مغازي الواقدي
الواقدي
[المقدمة]
[المقدمة] مقدمة التحقيق ولد أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ بالمدينة سنة 130 هـ في آخر خلافة مروان ابن محمد، فيما يذكر تلميذه وكاتبه ابن سعد [ (1) ] . وقد ذكر الصفدي [ (2) ] وابن تغرى بردى [ (3) ] أنه ولد سنة 129 هـ. ويذكر أبو الفرج الأصفهانى أن أمه هي بنت عيسى بن جعفر بن سائب خاثر، التي كان والدها فارسيا [ (4) ] . وكان الواقدي مولى لبنى سهم، إحدى بطون بنى أسلم [ (5) ] ، وليس كما ذكر ابن خلكان من أنه كان مولى لبنى هاشم [ (6) ] . ولم تفض المصادر في أخبار الواقدي في بدء حياته، ولكن من الواضح أنه اجتهد منذ سن مبكرة في جميع المعلومات عن المغازي والسيرة النبوية. روى ابن عساكر [ (7) ] فيما يذكر المسيبى: كان الواقدي يجلس إلى أسطوانة في مسجد المدينة، وسئل: أى شيء تدرس؟ قال: جزئى من المغازي. وأورد الخطيب البغدادي نفس الخبر عن السمي [ (8) ] .
وقد أفاضت أكثر المراجع في ذكر عناية الواقدي بجمع التفاصيل عن الأخبار والأحاديث والروايات المختلفة، وأشادت بجهوده فى هذا السبيل. روى ابن عساكر، والخطيب البغدادي، وابن سيد الناس [ (1) ] عن الواقدي أنه قال: ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء، ولا مولى لهم إلا سألته: هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمنى مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه. وقد رويت أخبار مشابهة عن هارون الفروى، قال: رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة، فقلت: أين تريد؟ قال: أريد أن أمضى إلى حنين، حتى أرى الموضع والوقعة [ (2) ] . ويشهد لنباهة الواقدي في هذا الشأن ما ذكر من أن هارون الرشيد، ويحيى بن خالد البرمكي- حين زارا المدينة في حجّهما- طلبا من يدلهما على قبور الشهداء والمشاهد، فدلوهما على الواقدي الذي صحبهما في زيارتهما، ولم يدع موضعا من المواضع ولا مشهدا من المشاهد إلا مرّ بهما عليه [ (3) ] . وكان لقاء الواقدي بيحيى بن خالد خيرا وبركة على الواقدي، وقد ظلت هذه الصّلة بينهما حتى بعد نكبة البرامكة [ (4) ] . وقد صرف الواقدي المنحة التي منحه إياها هارون الرشيد- وقدرها عشرة آلاف درهم- فى قضاء ديون كانت قد تراكمت عليه، كما أنفق منها على زواج بعض ولده، وبقي في يسر وسعة [ (5) ] . وقد أجمعت كل المصادر التي ترجمت للواقدي على أنه كان جوادا كريما معروفا بالسخاء، مما سبّب له اضطرابا ماديا، ظلّ يعانى منه طول حياته [ (6) ] .
شخوصه إلى العراق:
شخوصه إلى العراق: وفي سنة 180 هـ غادر أبو عبد الله المدينة إلى العراق [ (1) ] . فيروى الخطيب البغدادي أن الواقدي قال: كنت حناطا (بائع حنطة) بالمدينة، فى يدي مائة ألف درهم للناس أضراب بها، فتلفت الدراهم، فشخصت إلى العراق، فقصدت يحيى بن خالد [ (2) ] . أما ابن سعيد فيقول: إنه ذهب إلى العراق في دين لحقه [ (3) ] . ويبدو أن السبب الحقيقي لنزوحه إلى العراق هو رغبته في لقاء يحيى بن خالد البرمكي، حيث جذبت شخصية الواقدي اهتمام يحيى حين التقيا في الحج بالمدينة، فكأنما أراد الواقدي أن يخرج بعلمه وآماله إلى مجال أرحب، حيث الأضواء تتألق فى بغداد، لؤلؤة الرشيد. ويؤيد هذا ما يذكره ابن سعد في معرض آخر فيقول عن الواقدي: ثم إن الدهر أعضّنا، فقالت لى أم عبد الله: يا أبا عبد الله، ما قعودك وهذا وزير أمير المؤمنين قد عرفك وسألك أن تسير إليه حيث استقرّت به الدار، فرحلت من المدينة [ (4) ] . وعند وصوله إلى بغداد، وجد الخليفة والبلاط قد انتقلوا إلى الرقة بالشام، فأزجى مطيته نحو الشام، ولحق بهم هناك [ (5) ] . فتلقاه يحيى بن خالد بما عرف عن البرامكة من سماحة وأريحية. وفي رحاب البرامكة أقبل الخير على الواقدي من كل وجه، فعطاياهم له موصولة بعطايا الرشيد وابنه المأمون. يحدّثنا الواقدي فيقول: صار إلىّ من السلطان ستمائة ألف درهم، ما وجبت علىّ فيها الزكاة [ (6) ] . ويرجع الواقدي من الرقة إلى بغداد، ويبقى فيها حتى يعود المأمون من خراسان، ويجعله قاضيا لعسكر المهدى في الجانب الشرقي من بغداد، فيما يذكر ابن سعد [ (7) ] .
أما ابن خلكان، فينقل عن ابن قتيبة، أنّ الواقدي توفى وهو قاض بالجانب الغربي من بغداد [ (1) ] . وقد ناقش هوروفتس هذا الرأى، مخطئا ابن خلكان، فيقول: إنه- أى ابن خلكان- قد أخطأ في فهم قول ابن قتيبة. ونصّه: وتوفى الواقدي سنة سبع ومائتين، وصلى عليه محمد بن سماعة التميمي، وهو يومئذ قاض على الجانب الغربي. وواضح من هذا النصّ أن الذي كان قاضيا على الجانب الغربي من بغداد هو محمد بن سماعة، وليس الواقدي [ (2) ] . وليس ثمة شك في أن الواقدي توفى وهو قاض على الجانب الشرقىّ ببغداد، على أنه كان قد أقام مدة في الجانب الغربي قبل أن يوليه المأمون قاضيا على عسكر المهدى، كما أجمعت مصادر عدة على ذلك. ولما انتقل الواقدي من الجانب الغربي يقال إنه حمل كتبه على عشرين ومائة وقر [ (3) ] . أما ياقوت [ (4) ] فيذكر أن هارون الرشيد قد ولى الواقدي القضاء بشرقىّ بغداد قبل أن يوليه المأمون قضاء عسكر المهدى. وهذا أقرب إلى الصواب، فليس من المعقول أن تتأخر تولية الواقدي القضاء حتى يرجع المأمون من خراسان ويوليه، فقد كان الواقدي على صلة طيبة بهارون الرشيد. وعلى الرغم من صلة الصداقة المعقودة بين الواقدي ويحيى بن خالد والبرامكة، فإن ذلك لم يمنع المأمون من توليته القضاء، بل كرمه ورعاه بعد نكبة البرامكة [ (5) ] . وقد ذهب المأمون في تكريم الواقدي إلى أبعد من هذا، إذ ولّاه منصبا يتمتع فيه بقوّة السلطان والنفوذ. فيصف ابن حجر العسقلاني الواقدي بأنه أحد الأعلام، وقاضى العراق وبغداد [ (6) ] . ويورد السهمي في أثناء ترجمة الأشعث بن هلال قاضى جرجان، أن
وفاته:
الواقدي ولّاه القضاء من بغداد [ (1) ] . وأخيرا يتربع الواقدي على قضاء عسكر المهدى مدّة أربع سنوات قبل وفاته [ (2) ] . وعلى الرّغم من الصلات والأعطيات التي أغدقها هارون الرشيد ووزيره يحيى وابنه المأمون على الواقدي فإنه توفى ولم يكن يملك ما يكفن به، فأرسل المأمون بأكفانه [ (3) ] . وكان الواقدي قد أوصى إلى المأمون فقبل وصيته وقضى دينه [ (4) ] . وفاته: اختلف في تاريخ وفاته، فابن خلكان [ (5) ] يذكر أنه توفى سنة 206 هـ. وتذكر مصادر أخرى ومنها طبقات ابن سعد أنه توفى فى ذى الحجة سنة 207 هـ[ (6) ] ويروى الخطيب البغدادي بسنده عن عبد الله الحضرمي أن الواقدي توفى سنة 209 هـ[ (7) ] . وإذا كان لنا أن نرجح إحدى هذه الروايات، فأولاها بالقبول الرواية الثانية، التي ذكرها ابن سعد، وذلك لتلمذته له وقربه منه وكتابته له، ثم لتحديده ليلة الوفاة ويوم الدفن من الشهر والسنة إذ يقول: مات ببغداد ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة سبع ومائتين، ودفن يوم الثلاثاء في مقابر الخيزران، وهو ابن ثمان وسبعين سنة [ (8) ] . وهذا بالإضافة إلى ورودها في أغلب المصادر.
كتب الواقدي:
كتب الواقدي: كان الواقدي يجتهد في جمع الأحاديث. وقد بلغ ما جمعه منها على ما يرويه على بن المديني عشرين ألف حديث [ (1) ] . ويروى ابن سيد الناس عن يحيى بن معين: أغرب الواقدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين ألف حديث. وقد روينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع، وسؤاله من أبناء الصحابة والشهداء ومواليهم عن أحوال سلفهم، ما يقتضى انفرادا بالروايات، وأخبارا لا تدخل تحت الحصر [ (2) ] . ويقول ابن النديم: إنه كان عنده غلامان يعملان ليلا ونهارا في نسخ الكتب. وقد ترك عند وفاته ستمائة قمطر من الكتب يحتاج كل منها إلى رجلين لحمله [ (3) ] . وواضح أن الواقدي قد صرف عنايته للعلوم الإسلامية بعامة، وللتاريخ منها بخاصة. يقول إبراهيم الحربي: إنه كان أعلم الناس بأمر الإسلام. قال: فأما فى الجاهلية فلم يعلم فيها شيئا [ (4) ] . ويتجلى هذا في وصف كاتبه وتلميذه ابن سعد وغيره له. يقول ابن سعد: وكان عالما بالمغازى، والسيرة، والفتوح، واختلاف الناس في الحديث، والأحكام، واجتماعهم على ما اجتمعوا عليه، وقد فسر ذلك في كتب استخرجها ووضعها وحدّث بها [ (5) ] . أما المصادر التي ذكرت كتبه، فإننا نورد كتبه هنا حسبما جاءت في الفهرست لابن النديم [ (6) ] ، مع المقارنة بغيره من المصادر: 1- كتاب التاريخ والمغازي والمبعث. 2- كتاب أخبار مكة
3- كتاب الطبقات. 4- كتاب فتوح الشام. 5- كتاب فتوح العراق. 6- كتاب الجمل. 7- كتاب مقتل الحسين. 8- كتاب السيرة. 9- كتاب أزواج النبي. 10- كتاب الردّة والدّار. 11- كتاب حرب الأوس والخزرج. 12- كتاب صفيّن. 13- كتاب وفاة النبي. 14- كتاب أمر الحبشة والفيل. 15- كتاب المناكح. 16- كتاب السقيفة وبيعة أبى بكر. 17- كتاب ذكر القرآن. 18- كتاب سيرة أبى بكر ووفاته. 19- كتاب مراعى قريش والأنصار في القطائع، ووضع عمر الدواوين، وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها. 20- كتاب الرغيب في علم القرآن وغلط الرجال. 21- كتاب مولد الحسن والحسين ومقتل الحسين. 22- كتاب ضرب الدنانير والدراهم. 23- كتاب تاريخ الفقهاء. 24- كتاب الآداب.
25- كتاب التاريخ الكبير. 26- كتاب غلط الحديث. 27- كتاب السنة والجماعة، وذم الهوى، وترك الخوارج في الفتن. 28- كتاب الاختلاف. ويتفق هذا مع ما أورده ياقوت في كتابه معجم الأدباء [ (1) ] ، مع الاختلاف الآتي: 1- الكتاب رقم 6 يذكره باسم «كتاب يوم الجمل» . 2- الكتاب رقم 19 لم يذكر فيه العبارة الأخيرة، وهي «وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها» . 3- الكتاب رقم 20 يذكره باسم «كتاب الترغيب في علم القرآن» . 4- الكتاب رقم 21 يذكره على أنه كتابان، أحدهما «مولد الحسن والحسين» والآخر «مقتل الحسين» . 5- الكتاب رقم 22 يذكره باسم «السنة والجماعة وذم الهوى» . وكذلك أورد الصفدي أسماء كتبه مع الاختلاف الآتي [ (2) ] : 1- لم يذكر الصفدي الكتابين رقم 8 وهو «كتاب السيرة» ، ورقم 12 وهو «كتاب صفين» . 2- الكتاب رقم 11 أورده باسم «حروب الأوس والخزرج» . 3- الكتاب رقم 18 أورده باسم «ذكر الأذان» . 4- الكتاب رقم 19 لم يذكر فيه العبارة الأخيرة وهي «وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها» كما لم يفعل ياقوت.
5- الكتاب رقم 20 أورده باسم «كتاب الترغيب في علم المغازي وغلط الرجال» 6- الكتاب رقم 21 ذكره باسم «كتاب مولد الحسن والحسين ومقتله» . 7- الكتاب رقم 22 ذكره باسم «كتاب ضرب الدنانير» . 8- الكتاب رقم 28 ذكره باسم «كتاب اختلاف أهل المدينة والكوفة في أبواب الفقه» . وقد أورد صاحب كشف الظنون- فيما يذكره عنه صاحب هدية العارفين- هذه الكتب جميعا مع فارق بسيط جدا في بعض الأسماء ولم يزد عليها سوى كتاب واحد هو «تفسير القرآن» [ (1) ] ولعله هو الذي ذكره ابن النديم باسم «كتاب ذكر القرآن» . ومن مجموع تصانيف الواقدي هذه كتابان لا نشك في نسبتهما إليه هما «كتاب المغازي» ، و «كتاب الردّة» ، على أن نقولا من كتبه الأخرى وجدت فى التآليف المتأخرة. وإذا تأملنا عنوان الكتاب الأوّل كما يذكره ابن النديم وهو «كتاب التاريخ والمغازي والمبعث» يبدو لنا لأوّل وهلة أن «كتاب المغازي» جزء من كتاب ضخم يتضمن التاريخ والمغازي والمبعث، على نسق سيرة ابن إسحاق. فابن سعد ينقل أحيانا عن الواقدي أخبارا تتعلق بما كان قبل البعثة [ (2) ] . أما الطبري فيعتمد على الواقدي في ذكر بعض الأخبار كغزو الأحباش لليمن مثلا، ووفاة عبد الله بن عبد المطلب [ (3) ] . وحين يتحدّث ابن كثير عن التبايعة لا يعتمد على الواقدي، ولكنه ينقل عن ابن إسحاق، وحين ينقل ابن كثير عن الواقدي أخبارا تتعلق بما قبل البعثة،
نراه ينقل عنه الأخبار التي تتعلق بقرب ظهور النبي [ (1) ] وولادته [ (2) ] . ويمكن القول أن ما نقله ابن سعد، والطبري، عن الواقدي من أخبار الجاهلية، إنما هو من «كتاب التاريخ والمغازي والمبعث» ، وأن هذه الأقسام الثلاثة، تشبه المبتدأ والمبعث والمغازي من سيرة ابن إسحاق، وهذا الاستنتاج يصبح أقلّ قبولا حين نرى الأخبار الضئيلة في الجاهلية قبل الإسلام المنسوبة إلى الواقدي. وقد رأينا ابن سعد، والطبري، وابن كثير ينقلون كثيرا عن الواقدي عند ذكر المغازي، فإذا كانت المغازي جزءا من كتاب كبير فإنه كان من المنتظر من هؤلاء المؤرخين أن ينقلوا من القسمين الآخرين من الكتاب، وهما التاريخ والمبعث. ومن المهم في هذا الصدد أن نذكر أن الطبري حين يورد أخبار الجاهلية وما قبل الإسلام فإنه يرويها عن ابن سعد عن الواقدي، وحين يأتى إلى ذكر المغازي فإنه ينقل مباشرة عن الواقدي. وهذا يدلّ على أن الطبري اعتمد على كتاب المغازي، ولم يفعل ذلك بالنسبة لأخبار الجاهلية وما قبل البعثة. ويستدل من تسمية الكتاب «كتاب التاريخ والمغازي والمبعث» كما ورد في ابن النديم وغيره، أنه ليس كتابا واحدا، ولكنه ثلاثة كتب، هي: «كتاب المغازي» ، والكتابان الآخران ربما كانا أقساما من «كتاب التاريخ الكبير» ، أو «كتاب السيرة» . وتبدو المشكلة عينها حين نتأمل عنوان كتابه «الردة والدار» فإن حروب الردّة ومقتل عثمان يثيران السؤال، إذ أنه ليس من المنطق أن يكونا جزءا من كتاب واحد، فبينهما من الزمن نحو ربع قرن! وإذا فمن المعقول أننا أمام كتابين، ولسنا أمام كتاب واحد. ويؤيد ذلك ما جاء في المصادر الأخرى، فقد ذكره السهيلي [ (3) ] باسم «كتاب الردة» فقط، وكذلك فعل ابن خير الإشبيلى في
كتاب الطبقات:
فهرسته [ (1) ] . ويصفه اليافعي فى مرآة الجنان فيقول: ومنها- أى من كتب الواقدي- «كتاب الردة» ، ذكر فيه ارتداد العرب بَعْدَ وَفَاةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحاربة الصحابة بطلحة بن خويلد الأسدى، والأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب [ (2) ] . وكذلك ذكره حاجي خليفة بهذا الاسم [ (3) ] . وأخيرا، يذكر بروكلمان أن هناك نسخة مخطوطة لهذا الكتاب عنوانها «كتاب الردة» وهي محفوظة فى مكتبة خدا بخش فى بانكيبور بالهند [ (4) ] . وقد اطلعنا عليها فوجدناها ليست خالصة للواقدي وإنما هي أخبار فى الردة نقل بعضها عن الواقدي وابن إسحاق. وواضح أن ما نقله ابن سعد والطبري من أخبار الأحداث التي تلت وفاة النبي إنما كانت من كتاب الردّة للواقدي. وكذلك معظم ما ذكره ابن حبيش فى كتابه الغزوات [ (5) ] . كتاب الطبقات: نستطيع أن نتمثل هذا الكتاب فى ضوء كتاب الطبقات الكبير الذي ألفه تلميذه وكاتبه محمد بن سعد، فقد صنفه على غراره، ونقل عنه كثيرا. والكاتب الوحيد الذي عاصر الواقدي فى التأليف عن الطبقات هو الهيثم بن عدى [ (6) ] . وعلى ذلك فإن الواقدي يعتبر من الرواد الذين أرسوا دعائم علم الرجال.
كتب الفتوح:
كتب الفتوح: أما فتوح الشام وفتوح العراق للواقدي، فقد فقدا ولم نعثر على أثر لهما، وما يتداوله الناس اليوم باسم «فتوح الشام» و «فتوح العراق» وغيرها، ليست له، إذ أنها متأخرة عنه [ (1) ] . وقد نقل البلاذري فى كتابه فتوح البلدان كثيرا عن الواقدي، ولا عجب فى ذلك، فقد كان من تلاميذ ابن سعد كاتب الواقدي، وكذلك نجد كثيرا من هذه النقول عند الطبري وابن كثير. فالطبرى ينقل عن الواقدي تلك الأحداث التي وقعت فى النصف الثاني الهجري وهي الأحداث التي عاشها الواقدي [ (2) ] . وابن كثير ينقل عن الواقدي أيضا الحوادث التاريخية التي وقعت سنة 64 هـ[ (3) ] . حول تشيع الواقدي: لعل وجود كتابين للواقدي، أحدهما فى مولد الحسن والحسين ومقتل الحسين، والآخر فى مقتل الحسين خاصة، يوهم أنه كان شيعيا، كما ذكر ابن النديم، منفردا بهذا الرأى دون غيره، حيث يقول: وكان يتشيع، حسن المذهب، يلزم التقية، وهو الذي روى أن عليا عليه السّلام كان من معجزات النبي صلّى الله عليه وسلم، كالعصا لموسى عليه السّلام، وإحياء الموتى لعيسى بن مريم عليه السّلام وغير ذلك من الأخبار [ (4) ] . وقد نقل صاحب أعيان الشيعة هذا القول عن ابن النديم، مستدلا به على تشيعه، ومن ثم ترجم له [ (5) ] . وكذلك ذكره آغا بزرك الطهراني [ (6) ] ، حين تحدّث عن تاريخ الواقدي.
على أنه مما يثير الدهشة أن الطوسي- وهو معاصر لابن النديم- لم يذكر الواقدي فى كتابه «الفهرس» ولم يذكر كتابا من كتبه وخاصة تلك التي تتعلق بمولد الحسن والحسين ومقتل الحسين، على أهمية هذا الأمر الذي شغل جميع علماء الشيعة ومؤرخيهم وجامعى أخبارهم. ولو سلمنا لابن النديم أن الواقدي كان يلزم التقية، فإن تشيعه كان لا بد أن يظهر على نحو مّا عند الحديث عن على أو فى الرواية عنه، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. بل على النقيض من ذلك نرى الواقدي يذكر أحاديث قد تحط من قدر على أو تهون من شأنه على الأقل، فحين يصف رجوع النبي إلى المدينة من أحد، يذكر أن فاطمة مسحت الدم عن وجه النبي، وذهب علىّ إلى المهراس ليأتى بماء، وقبل أن يمشى ترك سيفه وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: أَمِسْكِي هَذَا السّيْفَ غَيْرَ ذَمِيمٍ. ولما أبصر النبي سيف علىّ مُخْتَضِبًا قَالَ: «إنْ كُنْت أَحْسَنْت الْقِتَالَ فَقَدْ أَحْسَنَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَسَيْفُ أَبِي دُجَانَةَ غَيْرُ مذموم» [ (1) ] . وحين نقرأ عدد القتلى من قريش يوم بدر عند ابن إسحاق مثلا نرى أن عليا قد قتل طعيمة بن عدىّ [ (2) ] ، ولكن الواقدي يذكر أن الذي قتله هو حمزة وليس عليا [ (3) ] . ونرى الواقدي أيضا حين يذكر قتل صؤاب يوم أحد، واختلاف الأقوال فيمن قتله، يقول: فاختلف فى قتله، فقال قَالَ: سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ، وَقَائِلٌ: عَلِيّ، وقائل: قزمان، وكان أثبتهم عندنا قزمان [ (4) ] . وأهم من كل ذلك ما ينقله الشيعة أنفسهم، كابن أبى الحديد مثلا فى كتابه، حين ينقل فقرة طويلة عن الواقدي، ثم يورد فيها رواية أخرى مختلفة عن الأولى، ويبدؤها بقوله: وفى رواية الشيعة [ (5) ] ، مما يدل دلالة قاطعة على أن ابن أبى الحديد لم يعتبر الواقدي مصدرا شيعيا، أو يمثل رأى الشيعة على الأقل.
ومن الطريف أن يلاحظ أن ابن إسحاق يتهم هو الآخر بميوله الشيعية والقدرية [ (1) ] . ويبدو لنا أن السبب فى اتهام الواقدي وابن إسحاق بالتشيع لا يرجع إلى عقيدتهما الشخصية، وإنما يرجع إلى ما ورد فى كتابيهما من الأقوال والآراء الشيعية التي يعرضانها، وليس ذلك عن عقيدة صحيحة فيها، مما تقتضيه طبيعة التأليف فى مثل هذه الموضوعات. ولعل السبب فى وصف الواقدي خاصة بأنه يتشيع يرجع إلى ما أورده فى بعض مواضع من كتابه حين يأتى إلى جماعة من الصحابة، ومنهم بعض الخلفاء الراشدين، فيذكر مثلا عمر وعثمان فى عبارات لا تضعهما فى مكانتهما المرموقة. فمثلا فى المخطوطة التي اتخذناها أصلا لهذه النشرة نرى قائمة بمن فر عن النبي يوم أحد، تبدأ بهذه الكلمات «وَكَانَ مِمّنْ وَلّى فُلَانٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَسَوّادُ بْنُ غَزِيّةَ، وَسَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَخَارِجَةُ بْنُ عَامِرٍ، بَلَغَ مَلَلَ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ فِي نفر من بنى حارثة» [ (2) ] ، بينما نرى النص عند ابن أبى الحديد عمر وعثمان، بدلا من فلان، ويروى البلاذري عن الواقدي عثمان، ولا يذكر عمر [ (3) ] . ويظهر بوضوح أن النص فى المخطوطة الأم كان يذكر عثمان وعمر، أو عمر وحده، أو عثمان وحده، ممن ولوا الأدبار يوم أحد. ولكن الناسخ لم يقبل هذا فى حق عمر أو عثمان، فأبدل اسميهما أو اسم أحدهما بقوله: فلان. ولا شك أن نص الواقدي الأصلى وقع فى أيدى طائفة من الشيعة وقرأوا فيه هذه الأخبار التي أوردها فى حق عمر وعثمان مثلا، فاعتقدوا أنه شيعى قطعا. وفى ضوء ما تقدم من الحجج تظل عبارات ابن النديم عن تشيع الواقدي قاصرة عن أن تنهض دليلا على تشيعه، وستظل تفتقر إلى دعائم أخرى تؤيدها، وخاصة من نصوص الواقدي نفسه.
أصول السيرة النبوية وتطورها فى القرنين الأول والثاني للهجرة:
أصول السيرة النبوية وتطورها فى القرنين الأول والثاني للهجرة: مما لا شك فيه أن لفظة «السيرة» قد استعملت بمعنى سيرة النبي قبل ورودها عند ابن هشام فى روايته عن ابن إسحاق، ويتضح مما جاء فى كتاب الأغانى أن استعمال الكلمة بهذا المعنى الخاص كان معروفا فى زمن محمد بن شهاب الزهري، فقد أورد الأصفهانى النص الآتي: قال المدائني فى خبره- أى فى خبر خالد بن عبد الله القسري- وأخبرنى ابن شهاب قال: قال لى خالد بن عبد الله القسري: اكتب لى النسب. فبدأت بنسب مضر وما أتممته، فقال: اقطعه، قطعه الله مع أصولهم، واكتب لى السيرة [ (1) ] . ومع ذلك فإن اللفظتين- سيرة، ومغازي- مستعملتان بمعنى واحد لا يفرق بينهما، فقد ذكر ابن كثير سيرة ابن إسحاق وقال: قال ابن إسحاق فى المغازي [ (2) ] . على أن كلا من اللفظتين مضلل بحيث إن موضوع اللفظة غير مقيد بسيرة النبي على الإطلاق فى الحالة الأولى ولمغازيه فى الحالة الثانية. والحقيقة أن التنوع الواسع فى المواضيع ظاهرة مهمة فى أدب السيرة والمغازي، ويمكن أن نلمس فيها النشأة الأولى فى تقدم وتطور علوم الحديث والتفسير والتاريخ. من المعروف أن أشهر ما ألف فى السيرة هو كتابا ابن إسحاق والواقدي، ولكنهما مع ذلك ليسا بأول من جمع الأخبار فى هذا الميدان العلمي. ولا شك أن موضوع السيرة ومنهج التأليف فيه ثابت ومقدر قبل أن يكتب ابن إسحاق سيرته المعروفة. وقد أخطأ لفى دلّا فيدا- LeviDellaVida- حين زعم أن سيرة ابن إسحاق تجربة ثورية فى الكتابة التاريخية [ (3) ] . وغنى عن القول أن أقوال النبي وأعماله كان لهما أهمية كبرى إبان حياته وأهمية أكبر بعد موته، وقد أوجبت هذه الأهمية العناية الشاملة بتدوين تفاصيل حياته وبجمع الأحاديث والأخبار عنه. ولم يكن الدافع لهذه
عروة بن الزبير:
العناية والاهتمام التقوى وحدها فحسب، ولكن حاجة المجتمع الإسلامى إلى إرساء وتثبيت العقائد الدينية والأحكام التشريعية هي الحافظ الأساسى لهما. ومن الضروري أن نحكم على أدب السيرة ونقوّمه، بل وآداب الحديث والفقه والتفسير أيضا، فى ضوء الأحداث السياسية والاجتماعية والدينية فى القرنين الأول والثاني للهجرة. ويحتمل أن تكون القصص الشعبية للسيرة موجودة فى حياة النبي نفسه وكان القصاص يعنون بها، كما كانوا يفعلون بقصص الأنبياء قبل الإسلام. وقد بقيت بعض مظاهر هذا القصص فى السيرة الأدبية التي دونت فيما بعد، ويمكن التعرف عليها دون صعوبة- من موضوعات القصص كالأحلام والطيرة من جهة، ومن الأساليب التي صيغت بها من جهة أخرى. ورؤيا عاتكة قبل غزوة بدر مثال واقعي من القصص الشعبية فى السيرة النبوية [ (1) ] . ولا بد أن بعض الصحابة قد تخصصوا فى علمي المغازي والسير. ذكر ابن سعد [ (2) ] عن أبان بن عثمان أنه تخصّص فيهما، وقد أخذ المغيرة بن عبد الرحمن عنه بعض الأخبار. ولكنه مع الأسف لم يصلنا أى كتاب وضع فى عهد الصحابة فى المغازي والسير. وقال حاجي خليفة عند حديثه على المغازي: ويقال: إن أول من صنف فيها عروة بن الزبير، وجمعها أيضا وهب بن منبه [ (3) ] . عروة بن الزبير: أما عروة فقد كان أخا لعبد الله بن الزبير ولكنه لم يشترك فى الصراع بينه وبين بنى أمية، وبعد مقتل عبد الله بن الزبير فى سنة 74 للهجرة، بايع عروة عبد الملك بن مروان. وتدل رواية الطبري على أن عروة بن الزبير كتب إلى عبد الملك أخبارا عن فجر الإسلام. قال: حدثني أبى قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن
وهب بن منبه:
مروان: أما بعد، فإنه- يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له، حتى ذكر طواغيهم، وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال لهم، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل، فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رءوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من أَتْبَعُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل الإسلام فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه، وكان يثنى عليه، مع ذلك صلاح- وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغا من الرزق، وأمنا ومتجرا حسنا- فأمرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخاف عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات، يشتدون على من أسلم منهم. ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم [ (1) ] . وليس لدينا دليل على أن عروة قد كتب كتابا خاصا بسيرة النبي ولكن كثرة النقول عنه عند ابن إسحاق والواقدي تدل بصورة قاطعة على أنه- أى عروة- هو أول من دوّن السيرة بشكلها الذي عرف فيما بعد. وهب بن منبه: وأما وهب بن منبه فقد ولد فى اليمن، ومع أنه قد زار الحجاز، إلا أنه أمضى جميع حياته فى اليمن. ويصفه ياقوت بأنه كان من خيار التابعين، ثقة، صدوقا، كثير النقل من الكتب القديمة المعروفة بالإسرائيليات [ (2) ] . ونسب إليه ابن النديم: «كتاب المبتدأ» [ (3) ] ، ويشير هذا القول إلى احتمال التشابه بين هذا الكتاب وبين القسم الأول من السيرة التي ألفها ابن إسحاق.
عاصم بن عمر بن قتادة:
ولم يصل إلينا من أخبار النبي عن وهب بن منبه إلا القليل، وقد عثر على قطعة صغيرة كتبت على البردي فى مجموعة سكوت رينهارت (. 8 PapyriSchott- Reinhardt) ذكر فيها بيعة العقبة [ (1) ] . وقد روى ابن إسحاق عن وهب فى القسم الأول من السيرة [ (2) ] ، على حين أن الواقدي لم يذكره ولم يشر إليه البتة. ثم تلا ذلك مرحلة أخرى فى تطور السيرة على يدي عاصم بن عمر بن قتادة المتوفى سنة 120 هـ، ومحمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري المتوفى سنة 124 هـ. عاصم بن عمر بن قتادة: فأما عاصم بن عمر بن قتادة فكان أنصاريا من قبيلة بنى ظفر، وكان كالزهرى مشمولا برعاية بنى أمية. قال ابن قتيبة: إنه صاحب السير والمغازي [ (3) ] . ولكن لم ينسب إليه كتابا خاصا في هذا الموضوع، وقد أخذ عنه ابن إسحاق مباشرة، وروى الواقدي عنه بطريق محمد بن صالح، ويونس بن محمد الظفري، ومعاذ بن محمد الأنصارى، ويعقوب بن محمد، وموسى بن محمد، وعبد الرحمن بن عبد العزيز. الزهري: وأما محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري فهو يختلف عن أكثر أصحاب السيرة فى القرنين الأول والثاني لأنه ولد بمكة وليس فى المدينة. وجدير بالذكر أن المرحلة المتقدمة فى علم السيرة كان مركزها فى المدينة المنورة خاصة. ولا ينفى هذا الاعتبار مولد ابن شهاب فى مكة لأنه عاش فى المدينة ودرس فيها حتى غادرها إلى دمشق فى سنة 81 أو 82 للهجرة [ (4) ] . وفى رأى ابن حجر أن الزهري كان أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام فى
عبد الله بن أبى بكر:
الحديث [ (1) ] . وواضح من كثرة الأخبار التي رويت عنه فى ابن إسحاق والواقدي أنه من أجل علماء السيرة، ويبدو أنه أول من جمع ما رواه التابعون من السيرة وأضاف إليها ما رواه هو أيضا، وبعد ذلك رتب هذه الأخبار على شكل السيرة النبوية المعروف عند ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، والواقدي. وقال حاجي خليفة عند الكلام على المغازي: ومنها مغازي محمد بن مسلم الزهري [ (2) ] . ومع الأسف لم يصل إلينا هذا الكتاب، وهو من الأهمية بمكان أهمية الزهري فى تطور السيرة، بحيث لا يحتاج الأمر منا إلى المبالغة فى تقدير أهميته، بل إن كثرة الاعتماد عليه فى كتب ابن إسحاق والواقدي لدليل واضح على بيان قدر الكتاب. أضف إلى ذلك أن كلا من ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، ومالك بن أنس، وأبى معشر، ومعمر بن راشد، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ من تلامذته الذين أخذوا عنه، وكان هؤلاء الثلاثة المتأخرون من مصادر الواقدي. وفى أغلب الأحيان نرى الواقدي ينقل عن الزهري بطريق معمر بن راشد. وهذا يمثل الوضع الذي كانت عليه السيرة فى طورها المتقدم، أى أن حلقة درس أصحاب السيرة فى المدينة كانت ضئيلة، وعنها نقلت السيرة جيلا بعد جيل من شخص إلى شخص، على شكل محاضرات تملى عادة. عبد الله بن أبى بكر: ومن طبقة الزهري، عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن حزم الأنصارى، الذي لم ينسب إليه أنه ألف كتابا فى السيرة ولكن ابن إسحاق والواقدي يذكرانه بكثرة. فقد روى عنه ابن إسحاق مباشرة، والواقدي بطريق عبد الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ. قال ابن حجر: توفى سنة 135 هـ ويقال سنة 130 هـ[ (3) ] .
موسى بن عقبة:
وشملت الطبقة الثالثة من أصحاب السيرة، موسى بن عقبة المتوفى سنة 141 هـ، وابن إسحاق المتوفى سنة 151 هـ، ومعمر بن راشد المتوفى سنة 154 هـ، وأبا معشر المتوفى سنة 170 هـ، وجميعهم من تلامذة الزهري، وينسب إلى كل واحد منهم كتاب فى السيرة أو المغازي. ومن الممكن إضافة محمد بن عمر الواقدي المتوفى سنة 207 هـ إليهم، لأنه أخذ عن كل واحد منهم أخبارا- فيما عدا ابن إسحاق- وكان معمر ابن راشد وأبو معشر من أهم مصادره. موسى بن عقبة: فأما موسى بن عقبة بن أبى عياش الأسدى، فقد كان مولى لآل الزبير بن العوام، وقد وضع مع ابن إسحاق والواقدي الأسس التي بنى عليها المؤلفون المتأخرون كتبهم، مثل الطبري، وابن سيد الناس، وابن كثير. وقد كتب كتابا فى المغازي لم يصل إلينا، مع أنه كان موجودا حتى القرن العاشر للهجرة [ (1) ] . ولا نستطيع أن نكوّن فكرة شاملة عن الكتاب من خلال القطعة التي نشرها سخاو [ (2) ] ولكننا من خلال النقول التي وجدت عند ابن سعد، والطبري، وابن سيد الناس، وابن كثير، والزرقانى، نستطيع أن نتمثل صورة أوضح عن كتاب المغازي لموسى بن عقبة. ويتضح من النظرة الأولى أنه يشبه فى تأليفه سيرة ابن إسحاق، بل وحتى فى كثير من تفصيلاته، وهذا يدل على أن نمط السيرة النبوية كان مألوفا قبل تأليف ابن إسحاق.
محمد بن إسحاق:
روى ابن أبى حاتم الرازي بسنده عن معن بن عيسى، قال: كان مالك ابن أنس إذا قيل له: مغازي من نكتب؟ قال: عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة [ (1) ] . وقال ابن حجر: قال إبراهيم بن المنذر، عن معن بن عيسى، كان مالك يقول: عليكم بمغازى موسى بن عقبة فإنه ثقة. وفى رواية أخرى عنه: عليكم بمغازى الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي. وفى رواية: فإنه رجل ثقة طلبها على كبر السن ولم يكثر كما أكثر غيره. وقال إبراهيم بن المنذر أيضا عن محمد بن طلحة الطويل قال: ولم يكن بالمدينة أعلم بالمغازى منه [ (2) ] . وقال حاجي خليفة: مغازي موسى بن عقبة أصح المغازي [ (3) ] . محمد بن إسحاق: وأما محمد بن إسحاق بن يسار فقد ولد بالمدينة سنة 85 هـ تقريبا، وكان مولى لقيس بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف، ثم ترك المدينة فيما بعد، ولا يمكننا أن نحدد تاريخ مغادرته للمدينة. وقال ابن حجر، قال ابن يونس: قدم الاسكندرية سنة 119 هـ[ (4) ] ، ولا نعرف إذا كانت هذه الزيارة وقعت قبل مغادرته المدينة نهائيا أم لا، ويبدو أنه كان فى المدينة سنة 123 هـ[ (5) ] . وعلى أية حال فإنه يحتمل أن يكون قد ترك المدينة قبل بلوغه سن الأربعين. قال ابن حجر: وكان خرج من المدينة قديما فأتى الكوفة والجزيرة والري وبغداد
فأقام بها حتى مات سنة 151 هـ[ (1) ] . وثمة قرينة أخرى تدل على تركه المدينة قبل أن يكتهل، وذلك حين نرى أن رواته من أهل البلدان أكثر من رواته من أهل المدينة لم يرو عنه منهم غير إبراهيم ابن سعد [ (2) ] . ويذكر ابن سيد الناس أن من أهم أسباب ترك ابن إسحاق للمدينة، عداوة هشام بن عروة ومالك بن أنس له [ (3) ] . فأما هشام بن عروة فإنه كره ابن إسحاق لما رواه فى كتابه عن زوجة أبيه عروة. وليست الرواية عن النساء من غير نظر إليهن مما يجرّح به الإنسان، كما يذكر ابن حجر [ (4) ] . وأما مالك بن أنس- حسبما يرى الأستاذ جيوم- فقد هاجم محمد ابن إسحاق من أجل الأحكام الشرعية التي أوردها فى كتابه «السنن» الذي لم يصل إلينا [ (5) ] . ومن المحتمل أن مالكا كان يعترض على ابن إسحاق لرميه بالقدر [ (6) ] . ولعل السبب الأقوى فى عداوة مالك بن أنس لابن إسحاق كما يقول ابن سيد الناس، هو: تتبعه غزوات النبي صلّى الله عليه وسلم من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر، وقريظة، والنضير، وما أشبه ذلك من الغرائب عن أسلافهم [ (7) ] . وقد وصلت إلينا سيرة ابن إسحاق بطرق عدة، أشهرها رواية ابن هاشم عن البكائى. ومن أهمها رواية ابن بكير، التي لم تصل إلينا كاملة ولكننا نجد قطعا كثيرة منها عند ابن سعد، وابن الأثير، وابن كثير، وأخيرا وجدت قطعة منها
معمر بن راشد:
مخطوطة فى مسجد القرويين بفاس، وهي تشتمل على الجزء الأول من الكتاب. وقد اعتمد الطبري على رواية سلمة بن الفضل الأبرش الأنصارى، واعتمد ابن سعد- زيادة على رواية ابن بكير- على رواية هارون بن سعد. ومع ذلك فإن رواية ابن هشام لا تمثل النص الأصلى الكامل لسيرة ابن إسحاق، لأنه هو والبكائى أيضا قد غيرا فى النص، كما اعترف بذلك ابن هشام فى مقدمته للسيرة [ (1) ] . ولم يكن القصد من هذه التغييرات- التي قام بها ابن هشام واعترف بها- مجرد التغيير، أو بغية الاختصار كما زعم، بل إنه وضح تماما أن الهدف الحقيقي لهذا التغيير عند ابن هشام والبكائى هو أن يطرحا من السيرة النبوية تلك الموضوعات التي اعترض عليها النقاد، كبدء الخليقة وقصص الأنبياء والشعر المنحول. ومن الواجب عند إمعان النظر فى تطور السيرة فى القرنين الأول والثاني للهجرة، أن نذكر ثلاثة أسماء أخرى، هي: معمر بن راشد المتوفى سنة 154 هـ، وأبو معشر المتوفى سنة 170 هـ، وأخيرا الواقدي المتوفى سنة 207 هـ. معمر بن راشد: كان معمر بن راشد الأزدى مولى لبنى الحدانى، مولاهم أبو عروة بن أبى عمرو البصري. [ (2) ] فيقرن اسمه إلى أسماء الموالي من كتاب السيرة، كابن إسحاق، وأبى معشر، والواقدي الذين تولوا التطوير الأخير للسيرة فى المدينة. ولد معمر في الكوفة، ومع أن المصادر سكتت عن ذكر أية صلة له بالمدينة، فإن هناك احتمالا كبيرا يوحى بأنه زار المدينة، فقد روى أخبارا عن الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وهو نفسه حلقة فى السلسلة التي بين الزهري والواقدي. وليس ثمة شك عندنا أنه سافر إلى اليمن، فقد ذكر ابن حجر أنه مات فى صنعاء [ (3) ] .
أبو معشر المدني:
ومعمر بن راشد من الرجال الذين وثقهم أصحاب الحديث والمغازي. قال يعقوب بن شيبة: معمر ثقة، وصالح ثبت. وقال النسائي: ثقة مأمون. وقال أحمد بن حنبل، عن الزهري، عن عبد الرزاق، عن ابن جريح: عليكم بهذا الرجل فإنه لم يبق أحد من أهل زمانه أعلم منه، يعنى معمرا. وذكره ابن حبان فى الثقات [ (1) ] . وذكر ابن النديم أن له كتابا فى المغازي [ (2) ] ، ولكن لم يصل إلينا من هذا الكتاب سوى نقول عنه، وخاصة عند الواقدي وابن سعد. أبو معشر المدني: كان نجيح بن عبد الرحمن السندي، أبو معشر المدني، مولى لبنى هاشم [ (3) ] ، قال عنه ابن حجر: إنه من اليمن، وقد أسر فى وقعة يزيد بن المهلب باليمامة والبحرين، ثم اشترته أم موسى بن المهدى وأعتقته، أو أنه كان مكاتبا لامرأة من بنى مخزوم فأدى نجومه فاشترت أم موسى بن المنصور ولاءه، ولما جاء المهدى إلى المدينة فى سنة 160 هـ طلب أبا معشر أن يرافقه عند رجوعه إلى العراق وهاجر من المدينة إلى بغداد ومات هناك سنة 170 هـ. ويتضح من كثرة تجريحه فى كتب الرجال أنه كان ضعيفا من وجهة نظر رجال الحديث لأنه كان ضعيف الإسناد [ (4) ] . ومع ذلك فإنه كان يعتبر ثقة صدوقا فى المغازي والتاريخ. روى ابن أبى حاتم الرازي، عن عبد الرحمن، قال: سمعت أبى وذكر مغازي أبى معشر فقال: كان أحمد بن حنبل يرضاه، ويقول: كان بصيرا بالمغازى [ (5) ] . وقال الخليلي: أبو معشر له مكان فى العلم والتاريخ، وتاريخه احتج به الأئمة وضعفّوه فى الحديث [ (6) ] . قال ابن النديم: له كتاب المغازي [ (7) ] . ويظهر من الفقرات التي أوردها
الواقدي:
الطبري فى تاريخه عنه، أن مغازي أبى معشر كمغازى موسى بن عقبة، فقد اشتملت على أخبار من حياة النبي قبل الهجرة [ (1) ] . الواقدي: قدم لنا الواقدي كتابه المغازي، الذي يمثل الصورة الأخيرة من مراحل تطور السيرة النبوية فى القرنين الأول والثاني للهجرة. وهو لم يرو عن الزهري مباشرة ولكنه اعتمد- فى الأغلب- على الرواة الذين رووا الأخبار عن الزهري، ومما يجدر ذكره أن الشخص الوحيد الذي لم يتعرض الواقدي لذكره من بين تلامذة الزهري، هو ابن إسحاق. ولهذا السبب- أى عدم ذكر الواقدي له- وبسبب التشابه الكبير بين فقرات كتاب السيرة لابن إسحاق وكتاب المغازي للواقدي، زعم هوروفتس [ (2) ] وفلهوزن [ (3) ] أن الواقدي قد سطا على ابن إسحاق دون عزو إليه، بل إن هوروفتس قد ذهب فى زعمه إلى أبعد من هذا، فهو يرى أن لفظة «قالوا» فى مغازي الواقدي بدلا من الإسناد تدل على ذلك السطو [ (4) ] . وزعم هوروفتس هذا قائم على حجة واهية، ذلك لأنه لم يتنبه إلى الطريقة المتبعة عند بعض المحدثين والمؤرخين الأوائل وهي جمع الرجال فى الأسانيد عند الأخبار، ولم يكن الواقدي وحده هو الذي استعمل هذه الطريقة، فقد سئل إبراهيم الحربي عما أنكره أحمد بن حنبل على الواقدي فقال: إنما أنكر عليه جمعه الأسانيد ومجيئه بالمتن واحدا. وقال إبراهيم: ليس هذا عيبا فقد فعل هذا الزهري وابن إسحاق [ (5) ] . وقد فندت زعم سطو الواقدي على ابن إسحاق فى مقالة لى أفردتها لهذه المسألة، ولا أريد أن أكرر هنا الحجج التي ذكرتها فى تلك المقالة فليرجع إليها من شاء [ (6) ] .
