5) كذا في نسختى المخطوطة وفى الفوائد الجلية، ص 138 «الإمام العدل» وكلاهما صحيح (¬6) في نسخة س «تشرفت» وبه يختل الوزن. (¬7) في نسخة م «الحبيب»، وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من س ومن الفوائد الجلية ص 138، ويقصد أبا تمام حبيب بن أوس الطائى الشاعر المشهور. (¬8) ما بين الحاصرتين عجز بيت لأبى تمام وصدره «فلو نطقت حرب لقالت محقة»، انظر ديوان أبى تمام، (ط. بيروت 1968)، ص 45. (¬9) المقصود بالدوّ المفازة أو الفلاة أو الصحراء، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 18، ص 302؛ انظر أيضا ابن سيده، المخصص (ط. بيروت) ج 3، ص 114. (¬10) في نسخة س «مقفرا» وهو تصحيف. (¬11) السباريت واحدها سبروت وهى الأرض التي ليس بها آثار، انظر ابن سيده، المخصص ج 3، ص 115؛ الزبيدى، تاج العروس ج 3، ص 253 (¬12) المقصود بالسباسب القفار واحدها سبسب: انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 1، ص 443.

وأرتكب الهول المخوف مخاطرا ... بنفسى ولا أعبا بما أنا راكبه وقد رصد الأعداء لى كلّ مرصد ... فكلهم نحوى تدب عقاربه وآتيك والعضب المهند مصلت ... طرير شباة قانيات ذوائبه وانزل آمالى ببابك راجيا ... فواضل (¬1) جاه يبهر النجم ثاقبه فتقبل منى عبد رق فيغتدى ... له الدهر عبدا طائعا لا يغالبه وتنعم في حقى بما أنت أهله ... وتعلى محلّى فالسّها لا يقاربه وتلبسنى من نسج ظلك ملبسا (¬2) ... يشرف قدر النيرين جلاببه وتركبنى نعمى (¬3) أياديك مركبا ... على الفلك الأعلى تسير مواكبه وتسمح لى بالمال والجاه بغيتى ... وما الجاه إلا بعض ما أنت واهبه ويأتيك غيرى من بلاد قريبة ... له الأمن فيها صاحب (¬4) لا يجانبه وما اغبر من جوب الفلا حرّ وجهه ... ولا انضيت بالسير فيها ركائبه فيلقى دنوا منك لم ألق مثله ... ويحظى ولا احظى (¬5) بما أنا طالبه؟ وينظر من لألآء قدسك نظرة ... فيرجع والنور الإمامى صاحبه ولو كان يعلونى بنفس ورتبة ... وصدق ولآء لست فيه أصاقبه لكنت أصد (¬6) النفس عما ترومه (¬7) ... وكنت أذود العين عما تراقبه (¬8) ¬

(¬1) في نسخة م «نواهد» وفى نسخة س «تواصل» والصيغة المثبتة من الفوائد الجلية، ص 138 والصيغ الثلاث صحيحة. (¬2) في نسخة س «حلة» والصيغة المثبتة من م وبها يتفق سياق البيت. (¬3) في نسخة س «نعما» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة س «صاحبا» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬5) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الفوائد الجلية، ص 139 «وما أحظى» وكلاهما صحيح. (¬6) في نسخة م وفى الفوائد الجلية ص 139 «أسلى» والصيغة المثبتة من نسخة س وهى تتفق مع كلمة «أذود» الواردة في عجز البيت. (¬7) في نسخة م «أرومه» والصيغة المثبتة من س. (¬8) ورد هذا البيت في هامش نسخة س.

ولكنه مثلى ولو قلت: إننى ... أزيد عليه، لم يعب ذاك عائبه وما أنا ممن يملأ المال عينه ... ولا بسوى التقريب تقضى مآربه ولا بالذى يرضيه دون نظيره ... ولو أنعلت بالنيرات (¬1) مراكبه وبى ظمأ، رؤياك منهل ريه ... ولا غرو أن تصفو لدىّ مشاربه ومن عجب أنى لدى (¬2) البحر واقف ... واشكو الظما (¬3) والبحر جم عجائبه وغير ملوم من يؤمك قاصدا ... إذا عظمت أغراضه ومطالبه (¬4) وقد رضيت مقصودى فتمت صدوره ... ومنك أرجى أن تتم عواقبه (¬5) ولما وقف الخليفة [الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين رحمه الله] (¬6) [على هذه القصيدة (¬7)] أعجبته إعجابا كثيرا، وأراد أن يجمع بين المصلحتين ويجبر بحسن تأنيه الجهتين، فاستدعاه [إليه (¬8)] سرا لا جهرا (¬9)، جبرا لقلبه ورعاية في عدم الجهر للسلطان (¬10) الملك الكامل. ¬

(¬1) في نسخة س «ولو أن علت بالنيرين» والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س وكذلك في الفوائد الجلية ص 139 «لذا» والصيغة المثبتة من م ومعناها «عند» (¬3) في نسخة س «الضما» وهو تصحيف. (¬4) في نسخة م «ومذاهبه» والصيغة المثبتة من س ومن الفوائد الجلية، ص 139، وكلاهما صحيح. (¬5) هذا البيت ساقط من نسخة م ومثبت في س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد بدلها في س «عليها». (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬9) في نسخة س «لا جهارا» والصيغة المثبتة من م. (¬10) في نسخة م «السلطان» والصيغة المثبتة من س، وعن مراعاة الخليفة لشعور السلطان الكامل، انظر المقريزى، السلوك، ج 1، ص 251.

[فحكى الملك الناصر - رحمه الله -] (¬1) قال: استدعانى الخليفة بعد شطر من الليل، فدخلت من باب السر إلى إيوان فيه ستر مضروب، فقبلت الأرض بين يديه، فأمرنى بالجلوس فجلست. ثم أخذ الخليفة يحدثنى من خلف الستر ويونسنى (¬2). ثم أمر الخدام فرفعوا الستر، وقمت (¬3) فقبلت الأرض ثانيا. وتقدمت فقبلت يد الخليفة [193 ب] فأمرنى بالجلوس فجلست بين يديه. وجارانى (¬4) في أنواع من العلوم وأساليب من الشعر [إلى آخر الليل (¬5)]. ثم خرجت من عنده وعدت إلى منزلى في باقية الليلة (¬6). ثم حضر الملك الناصر المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة [المستنصر بالله - رحمه الله (¬7) -] على شاطئ (¬8) دجلة، وسنذكر - إن شاء الله - صفتها عند ذكر (¬9) سيرة الإمام المستنصر بالله - رحمه الله. وكان الخليفة في روشن (¬10) ينظر ويسمع كلامهم، وحضر جماعة الفقهاء الذين هم منزلون في المدرسة وغيرهم من الطوائف الأربعة (¬11). وبحث الملك الناصر واستدل واعترض وناظر ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬2) في نسخة س «ويوانسنى» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «فقمت» والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة س «فحارانى» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬6) في نسخة م «ليلا» والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬8) في نسخة س «شط» والصيغة المثبتة من م. (¬9) في نسخة س «ذكرنا» والصيغة المثبتة من م. (¬10) الروشن وجمعها رواشن، هى النافذة أو الكوة للاضاءة، انظر سعيد عاشور، العصر المماليكى ص 421. (¬11) وردت الجملة السابقة في نسخة س في قليل من التقديم والتأخير ولكن بنفس المعنى، والصيغة المثبتة من م.

الفقهاء مناظرة حسنة (¬1). [وكان - رحمه الله - جيد المناظرة، صحيح الذهن، له في كل فن مشاركة جيده (¬2)]. وقام يومئذ رجل من الفقهاء ومدح الخليفة بقصيدة يقول فيها مخاطبا الخليفة (¬3): لو كنت في يوم السقيفة حاضرا ... كنت المقدم والأمام الاروعا فغضب الملك الناصر لله تعالى لكون ذلك الفقيه لأجل [سحت (¬4)] الدنيا أساء الأدب على أبى بكر الصديق [خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثانى إثنين] (¬5)، وعلى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب، [وسادات المهاجرين والأنصار الحاضرين يوم السقيفة (¬6)]، وجعل الخليفة المستنصر مقدما (¬7) عليهم. فقال [الملك الناصر (¬8)] لذلك الفقيه: «أخطأت فيما قلت، كان ذلك اليوم جدّ سيدنا ومولانا الإمام المستنصر بالله العباس بن عبد المطلب - عم رسول الله صلى الله عليه وسلم - حاضرا، ولم يكن المقدم والإمام الأروع إلا أبا بكر الصديق رضى الله عنه». فخرج المرسوم في [ذلك (¬9)] الوقت بنفى ذلك الفقيه [من بغداد (¬10)] فنفى. [وذلك الفقيه هو وجيه الدين القيروانى، وكان فقيها فاضلا ¬

(¬1) في نسخة س «وبحث الملك الناصر مع الفقهاء وناظرهم» والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬3) وردت الجملة السابقة مع بعض التعديل ولكن بنفس المعنى في نسخة س والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س «والعباس بن عبد المطلب رضى الله عنهم الحاضرين يوم السقيفة». (¬7) في نسخة س «راحجا» والصيغة المثبتة من م. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م.

ذكر مسير السلطان الملك الكامل من الديار المصرية إلى الشرق واستعادة حران والرها من نواب سلطان الروم

اجتمعت به بالقاهرة وكان صاحبى. وولى تدريس المدرسة التي هى منسوبة إلى الصاحب صفى الدين بن شكر وزير السلطان الملك العادل والسلطان الملك الكامل بعده، وتوفى - رحمه الله - بعد سفرى من صفر (¬1)]. ذكر مسير السلطان الملك الكامل من الديار المصرية إلى الشرق واستعادة حران والرها من نواب سلطان الروم (¬2) [كنا ذكرنا (¬3) أن السلطان علاء الدين سلطان الروم خرج في السنة الماضية من بلاده وقصد الشرق واستولى على حران والرها، وولى فيهما من قبله، فسار السلطان الملك الكامل في هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة - متوجها إلى الشرق بعساكره. وسار معه أخوه الملك الأشرف بعساكر دمشق، والملك المجاهد صاحب حمص، والملك المظفر صاحب حماه، وقطعوا الفرات ونازلوا الرها، فسلمت إلى الملك الكامل فأمر بهدم قلعتها فهدمت (¬4)]. ثم نازل حران فسلمت إليه وقبض على أجناد علاء الدين [كيقباذ (¬5)] الذين كانوا بحران والرها ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬2) في نسخة س «السلطان علاء الدين»، والصيغة المثبتة من م. (¬3) انظر ما سبق ص 98 - 99 (¬4) ورد ما بين الحاصرتين بصيغة مختلفة وبنفس المعنى في نسخة س، والصيغة المثبتة من م، وورد في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 251) أن السلطان الكامل أسر من أهل الرها «زيادة على ثمانمائة من الأمراء». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م.

ذكر عود السلطان الملك الكامل إلى دمشق واستقراره بها إلى آخر السنة

[ونوابه (¬1)]. وأمر بحملهم مقيدين [في محاير (¬2)] على الجمال، [وسير بهم أسارى إلى الديار المصرية. واستقبح الناس هذه الفعلة من الملك الكامل، ولم يجر له ولا لأحد من أهل بيته عادة بمثلها، وإنما حمله على ذلك أنه كان ممتلئا غيظا على علاء الدين. ذكر عود السلطان الملك الكامل إلى دمشق واستقراره بها إلى آخر السنة ولما قضى السلطان الملك الكامل غرضه من استرداد البلاد التي استولى عليها علاء الدين سلطان الروم، عاد إلى دمشق وأقام بها عند أخيه السلطان الملك الأشرف إلى أن خرجت هذه السنة (¬3).] ذكر قدوم الملك الناصر من بغداد إلى دمشق مع رسول الخليفة ثم مسيره إلى الكرك (¬4) ثم إن الخليفة المستنصر بالله خلع على الملك الناصر داود بن الملك المعظم خلعة سنية عمامة سوداء وفرجية (¬5) سوداء مذهبة، وخلع على أصحابه ومماليكه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. والمحاير جمع محارة وهى شبه الهودج، وكان للمحاير سوق خاص بالقاهرة فيه عدة حوانيت لعمل المحاير التي يسافر فيها إلى الحجاز وغيره؛ انظر: محيط المحيط؛ المقريزى، المواعظ، ج 1، ص 101؛ المقريزى، السلوك، ج 2، ص 233 حاشية 2. (¬3) ما بين الحاصرتين ورد مختصرا في نسخة س والصيغة المثبتة من م. (¬4) ورد هذا العنوان في نسخة س بصيغة مختلفة وبنفس المعنى. (¬5) في نسخة س «وجبة» وهو تحريف والصيغة المثبتة من م.

خلعا سنية (¬1) وأعطاه ما لا جليلا [لتسفيرهم (¬2)]. وبعث في خدمته رسولا [مشربشا (¬3)] من أكبر خواصه إلى السلطان الملك الكامل يشفع إليه في إخلاص نيته له (¬4)، [وإبقاء بلاده عليه، وجريه على عادته في الاحسان إليه والتعطف عليه (¬5)]. فوصل الملك الناصر إلى دمشق ومعه رسول الخليفة، [والسلطان الملك الكامل بها عند أخيه الملك الأشرف. فخرج السلطان الملك الكامل والملك الأشرف إلى لقائه وتلقاه إلى القصير (¬6)] (¬7). وأقبل [الملك الكامل] (¬8) على الملك الناصر إقبالا كثيرا، وقبل شفاعة الخليفة فيه. ونزل الملك الناصر بالقابون (¬9) بقصره الذى ورثه من أبيه الملك المعظم، وكان قبل ذلك للملك المظفر تقى الدين عمر [بن شاهنشاه بن أيوب (¬10)] فاشتراه الملك المعظم من ورثة تقى الدين. [وأقام الملك الناصر بدمشق أياما يركب كل يوم إلى خدمة عمه الملك الكامل، وربما دخل إلى داره المعروفة بدار عز الدين أسامة (¬11)]. ¬

(¬1) في نسخة س «جليلة» والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م، انظر أيضا: المقريزى، السلوك، ج 1، ص 251. (¬4) في نسخة س «في إخلاص النية له» والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «وابقاء مملكته عليه والاحسان عليه» والصيغة المثبتة من م. (¬6) القصير اسم ضيعة كانت أول منزل لمن يريد حمص من دمشق، انظر ياقوت (معجم البلدان) (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «فخرج السلطان الملك الكامل لتلقيهما إلى القصير» (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من م. (¬9) بدون تنقيط في نسختى المخطوطة. وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن قابون كان موضعا بينه وبين دمشق ميل واحد في طريق القاصد إلى العراق في وسط البساتين. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬11) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م.

وسافرت أنا من حماه (¬1) لأهنئ الملك الناصر بقدومه فاجتمعت به وهو داخل من قصره إلى [خدمة] عمه (¬2) الملك الكامل. ولازمت خدمته إلى أن سافر إلى الكرك فسافرت معه، وأقمت عنده [بالكرك (¬3)] إلى أن دخلت سنة أربع وثلاثين [وستمائه (¬4)]. ثم سافرت من خدمته ورجعت إلى حماه. [وكان - رحمه الله - يؤثر كثيرا مقامى عنده، لكنى آثرت المقام بالوطن (¬5)]. وكان قدوم الملك الناصر إلى دمشق [في شوّال (¬6)] من هذه السنة - أعنى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة - ومعه الأعلام السود رنك (¬7) الخليفة، وجعل رنكه كله أسود إنتماء إلى الخليفة. وكان الخليفة قد لقبه (¬8) «الولى المهاجر» مضافا إلى لقبه. [وأمر الملك الناصر خطباء بلاده أن يذكروا في الدعاء له اللقب الذى شرفه الخليفة به (¬9)]. ولما سافر إلى الكرك سافر رسول الخليفة معه إلى الكرك ليلبسه الخلعة، ويتأكد ¬

(¬1) في نسخة س «قال صاحب التاريخ: وسافرت من حماة إلى دمشق. .» والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) الرنك - وجمعه رنوك - لفظ فارسى معناه اللون، وقد استعمل بمعنى الشعار أو العلامة التي يتخذها الشخص لنفسه وينفرد بها دون غيره وينقشها على أبواب بيوته والأماكن المنسوبة إليه، كما يضعها على قماش خيوله وسيوفه وأدواته المعدنية والخشبية وغيرها؛ انظر القلقشندى، صبح الأعشى، ج 4 ص 61 - 62؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 672 حاشية 4؛ محمد مصطفى، الرنوك المملوكية، مجلة الرسالة (مارس 1941)؛ إبراهيم على طرخان، مصرفى عصر دولة المماليك الجراكسة، ص 324 - 334؛ أحمد عبد الرازق أحمد، الرنوك على عصر سلاطين المماليك، المجلة التاريخية المصرية، المجلد 21 (1974)، ص 67 - 116. (¬8) وردت الجملة في بعض التقديم والتأخير في نسخة س، والصيغة المثبتة من م. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م.

بذلك أمره، وتنحسم مادة الطمع فيه (¬1). ولما وصل إلى الكرك ضربت له خيمة في الوادى الذى هو غربى الكرك، مدّ فيها سماطا حضره الأكابر من الأجناد والمعممين وغيرهم (¬2). وحضره الملك الناصر [داود (¬3)] وعليه خلعة الخليفة، وضربت البشائر [بالكرك (¬4)] سرورا بذلك. ثم خلع على رسول الخليفة (¬5) [وأعطاه شيئا كثيرا (¬6)]، ورجع إلى بغداد. وأقام الملك الناصر بالكرك مطمئنا آمنا لا نتسابه (¬7) إلى الخليفة. ¬

(¬1) وردت الجملة في نسخة س في صيغة مخالفة ولكن بنفس المعنى والصيغة المثبتة من م. (¬2) في نسخة س «ضرب له خيمة في وادى الكرك بها السماط وحضره الأكابر من المعممين والأمراء والأجناد»، والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬5) في نسخة م «الرسول»، والصيغة المثبتة من س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س «وحباه». (¬7) في نسخة س «بنسبته»، والصيغة المثبتة من م.

ودخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة

ودخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة (*) والسلطان الملك الكامل وأخوه الملك الأشرف مقيمان بدمشق، [والملك الناصر داود بالكرك وقد أمن بانتمائه إلى الخليفة المستنصر بالله، والسلطان الملك المظفر بحماة محاربا للفرنج وعسكره معه نازلا ببعر تورين في مقابلة العدو.] (¬1). ذكر رجوع الملك الكامل إلى الديار المصرية (¬2) وفى أوائل هذه السنة سافر الملك الكامل - رحمه الله - إلى الديار المصرية [194 ا] وكان قد أقام بها شهورا بعد رجوعه من الشرق واسترجاعه الرها وحران من نواب السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب بلاد الروم. ذكر وفاة الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر صاحب حلب - رحمه الله (¬3) وفى أوائل (¬4) هذه السنة غضب السلطان الملك العزيز صاحب حلب - رحمه الله - على وزيره زين الدين بن حرب. [وكنا ذكرنا (¬5) توليته له الوزارة بعد ¬

(*) يوافق أولها 4 سبتمبر سنة 1236 ميلادية. (¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) ورد هذا الخبر في صيغته المثبتة في نسخة م، وورد بدله في نسخة س «ثم رحل السلطان الملك الكامل والعساكر المصرية إلى ديار مصر». (¬3) في نسخة س «رحمهما الله تعالى» والصيغة المثبتة من م. (¬4) وردت السطور الخمسة التالية في غير موضعها في نسخة م. (¬5) انظر ما سبق ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4، ص 312 - 313

خطابته (¬1) قلعة حلب، وأنه نال عنده مرتبة عالية، وحصّل أموالا جمة (¬2)]. ولما عزله [وألزمه داره بقلعة حلب (¬3)] رد الوزارة إلى القاضى [الأكرم جمال الدين أبا الحسن بن يوسف القفطى (¬4)]. وخرج الملك العزيز - رحمه الله - في أواخر (¬5) صفر [من هذه السنة (¬6)] إلى البيرة (¬7) ثم توجه إلى حارم (¬8)، وكان يؤثر التنزه بها كثيرا، وله بها جوسق [نزه (¬9)] تحته نهر جار إلى جانبه بستان، ثم حضر الملقة (¬10) لرمى البندق. واغتسل بماء بارد، فحمّ ودخل إلى حلب والتقاه الناس وهو موعوك، ودامت به الحمى وقوى مرضه، ¬

(¬1) في نسخة م «خطابه» وهو تصحيف، وذكر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 211) أن زين الدين عبد المحسن بن محمد بن حرب كان «خطيب القلعة وابن خطيبها». (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد في م «جمال الأكرم القفطى»، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 312 وحاشية 6؛ وانظر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3 ص 221). (¬5) في نسخة م «أوائل» والصيغة المثبتة من س وكذلك من ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 221). (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬7) في نسخة س «الثغرة» وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3 ص 221) النقرة ويبدو أن كليهما به تصحيف إذ ورد في ياقوت (معجم البلدان) أن «ثغرة» من أعراض المدينة والنقرة بطريق مكة؛ والصيغة المثبتة من نسخة م ولعلها الصحيحة كما يفهم من سياق الحديث. (¬8) في نسخة س «إلى داره» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م، انظر أيضا ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة). (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬10) كذا في نسختى المخطوطة وكذلك في ابن العديم (ج 3 ص 221) والملقة هى الصخرة الملساء، انظر الزمخشرى (أساس البلاغة، ج 2 ص 400)، وذكر ابن منظور (لسان العرب ج 12 ص 224؛ ج 19، ص 197) «ويقال للصفاة الملساء اللينة ملقه» و «الصفاة صخرة ملساء» ويبدو أن المقصود به الميدان الخاص بلعب البندق.

ذكر سيرته رحمه الله

فاستحلف الناس لولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف. وأرسل الصاحب كمال الدين بن العديم إلى أخيه (¬1) الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر صاحب عين تاب فاستحلفه لنفسه ولابنه الملك الناصر بعده (¬2). ثم توفى - رحمه الله - في شهر (¬3) ربيع الأول من هذه السنة. وعظمت المحنة (¬4) بموته، وكان عمره ثلاثا (¬5) وعشرين سنة وشهورا فإن مولده كان في سنة عشر وستمائة. ذكر سيرته رحمه الله كان [الملك العزيز] (¬6) - رحمه الله - ملكا عادلا رحوما مشفقا على رعيته متوددا إليهم، مائلا إلى أهل الدين والخير. ويكفيه من المناقب الحسنة (¬7) ما حكيناه عنه (¬8) من رده كمال الدين بن العجمى لما طلب القضاء بحلب، وبذل جملة كثيرة يقدمها في الحال وشيئا مقررا يحمله كل (¬9) سنة من الأوقاف والشروط وغيرها، وأنه لم يصغ إلى ذلك ولم يلتفت إليه، ورأى أن ذلك يكون ذريعة إلى الجور في الأحكام والعدول عن القوانين الشرعية، وأن من يقدم (¬10) على أن يبذل في القضاء [194 ب] هذه الجملة ¬

(¬1) في نسخة س «أخوه» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من م. (¬2) ورد في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 221) «وسيرنى إلى أخيه الملك الصالح إلى عين تاب، يستحلفه له ولابنه الملك الناصر وعدت». (¬3) في نسخة س «وذلك في»، والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة س «الفجيعة»، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «ثلاثة» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) في نسخة س «الجليلة»، والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة س «له»، والصيغة المثبتة من م، وانظر ما سبق ص 91 - 92. (¬9) في نسخة س «في كل» والصيغة المثبتة من م. (¬10) في نسخة س «وأن تقدم» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م.

[لا يكون مأمونا على الأموال والفروج (¬1)]. فأبت سجيته الكريمة ودينه الوافر (¬2) أن يجيب إلى ذلك (¬3)، وأقر الحق في نصابه، وعدل إلى النائب في الحكم عن القاضى بهاء الدين [ابن شداد] (¬4) [الذى هو القاضى زين الدين بن الأستاذ رحمه الله (¬5)] [ثقة بالقاضى بهاء الدين أنه إنما اختاره لديانته وعلمه ونزاهته، فقلده الحكم وولاه (¬6)]. ولم يلتفت إلى قول من أشار عليه من أصحابه بخلاف ذلك لعلمه إنهم إنما أشاروا بما أشاروا به لما يأخذونه من كمال الدين من السحت وهو الذى حملهم على بيع دينهم بالقليل التافه. وكان من رأيه ورأى والده وولده من بعده - رحمهم الله أجمعين - أن أي أمير مات أقرّ ولده موضعه، وإن كان صغيرا يرتب (¬7) معه من يقوم بتثقيفه (¬8) وتأديبه والخدمة نيابة عنه إلى أن يكبر الصغير ويتأهل للخدمة. وكذلك كان رأيهم في المدرسين وأرباب المناصب. وإنما تلقوا هذه الخلة الجميلة من جدهم (¬9) السلطان الملك الناصر صلاح الدين - رحمهم الله أجمعين. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد بدله في س «انما تكون معولة على أكل المال بالباطل». (¬2) في نسخة م «وديانته» والصيغة المثبتة من س. (¬3) في نسخة س «أن يفعل ذلك»، والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى م «لعلمه بديانته ونزاهته فقلده الحكم». (¬7) في نسخة س «رتب»، والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة س «به» وفى م «تثقيفه». (¬9) في نسخة م «أبيهم» والصيغة المثبتة من س.

ذكر تمليك الملك الناصر صلاح الدين أبى المظفر يوسف حلب بعد ابيه الملك العزيز رحمهما الله

ذكر تمليك الملك الناصر صلاح الدين أبى المظفر يوسف حلب بعد ابيه الملك العزيز رحمهما الله (¬1) ولما توفى الملك العزيز - رحمه الله - تقرر في الملك بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين [أبو المظفر يوسف (¬2)]. وقد كنا ذكرنا مولده (¬3) في سنة سبع وعشرين وستمائة، وأنه ولد للملك العزيز في تلك السنة ولدان آخران هما الملك العادل والملك الظاهر وماتا في تلك السنة (¬4). وكانت أم الملك الناصر [جارية (¬5)] تركية أولدها الملك العزيز الملك الناصر [وأخيه (¬6)] الملك الظاهر. ولم يخلف الملك العزيز ذكرا غيرهما. وأولدها أيضا بنتا واحدة تزوجها الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك الناصر داود [صاحب الكرك (¬7)]، ومات عنها بعد أن أولدها ولدا ذكرا. وخلف الملك العزيز بنتين (¬8) أخريين إحداهما أمها فاطمة خاتون بنت (¬9) السلطان الملك الكامل وتسمى (¬10) عائشة خاتون تزوجها مولانا السلطان الملك المنصور بن الملك ¬

(¬1) ورد العنوان في صيغة مختلفة وبنفس المعنى في نسخة س، والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) انظر ما سبق، ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4 ص 283، والسطور التالية حتى «وقام بتدبير. .» وردت في غير مكانها في نسخة س ق 301 ا. (¬4) في نسخة س «وماتا في حياة أبيهما الملك العزيز» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) في نسخة س «إبنتين» والصيغة المثبتة من م وكلاهما صحيح. (¬9) في نسخة س «من بنت» وهو تصحيف، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3 ص 207؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 234. (¬10) في نسخة س «والأخرى تسمى» وهو تصحيف كما يفهم من سياق المعنى، والصيغة المثبتة من م.

المظفر [قدس الله روحه (¬1)] وأولدها [ولده مولانا السلطان مالك الرق الملك (¬2)] المظفر تقى الدين محمود [أخلد الله سلطانه (¬3)]؛ والأخرى أمها أم ولد [تسمى غازية خاتون (¬4) عقد عقدها بحلب على السلطان غياث الدين كيخسرو ابن كيقباذ فمات ولم تحمل اليه (¬5)، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. ثم تزوجها (¬6)] الملك السعيد بن الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل وماتت عنده. فهؤلاء أولاد الملك العزيز - رحمه الله - الذين عاشوا بعده إبنان وثلاث بنات. وكان عمر الملك الناصر بن الملك العزيز لما ولى الملك بعد أبيه نحو سبع سنين. وقام بتدبير مملكته (¬7) الأميران شمس الدين لؤلؤ الأمينى وعز الدين عمر بن محلّى، ووزير الدولة القاضى جمال الدين القفطى (¬8)، وجمال الدولة إقبال الخاتونى يحضر بينهم (¬9) في المشورة، فإذا اتفق رأيهم على شىء دخل جمال الدولة إقبال إلى الصاحبة (¬10) ضيفة خاتون بنت السلطان الملك العادل، وعرفها ما اتفق رأى الجماعة عليه [فتأذن لهم في فعله، والعلامات على التواقيع والمكاتبات إليها (¬11)]. فكانت الأمور كلها منوطة (¬12) بها. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في هامش نسخة م. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬4) يقصد غازية خاتون ابنة الملك العزيز، انظر زبدة الحلب، ج 3، ص 237. (¬5) عن هذا الزواج انظر ابن العديم، نفس المصدر والجزء والصفحة. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬7) في نسخة س «الملك» والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة س «جمال الدين الأكرم» والصيغة المثبتة من م. (¬9) في نسخة م «معهم» والصيغة المثبتة من س ومن ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 225). (¬10) في نسخة س وكذلك في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 252) «الستر الرفيع» والصيغة المثبتة من م. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وكذلك من ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 225). (¬12) في نسخة س «متوطنة» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م.

ولما تقررت [هذه] (¬1) القواعد [كما ذكرنا] (¬2) توجه القاضى زين الدين ابن الأستاذ (¬3) - رحمه الله - وبدر الدين بدر بن أبى الهيجاء رسولين إلى السلطان الملك الكامل، واستصحبا معهما كزاغند (¬4) الملك العزيز - رحمه الله - وزرديته وخوذته ومركوبه. فلما وصلا إلى مصر وأديا (¬5) الرسالة وأحضرا ما معهما، أظهر [الملك الكامل (¬6)] الألم والحزن لموته، وقصر في إكرامهما وعطائهما، وحلف للملك الناصر على الوجه الذى اقترح عليه. وخاطب الرسولين بما يشير به (¬7) من تقدمة الملك الصالح بن الملك الظاهر صاحب عين تاب على العسكر، وأن يقوم بتربية (¬8) ابن أخيه الملك الناصر. ولما رجع الرسولان إلى حلب وأنهيا إلى الصاحبة ذلك لم تره صوابا، وكذلك الجماعة القائمون بترتيب أمر الدولة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬2) ما بين الحاصرتين من س وساقط من م. (¬3) في نسخة س «قال قاضى القضاة جمال الدين صاحب هذا التاريخ: فوجه الملك الناصر القاضى زين الدين قاضى حلب. .» والصيغة المثبتة من م، انظر أيضا ابن العديم، ج 3، ص 225؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 253. (¬4) الكزاغند أو القزاغند معناه المعطف القصير يلبس فوق الزردية، انظر ما سبق ابن واصل، ج 2، ص 44، حاشية 5. (¬5) في نسخة س «وأحضرا» والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) في نسخة س «بما يشير به عنده» وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 226) «بما يشيران به عنه» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬8) في نسخة س «بتدبير» ولعله تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة م، انظر أيضا ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 226).

ذكر اتفاق الملوك على مباينة الملك الكامل

ثم بعد مدة سير السلطان الملك الكامل خلعة للملك الناصر بغير مركوب، وسير عدة خلع لأمراء الدولة، وسير مع رسول آخر خلعة للملك الصالح بن الملك الظاهر صاحب عين تاب على أن يمضى بالخلعة (¬1) إليه إلى عين تاب [195 ب] فاستشعرت الصاحبة وأرباب الدولة من ذلك. وحصل عند الصاحبة وحشة [عظيمة (¬2)] من أخيها الملك الكامل بسبب ذلك؛ فاتفق رأى الجماعة على أن لبس الملك الناصر خلعة الملك الكامل، ولم يخلع على أحد من الأمراء شيء مما سير إليهم، وردوا الرسول الوارد إلى الملك الصالح بخلعته، ولم يمكنوه من الوصول إليه. واستحكمت الوحشة في قلوبهم من الملك الكامل (¬3). ذكر اتفاق الملوك على مباينة الملك الكامل قد ذكرنا استيحاش الملوك من الملك الكامل لما قصد بلاد الروم. (¬4) ولما كانت هذه السنة وجرى ما ذكرناه من موت الملك العزيز [صاحب حلب] (¬5) وما جرى من الملك الكامل من إشارته بتقديم الملك الصالح بن الملك الظاهر على عسكر حلب، وإنفاذ الخلع إلى الأمراء بها، واستيحاش [الصاحبة] (¬6) والدة الملك العزيز [وأرباب الدولة (¬7)] من ذلك، راسل السلطان الملك الأشرف أخته الصاحبة بحلب [والجماعة (¬8)] على أن تكون كلمتهم واحدة على الملك الكامل، وأنهم يتفقون على منعه من ¬

(¬1) في نسخة م «على أن يمضى الخلعة»، والصيغة المثبتة من س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) عن هذه الوحشة انظر أيضا، ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 226؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 254. (¬4) انظر ما سبق ص 77 (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة م ومثبت في س. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م.

النزول إلى الشام، وأن يقتصر على الديار المصرية، وعلى أن يكاتبوا السلطان علاء الدين [كيقباذ] (¬1) صاحب الروم ليكون معهم على ذلك. وكان المؤكد لهذا الأمر عند الملك الأشرف والمحسّن له أن يباين أخاه الملك الكامل بعد ما كان بينهما من الاتفاق العظيم، أنه تتابعت عليه من أخيه الملك الكامل أفعال كثيرة أوجبت ضيق صدره، وكان يغض على نفسه (¬2) ويحتملها؛ من ذلك أنه أخذ منه بلاده الشرقية حين أعطاه مدينة دمشق (¬3)، وأخذ من مضافات (¬4) دمشق مواضع متعددة. [واتفق مع ذلك ما ذكرنا (¬5) من استيلاء علاء الدين سلطان الروم على بلاد خلاط منه وهى مملكة عظيمة تقارب مملكة مصر (¬6)]. فضاق ما بيد الملك الأشرف جدا (¬7). وكان الملك الكامل ينزل ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) في نسخة س «وكان يعرض على نفسه»، ولعله تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة م، وكذلك ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 226)، وورد هذا الخبر مختصرا في المقريزى، السلوك، ج 1 ص 254. (¬3) في نسخة س «من ذلك أنه أخذ من بلاده الشرقية حين أعطاه مدينة دمشق شىء كثير»، والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة س «مناصفات» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬5) انظر ما سبق ص 98. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬7) ذكر ابن أيبك الدوادارى (الدر المطلوب، ج 7 ص 317 - 318) معلومات هامة عن أسباب الخلف بين الأشرف والكامل هى: (وفيها وقع الخلف بين الأشرف والسلطان الكامل؛ وذلك أن الملك الأشرف استخدم الخوارزمية الذين كانوا في عسكر السلطان جلال الدين وقويت شوكته، فسير طلب من السلطان الرقة. وكان الملك الكامل لما عزم على أخذ الروم قال أسد الدين صاحب حمص للأشرف: «متى أخذ الروم تعبنا به، وبقينا بين يديه يقلبنا كيف شاء»، فاتفقا عليه. وفهم الكامل منهما ذلك فعجل في عودته إلى مصر حسبما تقدم من الكلام وبعث الأشرف يقول له: «أخذت الشرق منى وأعطيته لولدك وقد افتقرت، وايش هى دمشق إلا بستان ومالى فيها رزق». فبعث إليه الكامل بعشرة آلاف دينار فردها الأشرف عليه وقال: «أنا أعطى هذه لأمير عندى». فغضب الكامل وقال: «إيش يعمل الأشرف بالملك؟ تكفيه عشرته للمغانى وتعليمه صناعتهم». فبلغ ذلك الأشرف فقال: «والله لأعرفنه قدره») انظر أيضا سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 463.

في كل سنة إلى دمشق في عبوره إلى الشرق ورجوعه منه فيقيم بدمشق مدة ويحتاج الملك الأشرف في ضيافته وضيافة أصحابه إلى جملة كثيرة. وقبض أيضا [196 ا] الملك الكامل على أملاك الملك الأشرف التي بحران والرقة والرها وسروج ورأس عين وعلى جميع أملاكه التي ملكها بتلك البلاد. وفتح [الملك الكامل (¬1)] آمد وهو في صحبته ولها بلاد كثيرة وهى مملكة واسعة، فلم يطلق له منها شيئا، وخذله في انتزاع سلطان الروم [بعض ممالك (¬2)] خلاط منه فلم ينصره عليه ولم يعاضده. فلهذا وأشباهه مضافا إلى ما كان بلغه وقت دخول الدربند [ببلاد الروم] (¬3) عنه من انتزاع الشام من الجماعة [ملوك البيت الأيوبى (¬4)] وتعويضهم ما يملكه (¬5) من بلاد الروم قوى عزمه على منابذته والممالأة عليه. وكان الملك المجاهد أسد الدين شير كوه - صاحب حمص - من أشد الجماعة موافقة على ذلك وقياما فيه، لكن الملك المظفر - صاحب حماة - كان مائلا إلى خاله الملك الكامل لأنه الذى ملّكه حماة [بعد انتزاعها من أخيه الملك الناصر (¬6)] وصاهره [وأذن له بعد ذلك في انتزاع بعرين منه] (¬7). فاتفق (¬8) الملك الأشرف والملك المجاهد والحلبيون على أن يستميلوه (¬9) إليهم إذ لا يتم غرضهم بخروجه عنهم، وأنه إن لم يوافقهم حاربوه. فتوسط الملك المجاهد [صاحب حمص (¬10)] بينه وبين ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) في نسخة س «ما ملكه» والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬8) في نسخة س «فاتفقوا على أن. . .»؛ والصيغة المثبتة من م. (¬9) أي الملك المظفر صاحب حماة. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م.

الملك الأشرف، ولم يزل به إلى أن أجاب إلى الاتفاق معهم خوفا منهم على بلاده، وهو في الباطن مع الملك الكامل. فألزمه الملك المجاهد أن يمضى إلى دمشق ويجتمع بالملك الأشرف ويحلف له. فأجاب الملك المظفر إلى ذلك، وسار إلى دمشق، واجتمع بالملك الأشرف وحلف له، ثم رجع إلى حماة. وانتظمت كلمة الكل على ذلك. وبينما هم يبرمون (¬1) هذه القاعدة، [وقد سيروا رسلا إلى علاء الدين ليحلف لهم وتصير كلمتهم واحدة (¬2)] إذ وقع من الاتفاق موت السلطان علاء الدين في أول شوال (¬3) من هذه السنة، وقام ولده غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ في الملك مقامه (¬4). [وكان الرسول من جهة الملك الأشرف القاضى شمس الدين الخويى (¬5) قاضى دمشق، رحمه الله، ومن جهة الملك المظفر صاحب حماة الشيخ شرف الدين عبد العزيز محمد الأنصارى؛ ومن الحلبيين الصاحب كمال الدين عمر بن أبى جرادة المعروف بابن العديم. ومات علاء الدين قبل اجتماعهم فاجتمعوا بالسلطان غياث الدين [196 ب] كيخسرو بن علاء الدين كيقباذ، فأدوا الرسالة إليه واستحلفوه على القاعدة التي وقع الاتفاق عليها. وكان تحليف كمال الدين له في ذى القعدة من هذه السنة] (¬6). ¬

(¬1) في نسخة س «يرتبون»، والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة وفى المقريزى (السلوك، ج 1 ص 254) «سابع شوال». (¬4) وردت الجملة مع بعض الاختلاف في نسخة س، والصيغة المثبتة من م. (¬5) انظر ما سبق ص 39 وحاشية 3. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد في نسخة س مختصرا: «فاتفقوا على أن يسيروا من يستحلفه على الموافقة معهم على ما اتفقوا عليه» وذكر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 232): «وسيرت رسولا إلى ابنه غياث الدين كيخسرو القائم في الملك بعده بالتعزية وتجدد الأيمان عليه على القاعدة التي كانت مع أبيه، فخلفته على ذلك في ذى القعدة».

ذكر مسير الملك الناصر داود بن الملك المعظم إلى الديار المصرية واتفاقه مع عمه السلطان الملك الكامل

ذكر مسير الملك الناصر داود بن الملك المعظم إلى الديار المصرية واتفاقه مع عمه السلطان الملك الكامل (¬1) ولما جرى ما ذكرناه، أرسل الملك الأشرف إلى [ابن أخيه (¬2)] الملك الناصر [داود (¬3)] يدعوه إلى موافقته وأن ينتظم في سلكه كما فعل صاحب حمص وصاحب حماة والحلبيون [وسلطان الروم (¬4)]، وأن يحلف (¬5) على ذلك، وشرط له أن [الملك الناصر] (¬6) يكون ولى عهده ويزوجه ابنته؛ ولم يكن للملك الأشرف ولد غيرها. وعند ورود رسوله إليه بذلك ورد على الملك الناصر من الملك الكامل القاضى الأشرف بن القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى (¬7) يدعوه إلى موافقته ويقول [له (¬8)]: «أنت تعلم غدر الملك الأشرف، وأنه لما مات أبوك الملك المعظم التجأت إليه وأعرضت عن جانبى، فأدى ذلك إلى أن غدر بك ومالأ عليك، وأخذ دمشق منك، ولو كنت التجأت إلىّ لم يذهب منك من ملك أبيك شىء. ¬

(¬1) في نسخة س «ذكر توجه الملك الناصر داود بن الملك المعظم إلى الملك الكامل واتفاقه معه»، والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬5) في نسخة س «يحلفوا» وهو تصحيف كما يفهم من السياق، والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬7) هو القاضى الأشرف بهاء الدين أبو العباس أحمد بن القاضى الفاضل، وكان القاضى الأشرف كوالده كبير المنزلة عند الملوك، ولد سنة 573 هـ‍ بالقاهرة ومات بها سنة 43 هـ‍، انظر ابن خلكان (وفيات الأعيان، ترجمة القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى). (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. والسطور التالية إلى نهاية الفقرة وردت في نسخة س في صيغة مختلفة ولكن بنفس المعنى والصيغة المثبتة من م.

والآن فقد بلغنى أنه وعدك أنه يجعلك ولى عهده [في دمشق، وأنت تعلم عدم وفائه (¬1)]، وأنا التزم لك إن وافقتنى أن أخرج معك بعساكرى وانتزع دمشق منه وأسلمها إليك ناجزا، وترجع إليك مملكة والدك كلها». ولما ورد على الملك الناصر رسالة عميه الملك الأشرف والملك الكامل بما أرسلا به إليه حار في أمره فاستشار (¬2) والدته فيما يفعل [ولمن يوافق منهما (¬3)]، فأشارت عليه [بأن يكون موافقا للملك الكامل ويمضى إلى خدمته لئلا يجرى عليه ماجرى في المرة الأولى. فصمم عزمه على ذلك ورحل إلى الديار المصرية صحبة القاضى الأشرف. فسير القاضى الأشرف يعلم الملك الكامل ذلك، فسر بذلك وأمر بترتيب الإقامات الكثيرة له، واحتفل به التقاه أحسن ملتقى، وزينت القاهرة له (¬4)]. وأنزله بدار الوزارة ثم خلع عليه خلع (¬5) السلطنة، وأركبه بالسناجق السلطانية، وأمر الأمراء ومن عنده من الملوك أن يحملوا الغاشية (¬6) [197 ا] بين يديه [بالنوبة (¬7)]. وأول من حمل الغاشية بين يديه الملك العادل سيف الدين أبو بكر ابن الملك الكامل، ولى عهد أبيه، ثم حملها ابن عمه الملك الجواد مظفر الدين ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) في نسخة س «وشاور» والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬4) ما بين الحاصرتين ورد في صيغة مختلفة في نسخة س، والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «خلعة»، والصيغة المثبتة من م. (¬6) عن الغاشية، انظر القلقشندى، صبح الأعشى، ج 4، ص 7؛ ابن واصل: مفرج الكروب، ج 3، ص 25 حاشية 2. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة م ومثبت في س، انظر أيضا المقريزى: كتاب السلوك، ج 1، ص 255.

يونس بن مودود بن الملك العادل [بن أيوب] (¬1)، ثم حملها الأمراء على مراتبهم واحدا (¬2) بعد واحد إلى أن صعد إلى القلعة. ثم أمر الملك الكامل بتجديد عقده على [ابنة (¬3) عمه] عاشورا خاتون [بنت السلطان الملك الكامل (¬4)] فجدد العقد. [وبلغنى أنه كتب الملك الناصر لما جرى ذلك إلى نائبه بالكرك يخبره بإحسان الملك الكامل إليه. وتمثل في الكتاب ببيت من أبيات أبى الطيب المتنبى وهو] (¬5): سيعلم قوم خالفونى وشرّقوا ... وغرّبت أنى قد أصبت وخابوا (¬6) وأرسل الملك الأشرف والموافقون له رسلا إلى الملك الكامل يقولون له (¬7): «إنا قد اتفقت كلمتنا، ونطلب منك إنك لا تعود تخرج من مصر ولا تنزل إلى الشام، وتحلف لنا على ذلك». فلما سمع رسالتهم (¬8) قال لهم: [«أنتم قد اتفقتم، فما تطلبون من يمينى؟ احلفوا لى أنتم أيضا أن لا تقصدوا بلادى، ولا تتعرضوا لشىء مما في يدى، وأنا أوافقكم على ما تطلبون (¬9)»]. ثم اتفق أنه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة م ومثبت في س. (¬2) في نسخة س «واحد» والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من م ومثبت في س. (¬5) ورد ما بين الحاصرتين في صيغة مختلفة في نسخة س والصيغة المثبتة من م. (¬6) كذا في نسختى المخطوطة وورد البيت في الديوان كمايلى: وأعلم قوما خالفونى فشرقوا وغربت أنى قد ظفرت وخابوا انظر: ديوان أبى الطيب المتنبى، ط. برلين 1861، ص 687؛ اليازجى، العرف الطيب في شرح ديوان أبى الطيب، ج 1، ص 520. (¬7) في نسخة س «فلما تقررت القاعدة أرسلوا رسلا من جهتهم إلى الملك الكامل إلى مصر وقالوا له» والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة س «فلما مضت رسلهم بذلك إلى الملك الكامل» والصيغة المثبتة من م. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد مع قليل من الاختلاف في م، انظر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 228).

ذكر المتجددات فى هذه السنة

عرض للملك الأشرف مرض ولحقه ذرب (¬1)، فكان لا يستقر الطعام في معدته، وطال مرضه واتصل إلى أن خرجت هذه السنة [وهى سنة أربع وثلاثين وستمائة (¬2)]. ذكر (¬3) المتجددات في هذه السنة أن شهاب الدين [يوسف بن عز الدين مسعود بن سابق الدين عثمان (¬4)] الذى كان صاحب شيزر اتفق هو وكمال الدين بن العجمى (¬5) على أن سيّرا رجلا من جهتهما يقال له عز الدين بن الأطفانى (¬6) إلى الملك الأشرف يطمعانه في ملك حلب. ووعدا (¬7) من أنفسهما أنهما يساعدانه بأموالهما (¬8). [وأوهمه الكمال بن العجمى أن أقاربه وجماعة كثيرة من الحلبيين يبايعونه ويوافقونه على ذلك. وأوهمه شهاب الدين صاحب شيزر أن معظم الأمراء بحلب يوافقونه عليه (¬9)]. واشترط كمال الدين على الملك الأشرف أن يوليه قضاء حلب إذا أخذها (¬10) فمضى رسولهما ¬

(¬1) في نسخة س «فاتفق في هذا الوقت أنه مرض الملك الأشرف بالذرب» والصيغة المثبتة من م، والذرب هو مرض استطلاق البطن المتصل وهو من الأمراض المزمنة، انظر المقريزى، السلوك، ج 1، ص 255 حاشيه 1. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) في نسخة س «ومن»، والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) في نسخة م «الكمال العجمى»، والصيغة المثبتة من س. (¬6) الكلمة غير واضحة في نسختى المخطوطة والصيغة المثبتة من ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 228). (¬7) في نسخة س «ووعداه»، والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة س «يساعدانه بأنفسهما وأموالهما»، والصيغة المثبتة من نسخة م ومن ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 228). (¬9) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س مع بعض التقديم والتأخير، والصيغة المثبتة من م. (¬10) في نسخة م «أن يولى قضاء حلب»، والصيغة المثبتة من س.

عز الدين المذكور إلى الملك الأشرف بدمشق [واجتمع بفلك الدين المسيرى، وكان متقدما في الدولتين الكاملية والأشرفية (¬1)]، وذكر له الأمر الذى جاء بسببه. [فذكر فلك الدين ذلك للملك الأشرف فأنكره (¬2)] ولم يجب إليه، وأجاب بأنه لا يمكن أن يبدو (¬3) منى غدر (¬4) ولا قبيح في حق أحد من ذرية الملك الظاهر (¬5). واتصل هذا الخبر (¬6) بالصاحبة [إبنة السلطان الملك العادل (¬7)] والمقدمين بحلب، فسيروا من وقف للرسول في طريقه. فلما رجع الرسول [إلى حلب] (¬8) قبض عليه وأصعد (¬9) إلى القلعة، وسئل عن الحديث، فأخبرهم به على فصّه (¬10) فحبس، وحلقت لحيته (¬11)، وسيّر [به (¬12)] إلى دربساك، فاعتقل بها. وأحضر كمال الدين بن العجمى ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س «واجتمع ببعض خواصه». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى س «فلما بلغ ذلك الملك الأشرف. . .». (¬3) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 229) «يبدر». (¬4) في نسخة س «غرر» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م ومن ابن العديم، ص 229. (¬5) ذكر ناسخ نسخة س بعد ذلك «وكان الشخص المتكلم في ذلك بين الملك الأشرف ورسول المذكورين فلك الدين بن المسيرى». (¬6) في نسخة م «الأمر» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 229) وذكر ابن العديم أن فلك الدين المسيرى أخبره بأنه هو الذى كان المتكلم بين الملك الأشرف وبين رسولهما. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬9) في نسخة س «وصعد»، والصيغة المثبتة من م ومن ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 229). (¬10) كذا في نسخة م وفى ابن العديم (نفس الجزء والصفحة) وفى نسخة س «قصته» وورد في لسان العرب، ج 8، ص 333 أن فص الأمر أصله وحقيقته. (¬11) في نسخة س «فجلس بعد أن حلقت لحيته» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من م وانظر ابن العديم (نفس الجزء والصفحة). (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م.

وشهاب الدين صاحب شيزر فاعتقلا (¬1) بالقلعة، وأخذت أموال شهاب الدين جميعها، [فيقال أنها كانت أربعين عجلة محملة ذهب وفضة (¬2)]. ولم يتعرضوا (¬3) لأموال كمال الدين بن العجمى تطييبا لقلوب أهله. وهذا الحديث كان في جمادى الأولى من هذه السنة، فداما في الاعتقال (¬4) إلى أن مات الملك الكامل ثم أطلقا (¬5). ومن المتجددات (¬6) في هذه السنة أن أميرا من أمراء التركمان يقال له قنغر جمع جمعا [كثيرا (¬7)] من التركمان بعد وفاة الملك العزيز، وعاث (¬8) في البلاد وأطراف حلب من ناحية قورس (¬9)، ونهب ضياعا متعددة، وكان يغار (¬10) ويدخل إلى بلد (¬11) الروم، فخرج إليه عسكر حلب فكسرهم ونهبهم. فتخوف (¬12) المقدمون بحلب أن يكون ذلك بأمر سلطان الروم؛ فسيروا إليه رسولا في معناه. فأنكر ذلك وأمره برد ما أخذه (¬13) من بلد حلب. فردّ بعضه، وانكف عن العيث والفساد (¬14). ¬

(¬1) في نسخة س «واعتقل»، والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) في نسخة س «ولم يتعرض» والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة س «الحبس» والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «إلى أن ماتا السلطانين الأشرف والملك الكامل» والصيغة المثبتة من م، انظر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 229). (¬6) في نسخة س «ومن الحوادث» والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) في نسخة س «وغار» والصيغة المثبتة من م ومن ابن العديم، ص 229. (¬9) قورس كانت كورة من نواحى حلب؛ وذكر ياقوت (معجم البلدان) أنها كانت في أيامه خرابا. (¬10) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم، ص 230. (¬11) في نسخة م «بلاد» والصيغة المثبتة من س ومن ابن العديم. (¬12) في نسخة م «فخاف» والصيغة المثبتة من س، وفى ابن العديم (نفس المصدر، ج 3، ص 230) «وتخوف». (¬13) في نسخة س «ما أخذ» والصيغة المثبتة من م ومن ابن العديم. (¬14) في نسخة س «فرده ولم يرد الكل وكف عن العبث والفساد»، والصيغة المثبتة من نسخة م ومن ابن العديم.

ذكر الوقعة بين عسكر السلطان الملك الناصر صاحب حلب والفرنج

وبذل سلطان الروم من نفسه الموافقة والنصرة للسلطان الملك الناصر [بن الملك العزيز (¬1)]، ومنع من يقصده أو يتعرض لبلاده بأذى أو فساد. فسير إليه من حلب تقدمة سنية على يد [الأمير (¬2)] شرف الدين أمير جاندار (¬3)، فأكرم الرسول إكراما كثيرا، وسير إليه [القاضى العلامة (¬4)] أوحد الدين الدوينى [رحمه الله، وكان إمام وقته في علم الخلاف (¬5)] فاستحلفه للسلطان الملك الناصر في الذب عن بلاده ودفع (¬6) من يقصدها [بأذى (¬7)]. ذكر الوقعة بين عسكر السلطان الملك الناصر صاحب حلب والفرنج (¬8) كانت (¬9) بغراس من جملة فتوح السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب - رحمه الله -[198 ا] وقد تقدم ذكر ذلك (¬10)، ثم هدمت كما ذكرنا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من س وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة، وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 230) «شرف الدين ابن أمير جاندار». (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد بدله في س «قاضى منبج»، بينما ورد في ابن العديم (ج 3، ص 230) «قاضى خلاط». (¬6) في نسخة م «ومنع» والصيغة المثبتة من س ومن ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة). (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) في نسخة س «ذكر إيقاع عسكر السلطان الملك الناصر صاحب حلب بالفرنج» والصيغة المثبتة من م. (¬9) في نسخة م «كان» والصيغة المثبتة من س. (¬10) في نسخة س «ذكره» والصيغة المثبتة من م، انظر ما سبق ابن واصل، ج 2، ص 268 - 269.

فاستولى عليها الداوية وعمروها، فخرجوا في هذه السنة بعد موت الملك العزيز وأغاروا على العمق، واستاقوا أغناما للتركمان ومواشى كثيرة لهم ولغيرهم (¬1). فسير إليهم من حلب الملك المعظم [فخر الدين (¬2)] تورنشاه بن صلاح الدين (¬3) مقدما على عسكر حلب، فنازل بهم بغراس وحصرها مدة، حتى تهدم (¬4) مواضع من سورها بالمنجنيق (¬5)، وفقد (¬6) ما كان عند أهلها من الذخائر، وأشرفت على الأخذ، فشفع فيهم الأبرنس - صاحب أنطاكية (¬7) - بعد أن كان مغاضبا لهم، فرأى الملك المعظم (¬8) والعسكر المصلحة في إجابته إلى ذلك، وعقدوا الهدنة مع الداوية على بغراس، فرحلوا عنها، ولو أقاموا [عليها (¬9)] يومين آخرين لملكوها. ثم سار العسكر عن بغراس بعد أن خربوا بلدها خرابا شنيعا ونزلوا بالقرب من دربساك، فجمعت الداوية جمعا كثيرا واستنجدوا بصاحب جبيل وغيره من الفرنج، وجمعوا راجلا كثيرا، وساروا من جهة حجر شغلان (¬10) إلى دربساك، ليكبسوا ربض دربساك على غرة من أهله، ولينالوا غرضا منه (¬11). وفطن بهم ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 230) «ومواشى لغيرهم كثيرة». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬3) أي ابن الملك الناصر (الثانى) صلاح الدين يوسف، تولى حلب سنة 634 هـ‍. (¬4) في نسخة س «هدمت» والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «بالمناجنيق» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «ونفذ» والصيغة المثبتة من م. (¬7) كان أمير أنطاكية في هذه السنة بوهمند الخامس (1233 - 1251). (¬8) في نسخة س «الملك الناصر» والصيغة المثبتة من م ولعلها الصحيحة. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من م ومثبت في س وفى ابن العديم، ج 3، ص 231. (¬10) ذكر المقريزى (السلوك، ج 1، ص 841) أن حجر شغلان من حصون الأرمن. (¬11) في نسخة س «ولينالوا منهم غرضا» وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 231) «وأن ينالوا منه غرضا» والصيغة المثبتة من م.

ذكر استخدام الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن السلطان الملك الكامل [بن الملك العادل]- صاحب البلاد الشرقية - للخوارزمية

من بالربض من الأجناد واستعدوا لهم. ونزل لمساعدتهم جماعة من أجناد القلعة. ووصل إليهم الفرنج فقاتلوهم قتالا شديدا، وحموا الربض منهم. وبلغ الخبر العسكر الإسلامى النازل قريبا منهم، ومقدمهم الملك المعظم [ابن صلاح الدين (¬1)]، فركبوا وساقوا إليهم، وقد تعبت الفرنج، وكلّت خيولهم، فوقع المسلمون عليهم وبذلوا فيهم السيف فانهزم الفرنج هزيمة شنيعة، وقتل منهم خلق [كثير (¬2)]. واستولى المسلمون على فارسهم وراجلهم، وكان فيهم جماعة من المقدمين. واختبى (¬3) جماعة [منهم] (¬4) من الخيالة والرجالة خلف الأشجار في الجبل، فأخذوا ولم ينج منهم إلا القليل. وكان هذا الفتح من الفتوح الجليلة المشهورة. [ورجع العسكر الحلبى مظفرا منصورا، ودخل العسكر إلى حلب ورؤس الفرنج محمولة على الرماح، والأسرى معهم. وكان يوم دخولهم يوما مشهودا. ثم حبست الأسارى في القلعة، وأنزلوا بعد ذلك إلى الخندق (¬5)]. ذكر استخدام الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن السلطان الملك الكامل [بن الملك العادل (¬6)] - صاحب البلاد الشرقية - للخوارزمية [198 ب] كنا ذكرنا في حوادث سنة تسع وعشرين وستمائة (¬7) أن السلطان ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م وفى ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة) «وقتل منهم خلق عظيم». (¬3) كذا في نسختى المخطوطة والمقصود «واختبأ»، انظر أيضا ابن العديم (نفس المصدر، ج 3، ص 232) الذى اعتمد ابن واصل عليه كثيرا عند ذكر هذا الخبر. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬5) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س في صيغة مخالفة، والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) في نسخة س «سنة ثلاثين وستمائة»، والصيغة المثبتة من م، انظر ما سبق ص 12، 16 - 17.

[الملك الكامل (¬1)] [لما سار من الديار المصرية إلى الشرق لفتح آمد (¬2)]، تقدم إلى ولده الملك الصالح بالمضى إلى الشرق [ليكون نائبه بها وولى عهده في مملكتها (¬3)]. وأنه سار إلى الشرق بجماعته وأهله وأولاده. وأنه ترتب في الشرق نائبا عن أبيه ومعه الطواشى شمس الدين صواب العادلى، والملك الصالح عنده لا يتصرف في شىء من الممالك، وإنما هو في صورة النائب عن أبيه في الملك والمعهود إليه بالسلطنة [بعده] (¬4). ثم توفى شمس الدين صواب (¬5) فسلم السلطان الملك الكامل إلى الملك الصالح حصن كيفا وما فيه من الذخائر والمال، وجعل له الحكم في (¬6) البلاد. فصار [الملك الصالح (¬7)] يحكم في آمد وبلادها وحران والرقة والرها وسروج ورأس عين وما يتبع ذلك من البلاد. وكنا ذكرنا (¬8) هلاك السلطان جلال الدين [بن علاء الدين (¬9)] خوارزم شاه بعد كبس التتر (¬10) له بالقرب من آمد، وأن عساكره تفرقت وتشتتت (¬11)، ثم اجتمعوا وقصدوا جهة بلاد الروم فاستخدمهم السلطان علاء الدين [كيقباذ ابن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقى (¬12)] وتقوى بهم. وكانت عدتهم تزيد على ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) في نسخة س «ثم أنه توفى صواب» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «على» والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬8) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 320 وما بعدها. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬10) في نسخة س «بعد أن كبسه التتر» والصيغة المثبتة من م. (¬11) في نسخة س «وأن عساكره تشتتوا» والصيغة المثبتة من م. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م.

اثنى عشر ألف فارس، ولهم جماعة من المقدمين منهم حسام الدين بركة خان وكشلو خان [وبردى خان (¬1)] وسارو خان وفرخان فأقاموا في خدمة علاء الدين إلى أن توفى، وملك والده غياث الدين كيخسرو فقبض على بركة خان (¬2) وكان أكبر المقدمين فيهم، فهربت الخوارزمية من الروم ونهبوا ما في طريقهم من بلاد الروم وما قدروا عليه (¬3). وعبروا الفرات، فاستمالهم السلطان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬4)]، وكتب إلى والده الملك الكامل يستأذنه في استخدامهم [عنده (¬5)] فأذن له في ذلك، فاستخدمهم وأقطعهم مواضع بالجزيرة (¬6)، وتقوى بهم. [ثم خلص مقدمهم بركة خان من يد غياث الدين كيخسرو ملك الروم (¬7)]. [وبركة خان (¬8) مقدمهم والمرجوع إليه في أمورهم (¬9)]. ¬

(¬1) في نسخة م «وخان بردى» والصيغة المثبتة من س، انظر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 250). (¬2) في نسخة م «فر خان»، والصيغة المثبتة من نسخة س ولعلها الصحيحة كما يفهم من سياق المعنى. (¬3) في نسخة س «ونهبوا في طريقهم من الروم ما قدروا عليه»، والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد بدلها في س «بن الملك الكامل». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬6) في س «بالبلاد الجزيرية» والصيغة المثبتة من نسخة م، وفى المقريزى (السلوك، ج 1، ص 255) «بالبلاد الجزرية». (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) في الأصل «بركتخان» وسبق أن ورد الاسم بالصيغة المثبتة. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س.

ودخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة

ودخلت سنة خمس (¬1) وثلاثين وستمائة (*) والسلطان الملك الكامل [مقيم (¬2)] بالديار المصرية وعنده ابن أخيه الملك الناصر داود [بن الملك المعظم (¬3)] [نازلا بدار الوزارة (¬4)] وقد اشتد أزره به (¬5)، والملك الأشرف بدمشق وقد اشتد به المرض جدا (¬6) وعهد بالملك بعده إلى أخيه الملك الصالح عماد الدين اسماعيل [بن الملك العادل (¬7)] صاحب بصرى، والملك المجاهد [أسد الدين (¬8)] بحمص، وبحماة الملك المظفر (¬9)، والحكم بحلب للصاحبة (¬10) والدة [199 ا] الملك العزيز ومن ذكرنا من مقدمى الدولة. وقد اتفقت كلمة الجميع على مباينة الملك الكامل ومنعه من الخروج من الديار المصرية، وقد اتفق معهم على ذلك غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ سلطان الروم. ¬

(*) يوافق أولها 24 أغسطس سنة 1237 ميلادية. (¬1) في نسخة س «خمسة» والصيغة الصحيحة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين مذكور في هامش نسخة س وساقط من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬5) في نسخة س «وقد اشتد أزر الملك الكامل به»، والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «وقد اشتد به مرض الذرب» والصيغة المثبتة من م. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬9) في نسخة س «والملك المظفر بحماة»، والصيغة المثبتة من م. (¬10) في نسخة س «إلى الصاحبة»، والصيغة المثبتة من م.

ذكر وفاة السلطان الملك الأشرف ابن [السلطان] الملك العادل - رحمه الله

ذكر وفاة السلطان الملك الأشرف ابن [السلطان (¬1)] الملك العادل - رحمه الله (¬2) واشتد مرض الملك الأشرف [في أول هذه السنة] (¬3)، وأخذت قواه في الضعف والانحلال بسبب ما تواتر [عليه (¬4)] من الاستفراع. فحكى لى أنه اشتهى لحم عجل فأحضر إليه وتناول منه مقدارا (¬5) لم تف قوته الهاضمة بهضمه، [وكان هذا في آخر مرضه (¬6)]، وأسرف (¬7) به القيام، ووقع اليأس منه (¬8). وكان يتردد إليه من الحكماء جماعة منهم سعد الدين الحكيم الدمشقى (¬9) وهو من فضلاء الأطباء، ومنهم موفق الدين إبراهيم (¬10) وكان سامر يا ثم أسلم (¬11) وحسن إسلامه، وكان متدينا متقشفا. وكان من حكماء السلطان الملك العادل - رحمه الله - ثم أمره بملازمة ولده الملك المظفر شهاب الدين غازى فأقام عنده بالرها مدة، ثم انتقل إلى دمشق ولازم الملك الأشرف. وكان متقنا لصناعة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬2) في نسخة س «رحمهما الله تعالى»، والصيغة المثبتة من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة م، وورد بدلها في س «رحمه الله». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من م. (¬5) في نسخة س «فتناول منه شيئا يسيرا» والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) في نسخة م «فأسرف» والصيغة المثبتة من س. (¬8) في نسخة س «به»، والصيغة المثبتة من م. (¬9) هو سعد الدين بن عبد العزيز الحكيم. قال عنه ابن أبى أصيبعة (عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ج 2، ص 192) «وكان الحكيم سعد الدين أوحد زمانه وعلامة أوانه في صناعة الطب، قد أحكم كليات أصولها وأتقن جزئيات أنواعها وفصولها، ولم يزل مواظبا على الاشتغال ملازما له في كل الأحوال». (¬10) هو إبراهيم بن خلف السامرى، أشار إليه ابن أبى أصيبعة (عيون الأنباء، ج 2، ص 193) وذكر أنه نبغ وصار طبيبا فاضلا. (¬11) في نسخة س «فأسلم» والصيغة المثبتة من م.

ذكر سيرته رحمه الله

الطب، حسن المعالجة. فذكر أن الملك الأشرف في آخر مرضه - عند ما أيفن (¬1) الحكماء باليأس منه - أمر بطلب الحكيم موفق الدين إبراهيم هذا، فطلبه الغلمان من (¬2) المواضع التي جرت عادته أنه يكون (¬3) بها فلم يوجد فيها. وتألم الملك الأشرف لغيبته عنه، ثم إنهم وجدوه بمشهد برزة (¬4) الذى فيه مقام إبراهيم عليه السلام، فأحضروه إلى الملك الأشرف فقال له: «يا حكيم أين كنت؟». فقال: «يا مولانا كنت في مقام إبراهيم عليه السلام أدعولك». فقال: «يا حكيم ووصل الحال إلى أنك تدعو لى، وما بقى فىّ رجاء من حيث الطب». [ثم توفى الملك الأشرف بعد يومين من هذا الكلام] (¬5) في المحرم من هذه السنة، [وهى سنة خمس وثلاثين وستمائة (¬6)]. وكان عمره قريبا من ستين سنة، وكانت مدة ملكه لدمشق (¬7) ثمان سنين وشهورا. ذكر سيرته رحمه (¬8) الله كان - رحمه الله - ملكا جوادا مفرط السخاء، يطلق الأموال الجليلة ¬

(¬1) في نسخة م «حين ما اتفق» والصيغة المثبتة من س. (¬2) في نسخة س «في» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «أن يكون فيها» والصيغة المثبتة من م. (¬4) بدون تنقبط في كلا النسختين، وبرزة قرية من غوطة دمشق، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) في نسخة س «مدينة دمشق» والصيغة المثبتة من م. (¬8) أنظر أيضا عن سيرة الملك الأشرف: ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 233؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 2، ص 138 - 141؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 470 - 474؛ ابن أيبك الدوادارى، الدر المطلوب، ص 320 - 325؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 256.

حتى قيل أنه كان يصل إليه الحمل [الذى (¬1)] فيه المال المستكثر فيطلقه لأحد (¬2) الحاضرين عنده [199 ب]. ولم نسمع أن أحدا من الملوك والعظماء بعد آل برمك فعل فعله في التوسع في العطاء والكرم. ونقل عنه مع ذلك من حسن الخلق (¬3) وجميل العشرة لأصحابه ما لم ينقل مثله عن أحد من الملوك المتقدمين. فحكى لى بعض من كان يصحبه قال: أهدى إليه يوما خيار في أول باكورته وأنا عنده، فوضعه (¬4) بين يديه وشرع في تقشيره واحدة بعد واحدة. وكلما قشر واحدة أكلها حتى أتى على ذلك الخيار الذى أهدى اليه، وكان [عدده قليلا (¬5)]. [ثم أمر لمن أتاه بذلك الخيار بخمسمائة درهم فأخذها وانصرف (¬6)]. قال: فعجبنا من كونه لم يؤثر أحدا من الحاضرين بشىء منه (¬7). وكانت عادته - رحمه الله - أنه إذا أتى بشىء (¬8) أكل بعضه وآثر الحاضرين ببقيته. فلما لم يفعل هذا ذلك اليوم، وخالف عادته تعجبنا منه. فلما فرغ منه قال: «هل علمتم ما السبب في أنى لم أعطكم من هذا الخيار شيئا؟». ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬2) في نسخة س «لأحدى» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «وكان مع ذلك حسن الخلق» والصيغة المثبتة من نسخة م. (¬4) في نسخة س «فوضع الخيار» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة م وفى نسخة س «يسيرا». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) وردت هذه الجملة في نسخة س في قليل من التعديل، والصيغة المثبتة من م. (¬8) في نسخة س «شىء» والصيغة المثبتة من م.

فقلنا: «لا». فقال: «والله ما قشرت [منه (¬1)] واحدة إلا ووجدتها (¬2) مرّة، فما أمكننى أن أذكر ذلك، ولا أن أرمى منه واحدة لئلا ينكسر قلب الذى جاء به. فكنت كلما تطعمت بواحدة النزمت أكلها (¬3) حتى أتيت على الجميع». وكان ميمون النقيبة، سعيدا إلى الغاية، مظفرا في حروبه ومصافاته (¬4)، تأتيه السعادة وتواتيه بما لا يكون في حسابه (¬5) ولا حساب أحد من الخلق. ووقعت [له (¬6)] من ذلك أشياء خارقة لم يتفق مثلها لغيره؛ منها ما قدمنا ذكره (¬7) أنه قدم إلى [خلاط زائرا لأخيه (¬8)] الملك الأوحد، عائدا له من مرضه (¬9)، فأقام عنده إلى أن أبلّ (¬10) من مرضه ودخل الحمام، فأراد [الأشرف (¬11)] أن ينصرف إلى بلاده، فقال له طبيب الملك الأوحد: «أقم الليلة فإن الملك الأوحد ميت لا محالة». فأقام تلك الليلة، واتفق موت (¬12) الملك الأوحد، واستولى على مملكة خلاط جميعها. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م. (¬2) في نسخة س «وجدتها» والصيغة المثبتة من م. (¬3) في نسخة س «بأكلها» والصيغة المثبتة من م. (¬4) في نسخة س «وكان سعيدا إلى الغاية» والصيغة المثبتة من م. ووردت هذه الجملة كاملة في غير موضعها في نسخة س. (¬5) في نسخة س «أو في حساب» والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬7) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 3، ص 208. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في م «أخيه». (¬9) في نسخة س «من مرضة مرضها» والصيغة المثبتة من م. (¬10) في نسخة س «تماثل» والصيغة المثبتة من م. (¬11) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬12) في نسخة س «فمات» والصيغة المثبتة من م.

ومن مصافاته التي نصر فيها أنه كسر عسكر الموصل على بوشزه (¬1)، وكان جمع صاحب الموصل أكثر من جمعه [بكثير (¬2)]. وخرج سلطان الروم في جمع عظيم ومعه الملك الأفضل بن صلاح الدين مقدرا في نفسه أنه يملك الشام [والشرق (¬3)] جميعه، ويستولى على ممالك بنى أيوب، فقصده الملك الأشرف فانكسر سلطان الروم بمقدمة عسكر الملك الأشرف وبعض الجند، وولى [سلطان الروم] (¬4) منهزما لا يلوى على شىء، واستعاد [منه (¬5)] الملك الأشرف كل ما اخذ من البلاد. وأعطى الملك الأشرف كل ما (¬6) فتحه للملك العزيز [200 ا] صاحب حلب لم (¬7) يأخذ منه [لنفسه (¬8)] شيئا. ولحسن سيرته التجى (¬9) إليه صاحب الموصل وصاحب حماة وصاحب حمص وذبّ عن الجميع وحماهم. وكان [رحمه الله (¬10)] حسن العقيدة، جميل الطوية، يميل إلى أهل الصلاح والدين والعلم، [ويكره الفتن والعصبيّة في المذاهب (¬11)]. ووقعت بين الشافعية والحنابلة فتنة بدمشق (¬12) بسبب العقائد، وتعصب الشيخ عز الدين [بن (¬13)] عبد السلام على الحنابلة جدا لميله إلى [مذهب (¬14)] أبى الحسن الأشعرى. وجرى بسبب ¬

(¬1) انظر ما سبق ابن واصل، ج 3، ص 157: «فالتقى الفريقان بقرية يقال لها بوشزه». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬6) في نسختى المخطوطة «كلما». (¬7) في نسخة س «ولم» والصيغة المثبتة من م. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬9) أي التجأ. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬12) وردت الجملة في نسخة س «ووقعت مرة بدمشق فتنة» والصيغة المثبتة من م. (¬13) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬14) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م.

ذلك خطب طويل، [وأوجب فرط العصبية من الشيخ عز الدين أن كتب إلى الملك الأشرف أن باب السلامة - لما حضر الملك الأفضل والملك الظاهر دمشق، والملك العادل محصور بدمشق - فتحه بعض الحنابلة المحاصرين حتى أوجب ذلك هجومهم إلى البلد. وقصد عز الدين بذلك إيذاء الحنابلة وإغراء الملك الأشرف بهم. ولم يكن هذا حسنا من عز الدين ولا أعجب الملك الأشرف بل غاظه عليه، وكتب في جواب ورقته: يا عز الدين الفتنة نائمة فلعن الله مثيرها] (¬1)، وأما حديث باب السلامة فالأمر فيه كما قال الشاعر: وجرم جرّه سفهاء قوم ... فحل بغير جارمه العذاب (¬2) ولما ورد جواب الملك الأشرف بهذا، أقصر عز الدين والجماعة المتعصبون عن الشغب (¬3)، وسكنت الفتنة. [ووقفت أنا على خط الملك الأشرف الذى أجاب به عز الدين] (¬4). وكانت له - رحمه الله - صدقات دارّة، ومعروف كثير جدا. وبنى بدمشق دار الحديث النبوى ووقف (¬5) عليها وقفا جليلا. وذكر الدرس فيها الشيخ ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة م وورد بدله في نسخة س «حتى كتب عز الدين إلى السلطان الملك الأشرف يقع في الحنابلة وذكر أولاد الناصح الحنبلى، وعرض بأن الناصح الحنبلى كان له مساعدة على فتح باب السلامة لعسكر الملك الأفضل والملك الظاهر لما حاصرا الملك العادل بدمشق. فكتب الملك الأشرف رحمه الله بخطه - قد شاهدت هذا الخط ووقعت عليه - ما صورته: يا عز الدين الفتنة ساكنة فلعن الله مثيرها». (¬2) في نسخة س «جانيه العذاب» وفى نسخة م «جارمه العقاب»، والبيت للمتنبى والصيغة المثبتة من ديوان المتنبى (ط برلين 1861 م) ص 546. (¬3) في نسخة س «عن التعصّب» والصيغة المثبتة من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬5) في نسخة س «وأوقف» والصيغة المثبتة من م.

العلامة تقى الدين بن الصلاح (¬1) - رحمه الله - إمام وقته في مذهب الشافعى والحديث النبوى. وهدم الملك الأشرف خانا بالعقيبه (¬2) يعرف بخان ابن الزنجيلى (¬3) كان تباع فيه الخمور ويعلن فيه بارتكاب الفواحش (¬4) فطهره من ذلك، وبنى موضعه جامعا تقام فيه الصلوات الخمس، ويصلى (¬5) فيه الجمع، وجاء في غاية الحسن [وسماه جامع التوبة (¬6)]، ووقف (¬7) عليه وقفا جليلا. وأمر بإقامة الجمع في جامع خارج باب الصغير يقال له مسجد الجراحى (¬8). وحصلت له [200 ب] خاتمة صالحة فإنه كان كما اشتهر عنه مغرى باللهو واللذة واستماع الأغانى والأمور الملهية، وبنى القصور الحسنة النزهة في الشرق ¬

(¬1) هو العلامة تقى الدين عثمان بن عبد الرحمن الكردى الشهرزورى بن الصلاح أحد أئمة المسلمين علما ودينا، ولد سنة 577 هـ‍، وسمع الحديث بالموصل وبغداد ونيسابور ومرو وغيرها، وكان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال، اشتغل بالتدريس في دمشق وغيرها، وتوفى سنة 643 هـ‍. انظر ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 312؛ السبكى، طبقات الشافعية، ج 5، ص 137 - 138. (¬2) العقيبة من أحياء دمشق المعروفة اليوم، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 150 حاشية 1. (¬3) في نسخة س «بخان الزنجبيلى بالعقيبة» والصيغة المثبتة من نسخة م، وورد الاسم بصيغة «خان الزنجارى» في سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 459؛ وابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 2، ص 140. (¬4) في نسخة س «ويرتكب فيه ويعلن بالفواحش» والصيغة المثبتة من م. (¬5) في نسخة س «وتقام» والصيغة المثبتة من م. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م، وعن جامع التوبة، انظر محمد كرد على، خطط الشام، ج 6، ص 62. (¬7) في نسخة س «وأوقف» والصيغة المثبتة من م. (¬8) ذكر محمد كرد على (خطط الشام، 6، ص 62) أن جامع الجراح في باب الصغير عمّره الملك الأشرف موسى سنة 631 هـ‍.

ودمشق (¬1) التي لم ير في حسنها ونزاهتها مثلها [في جميع البلاد] (¬2). ولما بنى قصره بالنيرب (¬3) المعروف بالدهشة والصّفة المعروف بصفة بقراط اللذين من رآهما سبيا عقله وأدهشاه (¬4)، [كان يقول: «أنى بعت ممالك المشرق كلها بهذين الموضعين؛ إذ ليس ثمرة الملك إلا الاستمتاع بالملاذ والراحات» (¬5)]. فلما وقع - رحمه الله - في مرضه الذى مات به وطالت مدته (¬6)، أقبل على الابتهال إلى الله تعالى والاستغفار من ذنوبه وخطياته (¬7)، وأكثر من ذكر الله تعالى والالتجاء إليه. ولم يزل هذه حاله إلى أن توفى [إلى رحمة الله تعالى (¬8)]، [تائبا من ذنبه مستغفرا لما سلف من ذنوبه (¬9)]. وهذه خاتمة حسنة يرجى له بها السعادة في الأخرى مضافا إلى ما كان أعطيه من السعادة في الدنيا. وكان (¬10) قد فسد ما بينه وبين أخيه الملك الكامل في آخر عمره مع ما كان بينهما من التصافى والاتحاد. ولم يكن السبب في ذلك إلا مانمى إليه من عزم الملك الكامل على الانفراد بملك مصر والشام، وأنه لما فتح آمد وبلادها، وهو عمل عظيم ومملكة واسعة، لم يسمح له منه بشىء إلا ما يجعله عوضا على ما بيده من الشام، فاستوحش خاطره من ذلك، وأيضا فإنه كان بيده البلاد الجزيرية أخذها الملك ¬

(¬1) في نسخة س «في الشرف بدمشق» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) نيرب قرية مشهورة بدمشق، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬4) في نسخة س «وأدهشه وأدهشالبه» والصيغة المثبتة من م. (¬5) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س في قليل من التعديل، والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «فلما وقع في المرض وطال به» والصيغة المثبتة من م. (¬7) في نسخة س «وخطاياه» وكلاهما بمعنى واحد. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬10) السطور التالية حتى نهاية الفقرة ساقطة من نسخة م ومثبتة في س.

الكامل منه، وأخذ جلال الدين أخلاط وقتل كل من بها وخربت. ثم لما كسر جلال الدين عادت أخلاط إلى الملك الأشرف خرابا، فخرج سلطان الروم علاء الدين كيقباذ وأخذها واحتوى عليها فلم ينجده الملك الكامل. وهذا وأشباهه هو الذى حمله على التغير على أخيه الملك الكامل. ولما مات دفن في تربة بنيت له ينفذ شباكها إلى الكلاسة يجامع دمشق. ورتب عليها (¬1) من يقرأ القرآن [عليه (¬2)] ليلا ونهارا، رحمه الله ورضى عنه. ولم يخلف [من الأولاد (¬3)] إلا بنتا واحدة تزوجها [بعده ابن أخيه (¬4)] الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن الملك العادل. ثم لما ملك دمشق عمها الملك الصالح الكرّة (¬5) الثانية فسخ نكاحها من الملك الجواد بأن (¬6) أثبت عند الحاكم بدمشق أنه حلف بطلاقها في أمر أنه لا يفعله وفعله، وزوجها (¬7) لابنه الملك المنصور [نور الدين محمود (¬8)] وهى معه إلى الآن (¬9). [وكان مولده رحمه الله سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بمصر، وتوفى نهار يوم الخميس أربع مضين من المحرم من هذه السنة - أعنى سنة خمس وثلاثين وستمائة. وكان في خدمته جماعة من الأماثل وأهل الفضل منهم شيخنا ¬

(¬1) في نسخة س «فيها» والصيغة المثبتة من م. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من م. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة م وساقط من س. (¬5) في نسخة س «المرة» والصيغة المثبتة من م. (¬6) في نسخة س «بأنه» والصيغة المثبتة من م. (¬7) في نسخة س «ثم زوجها» والصيغة المثبتة من م. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في م. (¬9) عن هذا الخبر انظر أيضا ابن أيبك: الدر المطلوب، ص 323 - 324.

ذكر استيلاء الملك الصالح عماد الدين اسماعيل بعد وفاة السلطان الملك الأشرف ابن الملك العادل على دمشق

في العلوم الرياضية علم الدين قيصر بن أبى القاسم بن عبد الغنى، وكان عظيما في العلوم الرياضية. وعمّر له مواضع حسنة منها الجوسق المعروف بطيحة (¬1) في مدينة رأس عين في غاية الحسن على شكل مثمن وبإزائه نهر يتصل ببلاد الخابور (¬2)]. ذكر استيلاء الملك الصالح عماد الدين اسماعيل بعد وفاة السلطان الملك الأشرف ابن الملك العادل على دمشق كنا قد ذكرنا (¬3) أنه لما اتفق الملك الأشرف مع الملك المجاهد صاحب حمص، وراسل الملك الناصر صاحب الكرك والسلطان الملك المظفر صاحب حماة والحلبيين وسلطان الروم على مباينة السلطان الملك الكامل، وكاتب الملك الأشرف في رسالته إلى ابن أخيه الملك الناصر يدعوه إلى الوصول إليه، والاتفاق معه، والتزم أنه يجعله ولى عهده بدمشق ويزوجه ابنته - كما تقدم ذكره - وأنه أبى ذلك وانحاز إلى عمه الملك الكامل ومضى إليه إلى مصر. وكان هذا من الأمور التي اقتضاها من سوء حظه، فإنه كان مع وفور [فضله (¬4)] وعقله ناقص الحظ قليل جدا، انحاز في أول مرة إلى الملك الأشرف وترك الملك الكامل فكان ذلك سببا لخروج دمشق ومعظم بلادها من يده. وانحاز ثانيا إلى الملك الكامل، ¬

(¬1) الكلمة بدون تنقيط في الأصل ولعل المقصود الصيغة المثبتة. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م، وإلى هنا تنتهى نسخة مكتبة مللا جلبى التي رمز لها بحرف [م]. والصفحات التالية لا توجد سوى في نسخة س وحدها [ورقات 308 ا - 310 ب]، وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط، انظر مايلى ص 153 حاشية 4. (¬3) انظر ما سبق، ص 121 - 128. (¬4) ما بين الحاصرتين مذكور في هامش نسخة س.

وترك الملك الأشرف وهو مريض مشرف على الموت، وقد وعده بولاية عهده وتزويج ابنته فكان ذلك سببا لحرمانه مملكة دمشق وبعض بلاد الشرق مضافا إلى ما في يده. ولو حصلت له دمشق مع قوته بالحصون التي بيده وموافقة الحلبيين وصاحب حمص، كان تعذر على الملك الكامل إزالة ذلك من يده، لكن إذا أراد الله تعالى شيئا هيأ أسبابه. ولما (¬1) امتنع الملك الناصر [داود (¬2)] من القدوم إلى الملك الأشرف وتوجه إلى مصر، ولى الملك الأشرف ولاية عهده لأخيه الملك الصالح [عماد الدين اسماعيل (¬3)] ولم يكن بيده غير بصرى من أيام أبيه الملك العادل. ولما (¬4) توفى الملك الأشرف ركب الملك الصالح بالسناجق السلطانية واستولى على دمشق وبعلبك وما لدمشق من الأعمال إلى عقبة فيق. وسير ابنه الملك المنصور نور الدين محمود إلى الشرق ليتسلم - من نواب الملك الأشرف - سنجار ونصيبين والخابور (¬5). وأرسل إلى الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص، والملك المظفر صاحب حماة والحلبيين ليحلفوا (¬6) له ويتفقوا معه على القاعدة المتقررة التي كانت بينهم وبين الملك الأشرف. ¬

(¬1) في نسخة س «قال ولما». (¬2) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش. (¬3) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬4) في نسخة س «قال ولما». (¬5) ورد في ياقوت (معجم البلدان) أن الخابور اسم لنهر كبير بين رأس عين والفرات من أرض الجزيرة، وتقع على النهر بلدان جمة «غلب عليها اسمه فنسبت إليه» ولعل البلد الوارد بالمتن هنا أحدها، انظر أيضا البغدادى، مراصد الاطلاع، ج 1، ص 444؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 256 حاشية (4). (¬6) انظر المقريزى، السلوك، ج 1، ص 256.

فأما صاحب حمص والحلبيون فإنهم أجابوا إلى ذلك وحلفوا له. وأما الملك المظفر فإنه امتنع من ذلك وأظهر الانحياز إلى خاله السلطان الملك الكامل، وأرسل إلى الملك المجاهد صاحب حمص: «أنى لا أجيب إلا بشرط أن تعطينى سلمية وقلعة شميميش (¬1)» لما يعلم أنه لا يجيب إلى ذلك. وجعل ذلك ذريعة إلى موافقة خاله الملك الكامل. ثم سير الشيخ أبا سالم ابن القاضى كمال الدين مظفر بن الثقفى - وهو من أعيان فقهاء حماة وأكابر أهلها - رسولا إلى السلطان الملك الكامل يعلمه أنه لم يزل مملوكه ومنتميا إليه، وإنما كان وافق الملك الأشرف اضطرارا وخوفا على بلده من الملك الأشرف والحلبيين وصاحب حمص وسلطان الروم غياث الدين. ولما وصل رسول الملك المظفر صاحب حماة إلى الديار المصرية أكرمه [السلطان الملك الكامل (¬2)] غاية الإكرام. وقبل الملك الكامل عذر الملك المظفر، ووعده أن يضيف إليه سلمية، ويأخذها له من صاحب حمص هى وقلعتها، وحلف له على ذلك. ورجع رسول الملك المظفر من عند الملك الكامل مكرما. وسير الحلبيون الصاحب كمال الدين بن العديم (¬3) رسولا ومعه علاء الدين طيبغا متولى حلب الظاهرى إلى السلطان الملك المظفر والملك المجاهد لتوفيق الأمر بينهما. فأبى كل واحد منهما أن يجيب صاحبه إلى ما يريد. وقال السلطان الملك المظفر: ¬

(¬1) في المتن «شميمس» والصيغة المثبتة من ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 234؛ انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 282، حاشية 7. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) ذكر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 233 - 235) تفصيلات هامة عن هذه السفارة التي قام بها مع الأمير علاء الدين طيبغا الظاهرى ليوفق بين صاحب حمص وصاحب حماة.

«لا أجيب إلا بأن أعطى سلمية وقلعتها شميميش (¬1)» التي حددها. فقال الملك المجاهد: «هذه يمين الملك المظفر لى، وقد حلف لى على كل ما بيدى (¬2)». وأبى أن يجيبه إلى ذلك. فقال الملك المظفر: «لا أجيب إلا بهذا الشرط». فقال كمال الدين له: «أن هذا الذى تجادله فيه نقض العهد الذى قد تقرر بين الجماعة». فقال الملك المظفر: «هو قد نقض عهدى، واستفسد (¬3) جماعة من عسكرى، ولا بد لى من قصده، فإذا نزل الملك الكامل على حمص نزلت معه عليها، وفعلت ما يصل إليه جهدى. وأما حلب فإنى أبذل مالى ونفسى دون الوصول إلى قرية من قراها (¬4)، ولا أرجع عن اليمين التي حلفت [بها (¬5)] للستر العالى وللسلطان الملك الناصر». فقال له كمال الدين [بن العديم (¬6)]: «المولى (¬7) يعلم ماجرى بيننا وبين صاحب حمص من الأيمان، وما نقض معنا (¬8) عهدا، [وإذا قصده إلى حمص قاصد تعين إنجاده ونصرته (¬9)]، وإذا وصل عسكر من حلب لنجدته، كيف (¬10) يفعل المولى؟» فقال: «أنا أفاتله، ومن قاتلنى قاتلته». ¬

(¬1) في المتن «شميمس» انظر الصفحة السابقة حاشية 1. (¬2) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 234) «هذه ثمينة لى، وقد حلف لى على كل ما بيدى». (¬3) في ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة) «وأنفذ ليفسد». (¬4) في ابن العديم «دون الوصول إلى قرية منها». (¬5) ما بين الحاصرتين من ابن العديم، ج 3، ص 234. (¬6) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬7) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 234)، «فالمولى». (¬8) في ابن العديم «منها». (¬9) في ابن العديم «وإذا قصده قاصد إلى حمص يتعين إنجاده ونصرته». (¬10) في ابن العديم «فكيف».

ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى دمشق واستيلائه عليها وتعويضه الملك الصالح عنها بعلبك

فحكى الصاحب كمال الدين قال: «كتبت بما جرى كتابا إلى حلب، فجاء الأمر إلينا بالتوجه إلى حلب، فسرنا في الحال من غير توديع، حتى وصلنا إلى العبادى (¬1) ليلة الإثنين مستهل جمادى الأولى، من سنة خمس (¬2) وثلاثين وستمائة، فلحقنا المهمندار (¬3) من حماة بالخلع والتسفير، فلم نقبل منها شيئا وسرنا إلى حلب (¬4)». ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى دمشق واستيلائه عليها وتعويضه الملك الصالح عنها بعلبك ولما بلغ السلطان الملك الكامل وفاة أخيه الملك الأشرف، سار إلى دمشق في عساكر مصر، ومعه الملك الناصر داود بن الملك المعظم، وهو لا يشك أن الملك الكامل إذا ملك دمشق يسلمها إليه لما كان قد تقرر بينه وبينه (¬5). ¬

(¬1) يرجح سامى الدهان (زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن العديم، ج 3 ص 235، حاشية 1) أن المقصود بها «العبادية» وهى من قرى المرج حول دمشق. (¬2) في المتن «خمسة» وهو تحريف. (¬3) المهمندار هو الذى يتصدى لتلقى الرسل وينزلهم دار الضيافة، ويتحدث في القيام بأمرهم، والكلمة مركبة من لفظين فارسيين؛ أحدهما مهمن ومعناه الضيف، والثانى دار ومعناه ممسك، أي ممسك الضيف أو المتصدى لأمره، انظر القلقشندى، صبح الأعشى، ج 5، ص 459؛ انظر أيضا ما سبق، ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4، ص 247، حاشيه 2. (¬4) في ابن العديم «فلم نقبل منه شيئا». (¬5) أي بين السلطان الملك الكامل وبين الملك الناصر داود، انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1، ص 256.

وكان بقلعة عجلون نائب الملك الأشرف، فكاتبه الملك الناصر داود في تسليمها إليه على مال شرطه له، فسلّمها إليه فتسلمها نوابه. ولم ينكر الملك الكامل ذلك وأقره عليها. ولما قرب الملك الكامل إلى دمشق دخل (¬1) إليها الأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد معاضدا للملك الصالح، وجاءت إلى دمشق نجدة حمص ونجدة حلب مقدمها ناصح الدين الفارسى. ووصل الملك الكامل ومعه الملك الناصر ونازلوا دمشق. وكان الملك الصالح قد استعد للحصار وهيأ أسبابه، فضايق الملك الكامل دمشق، وزحف إليها الملك الناصر داود من جهة العقيبة وباب توما، ووصل إلى قرب الأسوار، وكاد يملك البلد في ذلك اليوم. فلم يعجب الملك الكامل ذلك، وسيّر إليه من ردّه عن الزحف فرجع. وخرج الغد من يوم الزحف الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بالحراقة والنفاطين فأحرق العقيبة وما فيها من الخانات والأسواق والدور حتى جعلها قاعا صفصفا (¬2). وبعث الملك المجاهد أسد الدين [صاحب حمص (¬3)] جماعة من الرجّالة يزيدون على خمسين رجلا نجدة لدمشق، فظفر بهم السلطان الملك الكامل فأمر بشنقهم جميعهم فشنقوا بين البساتين، ولم تكن هذه عادته وإنما كان محرجا (¬4) على صاحب حمص. ¬

(¬1) في المتن «ودخل». (¬2) عن حريق العقيبة وخرابها انظر، ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 324؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 474؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 257. (¬3) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬4) أي غاضبا على صاحب حمص، محرجا من الحرج وهو ضيق الصدر، انظر ابن منظور، لسان العرب ج 3، ص 57.

وفى مدة الحصار على دمشق سيّر الملك الكامل إلى السلطان الملك المظفر توقيّعا بسلمية، فتسلمها الملك المظفر وبعث نوابه إليها. وكان الحصار على دمشق في جمادى الأولى من هذه السنة في قوة الشتاء والبرد. ولما اشتد الحصار على الملك الصالح أذعن بتسليم دمشق إلى أخيه الملك الكامل، على أن يعوض عن دمشق بعلبك والبقاع مضافا إلى بصرى والسّواد (¬1)، فأجابه الملك الكامل إلى ذلك. وكان المتوسط بينهما في تقرير قواعد الصلح الصاحب محيى الدين أبا المظفر يوسف بن الشيخ جمال الدين أبا الفرج بن الجوزى رسول الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. وكان قد ورد من الخليفة رسولا إلى الملوك ليوفق الأمر بينهم، ويزيل ما وقع من الاختلاف. ولما تقرر ذلك، وحلف الملك الكامل لأخيه الملك الصالح، سلم الملك الصالح إلى أخيه الملك الكامل دمشق، وتوجه إلى بعلبك وتسلمها. ودخل السلطان الملك الكامل إلى قلعة دمشق وبين يديه ابن أخيه الملك الناصر بن الملك المعظم. واستقر الملك الكامل بقلعة دمشق لأحد عشر ليلة بقيت من جمادى الأولى (¬2). ونزل الملك الناصر داود بداره المعروفة بدار شامة داخل البلد. ثم تقدم السلطان الملك الكامل إلى العسكر بالمسير إلى حمص لمنازلتها، فبرزت العساكر وتقدم السلطان الملك الكامل إلى السلطان الملك المظفر صاحب حماة ¬

(¬1) في ابن العديم (زبدة الحلب ج 3، ص 235) وفى المقريزى، السلوك، ج 1، ص 257 «أبقى له بعلبك وبصرى وأخذ منه دمشق». (¬2) كذا في المتن، وكذلك في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 235) الذى ذكر أن الكامل أخذ دمشق في تاسع عشر جمادى الأولى، بينما ذكر المقريزى (السلوك، ج 1، ص 257) أن السلطان الكامل تسلم دمشق في عاشر جمادى الأولى.

ذكر استيلاء السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل على سنجار ونصيبين والخابور

بالتقدم إلى جهة حمص. فرحل في عسكر حماة ونزل على الرستن (¬1) مهتما بمنازلة حمص مع السلطان الملك الكامل. وأسقط عند ذلك في يد الملك المجاهد، وخاف من الملك الكامل، وبعث يتضرع إلى الملك الكامل ويخضع له، فلم يلتفت إليه وأصر على قصده. فبعث نساءه إلى الملك الكامل يشفعن فيه، وبذل جملة عظيمة من المال فلم يلتفت إليه. ذكر استيلاء السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل على سنجار ونصيبين والخابور (¬2) وذكرنا أن الملك الصالح عماد الدين اسماعيل المالك لدمشق سير ولده الملك المنصور نور الدين محمود إلى الشرق، فتسلم ما كان بيد الملك الأشرف وهو سنجار ونصيبين والخابور (¬3). فلما نازل الملك الكامل دمشق، سيّر إلى ولده الملك الصالح يأمره بقصد سنجار فقصدها ونازلها فسلّمها إليه ابن عمه الملك المنصور بالأمان فتسلمها الملك الصالح نجم الدين وما معها من البلاد (¬4). ذكر وفاة السلطان الملك الكامل [ابن الملك العادل (¬5)] رحمه الله ولما (¬6) ملك السلطان الملك الكامل دمشق لم يلبث في قلعتها (¬7) إلا مدة يسيرة (¬8) ¬

(¬1) الرستن: بليدة قديمة كانت على نهر العاصى بين حماة وحمص، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬2) ورد هذا الخبر مختصرا في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 257). (¬3) انظر ما سبق ص 147. (¬4) نهاية الجزء الساقط، انظر ما سبق ص 146 حاشية 2، وسوف يعتمد التحقيق من الآن فصاعدا على نسخة باريس رقم 1703 كأصل للنشر ورمز إليها بحرف [ب] مع مقابلتها بنسخة باريس رقم 1702 التي رمز إليها فيما سبق بحرف [س]. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «لما» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «في قلعة دمشق» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «إلا أياما» والصيغة المثبتة من ب.

حتى مرض واشتد مرضه. وكان [سبب (¬1)] مرضه على ما حكى لى [الرشيد أبو حليقة (¬2)] طبيبه، أنه أصابه [زكام فدخل الحمام في ابتدائه، فصب ماء شديد الحرارة على رأسه، وعمل ذلك اتباعا لقول محمد بن زكريا الرازى في كتاب سماه «طب ساعة (¬3)» ذكر فيه أن من أصابه زكام فصبّ على رأسه ماء شديد الحرارة انحلّ زكامه لوقته. وهذا وأمثاله مما يوجد في الكتب لا ينبغى أن يعمل به على الطبيعة. قال: فانصب من دماغه مادة مادة إلى فم معدته فتورمت، وعرضت له حمىّ شديدة. وأراد القىء فنهاه الأطباء عنه، وقالوا: «إن فعل هذا هلك في الوقت»، فخالفهم وتقيأ فهلك لوقته. وحكى لى رضى الدين بن الحكيم موفق الدين إبراهيم - الذى كنا قدمنا ذكره في خبر وفاة الملك الأشرف (¬4) - قال: أن الملك الكامل عرضت له خوانيق (¬5) وأنها انقطعت (¬6) وتقيأ دما كثيرا ومدة (¬7)، وأراد القىء فشاور الأطباء، فمنهم من أشار به. فقال له الحكيم موفق الدين إبراهيم المذكور لا يفعل، وأنكر على من أشار بالقىء، فخالفه وتقيا، فانصبت بقية من المادة إلى قصبة الرئة وسدتها، فمات رحمه الله (¬8)]. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب، وهو الطبيب رشيد الدين أبو حليقة ابن الفارس بن أبى سليمان داود، انظر ابن أبى أصيبعة (عيون الأنباء، ج 2، ص 121). (¬3) ورد عنوان هذا الكتاب بصيغته المثبتة في نسختى المخطوطة وكذلك في ابن تغرى بردى (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 237) الذى نقل عن ابن واصل. ولم نعثر على عنوان هذا الكتاب في المصادر المتداولة. (¬4) انظر ما سبق، ص 137 - 138 (¬5) هو المرض المسمى بالذبجة، ومن أنواعه الذبحة الصدرية، انظر المقريزى، السلوك، ج 1 ص 55 حاشية 8. (¬6) الكلمة غير واضحة بالمتن ولعل الصيغة المثبتة هى المقصودة. (¬7) المدة: بالكسر ما يجتمع في الجرح من القيح، انظر ابن منظور (لسان العرب، ج 4، ص 405). (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد في كثير من الاختصار في نسخة س، وذكر ابن أيبك الدوادارى (الدر المطلوب، ص 326) أن السلطان الكامل «كان قد مرض مدة عشرين يوما بالإسهال والسعال، ونقرس كان في رجليه».

وكانت وفاته لسبع بقين من [شهر (¬1)] رجب من هذه السنة - أعنى سنة خمس وثلاثين وستمائة (¬2). وكان بين موته وموت أخيه الملك الأشرف [رحمهما الله (¬3)] نحو ستة أشهر. وكانت مدة ملكه [لمصر (¬4)] من حين مات أبوه [الملك العادل واستقل بالملك عشرين سنة وكسرا. وناب عن أبيه بالديار المصرية قريبا من عشرين سنة، فحكم في ملك الديار المصرية قريبا من أربعين سنة نائبا ومستقلا (¬5)]. وأشبه حاله في ذلك حال معاويه بن أبى سفيان (¬6) فإنه ولى الشام [نائبا عن عمر وعثمان ومحار بالعلى، رضى الله عنهم، نحو عشرين سنة. ثم ولى مستقلا نحو عشرين سنة [2 ا] أخرى، فولى الشام أميرا وخليفة أربعين سنة (¬7)]. [وكانت مدة ملك الملك الكامل لدمشق شهرين إلا يومين (¬8). ومن الأمور المستظرفة أن محيى الدين بن الجوزى - رحمه الله - كان يتردد في هذه السنة والتي قبلها إلى الملوك للإصلاح بينهم. فاتفق في هذه المدة أنه مات سلطان الروم والسلطان الملك الكامل والأشرف فقال بعض الشعراء وأظنه ابن المسجف (¬9) يخاطب الخليفة المستنصر بالله: ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬2) انفرد ابن أيبك الدوادارى (الدر المطلوب، ص 326) بذكر وفاة السلطان الكامل في حوادث سنة 636 هـ‍. والصحيح هو ما ذكره ابن واصل، انظر ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 2، ص 52؛ ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 236؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 258. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة ب، وورد مختصرا في نسخة س. (¬6) في نسخة س «معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة ب، وفى س «أميرا عشرين سنة وخليفة عشرين سنة أخرى». (¬8) ورد في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 258) «فكانت مدة ملكه دمشق هذه المرة أحدا وسبعين يوما». (¬9) هو الشاعر عبد الرحمن بن أبى القاسم بن غنائم بن المسجف الكنانى العسقلانى، ولد سنة 583 هـ‍ وتوفى سنة 635 هـ‍. وكان أديبا ظريفا خليعا وأكثر شعره في الهجاء، انظر ترجمته وشيئا من شعره في الكتبى، فوات الوفيات، ج 1، ص 537 - 542.

ذكر سيرة رحمه الله [تعالى]

يا إمام الهدى أبا جعفر ال‍ ... منصور يا من له الفخار الأثيل (¬1) ماجرى من رسولك الآن محيى الد ... دين في هذه البلاد (¬2) قليل جاء والأرض بالسلاطين تزهى ... وغدا والديار منهم طلول أقفر الروم والشام ومصرا ... أفهذا مغسل (¬3) أم رسول؟ (¬4)] ذكر سيرة رحمه الله [تعالى (¬5)] كان [الملك الكامل (¬6)] ملكا جليلا، حازما مهيبا، [سديد الآراء (¬7)]، حسن التدبير لممالكه (¬8)، عفيفا عن سفك الدماء، [حليما (¬9)]. [وبلغنى عن حلمه أن رجلا من شعراء مصر كان بمنزلة من الأدب تعرض لهجوه (¬10) مرارا، وهو يغضى عنه (¬11) ولا يعاقبه، فبلغ من لآمة ذلك الشاعر حين رأى أن السلطان لا يقابله على فعله (¬12) أن قال: ¬

(¬1) وردت في نسخة ب «الأجل» وعليها يختل الوزن، والصيغة المثبتة من نسخة س ومن الكتبى (فوات الوفيات، ج 1، ص 541). (¬2) في نسخة ب «الدار» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن الكتبى (فوات الوفيات ج 1، ص 541). (¬3) في نسخة ب «فهذا خل» وعليه يختل الوزن والصيغة المثبتة من نسخة س ومن الكتبى، فوات الوفيات، ج 1، ص 541. (¬4) ما بين الحاصرتين مثبت في نسخة ب، وورد في غير مكانه مع قليل من التفصيل في نسخة س حوادث سنة 636 هـ‍. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب، انظر ترجمة السلطان الكامل في ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 2، ص 50 - 54). (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب، انظر ترجمة السلطان الكامل في ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 2، ص 50 - 54). (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب، انظر ترجمة السلطان الكامل في ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 2، ص 50 - 54). (¬8) في نسخة ب «لملكه» والصيغة المثبتة من س، بينما ورد في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 259) «لمماليكه» ولعله تصحيف. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬10) في نسخة س «لهجو الملك الكامل» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) في نسخة س «يعفى عنه» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة س «على قوله» والصيغة المثبتة من ب.

وما تركهم للقتل حلما وإنما ... يرون بقاء المرء في عصرهم أشقى فبلغ الملك الكامل ذلك فلم يلتفت إلى قوله، ومع هذا الحلم] (¬1)] [العظيم، كان عظيم الهيبة. وبلغ من هيبته أن الرمل الذى بين العريش وديار مصر كان يمر به الإنسان وحده ومعه الذهب الكثير، أو الجماعة اليسيرة ومعهم الأحمال من القماش فلا يخافون سارقا ولا قاطع طريق] (¬2). ولقد سرق في الرمل مرة بساط، فأحضر العرب الذين يخفرون الطريق، فقال: «أريد البساط بعينه وأريد سارقه، وإلا أذهبت (¬3) نفوسكم، ونهبت أموالكم»، فبذلوا له عوضه شيئا كثيرا، فأبى أن يقبل شيئا من ذلك، وأصر على مطالبتهم بالمأخوذ بعينه فأحضروه له. [2 ب] وكان يباشر الأمور بنفسه، واستوزر في أول ملكه وزير أبيه الصاحب صفى الدين بن شكر (¬4)، ثم لما مات صفى الدين لم يستوزر بعده أحدا (¬5). وكان (¬6) في أول زيادة النيل يخرج بنفسه وينظر في الجسور وإصلاحها، ويرتب على كل جسر من الأمراء من يتولاه، ويجمع الرجال لإصلاحه وعمله، ثم يشرف على الجسور بنفسه، فأى جسر منها اضطرب بتفريط من يتولاه عاقب المتولى له أشد العقوبة. فعمرت في أيامه ديار مصر عمارة كثيرة (¬7). ¬

(¬1) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س في غير مكانه، والصيغة المثبتة كما وردت في نسخة ب. (¬2) ورد ما بين الحاصرتين مختصرا في نسخة س، والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «ذهبت» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «كان يباشر الأمور في أول ملكه وزير أبيه الصاحب صفى الدين بن شكر». (¬5) ورد في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 259 - 260) «وكان [الكامل] يباشر أمور الملك بنفسه من غير اعتماد على وزير ولا غيره، واستوزر أولا الصاحب صفى الدين بن شكر ست سنين، وانكف بصره وهو يباشر الوزارة حتى مات. . . فلما مات الصاحب صفى الدين لم يستوزر الكامل بعده أحدا». (¬6) في نسخة س «فكان» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) عن اهتمام السلطان الكامل بالجسور، انظر، النابلسى، لمع القوانين المضية في دواوين الديار المصرية، ص 39 - 40.

وأخرج من زكوات الأموال سهم الفقراء والمساكين (¬1)، وأخرجها في مصارفها بأن رتب عليها جامكيات الفقهاء (¬2) والصلحاء والفقراء. وكان محبا للعلماء ومجالستهم وسماع مناظراتهم. وكانت عنده (¬3) مسائل غريبة من الفقه والنحو، إذا حضر الفقهاء والنحاة سألهم عنها وامتحن بها علومهم؛ فمن أجاب منهم الجواب الصحيح حظى عنده وقرّبه. وفى بعض أسفاره إلى دمشق استحضر بها جماعة من العلماء؛ وكان فيهم الشيخ زين الدين بن معطى (¬4) النحوى المغربى - رحمه الله - وكان إماما في علم العربية ¬

(¬1) في نسخة س «سهما للفقراء والمساكين» والصيغة المثبتة من ب، عن زكوات الأموال انظر: Hassanein Rabie : The Financial System of Egypt, pp 95 - 100. (¬2) في نسخة س «للفقهاء» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «عدة» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من ب. (¬4) هو يحيى بن عبد المعطى بن عبد النور الزواوى المغربى الحنفى، يلقب زين الدين، ويكنى أبا الحسين، ويعرف بابن معط، وتكتب أيضا ابن معطى وكلاهما صحيح. كان إماما مبرزا في علوم العربية وأحد أئمة عصره في النحو واللغة. ولد بالمغرب سنة 564 هـ‍. ولا تذكر المصادر التاريخية شيئا عن حياته في أول عمره، وانتقل إلى دمشق وأقام بها زمانا طويلا حيث نظم ألفيته في النحو. وكان ابن معطى بدمشق أحد الشهود، ولم يكن له من طرق الكسب ما يقوم بكفايته. واتصل أثناء إقامته بدمشق بالملك المعظم عيسى من العادل الأيوبى. وعندما توفى المعظم عيسى سنة 624 هـ‍ اتصل ابن معطى بالسلطان الكامل، وسافر إلى مصر، حيث قرر له الكامل معلوما على أن يقرىء الناس الأدب والنحو بالجامع العتيق بمصر. ولم تطل مدة حياته بالديار المصرية إذ توفى في ذى القعدة سنة 628 هـ‍. وله مؤلفات عدة لم يبق منها الزمن إلا ثلاثة كتب هى: الألفية التي تسمى الدرة الألفية في علم العربية، والفصول الخمسون في النحو، والبديع في صناعة الشعر. انظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 2، ص 235؛ ياقوت، معجم الأدباء، ج 20، ص 35 - 36؛ السيوطى: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، ج 2، ص 344؛ الذهبى، شذرات الذهب، ج 5، ص 129؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 13، ص 129، 134؛ محمود محمد على الطناحى، ابن معطى وآراؤه النحوية مع تحقيق كتابه «الفصول الخمسون»، رسالة ماجستير قدمت إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، سنة 1971، ص 7 - 22.

لا يجارى فيه، إلا أنه كان فقيرا ناقص (¬1) الحظ، يقعد مع الشهود (¬2) تحت الساعات (¬3) يورّق ويشهد. وبلغ من السن مبلغا كثيرا، وهو فقير ليس له ما يقوم بكفايته. فسألهم الملك الكامل عن قولهم «زيد ذهب به» هل يجوز في «زيد» النصب؟. فقالوا كلهم: «لا يجوز إلا الرفع». واعتمدوا كلهم على قول الزمخشرى (¬4) صاحب المفصّل «زيد ذهب به ليس فيه إلا الرفع». فقال زين الدين - رحمه الله - «يجوز فيه النصب على أن يكون المرتفع (¬5) ب‍ «ذهب (¬6)» المصدر الذى دل عليه ذهب وهو الذهاب؛ وعلى هذا فموضع الجار والمجرور الذى هو «به» النصب، فيجئ من باب: زيد مررت به، إذ يجوز في «زيد» النصب، فكذلك ها هنا (¬7). فاستحسن الملك الكامل جوابه، وأمره بالسفر إلى مصر فسافر إليها. وقرر (¬8) له [الملك الكامل (¬9)] معلوما جيدا يقوم بكفايته، وحسنت أحواله، إلا أنه لم تطل مدته وتوفى بعد ¬

(¬1) في نسخة س «قليل» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) كان الشهود جماعة يختارهم القاضى لمعاونته في أعماله، وكانوا يتعرفون أحوال الناس ويشهدون في القضايا؛ انظر السبكى، معيد النعم ومبيد النقم، ص 63 - 64؛ المقريزى، السلوك، ج 2، ص 6 حاشية 4. (¬3) عرف أحد أبواب الجامع الأموى بدمشق باسم باب الساعات، حيث كان هناك الساعات التي يعلم بها كل ساعة تمضى من النهار؛ انظر النعيمى، الدارس في تاريخ المدارس، ج 2، ص 386 - 387؛ وكان الشهود في ذلك الوقت يجلسون تحت هذه الساعات، انظر ابن حجر: إنباء الغمر، ج 1، ص 124. (¬4) هو صاحب كتاب المفصل، وقد قام الشيخ موفق الدين يعيش بن على بن يعيش النحوى المتوفى سنة 643 هـ‍ بكتابة «شرح المفصل» في مجلدين، ط. ليبزج سنة 1882 - 1886 م؛ ط. القاهرة في عشرة مجلدات. (¬5) في نسخة س «الرفع» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من ب. (¬6) أي «بكلمة ذهب». (¬7) انظر محمود الطناحى: ابن معطى وآراؤه النحوية، ص 10 - 11. (¬8) في نسخة س «فقرر»، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

مدة يسيرة. فرأى الملك [الكامل (¬1)] جنازته [من القلعة (¬2)] وليس [3 ا] معها إلا نفر يسير، [فسأل عنها فقيل إنها جنازة زين الدين بن معطى] (¬3)، فغضب على الفقهاء الذين بمصر والقاهرة حيث لم يشيعوا جنازته. [وأراد أن يقطع جماعة منهم، فشفع فيهم عنده فتركهم] (¬4). ووفد إلى الملك الكامل جماعة من أهل العلم، فأكرمهم وقرر لهم الجامكيات [وأحسن إليهم (¬5)]، فممن وفد إليه الشيخ تاج الدين الأرموى، إمام وقته في الأصولين والمعقولات، وأقام عنده مدة مكرما. ووفد إليه الإمام أفضل الدين الخونجى (¬6)، وكان فاضلا في المنطق والمعقولات والطب، وأما ذهنه ففى غاية (¬7) التوقد والإدراك، فاستحضره (¬8) الملك الكامل فسأله (¬9) عن مسألتين في الطب، فاتفق أنه أخطأ فيهما ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين مثبت في س وفى هامش نسخة ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬4) في نسخة ب «وأمر بقطع رواتبهم ثم ردها إليهم» والصيغة المثبتة من س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) هو الإمام العالم قاضى القضاة أفضل الدين أبو عبد الله محمد الخونجى، نسبة إلى خونج أو خونا، وهى بلدة من أعمال أذربيجان بين مراغة وزنجان في طريق الرى. ذكر ابن أبى أصيبعة (عيون الأنباء، ج 2، ص 120 - 121) أنه كان «سيد العلماء والحكماء، أوحد زمانه وعلامة أوانه» وأنه تميز في العلوم الحكمية وأتقن الأمور الشرعية، وأنه التقى به في القاهرة سنة 632 هـ‍. وقرأ عليه بعض الكليات من كتاب القانون لابن سينا. ولأفضل الدين من الكتب؛ شرح ما قاله الرئيس ابن سينا في النبض، وكتاب كشف الأسرار في علم المنطق، وكتاب أدوار الحميات، وغير ذلك، وتوفى في القاهرة سنة 646 هـ‍ بعد أن تولى منصب قضاء القضاة؛ انظر أيضا ياقوت (معجم البلدان)؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 254، 259، 315، 332. (¬7) في نسخة س «فكان في غاية» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «واستحضره» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «وسأله» والصيغة المثبتة من ب.

فانحط عنده قليلا. سأله عن الخيار كيف ينبغى أن يؤكل؟. وسأله لم إذا (¬1) أكل الحلو مع غيره يتقيأ الحلو بعد ما أكل معه (¬2)، وإن أكل الحلو أولا؟. فأجاب عن الأولى بأن الخيار أفضل ما أكل مع قشره، وأخطأ في ذلك لأن قشره في غاية الغلظ، فأفضل ما يؤكل (¬3) أن يقشر ويقطع ويؤكل بالخل. وإنما غلّط أفضل الدين [الخونجى (¬4)] قول أبى على بن سينا في القانون أن الخيار ينبغى أن يؤكل مع قشره، وهذا خطأ من أبى على، وقد غلّطه فيه سائر الأطباء. وأجاب عن الثانية بجواب غير مرض (¬5) ولم أحفظه. [والجواب الحق (¬6)]؛ أن الطبيعة لملاءمتها الحلو تشح به، فلهذا يتقيأ أخيرا. ولما أجاب أفضل الدين الملك الكامل بما أجابه به دخل الحكيم الرشيد بن أبى حليقة (¬7) على الملك الكامل فسأله عن هاتين المسئلتين فأجاب بالجواب (¬8) الصحيح. فقال الملك الكامل: «فقل لمولاى الذى قال كذا وكذا» تهكما به. وخجل (¬9) أفضل الدين. وليس هذا (¬10) إنصافا من الملك الكامل، فإنه ليس الغلط في مسئلة أو مسائل قليلة مما يقضى بعدم الفضيلة، فإنه ليس يمكن الإحاطة بجميع المسائل. ¬

(¬1) في نسخة س «وسأله إذا» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «بعد ما أكل» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «ما اكل» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬5) في المتن «غير مرض». (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬7) في نسخة ب «خليفة» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة س، انظر ما سبق ص 154. (¬8) في نسخة س «الجواب»، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «فخجل»، والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «وليس كان هذا»، والصيغة المثبتة من ب.

ثم إن الملك الكامل قرر لأفضل الدين جامكية جيدة، وأقام مكرما عنده، وبعثه رسولا إلى سلطان الروم. ولما عاد من الرسالة اتفق موت [السلطان (¬1)] الملك الكامل، فرجع أفضل الدين إلى بلاد الروم وأقام، ثم تولى القضاء. [3 ب] واتفق وقوع الكسرة على سلطان الروم غياث الدين كيخسرو من التتر، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى (¬2). واضطربت البلاد بسبب التتر، فسافر أفضل الدين إلى الديار المصرية فولاه الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬3)] القضاء بمصر وتدريس المدرسة الصالحية المنسوبة إليه بالقاهرة (¬4)، وعظم شأنه، وسيذكر ذلك في موضعه. وكان الملك الكامل [رحمه الله (¬5)] مغرما بسماع الأحاديث النبوية، شديد العناية بحملة الحديث النبوى. وممن وفد إليه من علماء المحدثين الإمام مجد الدين أبو الخطاب عمر بن دحيه (¬6)، فتقدم عنده [وأكرمه (¬7)] [ولازمه (¬8)] وبنى له دار ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة ب «على ما سنذكر»، والصيغة المثبتة من س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب، انظر أيضا المقريزى: السلوك، ج 1، ص 315. (¬4) المدرسة الصالحية أنشأها السلطان الصالح نجم الدين أيوب سنة 640 هـ‍ - 1242 م. وترجع أهميتها إلى النظام الأربعى الذى اتسع لتدريس المذاهب الأربعة (الشافعى - الحنفى - المالكى - الحنبلى) في بناء واحد؛ انظر المقريزى: الخطط ج 2، ص 236، 374؛ حسنين ربيع، النظم المالية، ص 77 - 78. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) عن الحافظ مجد الدين بن دحية، انظر ما سبق ص 52 وحاشية 2. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب.

الحديث (¬1) بين القصرين في الجانب الغربى، وجعله شيخها، ووقف (¬2) عليها وقفا جليلا. وكان يصعد إليه إلى القلعة في غالب الأوقات ويستفيد منه. وكان في أمهات مجد الدين هذا [امرأة] (¬3) شريفة علوية، فكان يكتب في إجازاته وسماعاته [كذلك. وكان (¬4) يكتب] ذو الحسبين والنسبين ابن دحية والحسين (¬5). وكان في مجد الدين جرأة [وحدة كثيرة (¬6)]. حضر يوما مع الملك الكامل مجلس وعظ فأنشد الواعظ: تزود من الماء النقاخ (¬7) فلن (¬8) ترى ... بوادى الغضا (¬9) ماء نقاخا (¬10) ولا بردا فصحف الواعظ وقال النقاح بالحاء المهملة، فصاح مجد الدين «أخطأت - لعنك الله - النقاخ بالخاء». ¬

(¬1) دار الحديث الكاملية أسسها السلطان الكامل سنة 621 هـ‍ - 1224 م، وهى أول دار من نوعها في مصر للحديث النبوى وعلومه؛ انظر، المقريزى، الخطط، ج 2 ص 375؛ حسنين ربيع، النظم المالية، ص 77. (¬2) في نسخة س «وأوقف» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «وكتب». (¬5) في نسخة س «الحسنى» ولعله تصحيف، والصيغة المثبتة من ب، وذكر ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 1، ص 381) أنه «كان يكتب بخطه ذو النسبين دحية والحسين رضى الله عنهما» ودحية هو دحية الكلبى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وفى ب «وحده وحيه كثير» وهو تصحيف. (¬7) النقاخ هو الماء البارد العذب الصافى، انظر الزبيدى (تاج العروس، ج 2، ص 283). (¬8) في نسخة ب «ولن» والصيغة المثبتة من س وكلاهما صحيح. (¬9) ورد في ياقوت (معجم البلدان) أن الغضا واد بنجد. (¬10) في نسخة س «ما نقاخ» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب.

وكان الملك الكامل - رحمه الله - يبيت عنده جماعة من الفضلاء في بعض الليالى يأنس بهم مثل الشيخ جمال الدين اليمنى النحوى، والفقيه عبد الظاهر، والأمير صلاح الدين بن شعبان الإربلى (¬1)، وكان متأدبا له شعر حسن. وكانت تنصب لهم تخوت إلى جانب تخته ينامون عليها ويسامرونه (¬2) ويجارونه في العلوم والآداب (¬3). والصلاح الإربلى المذكور، هو أحمد بن [عبد] (¬4) السيد بن شعبان من بيت كبير بإربل، وكان أحد حجاب مظفر الدين كوكبورى بن زين الدين صاحب إربل، فتغير عليه واعتقله مدة ثم أفرج عنه، فقصد الشام واتصل بخدمة الملك المغيث فتح الدين عمر بن السلطان الملك العادل، وكان قد عرفه [4 أ] لما كان بإربل عند عمته ربيعة خاتون بنت أيوب، وحسنت حاله عنده. ولما توفى الملك المغيث انتقل الصلاح إلى الديار المصرية، واتصل بخدمة السلطان الملك الكامل. وعظمت منزلته عنده، ووصل إلى ما لم يصل إليه غيره. واختص به في خلواته وأمره. وكان صلاح الدين ذا فضيلة تامة ومشاركات حسنة. وذكر أنه كان يحفظ في الفقه «الخلاصة (¬5)» للغزالى - رحمه الله. ¬

(¬1) في نسخة س «الأمير صلاح الدين شعبان» والصيغة المثبتة من نسخة ب. (¬2) في نسخة س «ويشاوونه» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من نسخة ب، وورد في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 259) «فينصب لهم أسرة ينامون عليها بجانب سريره ليسامروه». (¬3) الصفحات التالية ساقطة من نسخة س ومثبتة في ب، وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط، انظر مايلى ص 169 حاشية 1. (¬4) ما بين الحاصرتين مذكور في هامش نسخة ب؛ انظر ترجمته في ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج، 1، ص 59 - 60. (¬5) لعله يقصد كتاب «خلاصة الوسائل إلى علم المسائل» للإمام أبى حامد الغزالى، انظر حاجى خليفة (كشف الظنون ج 1، ص 719).

وله نظم حسن ودو بيت بديع (¬1)، وبه تقدّم عند الملوك. ثم إن الملك الكامل تغير عليه في المحرم سنة ثمان عشرة وستمائة وهو بالمنصورة في مقابلة الفرنج بعد تملكهم دمياط. ولم يزل في الاعتقال مضيقا عليه إلى شهر ربيع الأول (¬2) سنة ثلاث وعشرين وستمائة. فكتب الصلاح إلى السلطان الملك الكامل بدو بيت يستعطفه، وهو: ما أمر تجنيك على الصب خفى ... أفنيت زمانى بالأسى والأسف ماذا غضب (¬3) بقدر ذنبى ولقد ... بالغت وما أردت إلا تلفى وقيل أنه كتب إليه أيضا: اصنع ما شئت أنت أنت المحبوب ... ما لى ذنب بلى كما قلّت ذنوب هل تسمح بالوصال في ليلتنا ... تجلو (¬4) صدأ القلب وتعفو وأتوب فأطلقه من الأعتقال، وعادت منزلته إلى ما كان أولا وأحسن. وكان الملك الكامل قد تغير على بعض إخوته [وهو الملك الفائز سابق الدين ابراهيم بن الملك العادل (¬5)] فدخل على الصلاح وسأله أن يصلح أمره مع [أخيه (¬6)] الملك الكامل. فكتب إليه الصلاح: ¬

(¬1) في ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 1 ص 59) «وله نظم حسن ودو بيت رائق وبه تقدم عند الملوك». والدو بيت من فنون الشعر المعربة الخارجة عن وزن وتركيب البحور الستة عشر المعروفة في الشعر العربى، والدو بيت نقل من الفارسية إلى اللغة العربية، ولفظ «دو بيت» مركبة من كلمتين، معنى الأولى منهما اثنان، وثانيتهما هى بمعناها العربى، فلا يقال منه إلا بيتان بيتان في أي معنى يريده الناظم، انظر السيد أحمد الهاشمى، ميزان الذهب في صناعة شعر العرب (القاهرة 1961)، ص 144. (¬2) كذا في نسخة المخطوطة بينما ورد في ابن خلكان (ج 1، ص 60) «شهر ربيع الآخر». (¬3) في المخطوطة «غضبا» ولعله تحريف والصيغة المثبتة الصحيحة من ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 1، ص 60) (¬4) في المخطوطة «تجلوا»، والصيغة المثبتة من ابن خلكان، (نفس الجزء والصفحة) (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 60. (¬6) ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 60.

وشرط صاحب مصر أن يكون كما ... قد كان يوسف في الحسنى لإخوته أسوا فقابلهم بالعفو وافتقروا ... فبرهم وتولاهم برحمته وكان الملك الكامل قد سير الصلاح رسولا إلى الانبرطور - لما كان بعكا سنة ست وعشرين وستمائة - لتقرير القواعد واستحلافه له، فاستحلفه وكتب إلى الملك الكامل: زعم اللعين (¬1) الانبرور بأنه ... سلم يدوم لنا على أقواله شرب اليمين فإن تعرض ناكثا ... فلنأ كلن (¬2) لذاك لحم شماله ومن شعر الصلاح: وإذا رأيت بنيك فاعلم أنهم ... قطعوا إليك مسافة الآجال وصل البنون إلى محل أبيهم ... وتجهز الآباء للترحال (¬3) ولما كان الملك الكامل بالقرب من السويداء من بلد آمد - كما قدمنا ذكره في السنة التي كانت فيها وقعة خرتبرت (¬4) - مرض الصلاح بالمعسكر الكاملى فنقل إلى الرها، فمات قبل دخولها في منتصف ذى الحجة (¬5) سنة إحدى وثلاثين وستمائة، فدفن بظاهرها، ثم نقله ولده من هناك إلى الديار المصرية فدفنه في تربته بالقرافة الصغرى في آخر شعبان سنة سبع وثلاثين وستمائة. ومولده سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بإربل. ¬

(¬1) في ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 1، ص 60) «الزعيم» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) الصيغة المثبتة من المخطوطة وفى ابن خلكان (نفس المصدر، ج 1، ص 60) «فليأكلن» وكلاهما صحيح. (¬3) في المخطوطة «بالترحال» والصيغة المثبتة من ابن خلكان (نفس المصدر والجزء والصفحة). (¬4) انظر ما سبق، ص 78 - 79. (¬5) الصيغة المثبتة من المخطوطة وفى ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 1، ص 60) «فمات قبل دخولها في الخامس والعشرين من ذى لحجة».

وكان مجد الدين أبو الخطاب عمر بن دحية مع فرط معرفته بالحديث وحفظه الكثير له، يتهم بالمجازفة في النقل. وبلغ ذلك الملك الكامل - على ما بلغنى - فأمره أن يعلق شيئا على كتاب الشهاب المنسوب إلى القضاعى (¬1)، فعلّق عليه كتابا طعن على بعض الأحاديث التي فيه وصحح البعض، وتكلم على الأسانيد. ولما وقف الملك الكامل على ذلك قال له بعده: «قد ضاع منى ذلك الكتاب، فعلّق لى مثله». ففعل، ولم يكن عنده مسودة الكتاب الأول، فجاء في الكتاب الثانى مناقضة لما ذكر في الكتاب الأول؛ فعلم الملك الكامل صحة ما نقل عنه، فنزلت مرتبتة في عينه. وكان ولاه مشيخة دار الحديث الذى بين القصرين - كما قدمنا ذكره (¬2) - فعزله عنها في آخر وقته، وولاها لأخيه الحافظ أبى عمرو عثمان بن الحسن بن دحية. وكان أسن من أبى الخطاب، وكان حافظا للغة العربية قيما بها. وكان مولد أبى الخطاب مستهل ذى القعده سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وتوفى في الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة. ودفن بسفح (¬3) المقطم - رحمه الله. ¬

(¬1) يقصد كتاب (شهاب الأخبار في الحكم والأمثال والآداب) من الأحاديث النبوية للقاضى أبى عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن على بن حكمون القضاعى الشافعى المتوفى سنة 454 هـ‍، انظر حاجى خليفة، كتاب كشف الظنون، ج 2، ص 1067. (¬2) انظر ما سبق، ص 163. (¬3) الكلمة غير واضحة في المتن والصيغة المثبتة من ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 1، ص 382).

وتوفى أخوه أبو عمرو في ثالث عشر جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين [5 ا] وستمائة بالقاهرة، ودفن بسطح المقطم. وكانت له رسائل يستعمل فيها حوشى اللغة (¬1) وغريبها، من ذلك أنه كتب في أول كتاب إلى الملك الكامل يقبل البوغاء (¬2) ويبلطح (¬3)، ومن هذا وشبهه مما تمجه الأسماع ولا تقبله الطباع. وقد روى للملك الكامل شعر؛ فمن ذلك: لا أوحشت من مغانى القوم أوطان ... ولا خلا منهم أثل ولا بان وأين ما نزلوا في الحالتين معا ... فإنهم في سويداء القلب سكّان يا غائبين لقد خلّفتم جسدا ... ما فيه إلا صبابات وأشجان يأبين رفقا بأكباد مقرحة ... تشبّ فيها من التفريق نيران جار الفراق على قلبى فأحرقه ... يا للرجال ومن عينى غدران؟ ومن ذلك في معذّر (¬4): يا بروحى معذر قام عذرى ... في هواه مراعيا لوشاتى خلب القلب، يخلب الصّدغ منه (¬5) ... ورماه في جمرة الوجنات فسويداه حين أحرقها الشع‍ ... ـر تلاشت في صورة الشعرات واكتست بهجة وأضحت غدارا (¬6) ... مرسّلا في الجمال بالمعجزات ¬

(¬1) حوشى اللغة هو الغامض والمشكل والغريب، انظر الزبيدى، تاج العروس، ج 4، ص 302. (¬2) البوغاء: التراب، انظر الزبيدى، ج 6، ص 6 (¬3) أي ضرب بنفسه الأرض، انظر، الزبيدى، ج 2، ص 126. (¬4) ذكر ابن منظور (لسان العرب، ج 6، ص 224) أن العذار استواء شعر الغلام، وعذار الرجل شعره النابت في موضع العذار. (¬5) الصدغ هو الشعر المتدلى على الصدغ، انظر الزبيدى (تاج العروس، ج 6، ص 21). (¬6) الغديرة هى الذؤابه، وجمعها غدائر، وقيل الغدائر للنساء وهى المضفورة، والضفائر للرجال، انظر الزبيدى، ج، 3، ص 441.

ومما روى له من الشعر وهو حسن: إذا تحققتم ما عند عبدكم ... من الغرام فهذا القدر يكفيه أنتم سكنتم بقلبى فهو منزلكم ... وصاحب البيت أدرى بالذى فيه (¬1) وبالجملة فكانت سوق الفضائل عنده نافقة، ما قصده أحد من أهل الفضل إلا واعتنى به. وكان في خدمته القاضى الشريف شمس الدين الأرموى قاضى العسكر، وكان فاضلا في الفقه والأصولين يبحث بحثا حسنا، وكان يذكر الدرس في المدرسة الناصرية الصلاحية التي بسوق الغزل بمصر (¬2). وكان أخص الناس بخدمته أولاد الشيخ صدر الدين بن حمويه (¬3) وهم: فخر الدين (¬4)، وعماد الدين، ومعين الدين، وكمال الدين. وكان فخر الدين (¬5) [5 - ب] قد خلع العمامة ولبس الشربوش والقباء، ونادم الملك الكامل، وكان فاضلا متأدبا يشارك في كل فن. وكل (¬6) من الباقين كان له نصيب من الفضيلة وافر. ¬

(¬1) نهاية الجزء الساقط من نسخة س، انظر ما سبق ص 164 حاشية 3. (¬2) هى المدرسة التي أنشأها بجوار الجامع العتيق السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في أول المحرم سنة 566 هـ‍ برسم الفقهاء الشافعية، وكان حينئذ يتولى وزارة مصر للخليفة العاضد، وهى أول مدرسة عملت بديار مصر، ودرس بها الشريف القاضى شمس الدين أبو عبد الله الحنفى قاضى العسكر الأرموى، فعرفت به وقيل لها المدرسة الشريفية من عهده إلى أيام المقريزى وربما بعد ذلك؛ انظر، المقريزى، الخطط، ج 2، 363 - 364؛ حسنين ربيع، النظم المالية في مصر، ص 75 - 76. (¬3) أولاد الشيخ بنو حمويه، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 91، حاشية 3 وكذلك المقريزى، الخطط، ج 2، ص 33 - 34؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 261؛ Gottschalk, Article, Awlad al - Shaykh, in Encyclopaedia of Islam, 2nd. edition. (¬4) في نسخة س «مجير الدين» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من نسخة ب. (¬5) في نسخة س «مجير الدين» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من نسخة ب. (¬6) في نسخة س «وكان» وهو تصحيف.

وكانت إليهم (¬1) مشيخة الخانقاة (¬2) الناصرية الصلاحية تجاه دار الوزارة المعروفة بخانقاة سعيد السعداء (¬3)، وتدريس المدرسة المجاورة لقبر الإمام الشافعى (¬4) - رحمه الله، وتدريس المدرسة المجاوره لضريح رأس الحسين - عليه السلام - بالقاهره. وكل واحد من هؤلاء تقدم على الجيوش وباشر الحروب (¬5). وكانت أمهم إبنة (¬6) شهاب الدين بن الشيخ شرف الدين بن أبى عصرون. وذكر أنها أرضعت الملك الكامل؛ فكل هؤلاء إخوته من الرضاعة؛ فهو سبب تقدمهم عنده. ولم أجد في شىء من التواريخ أن ثلاثة إخوة من الملوك اجتمع لهم من [الشجاعه (¬7) و] النجابة والفضائل ما اجتمع في أولاد الملك العادل الثلاثة، [وهم (¬8):] الملك الكامل، والملك المعظم، والملك الأشرف. وكان الملك الكامل أخرمهم وأسوسهم، والملك المعظم أشجعهم وأعلمهم، والملك الأشرف أسمحهم وأنداهم كفا، رحمهم الله أجمعين. ¬

(¬1) في نسخة س «لهم»، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «الخانكاة» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) هى الخانقاة التي جعلها صلاح الدين يوسف بن أيوب برسم الفقراء الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة ووقفها عليهم في سنة 569 هـ‍ وولى عليهم شيخا ووقف عليها أوقافا عدة وكان سكان هذه الخانقاة من الصوفية يعرفون بالعلم والصلاح وترجى بركتهم. وولى مشيختها الأكابر والأعيان كأولاد شيخ الشيوخ ابن حمويه وغيرهم، لتفصيل ذلك انظر، المقريزى، الخطط، ج 2، ص 415 - 416؛ حسنين ربيع، النظم المالية في مصر زمن الأيوبيين، ص 74. (¬4) يقصد المدرسة التي شيدها صلاح الدين يوسف بن أيوب بجوار قبة الإمام الشافعى أنظر، المقريزى، الخطط ج 2 ص 400 - 401. (¬5) في نسخة س «يقوم على الجيوش ويباشر الحروب»، والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «وكانت أمهم أم شهاب الدين بن الشيخ شرف الدين بن أبى عصرون» وهو تحريف، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب، انظر، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 261؛ المقريزى، الخطط، ج 2، ص 33 - 34. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س.

ذكر استيلاء الملك الجواد مظفر الدين يونس ابن مودود بن الملك العادل على دمشق

وكانت أولاد الملك الكامل الذكور ثلاثة: الملك المسعود صلاح الدين يوسف صاحب اليمن، وتوفى في حياة أبيه، وقد ذكرنا أخباره. والملك العادل سيف الدين أبو بكر، وولى الملك بعده. والملك الصالح نجم الدين أيوب، وولى بعد الملك العادل على ما سنذكره. وأكبرهم الملك المسعود وأصغرهم الملك العادل. وكان له عدة بنات. ودفن [الملك الكامل] (¬1) بالقلعة، ثم نقل إلى تربة بنيت له، لها شباك [لافظ إلى (¬2)] جامع دمشق، [وجاءت في غاية الحسن (¬3)]. ذكر استيلاء الملك الجواد مظفر الدين يونس ابن مودود بن الملك العادل على دمشق ولما مات [السلطان (¬4)] الملك الكامل - رحمه الله - كانت العساكر والأمراء المصرية كلهم بدمشق، [وهم على عزم التحرك إلى جهة حمص وحلب وغيرها (¬5)]. وكان أرباب الدوله المشار (¬6) إليهم بدمشق يومئذ أولاد شيخ الشيوخ [صدر الدين (¬7)] المذكورون والأمير سيف الدين [6 ا] بن قلج وأخوه (¬8) عماد الدين، وكانا من أمراء حلب، ثم بعد موت الملك العزيز اتصلا بخدمة الملك الكامل. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س، ومثبت في ب. (¬2) في نسخة س «في حائط» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من ب. (¬5) ورد ما بين حاصرتين في غير مكانه في نسخة س (ورقة 314 ا) وما هنا من نسخة ب. (¬6) في نسخة س «وكانت أكابر الدولة والمشار اليهم» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬8) في نسخة س «سيف الدين قلج» والصيغة المثبتة من نسخة ب، وهو سيف الدين على بن قلج الظاهرى، انظر ابن العديم، زبدة الحلب في تاريخ حلب، ج 3، ص 214 - 215.

وكان الملك الناصر داود بن الملك المعظم أيضا بدمشق نازلا في داره المعروفة بدار سامه (¬1) وهى التي بناها الشيخ نجم الدين (¬2) البادرائى (¬3) بعد ذلك مدرسة شافعية. وكان الملك الناصر متوقعا من الملك الكامل أن يعطيه دمشق حسب ما كان الاتفاق (¬4) بينه وبينه. فلما مات الملك الكامل اتفق رأى أرباب الدولة على تحليف الأجناد للملك العادل سيف الدين [أبى بكر (¬5)] بن الملك الكامل، وأن يرتب بدمشق نائبا عنه ابن عمه الملك الجواد بن مودود في السلطنة؛ إذ لا يمكن [أن (¬6)] يحفظ دمشق إلا برجل من أهل بيت الملك (¬7) يرجى ويخاف. ورأوا أن الملك الناصر إن فوّض هذا الأمر إليه استبد بالملك لنفسه وخيف جانبه (¬8)، فأخذوا [عند ذلك (¬9)] في ترتيب الملك الجواد نائبا عن ابن عمه الملك العادل. ¬

(¬1) في نسخة س «شامة» والصيغة المثبتة من ب، ودار سامة بدمشق تنسب إلى سامة الجبلى أحد أكابر الأمراء زمن السلطان العادل الأيوبى، انظر ابن كثير، البداية والنهاية، ج 13، ص 63، حوادث سنة 609 هـ‍. (¬2) في نسخة س «مجد الدين» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة ب «البادرائى» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من س، وهو الشيخ الإمام نجم الدين أبو محمد عبد الله بن أبى الوفاء البادرائى البغدادى الفرضى، ولد سنة 594 هـ‍، وسمع من جماعة وتفقه، ودرس بالنظامية، وحدّث بحلب ودمشق ومصر وبغداد، وبنى بدمشق المدرسة البادرائية، وتوفى سنة 655 هـ‍؛ عن هذه المدرسة انظر النعيمى، الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 205 - 215. (¬4) في نسخة س «حسب ما وقع الاتفاق» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬7) في نسخة س «إلا رجل من أهل البيت» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «استبد بالأمر لنفسه وبالملك وخيف من جانبه» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من ب.