ومن المحتمل- فى هذا الصدد- أن يكون الواقدي قد أعرض عن الرواية عن ابن إسحاق نظرا لعدم توثيق علماء المدينة له. ولكن الرأى الراجح عندنا فى هذا الترك هو أن ابن إسحاق ترك المدينة قبل أن يولد الواقدي. وكان اللقاء الشخصي بين الرواة من أقوى المظاهر فى تطور السيرة فى القرنين الأول والثاني للهجرة. والدليل على ذلك- كما ذكرنا من قبل- ما أورده ابن حجر فى ترجمة ابن إسحاق بقوله: وكان خرج من المدينة قديما ... ورواته- أى ابن إسحاق- من أهل البلدان أكثر من رواته من أهل المدينة، لم يرو عنه منهم غير إبراهيم بن سعد [ (1) ] . حقا إن أكثر النقاد من المحدثين الأوائل كانوا يضعفون الواقدي فى الحديث، فقد قال البخاري، والرازي، والنسائي، والدارقطني: إنه متروك الحديث. ولكن آراء المحدثين لم تكن ضد الواقدي بالإجماع، فإن منهم من وصفه بأوصاف لا تقل قدرا عما وصف به الثقات، فقد وصفه الحافظ الدراوردي بأنه: أمير المؤمنين فى الحديث. وقال يزيد بن هارون: الواقدي ثقة. ووثقه أبو عبيد القاسم بن سلام، وكذلك أبو بكر الصغاني، ومصعب الزبيري، ومجاهد بن موسى، والمسيب، وإبراهيم الحربي [ (2) ] . ومع أن أغلب العلماء ينكرونه فى الحديث، فإنه- بغير شك- يعتبر إماما فى المغازي. قال ابن النديم: كان عالما بالمغازى والسير والفتوح واختلاف الناس فى الحديث والفقه والأحكام والأخبار [ (3) ] . وبمثل ذلك ذكره ابن سعد [ (4) ] . وقال إبراهيم الحربي: الواقدي آمن الناس على أهل الإسلام [ (5) ] . ونجد فى تاريخ بغداد أقوالا تدل على عظم قدر الواقدي فى علم المغازي والسير.
ويبدو واضحا للقارئ الحديث أن من أهم السمات التي تجعل الواقدي فى منزلة خاصة بين أصحاب السير والمغازي تطبيقه المنهج التاريخى العلمي الفنى، فإننا نلاحظ عند الواقدي- أكثر مما نلاحظ عند غيره من المؤرخين المتقدمين- أنه كان يرتب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقية لا تتغير. فهو مثلا يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم تلك الأخبار، ثم يذكر المغازي واحدة واحدة مع تأريخ محدد للغزوة بدقة، وغالبا ما يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة، ثم يذكر المغازي التي غزاها النبي بنفسه وأسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته، وأخيرا يذكر شعار المسلمين فى القتال، كل ذلك بالإضافة إلى وصفه لكل غزوة بأسلوب موحد، فيذكر أولا اسم الغزوة وتأريخها وأميرها، ويكرر فى بعضها اسم المستخلف على المدينة وتفاصيل جغرافية مما كان قد ذكرها فى مقدمة الكتاب. وفى أماكن كثيرة يقدم لنا الواقدي قصة الواقعة بإسناد جامع- أى يجمع الرجال والأسانيد فى متن واحد. وإذا كانت الغزوة قد نزل فيها آيات كثيرة من القرآن، فإن الواقدي يفردها وحدها مع تفسيرها ويضعها فى نهاية أخبار الغزوة. وفى المغازي الهامة يذكر الواقدي أسماء الذين شهدوا الغزوة وأسماء الذين استشهدوا أو قتلوا فيها. ومن اليسير أن نستدل على فطنة الواقدي وإدراكه كمؤرخ من المنهج الموحد الذي يستعمله. وإن ما أورده فى الكتاب من التفاصيل الجغرافية ليوحى بجهده ومعرفته للدقائق فى الأخبار التي جمعها فى رحلته إلى شرق الأرض وغربها طلبا للعلم وذلك أيضا دليل على أحقيته فى هذا الميدان بما وصفناه به [ (1) ] . وقد تبعه فى اهتمامه بهذه التفاصيل الجغرافية كاتبه وتلميذه محمد بن سعد، بل نراه يزيد على تلك التفاصيل التي عند أستاذه الواقدي. وجدير بالذكر أن هذه التفاصيل الجغرافية التي أوردها الواقدي تعتبر بحق
المرحلة الأولى فى الأدب الجغرافى العربي، إن لم تكن اللبنات والأسس التي بنى عليها كل من جاء بعده مثل ابن سعد، والبلاذري، ومن تلاهما فى التأليف لكتب الفتوح والبلدان. ومن أهم الخصائص المميزة لمغازى الواقدي هي النظام المتكامل للتواريخ. وكثير من المغازي غير المؤرخة عند ابن إسحاق مثل غزوة الخرار، وقتل أسماء بنت مروان، وقتل أبى عفك، وغزوة بنى قينقاع، وقتل كعب بن الأشرف، وسرية قطن، وغزوة دومة الجندل، وقتل سفيان بن خالد بن نبيح، وغزوة القرطاء، وسرية الغمر، وسرية ذى القصة، وغزوة بنى سليم، وسرية الطرف، وسرية حسمى، وسرية الكديد، وسرية ذات أطلاح، وغزوة ذات السلاسل، وسرية الخبط، وسرية خضرة، وسرية علقمة بن مجزز، وسرية على بن أبى طالب إلى اليمن، لها كلها عند الواقدي تأريخ معين محدد وذكر خاص. قلنا إن منهج الواقدي متكامل فى التأريخ للحوادث بصورة أكمل منها عند ابن إسحاق، ولكنه يجب علينا- تحريا للإنصاف- أن نتقبله بحذر فى ذكر تأريخ بعض الحوادث، وهاكم الأمثلة: (1) نرى الاختلاف فى نص تأريخ مقتل كعب بن الأشرف. قال الواقدي: إن محمد بن مسلمة خرج إليه- أى إلى كعب- فِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة [ (1) ] ومشى معه النبي حتى أتى البقيع [ (2) ] (ب) ولكن فى قصة ذى أمر يزعم الواقدي أن النبي قد خرج من المدينة إلى غطفان يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الأول، ولا يمكن أن يرافق النبي محمد بن سلمة فى الطريق بعد خروجه بيومين. (ح) ونجد أيضا تأريخين لغزوة بحران فى مخطوطتين من المغازي للواقدي، ففي إحداهما جمادى الأولى وفى الثانية جمادى الآخرة [ (3) ] .
(د) أرّخ الواقدي غَزْوَةُ الرّجِيعِ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وثلاثين شهرا من الهجرة [ (1) ] وذكر أن الهجوم على المسلمين فى تلك الغزوة كان عقب مقتل سفيان ابن خالد بن نبيح الهذلىّ، ولكن فى مكان آخر أرّخ مقتل سفيان بن خالد بن نبيح على رأس أربعة وخمسين شهرا [ (2) ] . (هـ) ونجد اختلافا آخر فى تفاصيل التأريخ عند الواقدي فى قصة غزوة القرطاء. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: خَرَجْت فِي عَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وخمسين شهرا [ (3) ] . ولكن الواقدي يقول فى مكان آخر: أربعة وخمسين شهرا [ (4) ] . (و) وفى خبر سرية الميفعة التي أرخها الواقدي فى رمضان سنة سبع [ (5) ] ذكر يسارا مولى النبي مع أنه نفسه وصف قتل يسار فى شوال سنة سبع [ (6) ] . (ز) ذكر الواقدي فى أول خبر غزوة بنى لحيان أن النبي خرج من المدينة فى هلال ربيع الأول سنة ست [ (7) ] ، ولكنه فى نهاية القصة أرخها فى المحرم سنة ست [ (8) ] ، وفى تلك الغزوة قال إن خبيب بن عدىّ كان يومئذ فى أيدى قريش بمكة، مع أنه وصف قتل خبيب فى خبر غزوة الرجيع، التي أرخها فى صفر سنة أربع [ (9) ] . وعلى الرغم من هذه الاختلافات فى التواريخ، فإننا نجدها أدق وأثبت بعامة فى نظامها من التواريخ المماثلة فى كتب السيرة الأخرى [ (10) ] . هذا فضلا عما انفرد به الواقدي حين يعرض فى مغازيه الأخبار الكثيرة التي لا نجدها عند غيره، مثل وصفه
للسرية الأولى إلى ذى القصة [ (1) ] ، وسرية أبى بكر إلى نجد [ (2) ] ، والسريتين إلى ميفعة [ (3) ] وذات أطلاح [ (4) ] . أضف إلى ذلك الإسهاب فى التفصيل والدقة فى الترتيب عند سرده للحوادث المشهورة، مثل أحد، والطائف، بأكثر وأحسن مما هو مذكور فى المراجع الأخرى للسيرة. كما يلقى الواقدي أيضا الضوء على مشاهد كثيرة من الحياة فى فجر الإسلام، مثل الزراعة، والأكل، والأصنام، والعادات فى دفن الموتى، وعلى تكوين وتنظيم العيرات، وبالجملة على جميع مظاهر الحياة فى المجتمع الإسلامى فى الفترة بين الهجرة وموت النبي. ومما يزيد فى قيمة هذه الأخبار أن الواقدي يذكر بكل وضوح أنه كان يتبع منهجا نقديا واعيا فنيا فى اختيار وتنظيم أخباره، ثم لا يلبث أن يذكر آراءه وأفكاره عن الأخبار التي كان يسجلها، وكثيرا ما يقول مثلا: «وهو المثبت» ، «والثابت عندنا» ، «والمجتمع عليه عندنا» ، «ولا اختلاف عندنا» ، «والقول الأول أثبت عندنا» ، «وهو أثبت» ، «وهذا الثبت عندنا» ، «ومجمع عليه لا شك فيه» إلى غير ذلك من العبارات التي تبرز رأيه الصريح فى تقويم تلك الأخبار. والتعبير بمثل العبارات السابقة فى المغازي للواقدي شائع جدا فى أسلوبه إلى حد لم نره عند غيره من المؤلفين الأولين، حتى البلاذري الذي توفى بعد الواقدي بسبعين سنة، لا يقدم آراءه الشخصية فى متن أخباره كما فعل الواقدي. وعلى الرغم مما ذكرت من آراء نقدية مثل الاختلاف الواقع فى بعض تواريخ الحوادث، فلا بد من الاعتراف بأن مغازي الواقدي أكمل وأتم مصدر محايد- دون تعصب- لتاريخ حياة النبي فى المدينة.
وبعد: فإننا نرجو أن تنشر نصوص المصادر الأولى للسيرة النبوية مثل سيرة ابن إسحاق رواية ابن بكير التي لم تر النور بعد، وأن تجمع نصوص المغازي الأولى لموسى بن عقبة، ومعمر بن راشد، وأبى معشر من المصادر المختلفة المخطوطة والمطبوعة التي بين أيدينا، ومقابلة بعضها ببعض ونقدها، بحيث يتوفر لنا الوقوف على نشأة وتطور أدب السيرة فى القرون الأولى للإسلام وفقا للأسس العلمية السليمة. مارسدن جونس
مراجع التحقيق
مراجع التحقيق أ - المطبوعات ابن الأثير، عز الدين، على بن عبد الكريم- 630 هـ اللباب فى تهذيب الأنساب، ثلاثة أجزاء، نشرته مكتبة القدسي، القاهرة، 1357/ 1369 هـ بن الأثير، مجد الدين، المبارك بن محمد بن محمد- 606 هـ (1) النهاية فى غريب الحديث والأثر، أربعة أجزاء، المطبعة العثمانية، القاهرة، 1311 هـ (2) جامع الأصول من أحاديث الرسول، اثنا عشر جزءا، نشره الشيخ حامد الفقى، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1368/ 1374 هـ أحمد بن حنبل، (الإمام) - 241 هـ. المسند، بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، صدر منه خمسة عشر جزءا، دار المعارف، القاهرة، 1368/ 1375 هـ. إسماعيل باشا البغدادي- 1339 هـ. (1) إيضاح المكنون فى الذيل على كشف الظنون، جزءان، إستانبول، 1364/ 1366 هـ. (2) هديّة العارفين. أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، جزءان، 1951/ 1955 م آغا بزرگ الطهراني، محمد محسن الذريعة إلى تصانيف الشيعة، صدر منه خمسة عشر جزءا، طبعت فى النجف وطهران، 1357/ 1384 هـ. البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم- 256 هـ. (1) التاريخ الكبير، أربعة أقسام فى ثمانية أجزاء بتحقيق الشيخ عبد الرحمن المعلمى، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1360/ 1378 هـ
(2) الجامع الصحيح، أربعة أجزاء، طبعة الحلبي، القاهرة دون تاريخ. بروكلمن، كارل- 1961 م تاريخ الأدب العربي، الترجمة العربية، للدكتور عبد الحليم النجار، صدر منها ثلاثة أجزاء، دار المعارف، القاهرة 1959/ 1962 م البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر- 279 هـ. (1) أنساب الأشراف، الجزء الأول، بتحقيق الدكتور محمد حميد الله الحيدرآبادي، دار المعارف، القاهرة، 1959 م (2) فتوح البلدان، ثلاثة أجزاء، نشره الدكتور صلاح الدين المنجد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1956/ 1960 م ابن تغرى بردى، جمال الدين أبو المحاسن، يوسف- 874 هـ. النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، صدر منه اثنا عشر جزءا، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1929/ 1956 م الجمحي، محمد بن سلام بن عبيد الله- 232 هـ. طبقات فحول الشعراء، بتحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1952 م الجوهري، إسماعيل بن حماد- 393 هـ. الصحاح، ستة أجزاء، بتحقيق أحمد عبد الغفور العطار، مطبعة دار الكتاب العربي، القاهرة، 1376/ 1377 هـ. ابن أبى حاتم الرازي، عبد الرحمن بن محمد- 327 هـ. كتاب الجرح والتعديل، تسعة أجزاء، بتحقيق الشيخ عبد الرحمن المعلمى، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1360/ 1373 هـ. حاجي خليفة، كاتب چلبى، مصطفى بن عبد الله- 1067 هـ. كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون، جزءان، بتصحيح الأستاذ شرف الدين يلتقايا، والمعلم رفعت بيلكه الكليسى، مطبعة وزارة المعارف التركية، إستانبول، 1360/ 1362 هـ.
ابن حبيب، أبو جعفر، محمد بن حبيب بن أمية- 245 هـ. كتاب المحبر، بتصحيح الدكتورة إيلزه ليحتن شتيتر، والدكتور محمد حميد الله الحيدرآبادي، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1942 م ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أبو الفضل، أحمد بن على بن محمد- 852 هـ. (1) الإصابة فى تمييز الصحابة، أربعة أجزاء، نشرته الجمعية الأسيوية الملكية، كلكتا، الهند، 1877 م (2) لسان الميزان، ستة أجزاء، مطبعة حيدرآباد الدكن، الهند، 1329/ 1331 هـ. (3) تهذيب التهذيب، اثنا عشر جزءا، مطبعة حيدرآباد الدكن، الهند، 1325/ 1327 هـ. ابن أبي الحديد، عز الدين، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد- 655 هـ. شرح نهج البلاغة، عشرون جزءا، بتصحيح الشيخ محمد الزهري الغمراوى، مطبعة دار إحياء الكتب العربية (الحلبي) ، القاهرة، 1329 هـ. ابن حزم، على بن أحمد بن سعيد- 456 هـ. جوامع السيرة (النبوية) ، بتحقيق الدكتورين إحسان عباس، وناصر الدين الأسد، ومراجعة الشيخ أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة 1962 م حسان بن ثابت بن المنذر- 54 هـ. ديوان شعره، نشر فى سلسلة جب التذكارية، بعناية هرتويج هرشفيلد، لندن، 1910 م حميد الله، محمد حميد الله الحيدرآبادي مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، والخلافة الراشدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثانية، القاهرة. 1958 م
الخشني، مصعب بن محمد بن مسعود- 604 هـ. شرح غريب سيرة ابن إسحاق، جزءان، نشره يوسف برونله، مطبعة هندية، القاهرة، 1911 م الخطيب البغدادي، أحمد بن على بن ثابت- 463 هـ. تاريخ بغداد، أربعة عشر جزءا، نشرته مكتبة الخانجى ومطبعة السعادة، القاهرة، 1349 هـ. ابن خلكان، أحمد بن محمد بن إبراهيم- 681 هـ. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، جزءان، مطبعة بولاق، القاهرة، 1299 هـ. الخوانساري، محمد باقر بن زين العابدين الموسوي- 1313 هـ. روضات الجنات فى تاريخ العلماء والسادات، جزءان، الطبعة الثانية، طبع حجر، طهران، 1347 هـ. ابن دريد الأزدى، محمد بن الحسن- 321 هـ. الاشتقاق، بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، مكتبة الخانجى، القاهرة، 1958 م الذهبي، شمس الدين، محمد بن أحمد بن عثمان- 748 هـ. (1) العبر فى خبر من عبر، صدر منه أربعة أجزاء، بتحقيق الأستاذ فؤاد سيد والدكتور صلاح الدين المنجد، الكويت، 1960/ 1963 م (2) تذكرة الحفاظ، أربعة أجزاء، بتحقيق الشيخ عبد الرحمن المعلمى، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1375/ 1377 هـ. الربعي، عيسى بن إبراهيم- 480 هـ. نظام الغريب، نشره يوسف برونله، مطبعة هندية، القاهرة، دون تاريخ.
الزّبيدى، مرتضى، محمد بن محمد بن محمد- 1205 هـ. شرح القاموس المحيط، المسمى تاج العروس من جواهر القاموس، عشرة أجزاء، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306/ 1307 هـ. الزّبير بن بكّار- 256 هـ. جمهرة نسب قريش، بتحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، الجزء الأول، القاهرة، 1381 هـ. الزرقانى، عبد الباقي بن يوسف بن أحمد- 1099 هـ. شرح على المواهب اللدنية، ثمانية أجزاء، مطبعة بولاق، القاهرة، 1291 هـ. الزمخشري، محمود بن عمر بن محمد- 538 هـ. أساس البلاغة، جزءان، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، مطابع الشعب، القاهرة، 1960 م ابن سعد، محمد بن منيع- 230 هـ. كتاب الطبقات الكبير، تسعة أجزاء، ليدن، 1905/ 1921 م ابن السكيت، يعقوب بن إسحاق- 244 هـ. إصلاح المنطق، بتحقيق الأستاذين الشيخ أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، دار المعارف، القاهرة، 1956 م السمعاني، عبد الكريم بن محمد بن منصور- 562 هـ. كتاب الأنساب، نشره بالزنكوغراف مرجليوث، نشر فى سلسلة جب التذكارية، لندن، 1912 م السّهيلى، عبد الرحمن بن عبد الله- 581 هـ. الروض الأنف، شرح سيرة ابن هشام، جزءان، طبع بنفقة السلطان مولاي عبد الحفيظ، المطبعة الجمالية، القاهرة، 1332 هـ
ابن سيد الناس اليعمري، أبو الفتح، محمد بن محمد- 734 هـ. عيون الأثر فى فنون المغازي والشمائل والسير، جزءان، نشرته مكتبة القدسي، القاهرة، 1356 هـ. الصفدي، صلاح الدين، خليل بن أيبك بن عبد الله- 764 هـ. الوافي بالوفيات، صدر منه أربعة أجزاء، بتحقيق ريترو ديدرينغ، نشرته جمعية المستشرقين الألمان فى إستانبول، إستانبول ودمشق، 1936/ 1960 م الطبري، أبو جعفر، محمد بن جرير- 310 هـ. (1) تفسير القرآن المسمى جامع البيان، بتحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، صدر منه خمسة عشر جزءا، دار المعارف، القاهرة، 1374/ 1379 هـ. (2) تاريخ الرسل والملوك ثلاثة عشر جزءا، ليدن 1881/ 1882 م الطوسي، أبو جعفر، محمد بن الحسن بن على- 460 هـ. الفهرست، فهرست كتب الشيعة، منشورات الجمعية الآسيوية الملكية، كلكتا 1271 هـ. ابن عبد البر، أبو عمر، يوسف بن عبد الله بن محمد- 463 هـ. الاستيعاب فى معرفة الأصحاب، أربعة أجزاء، بتحقيق الأستاذ على محمد البجاوى، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، دون تاريخ. أبو عبيد الله البكري، عبد الله بن عبد العزيز- 487 هـ. معجم ما استعجم، ثلاثة أجزاء، نشره وستنفلد، جوتا 1876/ 1877 م ابن العماد الحنبلي، عبد الحي بن أحمد بن محمد- 1089 هـ. شذرات الذهب فى أخبار من ذهب، ثمانية أجزاء، نشرته مكتبة القدسي، القاهرة، 1350/ 1351 هـ
ابن فارس، أحمد بن فارس- 395 هـ. مقاييس اللغة، ستة أجزاء، بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 1366/ 1371 هـ. أبو الفدا، إسماعيل بن على بن محمود- 732 هـ. المختصر فى أخبار البشر، أربعة أجزاء، المطبعة الحسينية، القاهرة، 1325 هـ. أبو الفرج الإصبهانى، على بن الحسين بن محمد- 356 هـ. كتاب الأغانى، نشرة دار الكتب المصرية، صدر منه ستة عشر جزءا، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1923/ 1935 م ابن فرحون، إبراهيم بن على بن محمد- 799 هـ. الديباج المذهب فى معرفة أعيان علماء المذهب، المطبعة الجمالية، القاهرة، 1329 هـ. الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب بن محمد- 817 هـ. القاموس المحيط، أربعة أجزاء، المطبعة المصرية، القاهرة، 1938 م القالي، أبو على، إسماعيل بن القاسم بن عيذون- 356 هـ. كتاب الأمالى، نشر بنفقة يوسف دياب، جزءان، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1926 م القرشي، عبد القادر بن محمد بن نصر الله- 775 هـ. الجواهر المضية فى طبقات الحنفية، جزءان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1332 هـ. ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم- 276 هـ. كتاب المعارف، بتحقيق الدكتور ثروت عكاشة، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1960 م
قيس بن الخطيم، نحو 2 قبل الهجرة ديوان شعره، تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد، مطبعة المدني، القاهرة، 1960 م ابن قيس الرقيات، عبيد الله بن قيس بن شريح- نحو 85 هـ. ديوان شعره، بتحقيق الدكتور محمد يوسف نجم، دار صادر وبيروت، بيروت، 1958 م ابن كثير القرشي، إسماعيل بن عمر- 774 هـ. البداية والنهاية، أربعة عشر جزءا، نشرته مكتبة الخانجى ومطبعة السعادة، القاهرة، 1351/ 1358 هـ. ابن الكلبي، هشام بن محمد بن السائب- 204 هـ. كتاب الأصنام، بتحقيق أحمد زكى باشا، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1924 م مالك بن أنس (الإمام) - 179 هـ. الموطأ، نشره الأستاذ محمود فؤاد عبد الباقي، جزءان، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 1370 هـ. محسن الأمين، محسن بن عبد الكريم بن على- 1371 هـ. أعيان الشيعة، بيروت، 1959 م مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري- 261 هـ. الجامع الصحيح، نشره الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، خمسة أجزاء، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 1955/ 1956 م ابن منظور، أبو الفضل، محمد بن مكرم بن على- 711 هـ. لسان العرب، عشرون جزءا، بولاق، القاهرة، 1300 هـ
ابن النديم، محمد بن إسحاق بن محمد- 438 هـ. الفهرست، المكتبة التجارية، القاهرة، 1348 هـ. نور الدين الحلبي، على بن إبراهيم بن أحمد- 1044 هـ. السيرة الحلبية، جزءان، مصطفى الحلبي، القاهرة، 1349 هـ. ابن هشام، أبو محمد، عبد الملك بن هشام بن أيوب- 213 هـ. السيرة النبوية، أربعة أجزاء، بتحقيق الأساتذة مصطفى السقا، وإبراهيم الأبيارى، وعبد الحفيظ شلبى، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1936 م اليافعي، عبد الله بن أسعد بن على- 768 هـ. مرآة الجنان وعبرة اليقظان، أربعة أجزاء، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1337 هـ. ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي- 626 هـ. (1) معجم البلدان، عشرة أجزاء، نشرة الخانجى، القاهرة، 1906 م (2) معجم الأدباء، المسمى إرشاد الأريب، عشرون جزءا، نشره أحمد فريد رفاعى، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 1935/ 1938 م اليغمورى، أبو المحاسن، يوسف بن أحمد بن محمود- القرن السابع الهجري نور القبس المختصر من المقتبس، فى أخبار النحاة والأدباء والشعراء والعلماء، بتحقيق رودلف سلهايم، النشريات الإسلامية لجمعية المستشرقين الألمان، بيروت، 1964 م
ب - المخطوطات
ب - المخطوطات الذهبي، شمس الدين، محمد بن أحمد بن عثمان- 748 هـ. سير أعلام النبلاء مخطوطة أحمد الثالث، إستانبول، رقم 2910 الجزء السابع، ترجمة الواقدي. ابن عساكر، أبو القاسم، على بن الحسن بن هبة الله- 571 هـ. تاريخ مدينة دمشق مخطوطة أحمد الثالث، إستانبول، برقم 2887 الجزء الثاني، ترجمة الواقدي.
الجزء الأول
الجزء الأول [مقدمة الكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ بْنِ مُحَمّدٍ الْجَوْهَرِيّ، [ (1) ] قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمّدُ بْنُ الْعَبّاسِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ زَكَرِيّا بْنِ حَيّوَيْهِ لفظا، قال: قرى عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الْوَهّابِ بْنِ أَبِي حَيّةَ مِنْ كِتَابِهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَأَقَرّ بِهِ، يَوْمَ السّبْتِ بِالْغَدَاةِ، فِي دَارِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْوَرّاقِ، مُرَبّعَةِ شُبَيْبٍ، بَابِ الشّامِ، فِي بَابِ الذّهَبِ، فِي دَرْبِ الْبَلْخِ، فِي جُمَادَى الآخرة سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ، قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ، قَالَ: حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيّ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّميمىّ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَمُوسَى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بْنِ زَمَعَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ التّيْمِيّ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، وَعَائِذُ بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمّدُ بْنُ عَمْرٍو، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ الْأَنْصَارِيّ، وَيَحْيَى بْنُ عبد الله ابن أَبِي قَتَادَةَ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، [ (2) ] وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بن أبى الزّناد، وأبو معشر،
وَمَالِكُ بْنُ أَبِي الرّجَالِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي عَبْسٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لِحَدِيثِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُهُمْ قَدْ حَدّثَنِي أَيْضًا، فَكَتَبْت كُلّ الّذِي حَدّثُونِي، قَالُوا: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَيُقَالُ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَالثّابِتُ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ. فَكَانَ أَوّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْتَرِضُ لِعِيرِ قُرَيْشٍ. ثُمّ لِوَاءُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي شَوّالٍ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَى رَابِغٍ- وَهِيَ عَلَى عَشْرَةِ أميال من الجحفة وأنت تريد قديد- وَكَانَتْ فِي شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. ثُمّ سَرِيّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ إلَى الْخَرّارِ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. ثُمّ غَزَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَفَرٍ، عَلَى رَأْسِ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، حَتّى بَلَغَ الْأَبْوَاء، ثُمّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَغَابَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. ثُمّ غَزَا بُوَاطَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، يَعْتَرِضُ لِعِيرِ قُرَيْشٍ، فِيهَا أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ وَمِائَةُ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، ثُمّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا- وَبُوَاطُ هِيَ مِنْ الْجُحْفَةِ قَرِيبٌ. ثُمّ غَزَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فِي طَلَبِ كرز بن جابر الفهرىّ حتى بلغ بدار، ثُمّ رَجَعَ. ثُمّ غَزَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ سِتّةَ عَشَرَ شَهْرًا، يَعْتَرِضُ لِعِيرَاتِ قُرَيْشٍ حِينَ بَدَتْ إلَى الشّامِ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي الْعَشِيرَةِ، ثُمّ رَجَعَ. فَبَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ إلَى نَخْلَةَ فِي رَجَبٍ، عَلَى رَأَسَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا بَدْرَ الْقِتَالِ، صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةُ عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ، قَتَلَهَا عُمَيْرُ بْنُ عدىّ بن
خَرَشَةَ [ (1) ] . حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُ قَالَ: قَتَلَهَا لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةُ سَالِمِ بْنِ عُمَيْرٍ [ (2) ] ، قَتَلَ أَبَا عَفَكٍ فِي شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزْوَةُ قَيْنُقَاعَ فِي النّصْفِ مِنْ شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة السويق في ذي الحجة، على رأس اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي سُلَيْمٍ بِالْكَدَرِ فِي الْمُحَرّمِ، عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ سريّة ابْنِ الْأَشْرَفِ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزْوَةُ غَطَفَانَ إلَى نَجْدٍ، وَهِيَ ذُو أَمْرٍ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ إلَى سُفْيَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيّ. قَالَ عَبْدُ اللهِ [ (3) ] : خَرَجْت مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا [ (4) ] ، فَغِبْت ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَقَدِمْت يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ [ (5) ] بَقَيْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي سُلَيْمٍ بِبُحْرَانَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةُ الْقَرَدَةِ، أَمِيرُهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا فِي شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ فِي شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ إلَى قَطَنٍ إلَى بَنِي أَسَدٍ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي الْمُحَرّمِ. ثُمّ بِئْرُ مَعُونَةَ، أَمِيرُهَا
الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزْوَةُ الرّجِيعِ فِي صَفَرٍ، عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، أَمِيرُهَا مَرْثَدٌ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النّضِيرِ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بدر الموعد فِي ذِي الْقَعْدَةِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةُ ابْنِ عَتِيكٍ إلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ فِي ذِي الْحِجّةِ، عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. فَلَمّا قُتِلَ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ فَزِعَتْ يَهُودُ إلَى سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ بِخَيْبَرَ فَأَبَى أَنْ يَرْأَسَهُمْ، فَقَامَ أُسَيْرُ بْنُ زَارِمٍ [ (1) ] بِحَرْبِهِمْ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الرّقَاعِ فِي الْمُحَرّمِ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا دومة الجندل في ربيع الأول، على رأس تِسْعَةٍ [ (2) ] وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُرَيْسِيعَ، فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي لَيَالٍ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَلَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجّةِ سَنَةَ خَمْسٍ. ثُمّ سَرِيّةُ ابْنِ أُنَيْسٍ إلَى سُفْيَانَ بْنِ خَالِدٍ بْنِ نُبَيْحٍ، فِي الْمُحَرّمِ سَنَةَ سِتّ، ثُمّ سَرِيّةُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الْمُحَرّمِ سَنَةَ سِتّ إلَى الْقُرْطَاءِ [ (3) ] . ثُمّ غَزْوَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي لِحْيَان، إلَى الْغَابَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَابَةَ فِي ربيع الآخر سنة ست. ثم سرية أميرها عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ إلَى الْغَمْرِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ سَرِيّةُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إلَى ذِي الْقَصّةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ إلَى ذِي الْقَصّةِ، فِي رَبِيعٍ
الْآخَرِ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى بَنِي سُلَيْمٍ بِالْجَمُومِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتّ، وَكَانَتَا فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ- الْجَمُومُ مَا بَيْنَ بَطْنِ نَخْلٍ وَالنّقْرَةِ. ثُمّ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الْعِيصِ [ (1) ] فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتّ. ثُمّ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الطّرَفِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتّ- وَالطّرَفُ عَلَى سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْ الْمَدِينَةِ. ثُمّ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى حِسْمَى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتّ- وَحِسْمَى وَرَاءَ وَادِي الْقُرَى. ثُمّ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى وَادِي الْقُرَى فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ غَزْوَةُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى فَدَكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ غَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى أُمّ قِرْفَةَ [فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتّ [ (2) ]] نَاحِيَةَ وَادِي [ (3) ] الْقُرَى إلَى جَنْبِهَا. ثُمّ غَزْوَةُ ابْنِ رَوَاحَةَ إلَى أسير بن زارم في شوال سنة ست. ثُمّ سَرِيّةُ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ إلَى الْعُرَنِيّينَ فِي شَوّالٍ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ اعْتَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذى القعدة سنة ستّ. ثم غزا والنبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ انْصَرَفَ مِنْ خَيْبَرَ إلَى وَادِي الْقُرَى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَقَاتَلَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ عُمَرَ بْنِ الخطاب رضي الله عنه إلى تربة في شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ [تُرْبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكّةَ سِتّ لَيَالٍ [ (4) ]] . ثُمّ سَرِيّةُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي شَعْبَانَ إلَى نَجْدٍ، سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى فَدَكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ إلَى الْمَيْفَعَةِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ- وَالْمَيْفَعَةُ ناحية
نَجْدٍ. ثُمّ سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى الْجِنَابِ، فِي شَوّالٍ سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ اعْتَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ [ (1) ] فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ غَزْوَةُ ابن أبي العوجاء السلمي في ذي الحجة سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ غَزْوَةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ إلَى الْكَدِيدِ، فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ- وَالْكَدِيدُ وَرَاءَ قُدَيْدٍ. ثُمّ سَرِيّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ، إلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ الْمُلَوّحِ. ثُمّ غَزْوَةُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ، إلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ- وَأَطْلَاحُ نَاحِيَةُ الشّامِ مِنْ الْبَلْقَاءِ عَلَى لَيْلَةٍ. ثُمّ غَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى مُؤْتَةَ، سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزْوَةٌ أَمِيرُهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إلَى ذَاتِ السّلَاسِلِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزْوَةُ الْخَبَطِ أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ، فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ سَرِيّةُ خَضِرَةَ، أَمِيرُهَا أَبُو قَتَادَةَ، فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ- وَخَضِرَةُ نَاحِيَةُ نَجْدٍ عَلَى عِشْرِينَ مِيلًا عِنْدَ بُسْتَانِ ابْنِ عَامِرٍ. ثُمّ سَرِيّةُ أَبِي قَتَادَةَ إلَى إِضَمَ [ (2) ] ، فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ، فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ هَدَمَ الْعُزّى لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، هَدَمَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. ثُمّ هَدَمَ سُوَاعَ، هَدَمَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَكَانَ فِي رَمَضَانَ. ثُمّ هَدَمَ مَنَاةَ، هَدَمَهَا سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزْوَةُ بَنِي جَذِيمَةَ، غَزَاهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي شَوّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا فِي شَوّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطّائِفَ فِي شَوّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَحَجّ النّاسُ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَيُقَالُ إنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَتّابَ بْنَ أُسَيْدٍ عَلَى الْحَجّ، وَيُقَالُ حَجّ النّاسُ أَوْزَاعًا [ (3) ] بِلَا أَمِيرٍ. ثم سريّة
عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ إلَى بَنِي تَمِيمٍ فِي الْمُحَرّمِ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ قُطْبَةَ بْنِ عَامِرٍ إلَى خَثْعَمَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ بَنِي كِلَابٍ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ تِسْعٍ، أَمِيرُهَا الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ. ثُمّ سَرِيّةُ عَلْقَمَةَ بْنِ مُجَزّزٍ إلَى الْحَبَشَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ عَلِيّ عليه السلام إلى الفلس، في ربيع الآخر سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ غَزْوَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبُوكَ، فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرَ، فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ هَدْمُ ذِي الْكَفّيْنِ- صَنَمُ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدّوْسِيّ. وَحَجّ النّاسُ سَنَةَ تِسْعٍ، وَحَجّ أَبُو بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ غَزْوَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلَى بَنِي عَبْدِ الْمَدَانِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ عَشْرٍ. وَسَرِيّةُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى الْيَمَنِ، يُقَالُ مَرّتَيْنِ إحْدَاهُمَا فِي رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ. وَحَجّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّاسِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَرَجَعَ مِنْ مَكّةَ فَمَرِضَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَعَقَدَ لِأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي مَرَضِهِ إلَى الشّامِ، وَتُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَخْرُجْ حَتّى بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ. فَكَانَتْ مَغَازِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الّتِي غَزَا بِنَفْسِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً. وَكَانَ مَا قَاتَلَ فِيهَا تِسْعًا: بَدْرُ الْقِتَالِ، وَأُحُدُ، وَالْمُرَيْسِيعُ، وَالْخَنْدَقُ، وَقُرَيْظَةُ، وَخَيْبَرُ، وَالْفَتْحُ، وَحُنَيْنٌ، وَالطّائِفُ. وَكَانَتْ السّرَايَا سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَرِيّةً، وَاعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ. وَيُقَالُ قَدْ قَاتَلَ فِي بَنِي النّضِيرِ، وَلَكِنّ اللهَ جَعَلَهَا لَهُ نَفَلًا خَاصّةً. وَقَاتَلَ فِي غَزْوَةِ وَادِي الْقُرَى فِي مُنْصَرَفِهِ عَنْ خَيْبَرَ، وَقُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ. وَقَاتَلَ فِي الْغَابَةِ حَتّى قُتِلَ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَقَتَلَ مِنْ الْعَدُوّ سِتّةً. قَالُوا: وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ عَلَى الْمَدِينَةِ: فِي غَزْوَةِ وَدّانَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَاسْتَخْلَفَ فِي غَزْوَةِ بُوَاطَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَفِي طَلَبٍ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَفِي غَزْوَةِ ذِي الْعَشِيرَةِ أَبَا سَلَمَةَ بن عبد الأسد
المحزومىّ، وَفِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْقِتَالِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْعَمْرِيّ، وَفِي غَزْوَةِ السّوِيقِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْعَمْرِيّ، وَفِي غَزْوَةِ الْكُدْرِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ الْمَعِيصِيّ، وَفِي غَزْوَةِ ذِي أَمَرّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ، وَفِي غَزْوَةِ بُحْرَانَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ بَنِي النّضِيرِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْمَوْعِدِ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَفِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرّقَاعِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ، وَفِي غَزْوَةِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ، وَفِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَفِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ بَنِي لِحْيَانَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ الْغَابَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ، وَفِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ أَبَا رُهْمٍ الْغِفَارِيّ، وَفِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَالطّائِفِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَيُقَالُ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَشْهَلِيّ، وَفِي حَجّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ. وَكَانَ شِعَارُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِتَالِ، فِي بَدْرٍ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ، وَيُقَالُ جَعَلَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ: بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَالْخَزْرَجِ: بَنِي عَبْدِ اللهِ، وَالْأَوْسِ: بَنِي عُبَيْدِ اللهِ، وَفِي يَوْمِ أُحُدٍ: أَمِتْ أَمِتْ، وَفِي بَنِي النّضِيرِ: أَمِتْ أَمِتْ، وَفِي الْمُرَيْسِيعِ: أَمِتْ أَمِتْ، وَفِي الْخَنْدَقِ: حم لَا يُنْصَرُونَ، وَفِي قُرَيْظَةَ وَالْغَابَةِ لَمْ يُسَمّ أَحَدًا، وَفِي حُنَيْنٍ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ، وَفِي الْفَتْحِ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ: بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَجَعَلَ شِعَارَ الْخَزْرَجِ: بَنِي عَبْدِ اللهِ، وَالْأَوْسِ: بَنِي عُبَيْدِ اللهِ، وَفِي خَيْبَرَ: بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَلِلْخَزْرَجِ: بَنِي عَبْدِ اللهِ، وَلِلْأَوْسِ: بَنِي عُبَيْدِ اللهِ، وَفِي الطّائِفِ لَمْ يُسَمّ أَحَدًا.
سرية حمزة بن عبد المطلب
سَرِيّةُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَكَانَتْ سَرِيّةُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي رَمَضَانَ، عَلَى رأس سبعة أشهر من مهاجرة النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: أَوّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، بَعَثَهُ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا شَطْرَيْنِ، خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَكَانَ [ (1) ] من المهاجرين: أبو عبيدة ابن الْجَرّاحِ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعَمْرُو بْنُ سُرَاقَةَ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَكَنّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ [ (2) ] وَابْنُهُ مَرْثَدُ بْنُ كَنّازٍ، وَأَنَسَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي رِجَالٍ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ: أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ، وَعُبَيْدُ بْنُ أَوْسٍ، وَأَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ، وَأَبُو دُجَانَةَ، والمنذر بن عمرو، ورافع ابن مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ [ (3) ] ، فِي رِجَالٍ لَمْ يُسَمّوْا لَنَا. فَبَلَغُوا سَيْفَ الْبَحْرِ يَعْتَرِضُ [ (4) ] لِعِيرِ قُرَيْشٍ قَدْ جَاءَتْ مِنْ الشّامِ تُرِيدُ مَكّةَ، فِيهَا أَبُو جَهْلٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ. فَالْتَقَوْا حَتّى اصْطَفّوا لِلْقِتَالِ، فَمَشَى بَيْنَهُمْ مَجْدِي بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ حَلِيفًا للفريقين جميعا، فلم يزل يمشى إلى هولاء وَإِلَى هَؤُلَاءِ حَتّى انْصَرَفَ الْقَوْمُ وَانْصَرَفَ حَمْزَةُ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ فِي أَصْحَابِهِ، وَتَوَجّهَ أَبُو جَهْلٍ فِي عِيرِهِ وَأَصْحَابِهِ إلَى مَكّةَ، وَلَمْ
سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ
يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ. فَلَمّا رَجَعَ حَمْزَةُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُ بِمَا حَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِي، وَأَنّهُمْ رَأَوْا مِنْهُ نَصَفَةً لَهُمْ، فَقَدِمَ رَهْطُ مَجْدِي عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَسَاهُمْ وَصَنَعَ إلَيْهِمْ خَيْرًا، وَذَكَرَ مَجْدِي بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: إنّهُ مَا عَلِمْت مَيْمُونُ النّقِيبَةِ مُبَارَكُ الْأَمْرِ. أَوْ قَالَ: رَشِيدُ الْأَمْرِ. حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَيّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، قَالَا: لَمْ يَبْعَثْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَبْعَثًا حَتّى غَزَا بِنَفْسِهِ إلَى بَدْرٍ، وَذَلِك أَنّهُ ظَنّ أَنّهُمْ لَا يَنْصُرُونَهُ إلّا فِي الدّارِ، وَهُوَ الْمُثْبَتُ. سَرِيّةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ إلَى رَابِغٍ ثُمّ عَقَدَ لِوَاءً لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، فِي شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، إلَى رَابِغٍ- وَرَابِغٌ عَلَى عَشْرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْجُحْفَةِ وَأَنْتَ تُرِيدُ قُدَيْدًا. فَخَرَجَ عُبَيْدَةُ فِي سِتّينَ رَاكِبًا، فَلَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ أَحْيَاءٌ مِنْ بَطْنِ رَابِغٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ فِي مِائَتَيْنِ. فَكَانَ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي الْإِسْلَامِ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ، نَثَرَ كِنَانَتَهُ وَتَقَدّمَ أَمَامَ أَصْحَابِهِ وَتَرّسَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ. قَالَ: فَرَمَى بِمَا فِي كِنَانَتِهِ حَتّى أَفْنَاهَا، مَا فِيهَا سَهْمٌ إلّا يَنْكِي بِهِ [ (1) ] . وَيُقَالُ: كَانَ فِي الْكِنَانَةِ عِشْرُونَ سَهْمًا، فَلَيْسَ مِنْهَا سَهْمٌ إلّا يَقَعُ فَيَجْرَحُ إنْسَانًا أَوْ دَابّةً. وَلَمْ يَكُنْ سَهْمٌ يَوْمَئِذٍ إلّا هَذَا، لَمْ يَسُلّوا السّيُوفَ وَلَمْ يَصْطَفّوا لِلْقِتَالِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الرّمْيِ وَالْمُنَاوَشَةِ، ثُمّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ عَلَى حَامِيَتِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى حَامِيَتِهِمْ. فَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ يَقُولُ فِيمَا حَدّثَنِي ابن أبى سبرة، عن المهاجرين مِسْمَارٍ، قَالَ: كَانَ السّتّونَ كُلّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ. قال سعد:
سرية سعد بن أبى وقاص إلى الخرار
فَقُلْت لِعُبَيْدَةَ: لَوْ اتّبَعْنَاهُمْ لَأَصَبْنَاهُمْ، فَإِنّهُمْ قَدْ وَلّوْا مَرْعُوبِينَ. قَالَ: فَلَمْ يُتَابِعْنِي عَلَى ذَلِكَ، فَانْصَرَفْنَا إلَى الْمَدِينَةِ. سَرِيّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ إلَى الْخَرّارِ ثُمّ عَقَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ إلَى الْخَرّارِ- وَالْخَرّارُ مِنْ الْجُحْفَةِ قَرِيبٌ مِنْ خُمّ- فِي ذِي الْقَعْدَةِ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بن إسماعيل بن محمد، عن أبيه، عن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُخْرُجْ يَا سَعْدُ حَتّى تَبْلُغَ الْخَرّارَ، فَإِنّ عِيرًا لِقُرَيْشٍ سَتَمُرّ بِهِ. فَخَرَجْت فِي عِشْرِينَ رَجُلًا أَوْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ عَلَى أَقْدَامِنَا، فَكُنّا نَكْمُنُ النّهَارَ وَنَسِيرُ اللّيْلَ حَتّى صَبّحْنَاهَا صُبْحَ خَمْسٍ، فَنَجِدُ الْعِيرَ قَدْ مَرّتْ بِالْأَمْسِ. وَقَدْ كَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إلَيّ أَلّا أُجَاوِزَ الْخَرّارَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَجَوْت أَنْ أُدْرِكَهُمْ. فَيُقَالُ: لَمْ يَبْعَثْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَبْعَثًا حَتّى غَزَا بِهِمْ بَدْرًا، وَذَلِكَ لِأَنّهُمْ شَرَطُوا لَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ فِي دَارِهِمْ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَيّاشٍ الْمَخْزُومِيّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ. غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ [ (1) ] ثُمّ غَزَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في صفر على رأس أحد عشر
غزوة بواط
شَهْرًا، حَتّى بَلَغَ الْأَبْوَاءَ يَعْتَرِضُ لِعِيرِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ وَادَعَ بَنِي ضَمْرَةَ مِنْ كِنَانَةَ عَلَى أَلّا يُكْثِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُعِينُوا عَلَيْهِ أَحَدًا. ثُمّ كَتَبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا، ثُمّ رَجَعَ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. غَزْوَةُ بُوَاطَ ثُمّ غَزَا بُوَاطَ- وَبُوَاطُ حِيَالَ ضَبّةَ مِنْ نَاحِيَةِ ذِي خُشُبٍ، بَيْنَ بُوَاطَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةُ بُرُدٍ- فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، يَعْتَرِضُ لِعِيرِ قُرَيْشٍ، فِيهَا أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ وَمِائَةُ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، ثُمّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى ثُمّ غَزَا فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي طَلَبِ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ، أَغَارَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَرْعَى بِالْجَمّاءِ [ (1) ] وَنَوَاحِيهَا، حَتّى بَلَغَ بَدْرًا وَلَمْ يُدْرِكْهُ. غَزْوَةُ ذِي الْعَشِيرَةِ [ (2) ] ثُمّ غَزَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ سِتّةَ عَشَرَ شَهْرًا، يَعْتَرِضُ لِعِيرَاتِ قُرَيْشٍ حِينَ أَبْدَأَتْ إلَى الشّامِ، فَنَدَبَ أَصْحَابَهُ فَخَرَجَ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ- وَيُقَالُ فِي مِائَتَيْنِ- وَكَانَ قَدْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِفُصُولِ العير من مكّة تريد
سرية نخلة
الشّامَ، قَدْ جَمَعَتْ قُرَيْشٌ أَمْوَالَهَا فَهِيَ فِي تِلْكَ الْعِيرِ، فَسَلَكَ عَلَى نَقْبٍ مِنْ بَنِي دِينَارٍ بُيُوتَ السّقْيَا [ (1) ] ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي الْعَشِيرَةِ. سَرِيّةُ نَخْلَةَ ثُمّ سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ إلَى نَخْلَةَ، وَنَخْلَةُ وَادِي بُسْتَانِ [ (2) ] ابْنِ عَامِرٍ، فِي رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. قَالُوا: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلّى الْعِشَاءَ فَقَالَ: وَافِ مَعَ الصّبْحِ، مَعَك سِلَاحُك، أَبْعَثُك وَجْهًا! قَالَ: فَوَافَيْت الصّبْحَ وَعَلَيّ سَيْفِي وَقَوْسِي وَجَعْبَتِي وَمَعِي دَرَقَتِي، فَصَلّى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّاسِ الصّبْحَ ثُمّ انْصَرَفَ، فَيَجِدُنِي قَدْ سَبَقْته وَاقِفًا عِنْدَ بَابِهِ، وَأَجِدُ نَفَرًا مَعِي مِنْ قُرَيْشٍ. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبَيّ بْنَ كَعْبٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَأَمّرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ كِتَابًا. ثُمّ دَعَانِي فَأَعْطَانِي صَحِيفَةً مِنْ أَدِيمٍ خَوْلَانِيّ [ (3) ] فَقَالَ: قَدْ اسْتَعْمَلْتُك عَلَى هَؤُلَاءِ النّفَرِ، فَامْضِ حَتّى إذَا سِرْت لَيْلَتَيْنِ فَانْشُرْ كِتَابِي، ثُمّ امْضِ لِمَا فِيهِ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيّ نَاحِيَةٍ؟ فَقَالَ: اُسْلُكْ النّجْدِيّةَ، تَؤُمّ رَكِيّةَ [ (4) ] قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتّى إذَا كَانَ بِبِئْرِ ابْن ضُمَيْرَةَ نَشَرَ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: سِرْ حَتّى تَأْتِيَ بَطْنَ نَخْلَةَ عَلَى اسْمِ اللهِ وَبَرَكَاتِهِ، وَلَا تُكْرِهَن أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِك عَلَى الْمَسِيرِ مَعَك، وَامْضِ لِأَمْرِي فِيمَنْ تَبِعَك حَتّى تأتى بطن نخلة
فَتَرَصّدْ بِهَا عِيرَ قُرَيْشٍ. فَلَمّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ قَالَ: لَسْت مُسْتَكْرِهًا مِنْكُمْ أَحَدًا، فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الشّهَادَةَ فَلْيَمْضِ [ (1) ] لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ أَرَادَ الرّجْعَةَ فَمِنْ الْآنِ! فَقَالُوا أَجْمَعُونَ: نَحْنُ سَامِعُونَ وَمُطِيعُونَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَك، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ حَيْثُ شِئْت. فَسَارَ حَتّى جَاءَ نَخْلَةَ فَوَجَدَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيّ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ الْمَخْزُومِيّ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمَخْزُومِيّ. فَلَمّا رَأَوْهُمْ [ (2) ] أَصْحَابُ الْعِيرِ هَابُوهُمْ وَأَنْكَرُوا أَمْرَهُمْ، فَحَلَقَ عُكّاشَةُ رَأْسَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، ثُمّ أو فى لِيُطَمْئِنَ الْقَوْمَ. قَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: فَحَلَقْت رأس عكّاشة بيدي- وكان رأى واقد ابن عَبْدِ اللهِ وَعُكّاشَةَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ- فَيَقُولُ لَهُمْ [ (3) ] : عُمّارٌ! نَحْنُ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ! فَأَشْرَفَ عُكّاشَةُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا بَأْسَ، قَوْمٌ عُمّارٌ! فَأَمِنُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَيّدُوا رِكَابَهُمْ وَسَرّحُوهَا، وَاصْطَنَعُوا طَعَامًا. تَشَاوَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِمْ- وَكَانَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، وَيُقَالُ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ- فَقَالُوا: إنْ أَخّرْتُمْ عَنْهُمْ هَذَا الْيَوْمَ دَخَلُوا الْحَرَمَ فَامْتَنَعُوا، وَإِنْ أَصَبْتُمُوهُمْ فَفِي الشّهْرِ الْحَرَامِ. وَقَالَ قَائِلٌ: لَا نَدْرِي [ (4) ] أَمِنْ الشّهْرِ الْحَرَامِ هَذَا الْيَوْمُ أَمْ لَا. وَقَالَ قَائِلٌ: لَا نَعْلَمُ [ (5) ] هَذَا الْيَوْمَ إلّا مِنْ الشّهْرِ الْحَرَامِ، وَلَا نَرَى أَنْ تَسْتَحِلّوهُ لِطَمَعٍ أَشْفَيْتُمْ عَلَيْهِ. فَغَلَبَ عَلَى الْأَمْرِ الّذِينَ يُرِيدُونَ عَرَضَ الدّنْيَا، فَشَجّعَ الْقَوْمَ فَقَاتَلُوهُمْ. فَخَرَجَ وَاقِدُ
ابن عبد الله يَقْدُمُ الْقَوْمَ، قَدْ أَنْبَضَ قَوْسَهُ وَفَوّقَ بِسَهْمِهِ، فَرَمَى عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيّ- وَكَانَ لَا يُخْطِئُ رَمْيَتَهُ- بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ. وَشَدّ الْقَوْمُ عَلَيْهِمْ، فَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَحَكَمَ بن كيسان، وأعجزهم نوفل ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَاسْتَاقُوا الْعِيرَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدٌ [ (1) ] قَالَ: حَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمَعَةَ الْأَسَدِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أُمّهَا كَرِيمَةَ ابْنَةِ الْمِقْدَادِ، عَنْ الْمِقْدَادِ بن عمرو، قال: أنا أسرت الحكم ابن كَيْسَانَ، فَأَرَادَ أَمِيرُنَا ضَرْبَ عُنُقِهِ، فَقُلْت: دَعْهُ، نَقْدُمُ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَطَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: تُكَلّمُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَاَللهِ لَا يُسْلِمُ هَذَا آخِرَ الْأَبَدِ، دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ وَيَقْدَمُ إلَى أُمّهِ الْهَاوِيَةِ! فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقْبِلُ عَلَى عُمَرَ حَتّى أَسْلَمَ الْحَكَمُ، فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْته قَدْ أَسْلَمَ، وَأَخَذَنِي مَا تَقَدّمَ وَتَأَخّرَ وَقُلْت: كَيْفَ أَرُدّ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي، ثُمّ أَقُولُ: إنّمَا أَرَدْت بذلك النصيحة لله ولرسوله! وقال عُمَرُ: فَأَسْلَمَ وَاَللهِ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ، وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَتّى قُتِلَ شَهِيدًا يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاضٍ عَنْهُ وَدَخَلَ الْجِنَانَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ قَالَ، قَالَ الْحَكَمُ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: تَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: قَدْ أسلمت. فالتفت النبىّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَوْ أَطَعْتُكُمْ فِيهِ آنِفًا فَقَتَلْته، دَخَلَ النّار قَالُوا: وَاسْتَاقُوا الْعِيرَ، وَكَانَتْ الْعِيرُ فِيهَا خَمْرٌ وَأَدَمٌ وَزَبِيبٌ جَاءُوا بِهِ مِنْ الطّائِفِ، فَقَدِمُوا بِهِ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ اسْتَحَلّ مُحَمّدٌ الشّهْرَ الْحَرَامَ، فَقَدْ أَصَابَ الدّمَ وَالْمَالَ، وَقَدْ كَانَ يُحَرّمُ ذَلِكَ وَيُعَظّمُهُ. فَقَالَ مَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ: إنّمَا أَصَبْتُمْ فِي لَيْلَةٍ مِنْ شَعْبَانَ. وَأَقْبَلَ الْقَوْمُ بِالْعِيرِ، فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقّفَ الْعِيرَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، وَحَبَسَ الْأَسِيرَيْنِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا أَمَرْتُكُمْ بِالْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ: مَا أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا غَيْرِ الشّهْرِ الْحَرَامِ، إنّمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَحَسّسُوا [ (1) ] أَخْبَارَ قُرَيْشٍ. قَالُوا: وَسُقِطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، وَظَنّوا أَنْ قَدْ هَلَكُوا، وَأَعْظَمَ ذَلِكَ مَنْ قَدِمُوا عَلَيْهِ، فَعَنّفُوهُمْ وَلَامُوهُمْ، وَالْمَدِينَةُ تَفُورُ فَوْرَ الْمِرْجَلِ. وَقَالَتْ الْيَهُودُ: عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيّ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التّمِيمِيّ، عَمْرٌو عَمُرَتْ الْحَرْبُ، وَالْحَضْرَمِيّ حَضَرَتْ الْحَرْبُ، وَوَاقِدٌ وَقَدَتْ الْحَرْبُ! قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: قَدْ تَفَاءَلُوا بِذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ اللهِ عَلَى يَهُودَ. قَالُوا: وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَصْحَابِهِمْ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ نَفْدِيَهُمَا حَتّى يَقْدُمَ صَاحِبَانَا ! يَعْنِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ. فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمّدٍ، عن أبيه قال، قال سعد ابن أَبِي وَقّاصٍ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جحش حتى ننزل ببحران- وبحران
نَاحِيَةُ مَعْدِنِ بَنِي سُلَيْمٍ- فَأَرْسَلْنَا أَبَاعِرَنَا، وَكُنّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، كُلّ اثْنَيْنِ يَتَعَاقَبَانِ بَعِيرًا. فَكُنْت زَمِيلَ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ وَكَانَ الْبَعِيرُ لَهُ، فَضَلّ بَعِيرُنَا، وَأَقَمْنَا عَلَيْهِ يَوْمَيْنِ نَبْغِيهِ. وَمَضَى أَصْحَابُنَا وَخَرَجْنَا فِي آثَارِهِمْ فَأَخْطَأْنَاهُمْ، فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ قَبْلَنَا بِأَيّامٍ، وَلَمْ نَشْهَدْ نَخْلَةَ، فَقَدِمْنَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّا قَدْ أَصَبْنَا، وَلَقَدْ أَصَابَنَا فِي سَفَرِنَا مَجَاعَةٌ، لَقَدْ خَرَجْنَا مِنْ الْمَلِيحَةِ وَبَيْنَ الْمَلِيحَةِ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سِتّةُ بُرُدٍ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعْدِنِ لَيْلَةٌ- بَيْنَ مَعْدِنِ بَنِي سُلَيْمٍ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ. قَالَ: لَقَدْ خَرَجْنَا مِنْ الْمَلِيحَةِ نَوْبَةً [ (1) ] ، وَمَا مَعَنَا ذَوّاقٌ حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. قَالَ قَائِلٌ: أَبَا إسْحَاقَ، كَمْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: ثَلَاثٌ، كُنّا إذَا بَلَغَ مِنّا أَكَلْنَا الْعِضَاهَ وَشَرِبْنَا عَلَيْهِ الْمَاءَ، حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَجِدُ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ قَدِمُوا فِي فِدَاءِ أَصْحَابِهِمْ، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَادِيَهُمْ وَقَالَ: إنّي أَخَافُ عَلَى صَاحِبَيّ. فَلَمّا قَدِمْنَا فَادَاهُمْ [ (2) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: وَكَانَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ: إنْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَيّ قَتَلْت صَاحِبَيْكُمْ. وَكَانَ فِدَاؤُهُمَا أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً فِضّةً لِكُلّ وَاحِدٍ، وَالْأُوقِيّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْجَحْشِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ، قَالَ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ الْمِرْبَاعُ [ (3) ] ، فَلَمّا رَجَعَ عَبْدُ اللهِ بن جحش من نخلة خمّس مَا غَنِمَ، وَقَسَمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ سَائِرَ الْغَنَائِمِ، فكان
أَوّلَ خُمُسٍ خُمِسَ فِي الْإِسْلَامِ حَتّى نَزَلَ بَعْدُ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [ (1) ] . فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ [ (2) ] ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ غَنَائِمَ أَهْلِ نَخْلَةَ، وَمَضَى إلَى بَدْرٍ، حَتّى رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ فَقَسَمَهَا مَعَ غَنَائِمِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَأَعْطَى كُلّ قَوْمٍ حقّهم. قالوا: ونزل القرآن يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [ (3) ] ، فَحَدّثَهُمْ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَنّ الْقِتَالَ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَ، وَأَنّ الّذِي يَسْتَحِلّونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ صَدّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ حَتّى يُعَذّبُوهُمْ وَيَحْبِسُوهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُفْرِهِمْ بِاَللهِ وَصَدّهِمْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ، وَفِتْنَتِهِمْ إيّاهُمْ عَنْ الدّينِ، وَيَقُولُ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [ (4) ] . قَالَ: عَنَى بِهِ إِسَافَ وَنَائِلَةَ [ (5) ] . فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: فَوَدَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيّ، وَحَرّمَ الشّهْرَ الْحَرَامَ كَمَا كَانَ يُحَرّمُهُ، حَتّى أَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ بَرَاءَةٌ. فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبّاسٍ: هَلْ وَدَى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
بدر القتال
ابْنَ الْحَضْرَمِيّ؟ قَالَ: لَا. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنّهُ لَمْ يُودَ. وَفِي تِلْكَ السّرِيّةِ سُمّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَدّثَنِي بِذَلِكَ أَبُو مَعْشَرٍ. تَسْمِيَةُ مَنْ خَرَجَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ فِي سَرِيّتِهِ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التّميمىّ، وعكّاشة بن محصن، وخالد ابن أَبِي الْبَكِيرِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَلَمْ يَشْهَدَا [ (1) ] الْوَاقِعَةَ. وَيُقَالُ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، وَيُقَالُ كَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالثّابِتُ عندنا ثمانية. بدر القتال قالوا: وَلَمّا تَحَيّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصِرَافَ الْعِيرِ مِنْ الشّامِ، نَدَبَ أَصْحَابَهُ لِلْعِيرِ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ بِعَشْرِ لَيَالٍ، يَتَحَسّسَانِ [ (2) ] خَبَرَ الْعِيرِ، حَتّى نَزَلَا عَلَى كَشَدٍ الْجُهَنِيّ بِالنّخْبَارِ مِنْ الْحَوْرَاءِ- وَالنّخْبَارُ مِنْ وَرَاءِ ذِي الْمَرْوَةِ عَلَى السّاحِلِ- فَأَجَارَهُمَا، وَأَنْزَلَهُمَا، وَلَمْ يَزَالَا مُقِيمَيْنِ عِنْدَهُ فِي خِبَاءٍ [ (3) ] حَتّى مَرّتْ الْعِيرُ، فَرَفَعَ طَلْحَةُ وَسَعِيدٌ عَلَى نَشَزٍ مِنْ الْأَرْضِ، فَنَظَرَا إلَى الْقَوْمِ، وَإِلَى مَا تَحْمِلُ الْعِيرُ، وَجَعَلَ أَهْلُ الْعِيرِ يَقُولُونَ: يَا كَشَدُ،
هَلْ رَأَيْت أَحَدًا مِنْ عُيُونِ مُحَمّدٍ؟ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاَللهِ، وَأَنّى عُيُونُ مُحَمّدٍ بِالنّخْبَارِ؟ فَلَمّا رَاحَتْ الْعِيرُ بَاتَا حَتّى أَصْبَحَا ثُمّ خَرَجَا، وَخَرَجَ مَعَهُمَا كَشَدٌ خَفِيرًا، حَتّى أَوْرَدَهُمَا ذَا الْمَرْوَةِ. وَسَاحَلَتْ الْعِيرُ فَأَسْرَعَتْ، وَسَارُوا اللّيْلَ وَالنّهَارَ فَرَقًا مِنْ الطّلَبِ. فَقَدِمَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ وَسَعِيدٌ الْمَدِينَةَ الْيَوْمَ الّذِي لَاقَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ، فَخَرَجَا يَعْتَرِضَانِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَاهُ بِتُرْبَانَ- وَتُرْبَانُ بَيْنَ مَلَلٍ وَالسّيَالَةِ [ (1) ] عَلَى الْمَحَجّةِ، وَكَانَتْ مَنْزِلَ ابْنِ أُذَيْنَةَ الشّاعِرِ. وَقَدِمَ كَشَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعِيدٌ وَطَلْحَةُ إجَارَتَهُ إيّاهُمَا، فَحَيّاهُ [ (2) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْرَمَهُ وَقَالَ: أَلَا أَقْطَعُ لَك يَنْبُعَ؟ [ (3) ] فَقَالَ: إنّي كَبِيرٌ وَقَدْ نَفِدَ عُمْرِي، وَلَكِنْ أَقْطِعْهَا لِابْنِ أَخِي. فَقَطَعَهَا لَهُ قَالُوا: وَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ: وَهَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، لَعَلّ اللهَ يُغْنِمكُمُوهَا. فَأَسْرَعَ مَنْ أَسْرَعَ، حَتّى إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيُسَاهِمُ أَبَاهُ فِي الْخُرُوجِ، فَكَانَ مِمّنْ سَاهَمَ سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ وَأَبُوهُ فِي الْخُرُوجِ إلَى بَدْرٍ، فَقَالَ سَعْدٌ لِأَبِيهِ: إنّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْجَنّةِ آثَرْتُك بِهِ، إنّي لَأَرْجُو الشّهَادَةَ فِي وَجْهِي هَذَا! فَقَالَ خَيْثَمَةُ: آثِرْنِي، وَقِرْ مَعَ نِسَائِك! فَأَبَى سَعْدٌ، فَقَالَ خَيْثَمَةُ: إنّهُ لَا بُدّ لِأَحَدِنَا مِنْ أَنْ يُقِيمَ. فَاسْتَهَمَا، فَخَرَجَ سهم سعد قتل بِبَدْرٍ. وَأَبْطَأَ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بشر كثير من أصحابه، كرهوا
خُرُوجَهُ، وَكَانَ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاخْتِلَافٌ. وَكَانَ مَنْ تَخَلّفَ لَمْ يُلَمْ لِأَنّهُمْ مَا خَرَجُوا عَلَى قِتَالٍ، وَإِنّمَا خَرَجُوا لِلْعِيرِ. وَتَخَلّفَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ نِيّاتِ وَبَصَائِرَ، لَوْ ظَنّوا أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ مَا تَخَلّفُوا. وَكَانَ مِمّنْ تَخَلّفَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أُسَيْدُ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَرّك وَأَظْهَرَك عَلَى عَدُوّك! وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، مَا تَخَلّفْت عَنْك رَغْبَةً بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِك، وَلَا ظَنَنْت أَنّك تُلَاقِي عَدُوّا، وَلَا ظَنَنْت إلّا أَنّهَا الْعِيرُ. فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صَدَقْت! وَكَانَتْ أَوّلَ غَزْوَةٍ أَعَزّ اللهُ فِيهَا الْإِسْلَامَ، وَأَذَلّ فِيهَا أَهْلَ الشّرْكِ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ مَعَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى نَقْبِ بَنِي دِينَارٍ، ثُمّ نَزَلَ بِالْبُقْعِ وَهِيَ بُيُوتُ السّقْيَا- الْبُقْعُ نَقْبُ بَنِي دِينَارٍ بِالْمَدِينَةِ، وَالسّقْيَا مُتّصِلٌ بِبُيُوتِ الْمَدِينَةِ- يَوْمَ الْأَحَدِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. فَضَرَبَ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ، وَعَرَضَ الْمُقَاتِلَةَ، فَعَرَضَ عَبْدُ الله بن عمر، وأسامة ابن زَيْدٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ ظَهِيرٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَرَدّهُمْ وَلَمْ يُجِزْهُمْ. فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْت أَخِي عُمَيْرَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَارَى، فَقُلْت: مَا لَك يَا أَخِي؟ قَالَ: إنّي أَخَافُ أَنْ يَرَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَصْغِرَنِي فَيَرُدّنِي، وَأَنَا أُحِبّ الْخُرُوجَ، لَعَلّ اللهَ يَرْزُقُنِي الشّهَادَةَ. قَالَ: فَعُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَصْغَرَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ! فَبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَكَانَ سَعْدٌ يَقُولُ: كُنْت أَعْقِدُ لَهُ حَمَائِلَ سَيْفِهِ مِنْ صِغَرِهِ، فَقُتِلَ بِبَدْرٍ وَهُوَ ابْنُ سِتّ عَشْرَةَ سنة.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدّثَنِي عَيّاشُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْأَشْجَعِيّ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ بِئْرِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَاءِ بِئْرِهِمْ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوّلَ مَنْ شَرِبَ مِنْ بِئْرِهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ. حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ مِنْ بُيُوتِ السّقْيَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى عِنْدَ بُيُوتِ السّقْيَا [ (1) ] ، وَدَعَا يَوْمَئِذٍ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: اللهُمّ، إنّ إبْرَاهِيمَ عَبْدُك وَخَلِيلُك وَنَبِيّك، دَعَاك لِأَهْلِ مَكّةَ! وَإِنّي مُحَمّدٌ عَبْدُك وَنَبِيّك، أَدْعُوَك لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدّهِمْ وَثِمَارِهِمْ! اللهُمّ، حَبّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ، وَاجْعَلْ مَا بِهَا مِنْ الْوَبَاءِ بِخُمّ، اللهُمّ، إنّي قَدْ حَرّمْت مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَمَا حَرّمَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُك مَكّةَ! وَخُمّ عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْجُحْفَةِ. قَالُوا: وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ وَبَسْبَسُ [ (2) ] بْنُ عَمْرٍو مِنْ بُيُوتِ السّقْيَا. قَالُوا: وَجَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ [ (3) ] إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فقال: يا رسول الله،
لَقَدْ سَرّنِي مَنْزِلُك هَذَا، وَعَرْضُك فِيهِ أَصْحَابَك، وَتَفَاءَلْت بِهِ، إنّ هَذَا مَنْزِلُنَا- بَنِي سَلَمَةَ- حَيْثُ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ حُسَيْكَةَ مَا كَانَ- حُسَيْكَةُ الذّبَابِ [ (1) ] ، وَالذّبَابُ جَبَلٌ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، كَانَ بِحُسَيْكَةَ يَهُودَ، وَكَانَ لَهُمْ بِهَا مَنَازِلُ كثيرة- فعرضنا ها هنا أَصْحَابَنَا، فَأَجَزْنَا مَنْ كَانَ يُطِيقُ السّلَاحَ وَرَدَدْنَا مَنْ صَغُرَ عَنْ حَمْلِ السّلَاحِ، ثُمّ سِرْنَا إلَى يَهُودِ حُسَيْكَةَ، وَهُمْ أَعَزّ يَهُودَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ، فَقَتَلْنَاهُمْ كَيْفَ شِئْنَا، فَذَلّتْ لَنَا سَائِرُ يهود إلى اليوم، وأنا أرجوا يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ نَلْتَقِيَ نَحْنُ وَقُرَيْش، فَيُقِرّ اللهُ عَيْنَك مِنْهُمْ. وَكَانَ خَلّادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ يَقُولُ: لَمّا كَانَ مِنْ النّهَارِ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بِخُرْبَى [ (2) ] ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ: مَا ظَنَنْت إلّا أَنّكُمْ قَدْ سِرْتُمْ! فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ النّاسَ بِالْبُقْعِ [ (3) ] . قَالَ عَمْرٌو: نِعْمَ الْفَأْلُ، وَاَللهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ تَغْنَمُوا وَأَنْ تَظْفَرُوا بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ! إنّ هَذَا مَنْزِلُنَا يَوْمَ سِرْنَا إلَى حُسَيْكَةَ. قَالَ: فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَيّرَ اسْمَهُ، وَسَمّاهُ السّقْيَا. قَالَ: فَكَانَتْ فِي نَفْسِي أَنْ أَشْتَرِيَهَا، حَتّى اشْتَرَاهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ بِبِكْرَيْنِ، وَيُقَالُ بِسَبْعِ أَوَاقٍ. قَالَ: فَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ سَعْدًا اشْتَرَاهَا، فَقَالَ: رَبِحَ الْبَيْعُ ! قَالُوا: وَرَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشية الأحد من بيوت السّقيا، لاثنى عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وهم ثلاثمائة وَخَمْسَةٍ، وَثَمَانِيَةٌ تَخَلّفُوا فَضَرَبَ لَهُمْ بِسِهَامِهِمْ وَأُجُورِهِمْ. وكانت الإبل سبعين بعيرا،
وَكَانُوا يَتَعَاقَبُونَ الْإِبِلَ، الِاثْنَيْنِ، وَالثّلَاثَةَ، وَالْأَرْبَعَةَ. فَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَمَرْثَدٌ- وَيُقَالُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَكَانَ مَرْثَدٍ- يَتَعَاقَبُونَ بَعِيرًا وَاحِدًا. وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو كَبْشَةَ، وَأَنَسَةُ مَوْلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرٍ. وَكَانَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالطّفَيْلُ، وَالْحُصَيْنُ، ابْنَا الْحَارِثِ، وَمِسْطَحُ بْنُ أَثَاثَةَ عَلَى بَعِيرٍ لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ نَاضِحٍ، ابْتَاعَهُ مِنْ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ الْمَازِنِيّ. وَكَانَ مُعَاذٌ، وَعَوْفٌ، وَمُعَوّذٌ، بَنُو عَفْرَاءَ، وَمَوْلَاهُمْ أَبُو الْحَمْرَاءِ عَلَى بَعِيرٍ، وَكَانَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ وَحَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ عَلَى بَعِيرٍ وَكَانَ خِرَاشُ بْنُ الصّمّةَ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ [ (1) ] عَلَى بَعِيرٍ، وَكَانَ عتبة بن غزوان، وطليب ابن عُمَيْرٍ عَلَى جَمَلٍ لِعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، يُقَالُ له العبيس [ (2) ] . وكان مصعب ابن عُمَيْرٍ، وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَمَسْعُودُ بْنُ رَبِيعٍ عَلَى جَمَلٍ لِمُصْعَبٍ، وَكَانَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى بَعِيرٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ، وَسَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى جَمَلٍ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَ عُثْمَانُ، وَقُدَامَةُ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَظْعُونٍ، وَالسّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ، عَلَى بَعِيرٍ يَتَعَاقَبُونَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ على بعير، وكان سعد ابن مُعَاذٍ، وَأَخُوهُ، وَابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَنَسٍ، عَلَى جَمَلٍ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ نَاضِحٍ، يُقَالُ لَهُ الذّيّالُ، وَكَانَ سَعْدُ بن زيد، وسلمة ابن سَلَامَةَ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَرَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، وَالْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ عَلَى نَاضِحٍ لِسَعْدِ بْنِ زَيْدٍ، مَا تَزَوّدَ إلّا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
فَحَدّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْت مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَدْرٍ، وَكَانَ كُلّ ثَلَاثَةٍ يَتَعَاقَبُونَ بَعِيرًا، فَكُنْت أَنَا وَأَخِي خَلّادُ بْنُ رَافِعٍ عَلَى بَكْرٍ لَنَا، وَمَعَنَا عبيد بن زيد ابن عَامِرٍ، فَكُنّا نَتَعَاقَبُ. فَسِرْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِالرّوْحَاءِ [ (1) ] ، أَذَمّ [ (2) ] بِنَا بَكْرُنَا، فَبَرَكَ عَلَيْنَا، وَأَعْيَا، فَقَالَ أَخِي: اللهُمّ، إنّ لَك عَلَيّ نَذْرًا، لَئِنْ رَدَدْتنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَأَنْحَرَنهُ. قَالَ: فَمَرّ بِنَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، بَرَكَ عَلَيْنَا بَكْرُنَا. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ، فَتَمَضْمَضَ وَتَوَضّأَ فِي إنَاءٍ، ثُمّ قَالَ: افْتَحَا فَاهُ! فَفَعَلْنَا، ثُمّ صَبّهُ فِي فِيهِ، ثُمّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمّ عَلَى عُنُقِهِ، ثُمّ عَلَى حَارِكِهِ [ (3) ] ، ثُمّ عَلَى سَنَامِهِ، ثُمّ عَلَى عَجُزِهِ، ثُمّ عَلَى ذَنَبِهِ، ثُمّ قَالَ: ارْكَبَا! وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَحِقْنَاهُ أَسْفَلَ الْمُنْصَرَفِ [ (4) ] وَإِنّ بَكْرَنَا لَيَنْفِرُ بِنَا، حَتّى إذَا كُنّا بِالْمُصَلّى [ (5) ] رَاجِعِينَ مِنْ بَدْرٍ بَرَكَ عَلَيْنَا، فَنَحَرَهُ أَخِي، فَقَسّمَ لَحْمَهُ وَتَصَدّقَ بِهِ. وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَمَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فِي بَدْرٍ عَلَى عِشْرِينَ جَمَلًا. فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سعد بن أبى وقاص،
قَالَ: خَرَجْنَا إلَى بَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا سَبْعُونَ بَعِيرًا، فَكَانُوا يَتَعَاقَبُونَ، الثّلَاثَةُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَالِاثْنَانِ، عَلَى بَعِيرٍ. وَكُنْت أَنَا مِنْ أَعْظَمِ أَصْحَابِ النّبِيّ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ عَنْهُ غِنَاءً، أَرْجَلَهُمْ رُجْلَةً، وَأَرْمَاهُمْ بِسَهْمٍ، لَمْ أَرْكَبْ خُطْوَةً ذَاهِبًا وَلَا رَاجِعًا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ فَصَلَ مِنْ بُيُوتِ السّقْيَا: اللهُمّ، إنّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، وَعُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ، وَجِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ، وَعَالَةٌ فَأَغْنِهِمْ مِنْ فَضْلِك! قَالَ: فَمَا رَجَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ إلّا وَجَدَ ظَهْرًا، لِلرّجُلِ الْبَعِيرُ وَالْبَعِيرَانِ، وَاكْتَسَى مَنْ كَانَ عَارِيًا، وَأَصَابُوا طَعَامًا مِنْ أَزْوَادِهِمْ، وَأَصَابُوا فِدَاءَ الْأَسْرَى فَأَغْنَى بِهِ كُلّ عَائِلٍ. وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُشَاةِ قَيْسَ بن أبي صعصعة- واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد ابن عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ- وَأَمَرَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَصَلَ مِنْ بُيُوتِ السّقْيَا أَنْ يَعُدّ الْمُسْلِمِينَ. فَوَقَفَ لَهُمْ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ [ (1) ] فَعَدّهُمْ، ثُمّ أَخْبَرَ النّبِيّ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بُيُوتِ السّقْيَا حَتّى سَلَكَ بَطْنَ الْعَقِيقِ، ثُمّ سَلَكَ طَرِيقَ الْمُكْتَمِنِ [ (2) ] حَتّى خَرَجَ عَلَى بَطْحَاءِ ابْنِ أَزْهَرَ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ هُنَاكَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى حِجَارٍ، فَبَنَى تَحْتَهَا مَسْجِدًا، فَصَلّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَصْبَحَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَهُوَ هُنَاكَ، وَأَصْبَحَ بِبَطْنِ مَلَلٍ وَتُرْبَانَ، بَيْنَ الْحَفِيرَةِ وَمَلَلٍ. وَقَالَ سَعْدُ بن أبى وقّاص: لمّا كان بِتُرْبَانَ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَعْدُ، اُنْظُرْ إلَى الظّبْيِ. قال: فأفوّق له بسهم،
وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَضَعَ ذَقَنَهُ [ (1) ] بَيْنَ مَنْكِبَيّ وَأُذُنَيّ، ثُمّ قَالَ: ارْمِ، اللهُمّ سَدّدْ رَمْيَتَهُ! قَالَ: فَمَا أَخْطَأَ سَهْمِي عَنْ نَحْرِهِ. قَالَ: فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَخَرَجْت أَعْدُو، فَأَجِدُهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَذَكّيْته فَحَمَلْنَاهُ حَتّى نَزَلْنَا قَرِيبًا، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُسِمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمّدُ بْنُ بِجَادٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ. قَالُوا: وَكَانَ مَعَهُمْ فَرَسَانِ، فَرَسٌ لِمَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ، وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ. وَيُقَالُ فَرَسٌ لِلزّبَيْرِ. وَلَمْ يَكُنْ إلّا فَرَسَانِ، وَلَا اخْتِلَافَ عِنْدَنَا أَنّ الْمِقْدَادَ لَهُ فَرَسٌ. حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ ضِبَاعَةَ بِنْتِ الزّبَيْرِ، عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَانَ مَعِي فَرَسٌ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَالُ لَهُ سَبْحَةُ. وَحَدّثَنِي سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الْغَنَوِيّ، عَنْ آبَائِهِ، قَالَ: شَهِدَ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ يَوْمَئِذٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، يُقَالُ لَهُ السّيْلُ. قَالُوا: وَلَحِقَتْ قُرَيْشٌ بِالشّامِ فِي عِيرِهَا، وَكَانَتْ الْعِيرُ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَكَانَتْ فِيهَا أَمْوَالٌ عِظَامٌ، وَلَمْ يَبْقَ بِمَكّةَ قُرَشِيّ وَلَا قُرَشِيّةٌ لَهُ مِثْقَالٌ فَصَاعِدًا، إلّا بَعَثَ بِهِ فِي الْعِيرِ، حَتّى إنّ الْمَرْأَةَ لَتَبْعَثُ بِالشّيْءِ التّافِهِ. فَكَانَ يُقَالُ: إنّ فِيهَا لَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَالُوا أَقَلّ، وَإِنْ كَانَ لَيُقَالُ إنّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَالِ لِآلِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ- أَبِي أُحَيْحَةَ- إمّا مَالٌ لَهُمْ، أَوْ مَالٌ مَعَ قَوْمٍ قِرَاضٌ عَلَى النّصْفِ، فَكَانَتْ عَامّةُ الْعِيرِ لَهُمْ. وَيُقَالُ كَانَ لِبَنِي مَخْزُومٍ فِيهَا مِائَتَا بَعِيرٍ، و [خَمْسَةٌ أَوْ] [ (2) ] أَرْبَعَةُ آلَافِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ، وَكَانَ يُقَالُ لِلْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ فِيهَا أَلْفُ مِثْقَالٍ، وَكَانَ لِأُمَيّةَ بن خلف ألفا مثقال.
فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحُوَيْرِثِ قال: كان لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ فِيهَا عَشْرَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ، وَكَانَ مَتْجَرُهُمْ إلَى غَزّةَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، وَكَانَتْ عِيرَاتُ بُطُونِ قُرَيْشٍ فِيهَا- يَعْنِي الْعِيرَ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي عون مولى المسور، عن مخرمة ابن نَوْفَلٍ، قَالَ: لَمّا لَحِقْنَا بِالشّامِ أَدْرَكَنَا رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ، فَأَخْبَرَنَا أَنّ مُحَمّدًا كَانَ عَرَضَ لِعِيرِنَا فِي بَدْأَتِنَا، وَأَنّهُ تَرَكَهُ مُقِيمًا يَنْتَظِرُ رَجْعَتَنَا، قَدْ حَالَفَ عَلَيْنَا أَهْلَ الطّرِيقِ وَوَادَعَهُمْ. قَالَ مَخْرَمَةُ: فَخَرَجْنَا خَائِفِينَ نَخَافُ الرّصَدَ، فَبَعَثْنَا ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو حِينَ فَصَلْنَا مِنْ الشّامِ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا كُنّا بِالزّرْقَاءِ- وَالزّرْقَاءُ بِالشّامِ بِنَاحِيَةِ مَعَانَ مِنْ أَذْرِعَاتٍ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ- وَنَحْنُ مُنْحَدِرُونَ إلَى مَكّةَ، لقينا رجلا مِنْ جُذَامٍ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ عَرَضَ مُحَمّدٌ لَكُمْ فِي بَدْأَتِكُمْ فِي أَصْحَابِهِ. فَقُلْنَا: مَا شَعَرْنَا! قَالَ: بَلَى، فَأَقَامَ شَهْرًا ثُمّ رَجَعَ إلَى يَثْرِبَ، وَأَنْتُمْ يَوْمَ عَرَضَ مُحَمّدٌ لَكُمْ مُخْفُونَ، فَهُوَ الْآنَ أَحْرَى أَنْ يَعْرِضَ لَكُمْ، إنّمَا يَعُدّ لَكُمْ الْأَيّامَ عَدّا، فَاحْذَرُوا عَلَى عيركم وارتأوا آراءكم، فو الله مَا أَرَى مِنْ عَدَدٍ، وَلَا كُرَاعَ، وَلَا حَلْقَةٍ. فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، فَبَعَثُوا ضَمْضَمًا، وَكَانَ فِي الْعِيرِ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ مَرّتْ بِهِ وَهُوَ بِالسّاحِلِ مَعَ بُكْرَانِ لَهُ، فَاسْتَأْجَرُوهُ بِعِشْرِينَ مِثْقَالًا. وَأَمَرَهُ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يُخْبِرَ قُرَيْشًا أَنّ مُحَمّدًا قَدْ عَرَضَ لِعِيرِهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْدَعَ [ (1) ] بَعِيرَهُ إذَا دَخَلَ، وَيُحَوّلَ رَحْلَهُ، وَيَشُقّ قَمِيصَهُ مِنْ قُبُلِهِ وَدُبُرِهِ وَيَصِيحَ: الْغَوْثَ! الْغَوْثَ! وَيُقَالُ إنّمَا بَعَثُوهُ مِنْ تَبُوكَ [ (2) ] . وَكَانَ فِي الْعِيرِ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ العاص، ومخرمة بن نوفل.
قَالُوا: وَقَدْ رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَبْلَ [ (1) ] ضَمْضَمَ بْنِ عَمْرٍو رُؤْيَا رَأَتْهَا فَأَفْزَعَتْهَا، وَعَظُمَتْ فِي صَدْرِهَا. فَأَرْسَلَتْ إلَى أَخِيهَا الْعَبّاسِ فَقَالَتْ: يَا أَخِي، قَدْ رَأَيْت وَاَللهِ رُؤْيَا اللّيْلَةَ أَفْظَعْتهَا، وَتَخَوّفْت أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِك مِنْهَا شَرّ وَمُصِيبَةٌ، فَاكْتُمْ عَلَيّ أُحَدّثْك مِنْهَا. قَالَتْ: رَأَيْت رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ حَتّى وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ، ثُمّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا آلَ غُدَرَ [ (2) ] ، انْفِرُوا إلَى مَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ! فَصَرَخَ بِهَا ثَلَاثَ مَرّاتٍ، فَأَرَى النّاسَ اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، ثُمّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنّاسُ يَتْبَعُونَهُ إذْ مَثَلَ بِهِ [ (3) ] بَعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا ثَلَاثًا، ثُمّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ، ثُمّ صَرَخَ بِمِثْلِهَا ثَلَاثًا. ثُمّ أَخَذَ صَخْرَةً مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ فَأَرْسَلَهَا، فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي حَتّى إذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضّتْ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكّةَ، وَلَا دَارٌ مِنْ دُورِ مَكّةَ، إلّا دَخَلَتْهُ مِنْهَا فِلْذَةٌ. فَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُحَدّثُ فَيَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْت كُلّ هَذَا، وَلَقَدْ رَأَيْت فِي دَارِنَا فِلْقَةً مِنْ الصّخْرَةِ الّتِي انْفَلَقَتْ مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ، فَلَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عِبْرَةً، وَلَكِنّ اللهَ لَمْ يُرِدْ أَنْ نُسْلِمَ يَوْمَئِذٍ لَكِنّهُ أَخّرَ إسْلَامَنَا إلَى مَا أَرَادَ. قَالُوا: وَلَمْ يَدْخُلْ دَارًا وَلَا بَيْتًا مِنْ دُورِ بَنِي هَاشِمٍ وَلَا بَنِي زُهْرَةَ مِنْ تِلْكَ الصّخْرَةِ شَيْءٌ. قَالُوا: فَقَالَ أَخُوهَا: إنّ هَذِهِ لَرُؤْيَا! فَخَرَجَ مُغْتَمّا حَتّى لَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، فَذَكَرَهَا لَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ، فَفَشَا الْحَدِيثُ فِي النّاسِ. قَالَ [ (4) ] : فَغَدَوْت أَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ فِي رَهْطٍ
مِنْ قُرَيْشٍ يَتَحَدّثُونَ قُعُودًا بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَا رَأَتْ عَاتِكَةُ هَذِهِ! فَقُلْت: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ يَتَنَبّأَ رِجَالُكُمْ حَتّى تَتَنَبّأَ نِسَاؤُكُمْ؟ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ أَنّهَا رَأَتْ فِي الْمَنَامِ كَذَا وَكَذَا- الّذِي رَأَتْ- فَسَنَتَرَبّصُ بِكُمْ ثَلَاثًا، فَإِنْ يَكُ مَا قَالَتْ حَقّا فَسَيَكُونُ، وَإِنْ مَضَتْ الثّلَاثُ وَلَمْ يَكُنْ نَكْتُبْ [ (1) ] عَلَيْكُمْ أَنّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ. فَقَالَ: يَا مُصَفّرَ اسْتِهِ، أَنْتَ أَوْلَى بِالْكَذِبِ وَاللّؤْمِ مِنّا! قَالَ أَبُو جَهْلٍ: إنّا اسْتَبَقْنَا الْمَجْدَ وَأَنْتُمْ فَقُلْتُمْ: فِينَا السّقَايَةُ! فَقُلْنَا: لَا نُبَالِي، تَسْقُونَ الْحَاجّ! ثُمّ قُلْتُمْ: فِينَا الْحِجَابَةُ! فَقُلْنَا: لَا نُبَالِي، تَحْجُبُونَ الْبَيْتَ! ثُمّ قُلْتُمْ: فِينَا النّدْوَةُ! فَقُلْنَا: لَا نُبَالِي، تَلُونَ الطّعَامَ وَتُطْعِمُونَ النّاسَ، ثُمّ قُلْتُمْ: فِينَا الرّفَادَةُ! فَقُلْنَا: لَا نُبَالِي، تَجْمَعُونَ عِنْدَكُمْ مَا تَرْفِدُونَ بِهِ الضّعِيفَ! فَلَمّا أَطْعَمْنَا النّاسَ وَأَطْعَمْتُمْ، وَازْدَحَمَتْ الرّكْبُ، وَاسْتَبَقْنَا الْمَجْدَ، فَكُنّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قُلْتُمْ: مِنّا نَبِيّ! ثُمّ قلتم: منا نبيّة! فلا واللّات والعزى، لا كان هذا أبدا! قال: فو الله، مَا كَانَ مِنّي مِنْ غِيَرٍ إلّا [ (2) ] أَنّي جَحَدْت ذَلِكَ، وَأَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ عَاتِكَةُ رَأَتْ شَيْئًا. فَلَمّا أَمْسَيْت لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ أَصَابَتْهَا وِلَادَةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ إلّا جَاءَتْ، فَقُلْنَ: رَضِيتُمْ بِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ يَقَعُ فِي رِجَالِكُمْ، ثُمّ قَدْ تَنَاوَلَ نِسَاءَكُمْ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، وَلَمْ يَكُنْ لَك عِنْدَ ذَلِكَ غَيْرَةٌ؟ قَالَ: وَاَللهِ مَا فَعَلْت إلّا مَا لَا بَالَ [ (3) ] بِهِ. وَاَللهِ لَأَعْتَرِضَن لَهُ غَدًا، فَإِنْ عَادَ لَأَكْفِيكُمُوهُ. فَلَمّا أَصْبَحُوا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ الّذِي رَأَتْ فِيهِ عَاتِكَةُ مَا رَأَتْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا يَوْمٌ! ثُمّ الْغَدُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَانِ يَوْمَانِ! فَلَمّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثّالِثِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَيّامٍ، مَا بَقِيَ!