ولما علم الملك الناصر [بن الملك المعظم (¬1)] موت (¬2) عمه ظن أن الأمراء يساعدونه [على تمليك دمشق] (¬3)، فلم يتم له ما ظنه. وبعث إليه أرباب الدولة يأمرونه بالخروج من دمشق، فركب من داره خارجا إلى قصره بالقابون (¬4)، وكان أهل دمشق مائلين إليه جدا. فلما ركب اجتمعوا ودعوا له، وفوّهوا باسمه. [وخرج من دمشق ولا يصدق بالنجاة خوفا أن يقبض عليه، ومضى إلى القابون ونزل به. ثم بلغه أنهم (¬5)] على عزم التعرض له فسافر إلى بلاده. وقام الملك الجواد (¬6) بالأمر مظهرا أنه نائب (¬7) عن الملك العادل ابن عمه. وسافر أكثر العسكر (¬8) إلى الديار المصريه، وبقى عنده بعض الأمراء لحفظ البلد؛ منهم الأمير عماد الدين بن شيخ الشيوخ، وعماد (¬9) الدين بن قلج، وجمع من العساكر المصرية والمماليك الأشرفيه. وكانوا شوكة قوية، مقدمهم [الأمير (¬10)] عز الدين أيبك [الأسمر (¬11)] الأشرفى. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة س «بموت»، والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدله في ب «على ذلك». (¬4) في نسخة س «بالقانون» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب. وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن قابون موضع بينه وبين دمشق ميل واحد في طريق القاصد إلى العراق في وسط البساتين. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬6) في نسخة س «ولما رتبوا الملك الجواد بدمشق قام الملك الجواد» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «أنه نائبا» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «العساكر» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «عز الدين» ولعله تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة ب، انظر ما سبق ص 171. (¬10) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬11) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب.

ذكر استقلال [السلطان] الملك العادل سيف الدين أبى بكر ابن الملك الكامل [بملك الديار المصرية]

ذكر استقلال [السلطان (¬1)] الملك العادل سيف الدين أبى (¬2) بكر ابن الملك الكامل [بملك الديار المصرية (¬3)] [6 ب] ووصلت إلى مصر [أكثر (¬4)] العساكر الكاملية وفيهم فخر الدين (¬5) ابن شيخ الشيوخ وأخواه كمال الدين ومعين الدين، وسيف الدين بن قلج (¬6)، وأكابر الدولة وعظماؤها سوى من تخلف بدمشق مع الملك الجواد. واستقل الملك العادل بملك الديار المصرية (¬7)، وأخرج ما في الخزائن من الأموال وبذله، وأكثر [من (¬8)] العطاء حتى بدد (¬9) في المدة اليسيرة من الأموال الكثيرة ما جمعه أبوه في المدد (¬10) الطويلة (¬11). وأقبل على الملاذ واللهو [واللعب (¬12)]. واتخذ لنفسه جماعة يساعدونه على ما هو بصدده من اللعب واللهو. وأبعد أهل الرأى ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة س «أبو» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وفى نسخة س «بالديار المصرية بالمملكة». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬5) في نسخة س «مجير الدين» وهو تحريف، انظر ما سبق، ص 169 حاشية 4 - 5. (¬6) في نسخة س «سيف الدين قلج» والصيغة المثبتة من نسخة ب، انظر ما سبق، ص 171 حاشية 8. (¬7) في نسخة س «بالديار المصرية بالمملكة»، والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬9) في نسخة س «بدل» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «المدة»، والصيغة المثبتة من نسخة ب. (¬11) ذكر المقريزى (السلوك، ج 1، ص 296) أن «أباه الملك الكامل ترك ما ينيف على ستة آلاف دينار مصرية، وعشرين ألف ألف درهم، فرقها كلها. وكان العادل يحمل المال إلى الأمراء وغيرهم على أقفاص الحمالين، ولم يبق أحد في دولته إلا وشمله انعامه». (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

والمعرفة، ومن كان أبوه يعتمد عليهم في أموره. وكان ذلك سبب اختلال أموره (¬1) وزوال ملكه. وجرى عليه ما سنذكره [من الفساد في أمره (¬2)] إن شاء الله تعالى. وأما الملك الجواد فإنه شرع في بذل الأموال [أيضا (¬3)] بدمشق، وأخرج ما في الخزائن من الأموال والخلع. فخلع على الأمراء والأجناد وأكثر من العطاء ليستميلهم إليه (¬4)، وقوى طمعه في ملك دمشق والاستبداد بملكها. وكان يذكر [اسمه (¬5)] في الخطبة بعد ابن عمه الملك العادل. وأما الملك الناصر داود فإنه لما مضى إلى بلاده استولى على غزة والسواحل التي كانت بيد [الملك (¬6)] الكامل وأضافها إلى ملكه (¬7)، واستخدم عسكرا كثيرا، [وأقام (¬8)] بغزة. وكاتب ابن عمه الملك العادل يطلب منه أخذ دمشق ليكون نائبا عنه بها. فلم تقع إجابته (¬9) إلى ذلك، فأرسل إليه ثانيا يقول له: «إن أباك السلطان الملك الكامل التزم لى أنه يعيد (¬10) إلىّ مملكة والدى، وأنا قد وليت على البلاد الساحلية لأنها من جملتها، فتساعدنى على تسليم دمشق وباقى البلاد، وأكون من قبلك وفى (¬11) طاعتك كما كنت مع أبيك». وترددت بينه وبين الملك العادل الرسائل في هذا المعنى. ¬

(¬1) في نسخة س «أمره» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬4) في نسخة ب «يستميلهم» والصيغة المثبتة من س، وكلاهما صحيح. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬7) في نسخة س «مملكته» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬9) في نسخة س «الإجابة»، والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «كان قد التزم أن يعيد»، والصيغة المثبتة من ب. (¬11) في نسخة س «ومن» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من ب.

ذكر الأمور المتجددة بعد موت الملك الكامل بحمص وحماة وحلب والشرق

ذكر الأمور المتجددة (¬1) بعد موت (¬2) الملك الكامل بحمص وحماة وحلب والشرق أما حمص فإن صاحبها الملك المجاهد [أسد الدين (¬3)] كان قد أيقن بالبوار والدمار، وكان [7 أ] يتوقع وصول الملك الكامل بعساكره [إليه (¬4)] يوما بعد يوم (¬5). وبينما هو في قلقه وخوفه إذ جاءه الفرج بعد الشدة بغتة، ووردت (¬6) عليه بطاقة من دمشق من بعض أصحابه يخبره [فيها (¬7)] بموت الملك الكامل. فحكى لى أنه لما وردت عليه البطاقة بذلك كاد يستطير من الفرح والسرور. وكان بنوه بين يديه فلم يطلعهم على الخبر بل قال: «شدوا لى على (¬8) خيل الكرة لأنزل إلى الميدان وألعب بالصوالجة». فتعجب أولاده من ذلك إذ لم يكن [من (¬9)] عادته اللعب لا سيما وهو في عشر السبعين وهو في تلك الحال (¬10) الصعبة، وأولاده شركاؤه فيها، فقالوا له: «في مثل هذا الوقت الصعب نفعل مثل هذا»؛ فرفع صوته وقال: «مات الملك الكامل». ونهض قائما على قدميه ونزل هو وأولاده إلى الميدان ولعبوا فيه بالصوالجة. وأخذ (¬11) في الإغارة على بلد حماة وإخراب ضياعها. ¬

(¬1) في نسخة س «المنجددات» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «وفاة» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة ب، وساقط من س. (¬5) في نسخة ب «يوما فيوما»، والصيغة المثبتة من س. (¬6) في نسخة س «وردت»، والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من ب. (¬8) في نسخة س «شدوا على»، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬10) في نسخة س «الحالة»، والصيغة المثبتة من ب. (¬11) في نسخة س «وأخذوا»، والصيغة المثبتة من ب.

وأما الملك المظفر صاحب حماة فإنه - كما قدمنا ذكره (¬1) - كان نازلا بعساكره على (¬2) الرستن مترقبا لوصول الملك الكامل لينازل معه حمص، [فلم يفجأه إلا (¬3)] خبر موت خاله الملك الكامل، فاشتد لذلك جزعه وحزنه (¬4). ودخل (¬5) إلى حماة [لوقته (¬6)]، وأقام بها العزاء في الجامع الأعلى. وبعث الملك المجاهد [صاحب حمص] (¬7) نوابه إلى سلمية فتسلموها وطردوا منها نواب الملك المظفر. وقطع (¬8) القناة التي يجىء فيها الماء إلى حماة، فخربت بسبب قطعها بساتين الجروف بحماة (¬9) وهى معظم بساتينها، وجفت أشجارها. ثم عزم على قطع النهر العاصى عن حماة، وهو يخرج من سد على بحيرة قدس. وكان يقال أن حمص كانت لها ملكة في قديم الزمان فكانت تقطع العاصى بأن تسد مخرجه من البحيرة، فيذهب العاصى إلى واد يقال له وادى الحيات، فكانت إذا فعلت ذلك حمل أهل حماه وشيزر القطيعة إليها فتطلق النهر لهم. فظن الملك المجاهد أن هذا يتم [له (¬10)] وأنه يخرب بسبب قطعه النهر بقية البساتين، ويتمكن من أخذ حماة بسبب [ذلك و (¬11)] أنه ليس [7 ب] بينها وبين النهر سور يمنع من الدخول ¬

(¬1) انظر ما سبق، ص 153. (¬2) في نسخة س «إلى»، والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «فلم يشعر الا وقد دهمه» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ذكر ابن أيبك الدوادارى (الدر المطلوب، ص 330) أنه لما بلغ صاحب حماة موت الكامل: «انقطع ظهره، واشتد خوفه من صاحب حمص». (¬5) في نسخة س «ورجع» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬7) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬8) في نسخة س «وقطعوا» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «فخربت بسبب قطعها بساتين حلب وهى الجروف» ولعله تصحيف، والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من ب.

إليها، فسد المخرج الذى يخرج العاصى منه فانقطع العاصى عن حماة يومين، وبطلت (¬1) النواعير والطواحين وذهب الماء في الأودية. ثم لما لم يجد له مسلكا (¬2) عاد بقوة وهدم البناء الذى بناه صاحب حمص في السد، وعاد [الماء (¬3)] إلى مجراه كما كان. ولما أعجزه ذلك أخذ في الإغارة [على بلد حماة (¬4)] والإفساد ونهب الضياع. وأما الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬5)] بن الملك الكامل فإنه بعد أخذه سنجار [وبلادها (¬6)] سار - كما ذكرنا - إلى الرحبة، وهى للملك المجاهد صاحب حمص فحاصرها بتقدّم أبيه إليه في ذلك. وبينما هو يحاصر الرحبة (¬7) إذ ورد عليه الخبر بوفاة أبيه الملك الكامل، فرحل عن الرحبة، وطمعت الخوارزمية فيه (¬8). وكانوا - كما قدمنا - قد استخدمهم [الملك الصالح (¬9)] ودخلوا في طاعته، فخرجوا عن طاعته لما بلغهم موت الملك الكامل، فخافهم (¬10) الملك الصالح وقصد سنجار فاختفى بها خوفا على نفسه. ثم ظهر، وجرى له [بعد ذلك (¬11)] ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) في نسخة س «فبطلت»، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «ثم إن الماء اذ لم يجد مسلكا»، والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «محاصرا للرحبة»، والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة ب «وطمعه الخوارزميه فيهم»، والصيغة المثبتة من س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) في نسخة س «فخاف منهم»، والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب.

وتحكمت الخوارزمية في البلاد الجزريّه (¬1)، وبعث الملك الصالح رسولا إلى عمته الصاحبة والدة الملك العزيز [يشفع إليها في الملك المظفر صاحب حماة، فلم يجب سؤاله، فاعتذرت بما بدا منه، فطلب الرسول عن صاحبه الملك الصالح (¬2)] الموافقة (¬3) والمعاضدة على أن يسفر (¬4) في الصلح بينه وبين السلطان غياث الدين [كيخسرو (¬5)] سلطان الروم، فأجيب جوابا لم يحصل منه على طائل. وورد إلى حلب رسول [السلطان (¬6)] الملك العادل صاحب مصر، يطلب الموافقة بينه وبينهم، على أن يجروا معه على قاعدة أبيه في الصلح وإقامة الخطبة والسكة على ما كان في زمن (¬7) الملك الكامل. فلم تجبه الصاحبة إلى شىء من ذلك، ورجع الرسول بغير طائل. وكان المقدّمون بحلب لما ملك [الملك (¬8)] الكامل دمشق استشعروا من الملك الكامل وخافوا منه خوفا شديدا. وغلب على ظنونهم أنه لا بد أن يقصدهم. وكان لهم بدمشق عند الملك الصالح إسماعيل نجدة مقدّمها ناصح الدين الفارسى - وقد ذكرنا [8 ا] ذلك - فلم يتعرض الملك الكامل لتلك النجدة، ورجعوا إلى حلب. ¬

(¬1) في نسخة س «الجزيرية» والصيغة المثبتة من ب، وعن خروج الخوارزمية، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 241 - 243. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س، ومثبت في ب. (¬3) في نسخة س «في الموافقة» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «يستقر»، والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬7) في نسخة س «زمان»، والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

ثم استدعت الصاحبة الملك المعظم بن صلاح الدين وباقى إخوته وأقاربه، والأمراء (¬1) على طبقاتهم، فحلفوا للملك الناصر [بن الملك العزيز (¬2)] ولجدّته الصاحبة أم الملك العزيز. ثم استحلفت أكابر البلد والرؤساء (¬3)، ثم الأجناد والعامه. واستعدت للحصار بالذخائر والأقوات والأحطاب وكل ما يحتاج إليه الحصار. ونقلت حجارة المنجنيق إلى أبواب البلد، واستخدمت جماعة من الخوارزمية وغيرهم. ووصل قنغر (¬4) التركمانى فاستخدمته وقدّمته على التركمان. وقفز جماعة من عسكر الملك الكامل فاستخدمتهم، وتابعت الرسل إلى سلطان الروم غياث الدين كيخسرو لطلب النجدة (¬5)، فسيّر [إليها (¬6)] نجدة من أجود عسكره، وعرض تسيير (¬7) غيرها، فاكتفت (¬8) بمن سيّره. ¬

(¬1) في نسخة س «وباقى الأمراء»، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «ورؤساءها»، والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسختى المخطوطة «قنعر» وقنغر التركمانى هذا كان أميرا من التركمان حشد - في سنة 634 هـ‍ بعد موت الملك العزيز - جمعا من التركمان وعاث في أطراف بلاد حلب ونهب ضياعا متعددة، فخرج إليه عسكر من حلب فكسر قنغر ذلك العسكر، وذلك قبل استخدامه بحلب انظر، ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 229 - 230، 236. (¬5) في نسخة س «تطلب منه النجدة» والصيغة المثبتة من ب، وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 236) «وتتابعت الرسل إلى ملك الروم لطلب نجدة تصل إلى حلب من جهته». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «بتسيير» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة م «واكتفى» والصيغة المثبتة من س، وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ج 3، ص 236) «وعرض عليهم أن يسير غيرها، فاكتفوا بمن سيره.»

ذكر منازلة عسكر حلب قلعة المعرة وتملكها والاستيلاء على المعرة وبلدها

وسير غياث الدين [ملك الروم (¬1)] رسولا إلى الملك الكامل يخاطبه في الامتناع عن قصد حلب. واتفق (¬2) موت الملك الكامل. ولما وصل خبر موته (¬3) إلى حلب عمل له بها العزاء، وحضره السلطان الملك الناصر -[رحمه الله (¬4)]- وعمره يومئذ ثمان سنين. ثم تقدمت الصاحبة إلى عسكر حلب بالتوجه إلى بلاد الملك المظفر وقصده، وأن تقع (¬5) البدايه بأخذ [قلعة (¬6)] المعرّة وبلدها، ثم بعد ذلك التقدم إلى حماة وحصارها. وقدّمت على العساكر الملك المعظم فخر الدين توران شاه بن صلاح الدين. ذكر منازلة عسكر حلب قلعة المعرّة وتملكها والاستيلاء على المعرّة وبلدها فخرجت العساكر وتوجهوا إلى المعرّة واستولوا عليها وأخذوا ما فيها من الحواصل، وحاصروا قلعتها التي بناها الملك المظفر. ووصل إلى حلب رسول الملك المظفر يتلطف الحال فلم يستحضر (¬7)، وعاد إلى حماة. ونصب عسكر حلب ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة س «فاتفق» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «خبر موت الملك الكامل» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬5) في نسخة ب «يقع» والصيغة المثبتة من س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬7) وردت الجملة في نسخة س: «فأرسل الملك المظفر رسولا إلى حلب يستعطف الصاحبة عليه فلم تأمر بحضوره» والصيغة المثبتة من ب.

ذكر منازلة عسكر حلب لحماة وحصارها

على قلعة المعرّة المجانيق (¬1)، وواتروا (¬2) رميها بالحجارة [مدة يسيرة (¬3)] فسلمت إليهم بالأمان فملكوها ورتّبوا أمرها (¬4). ذكر منازلة عسكر حلب لحماة وحصارها ولما افتتح [الملك المعظم (¬5) و] عسكر حلب المعرة ساروا إلى حماة ونازلوها. وكان الملك المظفر صاحبها قد ابتنى من جهة القبلة سورا من اللبن خارج السور الأصلى (¬6)، وجعل فيه بابا سماه باب دمشق. ونهب عسكر حلب ضياع حماة ورساتيقها، واستمر الحصار على حماة إلى آخر السنة [المذكورة (¬7)]. ولم تضايق حماة المضايقة الشديدة، ولا نصب عليها منجنيق فإن الصاحبة والدة الملك العزيز لم يكن قصدها إزالة (¬8) ملك ابن أخيها الملك المظفر، وإنما أرادت أن تنتقم منه بأخذ المعرّة ومحاصرة حماة [وإشغال سره (¬9)]، عقوبة له على ما فعل من انحيازه إلى الملك الكامل ومظاهرته عليها بعد إتفاقه معها، فأمرت العسكر أن ينازلوا البلد ويقطعوا (¬10) المادة عنه، ولا يجدوا (¬11) في القتال والزحف. ¬

(¬1) في نسخة س «المناجنيق» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «وتواتروا» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب (¬4) وردت الجملة في نسخة س وفى صيغة مخالفة وبنفس المعنى. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «من لبن خارج سور الأصل» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) في نسخة س «لازالة» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة ب، وساقط من س (¬10) في نسخة س «ويقطعون» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب. (¬11) في نسخة س «ولا يجدون» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة ب.

ذكر الوصلة بين السلطان الملك الناصر [ابن الملك العزيز] صاحب حلب والسلطان غياث الدين كيخسرو سلطان الروم

ذكر الوصلة بين السلطان الملك الناصر [ابن الملك العزيز (¬1)] صاحب حلب والسلطان (¬2) غياث الدين كيخسرو سلطان الروم وقدم (¬3) في هذه السنة - أعنى سنة خمس (¬4) وثلاثين وستمائة - رسول السلطان غياث الدين كيخسرو صاحب بلاد الروم (¬5) [إلى حلب] (¬6)، وطلب (¬7) من الخاتون الصاحبة والدة الملك العزيز أن تزوجه بنت السلطان الملك العزيز، وأن يزوج السلطان الملك الناصر أخت غياث الدين. فأجيب [غياث الدين (¬8)] إلى ذلك واستقر الأمر عليه. واجتمع الناس في دار السلطنة بالقلعة (¬9). وعقد عقد السلطان غياث الدين [ملك الروم (¬10)] على غازية خاتون بنت الملك العزيز. وتولى العقد الصاحب كمال الدين عمر بن أبى جرادة (¬11) المعروف بابن العديم على مذهب أبى حنيفة - ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة س «وبين السلطان»، والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «وسير» والصيغة المثبتة من ب، وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 237) «ووصل». (¬4) في نسخة س «خمسة» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «ملك الروم»، والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬7) في نسخة س «يطلب» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬9) في نسخة س «بقلعة حلب المحروسة»، والصيغة المثبتة من ب، وفى ابن العديم (نفس المصدر والجزء، ص 237) «في دار السلطان بالقلعة». (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬11) في نسخة س «بن جرادة» والصيغة الصحيحة المثبتة من ب، انظر ترجمة ابن العديم في الجزء الأول من زبدة الحلب من تاريخ حلب، تحقيق سامى الدهان، ص 13 وما بعدها.

رضى الله عنه (¬1) - لصغر الزوجة (¬2) على صداق مبلغه خمسون الف دينار. وقبل النكاح عن غياث الدين رسوله الوارد من جهته وهو القاضى عز الدين قاضى دوقات (¬3). ونثر الذهب عند الفراغ من العقد. ووصل عند ذلك الخبر باستيلاء العسكر على قلعة المعرة، وضربت البشائر للامرين (¬4) جميعا. وسير (¬5) الصاحب كمال الدين بن العديم رسولا إلى بلاد الروم لعقد الوصلة (¬6) وهى عقد الملك الناصر على ابنة السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو (¬7)، وأمها ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. وكان أخوها الملك المعظم - صاحب دمشق - زوّجها من علاء الدين كيقباذ؛ فإبنة السلطان علاء الدين هذه هى ابنة خالة (¬8) [السلطان (¬9)] الملك العزيز [والد الملك الناصر (¬10)]. ¬

(¬1) في نسخة ب «رحمه الله» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من ابن العديم الذى ذكر في كتابه (زبدة الحلب، ج 3، ص 237) «وتوليت عقد النكاح، على مذهب الإمام أبى حنيفة - رضى الله عنه - لصغر الزوجة، على خمسين ألف دينار». (¬2) في نسخة س «لصغر سن الزوجة» والصيغة المثبتة من نسخة ب وكذلك من ابن العديم، ج 3، ص 237. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة وكذلك في ابن العديم، ولعل المقصود بها توقات وهى بلدة في أرض الروم بين قونيا وسيواس كانت ذات قلعة حصينة وأبنية مكينة، بينها وبين سيواس يومان، انظر، ياقوت: (معجم البلدان)؛ ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 238، حاشية 1. (¬4) في نسخة ب «للأميرين» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة س ومن ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة). (¬5) في نسخة س «وسيرت الصاحبة» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ينقطع النص هنا في نسخة ب وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط: انظر مايلى ص 187 حاشية 1. (¬7) في المتن «كيخسروا». (¬8) في المتن «خال» وهو تصحيف، والصيغة الصحيحة المثبتة من ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 239) ومن المعروف أن الظاهر بن صلاح الدين والد العزيز تزوّج من ابنة عمه الملك العادل ضيفة خاتون، وتزوّج علاء الدين كيقباذ أختها فإبنة علاء الدين هى ابنة خالة الملك العزيز، انظر، ابن العديم (نفس المصدر والجزء، ص 163). (¬9) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش. (¬10) ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن العديم، ج 3، ص 239.

ووصل كمال الدين بن العديم إلى بلاد الروم، واجتمع بالسلطان غياث الدين بالكيقباذية (¬1) وهى على باب قيسارية وذلك يوم الثلاثاء لأربع عشرة (¬2) ليلة بقيت من شوّال من هذه السنة. ووقعت الإجابة إلى عقد العقد، وكان الوكيل من جهة غياث الدين كمال الدين كاميار. ولما تم أمر الإجابة دخل الصاحب كمال الدين بن العديم وكمال الدين كاميار إلى قيسارية الروم (¬3). وأحضر قاضى البلد والشهود، فقبل العقد كاميار من جهة غياث الدين، وقبل العقد عن الملك الناصر كمال الدين بن العديم، ومبلغ الصداق خمسون ألف دينار مصرية نظير صداق غياث الدين على أخت الملك الناصر (¬4). وأحضر في ذلك اليوم من التجمل وآلات الذهب والفضة ما لا يمكن وصفه. ونثر من الدنانير الواصلة مع الصاحب كمال الدين بن العديم ألف دينار (¬5). ونثر في دار السلطان من الدنانير والدراهم والثياب شىء كثير. وعاد كمال الدين إلى حلب بعد إنجاز هذا الأمر. وسيّر السلطان غياث الدين رسولا إلى حلب وهو الأمير قمر الدين الخادم، ويعرف بملك الأرمن، وعلى يده توقيع من غياث الدين للسلطان الملك الناصر بالرها وسروج، وهما من بلاد السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل. وكان قد اتفق الأمر مع الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك ¬

(¬1) في المتن «باللعادنا» ولعل الصيغة المثبتة هى الصحيحة من ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 240). (¬2) في المتن «عشر». (¬3) هناك مدينة أخرى على ساحل بحر الشام كانت تحمل نفس الاسم، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬4) ذكر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 240): «وعقدت العقد مع كاميار على خمسين ألف دينار سلطانية، مثل صداق كيخسرو الذى كتب عليه لأخت السلطان الملك الناصر». (¬5) قال ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة): «ونثرت الدنانير الواصلة صحبتى وكانت ألف دينار».

ذكر محاصرة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل الملك الصالح نجم الدين وهو بسنجار ثم هزيمة بدر الدين لؤلؤ

العادل على أن يخطب لغياث الدين ويقطع حرّان. وأقطع الملك المنصور ناصر الدين الأرتقى - صاحب ماردين وسنجار ونصيبين - والملك المجاهد شيركوه صاحب حمص - عانة وغيرها من بلاد الخابور. وكل هذه كانت في أيدى نواب الملك الصالح نجم الدين. واتفق الأمر أيضا على أن يأخذ السلطان غياث الدين سلطان الروم آمد وبلادها وسميساط (¬1). ولما قدم رسول السلطان غياث الدين على الصّاحبة قبلت التوقيع ولم تؤثر مضايقة ابن أخيها الملك الصالح في البلاد، فلم تتعرض لشىء منها. ولما بلغ الملك الصالح ذلك أرسل إلى عمته يقول لها إن: «البلاد كلها بحكمك، فإن شئت (¬2) إرسال نائب يتسلم هذه البلاد وغيرها، فأرسليه لأسلم إليه ما تأمرين (¬3) به» فشكرته وطيبت قلبه. ذكر محاصرة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل الملك الصالح نجم الدين وهو بسنجار ثم هزيمة بدر الدين لؤلؤ ولما جرى ما ذكرناه من خروج الخوارزميّة عن طاعة الملك الصالح وتوجه إلى سنجار، وتحكمت الخوارزمية في البلاد الجزيريّة (¬4)، طمع بدر الدين لؤلؤ في الملك الصالح وقصد سنجار وحاصرها وضايقها، ولم يبق إلا أن يتسلمها ويأخذ ¬

(¬1) انظر ابن العديم، ج 3، ص 241. (¬2) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 241)، «وإن شئت» (¬3) في ابن العديم (ج 3، ص 242): «ما تأمرين بتسليمه». (¬4) عن العلاقة بين الصالح نجم الدين أيوب والخوارزمية، انظر: ابن العديم: زبدة الحلب، ج 3، ص 241 - 243؛ سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ص 465 - 466؛ ابن أيبك الدوادارى: الدر المطلوب، ص 330؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 270 - 272

الملك الصالح أسيرا، ويتملك البلاد الشرقية بأسرها. وكان القاضى بسنجار بدر الدين يوسف بن الحسن الزرزارى متقدما في الدولة الأشرفية، ثم بعد موت الملك الأشرف تقدّم عند الملك الصالح نجم الدين أيوب. وكان رئيسا في نفسه، كريما ذا همّة عالية، خبيرا بأمور الملوك. وكان لما ملك الملك الأشرف دمشق ولاه قضاء بعلبك. وكان كثير التجمل جدا، كثير البر والمعروف، وله المماليك والغلمان والحاشية التي لا تكون مثلهم إلا لأكبر أمير من الأمراء. فأرسله الملك الصالح - وهو محصور بسنجار - إلى الخّوارزمية ليصلح بينهم وبينه، ويستدعيهم لنصرته. ووعدهم بالوعود الجميلة. فخرج من البلد سرّا بحيث لا يشعر به المحاصرون للبلد، ومضى إلى الخوارزمية، فاستمالهم وطيب قلوبهم، ووعدهم الوعود الجميلة بعد أن كانوا قد اتفقوا مع صاحب ماردين، وقصدوا بلاد الملك الصالح نجم الدين أيوب، واستولوا على الأعمال، ونازلوا حرّان وأجفل أهلها. وكان الملك الصالح قد ترك ولده الملك المغيث فتح الدين عمر بقلعة حرّان فخاف من الخوارزمية، فسار مختفيا، وتبعه الخوارزمية ونهبوه ومن معه. وانفلت في شرذمة قليلة من أصحابه، ووصل إلى منبج مستجيرا بعمة أبيه الملك الصالح والدة الملك العزيز، فسيّرت إليه من ردّه عن الوصول إليها بوجه (¬1) لطيف، وقال الرسول [له (¬2)]: «نخاف (¬3) أن يطلبك منا غياث الدين سلطان الروم (¬4)، ¬

(¬1) نهاية الجزء الساقط من نسخة ب، انظر ما سبق، ص 184 حاشية 6. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة ب «إنا نخاف» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 242). (¬4) في نسخة س «صاحب الروم»، والصيغة المثبتة من ب ومن ابن العديم.

ولا يمكننا [منعك منه] (¬1)». فعاد إلى حرّان ووصله كتاب أبيه [الملك (¬2)] الصالح يأمره بموافقة الخوارزمية والوصول إليه بهم (¬3) لدفع بدر الدين صاحب الموصل [عنه] (¬4). فاجتمع بالخوارزمية، واجتمع بهم القاضى بدر الدين (¬5) قاضى سنجار. والتزم لهم القاضى [بدر الدين] (¬6) أن يقطعوا حرّان والرها وغيرهما (¬7) [من البلاد الجزرية (¬8)]، فطابت قلوبهم بذلك، وحلفوا للملك الصالح، واشتملوا على خدمة [ولده (¬9)] الملك المغيث. [وقلد القاضى بدر الدين بفعلته هذه الملك الصالح مانة (¬10) عظيمة كانت سبب سعادته وتقدمته عنده لما ملك الديار المصرية (¬11)]. [وكان بدر الدين له - قبل الملك الصالح - وجاهة عند عمه السلطان الملك الأشرف، لما كان الملك الأشرف بالشرق. فلما ملك دمشق ولاه قضاء بعلبك. وكان مع صغر ولايته يسلك من التجمل وكثرة المماليك والدواب والماشية وحسن الزى ما لم يسلكه وزراء الممالك الكبار، فضلا عن قضاتها. وكان مع ذلك كثير البر والعطاء، مقصدا لمن يرد عليه من الفقهاء والفضلاء وذوى البيوتات. ¬

(¬1) في نسخة ب «منعه» والصيغة المثبتة من س ومن ابن العديم. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب (¬3) في نسخة ب «والوصول بهم إليه» والصيغة المثبتة من س ومن ابن العديم. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) في نسخة س «فاجتمع بالخوارزمية هو والقاضى بدر الدين» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬7) في نسخة س «وغيرها» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) مانه يمونه مونا أي قام بكفايته والمانة هى المئونة، انظر الزبيدى، تاج العروس، ج 9، ص 354 مادة (من). (¬11) ورد ما بين الحاصرتين في غير مكانه في نسخة س (ورقة 318 ب) وفى قليل من التغيير، والصيغة المثبتة من ب.

ولما أتقن حال الملك الصالح مع الخوارزمية] (¬1) ساروا مع القاضى بدر الدين والملك المغيث قاصدين سنجار (¬2) [ومقدمهم الأمير حسام الدين بركة (¬3) خان (¬4)]. فلما سمع بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ومن معه من العسكر قرب الخوارزمية (¬5) منهم أفرجوا عن سنجار، وأدركتهم الخوارزمية، فأوقعوا بهم وقعة عظيمة فهزموهم. وهرب بدر الدين لؤلؤ وعسكره إلى الموصل. [واحتوت الخوارزمية على أثقاله وخيمه وخيم العسكر وجميع أثقالهم، ونهبوا منهم ما لا يحصى كثرة (¬6)]، فقوى الملك الصالح نجم الدين [أيوب بهم و] (¬7) بهذا الفتح قوة عظيمة، وعظم شأنه. وكان ولده الملك المعظم غياث الدين توران شاه مرتّبا (¬8) بمدينة آمد ومعه الأمير حسام الدين أبو على بن محمد بن أبى على الهذبانى، وكان أستاذ دار الملك الصالح. وقد كنا ذكرنا (¬9) أنه كان متصلا بالملك المظفر صاحب حماة وأنه فارقه واتصل بخدمة الملك [9 ب] الصالح لما كان ينوب عن أبيه بمصر، وأن ابن عمه سيف الدين عليا اتصل بالملك المظفر وصار غالبا على أمره كله. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬2) في نسخة س «ساروا معه قاصدين سنجار» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في المتن «بركتخان» انظر أيضا ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 250، 258؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 280، 321. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬5) في نسخة س «ولما علم عسكر الموصل قرب الخوارزمية. .» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ورد ما بين الحاصرتين في قليل من التغيير في نسخة س والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) في نسخة س «قريبا» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «وكنا ذكرنا» والصيغة المثبتة من ب، انظر ما سبق: ابن واصل، ج 4، ص 259.

ذكر إيقاع الخوارزمية بعسكر سلطان الروم

ذكر إيقاع الخوارزمية بعسكر سلطان الروم كان غياث الدين كيخسرو سلطان الروم قد سير عسكرا إلى آمد، فأخذوا (¬1) بعض قلاعها ونازلوا آمد، وبها كما ذكرنا الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬2)]. فتوجهت الخوارزمية [بعد أن كسروا صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ (¬3)] فواقعوا بعض (¬4) عسكر الروم، وانهزم الباقون عن آمد ولم ينالوا منها غرضا (¬5). ذكر إقامة الخطبة بحلب للسلطان غياث الدين سلطان الروم ووصل إلى حلب القاضى عز الدين قاضى دوقات (¬6) رسولا من غياث الدين [كيخسرو (¬7)] في هذه السنة، يطلب إقامة الخطبة على المنابر لغياث الدين وضرب السكة باسمه. وكانت الأمراء والعساكر محاصرين لحماة على ما قدمنا ذكره. فتوقفت الصاحبة في ذلك [وهى أم الملك العزيز (¬8)]، ثم أشير عليها بموافقته على ما طلب (¬9) فأجابت إلى ذلك. وخطب لسلطان الروم (¬10) على منبر حلب وحضر ¬

(¬1) في نسخة س «فأخذ» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «بعد أن أوقعوا وكسروا عسكر بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «فأوقعوا ببعض» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 243) «ولم ينالوا منها زبدة». (¬6) انظر ما سبق، ص 184 حاشية 3. (¬7) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 243) «فتوقفت الملكة في ذلك». (¬9) في نسخة س «بموافقة صاحب الروم على ما طلب» والصيغة المثبتة من ب ومن ابن العديم. (¬10) في نسخة ب «وخطب له» والصيغة المثبتة من س.

ذكر المصاف الواقع فى هذه السنة بين الملك الناصر داود صاحب الكرك [وبين ابن] عمه الملك الجواد بن مودود صاحب دمشق

جمال الدولة (¬1) إقبال الخاتونى. وصعد الرسول على المنبر، ونثر الدنانير عند إقامة الدعوة (¬2). [ونثر أيضا جمال الدولة (¬3)]. وخرجت هذه السنة [وعسكر حلب، مع مقدمهم الملك المعظم بن صلاح الدين، يستمرون على محاصرة حماة (¬4)]، والملك المظفر يخرج بنفسه ويقاتل فينتصف منهم مرة وينتصفون أخرى (¬5). ولم يدن العسكر من البلد دنوّا كثيرا، (¬6) بل كانت منزلتهم بعيدة عن البلد، ولم تكن الصاحبة مؤثرة أخذ البلد (¬7) من ابن أخيها، وإنما كان غرضها التضييق عليه لينزل عن [طلب (¬8)] المعرّة. ذكر المصاف الواقع في هذه السنة بين الملك الناصر داود صاحب الكرك [وبين ابن (¬9)] عمه الملك الجواد بن مودود صاحب دمشق [10 ا] قد ذكرنا (¬10) ترتب الملك الجواد (¬11) مظفر الدين يونس بن مودود بن الملك العادل نائبا بدمشق عن ابن عمه الملك العادل بن الملك الكامل صاحب مصر، وأنه استولى ¬

(¬1) في نسخة ب «جمال الدين» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن العديم، ج 3، ص 243. (¬2) في نسخة س «الخطبة» والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد بدلها في نسخة س «والحصار مستمر على حماة». (¬5) في نسخة س «وينتصف منه مرة وينتصفون منه أخرى» وهو تصحيف والصيغة الصحيحة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «وإنما» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «تؤثر أخذ حماة» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «وابن». (¬10) انظر ما سبق ص 171 - 173. (¬11) في نسخة س «الملك الجواد بدمشق وهو»، والصيغة المثبتة من ب.

على الخزائن، وفرق الأموال والخلع على الأمراء والأجناد واستمالهم إليه، وطمع في الاستقلال بالملك. وكان معه في قلعة دمشق عماد الدين بن شيخ الشيوخ، وعماد الدين بن قلج (¬1). وكان الملك الجواد يظهر الطاعة للملك العادل [بن الملك الكامل (¬2)] وأنه نائبه، ويعمل في الباطن على التفرد بملك دمشق. وكان مفرط الجود والبذل، وعنده شهامة كثيرة وإقدام كثير، لكن آراؤه (¬3) كان فيها ضعف، فأرسل إلى عمته الصاحبة [صاحبة حلب] (¬4) والدة الملك العزيز يطلب منها معاضدته فلم تصغ إلى قوله، وامتنعت أن تدخل بينه وبين ابن أخيها الملك العادل [بن الملك الكامل] (¬5). وكان الملك الناصر داود [بن الملك المعظم صاحب الكرك] (¬6) قد جمع وحشد واستولى على السواحل ونزل بغزه طالبا الاستيلاء على مملكة والده الملك المعظم. [فلما بلغ الملك الجواد ذلك رحل (¬7)] من دمشق فيمن بقى (¬8) عنده (¬9) من العساكر المصرية ومقدمهم عماد الدين بن شيخ الشيوخ، وفى عساكر دمشق والمماليك (¬10) الأشرفية، وتوجه نحو الملك الناصر [بن الملك المعظم. فلما سمع الملك الناصر بهذه الحركة رحل إليه ليلقاه فالتقاه (¬11)]. فوقع المصاف على مكان يقال له ظهر (¬12) حمار بين نابلس وجينين (¬13)، ¬

(¬1) في نسخة س «قليج». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «لكنه كان أراؤه» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وفى ب «فرحل الملك الجواد». (¬8) في نسخة س «بقا». (¬9) في نسخة س «معه». (¬10) في نسخة س «الممالك» وهو تصحيف. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وفى ب «فرحل الملك الناصر إليه ليلقاه». (¬12) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن ظهر حمار كانت قرية بين نابلس وبيسان كان بها قبر بنيامين أخى يوسف الصديق. (¬13) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن جينين بليدة حسنة بين نابلس وبيسان من أرض الأردن، وهى جنين الحاليه.

وانكسر الملك الناصر كسرة قبيحة، ومضى منهزما إلى الكرك (¬1). واحتوى (¬2) الملك الجواد على خزائنه وأثقاله. ثم مضى الملك الجواد إلى نابلس فنزل بها في دار الملك المعظم داخل البلد، واحتوى على ما فيها. وولىّ فيها وفى أعمال القدس (¬3) والأغوار من قبله. ورحل عماد الدين بن شيخ الشيوخ ومن معه من عسكر مصر إلى الديار المصرية. [ولما بلغ الملك العادل هذه الكسرة لم يعجبه ذلك (¬4)] خوفا من تمكن الملك الجواد وإستيلائه على البلاد، فأرسل إليه يأمره بالرجوع إلى دمشق ورد بلاد الملك الناصر [داود (¬5)] إليه، ففعل [ذلك (¬6)] ورحل عائدا إلى دمشق. [قال صاحب هذا التاريخ (¬7): وكنت يومئذ مقيما بدمشق للاشتغال بالعلم. قال: فرأيت الملك الجواد قد دخل إلى دمشق في تجمل عظيم (¬8)]. وعزم الملك العادل على صرفه عن (¬9) النيابة [10 ب] عنه في دمشق، فكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) عن هذه الوقعة انظر، سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 468؛ ابن أيبك الدوادارى، الدر المطلوب في أخبار بنى أيوب، ص 329؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 272 - 273؛ ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 305. (¬2) في نسخة س «فاحتوى» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «قدس» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة ب «ولم تعجب هذه الوقعة الملك العادل». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) أي القاضى جمال الدين بن واصل. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وورد في نسخة ب «ودخل الملك الجواد إلى دمشق في تجمل عظيم». (¬9) في نسخة س «من» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب.

[وفى هذه الواقعة يقول جمال الدين بن عبد، وكان شاعرا مغنيا متميزا، وكان أحد ندماء الملك الجواد، يمدحه ويذم الملك الناصر - رحمهما الله - ووافقه أن انهزام الملك الناصر كان على المنزلة المسماه ظهر حمار: يا فقيها قد ضل سبل الرشاد ... ليس يغنى الجدال يوم الجلاد كيف ينحى ظهر الحمار هزيما ... من جواد يكر فوق جواد وكان جمال الدين هذا قد اتصل بعد ذلك بالملك الصالح نجم الدين أيوب لما ملك مصر، واجتمعت به مرارا عند الأمير حسام الدين بن أبى على - رحمه الله - وكنت سمعت أنه دخل يوما دار بعض الأكابر فأخرجه البرد (¬1) دار فقال: مغن يخرج قبل الدخول ... وأقبح شىء خروج المغنى وهذا معنى ظريف، فأنشدنى (¬2) لأبى الحسين الجزار (¬3)، شيئا يشبه هذا اللون، أنه أراد الدخول إلى بعض الأكابر فضربه البرد دار ومنعه من الدخول فقال: ¬

(¬1) ذكر القلقشندى أن أصل هذه الكلمة «فردا دار» وهو مركب من لفظين فارسيين أحدهما «فردا» ومعناه الستارة والثانى «دار» ومعناه «ممسك» أي «ممسك الستارة». ويبدو أن صاحب هذه الوظيفة كان في بداية الأمر يقف بباب الستارة، ثم أصبح بمضى الزمن - ربما في العصر المماليكى - في خدمة مباشرى الديوان متحدثا عن أعوانه والمتصرفين فيه، انظر، القلقشندى (صبح الأعشى، ج 5 ص 468 - 469)، Dozy : Supp. Dict. Ar, I, P. 69. . (¬2) في المتن «فأنشدته»، والكلمة مصححة بالهامش. (¬3) هو الأديب والشاعر المشهور جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن على المصرى المعروف بالجزار المتوفى سنة 679 هـ‍، ذكر أبو المحاسن في المنهل الصافى أنه كان حامل لواء الشعراء في عصره. وللجزار نوادر مستظرفة ومداعبات مع شعراء عصره، وله ديوان شعر كبير. مدح الملوك والأعيان، وكانت لديه صحبة مع المؤرخ الصاحب كمال الدين عمر بن العديم، صاحب كتاب زبدة الحلب من تاريخ حلب، انظر، أبو المحاسن، المنهل الصافى، ج 5 ورقه 475 - 479؛ النجوم الزاهرة، ج 7 ص 345، انظر بعض أبيات من شعره في الكتبى، فوات الوفيات، ج 2 ص 630 - 632.

أمولاى ما من طباعى الخروج ... ولكن تعلمته من خمولى وقفت ببابك أبغى الغنى ... فأخرجنى الضرب قبل الدخول فأعجبه وقال: «إلا أنا؛ أخرجت وما ضربت (¬1)»]. وكان الملك المجاهد صاحب حمص قد اتفق مع الملك الجواد ووصل إلى دمشق ونزل بداره التي بقرب الجامع. فلما قدم الملك الجواد إلى دمشق بعد كسره الملك الناصر [داود (¬2)] خرج لتلقيه، وزينت دمشق لهذه الكسرة زينة عظيمة لم تزين قبل ذلك مثلها. وتمكن الملك الجواد بعد هذه الكسرة، واستقل بالسلطنة، إلا أن الخطبة باقية للملك العادل ويخطب للملك الجواد بعده. وكان الخطيب يومئذ الشيخ كمال الدين بن طلحة (¬3) - رحمه الله - وكان إماما عالما بالأصولين ومذهب الشافعى والأدب. وأقام الملك المجاهد بدمشق معاضدا للملك الجواد ومؤازرا [له (¬4)]. [11 ا] وخرجت (¬5) هذه السنة والحال على هذه الصورة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) هو الشيخ كمال الدين محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن القرشى العدوى النصيبى، ولد سنة 582 هـ‍ وبرع في الفقه والأصول والخلاف وحدث بحلب ودمشق، ولى الوزارة بدمشق سنة 648 هـ‍ لمدة يومين وتركها وتزهد، وهو مصنف كتاب العقد الفريد، وكتاب الدر المنظم في اسم الله الأعظم، توفى في حلب في رجب سنة 652 هـ‍؛ انظر السبكى، طبقات الشافعية، ج 5، ص 26؛ ابن العماد الحنبلى، شذرات الذهب، ج 5، ص 259 - 260. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «ومضت» والصيغة المثبتة من ب.

وتوفى في هذه السنة القاضى زين الدين بن الأستاذ (¬1) قاضى حلب - رحمه الله. وكان فقيها فاضلا متورعا سديد الأحكام، صحب القاضى بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - مدّة طويلة، وناب عنه في القضاء بحلب بعد ابن الحجاج (¬2). ولما توفى القاضى بهاء الدين ولّى القضاء بعده كما تقدم ذكره (¬3). ولما توفى القاضى زين الدين ولّى القضاء بعده أخوه القاضى جمال الدين محمد، وكان أسن من القاضى زين الدين، إلا أنه لم يكن في الفضيلة وفى العلم مثله. ¬

(¬1) هو قاضى حلب زين الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بابن الأستاذ، انظر ترجمته في السبكى، طبقات الشافعية، ج 5، ص 58؛ ابن العماد، شذرات الذهب، ج 5، ص 170؛ انظر أيضا ما سبق ابن واصل، ج 4، ص 180؛ ج 5 ص 92. (¬2) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 180. (¬3) انظر ما سبق، ص 92.

ودخلت سنة ست وثلاثين وستمائة

ودخلت سنة ست وثلاثين (¬1) وستمائة (*) والسلطان الملك العادل (¬2) سيف الدين أبو بكر بن الملك الكامل صاحب الديار المصرية وهو مقيم بها؛ والملك الناصر داود [بن الملك المعظم (¬3)] بالكرك، وقد قل جيشه وضعفت قوته؛ والملك الجواد بن مودود [بن الملك العادل (¬4)] مالك دمشق، وعنده الملك المجاهد صاحب حمص؛ والملك المظفر صاحب حماة محصور (¬5) بحماة؛ وعسكر حلب مع الملك المعظم بن صلاح الدين منازلون لحماة؛ والملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل بسنجار وقد قوى بكسره بدر الدين (¬6) لؤلؤ صاحب الموصل وانضمام الخوارزمية ومقدمهم بركة خان إليه. وكان قد زوّج الملك الصالح أخته لأمه (¬7) من بركة خان، وأبوها الفارس قليب مملوك السلطان الملك الكامل، [وقد سلم إليه حرّان والرها (¬8)]. [وبيد الملك الصالح آمد وبلادها وما كان بيد الملك الكامل (¬9)] والملك الأشرف من بلاد الشرق. ¬

(*) يوافق أولها 14 أغسطس سنة 1238 ميلادية. (¬1) في نسخة ب «تسع وعشرين» وهو تصحيف، وفى نسخة س «ستة وثلاثين» (¬2) في نسخة س «والملك العادل» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س، ومثبت في ب. (¬5) في نسخة س «محصورا». (¬6) في نسخة س «لبدر الدين لؤلؤ» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «أخته من أمه» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب، ومثبت في س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد مختصرا في هامش نسخة ب.

ذكر رجوع العسكر الحلبى المحاصر لحماة إلى حلب

ذكر رجوع العسكر الحلبى المحاصر لحماة إلى حلب (¬1) ولما طال الحصار على حماة وضجر العسكر، تقدمت الصاحبة أم الملك العزيز إليهم بالرجوع إلى حلب فرجعوا، وانفرج الضيق عن حماة. وكان الملك المظفر قد ضاق الأمر عليه [جدا (¬2)]، وأنفق في مدة الحصار أموالا كثيرة. ولم تكن الصاحبة مؤثرة أخذ البلد منه كما ذكرنا، ولم يكن مقصودها، إلا أنه لا يتعرض لطلب المعرّة. واستمرت المعرّة في أيدى (¬3) الحلبيين، وسلميّة [11 ب] في يد صاحب حمص. ولم يبق بيد (¬4) الملك المظفر من مضافات حماة إلا بعرين فقط. وكانت لها (¬5) قلعة حصينة فخاف الملك المظفر أن يجرى في أمرها نظير ما جرى في المعرّة (¬6) فتقدّم بهدمها فهدمت. ذكر قدوم عماد الدين بن شيخ الشيوخ إلى دمشق ومقتله - رحمه الله لما تحقق الملك العادل [بن الملك الكامل (¬7)] صاحب مصر استقلال ابن عمه الملك الجواد بن مودود بملك دمشق وعصيانه بها، أحضر أولاد شيخ الشيوخ الأربعة [وهم (¬8)] فخر (¬9) الدين، وعماد الدين، ومعين الدين، وكمال الدين وقال: ¬

(¬1) ورد العنوان في نسخة س «ذكر رجوع الحلبيين المحاصرون لحماة إلى حلب» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬3) في المتن «يد» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬4) في نسخة س «في يد» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «لبعرين» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «للمعرة» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) في نسخة س «مجير الدين» وهو تصحيف.

«أنتم ضيعتم علىّ ملك دمشق، فإن أبى الملك الكامل فتحها وتوفى وهو مالكها، فسلمتم دمشق وخزائن أبى (¬1) إلى الملك الجواد، فتغلب على دمشق وضيع الخزائن، وما أعرف عود دمشق إلىّ وانتزاعها من يد الملك الجواد (¬2) إلا منكم». فضمن عماد الدين بن الشيخ (¬3) رجوعها (¬4) للملك العادل. فسير الملك العادل عماد الدين بن الشيخ (¬5) لهذا (¬6) المهم. ولما وصل [عماد الدين (¬7)] إلى دمشق التقاه الملك الجواد وأنزله في القلعة (¬8) فطالبه عماد الدين بتسليم دمشق إلى السلطان الملك العادل، وأعلمه أنه إن لم يسلم دمشق إليه نزلت العساكر المصرية إليه وملكوها منه عنوة، وقبض عليه واعتقل. وإن سلمها قبل أن تنزل العساكر إليه أعطى عوضا عنها خبزا (¬9) [جيدا] بالديار المصرية، وأحسن إليه. فأجابه الملك الجواد بجواب ممغلط (¬10). وكانت المماليك الأشرفية ومقدمهم عز الدين أيبك الأسمر قد رحلوا من دمشق على حمية بعد رجوع الملك الجواد إلى دمشق، وساروا إلى الملك العادل وخدموا عنده. ¬

(¬1) في نسخة س «وخزائنها» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة ب «من يده» والصيغة المثبتة للتوضيح من نسخة س. (¬3) في نسخة س «عماد الدين بن شيخ الشيوخ». (¬4) في نسخة ب «ذلك» والصيغة المثبتة من س. (¬5) في نسخة س «عماد الدين بن شيخ الشيوخ». (¬6) في نسخة س «لهذا الأمر إليهم» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) في نسخة س «فأنزله عنده في القلعة» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬10) في نسخة س «مغلط» والصيغة المثبتة من ب، وذكر ابن منظور (لسان العرب، ج 9، ص 238) «والمغلطة والأغلوطة الكلام الذى يغلط فيه ويغالط به».

ولما علم الملك الجواد تصميم الملك العادل على إنتزاع دمشق منه، وعلم أنه لا طاقة له بقتاله، وأنه إن سلّم دمشق إلى الملك العادل لم يعطه إلا خبزا [قليلا] (¬1) بالديار المصرية، سيرّ الشيخ كمال الدين بن طلحة إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب فطلب منه [12 ا] أن يعوضه عن مدينة (¬2) دمشق سنجار (¬3) [والرقة (¬4)] وعانه، ويسلم [هو] (¬5) دمشق إليه، فمضى كمال الدين بن طلحه إلى الملك الصالح بذلك. فأجاب الملك الصالح إلى ذلك، وحلف لابن عمه الملك الجواد على العوض المذكور، وزاده الجديده (¬6)، وجعلها (¬7) باسم مملوك من مماليك الملك الجواد يقال له رزيق وكان أخص مماليكه به. ولما وقع الاتفاق بينهما على ذلك، وتوجه الملك الصالح إلى دمشق، وعلم الملك الجواد قربه منها (¬8) خاف الملك الجواد من عماد الدين بن الشيخ أن يفسد بينه (¬9) وبين الملك الصالح فلا يحصل على ما وقع التقرير عليه من العوض الذى طلبه منه، فدس ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬2) في نسخة ب «من دمشق» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬3) في نسخة س «بسنجار» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب، انظر أيضا، المقريزى، السلوك ج 1، ص 279. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) كذا في نسخة ب وكذلك في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 279)، وهى اسم لقلعة في كورة بين النهرين، التي بين نصيبين والموصل، وأعمالها متصلة بأعمال حصن كيفا، هذا بينما ورد الاسم في نسخة س «الحدسه» بغير نقط البته وربما يقصد الحديثة وهو اسم يطلق على مواضع عدة منها حديثة الموصل، وحديثة الفرات؛ والحديثة أيضا من قرى غوطة دمشق، ويقال لها حديثة جرش، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬7) في نسخة ب «وجعله» والصيغة المثبتة من س. (¬8) في نسخة س «فلما علم الملك الجواد تقربه منه»، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «ما بينه»، والصيغة المثبتة من ب.

عليه (¬1) رجلا وقف لعماد الدين (¬2) بقصة [وقد ركب ليسير. فظنه عماد الدين] (¬3) متظلما فتناول القصة ليأخذها منه (¬4)، فضربه ذلك الرجل بسكين فقتله. ثم قبض على ذلك الرجل واعتقله (¬5) مدة ثم أطلقه. وأظهر الملك الجواد التألم لقتله (¬6). وجهز (¬7) عماد الدين [رحمه الله] (¬8) وحملت جنازته إلى الجامع بدمشق، وصلى عليه فيه، وتأسف الناس [عليه] (¬9) وحزنوا لقتله. وكان يوم دفنه (¬10) يوما مشهودا حضر (¬11) جنازته معظم الناس من الفقهاء والصوفية وأهل الدين وغيرهم؛ لأنه رحمه الله (¬12) كان تام العقل والفضل والكرم [والبأس (¬13)] ¬

(¬1) في نسخة س «على عماد الدين». (¬2) في نسخة س «له». (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬4) في نسخة س «فمديده عماد الدين إلى القصة ليأخذها من ذلك الرجل» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة ب «واعتقل» والصيغة المثبتة من س. وذكر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8 ص 477) رواية مخالفة إذ يقول: «فاستدعى صاحب حمص بعض نصارى قارا وأمره بقتله فركب ابن الشيخ يوما من القلعة وقت العصر فوثب عليه النصرانى فضربه بالسكاكين حتى قتله». أما المقريزى فقد ذكر (السلوك، ج 1، ص 277) رواية ثالثة «فسيروا فدائيين قتلاه على باب الجامع في سادس عشرى جمادى الأولى، وأشيع أنهما غلطا في قتله وإنما كانا يريدان قتل الملك الجواد، فإنه كان كثير الشبه به»، عن الفداويه انظر: B. Lewis, The Assassins, London, 1967 . وترجمه إلى العربيه سهيل زكار: الدعوة الاسماعيليه الجديدة (الحشيشية)، بيروت 1971. (¬6) في نسخة س «وأظهر الملك الجواد الحزن الكثير على قتل عماد الدين» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «وجهز الملك الجواد»، والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬10) في نسخة س «دفن عماد الدين» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) في نسخة ب «حضره» والصيغة المثبتة من س. (¬12) في نسخة س «رضى الله عنه» والصيغة المثبتة من ب. (¬13) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

ذكر وصول السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب [ابن الملك الكامل] إلى دمشق وتملكه لها [ومعه الملك المظفر صاحب حماه] وتعويض الملك الجواد سنجار وغيرها

والرئاسة، وكان مقصدا لمن يفد إليه. اجتمعت (¬1) به في هذه السنة مرارا في الدار التي أنزله فيها (¬2) الملك الجواد التي تسمى دار المسرة، وبحثت معه في الأصول وغيره، رحمه الله ورضى عنه [فإنه كان معدوم المثل في وقته (¬3)]. وقطع الملك الجواد الخطبة لابن عمه الملك العادل، وخطب لابن عمه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وضربت السكة باسمه. وسافر (¬4) الملك المجاهد [أسد الدين (¬5)] إلى حمص خوفا من الملك الصالح لأنه علم أن الملك الصالح يقصده، هو والملك المظفر [صاحب حماه (¬6)]؛ وأنهما لا يبقيان عليه. [وكان الملك المظفر لما قصد الملك الصالح إلى حماه التقاه وسافر معه إلى دمشق (¬7)]. ذكر وصول السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب [ابن الملك الكامل (¬8)] إلى دمشق وتملكه لها [ومعه الملك المظفر صاحب حماه (¬9)] وتعويض الملك الجواد سنجار وغيرها وسار الملك الصالح بعد الاتفاق بينه وبين الملك الجواد إلى دمشق وطلب نجدة من بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. وكان قد وقع الاتفاق بينه وبينه وصالحه، ¬

(¬1) في نسخة س «قال جمال الدين بن واصل صاحب هذا التاريخ واجتمعت» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «بها» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) في نسخة س «فعند ذلك سافر» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س، ومثبت في ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

فبعث إليه بدر الدين [لؤلؤ (¬1)] نجدة. وأرسل إلى الملك المظفر صاحب حماة يدعوه إلى اللحاق به ليدخل معه إلى دمشق (¬2)، فسر الملك المظفر بذلك سرورا كثيرا (¬3)، ورجا أن يأخذ به ثأره (¬4) من صاحب حمص وينتقم منه، [فلحقه إلى البرية بجماعة من عسكره] (¬5) ومعه الأمير سيف الدين على بن أبى على الهذبانى. وقدم السلطان الملك الصالح دمشق، وزين البلد لقدومه، وخرج الملك الجواد لاستقباله (¬6). ودخل الملك الصالح قلعة (¬7) دمشق هو والسلطان الملك المظفر [صاحب حماه] (¬8) والملك الجواد. ثم انتقل الملك الجواد إلى دار السعادة التي عند باب النصر، وكانت للملك الأمجد صاحب بعلبك - كما تقدم ذكره (¬9) - ثم انتقلت بعده إلى الملك الأشرف. وكان الملك الجواد لما ملك (¬10) دمشق تزوج بنت عمه الملك الأشرف. وكان استيلاء الملك الصالح [نجم الدين] (¬11) على دمشق في جمادى الآخرة من هذه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) وردت هذه الجملة في نسخة س في صيغة مخالفة، والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «عظيما»، والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «رجاء أن يأخذ ثأره» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «فأتى اليه بجماعة من عسكره» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ذكر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 475، أن الملك الصالح عندما دخل دمشق كان «الجواد بين يديه قد حمل الغاشية من تحت القلعة وحملها المظفر صاحب حماه من باب الحديد، واتفق أن صنجق الصالح انكسر عند باب القلعة. . .» وذكر ابن أيبك (الدر المطلوب ص 332) «واتفق أن سنجق الملك الصالح انكسر عند باب القلعة، فتطيرت الناس من ذلك. وكان فألا لما ناله الملك الصالح بعد ذلك من تغلب اسماعيل الملك الصالح على دمشق واعتقال الملك الصالح بالكرك». (¬7) في نسخة س «إلى قلعة» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬9) في نسخة س «كما قدمنا ذكره»، والصيغة المثبتة من ب، انظر ما سبق، ابن واصل: مفرج الكروب، ج 4، ص 284. (¬10) في نسخة س «لما تملك»، والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

السنة، أعنى سنة ست وثلاثين وستمائة. وكانت مدة ملك الملك الجواد لدمشق (¬1) عشرة أشهر وكسرا (¬2). ولما استقر الملك الصالح بقلعة دمشق ندم الملك الجواد على ما فعل، وخاف أن لا يفى (¬3) الملك الصالح بما شرطه له، واستقل الجماعة الذين جاءوا مع الملك الصالح. وكان العسكر الذى في دمشق (¬4) أكثر، منهم فجلس [الملك الجواد (¬5)] في دار السعادة، وأحضر إليه عسكر دمشق، وأخذ في استحلافهم لنفسه ليثب (¬6) على دمشق، ويخرج الملك الصالح من القلعة. وكادت تقع فتنة عظيمة، فقام الملك المظفر [صاحب حماه (¬7)] في إطفاء هذه الفتنة، ونزل من القلعة إلى دار السعادة، واجتمع بالملك الجواد وعاتبه على ما فعل، وضمن له عن (¬8) الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬9)] [القيام (¬10)] بما شرطه له، فطاب قلب (¬11) الملك الجواد بذلك، واستحلفه الملك المظفر للملك الصالح [13 ا] واستحلف الملك الصالح له؛ فحينئذ خرج الملك الجواد من ¬

(¬1) في نسخة س «دمشق»، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ورد في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 280) «فكانت مدة نيابته دمشق عشرة أشهر وستة عشر يوما». (¬3) في نسخة س «لا يفى له» والصيغة المثبتة من س. (¬4) في نسخة ب «الذين بدمشق» والصيغة المثبتة من س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «ليثبت على دمشق» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) في نسخة س «من» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬11) في نسخة ب «قلبه»، والصيغة المثبتة للتوضيح من نسخة س.

ذكر منازلة الخوارزمية والملك المظفر حمص ثم رحيلهم عنها

دمشق (¬1) وسار إلى الشرق وتسلم سنجار والبلاد التي عينت له. [فعند ذلك أخرب الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص سلمية وقلعتها الجوانية، ونقل أهلها إلى حمص وبنى لهم حوش كبير في حمص. وجعل أهل سلمية كلهم فيه. ثم بعد ذلك نادى فيهم «كل من جاب عيلته (¬2) إلى حمص أخرج من الحوش». فلم يبق بسلمية إمرأة (¬3) ولا صبى ولا جويرة إلا صارت في حمص. وخليت مدينة سلمية بعد الخراب فلما مات الملك المجاهد (¬4) رجع أهل سلمية إليها، وجعلوا يعمرون دورهم ومنازلهم (¬5)]. ذكر منازلة الخوارزمية والملك المظفر حمص ثم رحيلهم عنها ولما سافر الملك الجواد إلى الشرق واستقر [ملك السلطان (¬6)] الملك الصالح بدمشق، [وفعل الملك المجاهد بأهل سلمية ما فعل بخراب دورهم وقلعتهم الجوانية (¬7)]، رحل الملك المظفر من دمشق، وجاءت الخوارزمية [ونازلوا حمص واجتمع بهم الملك المظفر ونازل حمص معهم (¬8)]، فراسل (¬9) الملك المجاهد الخوارزمية (¬10) واستمالهم، ¬

(¬1) عن خروج الملك الجواد من دمشق ودعاء الناس عليه، وسبهم له في وجهه لكثرة ظلمه، انظر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 476). (¬2) كذا في المتن. (¬3) في المتن «مرة». (¬4) في المتن «رجعوا». (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬8) ما بين الحاصرتين من ب وورد بدلها في س «فاتفق معهم ونازلوا حمص، وجد الملك المظفر في قتال حمص». (¬9) في نسخة س «فعند ذلك راسل» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «إلى الخوارزمية» والصيغة المثبتة من ب.

وبذل لهم مالا فأخذوه منه (¬1)، واطلع (¬2) الملك المظفر على ذلك فخاف منهم، ورحل عن حمص ومضى إلى حماة. ثم رحلت الخوارزمية عن حمص وعادوا إلى الشرق فأقاموا به في أخبازهم (¬3) [التي أقطعها لهم الملك الصالح (¬4)]. وتواترت (¬5) رسل الملك المظفر إلى السلطان الملك الصالح يستحثه على قصد حمص ومنازلتها، وراسل (¬6) الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬7)] عمّه (¬8) الملك الصالح عماد الدين اسماعيل [بن الملك العادل (¬9)] في معنى الاتفاق معه، فأجابه إلى ذلك وقدم (¬10) إلى دمشق، وأظهر له الموالاة والمصافاة (¬11) وحلف له، ثم رجع إلى بعلبك في يومه. [وورد إلى السلطان الملك الصالح كتب جماعة من أمراء المصريين يحثونه على القدوم إلى الديار المصرية، ويعلمونه أنه متى دخل الرمل انقضت العساكر ¬

(¬1) في نسخة س «وبذل لهم مالا كثيرا فأخذوا منه المال»، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «فاطلع»، والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «وأقاموا في أخبازهم» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب وورد هذا الخبر مختصرا في المقريزى: السلوك، ج 1، ص 280. (¬5) في نسخة س «وبعد ذلك تواترت» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «وأرسل» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬8) في نسخة س «إلى عمه»، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين مثبت في ب، وساقط من س. (¬10) في نسخة ب «وقدم إليه» والصيغة المثبتة من س. (¬11) في نسخة ب «والمصافات» والصيغة الصحيحة المثبتة من س.

كلهم إليه] (¬1). وانزعج الملك العادل [سيف الدين أبو بكر بن الملك الكامل] (¬2) وأمّه وخواصّه (¬3) بقدوم الملك الصالح [أخيه (¬4)] إلى دمشق وملكه لها. وعلموا أنه لا بد (¬5) أن يقصدهم (¬6) لما يتحققونه من ميل عسكر مصر إليه (¬7) لأنه أكبر منه وأحسن سيرة وأعظم هيبة، وأجدر بالقيام بأعباء الملك، وخافوا منه خوفا شديدا. وورد إلى دمشق على الملك الصالح [نجم الدين (¬8)] رسول ابن (¬9) عمه الملك الناصر داود بن الملك المعظم، وهو فخر القضاة (¬10) نصر الله بن بزاقه [يعده على مساعدته (¬11)] ومعاضدته على الملك العادل، وأخذ مصر له. وطلب منه تسليم دمشق إليه وجميع البلاد التي كانت بيد أبيه (¬12). فوعده الملك الصالح بذلك إذا ملك مصر، فأبى الملك الناصر إلا أن ينجز له ذلك فلم يتفق بينهما أمر. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) وردت الجملة في نسخة س بصيغة مختلفة ولكن بنفس المعنى. (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬5) في نسخة س «لا بد له» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة ب «يقصدها»، والصيغة المثبتة من س. (¬7) في نسخة س «لما يتحققون من ميل العساكر المصرية إليه» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬9) في نسخة س «رسول من ابن»، والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «فخر الدين» والصيغة المثبتة من ب، انظر ما سبق، ص 19 حاشية 5، ص 100 حاشية 6. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد بدلها في س «لمساعدته» (¬12) وردت الجملة في نسخة س «وطلب منه تسليم دمشق وجميع البلاد التي كانت بيد والده إليه»، والصيغة المثبتة من ب.

ذكر رحيل الملك الصالح نجم الدين [أيوب] الى ذيل ثنية العقاب وإقامته بها مدة ثم رجوعه الى دمشق

ذكر رحيل الملك الصالح نجم الدين [أيوب] (¬1) إلى ذيل ثنية العقاب (¬2) وإقامته بها مدة ثم رجوعه إلى دمشق ولما تواترت الرسل من الملك المظفر (¬3) صاحب حماة إلى السلطان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬4)] يستحثه على الرحيل إلى حمص ليحاصرها (¬5)، رحل الملك الصالح بعساكره (¬6) ونزل في ذيل ثنية العقاب وأقام بتلك المنزلة. وكان الأمير حسام الدين أبو على بن محمد بن أبى على الهذبانى أستاذ داره مرتبا -[كما ذكرنا (¬7)]- مع ولده الملك المعظم غياث الدين توران شاه أتابكا له [بآمد]. (¬8) فلما سار الملك الصالح إلى دمشق بعث إليه يستدعيه (¬9)، فقدم إلى دمشق بعد وصول الملك الصالح إليها، فقام بتدبير أمر الدولة وأقام في خدمته. ولما رحل الملك الصالح رحل معه ملازما خدمته وأستاذ داريته، وإليه المرجع في الأمور كلها. وكان حسام الدين هذا أميرا جليلا تام العقل وعنده فضيلة وأدب، وكان صديقا لى فلازمته (¬10) في العسكر ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة س «ذيل عقبة ثنية العقاب» والصيغة المثبتة من ب، وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن ثنية العقاب «ثنية مشرفة على غوطة دمشق يطؤها القاصد من دمشق إلى حمص». (¬3) في نسخة س «رسل الملك المظفر» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬5) في نسخة س «ليحاصراها»، والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «بعسكره» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬9) في نسخة س «يستدعيه إلى عنده»، والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «ولازمته» والصيغة المثبتة من ب.