قَالَ: وَغَدَوْت فِي الْيَوْمِ الثّالِثِ وَأَنَا حَدِيدٌ مُغْضَبٌ، أَرَى أَنْ قَدْ فَاتَنِي مِنْهُ أَمْرٌ أُحِبّ أَنْ أُدْرِكَهُ، وَأَذْكُرَ مَا أَحْفَظَتْنِي النّسَاءُ به من مقالتهنّ لى ما قلن، فو الله إنّي لَأَمْشِي نَحْوَهُ- وَكَانَ رَجُلًا خَفِيفًا، حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ اللّسَانِ، حَدِيدَ النّظَرِ- إذْ خَرَجَ نَحْوَ بَابِ بَنِي سَهْمٍ يَشْتَدّ، فَقُلْت: مَا بَالُهُ، لَعَنَهُ اللهُ؟ أَكُلّ هَذَا فَرْقًا مِنْ أَنْ أُشَاتِمَهُ؟ فَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ صَوْتَ ضمضم ابن عَمْرٍو وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، يَا آلَ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ، اللّطِيمَةَ، قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمّدٌ فِي أَصْحَابِهِ! الْغَوْثَ، الْغَوْثَ! وَاَللهِ، مَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا! وَضَمْضَمُ يُنَادِي بِذَلِكَ بِبَطْنِ الْوَادِي، قَدْ جَدَعَ أُذُنَيْ بَعِيرِهِ، وَشَقّ قَمِيصَهُ قُبُلًا وَدُبُرًا، وَحَوّلَ رَحْلَهُ. وَكَانَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتنِي قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكّةَ وَإِنّي لَأَرَى فِي النّوْمِ، وَأَنَا عَلَى رَاحِلَتِي، كَأَنّ وَادِيَ مَكّةَ يَسِيلُ مِنْ أَعْلَاهُ إلَى أَسْفَلِهِ دَمًا، فَاسْتَيْقَظْت فَزِعًا مَذْعُورًا، وَكَرِهْتهَا لِقُرَيْشٍ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنّهَا مُصِيبَةٌ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَكَانَ يُقَالُ: إنّ الّذِي نَادَى يَوْمَئِذٍ إبْلِيسُ، تَصَوّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ، فَسَبَقَ ضَمْضَمًا فَأَنْفَرَهُمْ إلَى عِيرِهِمْ، ثُمّ جَاءَ ضَمْضَمٌ بَعْدَهُ. فَكَانَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْت أَعْجَبَ مِنْ أَمْرِ ضَمْضَمٍ قَطّ، وَمَا صَرَخَ عَلَى لِسَانِهِ إلّا شَيْطَانٌ، إنّهُ لَمْ يُمَلّكْنَا مِنْ أُمُورِنَا شَيْئًا حَتّى نَفَرْنَا عَلَى الصّعْبِ وَالذّلُولِ. وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَقُولُ: مَا كَانَ الّذِي جَاءَنَا فَاسْتَنْفَرَنَا إلَى الْعِيرِ إنْسَانٌ، إنْ هُوَ إلّا شَيْطَانٌ! فَقِيلَ: كَيْفَ يَا أَبَا خَالِدٍ؟ فَقَالَ: إنّي لَأَعْجَبُ مِنْهُ، مَا مَلّكَنَا مِنْ أُمُورِنَا شَيْئًا! قَالُوا: وَتَجَهّزَ النّاسُ، وَشُغِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَكَانَ النّاسُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، إمّا خَارِجٍ، وَإِمّا بَاعِثٍ مَكَانَهُ رَجُلًا. فَأَشْفَقَتْ قُرَيْشٌ لِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، وَسُرّتْ بَنُو هَاشِمٍ. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: كَلَا، زَعَمْتُمْ أَنّا كَذَبْنَا وَكَذَبَتْ عَاتِكَةُ! فَأَقَامَتْ قُرَيْشٌ ثَلَاثَةً تَتَجَهّزُ، وَيُقَالُ يَوْمَيْنِ، وأخرجت قريش أسلحتها
وَاشْتَرَوْا سِلَاحًا، وَأَعَانَ قَوِيّهُمْ ضَعِيفَهُمْ. وَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمّدٌ وَالصّبَاةُ مَعَهُ مِنْ شُبّانِكُمْ، وَأَهْلُ يَثْرِبَ، قَدْ عَرَضُوا لِعِيرِكُمْ وَلَطِيمَةِ قُرَيْشٍ- وَاللّطِيمَةُ: التّجَارَةُ. قَالَ أَبُو الزّنَادِ: اللّطِيمَةُ جَمِيعُ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ لِلتّجَارَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: اللّطِيمَةُ الْعِطْرُ خَاصّةً- فَمَنْ أَرَادَ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرٌ، وَمَنْ أَرَادَ قُوّةً فَهَذِهِ قُوّةٌ. وقام زمعة بن الأسود فقال: إنه واللّات وَالْعُزّى، مَا نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، إنْ طَمِعَ مُحَمّدٌ وَأَهْلُ يَثْرِبَ أَنْ يَعْتَرِضُوا لِعِيرِكُمْ فِيهَا حَرَائِبُكُمْ [ (1) ] فَأَوْعِبُوا [ (2) ] ، وَلَا يَتَخَلّفْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ لَا قُوّةَ لَهُ فَهَذِهِ قُوّةٌ! وَاَللهِ، لَئِنْ أَصَابَهَا مُحَمّدٌ لَا يَرُوعُكُمْ بِهِمْ إلّا وَقَدْ دَخَلُوا عَلَيْكُمْ. وَقَالَ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّهُ وَاَللهِ مَا نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ أَجَلّ مِنْ هَذَا، أَنْ تُسْتَبَاحَ عِيرُكُمْ وَلَطِيمَةُ قُرَيْشٍ، فِيهَا أَمْوَالُكُمْ وَحَرَائِبُكُمْ [ (3) ] . وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَهُ نَشّ [ (4) ] فَصَاعِدًا إلّا وَهُوَ فِي هَذِهِ الْعِيرِ، فَمَنْ كَانَ لَا قُوّةَ بِهِ فَعِنْدَنَا قُوّةٌ، نَحْمِلُهُ وَنُقَوّيهِ. فَحَمَلَ عَلَى عِشْرِينَ بَعِيرًا، وَقَوّاهُمْ وَخَلَفَهُمْ فِي أَهْلِهِمْ بِمَعُونَةٍ. وَقَامَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَحَرّضَا [ (5) ] النّاسَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَمْ يَدْعُوَا إلَى قُوّةٍ وَلَا حُمْلَانٍ. فَقِيلَ لَهُمَا: أَلَا تَدْعُوَانِ إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ قَوْمُكُمَا مِنْ الْحُمْلَانِ؟ فَقَالَا: وَاَللهِ مَا لَنَا مَالٌ وَمَا الْمَالُ إلّا لِأَبِي سُفْيَانَ. وَمَشَى نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ [ (6) ] إلَى أهل القوّة
مِنْ قُرَيْشٍ، فَكَلّمَهُمْ فِي بَذْلِ النّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ لمن خرج، فكلّم عبد الله ابن أبى ربيعة فقال: هذ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، فَضَعْهَا حَيْثُ رَأَيْت. وَكَلّمَ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَتَيْ دِينَارٍ أو ثلاثمائة، ثم قوّى بها السّلَاحَ وَالظّهْرَ. قَالُوا: وَكَانَ لَا يَتَخَلّفُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلّا بَعَثَ مَكَانَهُ بَعِيثًا، فَمَشَتْ قُرَيْشٌ إلَى أَبِي لَهَبٍ فَقَالُوا: إنّك سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَإِنّك إنْ تَخَلّفْت عَنْ النّفِيرِ يَعْتَبِرُ بِك غَيْرُك مِنْ قَوْمِك، فَاخْرُجْ أو ابعث أحدا. فقال: واللّات وَالْعُزّى لَا أَخْرُجُ وَلَا أَبْعَثُ أَحَدًا! فَجَاءَهُ أبو جهل فقال: قم أبا عتبة، فو الله مَا خَرَجْنَا إلّا غَضَبًا لِدِينِك وَدِينِ آبَائِك! وَخَافَ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يُسْلِمَ أَبُو لَهَبٍ، فَسَكَتَ أَبُو لَهَبٍ فَلَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَبْعَثْ، وَمَا مَنَعَ أَبَا لَهَبٍ أَنْ يَخْرُجَ إلّا إشْفَاقٌ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَإِنّهُ كَانَ يَقُولُ: إنّمَا رُؤْيَا عَاتِكَةَ أَخْذٌ بِالْيَدِ. وَيُقَالُ إنّهُ بَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَالَ: اُخْرُجْ وَدَيْنِي لَك! فَخَرَجَ عَنْهُ. قَالُوا: وَأَخْرَجَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ دُرُوعًا لَهُمَا، وَنَظَرَ إلَيْهِمَا عَدّاسٌ [ (1) ] وَهُمَا يُصْلِحَانِ دُرُوعَهُمَا وَآلَةَ حَرْبِهِمَا، فَقَالَ: مَا تُرِيدَانِ؟ قَالَا: أَلَمْ تَرَ إلَى الرّجُلِ الّذِي أَرْسَلْنَاك إلَيْهِ بِالْعِنَبِ فِي كَرْمِنَا بِالطّائِفِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَا: نخرج فنقاتله. فبكى وقال: لا تخرجا، فو الله إنّهُ لَنَبِيّ! فَأَبَيَا فَخَرَجَا، وَخَرَجَ مَعَهُمَا فَقُتِلَ بِبَدْرٍ مَعَهُمَا. قَالُوا: وَاسْتَقْسَمَتْ قُرَيْشٌ بِالْأَزْلَامِ عِنْدَ هُبَلَ لِلْخُرُوجِ، فَاسْتَقْسَمَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ عِنْدَ هُبَلَ بِالْآمِرِ وَالنّاهِي، فَخَرَجَ الْقَدَحُ النّاهِي لِلْخُرُوجِ، فَأَجْمَعُوا الْمُقَامَ حَتّى أَزْعَجَهُمْ أَبُو جهل فقال: ما استقسمت
وَلَا نَتَخَلّفُ عَنْ عِيرِنَا! وَلَمّا تَوَجّهَ زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ خَارِجًا، وَكَانَ بِذِي طُوًى [ (1) ] ، أَخْرَجَ قِدَاحَهُ فَاسْتَقْسَمَ بِهَا، فَخَرَجَ النّاهِي لِلْخُرُوجِ، فَلَقِيَ غَيْظًا، ثُمّ أَعَادَهَا الثّانِيَةَ فَخَرَجَ مِثْلُ ذَلِكَ، فَكَسَرَهَا، وَقَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قِدَاحًا أَكْذَبَ مِنْ هَذِهِ! وَمَرّ بِهِ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاك غَضْبَانَ يَا أَبَا حُكَيْمَةَ؟ فَأَخْبَرَهُ زَمَعَةُ فَقَالَ: امْضِ عَنْك أَيّهَا الرّجُلُ، وَمَا أَكْذَبَ مِنْ هَذِهِ الْقِدَاحِ! قَدْ أَخْبَرَنِي عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ مِثْلَ الّذِي أَخْبَرْتنِي أَنّهُ لَقِيَهُ. ثُمّ مَضَيَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لِضَمْضَمٍ: إذَا قَدِمْت [ (2) ] عَلَى قُرَيْشٍ فَقُلْ لَهَا لَا تَسْتَقْسِمُوا [ (3) ] بِالْأَزْلَامِ. حَدّثَنِي محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: سَمِعْت حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ يَقُولُ: مَا وَجّهْت وَجْهًا قَطّ كَانَ أَكْرَهَ لِي مِنْ مَسِيرِي إلَى بَدْرٍ، وَلَا بَانَ لِي فِي وَجْهٍ قَطّ. مَا بَانَ لِي قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ. ثُمّ يَقُولُ: قَدِمَ ضَمْضَمٌ فَصَاحَ بِالنّفِيرِ، فَاسْتَقْسَمْت بِالْأَزْلَامِ، كُلّ ذَلِكَ يَخْرُجُ الّذِي أَكْرَهُ، ثُمّ خَرَجْت عَلَى ذَلِكَ حَتّى نَزَلْنَا مَرّ الظّهْرَانِ [ (4) ] . فَنَحَرَ ابْنُ الْحَنْظَلِيّةِ [ (5) ] جُزُرًا، فَكَانَتْ جَزُورٌ مِنْهَا بِهَا حَيَاةٌ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ إلّا أَصَابَهُ مِنْ دَمِهَا، فَكَانَ هَذَا بَيّنًا. ثُمّ هَمَمْت بِالرّجُوعِ، ثُمّ أَذْكُرُ ابْنَ الْحَنْظَلِيّةِ وَشُؤْمَهُ، فَيَرُدّنِي حَتّى مَضَيْت لِوَجْهِي.
فَكَانَ حَكِيمٌ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتنَا حِينَ بَلَغْنَا الثّنِيّةَ الْبَيْضَاءَ- وَالثّنِيّةُ الْبَيْضَاءُ الّتِي تُهْبِطُكَ عَلَى فَخّ وَأَنْتَ مُقْبِلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ- إذَا عَدّاسٌ جَالِسٌ عَلَيْهَا وَالنّاسُ يَمُرّونَ، إذْ مَرّ عَلَيْهِ ابْنَا رَبِيعَةَ، فَوَثَبَ إلَيْهِمَا فَأَخَذَ بِأَرْجُلِهِمَا فِي غَرْزِهِمَا، وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي وَأُمّي أَنْتُمَا، وَاَللهِ إنّهُ رَسُولُ اللهِ، وَمَا تُسَاقَانِ إلّا إلَى مَصَارِعِكُمَا! وَإِنّ عَيْنَيْهِ لَتَسِيلُ دُمُوعُهُمَا عَلَى خَدّيْهِ، فَأَرَدْت أَنْ أَرْجِعَ أَيْضًا، ثُمّ مَضَيْت، وَمَرّ بِهِ الْعَاصُ [ (1) ] بْنُ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ حِينَ وَلّى عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيك؟ فَقَالَ: يُبْكِينِي سَيّدَايَ وَسَيّدَا أَهْلِ الْوَادِي، يَخْرُجَانِ إلَى مَصَارِعِهِمَا، وَيُقَاتِلَانِ رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ الْعَاصُ: وَإِنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: فَانْتَفَضَ عَدّاسٌ انْتِفَاضَةً، وَاقْشَعَرّ جِلْدُهُ، ثُمّ بَكَى وَقَالَ: إي وَاَللهِ، إنّهُ لَرَسُولُ اللهِ إلَى النّاسِ كَافّةً. قَالَ: فَأَسْلَمَ الْعَاصُ بْنُ مُنَبّهٍ، ثُمّ مَضَى وَهُوَ عَلَى الشّكّ حَتّى قُتِلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شَكّ وَارْتِيَابٍ. وَيُقَالُ رَجَعَ عَدّاسٌ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَيُقَالُ شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ- وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. قَالُوا: وَخَرَجَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا [ (2) ] قَبْلَ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَتَنْزِلُ [ (3) ] هَذَا، وَقَدْ آوَى مُحَمّدًا وَآذَنّا بِالْحَرْبِ؟ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: قُلْ مَا شِئْت، أَمَا إنّ طَرِيقَ عِيرِكُمْ عَلَيْنَا. قَالَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ: مَهْ، لَا تَقُلْ هَذَا لِأَبِي الْحَكَمِ، فَإِنّهُ سَيّدُ أَهْلِ الْوَادِي! قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أُمَيّةُ، أَمَا وَاَللهِ لَسَمِعْت مُحَمّدًا يَقُولُ «لَأَقْتُلَن أُمَيّةَ بْنَ خَلَف» . قَالَ أُمَيّةُ: أَنْتَ سَمِعْته؟ قال، قلت: نعم.
قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ، فَلَمّا جَاءَ النّفِيرُ أَبَى أُمَيّةُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ إلَى بَدْرٍ، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَأَبُو جَهْلٍ، وَمَعَ عُقْبَةَ مِجْمَرَةٌ فِيهَا بَخُورٌ، وَمَعَ أَبِي جَهْلٍ مُكْحُلَةٌ وَمِرْوَدٌ، فَأَدْخَلَهَا عُقْبَةُ تَحْتَهُ وَقَالَ: تَبَخّرْ، فَإِنّمَا أَنْتَ امْرَأَةٌ! وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: اكْتَحِلْ، فَإِنّمَا أَنْتَ امْرَأَةٌ! قَالَ أُمَيّةُ: ابْتَاعُوا لِي أَفْضَلَ بَعِيرٍ فِي الْوَادِي. فَابْتَاعُوا لَهُ جَمَلًا بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ نَعَمِ بَنِي قُشَيْرٍ، فَغَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَصَارَ فِي سَهْمِ خُبَيْبِ بْنِ يَسَافٍ [ (1) ] . قَالُوا: وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِمّنْ خَرَجَ إلَى الْعِيرِ أَكْرَهَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الحارث ابن عَامِرٍ، وَقَالَ: لَيْتَ قُرَيْشًا تَعْزِمُ عَلَى الْقُعُودِ، وَأَنّ مَالِي فِي الْعِيرِ تَلِفَ، وَمَالَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَيْضًا. فَيُقَالُ: إنّك سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِهَا، أَفَلَا تَزَعَهَا [ (2) ] عَنْ الْخُرُوجِ؟ قَالَ: إنّي أَرَى قُرَيْشًا قَدْ أَزْمَعَتْ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَا أَرَى أَحَدًا بِهِ طِرْقٌ [ (3) ] تَخَلّفَ إلّا مِنْ عِلّةٍ، وَأَنَا أَكْرَهُ خِلَافَهَا، وَمَا أُحِبّ أَنْ تَعْلَمَ قُرَيْشٌ مَا أَقُولُ الْآنَ، مَعَ أَنّ ابْنَ الْحَنْظَلِيّةِ رَجُلٌ مَشْئُومٌ عَلَى قَوْمِهِ، مَا أَعْلَمُهُ إلّا يُحْرِزُ [ (4) ] قَوْمَهُ أَهْلَ يَثْرِبَ. وَلَقَدْ قَسَمَ مَالًا مِنْ مَالِهِ بَيْنَ وَلَدِهِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى مَكّةَ. وَجَاءَهُ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَتْ لِلْحَارِثِ عِنْدَهُ أَيَادٍ، فَقَالَ: أَبَا عَامِرٍ، رَأَيْت رُؤْيَا كَرِهْتهَا، وَإِنّي كَالْيَقْظَانِ [ (5) ] عَلَى رَاحِلَتِي، وَأَرَى كَأَنّ وَادِيَكُمْ يَسِيلُ دَمًا مِنْ أَسْفَلِهِ إلَى أَعْلَاهُ. قَالَ الْحَارِثُ: مَا خَرَجَ أَحَدٌ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ أَكْرَهَ لَهُ مِنْ وَجْهِي هَذَا. قَالَ: يَقُولُ ضَمْضَمٌ لَهُ: وَاَللهِ، إنّي لَأَرَى أَنْ تَجْلِسَ. فقال الحارث: لو سمعت هذا منك
قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مَا سِرْت خُطْوَةً! فَاطْوِ هَذَا الْخَبَرَ أَنْ تَعْلَمَهُ قُرَيْشٌ، فَإِنّهَا تَتّهِمُ كُلّ مَنْ عَوّقَهَا عَنْ الْمَسِيرِ. وَكَانَ ضَمْضَمٌ قَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ لِلْحَارِثِ بِبَطْنِ يَأْجَجَ [ (1) ] . قَالُوا: وَكَرِهَتْ قُرَيْشٌ- أَهْلُ الرّأْيِ مِنْهُمْ- الْمَسِيرَ، وَمَشَى بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مِنْ أَبْطَئِهِمْ [ (2) ] عَنْ ذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَحَكِيمُ بْنُ حزام، وأبو البخترىّ، وعلىّ بن أميّة ابن خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبّهٍ، حَتّى بَكّتَهُمْ [ (3) ] أَبُو جَهْلٍ بِالْجُبْنِ- وَأَعَانَهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ- فِي الْخُرُوجِ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ النّسَاءِ! فَأَجْمَعُوا الْمَسِيرَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لَا تَدَعُوا أَحَدًا مِنْ عَدُوّكُمْ خَلْفَكُمْ. قَالُوا: وَمِمّا اُسْتُدِلّ بِهِ عَلَى كَرَاهَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لِلْخُرُوجِ، وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ، أَنّهُ مَا عَرَضَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حُمْلَانًا، وَلَا حَمَلُوا أَحَدًا مِنْ النّاسِ. وَإِنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَأْتِيهِمْ حَلِيفًا أَوْ عَدِيدًا وَلَا قُوّةَ لَهُ، فَيَطْلُبُ الْحُمْلَانَ مِنْهُمْ، فَيَقُولُونَ: إنْ كَانَ لَك مَالٌ فَأَحْبَبْت أَنْ تَخْرُجَ فَافْعَلْ، وَإِلّا فَأَقِمْ! حَتّى كَانَتْ قُرَيْشٌ تَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. فَلَمّا أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ، ذَكَرُوا الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ، وَخَافُوهُمْ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ، وَكَانَ أَشَدّهُمْ خَوْفًا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَكَانَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّكُمْ وَإِنْ ظَفِرْتُمْ بِاَلّذِي تريدون، فإنا
لَا نَأْمَنُ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ، إنّمَا تَخَلّفَ نِسَاءٌ وَذُرّيّةٌ، وَمَنْ لَا طَعْمَ [ (1) ] بِهِ فَارْتَأَوْا آرَاءَكُمْ [ (2) ] ! فَتَصَوّرَ لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. قَدْ عَرَفْتُمْ شَرَفِي وَمَكَانِي فِي قَوْمِي، أَنَا لَكُمْ جَارٍ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَطَابَتْ نَفْسُ عُتْبَةَ، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: فَمَا تُرِيدُ؟ هَذَا سَيّدُ كِنَانَةَ وَهُوَ لَنَا جَارٍ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ. فَقَالَ عُتْبَةُ: لَا شَيْءَ، أَنَا خَارِجٌ! وَكَانَ الّذِي بَيْنَ بَنِي كِنَانَة وقريش فِيمَا حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ فِرَاسٍ اللّيْثِيّ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، أَنّ ابْنًا لِحَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ أحد بنى معيص بن عامر بن لوى خَرَجَ يَبْغِي ضَالّةً لَهُ، وَهُوَ غُلَامٌ فِي رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ، وَعَلَيْهِ حُلّةٌ، وَكَانَ غُلَامًا وَضِيئًا، فمر بعامر بن يزيد ابن عَامِرِ بْنِ الْمُلَوّحِ بْنِ يَعْمُرَ، وَكَانَ بِضَجْنَانَ [ (3) ] ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: ابْنٌ لِحَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ. فَقَالَ: يَا بَنِي بَكْرٍ، لَكُمْ فِي قُرَيْشٍ دَمٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: مَا كَانَ رَجُلٌ يَقْتُلُ هَذَا بِرَجُلِهِ إلّا اسْتَوْفَى. فَأَتْبَعَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ فَقَتَلَهُ بِدَمٍ كَانَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ. فَتَكَلّمَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ يَزِيدَ: قَدْ كَانَتْ لَنَا فِيكُمْ دِمَاءٌ، فَمَا شِئْتُمْ؟ فَإِنْ شِئْتُمْ فأدوا مالنا قِبَلَكُمْ وَنُؤَدّي إلَيْكُمْ مَا كَانَ فِينَا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَإِنّمَا هُوَ الدّمُ، رَجُلٌ بِرَجُلٍ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَتَجَافَوْا عَنّا فِيمَا قِبَلَنَا، وَنَتَجَافَى عَنْكُمْ فِيمَا قِبَلَكُمْ. فَهَانَ ذَلِكَ الْغُلَامُ عَلَى قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: صَدَقَ، رَجُلٌ بِرَجُلٍ! فَلَهَوْا عَنْهُ أَنْ يَطْلُبُوا بِدَمِهِ. فَبَيْنَا أَخُوهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ بِمَرّ الظّهْرَانِ، إذْ نَظَرَ إلَى عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ، وَهُوَ سَيّدُ بَنِي بَكْرٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، فَلَمّا رَآهُ قَالَ: مَا أَطْلُبُ أَثَرًا بعد عين!
وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ، وَهُوَ مُتَوَشّحٌ بِسَيْفِهِ، فَعَلَاهُ بِهِ حَتّى قَتَلَهُ، ثُمّ أَتَى مَكّةَ مِنْ اللّيْلِ فَعَلّقَ سَيْفَ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ الّذِي قَتَلَهُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَلَمّا أَصْبَحَتْ قُرَيْشٌ رَأَوْا سَيْفَ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ، فَعَرَفُوا أَنّ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ قَتَلَهُ، وَكَانَ يُسْمَعُ مِنْ مِكْرَزٍ فِي ذَلِكَ قَوْلُ [ (1) ] . وَجَزِعَتْ بَنُو بَكْرٍ مِنْ قَتْلِ سَيّدِهَا، فَكَانَتْ مُعِدّةً لِقَتْلِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، سَيّدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ سَادَاتِهَا. فَجَاءَ النّفِيرُ وَهُمْ عَلَى هَذَا مِنْ الْأَمْرِ، فَخَافُوهُمْ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ بِمَكّةَ مِنْ ذَرَارِيّهِمْ، فَلَمّا قَالَ سُرَاقَةُ مَا قَالَ، وَهُوَ يَنْطِقُ بِلِسَانِ إبْلِيسَ، شَجُعَ الْقَوْمُ وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ سِرَاعًا. وَخَرَجُوا بِالْقِيَانِ وَالدّفَافِ: سَارّةِ مَوْلَاةِ عَمْرِو بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطّلِبِ، وَعَزّةَ مَوْلَاةِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ، وَمَوْلَاةِ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، يُغَنّينَ فِي كُلّ مَنْهَلٍ، وَيَنْحَرُونَ الْجُزُرَ. وَخَرَجُوا بِالْجَيْشِ [ (2) ] يَتَقَاذَفُونَ بِالْحِرَابِ، وَخَرَجُوا بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مُقَاتِلًا، وَقَادُوا مِائَةَ فَرَسٍ بَطَرًا وَرِئَاءَ النّاسِ كَمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ ... [ (3) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَأَبُو جَهْلٍ يَقُولُ: أَيَظُنّ مُحَمّدٌ أَنْ يُصِيبَ مِنّا مَا أَصَابَ بِنَخْلَةَ وَأَصْحَابُهُ؟ سَيَعْلَمُ أَنَمْنَعُ [ (4) ] عِيرَنَا أَمْ لَا! وَكَانَتْ الْخَيْلُ لِأَهْلِ الْقُوّةِ مِنْهُمْ، وَكَانَ فِي بَنِي مَخْزُومٍ مِنْهَا ثَلَاثُونَ فَرَسًا، وَكَانَتْ الْإِبِلُ سَبْعَمِائَةِ بَعِيرٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْخَيْلِ كُلّهُمْ دَارِعٌ. وَكَانُوا مِائَةً، وَكَانَ فِي الرّجّالَةِ دُرُوعٌ سِوَى ذَلِكَ. قَالُوا: وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ بِالْعِيرِ، وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا حِينَ دَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ وَاسْتَبْطَئُوا ضَمْضَمًا وَالنّفِيرَ. فَلَمّا كَانَتْ اللّيْلَةُ التي يصبحون فيها على ماء بدر،
جَعَلَتْ الْعِيرُ تُقْبِلُ بِوَجْهِهَا [ (1) ] إلَى مَاءِ بَدْرٍ. وَكَانُوا بَاتُوا [ (2) ] مِنْ وَرَاءِ بَدْرٍ آخِرَ لَيْلَتِهِمْ، وَهُمْ عَلَى أَنْ يُصْبِحُوا بَدْرًا إنْ لَمْ يَعْتَرِضْ لَهُمْ، فَمَا أَقَرّتْهُمْ الْعِيرُ حَتّى ضَرَبُوهَا بِالْعُقُلِ، عَلَى أَنّ بَعْضَهَا لَيُثْنَى بِعِقَالَيْنِ، وَتُرَجّعُ الْحَنِينَ تَوَارُدًا إلَى مَاءِ بَدْرٍ، وَمَا بِهَا إلَى الْمَاءِ حَاجَةٌ، لَقَدْ شَرِبَتْ بِالْأَمْسِ. وَجَعَلَ أَهْلُ الْعِيرِ يَقُولُونَ: إنّ هَذَا شَيْءٌ مَا صَنَعَتْهُ مُنْذُ خَرَجْنَا! قَالُوا: وَغَشِيَتْنَا تِلْكَ اللّيْلَةَ ظُلْمَةٌ حَتّى مَا نُبْصِرُ شَيْئًا. وَكَانَ بَسْبَسُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ وَرَدَا عَلَى مَجْدِي بَدْرًا يَتَحَسّسَانِ [ (3) ] الْخَبَرَ، فَلَمّا نَزَلَا مَاءَ بَدْرٍ أَنَاخَا رَاحِلَتَيْهِمَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ الْمَاءِ، ثُمّ أَخَذَا أَسْقِيَتَهُمَا يَسْتَقِيَانِ مِنْ الْمَاءِ، فَسَمِعَا جَارِيَتَيْنِ مِنْ جَوَارِي جُهَيْنَةَ يُقَالُ لِإِحْدَاهُمَا بَرْزَةُ، وَهِيَ تَلْزَمُ صَاحِبَتَهَا فِي دِرْهَمٍ كَانَ لَهَا عَلَيْهَا، وَصَاحِبَتُهَا تَقُولُ: إنّمَا الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، قَدْ نَزَلَتْ الرّوْحَاءَ. وَمَجْدِي بْنُ عَمْرٍو يَسْمَعُهَا فَقَالَ: صَدَقَتْ! فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ بَسْبَسُ وَعَدِيّ انْطَلَقَا رَاجِعِينَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتّى لَقِيَاهُ بِعِرْقِ الظّبْيَةِ [ (4) ] فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، وَكَانَ أَحَدَ الْبَكّائِينَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ سَلَكَ فَجّ الرّوْحَاءِ مُوسَى النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَصَلّوْا فِي الْمَسْجِدِ الّذِي بِعِرْقِ الظّبْيَةِ - وَهِيَ مِنْ الرّوْحَاءِ عَلَى مِيلَيْنِ مِمّا يَلِي الْمَدِينَةَ إذَا خَرَجْت عَلَى يَسَارِك. فَأَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ تِلْكَ اللّيْلَةَ بِبَدْرٍ، قَدْ تَقَدّمَ الْعِيرَ وَهُوَ خَائِفٌ
مِنْ الرّصَدِ، فَقَالَ: يَا مَجْدِي، هَلْ أَحْسَسْت أَحَدًا؟ تَعْلَمُ وَاَللهِ مَا بِمَكّةَ مِنْ قُرَشِيّ وَلَا قُرَشِيّةٍ لَهُ نَشّ فَصَاعِدًا- وَالنّشّ نِصْفُ أُوقِيّةٍ، وَزْنُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا- إلّا وَقَدْ بَعَثَ بِهِ مَعَنَا، وَلَئِنْ كَتَمْتنَا شَأْنَ عَدُوّنَا لَا يُصَالِحُك رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً. فَقَالَ مَجْدِي: وَاَللهِ، مَا رَأَيْت أَحَدًا أُنْكِرُهُ، وَلَا بَيْنَك وَبَيْنَ يَثْرِبَ مِنْ عَدُوّ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَك وَبَيْنَهَا عَدُوّ لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا، وَمَا كُنْت لَأُخْفِيهِ عَلَيْك، إلّا أَنّي قَدْ رَأَيْت رَاكِبَيْنِ أَتَيَا إلَى هَذَا الْمَكَانِ- فَأَشَارَ إلَى مُنَاخِ عَدِيّ وَبَسْبَسٍ- فَأَنَاخَا بِهِ، ثُمّ اسْتَقَيَا بِأَسْقِيَتِهِمَا، ثُمّ انْصَرَفَا. فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ مُنَاخَهُمَا، فَأَخَذَ أَبْعَارًا مِنْ بَعِيرَيْهِمَا فَفَتّهُ، فَإِذَا فِيهِ نَوَى، فَقَالَ: هَذِهِ وَاَللهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ، هَذِهِ عُيُونُ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، مَا أَرَى الْقَوْمَ إلّا قَرِيبًا! فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ، فَسَاحَلَ بِهَا، وَتَرَكَ بَدْرًا يَسَارًا، وَانْطَلَقَ سَرِيعًا. وَأَقْبَلَتْ قريش مِنْ مَكّةَ يَنْزِلُونَ كُلّ مَنْهَلٍ يُطْعِمُونَ الطّعَامَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَيَنْحَرُونَ الْجُزُرَ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ فِي مَسِيرِهِمْ إذْ تَخَلّفَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ، وَهُمَا يَتَحَدّثَانِ [ (1) ] ، قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَلَمْ تَرَ إلَى رُؤْيَا عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ؟ لَقَدْ خَشِيت مِنْهَا. قَالَ الْآخَرُ: فَاذْكُرْهَا [ (2) ] ! فَذَكَرَهَا، فَأَدْرَكَهُمَا أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: مَا تُحَدّثَانِ بِهِ؟ قَالَا: نَذْكُرُ رُؤْيَا عَاتِكَةَ. فَقَالَ: يَا عَجَبًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ! لَمْ تَرْضَ أَنْ تَتَنَبّأَ عَلَيْنَا رِجَالُهُمْ حَتّى تَتَنَبّأَ عَلَيْنَا النّسَاءُ! أَمَا وَاَللهِ، لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى مَكّةَ لَنَفْعَلَنّ بِهِمْ وَلَنَفْعَلَنّ! قَالَ عُتْبَةُ: إنّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَقَرَابَةً قَرِيبَةً. قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: هَلْ لَك أَنْ تَرْجِعَ؟ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَتَرْجِعَانِ بَعْدَ مَا سِرْتُمَا، فَتَخْذُلَانِ قَوْمَكُمَا، وَتَقْطَعَانِ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُمْ ثأركم بأعينكم؟ أتظنّان أنّ محمّدا وأصحابه
يلاقونكما؟ كلّا والله، ألا فو الله إنّ مَعِي مِنْ قَوْمِي مِائَةً وَثَمَانِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَحِلّونَ إذَا حَلَلْت، وَيَرْحَلُونَ إذَا رَحَلْت، فَارْجِعَا إنْ شِئْتُمَا! قَالَا: وَاَللهِ، لَقَدْ هَلَكْت وَأَهْلَكْت قَوْمَك! ثُمّ قَالَ عُتْبَةُ لِأَخِيهِ شَيْبَةَ: هَذَا رَجُلٌ مَشْئُومٌ- يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ- وَإِنّهُ لَا يَمَسّهُ مِنْ قَرَابَةِ مُحَمّدٍ مَا يَمَسّنَا، مَعَ أَنّ مُحَمّدًا مَعَهُ الْوَلَدُ، فَارْجِعْ بِنَا وَدَعْ قَوْلَهُ! قَالَ شَيْبَةُ: تَكُونُ وَاَللهِ سُبّةٌ عَلَيْنَا يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَنْ نَرْجِعَ الْآنَ بَعْدَ مَا سِرْنَا! فَمَضَيَا. ثُمّ انْتَهَوْا إلَى الْجُحْفَةِ [ (1) ] عِشَاءً، فَنَامَ جُهَيْمُ بْنُ الصّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَالَ: إنّي أَرَى أَنّي بَيْنَ النّائِمِ وَالْيَقْظَانِ أَنْظُرُ إلَى رَجُلٍ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ مَعَهُ بَعِيرٌ، حَتّى وَقَفَ عَلَيّ فَقَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ، وَأَبُو الْحَكَمِ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ فِي رِجَالٍ سَمّاهُمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَأُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَفَرّ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَخِيهِ. قَالَ: يقول فائل مِنْهُمْ: وَاَللهِ، إنّي لَأَظُنّكُمْ الّذِينَ تَخْرُجُونَ إلَى مَصَارِعِكُمْ! قَالَ: ثُمّ أَرَاهُ ضَرَبَ فِي لَبّةِ بَعِيرِهِ فَأَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ إلّا أَصَابَهُ بَعْضُ دَمِهِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِأَبِي جَهْلٍ، وَشَاعَتْ هَذِهِ الرّؤْيَا فِي الْعَسْكَرِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا نَبِيّ آخَرُ مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ، سَيَعْلَمُ غَدًا مَنْ الْمَقْتُولُ نَحْنُ أَوْ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ! فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لِجُهَيْمٍ: إنّمَا يَلْعَبُ بِك [ (2) ] الشّيْطَانُ فِي مَنَامِك، فَسَتَرَى غَدًا خِلَافَ مَا تَرَى، يُقْتَلُ أَشْرَافُ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ وَيُؤْسَرُونَ. قَالَ: فَخَلَا عُتْبَةُ بِأَخِيهِ فقال: هل لك فى الرجوع؟ فهذه الرويا مثل رويا عَاتِكَةَ، وَمِثْلُ قَوْلِ عَدّاسٍ، وَاَللهِ مَا كَذَبَنَا عَدّاسٌ، وَلِعَمْرِي لَئِنْ كَانَ مُحَمّدٌ كَاذِبًا إنّ فى العرب لمن
يَكْفِينَاهُ، وَلَئِنْ كَانَ صَادِقًا إنّا لَأَسْعَدِ الْعَرَبِ بِهِ، إنّا لَلُحْمَتُهُ. قَالَ شَيْبَةُ: هُوَ عَلَى مَا تَقُولُ، أَفَنَرْجِعُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ؟ فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ وَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا تُرِيدَانِ؟ قَالَا: الرّجُوعَ، أَلَا تَرَى إلَى رؤيا عاتكة وإلى رويا جُهَيْمِ بْنِ الصّلْتِ، مَعَ قَوْلِ عَدّاسٍ لَنَا؟ فَقَالَ: تَخْذُلَانِ وَاَللهِ قَوْمَكُمَا، وَتَقْطَعَانِ بِهِمْ. قَالَا: هَلَكْت وَاَللهِ، وَأَهْلَكْت قَوْمَك! فَمَضَيَا عَلَى ذَلِكَ. فَلَمّا أَفْلَتَ أَبُو سُفْيَانَ بِالْعِيرِ وَرَأَى أَنْ قَدْ أَجْزَرَهَا [ (1) ] ، أَرْسَلَ إلَى قُرَيْشٍ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ- وَكَانَ مَعَ أَصْحَابِ الْعِيرِ، خَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ مَكّةَ- فَأَرْسَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالرّجُوعِ، وَيَقُولُ: قَدْ نَجَتْ عِيرُكُمْ، فَلَا تُجْزِرُوا [ (2) ] أَنْفُسَكُمْ أَهْلَ يَثْرِبَ، فَلَا حَاجَةَ لَكُمْ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَقَدْ نَجّاهَا اللهُ. فَإِنْ أَبَوْا عَلَيْك، فَلَا يَأْبَوْنَ خَصْلَةً وَاحِدَةً، يَرُدّونَ الْقِيَانَ، فَإِنّ الْحَرْبَ إذَا أَكَلَتْ نَكَلَتْ [ (3) ] . فَعَالَجَ قُرَيْشًا وَأَبَتْ الرّجُوعَ، وَقَالُوا: أَمّا الْقِيَانُ فَسَنَرُدّهُنّ! فَرَدّوهُنّ مِنْ الْجُحْفَةِ. ولحق الرسول أبا سفيان بِالْهَدّةِ- وَالْهَدّةُ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ عَقَبَةِ عُسْفَانَ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْ مَكّةَ- فأخبره بمضى قريش، فقال: وا قوماه! هَذَا عَمَلُ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، كَرِهَ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنّهُ قَدْ تَرَأّسَ عَلَى النّاسِ، وَبَغَى، وَالْبَغْيُ مَنْقَصَةٌ وَشُؤْمٌ. إنْ أَصَابَ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ النّفِيرَ ذَلَلْنَا إلَى أَنْ يَدْخُلَ مَكّةَ. وَكَانَتْ الْقِيَانُ: سَارّةُ مَوْلَاةُ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَمَوْلَاةٌ كَانَتْ لِأُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَمَوْلَاةٌ يُقَالُ لَهَا عَزّةُ لِلْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ. وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ. لا والله، لا نرجع
حَتّى نَرِدَ بَدْرًا- وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْجَاهِلِيّةِ يَجْتَمِعُ بِهَا الْعَرَبُ، لَهَا بِهَا سُوقٌ- تَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا، فَنُقِيمُ ثَلَاثًا عَلَى بَدْرٍ نَنْحَرُ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمُ الطّعَامَ، وَنَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ الْقِيَانُ عَلَيْنَا، فَلَنْ تَزَالَ الْعَرَبُ تَهَابُنَا أَبَدًا. وَكَانَ الْفُرَاتُ بْنُ حَيّانَ الْعِجْلِيّ أَرْسَلَتْهُ قُرَيْشٌ حِينَ فَصَلَتْ مِنْ مَكّةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يُخْبِرُهُ بِمَسِيرِهَا وَفُصُولِهَا، وَمَا قَدْ حَشَدَتْ. فَخَالَفَ أَبَا سُفْيَانَ، وَذَلِكَ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ لَصِقَ بِالْبَحْرِ وَلَزِمَ فُرَاتَ الْمَحَجّةِ، فَوَافَى الْمُشْرِكِينَ بِالْجُحْفَةِ، فَسَمِعَ كَلَامَ أَبِي جَهْلٍ بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَرْجِعُ! فَقَالَ: مَا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِك رَغْبَةً، وَإِنّ الّذِي يَرْجِعُ بَعْدَ أَنْ رَأَى ثَأْرَهُ مِنْ كَثَبٍ لَضَعِيفٌ! فَمَضَى مَعَ قُرَيْشٍ، وَتَرَكَ أَبَا سُفْيَانَ، فَجُرِحَ يَوْمَ بَدْرٍ جِرَاحَاتٍ، وَهَرَبَ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ أَمْرًا أَنْكَدُ! إنّ ابْنَ الْحَنْظَلِيّةِ لَغَيْرُ مُبَارَكِ الْأَمْرِ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أُمّ بَكْرِ بِنْتِ الْمِسْوَرِ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ- وَكَانَ اسْمُهُ أُبَيّا [ (1) ] ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ- فَقَالَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، قَدْ نَجّى اللهُ عِيرَكُمْ، وَخَلّصَ أَمْوَالَكُمْ، وَنَجّى صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَإِنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ. وَإِنّمَا مُحَمّدٌ رَجُلٌ مِنْكُمْ، ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَإِنْ يَكُ نَبِيّا فَأَنْتُمْ أَسْعَدُ بِهِ، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا يَلِي قَتْلَهُ غَيْرُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَلُوا قَتْلَ ابْنِ أُخْتِكُمْ، فَارْجِعُوا وَاجْعَلُوا جُبْنَهَا [ (2) ] بِي، فَلَا حَاجَةَ لَكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ [ (3) ] ، لَا مَا يَقُولُ هَذَا الرّجُلُ، فَإِنّهُ مُهْلِكٌ قَوْمَهُ، سَرِيعٌ فِي فَسَادِهِمْ! فَأَطَاعُوهُ، وكان فيهم مطاعا، وكانوا
يَتَيَمّنُونَ بِهِ، قَالُوا: فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِالرّجُوعِ إنْ نَرْجِعُ؟ قَالَ الْأَخْنَسُ: نَخْرُجُ مَعَ الْقَوْمِ، فَإِذَا أَمْسَيْت سَقَطْت عَنْ بَعِيرِي فَتَقُولُونَ نَهَشَ [ (1) ] الْأَخْنَسُ! فَإِذَا قَالُوا امْضُوا فَقُولُوا لَا نُفَارِقُ صَاحِبَنَا حَتّى نَعْلَمَ أَهُوَ حَيّ أَمْ مَيّتٌ فَنَدْفِنُهُ، فَإِذَا مَضَوْا رَجَعْنَا. فَفَعَلَتْ بَنُو زُهْرَةَ، فَلَمّا أَصْبَحُوا بِالْأَبْوَاءِ رَاجِعِينَ تَبَيّنَ لِلنّاسِ أَنّ بَنِي زُهْرَةَ رَجَعُوا، فَلَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ. قَالُوا: وَكَانُوا مِائَةً أَوْ أَقَلّ مِنْ الْمِائَةِ، وَهُوَ أَثْبَتُ، وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ كَانُوا ثلاثمائة. وقال عدىّ ابن أَبِي الزّغْبَاءِ فِي مُنْحَدَرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ بَدْرٍ، وَانْتَشَرَتْ الرّكَابُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ عَدِيّ يَقُولُ: أَقِمْ لَهَا صُدُورَهَا يَا بَسْبَسُ ... إنّ مَطَايَا [ (2) ] الْقَوْمِ لَا تُحَبّسُ وَحَمْلُهَا عَلَى الطّرِيقِ أَكْيَسُ ... قَدْ نَصَرَ اللهُ وَفَرّ الْأَخْنَسُ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ، قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بن عبد الرحمن ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، قَالَ: خَرَجَتْ بَنُو عَدِيّ مَعَ النّفِيرِ حَتّى كَانُوا بِثَنِيّةِ لَفْتٍ [ (3) ] ، فَلَمّا كَانُوا فِي السّحَرِ عَدَلُوا فِي السّاحِلِ مُنْصَرِفِينَ إلَى مَكّةَ، فَصَادَفَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا بَنِي عَدِيّ، كَيْفَ رَجَعْتُمْ لَا فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النّفِيرِ؟ قَالُوا: أَنْتَ أَرْسَلْت إلَى قُرَيْشٍ أَنْ تَرْجِعَ، فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ وَمَضَى مَنْ مَضَى! فَلَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَدِيّ. وَيُقَالُ إنّهُ لَاقَاهُمْ بِمَرّ الظّهْرَانِ فَقَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ لَهُمْ. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ: رَجَعَتْ زُهْرَةُ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَأَمّا بَنُو عَدِيّ فَرَجَعُوا مِنْ الطّرِيقِ، ويقال من مرّ الظّهران.
وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ صَبِيحَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِرْقِ الظّبْيَةِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيّ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ تِهَامَةَ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَك عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ؟ قَالَ: مَا لِي بِأَبِي سُفْيَانَ عِلْمٌ. قَالُوا: تَعَالَ، سَلّمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَفِيكُمْ رَسُولُ اللهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَأَيّكُمْ رَسُولُ اللهِ؟ قَالُوا: هَذَا. قَالَ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْأَعْرَابِيّ: فَمَا فِي بَطْنِ نَاقَتِي هَذِهِ إنْ كُنْت صَادِقًا؟ قَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ: نَكَحْتهَا فَهِيَ حُبْلَى مِنْك! فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ. ثُمّ سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى أَتَى الرّوْحَاءَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِلنّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصَلّى عِنْدَ بِئْرِ الرّوْحَاءِ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ وِتْرِهِ لَعَنَ الْكَفَرَةَ وَقَالَ: اللهُمّ لَا تُفْلِتَن أَبَا جَهْلٍ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمّةِ، اللهُمّ لَا تُفْلِتَن زَمَعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، اللهُمّ وَأَسْخِنْ عَيْنَ أَبِي زَمَعَةَ بِزَمَعَةَ، اللهُمّ أَعْمِ بَصَرَ أَبِي زَمَعَةَ، اللهُمّ لَا تُفْلِتَن سُهَيْلًا، اللهمّ أنج سلمة ابْنِ هِشَامٍ وَعَيّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ! وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ لَمْ يَدْعُ لَهُ يَوْمَئِذٍ، أُسِرَ بِبَدْرٍ وَلَكِنّهُ لَمّا رَجَعَ مِنْ مَكّةَ بَعْدَ بَدْرٍ أَسْلَمَ، فَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمَدِينَةِ فَحُبِسَ، فَدَعَا لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بالرّوحاء: هذه سجاسج [ (1) ]
- يَعْنِي وَادِيَ الرّوْحَاءِ- هَذَا أَفْضَلُ أَوْدِيَةِ الْعَرَبِ. قَالُوا: وَكَانَ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافٍ رَجُلًا شُجَاعًا، وَكَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ، فَلَمّا خَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَدْرٍ خَرَجَ هُوَ وَقَيْسُ بْنُ مُحَرّثٍ، وَهُمَا عَلَى دِينِ قَوْمِهِمَا، فَأَدْرَكَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقِيقِ، وَخُبَيْبٌ مُقَنّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَعَرَفَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَالْتَفَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَهُوَ يَسِيرُ إلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ بِخُبَيْبِ بْنِ يَسَافٍ؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: فَأَقْبَلَ خُبَيْبٌ حَتّى أَخَذَ بِبِطَانِ [ (1) ] نَاقَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلِقَيْسِ بْنِ مُحَرّثٍ- يُقَالُ قَيْسُ بْنُ الْمُحَرّثِ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ- مَا أَخْرَجَكُمَا مَعَنَا؟ قَالَا: كُنْت ابْنَ أُخْتِنَا وَجَارَنَا، وَخَرَجْنَا مَعَ قَوْمِنَا لِلْغَنِيمَةِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا يَخْرُجَن مَعَنَا رَجُلٌ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا. قَالَ خُبَيْبٌ: قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنّي عَظِيمُ [ (2) ] الْغِنَاءِ فِي الْحَرْبِ، شَدِيدُ النّكَايَةِ، فَأُقَاتِلُ مَعَك لِلْغَنِيمَةِ وَلَنْ أُسْلِمَ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلِمْ ثُمّ قَاتِلْ. ثُمّ أَدْرَكَهُ بِالرّوْحَاءِ فَقَالَ: أَسْلَمْت لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ، وَشَهِدْت أَنّك رَسُولُ اللهِ. فَسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وَقَالَ: امْضِهِ! وَكَانَ عَظِيمَ الْغِنَاءِ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِ بَدْرٍ وَأَبَى قَيْسُ بْنُ مُحَرّثٍ أَنْ يُسْلِمَ وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمّا قَدِمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ أَسْلَمَ، ثُمّ شَهِدَ أُحُدًا فَقُتِلَ. قَالُوا: وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمّ رَجَعَ وَنَادَى مُنَادِيهِ: يَا مَعْشَرَ الْعُصَاةِ، إنّي مُفْطِرٌ فَأَفْطِرُوا! وَذَلِكَ أَنّهُ
قَدْ كَانَ قَالَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ «أَفْطِرُوا» فَلَمْ يَفْعَلُوا. قَالُوا: وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى إذَا كَانَ دُوَيْنَ بَدْرٍ أَتَاهُ الْخَبَرُ بِمَسِيرِ قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسِيرِهِمْ، وَاسْتَشَارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمّ قَامَ عُمَرُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهَا وَاَللهِ قُرَيْشٌ وَعِزّهَا، وَاَللهِ مَا ذَلّتْ مُنْذُ عَزّتْ، وَاَللهِ مَا آمَنَتْ مُنْذُ كَفَرَتْ، وَاَللهِ لَا تُسْلِمُ عِزّهَا أَبَدًا، وَلَتُقَاتِلَنك، فَاتّهِبْ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ وَأَعِدّ لِذَلِكَ عُدّتَهُ. ثُمّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، امْضِ لِأَمْرِ اللهِ فَنَحْنُ مَعَك، وَاَللهِ لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِنَبِيّهَا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [ (1) ] ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ سِرْت بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَسِرْنَا مَعَك- وَبِرْكُ الْغِمَادِ مِنْ وَرَاءِ مَكّةَ بِخَمْسِ لَيَالٍ مِنْ وَرَاءِ السّاحِلِ مِمّا يَلِي الْبَحْرَ، وَهُوَ عَلَى ثَمَانِ لَيَالٍ مِنْ مَكّةَ إلَى الْيَمَنِ. فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيّ أيّها للناس! وَإِنّمَا يُرِيدُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ، وَكَانَ يَظُنّ أَنّ الْأَنْصَارَ لَا تَنْصُرُهُ إلّا فِي الدّارِ، وَذَلِكَ أَنّهُمْ شَرَطُوا لَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيّ! فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: أَنَا أُجِيبُ عَنْ الْأَنْصَارِ، كَأَنّك يَا رَسُولَ اللهِ تُرِيدُنَا! قَالَ: أَجَلْ. قَالَ: إنّك عَسَى أَنْ تَكُونَ خَرَجْت عَنْ أَمْرٍ قَدْ أُوحِيَ إلَيْك فِي غَيْرِهِ، وَإِنّا قَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك، وَشَهِدْنَا أَنّ كُلّ مَا جِئْت بِهِ حَقّ، وَأَعْطَيْنَاك مَوَاثِيقَنَا وَعُهُودَنَا عَلَى السّمْعِ والطاعة، فامض يا نبىّ الله، فو الذي
بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا بَقِيَ مِنّا رَجُلٌ، وَصِلْ مَنْ شِئْت، وَاقْطَعْ مَنْ شِئْت، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْت، وَمَا أَخَذْت مِنْ أَمْوَالِنَا أَحَبّ إلَيْنَا مِمّا تَرَكْت. وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا سَلَكْت هَذَا الطّرِيقَ قَطّ، وَمَا لِي بِهَا مِنْ عِلْمٍ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ يَلْقَانَا عَدُوّنَا غَدًا، إنّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللّقَاءِ، لَعَلّ اللهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُك. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا قَدْ خَلَفْنَا مِنْ قَوْمِنَا قَوْمًا مَا نَحْنُ بِأَشَدّ حُبّا لَك مِنْهُمْ، وَلَا أَطْوَعَ لَك مِنْهُمْ، لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ وَنِيّةٌ، وَلَوْ ظَنّوا يَا رَسُولَ اللهِ أَنّك مُلَاقٍ عَدُوّا مَا تَخَلّفُوا، وَلَكِنْ إنّمَا ظَنّوا أَنّهَا الْعِيرُ. نَبْنِي لَك عَرِيشًا فَتَكُونُ فِيهِ وَنَعُدّ لَك رَوَاحِلَك، ثُمّ نَلْقَى عَدُوّنَا، فَإِنْ أَعَزّنَا اللهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوّنَا كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى جَلَسْت عَلَى رَوَاحِلِك فَلَحِقْت مَنْ وَرَاءَنَا. فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَقَالَ: أَوْ يَقْضِي اللهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ! قَالُوا: فَلَمّا فَرَغَ سَعْدٌ مِنْ الْمَشُورَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، فَإِنّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ. وَاَللهِ، لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ. قَالَ: وَأَرَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصَارِعَهُمْ يَوْمَئِذٍ، هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، فَمَا عَدَا كُلّ رَجُلٍ مَصْرَعَهُ قَالَ: فَعَلِمَ الْقَوْمُ أَنّهُمْ يُلَاقُونَ الْقِتَالَ، وَأَنّ الْعِيرَ تُفْلِتُ، وَرَجَوْا النّصْرَ لِقَوْلِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْمَاعِيلَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَطِيّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَمِنْ يَوْمَئِذٍ
عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم الْأَلْوِيَةَ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، وَأَظْهَرَ السّلَاحَ، وَكَانَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِ لِوَاءٍ مَعْقُودٍ. وَخَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّوْحَاءِ، فَسَلَكَ الْمَضِيقَ، ثُمّ جَاءَ إلَى الْخَبِيرَتَيْنِ [ (1) ] فَصَلّى بَيْنَهُمَا، ثُمّ تَيَامَنَ فَتَشَاءَمَ فِي الْوَادِي حَتّى مَرّ عَلَى خَيْفِ [ (2) ] الْمُعْتَرِضَةِ، فَسَلَكَ فِي ثَنِيّةِ الْمُعْتَرِضَةِ حَتّى سَلَكَ عَلَى التّيّا، وَبِهَا لَقِيَ سُفْيَانَ الضّمْرِيّ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَعَجّلَ، مَعَهُ قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ الظّفَرِيّ- وَيُقَالُ عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبٍ الْمَازِنِيّ، وَيُقَالُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ- فَلَقِيَ سُفْيَانَ الضّمْرِيّ عَلَى التّيّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ الرّجُلُ؟ فَقَالَ الضّمْرِيّ: بَلَى مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَخْبِرْنَا وَنُخْبِرْك! قَالَ الضّمْرِيّ: وَذَاكَ بِذَاكَ قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: نعم قال الضّمرىّ: سلوا عَمّا شِئْتُمْ! فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: أخبرنا عن قريش. قَالَ الضّمْرِيّ: بَلَغَنِي أَنّهُمْ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَكّةَ، فَإِنْ كَانَ الّذِي أَخْبَرَنِي صَادِقًا فَإِنّهُمْ بِجَنْبِ هَذَا الْوَادِي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَخْبِرْنَا عَنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ: خُبّرْت أَنّهُمْ خَرَجُوا مِنْ يَثْرِبَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الّذِي خَبّرَنِي صَادِقًا فَهُمْ بِجَانِبِ هَذَا الْوَادِي. قَالَ الضّمْرِيّ: فَمَنْ أَنْتُمْ؟ قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ مِنْ مَاءٍ ... وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْعِرَاقِ. فَقَالَ الضّمْرِيّ: مِنْ مَاءِ الْعِرَاقِ! ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَصْحَابِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْزِلِ صَاحِبِهِ، بَيْنَهُمْ قَوْزٌ [ (3) ] مِنْ رَمْلٍ
وَكَانَ قَدْ صَلّى بِالدّبَةِ [ (1) ] ، ثُمّ صَلّى بِسَيَرٍ [ (2) ] ، ثُمّ صَلّى بِذَاتِ أَجْدَالٍ [ (3) ] ، ثُمّ صَلّى بِخَيْفِ عَيْنِ الْعَلَاءِ، ثُمّ صَلّى بِالْخَبِيرَتَيْنِ، ثُمّ نَظَرَ إلَى جَبَلَيْنِ فَقَالَ: مَا اسْمُ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ؟ قَالُوا: مُسْلِحٌ وَمُخْرَى [ (4) ] . فَقَالَ: مَنْ سَاكِنُهُمَا؟ قَالُوا: بَنُو النّارِ وَبَنُو حُرَاقٍ [ (5) ] . فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ الْخَبِيرَتَيْنِ فَمَضَى حَتّى قَطَعَ الْخُيُوفَ، وَجَعَلَهَا يَسَارًا حَتّى سَلَكَ فِي الْمُعْتَرِضَةِ، وَلَقِيَهُ بَسْبَسٌ وَعَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ. وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِيَ [ (6) ] بَدْرٍ عِشَاءَ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَبَعَثَ عَلِيّا وَالزّبَيْرَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وقّاص وبسبس ابن عَمْرٍو يَتَحَسّسُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ظُرَيْبٍ [ (7) ] فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَجِدُوا الْخَبَرَ عِنْدَ هَذَا الْقَلِيبِ الّذِي يَلِي الظّرَيْبَ- وَالْقَلِيبُ بِئْرٌ بِأَصْلِ الظّرَيْبِ، وَالظّرَيْبُ جَبَلٌ صَغِيرٌ. فَانْدَفَعُوا تِلْقَاءَ الظّرَيْبِ فَيَجِدُونَ عَلَى تِلْكَ الْقَلِيبِ الّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَايَا قُرَيْشٍ فِيهَا سُقّاؤُهُمْ. وَلَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَفْلَتَ عَامّتُهُمْ، وَكَانَ مِمّنْ عُرِفَ أَنّهُ أَفْلَتَ عُجَيْرٌ، وَكَانَ أَوّلَ مَنْ جَاءَ قُرَيْشًا بِخَبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَادَى فَقَالَ: يَا آلَ غَالِبٍ، هَذَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَخَذُوا سُقّاءَكُمْ! فَمَاجَ الْعَسْكَرُ، وَكَرِهُوا مَا جَاءَ به.
قَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: وَكُنّا فِي خِبَاءٍ لَنَا عَلَى جَزُورٍ نَشْوِي مِنْ لَحْمِهَا، فَمَا هُوَ إلّا أَنْ سَمِعْنَا الْخَبَرَ، فَامْتَنَعَ الطّعَامُ مِنّا، وَلَقِيَ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَلَقِيَنِي عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا خَالِدٍ، مَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَسِيرُ أَعْجَبَ مِنْ مَسِيرِنَا، إنّ عِيرَنَا قَدْ نَجَتْ، وَإِنّا جِئْنَا إلَى قَوْمٍ فِي بِلَادِهِمْ بَغْيًا عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عُتْبَةُ لِأَمْرٍ حُمّ: وَلَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ، هَذَا شُؤْمُ ابْنِ الْحَنْظَلِيّةِ! يَا أَبَا خَالِدٍ، أَتَخَافُ أَنْ يُبَيّتَنَا الْقَوْمُ؟ قُلْت: لَا آمَنُ ذَلِكَ. قَالَ: فَمَا الرّأْيُ يَا أَبَا خَالِدٍ؟ قَالَ: نَتَحَارَسُ حَتّى نُصْبِحَ وَتَرَوْنَ مَنْ [ (1) ] وَرَاءَكُمْ. قَالَ عُتْبَةُ: هَذَا الرّأْيُ! قَالَ: فَتَحَارَسْنَا حَتّى أَصْبَحْنَا. قَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَا [هَذَا؟] [ (2) ] هَذَا عَنْ أَمْرِ عُتْبَةَ، قَدْ كَرِهَ قِتَالَ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ! إنّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ، أَتَظُنّونَ أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ يَعْتَرِضُونَ لِجَمْعِكُمْ؟ وَاَللهِ لَأَنْتَحِيَن نَاحِيَةً بِقَوْمِي، فَلَا يَحْرُسُنَا أَحَدٌ. فَتَنَحّى نَاحِيَةً، وَالسّمَاءُ تُمْطِرُ عَلَيْهِ، يَقُولُ عُتْبَةُ: إنّ هَذَا لَهُوَ النّكَدُ، وَإِنّهُمْ قَدْ أَخَذُوا سُقّاءَكُمْ. وَأُخِذَ تِلْكَ اللّيْلَةَ يَسَارٌ غلام عبيدة ابن سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَسْلَمَ غُلَامُ مُنَبّهِ بْنِ الحجّاج، وأبو رافع غلام أميّة ابن خَلَفٍ، فَأُتِيَ بِهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي، فَقَالُوا: سُقّاءُ قُرَيْش بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنْ الْمَاءِ. وَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمْ، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونُوا لِأَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِ الْعِيرِ، فَضَرَبُوهُمْ، فَلَمّا أَذَلْقُوهُمْ [ (3) ] بِالضّرْبِ قَالُوا: نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ، وَنَحْنُ فِي الْعِيرِ، وَهَذِهِ الْعِيرُ بِهَذَا الْقَوْزِ [ (4) ] . فَيُمْسِكُونَ عَنْهُمْ، فَسَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمّ قَالَ:
إنْ صَدَقُوكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمْ وَإِنْ كَذَبُوكُمْ تَرَكْتُمُوهُمْ! فَقَالَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُخْبِرُونَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَنّ قُرَيْشًا قَدْ جَاءَتْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. صَدَقُوكُمْ، خَرَجَتْ قُرَيْشٌ تَمْنَعُ عِيرَهَا، وَخَافُوكُمْ عَلَيْهَا. ثُمّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السّقّاءِ فَقَالَ: أَيْنَ قُرَيْشٌ؟: قَالُوا: خَلْفَ هَذَا الْكَثِيبِ الّذِي تَرَى. قَالَ: كَمْ هِيَ؟ قَالُوا: كَثِيرٌ. قَالَ: كَمْ عَدَدُهَا؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي كَمْ هُمْ. قَالَ: كَمْ يَنْحَرُونَ؟ قَالُوا: يَوْمًا عَشَرَةً وَيَوْمًا تِسْعَةً. قَالَ: الْقَوْمُ مَا بَيْنَ الْأَلْفِ وَالتّسْعِمِائَةِ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسّقّاءِ: مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ؟ قَالُوا: لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ بِهِ طَعِمَ إلّا خَرَجَ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النّاسِ، فَقَالَ: هَذِهِ مَكّةُ، قَدْ أَلْقَتْ [إلَيْكُمْ] أَفْلَاذَ كَبِدِهَا. ثُمّ سَأَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَلْ رَجَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ؟ قَالُوا: رَجَعَ ابْنُ أَبِي شَرِيقٍ بِبَنِي زُهْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْشَدُهُمْ وَمَا كَانَ بِرَشِيدٍ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْت لَمُعَادِيًا لِلّهِ وَلِكِتَابِهِ. قَالَ: أَحَدٌ غَيْرُهُمْ؟ قَالُوا: بَنُو عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: أَشِيرُوا عَلَيّ فِي الْمَنْزِلِ فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ. قَالَ: فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ! انْطَلِقْ بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ الْقَوْمِ، فَإِنّي عَالِمٌ بِهَا وَبِقُلُبِهَا، بِهَا قَلِيبٌ قَدْ عَرَفْت عُذُوبَةَ مَائِهِ، وَمَاءٌ كَثِيرٌ لَا يَنْزَحْ، ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهَا حَوْضًا وَنَقْذِفُ فِيهِ الْآنِيَةَ، فَنَشْرَبُ وَنُقَاتِلُ، وَنُغَوّرُ [ (1) ] مَا سواها من القلب.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: الرّأْيُ مَا أَشَارَ بِهِ الْحُبَابُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا حُبَابُ، أَشَرْت بِالرّأْيِ! فَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلَ كُلّ ذَلِكَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ اللهُ السّمَاءَ وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا- وَالدّهْسُ الْكَثِيرُ الرّمْلِ- فَأَصَابَنَا مَا لَبّدَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْنَا مِنْ الْمَسِيرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْهُ، وَإِنّمَا بَيْنَهُمْ قَوْزٌ مِنْ رَمْلٍ. قَالُوا: وَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ اللّيْلَةَ النّعَاسُ، أُلْقِيَ عَلَيْهِمْ [ (1) ] فَنَامُوا، وَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْمَطَرِ مَا يُؤْذِيهِمْ. قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ: سُلّطَ عَلَيْنَا النّعَاسُ تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتّى إنّي كُنْت لَأَتَشَدّدُ، فَتَجْلِدُنِي الْأَرْضُ فَمَا أُطِيقُ إلّا ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الحال. وقال سعد ابن أَبِي وَقّاصٍ: رَأَيْتنِي وَإِنّ ذَقَنِي بَيْنَ يَدَيّ [ (2) ] ، فَمَا أَشْعُرُ حَتّى أَقَعَ عَلَى جَنْبِي. قَالَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ: غَلَبَنِي النّوْمُ، فاحتملت حَتّى اغْتَسَلْت آخِرَ اللّيْلِ. قَالُوا: فَلَمّا تَحَوّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْمَنْزِلِ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ السّقَاءَ، أَرْسَلَ عَمّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ، فَأَطَافَا بِالْقَوْمِ ثُمّ رَجَعَا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، الْقَوْمُ مَذْعُورُونَ فَزِعُونَ، إنّ الْفَرَسَ لَيُرِيدُ أَنْ يَصْهَلَ فَيَضْرِبَ وَجْهَهُ، مَعَ أَنّ السّمَاءَ تَسِحّ عَلَيْهِمْ. فَلَمّا أَصْبَحُوا قَالَ نُبَيْهُ بْنُ الْحَجّاجِ، وَكَانَ رَجُلًا يُبْصِرُ الأثر، فقال:
هَذَا أَثَرُ ابْنِ سُمَيّةَ وَابْنِ أُمّ عَبْدٍ، أَعْرِفُهُ، قَدْ جَاءَ مُحَمّدٌ بِسُفَهَائِنَا وَسُفَهَاءِ أَهْلِ يَثْرِبَ! ثُمّ قَالَ: لَمْ يَتْرُكِ الْجَوْعُ لَنَا مَبِيتَا ... لَا بُدّ أَنْ نَمُوت أَوْ نُمِيتَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَذَكَرْت قَوْلَ نُبَيْهِ بْنِ الْحَجّاجِ «لَمْ يَتْرُكِ الْجَوْعُ لَنَا مَبِيتَا» لِمُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فَقَالَ: لَعَمْرِي لَقَدْ كَانُوا شِبَاعًا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي [أَبِي] [ (1) ] أَنّهُ سَمِعَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: نَحَرْنَا تِلْكَ اللّيْلَةَ عَشْرَ جَزَائِرَ، فَنَحْنُ فِي خِبَاءٍ مِنْ أَخْبِيَتِهِمْ نَشْوِي السّنَامَ وَالْكَبِدَ وَطِيبَةَ اللّحْمِ، وَنَحْنُ نَخَافُ مِنْ الْبَيَاتِ، فَنَحْنُ نَتَحَارَسُ إلَى أَنْ أَضَاءَ الْفَجْرُ، فَأَسْمَعُ مُنَبّهًا يَقُولُ بَعْدَ أَنْ أَسْفَرَ [الصّبْحُ] [ (2) ] : هَذَا [أَثَرُ] [ (3) ] ابْنِ سُمَيّةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ! وَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: لَمْ يَتْرُكِ الْخَوْفُ لَنَا مَبِيتَا ... لَا بُدّ أَنْ نَمُوت أَوْ نُمِيتَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اُنْظُرُوا غَدًا إنْ لَقِينَا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَابْقَوْا فِي أَنْسَابِكُمْ [ (4) ] هَؤُلَاءِ، وَعَلَيْكُمْ بِأَهْلِ يَثْرِبَ، فَإِنّا إنْ نَرْجِعُ بِهِمْ إلَى مَكّةَ يُبْصِرُوا ضَلَالَتَهُمْ وَمَا فَارَقُوا مِنْ دِينِ آبَائِهِمْ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حدّثنا الواقدي قال: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمر، عن محمود بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَلِيبِ بُنِيَ لَهُ عَرِيشٌ مِنْ جَرِيدٍ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ مُتَوَشّحَ السّيْفِ، فَدَخَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ. فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر
ابن حزم، قَالَ: صَفّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ قُرَيْشٌ، وَطَلَعَتْ قُرَيْشٌ وَرَسُولُ اللهِ يَصُفّهُمْ، وَقَدْ أَتْرَعُوا حَوْضًا، يَفْرُطُونَ [ (1) ] فِيهِ مِنْ السّحَرِ، وَيَقْذِفُونَ فِيهِ الْآنِيَةَ. وَدَفَعَ رَايَتَهُ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَتَقَدّمَ بِهَا إلَى مَوْضِعِهَا الّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضَعَهَا فِيهِ. وَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَى الصّفُوفِ، فَاسْتَقْبَلَ الْمَغْرِبَ، وَجَعَلَ الشّمْسَ خَلْفَهُ، وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ فَاسْتَقْبَلُوا الشّمْسَ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُدْوَةِ الشّامِيّةِ وَنَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْيَمَانِيّةِ- عُدْوَتَا النّهْرِ وَالْوَادِي جَنْبَتَاهُ- فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كَانَ هَذَا مِنْك عَنْ وَحْيٍ نَزَلَ إلَيْك فَامْضِ لَهُ، وَإِلّا فَإِنّي أَرَى أَنْ تَعْلُوَ الْوَادِيَ، فَإِنّي أَرَى رِيحًا قَدْ هَاجَتْ مِنْ أَعْلَى الْوَادِي، وَإِنّي أَرَاهَا بُعِثَتْ بِنَصْرِك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ صَفَفْت صُفُوفِي وَوَضَعْت رَايَتِي، فَلَا أُغَيّرُ ذَلِكَ! ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [ (2) ] ، بَعْضُهُمْ عَلَى إثْرِ بَعْض. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ قَالَ: عَدّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّفُوفَ يَوْمَئِذٍ، فَتَقَدّمَ سَوَادُ بْنُ غَزِيّةَ أَمَامَ الصّفّ، فَدَفَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ فِي بَطْنِ سواد بن غزيّة، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَوِ [ (3) ] يَا سَوَادُ! فَقَالَ لَهُ سَوَادُ: أوجعتنى،
وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ نَبِيّا، أَقِدْنِي! فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَطْنِهِ، ثُمّ قَالَ: اسْتَقِدْ! فَاعْتَنَقَهُ وَقَبّلَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت؟ فَقَالَ: حَضَرَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا قَدْ تَرَى، وَخَشِيت الْقَتْلَ، فَأَرَدْت أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِي بِك، أَنْ أَعْتَنِقَك [ (1) ] . قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوّي الصّفُوفَ يَوْمَئِذٍ، وَكَأَنّمَا يُقَوّمُ بِهَا الْقِدَاحَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ: قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَوْدٍ، قَالَ: سَمِعْت عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ يَقُولُ: وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْكُوفَةِ: بَيْنَا أَنَا أَمِيحُ [ (2) ] فِي قَلِيبِ بَدْرٍ- أَمِيحُ يَعْنِي أَسْتَقِي، وَهُوَ مَنْ يَنْزِعُ الدّلَاءَ، وَهُوَ الْمَتْحُ أَيْضًا- جَاءَتْ رِيحٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطّ شِدّةً، ثُمّ ذَهَبَتْ فَجَاءَتْ رِيحٌ أُخْرَى، لَمْ أَرَ مِثْلَهَا إلّا الّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا، ثُمّ جَاءَتْ رِيحٌ أُخْرَى، لَمْ أَرَ مِثْلَهَا إلّا الّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا ثُمّ جَاءَتْ رِيحٌ أُخْرَى، لَمْ أَرَ مِثْلَهَا إلّا الّتِي كانت قبلها، وكانت الأولى جبرئيل فِي أَلْفٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثّانِيَةُ مِيكَائِيلَ فِي أَلْفٍ عَنْ ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ الثّالِثَةُ إسْرَافِيلَ فِي أَلْفٍ، نَزَلَ عَنْ مَيْسَرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي الْمَيْسَرَةِ، فَلَمّا هَزَمَ الله عزّ وجلّ أعداه حَمَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَمَزَتْ بِي [ (3) ] ، فَلَمّا جَمَزَتْ خَرَرْت عَلَى عُنُقِهَا، فَدَعَوْت رَبّي فَأَمْسَكَنِي حَتّى اسْتَوَيْت، وما لى وللخيل، وإنما كنت صاحب
غَنَمٍ! [ (1) ] فَلَمّا اسْتَوَيْت طَعَنْت بِيَدِي هَذِهِ حَتّى اخْتَضَبَتْ مِنّي ذَا- يَعْنِي إبِطَهُ. قَالُوا: وَكَانَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَيْمَنَةِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ. فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ. وَقَالَ قَائِلٌ: كَانَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ الْحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ [ (2) ] . حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، قَالَا: مَا كَانَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ- مَيْمَنَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ بَدْرٍ وَلَا عَلَى مَيْسَرَتِهِ أَحَدٌ يُسَمّى، وَكَذَلِكَ مَيْمَنَةُ الْمُشْرِكِينَ وميسرتهم، وما سَمِعْنَا فِيهَا بِأَحَدٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهَذَا الثّبْتُ عِنْدَنَا. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ الْأَعْظَمَ- لِوَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَلِوَاءُ الْخَزْرَجِ مع الحباب ابن الْمُنْذِرِ، وَلِوَاءُ الْأَوْسِ مَعَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَمَعَ قُرَيْشٍ ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءٌ مَعَ أَبِي عَزِيزٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَلِوَاءٌ مَعَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ. قَالُوا: وَخَطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ، وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ، وَيَحُثّهُمْ، وَيُرَغّبُهُمْ فِي الْأَجْرِ: أَمّا بَعْدُ، فَإِنّي أَحُثّكُمْ عَلَى مَا حَثّكُمْ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَمّا نَهَاكُمْ اللهُ عَنْهُ، فَإِنّ اللهَ عَظِيمٌ شَأْنُهُ، يَأْمُرُ بِالْحَقّ، وَيُحِبّ الصّدْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الْخَيْرِ أَهْلَهُ، عَلَى مَنَازِلِهِمْ عِنْدَهُ، بِهِ يُذْكَرُونَ وَبِهِ يَتَفَاضَلُونَ، وَإِنّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ بِمَنْزِلٍ
مِنْ مَنَازِلِ الْحَقّ، لَا يَقْبَلُ اللهُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ إلّا مَا ابْتَغَى بِهِ وَجْهَهُ. وَإِنّ الصّبْرَ فِي مَوَاطِنِ الْبَأْسِ مِمّا يُفَرّجُ اللهُ بِهِ الْهَمّ، وَيُنَجّي بِهِ مِنْ الْغَمّ، وَتُدْرِكُونَ [ (1) ] بِهِ النّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ. فِيكُمْ نَبِيّ اللهِ يُحَذّرُكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ، فَاسْتَحْيُوا الْيَوْمَ أَنْ يَطّلِعَ اللهُ عَزّ وَجَلّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكُمْ يَمْقُتُكُمْ عَلَيْهِ، فَإِنّ اللهَ يَقُولُ: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [ (2) ] . اُنْظُرُوا إلَى الّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ، وَأَرَاكُمْ مِنْ آيَاتِهِ، وَأَعَزّكُمْ بَعْدَ ذِلّةٍ، فَاسْتَمْسِكُوا بِهِ يَرْضَ رَبّكُمْ عَنْكُمْ. وَأَبْلَوْا رَبّكُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ أَمْرًا، تَسْتَوْجِبُوا الّذِي وَعَدَكُمْ بِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَإِنّ وَعْدَهُ حَقّ، وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وَعِقَابَهُ شَدِيدٌ. وَإِنّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ بِاَللهِ الْحَيّ الْقَيّومِ، إلَيْهِ أَلْجَأْنَا ظُهُورَنَا، وَبِهِ اعْتَصَمْنَا، وَعَلَيْهِ تَوَكّلْنَا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، يَغْفِرُ اللهُ لِي وَلِلْمُسْلِمِينَ! حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، وَمُحَمّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَا: لَمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا تُصَوّبُ مِنْ الْوَادِي- وَكَانَ أَوّلُ مَنْ طَلَعَ زَمَعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، يَتْبَعُهُ ابْنُهُ، فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَبَوّأَ [ (3) ] لِلْقَوْمِ مَنْزِلًا- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، إنّك أَنْزَلْت عَلَيّ الْكِتَابَ، وَأَمَرْتنِي بِالْقِتَالِ، وَوَعَدَتْنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ، وَأَنْتَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ! اللهُمّ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادّك [ (4) ] وَتُكَذّبُ رَسُولَك! اللهُمّ، نَصْرُك الّذِي وَعَدْتنِي! اللهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ! وَطَلَعَ عُتْبَةُ بن ربيعة على
جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ يَكُ فِي أَحَدٍ مِنْ القوم خير ففي صاحب الجمل الأخمر، إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ، حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: وَكَانَ إيمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ قَدْ بَعَثَ إلَى قُرَيْشٍ ابْنًا لَهُ بِعَشْرِ جَزَائِرَ حِينَ مَرّوا بِهِ، أَهْدَاهَا لَهُمْ، وَقَالَ: إنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نَمُدّكُمْ بِسِلَاحٍ وَرِجَالٍ- فَإِنّا مُعِدّونَ لِذَلِكَ مُؤَدّونَ- فَعَلْنَا. فَأَرْسَلُوا: أَنْ وَصَلَتْك رَحِمٌ، قَدْ قَضَيْت الّذِي عَلَيْك، فَلِعَمْرِي لَئِنْ كُنّا إنّمَا نُقَاتِلُ النّاسَ مَا بِنَا ضَعْفٌ عَنْهُمْ، وَلَئِنْ كُنّا نُقَاتِلُ اللهَ كَمَا يَزْعُمُ مُحَمّدٌ، فَمَا لِأَحَدٍ بِاَللهِ طَاقَةٌ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ جَدّهِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ خِفَافِ بْنِ إيمَاءِ بْنِ رَحْضَةَ، قَالَ: كَانَ أَبِي لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ، مُوَكّلٌ بِذَلِكَ. فَلَمّا مَرّتْ قُرَيْشٌ أَرْسَلَنِي بِجَزَائِرَ عَشْرٍ هَدِيّةً لَهَا، فَأَقْبَلْت أَسُوقُهَا وَتَبِعَنِي أَبِي، فَدَفَعْتهَا إلَى قُرَيْشٍ فَقَبِلُوهَا، فَوَزّعُوهَا فِي الْقَبَائِلِ. فَمَرّ أَبِي عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ- وَهُوَ سَيّدُ النّاسِ يَوْمَئِذٍ- فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، مَا هَذَا الْمَسِيرُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي وَاَللهِ غُلِبْت! قَالَ: فَأَنْتَ سَيّدُ الْعَشِيرَةِ، فَمَا يَمْنَعُك أَنْ تَرْجِعَ بِالنّاسِ وَتَحْمِلَ دَمَ حَلِيفِك [ (1) ] ، وَتَحْمِلَ الْعِيرَ الّتِي أَصَابُوا بِنَخْلَةَ فَتُوَزّعَهَا عَلَى قَوْمِك؟ وَاَللهِ، مَا تَطْلُبُونَ قِبَلَ مُحَمّدٍ إلّا هَذَا؟ وَاَللهِ، يَا أَبَا الْوَلِيدِ، مَا تَقْتُلُونَ بِمُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ إلّا أَنْفُسَكُمْ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا سَمِعْنَا بأحد ساد [ (2) ] بغير
مَالٍ إلّا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَمّا نَزَلَ الْقَوْمُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: ارْجِعُوا، فَإِنّهُ يَلِي هَذَا الْأَمْرَ مِنّي غَيْرُكُمْ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ تَلُوهُ مِنّي، وَأَلِيَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَلِيَهُ مِنْكُمْ. فَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: قَدْ عَرَضَ نِصْفًا، فَاقْبَلُوهُ [ (1) ] . وَاَللهِ لَا تُنْصَرُونَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا عَرَضَ مِنْ النّصْفِ. قَالَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاَللهِ، لَا نَرْجِعُ بَعْدَ أَنْ أَمْكَنَنَا اللهُ مِنْهُمْ، وَلَا نَطْلُبُ أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ، وَلَا يَعْتَرِضُ [ (2) ] لِعِيرِنَا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا. قَالُوا: وَأَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتّى وَرَدُوا الْحَوْضَ- مِنْهُمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ- فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ تَجْلِيَتَهُمْ [ (3) ]- يَعْنِي طَرْدَهُمْ- فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُمْ! فَوَرَدُوا الْمَاءَ فَشَرِبُوا، فَمَا شَرِبَ مِنْهُ أَحَدٌ إلّا قُتِلَ، إلّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: نَجَا حَكِيمٌ مِنْ الدّهْرِ مَرّتَيْنِ لِمَا أَرَادَ اللهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ. خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ جُلُوسٌ يُرِيدُونَهُ، فَقَرَأَ «يس» وَذَرّ [ (4) ] عَلَى رُءُوسِهِمْ التّرَابَ، فَمَا انْفَلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا قُتِلَ إلّا حَكِيمٌ، وَوَرَدَ الْحَوْضَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَا وَرَدَ الْحَوْضَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إلّا قُتِلَ إلّا حَكِيمٌ.