الصالحى، وكان في العسكر كاتب الإنشاء بهاء الدين زهير، وكان جيد الترسل بديع النظم [في غاية الجودة (¬1)]، وكان في العسكر (¬2) [أيضا (¬3)] جمال الدين يحيى بن مطروح ناظر الجيش، وكان أيضا فاضلا جيد الشعر (¬4). وكان هذان الرجلان (¬5) - أعنى بهاء الدين زهيرا (¬6) وجمال الدين بن مطروح - من أتم الناس مروءة واعتناء بمن يلوذ بهما ويصحبهما. فكانت دولة [السلطان (¬7)] الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬8)] بهما زاهية زاهرة. وتواترت الرسل من الملك المظفر (¬9) صاحب حماة إلى السلطان الملك الصالح -[كما ذكرنا (¬10)]- يحثه على سرعة القدوم بالعساكر إلى حمص لمنازلتها، والقصّاد تأنى من جهة مصر من الأمراء [يدعونه إلى القدوم إلى مصر] (¬11)، ويسهلون عليه أمرها فتحير في أمره (¬12) هل يقصد مصر أو يقصد حمص ويحاصرها؟. وأقام (¬13) تحت ثنية العقاب إلى أوائل شهر رمضان من هذه السنة، ثم إنه رأى أن البداية (¬14) بمصر أولى، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «حسنه». (¬2) في نسخة ب «فيه» والصيغة المثبتة للتوضيح من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬4) في نسخة س «النظم»، والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «وكانا هذان»، والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «زهير» والصيغة الصحيحة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين للتوضيح من س. (¬8) ما بين الحاصرتين للتوضيح من س. (¬9) في نسخة س «رسل الملك المظفر» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وفى نسخة س «يدعونهم إلى مصر للقدوم عليهم». (¬12) في نسخة س «أموره»، والصيغة المثبتة من ب. (¬13) في نسخة س «فأقام» والصيغة المثبتة من ب. (¬14) في نسخة س «رأى البداية»، والصيغة المثبتة من ب.

وأنه إذا ملكها سهل عليه ما بعدها، فرحل (¬1) عائدا إلى دمشق في أوائل رمضان. ولأربع عشرة ليلة [14 ا] مضت منه (¬2) تقدم إلى الأمير حسام الدين بن أبى على -[رحمه الله] (¬3) - أن يرحل بشطر [من] (¬4) العسكر وينزل جينين من الساحل. فرحل [حسام الدين (¬5)] من دمشق بقطيعة (¬6) كبيرة من العسكر طالبا تلك الجهة. وسافرت (¬7) معه (¬8) فنزل تحت عقبة الكرسى (¬9) وخيم على بحيرة طبرية إلى أواخر [شهر] (¬10) رمضان [وأنا معهم (¬11)]. ووردت الأخبار ونحن بتلك المنزلة بأن جماعة من أمراء عسكر مصر منهم الأمير نور الدين على بن الأمير فخر الدين عثمان، وكان أبوه أستاذ دار [السلطان (¬12)] الملك الكامل، و [الأمير (¬13)] قضيب البان و [الأمير (¬14)] الدنيسرى ¬

(¬1) في نسخة س «فجاء» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «ثم إنه بعد أربع عشر ليلة مضت من رمضان» والصيغة المثبتة من نسخة ب. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «بقطعة». (¬7) أي المؤرخ جمال الدين بن واصل، وهذه الجملة مضطربة في نسخة س. (¬8) أي مع الأمير حسام الدين، انظر: المقريزى، السلوك، ج 1، ص 281. (¬9) ذكر المقريزى (السلوك، ج 1، ص 281) «عقبة الكرسى على بحيرة طبرية». (¬10) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬12) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬13) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬14) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

ذكر مسير السلطان الملك الصالح نجم الدين [أيوب] من دمشق قاصدا الديار المصريه ونزوله بنابلس وإقامته بها

وغيرهم من [أعيان (¬1)] الأمراء في جماعة كثيرة من أتباعهم وأجنادهم (¬2)، قد خرجوا على حمية [من القاهرة (¬3)] مقفرين إلى السلطان (¬4) الملك الصالح. [فلما وصلوا إلى غزة ونزلوا بها كتب السلطان الملك الصالح إلى (¬5)] أستاذ داره الأمير حسام الدين يأمره بالرجوع والنزول بمن معه على خربة اللصوص، [فرجع بالعسكر الذى معه إلى خربة اللصوص (¬6)] فنزل بها. ذكر مسير السلطان الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬7)] من دمشق قاصدا الديار (¬8) المصريه ونزوله بنابلس وإقامته بها وخرج السلطان الملك الصالح من دمشق في عساكره. وكان معه [من (¬9)] العسكر نحو خمسة ألف فارس (¬10)، وفيهم عماه الملك المعز مجير الدين يعقوب، والملك الأمجد ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬2) ذكر المقريزى (السلوك، ج 1، ص 281) معلومات تزيد بكثير عما ورد في ابن واصل بخصوص أمراء مصر إذا قال: «خرج من أمراء مصر سبعة عشر أميرا - منهم الأمير نور الدين على ابن فخر الدين عثمان الأستادار، والأمير علاء الدين بن الشهاب أحمد، والأمير عز الدين أيبك الكريدى العادلى، والأمير عز الدين بلبان المجاهدى، والأمير حسام الدين لؤلؤ السعودى، والأمير سيف الدين بشطر الخوارزمى، والأمير عز الدين قضيب البان العادلى، والأمير شمس الدين سنقر الدنيسرى في عدة كثيرة من أتباعهم وأجنادهم، وخلق من مقدمى الحلقة والمماليك السلطانية». (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬4) في نسخة س «إلى عند السلطان» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في ب «ووصلوا إلى غزة ونزلوا بها فكتب». (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة س «للديار»، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬10) في نسخة س «نحو ستة آلاف فارس جياد غير الأتباع» والصيغة المثبتة من ب، وورد في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 286) «وكانت عساكر دمشق مع الصالح نجم الدين أيوب على نابلس وهم خمسة آلاف».

تقى الدين عباس إبنا الملك العادل، والملك السعيد وأخوه تقى الدين [إبنا (¬1)] الملك الأمجد بهرامشاه صاحب بعلبك وجماعة من الأمراء المعظمية وغيرهم. وأما الأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد [فإنه (¬2)] لم ينزل إليه. وكان خروج الملك الصالح [من دمشق (3)] لليلتين بقيتا (¬4) من شهر رمضان. ووصل (¬5) إلى خربة اللصوص وخيم بها (¬6) واجتمع بها العساكر كلها (¬7). ووصل الخبر بقرب العسكر المقفر من مصر، فتقدم السلطان الملك الصالح إلى الأمير حسام الدين [بن (¬8)] أبى على [14 ب] بتلقيهم، فتلقاهم من (¬9) الغور وقدم بهم إلى السلطان [واجتمعوا به، فأكرم الأمير نور الدين بن فخر الدين (¬10)]، وقضيب البان والدنيسرى ومن معهم من الأمراء. ونزلوا معه بخربة اللصوص، وعيدوا بها عيد الفطر. وكان مع السلطان (¬11) ولده الملك المغيث فتح الدين عمر وهو أكبر أولاده، وأما ولده الملك المعظم [غياث الدين (¬12)] توران شاه، فإنه أمره بالمقام ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س، ومثبت في ب. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من س، ومثبت في ب. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س، ومثبت في ب. (¬4) في نسخة س «بقيا» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «فوصل»، والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «وخيمه بها» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «واجتمع بالعساكر كلها» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬9) في نسخة س «إلى» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من ب وفى س «فاجتمعوا به بخربة اللصوص، ووصل الأمير شمس الدين ابن فخر الدين عثمان» انظر ما سبق ص 210 وكذلك المقريزى (السلوك، ج 1، ص 281) حيث ورد اسم الامير نور الدين بن فخر الدين. (¬11) في نسخة س «مع الملك الصالح». (¬12) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب.

بحصن كيفا فأقام بها (¬1) إلى أن كان [من أمره (¬2)] ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وكان له ولد آخر [صغير (¬3)] يدعى الملك القاهر تركه (¬4) بقلعة دمشق مع وزيره تاج الدين بن الولى المعروف بابن مهاجر. وبعد وصول السلطان الملك الصالح إلى نابلس وصل إليه الخبر بموته (¬5). [ولما عيّد السلطان الملك الصالح (¬6)] بخربة اللصوص عيد الفطر تقدم (¬7) إلى العساكر بالرحيل، فرحل الأمير حسام الدين [بن أبى على (¬8)] ببعض (¬9) العسكر ومعه (¬10) الملك المغيث. ورحل السلطان [الملك الصالح (¬11)] بعده، فقصد جهة نابلس بعد علمه أن الملك الناصر داود سار إلى الديار المصرية - على ما سنذكره [إن شاء الله تعالى (¬12).] فرحل السلطان والعساكر إلى نابلس (¬13) [فخيم بمرج فلاطة ثم دخل إلى نابلس (¬14)] فنزل في دار الملك المعظم. وأقام هو والعساكر (¬15) بنابلس إلى أن خرجت هذه السنة. وأوهمه ¬

(¬1) في نسخة س «به»، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من س، ومثبت في ب. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س، ومثبت في ب. (¬4) في نسخة س «فتركه» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) وردت هذه الجملة في نسخة س: «فورد عليه الخبر بموت ولده الذى بدمشق فتعذر وصول السلطان الملك الصالح إلى نابلس بموت ولده الذى بدمشق». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وفى س «فعيد بخربة اللصوص». (¬7) في نسخة س «ثم تقدم». (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س. (¬9) في نسخة س «ومعه بعض»، والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «ومعه أيضا»، والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬13) في نسخة س «فوصل السلطان والعسكر إلى نابلس» والصيغة المثبتة من ب. (¬14) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬15) في نسخة س «والعسكر».

ذكر مسير الملك الناصر داود [بن الملك المعظم] إلى الديار المصرية واتفاقه مع ابن عمه الملك العادل

نور الدين بن فخر الدين عثمان (¬1) والأمراء الذين قدموا معه أن الديار المصرية (¬2) في يده، وأنه إذا توجّه إليها لا يرده عنها راد، وأن جميع عساكرها (¬3) - إذا وصل - يدخلون (¬4) في طاعته ويتخلون عن أخيه الملك العادل. ذكر مسير الملك (¬5) الناصر داود [بن الملك المعظم (¬6)] إلى الديار المصرية (¬7) واتفاقه مع ابن عمه الملك العادل ولما لم يقع الاتفاق (¬8) بين الملك الناصر وابن عمه [الملك (¬9)] الصالح رحل إلى الديار المصرية، [فالتقاه الملك العادل بأحسن ملتقى وأكرمه (¬10)] وأنزله بدار الوزارة. واتفقا على محاربة الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬11)]، ووعده الملك العادل أنه يستخلص دمشق وبلادها (¬12) له. [15 ا] واضطربت عساكر مصر بوصول الملك الصالح إلى نابلس. وتواترت على الملك الصالح كتب الأمراء وجواسيسهم ¬

(¬1) في نسخة س «شمس الدين بن فخر الدين عثمان، والصيغة المثبتة من ب، انظر ما سبق ص 212 وحاشية 10. (¬2) في نسخة س «ديار مصر» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «عسكرها». (¬4) في نسخة س «دخلوا» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «السلطان الملك» وهو تصحيف. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬7) في نسخة س «إلى مصر» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة ب «ولما لم يتفق» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من س. (¬10) في نسخة ب «فأكرمه الملك العادل» والصيغة المثبتة من س. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬12) في نسخة س «يستخلص له دمشق وبلادها» والصيغة المثبتة من ب.

[ذكر بقية حوادث هذه السنة]

في السر يستدعونه إلى الوصول (¬1). وتوقف (¬2) [الملك الصالح (¬3)] في أمره خوفا أن لا يكون لما كاتبوه [به (¬4)] حقيقة، وعلم أن (¬5) عسكره لا يقوم بحرب عسكر مصر، فتوقف حتى تتبين له الأمور، وجواسيسه (¬6) وقصاده ما تنقطع عن مصر. وكان الأمير فخر الدين (¬7) بن شيخ الشيوخ من أجل الأمراء [وأعظمهم (¬8)] [عند (¬9) الملك العادل]، ويقتاد به جماعة من الأمراء والجند، فكاتب الملك الصالح واستحثه على سرعة القدوم [إلى الديار المصرية (¬10)]. وأطلع الملك الناصر على ذلك، فأعلم به الملك العادل، فقبض عليه واعتقله في قلعة الجبل. [ذكر بقية حوادث هذه السنة (¬11)] ولما استقر الملك الصالح بنابلس ولى عليها وعلى أعمال القدس والأغوار والخليل وبيت جبريل والساحل وغيره إلى العريش. وتقدم (¬12) بضرب خيمة السبق بالعوجاء (¬13)، وتقدم إلى جماعة من [أمراء (¬14)] المصريين، وجماعة من عسكر دمشق ¬

(¬1) وردت هذه الفقرة في نسخة س بصيغة مخالفة ولكن بنفس المعنى والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «فتوقف» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬5) في نسخة س «لعلمه بأن» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «ومع هذا جواسيسه» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «مجير الدين» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س. (¬10) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س. (¬11) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬12) في نسخة س «وتقدم بعد ذلك» والصيغة المثبتة من ب. (¬13) في نسخة س «إلى العوجاء بالعوجاء» وهو تصحيف، وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن العوجاء «نهر بين أرسوف والرملة من أرض فلسطين». (¬14) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

[أن يتقدموا إلى غزة، فرحلوا إليها ونزلوا بظاهرها (¬1)] وقصاد (¬2) عسكر مصر ما تنقطع عنه. وأخذ الملك الصالح في تهيئة أسباب السفر (¬3)، وتقدم إلى الأمراء بأن يعملوا الأزواد لدخول الرمل - من البقسماط وغيره. ووصل إلى معسكر (¬4) الملك الصالح الصاحب محيى الدين يوسف بن جمال الدين ابن الجوزى رسولا من الخليفة [الإمام (¬5)] المستنصر بالله ليصلح بين الملك الصالح وأخيه الملك العادل (¬6). وأرسل الملك، الصالح [نجم الدين أيوب (¬7)] يطلب من عمه الملك الصالح اسماعيل (¬8) صاحب بعلبك أن يصل إليه بنفسه ليمضى معه إلى الديار المصرية، فتعلل واعتذر، وسير ولده الملك المنصور نور الدين محمود (¬9) نائبا عنه في الخدمة، ووعد الوصول (¬10) إلى خدمته بعد ذلك، وهو في الباطن يعمل على السعى في انتزاع دمشق منه. ¬

(¬1) في نسخة ب «فتقدموا إلى غزة ونزلوا ظاهرها» والصيغة المثبتة من س. (¬2) في نسخة س «ومع هذا فإن قصاد» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «السفر وأسبابه» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «عسكر» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) عن هذه السفارة انظر أيضا، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 283. (¬7) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬8) في نسخة ب «الملك الصالح عماد الدين». (¬9) في نسخة س «ناصر الدين محمود» والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب، انظر مايلى ص 220 والمقريزى، السلوك، ج 1، ص 324، 373. (¬10) في نسخة س «ووعده بالوصول» والصيغة المثبتة من ب.

وفى هذه السنة قتل ألبى بن الملك السعيد نجم الدين غازى جده [15 ب] الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن نجم الدين إيلغازى (¬1) بن ألبى بن تمرتاش ابن إيلغازى بن أرتق، وساعده على قتله جماعه من المماليك، وذلك في العشر الأوسط من ذى الحجة. وكان الملك السعيد معتقلا بقلعة يقال لها البارعية، اعتقله فيها أبوه الملك المنصور. ولما قتل الملك المنصور تولى البلاد ابنه (¬2) الملك السعيد، واعتقل ابنه ألبى إلى أن مات. ¬

(¬1) في نسخة ب «إيل غازى» والصيغة المثبتة من س. (¬2) في نسخة س «تولى ابنه البلاد» والصيغة المثبتة من ب.

ودخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة

ودخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة (*) والسلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن الملك الكامل بالديار المصرية وعنده ابن عمه الملك الناصر داود [بن الملك المعظم (¬1)]. وبرز الملك العادل إلى بلبيس وأقام بها وهو خائف من أخيه الملك الصالح، لكنه أظهر قصد الشام ومحاربة أخيه الملك الصالح وانتزاع الشام منه (¬2). وتقدمت مقدمة عسكره فنزلوا الخشبى (¬3) وهو طرف الرمل. وأخذ محيى الدين بن الجوزى رسول الخليفة في الإصلاح بين الأخوين على أن تكون دمشق وبلادها التي كانت مضافة إليها في أيام الملك الأشرف [بن الملك العادل (¬4)] إلى الملك (¬5) الصالح نجم الدين [أيوب (¬6)]، ويرد إلى الملك الناصر [داود (¬7)] ما أخذ منه من البلاد، وتكون الديار المصرية للملك العادل، وتتفق الكلمة ويزول ما بينهم من الشحناء. وكان مع محيى الدين [رسول الخليفة (¬8)] ولده شرف الدين، وكان شابا فاضلا ذكيا يتردد (¬9) في هذا المعنى بين الأخوين، فكان (¬10) يذهب إلى مصر ¬

(*) يوافق أولها 3 أغسطس سنة 1239 ميلادية. (¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬2) وردت الجملة في نسخة س في صيغة مخالفة ولكن بنفس المعنى. (¬3) في نسخة س «بالخشبى» وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن «الخشبى بينه وبين الفسطاط ثلاث مراحل فيه خان، وهو أول الجفار من ناحية مصر وآخرها من ناحية الشام». (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬5) في نسخة س «للملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) في نسخة س «فتردد» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «وكان» والصيغة المثبتة من ب.

ذكر ما اعتمده الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل من التدبير إلى أن تم له ما أراد من تملك دمشق

فيجتمع بالملك (¬1) العادل ثم يعود إلى الملك الصالح، ومحيى الدين مقيم [بنابلس (¬2)] عند الملك الصالح. وآخر الأمر أنه تقارب ما بين الأخوين الملك العادل والملك الصالح، ولولا ما حدث من الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك كان الصلح انتظم بينهما. ولما تقارب الأمر في معنى الصلح رحل محيى الدين بنفسه إلى الديار المصرية، واستصحب معه جمال الدين يحيى بن مطروح ناظر الجيش رسولا من الملك الصالح لتقرير قواعد الصلح [بينهما (¬3)]، فتوجها إلى [16 ا] مصر وأخذا (¬4) مع الملك العادل في تقرير قواعد الصلح والاتفاق، [فوصلا وأديا الرسالة، وأقاما عند الملك العادل بمصر إلى أن جرى ما سنذكره إن شاء الله (¬5) تعالى]. ذكر ما اعتمده الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل من التدبير إلى أن تم له ما أراد من تملك دمشق (¬6) كانت مكاتبة الملك الصالح مترددة إلى عمه الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك متقاضية (¬7) له بالوصول (¬8) إلى نابلس ليتفقا على المسير (¬9) إلى ديار مصر. ¬

(¬1) في نسخة س «مع الملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س. (¬4) في نسخة س «فلما دخلاها أخذا» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب، انظر المقريزى، السلوك، ج 1، ص 284. (¬6) في نسخة س «ذكر استيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل على دمشق وهو استيلاؤه الثانى عليها» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) قضينا بمعنى عهدنا وهو بمعنى الأداء والانهاء ومنه قوله تعالى «وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ» أي أنهيناه اليه وأبلغناه ذلك، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 20، ص 48 (مادة قضى). (¬8) في نسخة س «بوصوله» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «ليتفقا معه على المضى» وهو تصحيف، والصيغة المثبتة من ب.

وكان الملك المنصور نور الدين محمود بن الملك الصالح إسماعيل في نابلس عند [ابن عمه (¬1)] الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬2)]- كما ذكرنا (¬3) - نائبا عن أبيه في الخدمة، وأبوه الملك (¬4) الصالح إسماعيل لا يظهر إلا الطاعة، ويعده بأنه يصل إلى خدمته ويساعده على قضاء مآربه، وهو في الباطن يكاتب الملك العادل [بن الملك الكامل] (¬5) صاحب مصر يخبره بما هو عازم عليه من أخذ دمشق من الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬6)]، وأنه إذا ملك دمشق كان نائبه فيها، وأقام الخطبة له، وضرب (¬7) السكة باسمه. [وكتبه (¬8)] ورسله [أيضا (¬9)] متواتره إلى الملك المجاهد صاحب حمص في تقرير قواعد ما عزم عليه من الوثوب على الملك الصالح نجم الدين وأخذ دمشق منه. ولما أبطأ على الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬10)] وصول عمه الملك الصالح [عماد الدين اسماعيل (¬11)] إليه، سير إليه الحكيم سعد الدين الدمشقى يتقاضاه (¬12) في سرعة القدوم إلى نابلس، وأصحبه قفصا فيه حمام ليطالعه بالأخبار يوما فيوما (¬13). فجرت واقعة غريبة لم يسمع بمثلهاو هى (¬14) أن سعد الدين الحكيم لما وصل إلى بعلبك أنزله الملك الصالح إسماعيل صاحبها [عنده (¬15)]، وأبدل الحمام الذى في قفصه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) انظر ما سبق ص 216. (¬4) في نسخة ب «والملك» والصيغة المثبتة من س. (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬7) في نسخة س «وضربت» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬12) في نسخة س «حتى يتقاضاه» والصيغة المثبتة من ب. (¬13) في نسخة س «يوما بيوما» والصيغة المثبتة من نسخة ب. (¬14) في نسخة س «وهو» والصيغة المثبتة من ب. (¬15) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

بحمام من حمام قلعة بعلبك، وسعد الدين لا يشعر بدلك (¬1)، وأخذ الملك الصالح [إسماعيل (¬2)] في التدبير على أخذ دمشق وجمع الرجال والأحشاد (¬3) والاحتفال لقصد دمشق. وتحقق سعد الدين ما يفعله (¬4)، فكان يكتب في البطائق إلى مخدومه الملك الصالح نجم الدين أيوب بما يشاهده من غدر الملك الصالح [عماد الدين اسماعيل (¬5)] وسعيه في قصد دمشق ويعلق البطائق في أجنحة الحمام فيقع [16 ب] الحمام في برجها فيأخذ البرّاج البطائق منها، ويحملها (¬6) إلى الملك الصالح [إسماعيل (¬7)]، فيأمر أن يكتب بدلها على لسان سعد الدين ويعلق في أجنحة الحمام التي كانت في قفص سعد الدين. ويذكر في تلك البطائق أن المولى الملك الصالح [عماد الدين اسماعيل (¬8)] مهتم بالمسير إلى العسكر المنصور بنابلس بنفسه، وما يتأخر قدومه عن (¬9) السلطان، فيصل الحمام إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين بذلك فيطيب قلبه، وينتظر وصول عمه [الملك الصالح (¬10)] إليه. فتم للملك الصالح إسماعيل بهذا التدبير ما أراده من جمع الرجال ¬

(¬1) انظر أيضا: سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 479 - 480)؛ ابن ايبك، الدر المطلوب، ص 336؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 285. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «وحشد وجمع الرجال والأجناد» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «وعلم سعد الدين وتحقق ما يفعله» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س. (¬6) في نسخة ب «ويحمله». (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) في نسخة س «على». (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

ذكر قبض الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص على الأمير سيف الدين بن أبى على ومن معه من الأمراء وأكابر أهل حماة

والأحشاد (¬1) لقصد دمشق، وانقطاع (¬2) الأخبار بذلك عن الملك الصالح نجم الدين [أيوب] (¬3). ثم بعث الملك الصالح [عماد الدين] (¬4) إسماعيل إلى ولده الملك المنصور يستدعيه إليه، وأوهم الملك الصالح نجم الدين أنه إنما يطلبه ليجعله نائبا عنه في بعلبك ويصل إلى خدمته، فتوجه الملك المنصور بأصحابه إلى والده [الملك الصالح عماد الدين إسماعيل] (¬5). ثم سيّر الملك الصالح نجم الدين ولده الملك المغيث فتح الدين عمر إلى دمشق [ليحفظها (¬6)] فأقام بقلعتها. ذكر قبض الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص على الأمير سيف الدين بن أبى على ومن معه من الأمراء وأكابر أهل حماة (¬7) ومن الغرائب التي وقعت في هذه السنة ما نذكره الآن، وهو أنّا كنا قد ذكرنا انتماء الملك المظفر صاحب حماة إلى ابن خاله السلطان الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬8)]، وأنه عادى جيرانهم كلهم بسبب الانتماء إليه وإلى والده من قبله. وبلغه أن الملك الصالح [عماد الدين] (¬9) إسماعيل صاحب بعلبك قد اتفق هو والملك المجاهد صاحب حمص على قصد دمشق وأخذها من الملك الصالح نجم الدين ¬

(¬1) في نسخة ب «والاحتشاد» والصيغة المثبتة من س. (¬2) في نسخة س «وانقطعت» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) عنوان الخبر من نسخة ب وورد بدله في نسخة س: «قال جمال الدين بن واصل صاحب هذا التاريخ. . .». (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

[أيوب] (¬1). وتحقق أن الملك الصالح مقيم بنابلس في العساكر كلها وأنه لم يترك بدمشق [مع ولده الملك المغيث] (¬2) عسكرا يحفظها، وأنه متى قصدها صاحب حمص وصاحب بعلبك أخذت لا محالة، فرأى من المصلحة أن يسيّر جماعة من عسكره وأهل بلده يحفظونها. وكان الأمير [17 ا] سيف الدين على بن أبى على الهذبانى غالبا على أمره كله - كما قدمنا ذكره (¬3). فاتفق الملك المظفر مع سيف الدين على [بن أبى على (¬4)] أن يظهر سيف الدين الحرد (¬5) عليه (¬6) ومفارقته، ويوهم (¬7) سيف الدين أكابر [أهل (¬8)] حماة بأن الملك المظفر قد عزم على تسليم حماة إلى الفرنج (¬9) لما حصل عنده من الغبن من إساءة المجاورين له وقصدهم أخذ بلده منه. وقصد الملك المظفر وسيف الدين بهذا الذى اتفقا عليه أن تتم هذه الحيلة على الملك المجاهد صاحب حمص، ولا يتعرض (¬10) لسيف الدين والعسكر الذين معه وأكابر البلد (¬11)، ويمضوا (¬12) إلى دمشق ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) انظر ما سبق ابن واصل، ج 4، ص 259، 271 - 274 (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) الحرد هو الغيظ والغضب، انظر، ابن منظور، لسان العرب، ج 4، ص 121. (¬6) في نسخة س «على الملك المظفر». (¬7) في نسخة ب «وأعلم» والصيغة المثبتة من س، انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1، ص 286. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬9) في نسخة س «للفرنج» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «فلا». (¬11) في نسخة س «ولا للعسكر الذى معه ولا لأكابر حماة الذى معه أيضا» والصيغة المثبتة من ب (¬12) في نسخة س «حتى يمضون» والصيغة المثبتة من ب.

فيحفظوها للملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬1)] إلى أن يملك الديار المصرية ويرجع إلى دمشق. [ففعل سيف الدين ذلك (¬2)] وأظهر (¬3) الغضب على الملك المظفر والنفور منه، واقتطع جملة من العسكر استمالهم (¬4) إليه وكذلك استمال جملة من أكابر الرعية (¬5) من المعممين. وأوهمهم كلهم أن حماة قد عزم صاحبها الملك المظفر على تسليمها (¬6) إلى الفرنج (¬7)، ومتى قدم الفرنج حماة (¬8) [استولوا عليها وسبوا (¬9)] أولاد الرعية وذراريهم. واستخدم الملك المظفر جماعة من الفرنج وأنزلهم عنده بالقلعة [ليقوى هذا الإيهام (¬10)]. فخافت الرعية والجند أن يستولى عليهم الفرنج، فاجتمع إلى سيف الدين [على بن أبى على (¬11)] خلق [كثير (¬12)] ونزل بهم على تل صفرون ظاهر حماة. وكان الملك المظفر يركب كل يوم ويمضى إلى خيمته (¬13) ويتفقان في الباطن على ما يريدان ويدبرانه. وأوهم (¬14) الملك المظفر أصحابه أنه إنما يأتى إلى سيف الدين مسترضيا له ومستعطفا، [فبقى على ذلك ثلاثة أيام (¬15)]. ثم رحل ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬3) في نسخة س «فأظهر سيف الدين». (¬4) في نسخة س «من عسكر حماه واستمالهم». (¬5) في نسخة س «استمال أيضا جملة من أكابر رعية حماة». (¬6) في نسخة ب «تسلمها» والصيغة المثبتة من س. (¬7) في نسخة س «للفرنج» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «إلى حماة» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «سبوا». (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة ب، وفى نسخة س «ليقوا الإيهام». (¬11) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬12) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬13) في نسخة س «ويمضى إلى خيمته يعنى أن يسترضيه» والصيغة المثبتة من ب. (¬14) في نسخة س «وقد أوهم». (¬15) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

سيف الدين بمن معه من الجند والرعية ومعهم (¬1) عيالاتهم وأطفالهم فإنهم نزحوا من حماة نزوح من لا يتوهم العود إليها (¬2). ولما وصلوا حمص نزلوا بحيرة قدس (¬3)، ولم يخف عن الملك المجاهد [صاحب حمص (¬4)] المقصود، فركب وقصد إليهم. فلما صار بالقرب منهم طلب الاجتماع بسيف الدين، فجاءه سيف الدين منفردا مطمئنا إليه، فلو (¬5) حاربه بمن معه وامتنع بالجيش الذى صحبه، لما قدر الملك [17 ب] المجاهد عليه، وكان وصل إلى دمشق وحفظها بمن معه ومن فيها (¬6) إلى أن يصل الملك الصالح من نابلس بمن معه من العساكر (¬7)، وكان يتعذر على [عمه (¬8)] الملك الصالح [إسماعيل (¬9)] أخذ دمشق منه. ولكن إذا قضى الله أمرا فلا مرد له. ولما اجتمع به سيف الدين، رحب به الملك المجاهد (¬10) وأحسن تلقيه، وسأله عن سبب مقدمه فقال له سيف الدين: «إنى ما سافرت من حماة [أنا (¬11)] وهؤلاء الذين معى إلا لعلمنا من ميل الملك المظفر إلى الفرنج واعتضاده بهم، وخفنا من ¬

(¬1) في نسخة س «وتبعهم»، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «فإنهم فرحوا بخروجهم من حماة وإنهم ما بقوا يعودون إليها» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «فلما وصلوا إلى حمص نزلوا على بحيرة قدس» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «ولو». (¬6) في نسخة س «بمن فيها ومن معه». (¬7) في نسخة س «إلى أن يصل من عند الملك الصالح عسكرا» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س، ومثبت في ب. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب، ومثبت في س. (¬10) في نسخة س «ولما اجتمع سيف الدين بالملك المجاهد رحب به»، والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة ب، وساقط من س.

تسليمها (¬1) إليهم، فأردنا النجاة لأنفسنا والخلاص (¬2) من مخالطة [الكفار] (¬3) أعداء الدين». فآنسه الملك المجاهد [عند ذلك ولا طفه (¬4)] وسام منه (¬5) الدخول إلى حمص ليضيفه بها، ثم يأذن له ولأصحابه في السفر إلى حيث شاؤا، فاغتر [سيف الدين (¬6)] بذلك ودخل معه إلى حمص، وصعد معه إلى القلعة فأنزله بها (¬7) في دار [حسنة (¬8)]، وأظهر إكرامه والإحسان إليه. ثم بعث إلى أصحاب سيف الدين يأمرهم بدخول حمص (¬9) فدخل أكثرهم، وهرب بعضهم ونجا (¬10)، وحصل أكثرهم في القبضة، ووقع عليهم خذلان من الله تعالى، ولو قاتلوا لانتصفوا ونجوا. ثم اعتقل الملك المجاهد سيف الدين [بن أبى على (¬11)] وقيده وضيق عليه، واعتقل الأكابر من أهل حماة والجند وقيدهم وضيق عليهم واستصفى ما كان معهم من الأموال والدواب والقماش. وعاقب بعضهم أشد العقوبة لاستخلاص (¬12) الأموال منهم؛ وكان من جملتهم الحكيم (¬13) موفق الدين محمد بن أبى الخير الطبيب، وكان ¬

(¬1) في نسخة ب «تسلمها» والصيغة المثبتة من س. (¬2) في نسخة س «بأنفسنا والنجاة» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س، ومثبت في ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬5) سام يسومه سوما أي ألزمه، انظر الزبيدى، تاج العروس، ج 8، ص 350. (¬6) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «فأمر له» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬9) في نسخة س «بالدخول إلى حمص» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) وردت الجملة في نسخة س في صيغة مختلفة ولكن بنفس المعنى «فدخل أكثرهم ممن أجاب ومنهم من لم يجب فهرب ونجا». (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬12) في نسخة س «حتى يخلص» والصيغة المثبتة من ب. (¬13) في نسخة ب «الفقيه» والصيغة المثبتة من س.

فاضلا في علم الطب متقنا له، وكانت منزلته عند الملك المظفر عالية جدا، وكان مع ذلك دينا متورعا. ومنهم أيضا الحكيم زين الدين بن سعد (¬1) الدين بن سعد الله ابن واصل ابن عمى. فأما موفق الدين فمات (¬2) في الحبس بسبب التضييق والضرب، وأما [الحكيم زين الدين ابن عمى (¬3)] فشفع فيه صاحب مصياف مقدم (¬4) الإسماعيلية فخلص بعد مدة. وكان من [18 ا] جملتهم أيضا الأمير بدر الدين محمد بن أبى على الهذبانى والد الأمير حسام الدين أستاذ دار الملك الصالح نجم الدين [أيوب] (¬5) وهو عم الأمير سيف الدين [بن أبى على (¬6)] والأمير علاء الدين قريبه. ومن جملتهم جماعة من أكابر بنى قرناص، كانت لهم نعمة (¬7) وافرة ومنزلة عند الملك المظفر علية، هلك بعضهم في الحبس وخلص الباقون (¬8) بعد مدة بعد أن باعوا [أكثر (¬9)] أملاكهم (¬10) وأدّوها [مع أموالهم (¬11)] إلى الملك المجاهد. وهلك سيف الدين [على بن أبى على (¬12)] في الحبس [بعد موت الملك المجاهد، ثم خلص عمه بدر الدين، والأمير حسام الدين وعلاء الدين قريبه (¬13)]. ¬

(¬1) في نسخة س «زين الدين سعد الله» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «فإنه مات»، والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «زين الدين». (¬4) في نسخة س «ومقدم». (¬5) ما بين الحاصرتين من س. (¬6) ما بين الحاصرتين من س. (¬7) في نسخة س «نعم». (¬8) في نسخة س «وبعضهم خلص»، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬10) في نسخة ب «أموالهم»، والصيغة المثبتة من س. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬13) ما بين الحاصرتين من نسخة ب، وورد بدله في س «بعد ما ذاق الشدائد حتى مات».

ذكر استيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك العادل على دمشق وهو استيلاؤه الثانى عليها

ذكر استيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك العادل على دمشق وهو استيلاؤه الثانى عليها (¬1) ولما جرى (¬2) ما ذكرناه ضعف الملك المظفر - صاحب حماة - جدا (¬3) لذهاب عسكره ورجاله. واغتنم (¬4) الملك الصالح [عماد الدين (¬5)] إسماعيل والملك المجاهد صاحب حمص ذلك مع بعد الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬6)] من (¬7) دمشق وخلو دمشق ممن يحفظها، فرحل (¬8) [الملك الصالح عماد الدين إسماعيل (¬9)] من بعلبك في عسكره ومن جمع وحشد من الرجالة وقصد دمشق من جهة عقبة دمر (¬10). ورحل الملك المجاهد من حمص في عسكره وقصد دمشق من [جهة] (¬11) ثنية العقاب (¬12) وذلك في شهر صفر من هذه السنة - أعنى سنة سبع وثلاثين وستمائة - فاجتمعوا (¬13) على دمشق ¬

(¬1) العنوان بأكمله ساقط من نسخة س. (¬2) في نسخة س «قال الراوى ولما جرى». (¬3) في نسخة س «ضعف جدا». (¬4) في نسخة س «فاغتنم». (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س. (¬7) في نسخة س «عن». (¬8) في نسخة س «فعند ذلك رحل» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬10) عقبة دمر: وتسمى دمّر أيضا، مكان مشرف على غوطة دمشق من جهة الشمال في طريق بعلبك، انظر ياقوت: معجم البلدان، مادة دمر. (¬11) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬12) ذكر ياقوت (معجم البلدان - مادة العقاب) أن ثنية العقاب «فرجة في الجبل الذى يطل على غوطة دمشق من ناحية حمص، تقطعه القوافل المغربة إلى دمشق من الشرق» انظر أيضا: مادة ثنية العقاب في معجم البلدان. (¬13) في نسخة س «فاجتمعوا الملكين» والصيغة المثبتة من ب.

ولم (¬1) يشعر الناس بهم إلا وهم على أبواب دمشق بكرة النهار في جمع عظيم من الخيالة والرجالة وليس في دمشق من يمنع عنها ولا يذب. فتسلق جماعة من أصحاب الملك الصالح من خان ابن المقدم الذى يلى باب الفراديس ونزلوا منه، وكسروا قفل باب الفراديس، وساعدهم على ذلك جماعة مخامرون في البلد، فدخل الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل (¬2)] والملك المجاهد [صاحب حمص (¬3)] إلى دمشق، وطيب الملك الصالح قلوب الرعية، وقال [لهم (¬4)]: «ادعوا للسلطان الملك العادل، فأنا نائبه وغلامه». ثم مضى إلى داره بدرب الشعارين فنزلها، ونزل الملك المجاهد في داره التي بقرب [18 ب] الجامع. ولما جرى ذلك امتنع الملك المغيث بن [السلطان (¬5)] الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬6)] في القلعة ومعه (¬7) جماعة قليلون، وغلقوا باب القلعة واستحصروا بها. ثم زحف (¬8) الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل (¬9)] والملك المجاهد على القلعة [فسلمت ¬

(¬1) في نسخة س «فلم». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬7) في نسخة ب «ومعهم» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من س. (¬8) في نسخة س «فزحف» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر ما تجدد للملك الصالح نجم الدين أيوب بعد أخذ دمشق منه، من مسيره إلى دمشق ومفارقة عسكره له ورجوعه إلى نابلس ومقامه بها

إلى الملك الصالح بالأمان ثانى يوم دخولهم إلى دمشق (¬1)]. وصعد الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل (¬2)] [إلى القلعة (¬3)] واستولى عليها، واعتقل الملك المغيث ابن الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬4)] في برج من أبراجها، ولم يزل معتقلا فيه (¬5) إلى أن مات على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ما تجدد للملك الصالح نجم الدين أيوب بعد أخذ دمشق منه، من مسيره إلى دمشق (¬6) ومفارقة عسكره له ورجوعه إلى نابلس ومقامه بها ووردت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬7)] ومعه أكثر العساكر وبعضهم قد تقدمه (¬8) إلى غزة كما ذكرناه (¬9)، أن عمه الملك الصالح والملك المجاهد ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد في س «وضايقوها وقاتلوها أشد قتال ثلاثة أيام فسلمت إلى الملك الصالح بالأمان رابع يوم من دخولهم إلى دمشق». ولم تتفق رواية نسخة س مع المصادر المعروفة المتداولة إذ ذكر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 246): «وحصر القلعة يوما أو يومين وفتحها»، وذكر ابن أيبك (الدر المطلوب، ص 336) بعد فتح دمشق: «وأصبحوا يوم الأربعاء ثامن عشرين صفر على القلعة، ونقبوها من ناحية باب الفرج. . . واستولى على القلعة»؛ انظر أيضا، سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 480. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «فلم يزل معتقلا. . .» والصيغة المثبتة من س. (¬6) في نسخة س «ومسيره إليها» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين للتوضيح من س. (¬8) في نسخة س «تقدم»، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «كما ذكرنا».

[أسد الدين (¬1)] على عزم قصد دمشق وأخذها منه، فتقدم إلى أستاذ داره الأمير حسام الدين بن أبى على [محمد (¬2)] بالمضى بأصحابه إلى دمشق لحفظها (¬3) قبل أن يصل الملك الصالح والملك المجاهد إليها. فسار إليها حسام الدين (¬4) بجماعته مسرعا وكنت (¬5) في صحبته. فلما وصل إلى عقبة فيق اعترضه جماعة من عسكر الملك الناصر فلم يتمكنوا من مقاتلته واندفعوا عنه. وصعد عقبة فيق وسار مجدا، فلما وصل إلى الصنمين (¬6) أتاه قاصد وقت السحر ومعه كتاب من دمشق يخبر فيه أن الملك الصالح والملك المجاهد قد قصدا دمشق وهم يباكرونها. وكان ورد الكتاب بذلك إليه سحر، فقرأه على ضوء المشعل وجدّ في السير. فلما قارب الكسوة (¬7) ورد الخبر بمنازلتهما دمشق، وعلم أنه لم يبق له سبيل إلى دخولها، فرجع طالبا جهة مخدومه الملك الصالح نجم الدين، وترك ثقله وخزائنه. فترك [19 ا] الثقل والخزانة بالقرية المعروفة بخياره (¬8) في جماعة من أصحابه الذين لم يمكنهم اللحاق به. وأقاموا بالقرية المذكورة بقية ذلك اليوم والليلة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من ب وساقط من س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «بالمضى من مكانه إلى دمشق بأصحابه ليحفظها» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «فسار عند ذلك حسام الدين إليها» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) أي جمال الدين بن واصل، والسطور التالية وردت مختصرة في نسخة س مع حذف ضمير المتكلم ودون ذكر الأماكن. (¬6) الصنمان: قرية من أعمال دمشق (ياقوت، معجم البلدان). (¬7) الكسوة: بضم الكاف، قرية كانت أول منازل تنزله القوافل إذا خرجت من دمشق إلى مصر، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬8) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن خياره قرية قرب طبرية من جهة عكا قرب حطين.

القابلة، وبتّ معهم فيها. فلما كان وقت طلوع الفجر جاء جماعة كثيرة من مماليك الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل (¬1)] فأحاطوا بالثقل والخزانة ودخلوا به إلى دمشق. ودخلت البلد، والقلعة بعد لم تفتح. ثم فتحت في آخر النهار من ذلك اليوم، فتواريت ولم أظهر خوفا من صاحب حمص فإنه كان يتبع أهل حماة لعداوته لصاحبها. وبعد رحيل الأمير حسام الدين من نابلس، رحل الملك الصالح بمن معه في نابلس بالعساكر. فلما وصل إلى بيسان من الغور وصل الخبر إليه بنزول عمه الملك الصالح على دمشق وتسلمه لها. ووصل إليه الأمير حسام الدين عائدا إليه من جهة دمشق، فأمر بتحليف الجند وعنده أن القلعة لم تسلم. ولو بقيت ممتنعة حتى وصل بالعسكر إليها اندفع الملك الصالح، وصاحب حمص. ثم رحل الملك الصالح بالعسكر وقطع بهم نهر الأردن، ونزل على القصر المعروف بقصير معين الدين (¬2). فتواترت الأخبار بتسلم الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل (¬3)] قلعة دمشق، ففسدت نيات العسكر، وعلموا أنهم لا يمكنهم المقام معه والبلاد قد صارت لغيره، وأيضا فأهاليهم وأولادهم بدمشق. وتحققوا أن الملك الصالح لم يبق له ملجأ ولا وزر (¬4) وأنّ أمره قد تلاشى بالكلية (¬5). وكان معه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 288)، «القصير المعينى من الغور». (¬3) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬4) الوزر: الملجأ، وكل ما التجأت إليه وتحصنت به فهو وزر، انظر ابن منظور (لسان العرب، ج 7، ص 145). (¬5) نهاية الجزء الذى ورد مختصرا في نسخة س، انظر ما سبق، ص 231 حاشية 5.

من [ملوك (¬1)] أهل بيته [عماه (¬2)] الملك المعز مجير الدين يعقوب، والملك الأمجد تقى الدين عباس إبنا الملك العادل، والملك المظفر [تقى الدين (¬3)] والملك السعيد معين الدين إبنا الملك الأمجد صاحب بعلبك، والملك المظفر بن [الملك المجاهد (¬4)] صاحب حمص، [وكان قد فارق أباه وخدم الملك الصالح (¬5)]. فبعث هؤلاء والأمراء (¬6) [إلى الملك الصالح (¬7)] يقولون له: «لا يمكننا المقام معك هاهنا فإن أهلنا وأولادنا بدمشق فاذن لنا في الرحيل إلى دمشق» (¬8)، فأذن لهم، فضربت كوساتهم، ورحلوا وهو ينظر إليهم. وكان له خادم يقال له شهاب الدين فاخر [هو من أقرب الخدام إليه (¬9)] [19 ب] فنهب (¬10) شيئا كثيرا من قماشه [وخزائنه (¬11)]، واستصحب جماعة من مماليكه الأصاغر وغلمانه وهرب (¬12) مع العسكر [بهم (¬13)]. [وجاءه القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن الزر زارى قاضى سنجار - وهو أجل أصحابه - وله من اليد عنده ما قدمناه من الإصلاح بينه وبين ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش في نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬6) في نسخة ب «الأمراء» والصيغة المثبتة من س. (¬7) في نسخة س «إليه» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «إنا لا يمكننا المقام معك هنا وأهالينا بدمشق فتأذن لنا في السفر إلى دمشق» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬10) في نسخة س «فأخذ» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬12) في نسخة ب «ورحل» والصيغة المثبتة من س، عن هروب الطواشى شهاب الدين فاخر انظر أيضا، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 288. (¬13) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

الخوارزمية حتى رحّلوا عنه صاحب الموصل فاستأذنه في المضى إلى دمشق فأذن له. ورحل العسكر كلهم ومن كان معه من الكتاب والمتصرفين والغلمان إلى دمشق] (¬1). ولم يبق [مع الملك الصالح نجم الدين أيوب (¬2)] [من أمرائه] (¬3) غير خمسة أنفس (¬4)، أو ستة منهم الأمير حسام الدين بن أبى على [أستاذ داره (¬5)]، وزين الدين أمير جاندار (¬6)، وشهاب الدين بن سعد الدين بن كمشبة (¬7)، وأبوه (¬8) سعد الدين ابن عمة الملك الكامل، [وشهاب الدين بن الغرس] (¬9). وبقى معه من مماليكه الأكابر [جماعة، ذكر لى أنهم كانوا سبعين نفسا (¬10)]. وبقى معه كاتب الإنشاء بهاء الدين زهير (¬11). وأقام (¬12) الملك الصالح [نجم الدين أيوب] (¬13) بمنزلته بعد أن فارقه [أصحابه وعساكره (¬14)] بقية يومه. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ورد مختصرا في غير مكانه في نسخة س، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «عنده». (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س وفى ب «من أمراؤه» وهو تحريف. (¬4) في نسخة س «نفر» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س وكذلك في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 288). (¬6) كذا في نسختى المخطوطة، وفى المقريزى (السلوك، ج 1، ص 288) «جانداره». (¬7) في نسخة ب «كشبا» وفى نسخة س «كمى» وفى المقريزى (السلوك، نفس المصدر والجزء والصفحة) «كوجبا» والصيغة الصحيحة هى المثبتة، انظر ما سبق، ابن واصل، مفرج الكروب ج 4، ص 217 وحاشية 2. (¬8) في نسخة س «وكان أبوه» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب، وورد الاسم في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 288) «شهاب الدين البواشقى». (¬10) ما بين الحاصرتين من ب وفى س «وهم جماعة قليلون». (¬11) في نسخة س «وتخلف معه كاتبه بهاء الدين زهير»، والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة س «فأقام». (¬13) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬14) في نسخة س «العسكر»، وما بين الحاصرتين مثبت في ب.

ولما جنه الليل أمر أن لا تشعل الفوانيس [ولا المشاعل (¬1)]، [ثم رحل بمن بقى معه من أصحابه ليلا طالبا جهة نابلس (¬2)]. فحكى لى [بعد ذلك (¬3)] الأمير حسام الدين قال: لما فارق الملك الصالح [نجم الدين أيوب العسكر ورحل من منزلته (¬4)] اختلفت كلمة الجماعة الذين بقوا معه (¬5)، فمنهم من أشار بالمضى إلى الشقيف (¬6) والتحصين به، فلم ير هذا مصلحة، وعلم أن الملك الصالح [اسماعيل (¬7)] عمه ربما قصده، وحاصره حتى يأخذه ويقبض عليه. ومنهم من أشار عليه بأن يمضى (¬8) إلى الشرق فإن له به حصن كيفا، وهو حصن منيع، وقلعة الهيثم وغيرها من معاقل آمد. وقال هذا القائل له (¬9): «أن عمك [الملك الصالح (¬10)] قد اشتغل بملك دمشق فما له فراغ لإتباعك». فلم يجسر على هذا الأمر وخاف أن يتبع ويؤخذ والمسافة بعيدة (¬11). وقال: «ما أرى إلا التوجه إلى نابلس وألتجىء إلى ابن عمى الملك الناصر» فتوجه (¬12) إلى نابلس. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ورد ما بين الحاصرتين في صيغة مضطربة في نسخة س والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «العسكر». (¬5) في نسخة ب «هم» والصيغة المثبتة من س. (¬6) لعل المقصود بها شقيف أرنون التي قال عنها ياقوت (معجم البلدان) أنها «قلعة حصينة جدا في كهف من الجبل قرب بانياس من أرض دمشق بينها وبين الساحل»، انظر أيضا أبو الفدا، (تقويم البلدان، ص 244). (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة ب «من أشار إلى أن يمضى»، والصيغة المثبتة من س. (¬9) في نسخة س «له بهذا» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬11) في نسخة س «فلم ير أيضا أن هذا مصلحة وقال أخاف أن أتبع وأوخذ لأن المسافة بعيدة» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة س «فعند ذلك توجه»، والصيغة المثبتة من ب.

ولما (¬1) طلعت الشمس ورأى مماليكه ما هم فيه من القلة والحالة التي دفعوا (¬2) إليها [20 ا] واقعهم البكاء والنحيب. واعترضهم جماعة من العربان وغيرهم وحاربوهم، فقاتلهم الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬3)] وأصحابه فانتصر عليهم، ومضى إلى نابلس فنزل بظاهرها [بالمنزلة التي يقال لها بلاطة (¬4)]. ولما وصلت العساكر [الذين فارقوه (¬5)] إلى دمشق قوى بهم الملك الصالح [عماد الدين (¬6)] اسماعيل وتمكن أمره. وكان وزيره أمين الدولة سامريا (¬7) فأسلم في صباه، وحسن إسلامه. وكان عمه (¬8) وزير صاحب بعلبك الملك الأمجد (¬9)، [رحمه الله (¬10)]، ومدبر دولته وفيه (¬11) يقول بعض الشعراء: الملك الأمجد الذى شهدت ل‍ ... هـ البرايا بالعقل والفضل أصبح في السامرى معتقدا ... معتقد السامرى في العجل وحكى [لى (¬12)] أنه قال لابن أخيه أمين الدولة لما أسلم: «يا ولدى إن كنت ندمت على إسلامك، فأنا أسيرك إلى [بلد من] (¬13) بلاد الفرنج تكون فيه وترجع (¬14) ¬

(¬1) في نسخة س «فلما»، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «رقعوا» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س، وبلاطة بالضم قرية من أعمال نابلس، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «وكان سامريا» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «عم هذا الوزير» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «الملك الأمجد صاحب بعلبك». (¬10) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬11) في نسخة ب «فيه» والصيغة المثبتة من س. (¬12) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬13) ما بين الحاصرتين مذكور في هامش نسخة ب ومثبت في س. (¬14) في نسخة س «فترجع» والصيغة المثبتة من ب.

إلى دينك»، فقال: «ما أسلمت إلا بنية صادقة، وأنا معتقد دين الإسلام». فقال له: «إذا (¬1) كان الأمر على ما تقول فكن مسلما جيدا». ولما ملك الملك الصالح دمشق كانت أمور المملكة كلها (¬2) مفوضة إلى أمين الدولة، وكان قد صحب أمين الدولة القاضى رفيع الدين الجيلى (¬3)، وكان بدمشق خاملا وهو فقيه في بعض المدارس، فقدمه أمين الدولة. ولما (¬4) ملك الملك الصالح [عماد الدين اسماعيل (¬5)] دمشق [ولاه أمين الدولة (¬6)] المدرسة التي وقفتها (¬7) ست الشام بنت أيوب خارج البلد، وهى مدرسة جليلة (¬8). ثم اتفقت وفاة القاضى شمس الدين الخوىّ - رحمه الله - فولى أمين الدولة القضاء بدمشق لرفيع الدين الجيلى (¬9) وقربه إلى الملك الصالح، فسلك الرفيع الجيلى (¬10) سيرة ردية جدا. وسنذكر (¬11) إن شاء الله تعالى ما آل (¬12) أمره وأمر أمين الدولة إليه. ¬

(¬1) في نسخة س «إن» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة ب «كأنها» والصيغة المثبتة من س. (¬3) في نسخة س «وكان أمين الدولة قد صحب القاضى رفيع الدين الحلى» وهو تحريف، والصيغة المثبتة هى الصحيحة من نسخة ب نسبة إلى الجيل، وهى قرية من أعمال بغداد تحت المدائن (ياقوت، معجم البلدان)؛ وهو عبد العزيز بن عبد الواحد بن اسماعيل الجيلى الشافعى الملقب بالرفيع، مات مقتولا سنة 642 هـ‍، ذكر ابن تغرى بردى (النجوم ج 6، ص 642) عن أبى المظفر أنه كان فاسد العقيدة مستهترا بأمور الشريعة. (¬4) في نسخة س «لما». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «وولاه» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «أوقفتها» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) يقصد بها المدرسة الشامية البرانية التي أنشأتها ست الشام أخت الملك الناصر صلاح الدين» وكانت من أكبر المدارس وأعظمها وأكثرها فقهاء وأكثرها أوقافا، انظر النعيمى (الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 277 وما بعدها)؛ محمد كرد على (خطط الشام، ج 6، ص 81). (¬9) في س الحلى وهو تحريف. (¬10) في س الحلى وهو تحريف. (¬11) في نسخة س «وسنذكر ذلك» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة س «بما آل» والصيغة المثبتة من ب.

ولما دخلت العساكر الذين كانوا مع الملك الصالح إلى دمشق (¬1) كان فيهم نور الدين بن فخر الدين عثمان و [الأمير (¬2)] الدنيسرى وقضيب البان وهم الذين كانوا قفزوا من مصر [إلى عند الملك الصالح نجم الدين أيوب، ثم قفزوا من عنده إلى عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل. فلما استقر الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بدمشق جفل منهم (¬3)] فاعتقلهم ولم يزالوا [20 ب] في حبسه إلى أن ماتوا. وأما العسكر (¬4) الذين كانوا [تقدموا مع حسام الدين أبى على إلى غزة فإنه لما رجع إلى عند مخدومه لم يرجع أكثرهم. فلما تحققوا ما جرى على الملك الصالح نجم الدين أيوب رجعوا إلى الديار المصرية (¬5)]. وأما الملك المظفر صاحب حماة (¬6) فإنه اجتمع عليه في هذا الوقت (¬7) أمران مؤلمان جدا أحدهما القبض على الأمير سيف الدين [أبى على] (¬8) وخواص عسكره وكبراء والده (¬9)، والثانى أخذ دمشق وماجرى على الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬10)] من مفارفة العساكر له، فاستمر على الانتماء إلى الملك الصالح [نجم الدين أيوب] (¬11)، ¬

(¬1) في نسخة س «ولما دخلت العساكر إلى دمشق الذين كانوا مع الملك الصالح نجم الدين أيوب». (¬2) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدله في ب «فاستشعر الملك الصالح اسماعيل منهم». (¬4) في نسخة س «العساكر». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «قد تقدموا إلى غزة فإنهم لما بلغهم ماجرى رحلوا إلى الديار المصرية». (¬6) في نسخة س «في حماة» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «اجتمع له في الوقت» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬9) في نسخة س «وأمراء بلده وكبرائهم»، والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر قدوم الملك الناصر داود بن الملك المعظم من الديار المصرية إلى بلاده واعتقاله لابن عمه [السلطان] الملك الصالح نجم الدين [أيوب بن الملك الكامل]

وإقامة الخطبة له ببلده إلى أن جرى ما سنذكره [إن شاء الله تعالى (¬1)]. وضاق الأمر على الملك المظفر لأنه لم يبق له من البلاد إلا بعرين، وأعداؤه محيطون به من كل جانب وقد تمكنوا وقووا. ذكر قدوم الملك (¬2) الناصر داود بن الملك المعظم من الديار المصرية إلى بلاده واعتقاله لابن عمه [السلطان (¬3)] الملك الصالح نجم الدين [أيوب بن الملك الكامل (¬4)] كنا قد ذكرنا مقام الملك الناصر داود بالديار المصرية عند ابن عمه الملك العادل، وفى هذه السنة حصل عند الملك العادل وحشة من الملك الناصر (¬5) وتغير عليه، فسافر الملك (¬6) الناصر من ديار مصر ومعه الأمير سيف الدين على بن قلج فقدم إلى الكرك. واتفق ماجرى ذكره من مفارقة العساكر للملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬7)] ورجوعه إلى نابلس ومقامه بها مع شرذمة [قليلة (¬8)] من أصحابه، فأرسل [الملك الناصر] (¬9) إلى ابن عمه الملك الصالح [يطيب قلبه] (¬10) ويعده النصرة والمساعدة، وأشار عليه أن ينتقل إلى ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬2) في نسخة س «السلطان الملك». (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب، (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) في نسخة ب «منه»، والصيغة المثبتة للتوضيح من س. (¬6) في نسخة س «فلما رأى الملك الناصر ذلك سافر» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س.

الدار التي كان نازلا (¬1) بها وهى دار الملك المعظم - رحمه الله - فانتقل إليها وأذن له أن يبعث ولاته إلى غزة والسواحل. ثم قدم (¬2) الملك الناصر في عسكره إلى نابلس، ولم يجتمع بابن عمه الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬3)]. وأمر يوما بضرب البوق فضربت (¬4)، وأوهم أن الفرنج قد أغاروا على بعض النواحى فركب عسكره وجماعة الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬5)] الذين كانوا معه. وتقدم الملك الناصر حينئذ (¬6) بتسيير الملك الصالح إلى الكرك، [وكان ذلك ليلا (¬7)]. وبعث معه [21 ا] جماعة من أصحابه. ولم يصحب الملك الصالح [نجم الدين أيوب] (¬8) من مماليكه سوى [الأمير] (¬9) ركن الدين بيبرس (¬10)، وبعث معه [سريته (¬11)] أم ولده خليل المسماة (¬12) شجر الدر، وهى التي دعى لها باسم السلطنة بديار مصر، وخطب لها على المنابر مدة ثلاثة أشهر، ولم يجر هذا في الإسلام لغيرها على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى، فوصل الملك الصالح إلى الكرك وأنزل بقلعتها في دار السلطنة. وتقدم الملك الناصر إلى والدته وزوجته ¬

(¬1) في نسخة س «كان بها نازلا» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «تقدم» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) في نسخة س «ضرب». (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة س «فحينئذ تقدم الملك الناصر داود» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬10) هو غير السلطان المشهور الظاهر بيبرس البندقدارى، ولا يتعدى الأمر بين الرجلين أكثر من اتفاقهما في الأسم والشهرة. والأمير بيبرس هذا خان سيده الصالح نجم الدين أيوب وانضم إلى الخوارزمية، فخدعه ومناه الصالح أيوب حتى فارقهم سنة 644 هـ‍ - 1246 م. واعتقله بقلعة الجبل وكان آخر العهد به، انظر: المقريزى، السلوك، ج 1، ص 323؛ ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 322. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬12) في نسخة س «وهى المسماة» والصيغة المثبتة من ب.

بنت (¬1) عمه الملك الأمجد حسن بن الملك العادل أن تقوما بخدمته وبجميع وضائعه (¬2). وأرسل إليه (¬3) يقول له: «إنما فعلت هذا احتياطا عليك لئلا يصل إليك مكروه من أخيك ولا من عمك، ولو لم أسيّرك إلى الكرك لقصداك وأهلكاك (¬4)». وأمر الملك الناصر شهاب الدين ونجم الدين إبنى شيخ الإسلام بملازمة خدمة الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬5)] وتأنيسه. وكان هذان من أخص أصحاب الملك الناصر وأجناده (¬6). وكان شهاب الدين مع جنديته فاضلا فقيها ولى التدريس بالمدرسة الجاروخية بدمشق (¬7)، فكان يجمع بين الجندية والفقه. وهما من الأكراد. ولما ملك الملك الصالح [نجم الدين أيوب بعد ذلك] (¬8) الديار المصرية، قصداه لما حصل بينه وبينهما في الكرك من الصحبة، فأكرمهما وأحسن إليهما وأعطاهما أخبازا جيدة بمصر. ورتب شهاب الدين بدار العدل لإزالة ما يرفع من المظالم. ¬

(¬1) في نسخة س «ابنة» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) الوضائع جمع وضيعة وهى أثقال القوم، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 10 ص 281. (¬3) في نسخة س «وبعث» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) عن مسير الصالح نجم الدين أيوب إلى الكرك وحياته بها، انظر سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 481؛ ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 337 - 338. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة س «وأمرائه» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «بمدرسة في دمشق» والصيغة المثبتة من ب، والمدرسة الجاروخية من مدارس دمشق بناها سيف الدين جاروخ التركمانى داخل بابى الفرج والفراديس شمالى الجامع الأموى والمدرسة الظاهرية الجوانية، وقد بنى جاروخ هذه المدرسة برسم المدرس الامام المجير الواسطى البغدادى المتوفى سنة 592 هـ‍؛ انظر النعيمى، الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 225 - 232؛ محمد كرد على، خطط الشام، ج 6، ص 78. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

وكان فيها معه - في أول ملك الصالح - القاضى الشريف شمس الدين قاضى العسكر، وفخر الدين بن القاضى عماد الدين بن السكرى، والفقيه عباس خطيب القلعة وغيرهم مع قاضى القضاة بالديار المصرية. وقتل نجم الدين بن شيخ الإسلام شهيدا لما قدم الفرنج إلى دمياط. وكان أولاد الملك الناصر [داود (¬1)] لا يزالون في خدمة الملك الصالح في الكرك (¬2) وبين يديه، ويحضر له كل ما (¬3) يشتهيه من الأطعمة والأشربة والملابس، فكان لا يفقد شيئا إلا الملك. وخيّر الملك الناصر [داود (¬4)] أصحاب الملك الصالح الذين كانوا معه [بأن يقيموا عنده ويجرى (¬5)] عليهم من الإحسان [21 ب] والإنعام ما كان جاريا عليهم في أيام مخدومهم، [وخيرهم بين ذلك (¬6)] وبين أن يسافروا حيث شاؤا. ووعدهم أنه لا بد أن يخرج مخدومهم من الاعتقال ويقوم بنصرته إذا أمكنه ذلك. فاختار مماليك السلطان الملك الصالح وأكثر أصحابه المقام عنده (¬7). فممن أقام عنده بهاء الدين كاتب الإنشاء، وشهاب الدين بن سعد الدين كمشبة (¬8). وطلب حسام الدين ابن أبى على وزين الدين أمير جاندار [منه (¬9)] دستورا فأذن لهما، فقدما دمشق ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة س «بالكرك». (¬3) في نسخة س «كلما». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «وأجرى». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬7) في نسخة س «فاختار مماليك الملك الصالح وأكبر أمرائه المقام عنده» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة ب «كمشبا» والكلمة ساقطة من نسخة س، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 217 وحاشية 2. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب.

فاعتقلهما (¬1) الملك الصالح عماد الدين بقلعة دمشق. فأما أمير جاندار فأطلقه بعد أيام، وأما حسام الدين [بن أبى على (¬2)] فأخذ [جميع (¬3)] ما كان معه، [وكان قبل ذلك كما ذكرنا قد أخذ ثقله وخزائنه من القرية المسماه خياره (¬4)]، وجعل في رجله قيدا، وحبسه في حبس الخيالة (¬5). وحبس في ذلك الحبس [معه] (¬6) جماعة [كثيرة] (¬7) من أصحاب الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬8)]. فأقام حسام الدين في حبس الخيالة، وكنت أصعد إلى القلعه واجتمع به في الحبس في أكثر الأوقات. ولما ظهر الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬9)] نقله إلى قلعة بعلبك فاعتقله في جب فيها وضيق عليه غاية التضييق إلى أن جرى ما سنذكره إن شاء الله تعالى. [وأما زين الدين أمير جاندار فإنه أطلق من الاعتقال. وكان الأمير حسام الدين يرسلنى إلى القاضى بدر الدين قاضى سنجار، وإلى محيى الدين بن الجوزى رسول الخليفة المستنصر بالله في التوسط بينه وبين الملك الصالح عماد الدين ليطلقه من الحبس، فلم يجد الحديث في ذلك شيئا] (¬10). ¬

(¬1) في نسخة ب «فأذن لهم فقدموا دمشق فاعتقلهم» والصيغة الصحيحة المثبتة من س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب، وعن قرية خياره، انظر ما سبق ص 231 حاشية 8. (¬5) بدون تنقيط في نسختى المخطوطة، والصيغة المثبتة ممايلى ص 328 والنعيمى، الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 491، وكان حبس الخيالة بقلعة دمشق. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬10) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب.

ذكر ما تجدد بمصر بعد أخذ الملك الصالح عماد الدين [اسماعيل] دمشق

ذكر ما تجدد بمصر بعد أخذ الملك الصالح عماد الدين [اسماعيل (¬1)] دمشق ولما وصل الخبر إلى مصر بما جرى على الملك الصالح [نجم الدين أيوب] (¬2) أظهر أخوه الملك العادل الفرح الكثير والسرور. وضربت البشائر، وزين البلدان القاهرة ومصر، وملئت عدة برك تحت قلعة الجبل من الجلاب (¬3) وسبل ذلك للناس. [22 ا] وأظهر الملك العادل (¬4) [وأمه (¬5)] من الاغتباط بهذا الأمر ما لا مزيد عليه. وسير الملك العادل (¬6) علاء الدين بن النابلسى رسولا إلى ابن عمه الملك الناصر داود يطلب منه أن يسير أخاه الملك الصالح نجم الدين إليه (¬7) تحت الاحتياط. فلما وصلت الرسالة بذلك إليه أنكر هذه الرسالة واستفظعها، وأبى أن يفعل ذلك وأن يخرجه من عنده (¬8). فحكى لى علاء الدين بن النابلسى (¬9)، وكان رجلا فاضلا أديبا متقنا، وأصله من نابلس، وهو ابن عم شمس الدين قاضى نابلس، يلتقى هو وهو في جد قريب. قال: لما اجتمعت بالملك الناصر أكدت معه في الباطن [أن لا نجيب (¬10)] إلى ما طلبه ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬3) الجلاّب، كلمة فارسية معربة المقصود بها ماء الورد، انظر الجواليقى (المعرب من الكلام الأعجمى، ص 154)، وانظر: القاموس المحيط، وفى المقريزى (السلوك، ج 1، ص 290) أن السلطان العادل «عمل قصورا من حلوى وأحواضا من سكر وليمون». (¬4) في نسخة ب «هو» والصيغة المثبتة من س. (¬5) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬6) في نسخة س «وسير بعد ذلك». (¬7) في نسخة س «يسير إليه أخاه الملك الصالح نجم الدين أيوب» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) وردت هذه الفقرة مختصرة في نسخة س. (¬9) في نسخة س «قال صاحب التاريخ: فحكى علاء الدين بن النابلسى المذكور. . .» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب.

منه الملك العادل، وقبحت عنده إجابته إلى مطلوبه (¬1). ولما رجع علاء الدين إلى الملك العادل وأخبره بامتناع الملك الناصر من إخراج الملك الصالح [نجم الدين (¬2)] من عنده، عاداه وتهدده بقصد بلاده وأخذها منه. فلم يلتفت الملك الناصر [داود (¬3)] إلى تهديده ووعيده. وكنا قد ذكرنا (¬4) أن الصاحب محيى الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين بن الجوزى كان نازلا عند الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬5)] بنابلس، وكان يسعى في الصلح بين الملك الصالح و [أخيه (¬6)] الملك العادل، وأن إبنه شرف الدين كان يتردد [في الرسائل (¬7)] بينه وبين الملك العادل، وأن الأمر في الصلح تقارب، وأن محيى الدين سافر إلى الديار المصرية في تتميم (¬8) هذا الأمر، واستصحب معه جمال الدين يحيى بن مطروح، فأنزل جمال الدين في دار عند بركة الفيل وأحسن إليه وأكرم. فلما وردت الأخبار بماتم على الملك الصالح خاف جمال الدين بن مطروح على نفسه واستجار (¬9) بمحيى الدين ¬

(¬1) ذكر ابن أيبك (الدر المطلوب، ص 338) على لسان الملك الصالح نجم الدين أيوب: «وحضر ابن النابلسى من مصر من عند العادل، يطلبنى من الناصر، وأبدل له فىّ مائة ألف دينار فما أجاب لذلك» انظر أيضا، سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 481 - 482، وفى المقريزى (السلوك، ج 1، ص 290) ورد أن العادل عرض أن يعطى الناصر داود «أربعمائة ألف دينار مصرية». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) انظر ما سبق ص 216، 218 - 219. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬8) في نسخة س «تمم»، وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «فاستجار»؛ والصيغة المثبتة من ب.

ذكر استنقاذ الملك الناصر داود [بن الملك المعظم] البيت المقدس من الفرنج

ابن الجوزى رسول الخليفة فأجاره. وسافر محيى الدين من القاهرة لتوفيق الحال بين الملك العادل والملك الصالح (¬1) إسماعيل وبين الملك الناصر داود صاحب الكرك، فسار (¬2) جمال الدين بن مطروح في صحبته. ذكر استنقاذ الملك الناصر داود [بن الملك المعظم (¬3)] البيت المقدس من الفرنج كنا قد ذكرنا (¬4) أن السلطان الملك الكامل - رحمه الله - كان سلم القدس إلى الفرنج في سنة ست وعشرين وستمائة على أن يكون الحرم الشريف (¬5) بما فيه من المزارات للمسلمين وكذا جميع أعمال القدس ما خلا عشر ضياع على طريق الفرنج من عكا إلى (¬6) القدس. وشرط أن يكون القدس خرابا [ولا يجدد فيه عمارة أصلا (¬7)]. فلما مات الملك الكامل وجرى ما ذكرناه من الاختلاف بين الملوك، عمّر الفرنج في غربيه قلعة جعلوا برج داود عليه السلام من أبراجها. وكان بقى (¬8) هذا البرج لم يخرب لما خرب الملك المعظم أسوار القدس. ¬

(¬1) في نسخة س «وبين عمه الملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «فسافر» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد بدلها في س «صاحب الكرك». (¬4) في نسخة ب «قد كنا ذكرنا» والصيغة المثبتة من س، انظر ما سبق، ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4، ص 241 وما بعدها. (¬5) في نسخة س «وما فيه» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «ما خلا عشر ضياع هى طريق الفرنج إلى القدس من عكا» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬8) في نسخة س «وكان قد بقا» والصيغة المثبتة من ب.