قَالُوا: فَلَمّا اطْمَأَنّ الْقَوْمُ بَعَثُوا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ- وَكَانَ صَاحِبَ قِدَاحٍ- فَقَالُوا: احْزِرْ لَنَا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْمُعَسْكَرِ فَصَوّبَ فِي الْوَادِي وَصَعِدَ، يَقُولُ: عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَدَدٌ أَوْ كَمِينٌ. ثُمّ رَجَعَ فقال: لا مدد ولا كمين، القوم ثلاثمائة إنْ زَادُوا قَلِيلًا، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا، وَمَعَهُمْ فَرَسَانِ. ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، الْبَلَايَا [ (1) ] تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النّاقِعَ، قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ! أَلَا تَرَوْنَهُمْ خُرْسًا لَا يَتَكَلّمُونَ، يَتَلَمّظُونَ تَلَمّظَ الْأَفَاعِي! وَاَللهِ، مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتّى يَقْتُلَ مِنّا رَجُلًا، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ مِثْلَ عَدَدِهِمْ فَمَا خَيْرٌ فِي العيش بعد ذلك! فارتأوا رَأْيَكُمْ! حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا قَالَ لَهُمْ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، أَرْسَلُوا أَبَا أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ- وَكَانَ فَارِسًا- فَأَطَافَ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: مَا رَأَيْت؟ قَالَ: وَاَللهِ، مَا رَأَيْت جَلَدًا، وَلَا عَدَدًا، وَلَا حَلْقَةً، وَلَا كُرَاعًا. وَلَكِنّي وَاَللهِ رَأَيْت قَوْمًا لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَئُوبُوا [ (2) ] إلَى أَهْلِيهِمْ، قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ، لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ، زُرْقُ الْعُيُونِ كَأَنّهُمْ الْحَصَى تَحْتَ الْحَجَفِ [ (3) ] . ثُمّ قَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ. فَصَوّبَ فِي الْوَادِي ثُمّ صَعِدَ، ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ، ثُمّ قَالَ: لَا كَمِينَ وَلَا مَدَدَ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ! حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بن عبد الله،
عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَمُحَمّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنِ رُومَانَ، قَالُوا: [لَمّا] [ (1) ] سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ مَشَى فِي النّاسِ، وَأَتَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا، وَالْمُطَاعُ فِيهَا، فَهَلْ لَك أَلّا تَزَالَ مِنْهَا بِخَيْرٍ آخِرَ الدّهْرِ، مَعَ مَا فَعَلْت يَوْمَ عُكَاظٍ! وَعُتْبَةُ يَوْمَئِذٍ رَئِيسُ النّاسِ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا خَالِدٍ؟ قَالَ: تَرْجِعُ بِالنّاسِ وَتَحْمِلُ دَمَ حَلِيفِك، وَمَا أَصَابَ مُحَمّدٌ مِنْ تِلْكَ الْعِيرِ بِبَطْنِ نَخْلَةَ. إنّكُمْ لَا تَطْلُبُونَ مِنْ مُحَمّدٍ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا الدّمِ وَالْعِيرِ. فَقَالَ عُتْبَةُ: قَدْ فَعَلْت وَأَنْتَ عَلَيّ بِذَلِكَ. قَالَ: ثُمّ جَلَسَ عُتْبَةُ عَلَى جَمَلِهِ، فَسَارَ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ يَقُولُ: يَا قَوْمِ، أَطِيعُونِي وَلَا تُقَاتِلُوا هَذَا الرّجُلَ وَأَصْحَابَهُ، وَاعْصِبُوا هَذَا الْأَمْرَ بِرَأْسِي وَاجْعَلُوا جُبْنَهَا بِي، فَإِنّ مِنْهُمْ رِجَالًا قَرَابَتُهُمْ قَرِيبَةٌ، وَلَا يَزَالُ الرّجُلُ مِنْكُمْ يَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ، فَيُورِثُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ [ (2) ] شَحْنَاءَ وَأَضْغَانًا، وَلَنْ تَخْلُصُوا إلَى قَتْلِهِمْ حَتّى يُصِيبُوا مِنْكُمْ عَدَدَهُمْ، مَعَ أَنّي لَا آمَنُ أَنْ تَكُونَ الدّائِرَةُ عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَطْلُبُونَ إلّا دَمَ هَذَا الرّجُلِ [ (3) ] وَالْعِيرَ الّتِي أَصَابَ، وَأَنَا أَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَهُوَ عَلَيّ! يَا قَوْمِ، إنْ يَكُ مُحَمّدٌ كَاذِبًا يَكْفِيكُمُوهُ ذُؤْبَانُ الْعَرَبِ- ذُؤْبَانُ الْعَرَبِ صَعَالِيكُ الْعَرَبِ- وَإِنْ يَكُ مَلِكًا أَكَلْتُمْ [ (4) ] فِي مُلْكِ ابْنِ أَخِيكُمْ، وَإِنْ يَكُ نَبِيّا كُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ! يَا قَوْمِ، لَا تَرُدّوا نَصِيحَتِي، وَلَا تُسَفّهُوا رَأْيِي! قَالَ: فَحَسَدَهُ أَبُو جَهْلٍ حِينَ سَمِعَ خُطْبَتَهُ وَقَالَ: إنْ يرجع الناس عن
خُطْبَةِ عُتْبَةَ يَكُنْ سَيّدَ الْجَمَاعَةِ- وَعُتْبَةُ أَنْطَقُ النّاسِ، وَأَطْوَلُهُمْ [ (1) ] لِسَانًا، وَأَجْمَلُهُمْ جَمَالًا. ثُمّ قَالَ عُتْبَةُ: أَنْشُدُكُمْ اللهَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الّتِي كَأَنّهَا الْمَصَابِيحُ، أَنْ تَجْعَلُوهَا أَنْدَادًا لِهَذِهِ الْوُجُوهِ الّتِي كَأَنّهَا وُجُوهُ الْحَيّاتِ! فَلَمّا فَرَغَ عُتْبَةُ مِنْ كَلَامِهِ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: إنّ عُتْبَةَ يُشِيرُ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ لِأَنّ ابْنَهُ مَعَ مُحَمّدٍ، وَمُحَمّدٌ ابْنُ عَمّهِ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَهُ وَابْنَ عَمّهِ. امْتَلَأَ، وَاَللهِ، سَحْرُك [ (2) ] يَا عُتْبَةُ، وَجَبُنْت حِينَ الْتَقَتْ حَلَقَتَا الْبِطَانِ! الْآنَ تُخَذّلُ بَيْنَنَا وَتَأْمُرُنَا بِالرّجُوعِ؟ لَا وَاَللهِ، لَا نَرْجِعُ حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ! قَالَ: فَغَضِبَ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُصَفّرَ اسْتِهِ، سَتَعْلَمُ أَيّنَا أَجْبَنُ وَأَلْأَمُ، وَسَتَعْلَمُ قُرَيْشٌ مَنْ الْجَبَانُ الْمُفْسِدُ لِقَوْمِهِ! [وَأَنْشَدَ ... ] [ (3) ] هَلْ جَبَانٌ [ (4) ] وَأَمَرْت أَمْرِي ... فَبَشّرِي [ (5) ] بِالثّكْلِ أُمّ عَمْرِو ثُمّ ذَهَبَ أَبُو جَهْلٍ إلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيّ أَخِي الْمَقْتُولِ بِنَخْلَةَ، فَقَالَ، هَذَا حَلِيفُك- يَعْنِي عُتْبَةَ- يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنّاسِ وَقَدْ رَأَيْت ثَأْرَك بِعَيْنَيْك، وَيُخَذّلَ بَيْنَ النّاسِ، قَدْ تَحَمّلَ دَمَ أخيك وزعم أنّك قابل الدية. ألا تستحي [ (6) ] تَقْبَلُ الدّيَةَ، وَقَدْ قَدَرْت عَلَى قَاتِلِ أَخِيك؟ قُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ. [ (7) ] فَقَامَ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ فَاكْتَشَفَ، ثُمّ حَثَا عَلَى رَأْسِهِ [ (8) ] التّرَابَ، ثُمّ
صرخ: وا عمراه! يُخْزِي بِذَلِكَ عُتْبَةَ لِأَنّهُ حَلِيفُهُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ، فَأَفْسَدَ عَلَى النّاسِ الرّأْيَ الّذِي دَعَاهُمْ إلَيْهِ عُتْبَةُ، وَحَلَفَ عَامِرٌ لَا يَرْجِعُ حَتّى يَقْتُلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ. وَقَالَ [ (1) ] لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ: حَرّشْ بَيْنَ النّاسِ! فَحَمَلَ عُمَيْرٌ، فَنَاوَشَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنْ يَنْقُضَ الصّفّ، فَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَفّهِمْ وَلَمْ يَزُولُوا، وَتَقَدّمَ ابْنُ الْحَضْرَمِيّ، فَشَدّ عَلَى الْقَوْمِ فَنَشِبَتْ الْحَرْبُ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: لَمّا أَفْسَدَ الرّأْيَ أَبُو جَهْلٍ عَلَى النّاسِ، وَحَرّشَ بَيْنَهُمْ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ فَأَقْحَمَ فَرَسَهُ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ خَرَجَ إلَيْهِ مَهْجَعُ مَوْلَى عُمَرَ، فَقَتَلَهُ عَامِرٌ. وَكَانَ أَوّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، قَتَلَهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ- وَيُقَالُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ- قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ الْعُقَيْلِيّ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: مَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ الْمَكّيّينَ يَقُولُ إلّا حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ. قَالُوا: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فِي مَجْلِسِ وِلَايَتِهِ: يَا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ، أَنْتَ حَازِرُنَا لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، تُصَعّدُ فِي الْوَادِي وَتُصَوّبُ، كَأَنّي أَنْظُرُ إلَى فَرَسِك [ (2) ] تَحْتَك، تُخْبِرُ الْمُشْرِكِينَ أَنّهُ لَا كَمِينَ لَنَا وَلَا مَدَدَ! قَالَ: إي وَاَللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَأُخْرَى، أَنَا وَاَللهِ الّذِي حَرّشْتُ بَيْنَ النّاسِ يَوْمَئِذٍ، وَلَكِنّ اللهَ جَاءَ بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا لَهُ، فَمَا كَانَ فِينَا مِنْ الشّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ عُمَرُ: صَدَقْت! قَالُوا: كَلّمَ عُتْبَةُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ فَقَالَ: لَيْسَ عند أحد خلاف إلّا
عِنْدَ ابْنِ الْحَنْظَلِيّةِ، اذْهَبْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ «إنّ عُتْبَةَ يَحْمِلُ دَمَ حَلِيفِهِ وَيَضْمَنُ الْعِيرَ» . قَالَ حَكِيمٌ: فَدَخَلْت عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يَتَخَلّقُ بِخَلُوقٍ [ (1) ] ، وَدِرْعُهُ مَوْضُوعَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْت: إنّ عُتْبَةَ بَعَثَنِي إلَيْك. فَأَقْبَلَ عَلَيّ مُغْضَبًا فَقَالَ: أَمَا وَجَدَ عُتْبَةُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَك؟ فَقُلْت: أَمَا وَاَللهِ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَرْسَلَنِي مَا مَشَيْت فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَشَيْت فِي إصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ، وَكَانَ أَبُو الْوَلِيدِ سَيّدَ. الْعَشِيرَةِ. فَغَضِبَ غَضْبَةً أُخْرَى فَقَالَ: وَتَقُولُ أَيْضًا سَيّدَ الْعَشِيرَةِ؟ فَقُلْت: أَنَا أَقُولُهُ؟ قُرَيْشٌ كُلّهَا تَقُولُهُ! فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَصِيحَ بِخَفْرَتِهِ، وَاكْتُشِفَ وَقَالَ: إنّ عُتْبَةَ جَاعَ فَاسْقُوهُ سَوِيقًا! وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: إنّ عُتْبَةَ جَاعَ فَاسْقُوهُ سَوِيقًا! وَجَعَلَ أَبُو جَهْلٍ يُسَرّ بِمَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِعُتْبَةَ. قَالَ حَكِيمٌ: فَجِئْت إلَى مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، فَقُلْت لَهُ مِثْلَ مَا قُلْت لِأَبِي جَهْلٍ، فَوَجَدْته خَيْرًا مِنْ أَبِي جَهْلٍ. قَالَ: نِعْمَ مَا مَشَيْت فِيهِ وَمَا دَعَا إلَيْهِ عُتْبَةُ! فَرَجَعْت إلَى عُتْبَةَ فَوَجَدْته [ (2) ] قَدْ غَضِبَ مِنْ كَلَامِ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَ عَنْ جَمَلِهِ، وَقَدْ طَافَ عَلَيْهِمْ فِي عَسْكَرِهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِالْكَفّ عَنْ الْقِتَالِ، فَيَأْبَوْنَ. فَحَمِيَ، فَنَزَلَ فَلَبِسَ دِرْعَهُ، وَطَلَبُوا لَهُ بَيْضَةً تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِدْ فِي الْجَيْشِ بَيْضَةً تَسَعُ رَأْسَهُ مِنْ عِظَمِ هَامَتِهِ. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ اعْتَجَرَ [ (3) ] ثُمّ بَرَزَ [ (4) ] بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ وَبَيْنَ ابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، فَبَيْنَا أَبُو جَهْلٍ فِي الصّفّ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى، حَاذَاهُ عُتْبَةُ وَسَلّ عُتْبَةُ سَيْفَهُ، فَقِيلَ: هُوَ وَاَللهِ يَقْتُلُهُ! فَضَرَبَ بِالسّيْفِ عُرْقُوبَيْ فَرَسِ أَبِي جَهْلٍ، فَاكْتَسَعَتْ [ (5) ] الْفَرَسُ، فَقُلْت: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ! قَالُوا: قَالَ عُتْبَةُ: انْزِلْ، فَإِنّ هَذَا اليوم ليس
بِيَوْمِ رُكُوبٍ، لَيْسَ كُلّ قَوْمِك رَاكِبًا. فَنَزَلَ أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ يَقُولُ: سَتَعْلَمُ أَيّنَا أَشْأَمَ عَشِيرَتَهُ الْغَدَاةَ! ثُمّ دَعَا عُتْبَةُ إلَى الْمُبَارَزَةِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَاضْطَجَعَ فَغَشِيَهُ النّوْمُ [ (1) ] ، وَقَالَ: لَا تُقَاتِلُوا حَتّى أُوذِنَكُمْ، وَإِنْ كَثَبُوكُمْ فَارْمُوهُمْ وَلَا تَسُلّوا السّيُوفَ حَتّى يَغْشَوْكُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ دَنَا الْقَوْمُ وَقَدْ نَالُوا مِنّا. فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ، وَقَدْ أَرَاهُ اللهُ إيّاهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا، وَقَلّلَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْيُنِ بَعْضٍ، فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، يُنَاشِدُ رَبّهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ النّصْرِ، وَيَقُولُ: اللهُمّ، إنْ تَظْهَرْ عَلَيّ هَذِهِ الْعِصَابَةُ يَظْهَرْ الشّرْكُ، وَلَا يَقُمْ لَك دِين. وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاَللهِ، لَيَنْصُرَنك اللهُ وَلَيُبَيّضَن وَجْهَك. وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أُشِيرُ عَلَيْك- وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ وَأَعْلَمُ بِاَللهِ مِنْ أَنْ يُشَارَ عَلَيْهِ- إنّ اللهَ أَجَلّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَنْشُدَهُ وَعْدَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، أَلَا أَنْشُدُ اللهَ وَعْدَهُ؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ! * وَأَقْبَلَ عُتْبَةُ يَعْمِدُ إلَى الْقِتَالِ، فَقَالَ لَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: أَبَا الْوَلِيدِ، مَهْلًا، مَهْلًا! تَنْهَى عَنْ شَيْءٍ وَتَكُونُ أَوّلَهُ! وَقَالَ خِفَافُ بْنُ إيمَاءٍ: فَرَأَيْت أَصْحَابَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ تَصَافّ النّاسُ وَتَزَاحَفُوا [ (2) ] ، فَرَأَيْت أَصْحَابَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسُلّونَ السّيُوفَ، وَقَدْ أَنْبَضُوا [ (3) ] الْقِسِيّ، وَقَدْ تَرّسَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِصُفُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ، لَا فُرَجَ بَيْنَهَا، وَالْآخَرُونَ قَدْ سَلّوا السّيُوفَ حِينَ طَلَعُوا. فَعَجِبْت مِنْ ذَلِكَ فَسَأَلْت بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ، أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ألّا نسل
السّيُوفَ حَتّى يَغْشَوْنَا. قَالُوا: فَلَمّا تَزَاحَفَ النّاسُ قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيّ حِينَ دَنَا مِنْ الْحَوْضِ: أُعَاهِدُ اللهَ لَأَشْرَبَن مِنْ حَوْضِهِمْ، أَوْ لَأَهْدِمَنهُ، أَوْ لَأَمُوتَن دُونَهُ. فَشَدّ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ حَتّى دَنَا مِنْ الحوض، فاستقبله حمزة ابن عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَضَرَبَهُ فَأَطَنّ [ (1) ] قَدَمَهُ، فَزَحَفَ الْأَسْوَدُ حَتّى وَقَعَ فِي الْحَوْضِ فَهَدَمَهُ بِرِجْلِهِ الصّحِيحَةِ، وَشَرِبَ مِنْهُ، وَأَتْبَعَهُ حَمْزَةُ فَضَرَبَهُ فِي الْحَوْضِ فَقَتَلَهُ. وَالْمُشْرِكُونَ يَنْظُرُونَ عَلَى صُفُوفِهِمْ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنّهُمْ ظَاهِرُونَ، فَدَنَا النّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَخَرَجَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ حَتّى فَصَلُوا مِنْ الصّفّ، ثُمّ دَعَوْا إلَى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِتْيَانٌ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ بَنُو عَفْرَاءَ: معاذ ومعوّذ وعوف، بدو الْحَارِثِ- وَيُقَالُ ثَالِثُهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، والثبت عندنا أنّهم بنو عفراء- فاستحيى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذَلِكَ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ أَوّلَ قِتَالٍ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَنْصَارِ، وَأَحَبّ أَنْ تَكُونَ الشّوْكَةُ لِبَنِي عَمّهِ وَقَوْمِهِ، فَأَمَرَهُمْ فَرَجَعُوا إلَى مَصَافّهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ خَيْرًا. ثُمّ نَادَى مُنَادِي الْمُشْرِكِينَ: يَا مُحَمّدُ، أَخْرِجْ لَنَا الْأَكْفَاءَ مِنْ قَوْمِنَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، قُومُوا فَقَاتَلُوا بِحَقّكُمْ الّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيّكُمْ، إذْ جَاءُوا بِبَاطِلِهِمْ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ. فَقَامَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طالب، وعبيدة بن الحارث ابن الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَمَشَوْا إلَيْهِمْ، فَقَالَ عُتْبَةُ: تَكَلّمُوا نَعْرِفْكُمْ- وَكَانَ عَلَيْهِمْ الْبِيضُ فَأَنْكَرُوهُمْ- فَإِنْ كُنْتُمْ أَكْفَاءَ قَاتَلْنَاكُمْ. فَقَالَ حَمْزَةُ: أَنَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ. قَالَ عُتْبَةُ: كُفْءٌ كَرِيمٌ. ثُمّ قَالَ عُتْبَةُ: وَأَنَا أَسَدُ الْحُلَفَاءِ، وَمَنْ هَذَانِ مَعَك؟ قال: علىّ
ابن أبى طالب وعبيدة بن الحارث. قال: كفآن كَرِيمَانِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ لِعُتْبَةَ كَلِمَةً قَطّ أَوْهَنَ مِنْ قَوْلِهِ «أَنَا أَسَدُ الْحُلَفَاءِ» ، يَعْنِي بِالْحُلَفَاءِ الْأَجَمَةَ [ (1) ] . ثُمّ قَالَ عُتْبَةُ لِابْنِهِ: قُمْ يَا وَلِيدُ. فَقَامَ الْوَلِيدُ، وَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ، وَكَانَ أَصْغَرَ النّفَرِ، فَقَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ. ثُمّ قَامَ عُتْبَةُ، وَقَامَ إلَيْهِ حَمْزَةُ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَقَتَلَهُ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ثُمّ قَامَ شَيْبَةُ، وَقَامَ إلَيْهِ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَسَنّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَرَبَ شَيْبَةُ رِجْلَ عُبَيْدَةَ بِذُبَابِ السّيْفِ، فَأَصَابَ عَضَلَةَ سَاقِهِ فَقَطَعَهَا. وَكَرّ حَمْزَةُ وَعَلِيّ عَلَى شَيْبَةَ فَقَتَلَاهُ، وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ فَحَازَاهُ إلَى الصّفّ، وَمُخّ سَاقِهِ يَسِيلُ، فَقَالَ عُبَيْدَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْت شَهِيدًا؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَمَا وَاَللهِ، لَوْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ حَيّا لَعَلِمَ أَنّا أَحَقّ بِمَا قَالَ مِنْهُ [ (2) ] حين يقول:
كَذَبْتُمْ وَبَيْتُ اللهِ نُخْلِي مُحَمّدًا ... وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ [ (1) ] ونسلمه [ (2) ] حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [ (3) ] . حَمْزَةُ أَسَنّ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَالْعَبّاسُ أَسَنّ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثِ سِنِينَ. قَالُوا: وَكَانَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ دَعَا إلَى الْبِرَازِ قَامَ إلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو حُذَيْفَةَ يُبَارِزُهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ! فَلَمّا قَامَ إلَيْهِ النّفَرُ أَعَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى أَبِيهِ بِضَرْبَةٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: شَيْبَةُ أَكْبَرُ مِنْ عُتْبَةَ بِثَلَاثِ سِنِينَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قَالَ: وَاسْتَفْتَحَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: اللهُمّ، أَقْطَعُنَا لِلرّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَأَحِنْهُ [ (4) ] الْغَدَاةَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... [ (5) ] الْآيَةَ. فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: لَمّا تَوَاقَفَ النّاسُ أُغْمِيَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، ثُمّ كُشِفَ عَنْهُ فَبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِجِبْرِيلَ فى جند من الملائكة فى ميمنة
النّاسِ، وَمِيكَائِيلَ فِي جُنْدٍ آخَرَ فِي مَيْسَرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِسْرَافِيلَ فِي جُنْدٍ آخَرَ بِأَلْفٍ. وَإِبْلِيسُ قَدْ تَصَوّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيّ يُذَمّرُ [ (1) ] الْمُشْرِكِينَ وَيُخْبِرُهُمْ أَنّهُ لَا غَالِبَ لَهُمْ مِنْ النّاسِ، فَلَمّا أَبْصَرَ عَدُوّ اللهِ الْمَلَائِكَةَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَقَالَ: إِنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ [ (2) ] ! فَتَشَبّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَهُوَ يَرَى أَنّهُ سُرَاقَةُ لِمَا سَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ فَسَقَطَ الْحَارِثُ، وَانْطَلَقَ إبْلِيسُ لَا يُرَى حَتّى وَقَعَ فِي الْبَحْرِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: يَا رَبّ، مَوْعِدُك الّذِي وَعَدْتنِي! وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَحَضّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَقَالَ: لَا يَغُرّنكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ إيّاكُمْ، فَإِنّمَا كَانَ عَلَى مِيعَادٍ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، سَيَعْلَمُ إذَا رَجَعْنَا إلَى قُدَيْدٍ [ (3) ] مَا نَصْنَعُ بِقَوْمِهِ! لَا يَهُولَنكُمْ مَقْتَلُ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ، فَإِنّهُمْ عَجّلُوا وَبَطِرُوا حِينَ قَاتَلُوا! وَأَيْمُ اللهِ، لَا نَرْجِعُ الْيَوْمَ حَتّى نَقْرِنَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي الْحِبَالِ، فَلَا أُلْفِيَن أَحَدًا مِنْكُمْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا، نُعَرّفُهُمْ بِاَلّذِي صَنَعُوا لِمُفَارَقَتِهِمْ دِينَكُمْ وَرَغْبَتَهُمْ عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ! حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ! وَشِعَارَ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي عَبْدِ اللهِ! وَشِعَارَ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللهِ! حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدِ بن
عُمَرَ بْنِ عَلِيّ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيّ، قَالَ: كَانَ شِعَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بَدْرٍ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ! قَالُوا: وَكَانَ فِتْيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ سَبْعَةٌ قَدْ أَسْلَمُوا، فَاحْتَبَسَهُمْ آبَاؤُهُمْ فخرجوا معهم إلى بدروهم على الشكّ والارتياب: قيس [ (1) ] بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة، وَعَلِيّ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ. فَلَمّا قَدِمُوا بَدْرًا، وَرَأَوْا قِلّةَ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: غرّ هولاء دِينُهُمْ! يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ (2) ] . وَهُمْ مَقْتُولُونَ الْآنَ. يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ [ (2) ] ، ثُمّ ذَكَرَ الّذِينَ كَفَرُوا شَرّ الذّكْرِ فَقَالَ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ [ (3) ] إلَى قَوْلِهِ: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [ (4) ] . يَقُولُ: يُقْبِلُونَ، نَكَلَ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ كُلّهَا. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ (5) ] . يَقُولُ: وَإِنْ قَالُوا قَدْ أَسْلَمْنَا عَلَانِيَةً، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [ (6) ] . يَقُولُ: أَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ (1) ] . حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي الرّجَالِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ: جَعَلَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْقُوّةِ أَنْ يَغْلِبَ الْعِشْرُونَ إذَا كَانُوا صَابِرِينَ مِائَتَيْنِ، وَيَمُدّهُمْ يَوْمَ بَدْر بِأَلْفَيْنِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَلَمّا عَلِمَ أَنّ فِيهِمْ الضّعْفَ خَفّفَ عَنْهُمْ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ، مَرْجَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ، فِيمَنْ أُصِيبَ بِبَدْرٍ مِمّنْ يَدّعِي الْإِسْلَامَ عَلَى الشّكّ وَقُتِلَ مَعَ المشركين يومئذ- وكانوا سَبْعَةَ نَفَرٍ حَبَسَهُمْ آبَاؤُهُمْ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، وَفِيهِمْ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ- وَفِيمَنْ أَقَامَ بِمَكّةَ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، فَقَالَ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [ (2) ] إلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٍ. قَالَ: وَكَتَبَ بِهَا الْمُهَاجِرُونَ إلَى مَنْ بِمَكّةَ مُسْلِمًا، فَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ ضَمْرَةَ الْجُنْدُعِيّ [ (3) ] : لَا عُذْرَ لِي وَلَا حُجّةَ فِي مُقَامِي بِمَكّةَ. وَكَانَ مَرِيضًا، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: اخرجوا بى لعلّى أجد روحا. قالوا: أَيّ وَجْهٍ أَحَبّ إلَيْك؟ قَالَ: نَحْوَ التّنْعِيمِ. قَالَ: فَخَرَجُوا بِهِ إلَى التّنْعِيمِ- وَبَيْنَ التّنْعِيمِ وَمَكّةَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ- فَقَالَ: اللهُمّ إنّي خَرَجْت إلَيْك مُهَاجِرًا! فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (4) ] ، إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِمَكّةَ مِمّنْ يُطِيقُ الْخُرُوجَ خَرَجُوا، فَطَلَبَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَرَدّوهُمْ وَسَجَنُوهُمْ، فَافْتُتِنَ مِنْهُمْ نَاسٌ، فَكَانَ الّذِينَ اُفْتُتِنُوا حِينَ أَصَابَهُمْ الْبَلَاءُ. فأنزل الله
عَزّ وَجَلّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ ... [ (1) ] ، إلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَآيَتَيْنِ بَعْدَهَا. فَكَتَبَ بِهَا الْمُهَاجِرُونَ إلَى مَنْ بِمَكّةَ مُسْلِمًا، فَلَمّا جَاءَهُمْ الْكِتَابُ بِمَا نَزَلَ فِيهِمْ قَالُوا: اللهُمّ، إنّ لَك عَلَيْنَا إنْ أَفْلَتْنَا أَلّا نَعْدِلَ بِك أَحَدًا! فَخَرَجُوا الثّانِيَةَ، فَطَلَبَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَأَعْجَزُوهُمْ هَرَبًا فِي الْجِبَالِ حَتّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ. وَاشْتَدّ الْبَلَاءُ عَلَى مَنْ رَدّوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبُوهُمْ وَآذَوْهُمْ، وَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ. وَرَجَعَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَقَالَ لِقُرَيْشٍ: مَا كَانَ يُعَلّمُهُ إلّا ابْنُ قَمّطَةَ، عَبْدٌ نَصْرَانِيّ، قَدْ كُنْت أَكْتُبُ لَهُ فَأُحَوّلُ مَا أَرَدْت. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ... [ (2) ] وَاَلّتِي تَلِيهَا، وَأَنْزَلَ اللهُ فِيمَنْ رَدّ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ مِمّنْ أَصَابَهُ الْبَلَاءُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ... [ (3) ] وَثَلَاثَ آيَاتٍ بَعْدَهَا. وَكَانَ مِمّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْكُفْرِ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ. ثُمّ أَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي الّذِينَ فَرّوا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الّذِينَ صَبَرُوا عَلَى الْعَذَابِ بَعْدَ الْفِتْنَةِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ... [ (4) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ أَبِي حَيّةَ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: نَادَى يَوْمَئِذٍ نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيّةِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ
سُرَاقَةَ [ (1) ] قَدْ عَرَفْتُمْ قَوْمَهُ وَخِذْلَانَهُمْ لَكُمْ فِي كُلّ مَوْطِنٍ، فَاصْدُقُوا الْقَوْمَ الضّرْبَ فَإِنّي أَعْلَمُ أَنّ ابْنَيْ رَبِيعَةَ قَدْ عَجِلَا فِي مُبَارَزَتِهِمَا مَنْ بَارَزَا. أَخْبَرَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي عُبَيْدُ بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة ابن رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إنْ كُنّا لَنَسْمَعُ لِإِبْلِيسَ يَوْمَئِذٍ خُوَارًا، وَدَعَا بِالثّبُورِ وَالْوَيْلِ، وَتَصَوّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ، حَتّى هَرَبَ فَاقْتَحَمَ الْبَحْرَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدّا يَقُولُ: يَا رَبّ، مَا وَعَدْتنِي! وَلَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ تُعَيّرُ سُرَاقَةَ بِمَا صَنَعَ يَوْمَئِذٍ، فَيَقُولُ: وَاَللهِ، مَا صَنَعْت مِنْهُ شَيْئًا. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ، قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ الْأَسْلَمِيّ. عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ حنين مولى بنى العبّاس، عن عمارة ابن أُكَيْمَةَ اللّيْثِيّ، قَالَ: حَدّثَنِي شَيْخٌ عَرّاكٌ- عَرّاكٌ: صَيّادٌ مِنْ الْحَيّ- كَانَ يَوْمَئِذٍ عَلَى السّاحِلِ مُطِلّا عَلَى الْبَحْرِ، قَالَ: سَمِعْت صِيَاحًا: يَا وَيْلَاه! مَلَأَ الْوَادِيَ! يَا حُزْنَاهُ [ (2) ] ! فَنَظَرْت فَإِذَا سراقة بن جعشم، فدنوت منه فقلت: مالك فِدَاك أَبِي وَأُمّي! فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيّ شَيْئًا، ثُمّ أَرَاهُ اقْتَحَمَ الْبَحْرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدّا يَقُولُ: يَا رَبّ، مَا وَعَدْتنِي! فَقُلْت فِي نَفْسِي: جُنّ وَبَيْتِ اللهِ سُرَاقَةُ! وَذَلِكَ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ، وَذَاكَ عِنْدَ [ (3) ] انْهِزَامِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالُوا: وَكَانَ سِيمَاءُ الْمَلَائِكَةِ عَمَائِمَ قَدْ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، خُضْرًا وَصُفْرًا وَحُمْرًا مِنْ نُورٍ، وَالصّوفُ فِي نَوَاصِي خَيْلِهِمْ حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ، فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ: إنّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ سَوّمَتْ فَسَوّمُوا. فَأَعْلَمُوا بِالصّوفِ فِي مَغَافِرِهِمْ وَقَلَانِسِهِمْ. أَخْبَرَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يُعْلِمُونَ فِي الزّحُوفِ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المطلب معلم يوم بدر بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ، وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ مُعْلِمًا بِصُوفَةٍ بَيْضَاءَ، وَكَانَ الزّبَيْرُ مُعْلِمًا بِعِصَابَةٍ صَفْرَاءَ. وَكَانَ الزّبَيْرُ يُحَدّثُ: إنّ الْمَلَائِكَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، عَلَيْهَا عَمَائِمُ صُفْرٌ. فَكَانَ عَلَى الزّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ عِصَابَةٌ صَفْرَاءُ، وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ يُعْلِمُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ. حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قال: حدّثنى عَبْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عبد الله ابن أَبِي أُمَيّةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مَوْلًى لِسُهَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْت سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْت يَوْمَ بَدْرٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ، مُعْلِمِينَ، يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ. وَكَانَ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ يُحَدّثُ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ قَالَ: لَوْ كنت معكم الْآنَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكُمْ الشّعْبَ- وَهُوَ الْمَلْصُ [ (1) ]- الّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكّ فِيهِ وَلَا أَمْتَرِي. فَكَانَ يُحَدّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ حَدّثَهُ، قَالَ: أَقْبَلْت وَابْنُ عَمّ لِي يَوْمَ بَدْرٍ حَتّى صَعِدْنَا عَلَى جَبَلٍ، وَنَحْنُ مُشْرِكَانِ، وَنَحْنُ عَلَى إحْدَى عُجْمَتَيْ بَدْرٍ- الْعُجْمَةُ الشّامِيّةُ، الْعُجْمَةُ مِنْ رَمْلٍ- نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدّائِرَةُ [ (2) ] فَنَنْتَهِبُ مَعَ مَنْ يَنْتَهِبُ، إذْ رَأَيْت سَحَابَةً دَنَتْ مِنّا، فَسَمِعْت فِيهَا حَمْحَمَةَ الْخَيْلِ وَقَعْقَعَةَ اللّجُمِ وَالْحَدِيدِ، وسمعت قائلا يقول:
أَقْدِمْ حَيْزُومُ! فَأَمّا ابْنُ عَمّي فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ فَمَاتَ، وَأَمّا أَنَا فَكِدْت أَهْلَكَ، فَتَمَاسَكْت وَأَتْبَعْت الْبَصَرَ حَيْثُ تَذْهَبُ السّحَابَةُ، فَجَاءَتْ إلَى النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، ثُمّ رَجَعَتْ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمّا كُنْت أَسْمَعُ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الواقدىّ قال: فحدّثنى خارجة بن إبراهيم ابن مُحَمّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ: مَنْ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ «أَقْدِمْ حَيْزُومُ» ؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمّدُ، مَا كُلّ أَهْلِ السّمَاءِ أَعْرِفُ. قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جدة عبيد ابن أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيّ، عَنْ ابْنِ عَمّ لَهُ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَابْنُ عَمّ لِي عَلَى مَاءِ بَدْرٍ، فَلَمّا رَأَيْنَا قِلّةَ مَنْ مَعَ مُحَمّدٍ وَكَثْرَةَ قُرَيْشٍ، قُلْنَا: إذَا الْتَقَتْ الْفِئَتَانِ عَمَدْنَا إلَى عَسْكَرِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَانْطَلَقْنَا نَحْوَ الْمُجَنّبَةِ الْيُسْرَى مِنْ أَصْحَابِ محمّد، ونحن نقول: هولاء ربع قريش! فبينما نحن نمشي فى المسيرة، إذْ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَغَشِيَتْنَا، فَرَفَعْنَا أَبْصَارَنَا إلَيْهَا فَسَمِعْنَا أَصْوَاتَ الرّجَالِ وَالسّلَاحِ، وَسَمِعْنَا رَجُلًا يَقُولُ لِفَرَسِهِ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ! وَسَمِعْنَاهُمْ يَقُولُونَ: رُوَيْدًا، تَتَامّ أُخْرَاكُمْ! فَنَزَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، ثُمّ جَاءَتْ أُخْرَى مِثْلَ تِلْكَ، وَكَانَتْ مع النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَنَظَرْنَا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَإِذَا هُمْ الضّعْفُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَمَاتَ ابْنُ عَمّي، وَأَمّا أَنَا فَتَمَاسَكْت وَأَخْبَرْت النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ. وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ. قَالُوا: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما رؤي [ (1) ] الشيطان يوما هو
فِيهِ أَصْغَرُ، وَلَا أَحْقَرُ [ (1) ] ، وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ- وَمَا ذَاكَ إلّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزّلِ الرّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنْ الذّنُوبِ الْعِظَامِ- إلّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ. قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ: أَمَا إنّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ. قَالُوا: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ: هذا جبرئيل يَسُوقُ الرّيحَ كَأَنّهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ، إنّي نُصِرْت بِالصّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدّبُورِ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُولُ: رَأَيْت يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلَيْنِ، عَنْ يَمِينِ النّبِيّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا، وَعَنْ يَسَارِهِ أَحَدُهُمَا، يُقَاتِلَانِ أَشَدّ الْقِتَالِ، ثُمّ ثَلّثَهُمَا ثَالِثٌ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمّ رَبّعَهُمَا، رَابِعٌ أَمَامَهُ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ زِيَادٍ، مَوْلَى سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: رَأَيْت رَجُلَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَاتِلَانِ عَنْ النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِنّي لَأَرَاهُ يَنْظُرُ إلَى ذَا مَرّةً وَإِلَى ذَا مَرّةً، سُرُورًا بِمَا ظَفّرَهُ [ (2) ] اللهُ تَعَالَى. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ، حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا أَدْرِي كَمْ يَدٍ مَقْطُوعَةٍ وَضَرْبَةٍ جَائِفَةٍ [ (3) ] لَمْ يَدْمَ كَلْمُهَا يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ رَأَيْتهَا. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ، فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ أبى بردة بن نيار، قال: جئت
يَوْمَ بَدْرٍ بِثَلَاثَةِ رُءُوسٍ، فَوَضَعْتهَا بَيْنَ يَدَيْ رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمّا رَأْسَانِ فَقَتَلْتهمَا، وَأَمّا الثّالِثُ فَإِنّي رَأَيْت رَجُلًا أَبْيَضَ طَوِيلًا ضَرَبَهُ فَتَدَهْدَى [ (1) ] أَمَامَهُ، فَأَخَذْت رَأْسَهُ. فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: ذَاكَ فُلَانٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: لَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ إلّا يَوْمَ بَدْرٍ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْمَلَكُ يَتَصَوّرُ فِي صُورَةِ مَنْ يَعْرِفُونَ مِنْ النّاسِ يُثَبّتُونَهُمْ، فَيَقُولُ: إنّي قَدْ دَنَوْت مِنْهُمْ فَسَمِعْتهمْ يَقُولُونَ: لَوْ حَمَلُوا عَلَيْنَا مَا ثَبَتْنَا، لَيْسُوا بِشَيْءٍ. وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ... [ (2) ] ، إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ السّائِبُ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ الْأَسَدِيّ يُحَدّثُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ يَقُولُ: وَاَللهِ، مَا أَسَرَنِي أَحَدٌ مِنْ النّاسِ. فَيُقَالُ: فَمَنْ؟ فَيَقُولُ: لَمّا انْهَزَمَتْ قُرَيْشٌ انْهَزَمْت مَعَهَا، فَيُدْرِكُنِي رَجُلٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَأَوْثَقَنِي رِبَاطًا، وَجَاءَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَوَجَدَنِي مَرْبُوطًا، وَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ يُنَادِي فِي الْمُعَسْكَرِ: مَنْ أَسَرَ هَذَا؟ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنّهُ أَسَرَنِي، حَتّى انْتَهَى بِي إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ أَبِي حُبَيْشٍ، مَنْ أَسَرَك؟ فَقُلْت: لَا أَعْرِفُ. وَكَرِهْت أَنْ أُخْبِرَهُ بِاَلّذِي رَأَيْت، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: أَسَرَهُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ كَرِيمٌ، اذْهَبْ يَا ابْنَ عَوْفٍ بِأَسِيرِك! فَذَهَبَ بِي عَبْدُ الرحمن.