ولما جرى ما ذكرناه من اعتقال الملك الصالح [نجم الدين أيوب] (¬1) بالكرك، توجه الملك الناصر داود بعسكره ومن معه من أصحاب الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬2)] إلى القدس، ونازل القلعة التي بناها الفرنج، ونصب عليها المجانيق (¬3)، ولم يزل مصابرا لها حتى سلمت إليه بالأمان. ولما سلمت إليه هدمها، وهدم برج داود عليه السلام. واستولى الملك (¬4) الناصر على القدس [الشريف (¬5)] وطهره من الفرنج، ومضى من كان فيه من الفرنج إلى بلادهم. واتفق عند هذا الفتح وصول محيى الدين بن الجوزى رسول الخليفة وصحبته جمال الدين بن مطروح، فقال جمال الدين (¬6) يمدح الملك الناصر داود، ويذكر مضاهاته [في فتح القدس (¬7)] لعمه الملك الناصر صلاح الدين يوسف مع اشتراكهما في اللقب والفعل وهو معنى لطيف مليح (¬8): المسجد الأقصى له عادة ... سارت فصارت مثلا سائرا إذا غدا بالكفر مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصرا فناصر (¬9) طهره أولا ... وناصر (¬10) طهره آخرا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «المناجنيق» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «السلطان الملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة س «جمال الدين بن مطروح». (¬7) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س بعد «صلاح الدين يوسف». (¬8) في نسخة ب «في اللقب وهو معنى لطيف» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن المقريزى (السلوك، ج 1، ص 292). (¬9) في نسخة س «فناصره» وبه لا يستقيم الوزن والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب ومن المقريزى، السلوك، ج 1، ص 292. (¬10) في نسخة س «وناصرا» والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن المقريزى، السلوك، ج 1، ص 292.

ووصل محيى الدين بن الجوزى إلى دمشق (¬1) ومعه جمال الدين بن مطروح، فأنزل محيى الدين بن الجوزى في دار الملك الصالح عماد الدين [إسماعيل (¬2)] بدرب الشعارين، ونزل جمال الدين بن مطروح بمدرسة عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد. [23 ا] وكان الملك الصالح [عماد الدين (¬3)] يجىء [كل يوم] (¬4) إلى خدمة محيى الدين بن الجوزى. وأخذ محيى الدين في الإصلاح بينه وبين الملك الناصر داود وبين الملك العادل. ولم (¬5) ينتظم في ذلك أمر لأن الملك الناصر كان لا يرضيه إلا أن ترد دمشق إليه. ثم سافر جمال الدين بن مطروح [ووصل إلى حماة، واجتمع (¬6)] بالملك المظفر صاحبها فأنزله بدار زين بن قرناص، وهى على النهر العاصى المعروفة (¬7) اليوم بالأمير مبارز الدين الملكى المنصورى - رحمه الله -[فأقام بها أياما (¬8)]. ثم سافر جمال الدين بن مطروح بتقرير بينه (¬9) وبين الملك المظفر [تقى الدين (¬10)] إلى الشرق، واجتمع بالأمير حسام الدين بركتخان (¬11) - مقدم الخوارزمية - ¬

(¬1) في نسخة س «ولهذا جمال الدين بن مطروح أشعار بديعة حسنة وافرة ثم رحل محيى الدين طالب دمشق» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين ورد في نسخة س في آخر الجملة، والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «فلم». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وفى س «إلى حماة فلما وصل اليها اجتمع». (¬7) في نسخة س «وتعرف» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) في نسخة س «ما بينه» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬11) في نسخة س «بركة خان».

وتحدث معه في القيام بنصرة الملك الصالح نجم الدين. وكانت معه أيضا (¬1) رسالة من الملك الناصر داود مضمونها أن الملك الصالح لم يتركه الملك الناصر في الكرك (¬2) معتقلا، [وإنما صان (¬3) بإنزاله بالكرك] مهجته، خوفا عليه من أخيه [الملك العادل (¬4)] وعمه الملك الصالح، وإنه سيخرجه ويملكه البلاد (¬5)، فالمصلحة أن يتحركوا (¬6) «وتغيروا على بلاد (¬7) حلب وبلاد صاحب حمص» ثم عاد جمال الدين [بن مطروح (¬8)] بعد أن قضى هذا المهم (¬9) إلى حماة فأقام بها. وكان بدر الدين قاضى سنجار لمّا استأذن الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬10)] على القصد (¬11) في الدخول إلى دمشق [وأذن له فيه، دخل (¬12)] إلى دمشق مع العسكر وأقام بها. وتردد إلى خدمة الملك الصالح اسماعيل، وكان يعرفه من أيام الملك الأشرف. وأيضا فلمّا مات الملك الأشرف وبعث الملك الصالح إسماعيل ولده الملك المنصور إلى سنجار [واستولى عليها، نازلها - كما ذكرنا - الملك الصالح ¬

(¬1) في نسخة س «وكانت أيضا معه». (¬2) في نسخة س «لم أتركه في الكرك» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «وانما صنت مهجته» والصيغة المثبتة من ب، وفى المقريزى (السلوك، ج 1، ص 292) «إلا صيانة لمهجته». (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من المقريزى (السلوك، ج 1، ص 292). (¬5) في نسخة س «وسأخرجه وأملكه البلاد». (¬6) في نسخة س «أن تتحركوا». (¬7) في نسخة س «بلد» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬9) في نسخة س «هذا الأمر إليهم» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬11) في نسخة س «السير». (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وفى س «فأذن له فدخل».

نجم الدين (¬1)]. وكان (¬2) القاضى بدر الدين متوليا (¬3) للحكم فيها فتوسط بين الملك المنصور وابن عمه (¬4) الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬5)] حتى يسلم الملك الصالح سنجار. ومضى الملك المنصور إلى أبيه، فأقبل الملك الصالح إسماعيل على القاضى بدر الدين واحترمه (¬6). ثم إنه سيّره رسولا إلى سلطان الروم غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ في توفيق الحال بينه وبينه، واعتمد عليه في ذلك. وكان القاضى بدر الدين هواه مع الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬7)] وإنما فارقه للضرورة، فتوجه القاضى بدر الدين إلى بلاد الروم واجتمع بالسلطان غياث الدين واستماله للملك (¬8) الصالح نجم الدين وحسّن له موافقته ومساعدته على أعدائه. وضمن له عنه الموافقة والمعاضدة (¬9) من الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬10)]. ورجع من عنده وقد بلغه خروج الملك الصالح نجم الدين واتفاقه مع ابن عمه الملك الناصر [داود (¬11)]- على ما سنذكره [إن شاء الله تعالى] (¬12). فلم [يمكن القاضى ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وفى س «فاستولى عليها، فلما تملك الملك الصالح نجم الدين أيوب نازل مدينة سنجار». (¬2) في نسخة س «وكان هذا» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «متولى» وهو تحريف والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «وبين ابن عمه» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة س «فاحترمه». (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة س «إلى الملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «وضمن عنه الموافقة والمعاضدة له» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

بدر الدين (¬1)] المضى إلى دمشق فمضى إلى الإسماعيلية مستجيرا بهم وخائفا من الملك الصالح إسماعيل (¬2). وكان مقدم الإسماعيلية (¬3) يومئذ رجلا من العجم ورد من الألموت (¬4) يقال له تاج الدين. اجتمعت (¬5) أنا به، وكانت بينى وبينه مودّة، فأجاره تاج الدين. [ووصل إليه رسول الملك الصالح إسماعيل يطلب منه إنفاذ القاضى بدر الدين (¬6)] فمغلطه ولم ينفذه. وتقدّم إلى القاضى بدر الدين أن يلتجىء إلى الملك المظفر، فجاء إلى حماة فأكرمه الملك المظفر وأنزله في داره المعروفة بدار الأكرم، وصار يجتمع به في غالب الأوقات، فمرة يستدعيه إليه، ومرة ينزل إليه ويؤانسه ويحادثه. وصارت حماة في تلك المدة ملجأ لأصحاب الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬7)] وملاذا وموئلا. ووصل إلى حماة من أصحاب الملك الصالح [نجم الدين (¬8)] جماعة من الأجناد وجماعة من المعمّمين منهم جمال الدين بن مطروح، والقاضى بدر الدين قاضى سنجار، والقاضى عزّ الدين بن القاضى نجم الدين بن أبى عصرون، وأصيل الدين الأسعردى إمام الملك الصالح وغيرهم. وقصاد الملك المظفر وجواسيسه لا ينقطعون عن الخوارزمية والملك الناصر داود. وكان يخطب للملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬9)] وهو معتقل ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «يمكنه». (¬2) في نسخة س «الملك الصالح عماد الدين». (¬3) في نسخة ب «مقدمهم» والصيغة المثبتة من س. (¬4) عن قلعة ألموت انظر ما سبق ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4، ص 315 حاشية 4. (¬5) في نسخة س «قال صاحب هذا التاريخ: اجتمعت. . .» والصيغة المثبتة من ب والمقصود مؤلف الكتاب القاضى جمال الدين بن واصل. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وفى س «فلما أجاره وبلغ خبره الملك الصالح عماد الدين أنفذ يطلب القاضى بدر الدين». (¬7) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب.

في الكرك. ثم قطع خطبته وسير القاضى شهاب الدين ابراهيم بن عبد الله بن أبى الدم [قاضى حماة (¬1)] رسولا في الظاهر إلى الملك الصالح [عماد الدين (¬2)] إسماعيل والملك الناصر والملك العادل (¬3)، وحمّله رسالة في الباطن [24 ا] إلى الملك الناصر داود، يشير (¬4) عليه بإخراج [السلطان (¬5)] الملك الصالح ومساعدته على قصد الديار المصريّة، فتوجه القاضى شهاب الدين إلى دمشق وأدّى رسالته إلى الملك الصالح إسماعيل. ثم توجه إلى نابلس فأدى الرسالة الباطنة للملك الناصر (¬6) المتضمنه إخراج الملك الصالح [نجم الدين أيوب] (¬7)، فوعده الملك الناصر بذلك، وحلف له عليه، وأعطاه يده على ذلك. ثم توجه إلى مصر وأدّى إلى الملك العادل رسالة مضمونها أن مخدومه الملك المظفر قد قطع خطبة الملك الصالح [نجم الدين أيوب] (¬8) وما بقى له (¬9) إلا الانتماء إليه والدخول في طاعته. وطلب اليمين للملك المظفر. فأنزله (¬10) الملك العادل وأكرمه [غاية الإكرام (¬11)]. [وسافر محيى الدين بن الجوزى من دمشق نحو الديار المصريّة، واجتمع بالملك الناصر داود وأخذ معه في أن يتفق مع الملك العادل وعمهما الملك الصالح ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من ب وساقط من س. (¬2) ما بين الحاصرتين من س. (¬3) في نسخة س «والملك العادل والملك الناصر». (¬4) في نسخة ب «ويشير»، والصيغة المثبتة من س. (¬5) ما بين الحاصرتين من ب وساقط من س. (¬6) في نسخة ب «وأدى اليه الرسالة الباطنة» والصيغة المثبتة من س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) في نسخة س «وما بقاء» وهو تحريف والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «فعند ذلك أنزله» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر استيلاء بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على سنجار

عماد الدين، فامتنع الملك الناصر أن يجيب إلا بتسليم دمشق إليه. فرحل محيى الدين إلى الديار المصريّة وأقام بها عند الملك العادل (¬1)]. وتوجه من حلب الصاحب كمال الدين بن العديم إلى الديار المصريّة رسولا من الصاحبة والدة الملك العزيز [تطلب منه تسيير عماته بنات العادل اليها فأجاب إلى ذلك (¬2)]. ذكر استيلاء بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على سنجار قد تقدم [منا] (¬3) القول بأن الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود اعتاض عن دمشق بسنجار [والرقة (¬4)] وعانة. ولمّا جرى ما ذكرناه من الاختلاف، قصد بدر الدين [لؤلؤ (¬5)]- صاحب الموصل - سنجار، وكان الملك الجواد غائبا عنها فملكها. وبقى في يد (¬6) الملك الجواد عانة فباعها للخليفة (¬7) [المستنصر بالله بمال حمل إليه] (¬8)، فذهب عنه العوض والمعوض. وسيأتى (¬9) ذكر ما آل إليه أمره إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س وورد بدله «وعاد ابن الجوزى إلى بغداد» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب وذكر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 247) سفارته للقاهرة عند حديثه عن دخول الصالح نجم الدين أيوب القاهرة «وكنت إذ ذاك بالقاهرة، رسولا إلى الملك العادل أهنئه بكسر عسكره الافرنج على غزة، وأطلب أن يسير عماته بنات الملك العادل معى إلى اختهن الملكة إلى حلب. . .». (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «وبقى بيد» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة ب «فباعها من الخليفة» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة س، انظر أيضا سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 483. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وفى س «لها وللرقة بمال جزيل حمله اليه». (¬9) في نسخة س «وسنذكر» والصيغة المثبتة من ب.

ذكر وفاة الملك المجاهد صاحب حمص

ذكر وفاة الملك المجاهد صاحب حمص وفى هذه السنة توفى الملك المجاهد أسد الدين [شير كوه بن محمد بن شير كوه (¬1)] صاحب حمص، وكان رجع (¬2) إلى حمص بعد أخذه لدمشق للملك الصالح [عماد الدين إسماعيل من الملك الصالح نجم الدين أيوب وقبضه على الأمير سيف الدين بن أبى على وعلى عسكر حماه وموت الملك الكامل، وقد بلغ جميع أغراضه كلها (¬3)]. ومن بلغ الحد انتهى. فلحقه [بعد (¬4) ذلك] مرض شديد [24 ب] وتوفى (¬5) بقلعة حمص، فكانت مدة ملكه لحمص وبلادها نحو ست (¬6) وخمسين سنة وكسر؛ فإنه ملك حمص لما مات أبوه ناصر الدين محمد بن أسد الدين شير كوه في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة فأقره ابن عم أبيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب - رحمه الله - على حمص (¬7). وكان عمر الملك المجاهد يومئذ اثنتى عشرة سنة، فكان [جملة (¬8)] عمره نحو ثمان (¬9) وستين سنة. ذكر سيرته رحمه الله [تعالى (¬10)] كان [الملك المجاهد (¬11)] ملكا حازما شجاعا داهية (¬12) متيقظا عاقلا ذكيا فطنا ضابطا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬2) في نسخة س «قد رجع». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «وقبضه على عسكر حماه ونيل أغراضه كلها». (¬4) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬5) في نسخة س «فتوفى». (¬6) في نسخة س «ستة»، وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «على مملكة أبيه» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬9) في نسخة س «ثمانية» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬12) في نسخة س «ذا همة»، والصيغة المثبتة من ب.

لأعمال مملكته. وكانت الفرنج جيرانه فبنى الأبراج بينه وبينهم، فكان إذا أتاه الخبر بحركتهم إلى طرف من أطرافه، أدركهم قبل أن يصلوا إلى ذلك الطرف وقاتلهم ودفعهم [وانتصف منهم (¬1)]، وحمى الطريق التي بين دمشق وحمص منهم ومن العرب. فإن الفرنج كانوا يقصدون وادى الربيعة من حصن الأكراد، والعرب [من خفاجة (¬2)] وغيرهم كانوا يقطعون الطريق على القوافل عند روابى العلمين. فحفظ الطريق من الطائفتين [وغيرها (¬3)]، فكانت له مع الطائفتين وقائع كثيرة لا تحصى (¬4). وحكى لى (¬5) أن الفرنج مرة أخذوا قفلا في وادى الربيعة واستاقوهم معهم ليمضوا بهم إلى حصن الأكراد. وبلغ (¬6) الملك المجاهد الخبر فلحقهم قبل أن يصلوا إلى حصن الأكراد فأسرهم جميعهم واسترد (¬7) القفل المأخوذ منهم. وكان في القفل رجل صوفى فأخبر الملك المجاهد أن رجلا من أولئك الفرنج ما زال يصفعه، إلى أن وصل السلطان وخلّص القفل. وكان ذلك الفرنجى غليظ (¬8) الرقبة، فقال الملك المجاهد [لذلك الصوفى (¬9)]: «أفعل أنت به كما فعل بك»، فتسلمه الصوفى وما زال يصفعه إلى باب حمص. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد بدله في س «أيضا». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) في نسخة س «وكان له وقائع كثيرة مع الطائفتين وغيرهما لا تحصى» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «قال: وحكى أن» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «فبلغ»، والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «وخلص»، والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة ب «غليض»، والصيغة المثبتة من س. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب.

ذكر إستيلاء الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد على حمص وبلادها

وكان الملك المجاهد [مع ذلك (¬1)] عنده ظلم كثير وعسف لرعيته، وتشديد (¬2) في استخلاص الأموال [منهم (¬3)]. وكان إذا حبس إنسانا نسيه، وبقى في حبسه مدة (¬4) طويلة أو إلى أن يموت. ولفرط جوره في رعيته منع النساء بحمص (¬5) أن تخرج واحدة من باب [25 ا] المدينة خوفا أن يأخذ أهل البلد عيالاتهم ويهربوا (¬6). وأخباره في العسف والجور (¬7) كثيرة مشهورة. ولم يشرب الخمر عمره (¬8)، وكان مواظبا على الصلوات [الخمس في أوقاتها (¬9)]، غير مقبل على شىء من اللهو، بل أوقاته كلها مصروفة [إلى الجند والنظر في المصالح لهم (¬10)]. وكان شديد المكر دقيق المكائد (¬11). وكان حسن الصورة ذاهيئة جميلة وأبهة وجلالة وشيبة حسنة (¬12). ذكر إستيلاء الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد على حمص وبلادها ولما توفى الملك المجاهد [أسد الدين شيركوه صاحب حمص (¬13)] كان في يده من ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬2) في نسخة ب «وتشديده» والصيغة المثبتة من س. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬4) في نسخة س «إلى مدة» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «من أهل حمص» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «ويهربون» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «في الجور والعسف»، والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «ومع هذا فكان لا يشرب الخمر مدة عمره كله» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) في نسخة ب «إلى الجد والنظر في مصالحه» والصيغة المثبتة من س. (¬11) وردت الجملة في نسخة س «وكان شديد دقيق الحيل» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) وردت الجملة في قليل من التحريف في نسخة س «وكان حسن الصورة داهية جميلة وذو هيبة وجلالة سنيه حسنة» والصيغة الصحيحة المثبتة من ب. (¬13) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

ذكر خروج [السلطان] الملك الصالح نجم الدين من الكرك واتفاقه مع ابن عمه الملك الناصر داود [بن الملك المعظم]

البلاد حمص، والرحبة، وتدمر، وسلمية وقلعتها المسماة (¬1) شميميش (¬2)، فاستولى ابنه الملك المنصور [ابراهيم (¬3)] عليها. وجرى في المصافاة والمعاضدة للملك الصالح إسماعيل مجرى والده، وكذلك جرى مجرى والده في معاداة الملك المظفر صاحب حماة. ثم اتفق (¬4) الملك المظفر مع خالته الصاحبة صاحبة حلب -[رحمها الله - ظاهرا (¬5)]، فأطلقت له القرايا المفردة من ضياع المعرة؛ وهى الضياع التي كانت جارية في إقطاع ابن المقدم، [فأخذها الملك المظفر (¬6)] وأظهر لخالته الموافقة، وهو في الباطن يعمل في تقرير قواعد السلطان الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬7)]. ذكر خروج [السلطان (¬8)] الملك الصالح نجم الدين من الكرك واتفاقه مع ابن عمه الملك (¬9) الناصر داود [بن الملك المعظم (¬10)] وفى أواخر شهر رمضان من هذه السنة - أعنى سنة سبع وثلاثين وستمائة - أفرج الملك الناصر [صلاح الدين (¬11)] داود عن ابن عمه [السلطان (¬12)] الملك الصالح ¬

(¬1) في نسخة س «المسمى» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «شميمس» والصيغة المثبتة من نسخة ب، انظر ما سبق ابن واصل، ج 4، ص 282 حاشية 7. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬4) في نسخة س «واتفق»، والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬9) في نسخة س «السلطان الملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س.

نجم الدين [أيوب (¬1)]. وسير إليه يستدعيه ليحضر عنده بنابلس، [فرحل الملك الصالح من الكرك طالبا نابلس] (¬2). فحكى [لى] (¬3) بهاء الدين زهير كاتب الإنشاء - وكان كما ذكرنا عند الملك الناصر - قال: قال لى الملك الناصر اخرج إلى أستاذك لتلقيه (¬4). قال: فكدت استطير فرحا، وتوجهت إليه وأنا أنشد: يا هند ما جئتكم زائرا إلا ... وجدت الأرض تطوى لى ولا ثنيت العزم (¬5) عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالى قال: فلما وصلت إليه قبلت (¬6) الأرض بين يديه فوجدت عنده من الاستبشار والسرور بى مالا مزيد عليه. ووصل إلى نابلس [وأنا معه] (¬7)، فاجتمع بابن عمه الملك الناصر، وضرب له دهليز السلطنة فنزل به. واجتمع اليه (¬8) مماليكه وأصحابه الذين أقاموا عند الملك الناصر [داود (¬9)]، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) في نسخة س «لتلتقيه» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «العزة» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة ب «ووصلت وقبلت» والصيغة المثبتة من س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) في نسخة ب «واجتمع» وفى نسخة س «واجتمعت اليه» وفى المقريزى (السلوك، ج 1، ص 293) «واجتمع عليه». (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

منهم الأمير شهاب الدين بن سعد الدين، وشهاب الدين بن الغرس (¬1)، [وكاتبه بهاء الدين زهير (¬2)]. وأمر الملك الناصر بقطع خطبة الملك العادل، وخطب للملك الصالح وأظهر أمره. وتسامع به أصحابه فقصدوه من كل ناحية. ثم سار الملك الناصر صلاح الدين داود والملك الصالح نجم الدين أيوب (¬3) إلى القدس، واجتمعا (¬4) عند الصخرة المقدسة وتحالفا، فيقال انهما اتفقا على أن تكون الديار المصرية للملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬5)]، والشام والشرق للملك الناصر. وكان الملك الصالح يتأول بعد أن ملك ديار مصر أنه حلف مكرها إذ كان في الحقيقة في حكم الملك الناصر داود (¬6). ثم سارا (¬7)، بعد توكيد الأيمان بينهما، إلى غزة فخيما بها. وبلغ ذلك الملك العادل (¬8) فعظم عليه وخرج بالعساكر المصرية طالبا الوصول إلى الشام. فنزل بلبيس (¬9)، وأرسل إلى الملك الصالح عماد الدين [إسماعيل] (¬10) صاحب دمشق بأن يخرج بالعساكر الدمشقية [ويقصدهما لتلتقى عليهما عساكر دمشق ومصر ¬

(¬1) في نسخة س «وشهاب بن الغرس»، والصيغة الصحيحة المثبتة من ب، انظر المقريزى، السلوك، ج 1، ص 293. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س وكذلك في المقريزى، نفس المصدر والجزء والصفحة. (¬3) في نسخة ب «الملك الصالح والملك الناصر» والصيغة المثبتة من س. (¬4) في نسخة ب «واجتمعوا»، والصيغة الصحيحة المثبتة من س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬6) في نسخة ب «أنه تحت حكمه» والصيغة المثبتة للتوضيح من نسخة س. (¬7) في نسخة ب «ثم سار» والصيغة المثبتة من س. (¬8) في نسخة س «وبلغ الملك العادل ذلك». (¬9) في نسخة س «ببلبيس» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ويقبض عليهما، وينتزع البلاد من يد الملك الناصر (¬1)]. فرحل الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل] (¬2) من دمشق في عساكره ونزل بالغوّار من أرض السواد ومعه الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد صاحب حمص بعسكره. ولما رأى الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬3)] والملك الناصر [صلاح الدين داود (¬4)] العساكر قد طلبتهما من جهة مصر [ومن جهة دمشق (¬5)]، ولم [يأتهما مكاتبة أحد من الأمراء من جهة مصر (¬6)]، [وكانا يظنان أنهما إذا نزلا غزة كاتبتهما أمراء مصر، وقفز إليهما بعض عساكرهما. فلما لم يريا لذلك أثرا ورأيا كثرة العساكر الطالبة لهما خافا فرجعا إلى نابلس فأقاما بها وهما في غاية من الخوف والفزع (¬7)]. وعزم الملك الناصر [صلاح الدين داود (¬8)]- على ما قيل -[على] (¬9) أن يذهب [26 ا] هو والملك الصالح إلى الكرك ليعتصما بها (¬10) ويتحصنا، إذ ليس معهما من العسكر ما يقوم بحرب عساكر مصر وعساكر دمشق. وقيل بل عزم الملك الناصر [على (¬11)] أن يردّ الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬12)] إلى الاعتقال ويأخذ في مداراة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد في نسخة س في قليل من الاضطراب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «والشام»، والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬7) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س في صيغة مضطربة، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬10) في نسخة س «ويعتصما به» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬12) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س.

[عمه الملك الصالح [عماد الدين (¬1)] إسماعيل وابن عمه الملك العادل، وأن الملك الصالح نجم الدين أيوب] (¬2) اطلع على هذا، فلهذا واخذه فيما بعد به، ولم يجازه على إحسانه، والله أعلم بحقيقة ذلك. واتفق (¬3) في بعض الأيام أن الملك الصالح (¬4) انفرد بنفسه وصعد إلى جبل الطور الذى هو قبلى نابلس (¬5) وفيه مزار مشهور، [وقصد الصلاة فيه وأن يبتهل إلى الله سبحانه (¬6)] أن يفرج عنه ما هو فيه من الضيق. [فبينما هو (¬7) كذلك] إذ جاءه الفرج بما لم يكن في حسابه ولا حساب أحد (¬8) من الخلق؛ وهو أنه جاءه نجّاب بالبشرى - بما سنذكره [إن شاء الله تعالى (¬9)]- فسير النجاب إلى الملك الناصر فسر به غاية السرور ورجع عما كان عزم (¬10) عليه، وبادر إلى السفر إلى الديار المصرية. [وكان لما بلغ الملك الصالح إسماعيل، والملك المنصور صاحب حمص رجوع الملك الصالح والملك الناصر فرحا بذلك وكانا خائفين أن يكون مضيهما إلى غزة بمكاتبة وردت اليهما من مصر (¬11)]. فلما رجعا وتحققا اجتماع العساكر (¬12) ببلبيس [لحربهما (¬13)] ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) في نسخة س «فاتفق». (¬4) في نسخة س «والملك الصالح نجم الدين أيوب شديد الخوف أنه»، والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة ب «قبل» والصيغة المثبتة من س. (¬6) في نسخة س «فصلى فيه ركعتين وابتهل إلى الله تعالى» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) في نسخة س «ولا في حساب غيره»، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) في نسخة س «قد عزم» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س في صيغة مضطربة والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة س «عساكر مصر» والصيغة المثبتة من ب. (¬13) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب.

ذكر القبض على الملك العادل بن الملك الكامل ببلبيس

طمعا فيهما. ثم كتب (¬1) الملك المنصور صاحب حمص إلى [الملك (¬2)] المظفر صاحب حماة [يخبره بذلك ويقول في كتابه (¬3)] أن المحارفين قد رجعا من (¬4) غزة ولم يفلحا - يعنى (¬5) بالمحارفين الملك الناصر والملك الصالح. وأراد بهذه المكاتبة إغاظة الملك المظفر لعلمه بميله إلى الملك الصالح. [ونذكر الآن سبب مجئ النجاب إلى الملك الصالح بالفرج، إن شاء الله تعالى (¬6)]. ذكر القبض على الملك العادل بن الملك الكامل ببلبيس قد ذكرنا، ما كان الملك العادل يعانيه من اللهو واللعب وتقديمه جماعة (¬7) لا يصلحون للتقدم، وانما قدمهم لمشاركتهم له فيما [كان (¬8)] يعانيه، وإعراضه عن أكابر الدولة وعظمائهم (¬9). وإنما كان الحامل له [على (¬10)] هذا صغر سنه، فإنه كان عمره لما ولى الملك [نحو (¬11)] عشرين سنه، فنفر منه [26 ب] بهذا السبب الأمراء وأكابر الدولة. ¬

(¬1) في نسخة س «وكتب» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬4) في نسخة س «عن»، والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «فعنى» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س وساقط من ب، انظر مايلى ص 264. (¬7) في نسخة س «لجماعة» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬9) في نسخة س «وعظماؤهم» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س. (¬11) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب.

وكنا ذكرنا أنه لما بلغه خروج أخيه من الكرك واتفاقه مع الملك الناصر، برز إلى بلبيس وخيم بها، وسير إلى عمه الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل (¬1)] يأمره أن يخرج بعسكر دمشق إلى جهة الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬2)] والملك الناصر [بن الملك المعظم (¬3)]، وأنه خرج من دمشق ونزل الغوّار وخيم (¬4) به. ولما جرى ما ذكرناه اتفقت المماليك الأشرفية ومقدمهم عز الدين أيبك الأسمر وجماعة من الخدام الأكابر الكاملية منهم جوهر النوبى، وشمس الخواص (¬5)، على القبض على الملك العادل (¬6)، ووافقهم [على ذلك (¬7)] جماعة غيرهم (¬8). فركبوا وأحاطوا بدهليز الملك العادل وانتهبوا ما حوله، ورموا الدهليز، وجعلوا الملك العادل في خيمة صغيره، ووكلوا به من يحفظه. فلم يتحرك أحد من الأمراء الأكراد ولا غيرهم (¬9). ولزم كل (¬10) وطاقه. وكان ميل عز الدين الأسمر وغيره من الأشرفية إلى الملك الصالح (¬11) عماد الدين صاحب دمشق، وميل الخدام والمماليك الكاملية وأمراء ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س، وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س، وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س، وساقط من ب. (¬4) في نسخة س «ونزل بالغوار وخيم بها» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «شمس الدين الخواص» والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن المقريزى، السلوك، ج 1، ص 295، وورد الاسم في ابن تغرى بردى (النجوم الزاهره، ج 6، ص 320) «شمس الدين الخاص» انظر أيضا ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 343. (¬6) في نسخة ب «عليه» والصيغة المثبتة من س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) ورد في المقريزى (السلوك، ج 1 ص 295) «وجماعة أخر من الكاملية، وهم مسرور الكاملى وكافور الفائزى». (¬9) في نسخة ب «وغيرهم» والصيغة المثبتة من س. (¬10) في نسخة س «كل منهم»، والصيغة المثبتة من ب. (¬11) وردت الجملة في نسخة س: «وكان عز الدين أيبك الأسمر وغيره من الأشرفيه ميلهم إلى الملك الصالح عماد الدين» والصيغة المثبتة من ب.

مصر إلى الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬1)]، وكانوا أكثر عددا من أولئك وأقوى شوكة. فلم يسع الأشرفية إلا موافقتهم لأن الأكثر على خلاف رأيهم، وأيضا فلان (¬2) الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬3)] والملك الناصر بينهم وبين صاحب دمشق [الملك الصالح إسماعيل (¬4)]، فاضطروا إلى الموافقة. واتفقت كلمة الجميع على مكاتبة الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬5)] يستدعونه ليقدم عليهم ويملكوه (¬6) الديار المصرية، فسيروا النجابين والقصّاد يتبع بعضهم بعضا. [فسبق ذلك النجاب الذى تقدم ذكره والسلطان الملك الصالح على جبل الطور يدعو إلى الله سبحانه وتعالى أن يفرج عنه. وتواترت بعد ذلك النجابين عليهما (¬7)]، وهما (¬8) في غاية من الخوف من قصد العساكر المصرية والدمشقية إليهما [واتفاقهما عليهما (¬9)]. فأتاهما [من] (¬10) الفرج بعد الشدة ما لم (¬11) يسمع بنظيره في شىء من التواريخ. وكانت هذه الواقعة من أغرب الوقائع وأظرفها. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة س «فأن» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «ويملكونه» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وورد بدله في نسخة ب «وورد ذلك على الملك الصالح والملك الناصر. . .» انظر ما سبق ص 261. (¬8) في نسخة س «وهم» والصيغة المثبتة من ب والمقصود بهما الملك الصالح نجم الدين أيوب والملك الناصر داود. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬11) في نسخة س «بما».

ذكر إستيلاء [السلطان] الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل على الديار المصرية

ذكر إستيلاء [السلطان (¬1)] الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل على الديار المصرية ولما تحقق الملك الصالح والملك الناصر القبض على الملك العادل سارا [27 ا] مسرعين إلى الديار المصرية يطويان المراحل ودخلا الرمل، وفى كل (¬2) منزله ينزلا بها يصل إليهما جمع بعد جمع وأمير بعد أمير. ووصلا إلى العسكر ببلبيس (¬3)، وتسلم الملك الصالح (¬4) أخاه الملك العادل وصار في قبضته. ورحل بالعساكر إلى القاهرة. [وكان محيى الدين بن الجوزى قد عاد إلى الديار المصرية ليوفق الأمر بين الملوك على أي حال كان. فلما وصلت العساكر إلى القاهرة (¬5)]، التقاه (¬6)، محيى الدين [بن الجوزى (¬7)] رسول الخليفة والقاضى شهاب الدين [إبراهيم بن عبد الله] (¬8) ابن أبى الدم قاضى حماه ورسول الملك المظفر. وكان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬9)] موغر الصدر على محيى الدين [بن الجوزى (¬10)] لما علمه (¬11) من ميله عليه، فإنه (¬12) كان يسعى في تسليم الملك الناصر إياه إلى الملك العادل، فقصّر في إكرامه، وسر بالقاضى ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬2) في نسخة س «وبقيا في» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة ب «بنابلس» وهو تحريف والصيغة المثبتة من س، انظر أيضا ابن أيبك (الدر المطلوب، ص 339 - 340)؛ المقريزى (السلوك، ج 1، ص 295). (¬4) في نسخة س «فسلم للملك الصالح» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة ب «والتقاه» والصيغة المثبتة من س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬11) في نسخة س «لما علم» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة س «وأنه» والصيغة المثبتة من ب.

شهاب الدين رسول الملك المظفر، وأقبل عليه إقبالا كثيرا لعلمه بفرط محبة مخدومه الملك المظفر له، فإنه (¬1) تضعضعت أحواله بسبب موالاته له ولأبيه من قبله، وأن جيرانه عادوه بسببهما. وحكى لى القاضى شهاب الدين - رحمه الله - قال: قال لى الملك الناصر [داود (¬2)] يومئذ «أما (¬3) وفينا لك بالذى وعدناك به؟» - يعنى بذلك ما كنا قدمنا ذكره (¬4) أنه لما اجتمع به بنابلس حين توجهه إلى مصر، وعده بإخراج الملك الصالح وتمليكه ديار مصر. وكان القبض على الملك العادل ليلة الجمعة [ثامن (¬5)] ذى القعدة من هذه السنة - أعنى سنة سبع وثلاثين وستمائة. وكانت مدة ملك الملك العادل الديار المصرية سنتين وشهورا. ودخل الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬6)] قلعة (¬7) الجبل [بكرة الأحد (¬8)] لست بقين من ذى القعدة. وزين البلدان مصر والقاهرة وقلعة الجبل. وفرح الناس بقدومه (¬9) لنجابته وشهامته واستحقاقه الملك (¬10). ونزل الملك الناصر [داود (¬11)] ¬

(¬1) في نسخة س «وأنه» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «يا قاضى إن» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) انظر ما سبق ص 252. (¬5) ما بين الحاصرتين مثبت في نسخة ب وفى س ورد بدلها «من». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «إلى قلعة». (¬8) ما بين الحاصرتين مثبت في نسخة ب وساقط من س. (¬9) في نسخة س «وفرح الناس بالملك الصالح» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «للملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

بدار الوزارة على عادته. ثم استدعى الملك الصالح القاضى شهاب الدين - رسول الملك المظفر - ووفاه حقه من الإكرام والاحترام، وحمله من الرسالة ما يعيده على الملك المظفر (¬1)، وأكرمه إكراما كثيرا وسيره إلى صاحبه. وكذلك خلع على رسول الخليفة وسفره (¬2). وكتب إلى الديوان [العزيز (¬3)] يشكو (¬4) ما اعتمده في حقه، فلم (¬5) يعد بعد ذلك [27 ب] في الرسالة (¬6) إلى الشام ومصر، وتولى (¬7) الأستاذ داريه (¬8) ببغداد، وأنكر (¬9) عليه ما اعتمده في حق الملك الصالح. وكذلك استدعى الملك الصالح كمال الدين بن أبى جراده المعروف بابن العديم، رسول الصاحبة والدة الملك العزيز (¬10). وكانت الصاحبة أرسلته (¬11) - كما ذكرناه (¬12) - إلى الملك العادل، [ومضمون رسالته اليه، طلب (¬13)] تسيير عماته بنات الملك العادل، [ويهنيه بكسر الفرنج؛ فإنه كان على غزة - بعد اعتقال الملك الصالح بالكرك - الأمير ركن الدين الهيجاوى (¬14) في عسكر من المصريين، فقصدته ¬

(¬1) في نسخة س «وحمله رسالة إلى الملك المظفر بما يعتمد عليه وأكرمه» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «وسيره» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬4) في نسخة س «يشكو منه» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «ولم». (¬6) في نسخة س «رسالة» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) المقصود «محيى الدين بن الجوزى». (¬8) في نسخة س «الاستدارية». (¬9) في نسخة س «وقد أنكر». (¬10) انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 247. (¬11) في نسخة س «قد أرسلته». (¬12) انظر ما سبق ص 253. (¬13) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد بدله في س «تطلب منه». (¬14) في نسخة ب «الهجاوى» والصيغة المثبتة من س ومن ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 317، 328، والمقريزى، السلوك ج 1، ص 295، 299، 310.

الفرنج والتقاهم، فأوقع بهم وقعة عظيمة، وانتصر عليهم وقتل منهم جماعة وأسر جماعة، وسير الأسرى إلى الديار المصرية. وذلك في هذه السنة التي جرى فيها ما ذكرناه من اعتقال الملك الصالح، وخروجه وملكه ديار مصر (¬1)]. فحكى [لى (¬2)] كمال الدين [القاضى ابن العديم (¬3)] قال: استحضرنى الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬4)] يوم الثلاثاء حادى عشر ذى الحجة، وقال لى: «تقبل الأرض بين يدى الستر العالى، وتعرفها أننى (¬5) مملوكها، وأنها عندى (¬6) بمحل (¬7) الملك الكامل. وأنا أعرض نفسى لخدمتها، وامنثال ما ترسم به» (¬8). قال: وحملنى مثل هذا [القول إلى (¬9)] السلطان الملك الناصر (¬10). قال [ابن العديم (¬11)]: فنزلت من مصر، واجتمعت بالملك الصالح عماد الدين إسماعيل في رابع المحرم سنة ثمان وثلاثين وستمائة. فحملنى رسالة إلى الملكة خاتون (¬12)، ¬

(¬1) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س في قليل من الاختلاف. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 247. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 247. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 247) «الملك الصالح أيوب». (¬5) في نسخة ب «أنى» والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة س ومن ابن العديم، ج 3، ص 247. (¬6) في نسخة س «وأنى عند» والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم، ج 3، ص 247. (¬7) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة) «في محل». (¬8) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم، «وامتثال أمرها فيما تأمر به». (¬9) ما بين الحاصرتين من ابن العديم (زبدة الحلب ج 3، ص 247). (¬10) في نسخة س «وحملنى مثل ذلك الملك الناصر» وهو تصحيف إذ المقصود الملك الناصر صلاح الدين بن الملك العزيز صاحب حلب. (¬11) ما بين الحاصرتين للتوضيح، انظر زبدة الحلب، ج 3، ص 247 - 248 (¬12) في نسخة س «فحملنى رسالة اليها أيضا» وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 247) «وحملنى رسالة إلى الملكة الخاتون» والصيغة المثبتة من ب.

يطلب منها معاضدته ومساعدته على الملك الصالح نجم الدين. فلم تجبه إلى ذلك في ذلك الوقت (¬1). ولما وردت (¬2) الأخبار باستيلاء الملك الصالح [نجم الدين (¬3)] على الديار المصرية، حصل عند الملك المظفر من السرور والابتهاج شىء عظيم، وتيقن الظفر (¬4) على مجاوريه، واستعادة ما أخذ (¬5) من بلاده، وغير ذلك. وزينت قلعة حماة (¬6) زينة عظيمة بحيث عمت (¬7) الزينة جميع أبراجها، وأمر بإقامة الخطبة للملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬8)]. ونثرت الدراهم والدنانير. [وكان قبل ذلك قد وصلته كتب الملك المنصور صاحب حمص، والملك الصالح إسماعيل يخبران فيه بخروج الملك الصالح من الكرك، وتوجهه هو والملك الناصر إلى غزة. ثم وردت كتبهما تخبر بعودهما إلى نابلس بأسوأ حال. ثم وردت كتبهما تخبر برجوعهما إلى غزة، ودخول الرمل. ثم انقطعت الأخبار مديدة، وتألم خوفا أن يجرى مالا يؤثره. ¬

(¬1) ورد بعد ذلك في نسخة س وحدها: «وأوردت على الصاحبة مقالة ابن أخيها ففرحت بذلك، وأوردت عليها مقالة الملك الناصر صاحب الكرك فأوعدته بكل جميل في ذلك الوقت» ولم يرد هذا القول في نسخة ب أو في ابن العديم. (¬2) في نسخة س «تواترت» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) في نسخة س «وقد تيقن بالظفر» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «ما أخذ منه من» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة ب «القلعة» والصيغة المثبتة من س. (¬7) في نسخة س «حتى عمت» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

ذكر رجوع الملك الناصر داود بن الملك المعظم إلى بلاده مستوحشا من [ابن عمه] الملك الصالح نجم الدين [أيوب]

فورد خبر من جهة اللاذقية، أنه ورد من أخبر أنه سمع الحطبة للملك الصالح نجم الدين بالإسكندرية من الواصلين إلى اللاذقية في البحر. ثم تواترت الأخبار باستيلائه على الديار المصرية، فتمت له بذلك المسرة] (¬1). ذكر رجوع الملك الناصر داود بن الملك المعظم إلى بلاده مستوحشا من [ابن عمه] (¬2) الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬3)] ولما ملك الملك الصالح ديار مصر حصل عنده استشعار من الملك الناصر [داود] (¬4)، واستوحش قلبه منه لأشياء بلغته (¬5) عنه؛ منها أنه اجتمع (¬6) بجماعة من الأمراء (¬7) في الباطن، وذكر أنه جاء ليلة إلى دار [الأمير (¬8)] ركن الدين الهيجاوى (¬9) ليجتمع به. فلم يجب الهيجاوى (¬10) إلى الاجتماع به، ورده. وبلغ ذلك الملك (¬11) الصالح [نجم الدين أيوب] (¬12). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬5) في نسخة ب «بلغه» والصيغة المثبتة من س. (¬6) في نسخة ب «من اجتماعه» والصيغة المثبتة من س. (¬7) في نسخة س «بجماعة أمراء» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) في نسخة ب «الهجاوى» والصيغة المثبتة من س، انظر ما سبق ص 267 حاشيه 14. (¬10) في نسخة ب «الهجاوى» والصيغة المثبتة من س، انظر ما سبق ص 267 حاشيه 14. (¬11) في نسخة س «إلى الملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

وكان الملك الناصر [داود (¬1)] بعد دخولهما إلى مصر (¬2) قد طلب من الملك الصالح (¬3) أن يسلم إليه قلعة الشوبك، فلم يفعل (¬4). فكان ذلك [أيضا (¬5)] سبب تغير باطن الملك الناصر (¬6)؛ فإنه كان يظن أن الملك الصالح (¬7) يبعث معه العساكر المصرية ليتسلم دمشق لنفسه وسائر ما خرج عنه من مملكة أبيه حسب ما كان اتفق بينه وبينه عند الصخرة. [والملك الصالح كان يرى أنه إنما حلف له عند الصخرة بما اقترحه عليه، إنما كان فيه مكرها لأنه كان في قبضته] (¬8). ثم بلغ الملك الناصر [داود أن الملك الصالح (¬9)] قد عزم على قبضه واعتقاله، فطلب دستورا من الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬10)]، فأعطاه فرحل راجعا إلى بلاده، وهو بين الطائع والعاصى. وحكى (¬11) لى السلطان الملك المنصور - قدس الله روحه - حكاية غريبة، وكنت سمعت [28 ب] ما يقاربها من غيره (¬12)، وهى أنه لما وصل الملك الصالح والملك الناصر إلى بلبيس، وخيما بها، اجتمع الملكان الصالح والناصر على الشراب. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة ب «قبل دخوله إلى مصر» والصيغة المثبتة من س وفى المقريزى (السلوك، ج 1، ص 298 - 299) «ولأنه سأله أن يعطيه قلعة الشوبك». (¬3) في نسخة ب «منه» والصيغة المثبتة من س. (¬4) في نسخة س «فلم يجبه إلى ذلك» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة ب «باطنه» والصيغة المثبتة من س. (¬7) في نسخة ب «أنه» والصيغة المثبتة من س. (¬8) ورد ما بين الحاصرتين في قليل من الاضطراب في نسخة س، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «أنه». (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬11) السطور التالية ساقطة من نسخة س وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط. (¬12) عن هذه الحكاية برواية أخرى أنظر: ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 340؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 297.

وكان الشراب يؤثر في الملك الناصر تأثيرا كثيرا، يخرج بسببه عن الحد. فقال للملك الصالح: «أريد أن اجتمع بالملك العادل»، وكان معتقلا في خيمة إلى جانب خيمة الملك الصالح. فأذن له في ذلك، فمضى إلى خيمة الملك العادل وقال: «تبصر أي شىء فعلت، وكيف أوقعتك في هذه الحال، وأنا قادر أن أردك إلى ملكك» فتغاضى عنه الملك الصالح لما بلغه ذلك، وغاظه فعله. ولما دخلوا القاهرة، قال الملك الصالح لبعض أصحابه: «امض إلى الملك الناصر، وخوفه منى لعله يرحل إلى بلاده، فإنى لا يمكننى القبض عليه. فإن الناس لا يعلمون صورة الحال. وينسبوننى إلى الغدر، وعدم المكافأة». فمضى ذلك الشخص، واجتمع بالملك الناصر وقال له: «إنى قد جئت إليك لحق أنعمك، فاكتم على ما أقوله لك، لئلا يؤذينى ابن عمك الملك الصالح، فإنه قد أمر بالقبض عليك، فخذ حذرك منه». فركب في ذلك الوقت الملك الناصر، وسار بأصحابه وهو خائف يترقب. وأرسل الملك الصالح ليوهمه أنهم يريدون القبض عليه، وأمرهم أن لا يقدموا عليه، ويكونوا بحيث يراهم على بعد، وأسرع هاربا هو وأصحابه حتى وصل إلى بلاده (¬1). ثم [بعد ذلك (¬2)] استشعر الملك الصالح من عز الدين أيبك الأسمر، والمماليك الأشرفية (¬3). وقيل له (¬4) أنهم قد عزموا على القبض عليه كما فعلوا بأخيه الملك العادل، ¬

(¬1) نهاية الجزء الساقط من نسخة س انظر ما سبق، ص 271 حاشية 11. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س. (¬3) في نسخة س «من عز الدين أيبك الأسمر مقدم المماليك الأشرفية ومن الماليك أيضا» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «لأنه نقل إليه أنهم» والصيغة المثبتة من ب.

وأن مقصودهم تمليك الديار المصرية لعمه الملك الصالح عماد الدين [إسماعيل (¬1)]. فخاف منهم، واحترز ولازم القلعة، وامتنع من الركوب في الموكب. وانقضت السنة، والحال على هذه الصورة، [وقد تحقق عنده ذلك (¬2)]. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

ودخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة

ودخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة (*) والسلطان الملك الصالح نجم الدين مالك الديار المصرية. وعمه الملك [29 ا] الصالح عماد الدين [اسماعيل (¬1)] مالك لدمشق، وبلادها. [والملك الناصر مالك الكرك وبلادها (¬2)]. ذكر القبض على أيبك الأسمر والمماليك الأشرفية وغيرهم من الخدام الكبار (¬3) ولما تحقق [السلطان (¬4)] الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬5)] فساد نيات [المماليك (¬6)] الأشرفية، وأنهم عازمون على الوثوب عليه، وانتزاع البلاد من (¬7) يده وتسليمها إلى عمه الملك الصالح [إسماعيل (¬8)]، أخذ في التدبير عليهم [وقال: «لا بد هؤلاء الغدارين أن يفعلوا بى كما فعلوا بأخى الملك العادل (¬9)»]. وعزم (¬10) على البطش بهم قبل أن يبطشوا به. [وكذلك علم (¬11)] فساد نيات الخدام، مثل جوهر النوبى، ¬

(*) يوافق أولها 23 يوليو سنة 1240 ميلادية. (¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة ب «ذكر القبض على المماليك الأشرفية وغيرهم» والصيغة المثبتة من س. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «منه»، والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) في نسخة س «فعزم» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) في نسخة س «وبلغه أيضا» والصيغة المثبتة من ب.

وشمس (¬1) الخواص [وغيرهما] (¬2). [وكذلك علم (¬3)] فساد [نيات (¬4)] جماعة من الأمراء الكاملية. وتحقق (¬5) أنه لا ينتظم ملكه إلا بالراحة منهم (¬6)، والاستبدال بهم. فأخذ في هذه السنة في تفريقهم. وبعث كل من خاف (¬7) غائلته إلى جهة يوهمه أنه يستكفيه أمرها، ويعتمد عليه في إصلاحها. فبعث عز الدين [أيبك (¬8)] الأسمر إلى جهة من الجهات، ثم أمر بالقبض عليه [فيها (¬9)]، فقبض عليه [فزلت به المماليك الأشرفية] (¬10). وحينئذ (¬11) تقدم بالقبض على المماليك الأشرفيه، فأخذوا عن بكرة أبيهم أخذا باليد، وأودعوا (¬12) السجون (¬13). [وهو مع ذلك يشترى المماليك الترك والخطائية، ويستخدم الأجناد ويعطيهم الأخباز الجيدة، وهو كل يوم في قوة وزيادة (¬14)]. ¬

(¬1) في نسخة س «شمس الدين»، انظر ما سبق ص 263، حاشية 5 وانظر أيضا المقريزى: السلوك، ج 1، ص 295. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «وعلم أيضا» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬5) في نسخة س «فتحقق عنده» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «من هؤلاء»، والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «من يخاف» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب، انظر أيضا، ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 343؛ المقريزى، السلوك، ج 1 ص 295. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬11) في نسخة س «فحينئذ». (¬12) في نسخة ب «فأودعوا» والصيغة المثبتة من س. (¬13) ذكر ابن أيبك (الدر المطلوب، ص 344): «ونودى في مصر والقاهرة من اختفى عنده أحد من الأشرفية شنق، وغلقت أبواب القاهرة مدة أيام، خلا باب زويلة، وذلك حرصا على مسكهم، ثم قيدوا واعتقلوا». (¬14) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

وقبض (¬1) على جوهر النوبى، وشمس الخواص وكانا متحكمين في الدولة. وقبض على جماعة من أكابر أمراء الدولة الكاملية كان لهم إدلال وتحكم. وبعث بعضهم إلى صدر (¬2)، وهى قلعة في البرية قريبة من عقبة أيلة، فاعتقلوا (¬3) بها، وبعضهم اعتقله بقلعة الجبل. وكان الأمير فخر الدين (¬4) بن شيخ الشيوخ - كما تقدم ذكره - عظيما في الدولة الكاملية هو وإخوته الثلاثة، وتمكنوا في الدولة العادلية. وكنا ذكرنا (¬5) تسيير الملك العادل عماد الدين إلى الشام، لاستخلاص دمشق من يد الملك الجواد بن مودود، فكان من قتله بقلعة دمشق ما شرحناه (¬6). وكان حين قدم الملك الصالح نجم الدين إلى نابلس، قبل أن تؤخذ دمشق منه، قد اتهم الملك العادل [بن الملك الكامل (¬7)] فخر الدين (¬8) [بن شيخ الشيوخ (¬9)]، فاعتقله في قلعة الجبل. فلما دخل الملك الصالح قلعة الجبل أخرجه (¬10)، فركب ركبة عظيمة. واجتمع [له (¬11)] خلق من الرعية، ودعوا ¬

(¬1) في نسخة س «ثم أنه بعد ذلك قبض» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن صدر قلعة خراب بين القاهرة وأيلة. (¬3) في نسخة س «فاعتقله» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «مجير الدين» وهو تصحيف. (¬5) انظر ما سبق، ص 198 - 202. (¬6) في نسخة س «وكان من قبله ما شرحناه» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة س «مجير الدين» وهو تصحيف. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬10) في نسخة س «فلما تملك الملك الصالح نجم الدين أيوب ودخل إلى قلعة الجبل أخرج مجير الدين» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

[له (¬1)] لأنه كان محببا [إلى الناس (¬2)] لكرمه، وحسن [29 ب] سيرته. فبلغ الملك الصالح [نجم الدين (¬3)] ذلك، فاستشعر منه، ولم يعجبه ذلك. وأمره (¬4) بلزوم بيته، فلزم بيته غير مضيق عليه. واستوزر الملك الصالح (¬5) أخاه معين الدين [الحسن (¬6)] ابن شيخ الشيوخ، ومكنه وفوض إليه تدبير المملكة. فقام بوزارة الملك الصالح [أحسن قيام (¬7)]. وأما [أخوهم] (¬8) كمال الدين فبقى على منزلته ومكانته التي كانت [له] (¬9) في أيام الملك الكامل. ولما قبض الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬10)] على من قبض من الأشرفية وغيرهم، شرع في تقديم مماليكه مجازاة لهم على ثباتهم في خدمته، ولزومهم له حين فارقه الناس وخذلوه. فأمّرهم واحدا بعد واحد. وكلما (¬11) قطع خبز أمير أعطاه لمملوك من مماليكه، وقدمه. حتى صار أكثر الأمراء [من] (¬12) مماليكه لاعتماده عليهم، وثقته بهم. فتمكن أمره، وأمن في ملكه. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة س «لهم». (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬4) في نسخة س «فأمره» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «ثم الملك الصالح نجم الدين استوزر» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬11) في نسخة س «فكان كلما» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س.

ثم شرع (¬1) في بناء قلعة الجزيرة (¬2) [فبناها واتخذها (¬3)] مسكنا لنفسه، وشيد أسوارها، وبنى فيها الآدر الحسان. وأنفق عليها الأموال الجليلة. وكانت الجزيرة قبل ذلك متنزها للملك الكامل، وله فيها دار للتنزه فقط، فبنى الملك الصالح فيها من الأبنية البديعة ما لم يبن ملك من ملوك الإسلام مثله. وكان الملك الصالح [نجم الدين (¬4)] مغرى بالعمارة والمساكن النزهة. وتم بناء قلعة الجزيرة، ومساكنها في مدة ثلاث سنين، وتحول إليها (¬5) وصار مقره فيها. وهى نزهة جدا لإحاطة النيل بها من جميع الجوانب. وأما الملك الناصر داود، فإنه انحرف عن ابن عمه الملك الصالح، لما (¬6) لم يحصل له مطلوبه [الذى أمله منه (¬7)]، وهو مساعدته على إسترداد بلاد أبيه (¬8). واتفق مع عمه الملك الصالح إسماعيل، والملك المنصور صاحب حمص، وصارت كلمتهم واحدة على الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬9)]. ¬

(¬1) في نسخة س «فشرع بعد ذلك» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) عرفت هذه القلعة أيضا بقلعة المقياس وقلعة الروضة والقلعة الصالحية وذكر المقريزى أن السلطان الصالح بنى فيها الدور والقصور وعمل لها ستين برجا، وبنى بها جامعا وغرس فيها جميع الأشجار، وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والأزواد؛ لتفصيل ذلك انظر المقريزى، الخطط، ج 2، ص 183 - 185؛ انظر أيضا السيوطى، كوكب الروضة، مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم 554 تاريخ تيمور. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) في نسخة ب «وتحولها» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من س. (¬6) في نسخة س «إذ لم» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬8) ذكر المقريزى (السلوك، ج 1، ص 299) أن الناصر داود سأل الملك الصالح «أن يعطيه قلعة الشوبك فامتنع السلطان من ذلك». (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س.

ذكر استيلاء الصاحبة والدة الملك العزيز على قلعة جعبر وانتقال [أخيها] الملك الحافظ إلى حلب

وأما الخوارزمية (¬1) فانه لما اعتقل الملك الصالح بالكرك امتدت أطماعهم في البلاد الجزرية (¬2)، واستولوا على قلعة حران وملكوها [وملكوا غيرها من القلاع (¬3)]. وتعدى أذاهم إلى البلاد المجاورة لهم، وكثر تثقيلهم على الملك الحافظ نور الدين أرسلان بن الملك العادل صاحب قلعة جعبر، فداراهم وبذل لهم الأموال ليكفوا عنه. ذكر استيلاء الصاحبة والدة الملك العزيز على قلعة جعبر وانتقال [أخيها] (¬4) الملك الحافظ إلى حلب واتفق أن الملك الحافظ صاحب قلعة جعبر [مع خوفه من الخوارزمية (¬5)]، أصابه فالج وخاف من ولده أن يسلم قلعة جعبر إلى الخوارزمية. فأرسل إلى أخته الصاحبة [بنت الملك العادل (¬6)] والدة الملك العزيز، يطلب منها أن تتسلم قلعة جعبر وبالس (¬7)، وأن تعوضه عن ذلك (¬8) عملا من أعمال حلب يقوم له بما يقوم به بالس (¬9) وقلعة جعبر. فاتفق الأمر بينهما على أن يتعوض بعزاز (¬10) وأعمال أخر (¬11) يعادل المجموع ما كان (¬12) في يده. ثم سير من حلب من تسلم [منه (¬13)] قلعة جعبر في صفر من هذه السنة. ¬

(¬1) في نسخة س «وأما ما كان للخوارزمية» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «الجزيرية» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «قلعة جعبر منه وبالس» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «أن يعوض عنهما غير ذلك» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «يقوم له ببالس» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «بمدينة أعزاز» وكلاهما صحيح، انظر ياقوت (معجم البلدان)، وعن هذا العوض انظر أيضا ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3 ص 248. (¬11) في نسخة س «أعمال أخرى» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة س «لما كان». (¬13) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س.

ووصل الملك الحافظ إلى حلب، وصعد إلى القلعة، واجتمع بأخته. ثم أنزل في الدار المعروفة بصاحب عين تاب، وسلم إلى نوابه قلعة عزاز (¬1) [وبلادها وما أضافوه إليها من الأعمال (¬2)]. فخرجت الخوارزمية عند ذلك، وأغاروا (¬3) على قلعة جعبر وبالس ونهبوها، ولم يسلم من أهلها إلا من خرج إلى حلب أو منبج (¬4). وفى هذه السنة توفى القاضى جمال الدين أبو عبد الله محمد بن الأستاذ، قاضى حلب في صفر. وقد ذكرنا (¬5) أنه وليها لما مات أخوه زين الدين رحمهما الله، فولى القضاء بعده نائبه [ابن أخيه القاضى كمال الدين (¬6)]، وكان يومئذ شابا لم يستكمل ثلاثين سنة. وكان حسن السيرة، سديد الأحكام. لما كنت (¬7) بمدرسة الصاحب بهاء الدين - رحمه الله - في سنة سبع وعشرين، وسنة ثمان وعشرين [وستمائة (¬8)] كان صبيا أمردا (¬9) لم يزد عمره على سبع عشرة (¬10). [وكان مولده على ¬

(¬1) في نسخة س «أعزاز». (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة ب «فأغاروا» والصيغة المثبتة من س ومن ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3 ص 248. (¬4) انظر أيضا: أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 167؛ ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 341؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 302. (¬5) انظر ما سبق ص 196. (¬6) في نسخة س «ابن أخته القاضى كمال الدين أبو محمد عبد الله» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة ب. وهو القاضى الشيخ كمال الدين أبو العباس أحمد بن القاضى زين الدين أبى محمد عبد الله ولد سنة 611 هـ‍، وتوفى سنة 662 هـ‍ عن نيف وخمسين سنة، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 249، وانظر ترجمته في السبكى، طبقات الشافعية، ج 5، ص 8. وعن والده القاضى زين الدين المعروف بابن الأستاذ، انظر ما سبق، ص 92، ص 196، حاشية 1 (¬7) يتحدث ابن واصل عن نفسه، انظر ما سبق مفرج الكروب، ج 4، ص 311 - 312. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬9) في نسخة ب «أمرد». (¬10) في نسخة س «سبعة عشر» والصيغة المثبتة من نسخة ب.

ذكر الوقعة التى كسر فيها الخوارزمية عسكر حلب

ما ذكر لى سنة إثنتى عشرة وستمائة (¬1)]. وكان له أخ أصغر منه وهو بهاء الدين يوسف. وكان كمال الدين وأخوه بهاء الدين هذا (¬2)، يحضران المدرسة. فكان بهاء الدين عنده جرأة وبحث (¬3) وذكاء كثير، وكان كمال الدين عنده عقل كثير وحياء. وتوفى بهاء الدين في حياة أبيه. وأما كمال الدين فانه استوفى الحكم من حين مات عمه جمال الدين إلى أن ملكت التتر حلب [في سنة ثمان وخمسين وستمائة (¬4)]. وسافر هو إلى مصر بعد أن كسر التتر [الملك المظفر سيف الدين قطز (¬5)] فأقام فيها (¬6) مدة يسيرة. ثم ولى قضاء حلب سنة اثنتين وستين وستمائة. ومات (¬7) بحلب قاضيا في تلك السنة بعينها رحمه الله [ورضى عنه (¬8)]. ذكر الوقعة التي كسر فيها الخوارزمية عسكر حلب قد ذكرنا (¬9) أخذ بدر الدين لؤلؤ من الملك الجواد يونس بن مودود سنجار (¬10). وأنه بعد ذلك باع عانة للخليفة (¬11) [المستنصر] (¬12) بمال أخذه منه (¬13)، [وكانت بيده الرقة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬2) في نسخة س «وأخوه هذا بهاء الدين». (¬3) في نسخة س «جرأة كبيرة وبحثا» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «بها». (¬7) في نسخة س «فمات». (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬9) انظر ما سبق ص 253. (¬10) في نسخة س «السنجار». (¬11) في نسخة ب وكذلك ابو الفدا، المختصر، ج 3، ص 169 «من الخليفة» والصيغة المثبتة من س وهو ما يتفق وسياق المعنى. (¬12) ما بين الحاصرتين للتوضيح من أبى الفدا، ج 3، ص 169. (¬13) في نسخة س «وأخذ منه قال»؛ والصيغة المثبتة من ب.

فاستولت الخوارزمية عليها (¬1)] ولم يبق بيده من البلاد شىء. فالتجأ [عند ذلك (¬2)] إلى الخوارزمية، وانضم إليهم، وكذلك انضم إليهم [أيضا (¬3)] ولد الملك الحافظ ابن الملك العادل صاحب قلعة جعبر، والملك الصالح بن الملك المجاهد صاحب حمص. فكان جمعهم يزيد على إثنى عشر [ألف فارس جياد غير الأتباع (¬4)]. ولما عاثوا في بلد قلعة جعبر وبالس (¬5) وغيرهما، خرج اليهم عسكر حلب، ومقدمهم الملك المعظم بن صلاح الدين. فنزلوا بالنقرة (¬6)، ثم رحلوا منها إلى منبج، فأقاموا بها مدة فقصدتهم الخوارزمية ومعهم جمع كثير من العرب، مقدمهم الأمير على بن حديثة من آل فضل، وهو أخو مانع. وكان أولا مع الحلبيين فاستوحش منهم لتقربهم إلى الأحلاف (¬7)، وكانوا أعداءه. [فعبر الخوارزميه بجملتهم (¬8)] الفرات من جسر الرقة، وساروا حتى نزلوا نهر بوجيار (¬9). وسمع بهم عسكر حلب، فرحلوا من منبج، ونزلوا وادى (¬10) بزاعا، وأصبح كل من الفريقين يطلب صاحبه. وكان عسكر حلب لا يزيدون على ألف وخمسمائة فارس (¬11)، لأن بعض عسكر حلب كان عند السلطان غياث الدين كيخسرو صاحب بلاد الروم، نجدة [له (¬12)] ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) في نسخة ب «وبالسا» والصيغة المثبتة من س. (¬6) كانت النقرة على بعد مرحلة واحدة من مدينة معرة النعمان، انظر: Gibb : The Damascus Chronicle of the Crusades, P. 233 note 1. (¬7) في نسخة س «لتقريبهم الأحلاف» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة ب «فعبروا لجملتهم» والصيغة المثبتة من س. (¬9) في نسخة س «لوحار» والصيغة المثبتة من ب، انظر أيضا ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 250 وحاشية 2. (¬10) في نسخة س «ونزلوا بوادى» وفى ابن العديم، نفس المصدر والجزء والصفحة «ونزلوا في وادى». (¬11) في نسخة س «لا يزيدون على أكثر من الفين وخمسمائه» والصيغة المثبتة هى الصحيحة من ب ومن ابن العديم. (¬12) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س.

على التتر، فإن التتر كانوا قد تحركوا لقصد بلاده. وبعضهم كانوا (¬1) في قلعة جعبر يحفظها، وبعضهم يتفرقون (¬2) في القلاع مثل شيزر وحارم وغيرهما، فتعبى كل واحد من الفريقين لقتال صاحبه. وجاءت الخوارزمية مع مقدمهم بركة خان (¬3)، ومعه من المقدمين صار وخان (¬4)، وكشلوخان، وبردى خان وغيرهم من المقدمين، والملك (¬5) الجواد، وابن الملك الحافظ، والملك الصالح ابن صاحب حمص، ومعهم [أيضا (¬6)] نجدة من ماردين. وعبروا نهر الذهب (¬7)، والتقى الفريقان في قرية (¬8) تسمى البيره في شهر ربيع الأول من هذه السنة، أعنى سنة ثمان وثلاثين وستمائه. فصدموا عسكر حلب صدمة تزحزحوا لها، وخرج من ورائهم على بن حديثه من جهة البساتين، فوقع على الغلمان والركابدارية (¬9)، [31 ا] وأحاطوا بالعسكر الحلبى من جميع الجهات. وانهزم عسكر حلب هزيمة قبيحة، واستولت عليهم الخوارزمية قتلا وسبيا، وأسروا الملك المعظم مقدم العسكر بعد أن جرحوه جراحات مثخنة، وقبضوا على أخيه نصرة الدين وعامة الأمراء. ولم يسلم من عسكر حلب إلا القليل، وقتل ¬

(¬1) في نسخة س «كان»، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «مفرقون»، والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة ب «بركتخان»، والصيغة المثبتة من س وكلاهما صحيح. (¬4) في نسخة ب «سارو خان» والصيغة المثبتة من س ومن ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 250. (¬5) في نسخة س «والملوك منهم الملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬7) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن أهل حلب يزعمون أن نهر الذهب هو نهر وادى بطنان الذى يمر ببزاعة. (¬8) في نسخة س «فالتقى الفريقان عند قرية» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «الركبدارية» عن الركابدارية أو الركبدارية وهم الذين يحملون الغاشية في المواكب الكبيرة، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4 ص 197 حاشية 6.

ذكر ما جرى من الخوارزمية من العيث والفساد بعد كسرهم عسكر حلب الى أن رجعوا

في المعركة (¬1) الملك الصالح بن الملك الأفضل بن صلاح لدين، وأخذ أولاد الملك الزاهر بن صلاح الدين، واستولى على (¬2) جميع أثقال العسكر. [ونهبت العرب الأحلاف - وكانوا مع الحلبيين - أكثر أثقال العسكر، وكانوا (¬3)] أشد ضررا على العسكر من أعدائهم. ونزلت الخوارزمية حول حيلان (¬4)، وامتدوا على النهر إلى فافين، (¬5) وقطعوا على جماعة من العسكر أموالا أخذوها [منهم] (¬6)، وابتاعوا بها أنفسهم، وشربوا طول تلك الليلة [وسكروا (¬7)]، وقتلوا جماعة من الأسرى (¬8)، فخاف الباقون من الأسرى. فمنهم من خلص، ومنهم من أخذوا منه المال وغدروا به ولم يطلقوه. ذكر ما جرى من الخوارزمية من العيث والفساد بعد كسرهم عسكر حلب إلى أن رجعوا ولما جرى ما ذكرناه، وقع الاضطراب في حلب، وتقدمت الصاحبة [ضيفة خاتون صاحبة حلب (¬9)] إلى مقدمى البلد بحفظ الأسوار والأبواب، وجفل أهل ¬

(¬1) في نسخة س «وقتل في هذه الغزاة» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «واستولوا الخوارزمية» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة ب، وفى س «وكانوا الأحلاف. . .». (¬4) في نسخة ب «ونزلت الخوارزمية حيلان» وفى سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 486) «وساقوا إلى جيلان» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن العديم، زبدة الحلب، 3، ص 251، وحيلان من قرى حلب، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬5) في نسخة س «قاقين» وهو تصحيف، وذكر سامى الدهان أن فافين قرية معروفة قرب حلب، انظر ابن العديم، ج 3، ص 251 حاشية 4. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 251. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب وابن العديم. (¬8) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم «وقتلوا جماعة من الأسرى صبرا». (¬9) ما بين الحاصرتين للتوضيح، وهى والدة الملك العزيز الذى توفى سنة 634 هـ‍ وتصرفت بعده في الملك تصرف السلاطين، انظر أبو الفداء المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 171.

الحاضر وكل من كان خارج السور، ودخلوا المدينة ونقلوا ما قدروا على نقله (¬1) من الأقمشة والأمتعة. ولم يكن في المدينة من الجند غير الأمير شمس الدين لؤلؤ الأمينى، وعز الدين ابن مجلى في جمع قليل لا يزيدون عن مائتى فارس (¬2)، وكانوا يركبون ويخرجون إلى ظاهر البلد يتعرفون الأخبار (¬3). وبثت الخوارزمية سراياهم في أعمال حلب، فانتهت غاراتهم (¬4) إلى بلد عزار وتل باشر، وبرج الرصاص وجبل سمعان وطرف العمق. بغتوا أهل هذه النواحى بغتة، فلم (¬5) يستطيعوا الهرب منهم، وأخذوا من الغنائم من المواشى (¬6) والأمتعة والنساء والصبيان ما لا يعد ولا يحصر (¬7). وفعلوا من ارتكاب الفواحش مع حرم المسلمين ما لا يفعله التتر، ولا غيرهم (¬8) من الكفار. ثم رحلوا إلى بزاعا والباب، فعذبوا أهل هذين البلدين، واستقرءوهم على أموالهم [31 ب] التي أخفوها (¬9)، فحملوها إليهم، وقتلوا منهم جماعة. ونهبوا كل ما وجدوه فيها من الأمتعة والمواشى وغير ذلك. وكان بعض أهل هذين البلدين قد هرب بحرمه ومتاعه إلى حلب، فنجا. ¬

(¬1) في نسخة س «ونقلوا كلما قدروا عليه من نقله» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «لا يزيدون على أكثر من مائتى فارس» وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 252) «في جماعة لا تبلغ مائتى فارس»، والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «الأجناد»، وهو تحريف والصيغة المثبتة الصحيحة من ب، انظر أيضا ابن العديم. (¬4) في نسخة ب «غارتهم» والصيغة المثبتة من س. (¬5) في نسخة ب «ولم»، والصيغة المثبتة من س. (¬6) في نسخة س «والمواشى»، والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «ولا يحصى»، وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 252) «ما لا يحد ولا يوصف» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة ب «ولا غيره» والصيغة المثبتة من س. (¬9) في نسخة ب «أخذوها» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن العديم، نفس المصدر والجزء والصفحة.

ذكر وصول الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص لنصرة الحلبيين

ثم رحلوا إلى منبج، فامتنع أهلها بالسور، ودربوا المواضع التي لا سور لها، فهجموا البلد بالسيف يوم الخميس لتسع بقين من شهر ربيع الأول من هذه السنة (¬1)، أعنى سنة ثمان (¬2) وثلاثين وستمائة. وقتلوا من أهل البلد خلقا، وخربوا دوره ونبشوها، وأخذوا أموالا عظيمة، وسبوا الأولاد والنساء وارتكبوا بهن (¬3) العظائم. والتجأ جماعة من النساء إلى الجامع فدخلوا عليهن (¬4)، وارتكبوا الفواحش في الجامع. وكان الواحد منهم (¬5) يأخذ المرأة وعلى صدرها ولدها الرضيع، فيأخذه ويضرب به الأرض ويأخذها ويمضى. ثم رجعوا إلى بلادهم وقد أخربوا كل ما حول حلب. ذكر وصول الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص لنصرة الحلبيين وكان الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص في مقابلة الفرنج، وقد عزم على دخول بلدهم للإغارة عليهم، وعنده من عسكره وعسكر الملك الصالح [عماد الدين (¬6)] إسماعيل صاحب دمشق نحو ألف فارس. ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 253) «وفى يوم الخميس الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وثلاثين». (¬2) في نسخة س «ثمانية» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «منهن»، والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «عليهم»، والصيغة الصحيحة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة ب «منهن» وهو تحريف، والكلمة محذوفة في نسخة س. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب.

ولما وصل إليه الخبر بما جرى من الخوارزمية، توجه بمن معه [من العسكر (¬1)] إلى حلب، فوصل إليها لسبع بقين من ربيع الآخر (¬2). وخرج السلطان الملك الناصر [ابن الملك العزيز (¬3)] صاحب حلب، [وأهل البلد للقائه. والتقوه (¬4)] بالسعدى (¬5). وكان عمر الملك الناصر يومئذ إحدى (¬6) عشرة سنة. ونزل الملك المنصور [صاحب حمص (¬7)] بالهزازة (¬8)، ثم انتقل إلى دار علم الدين قيصر الظاهرى، بالمصلى العتيق (¬9) خارج باب الرابية (¬10). وتقرر الأمر معه على أنه (¬11) يستخدم العساكر وتجمع. وتوثق (¬12) منه بالإيمان والعهود. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬2) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 253) «ووصل إلى حلب في يوم السبت الثالث والعشرين من شهر ربيع الاخر». (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س. (¬4) في نسخة س «إلى لقائه وأهل البلد فالتقوه» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) السعدى من متنزهات حلب، ذكر ابن الشحنة (الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب، ص 255) «السعدى وهو فضاء فياح تجرى فيه أنهر متشعبة من نهر واحد، بحافتيها مروج خضر، وبها الزهر المختلف ما لا يبلغه الوصف» (¬6) في نسخة س «أحد» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬8) كانت الهزازة في ظاهر حلب وهى الآن من أحياء المدينة، انظر: ابن الشحنة، الدر المنتخب، ص 105؛ ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 254 حاشية 2. (¬9) في ابن العديم (زبدة الحلب. ج 3، ص 254) «بمصلى العبد العتيق». (¬10) ذكر ابن الشحنة (الدر المنتخب، ص 105) مساجد الرابيه عند ذكره المساجد التي في باطن حلب وظاهرها. (¬11) في نسخة س «أن» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة ب «بتوثق» والصيغة المثبتة من س.

ذكر دخول الخوارزمية إلى الشام ثانيا وما فعلوه من العيث والفساد

وسيرت الصاحبة والدة الملك العزيز كمال الدين بن العديم [32 ا] [رسولا (¬1)] إلى أخيها الملك الصالح [إسماعيل (¬2)] صاحب دمشق لتحليفه لها ولابن ابنها السلطان الملك الناصر. فاجتمع كمال الدين [بن العديم (¬3)] بالملك الصالح، فاستحلفه لهما، وتقررت معه (¬4) قاعدة الإتفاق والمعاضدة. وطلب منه [كمال الدين (¬5)] نجدة أخرى، غير الذين هم مع الملك المنصور، فأجاب إلى ذلك، وسير نجدة. وأطلقت الأسارى الذين كانوا بحلب من الداوية الذين تقدم ذكرهم. ذكر دخول الخوارزمية إلى الشام ثانيا وما فعلوه من العيث والفساد ولما (¬6) سمعت الخوارزمية بجمع العساكر بحلب [لقتالهم (¬7)، تجمعوا] بحران. وكان الأمير على بن حديثة (¬8) قد فارقهم. وكان طاهر بن غنام قد اتصل بخدمة الحلبيين، وأمّر على سائر العرب، وزوّجته الصاحبة بعض جواريها، وأقطعته إقطاعا يرضيه. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س، وذكر ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 254) سفارته بقوله: «وسيرت رسولا. . .». (¬2) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من س وساقط من ب. (¬4) في نسخة س «بينهما» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬6) في نسخة ب «سمعت»، والصيغة المثبتة من س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «فجمعوا»، انظر ابن العديم، ج 3، ص 254. (¬8) في نسخة س «حذيفه» والصيغة الصحيحة المثبتة من ب، انظر ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة).

فسارت الخوارزمية من حران لست مضين [من شهر رجب (¬1)] من هذه السنة، ووصلوا إلى الرقة وعبروا الفرات. ووصل خبرهم إلى حلب. فبرز الملك المنصور صاحب حمص بخيمته (¬2) وضربها شرقى حلب على أرض النّيرب (¬3). وخرجت العساكر بخيمها حوله. ووصلت الخوارزمية إلى ألفايا (¬4) ثم إلى دير حافر، ثم إلى الجبّول، وامتدوا إلى أرض النقرة. وأقام الملك المنصور والعسكر (¬5) معه في الخيم. ونزلت الخوارزمية في تل عرن (¬6)، فرحل الملك المنصور، فنزل على بوشلا (¬7)، والعرب تناوش الخوارزمية. وعاثت الخوارزمية في البلد، وأحرقوا الأقوات (¬8) التي في القرى، وأخذوا ما قدروا عليه. وكان البلد قد أجفل فلم ينتهبوا إلا ما عجز أهله عن حمله. ثم رحل الخوارزمية فنزلوا بقرب الصافية. ثم رحلوا إلى سرمين (¬9) ونهبوها، ودخلوا دار الدعوة بها المنسوبة إلى الاسماعيلية. وكان قد اجتمع فيها أمتعة كثيرة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب وفى ابن العديم (ج 3، ص 255) «في يوم الاثنين سادس عشر شهر رجب من سنة ثمان وثلاثين وستمائة». (¬2) في نسخة س «خيمة» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم «على أرض النيرب وجبرين». (¬4) في نسختى المخطوطة «القايا» والصيغة الصحيحة المثبتة من ابن العديم، وذكر سامى الدهان أن ألفايا قرية من عمل المعرة انظر، زبدة الحلب، ج 3، ص 255، حاشية 2. (¬5) في نسخة س «والعساكر»، والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم. (¬6) في نسخة س «تل عران»، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم، وذكر سامى الدهان أن تل عرن قرية مشهورة قرب حلب، انظر، زبدة الحلب، ج 3، ص 255 حاشية 2. (¬7) لم تسعفنا المصادر المتداولة على تحديد موقعها انظر أيضا، ابن العديم، زبدة الحلب، ج 1 ص 204 حاشية 3؛ ج 3، ص 255 حاشية 3. (¬8) كذا في نسختى المخطوطة وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3 ص 255): «وأحرقوا الأبواب التي في القرى». (¬9) سرمين بلدة من أعمال حلب، انظر ما سبق ابن واصل، ج 4 ص 106 حاشية 4.

للناس ظنا منهم أن الخوارزمية لا تجسر على قربانها (¬1) خوفا من الاسماعيلية. فدخلوها ونهبوا جميع ما فيها، ثم رحلوا إلى المعرة. ورحل الملك المنصور [32 ب] بالعسكر، ونزل على تل السلطان. ثم رحلت الخوارزمية إلى كفر طاب (¬2)، ورحل الملك المنصور إلى الحيار (¬3). وأخربت الخوارزمية كفر طاب، ثم ساروا منها إلى شيزر، فاعتصم أهل البلد بالربض الذى تحت القلعة. فهجم الخوارزمية الربض الأسفل، واحتمى الربض الأعلى يوما، ثم هجموه في اليوم الثانى ونهبوا ما أمكنهم نهبه. وأطلق عليهم أهل القلعة الجروخ (¬4) والحجارة، فقتلوا (¬5) منهم جماعة كثيرة، [فخرجوا من الربض الأعلى (¬6)]. ثم بلغ الخوارزمية أن الملك المنصور ومن معه من العساكر، قد وقفوا لهم بينهم وبين بلادهم للقائهم. فرحلوا إلى ناحية حماة، ولم يتعرضوا لبلدها بنهب ولا فساد؛ لأن صاحبها منتم إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬7)] صاحب مصر، والخوارزمية منتمون إليه، ومظهرون (¬8) أن كل ما يفعلونه خدمة له، لمعاداة الحلبيين وصاحب حمص، وصاحب دمشق له (¬9). ¬

(¬1) في نسخة س «قرب بابها»، والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 256. (¬2) كفر طاب بلدة بين المعرة ومدينة حلب، انظر ياقوت، معجم البلدان. (¬3) ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن الحيار «حيار بنى القعقاع صقع من برية قنسرين. . . بينه وبين حلب يومان». (¬4) عن الجروخ جمع جرخ انظر ما سبق ص 65 حاشية 8. (¬5) في نسخة س «فقتل» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة س «ويظهرون» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «لمعاداته للحلبيين وصاحب حمص وصاحب دمشق» والصيغة المثبتة من ب، وذكر المقريزى (السلوك، ج 1 ص 303): «وكان الخوارزمية يظهرون للناس أنهم يفعلون ما يفعلون خدمة لصاحب مصر، فإن أهل حلب وحمص ودمشق كانوا حزبا على الصالح صاحب مصر».

ودخل بعض الخوارزمية إلى حماة، وتزودوا منها [وباعوا فيها (¬1)]، ثم رحلوا وتجاوزوها إلى سلمية، وهى لصاحب حمص. ثم قصدوا ناحية الرصافة. ورحل الملك المنصور، ومن معه من العساكر، وطلبوا مقاطعتهم. ووقع جمع من العرب بهم بقرب الرصافة، وقد تعبت خيولهم، وضعفت لقوة السير وقلة الزاد والعلف. فألقوا أثقالهم كلها والغنائم التي كانت معهم من البلاد، وأطلقوا خلقا ممن كانوا أسروه من بلد حلب وشيزر وكفر طاب. وساروا طالبين الرقة مجدين في السير. واشتغل العرب ومن كان معهم من الجند بنهب ما ألقوه (¬2). ووصلت الخوارزمية إلى الفرات مقابل الرقة غربى البليل وشماليه، وذلك لخمس مضين (¬3) من شعبان من هذه السنة. ووصل الملك المنصور [صاحب حمص (¬4)] والعسكر إلى صفين، فساقوا سوقا [قويا (¬5)] ليسبقوا الخوارزمية إلى الماء، ويحولوا (¬6) بينهم وبين العبور إلى ناحية الشرق. فوصلوا بعد وصول الخوارزمية بساعة واحدة، فوجدوا الخوارزمية قد احتموا (¬7) في بستان البليل، وأخذوا منها الأبواب (¬8) [33 ا]، وجعلوها ستائرا (¬9)، وأداروا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة س «ما ألقوه الخوارزمية» والصيغة المثبتة من ب، وذكر أبو الفدا هذه الحوادث في كثير من الاختصار انظر: المختصر، ج 3، ص 168. (¬3) في نسخة س «بقين» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب، وفى ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3 ص 257) «بكرة الاثنين خامس شعبان». (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س ومن ابن العديم، ج 3، ص 257، وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «ويحيلوا» والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم، ج 3، ص 257 (¬7) في نسخة س «اجتمعوا»، والفعل محذوف في نسخة ب، والصيغة المثبتة من ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 257) الذى ينقل منه ابن واصل. (¬8) في نسخة س «وأخذوا شيئا كثيرا وأخذوا الأبواب منها» والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم. (¬9) في نسخة س «بستائر»، والصيغة المثبتة من ب.

ذكر كسرة الخوارزمية

عليهم خندقا. فقاتلوهم [إلى (¬1)] بعد العشاء، وأخذوا من الغنائم التي معهم شيئا كثيرا. ولم يكن عند العسكر علوفة لدوابهم ولا زاد لأنفسهم. فعادوا في (¬2) الليل إلى منزلتهم بصفين. ونام (¬3) جماعة من الرجالة في البليل، فوقعت (¬4) عليهم الخوارزمية، فقتلوهم (¬5). وعبر الخوارزمية الفرات (¬6) إلى الرقة، وقد هلكت دوابهم إلا القليل، وأكثرهم رجالة؛ فسيروا إلى حران فأحضروا لهم دواب (¬7) ركبوها وتوجهوا إلى حران. ذكر كسرة (¬8) الخوارزمية ولما جرى ما ذكرناه سار الملك المنصور بالعساكر إلى البيره، وعبر من جسرها، وسار حتى نزل ما بين سروج والرها. ووصلت (¬9) الخوارزمية ليكبسوا اليزك، فعلموا بهم وتأهبوا في الليل، فركب العسكر، فولت الخوارزمية بين أيديهم إلى سروج. [ووصلت الخوارزمية (¬10)] إلى حران، وتجمعوا (¬11) جمعا كثيرا حتى ألزموا (¬12) عوام ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب، ومثبت في نسخة س وفى ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 257. (¬2) في نسخة س «إلى» وهو تصحيف، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب وابن العديم. (¬3) في نسخة ب «فنام» والصيغة المثبتة من س ومن ابن العديم، ج 3، ص 257. (¬4) في نسخة س «فنزلوا» والصيغة المثبتة من ب وفى ابن العديم «فوقع». (¬5) في نسخة س «فقتلوهم عن آخرهم» والصيغة المثبتة من ب وابن العديم. (¬6) في نسخة س «من الفرات» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «دوابا» والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم، ج 3، ص 257. (¬8) في نسخة س «كسر» وفى ابن العديم (ج 3 ص 258) «انكسار»، وعن هزيمة الخوارزمية انظر أيضا، ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3 ص 258 - 259؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 486، أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 168؛ ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 344؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 303. (¬9) في نسخة س «ووصلوا» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «ووصلوا» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) في نسخة س «جمعوا»، والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة س «حتى أنهم»، والصيغة المثبتة من ب.

حران بالخروج معهم ليكثروا بهم سوادهم. ووصلوا إلى قريب (¬1) الرها، إلى جبل يقال له جلهمان (¬2)، فاجتمعوا به ورتبوا عسكرهم وكثروا سوادهم بالجمال، وعملوا رايات من القصب على الجمال ليلقوا الرعب في قلوب العسكر بتكثير (¬3) سوادهم. وركب الملك المنصور [صاحب حمص (¬4)] في العسكر من منزلته، بعد أن وصل إليه رسول من عسكر السلطان غياث الدين كيخسرو سلطان (¬5) الروم، يخبر بوصول العسكر في النجدة. ولم يتوقف الملك المنصور لذلك، وسار إلى أن وصل إلى الخوارزمية، فضرب معهم مصافا، يوم الأربعاء لتسع بقين من شهر رمضان (¬6) من هذه السنة. [فانكسرت الخوارزمية، واستبيح عسكرهم، فانهزموا (¬7)] والعساكر في آثارهم، إلى أن حال الليل بينهم، فعاد العسكر. ووصلت (¬8) الخوارزمية إلى حران، فأخذوا نساءهم، وهربوا. ورتب حسام الدين بركة خان (¬9) واليا من قبله بقلعتها. ¬

(¬1) في نسخة س «قرب»، والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة ب «إلى بلد يقال له جلهمان» وفى نسخة س «إلى بلد جبل يقال له جلمهار» والصيغة المثبتة من ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 258). (¬3) في نسخة س «بكثرة»، والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم، ج 3، ص 258. (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬5) في نسخة س «صاحب» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) كذا في نسختى المخطوطة، وفى ابن العديم «يوم الأربعاء الحادى والعشرين من شهر رمضان». (¬7) في نسخة س «فانكسروا الخوارزمية، واستبيح العسكر الذى لهم وانهزموا» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «ودخلت» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة ب «بركتخان»، والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن العديم.

ذكر استيلاء نواب [السلطان] الملك الناصر صاحب حلب على البلاد الشرقية واستيلاء الملك المنصور صاحب حمص على الخابور وقرقيسا

ذكر استيلاء نواب [السلطان (¬1)] الملك الناصر صاحب حلب على البلاد الشرقية واستيلاء الملك المنصور صاحب حمص على الخابور وقرقيسا ثم سارت الخوارزمية إلى الخابور، وأتبعهم الملك المنصور وألقوا (¬2) أثقالهم وبعض أولادهم، ونزلوا في طريقهم على الفرات، فجاءهم السيل (¬3) ليلا، فأغرق منهم جمعا كثيرا. فدخلوا (¬4) إلى بلد عانة واجتمعوا به (¬5) لأنه بلد الخليفة المستنصر بالله. وكان الملك المنصور لما سار خلف الخوارزمية بعد مفارقتهم حران، وكّل بها من يحصرها، فأقامت مستحصرة أياما، ثم سلمت إلى نواب الملك الناصر صاحب حلب، [وأخرج (¬6) من كان بها من الأسرى من أمراء حلب (¬7)]، وأقارب السلطان الملك الناصر. وبادر بدر الدين صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا، وكانتا بيد الخوارزمية فاستولى عليهما (¬8)، واستخلص من دارا (¬9) الملك المعظم بن ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬2) في نسخة س «فألقوا»، والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم، ج 3، ص 259. (¬3) في نسخة س «سيل» والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن ابن العديم. (¬4) كذا في نسختى المخطوطة وابن العديم، وفى أبى الفدا (المختصر، ج 3، ص 168): «وهربت الخوارزمية إلى بلد عانة»، وفى المقريزى (السلوك، ج 1، ص 303): «ومضوا هاربين إلى عانة». (¬5) في نسخة س «بها»، والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة ب «فأخرج»، والصيغة المثبتة من نسخة س وابن العديم. (¬7) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش في نسخة ب. (¬8) في نسخة ب «عليها»، والصيغة المثبتة من س وابن العديم (ج 3، ص 259). (¬9) في نسخة ب «دار» والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة س وابن العديم.

ذكر استيلاء السلطان غياث الدين كيخسرو سلطان الروم على آمد

صلاح الدين، واستدعاه إلى الموصل. وقدّم له مراكب (¬1) وثيابا وتحفا كثيرة، وسيّره إلى العسكر. واستولى عسكر السلطان الملك الناصر مع حران على الرها ورأس عين والرقة وسروج والموزر، وما يتبع ذلك من البلاد. وصارت هذه المملكة مضافة إلى مملكة حلب. واستولى الملك المنصور صاحب حمص على قرقيسا والخابور. ولما وردت هذه البشرى إلى حلب، زينت أياما، ووصلت إلى حلب أعلامهم وأسراؤهم (¬2). ذكر استيلاء السلطان غياث الدين كيخسرو سلطان الروم على آمد لم (¬3) تزل آمد وبلادها في أيدى (¬4) نواب الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬5)] إلى هذه السنة. فلما كسر الملك المنصور وعسكر (¬6) حلب الخوارزمية تسلموا السويداء (¬7)، وهى من بلاد آمد. ثم سلموها إلى عسكر السلطان غياث الدين، وكانوا كما ذكرنا قدموا لنجدتهم. وسيرت إليهم من عسكر حلب الخلع [34 ا] والنفقات. ثم سارت عساكر حلب والتقوا بعساكر الروم، وحاصروا آمد وبها الملك المعظم غياث الدين ¬

(¬1) في نسخة س «مراكبا» والصيغة المثبتة من ب ومن ابن العديم، ج 3، ص 259. (¬2) في نسخة ب «وأسرارهم» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من نسخة س ومن ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 259. (¬3) في نسخة س «ولم»، والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «يد»، والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «وعساكر»، والصيغة المثبتة من ب. (¬7) السويداء، بلدة قرب حران، انظر ياقوت، معجم البلدان.

ذكر ما آل إليه أمر الملك الجواد مظفر الدين يونس بن الملك العادل رحمه الله

ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬1)]. ثم اتفقوا (¬2) معه على أن سلمها إليهم، وأبقوا بيده حصن كيفا وقلعة الهيثم. ولم يزل ذلك بيده إلى أن مات أبوه، وتوجه إلى الديار المصرية وملكها. فترك بحصن كيفا ولده الموحد عبد الله. وجرى للملك المعظم بالديار المصرية ما سنذكره إن شاء الله تعالى. والملك الموحد باق إلى الآن مستول على حصن كيفا تحت حكم التتر، وله عدة أولاد على ما بلغنى. وكان عمره لما مضى إلى مصر والده وتركه بحصن كيفا، على ما حكاه لى الملك المعظم - رحمه الله - ونحن في خدمته بالمنصورة، نحو عشر سنين. وأقامت الخوارزمية ببلد الخليفة إلى أن خرجت هذه السنة. ذكر ما آل إليه أمر الملك الجواد مظفر الدين يونس بن الملك العادل رحمه الله (¬3) قد ذكرنا (¬4) أن الملك الجواد بعد أن ملك سنجار أخذها منه بدر الدين صاحب الموصل، وأنه باع عانة للخليفة المستنصر بالله، وأنه انضم إلى الخوارزمية بعد ذلك، وحضر معهم حربهم التي كسروا فيها عسكر حلب. ثم إنه بعد ذلك مضى في البرية إلى غزة، وأرسل إلى ابن عمه الملك الصالح صاحب مصر يطلب ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) اعتمدنا في تحقيق الصفحات التالية على نسخة ب وحدها لضياع هذه الصفحات من نسخة س، وقد قورنت هذه الصفحات بما ورد في المصادر التاريخية المعاصرة المعروفة خاصة كتاب زبدة الحلب لابن العديم الذى اعتمد عليه ابن واصل كثيرا، انظر مايلى ص 353. (¬3) انظر ترجمته في الكتبى: فوات الوفيات، ج 2 ص 643. (¬4) انظر ما سبق، ص 281.

المصير إلى خدمته، فلم يأذن له خوفا أن يفسد عليه عسكره، فأقام في الساحل متلددا (¬1) متحيرا. وآخر أمره أنه مضى إلى عكا، فأقام بها عند الفرنج، فكتب عمه الملك الصالح عماد الدين [إسماعيل صاحب دمشق (¬2)] وطلبه منهم فبعثوه إليه، فتسلمه منهم واعتقله، فكان آخر العهد به. وقد ذكر أنه بعث إليه من خنقه، والله أعلم. وكان الملك الجواد جوادا شجاعا ذاهمة عالية إلا أنه كان فاسد التدبير ضعيف الرأى، لو أقام بدمشق ولم يسلمها للملك الصالح لم يقصده لا الملك الصالح ولا أخوه الملك العادل، لأن كلا منهما كان خائفا [34 ب] من الآخر. وكانت عنده عسكر جيده، وبيده مملكة واسعة، فكان مشى أمره بين ملكين مختلفين، أي منهما مال معه ترجح به على الآخر، لكن سوء الحظ أدركه. وفى هذه السنة أعنى سنة ثمان وثلاثين وستمائة، سافر القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن الزرزارى المعروف بقاضى سنجار، من حماه إلى الديار المصرية على الساحل (¬3). فلما وصل إلى مصر أكرمه الملك الصالح نجم الدين غاية الإكرام، وجازاه على يده عنده وهو ما تقدم ذكره من الإصلاح بينه وبين الخوارزمية والقدوم بهم عليه وهو محصور بسنجار. وقد كاد بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل أن يملكها ويقبض عليه، حتى كسروا بدر الدين، ونهبوا أثقاله وبددوا جموعه. وانفرج عن الملك الصالح الحصار. ¬

(¬1) تلدّد بمعنى تلفت يمينا وشمالا وتحير متبلدا، انظر ابن منظور لسان العرب، ج 4، ص 395. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح من أبى الفدا، المختصر، ج 3، ص 169. (¬3) نقل ابن أيبك الدوادارى عن ابن واصل هذا الحادث مع بعض التعديل والتغيير بادئا: «قال ابن واصل: وفيها قدم القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن. . .» انظر الدر المطلوب، ص 345؛ وعن قدوم قاضى سنجار إلى مصر انظر أيضا، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 307.

وكان القضاء بالديار المصرية كلها للقاضى شرف الدين المعروف بابن عين الدولة الإسكندرى (¬1). فعزل الملك الصالح شرف الدين عن مصر والوجه القبلى، وفوض قضاء ذلك إلى بدر الدين، وبقى شرف الدين قاضيا بالقاهرة والوجه البحرى. وكان شرف الدين هذا قد طالت مدته في القضاء من أيام السلطان الملك الكامل وإلى هذه الغاية. وكان فاضلا في الفقه والأدب وعلم الشروط، عفيفا حزما، عديد الأحكام. وكان يحفظ شيئا كثيرا من الشعر والأدب. ونقل المصريون عنه شيئا كثيرا من النوادر التي يسمونها الزائد في اصطلاحهم. وكان يقولها مع ناموس عظيم وسكينة. فمما نقل عنه من ذلك أنه قال له يوما بعض العدول، والقاضى في بيت قليل الهواء كثير البق، وهم يسمون البق الناموس: «ما أقل الهواء في هذا البيت، وأكثر الناموس فيه». فقال: «هكذا ينبغى أن تكون مجالس القضاة (¬2)». وذكر أنه دخلت إليه امرأة محاكمة، فقال لها: «ما اسمك؟»، فقالت: «ست من يراها»، فوضع كمه على عينيه. ونقلوا عنه من هذا شيئا كثيرا. ¬

(¬1) ذكر النويرى (نهاية الأرب، ج 27 ورقة 72 - 76) معلومات هامة عن قاضى القضاة شرف الدين بن عين الدولة وعن مكاتباته وأمثلة لها وأخباره وأوصافه. وذكر النويرى أيضا أن قاضى القضاة في ذلك الوقت كان «لا يستقل بعزل نائب من نوابه بالاعمال وإن صغرت جهة ولايته إلا بعد مراجعة السلطان واستئذانه». كما ذكر أيضا أنه «كان جوادا كريما زاهدا لا يدخر شيئا ولا يملك إلا سجادة خضراء من الصوف وسجادة من آدم ومشطا وسبحة ومقراضا وعودا من أراك، وليس له إلا بدلة واحدة فاذا تغيرت غسلت له ليلا وبغلة واحدة. . . ما ملك عقارا ولا وجبت عليه زكاة في عمره، وكان مضبوط المجلس لا يشار أحدا في مجلسه ولا يضحك فيه. . .».] (¬2) في ابن أيبك (الدر المطلوب، ص 345) الذى نقل عن ابن واصل «مجالس الحكام».

وحكى لى الفقيه مخلص الدين بن الكنانى وكيل بيت المال (¬1) بمصر [35 ا]، رحمه الله، قال: كان القاضى شرف الدين ينشد، وكان قد بلغ ثمانين سنة: إن الثمانين وبلّغتها ... ما أحوجت سمعى إلى ترجمان والرواية إنما هى: «قد أحوجت»، وإنما قال ما أحوجت لئلا يعزل بالطرش (¬2). وهو قادح (¬3) في ولاية الحكم عند بعض العلماء. وأنشدنى مخلص الدين هذا، قال: أنشدنى القاضى شرف الدين - رحمه الله - لنفسه: وليت القضاء وليت القضا ... ء لم يك (¬4) شيئا توليته فأوقعنى في القضاء القضا (¬5) ... وما كنت قدما تمنيته ¬

(¬1) لم تذكر المصادر المتداولة معلومات وافية عن وظيفة وكيل بيت المال رغم ذكرها ضمن وظائف العصر الأيوبى التي استمرت طيلة العصر المملوكى. وكان وكيل بيت المال، الذى لا يقل أهمية عن ناظر بيت المال، مسئولا عن بيع الممتلكات التابعة لبيت المال، انظر العمرى، التعريف بالمصطلح الشريف، ص 132 - 134 Rabie, The Financial System of Egypt, P. 148. (¬2) السلامة في السمع والبصر من شروط تقليد منصب القضاء «لكى يعرف القاضى المدعى من المنكر ولا يتحصل هذا للضرير والأطروش»، انظر: أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية، (ط القاهرة 1938) ص 44 - 45؛ الماوردى، الأحكام السلطانية (ط القاهرة 1966)، ص 66. (¬3) قدح فيه بمعنى طعن، انظر الفيروز آبادى، القاموس المحيط؛ الزبيدى، تاج العروس، مادة قدح. (¬4) في المتن وابن أيبك (الدر المطلوب ص 345) «يكن» وعليه يختل الوزن والصيغة الصحيحة المثبتة من النويرى، نهاية الأرب، ج 27 ق 75. (¬5) في النويرى (نهاية الأرب، ج 27 ق 75) رواية أخرى «وقد قادنى للقضاء القضا» وهى صحيحة.

ودخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة

ودخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة (*) والسلطان الملك الصالح بالديار المصرية، مالك لها. وقد تقررت قواعد ملكه بالقبض على من يتهم من العسكر وتخشى غائلته. وصار أكثر أمرائه مماليكه. ووزيره القائم بتدبير دولته معين الدين بن شيخ الشيوخ وأخوه فخر الدين لازم بيته. والملك الصالح عماد الدين إسماعيل بدمشق، وهو مالك لها ولبلادها. والحلبيون والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، والملك الناصر داود صاحب الكرك متفقون معه وكلمتهم (¬1) واحدة في عداوته. والملك المظفر صاحب حماة وحده منتم إليه، وقصّاده ما تنقطع عنه. وعنده جمال الدين يحيى بن مطروح (¬2) وهو على عزم المسير إلى الديار المصرية. ذكر الوقعة بين كمال الدين بن شيخ الشيوخ والملك الناصر بن الملك المعظم وفى هذه السنة سير الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬3)] عسكرا، وقدّم عليهم ¬

(*) يوافق أولها 12 يوليو سنة 1241 ميلادية. (¬1) في المتن «وكلمته» ويبدو أن الصيغة الصحيحة هى المثبتة، ولمزيد من المعلومات، انظر أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 169؛ العينى، عقد الجمان، حوادث 639 هـ‍؛ أبو المحاسن ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 322. (¬2) هو الأديب الشاعر جمال الدين أبو الحسن يحيى بن عيسى بن مطروح. ولد سنة 592 هـ‍ بصعيد مصر، وتنقلت به الأحوال في الخدم والولايات حتى أصبح من كبار رجال الدولة الأيوبية زمن السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وله ديوان شعر. وكانت بينه وبين بهاء الدين زهير صحبة قديمة، وتوفى سنة 649 هـ‍، انظر ترجمته في: ابن خلكان، وفيات الأعيان، (ط. القاهرة 1949) ج 5، ص 302 - 309؛ أبو المحاسن: المنهل الصافى، ترجمة يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن مطروح؛ ابن العماد الحنبلى، شذرات الذهب، ج 5، ص 247 - 249. (¬3) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

ذكر تسليم الشقيف وصفد إلى الفرنج

عماد الدين بن شيخ الشيوخ لقتال الملك الناصر داود بن الملك المعظم، وذلك لانحرافه عنه، واتفاقه مع عمه الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل (¬1)] صاحب دمشق عليه. فقدم كمال الدين بذلك العسكر إلى بلاد الملك الناصر. وجمع الملك الناصر جمعا كثيرا، والتقوا في جبل القدس، واقتتلوا. فانكسر عسكر مصر وأخذ [35 ب] الملك الناصر كمال الدين أسيرا، وأسر جماعة من أصحابه وهرب الباقون. فمنّ الملك الناصر [داود (¬2)] على كمال الدين والمأسورين معه، وأطلقهم فرجعوا إلى الديار المصرية. وتوفى كمال الدين - رحمه الله - بعد رجوعه بقليل. ولم يبق من أولاد الشيخ غير الصاحب معين الدين، وأخيه الأمير فخر الدين (¬3). ذكر تسليم الشقيف وصفد إلى الفرنج الشقيف وصفد من جملة الفتوح الناصرية الصلاحية، وهما من أمنع الحصون وأحصنها. وقد ذكرنا (¬4) في أخبار السلطان الملك الناصر صلاح الدين، رحمه الله، أنه أتعب نفسه، وأسهر ليله في منازلة صفد حتى فتحها في سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وهو حصن في غاية العلو والارتفاع، مطل على عكا وبلاد الغور. وشقيف أرنون حصن منيع لا يرام. ولما وقع الخلف بين الملك الصالح نجم الدين وعمه الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل (¬5)] على ما ذكرناه. وكان الملك الصالح إسماعيل خائفا من الملك الصالح ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) عن أولاد الشيخ، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 91 حاشية 3. (¬4) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 2، ص 272. (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

نجم الدين غاية الخوف لما كان أسلفه في حقه من أخذ دمشق منه بعد أن صالحه وحلف له وتوثق منه، وما كان من اعتقاله لولده الملك المغيث، حمله ذلك على أن اعتضد بالفرنج عليه، وطلب منهم مساعدته فأبوا أن يجيبوه إلى ما طلب، إلا بأن يسلم إليهم الشقيف وصفد. فسلم إليهم الحصنين المذكورين (¬1). وكانت صفد قد خربت قبل ذلك. فلما تسلمتها الفرنج بنتها، وصار هذان الحصنان جمرتى بلاء. فعظم بذلك الضرر على المسلمين جدا، واشتد إنكارهم لما فعل، واستعظموه. وكان الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام (¬2) - رحمه الله - من الأئمة المبرزين في علم الشافعى - رحمه الله - لم يكن في عصرنا من يعدله فيه وفى علم التفسير. وكان صالحا زاهدا ورعا لا يأخذه في الله لومة لائم، وكان خطيب جامع دمشق. فأنكر هذا الأمر غاية الإنكار، وبسط لسانه فيه. وساعده على ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكى (¬3)، وكان [36 ا] إماما في مذهب ¬

(¬1) انظر أيضا عن تسليم صفد والشقيف للفرنج، ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 347. (¬2) هو شيخ الإسلام عز الدين أبو محمد السلمى الدمشقى الشافعى، أحد الأئمة الأعلام وإمام عصره، لقبه تلميذه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد بلقب «سلطان العلماء»، انظر ترجمته في: السبكى، طبقات الشافعية الكبرى، ج 5، ص 80 - 107؛ الكتبى، فوات الوفيات، ج 1، ص 594 - 596؛ العماد الحنبلى، شذرات الذهب، ج 5، ص 301 - 302؛ ابن تغرى بردى، المنهل الصافى، ج 3، ق 650 - 652. (¬3) هو جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبى بكر الإسنائى المعروف بابن الحاجب، ولد بإسنا سنة 570 هـ‍، وكان والده حاجبا للأمير عز الدين موسك الصلاحى. اشتغل في صغره بالقاهرة ولزم الاشتغال حتى برع في الأصول والعربية، وكان الأغلب عليه النحو. توفى بالإسكندرية سنة 646 هـ‍، انظر ترجمته في: ابن خلكان، وفيات الأعيان، ط. القاهرة 1948، ج 2، ص 413 - 414؛ الإدفوى، الطالع السعيد، ص 352 - 357؛ ابن تغرى بردى، المنهل الصافى، ج 4، ق 44 - 47؛ النجوم الزاهرة، ج 6، ص 360؛ العينى، عقد الجمان، حوادث 646 هـ‍.

مالك بن أنس - رحمه الله - ومبرزا في علم العربية والقراءات السبع والأصول. وأكثرا من التشنيع على الملك الصالح فيما فعل. وأغضب ذلك الملك الصالح، ففارقا دمشق. فمضى جمال الدين بن الحاجب إلى الكرك، فأقام عند الملك الناصر داود مدة. وأقبل عليه الملك الناصر وأحسن إليه. ثم سافر إلى الديار المصرية فأقام بها إلى أن مات. وأما الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فإنه مضى إلى الديار المصرية، فأقبل عليه الملك الصالح وتلقاه بالإكرام العظيم والاحترام التام لفضيلته، ولما صدر منه من التشنيع على الملك الصالح إسماعيل. واتفقت وفاة القاضى شرف الدين بن عين الدولة قاضى القاهرة وما معها من الوجه القبلى. فنقل السلطان الملك الصالح القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن المعروف بقاضى سنجار إلى القاهرة، وولاه قضاءها مع الوجه البحرى. وولى الشيخ عز الدين بن عبد السلام قضاء مصر [وما معها من الوجه القبلى والخطابة بجامع مصر (¬1)]. واتفق أن بعض غلمان الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ - وزير الملك الصالح - بنى على سطح بعض المساجد بمصر بنيانا، وجعل فيه طبلخاناة معين الدين (¬2). وبلغ ذلك الشيخ عز الدين فأنكره، ومضى بنفسه وأولاده فهدم ذلك البناء، وأمر بنقل ما على سطح ذلك المسجد وتفريغه مما فيه. وعلم الشيخ ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش. (¬2) ذكر النويرى (نهاية الأرب، ج 27 ق 77) «أن الصاحب معين الدين كان قد بنى فراشخاناة على ظهر مسجد بجوار داره، وكان السلطان قد فوض إلى الشيخ أيضا النظر في عمارة المساجد بمصر والقاهرة، فأرسل إليه يأمره بهدم ما استجده على ظهر المسجد وإزالته وإعادة المسجد إلى ما كان عليه، فلم يجب إلى ذلك، ثم عاوده فلم يفعل. فلما طال ذلك على الشيخ أمر الفقهاء طلبته أن يأتوه في غد ومع كل واحد منهم معولا ففعلوا ذلك، فلما رآهم العوام اجتمع منهم خلق كثير بالمساحى. . .»

ذكر اتفاق الخوارزمية مع الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل صاحب ميافارقين وما تجدد من أحوالهم فى هذه السنة

عز الدين أن ذلك يغضب الملك الصالح والصاحب معين الدين، فأحضر شهودا وأشهدهم على نفسه أنه قد أسقط عدالة معين الدين (¬1)، وأنه قد عزل نفسه من القضاء بمصر وما معها. فعظم ذلك على الملك الصالح، وأبقى نواب الشيخ عز الدين إلى أن جرى ما سنذكره. وقيل للملك الصالح إن لم يعزله من الخطابة، فربما يبدو منه تشنيع على المنبر، كما فعل بدمشق لما سلّم الملك الصالح الشقيف وصفد، فعزله عن الخطابة، فأقام في بيته في القاهرة يشغل الناس بالعلم. وفى هذه السنة سافر جمال الدين بن مطروح إلى الديار المصرية، فولاه الملك الصالح نظر الخزانة. ذكر اتفاق الخوارزمية مع الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل صاحب ميافارقين وما تجدد من أحوالهم في هذه السنة كنا قد ذكرنا (¬2) أن الخوارزمية مضوا، بعد أن كسرهم الملك المنصور وعسكر حلب، إلى عانة، والتجأوا إلى الخليفة المستنصر بالله. فلما دخلت هذه السنة، أعنى سنة تسع وثلاثين وستمائة، ساروا إلى ناحية الموصل. فأظهر لهم بدر الدين ¬

(¬1) ذكر النويرى (نهاية الأرب، ج 27، ق 77) نتائج اسقاط عدالة معين الدين بن الشيخ بقوله: «أثر هذا الإسقاط في الصاحب معين الدين أثرا مؤلما، وهو أنه حكى أن السلطان أرسل رسولا إلى الديوان العزيز ببغداد وكان المشافه للرسول عن السلطان الصاحب معين الدين. فلما أبلغ الرسالة، قال له الوزير: «أيوب شافهك بهذه الرسالة؟» قال: «لا، إنما شافهنى بها عنه الصاحب معين الدين». فقال له الوزير: «معين الدين أسقط الشيخ عز الدين عدالته فلا يرجع إلى مشافهته». (¬2) انظر ما سبق، ص 294.

صاحب الموصل الموافقة، والمسالمة. وسلم إليهم نصيبين (¬1). واتفقوا مع الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل [صاحب ميافارقين (¬2)]، وكان قد أرسل إلى حلب رسولا يعلمهم بذلك، ويطلب أن يوافقوه ويحلفوا له، على أنه إن قصده السلطان غياث الدين صاحب بلاد الروم دافعوا عنه، وكان قد استشعر من جهته، فلم يوافقه الحلبيون على ذلك. ووصلت الخوارزمية إليه، واتفقوا معه على قصد آمد، فبرزت العساكر من حلب، ومقدمها الملك المعظم [توران شاه (¬3)] بن صلاح الدين. ووصلوا إلى حران في صفر من هذه السنة. وساروا جميعهم (¬4) إلى آمد، ودفعوا الخوارزمية عنها. ثم رحلت عساكر حلب إلى ميافارقين، وأغاروا على رستاقها (¬5)، ونهبوا بلدها، فاعتصمت (¬6) الخوارزمية بحاضرها، خارج البلد. ووصلت عساكر حلب وأقامت قريبا من ميافارقين. وجرت بينهم وقعات عدة ثم تهادنوا (¬7) على أن يقطع السلطان غياث الدين الخوارزمية ما كان إقطاعا لهم في بلاده، ويكونون مقيمين في أطراف بلاد الروم، [وعلى أن الصاحبة والدة ¬

(¬1) انظر أيضا ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 260. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن العديم، نفس المصدر والجزء والصفحة. (¬3) ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن العديم، ج 3، ص 261؛ انظر أيضا، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 309. (¬4) في ابن العديم الذى ينقل عنه ابن واصل «بأجمعهم». (¬5) الرستاق (ج رساتيق) لفظ معرب عن الفارسية بمعنى أرض السواد والقرى، انظر ما سبق ابن واصل، ج 3، ص 255 حاشية 2. (¬6) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 261): «واعتصم». (¬7) في ابن العديم: «إلى أن تهادنوا».

ذكر مرض الملك المظفر صاحب حماه

الملك العزيز (¬1)] تعطى أخاها الملك المظفر شهاب الدين ما يختاره من غير اشتراط عليها، وعلى أن يكونوا هم والملك المظفر شهاب الدين [غازى (¬2)] سلما لمن هو داخل في هدنتهم. وكان الملك السعيد نجم الدين غازى بن الملك المنصور صاحب ماردين، قد حلف للسلطان الملك الناصر صاحب حلب. ورجع العسكر إلى حلب، ولم ينتظم من الأمر الذى [37 ا] قرروه شىء. ووصلت (¬3) رسل الملك المظفر شهاب الدين ورسل الخوارزمية وعادوا إليهم من غير اتفاق. وأطلقت (¬4) أسرى الخوارزمية من حلب. ثم خرج الملك المظفر شهاب الدين غازى والخوارزمية، ووصلوا إلى بلد الموصل. ورجع الملك السعيد صاحب ماردين إلى موافقتهم، ونزلوا على الموصل ونهبوا رستاقها، واستاقوا مواشيها ثم توجهوا إلى ناحية الخابور. ذكر مرض الملك المظفر صاحب حماه (¬5) وفى شعبان - من هذه السنة - أصابت الملك المظفر صاحب حماه (¬6)، وهو جالس بين أصحابه في قلعة حماه، سكتة ثم انحلت بفالج عطب به جنبه الأيمن، وبقى ¬

(¬1) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 261): «وعلى أن الملكة الخاتون بحلب». (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن العديم. (¬3) في ابن العديم (نفس المصدر والجزء والصفحة) «ووصل». (¬4) في ابن العديم «وأطلق». (¬5) انظر أيضا عن مرض الملك المظفر، أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 169؛ ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 347؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 310. (¬6) ذكر في الهامش بقلم مخالف: «هو الذى أنشد له صاحبه الزكى القوصى: متى أراك ومن أهوى وأنت ومن تهوى كأنكما روحان في بدنى هناك أنشد والأقدار مصغية هنيت بالملك والأحباب والوطن» وصحة البيت الأول: متى أراك كما أهوى وأنت ومن تهوى كأنكما روحان في بدن وعن تفصيل ذلك انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 277.

أياما لا يتكلم ولا يتحرك وهو كالميت. وانقطع خبره عن الرعية، وكان ذلك في أواخر فصل الشتاء. وأرجف الناس في حماه بموته. وقام بتدبير أموره أستاذ داره الأمير سيف الدين طغريل، والمرجع في الرأى والمشورة إلى الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصارى (¬1)، وكان الوزير بهاء الدين بن التاج، ويشارك في الرأى أيضا الطواشى شجاع الدين مرشد المنصورى (¬2). وبعد أيام خف مرضه قليلا وفتح عينيه وصار يتكلم بكلام لا يكاد يفهم. وحينئذ أجلس للناس، وضربت البشائر بسلامته، فإنه كان قد وقع اليأس منه، وتحقق أكثر الرعية موته، ولم يشكوا فيه. وأذن للناس في الدخول إليه إذنا عاما. ثم بعد ذلك صار يركب وينزل، ولازمت الأطباء مداواته، وكلامه مع ذلك غير مفصح ولا يفهم منه إلا بعسر، وفى ذهنه ضعف. والأمير سيف الدين يدبر الأمور بمشاورة الشيخ شرف الدين، والطواشى مرشد، والصاحبة غازية خاتون بنت السلطان الملك الكامل، والدة السلطان الملك المنصور، قدس روحه، وسنه يومئذ نحو سبع سنين وكسر. وبلغ السلطان الملك الصالح صاحب مصر ذلك، فعظم عليه وأحزنه، وسير إليه طبيبا من أطبائه [37 ب] يقال له، النفيس بن طليب النصرانى (¬3). وجاءه طبيب من الشرق ولم ينجع فيه المداواة. واستمر حاله هكذا إلى أن توفى - رحمه الله - بعد ثلاث سنين إلا شهرا، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) عن الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصارى المتوفى سنة 662 هـ‍، انظر ما سبق، ابن واصل مفرج الكروب، ج 4، ص 273 - 274، 293، 303 حاشية 7. (¬2) عن الطواشى شجاع الدين مرشد المنصورى، انظر ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4 ص 65، 269. (¬3) هو نفيس الدين بن طليب الدمشقى النصرانى الملكى، ذكر أحمد عيسى (معجم الأطباء ص 505) أنه «كان من أطباء هولاكو ملك التتار وكان أكبرهم».

ذكر وفاة الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل - رحمه الله

ذكر وفاة الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل - رحمه الله كنا ذكرنا (¬1) أن الملك الحافظ سلم إلى أخته الصاحبة والدة العزيز قلعة جعبر، واعتاض عنها عزاز وإقطاعا معها. ولما كانت هذه السنة، توفى بعزاز وحمل تابوته إلى حلب. وخرج السلطان الملك الناصر [يوسف (¬2)] صاحب حلب وأعيان الدولة وأماثل البلد وصلوا عليه. ودفن في الفردوس، في المكان الذى أنشأته أخته الصاحبة. وتسلم نواب الملك الناصر قلعة عزاز، وذلك في ذى الحجة من هذه السنة. وعمل عزاؤه في قلعة حماه، وحضره الملك المظفر - رحمه الله - وهو مريض بالفالج، وحضره أكابر البلد. ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 279. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح، وانظر أيضا عن وفاة الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه، ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 263؛ أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 169 - 170؛ ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 347.

ودخلت سنة أربعين وستمائة

ودخلت سنة أربعين وستمائة (*) والممالك على ما كانت عليه في السنة الماضية. ذكر ما تجدد للخوارزمية في هذه السنة وقدم في هذه السنة الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص إلى حلب. وخرج [السلطان (¬1)] الملك الناصر وأكابر حلب إلى تلقيه، فتلقوه بالوضيحى (¬2). وأنزل في دار علم الدين قيصر ثم جمع العساكر وتوجه إلى الشرق. ووصل الملك المظفر شهاب الدين غازى والخوارزمية إلى رأس عين، فتحصن أهلها بها مع العسكر الذى كان بها. وكان بها جماعة من الرماة الجرخية من الفرنج (¬3)، فأمنت الخوارزمية أهلها، ودخلوها، وأخذوا من كان بها من العسكر. ورحل الملك المنصور بعسكر حلب إلى حران، فعاد الملك المظفر والخوارزمية معه (¬4) إلى ميافارقين، وأطلقوا من كان في صحبتهم من العسكر الذين أخذوهم من رأس عين. ثم توجه الملك المنصور والعسكر إلى آمد، واجتمعوا بمن كان بها من عسكر غياث الدين، وأقاموا [38 ا] ينتظرون وصول العساكر (¬5) مع دهليز السلطان لمنازلة ميافارقين. ¬

(*) يوافق أولها 1 يوليو سنة 1242 ميلادية. (¬1) ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش. (¬2) الوضيحى قرية قرب حلب، انظر ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 212 حاشية 2. (¬3) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 262) «وكان معهم جماعة من الرماة والجرخية من الفرنج». (¬4) في المتن «منه» واهل الصيغة المثبتة هى الصحيحة. (¬5) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 262) «عساكر الروم».

ذكر خروج التتر إلى أطراف الروم

ذكر خروج التتر إلى أطراف الروم واتفق خروج التتر في هذه السنة إلى أرزن الروم (¬1)، واشتغل الروم بهم (¬2). وأغارت التتر على خرتبرت (¬3)، وخاف الملك المنصور والعسكر من إقامتهم في البلاد، وأنهم لا يأمنون (¬4) كبسة تأتيهم من جهتهم. فعاد الملك المنصور والعسكر إلى رأس عين، فخرج الملك المظفر والخوارزمية إلى دنيسر (¬5)، وهى للملك السعيد صاحب ماردين. فسار الملك المنصور والعسكر إلى خرتبرت. وساروا إلى جهتهم فوصلهم الخبر أنهم قد نزلوا الخابور، فسار العسكر إلى جهتهم ونزلوا المجدل (¬6). وكان قد انضاف جمع كثير من التركمان إليهم مقدمهم أمير يقال له ابن دودي (¬7). فذكر أنه قال للملك المظفر شهاب الدين: «أنا أكسر لكم عسكر حلب بالجوابنة (¬8) الذين معى». وكانت عدتهم على ما يقال سبعين ألف جوبان غير الخيالة من التركمان. فرحل الملك المظفر حتى نزل قريبا من المجدل، فعلم به الملك المنصور، فأشار عليه الأمير شمس الدين لؤلؤ بمبادرتهم، والرحيل إليهم في تلك الساعة. ¬

(¬1) أرزن الروم، بلدة بأرمينية على مقربة من خلاط، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬2) في المخطوطة «واستولت عساكر الروم بهم» والصيغة المثبتة من ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 263). (¬3) خرتبرت، بلدة أرمنية كان يطلق عليها اسم حصن زياد في أقصى دياربكر، انظر ياقوت (معجم البلدان). (¬4) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 263 - 264): «لا يأمنون من». (¬5) عن دنيسر، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 71 حاشية 1. (¬6) المجدل مدينة بالخابور من نواحى الجزيرة كان فيها أسواق كثيرة، انظر ياقوت (معجم البلدان)؛ أبو الفدا (تقويم البلدان، ص 274 - 275). (¬7) في ابن أيبك (الدر المطلوب، ص 350) «ابن دودا». (¬8) هكذا في المتن وكذلك في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 264)؛ ويبدو أن الجوابنة إما نسبة إلى جوبى وهى قبيلة من قبائل الأكراد (السلوك للمقريزى ج 1 ص 4) وإما نسبة إلى جوبان من قرى مرو (ياقوت، معجم البلدان).

ذكر كسرة الملك المظفر والخوارزمية

ذكر كسرة الملك المظفر والخوارزمية فركب الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص في عساكر حلب، وضرب المصاف معهم يوم الخميس لثلاث بقين من شهر صفر (¬1) من هذه السنة، أعنى سنة أربعين وستمائة. فحين اصطدم الصفان ولت الخوارزمية والملك المظفر منهزمين، وحالت الخيم بين الفريقين، وقتل منهم جماعة. ووقع العسكر في الخيم والخركاهات (¬2) وبها الأقمشة والنساء، فنهبوا جميع ما في العسكر، وأخذوا النساء وجميع ما كان معهن من الأموال والحلى والذهب. ولم يفلت من النساء واحدة. ونزل الملك المنصور في خيمة الملك المظفر غازى، واستولى على [38 ب] خزائنه وجميع ما كان في وطاقه (¬3). وغنم العسكر من الخيل والبغال والجمال ما لا يحصى. وبيعت الأغنام المنهوبة في الموصل وحلب وحماة وحمص وما قبل ذلك من البلاد بأنجس الأثمان (¬4). ثم رجع الملك المنصور بالعسكر إلى حلب. وخرج السلطان الملك الناصر صاحب حلب لتلقيه. فتوجه أولا إلى قلعة جعبر ثم توجه إلى منبج، فلقيه واجتمع به. ودخلت العساكر حلب مستهل جمادى الأولى (¬5) من هذه السنة. ولثلاث مضين من جمادى الأولى، سار الملك المنصور ومعه جماعة من عسكر حلب قاصدا (¬6) بلاد الفرنج للإغارة عليهم من جهة طرابلس. ¬

(¬1) كذا في نسخة المخطوطة وأبى الفدا (المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 170) وفى ابن العديم ورد التاريخ مخالفا «يوم الخميس الثالث والعشرين من صفر من سنة أربعين وستمائة»، انظر زبدة الحلب ج 3، ص 264. (¬2) الخركاهات جمع خركاه وهى نوع من الخيام، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 2، ص 45 حاشية 2. (¬3) انظر أيضا أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 171؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ص 488. (¬4) ذكر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ص 488) والنويرى (نهاية الأرب، ج 27، ق 78) أن الفرس بيع بخمسة دراهم ورأس الغنم بدرهم. (¬5) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 265) «يوم الأربعاء مستهل جمادى الأولى». (¬6) في المتن «قاصد».

ذكر وفاة الملكة الصاحبة ضيفة خاتون بنت السلطان الملك العادل والدة الملك العزيز - رحمه الله

ذكر وفاة الملكة الصاحبة ضيفة خاتون بنت السلطان الملك العادل والدة الملك العزيز - رحمه (¬1) الله وكان سبب موتها قرحة عرضت في مراق البطن، وازداد مرضها (¬2)، وحدث لها حمى بسبب ذلك. وتزايد مرضها إلى أن انتقلت إلى رحمة الله تعالى ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة مضت من جمادى الأولى من هذه السنة. ودفنت في الحجرة بالقلعة التي دفن فيها ولدها الملك العزيز رحمهما الله. وكان مولدها في قلعة حلب سنة إحدى وثمانين وخمسمائة حين كانت حلب لوالدها السلطان الملك العادل رحمه الله. وقد كنا ذكرنا (¬3) أن السلطان الملك الناصر صلاح الدين أعطى حلب لأخيه الملك العادل ثم أخذها منه وأعطاها لولده الملك الظاهر، فاتفقت وفاتها أيضا في قلعة حلب (¬4). وقد حكى أن والدها الملك العادل كان عنده في قلعة حلب ضيف، فلما أخبر بولادتها قال: «سموها ضيفة». وقد ذكرنا أن الملك العادل زوّج ابن أخيه الملك الظاهر ابنته غازية (¬5) خاتون [39 ا]، وولد له منها ولد مات صغيرا، وأن غازية توفيت فزوج الملك العادل الملك الظاهر ابنته ضيفة خاتون، وولد له منها الملك العزيز فقط. ولم تبق عنده ¬

(¬1) عن ضيفة خاتون، انظر الحنبلى، شفاء القلوب في مناقب بنى أيوب، ق 89 ب؛ وانظر ما سبق ابن واصل، ج 3، ص 212، ج 4، ص 313. (¬2) في ابن العديم (زبدة الحلب، ج 3، ص 265) «وازداد ورمها». (¬3) انظر ما سبق، ابن واصل، مفرج الكروب، ج 2، ص 152 - 153، 178 - 179. (¬4) ذكر أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 171): «فاتفق مولدها ووفاتها بقلعة حلب». (¬5) انظر ما سبق، ابن واصل، مفرج الكروب، ج 3، ص 166.

ذكر سيرتها رحمها الله

إلا ثلاث سنين وشهورا ثم توفى، وملك ولدها الملك العزيز ثم توفى. وتصرفت تصرف السلاطين، وقامت بالملك أحسن قيام، لصغر ابن ابنها الملك الناصر. وكانت مدة عمرها نحو تسع وخمسين سنة. وقامت بتدبير المملكة نحو ست سنين. ذكر سيرتها رحمها الله كانت عادلة في الرعية، كثيرة الإحسان والتحنن عليهم، والشفقة بهم. أزالت المظالم والمكوس في جميع بلاد حلب، وكانت تؤثر الفقراء والزهاد والعلماء وأهل الدين، وتحمل إليهم الصلات الكثيرة. ولم تزل صدقاتها دارة وإحسانها واصلا إلى كل من يفد إلى بابها. وما قصدها أحد إلا رجع مجبرا مجبورا. ذكر استقلال السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز صاحب حلب بالسلطنة ولما توفيت جدة الملك الناصر، أشهد على نفسه بالبلوغ، وكانت سنه يومئذ نحو ثلاث عشرة سنة. فأمر ونهى، وقطع ووصل. وجلس في دار العدل لكشف المظالم، وصار يجلس كل اثنين وخميس، والإشارة والرأى إلى الأمير جمال الدولة إقبال الخاتونى (¬1)، والوزير القاضى الأكرم جمال الدين بن القفطى (¬2). ثم أن الخوارزمية تجمعوا هم والتركمان، وعاثوا في الشرق. فخرج عسكر حلب ومقدمهم الأمير جمال ¬

(¬1) كذا في المتن وفى ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 266، وابن أيبك، الدر المطلوب ص 351، بينما ورد الاسم «جمال الدين إقبال الأسود الخصى الخاتونى» في بعض المصادر، انظر أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 171؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 311؛ العينى، عقد الجمان، حوادث سنة 640 هـ‍. (¬2) عن الوزير جمال الدين بن القفطى صاحب كتاب «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» انظر ما سبق ابن واصل، ج 4، ص 312 وحاشية 6.

الدولة إقبال الخاتونى وذلك في جمادى الآخرة. وساروا وخيموا في رأس عين، فتجمعت الخوارزمية، وانضووا إلى الملك السعيد نجم الدين غازى صاحب ماردين، واحتموا بالجبل. ووصل عسكر حلب ونزل قبالتهم [39 ب] تحت الجبل، وخندقوا حولهم، وجرت بينهم وقعات. وتضرر عسكر حلب بالمقام لقلة العلوفة، إلى أن ورد الأمير شمس الدين الأصفهانى، نائب المملكة ببلاد الروم، رسولا من السلطان غياث الدين إلى الملك المظفر شهاب الدين غازى، وإلى الملك السعيد نجم الدين صاحب ماردين، وإلى الخوارزمية. وأصلح بينهم على أن يعطى الملك السعيد رأس عين، ويعطى الخوارزمية خرتبرت وشىء من البلاد، والملك المظفر [غازى (¬1)] خلاط وبلادها. وكان السبب الذى دعا غياث الدين إلى هذه المراسلة ما سنذكره من خروج التتر. فلم يتم للخوارزمية والملك المظفر ما ارضوا به لما سنذكر من كسر التتر لغياث الدين. وحصل الملك السعيد صاحب ماردين على رأس عين. ورحلت العساكر الحلبية ومعهم شمس الدين الأصفهانى نائب الروم إلى حلب. فدخلوها في شوال من هذه السنة. وورد مع نائب الروم أموال عظيمة يستخدم بها العساكر للقاء التتر. وطلب شمس الدين الأصفهانى النائب من الملك الناصر صاحب حلب نجدة إليه، ليلقى بهم التتر. فسيرت إليه نجدة مقدمها الأمير ناصح الدين الفارسى، وكان ذلك في ذى الحجة من هذه السنة. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح من ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 267.

ذكر وفاة الخليفة المستنصر بالله أمير المؤمنين رحمه الله

ذكر وفاة الخليفة المستنصر بالله أمير المؤمنين رحمه الله وفى هذه السنة توفى الخليفة المستنصر بالله أبو جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبى نصر أحمد بن الناصر لدين الله أبى العباس أحمد. وتمام النسب إلى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقدم ذكره، وذلك بكرة يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة، أعنى سنة أربعين وستمائة. وقد ذكرنا أنه ولى الخلافة لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة (¬1)، فكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة إلا شهرا واحدا. وكان سبب موته [40 ا] على ما حكاه لى وجيه الدين بن سويد التكريتى، وكان خبيرا بأحوالهم، أنه فصد بمبضع مسموم، وقد تقدم ذكر ذلك، فإن صح هذا كانت القاعدة التي اتفقت، أن كل سادس من بنى العباس يخلع أو يقتل، غير منتقضة (¬2). ذكر سيرته رحمه (¬3) الله كانت سيرته رحمه الله من أحسن السير في العدل، والإحسان إلى الرعية والعطف عليهم، والحنوبهم. وكان سالكا في ذلك كله سيرة أبيه الإمام الظاهر بأمر الله، وكذلك سلك مسلكه في اعتقاد مذهب أهل السنة والجماعة، والكراهية ¬

(¬1) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 196. (¬2) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 162 (¬3) انظر أيضا، سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ص 489؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 311 - 312؛ الذهبى، شذرات الذهب، ج 5، ص 209؛ ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 345 - 346.

لمذهب الروافض، ومخالفا في كل ما ذكرنا لطريقة جده الناصر لدين الله (¬1). وسلك ولده المستعصم بالله في اتباع مذهب أهل السنة مسلكه، لكن لم يسلك مسلكه في حسن التدبير والنظر في مصالح المملكة. وعمرت البلاد في أيام المستنصر بالله - رحمه الله - عمارة عظيمة. وأثر فيها الآثار الجميلة الحسنة؛ من ذلك أنه بنى على شط دجلة من الجانب الشرقى مما يلى دار الخلافة (¬2)، مدرسة سميت المستنصرية (¬3). لم يبن على وجه الأرض مدرسة أحسن منها، ولا أكثر وقفا. وجعل فيها أربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، كل مدرس منهم له سدة عالية، ومسند يستند إليه. ورتب في المدرسة دار كتب، فيها من الكتب النفيسة في سائر أنواع العلوم شيئا كثيرا جدا. وجعلها برسم من يطالع ويستنسخ من الفقهاء. ورتب فيها الورق والأقلام لمن يريد النسخ. ورتب بيمارستانا للمدرسة، للمرضى فيه جميع صنوف الأدوية والعقاقير والأشربة. ورتب به من الأطباء من يقوم بمعالجة الفقهاء، ويصرف إليهم مما في البيمارستان ما يشير الأطباء باستعماله من الأشربة والأدوية والسكر والفراريج وغير ذلك. ورتب أيضا في المدرسة مطبخا للفقهاء يطبخ فيه الطعام [ق 40 ب] ويحمل إلى كل منهم كفايته منه، ومن الخبز الجيد. ورتب ما يشترى به الحصر لبيوت ¬

(¬1) انظر ما سبق، ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4، ص 166. (¬2) عن طوبغرافية بغداد، انظر: Lassner, J, The Topography of Baghdad in the early Middle ages, (Detroit, 1970). (¬3) ذكر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 489) عن هذه المدرسة، «وليس في الدنيا مثل هذه المدرسة ولا بنى مثلها في سالف الأعوام فهمى بالعراق كجا مع دمشق وقبة الصخرة بالشام»، انظر أيضا، العينى، عقد الجمان، حوادث 564 هـ‍؛ أبو الفدا، المختصر ج 3، ص 171.

الفقهاء، والسرج والزيت. ورتب مزملة (¬1) يبرد فيها الماء في الصيف لهم، وجعل لكل فقيه مع هذه الرواتب كلها دينارا إماميا في كل شهر. ورتب للمدرسين والمعيدين ما يليق بهم من الرواتب. ورتب حماما يدخلون إليها متى احتاجوا، وفيها من يقوم بخدمتهم. وهذا لم يعمل مثله أحد من الخلفاء الماضين ولا الملوك المتقدمين. ولهذه المدرسة طاقات مطلة على دجلة يشاهدون فيه المراكب المقلعة والمنحدرة. وأعظم مدرسة كانت ببغداد المدرسة النظامية المنسوبة إلى نظام الملك وزير السلطانين ألب أرسلان وولده ملكشاه، ولا نسبة لها إلى هذه المدرسة، لا في الصورة، ولا في المعلوم، ولا في الحسن والنزاهة. وللخليفة منظرة (¬2) مطلة على هذه المدرسة، يرى الفقهاء منها إذا حضروا، ويسمع مناظراتهم ولا يرونه. ورتب في جامع القصر، وهو الجامع الذى يصلى فيه الخليفة أربع دكك برسم مدرسى المدرسة المستنصرية، وفقهائهم يصلون على هذه الدكك. وفقهاء كل طائفة على دكة منها. وهذه الدكك كلها عن يمين المنبر. وكانت العادة إذا فرغت الصلاة أن يجلسوا للمناظرة، وذكر مسائل الخلاف والبحث فيها. ومن أراد من الفقهاء مدح الخليفة بقصيدة قام وأنشدها قبل ذكر المسألة. وكانت له - رحمه الله - صلات وصدقات إلى من يرد من العلماء والزهاد والأدباء وسائر الطبقات. واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه وجده. وكانت عدتهم، على ما بلغنى، يزيد على مائة ألف. وكان ذا همة عالية وشجاعة وافرة، وإقدام عظيم. ¬

(¬1) هى جرة في وسطها ثقب مركب فيه قصبة من الفضة أو الرصاص يشرب منها، سميت مزملة لأنها تلف بشىء من الخيش أو غيره ويجعل بينه وبين خزفها التين ليبقى الماء باردا، انظر: محيط المحيط. (¬2) في المخطوطة «منظر».

وقصدت التتر بلاد العراق، فلقيهم عسكره، وانتصف منهم وهزمهم. وكان له أخ يعرف بالخفاجى كان يزيد عليه في الشهامة والشجاعة. [41 ا] وبلغنى أنه كان يقول: «إن ملكنى الله تعالى أمر الأمة، لأعبرن بالعساكر نهر جيحون، وانتزع البلاد من أيدى التتر، واستأصلهم قتلا وسبيا». فلما توفى المستنصر بالله، لم ير الدوادار (¬1) والشرابى (¬2) - وكانا غالبين على الأمر - تقليده الخلافة خوفا منه، وآثروا أن يليها أبو أحمد عبد الله بن المستنصر لما يعلمونه من لينه وانقياده، وضعف رأيه، ليكون الأمر كله إليهما، ويستبدا به لما يريده الله تعالى ويقدره، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه. ولما بلغت الملك الناصر داود، صاحب الكرك، وفاة الخليفة المستنصر بالله، رثاه ومدح ولده المستعصم بالله بقصيدة مطلعها: أيا رنّة الناعى عبثت بمسمعى ... فأجّجت نار الحزن ما بين أضلعى وأخرست منى مقولا ذا براعة ... يصوغ أفانين القريض الموشّع نعيت إلىّ البأس والجود (¬3) والحجى ... فأوقفت آمالى وأجريت أدمعى ¬

(¬1) الدوادار: كلمة مركبة من لفظين أحدهما عربى وهو الدواة والثانى فارسى وهو دار ومعناه ممسك الدواة، والوظيفة اسمها الدوادارية وصاحبها كما يذكر القلقشندى (صبح الأعشى، ج 5، ص 462) هو الذى كان «يحمل دواة السلطان أو الأمير أو غيرهما، ويتولى أمرها مع ما ينضم إلى ذلك من الأمور اللازمة لهذا المعنى من حكم وتنقيذ أمور وغير ذلك بحسب ما يقتضيه الحال». (¬2) الشرابى هو الذى كان يصنع الأشربة والأدوية، وكان أحد رجال الشراب خاناة، ويقابل ذلك في مصطلح دولة المماليك كلمة الساقى، انظر: المقريزى، السلوك، ج 1، ص 458 حاشية 3؛ انظر أيضا القلقشندى، صبح الأعشى، ج 4 ص 10، ج 5 ص 469؛ Dozy, Supp. Dict. Ar. (¬3) في العينى (عقد الجمان، حوادث 640 هـ‍) الذى يبدو أنه نقل عن ابن واصل هذه الأبيات: «الجود والبأس».

رويدا فقد فاجأتنى (¬1) بفظيعة ... يضيق بها صدر الفضاء الموسّع أبا جعفر يا بانى المجد بعد ما ... تهدّم ركن المجد من كل موضع ويا كافل الإسلام في كل موطن ... وراعى رعاة الدين في كل مجمع ومن كنت أرجو أننى في زمانه ... أبادر أيام الزمان المضيّع فاستدرك الماضى بفضل تضرّع ... واستقبل الآتى بدرع تورّع أحقا طوتك الحادثات كما طوت ... قرونا مضت من عهد كسرى وتبّع وغالك ريب الدهر والدهر جائر ... إذا صال لا يبقى وإن جال لا يعى فأيأس آمالا تدانى غناؤها ... فراحت بفقر من رجائك مدقع دعا باسمك الناعى على حين غفلة ... فأصمى سويداء الفؤاد المصدّع (¬2) فقلت - وإنى في الفصاحة قسّها (¬3) ... مقالة مسلوب الروية ألكع: أيا دهر قد آمنتنى كل خيفة ... فلست بميت بعده بمفجّع فغل كلّ مأمور وكلّ مؤمّر ... وخذ بعده يادهر من شئت أو دع ولو كان خطب الموت يقبل فدية ... ويدفعه سعى الكمىّ المدرّع فديتك بالنفس النفيسة طائعا ... ودافعت بالجيش اللهام الممنّع (¬4) بضرب طليق الكف حران ثائر ... وطعن ربيط الجأش في الروع أروع ببيض تقد البيض من حرّ وقعها ... وسمر تردّ القرن قانى المقنع وكلّ فتى يلقى المنايا بصدره ... وقلب ثبوت لا بقلب مزعزع ¬

(¬1) في العينى «فاجاءت» وعليها يختل الوزن. (¬2) سقطت الأبيات الثلاثة التالية لهذا البيت من مخطوطة العينى، عقد الجمان، حوادث 640 هـ‍. (¬3) المقصود قس بن ساعدة الإيادى من خطباء العرب في الجاهلية. (¬4) سقطت الأبيات الخمسة التالية لهذا البيت من العينى، عقد الجمان، حوادث 640 هـ‍.

يفضّون بنيان المقانب في الوغى ... بلبّات آساد مشائل جزّع ولكنه من لا ينافى ويتقى ... ببذل فداء أو بأطراف شرّع لقد كنت لى حصنا حصينا من العدى ... إليه التفاتى في الخطوب ومفزعى وعارض جود منه أستنزل الندى ... فأسقى بغيث من عطاياه ممرع فأضحى ومن حر المكارم مشربى ... وأمسى وفى رفض المواهب مرتعى (¬1) سأبكيه أيام الحياة وإن أمت ... بكته عظامى في قرارة مضجعى وأشكره شكر الثرى لسمائه ... بدر من اللفظ البديع المرصّع (¬2) وما كلف بالشىء مثل مكلّف ... ولا داعيات الطبع مثل التطبع وما كلّ من يولى جميلا بشاكر ... وما كل من يدعى خطيبا بمصقع هو المرء أدنانى وأبعد غايتى ... ووسّع لى ذرعى وطوّل أذرعى فتى بدأ الاحسان حيا وميتا ... بفرط اصطناع لا بفرط تصنع بإسداء معروف وإلغاء منكر ... وتسكين مسلوب الجنان (¬3) مروّع وتسليمه تاج الخلافة بعده ... إلى خير مودوع وأوثق مودع هوى قمر العلياء من برج سعده ... فاطلع شمس المجد من خير مطلع بفرع نمى من دوحة ظاهرية ... نمى عرفها عن طيبها المتضوع بمستعصم (¬4) بالله منتصر له ... بحزم التأنى لا بحزم التسرع أقام منار العدل بعد إعوجاجه ... وشيد واهى الدين بعد التضعضع بإقدام منصور وعزمة قادر ... وسيرة مهدى وإخبات طيع ¬

(¬1) البيت التالى ساقط من العينى. (¬2) الأبيات الثلاثة التالية ساقطة من العينى. (¬3) في العينى (عقد الجمان) «الفؤاد». (¬4) في المتن «بمعتصم» وهو تحريف، والصيغة الصحيحة المثبتة من العينى (عقد الجمان).

ذكر خلافة الامام المستعصم بالله أمير المؤمنين رحمه الله

به رجعت شمس (¬1) المكارم والعلى ... كما رجعت شمس النهار ليوشع (¬2) ففرق شمل المال بعد اجتماعه ... وجمّع أشتات العلاء الموزع سأشكر للأيام حيلة برها ... لأبلال قلب بالرذية موجع باقبالها تزهى بأكرم مودع ... وإن يك قد ولّت بخير مودّع ولائى لكم يا آل أحمد صادق ... إذا مان مذّاق ونمق مدّع وإنى لشيعى المحبة فيكم ... وإن لم يشن دينى غلو التشيع فلى من نداكم خفض عيش مرفه ... ولى في ذراكم عز قدر مرفّع (¬3) ذكر خلافة الامام المستعصم بالله أمير المؤمنين رحمه الله فاتفق رأى أرباب الدولة (¬4) بعد موت المستنصر بالله، على تقليد الخلافة ولده المستعصم بالله أبا أحمد عبد الله، واستبد بتدبير الخلافة أرباب دولته. وكان المستعصم متدينا متمسكا بمذهب السنة والجماعة، على ما كان عليه أبوه المستنصر وجده الظاهر رحمهم الله أجمعين. وحسّن له أصحابه جمع الأموال ¬

(¬1) في المتن «نفس» والصيغة المثبتة من العينى وسياق البيت يقتضى كلمة «شمس». (¬2) الأبيات الثلاثة التالية لهذا البيت ساقطة من العينى. (¬3) سقط هذا البيت من العينى. (¬4) ذكر أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 171؛ والعينى، عقد الجمان، حوادث 640. «اتفق أراء أرباب الدولة مثل الدوادار والشرابى على تقليد الخلافة ولده عبد الله ولقبوه المستعصم بالله» انظر أيضا ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 348.

والاقتصار على بعض من ببغداد من الجند وقطع الباقين، ومسالمة التتر. وحمل القطيعة إليهم لينكفوا عنه، وقالوا له: «هذه الطائفة قد ملكوا معظم بلاد الإسلام ولم يقف أحد من الملوك قدّامهم، فالحزم مهاداتهم ومهادنتهم، وأن يحمل إليهم في كل سنة من المال ما يرضيهم ليكفوا وينكفوا». فأذعن لذلك، وقطع أكثر من عنده من العساكر. فأدى ذلك إلى ما سنذكره.

ودخلت سنة إحدى وأربعين وستمائة

ودخلت سنة إحدى وأربعين وستمائة (*) والسلطان الملك الصالح أيوب بالديار المصرية، وابن عمه (¬1) الملك الناصر داود، وعمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، والملك المنصور صاحب حمص، والحلبيون متفقون على عداوته، وليس معه من أصحاب الأطراف إلا الملك المظفر صاحب حماه، وهو مريض بالفالج كما تقدم ذكره (¬2). وفى هذه السنة سير الملك المظفر صاحب حماه القاضى [42 ب] شهاب الدين أبا اسحاق ابراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم رسولا إلى الخليفة المستعصم بالله، مهنئا له بالخلافة، ومعزيا بأبيه المستنصر بالله. ونفذ معه ثيابا طلسا برسم القبر، وألف دينار برسم الصدقة عنه، ومعه أيضا رسالة إلى الملك السعيد نجم الدين غازى ابن الملك المنصور أرتق صاحب ماردين، ورسالة إلى السلطان الملك الناصر صاحب حلب، ورسالة إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. وتقدم إلى الملك المظفر بالمسير معه، فسافرنا من حماه مستهل المحرم. ومضينا إلى حلب، فأقمنا بها أياما، ثم مضينا إلى حران، ومنها إلى دنيسر. وبلغنا ونحن فيما بين رأس عين ودنيسر حركة التتر وقصدهم بلاد الروم. ثم صعدنا إلى ماردين وأقمنا بها يوما واحدا وقد قويت الأخبار بحركة التتر. ثم سرنا إلى نصيبين ¬

(*) يوافق أولها 21 يونيه سنة 1243 ميلادية. (¬1) في المتن «عبد» والصيغة الصحيحة هى المثبتة. (¬2) انظر ما سبق، ص 306 - 307.

ووجدنا الخوارزمية، وهى بأيديهم مقيمين بها، وهم يظهرون طاعة السلطان الملك الصالح نجم الدين صاحب مصر. ثم وصلنا إلى الموصل ونزلنا بخانقاة على الشط، ووجدنا بالموصل محيى الدين بن الجوزى رسول الخليفة، وهو يريد التوجه إلى بلاد الروم رسولا إلى السلطان غياث الدين كيخسرو. وكان بدر الدين في تلك الأيام داخلا في طاعة التتر وهو منتم إليهم، ويهاديهم ويراسلهم. وكان بينه وبين الملك السعيد صاحب ماردين تنافر، فأخذ القاضى شهاب الدين في الإصلاح بينهما وذلك بتقدّم من مخدومه الملك المظفر إليه بذلك. ثم توجهنا إلى بغداد في دجلة في ركوة (¬1) أعطانا إياها بدر الدين، وسارت الدواب في البر. وحين وصلنا تكريت طولع الديوان ببطاقة حمام بوصولنا. ووصلنا إلى المزرفة (¬2)، فنزلنا بها حتى جاءنا من جهة الديوان من وصلنا معه على الظهر إلى بغداد، فغدو بنا إلى بغداد. وأمرنا بالنزول في جامع السلطان، حتى خرج الموكب [43 ا] لتلقينا. ودخلنا بغداد، فنزلنا بقراح (¬3) القاضى. وكان النائب في الوزارة بها رجلا يقال له نصير الدين، وهو شيخ فان مقعد، فأدى القاضى شهاب الدين الرسالة. ¬

(¬1) الركوة زورق صغير من زوارق نهر دجلة استخدمها أهل العراق في العبور من شط إلى آخر، انظر، مسكويه، تجارب الأمم، ج 2، ص 93؛ ابن سيده، المخصص، ج 10، ص 26؛ درويش النخيلى، السفن الإسلامية، ص 52. (¬2) في المتن «المرزقة» وهو تحريف، وذكر ياقوت (معجم البلدان) أن المزرفة كانت «قرية كبيرة فوق بغداد على دجلة، بينها وبين بغداد ثلاثة فراسخ وإليها ينسب الرمان المزرفى». (¬3) ذكر ابن منظور (لسان العرب، ج 3، ص 396) أن المقصود بالقراح «الأرض المخلصة لزرع أو لغرس، وقيل القراح المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر».

ورجعنا بعد أن أقمنا شهرين. فلما وصلنا إلى الموصل اجتمعنا بصاحبها بدر الدين [لؤلؤ (¬1)]، فأخبرنا بأن التتر استظهروا على المسلمين ببلاد الروم وكسروهم، وأن غياث الدين صاحب البلاد انهزم إلى بعض المعاقل. فتوجهنا إلى نصيبين واجتمعنا بالأمير حسام الدين بركة خان، مقدم الخوارزمية وتحدثنا معه في معنى القيام بنصرة السلطان الملك الصالح نجم الدين، والمضى بالخوارزمية إلى خدمته ومعاضدته على أعدائه. فوعد بركة خان بذلك، وكان حديثه لنا بواسطة ترجمان بيننا وبينه. وعدنا إلى حماه فدخلناها في إحدى الجمادتين من هذه السنة. وسمعنا عند وصولنا إلى حلب ما جرى على المسلمين ببلاد الروم، ووجدنا خلقا من الجافلين من تلك البلاد. واضطرب الشام لذلك اضطرابا كثيرا، ووجدنا بحلب القاضى أفضل الدين الخونجى، وكان قاضيا ببلاد الروم، وهو على عزم المضى إلى الديار المصرية. ونظمت وأنا بحلب أبياتا، ذكرت فيها المنازل بين بغداد وحماة، وهى: طواها سراها حين طال سفارها ... وانحلها تهجيرها وابتكارها وأتبعها جذب البرى وأذابها اش‍ ... تياق إلى أرض بعيد مزارها وما باعث الأشواق نحو بلادها ... سوى أهلها لا شيخها وعوارها إذا لاح برق من حماة وأرضها ... تضاعف بلواها وزاد أوارها وتعرض عن ماء الفرات ودجلة ... إذا ذكر العاصى ويبدو انكسارها ولما أبيحت عزمة العود بعد ما ... تطاول من شوق اليها انتظارها تزحلق عن دار السلام طوالبا ... بنا أرض وأنّا والأنين شعارها ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

ذكر دخول التتر بلاد الروم وكسرهم غياث الدين وعسكره

وفى أرض تكريت أنيخت ضحى ... وقد نفى النوم عنها وجدها وادّكارها وجاءت إلى المستعصمية وانثنت ... إلى العقر والأشواق تضرم نارها وفى الموصل الجدباء قيل لها ابشرى ... بأن ليالى البعد آن انحسارها وشامت بروقا في نصيبين أو مضت ... فاسعر نيران الغرام استعارها وأمست بنا في ماردين ووجدها ... يزيد وينمو إذ يقل اصطبارها وأمت صباحا رأس عين حثيثة ... إلى أن علا شمس النهار اصفرارها وجاءت بنا جلاّب حران سرّعا ... وأمسى إلى شط الفرات ابتدارها وفى حلب الشهباء أضحى مقرها ... وطىّ الفيافى سؤلها واختيارها عساها إذا ما فارقت حلبا بنا ... تقر بقنسرين منها قرارها وتأتى إلى أرض المعرة والمنى ... تبشرها أن قد تدانت ديارها وتصبح في أوطانها مستقرة ... وقد زال عنها بؤسها وضرارها وسمعنا في حلب وقوع الصلح بين السلطان الملك الصالح نجم الدين، وعمه الملك الصالح عماد الدين، والملك المنصور صاحب حمص على إقامة الخطبة لصاحب مصر والسكة، واتفاقهم على الملك الناصر داود على ما سنذكره. ذكر دخول التتر بلاد الروم وكسرهم غياث الدين وعسكره قد ذكرنا تحرك التتر في السنة الماضية، وقصدهم جهة بلاد الروم (¬1). فلما تحقق السلطان غياث الدين ذلك، أخذ في جمع العساكر والأجناد للقائهم. وسيّر شمس الدين الأصفهانى نائبه، فأصلح كما ذكرنا بين عسكر السلطان الملك الناصر ¬

(¬1) انظر ما سبق، ص 310.

ذكر وقوع الإتفاق بين السلطان الملك الصالح نجم الدين وبين عمه الملك الصالح وصاحب حمص

صاحب حلب، وبين الخوارزمية والملك المظفر شهاب الدين غازى صاحب ميافارقين والملك السعيد صاحب ماردين. ولما أصلح بينهم وعاد مع العساكر إلى حلب [44 ا]، أخذ من حلب عسكرا مقدمه ناصح الدين الفارسى أبو المعالى. ولما قدم عسكر حلب إلى الروم، أكرمهم السلطان غياث الدين وأحسن إليهم، وخلع عليهم وضمهم إلى عسكره. ولما دخلت هذه السنة، أعنى سنة إحدى واربعين وستمائة، جاءت التتر بجموعها إلى بلاد الروم، وضربوا مع غياث الدين مصافا عظيما، فكانت الهزيمة أولا على التتر ثم تراجعوا، وحملوا على عسكر المسلمين فهزموهم هزيمة عظيمة (¬1). فقتلوا منهم وأسروا خلقا. وتشتتت العساكر يمينا وشمالا، ونهبت التتر من الأموال ما لا يحصى. وهرب غياث الدين إلى بعض المعاقل فاحتمى به. وثارت التركمان في البلاد ينهبون ويعيثون. ورجع ناصح الدين الفارسى بمن معه من عسكر حلب في أسوأ حال. ثم استولت التتر على آمد وخلاط وبلادهما. ذكر وقوع الإتفاق بين السلطان الملك الصالح نجم الدين وبين عمه الملك الصالح وصاحب حمص ووقعت في هذه السنة المراسلة بين السلطان الملك الصالح نجم الدين وعمه ¬

(¬1) انظر أيضا عن هزيمة غياث الدين كيخسرو السلجوقى صاحب بلاد الروم أمام التتار، ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 269؛ أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 171 - 172؛ وذكر المقريزى (السلوك، ج 1، ص 313) أن غياث الدين فر من التتار إلى القسطنطينية بينما ذكر كل من العينى (عقد الجمان، حوادث 641)، وابن أيبك (الدر المطلوب، ص 352) وابن تغرى بردى (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 347) أنه صالح التتار على أن يدفع لهم كل يوم ألف دينار وفرسا ومملوكا وجارية وكلب صيد، وأنه كان شابا ظالما قليل العقل، يلعب بالكلاب والسباع ويسلطها على الناس فعضه بعد ذلك سبع فمات في سنة 654 هـ‍.

الملك الصالح وصاحب حمص. وتقرر الاتفاق بينهم على أن تكون دمشق للملك الصالح إسماعيل وبلادها. ويقيم هو والحلبيون وصاحب حمص الخطبة والسكة للملك الصالح صاحب مصر، ويخرج ولده الملك المغيث ومن عنده من أصحابه في الاعتقال، ويسيرهم إليه، وتكون بعض بلاد الملك الناصر داود للملك الصالح اسماعيل، وبعضها لصاحب مصر. ويخرج البلاد كلها من يده. وكان الرسول من جهة الملك الصالح إسماعيل، جلال الدين الخلاطى. وقدم من مصر الخطيب أصيل الدين الإسعردى (¬1) إمام الملك الصالح رسولا من الملك الصالح نجم الدين [فخطب للسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب (¬2)] بجامع دمشق. ثم مضى إلى حمص وخطب له بها [أيضا (¬3)]. وبعث الملك الصالح [44 ب] إسماعيل عسكرا إلى عجلون فحاصروها، وكانت للملك الناصر داود وأقطعها - لما خرج من مصر - لسيف الدين بن قلج. ثم تقدم الملك الصالح إسماعيل بالافراج عن الأمير حسام الدين أبى على بن محمد بن أبى على الهذبانى. وكان كما قدمنا ذكره (¬4) معتقلا في جب ببعلبك، مضيقا عليه فيه. وكان الجب مظلما لا يفرق فيه بين الليل والنهار. وكنا قد ذكرنا (¬5) أنه لما قبض عليه الملك الصالح إسماعيل، عقب اعتقال مخدومه الملك الصالح نجم الدين بالكرك، حبسه بقلعة دمشق في حبس الخيالة وقيده. ¬

(¬1) نسبة إلى اسعرد وهى بلدة بين دجلة وميافارقين، انظر: أبو الفدا، تقويم البلدان، ص 288 - 289. (¬2) ما بين الحاصرتين من كتاب السلوك للمقريزى، ج 1 ص 314. (¬3) ما بين الحاصرتين إضافة لإيضاح المعنى. (¬4) انظر ما سبق، ص 243. (¬5) انظر ما سبق، ص 243.

ولما وردت الأخبار بخروج الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬1)] من الاعتقال وتملكه الديار المصرية، نقله الملك الصالح [اسماعيل (¬2)] إلى قلعة بعلبك، وجعله في ذلك الجب المظلم. وكان ينزل إليه في كل يوم بقليل خبز وبقل. وضيق عليه تضييقا عظيما. فحكى لى (¬3) رحمه الله قال: «كنت أحسب في نفسى أنه ربما أمنع الطعام والشراب لأموت، فكنت أدّخر من الخبز والبقل المرتب في كل يوم شيئا قليلا، وكذلك من الماء الذى ينزل إلىّ كنت أجمعه في جرة طلبتها، فاجتمع عندى من ذلك شىء كثير، ثم أنه طين على الجب، ومنعت من الطعام والشراب فارتفقت بذلك الذى جمعته مدة إلى أن فتح الجب، وأنزل الىّ ما كان يجرى علىّ أولا إلى أن فرج الله سبحانه عنى». ولما جرى ما ذكرناه، أخرج. ولما أخرج من الجب حمل إلى دمشق وترك في برج كان الملك المغيث معتقلا فيه. وأفرج عن الملك المغيث وأذن له في الركوب، فصار يركب ويعود إلى القلعة. ثم أذن للأمير حسام الدين في الانتقال من القلعة، وأن يتجهز للمسير إلى الديار المصرية. فخرج من البرج الذى كان فيه ومضى إلى مدرسة عز الدين أيبك المعظمى، التي على الشرق. وأطلق له ما كان أخذ منه وغلمانه، وكانوا قد احتيط عليهم في مدة اعتقاله. وخلع عليه، وأطلق له مال. وأفرج [45 ا] عن جماعة من أصحاب الملك الصالح نجم الدين، كانوا في الاعتقال، منهم مجير الدين بن أبى زكرى. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) أي حكى لجمال الدين بن واصل.

ثم توجه من جهة الملك المنصور صاحب حمص، القاضى عماد الدين ابن القطب الذى كان قاضيا في حماة، وقد ذكرناه، رسولا في تحليف الملك الصالح نجم الدين، وتقرير قواعد الصلح. وكان لما تقررت هذه القاعدة بين الملك الصالح نجم الدين وعمه، سيّر الملك الصالح نجم الدين ابن برغش إلى الملك الناصر صاحب حلب في معنى الصلح، فسير الملك الناصر الأمير ناصح الدين الفارسى رسولا إلى الملك الصالح أيضا لتحليفه وتقرير الصلح. وكان بمصر كما ذكرنا (¬1) جلال الدين الخلاطى، فتوجه عماد الدين رسول صاحب حمص، وناصح الدين رسول حلب ليتفق هذان مع جلال الدين على تحليف الملك الصالح كل منهم يحلّف لصاحبه. وسير مع هؤلاء الأمير حسام الدين ابن أبى على، وممن أطلق معه من المعتقلين من أصحاب الملك الصالح نجم الدين. وأخّر تسيير الملك المغيث إلى أبيه إلى أن يقع الأيمان من الملك الصالح نجم الدين. ثم يرد من جهته من يحلّف الملك الصالح إسماعيل، والملك المنصور صاحب حمص، والملك الناصر صاحب حلب. فخرج هؤلاء كلهم. وركب الملك الصالح إسماعيل ومعه الملك المغيث لوداعهم. ولما ودّعاهم رجع الملك الصالح إلى قلعة دمشق ومعه الملك المغيث، ومضى المذكورون إلى ديار مصر. فما وصلوا إلى مصر إلا وقد انقضت القاعدة وانفسخ الصلح، كما سنذكره. ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 328.

ذكر انتقاض الصلح بين السلطان الملك الصالح [نجم الدين ايوب] وبين عمه الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل] وصاحب حمص

ذكر انتقاض الصلح بين السلطان الملك الصالح [نجم الدين ايوب] (¬1) وبين عمه الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل (¬2)] وصاحب حمص وكان سبب انتقاض الصلح بينهم على ما حكى لى جلال الدين الخلاطى (¬3)، قال: «كنت بمصر رسولا من جهة مخدومى الملك الصالح عماد الدين، وقد [45 ب] تقررت القواعد ولم يبق إلا الأيمان. فورد علىّ كتاب من مخدومى الملك الصالح وفى طيه كتاب من الملك الصالح نجم الدين إلى الخوارزمية، يحثهم على الحركة، ويذكر لهم أنه إنما أظهر الصلح مع عمه ليخلص ابنه الملك المغيث من يده، وأنه باق على عداوة عمه، ولا بد له من قصده وأخذ دمشق منه». قال جلال الدين: «فمضيت بهذا الكتاب إلى الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، وأوقفته على هذا الكتاب، وما أبدى في جواب ذلك عذرا يسوغ قبوله (¬4)». وردّ الملك الصالح إسماعيل الملك المغيث إلى الاعتقال، وأبطل الخطبة للملك الصالح نجم الدين. ورجع الأمر إلى ما كان عليه من الاختلاف. وبعث إلى العسكر الذين كانوا محاصرين لعجلون، فأمرهم بالرجوع إلى دمشق. وراسل الملك الناصر ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) نقل ابن تغرى بردى (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 321) هذا الحديث عن ابن واصل «وقال ابن واصل: فحدثنى جلال الدين الخلاطى. . .» (¬4) ذكر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 490)، وابن أيبك (الدر المطلوب، ص 352) والنويرى (نهاية الأرب، ج 27، ورقة 78) أن أمين الدولة السامرى وزير الملك الصالح إسماعيل كان السبب في الاختلاف، وأنه قال للصالح إسماعيل «هذا خاتم سليمان لا تخرجه من يدك» فتوقف الأمر ولم ينتظم الصلح.

ذكر اتفاق الملك الصالح صاحب دمشق والملك المنصور صاحب حمص والملك الناصر داود مع الفرنج وتسليم القدس وطبرية وعسقلان إليهم

داود، واتفق معه على حرب الملك الصالح نجم الدين. وكذلك رجع الحلبيون وصاحب حمص عن الملك الصالح نجم الدين. وصارت كلمة الكل واحدة. ورجع ناصح الدين الفارسى رسول الملك الناصر صاحب حلب. واعتقل الملك الصالح نجم الدين جلال الدين الخلاطى. ومنع القاضى عماد الدين بن القطب عن الرجوع إلى صاحبه، فبقى في مصر إلى أن ولى قضاءها، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر اتفاق الملك الصالح صاحب دمشق والملك المنصور صاحب حمص والملك الناصر داود مع الفرنج وتسليم القدس وطبرية وعسقلان إليهم ولما اجتمعت كلمة هؤلاء على حرب الملك الصالح نجم الدين ومباينته، وعلموا مكاتبته إلى الخوارزمية، وأنهم لا بد وأن يطرقوا البلاد ويجتمعوا مع عساكر الديار المصرية على حربهم، وعلموا أنهم لا طاقة لهم به، صالحوا الفرنج واتفقوا معهم على تسليم البيت المقدس إليهم، على أن يكون الحرم بما فيه [46 ا] من المزارات لهم، وعلى تسليم طبرية وعسقلان وكوكب إليهم، وأن يأذنوا لهم في عمارتها. فتسلم الفرنج ذلك كله وعمروا قلعتى طبريه وعسقلان وحصنوهما. وأخذ بيت الأسبتار كوكب وعزموا على عمارتها. ودخل الفرنج القدس، وتسلموا الصخرة المقدسة والأقصى وما في الحرم الشريف من المزارات (¬1). وضمنوا للفرنج - على ما اشتهر - أنهم إذا ملكوا الديار المصرية أن يكون لهم بها نصيب. وجمع الفرنج الفارس والراجل وحشدوا (¬2). ¬

(¬1) انظر أيضا أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 172. (¬2) انظر أيضا، ابن تغرى بردى (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 322) الذى ينقل عن ابن واصل.

وبعث الملك الصالح [إسماعيل (¬1)] عسكرا إلى غزه، فنزلوا بها، وعزموا على قصد الديار المصرية. ومضى الملك المنصور بنفسه إلى عكا، واجتمع بالفرنج وقرر معهم أن يمضوا معه لحرب الملك الصالح، فأجابوه إلى ذلك. وسافرت (¬2) في أواخر هذه السنة إلى الديار المصرية. ودخلت البيت المقدس، ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة. وعليها قنانى الخمر برسم القربان. ودخلت الجامع الأقصى، وفيه جرس معلق. وأبطل بالحرم الشريف الأذان والإقامة، وأعلن فيه بالكفر. وقدم الملك الناصر داود القدس في ذلك اليوم الذى زرت فيه القدس، ونزل غربى القدس، فلم أجتمع به خيفة أن يصدنى عن الوصول إلى الديار المصرية. ووصلت إلى غزة فوجدت بها بعض عسكر الملك الصالح إسماعيل نازلين بها. ولما وصلت العباسة (¬3)، وجدت بها بعض عسكر مصر. وكل من الفريقين على عزم قصد صاحبه. ووجدت دهليز السلطان الملك الصالح نجم الدين مضروبا ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) يتحدث ابن واصل هنا عن نفسه وقد نقل عنه كل من أبى الفدا (المختصر، ج 3، ص 172) والعينى (عقد الجمان، حوادث سنة 641 هـ‍)، وابن تغرى بردى (النجوم، ج 6، ص 32 - 323). (¬3) كانت العباسة بليدة أول ما يلقى القاصد لمصر من الشام، وسميت باسم عباسة بنت أحمد بن طولون وذلك لأنها أقامت في أواخر سنة 281 هـ‍ - 895 م قصرا بهذا الموضع خرجت اليه لوداع بنت أخيها قطر الندى عندما زوجها أبوها خمارويه بن احمد بن طولون من الخليفة المعتضد العباسى. وعندما سافرت قطر الندى عمر ذلك الموضع وصار بلدا، والعباسة الآن تابعة لمركز أبو حماد محافظة الشرقية، انظر: المقريزى، الخطط، ج 1، ص 232؛ محمد رمزى، القاموس الجغرافى، القسم الثانى (البلاد الحالية)، ج 1، ص 69 - 70.

على بركة الجب (¬1) والعساكر متحركة للخروج إلى الشام. وكان دخولى إلى القاهرة في المحرم من هذه السنة. واجتمعت بالأمير حسام الدين بن أبى على. وكان السلطان الملك الصالح قد أنزله في الدار المعروفة بدار الملك (¬2) على شاطئ نيل مصر في مدينة مصر، وهى دار عظيمة من آدر خلفاء مصر ليكون قريبا منه، فإن السلطان كان نازلا في قصوره بقلعة الجزيرة، وهى القلعة التي أنشأها بالجزيرة (¬3). وكان [47 ا] عنده في أعظم المنازل، وأعطاه خبزا (¬4) جليلا، فأحسن إلىّ وأنزلنى في داره التي بالقاهرة. وهى دار جليلة بدرب الديلم (¬5)، وأدرنى إنعامه وإحسانه، رحمه الله ورضى عنه. ¬

(¬1) كانت بركة الجب متنزها بظاهر القاهرة من بحريها للخلفاء الفاطميين وسلاطين بنى أيوب، ثم سميت في عصر سلاطين المماليك باسم بركة الحاج لنزول الحجاج المسافرين برا بها عند سيرهم من القاهرة وإليها في موسم الحج، انظر المقريزى، الخطط، ج 1، ص 489، ج 2، ص 163. (¬2) أنشأ هذه الدار الوزير الأفضل بن بدر الجمالى سنة 501 هـ‍ - 1107 م، فلما كملت تحول إليها وسكنها وحوّل إليها الدواوين من القصر الفاطمى، واتخذ بها مجلسا سماه مجلس العطايا كان يجلس فيه. فلما قتل الأفضل صارت دار الملك من جملة متنزهات الخلفاء الفاطميين، انظر المقريزى، الخطط، ج 1، ص 483. (¬3) هى قلعة الروضة، عن هذه القلعة انظر: السيوطى، كتاب كوكب الروضة، مخطوط رقم 554 تاريخ تيمور بدار الكتب المصرية. (¬4) الخبز وجمعه أخباز بمعنى الأقطاع، انظر: Rabie, The Financial System of Egypt, pp. 26 ff. (¬5) تحدث المقريزى (الخطط، ج 2، ص 8 - 9) عن حارة الديلم عند ذكره حارات القاهرة فقال: «عرفت بذلك لنزول الديلم الواصلين مع هفتكين الشرابى حين قدم ومعه أولاد مولاه معز الدولة البويهى وجماعة من الديلم والأتراك في سنة ثمان وستين وثلثمائة، فسكنوا بها فعرفت بهم».

وفى هذه السنة ولّى الملك الصالح قضاء مصر وما معها من الوجه القبلى القاضى أفضل الدين الخونجى (¬1). وكان في هذا العزل نواب الشيخ عز الدين بن عبد السلام أبقاهم السلطان بعد عزله إلى أن ولى القاضى أفضل الدين. والقاهرة وما معها - كما ذكرنا (¬2) - ولاية الحكم فيها للقاضى بدر الدين المعروف بقاضى سنجار، ومكانته عند السلطان مكينة، لما كان أسلفه في خدمته في الشرق. ¬

(¬1) هو قاضى القضاة أبو عبد الله محمد بن ناماور بن عبد الملك، له اليد الطولى في المعقولات وصاحب الموجز في المنطق وغيره، توفى سنة 646 هـ‍ - 1248 م، والنسبة إلى خونج - أو خونا وهى بلدة من أعمال أذربيجان بين مراغة وزنجان في طريق الرى، وسميت زمن ياقوت (ت 626 هـ‍ - 1229 م) كاغد كنان أي صناع الكاغد؛ انظر السبكى، طبقات الشافعية، ج 5، ص 43؛ الذهبى، شذرات الذهب، ج 5، ص 236 - 237؛ ياقوت، معجم البلدان، (¬2) انظر ما سبق، 303.

ودخلت سنة اثنتين وأربعين وستمائة

ودخلت سنة اثنتين وأربعين وستمائة (*) والعساكر متجهزة من الجانبين، والملك الصالح نجم الدين قد كاتب الخوارزمية يطلب منهم القدوم لنصرته وهو منتظر وصولهم ليلقى بهم عمه وابن عمه الملك الناصر وصاحب حمص، والملك الصالح إسماعيل قد جهز العساكر ليسيرها مع الملك المنصور ليلقى بهم عساكر مصر وقد اعتضدا بالفرنج، والملك الناصر داود بالقدس مع عسكره معاد لابن عمه الملك الصالح نجم الدين. ذكر وصول الخوارزمية إلى غزة واستنقاذهم القدس من الفرنج وما فعلوه في طريقهم ولما وردت كتب الملك الصالح نجم الدين إلى الخوارزمية، يحثهم على القدوم إلى البلاد المصرية لنصرته على عمه، ساروا من الشرق في أوائل هذه السنة وقطعوا الفرات. ومقدموهم حسام الدين بركة خان (¬1)، وخان بردى، وصارو خان (¬2)، وكشلو خان وجمعهم يومئذ يزيد على عشرة آلاف فارس. وانضم إليهم جماعة من الأمراء القيمرية (¬3)، منهم الأمير ناصر الدين، وضياء الدين، وجماعة كثيرة من أصحابهم وأتباعهم، فأجفل الناس بين أيديهم وما مروا بموضع إلا ونهبوه وعاثوا فيه (¬4). ¬

(*) يوافق أولها 9 يونية سنة 1244 ميلادية. (¬1) في المتن «بركتخان». (¬2) في المتن «سارو خان»، انظر ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 353؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 316. (¬3) القيمرية نسبة إلى قيمر، وكانت قلعة في الجبال بين الموصل وخلاط، ذكر ياقوت (معجم البلدان) أنه نسب إليها جماعة من أعيان الأمراء بالموصل وخلاط، وكان أهلها من الأكراد، انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1، ص 316 حاشية 4. (¬4) انظر أيضا عن قدوم الخوارزمية واستخدام الصالح أيوب لهم، سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 493 - 494، أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 172؛ النويرى، نهاية الأرب، ج 27 ورقة 78 وما بعدها؛ العينى، عقد الجمان، حوادث سنة 642؛ ابن أيبك الدوادارى، الدر المطلوب، ص 353؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 316 - 317؛ ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 323.

ذكر كسرة الملك المنصور صاحب حمص وعسكر دمشق والكرك والفرنج على غزة

ولما سمع ذلك الذين بغزة من عسكر الملك الصالح [47 ا] إسماعيل فارقوها راجعين إلى دمشق. ورحل الملك الناصر داود إلى الكرك فاعتصم به، وهربت الفرنج الذين كانوا بالقدس بعد استيلائهم عليه. وهجمت الخوارزمية القدس، وبذلوا السيف فيمن كان فيه من النصارى. ولم يبقوا على أحد منهم، وسبوا ذراريهم ونساءهم. ودخلوا كنيستهم المعروفة بقمامة، فهدموا المقبرة التي تعتقد النصارى أنها مقبرة المسيح عليه السلام، ونبشوا قبور النصارى وقبور ملوك الفرنج التي بالقمامة، وأحرقوا عظام الموتى، ثم وصلوا إلى غزه فنزلوا بها. ووردت رسلهم إلى السلطان الملك الصالح يخبرونه بقدومهم لنصرته، ويطلبون منه تسبير العساكر اليهم ليحاربوا عمه الملك الصالح والملك المنصور صاحب حمص، ويأخذوا بلادهما له. فخلع الملك الصالح على رسلهم، وبعث الخلع والتحف للمقدمين منهم، واهتم في إنفاذ العساكر اليهم. ذكر كسرة الملك المنصور صاحب حمص وعسكر دمشق والكرك والفرنج على غزة ولما قدمت الخوارزمية إلى غزة بعث الملك الصالح عسكرا إلى غزة. وقدّم عليهم الأمير ركن الدين بيبرس، وكان من أجلّ مماليكه وأخصهم به. وهو الذى ذكرنا أنه (¬1) كان معتقلا معه بالكرك. ثم تقدم الملك الصالح إلى الأمير حسام الدين أبى على بن محمد بن أبى على الهذبانى في أن يمضى بطائفة أخرى من العسكر ليكون مركزا (¬2) بنابلس. وكان حسام الدين لما وصل إلى الديار المصرية أقطعه الملك الصالح الخبز الذى كان بيد أسد الدين جغريل الكاملى، وهو أحد الأمراء ¬

(¬1) انظر ما سبق، ص 240. (¬2) كذا في المتن وكذلك في ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 323.

الذين قبض عليهم الملك الصالح، وأنزله بدار الملك (¬1) بمصر، ليكون قريبا منه، ويصل إلى خدمته في أكثر الأوقات لمنادمته ومجالسته والاستضاءة برأيه. وتجهزت عساكر الملك الصالح من دمشق، وتقدم عليها الملك المنصور ابراهيم صاحب [47 ب] حمص، فإنه كانت له حروب مع الخوارزمية في الشرق كما ذكرنا (¬2)، وانتصر عليهم مرتين، وكان شهما مقداما. فرجا الملك الصالح إسماعيل أنه على يده يكون كسر الخوارزمية في هذه المرة ومن معهم من العساكر المصرية. فرحل الملك المنصور بعسكره وعسكر دمشق. وقد ذكرنا دخوله إلى عكا واجتماعه بالفرنج (¬3) وطلبه المساعدة والمعاضدة وأن يحاربوا معه عسكر مصر. ووعدهم، على ما قيل والله أعلم، أن يكون لهم جزء من الديار المصرية. فوافقوا على ذلك. واستعدوا وحشدوا وخرجوا معهم بالفارس والراجل. ثم بعث إلى الملك الناصر داود ليحضر معهم، ولم يحضر بنفسه، وبعث عسكرا (¬4). واجتمع هؤلاء كلهم، وقصدوا الخوارزمية ومن معهم من عسكر مصر. ووقع المصاف بين الفريقين بظاهر غزة، فكسر الملك المنصور ومن معه كسرة عظيمة. وأخذت الفرنج سيوف المسلمين فأفنوهم قتلا وسبيا، ولم يفلت ¬

(¬1) عن دار الملك، انظر ما سبق، ص 334 حاشية 2. (¬2) انظر ما سبق ص 292 - 293، 311. (¬3) انظر ما سبق ص 333. (¬4) جهز الناصر داود عسكره مع الظهير بن سنقر الحلبى والوزيرى وأقام هو بالكرك، انظر النويرى، نهاية الأرب، ج 27 ورقه 79؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 493؛ العينى، عقد الجمان، حوادث سنة 642 هـ‍؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 317.

منهم إلا الشارد (¬1) النادر، وأسر من عسكر دمشق وعسكر الكرك جماعة مقدمون وغيرهم، ونهبت جميع أثقال الدمشقيين. وحكى عن الملك المنصور أنه قال (¬2): «والله لقد حضرت الحرب ذلك اليوم، وأوقع الله تعالى في قلبى إنا لا ننتصر لا نتصارنا بالكفار على المسلمين». ومضى الملك المنصور ومن بقى معه من عسكره وعسكر دمشق في أسوأ حال. ودخل دمشق وهو لا يصدق بالنجاة. وانتصرت العساكر المصرية نصرة عظيمة. ووردت البشائر بذلك إلى مصر، فزين البلدان القاهرة ومصر، والقلعتان قلعة الجبل، وقلعة الجزيرة - وكان بناؤها قد تم - زينة لم يزين قبل ذلك مثلها. وضربت البشائر أياما متوالية. ووصل الخبر إلى الأمير حسام الدين بن أبى على بهذه الكسرة، وهو في الرمل، فأسرع السير ووصل بمن معه إلى غزة وقد انفصل أمر الوقعة. ووصل إلى مصر أسارى الفرنج راكبين الجمال والمقدمون منهم على خيولهم، ومعهم جماعة من الأمراء [48 ا] والأعيان من المسلمين الذين كانوا معهم أسارى، منهم جماعة من أصحاب الملك الناصر داود وجماعة من عسكر دمشق. وكان يوم دخولهم القاهرة يوما مشهودا. ¬

(¬1) في المتن «الشاد» ولعل الصيغة المثبتة هى الصحيحة، انظر ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 323؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 317. (¬2) نقل ابن تغرى بردى (النجوم الزاهرة، ج 6، ص 323 - 324) هذه الرواية عن ابن واصل في قليل من التغيير، وذكر سبط ابن الجوزى معلومات قيمة عن هذه الوقعة، وذكر أن الملك المنصور «جعل يبكى ويقول قد علمت إنا لما سرنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح»، مرآة الزمان، ج 8، ص 493 - 494؛ انظر أيضا النويرى، نهاية الأرب، ج 27 ورقة 80.

ذكر منازلة عسقلان والفرنج الذين بها

ذكر منازلة عسقلان والفرنج الذين بها كنا ذكرنا (¬1) أن طبرية وعسقلان سلمتا إلى الفرنج، وأنهم بنوا قلعتهما وحصنوهما. ولما وقعت هذه الواقعة أرسل السلطان الملك الصالح نجم الدين إلى الأمير ركن الدين بيبرس، والأمير حسام الدين بن أبى على يأمرهما بمنازلة عسقلان وانتزاعها من يد الفرنج، فتقدم ركن الدين وحسام الدين بمن معهما من عسكر مصر إلى عسقلان ونازلوها وضايقوها. وتابعوا الزحف عليها، فأصابت حسام الدين جراحة عليها. وواتروا الرمى إليها بالجروخ والزنبورك (¬2)، فامتنعت عليهم لحصانتها. ثم ورد أمر السلطان إلى حسام الدين بالمضى إلى نابلس والمقام بها (¬3)، فسار إليها وأقام بها. وحصل نواب السلطان الملك الصالح بغزة والسواحل وبيت المقدس والخليل وبيت جبريل والأغوار، ولم يبق بيد الملك الناصر إلا الكرك والبلقاء والصلت وعجلون، وهى بيد سيف الدين بن قليج. ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 332. (¬2) الجرخ - وجمعه جروخ - نوع من القوس الرامى الذى ترمى عنه النشاب أو النفط، والزنبورك والجمع زنبوركات قد يعنى نوعا من القسى التي ترمى عنها السهام وقد تعنى نوعا من السهام ذاتها، انظر ابن واصل، مفرج الكروب، ج 2 ص 150 حاشية 3، ص 244 حاشية 1، انظر أيضا عبد الرحمن زكى، السلاح في الإسلام، ص 19. (¬3) ذكر العينى (عقد الجمان، حوادث سنة 642) أنه أثناء النزول على عسقلان «أصابت ابن أبى على جراحة عليها فأمره الصالح بالتوجه إلى نابلس فتوجه وأقام الركن بيبرس على عسقلان لأجل أخذها. . .» انظر أيضا ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج 6 ص 324.

ذكر خروج الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ فى العساكر المصرية إلى الشام ومنازلته دمشق

ذكر خروج الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ في العساكر المصرية إلى الشام ومنازلته دمشق ثم تقدم السلطان الملك الصالح إلى وزيره الصاحب معين الدين أبى محمد الحسن بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه بالتقدم على العساكر المصرية والمسير بهم إلى الشام. وبعث معه الدهليز السلطانى، وحكّمه في الجيوش، وأقامه مقام نفسه (¬1)، وأنفذ أمره في الخزائن والأموال والبلاد، فرحل الصاحب معين الدين في عساكر مصر من القاهرة، ووصل إلى غزة وانضافت إليه الخوارزمية ومن بغزة من العساكر المصرية. ورحل إلى بيسان، فنزل بها وأقام بها مدة يرتب الأمور. ثم رحل إلى دمشق [ص 48 ب] فنازلها، وبها الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، والملك المنصور ابراهيم صاحب حمص وخرجت هذه السنة وهو منازل لها. وسير الملك الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة إلى بغداد مستشفعا بالخليفة المستعصم بالله (¬2)، ومتوسلا إليه ليصلح بينه وبين ابن أخيه السلطان الملك الصالح. ثم رجع من بغداد ولم يتحصل من رسالته على طائل. وكان القاضى رفيع الدين قاضى دمشق قد فسد ما بينه وبين أمين الدولة في سنة إحدى وأربعين. وكان أمين الدولة يشتغل عليه بعلم الطب وغيره. وهو الذى قدّم رفيع الدين وولاه قضاء دمشق. وكان رفيع الدين قد سار في القضاء سيرة ¬

(¬1) ذكر النويرى (نهاية الأرب، ج 27، ورقة 80) «وأقامه مقام نفسه، وأمره أن يجلس في رأس السماط على عادة الملوك، ويقف الطواشى شهاب الدين رشيد أستاذ الدار في خدمته وأمير جاندار والحجاب». انظر أيضا، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 318 - 319. (¬2) في المتن «المعتصم بالله» وهو تحريف.

ذكر وفاة الملك المظفر تقى الدين محمود صاحب حماه رحمه الله

ردية جدا، وتقرب إلى الملك الصالح [اسماعيل (¬1)] ووزيره أمين الدولة بظلم الرعية والحكم بالجور. فكفاه الله تعالى وعاقبه على سوء فعله. فاتفق أنه رفع إلى الملك الصالح [اسماعيل (¬2)] مطالعة يسعى فيها عنده على أمين الدولة. فأوقف الملك الصالح أمين الدولة على مطالعته، فأنهى أمين الدولة إلى الملك الصالح ما يعتمده الرفيع (¬3) من الظلم والعسف والجور في الأحكام، وأشياء أخر قبيحة يعتمدها في نفسه، فعزله الملك الصالح عن القضاء واعتقله. ثم لم يزل أمين الدولة يسعى في هلاكه حتى أمر بأن يحمل إلى بعض النواحى، فرمى به من شاهق، فهلك. وهذه عاقبة الظلم والجور. ثم عوقب أمين الدولة بما نذكره في حوادث سنة ثمان وأربعين وستمائة. ذكر وفاة الملك المظفر تقى الدين محمود صاحب حماه رحمه الله (¬4) وفى هذه السنة - توفى الملك المظفر تقى الدين محمود بن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهان شاه بن أيوب صاحب حماة، وذلك يوم السبت لثمان مضين من جمادى الأولى من هذه السنة، أعنى سنة اثنتين وأربعين وستمائة. وكان مدة ملكه [49 ا] خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وعشرة أيام، ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) أي رفيع الدين قاضى دمشق. (¬4) ذكر في الهامش بخط مخالف: «هذا هو المظفر الأوسط أحد سلاطين حماه»، انظر أيضا، العينى، عقد الجمان، حوادث سنة 642؛ أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 173؛ ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 356 - 357؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 318؛ أحمد بن ابراهيم الصابونى، تاريخ حماه، ص 35 - 36، ونقل ابن أيبك (الدر المطلوب، ص 356 - 357) خبر وفاة الملك المظفر تقى الدين محمود عن ابن واصل.

ذكر سيرته رحمه الله

وكان من هذه المدة مريضا بالفالج نحو سنتين وتسعة أشهر وأياما. ولم يكن موته بالفالج وإنما عرضت له حمى حادة أياما، فكانت وفاته بها. وكان عمره نحو ثلاث وأربعين سنة، لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمسمائه. ولم يخلف من الذكور غير مولانا السلطان الملك المنصور، قدس الله روحه، وأخيه الملك الأفضل نور الدين أبى الحسن على. ذكر سيرته رحمه الله كان رحمه الله شهما شجاعا إلى الغاية القصوى، لم أعرف من أهل بيته من كان أفرس منه وأشجع. وكان قويا أيّدا (¬1)، يحمل لقا (¬2) من الحديد ويضعه على كتفه وقت ركوبه، لا يقدر غيره على حمله لثقله. وحضر حروبا كثيرة أبان فيها عن شجاعته وفروسيته. وكان فطنا ذكيا لوذعيا سريع الإدراك، قوى الفراسة. وكان مع هيبته المفرطة حسن المجاورة طيّب المفاكهة، جميل العشرة لأصحابه وخواصه. وكان له ميل إلى من عنده فضل ومعرفة. ورد إليه الشيخ علم الدين قيصر بن أبى القاسم المهندس الفاضل في العلوم الرياضية (¬3)، فأحسن إليه وقربه وولاه تدريس المدرسة الحنفية النورية بحماة (¬4). وبنى له أبراجا لسور حماه في غاية الحسن، وطاحونا في الجانب الأسفل وعليها برج عظيم حفظ به تلك الناحية. ¬

(¬1) رجل أيد أي رجل قوى، انظر الفيروز آبادى، القاموس المحيط، ج 1، ص 285؛ الزمخشرى، أساس البلاغة، ج 1، ص 27. (¬2) اللقى كفتى وهو ما طرح، انظر، الزبيدى، تاج العروس، ج 10، ص 330؛ القاموس المحيط، ج 4، ص 389. (¬3) عن الشيخ علم الدين قيصر عالم الرياضيات، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 242 حاشية 3. (¬4) هى الجانب الشرقى من حرم جامع نور الدين، بنى هذه المدرسة الملك المؤيد صاحب حماه؛ انظر محمد كرد على، خطط الشام، ج 6، ص 127.

وكان يقترح عليه أمورا علمية وآلات رياضية، فعمل له كرة من الخشب رسم فيها جميع الكواكب المرصودة في السماء، وعملت هذه الكرة بالقلعة، وكنت أساعد (¬1) الشيخ علم الدين على تحريرها. وكان السلطان الملك المظفر - رحمه الله - يحضرنا ونحن نرسمها، ويسألنا عن المواضع الدقيقة فيها، فنخبره، فيدرك ما نقول لصحة إدراكه وقوة ذهنه. وحصل لى منه - رحمه الله - حظ كثير، واعتناء عظيم، وذلك قبيل موته بسنة أو نحوها. وكان كل وقت يسأل الشيخ [49 ب] علم الدين: «أي شىء وصلت إليه من كتاب المجسطى (¬2) والعلوم الرياضية؟». وإذا حضرت معه باسطنى وتحدث معى كثيرا، وسألنى عن الذى حققته من هذه الفنون، وهو منشرح لذلك مسرور به، وكنت مؤملا بلوغ الآمال كلها منه. ولما عرض له ما عرض من ذلك المرض، حصل عندى من الألم ما لا مزيد عليه. ففارقت حماه وانتقلت إلى الديار المصرية. وكان رحمه الله ناقص الحظ، لم يزل مع جيرانه في حروب دائمة وعناء متصل إلى أن عرض من المرض له ما عرض. وكان يرجو ظهور الملك الصالح وقوته لينتقم به من أعدائه، فحين ظهر أمر الملك الصالح عرض له من المرض ما عرض، وأعقب ذلك موته. ¬

(¬1) ذكر أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 173): «قال القاضى جمال الدين بن واصل وساعدت الشيخ علم الدين على عملها». (¬2) يحتوى كتاب المجسطى على خلاصة ما توصل إليه قدماء اليونان في علم الفلك، ويعتبر هذا الكتاب المرجع الأساسى في هذا في العالم الأسلامى وفى أوربا إلى عصر النهضة. ونقل كتاب المجسطى إلى اللغة العربية أكثر من مرة، انظر مقدمة كتاب الشكوك على بطليموس للحسن بن الهيثم، تحقيق الدكتور عبد الحميد صبره والدكتور نبيل الشهابى.

ذكر استيلاء مولانا السلطان المنصور ناصر الدين أبى المعالى محمد بن الملك المظفر على مملكة والده - قدس الله روحه - وخلد ملك ولده مولانا ومالك رقنا السلطان الملك المظفر تقى الدين بالخلف الصالح عن آبائه الأكرمين

ذكر استيلاء مولانا السلطان المنصور ناصر الدين أبى المعالى محمد بن الملك المظفر على مملكة والده - قدس الله روحه - وخلد ملك ولده مولانا ومالك رقنا السلطان الملك المظفر تقى الدين بالخلف الصالح عن آبائه الأكرمين ولما توفى الملك المظفر - رحمه الله - تقلد الملك بعده ولده السلطان الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالى محمد، وعمره يومئذ عشر سنين وشهر واحد وثلاثة عشر يوما. وقام بتدبير ملكه الأمير سيف الدين طغريل أستاذ دار والده، والمشير في الدولة شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصارى (¬1)، والطواشى شجاع الدين مرشد المنصورى، والوزير بهاء الدين بن تاج الدين. والجميع يرجعون إلى ما تأمر به الصاحبة غازية خاتون بنت السلطان الملك الكامل، والدة السلطان الملك المنصور - قدس الله روحها. وورد الخبر بموت الملك المظفر، إلى الديار المصرية فحزن لموته السلطان الملك الصالح، وجلس له في العزاء. ذكر وفاة الملك المظفر شهاب الدين غازى والملك المغيث بن السلطان الملك الصالح وورد الخبر بوفاة الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل صاحب ميافارقين، رحمه الله. وجلس له في العزاء بالقاهرة بالجامع الأزهر. وولى الملك ¬

(¬1) عن الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن مجيد الأنصارى، انظر ما سبق ابن واصل، ج 4، ص 273 - 274، 293، 302.

بميافارقين الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين. ولم يزل مالكا لها إلى أن ملكها التتر بعد أن طال حصارهم لها. وصبر صبرا عظيما، وجاهد في الله جهادا لم يجاهد أحد من الملوك مثله رحمه الله، ثم ملكها التتر وقتلوه شهيدا، رحمه الله ورضى عنه (¬1). وورد الخبر على السلطان الملك الصالح بموت ولده الملك المغيث فتح الدين عمر بقلعة دمشق وهو معتقل في برج من أبراجها، فاشتد جزع الملك الصالح عليه، وحنق على عمه الملك الصالح حنقا شديدا واتهمه بقتله، وجد في حربه (¬2). ولما توفى الملك المظفر صاحب حماه، سير القاضى شهاب الدين ابراهيم ابن عبد الله بن عبد المنعم بن أبى الدم قاضى حماه (¬3) إلى بغداد رسولا إلى الخليفة المستعصم بالله مخبرا بوفاة الملك المظفر، ومعه زرديته وسيفه ولامة حربه. فلما وصل إلى المعرة مرض بالدوسنطار يا فعاد إلى حماه، فمات بها يوم وصوله إليها. ¬

(¬1) ذكر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 510) وفاة شهاب الدين غازى في حوادث سنة 645 هـ‍، بينما ذكر النويرى (نهاية الأرب، ج 27، ق 86) والمقريزى (السلوك، ج 1، ص 332) وفاته في حوادث سنة 646 هـ‍ وهذا كله تصحيف إذ ذكر أبو الفدا (المختصر، ج 3، ص 173) وابن أيبك (الدر المطلوب، ص 357) أن وفاته كانت في سنة 642 هـ‍ وهو ما يؤيد قول ابن واصل. وأشار العينى (عقد الجمان، حوادث سنة 642 هـ‍) إلى هذا الخلط. (¬2) عن وفاة الملك المغيث عمر بن الملك الصالح انظر أيضا، العينى، عقد الجمان، حوادث سنة 642؛ ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 357؛ ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 351. (¬3) هو مؤلف كتاب (التاريخ المظفرى) توفى سنة 642 هـ‍ - 1244 م، انظر ما سبق، ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4، ص 174 حاشية 2؛ أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 173.

فولى قضاء حماه بعده محيى الدين أبو يعلى حمزه بن محمد بن القاضى أمين الدين أبى القاسم. وأرسل إلى بغداد الشيخ تاج الدين أحمد بن محمد بن نصير الله. ثم سير من حماه الخطيب زين الدين أبو البركات عبد الرحمن بن موهوب إلى مصر رسولا إلى السلطان الملك الصالح ومعه سيف الملك المظفر، وتقدمة للملك الصالح، وذلك لتسع مضين من شوال من هذه السنة. فتوجه في البرية شرقى دمشق وذلك قبل نزول الصاحب معين الدين بن الشيخ، والعساكر المصرية عليها. واجتمع بالصاحب معين الدين وهو نازل بالعساكر الصالحية على بيسان. ولما وصل الخطيب زين الدين إلى القاهرة أكرمه الملك الصالح، وقبل ما وصل معه من التقدمة، ووعد ابن أخيه السلطان الملك المنصور أعز الله نصره بكل جميل. وكانت المعرة بيد الحلبيين، وسلميه بيد الملك المنصور صاحب حمص، وليس مضافا إلى حماه إلا بعرين فقط.

ودخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة

ودخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة (*) والسلطان الملك الصالح نجم الدين بالديار المصرية، وعساكره مع الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، وقد استولوا على أعمال الملك الناصر داود، ولم يبق بيده غير الكرك وأعمالها والصلت وعجلون، والملك الصالح عماد الدين محصور بدمشق ومعه الملك المنصور صاحب حمص. ذكر استيلاء السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على دمشق وهو استيلاؤه الثانى عليها ولما نازل الصاحب معين الدين دمشق وضايقها (¬1)، لم يكن للملك الصالح إسماعيل والملك المنصور إلا طلب الأمان وتسليم دمشق إلى الملك الصالح نجم الدين لأنهما علما أنه لا طاقة لهما بعساكر مصر لكثرتها، وقلة من عندهم من العسكر، مع فناء ما بقلعة دمشق من الذخائر. وتخلى عنهم الحلبيون، وليس معهم مدد، فراسلوا الصاحب معين الدين، فتسلم الملك، ورحل الملك الصالح [إسماعيل] (¬2) إلى بعلبك، ورحل الملك المنصور إلى حمص. ودخل الصاحب معين الدين البلد وتسلمه. ¬

(*) يوافق أولها 29 مايو سنة 1245 ميلادية. (¬1) ذكر كل من سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان. ج 8، ص 498)؛ والنويرى (نهاية الأرب، ج 27، ق 81)؛ والعينى (عقد الجمان، حوادث سنة 643) والمقريزى (السلوك، ج 1، ص 319) أن الملك الصالح إسماعيل أرسل إلى الأمير الصاحب معين الدين بن الشيخ سجادة وإبريقا وعكازا «وقال اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بقتال الملوك» وأن الصاحب معين الدين أرسل إلى الملك الصالح إسماعيل «جنكا وزمرا وغلاله حريرى أصفر وأحمر، وقال أما ما أرسلت به إلىّ فهو يصلح لى وقد أرسلت بما يصلح لك». (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

ذكر خروج الخوارزمية عن طاعة السلطان الملك الصالح نجم الدين

وجاء كتاب السلطان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬1)] إليه بأن لا يؤمن عمه الملك الصالح [إسماعيل (¬2)] ويقبض عليه ويرسله إليه، ففات الأمر فيه. ووقع الإنكار من الملك الصالح نجم الدين على معين الدين في تنفس خناق عمه وتمكينه من ذهابه سالما بحشاشة (¬3) نفسه، فإنه كان لا يرى إلا إعدامه حنقا عليه بسبب إتهامه بقتل ولده، ولما بدا منه في حقه. وأقام معين الدين نائبا بدمشق عن الملك [51 ا] الصالح. وورد على حسام الدين بن أبى على وهو بنابلس كتاب من الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬4)] يأمره بالتوجه إلى دمشق متوليا لها، فمضى إلى دمشق فدخلها وأقام بها. ومرض الصاحب معين الدين بدمشق، وتوفى بها بعد دخول حسام الدين بأيام. وقرر الملك الصالح بقلعة دمشق الطواشى شهاب (¬5) الدين رشيد الكبير. ذكر خروج الخوارزمية عن طاعة السلطان الملك الصالح نجم الدين كانت الخوارزمية لما كسروا مع عسكر مصر صاحب حمص ومن معه من العسكر الشامى والفرنج، وانتصر بهم الملك الصالح على أعدائه، صار لهم عليه بذلك إذلال كثير، سيما وقد تقدم لهم كسرهم لبدر الدين (¬6) صاحب الموصل لما نازل ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬3) الحشاشة بقية الروح في المريض، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 8 ص 172 (مادة حشش). (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬5) انظر أيضا سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8 ص 499)؛ النويرى (نهاية الأرب، ج 27، ق 81). (¬6) هو الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.

الملك الصالح وهو محصور بسنجار، فاعتقدوا أنهم لما فعلوا ما فعلوا معه في هاتين المرتين أنهم قد استحقوا أن يقاسمهم البلاد، ويمكنهم من الاستيلاء على أكثرها، وأنه يكون لهم أخباز عظيمة بالديار المصرية. فلما لم يحصلوا منه على ذلك ولم يمكنهم من الوصول إليه إلى مصر، وخرج معين الدين في عساكر مصر، وتحكم في البلاد، ولم يعطهم منها شيئا، نفرت نياتهم وفسدت، واتفقت كلمتهم على الخروج عليه. وكان بغزة الأمير ركن الدين بيبرس الصالحى وهو أكبر أمرائه، وهو الذى كان معتقلا معه بالكرك، ومعه بغزة عسكر، فكاتبته الخوارزمية في أن يتفقوا معه، ويكون هم وهويدا واحدة، ويزوجوه إمرأة منهم. فأصغى إليهم فيما قيل، وعزم على الخروج عن الطاعة. واستمالوا الملك الناصر داود بن الملك المعظم إليهم فمال اليهم، واتفق معهم، ونزل اليهم واجتمع بهم وتزوج منهم، إلا انه رجع إلى الكرك ولم يقم معهم. وكان الأمير حسام الدين أبو على بن محمد بن أبى على بدمشق واليا بها، من قبل الملك الصالح، كما قدمنا ذكره فبقى هو بها، والطواشى شهاب [51 ب] الدين رشيد الكبير في القلعة واليا الحل والعقد بها، ويجتمعان كل يوم ويتفقان على مصالح الدولة. ولما جرى ما ذكرنا من اتفاق الملك الناصر [داود صاحب الكرك (¬1)] مع الخوارزمية، بعث الملك الناصر ولاته إلى نابلس والقدس والخليل وبيت جبريل والأغوار، واستولى على ذلك كله. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين للتوضيح.

ذكر وصول التقليد والتشريف من الخليفة المستعصم بالله الى الملك الصالح نجم الدين أيوب

وكنا ذكرنا أن الملك الصالح عماد الدين كان ذهب إلى بعلبك لما سلّم دمشق إلى معين الدين بن الشيخ. فلما جرى من الخوارزمية ما ذكرناه، راسلوا الملك الصالح إسماعيل وحلفوا له، فقدم إليهم وصاروا معه، واتفقت كلمة الجميع على محاربة السلطان الملك الصالح نجم الدين. ذكر وصول التقليد والتشريف من الخليفة المستعصم بالله إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب ولما بلغ السلطان الملك الصالح خروج الخوارزمية عن طاعته، وما نقل عن ركن الدين بيبرس من ميله إليهم، استدعاه وكان بغزة، فقدم عليه فاعتقله بقلعة الجبل، وكان آخر العهد. وخرج السلطان الملك الصالح - رحمه الله - من القاهرة في العساكر، فخيم بالعباسة وأقام بها. وكان قد أرسل إلى الديوان العزيز القاضى عز الدين ابن عبد العزيز بن القاضى نجم الدين أبى البركات عبد الرحمن بن أبى عصرون يلتمس التقليد بالديار المصرية والشام والشرق، والتشريف الأمامى. ولما وصل إلى بغداد سيّر معه رسول كبير من الديوان وعلى يده التشريف والطوق والمركوب (¬1). ¬

(¬1) ذكر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8 ص 500) أن رسول الخليفة كان عبد الرحمن ابن خالة محيى الدين وهو الشيخ جمال الدين عبد الرحمن بن محيى الدين يوسف بن الجوزى، عن هذا الرسول والتقليد والخلع والهدايا إلى السلطان الصالح أيوب، انظر سبط ابن الجوزى، (نفس المصدر والجزء والصفحة)؛ النويرى (نهاية الأرب، ج 27 ق 82)؛ العينى (عقد الجمان، حوادث سنة 643)، المقريزى (السلوك، ج 1، ص 319).

ذكر منازلة الخوارزمية والملك الصالح عماد الدين اسماعيل دمشق ومضايقتها

ولما وصلا إلى بيت المقدس توفى القاضى عز الدين - رحمه الله - ودفن بالقدس. وقدم الرسول بما معه إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين وهو مخيم بالعباسة. وكان السلطان قد أفرج عن الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ فحضر إلى العسكر، وقد كان مأمورا بلزوم منزله كما (¬1) ذكرناه، فخلع عليه وأمّره وقدّمه وأحسن إليه إحسانا كثيرا، ولم يبق من أولاد شيخ الشيوخ غيره. وقدم الرسول [52 ا] ومعه دواة الصاحب معين الدين وخلعه، فأعطاه الملك الصالح لأخيه فخر الدين. وحضر الرسول في الدهليز السلطانى، وكنت (¬2) يومئذ حاضرا فقرئ التقليد على الناس. ثم لبس السلطان التشريف الأسود المذهب، والعمامة، والجبة، والطوق الذهب. وركب المركوب الذى قدم له بالحلية الذهب، وكان يوما مشهودا. ذكر منازلة الخوارزمية والملك الصالح عماد الدين اسماعيل دمشق ومضايقتها ولما اتفقت الخوارزمية والملك الصالح عماد الدين، نازلوا دمشق، وبقلعة دمشق شهاب الدين رشيد، وبالمدينة الأمير حسام الدين أبو على بن محمد بن أبى على، وليس فيها من العسكر طائل. فقام حسام الدين في حفظها أحسن قيام، وضبط أبوابها وأسوارها بالرجالة والمقاتله، وباشرها بنفسه ليلا ونهارا. وضايقها الخوارزمية وقطعوا عنها المواد. واشتد بها الغلاء اشتدادا لم يعهد في الأعمار مثله، ¬

(¬1) انظر ما سبق ص 276 - 277. (¬2) أي القاضى جمال الدين بن واصل.

حتى أنه بلغ سعر الغرارة من القمح (¬1) ألف درهم وستمائة درهم (¬2). وهذا سعر لم يسمع بنظيره في عصر من الأعصار، في بلد من البلاد. وهلك عالم من أهل دمشق بالجوع والوباء. ومن أعجب ما سمعت أن إنسانا كانت له دار تساوى عشرة آلاف درهم، عرضها للبيع فلم تزد على ألف وخمسمائة درهم، فاشترى بها غرارة واحدة من القمح، [فقامت عليه غرارة واحدة من القمح (¬3)] بعشرة آلاف درهم (¬4). ومات شخص (¬5) في الحبس فأكل لحمه أهل الحبس. وكان يباع حب الخرنوب بالميزان ويشترى [به] (¬6)، ويتقوت به. [أخبرنى بهذا كله الأمير حسام الدين بن أبى على رحمه الله] (¬7). ولما جرى ما ذكرنا (¬8) اتفق الحلبيون والملك المنصور [إبراهيم (¬9)] صاحب حمص مع السلطان الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬10)] على حرب الخوارزمية وطردهم من ¬

(¬1) نهاية الجزء الساقط من نسخة س انظر ما سبق ص 296 حاشية 2. (¬2) انظر أيضا النويرى، نهاية الأرب، ج 27 ق 82. (¬3) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س. (¬4) ذكر العينى (عقد الجمان، حوادث سنة 643): «وضيقوا على دمشق فبلغت الغرارة ألفا وستمائة درهم، والقنطار الدقيق بتسعمائة درهم، والخبز أوقيتين إلا ربع بدرهم، والرطل اللحم بسبعة دراهم. وعدمت الأقوات، وبيع العقار بالدقيق. وأكلت الميتات والجيف والدم والقطاط والكلاب، ومات الناس على الطرقات. . .» انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1، ص 322. (¬5) في نسخة س «رجل». (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬7) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬8) في نسخة س «قال القاضى جمال الدين بن واصل صاحب هذا التاريخ: ولما جرى ما ذكرنا. . .». (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬10) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وساقط من ب.

ذكر قصد التتر بغداد ورجوعهم [عنها] خائبين

البلاد، فخرجت العساكر من حلب، وتقدم عليها الملك المنصور صاحب حمص، واستعد للقاء الخوارزمية. ولما سمعت الخوارزمية باستعداد (¬1) الملك [52 ب] المنصور وعسكر حلب للقائهم، رحلوا عن دمشق طالبين لقاءهم، وانفرج الخناق (¬2) عن دمشق، وكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى في حوادث السنة الآتية. وفى هذه السنة تسلم نواب مولانا السلطان الملك المنصور صاحب حماه سلمية، سلمها إليهم السلطان الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬3)] وذلك لما فتحت دمشق. وكانت [سلمية (¬4)] بيد الملك المنصور صاحب حمص. ولم يبق خارجا عن مملكة جده الملك المنصور إلا المعرة (¬5). ذكر قصد التتر بغداد ورجوعهم [عنها] (¬6) خائبين وفى هذه السنة أو التي قبلها، قصدت طائفة من التتر بغداد ونهبوا ما في طريقهم اليها، ووصلوا إلى سوق الخيل ظاهر بغداد، واستعدت عساكر الخليفة (¬7) المستعصم بالله للقائهم. ولما جن التتر الليل (¬8)، وعلموا أنه (¬9) لا طاقة لهم بمن في بغداد من العسكر، أوقدوا نيرانا كثيرة لئلا (¬10) يشعر برجوعهم، ثم رحلوا تحت الليل. ولما طلع الصباح ¬

(¬1) في نسخة س «استعداد» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «الحصار» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وساقط من ب. (¬5) في نسخة س «إلا المعرة حسب». (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من س ومثبت في ب. (¬7) في نسخة س «واستعد الخليفة» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة س «فلما أجن على التتر الليل»، والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «أنهم» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «كثيرة بالليل لئلا» والصيغة المثبتة من ب.

لم يوجد منهم أحد فتبعتهم عساكر بغداد يقتلون من تخلف منهم، وينهبون. وعادوا إلى بغداد. ولما وصل الخبر بذلك إلى الشام، كتب الملك الناصر داود بن الملك المعظم - رحمه الله - إلى الخليفة [الإمام (¬1)] المستعصم بالله يهنيه بهذا الفتح. [ونظم قصيدة في التهنئة وهى (¬2)]: - كذا فليقم (¬3) لله من قام بالأمر ... وجاهد فيه بالردينية (¬4) السمر تهن أمير المؤمنين بنصرة ... أتتك من الله القدير على قدر (¬5) أهنت جزيل (¬6) المال في جلب نصرة ... فأعطاك بالتهوين عزا على الدهر وجدت بنفس لا يجاد بمثلها ... فجوزيت بالنصر المعجل والأجر (¬7) لقيت ملوك الترك إذ جاء جمعها ... تجالد دين الله بالكبر والكفر فللت ملوكا ما تسنى لهمة ... ملوكية قصدا لعسكرها المجر (¬8) ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين غير مذكور في نسخة س، وورد بدلها «بهذه الأبيات» وذكر العينى (عقد الجمان، حوادث سنة 643) بعض هذه الأبيات. (¬3) أول الشطر الأول من هذا البيت غير واضح في نسخة ب، والصيغة المثبتة من س وكذلك من كتاب الفوائد الجلية في الفرائد الناصرية للملك الأمجد بن الملك الناصر داود، ص 141 حيث ورد الشطر الأول: «كذا فليقم من قام لله بالأمر». (¬4) الردينية نوع من الرماح نسبة إلى ردينة وهى امرأة في الجاهلية كانت تسوى الرماح بخط هجر، انظر الزبيدى، تاج العروس، ج 9، ص 214. (¬5) هذا البيت ساقط من نسخة س ومثبت في ب وكذلك في الفوائد الجلية، ص 141. (¬6) في الفوائد الجلية، ص 141، «عزيز» والصيغة المثبتة من نسختى المخطوطة. (¬7) البيت ساقط من نسختى المخطوطة ومثبت في الفوائد الجلية، ص 141. (¬8) عسكر مجر أي جيش عظيم كثير العدد، انظر القاموس المحيط، ج 2 ص 135.

وقاتلتهم إذ قاتلوك بعزمة ... كعزم رسول الله في عدوتى (¬1) بدر وصلت عليهم صولة هاشمية ... أذاقتهم كأسا أمّر من الصبر تركتهم صرعى وأشلاء صيدهم ... توزع بين النون والسيد والنسر (¬2) وحق لمن قد قام في نصر دينه ... بصدق يقين أن يؤيد بالنصر رآك ولىّ الأمر كفؤا فزفها ... اليك تهادى حين أغليت في المهر فجاءتك بكرا وانثنت وهى ثيب ... فأحسن بها في الدهر من ثيب بكر فياوقعة أهدت إلى الناس كلهم ... أمانا أعاد اليسر في موضع العسر هنيئا لمن أصلى لواقح حزها ... ليأمن يوم العرض من لهب الحر فياليتنى لو كنت بين صفوفها ... لينبىء في الهيجاء عن خبرى خبرى أصول وخير الناس ينظر جرأتى ... على الصف في الأقدام والكر والفر لألقى بنحرى المشرفية (¬3) دونه ... وأحطم صدر السمهرية (¬4) في الصدر ¬

(¬1) في نسختى المخطوطة «غزوتى» والصيغة المثبتة من الفوائد الجلية، ص 141؛ وهناك عدوتان ببدر نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدوة الشامية أما القرشيون فنزلوا بالعدوة اليمانية، والعدوة هى شاطىء الوادى وجانبه الصلب، انظر المقريزى، امتاع الأسماع، 79. (¬2) ورد في نسخة س «بين اليوم والسقر والتسرى» وهو تحريف، والصيغة المثبتة من نسخة ب وكذلك من الفوائد الجلية للملك الأمجد بن الملك الناصر داود، ص 141، والنون هو الحوت والسيد هو الذئب. (¬3) السيوف المشرفية نسبة إلى مشرف، مفرد المشارف وهى قرى قرب حوران تدنو من الريف، انظر ابن سيده، المخصص، السفر السادس، ص 25؛ ياقوت، معجم البلدان، ج 4، ص 536. (¬4) السمهرية نوع من الرماح، ذكر ياقوت (معجم البلدان، ج 3، ص 146)، أنها نسبت إلى قرية يقال لها سمهر بالحبشة، كما يقال للرمح الصلب السمهرى، انظر، ابن سيده، المخصص، السفر السادس، ص 33؛ الشرتونى، أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد، ج 1، ص 545.

أروح بمحمر الدماء مضرجا (¬1) ... لأغدو في الفردوس في حلل خضر (¬2) وإن يك في العمر المنغص بقية ... أرد متون البيض في قرب حمر رفعت إلى الباب الكريم قصيدة ... تنوب مناب العبد في الحمد والشكر زهت فهى سلك العقد تم بهاؤه ... بما نظمت يمناك من فاخر الدر مدحتك أرجو أن أفوز برتبة ... يزان بها شعرى ويعلو بها (¬3) قدرى وإلا فمن جاء الكتاب بمدحه ... لفى غنية منه (¬4) عن المدح بالشعر وفى (¬5) هذه السنة، توجه من حماه الشيخ تاج الدين أحمد بن محمد بن نصر الله رسولا إلى السلطان الملك الناصر صاحب حلب، ليعقد العقد للسلطان الملك المنصور - قدس الله روحه - على ابنة خالته الصاحبة عصمة الدين عائشة خاتون ابنة الملك العزيز صاحب حلب، رحمه الله. فقدم إلى حلب وعقد العقد بقلعة حلب على صداق خمسين ألف دينار. وأوجب العقد من جهة الملك الناصر القاضى كمال الدين بن زين الدين بن الأستاذ - رحمه الله - قاضى حلب. وقبل العقد من جهة الملك المنصور الشيخ تاج الدين رحمه الله. ¬

(¬1) في نسخة س «مضرج» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب ومن الفوائد الجلية، ص 142. (¬2) في نسخة س «بالحلل الخضر» والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن الفوائد الجلية، ص 142. (¬3) في نسخة س «ويزهو» والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن الفوائد الجلية ص 142. (¬4) في نسختى المخطوطة «عنه» والصيغة المثبتة من ديوان الفوائد الجلية، ص 142، ويقتضيها السياق والمعنى. (¬5) السطور التالية حتى نهاية حوادث السنة ساقطة من نسخة س ومثبتة في ب.

ودخلت سنة أربع وأربعين وستمائة

ودخلت سنة أربع وأربعين وستمائة (*) والسلطان الملك الصالح [53 ب] نجم الدين [أيوب (¬1)] مخيم على العباسة بالعساكر المصرية، وقد اتفق الملك المنصور [إبراهيم (¬2)] صاحب حمص وعسكر الملك الناصر صاحب حلب على لقاء الخوارزمية ودفعهم عن البلاد. وقدمت (¬3) عساكر حلب إلى حمص، واجتمعوا بالملك المنصور (¬4). وقد أفرجت الخوارزمية عن دمشق لما علموا ذلك، ومعهم الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وتقدموا إلى جهة الملك المنصور ومن معه من العساكر (¬5). ذكر كسرة الخوارزمية وتبدد شملهم ومقتل حسام الدين بركة خان مقدمهم (¬6) وفى أول هذه السنة وقع المصاف (¬7) بين الملك المنصور صاحب حمص وعسكر ¬

(*) يوافق أولها 19 مايو سنة 1246 ميلادية. (¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬3) في نسخة س «وتقدمت» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «الملك المنصور صاحب حمص». (¬5) في نسخة ب «وقدموا إلى جهتهم» والصيغة المثبتة من س. (¬6) عن كسرة الخوارزمية في هذه السنة انظر؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 504؛ أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 175؛ ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 358؛ النويرى، نهاية الأرب، ج 27، ق 83؛ العينى، عقد الجمان، حوادث سنتى 643، 644؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 324. (¬7) في نسخة س «مصاف» والصيغة المثبتة من ب.

حلب، [وبين الخوارزمية (¬1)] على القصب (¬2) وهى منزلة قبلى حمص على مرحلة منها، فانهزمت الخوارزمية هزيمة قبيحة تبدد بها شملهم (¬3)، وانقطع دابرهم، فلم تقم لهم بعدها قائمة. وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان، قتله مملوك من مماليك الأمير سعد الدين بن الدريوش أحد أمراء حلب [الكبار (¬4)]. وكفى الله الناس شرهم، فإن البلاد كانت منهم في بلاء عظيم من النهب والسبى وسفك الدماء، وانتهاك الحرمات. ومضت جماعة منهم إلى التتر، واتصلوا بهم وخدموهم، منهم (¬5) كشلو خان [وغيره (¬6)]، وجماعة خدموا بمصر، وجماعة خدموا بالشام. وحمل رأس [حسام الدين (¬7)] بركة خان إلى حلب فنصب (¬8) بباب قلعتها. ووردت البشائر بذلك إلى الديار المصرية، فزينت المدينتان القاهرة ومصر، والقلعتان قلعة الجبل وقلعة الجزيرة. وصلح ما بين الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، والسلطان الملك الصالح (¬9)، وحصل بينهما التصافى والتواد (¬10). وكذلك ¬

(¬1) في نسخة س «الخوارزمية» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ذكر ابن أيبك (الدر المطلوب، ص 358) أن الوقعة كانت «على بحيرة حمص»، وفى العينى (عقد الجمان، حوادث 644) «على عيون القصب» والصيغة المثبتة في نسختى المخطوطة وكذلك في أبى الفدا (المختصر، ج 3، ص 175). (¬3) في نسخة س «فاقتتلوا قتالا شديدا، فوقعت الكسرة على الخوارزمية فانهزمت أقبح هزيمة وتبدد شملهم» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «مثل» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) في نسخة س «وعلق فنصب» والصيغة المثبتة من نسخة ب وكذلك من العينى (عقد الجمان، حوادث سنة 644). (¬9) في نسخة س «والملك الصالح نجم الدين أيوب» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «والوداد» والصيغة المثبتة من ب.

صلح (¬1) ما بين الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬2)] والحلبيين، واتفقت كلمة الجميع. وأما الملك الصالح عماد الدين إسماعيل فإنه [بعد الكسرة (¬3)] سار إلى حلب، وأقام (¬4) بها ملتجئا إلى الملك الناصر بن الملك العزيز. وأرسل بعد [54 ا] ذلك الملك الصالح كاتبه بهاء الدين زهيرا يطلبه من الملك الناصر صاحب حلب (¬5). فلما ذكر بهاء الدين [زهير (¬6)] للملك الناصر [صاحب حلب (¬7)] ذلك، شق ذلك عليه. وقال: «كيف يحسن [بى (¬8)] أن يلتجئ إلىّ خال أبى، وهو كبير البيت، وأسيّره إلى من يقتله، وليس من المروءة إذا استجار [إنسان (¬9)] بإنسان أن يخفر ذمته ويسلمه إلى عدوه. هذا شىء لا يكون أبدا». [فرجع بهاء الدين زهير إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب (¬10)] بهذا الجواب، فتألم لذلك وسكت عن طلبه (¬11)، وكان في غاية الحنق عليه [لما قدمنا ذكره] (¬12). [وكانت هذه الرسالة - على ما بلغنى - في سنة خمس وأربعين وستمائة] (¬13). ¬

(¬1) في نسخة ب «حصل» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) في نسخة س «فأقام». (¬5) وردت هذه الجملة في نسخة س في قليل من التقديم والتأخير. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «فرجع بهاء الدين إلى الملك الصالح». (¬11) في نسخة س «وسكت عنه» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬13) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب.

ذكر استيلاء [السلطان] الملك الصالح نجم الدين [أيوب] على بعلبك

وكان الأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد، قد (¬1) صار مع الخوارزمية. فلما جرى من [كسرة (¬2)] الخوارزمية ما ذكرناه مضى إلى صرخد وامتنع بها، إلى أن جرى ما سنذكره [إن شاء الله تعالى (¬3)]. ذكر استيلاء [السلطان (¬4)] الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬5)] على بعلبك ولما جرى من الكسرة على الخوارزمية ما ذكرنا، وكانت (¬6) بعلبك بيد الملك الصالح عماد الدين اسماعيل، ولم (¬7) يمكنه الدخول إليها خوفا أن يحاصر، ويؤخذ أخذا باليد، فيقتله الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬8)] ابن أخيه، بإبنه الملك المغيث، فمضى إلى حلب واستجار بصاحبها [الملك الناصر بن الملك العزيز (¬9)]. ورحل الأمير حسام الدين بن أبى على [الهذبانى] (¬10) نائب السلطان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬11)] بدمشق بمن معه من العسكر، ونازل [قلعة (¬12)] بعلبك وضايقها، وكان بها الملك المنصور نور الدين محمود بن الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل (¬13)] وإخوته. واشتد عليهم الحصار، فسلموها إلى الأمير حسام الدين بالأمان، فتسلمها حسام الدين (¬14)، وولى فيها. ورتب أمرها وسار إلى دمشق، وأولاد الملك الصالح ¬

(¬1) في نسخة ب «وقد» والصيغة المثبتة من س. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «كانت» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «فلم» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وساقط من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وساقط من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وساقط من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وساقط من ب. (¬12) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وساقط من ب. (¬13) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وساقط من ب. (¬14) في نسخة س «حسام الدين أبى على».

[عماد الدين (¬1)] معه، فاعتقلهم بدمشق، ثم بعث بهم إلى ابن عمهم الملك الصالح نجم الدين إلى الديار المصرية. وبعث إليه [أيضا (¬2)] أمين الدولة وزير الملك الصالح، وأستاذ داره ناصر الدين بن يغمور فاعتقلوا [54 ب] جميعهم بالديار المصرية إلى أن جرى [لهم (¬3)] ما سنذكره إن شاء الله تعالى. فحكى لى حسام الدين بن أبى على رحمه (¬4) الله قال: لما كنت في الجب بقلعة بعلبك لا (¬5) أفرق بين الليل والنهار، حدثتنى نفسى يوما وأنا في تلك الحالة السيئة التي تشعر باليأس من الحياة بالكلية، أنى أخرج من الحبس وأرجع إلى منزلتى التي كانت لى من (¬6) الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬7)]، وأنه يسيرنى إلى بعلبك وأفتحها وأحتاط على أولاده وأحملهم بين يدى إلى دمشق. قال [حسام الدين (¬8)]: فقلت لنفسى هذا من الأمانى الكاذبة التي تبعد في العقل أن تكون. قال (¬9): فما كان بعد مدة يسيره إلا وقد حصل لى كل ما تمنيت عيانا لم يخرم منه شىء (¬10). ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬4) في نسخة س «قال القاضى جمال الدين بن واصل صاحب هذا التاريخ: حكى لى حسام الدين أبى على. . .». (¬5) في نسخة س «كنت لا أفرق فيه» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «منزلتى التي كانت عند» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬8) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬9) الكلمة ساقطة من نسخة س. (¬10) انظر أيضا ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 359.

ذكر محاصرة فخر الدين بن شيخ الشيوخ للملك الناصر داود [ابن الملك المعظم فى الكرك]

واتفقت أيضا وفاة سيف الدين بن قليج، وكان بعجلون. وكان كما ذكرنا (¬1) أقطعه إياها الملك الناصر داود [بن الملك المعظم (¬2)] فتسلمها [السلطان (¬3)] الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬4)]. [وأما عز الدين أيبك المعظمى فإنه لما نزل الملك الصالح نجم الدين (¬5)] [أيوب] (¬6) إلى الشام في هذه السنة على ما سنذكره (¬7)، سلم صرخد [إلى الملك الصالح] (¬8) فتسلمها منه. وتوجه عز الدين أيبك إلى القاهرة فمات (¬9) بها. وصفت هذه البلاد [كلها (¬10)] للملك الصالح [نجم الدين (¬11)] ولم يبق خارجا عنه إلا الكرك، وبها الملك الناصر داود [بن الملك (¬12) المعظم] في حكم المحصور. ذكر محاصرة فخر الدين بن شيخ الشيوخ للملك (¬13) الناصر داود [ابن الملك المعظم في الكرك (¬14)] وسير [الملك الصالح نجم الدين أيوب (¬15)] [في هذه السنة بعد أخذ بعلبك (¬16)] الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ في العساكر المصرية لقصد الملك ¬

(¬1) انظر ما سبق، ص 328. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين مذكور في هامش نسخة ب ومثبت في س. (¬6) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة ب ومثبت في س. (¬7) في نسخة ب «ما سنذكر» والصيغة المثبتة من س. (¬8) في نسخة س «اليه» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) عن تسلم السلطان الصالح نجم الدين أيوب لصرخد من الأمير عز الدين أيبك، انظر ابن أيبك الدوادارى، الدر المطلوب، ص 360؛ النويرى، نهاية الأرب، ج 27 ق 84؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 326. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬13) في نسخة س «الملك» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب. (¬14) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬15) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬16) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س.

الناصر داود فتوجه من الديار المصرية إلى الشام، واستولى على ما كان بيد الملك الناصر [داود (¬1)] من البلاد وهى القدس ونابلس وبيت جبريل والصلت والبلقاء، وولى فيها جميعها. ثم توجه (¬2) إلى الكرك فخرب ما كان حولها (¬3) من الضياع وأضعفها إضعافا شديدا. ثم نازل الكرك [بعد ذلك (¬4)] وحاصرها وهى منيعة جدا، فأقام على محاصرتها أياما (¬5) ثم رحل عنها. وقل (¬6) ما عند الملك الناصر [داود (¬7)] من المال [55 ا] والذخائر. ولما اشتد عليه الأمر وضاق خناقه، عمل قصيدة [بليغة رائفة السبك، حسنة المعانى، جزلة الألفاظ، وهى من قلائد شعره (¬8)]، يعاتب فيها ابن عمه الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬9)]، وذكر فيها ما له من اليد عنده، وما أولاه من الجميل في خدمته، وذبه عنه، ودفع أعدائه عنه، حين قصدوا أخذه منه ليريقوا دمه، ثم إخراجه وتمليكه الديار المصرية، وأنه لم يجازه (¬10) على فعله هذا، وقطع رحمه، والقصيدة هى هذه (¬11): ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) في نسخة س «وتوجه» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «ما حولها» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) في نسخة س «أيام» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «وقد قل» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) في نسخة س «لم يجازيه على فعله إلا قطع رحمه» وهو تحريف والصيغة المثبتة من ب. (¬11) انظر نص القصيدة كاملا في كتاب الفوائد الجلية في الفرائد الناصرية، للملك الأمجد بن الناصر داود، ص 185 - 187.

قولوا لمن (¬1) قاسمته ملك اليد ... ونهضت فيه نهضة المستأسد واقعت (¬2) فيه كل أصيد من ذوى ... رحمى عريق في العلاء مسوّد لا قيتهم بسنان كلّ مثقف ... صدق الكعوب وحد كلّ مهند عاصيت فيه ذوى الحجى من أسرتى ... وأطعت فيه مكارمى وتوددى يا قاطع الرحم التي صلتى لها (¬3) ... كتبت على الفلك الأثير بعسجد سدّدت (¬4) نحوى بالعتاب (¬5) مقالة ... جاءت كسهم للنضال مسدّد أتقول فىّ مقالة لك جزؤها ... إن أنصفت أو كلها إن تعتدى إن كنت تقدح في صريح مناسبى ... فاصبر بعرضك للهيب الموصد (¬6) عمى أبوك ووالدى عم به ... يعلو انتسابك كل ملك أصيد صالا وجالا كالأسود ضواريا ... وأزيز (¬7) تيار الفرات المزبد ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وكتاب الفوائد الجلية بينما ورد في ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6، ص 326) «قل للذى». (¬2) في نسخة ب «واقفت» والصيغة المثبتة من الفوائد الجلية، ص 185. (¬3) في نسخة س وكذلك في ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6، ص 326) «بها» والصيغة المثبتة من نسخة ب وكذلك من الفوائد الجلية، ص 185. (¬4) في نسخة ب «سدت» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن الفوائد الجلية. (¬5) في نسخة ب «العتاب» وفى الفوائد الجلية «بالعقاب» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬6) الشطر الثانى ورد في الصيغة المثبتة في نسخة س وفى الفوائد الجلية ص 185، وفى نسخة ب «فاصبر بعرضك في اللهيب الموصد»، وفى ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6، ص 326) «فاصبر بعزمك للهيب المرصد». (¬7) كذا في نسختى المخطوطة وفى الديوان، وفى ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6، ص 326) «فارتد».

ورثا الحماسة والسماحة عن أب ... ورّاد حرب مورد للمحتدى (¬1) العادل الملك المؤيد بالتقى ... سيف الإله على البغاة محمد (¬2) هم دوّخوا قمم الممالك فاغتدت (¬3) ... منقادة ولغيرهم لم تنقد (¬4) إنى وإنك نلتقى في ذروة ... للمجد تعلو عن مكان الفرقد بهم حللنا الأوج في فلك العلا ... فعلام تعبث بالحضيض الأوهد دع سيف مقولى البليغ يذب (¬5) عن ... أعراضكم بفرنده المتوقد فهو الذى قد صاغ تاج فخاركم ... بمفصّل من لؤلؤ وز برجد فلئن (¬6) غدوت بما يقول مخصصى ... لأبرهنن على (¬7) الصحيح المسند إنى الذى اشتهرت جميل خلائقى ... لفعال (¬8) معروف وقول أحمد الناس أجمع يعلمون بأننى ... آل شاذى في صميم المحتد بيتى ونفسى في المعالى آية (¬9) ... مثل السها ما أن تلامس باليد سمح إذا (¬10) ما شح موسر معسر ... في حالتى بطارفى وبمتلدى إنى لأقصد والملوك كثيرة ... في حالتى (¬11) خوف وعام أجرد ¬

(¬1) كذا في نسختى المخطوطة وفى الفوائد الجلية «للمحتد». (¬2) البيت التالى ورد في هامش نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «فانعدت» والصيغة المثبتة من الديوان. (¬4) البيتان التاليان ساقطان من نسختى المخطوطة ومثبتان في الديوان، ص 185 - 186. (¬5) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الفوائد الجلية ص 186 «يذود». (¬6) كذا في نسختى المخطوطة، وفى الفوائد الجلية ص 186 «ولئن». (¬7) كذا في نسخة ب وفى الفوائد الجلية وفى نسخة س «عن». (¬8) في نسخة س وفى الفوائد الجلية «بفعال» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) كذا في نسخة س والديوان، ص 186، وفى نسخة ب «أنه». (¬10) كذا في نسخة س والفوائد الجلية، وفى نسخة ب «إذ». (¬11) كذا في نسختى المخطوطة وفى الديوان، ص 186 «أزمتى».

بيتى إذا ما خاف حر أورجا ... حرم الدخيل وكعبة المسترفد حصن المطرد إن تعذّر منعه ... من خوف جمّاع الجنود مؤيد آوى المشرّد لى وأعطى مانعى ... وأقيل أعدائى وأرحم حسّدى إن الغنى والجود من نفس الفتى ... ليسا (¬1) بكثرة أينق (¬2) أو أعبد ما كلّ مقلال ضنين (¬3) باللهى ... ما كلّ مكثار بذى كف ندى كم من فقير كالغنى بفعله ... وآخر غنىّ كالمملق المتجرد (¬4) فلذا يجود ووجهه متهلل ... ولذاك يأخذ وهو كالعانى الصّد (¬5) ما أمنى العافون إلا عاينوا ... بشرا بوجهى وإخضلالا في يدى ما إن رئيت ولا أرى في مهلتى ... يوما على أهلى بفظ أنكد إنى لهم في النائبات لخادم ... والخادم الكافى لهم كالسيد وأنا المجيب دعاءهم إن أرهقوا ... علنا بصوتى في العجاج (¬6) الأربد وأقيهم (¬7) بحشاشتى متبرعا ... من كل بؤس رائح أو مغتدى أفديهم إن قوتلوا وأمدّهم ... إن أعسروا وأردهم (¬8) للسؤدد يا محرجى بالقول والله الذى ... خضعت لعزته جباه (¬9) السجّد ¬

(¬1) كذا في نسخة س والفوائد الجلية، ص 186 وفى نسخة ب «ليس». (¬2) أينق جمع ناقة انظر ابن منظور، لسان العرب، مادة نوق. (¬3) كذا في نسخة ب والديوان، ص 186، وفى نسخة س «طنين». (¬4) كذا في نسخة س والديوان، ص 186، وفى نسخة ب «المتجدد». (¬5) ورد هذا البيت في الصيغة المثبتة في نسخة س وفى الديوان، ص 186 بينما ورد البيت محرّفا في نسخة ب: فكذا الجود ووجهه مهلل وكذاك يأخذ وهو كالعابى المعتدى (¬6) كذا في نسخة س وفى الديوان، ص 187، وفى نسخة ب «الحجاج». (¬7) في الفوائد الجلية «فأقيهم» والصيغة المثبتة من نسختى المخطوطة. (¬8) في نسخة س والديوان ص 187 «وأودهم» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) كذا في نسخة ب والديوان، ص 187 وكذلك ابن تغرى بردى، النجوم، ج 6، ص 327، وفى نسخة س «الجباه».

لولا مقال الهجر منك لما بدا ... منى افتخار بالقريض المنشد إن كنت قلت خلاف ما هو شيمتى ... فالحاكمون (¬1) بمسمع وبمشهد (¬2) فخر الفتى بفعاله ذم إذا ... هو لم يلاحى (¬3) بالمقال المعتدى والصدق كالكذب الصريح سفاهة ... والمستقيم المتن (¬4) كالمتأود والله يا ابن العم لولا خيفتى (¬5) ... لرميت ثغرك بالعداة المرّد لكننى ممن يخاف حرامه ... ندما يجرعنى سهام (¬6) الأسود فأراك ربّك بالهدى ما ترتجى ... لنراك (¬7) تفعل كل فعل أرشد لتعيد وجه الملك طلقا ضاحكا ... وترد شمل البيت غير مبدّد كيلا ترى الأيام فينا (¬8) فرصة ... للخارجين وضحكة للحسّد لا زال هذا البيت مرتفع البنا ... يزهو بأمجد [بعد] (¬9) آخر أمجد تحوى البنون المجد عن آبائهم ... إرثا على مر الزمان الأطرد حتى يكونوا للمسيح عصابة ... بهم يسوس المعتدى والمهتدى (¬10) ¬

(¬1) كذا في نسخة س والفوائد الجلية، ص 187 وابن تغرى بردى، النجوم، ج 6، ص 327، وفى نسخة ب «والحاكمون». (¬2) البيتان التاليان ساقطان من نسخة ب ومثبتان في نسخة س وفى الديوان، ص 187. (¬3) في الفوائد الجلية «يلاقى» والصيغة المثبتة من نسخة س وهى أبلغ، والملاحاة المخاصمة والنزاع، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 20 ص 108. (¬4) في الفوائد الجلية «المتين» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) كذا في نسخة س والديوان، ص 187 وفى نسخة ب «حنقتى». (¬6) في نسخة س والفوائد الجلية، ص 187 «سمام» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) كذا في نسخة ب والديوان، ص 187 وابن تغرى بردى، النجوم، ج 6، ص 327، وفى نسخة س «لأراك». (¬8) في نسخة س «إلا» وفى الديوان، ص 187 «أنا» والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب ومن ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6، ص 327). (¬9) ما بين الحاصرتين ساقط من ب ومثبت في س والديوان، ص 187. (¬10) ورد هذا البيت في هامش نسخة س.

ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حمص رحمه الله

ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حمص رحمه الله ولما جرى (¬1) من كسر الخوارزمية ما قدمنا ذكره (¬2)، واتخذ الملك المنصور ابراهيم ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه (¬3) صاحب حمص بما فعله يدا (¬4) عند [السلطان (¬5)] الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬6)]، وتقرب (¬7) به إليه، وراسله بانتمائه إليه، ودخوله في طاعته، فعلت منزلته [عنده (¬8)] بما فعل من كسر [الخوارزمية (¬9)] أعدائه والقيام بنصرته. وأرسل الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬10)] إليه بما طيب به قلبه (¬11)، وباستدعائه إليه ليعتمد في اموره (¬12) كلها عليه. فقدم الملك المنصور [صاحب حمص (¬13)] إلى دمشق، فقام بخدمته الأمير حسام الدين [أبى على (¬14)] نائب السلطان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬15)] وبجميع ما يحتاج إليه من وظائفه. فحكى لى (¬16) الأمير حسام الدين [أبى على (¬17)] قال: قال لى الملك المنصور [صاحب حمص (¬18)]: «والله لأبذلن مهجتى في خدمة السلطان، وأغسل بما أفعله ¬

(¬1) في نسخة س «ولما جرى ما ذكرنا» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) انظر ما سبق ص 358. (¬3) في نسخة س «بن شيركوه» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) اليد بمعنى النعمة والطاعة، انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 20، ص 305. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «وتقرب إليه» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬11) في نسخة س «بما طيب قلبه» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة س «في الأمور» والصيغة المثبتة من ب. (¬13) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬14) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬15) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬16) في نسخة س «قال صاحب التاريخ: فحكى لى. . .» والصيغة المثبتة من نسخة ب. (¬17) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬18) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب.

ذكر سيرته رحمه الله [تعالى]

في خدمته من المناصحة كل أمر تقدم من الإساءة (¬1)». ووردت الكتب من الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬2)] إلى الأمير حسام الدين والنواب بدمشق، بأن يقوموا بخدمته (¬3) أتم قيام، إلى أن يرد إلى الديار المصرية. وكان الملك المنصور [إبراهيم (¬4)] قد ابتدأ به مرض السل، واشتد به المرض بدمشق (¬5)، ولم تزل قواه تضعف إلى أن توفى بالنيرب بظاهر (¬6) دمشق، فحمل إلى حمص ودفن (¬7) بظاهرها. وكانت مدة ملكه نحو سبع سنين. ذكر سيرته رحمه الله [تعالى (¬8)] كان (¬9) ملكا جليلا شجاعا مقداما، ذاهمة عالية، وكان له أثر عظيم في كسر عسكر السلطان جلال الدين [بن (¬10)] خوارزم شاه في سنة سبع [56 ب] وعشرين وستمائة مع الملك الأشرف فإن والده كان سيره نجدة له. وكسر الخوارزمية في الشرق مرتين (¬11) وأضعف ركنهم، ثم كسرهم الكسرة العظمى بعيون القصب، وقتل ملكهم، ¬

(¬1) في نسخة ب «الإشارة» والصيغة المثبتة من س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «في خدمته» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) في نسخة س «في دمشق» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «ظاهر» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة س «فدفن» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب، وعن سيرة الملك المنصور ابراهيم صاحب حمص انظر: أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 176؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 507؛ ابن أيبك، الدر المطلوب، ص 358 - 359؛ النويرى، نهاية الأرب، ج 27، ق 84؛ العينى، عقد الجمان، حوادث سنة 644 هـ‍؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 325؛ ابن تغرى بردى، النجوم، ج 6، ص 336. (¬9) في نسخة س «كان الملك المنصور صاحب حمص». (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬11) في نسخة س «مرتين في الشرق» والصيغة المثبتة من ب.

ذكر استيلاء الملك الأشرف موسى بن الملك المنصور على حمص [وبلادها]

وفرق جمعهم. وكان على خلاف طريقة أبيه في سياسة الرعية؛ فإن أباه كان عنده حيف كثير وعسف، فخربت (¬1) بذلك حمص وبلادها، وتفرق أهلها في البلاد. فلما ولى الملك المنصور [ابراهيم (¬2)] أحسن إلى الرعية، ولطف بهم، وكانت عنده سماحة كف، وحسن ملقى (¬3)، فعمرت حمص في أيامه، وتراجع إليها من أهلها من كان نزح عنها، وبث فيهم العدل، وأطلق كثيرا ممن (¬4) كان حبسه أبوه وأطال سجنه. وكان له أخ يقال له الملك المسعود فخاف منه فحبسه (¬5)، فلم يزل في حبسه حتى (¬6) مات. ذكر استيلاء الملك الأشرف موسى بن الملك المنصور على حمص [وبلادها (¬7)] ولما توفى الملك المنصور قام بالملك بحمص بعده ولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى، وكان صبيا فقام بتدبير دولته ووزارته مخلص الدين إبراهيم ابن اسماعيل بن قرناص، وهو من أكابر أهل حماة، وكان معتقلا في حبس الملك المجاهد [أسد الدين (¬8)] مع من اعتقل من أقاربه بنى قرناص حين (¬9) قبض على ¬

(¬1) في نسخة س «فخرب» والصيغة المثبتة من س. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «تأتى» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «مما» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «وحبسه» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة س «إلى أن» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) في نسخة س «من حين» والصيغة المثبتة من ب.

ذكر مسير السلطان [الملك] الصالح الى الشام

سيف الدين بن أبى (¬1) على [الهذبانى (¬2)] وأصحابه [فلما مات أسد الدين أخرجه الملك المنصور إبراهيم واستخدمه، فلما توفى الملك المنصور توزر للملك الأشرف. وكان رجلا فاضلا (¬3)]، فأشار على الملك الأشرف بالانتماء (¬4) إلى [السلطان (¬5)] الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬6)] وملازمة طاعته، وترددت الكتب بينه وبين الملك الصالح والمراسلة (¬7). ذكر مسير السلطان [الملك (¬8)] الصالح إلى الشام ولما فتحت بعلبك كتب السلطان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬9)] إلى الأمير حسام الدين بن أبى على يأمره بالقدوم عليه. وبعث إلى دمشق الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح، وجعله نائبا عنه فيها (¬10)، فوصل إلى دمشق [يوم سفر حسام الدين منها (¬11)]. وبقى في القلعة الطواشى [شهاب الدين (¬12)] رشيد [57 ا] الكبير على حاله. وأقام جمال الدين [يحيى بن مطروح (¬13)] بدمشق يرتب أمورها (¬14) مع الطواشى شهاب الدين. ¬

(¬1) في نسخة س «أبو» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) في نسخة ب «فاتفق معه على الانتماء» والصيغة المثبتة من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «وبين الملك الصالح نجم الدين والمراسلات» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) ذكر المقريزى (السلوك، ج 1، ص 326) ان ابن مطروح أرسل إلى دمشق «وزيرا وأميرا، وأنعم عليه بسبعين فارسا بدمشق». (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد بدلها في نسخة س «ثم سفر حسام الدين بن أبى على منها». (¬12) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬13) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬14) في نسخة ب «أمرها» والصيغة المثبتة من س.

وقدم حسام الدين إلى القاهرة فاستنابه (¬1) الملك الصالح [نجم الدين أيوب] (¬2) بها وبسائر الديار المصرية، وأنزله بدار الوزارة، وفوض أمور الملك (¬3) كلها اليه، وأقامه في ذلك مقام نفسه. ثم سافر الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬4)] إلى دمشق، ووصل إلى خدمته مولانا (¬5) السلطان [الملك] (¬6) المنصور صاحب حماة، وسنه (¬7) يومئذ اثنتى عشرة سنة. ووصل [إليه] (¬8) أيضا الملك الأشرف صاحب حمص فأكرمهما وقربهما. وكان أدناهما منزلة منه وأعظمهما محلا عنده، الملك المنصور [رحمه الله (¬9)] رعاية لحق والده الملك المظفر رحمة الله عليه (¬10). ثم وصل (¬11) إلى بعلبك، ورتب أمورها ونظر إلى أسوارها فلم تعجبه فأمر بإصلاحها وتحصينها، ثم عاد إلى دمشق ولم يزل بالشام إلى أن خرجت هذه السنة. ¬

(¬1) في نسخة س «واستنابه» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) في نسخة س «المملكة» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) في نسخة س «المولى» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «وعمره» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬10) في نسخة س «رحمه الله» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) في نسخة س «رحل» والصيغة المثبتة من ب، وذكر المقريزى (السلوك، ج 1، ص 326) أن السلطان الصالح نجم الدين أيوب «سار بعد خمسة عشر يوما إلى بعلبك».

ودخلت سنة خمس وأربعين وستمائة

ودخلت سنة خمس وأربعين وستمائة (*) والسلطان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬1)] بالشام ونائبه بالديار المصرية الأمير حسام الدين [أبو على بن محمد (¬2)] بن أبى على. وكان أبوه بدر الدين محمد بن أبى على، وقريبه علاء الدين في حبس الملك المجاهد [أسد الدين (¬3)] صاحب حمص، فأطلقهما الملك المنصور [ابراهيم (¬4)] لمّا انتمى إلى الملك الصالح ودخل في طاعته، وكانا من جملة من أخذ مع سيف الدين [بن أبى على الهذبانى (¬5)]. وكان الملك الصالح طلب منه سيف الدين، ظنا منه أنه باق، فأخبر بعدمه، وكان معتقلا بتدمر وبها (¬6) مات. وقدم (¬7) بدر الدين إلى ابنه (¬8) حسام الدين ومعه علاء الدين فسر لخلاصهما وقدومهما عليه. ثم توفى بدر الدين [والد حسام الدين (¬9)] بعد قدومه بمدة يسيرة، فدفنه بالرصد (¬10) وبنى عليه بذلك المكان تربة. ¬

(*) يوافق أولها 8 مايو سنة 1247 ميلادية. (¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح. (¬6) في نسخة س «وأنه» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) في نسخة ب «فقدم» والصيغة المثبتة من س. (¬8) في نسخة ب «أبيه» وهو تحريف، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة س وكما يفهم من سياق المعنى. (¬9) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س وساقط من ب. (¬10) هو مكان كان يقع فيما بين بركة الحبش وفسطاط مصر، كان يعرف قديما باسم الجرف ثم عرف بالرصد عند ما أقام الأفضل بن بدر الجمالى فوقه كرة لرصد الكواكب، فعرف حينئذ بهذا الاسم، انظر المقريزى، الخطط، ج 1، ص 125.

ذكر قدوم الملك الصالح [نجم الدين أيوب] إلى الديار المصرية

ذكر قدوم الملك الصالح [نجم الدين أيوب] (¬1) إلى الديار المصرية وقدم الملك الصالح في أوائل هذه السنة إلى الديار المصرية (¬2). ولما دخل الرمل عرض له وجع في حلقه خيف عليه منه، وبلغ ذلك حسام الدين [57 ا] فاضطرب لذلك وانزعج منه (¬3)؛ فإن الملك الصالح [نجم الدين (¬4)] لم يكن له بديار مصر ولد يرجى للقيام بالملك بعده. وكان قد ولد له قبل أن يصل إلى مصر وولد من جاريته المسماة شجر الدر فسماه خليلا، فتوفى بعد دخوله مصر. وتوفى بدمشق ولده الملك القاهر والملك الصالح بنابلس، قبل أن تؤخذ دمشق منه. ثم توفى ولده الملك المغيث فتح الدين عمر معتقلا عند عمه الملك الصالح [عماد الدين إسماعيل] (¬5)، وكان ولده المعظم بحصن كيفا. وحكى لى (¬6) الأمير حسام الدين [أبى على (¬7)] قال: لما ودعنى السلطان الملك الصالح عند (¬8) سفره إلى دمشق قال لى: «إنى (¬9) مسافر إلى الشام وأخاف أن يعرض لى موت ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) وردت هذه الجملة في نسخة س «ورحل الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى الديار المصرية في أوائل هذه السنة» والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة س «فاضطرب منه وانزعج لذلك» والصيغة المثبتة من نسخة ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬5) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬6) نقل ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6، ص 327 - 328) هذه القصة عن ابن واصل. (¬7) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬8) في نسخة س «حين» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «أنا» والصيغة المثبتة من نسخة ب ومن ابن تغرى بردى (النجوم، ج 6، ص 327).

وأخى الملك العادل بقلعة مصر (¬1)، فيأخذ البلاد وما يجرى عليكم منه خير، [فإن عرض لى في سفرى هذا مرض ولو أنه وجع إصبع أو حمى يوم فأعدمه، فإنه لا خير فيه لكم. وولدى توران شاه لا يصلح للملك؛ فإن بلغك موتى فلا تسلم البلاد لأحد من أهلى بل سلمها إلى الخليفة المستعصم بالله». قلت: إنما أمره بأن لا يسلم البلاد إلى أحد من أقار به لأنه كان موغر الصدر عليهم بما جرى عليه من جهتهم. هذا صورة ما سمعته من الأمير حسام الدين رحمه الله (¬2)]. فلما ورد على حسام الدين [مرض الملك الصالح (¬3)] بالخوانيق (¬4) عظم ذلك عليه، وخاف خوفا شديدا. ثم لم يلبث أن (¬5) وردت البشرى من جهته بعافيته [وسلامته] (¬6)، فسر بذلك غاية السرور. ثم وصل بعد ذلك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى القاهرة، وزينت لقدومه أتم زينة (¬7). ¬

(¬1) في نسخة س «وأخى الملك العادل معتقلا بالقلعة» والصيغة المثبتة من نسخة ب، انظر ابن تغرى بردى، النجوم، ج 6، ص 327. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في ب. (¬3) في نسخة س «مرض السلطان» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) ذكر الخوارزمى (مفاتيح العلوم، ص 97) «الخناق أن يحدث في المبلع ضيق يقال له خوانيق» وهو المرض المسمى بالذبحة؛ انظر، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 55 حاشية 8. (¬5) في نسخة س «ثم لم يلبث بعد ذلك إلا قليلا حتى» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬7) في نسخة ب «ثم وصل إلى القاهرة وزينت لمقدمه» والصيغة المثبتة من س.

ذكر تسليم قلعة شميميش إلى الملك الصالح نجم الدين [أيوب] وعزم الحلبيين على محاصرة حمص لأجل ذلك

ذكر تسليم قلعة شميميش (¬1) إلى الملك الصالح نجم الدين [أيوب (¬2)] وعزم الحلبيين على محاصرة حمص لأجل ذلك وفى هذه السنة سلم الملك الأشرف [بن الملك المنصور (¬3)] صاحب حمص قلعة شميميش إلى السلطان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬4)]. وكان السبب في ذلك أن مخلص الدين إبراهيم بن قرناص وزير الملك الأشرف حسن للملك الأشرف ذلك ليتقرب به إلى الملك الصالح. وتكررت (¬5) بين مخلص الدين [وبين الملك الصالح نجم الدين أيوب] (¬6) مراسلات في ذلك، وأراد [58 ا] مخلص الدين الحظوة عند الملك الصالح والقرب منه بتسليم هذه القلعة إليه، فسلمت القلعة إلى نواب الملك الصالح [نجم الدين أيوب] (¬7). وبلغ ذلك الملك (¬8) الناصر صاحب حلب ومدبر دولته (¬9) الأمير شمس الدين لؤلؤ الأمينى، فعظم ذلك عليهما، وخافا أن يكون ذلك سببا لتطرق الملك (¬10) الصالح [نجم الدين أيوب] (¬11) إلى بلاد حلب (¬12)، فصمما العزم على قصد حمص ومحاصرتها وأخذها من الملك الاشرف. ¬

(¬1) في نسختى المخطوطة شميميس، وسبق كتابتها شميميش (انظر ابن واصل ج 4، ص 282 وحاشية 7) اعتمادا على ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 234 وحاشية 1، والمقريزى، السلوك، ج 1، ص 446. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) في نسخة س «قال فتكررت» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في ب «الملك الصالح». (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدلها في ب «الملك الصالح». (¬8) في نسخة س «وبلغ ذلك إلى الملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) في نسخة س «وكان مدبر دولته» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «للتطرق للملك» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬12) في نسخة ب «الحلب» والصيغة المثبتة من س.

ذكر مسير السلطان إلى الشام لفتح عسقلان وطبريه

ذكر مسير السلطان إلى الشام لفتح عسقلان وطبريه (¬1) كنا قد ذكرنا أن الملك الصالح [عماد الدين (¬2)] اسماعيل قد سلم عسقلان وطبرية (¬3) إلى الفرنج، وكانتا (¬4) خرابا، فبنى بها الفرنج قلعتين (¬5) وحصنوهما (¬6). فلما كان في السنة الماضية حاصرهما الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بعد منازلة الكرك (¬7)، ففتحهما وهدمهما وطهرهما من الفرنج. ووردت البشرى (¬8) بفتحهما إلى القاهرة والسلطان [الملك الصالح نجم الدين أيوب] (¬9) بالشام، فاستبشر المسلمون بعودهما وتطهيرهما من الفرنج وضربت البشائر لهذا الفتح. ذكر خروج العساكر المصرية إلى الشام لإنجاد الملك الأشرف صاحب حمص ولما بلغ السلطان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬10)] عزم الحلبيين على قصد حمص أمر العسكر (¬11) بالمسير إلى الشام لانجاد صاحب حمص على الحلبيين، فتقدم ¬

(¬1) في نسخة ب «ذكر فتح عسقلان وطبرية» والصيغة المثبتة من س وعن هذا الخبر انظر أيضا: النويرى: نهاية الأرب، ج 27 ق 85؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 580؛ أبو الفدا، المختصر، ج 3، ص 176؛ المقريزى، السلوك ج 1، ص 327. (¬2) ما بين الحاصرتين للتوضيح من نسخة س. (¬3) في نسخة س «كان قد سلم طبرية وعسقلان» والصيغة المثبتة من ب. (¬4) في نسخة س «وكانت» والصيغة الصحيحة المثبتة من ب. (¬5) في نسخة س «قلعتان» والصيغة الصحيحة المثبتة من ب. (¬6) في نسخة ب «وحصونها» والصيغة المثبتة من س. (¬7) وردت الجملة في نسخة س في قليل من التغيير وبنفس المعنى. (¬8) في نسخة س «البشائر» والصيغة المثبتة من ب. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س. (¬11) في نسخة س «العساكر» والصيغة المثبتة من ب.

ذكر وفاة الملك العادل بن الملك الكامل

إلى الأمير فخر الدين [يوسف (¬1)] بن شيخ الشيوخ بأن يسير بالأمراء إلى دمشق [فسار (¬2)]. ونزلت [بقية العساكر والحلقة السلطانية (¬3)] بالسانح وضرب الدهليز بها. وكان الملك الصالح [نجم الدين أيوب (¬4)] قد ابتنى بالسانح قصورا له، وابتنى مدينة سماها الصالحيه (¬5)، وجعل فيها سوقا وجامعا ليكون مركزا للعساكر (¬6) عند خروجهم من الرمل. وخرج السلطان من القاهرة [ونزل (¬7)] بقصره بأشمون طناح، ولم يزل به إلى أن خرجت هذه السنة. واستناب بالديار المصرية الأمير حسام الدين [بن (¬8)] أبى على [الهذبانى على العادة] (¬9). ذكر وفاة الملك العادل بن الملك الكامل ولما أراد [السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب] (¬10) أن يسافر إلى الشام تقدم بأن يسير (¬11) الملك العادل إلى الشوبك فيكون (¬12) بها معتقلا لأنه خاف أن يخرج إلى الشام ويحدث به حادث موت فيملك الملك العادل البلاد بعده (¬13)، فضربت له (¬14) خيمة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) عن الصالحية انظر أيضا، المقريزى، الخطط، ج 1، ص 184، 227؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 330؛ محمد رمزى، القاموس الجغرافى، القسم الثانى، ج 1، ص 112 - 113؛ حسنين ربيع، النظم المالية، ص 70. (¬6) في نسخة س «مركز العساكر» والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من نسخة س. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من نسخة س. (¬9) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى ب «الملك الصالح». (¬11) في نسخة س «بأن يسير أخيه» والصيغة المثبتة من ب. (¬12) في نسخة س «ليكون» والصيغة المثبتة من ب. (¬13) في نسخة ب «فيلى الملك العادل البلاد» والصيغة المثبتة من س. (¬14) في نسخة س «للملك العادل» والصيغة المثبتة من ب.

خارج القاهرة (¬1) ليخرج إليها ثم يمضى (¬2) معه من يوصله إلى الشوبك. وسير [إلى الملك العادل بعد ذلك (¬3)] يأمره بالسفر، فامتنع من ذلك. واتفقت وفاته بقلعة الجبل [بعد ذلك بيوم (¬4)]. فجهز وأخرج إلى مقبرة شمس الدولة بن صلاح الدين خارج باب النصر فدفن بها. [واستراح الملك الصالح من همه] (¬5) وذلك في شوال من هذه السنة، أعنى سنة خمس وأربعين وستمائة، فكانت مدة اعتقاله بعد أن قبض عليه ببلبيس قريبا من ثمان سنين. وكان عمره نحو ثلاثين سنة لأنه بلغنى أنه ولد سنة خمس عشرة (¬6) وستمائة بعد وفاة جده الملك العادل فسماه الملك الكامل بإسمه، ولقبه بلقبه. وخلف ولدا صغيرا وهو الملك المغيث فتح الدين عمر، فأنزل إلى القاهرة فكان عند عماته بنات الملك العادل [المعروفات بالقطبيات، لأنهن إخوات الملك المفضل قطب الدين بن الملك العادل، وعندهن في تلك الدار بنات قطب الدين. وأشهر أن الملك العادل لما امتنع من المسير إلى الشوبك دخل إليه الطواشى محسن الصالحى وتقدم بخنقه فخنق والله أعلم بحقيقة ذلك. وبقى الملك المغيث فتح الدين عمر عند القطبيات إلى ان مات الملك الصالح] (¬7)، وكان من أمره ¬

(¬1) في نسخة س «خارج البلد» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة ب «مضى» والصيغة المثبتة من س. (¬3) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدله في ب «إليه». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) في نسخة س «خمسة عشر» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من ب. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد بدله في نسخة س «فبقى عند هن إلى أن مات الملك الصالح» وذكر النويرى (نهاية الأرب، ج 27 ق 86) أن السلطان الصالح نجم الدين أيوب بعث «اليه الطواشى محسن الخادم فأخبره بمارسم به السلطان من توجهه، فامتنع وقال إن أراد قتلى في الشوبك فههنا أولى، ولا أتوجه أبدا، فعدله محسن الخادم فرماه بدواة كانت عنده، فعاد إلى السلطان وأخبره فقال له دبر أمره، فأخذ ثلاثة مماليك وقيل أربعة ودخلوا عليه في ليلة الاثنين ثانى عشر شوال فخنقوه بشاش عليه، وقيل بوتر، وعلقوه بعمامته، وأظهروا أنه شنق نفسه. وخرجت جناز كجنازة الغرباء، ودفن بتربة شمس الدولة. ولم يتمتع الملك الصالح بعده بالدنيا فانه مات بعد ذلك بعشرة أشهر» أنظر أيضا سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 512؛ العينى، عقد الجمان، حوادث سنة 645 هـ‍؛ ابن تغرى بردى، المنهل الصافى، ج 5، ق 641.

ذكر سيرته رحمه الله [تعالى]

ما سنذكره إن شاء الله تعالى. [وأما الأمراء الذين قبضوا على الملك العادل فماتوا كلهم في الحبوس والقيود، ولم يفرح لهم قلب بعد ما عملوا في حقه ما عملوا (¬1)]. ذكر سيرته رحمه الله [تعالى] (¬2) كان جوادا كثير البذل، [وأنفق الخزائن التي جمعها والده فذهبت كلها في المدة اليسيرة، وكان والده إنما جمعها في المدة الطويلة] (¬3). وكانت أيامه زاهية زاهرة، والأسعار في غاية الرخص إلا أنه لم يكن فيه صرامة وحسن سياسة يضبط بها الجند. وقدم الأراذل (¬4) وأخر الأكابر [فلذلك مع تقدير الله تعالى جرى عليه ما جرى (¬5)]. وفى هذه السنة في هذا الشهر [بعينه (¬6)] توفى بقلعة الجبل [أيضا (¬7)] [بدر الدين (¬8)] سليمان بن داود بن العاضد الذى كان آخر خلفاء المصريين. وكانت الشيعة ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة س، وعن سيرة الملك العادل بن الكامل، انظر ترجمته في ابن تغرى بردى، المنهل الصافى، ج 5، ق 639 - 641. (¬3) ورد ما بين الحاصرتين في نسخة س في كثير من الخلط، والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة ب. (¬4) في نسخة س «الأرذال» والصيغة المثبتة من ب. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد بدله في س «ولم يكن له سعادة مع تقدير الله تعالى فجرى عليه ماجرى». (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وورد بدله في نسخة ب «الأمير» انظر أيضا ابن ايبك، الدر المطلوب، ص 363.

الإسماعيلية (¬1) [بمصر ودعاتهم (¬2)] يعتقدون الأمامة بعد موت العاضد في ابنه داود بن العاضد. وكان وإخوته (¬3) وأولادهم محبوسين بقلعة الجبل وقد منعوا من النساء لينقطع نسلهم، فدس بعض الشيعة جارية إلى داود بن العاضد [في زى غلام (¬4)] فوطئها، فولدت [له (¬5)] سليمان بعد أن أخرجها الشيعة من القلعة سرا. وتركوا ولدها في بعض النواحى فظفر الملك الكامل به فاعتقله في القلعة، وبقى فيها معتقلا. والشيعة ودعاتهم يجتمعون به ويعتقدون الإمامة فيه بعد أبيه داود. ولما توفى [في هذه السنة] (¬6) لم يبق لهم (¬7) من يعتقدون إمامته، إلا (¬8) أنه بلغنى أن منهم (¬9) من يعتقد (¬10) أن لسليمان هذا ولدا مخفيا بالصعيد والله أعلم. وفى العشر الأوسط من شهر رمضان من هذه السنة وصلت الصاحبة عصمة الدين عائشة خاتون بنت الملك العزيز بن الملك الظاهر [قدس الله روحها (¬11)] من حلب إلى حماة. [وكان قد عقد العقد عليها المولى السلطان الملك المنصور رحمه ¬

(¬1) في نسخة س «وكان بيت الشيعة للاسماعيلية» والصيغة المثبتة من ب. (¬2) في نسخة س «ببغداد وعادتهم» وهو تحريف والصيغة المثبتة من ب. (¬3) في نسخة ب «وكان العاضد وإخوته» والصيغة المثبتة من س، انظر أيضا، المقريزى، اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، ج 3، ص 347. (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬5) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬7) في نسخة س «ما بقى لهم» والصيغة المثبتة من ب. (¬8) في نسخة ب «إلايمه» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من س. (¬9) في نسخة س «فيهم» والصيغة المثبتة من ب. (¬10) في نسخة س «يعتقدون» والصيغة المثبتة من ب. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وورد بدله في نسخة س «رحمها الله».

الله من قبل هذا (¬1)]. وكان توجه لإحضارها من حلب [الشيخ شرف الدين عبد العزيز ابن محمد بن عبد المحسن الانصارى رحمه الله (¬2)] والطواشى (¬3) شجاع الدين مرشد المنصورى والأمير مجاهد الدين قايماز [أمير] (¬4) جاندار، فوصلت (¬5) إلى حماه وصحبتها والدتها الستر العالى فاطمة خاتون بنت السلطان الملك الكامل في تجمل عظيم وأبهة جليلة، ومحفة ملبسة بالذهب والحرير، مكللة بالجواهر، وأوانى الذهب والفضة وما يتبع ذلك من أوانى التجملات، والأقمشة والزينة والجوارى والخدم. وتلقت محفتها الأمراء [والأكابر (¬6)] وعظماء [59 ب] البلد. وفرشت الثياب الطلس وغيرها من الثياب الفاخرة بين يدى بغال المحفة. وتلقاها السلطان [الملك المنصور قدس الله روحه] (¬7) ووالدته الصاحبة خالتها [غازية خاتون (¬8)] بنت السلطان الملك الكامل رحمه (¬9) الله. وصعدت [إلى (¬10)] القلعة المحروسة [في أسعد وقت وأيمن طالع (¬11)]. ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬2) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬3) في نسخة س «الطواش». (¬4) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬5) في نسخة س «فوصلوا بها» والصيغة المثبتة من ب. (¬6) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬7) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬8) ما بين الحاصرتين من نسخة س وساقط من ب. (¬9) في نسخة ب «رحمهما الله» والصيغة المثبتة من س. (¬10) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س. (¬11) ما بين الحاصرتين من نسخة ب وساقط من س.

المصادر والمراجع المذكورة فى حواشى الجزء الخامس من كتاب مفرج الكروب

المصادر والمراجع المذكورة في حواشى الجزء الخامس من كتاب مفرج الكروب تحتوى القائمة التالية على أسماء المصادر والمراجع الإضافية التي استلزمها تحقيق الجزء الخامس من كتاب مفرج الكروب لابن واصل: أولا: المصادر العربية ابن أبى أصيبعة (موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم، ت 668 هـ‍ - 1270 م): عيون الأنباء في طبقات الأطباء، جزءان، القاهرة 1882 م. ابن الأثير (على بن محمد، ت 630 هـ‍ - 1233 م): الكامل في التاريخ، 14 جزءا، ليدن 1851 - 1876. ابن أيبك الدوادارى (أبو بكر بن عبد الله، ت بعد 736 هـ‍ - 1335 م): كنز الدرر وجامع الغرر؛ الجزء السابع: الدر المطلوب في أخبار بنى أيوب، حققه سعيد عبد الفتاح عاشور، القاهرة 1972. الجزء الثامن: الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية، حققه أو لرخ هارمان، القاهرة 1971. الجزء التاسع: الدر الفاخر في سيرة الملك الناصر، حققه هانس روبرت رويمر، القاهرة 1960.

ابن تغرى بردى (جمال الدين أبو المحاسن يوسف، ت 874 هـ‍ - 1470 م): - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 16 جزءا، القاهرة 1929 - 1972. - المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى، 5 أجزاء، مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم 1209 تاريخ تيمور. ابن حجر العسقلانى (أحمد بن على، ت 852 هـ‍ - 1448 م): إنباء الغمر بأنباء العمر، حققه حسن حبشى، 3 أجزاء، القاهرة 1969 - 1972. ابن خلكان (أحمد بن محمد، ت 681 هـ‍ - 1282 م): كتاب وفيات الأعيان، جزءان، القاهرة 1299 هـ‍ - 1882 م. ابن دحية (الحافظ مجد الدين أبو الخطاب عمر بن الحسن، ت 633 هـ‍ - 1235 م): كتاب المطرب في أشعار أهل المغرب، ط. الخرطوم 1954. ابن سعيد الأندلسى (على بن موسى، ت 685 هـ‍ - 1286 م) وآخرون: - المغرب في حلى المغرب، الجزء الأول من القسم الخاص بمصر، حققه زكى محمد حسن وآخرون، القاهرة 1953. - النجوم الزاهرة في حلى حضرة القاهرة، القسم الخاص بالقاهرة من كتاب المغرب في حلى المغرب، حققه حسين نصار، القاهرة 1970. ابن سيده (أبو الحسن على بن اسماعيل، ت 458 هـ‍ - 1066 م): المخصص، 17 جزءا، القاهرة 1318 - 1321 هـ‍ - 1900 - 1903 م.

ابن الشحنه (أبو الفضل محمد بن الشحنة الحنفى، ولد حوالى 800 هـ‍ - 1397 م): الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب، بيروت 1909 م. ابن شداد (بهاء الدين يوسف بن رافع، ت 632 هـ‍ - 1234 م): النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفيه (سيرة صلاح الدين)، تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة 1964. ابن عبد الحق البغدادى (صفى الدين عبد المؤمن، ت 739 هـ‍ - 1338 م): مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، تحقيق محمد على البجاوى، 3 أجزاء، القاهرة 1954 - 1955. ابن العديم (كمال الدين عمر بن أحمد، ت 660 هـ‍ - 1262 م): زبدة الحلب من تاريخ حلب، حققه سامى الدهان، 3 أجزاء، دمشق 1951 - 1968. ابن العماد (عبد الحى بن أحمد، ت 1089 هـ‍ - 1679 م): شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 8 أجزاء، القاهرة 1931 - 1933. ابن عنين (محمد بن نصر الله، ت 630 هـ‍ - 1233 م): ديوان ابن عنين، تحقيق خليل مردم، دمشق 1946. ابن فضل الله العمرى (أحمد بن يحيى، ت 749 هـ‍ - 1349 م): التعريف بالمصطلح الشريف، القاهرة 1312 هـ‍ - 1894 م. ابن كثير (إسماعيل بن عمر، ت 774 هـ‍ - 1373 م): البداية والنهاية، 14 جزءا، القاهرة 1932 - 1939.

ابن ممانى (الأسعد بن الخطير، ت 606 هـ‍ - 1209 م): كتاب قوانين الدواوين، تحقيق عزيز سوريال عطية، القاهرة 1943. ابن منظور (محمد بن مكرم، ت 711 هـ‍ - 1311 م): لسان العرب، 20 جزءا، القاهرة 1882 - 1891. ابن واصل (محمد بن سالم، ت 697 هـ‍ - 1298 م): مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب، أجزاء 1 - 3 تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة 1953 - 1960؛ الجزء الرابع تحقيق حسنين محمد ربيع، القاهرة 1972. أبو تمام (حبيب بن أوس الطائى، ت 228 هـ‍ - 842 - 843 م): ديوان أبى تمام، شرح وتعليق شاهين عطيه، بيروت 1968. أبو الفدا (إسماعيل بن على، ت 732 هـ‍ - 1331 م): - تقويم البلدان، باريس 1840. - المختصر في أخبار البشر، 4 أجزاء، استانبول 1281 هـ‍ - 1864 - 1865 م. أبو شامة (عبد الرحمن بن إسماعيل، ت 665 هـ‍ - 1268 م): كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، جزءان، القاهرة 1870 م؛ الجزء الأول (قسم 1 - 2) تحقيق محمد حلمى محمد أحمد، القاهرة 1956، 1962. الإدفوى (جعفر بن ثعلب، ت 748 هـ‍ - 1347 م): الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد، تحقيق سعد محمد حسن، القاهرة 1966.

الجواليقى (أبو منصور موهوب بن أحمد، ت 540 هـ‍ - 1145 م): المعرب من الكلام الأعجمى على حروف المعجم، الطبعة الثانيه، تحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة 1969. حاجى خليفة (مصطفى بن عبد الله كاتب جلبى، ت 1067 هـ‍ - 1656 م): كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون، ط. استانبول 1360 هـ‍ - 1941 م. الحسن بن الهيثم (أبو على الحسن بن الحسن، ت 430 هـ‍ - 1039 م): الشكوك على بطليموس، تحقيق عبد الحميد صبره ونبيل الشهابى، القاهرة 1971. الحنبلى (أحمد بن إبراهيم): شفاء القلوب في مناقب بنى أيوب، مخطوط بالتصوير الشمسى، مكتبة جامعة القاهرة رقم 24031. الخطيب البغدادى (أبو بكر أحمد بن على، ت 463 هـ‍ - 1071 م): تاريخ بغداد، 14 جزءا، القاهرة 1931 - 1932. الخوارزمى (محمد بن أحمد، النصف الثانى من القرن الرابع الهجرى): مفاتيح العلوم، ليدن 1895. ذو الرمة (غيلان بن عقبه العدوى، ت 117 هـ‍ - 735 م): ديوان شعرذى الرمة، كمبردج 1919 م. الزبيدى (محمد مرتضى الحسينى، ت 1205 هـ‍ - 1790 - 1791 م): تاج العروس في جواهر القاموس، 10 أجزاء، القاهرة 1306 هـ‍ - 1889 م.

الزمخشرى (أبو القاسم محمود بن عمر، ت 538 هـ‍ - 1144 م): أساس البلاغة، الطبعة الثانية، جزءان، القاهرة 1972 - 1973. سبط ابن الجوزى (يوسف بن قزغلو، ت 654 هـ‍ - 1257 م): مرآة الزمان، شيكاغو 1907. السبكى (عبد الوهاب بن على، ت 771 هـ‍ - 1370 م): - طبقات الشافعية الكبرى، 6 أجزاء، القاهرة 1324 هـ‍ - 1907 م. - معيد النعم ومبيد النقم، القاهرة 1948. السيوطى (الحافظ جلال الدين عبد الرحمن، ت 911 هـ‍ - 1505 م): - كوكب الروضة، مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم 554 تاريخ تيمور. - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، جزءان، القاهرة 1964. - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، جزءان، القاهرة 1967. العينى (محمود بن أحمد، ت 855 هـ‍ - 1451 م): عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، مخطوط مصور بدار الكتب المصرية رقم 1584 تاريخ. الفراء (أبو يعلى محمد بن الحسين، ت 458 هـ‍ - 1066 م): الأحكام السلطانية، القاهرة 1938. الفيروز آبادى (محمد بن يعقوب الشيرازى، ت 803 هـ‍ - 1400 م): القاموس المحيط، 4 أجزاء، القاهرة 1952.

القلقشندى (أحمد بن على، ت 821 هـ‍ - 1418 م): صبح الأعشى في صناعة الإنشا، 14 جزءا، القاهرة 1919 - 1922. الكتبى (محمد بن شاكر، ت 764 هـ‍ - 1363 م): فوات الوفيات، جزءان، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، القاهرة 1951. الماوردى (أبو الحسن على بن محمد بن حبيب، ت 450 هـ‍ - 1058 م): الأحكام السلطانية، القاهرة 1966. المتنبى (أبو الطيب أحمد بن الحسين، ت 354 هـ‍ - 965 م): ديوان أبى الطيب المتنبى، ط. برلين 1861 م. مسكويه (أبو على أحمد بن محمد، ت 421 هـ‍ - 1030 م): كتاب تجارب الأمم، 7 أجزاء، القاهرة - اكسفورد، 1914 - 1921. المقرى (شهاب الدين أحمد بن محمد المقرى التلمسانى، ت 1041 هـ‍ - 1632 م): نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 4 أجزاء، القاهرة 1279 هـ‍ - 1862 م. المقريزى (أحمد بن على، ت 845 هـ‍ - 1442 م): - كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (الخطط)، جزءان، القاهرة 1270 هـ‍ - 1854 م. - كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، ج 1 - 2 (6 أقسام) تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة 1934 - 1958؛ ج 3 - 4

(6 أقسام) تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، القاهرة 1970 - 1973. - اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، ج 1 تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة 1967؛ ج 2 - 3 تحقيق محمد حلمى محمد أحمد، 1971، 1973. - إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والحفدة والمتاع، القاهرة 1941 م. النابلسى (عثمان بن ابراهيم، 660 هـ‍ - 1261 م): كتاب لمع القوانين المضية في دواوين الديار المصرية، تحقيق C .Becker & C. Cahen, Bulletin d'etudes Orientales, Vol. Xvi 1958 - 60 الناصر داود بن المعظم عيسى بن العادل الأيوبى (الملك الناصر صلاح الدين صاحب الكرك): الفوائد الجليه في الفرائد الناصرية، ديوان رسائل الملك الناصر داود جمع ولده مجد الدين أبو محمد الحسن، مخطوط مصور بدار الكتب المصرية رقم 2293 أدب، تحقيق صلاح البحيرى، رسالة دكتوراه لم تنشر، جامعة باريس. النعيمى (عبد القادر بن محمد، ت 927 هـ‍ - 1521 م): الدارس في تاريخ المدارس جزءان، دمشق 1948، 1951. النويرى (أحمد بن عبد الوهاب، ت 733 هـ‍ - 1333 م): نهاية الأرب في فنون الأدب، أجزاء 1 - 21 القاهرة، 1923 - 1976؛ بقية الكتاب مخطوط مصور بدار الكتب المصرية رقم 549 معارف عامة.

ثانيا: المراجع العربية والمترجمة

ياقوت الرومى (ياقوت بن عبد الله الحموى، ت 626 هـ‍ - 1229 م): - معجم البلدان، 6 أجزاء، ليبزج 1866 - 1870 م. - إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، تحقيق D. S. Margoliouth 7 أجزاء، القاهرة - لندن 1907 - 1931. ثانيا: المراجع العربية والمترجمة إبراهيم على طرخان: مصر في عصر دولة المماليك الجراكسة، القاهرة 1960. أحمد بن إبراهيم الصابونى: تاريخ حماه، 1332 هـ‍ - 1913 م. أحمد عبد الرازق أحمد: الرنوك على عصر سلاطين المماليك، المجلة التاريخية المصرية، المجلد 21 (1974)، ص 67 - 116. أحمد عيسى: معجم الأطباء (ذيل عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة)، القاهرة 1942 م. إسماعيل باشا البغدادى: هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، جزءان، استانبول 1951 - 1955. بطرس البستانى: محيط المحيط، جزءان، 1867 م. حسنين محمد ربيع: النظم الماليه في مصر زمن الأيوبيين، القاهرة 1964. درويش النخيلى: السفن الإسلامية على حروف المعجم، الاسكندرية 1974. خير الدين الزركلى: الأعلام، 10 أجزاء، القاهرة 1954 - 1959.

زامباور (ادوارد فون): معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامى، أخرجه زكى محمد حسن وحسن أحمد محمود، جزءان، القاهرة 1951 - 1952. سركيس (يوسف اليان): معجم المطبوعات العربية والمعربة، القاهرة 1928. سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكى في مصر والشام، القاهرة 1965. السيد أحمد الهاشمى: ميزان الذهب في صناعة شعر العرب، القاهرة 1961. الشرتونى (سعيد الخورى): أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد، بيروت، جزءان، 1889. عبد الرحمن زكى: السلاح في الإسلام، القاهرة 1951. لويس (برنارد): الدعوة الإسماعيلية الجديدة (الحشيشية)، ترجمة سهيل زكار، بيروت 1971. محمد رمزى: القاموس الجغرافى للبلاد المصرية، قسمان في 5 أجزاء، القاهرة 1953 - 1963. محمد كرد على: خطط الشام، 6 أجزاء، دمشق 1925. محمد مصطفى: الرنوك المملوكية، مجلة الرسالة، مارس 1941. محمود محمد على الطناحى: ابن معطى وآراؤه النحوية، رسالة ماجستير لم تطبع، كلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1971. ناصيف اليازجى: العرف الطيب في شرح ديوان أبى الطيب، بيروت 1887 م. يوسف خليف: ذو الرمة، شاعر الحب والصحراء، القاهرة 1970.

ثالثا: المراجع الأوربية

ثالثا: المراجع الأوربية وترجمه إلى اللغة العربية بشير فرنسيس وكوركيس عواد: بلدان الخلافة الشرقية، بغداد 1954. وترجمه إلى اللغة العربية سهيل زكار، بيروت 1971.

§1/1