فَقَالَ السّائِبُ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ أَحْفَظُهَا، وَتَأَخّرَ إسْلَامِي حَتّى كَانَ مَا كَانَ مِنْ إسْلَامِي. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أُكَيْمَةَ اللّيْثِيّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتنَا يَوْمَ بَدْرٍ وقد وقع بوادي خلص بجاد [ (1) ] من المساء قَدْ سَدّ الْأُفُقَ- وَوَادِي خَلْصٍ نَاحِيَةَ الرّوَيْثَةِ- فَإِذَا الْوَادِي يَسِيلُ نَمْلًا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنّ هَذَا شَيْءٌ مِنْ السّمَاءِ أُيّدَ بِهِ مُحَمّدٌ، فَمَا كَانَتْ إلّا الْهَزِيمَةُ، وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ. قَالُوا: وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيّ، وَكَانَ قَدْ لَبِسَ السّلَاحَ يَوْمًا بِمَكّةَ فِي بَعْضِ مَا كَانَ بَلَغَ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ الْأَذَى، فَقَالَ: لَا يَعْتَرِضُ الْيَوْمَ أَحَدٌ لِمُحَمّدٍ بِأَذًى إلّا وَضَعْت فِيهِ السّلَاحَ. فَشَكَرَ ذَلِكَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ: فَلَحِقْته فَقُلْت: إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ نَهَى عَنْ قَتْلِك إنْ أَعْطَيْت بِيَدِك. قَالَ: وَمَا تُرِيدُ إلَيّ؟ إنْ كَانَ نَهَى عَنْ قَتْلِي قَدْ كُنْت أبليته ذلك، فأمّا أن أعطى بيدي، فو اللّات وَالْعُزّى لَقَدْ عَلِمَ نِسْوَةٌ بِمَكّةَ أَنّي لَا أُعْطِي بِيَدِي، وَقَدْ عَرَفْت أَنّك لَا تَدَعَنِي، فَافْعَلْ الّذِي تُرِيدُ. وَرَمَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَهْمٍ، وَقَالَ: اللهُمّ سَهْمُك، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ عَبْدُك، فَضَعْهُ فى مقتل! وأبو البخترىّ دارع، فقتق السّهْمُ الدّرْعَ فَقَتَلَهُ. وَيُقَالُ إنّ الْمُجَذّرَ بْنَ ذِيَادٍ [ (2) ] قَتَلَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ وَلَا يَعْرِفُهُ. وَقَالَ الْمُجَذّرُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا [ (3) ] عَرّفَ أَنّهُ قَتَلَهُ. ونهى النبىّ صلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ قَتْلِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَقَالَ: ائْسِرُوهُ وَلَا تَقْتُلُوهُ! وَكَانَ كَارِهًا لِلْخُرُوجِ إلَى بَدْرٍ، فَلَقِيَهُ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافٍ فَقَتَلَهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، فَبَلَغَ النّبِيّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوْ وَجَدْته قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ لَتَرَكْته لِنِسَائِهِ. وَنَهَى عَنْ قَتْلِ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، فَقَتَلَهُ ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ [ (1) ] وَلَا يَعْرِفُهُ. قَالُوا: وَلَمّا لَحِمَ الْقِتَالُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى النّصْرَ وَمَا وَعَدَهُ. يَقُولُ: اللهُمّ إنْ ظُهِرَ عَلَى هَذِهِ الْعِصَابَةِ ظَهَرَ الشّرْكُ، وَلَا يَقُومُ لَك دين! وأبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَاَللهِ، لَيَنْصُرَنك اللهُ وَلَيُبَيّضَن وَجْهَك. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ عِنْدَ أَكْنَافِ الْعَدُوّ. قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَبْشِرْ، هَذَا جِبْرِيلُ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ، آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ، بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَلَمّا نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ تَغَيّبَ عَنّي سَاعَةً ثُمّ طَلَعَ، عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ، يَقُولُ: أَتَاك نَصْرُ اللهِ إذْ دَعَوْته. قَالُوا: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ مِنْ الْحَصْبَاءِ كَفّا فَرَمَاهُمْ بِهَا، وَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ! اللهُمّ، أَرْعِبْ قُلُوبَهُمْ وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ! فَانْهَزَمَ أَعْدَاءُ اللهِ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا امْتَلَأَ وَجْهُهُ وَعَيْنَاهُ، مَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجّهُ مِنْ عَيْنَيْهِ، وَالْمَلَائِكَةُ يَقْتُلُونَهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ عَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنَا عَدِيّ وَالسّحْلِ ... أَمْشِي بِهَا مَشْيَ الْفَحْلِ يَعْنِي دِرْعَهُ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلّم: من عدى؟ فقال رجل
مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ عَدِيّ. قَالَ: وَمَاذَا؟ قَالَ: ابْنَ فُلَانٍ. قَالَ: لَسْت أَنْتَ عَدِيّا! فَقَالَ عَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ عَدِيّ. قَالَ: وَمَاذَا؟ قَالَ: وَالسّحْلُ أَمْشِي بِهَا مَشْيَ الْفَحْلِ. قَالَ النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: وَمَا السّحْلُ؟ قَالَ: الدّرْعُ. قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: نِعْمَ الْعَدِيّ، عَدِيّ بْنَ أَبِي الزّغْبَاءِ! وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِمَكّةَ، وَالنّبِيّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مُهَاجِرٌ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَقُولُ [ (1) ] : يَا رَاكِبَ النّاقَةِ الْقَصْوَاءِ هَاجَرْنَا ... عَمّا قَلِيلٍ تَرَانِي رَاكِبَ الْفَرَسِ أُعِلّ رُمْحِي فِيكُمْ ثُمّ أُنْهِلُهُ ... وَالسّيْفُ يَأْخُذُ مِنْكُمْ كُلّ مُلْتَبِسِ أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّناد. فقال النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَبَلَغَهُ قَوْلُهُ: اللهُمّ أَكِبّهُ لِمَنْخَرِهِ وَاصْرَعْهُ! قَالَ: فَجَمَحَ بِهِ فَرَسُهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَخَذَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ الْعَجْلَانِيّ، فَأَمَرَ بِهِ النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ [ (2) ] ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ صَبْرًا. وَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُولُ: إنّي لَأَجْمَعُ أَدْرَاعًا لِي يَوْمَ بَدْرٍ بَعْدَ أَنْ وَلّى النّاسُ، فَإِذَا أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ وَكَانَ لِي صَدِيقًا فِي الْجَاهِلِيّةِ، وَكَانَ اسْمِي عَبْدَ عَمْرٍو فَلَمّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سُمّيت عَبْدَ الرّحْمَنِ، فَكَانَ يَلْقَانِي فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَا أُجِيبُهُ. فَيَقُولُ: إنّي لَا أَقُولُ لَك عَبْدَ الرّحْمَنِ، إنّ مُسَيْلِمَةَ بِالْيَمَامَةِ يَتَسَمّى بِالرّحْمَنِ فَأَنَا لَا أَدْعُوك إلَيْهِ. فَكَانَ يَدْعُونِي عَبْدَ الْإِلَهِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ رَأَيْته عَلَى [ (3) ] جَمَلٍ أَوْرَقَ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عَلِيّ،
فَنَادَانِي: يَا عَبْدَ عَمْرٍو. فَأَبَيْت أَنْ أُجِيبَهُ، فَنَادَى: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ. فَأَجَبْته، فَقَالَ: أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللّبَنِ [ (1) ] ؟ نَحْنُ خَيْرٌ لَك مِنْ أَدْرَاعِك هَذِهِ. فَقُلْت: امْضِيَا! فَجَعَلْت أَسُوقُهُمَا أَمَامِي. وَقَدْ رَأَى أُمَيّةُ أَنّهُ قَدْ أَمِنَ بَعْضَ الْأَمْنِ، فَقَالَ لِي أُمَيّةُ: رَأَيْت رَجُلًا فِيكُمْ الْيَوْمَ مُعْلِمًا، فِي صَدْرِهِ رِيشَةُ نَعَامَةٍ، مَنْ هُوَ؟ قُلْت: حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. فَقَالَ: ذَاكَ الّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ. ثُمّ قَالَ: فَمَنْ رَجُلٌ دَحْدَاحٌ قَصِيرٌ، مُعْلِمٌ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ؟ قَالَ، قُلْت: ذَاكَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ [ (2) ] . فَقَالَ: وَبِذَاكَ أَيْضًا يَا عَبْدَ الْإِلَهِ صِرْنَا الْيَوْمَ جُزُرًا لكم! قال: فبينا هو معنى أُزْجِيهِ أَمَامِي، وَمَعَهُ ابْنُهُ، إذْ بَصُرَ بِهِ بَلَالٌ وَهُوَ يَعْجِنُ عَجِينًا لَهُ، [فَتَرَكَ الْعَجِينَ] [ (3) ] وَجَعَلَ يَفْتِلُ يَدَيْهِ مِنْ الْعَجِينِ فَتْلًا ذَرِيعًا، وَهُوَ يُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ رَأْسُ الْكُفْرِ، لَا نَجَوْت إنْ نَجَا! قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: فَأَقْبَلُوا كَأَنّهُمْ عُوذٌ [ (4) ] حَنّتْ إلَى أَوْلَادِهَا، حَتّى طُرِحَ أُمَيّةُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَاضْطَجَعْت عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَأَدْخَلَ سَيْفَهُ فَاقْتَطَعَ أَرْنَبَةَ أَنْفِهِ، فَلَمّا فَقَدَ أُمَيّةُ أَنْفَهُ قَالَ: إيه عَنْك! أَيْ خَلّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: فَذَكَرْت قَوْلَ حَسّانٍ* أَوْ عَنْ ذَلِكَ الْأَنْفِ جَادِع* وَأَقْبَلَ إلَيْهِ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافٍ فَضَرَبَهُ حَتّى قَتَلَهُ، وَقَدْ ضَرَبَ أُمَيّةُ خُبَيْبَ بْنَ يَسَافٍ حَتّى قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمَنْكِبِ، فَأَعَادَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ [ (5) ] فَالْتَحَمَتْ وَاسْتَوَتْ، فَتَزَوّجَ خُبَيْبٌ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنَةَ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَرَأَتْ تِلْكَ الضّرْبَةَ فقالت:
لَا يُشِلّ اللهُ يَدَ رَجُلٍ [فَعَلَ] [ (1) ] هَذَا! فَقَالَ خُبَيْبٌ: وَأَنَا وَاَللهِ قَدْ أَوْرَدَتْهُ شَعُوبٌ. فَكَانَ خُبَيْبٌ يُحَدّثُ قَالَ: فَأَضْرِبُهُ فَوْقَ الْعَاتِقِ، فَأَقْطَعُ عَاتِقَهُ حَتّى بَلَغْت مُؤْتَزَرَهُ وَعَلَيْهِ الدّرْعُ. وَأَنَا أَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ يَسَافٍ! وَأَخَذْت سِلَاحَهُ، وَدِرْعَهُ مَقْطُوعَةٌ. وَأَقْبَلَ عَلِيّ بْنُ أُمَيّةَ، فَيَعْتَرِضُ لَهُ الْحُبَابُ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، فَصَاحَ صَيْحَةً مَا سُمِعَ مِثْلُهَا قَطّ جَزَعًا، وَلَقِيَهُ عَمّارٌ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَقَتَلَهُ. وَيُقَالُ إنّ عَمّارًا لَاقَاهُ قَبْلَ الضّرْبَةِ [ (2) ] ، فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٍ فَقَتَلَهُ. وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ أَنّهُ ضَرَبَهُ بَعْدَ مَا قُطِعَتْ رِجْلُهُ، وَقَدْ سَمِعْنَا فِي قَتْلِ أُمَيّةَ غَيْرَ ذَلِكَ. حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَأَحْدَقْنَا بِأُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ لَهُ فِيهِمْ شَأْنٌ، وَمَعِي رُمْحِي وَمَعَهُ رُمْحُهُ، فَتَطَاعَنَا حَتّى سَقَطَتْ رِمَاحُنَا [ (3) ] ثُمّ صِرْنَا إلَى السّيْفَيْنِ فَتَضَارَبْنَا بِهِمَا حَتّى انْثَلَمَا، ثُمّ بَصُرْت بِفَتْقٍ فِي دِرْعِهِ تَحْتَ إبِطِهِ، فَخَشَشْت [ (4) ] السّيْفَ فِيهِ حَتّى قَتَلْته، وَخَرَجَ السيف وعليه والودك. وَقَدْ سَمِعْنَا وَجْهًا آخَرَ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ قُدَامَةَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ، قَالَتْ: قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ لِقُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ: يَا قُدَامَةُ، أَنْتَ الْمُشْلِي بِأَبِي يَوْمَ بَدْرٍ النّاسَ! فَقَالَ قُدَامَةُ: لَا وَاَللهِ، مَا فَعَلْت، وَلَوْ فَعَلْت مَا اعْتَذَرْت مِنْ قَتْلِ مُشْرِكٍ. قَالَ صَفْوَانُ: فمن يا قدام المشلى به يوم
بَدْرٍ النّاسَ؟ قَالَ: رَأَيْت فِتْيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ أَقْبَلُوا إلَيْهِ، فِيهِمْ مَعْمَرُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، يَرْفَعُ سَيْفَهُ وَيَضَعُهُ [فِيهِ] . فَيَقُولُ صَفْوَانُ: أَبُو قِرْدٍ! وَكَانَ مَعْمَرٌ رَجُلًا دَمِيمًا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ فَغَضِبَ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَى أُمّ صَفْوَانَ، وَهِيَ كَرِيمَةُ بِنْتُ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبٍ، فَقَالَ: مَا يَدَعُنَا صفوان من الأذى فى الجاهليّة وو الإسلام! فَقَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ فَأَخْبَرَهَا بِمَقَالَةِ صَفْوَانَ لِمَعْمَرٍ حِينَ قَالَ «أَبُو قِرْدٍ» . فَقَالَتْ أُمّ صَفْوَانَ: يَا صَفْوَانُ، تَنْتَقِصُ مَعْمَرَ بْنَ حَبِيبٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ وَاَللهِ، لَا أَقْبَلُ لَك كَرَامَةً سَنَةً. قَالَ صَفْوَانُ: يَا أُمّهُ، وَاَللهِ لَا أَعُودُ أَبَدًا، تَكَلّمْت بِكَلِمَةٍ لَمْ أُلْقِ بِهَا بَالًا. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنِي الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ، قَالَتْ: قِيلَ لِأُمّ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَنَظَرَتْ إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بمكّة: هذا الذي قطع رج عَلِيّ بْنِ أُمَيّةَ، يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَتْ: دَعُونَا مِنْ ذِكْرِ مَنْ قُتِلَ عَلَى الشّرْكِ! قَدْ أَهَانَ اللهُ عَلِيّا بِضَرْبَةِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَكْرَمَ اللهُ الْحُبَابَ بِضَرْبِهِ عَلِيّا، قَدْ كَانَ على الإسلام حين خرج من ها هنا، فَقُتِلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ: لَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ لَقِيت عُبَيْدَةَ بن سعيد ابن الْعَاصِ عَلَى فَرَسٍ، عَلَيْهِ لَأْمَةٌ كَامِلَةٌ لَا يُرَى مِنْهُ إلّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ- وَقَدْ كَانَتْ لَهُ صَبِيّةٌ صَغِيرَةٌ يَحْمِلُهَا، وَكَانَ لَهَا بطين وكانت مسقمة- أما أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ! أَنَا أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ! قال: وفي يدي عنزة [1]
فَأَطْعَنُ بِهَا فِي عَيْنِهِ وَوَقَعَ، وَأَطَأُ بِرِجْلِي عَلَى خَدّهِ حَتّى أَخْرَجْت الْعَنَزَةَ مِنْ حَدَقَتِهِ [ (1) ] وَأَخْرَجْت حَدَقَتَهُ. وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ الْعَنَزَةَ، فَكَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ. وَلَمّا جَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاخْتَلَطُوا، أَقْبَلَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي عَوْفِ بْنِ صُبَيْرَةَ السّهْمِيّ كَأَنّهُ ذِئْبٌ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، عَلَيْكُمْ بِالْقَاطِعِ، مُفَرّقِ الْجَمَاعَةِ، الْآتِي بِمَا لَا يُعْرَفُ. مُحَمّدٍ! لَا نَجَوْت إنْ نَجَا! وَيَعْتَرِضُهُ أَبُو دُجَانَةَ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ وضربه أبو دجانة فقتاه. وَوَقَفَ عَلَى سَلَبِهِ يَسْلُبُهُ، فَمَرّ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ: دَعْ سَلَبَهُ حَتّى يُجْهَضَ [ (2) ] الْعَدُوّ، وَأَنَا أَشْهَدُ لَك بِهِ. وَيُقْبِلُ مَعْبَدُ بْنُ وَهْبٍ، فَضَرَبَ أَبَا دُجَانَةَ ضَرْبَةً، بَرَكَ أَبُو دُجَانَةَ كَمَا يَبْرُكُ الْجَمَلُ، ثُمّ انْتَهَضَ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ فَضَرَبَهُ ضَرَبَاتٍ لَمْ يَصْنَعْ سَيْفُهُ شَيْئًا، حَتّى يَقَعُ مَعْبَدٌ بِحُفْرَةٍ أَمَامَهُ لَا يَرَاهَا، وَبَرَكَ عَلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ، فَذَبَحَهُ ذَبْحًا، وَأَخَذَ سَلَبَهُ. قَالُوا: وَلَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ، وَرَأَتْ بَنُو مَخْزُومٍ مَقْتَلَ مَنْ قُتِلَ، قَالُوا: أَبُو الْحَكَمِ، لَا يَخْلُصُ إلَيْهِ، فَإِنّ ابْنَيْ رَبِيعَةَ قَدْ عَجّلَا وَبَطِرَا، وَلَمْ تُحَامِ عَلَيْهِمَا عَشِيرَتُهُمَا. فَاجْتَمَعَتْ بَنُو مَخْزُومٍ فَأَحْدَقُوا بِهِ، فَجَعَلُوهُ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ [ (3) ] . وَأَجْمَعُوا أَنْ يَلْبَسُوا لَأْمَةَ أَبِي جَهْلٍ رَجُلًا منهم، فألبسوها عبد الله ابن الْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي رِفَاعَةَ، فَصَمَدَ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَرَاهُ أَبَا جَهْلٍ، وَمَضَى عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ! ثُمّ أَلْبَسُوهَا أَبَا قَيْسِ بْنَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: فَصَمَدَ لَهُ حَمْزَةُ وهو يراه أبا جهل فضربه
فَقَتَلَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ! ثُمّ أَلْبَسُوهَا حَرْمَلَةَ بْنَ عَمْرٍو، فَصَمَدَ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَتَلَهُ، وَأَبُو جَهْلٍ فِي أَصْحَابِهِ. ثُمّ أَرَادُوا أَنْ يُلْبِسُوهَا خَالِدَ بْنَ الْأَعْلَمِ، فَأَبَى أَنْ يَلْبَسَهَا يَوْمَئِذٍ. فَقَالَ معاذ بن عمرو ابن الْجَمُوحِ: نَظَرْت إلَى أَبِي جَهْلٍ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبُو الْحَكَمِ، لَا يَخْلُصُ إلَيْهِ! فَعَرَفْت أَنّهُ هُوَ، فَقُلْت: وَاَللهِ لَأَمُوتَن دونه اليوم أو لا أخلصنّ إلَيْهِ! فَعَرَفْت أَنّهُ هُوَ، فَقُلْت: وَاَللهِ لَأَمُوتَن دونه عَلَيْهِ. فَضَرَبْته ضَرْبَةً وَطَرَحْت رِجْلَهُ مِنْ السّاقِ، فَشَبّهْتهَا بِالنّوَاةِ تَنْزُو مِنْ تَحْتِ الْمَرَاضِخِ [ (1) ] . ثُمّ أَقْبَلَ ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَيّ، فَضَرَبَنِي عَلَى عَاتِقِي، وَطَرَحَ يَدِي مِنْ الْعَاتِقِ، إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَتْ جِلْدَةٌ، فَإِنّي أَسْحَبُ يَدِي بِجِلْدَةٍ مِنْ خَلْفِي، فَلَمّا آذَتْنِي وَضَعْت عَلَيْهَا رِجْلِي، فَتَمَطّيْت عَلَيْهَا حَتّى قَطَعْتهَا. ثُمّ لَاقَيْت عِكْرِمَةَ وَهُوَ يَلُوذُ كُلّ مَلَاذٍ، فَلَوْ كَانَتْ يَدِي مَعِي لَرَجَوْت يَوْمَئِذٍ أَنْ أُصِيبَهُ. وَمَاتَ مُعَاذٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو مَرْوَانَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ نَفّلَ مُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ- وَهُوَ عِنْدَ آلِ مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو الْيَوْمَ، بِهِ فَلّ- بَعْدَ أَنْ أرسل النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إلَى عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فَسَأَلَهُ: مَنْ قَتَلَ أَبَاك؟ قَالَ: الّذِي قَطَعْت يَدَهُ. فدفعه رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إلَى مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ عِكْرِمَةُ قَدْ قَطَعَ يَدَهُ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدّثَنِي ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَا كَانَ بَنُو المغيرة يشكّون أنّ سيف أبى الحكم صار إلى معاذ بن عمرو بن
الْجَمُوحِ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ حَدّثَهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو أَنّهُ قَضَى لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِسَلَبِ أَبِي جَهْلٍ. قَالَ: فَأَخَذْت دِرْعَهُ وَسَيْفَهُ، فَبِعْت سَيْفَهُ بَعْدُ. وَقَدْ سَمِعْت فِي قَتْلِهِ غَيْرَ هَذَا وَأَخْذِ سَلَبِهِ. حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: عَبّأَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِلَيْلٍ فَصَفّنَا، فَأَصْبَحْنَا وَنَحْنُ عَلَى صُفُوفِنَا، فَإِذَا بِغُلَامَيْنِ لَيْسَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ إلّا وَقَدْ رُبِطَتْ حَمَائِلُ [ (1) ] سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، فَالْتَفَتَ إلَيّ أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمّ، أَيّهُمْ أَبُو جَهْلٍ؟ قَالَ، قُلْت: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنّهُ يَسُبّ رَسُولَ اللهِ، فَحَلَفْت لَئِنْ رَأَيْته لَأَقْتُلَنهُ أَوْ لَأَمُوتَن دُونَهُ. فَأَشَرْت لَهُ إلَيْهِ، وَالْتَفَتَ إلَيّ الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَشَرْت لَهُ إلَيْهِ فَقُلْت: مَنْ أَنْتُمَا؟ قَالَا: ابْنَا الْحَارِثِ. قَالَ: فَجَعَلَا لَا يَطْرِفَانِ عَنْ أَبِي جَهْلٍ حَتّى إذَا كَانَ الْقِتَالُ خَلَصَا إلَيْهِ فَقَتَلَاهُ وَقَتَلَهُمَا. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَوْفٍ مِنْ وَلَدِ مُعَوّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ، وَنَظَرَ إلَيْهِمَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ: لَيْتَهُ كَانَ إلَى جَنْبِي مَنْ هُوَ آيَدُ [ (2) ] مِنْ هَذَيْنِ الْفَتَيَيْنِ. فَلَمْ أَنْشِبْ أَنْ الْتَفَتَ إلَيّ عَوْفٌ، فَقَالَ: أَيّهُمْ أَبُو جَهْلٍ؟ فَقُلْت: ذاك حيث ترى. فخرج بعدو إلَيْهِ كَأَنّهُ سَبُعٌ، وَلَحِقَهُ أَخُوهُ، فَأَنَا أَنْظُرُ إليهما يضطربان بالسيوف،
ثُمّ نَظَرْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مَرّ بِهِمَا فِي الْقَتْلَى وَهُمَا إلَى جَنْبِهِ [ (1) ] . حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمّدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْت أَبِي يُنْكِرُ مَا يَقُولُ النّاسُ فِي ابْنَيْ عَفْرَاءَ مِنْ صِغَرِهِمْ، وَيَقُولُ: كَانَا يَوْمَ بَدْرٍ أَصْغَرُهُمَا ابْنُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَهَذَا يَرْبِطُ حَمَائِلَ سَيْفِهِ؟ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الله بن أبى عبيده، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ رُبَيّعَ بِنْتِ مُعَوّذٍ، قَالَتْ: دَخَلْت فِي نِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتَ مُخَرّبَةَ [ (2) ] أُمّ أَبِي جَهْلٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، وَكَانَ ابْنُهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ يَبْعَثُ إلَيْهَا بِعِطْرٍ مِنْ اليمن، وكانت تبيعة إلى لأعطية، فَكُنّا نَشْتَرِي مِنْهَا، فَلَمّا جَعَلَتْ لِي فِي قَوَارِيرِي، وَوَزَنَتْ لِي كَمَا وَزَنَتْ لِصَوَاحِبِي، قَالَتْ: اُكْتُبْنَ لِي عَلَيْكُنّ حَقّي. فَقُلْت: نَعَمْ، أَكْتُبُ لَهَا عَلَى الرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذٍ. فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: حَلْقَى، وَإِنّك لَابْنَةُ قَاتِلِ سَيّدِهِ؟ قَالَتْ، قُلْت: لَا، وَلَكِنْ ابْنَةُ قَاتِلِ عَبْدِهِ. قَالَتْ: وَاَللهِ، لَا أَبِيعُك شَيْئًا أَبَدًا. فَقُلْت: وَأَنَا، وَاَللهِ، لا أشترى منك شيئا أبدا! فو الله، مَا هُوَ بِطِيبٍ وَلَا عَرْفٍ [ (3) ] ! وَاَللهِ يَا بُنَيّ مَا شَمَمْت عِطْرًا قَطّ كَانَ أَطْيَبَ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَا بُنَيّ، غَضِبْت! قَالُوا: وَلَمّا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ يُلْتَمَسَ أَبُو جَهْلٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْته فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَوَضَعْت رِجْلِي
على عتقه فَقُلْت: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَخْزَاك! قَالَ: إنّمَا أخرى اللهُ عَبْدَ ابْنِ أُمّ عَبْدٍ! لَقَدْ ارْتَقَيْت مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ، لِمَنْ الدّائِرَةُ [ (1) ] ؟ قُلْت: لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَأَقْتَلِعُ بَيْضَتَهُ عَنْ قَفَاهُ، فَقُلْت: إنّي قَاتِلُك يَا أَبَا جَهْلٍ! قَالَ: لَسْت بِأَوّلِ عَبْدٍ قَتَلَ سَيّدَهُ! أَمَا إنّ أَشَدّ مَا لَقِيته الْيَوْمَ فِي نَفْسِي لِقَتْلِك إيّايَ، أَلَا يَكُونُ وَلِيَ قَتْلِي رَجُلٌ مِنْ الْأَحْلَافِ أَوْ مِنْ الْمُطَيّبِينَ! فَضَرَبَهُ عَبْدُ اللهِ ضَرْبَةً، وَوَقَعَ رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمّ سَلَبُهُ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى جَسَدِهِ، نَظَرَ إلَى حُصُرِهِ [ (2) ] كَأَنّهَا السّيَاطُ. وَأَقْبَلَ بِسِلَاحِهِ، وَدِرْعِهِ، وَبَيْضَتِهِ، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبْشِرْ، يَا نَبِيّ اللهِ بِقَتْلِ عَدُوّ اللهِ أَبِي جَهْلٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أحقّا، يا عبد الله؟ فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُوَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ حُمُرِ النّعَمِ- أَوْ كَمَا قَالَ. قَالَ: وَذَكَرْت لِلنّبِيّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَا بِهِ مِنْ الْآثَارِ، فَقَالَ: ذَلِكَ ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: قَدْ أَصَابَهُ جَحْشٌ [ (3) ] مِنْ دُفَعٍ دَفَعَتْهُ فِي مَأْدُبَةِ ابْنِ جُدْعَانَ، فَجَحَشَتْ رُكْبَتَهُ. فَالْتَمِسُوهُ فَوَجَدُوا ذَلِكَ الْأَثَرَ. وَيُقَالُ إنّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيّ كَانَ عِنْدَ النّبِيّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ تِلْكَ السّاعَةَ، فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَنْتَ قَتَلْته؟ قَالَ: نَعَمْ، اللهُ قَتَلَهُ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: أَنْتَ وَلِيت قَتْلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ شَاءَ لجعلك فى كمّه. فقال ابن مسعود: فَقَدْ وَاَللهِ قَتَلْته وَجَرّدْته. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَمَا عَلَامَتُهُ؟ قَالَ: شَامَةٌ سَوْدَاءُ بِبَطْنِ فَخِذِهِ اليمنى. فعرف أبو سلمة النعت، وقال:
جَرّدْته! وَلَمْ يُجَرّدْ قُرَشِيّ غَيْرُهُ! قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاَللهِ، إنّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قُرَيْشٍ وَلَا فِي حُلَفَائِهَا أَحَدٌ أَعْدَى لِلّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ مِنْهُ، وَمَا أَعْتَذِرُ مِنْ شَيْءٍ صَنَعْته بِهِ. فَأُسْكِتَ أَبُو سَلَمَةَ، فَسُمِعَ أَبُو سَلَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُ مِنْ كَلَامِهِ فِي أَبِي جَهْلٍ. وَفَرِحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ: اللهُمّ، قَدْ أَنْجَزْت مَا وَعَدْتنِي، فَتَمّمْ عَلَيّ نِعْمَتَك! وَقَالَ: فال ابن مسعود يَقُولُونَ: سَيْفُ أَبِي جَهْلٍ عِنْدَنَا، مُحَلّى بِفِضّةٍ، غَنِمَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَئِذٍ. فَاجْتَمَعَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو وَابْنَيْ عفراء أثبتوه، وضرب ابن مسعود عُنُقَهُ فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَكُلّ قَدْ شَرِكَ فِي قَتْلِهِ. قَالُوا: وَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَلَى مَصْرَعِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللهُ ابْنَيْ عَفْرَاءَ، فَإِنّهُمَا قَدْ شَرِكَا فِي قَتْلِ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمّةِ وَرَأْسِ أَئِمّةِ الْكُفْرِ! فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ قَتَلَهُ مَعَهُمَا؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةَ، وَذَافّهُ [ (1) ] ابْنُ مَسْعُودٍ، فَكُلّ قَدْ شَرِكَ فِي قَتْلِهِ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: اللهُمّ، اكْفِنِي نَوْفَلَ بْنَ خُوَيْلِدٍ! وَأَقْبَلَ نَوْفَلٌ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مَرْعُوبٌ، قَدْ رَأَى قَتْلَ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ فِي أَوّلِ مَا الْتَقَوْا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ، يَصِيحُ بِصَوْتٍ لَهُ زَجَلٌ، رَافِعًا صَوْتَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ الْعَلَاءِ وَالرّفْعَةِ! فَلَمّا رَأَى قُرَيْشًا قَدْ انْكَسَرَتْ [ (2) ] جَعَلَ يَصِيحُ بِالْأَنْصَارِ: مَا حَاجَتُكُمْ إلَى دِمَائِنَا؟ أَمَا تَرَوْنَ مَا تَقْتُلُونَ؟ أَمَا لَكُمْ فِي اللّبن ما حَاجَةٍ؟ فَأَسَرَهُ جَبّارُ بْنُ [ (3) ] صَخْرٍ فَهُوَ يَسُوقُهُ أمامه، فجعل
نَوْفَلٌ يَقُولُ لِجَبّارٍ- وَرَأَى عَلِيّا مُقْبِلًا نَحْوَهُ- قال: يا أخا الأنصار، من هذا؟ واللّات وَالْعُزّى، إنّي لَأَرَى رَجُلًا، إنّهُ لَيُرِيدُنِي! قَالَ: هَذَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رَجُلًا أَسْرَعَ فِي قَوْمِهِ [مِنْهُ. فَيَصْمُدُ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ] [ (1) ] فَيَضْرِبُهُ، فَنَشِبَ سَيْفُ عَلِيّ فِي حَجَفَتِهِ سَاعَةً، ثُمّ نَزَعَهُ فَيَضْرِبُ سَاقَيْهِ، وَدِرْعُهُ مُشَمّرَةٌ، فَقَطَعَهُمَا، ثُمّ أَجْهَزَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِنَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدٍ؟ فَقَالَ عَلِيّ: أَنَا قَتَلْته. قَالَ: فَكَبّرَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَجَابَ دَعْوَتِي فِيهِ! وَأَقْبَلَ الْعَاصُ بْنُ سَعِيدٍ يُحِثّ [ (2) ] لِلْقِتَالِ، فالنقى هُوَ وَعَلِيّ، فَقَتَلَهُ عَلِيّ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ لِابْنِهِ سَعِيدِ [بْنِ الْعَاصِ] [ (3) ] : إنّي لَأَرَاك مُعْرِضًا، تَظُنّ أَنّي قَتَلْت أَبَاك؟ [فِي أَصْلِ ابْنِ أَبِي حَيّةَ، وَاَللهِ مَا قَتَلْت أَبَاك] [ (4) ] وَلَا أَعْتَذِرُ مِنْ قَتْلِ مُشْرِكٍ، وَلَقَدْ قَتَلْت خَالِي بِيَدَيّ، الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: لَوْ قَتَلْته لَكَانَ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَنْتَ عَلَى الْحَقّ. قَالَ: قُرَيْشٌ أَعْظَمُ النّاسِ أَحْلَامًا، وَأَعْظَمُهَا أَمَانَةً، لَا يَبْغِيهِمْ أَحَدٌ الْغَوَائِلَ إلّا كَبّهُ اللهُ لِفِيهِ [ (5) ] . وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَقُولُ: إنّي يَوْمَئِذٍ بَعْدَ مَا ارْتَفَعَ [ (6) ] النّهَارُ، وَنَحْنُ وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ اخْتَلَطَتْ صُفُوفُنَا وَصُفُوفُهُمْ، خَرَجْت فِي إثْرِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كَثِيبِ رَمْلٍ وَسَعْدُ بن خيثمة، وهما
يَقْتَتِلَانِ حَتّى قَتَلَ الْمُشْرِكُ سَعْدَ بْنَ خَيْثَمَةَ. وَالْمُشْرِكُ مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ، وَكَانَ فَارِسًا، فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ، فَعَرَفَنِي وَهُوَ مُعْلِمٌ وَلَا أَعْرِفُهُ، فَنَادَانِي: هَلُمّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ لِلْبِرَازِ! قَالَ: فَعَطَفْت عَلَيْهِ فَانْحَطّ. إلَيّ مُقْبِلًا، وَكُنْت رَجُلًا قَصِيرًا، فَانْحَطَطْت رَاجِعًا لِكَيْ يَنْزِلَ إلَيّ، فَكَرِهْت أَنْ يَعْلُوَنِي بِالسّيْفِ. فَقَالَ: يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَرَرْت؟ فَقُلْت: قَرِيبًا مَفَرّ [ (1) ] ، ابْنَ الشّتْرَاءِ! قَالَ: فَلَمّا اسْتَقَرّتْ قَدَمَايَ وَثَبُتّ أَقْبَلَ، فَلَمّا دَنَا مِنّي ضَرَبَنِي، فَاتّقَيْت بِالدّرَقَةِ فَوَقَعَ سَيْفُهُ فَلَحِجَ- يَعْنِي لَزِمَ- فَأَضْرِبُهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَهُوَ دَارِعٌ، فَارْتَعَشَ، وَلَقَدْ فَضّ [ (2) ] سَيْفِي دِرْعَهُ، فَظَنَنْت أَنّ سَيْفِي سَيَقْتُلُهُ، فَإِذَا بَرِيقُ سَيْفٍ مِنْ وَرَائِي، فَطَأْطَأْت رَأْسِي وَيَقَعُ السّيْفُ فَأَطَنّ [ (3) ] قِحْفَ رَأْسِهِ بِالْبَيْضَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ! فَالْتَفَتّ مِنْ وَرَائِي فَإِذَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ [ (4) ] . حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْجَحْشِيّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمّتِهِ، قَالَتْ: قَالَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ: انْقَطَعَ سَيْفِي فِي يَوْمِ بَدْرٍ، فأعطانى رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عُودًا، فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَقَاتَلْت بِهِ حَتّى هَزَمَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ- فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتّى هَلَكَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ، حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بنى عبد الأشهل عِدّةٍ، قَالُوا: انْكَسَرَ سَيْفُ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَقِيَ أَعْزَلَ لَا سلاح معه،
فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَضِيبًا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ عَرَاجِينِ [ (1) ] ابْنِ طَابٍ، فَقَالَ: اضْرِبْ بِهِ! فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ جَيّدٌ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتّى قُتِلَ يَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ: بَيْنَا حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ كَارِعٌ فِي الْحَوْضِ، إذْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ [ (2) ] فَوَقَعَ فِي نَحْرِهِ، فَلَقَدْ شَرِبَ الْقَوْمُ آخِرَ النّهَارِ مِنْ دَمِهِ. فَبَلَغَ أُمّهُ وَأُخْتَه وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ مَقْتَلَهُ، فَقَالَتْ أُمّهُ: وَاَللهِ، لَا أَبْكِي عَلَيْهِ حَتّى يَقْدَمَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَأَسْأَلُهُ، فَإِنْ كَانَ ابْنِي فِي الْجَنّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ابْنِي فِي النّارِ بَكَيْته لَعَمْرِ اللهِ فَأَعْوَلْتُهُ! فَلَمّا قَدِمَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ جَاءَتْ أُمّهُ إلَى رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَرَفْت مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي، فَأَرَدْت أَنْ أَبْكِيَ عَلَيْهِ فَقُلْت: لَا أَفْعَلُ حَتّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي النّارِ بَكَيْته فَأَعْوَلْتُهُ. فقال النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: هَبِلْت، أَجَنّةٌ وَاحِدَةٌ؟ إنّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهُ لَفِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى قَالَتْ: فَلَا أَبْكِي عَلَيْهِ أَبَدًا! وَدَعَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهِ وَمَضْمَضَ فَاهُ، ثُمّ نَاوَلَ أُمّ حَارِثَةَ فَشَرِبَتْ، ثُمّ نَاوَلَتْ ابْنَتَهَا فَشَرِبَتْ، ثُمّ أَمَرَهُمَا فَنَضَحَتَا فِي جُيُوبِهِمَا، فَفَعَلَتَا فَرَجَعَتَا مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ امْرَأَتَانِ أَقَرّ أَعْيُنًا مِنْهُمَا وَلَا أَسَرّ. قَالُوا: وَكَانَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وهب لمّا رأى الهزيمة انحزل [ (3) ] ظهره فعقر [ (4) ]
فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُومَ، فَأَتَاهُ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ حَلِيفُهُ، فَفَتَقَ دِرْعَهُ عَنْهُ وَاحْتَمَلَهُ. وَيُقَالُ ضَرَبَهُ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ بِالسّيْفِ فَقَطّ. دِرْعَهُ، وَوَقَعَ لِوَجْهِهِ وَأَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَجَاوَزَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَبَصُرَ بِهِ ابْنَا زُهَيْرٍ الْجُشَمِيّانِ، أَبُو أُسَامَةَ وَمَالِكٌ وَهُمَا حَلِيفَاهُ، فَذَبّا عَنْهُ حَتّى نَجَوْا بِهِ، وَاحْتَمَلَهُ أَبُو أُسَامَةَ فَنَجَا بِهِ، وَجَعَلَ مَالِكٌ يَذُبّ عَنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ. حَمَاهُ كَلْبَاهُ! الْحَلِيفُ مِثْلُ أَبِي أُسَامَةَ كَأَنّهُ رَقْلٌ! - الرّقْلُ النّخْلَةُ الطّوِيلَةُ وَيُقَالُ إنّ الّذِي ضَرَبَهُ مُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّهِ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: سَمِعْت مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ يَسْأَلُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، فَجَعَلَ الشّيْخُ يَكْرَهُ ذَلِكَ حَتّى أَلَحّ عَلَيْهِ. فَقَالَ حَكِيمٌ: الْتَقَيْنَا فَاقْتَتَلْنَا، فَسَمِعْت صَوْتًا وَقَعَ مِنْ السّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ مِثْلَ وَقْعِ الْحَصَاةِ فِي الطّسْتِ، وَقَبَضَ النّبِيّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ الْقَبْضَةَ فَرَمَى بِهَا فَانْهَزَمْنَا. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بن صغير، قَالَ: سَمِعْت نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةِ الدّيلِيّ يَقُولُ: انهزمنا يوم بدر ونحن نسمع كوقع الحصا فِي الطّسَاسِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا، فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدّ الرّعْبِ عَلَيْنَا. وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَقُولُ: انْهَزَمْنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَجَعَلْت أَسْعَى وَأَقُولُ: قَاتَلَ اللهُ ابْنَ الْحَنْظَلِيّةِ! يَزْعُمُ أَنّ النّهَارَ قَدْ ذَهَبَ، وَاَللهِ إنّ النّهَارَ لَكَمَا هُوَ! قَالَ حَكِيمٌ: وَمَا ذَاكَ بِي إلّا حُبّا أَنْ يَأْتِيَ اللّيْلُ فَيَقْصُرُ عَنّا طَلَبُ الْقَوْمِ. فَيُدْرِكُ حَكِيمًا عُبَيْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ ابْنَا الْعَوّامِ عَلَى جَمَلٍ لَهُمَا، فَقَالَ
عَبْدُ الرّحْمَنِ لِأَخِيهِ: انْزِلْ فَاحْمِلْ أَبَا خَالِدٍ. وَكَانَ عُبَيْدُ اللهِ رَجُلًا أَعْرَجَ لَا رُجْلَةَ بِهِ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: إنّهُ لَا رُجْلَةَ بِي كَمَا تَرَى. قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: وَاَللهِ إنّ مِنْهُ بُدّ [ (1) ] ، أَلَا نَحْمِلُ رَجُلًا إنْ مُتْنَا كَفَانَا مَا خَلْفَنَا مِنْ عِيَالِنَا، وَإِنْ عِشْنَا حَمَلَ [ (2) ] كَلّنَا! فَنَزَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ وَأَخُوهُ وَهُوَ أَعْرَجُ، فَحَمَلَاهُ، فَكَانُوا يَتَعَاقَبُونَ الْجَمَلَ، فَلَمّا دَنَا مِنْ مَكّةَ فَكَانَ بِمَرّ الظّهْرَانِ، قَالَ: وَاَللهِ، لَقَدْ رَأَيْت هَا هُنَا أَمْرًا مَا كَانَ يَخْرُجُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ لَهُ رَأْيٌ، وَلَكِنّهُ شُؤْمُ ابْنِ الْحَنْظَلِيّةِ! إنّ جَزُورًا نُحِرَتْ هَا هُنَا فَلَمْ يَبْقَ خِبَاءٌ إلّا أَصَابَهُ مِنْ دَمِهَا. فَقَالَا: قَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنْ رَأَيْنَاك وَقَوْمَنَا مَضَيْتُمْ فَمَضَيْنَا مَعَكُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَمْرٌ مَعَكُمْ. بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، قُرِئَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي حَيّةَ، قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مَخْلَدِ بْنِ خِفَافٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ الدّرُوعُ فِي قُرَيْشٍ كَثِيرَةً، فَلَمّا انْهَزَمُوا جَعَلُوا يُلْقُونَهَا، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَتْبَعُونَهُمْ وَيَلْقُطُونَ مَا طَرَحُوا، وَلَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمَئِذٍ أَلْتَقِطُ ثَلَاثَةَ أَدْرُعٍ جِئْت بِهَا أَهْلِي، كَانَتْ عِنْدَنَا بَعْدُ، فَزَعَمَ لِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ- وَرَأَى دِرْعًا مِنْهَا عِنْدَنَا فَعَرَفَهَا- فَقَالَ: هَذِهِ دِرْعُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عن عبد الله بن عمرو ابن أُمَيّةَ، قَالَ: سَمِعْت أَبِي عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ انْكَشَفَ يَوْمَئِذٍ مُنْهَزِمًا، وَإِنّهُ لَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الأمر فرّ منه إلّا النساء!
قَالُوا: وَكَانَ قُبَاثُ [ (1) ] بْنُ أَشْيَمَ الْكِنَانِيّ يَقُولُ: شَهِدْت مَعَ الْمُشْرِكِينَ بَدْرًا، وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى قِلّةِ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ فِي عَيْنِي وَكَثْرَةِ مَا مَعَنَا مِنْ الْخَيْلِ وَالرّجَالِ [ (2) ] ، فَانْهَزَمْت فِيمَنْ انْهَزَمَ، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَإِنّي لَأَقُولُ فِي نَفْسِي: مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ فَرّ مِنْهُ إلّا النّسَاءُ! وَصَاحَبَنِي رَجُلٌ، فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ مَعِي إذْ لَحِقَنَا مَنْ خَلْفَنَا، فَقُلْت لِصَاحِبِي: أَبِك نُهُوضٌ؟ قَالَ: لَا وَاَللهِ، مَا هُوَ بِي. قَالَ: وَعَقِرَ، وَتَرَفّعْت، [ (3) ] فَلَقَدْ صَبّحْت غَيْقَةَ [ (4) ]- عَنْ يَسَارِ السّقْيَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَرَعِ لَيْلَةٌ، وَالْمَدِينَةُ ثَمَانِيَةُ بُرُدٍ- قَبْلَ الشّمْسِ، كُنْت هَادِيًا بِالطّرِيقِ وَلَمْ أَسْلُكْ الْمَحَاجّ، وَخِفْت مِنْ الطّلَبِ فَتَنَكّبْت عَنْهَا، فَلَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي بِغَيْقَةَ فَقَالَ: مَا وَرَاءَك؟ قُلْت: لَا شَيْءَ! قُتِلْنَا وَأُسِرْنَا وَانْهَزَمْنَا، فَهَلْ عِنْدَك مِنْ حُمْلَانٍ؟ فَقَالَ: فَحَمَلَنِي عَلَى بَعِيرٍ، وَزَوّدَنِي زَادًا حَتّى لَقِيت الطّرِيقَ بالجحفة، ثم مضيت حَتّى دَخَلْت مَكّةَ، وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى الْحَيْسُمَانِ بْنِ حَابِسٍ الْخُزَاعِيّ بِالْغَمِيمِ [ (5) ] ، فَعَرَفْت أَنّهُ يَقْدَمُ يَنْعَى قُرَيْشًا بِمَكّةَ، فَلَوْ أَرَدْت أَنْ أَسْبِقَهُ لَسَبَقْته، فَتَنَكّبْت عَنْهُ حَتّى سَبَقَنِي بِبَعْضِ النّهَارِ، فَقَدِمْت وَقَدْ انْتَهَى إلَى مَكّةَ خَبَرُ قَتْلَاهُمْ. وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْخُزَاعِيّ وَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا بِخَيْرٍ! فَمَكَثْت بِمَكّةَ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ قُلْت: لَوْ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَنَظَرْت مَا يَقُولُ مُحَمّدٌ! وَقَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ. فَقَدِمْت الْمَدِينَةَ فسألت عن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هُوَ ذَاكَ فِي ظِلّ الْمَسْجِدِ مَعَ مَلَإٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَأَتَيْته، وَأَنَا لَا أَعْرِفُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَسَلّمْت فَقَالَ: يَا قُبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ، أَنْتَ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ «مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ فَرّ مِنْهُ إلّا النّسَاءُ» ؟ قُلْت: أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ، وَأَنّ هَذَا الْأَمْرَ مَا خَرَجَ مِنّي إلَى أَحَدٍ قَطّ، وَمَا تَرَمْرَمْت [ (1) ] بِهِ إلّا شَيْئًا حَدّثْت بِهِ نَفْسِي، فَلَوْلَا أَنّك نَبِيّ مَا أَطْلَعَك اللهُ عَلَيْهِ، هَلُمّ حَتّى أُبَايِعَك. فَعَرَضَ عَلَيّ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْت. قَالُوا: فَلَمّا تَصَافّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. فَلَمّا انْهَزَمُوا كَانَ النّاسُ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ قَامَتْ عِنْدَ خَيْمَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَهُ فِي الْخَيْمَةِ- وَفِرْقَةٌ أَغَارَتْ عَلَى النّهْبِ، وَفِرْقَةٌ طَلَبَتْ الْعَدُوّ فَأَسَرُوا وَغَنِمُوا. فَتَكَلّمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ مِمّنْ أَقَامَ عَلَى خَيْمَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا مَنَعَنَا أَنْ نَطْلُبَ الْعَدُوّ زَهَادَةٌ فِي الْأَجْرِ، وَلَا جُبْنٌ عَنْ الْعَدُوّ وَلَكِنّا خِفْنَا أَنْ يُعْرَى مَوْضِعُك فَتَمِيلُ عَلَيْك خَيْلٌ مِنْ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ وَرِجَالٌ مِنْ رِجَالِهِمْ، وَقَدْ أَقَامَ عِنْدَ خَيْمَتِك وُجُوهُ النّاسِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَمْ يَشِذّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَالنّاسُ يَا رَسُولَ اللهِ كَثِيرٌ، وَمَتَى تُعْطِ هَؤُلَاءِ لَا يَبْقَ لِأَصْحَابِك شَيْءٌ، وَالْأَسْرَى وَالْقَتْلَى كَثِيرٌ وَالْغَنِيمَةُ قَلِيلَةٌ. فَاخْتَلَفُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ (2) ] ، فَرَجَعَ النّاسُ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ. ثُمّ أَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ (3) ] ، فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ.
فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُجَاهِدٍ أَبُو حَزْرَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، قَالَ: سَلّمْنَا الْأَنْفَالَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلَمْ يُخَمّسْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا، وَنَزَلَتْ بَعْدُ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ الْخُمُسَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَوّلِ غَنِيمَةٍ بَعْدَ بَدْرٍ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ بْنُ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ، مِثْلَهُ. وَحَدّثْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: اخْتَلَفَ النّاسُ فِي الْغَنَائِمِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَنَائِمِ أَنْ تُرَدّ فِي الْمَقْسَمِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إلّا رُدّ. فَظَنّ أَهْلُ الشّجَاعَةِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخُصّهُمْ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضّعْفِ. ثُمّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تُقْسَمَ بَيْنَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُعْطَى فَارِسُ الْقَوْمِ الّذِي يَحْمِيهِمْ مِثْلَ مَا يُعْطَى الضّعِيفُ؟ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَكِلَتْك أُمّك، وَهَلْ تُنْصَرُونَ إلّا بِضُعَفَائِكُمْ؟ فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْت مُوسَى بْنَ سَعْدِ بْنِ زيد ابن ثَابِتٍ: كَيْفَ فَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأَسْرَى، وَالْأَسْلَابِ، وَالْأَنْفَالِ؟ فَقَالَ: نَادَى مُنَادِيهِ يَوْمَئِذٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ! فَكَانَ يُعْطِي مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا سَلَبَهُ. وَأَمَرَ بِمَا وُجِدَ فِي الْعَسْكَرِ وَمَا أَخَذُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَقَسَمَهُ بَيْنَهُمْ عَنْ فَوَاق [ (1) ] . فَقُلْت لِعَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ: فَمَنْ أُعْطِيَ سَلَبُ أَبِي جهل؟ قال: اختلف
فِيهِ عِنْدَنَا، فَقَالَ قَائِلٌ: أَخَذَهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَقَالَ قَائِلٌ: أَعْطَاهُ ابْنَ مَسْعُودٍ.. فَقُلْت لِعَبْدِ الْحَمِيدِ: مَنْ أَخْبَرَك؟ قَالَ: أَمّا الّذِي قَالَ دَفَعَهُ إلَى مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو فَأَخْبَرَنِيهِ خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، وَأَمّا الّذِي قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنّهُ حَدّثَنِيهِ سَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَارِظِيّ. قَالُوا: وَقَدْ أَخَذَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ دِرْعَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَمِغْفَرَهُ وَبَيْضَتَهُ، وَأَخَذَ حَمْزَةُ سِلَاحَ عُتْبَةَ، وَأَخَذَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ دِرْعَ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ حَتّى وَقَعَتْ [ (1) ] إلَى وَرَثَتِهِ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَمّهِ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرَدّ الْأَسْرَى وَالْأَسْلَابُ وَمَا أَخَذُوا فِي الْمَغْنَمِ، ثُمّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَسْرَى، وَقَسَمَ الْأَسْلَابَ الّتِي نَفّلَ الرّجُلُ نَفْسَهُ فِي الْمُبَارَزَةِ، وَمَا أَخَذَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَقَسَمَهُ بَيْنَهُمْ عَنْ فُوَاقٍ. وَالثّبْتُ عِنْدَنَا مِنْ هَذَا أَنّ كُلّ مَا جَعَلَهُ لَهُمْ فَإِنّهُ قَدْ سَلّمَهُ لَهُمْ، وَمَا لَمْ يَجْعَلْ فَقَدْ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ. فَقَدْ جُمِعَتْ الْغَنَائِمُ وَاسْتَعْمَلَ [عَلَيْهَا] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ عمرو الْمَازِنِيّ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَسَمَهَا بِسَيَرٍ- سَيَرٌ شِعْبٌ بِمَضِيقِ الصّفْرَاءِ. وَقَدْ قِيلَ إنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا خَبّابَ بْنَ الْأَرَتّ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُكْنِفٍ الْحَارِثِيّ- مِنْ حَارِثَةِ الْأَنْصَارِ- قَالَ: لَمّا جُمِعَتْ الْغَنَائِمُ كَانَ فِيهَا إبِلٌ وَمَتَاعٌ وَأَنْطَاعٌ وَثِيَابٌ، فَقَسَمَهَا الْوَالِي [ (2) ] فَجَعَلَ يُصِيبُ الرّجُلَ الْبَعِيرُ وَرِثّةٌ [ (3) ] مَعَهُ، وَآخَرَ بَعِيرَانِ، وآخر أنطاع. وكانت السّهمان على ثلاثمائة
وَسَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَالرّجَالُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالْخَيْلُ فَرَسَانِ لَهُمَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ. وَثَمَانِيَةُ نَفَرٍ لَمْ يَحْضُرُوا وَضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِهَامِهِمْ وَأُجُورِهِمْ، فَكُلّهُمْ مُسْتَحِقّ فِي بَدْرٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَا اخْتِلَافَ فِيهِمْ عِنْدَنَا: عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، خَلّفَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَتِهِ رُقَيّةَ، وَمَاتَتْ يَوْمَ قُدُومِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، بَعَثَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَسّسَانِ الْعِيرَ، بَلَغَا الْحَوْرَاءَ- الْحَوْرَاءُ وَرَاءَ ذِي الْمَرْوَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا لَيْلَتَانِ عَلَى السّاحِلِ، وَبَيْنَ ذِي الْمَرْوَةِ وَالْمَدِينَةِ ثَمَانِيَةُ بُرُدٍ أَوْ أَكْثَرُ قَلِيلًا. وَمِنْ الْأَنْصَارِ: أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، خَلّفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيّ، خَلّفَهُ عَلَى قُبَاءٍ [ (1) ] وَأَهْلِ الْعَالِيَةِ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، أَمَرَهُ بِأَمْرِهِ فى بنى عمرو ابن عَوْفٍ، وَخَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، كُسِرَ بِالرّوْحَاءِ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ، كُسِرَ بِالرّوْحَاءِ- فَهَؤُلَاءِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِمْ عِنْدَنَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَقَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْ الْقِتَالِ بِبَدْرٍ: لَئِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِدَهَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، لَقَدْ كَانَ فِيهَا رَاغِبًا. وَذَلِكَ أَنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَمّا أَخَذَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْجِهَادِ، كَانَ يَأْتِي دُورَ الْأَنْصَارِ يَحُضّهُمْ عَلَى الخروج، فنهش فى بعض تلك الأماكن ومنعه ذَلِكَ مِنْ الْخُرُوجِ، فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. وَضَرَبَ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ السّاعِدِيّ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَكَانَ تَجَهّزَ إلَى بَدْرٍ فَمَرِضَ بِالْمَدِينَةِ فَمَاتَ خِلَافَهُ [ (2) ] وَأَوْصَى إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَضَرَبَ لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَضَرَبَ لِرَجُلٍ آخَرَ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ لَيْسَ بِمُجْتَمَعٍ عَلَيْهِمْ كَاجْتِمَاعِهِمْ على الثمانية.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لِقَتْلَى بَدْرٍ، أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا قُتِلُوا بِبَدْرٍ. قَالَ زَيْدُ بْنُ طَلْحَةَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ قَالَ: أَخَذْنَا سَهْمَ أَبِي الّذِي ضَرَبَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ قَسَمَ الْغَنَائِمَ، وَحَمَلَهُ إلَيْنَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بن رفاعة، عن عبد الله بن مكنف، قَالَ: سَمِعْت السّائِبَ بْنَ أَبِي لُبَابَةَ يُخْبِرُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِمُبَشّرِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَقَدِمَ بِسَهْمِهِ عَلَيْنَا مَعْنُ بْنُ عَدِيّ. وَكَانَتْ الْإِبِلُ الّتِي أَصَابُوا يَوْمَئِذٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَخَمْسِينَ بَعِيرًا، وَكَانَ مَعَهُمْ أَدَمٌ كَثِيرٌ حَمَلُوهُ لِلتّجَارَةِ، فَغَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ. وَكَانَتْ يَوْمَئِذٍ فِيمَا أَصَابُوا قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا لَنَا لَا نَرَى الْقَطِيفَةَ؟ مَا نَرَى رَسُولَ اللهِ إلّا أَخَذَهَا. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [ (1) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ فُلَانًا غَلّ قَطِيفَةً. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّجُلَ، فَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْ يَا رَسُولَ اللهِ! فقال الدالّ: يا رسول الله، احفروا ها هنا. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَحَفَرُوا [ (2) ] هُنَاكَ فَاسْتُخْرِجَتْ الْقَطِيفَةُ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله، اسْتَغْفِرْ لِفُلَانٍ! مَرّتَيْنِ أَوْ مِرَارًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعُونَا مِنْ آتِي جُرْمٍ [ (3) ] ! وَكَانَتْ الْخَيْلُ فَرَسَيْنِ، فَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ يُقَالُ لَهَا سَبْحَةُ، وَفَرَسٌ لِلزّبَيْرِ، وَيُقَالُ لِمَرْثَدٍ. فَكَانَ الْمِقْدَادُ يَقُولُ: ضَرَبَ لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بسهم ولفرسى بسهم. وقائل
يَقُولُ: ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ يَوْمَئِذٍ لِلْفَرَسِ بِسَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ بِسَهْمٍ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي عَبْسٍ، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: رَجَعَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ بِفَرَسٍ قَدْ غَنِمَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ لِزَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، صَارَ فِي سَهْمِهِ. وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ خُيُولِهِمْ عَشَرَةَ أَفْرَاسٍ، وَأَصَابُوا لَهُمْ سِلَاحًا وَظَهْرًا. وكان جمل أبى جهل يَوْمَئِذٍ فِيهَا، فَغَنِمَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَضْرِبُ عَلَيْهِ فِي إبِلِهِ وَيَغْزُو عَلَيْهِ حَتّى سَاقَهُ فِي هَدْيِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَسَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ الْجَمَلَ بِمِائَةِ بَعِيرٍ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنَا سَمّيْنَاهُ فِي الْهَدْيِ لَفَعَلْنَا. وَكَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيّ [ (1) ] مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ مِنْهَا شَيْءٌ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عَبّاسٍ، وَمُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَا: تَنَفّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لِمُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غَزَا إلَى بَدْرٍ بِسَيْفٍ وَهَبَهُ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يُقَالُ لَهُ الْعَضْبُ، وَدِرْعِهِ ذَاتِ الْفُضُولِ. فَسَمِعْت ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْت صَالِحَ بْنَ كَيْسَانَ يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا مَعَهُ سَيْفٌ. وَكَانَ أَوّلُ سَيْفٍ تَقَلّدَهُ سَيْفَ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، غَنِمَهُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَكَانَ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ يُحَدّثُ فِيمَا حَدّثَنِي بِهِ عبد المهيمن بن عبّاس ابن سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، وَكَانَ إذا ذكر أرقم بن أبى الأرقم
قَالَ: مَا يَوْمِي [ (1) ] مِنْهُ بِوَاحِدٍ! فَيُقَالُ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِمّا أَخَذُوا مِنْ الْأَنْفَالِ. قَالَ: فَرَدَدْت سَيْفَ ابْنِ عَائِذٍ الْمَخْزُومِيّ، وَاسْمُ السّيْفِ الْمَرْزُبَانُ، وَكَانَ لَهُ قِيمَةٌ وَقَدْرٌ، وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ يَرُدّهُ إلَيّ. فَكَلّمَ رَسُولَ اللهِ [فِيهِ] ، وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ، فَأَعْطَاهُ [ (2) ] السّيْفَ. وَخَرَجَ بُنَيّ لِي يَفَعَةٌ، فَاحْتَمَلَتْهُ الْغُولُ فَذَهَبَتْ بِهِ مُتَوَرّكَةً [ (3) ] ظَهْرًا. فَقِيلَ لِأَبِي أُسَيْدٍ: وَكَانَتْ الْغِيلَانُ ذَلِكَ الزّمَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنّهَا قَدْ هَلَكَتْ، فَلَقِيَ ابْنِي ابْنَ الْأَرْقَمِ، فَبَهَشَ [ (4) ] إلَيْهِ ابْنِي وَبَكَى مُسْتَجِيرًا بِهِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَتْ الْغُولُ: أَنَا حَاضِنَتُهُ. فَلَهَا عَنْهُ، وَالصّبِيّ يُكَذّبُهَا، فَلَمْ يُعَرّجْ عَلَيْهِ [ (5) ] . وَخَرَجَ مِنْ دَارِي فَرَسٌ لِي فَقَطَعَ رَسَنَهُ، فَلَقِيَهُ بِالْغَابَةِ [ (6) ] فَرَكِبَهُ حَتّى إذَا دَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ أَفْلَتْ مِنْهُ، فَتَعَذّرَ إلَيّ أَنّهُ أَفْلَتْ مِنّي، فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتّى السّاعَةِ. حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ [بْنُ مُحَمّدٍ] [ (7) ] ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم سيف العاص ابن منبّه يوم بدر فأعطانيه، ونزلت فىّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ... [ (8) ] . قالوا: وَأَحْذَى [ (9) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مماليك حضروا بدرا ولم
يُسْهِمْ لَهُمْ، ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ: غُلَامٌ لِحَاطِبِ بْنِ أبى بلتعة، وغلام لعبد الرحمن ابن عوف، وَغُلَامٌ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَاسْتُعْمِلَ شُقْرَانُ غُلَامُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَسْرَى، فَأَحْذَوْهُ [ (1) ] مِنْ كُلّ أَسِيرٍ مَا لَوْ كَانَ حُرّا مَا أَصَابَهُ فِي الْمَقْسَمِ. فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَمَيْت يَوْمَ بَدْرٍ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَقَطَعْت نَسَاهُ [ (2) ] ، فَأَتْبَعْت أَثَرَ الدّمِ حَتّى وَجَدْته قَدْ أَخَذَهُ مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ، وَهُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ. فَقُلْت: أَسِيرِي، رَمَيْته! فَقَالَ مَالِكٌ: أَسِيرِي، أَخَذْته! فَأَتَيَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَهُ مِنْهُمَا جميعا. فأفلت سهيل بالرّوحاء من مالك ابن الدّخْشُمِ، فَصَاحَ فِي النّاسِ فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَجَدَهُ فَلْيَقْتُلْهُ! فَوَجَدَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ. فَحَدّثَنِي عِيسَى بْنُ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَصَابَ أَبُو بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ أَسِيرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُ مَعْبَدُ بْنُ وَهْبٍ، مِنْ بَنِي سَعْدِ ابن لَيْثٍ. فَلَقِيَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَحُضّ عَلَى قَتْلِ الْأَسْرَى، لَا يَرَى أَحَدًا فِي يَدَيْهِ أَسِيرًا إلّا أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرّقَ النّاسُ. فَلَقِيَهُ مَعْبَدٌ، وَهُوَ أَسِيرٌ مَعَ أَبِي بُرْدَةَ، فَقَالَ: أَتَرَوْنَ يَا عُمَرُ أَنّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمْ؟ كَلّا وَاللّاتِ وَالْعُزّى! فَقَالَ عُمَرُ: عِبَادَ اللهِ الْمُسْلِمِينَ! أَتَكَلّمُ وَأَنْتَ أَسِيرٌ فِي أَيْدِينَا؟ ثُمّ أَخَذَهُ مِنْ أَبِي بُرْدَةَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَيُقَالُ إنّ أَبَا بُرْدَةَ قَتَلَهُ. فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سعد، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تُخْبِرُوا سَعْدًا بِقَتْلِ أَخِيهِ [ (1) ] ، فَيَقْتُلَ كُلّ أَسِيرٍ فِي أَيْدِيكُمْ. فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ الْهَيْثَمِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ أَخِيهِ فَيَقْتُلَهُ. وَلَمّا أُتِيَ بِالْأَسْرَى كَرِهَ ذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، كَأَنّهُ شَقّ عليك الأسرى اين يُؤْسَرُوا. قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَتْ أَوّلَ وَقْعَةٍ الْتَقَيْنَا فِيهَا وَالْمُشْرِكُونَ، فَأَحْبَبْت أَنْ يُذِلّهُمْ اللهُ وَأَنْ يُثْخَنَ فِيهِمْ الْقَتْلُ. وَكَانَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ أَسَرَهُ الْمِقْدَادُ يَوْمَئِذٍ، فَلَمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ بَدْرٍ- وَكَانَ بِالْأُثَيْلِ [ (2) ]- عَرَضَ عَلَيْهِ الْأَسْرَى فَنَظَرَ إلَى النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ فَأَبَدّهُ [ (3) ] الْبَصَرَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهِ: مُحَمّدٌ وَاَللهِ قَاتِلِي، لَقَدْ نَظَرَ إلَيّ بِعَيْنَيْنِ فِيهِمَا الْمَوْتُ! فَقَالَ لرجل إلَى جَنْبِهِ: وَاَللهِ مَا هَذَا مِنْك إلّا رُعْبٌ. فَقَالَ النّضْرُ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ: يَا مُصْعَبُ، أَنْتَ أَقْرَبُ مَنْ هَا هُنَا بِي رَحِمًا. كَلّمْ صَاحِبَك أَنْ يَجْعَلَنِي كَرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي، هُوَ وَاَللهِ قَاتِلِي إنْ لَمْ تَفْعَلْ. قَالَ مُصْعَبٌ: إنّك كُنْت تَقُولُ فِي كِتَابِ اللهِ كَذَا وَكَذَا، [وَتَقُولُ فِي نَبِيّهِ كَذَا وَكَذَا] [ (4) ] . قَالَ: يَا مُصْعَبُ فَلْيَجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَصْحَابِي، إنْ قُتِلُوا قُتِلْت، وَإِنْ مَنّ عَلَيْهِمْ مَنّ عَلَيّ. قَالَ مُصْعَبٌ: إنّك كُنْت تُعَذّبُ أَصْحَابَهُ. قَالَ: أَمَا وَاَللهِ، لَوْ أَسَرَتْك قُرَيْشٌ مَا قُتِلْتَ أَبَدًا وَأَنَا حَيّ. قَالَ مُصْعَبٌ: وَاَللهِ، انى لاراك صادقا، ولكن
[لَسْت] [ (1) ] مِثْلَك قَطَعَ الْإِسْلَامُ الْعُهُودَ! فَقَالَ الْمِقْدَادُ: أَسِيرِي! قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اضْرِبْ عُنُقَهُ، اللهُمّ أَغْنِ الْمِقْدَادَ مِنْ فَضْلِك! فَقَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ صَبْرًا بِالسّيْفِ بِالْأُثَيْلِ. وَلَمّا أُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، انْزِعْ ثَنِيّتَيْهِ! يُدْلَعُ [ (2) ] لِسَانُهُ فَلَا يَقُومُ عَلَيْك خَطِيبًا أَبَدًا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أُمَثّلُ بِهِ فَيُمَثّلَ اللهُ بِي وَإِنْ كُنْت نَبِيّا، وَلَعَلّهُ يَقُومُ مَقَامًا لَا تَكْرَهُهُ. فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو حِينَ جَاءَهُ وَفَاةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُطْبَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَكّةَ- كَأَنّهُ كَانَ يَسْمَعُهَا. قَالَ عُمَرُ حِينَ بَلَغَهُ كَلَامُ سُهَيْلٍ: أَشْهَدُ إنّك لَرَسُولُ اللهِ! يُرِيدُ حَيْثُ قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَلّهُ يَقُومُ مَقَامًا لَا تَكْرَهُهُ» . وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يُحَدّثُ يَقُولُ: أَتَى جِبْرِيلُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَخَيّرَهُ فِي الْأَسْرَى أَنْ يَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ وَيُسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ فِي قَابِلٍ عِدّتُهُمْ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ يُخَيّرُكُمْ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ أَنْ نَضْرِبَ رِقَابَهُمْ، أَوْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ الْفِدْيَةَ وَيُسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ فِي قَابِلٍ عِدّتُهُمْ. قَالُوا: بَلْ نَأْخُذُ الْفِدْيَةَ وَنَسْتَعِينُ بِهَا، وَيُسْتَشْهَدُ مِنّا فَنَدْخُلُ الْجَنّةَ. فَقَبِلَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي قَابِلٍ عِدّتُهُمْ بِأُحُدٍ. قَالُوا: وَلَمّا حُبِسَ الْأَسْرَى بِبَدْرٍ- اُسْتُعْمِلَ عَلَيْهِمْ شُقْرَانُ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ اقْتَرَعُوا عَلَيْهِمْ- طَمِعُوا [ (3) ] فى الحياة فَقَالُوا لَوْ بَعَثْنَا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَإِنّهُ أوصل قريش لارحامنا، ولا نعلم آثَرُ عِنْدَ مُحَمّدٍ مِنْهُ! فَبَعَثُوا إلَى أَبِي بكر،
فَأَتَاهُمْ فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ، إنّ فِينَا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ وَالْإِخْوَانَ وَالْعُمُومَةَ وَبَنِي الْعَمّ، وَأَبْعَدُنَا قريب. كلّم صاحبك فليمنّ علينا أو يُفَادِنَا. فَقَالَ: نَعَمْ إنْ شَاءَ اللهُ، لَا آلُوكُمْ خَيْرًا! ثُمّ انْصَرَفَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: وَابْعَثُوا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فَإِنّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَلَا نَأْمَنُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْكُمْ، لَعَلّهُ يَكُفّ عَنْكُمْ. فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ فَجَاءَهُمْ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: لَنْ آلُوكُمْ شَرّا! ثُمّ انْصَرَفَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَالنّاسَ حَوْلَهُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُلَيّنُهُ وَيَفْثَؤُهُ [ (1) ] وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي! قَوْمُك فِيهِمْ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَالْعُمُومَةُ وَالْإِخْوَانُ وَبَنُو الْعَمّ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنْك قَرِيبٌ، فَامْنُنْ عَلَيْهِمْ مَنّ اللهُ عَلَيْك، أَوْ فَادِهِمْ يَسْتَنْقِذْهُمْ اللهُ بِك مِنْ النّارِ فَتَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا أَخَذْت قُوّةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَعَلّ اللهَ يُقْبِلُ بِقُلُوبِهِمْ إلَيْك! ثُمّ قَامَ فَتَنَحّى نَاحِيَةً، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمّ جَاءَ عُمَرُ فَجَلَسَ مَجْلِسَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُمْ أَعْدَاءُ اللهِ، كَذّبُوك وَقَاتَلُوك وَأَخْرَجُوك! اضْرِبْ رِقَابَهُمْ، هُمْ رُءُوسُ الْكُفْرِ وَأَئِمّةُ الضّلَالَةِ، يُوَطّئُ اللهُ عَزّ وَجَلّ بِهِمْ الْإِسْلَامَ وَيُذِلّ بِهِمْ أَهْلَ الشّرْكِ! فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَعَادَ أَبُو بَكْرٍ إلَى مَقْعَدِهِ الْأَوّلِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي! قَوْمُك فِيهِمْ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَالْعُمُومَةُ وَالْإِخْوَانُ وَبَنُو الْعَمّ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنْك قَرِيبٌ، فَامْنُنْ عَلَيْهِمْ أَوْ فَادِهِمْ، هُمْ عِتْرَتُك [ (2) ] وَقَوْمُك، لَا تَكُنْ أَوّلَ مَنْ يَسْتَأْصِلُهُمْ، يَهْدِيهِمْ اللهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُهْلِكَهُمْ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَتَنَحّى نَاحِيَةً، فَقَامَ عُمَرُ فَجَلَسَ مَجْلِسَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا تَنْتَظِرُ بِهِمْ؟ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، يُوَطّئُ اللهُ بِهِمْ الْإِسْلَامَ وَيُذِلّ أَهْلَ الشرك، هم أعداء
اللهِ، كَذّبُوك وَقَاتَلُوك وَأَخْرَجُوك! يَا رَسُولَ اللهِ، اشْفِ صُدُورَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ قَدَرُوا عَلَى مِثْلِ هَذَا مِنّا مَا أَقَالُونَاهَا أَبَدًا! فَسَكَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فَقَامَ نَاحِيَةً فَجَلَسَ، وَعَادَ أَبُو بَكْرٍ فَكَلّمَهُ مِثْلَ كَلَامِهِ الّذِي كَلّمَهُ بِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ فَتَنَحّى نَاحِيَةً، ثُمّ قَامَ عُمَرُ فَكَلّمَهُ كَلَامَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ. ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ قُبّتَهُ فَمَكَثَ فِيهَا سَاعَةً، ثُمّ خَرَجَ وَالنّاسُ يَخُوضُونَ فِي شَأْنِهِمْ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ: الْقَوْلُ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ! وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: الْقَوْلُ مَا قَالَ عُمَرُ! فَلَمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي صَاحِبَيْكُمْ هَذَيْنِ؟ دَعُوهُمَا فَإِنّ لَهُمَا مَثَلًا، مَثَلُ أَبِي بَكْرٍ كَمَثَلِ مِيكَائِيلَ يَنْزِلُ بِرِضَاءِ اللهِ وَعَفْوِهِ عَنْ عِبَادِهِ، وَمَثَلُهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ إبْرَاهِيمَ، كَانَ أَلْيَنَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْعَسَلِ، أَوْقَدَ لَهُ قَوْمُهُ النار وطرحود فِيهَا، فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [ (1) ] . وَقَالَ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (2) ] وَمَثَلُهُ مَثَلُ عِيسَى إذْ يَقُولُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ (3) ] . وَمَثَلُ عُمَرَ فِي الْمَلَائِكَةِ كَمَثَلِ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ بِالسّخْطَةِ مِنْ اللهِ وَالنّقْمَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ، وَمَثَلُهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ نُوحٍ، كَانَ أَشَدّ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ إذْ يَقُولُ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [ (4) ] فَدَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةً أَغْرَقَ اللهُ الْأَرْضَ جَمِيعَهَا، وَمَثَلِ مُوسَى إذْ يَقُولُ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [ (5) ] ، وَإِنّ بِكُمْ عَيْلَةً، فَلَا يَفُوتَنّكُمْ رجل من هؤلاء إلّا بفداء أو
ضَرْبَةِ عُنُقٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إلّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ [- قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: هَذَا وَهْمٌ، سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ، مَا شَهِدَ بَدْرًا، إنّمَا هُوَ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ سَهْلٌ-] [ (1) ] ، فَإِنّي رَأَيْته يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ بِمَكّةَ. فَسَكَتَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَمَا مَرّتْ عَلَيّ سَاعَةٌ قَطّ كَانَتْ أَشَدّ عَلَيّ مِنْ تِلْكَ السّاعَةِ، فَجَعَلْت أَنْظُرُ إلَى السّمَاءِ أَتَخَوّفُ أَنْ تَسْقُطَ عَلَيّ الْحِجَارَةُ، لِتَقَدّمِي بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْكَلَامِ. فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ فَقَالَ: إلّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ! قَالَ: فَمَا مَرّتْ عَلَيّ سَاعَةٌ أَقَرّ لَعَيْنَيّ مِنْهَا، إذْ قَالَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ لَيُشَدّدُ الْقَلْبَ فِيهِ حَتّى يَكُونَ أَشَدّ مِنْ الْحِجَارَةِ، وَإِنّهُ لَيُلَيّنُ الْقَلْبَ فِيهِ حَتّى يَكُونَ أَلْيَنَ مِنْ الزّبْدِ. وَقَبِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ يَوْمَ بَدْرٍ مَا نَجَا مِنْهُ إلّا عُمَرُ. كَانَ يَقُولُ: اُقْتُلْ وَلَا تَأْخُذْ الْفِدَاءَ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَقُولُ: اُقْتُلْ وَلَا تَأْخُذْ الْفِدَاءَ. فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: لَو كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ حَيّا لَوَهَبْت لَهُ هَؤُلَاءِ النّتْنَى. وَكَانَتْ لِمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجَارَةٌ [ (2) ] حِينَ رَجَعَ مِنْ الطّائِفِ. فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: أَمّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَسْرَى يوم بدر أبا عزّة عمرو ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَيْرٍ الْجُمَحِيّ، وَكَانَ شَاعِرًا، فأعتقه رسول الله صلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: لِي خَمْسُ بَنَاتٍ لَيْسَ لَهُنّ شَيْءٌ، فَتَصَدّقْ بِي عَلَيْهِنّ يَا مُحَمّدُ. فَفَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ أَبُو عَزّةَ: أُعْطِيك مَوْثِقًا لَا أُقَاتِلُك وَلَا أُكْثِرُ عَلَيْك أَبَدًا. فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إلَى أُحُدٍ جَاءَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فَقَالَ: اُخْرُجْ مَعَنَا! فَقَالَ: إنّي قَدْ أَعْطَيْت مُحَمّدًا مَوْثِقًا أَلّا أُقَاتِلَهُ وَلَا أُكْثِرَ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَقَدْ مَنّ عَلَيّ وَلَمْ يَمُنّ عَلَى غَيْرِي حَتّى قَتَلَهُ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ الْفِدَاءَ. فَضَمِنَ صَفْوَانُ أَنْ يَجْعَلَ بَنَاتَه مَعَ بَنَاتِهِ إنْ قُتِلَ، وَإِنْ عَاشَ أَعْطَاهُ مَالًا كَثِيرًا لَا يَأْكُلُهُ عِيَالُهُ. فَخَرَجَ أَبُو عَزّةَ يَدْعُو الْعَرَبَ وَيَحْشُرُهَا، ثُمّ خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأُسِرَ وَلَمْ يُوسَرْ غَيْرُهُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّمَا خَرَجْت [ (1) ] مُكْرَهًا، وَلِي بَنَاتٌ فَامْنُنْ عَلَيّ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ مَا أَعْطَيْتنِي مِنْ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ؟ لَا وَاَللهِ، لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْك بِمَكّةَ تَقُولُ «سَخِرْت بِمُحَمّدٍ مَرّتَيْنِ» ! حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: قَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن لا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرّتَيْنِ، يَا عَاصِمُ بْنَ ثَابِتٍ، قَدّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ! فَقَدّمَهُ عَاصِمٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. قَالُوا: وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْقُلُبِ أَنْ تُغَوّرَ، ثم أمر بالقتلى فطرحوا فِيهَا كُلّهُمْ إلّا أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ، فَإِنّهُ كَانَ مُسَمّنًا انْتَفَخَ مِنْ يَوْمِهِ، فَلَمّا أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوهُ تَزَايَلَ لَحْمُهُ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُتْرُكُوهُ! وَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُتْبَةَ يُجَرّ إلَى الْقَلِيبِ، وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا، فِي وَجْهِهِ أثر الجدرىّ، فتغيّر وجه ابنه
أَبِي حُذَيْفَةَ، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا حُذَيْفَةَ كَأَنّك سَاءَك مَا أَصَابَ أَبَاك. قَالَ: لَا وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَكِنّي رَأَيْت لِأَبِي عَقْلًا وَشَرَفًا، كُنْت أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ اللهُ [ (1) ] إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمّا أَخْطَأَهُ ذَلِكَ وَرَأَيْت مَا أَصَابَهُ غَاظَنِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْقَى فِي الْعَشِيرَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ كَارِهًا لِوَجْهِهِ، وَلَكِنْ الْحَيْنُ وَمَصَارِعُ السّوءِ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ [خَدّ] [ (2) ] أَبِي جَهْلٍ الْأَسْفَلَ، وَصَرَعَهُ وَشَفَانَا مِنْهُ! فَلَمّا تَوَافَوْا [ (3) ] فِي الْقَلِيبِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُصَرّعُونَ، وَأَبُو بكر يُخْبِرُهُ بِهِمْ رَجُلًا رَجُلًا، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمَدُ اللهَ وَيَشْكُرُهُ وَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْجَزَ مَا وَعَدَنِي، فَقَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ. قَالَ: ثُمّ وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ، فَنَادَاهُمْ رَجُلًا رَجُلًا: يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيّةُ بْنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبّكُمْ حَقّا؟ فَإِنّي قَدْ وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا. بِئْسَ الْقَوْمُ كُنْتُمْ لِنَبِيّكُمْ، كَذّبْتُمُونِي وَصَدّقَنِي النّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النّاسُ! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، تُنَادِي قَوْمًا قَدْ مَاتُوا! قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عَلِمُوا أَنّ مَا وَعَدَهُمْ رَبّهُمْ حَقّ! قَالُوا: وَكَانَ انْهِزَامُ الْقَوْمِ وَتَوَلّيهِمْ حِينَ زَالَتْ الشّمْسُ، فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ وَأَمَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ بِقَبْضِ الْغَنَائِمِ وَحَمْلِهَا، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يُعِينُوهُ،
فَصَلّى الْعَصْرَ بِبَدْرٍ ثُمّ رَاحَ فَمَرّ بِالْأُثَيْلِ [- الْأُثَيْلُ وَادٍ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدْرٍ مِيلَانِ، فَكَأَنّهُ بَاتَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ بَدْرٍ-] [ (1) ] قَبْلَ غُرُوبِ الشّمْسِ فَنَزَلَ بِهِ، وَبَاتَ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ جِرَاحٌ، وَلَيْسَتْ بِالْكَثِيرَةِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ رَجُلٌ اللّيْلَةَ يَحْفَظُنَا؟ فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ. قَالَ: اجْلِسْ. ثُمّ عَادَ النّبِيّ [ (2) ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ قَيْسٍ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ. ثُمّ مَكَثَ سَاعَةً، ثُمّ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَبُو سَبُعٍ [ (3) ] . ثُمّ مَكَثَ سَاعَةً وَقَالَ: قُومُوا ثَلَاثَتُكُمْ. فَقَامَ ذَكْوَانُ بْنُ عبد قيس وَحْدَهُ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ صَاحِبَاك؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا الّذِي أَجَبْتُك اللّيْلَةَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَفِظَك اللهُ! فَكَانَ يَحْرُسُ الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ اللّيْلَةَ، حَتّى كَانَ آخِرَ اللّيْلِ، فَارْتَحَلَ. قَالَ [ (4) ] : وَيُقَالُ صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ بِالْأُثَيْلِ فَلَمّا صَلّى رَكْعَةً تَبَسّمَ، فَلَمّا سَلّمَ سُئِلَ عَنْ تَبَسّمِهِ، فَقَالَ: مَرّ بِي مِيكَائِيلُ وَعَلَى جَنَاحِهِ النّقْعُ، فَتَبَسّمَ إلَيّ وَقَالَ «إنّي كُنْت فِي طَلَبِ القوم» . وأتاه جبرئيل حِينَ فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ بَدْرٍ، عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى مَعْقُودِ النّاصِيَةِ، قَدْ عَصَمَ ثَنِيّتَهُ الْغُبَارُ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّ رَبّي بَعَثَنِي إلَيْك وَأَمَرَنِي أَلّا أُفَارِقَك حَتّى تَرْضَى، هَلْ رَضِيت؟. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَسْرَى، حَتّى إذَا كَانَ بِعِرْقِ
الظّبْيَةِ أَمَرَ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ أَسَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ الْعَجْلَانِيّ، فَجَعَلَ عُقْبَةُ يَقُولُ: يَا وَيْلِي، عَلَامَ أُقْتَلُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مِنْ بَيْنِ مَنْ هاهنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: لِعَدَاوَتِك لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ: يَا مُحَمّدُ، مَنّك أَفْضَلُ، فَاجْعَلْنِي كَرَجُلٍ مِنْ قَوْمِي، إنْ قَتَلْتهمْ قَتَلْتنِي وَإِنْ مَنَنْت عَلَيْهِمْ مَنَنْت عَلَيّ، وَإِنْ أَخَذْت مِنْهُمْ الْفِدَاءَ كُنْت كَأَحَدِهِمْ، يَا مُحَمّدُ، مَنْ لِلصّبْيَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النّارُ، قَدّمْهُ يَا عَاصِمُ، فَاضْرِبْ عُنُقَهُ! فَقَدّمَهُ عَاصِمٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ الرّجُلُ كُنْت وَاَللهِ مَا عَلِمْت، كَافِرًا بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ، مُؤْذِيًا لِنَبِيّهِ، فَأَحْمَدُ اللهَ الّذِي هُوَ قَتَلَك وَأَقَرّ عَيْنِي مِنْك! وَلَمّا نَزَلُوا سَيّرَ- شِعْبٌ بِالصّفْرَاءِ- قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ بِهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ مِنْ الْأُثَيْلِ، فَجَاءُوا يَوْمَ الْأَحَدِ شَدّ الضّحَى [ (1) ] ، وَفَارَقَ عَبْدُ اللهِ زَيْدًا بِالْعَقِيقِ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللهِ يُنَادِي عَلَى رَاحِلَتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَبْشِرُوا بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْرِهِمْ! قُتِلَ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَابْنَا الْحَجّاجِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَقُتِلَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ذُو الْأَنْيَابِ فِي أَسْرَى كَثِيرَةٍ. قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ: فَقُمْت إلَيْهِ فَنَحَوْته فَقُلْت: أَحَقّا مَا تَقُولُ، يَا ابْنَ رَوَاحَةَ؟ قَالَ: إي وَاَللهِ، وَغَدًا يَقْدَمُ رَسُولُ اللهِ إنْ شَاءَ اللهُ وَمَعَهُ الْأَسْرَى مُقَرّنِينَ [ (2) ] . ثُمّ اتّبَعَ دور الأنصار
بِالْعَالِيَةِ- الْعَالِيَةُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَخَطْمَةَ وَوَائِلٍ، مَنَازِلُهُمْ بِهَا- فَبَشّرَهُمْ دَارًا دَارًا، وَالصّبْيَانُ يَشْتَدّونَ مَعَهُ وَيَقُولُونَ: قُتِلَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ! حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ. وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَلَى نَاقَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَصْوَاءِ يُبَشّرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَلَمّا جَاءَ الْمُصَلّى صَاحَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: قُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَابْنَا الْحَجّاجِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ذُو الْأَنْيَابِ فِي أَسْرَى كَثِيرَةٍ. فَجَعَلَ النّاسُ لَا يُصَدّقُونَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَيَقُولُونَ: مَا جَاءَ زَيْدٌ إلّا فَلّا! [ (1) ] حَتّى غَاظَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ وَخَافُوا. وَقَدِمَ زَيْدٌ حِينَ سَوّوْا عَلَى رُقَيّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التّرَابَ بِالْبَقِيعِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: قُتِلَ صَاحِبُكُمْ وَمَنْ مَعَهُ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لِأَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ: قَدْ تَفَرّقَ أَصْحَابُكُمْ تَفَرّقًا لَا يَجْتَمِعُونَ مِنْهُ أَبَدًا، وَقَدْ قُتِلَ عِلْيَةُ أَصْحَابِهِ وَقُتِلَ مُحَمّدٌ، هَذِهِ نَاقَتُهُ نَعْرِفُهَا، وَهَذَا زَيْدٌ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنْ الرّعْبِ، وَجَاءَ فَلّا. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: يُكَذّبُ اللهُ قَوْلَك! وَقَالَتْ يَهُودُ: مَا جَاءَ زَيْدٌ إلّا فَلّا! قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: فَجِئْت حَتّى خَلَوْت بِأَبِي، فَقُلْت: يَا أَبَهْ، أَحَقّ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إي وَاَللهِ حَقّا يَا بُنَيّ! فَقَوِيَتْ فِي نَفْسِي، فَرَجَعْت إلَى ذَلِكَ الْمُنَافِقِ فَقُلْت: أَنْتَ الْمُرْجِفُ بِرَسُولِ اللهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، لَيُقَدّمَنّكَ رَسُولُ اللهِ إذَا قَدِمَ فَلَيَضْرِبَنّ عُنُقَك! فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمّدٍ، إنّمَا هُوَ شَيْءٌ سَمِعْت النّاسَ يَقُولُونَهُ. فَقَدِمَ بِالْأَسْرَى وَعَلَيْهِمْ شُقْرَانُ، وَهُمْ تِسْعَةٌ وأربعون رجلا الذين أحصوا
- وَهُمْ سَبْعُونَ فِي الْأَصْلِ، مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ، لَا شَكّ فِيهِ. وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهِمْ شُقْرَانُ غُلَامُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَلَمْ يُعْتِقْهُ يَوْمَئِذٍ، وَلَقِيَهُ النّاسُ يُهَنّئُونَهُ بِالرّوْحَاءِ بِفَتْحِ اللهِ. فَلَقِيَهُ وُجُوهُ الْخَزْرَجِ، فَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ: مَا الّذِي تُهَنّئُونَنَا به؟ فو الله مَا قَتَلْنَا إلّا عَجَائِزَ صُلْعًا. فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أُولَئِكَ الْمَلَأُ، لَوْ رَأَيْتهمْ لَهِبْتهمْ، وَلَوْ أَمَرُوك لَأَطَعْتهمْ، وَلَوْ رَأَيْت فِعَالَك مَعَ فِعَالِهِمْ لَاحْتَقَرْته، وَبِئْسَ الْقَوْمُ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ لِنَبِيّهِمْ فَقَالَ سَلَمَةُ: أَعُوذُ بِاَللهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، إنّك يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ تَزَلْ عَنّي مُعْرِضًا مُنْذُ كُنّا بِالرّوْحَاءِ فِي بَدْأَتِنَا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمّا مَا قُلْت لِلْأَعْرَابِيّ «وَقَعْت عَلَى نَاقَتِك فَهِيَ حُبْلَى مِنْك» ، فَفَحّشْت وَقُلْت مَا لَا عِلْمَ لَك بِهِ! وَأَمّا مَا قُلْت فِي الْقَوْمِ، فَإِنّك عَمَدْت إلَى نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللهِ تُزَهّدُهَا. فَاعْتَذَرَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْذِرَتَهُ، فَكَانَ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: وَلَقِيَهُ أَبُو هِنْدٍ الْبَيَاضِيّ مَوْلَى فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَمَعَهُ حَمِيتٌ [ (1) ] مَمْلُوءٌ حَيْسًا [ (2) ] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّمَا أَبُو هِنْدٍ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَنْكِحُوهُ! وَأَنْكِحُوا إلَيْه. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: وَلَقِيَهُ أسيد ابن حُضَيْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي ظَفّرَك وَأَقَرّ عَيْنَك! وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ تَخَلّفِي عَنْ بَدْرٍ وَأَنَا أظنّ أنّك تلقى عدوّا، ولكنى
ظَنَنْت أَنّهَا الْعِيرُ، وَلَوْ ظَنَنْت أَنّهُ عَدُوّ مَا تَخَلّفْت. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْت. وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نُوحٍ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: لَقِيَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِتُرْبَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى سَلَامَتِك وَمَا ظَفّرَك! كُنْت يَا رَسُولَ اللهِ لَيَالِيَ خَرَجْت مَوْرُودًا [ (1) ] ، فَلَمْ يُفَارِقْنِي حَتّى كَانَ بِالْأَمْسِ فَأَقْبَلْت إلَيْك. فَقَالَ: آجَرَك الله! وَكَانَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو لَمّا كَانَ بِشَنُوكَةَ [ (2) ] [- شَنُوكَةُ فِيمَا بَيْنَ السّقْيَا وَمَلَل-] [ (3) ] كَانَ مَعَ مَالِكِ بْنِ الدّخْشُمِ [الّذِي أَسَرَهُ] [ (4) ] فَقَالَ: خَلّ سَبِيلِي لِلْغَائِطِ. فَقَامَ بِهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: إنّي أَحْتَشِمُ فَاسْتَأْخِرْ عَنّي! فَاسْتَأْخَرَ عَنْهُ، وَمَضَى سُهَيْلٌ عَلَى وَجْهِهِ، انْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ الْقِرَانِ [ (5) ] وَمَضَى، فَلَمّا أَبْطَأَ سُهَيْلٌ عَلَى مَالِكٍ أَقْبَلَ فَصَاحَ فِي النّاسِ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ. وَخَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِ، فَقَالَ: مَنْ وَجَدَهُ فَلْيَقْتُلْهُ! فَوَجَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَفَنَ نَفْسَهُ بَيْن [ (6) ] سَمُرَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُبِطَتْ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، ثُمّ قَرَنَهُ إلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ يَرْكَبْ خُطْوَةً حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ. فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عن جابر بن
عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَرَسُولُ اللهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُهَيْلٌ مَجْنُوبٌ، وَيَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، فَلَمّا نَظَرَ أُسَامَةُ إلَى سُهَيْلٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبُو يَزِيدَ! قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الّذِي كَانَ يُطْعِمُ بِمَكّةَ الْخُبْزَ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن يحيى بن عبد الله، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدِمَ بِالْأَسْرَى حِينَ قَدِمَ بِهِمْ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ عِنْدَ آلِ عَفْرَاءَ فِي مَنَاحِتِهِمْ عَلَى عَوْفٍ وَمُعَوّذٍ [ (1) ] ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ. قَالَتْ سَوْدَةُ: فَأَتَيْنَا فَقِيلَ لَنَا: هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى قَدْ أُتِيَ بِهِمْ. فَخَرَجْت إلَى بَيْتِي وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَإِذَا أَبُو يَزِيدَ مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إلَى عنقه فى ناحية البيت، فو الله إنْ مَلَكْت [ (2) ] حِينَ رَأَيْته مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ أَنْ قُلْت: أَبَا يَزِيدَ، أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ! ألا متّم كراما؟ فو الله ما راعني إلّا قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيْتِ: يَا سَوْدَةُ، أَعَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ؟ فَقُلْت: يَا نَبِيّ اللهِ، وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ نَبِيّا مَا مَلَكْت نَفْسِي حِينَ رَأَيْت أَبَا يَزِيدَ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ أَنْ قُلْت مَا قُلْت. فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ قَالَ: دَخَلَ خَالِدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيّةُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي مَنْزِلِ أُمّ سَلَمَةَ، وَأُمّ سَلَمَةَ فِي مَنَاحَةِ آلِ عَفْرَاءَ، فَقِيلَ لَهَا: أُتِيَ بِالْأَسْرَى. فَخَرَجَتْ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ تُكَلّمْهُمْ حَتّى رَجَعَتْ، فَتَجِدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ بَنِي عَمّي طَلَبُوا أَنْ يُدْخَلَ بِهِمْ عَلَيّ فَأُضِيفَهُمْ، وَأَدْهُنَ رُءُوسَهُمْ، وَأَلُمّ مِنْ شَعَثِهِمْ، وَلَمْ أُحِبّ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ حَتّى أَسْتَأْمِرَك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَسْت أَكْرَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ! فَافْعَلِي مِنْ ذَلِكَ مَا بَدَا لَكِ. فَحَدّثَنِي محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسْتَوْصُوا بِالْأَسْرَى خَيْرًا. فَقَالَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرّبِيعِ: كُنْت مَعَ رَهْطٍ مِنْ الْأَنْصَارِ جَزَاهُمْ اللهُ خَيْرًا، كُنّا إذَا تَعَشّيْنَا أَوْ تَغَدّيْنَا آثَرُونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التّمْرَ، وَالْخُبْزُ مَعَهُمْ قَلِيلٌ وَالتّمْرُ زَادُهُمْ، حَتّى إنّ الرّجُلَ لَتَقَعُ فِي يَدِهِ الْكِسْرَةُ فَيَدْفَعُهَا إلَيّ. وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَزِيدُ: وَكَانُوا يَحْمِلُونَنَا وَيَمْشُونَ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: قَدِمَ بِالْأَسْرَى قَبْلَ مَقْدَمِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَوْمٍ. وَيُقَالُ قَدِمُوا فِي آخِرِ النّهَارِ مِنْ الْيَوْمِ الّذِي قَدِمَ فِيهِ. قَالُوا: وَلَمّا تَوَجّهَ الْمُشْرِكُونَ إلَى بَدْرٍ كَانَ فِتْيَانٌ مِمّنْ تَخَلّفَ عَنْهُمْ سُمّارًا، يَسْمُرُونَ بِذِي طُوًى فِي الْقَمَرِ حَتّى يَذْهَبَ اللّيْلُ، يَتَنَاشَدُونَ الْأَشْعَارَ وَيَتَحَدّثُونَ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ لَيْلَةً إلَى أَنْ سَمِعُوا [ (1) ] صَوْتًا قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَلَا يَرَوْنَ الْقَائِلَ، رَافِعًا صَوْتَهُ يَتَغَنّى: أَزَارَ [ (2) ] الْحَنِيفِيّونَ بَدْرًا مُصِيبَةً ... سَيَنْقَضّ مِنْهَا رُكْنُ كِسْرَى وَقَيْصَرَا أَرَنّتْ لَهَا صُمّ [ (3) ] الْجِبَالِ وَأَفْزَعَتْ ... قبائل ما بين الوتير [ (4) ] وخيبرا
أَجَازَتْ جِبَالَ الْأَخْشَبَيْنِ [ (1) ] وَجُرّدَتْ ... حَرَائِرُ يَضْرِبْنَ التّرَائِبَ [ (2) ] حسّرا أنشدنيه عبد اللهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ. فَاسْتَمَعُوا لِلصّوْتِ فَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا، فَخَرَجُوا فَزِعِينَ حَتّى جَازُوا الْحِجْرَ [ (3) ] فَوَجَدُوا مَشْيَخَةً مِنْهُمْ جِلّةً سُمّارًا، فَأَخْبَرُوهُمْ الْخَبَرَ فَقَالُوا لَهُمْ: إنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقّا، إنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ يُسَمّوْنَ الْحَنِيفِيّةَ- وَمَا يَعْرِفُونَ اسْمَ الْحَنِيفِيّةِ يَوْمَئِذٍ. فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ الْفِتْيَانِ الّذِينَ كَانُوا بِذِي طُوًى إلّا وُعِكَ، فَمَا مَكَثُوا إلّا لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتّى قَدِمَ الْحَيْسُمَانُ بن حابس الخزاعىّ بخبر أَهْلِ بَدْر وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، فَهُوَ يُخْبِرُهُمْ قَتْلَ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَابْنَيْ الْحَجّاجِ، وَأَبِي الْبَخْتَرِيّ، وَزَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ. قَالَ: وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فِي الْحِجْرِ جَالِسٌ [ (4) ] يَقُول: لَا يَعْقِلُ هَذَا شَيْئًا مِمّا يَتَكَلّمُ بِهِ، سَلُوهُ عَنّي [ (5) ] ! فَقَالُوا: صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، لَك بِهِ عِلْمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَاكَ فِي الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْت أَبَاهُ وَأَخَاهُ مَقْتُولَيْنِ [ (6) ] . قَالَ: وَرَأَيْت سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو أُسِرَ، وَالنّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ. قَالُوا: وَمَا يُدْرِيك؟ قَالَ: رَأَيْتهمَا مَقْرُونَيْنِ فِي الْحِبَالِ. قَالُوا: بَلَغَ النّجَاشِيّ مَقْتَلُ قُرَيْشٍ بِمَكّةَ وَمَا ظَفّرَ اللهُ بِهِ نَبِيّهُ، فَخَرَجَ فِي ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، ثُمّ جَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمّ دَعَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ: أَيّكُمْ يَعْرِفُ بَدْرًا؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ النّجَاشِيّ: أَنَا عَارِفٌ بها، قد
رَعَيْت الْغَنَمَ فِي جَوَانِبِهَا، هِيَ مِنْ السّاحِلِ عَلَى بَعْضِ نَهَارٍ، وَلَكِنّي أَرَدْت أَنْ أَتَثَبّتَ مِنْكُمْ، قَدْ نَصَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِبَدْرٍ، فَأَحْمَدُ [ (1) ] اللهَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ بَطَارِقَتُهُ: أَصْلَحَ اللهُ الْمَلِكَ! إنّ هَذَا لَشَيْءٌ لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ، تَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ وَتَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ! فَقَالَ: إنّي مِنْ قَوْمٍ إذَا أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ نِعْمَةً ازْدَادُوا بِهَا تَوَاضُعًا. وَيُقَالُ إنّهُ قَالَ: إنّ عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ إذَا حَدَثَتْ لَهُ نِعْمَةٌ ازْدَادَ بِهَا تَوَاضُعًا. وَلَمّا رَجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى مَكّةَ قَامَ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حرب فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا تَبْكُوا عَلَى قَتْلَاكُمْ، وَلَا تَنُحْ عَلَيْهِمْ نَائِحَةٌ، وَلَا يَبْكِهِمْ شَاعِرٌ، وَأَظْهِرُوا الْجَلَدَ وَالْعَزَاءَ، فَإِنّكُمْ إذَا نُحْتُمْ عَلَيْهِمْ وَبَكَيْتُمُوهُمْ بِالشّعْرِ أَذْهَبَ ذَلِكَ غَيْظَكُمْ، فَأَكَلَكُمْ ذَلِكَ عَنْ عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، مَعَ أَنّهُ إنْ بَلَغَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ شَمِتُوا بِكُمْ، فَيَكُونُ أَعْظَمُ الْمُصِيبَتَيْنِ شَمَاتَتَهُمْ، وَلَعَلّكُمْ تُدْرِكُونَ ثَأْرَكُمْ، وَالدّهْنُ وَالنّسَاءُ عَلَيّ حَرَامٌ حَتّى أَغْزُوَ مُحَمّدًا. فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ شَهْرًا لَا يَبْكِيهِمْ شَاعِرٌ وَلَا تَنُوحُ عَلَيْهِمْ نَائِحَةٌ. فَلَمّا قَدِمَ بِالْأَسْرَى أَذَلّ اللهُ بِذَلِكَ رِقَابَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَلَمْ يَبْقَ بالمدينة يَهُودِيّ وَلَا مُنَافِقٌ إلّا خَضَدَ [ (2) ] عُنُقَهُ لِوَقْعَةِ بَدْرٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ نَبْتَلٍ: لَيْتَ أَنّا كُنّا خَرَجْنَا مَعَهُ حَتّى نُصِيبَ مَعَهُ غَنِيمَةً! وَفَرّقَ اللهُ فِي صُبْحِهَا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَقَالَتْ الْيَهُودُ فِيمَا بَيْنَهَا: هُوَ الّذِي نَجِدُهُ مَنْعُوتًا، وَاَللهِ لَا تُرْفَعُ لَهُ رَايَةٌ بَعْدَ الْيَوْمِ إلّا ظَهَرَتْ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ: بَطْنُ الْأَرْضِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا، هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ النّاسِ وَسَادَاتُهُمْ، وَمُلُوكُ الْعَرَبِ، وَأَهْلُ الْحَرَمِ وَالْأَمْنِ، قَدْ أُصِيبُوا. فَخَرَجَ إلَى مَكّةَ فنزل على أبى
وَدَاعَةَ بْنِ ضُبَيْرَةَ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ هِجَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَرِثَاءَ قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَرْسَلَ أَبْيَاتَهُ هَذِهِ، يَقُولُ: طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِك أَهْلِهِ ... وَلِمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلّ وَتَدْمَعُ [ (1) ] قُتِلَتْ سَرَاةُ النّاسِ حَوْلَ حِيَاضِهِ ... لَا تَبْعَدُوا إنّ الْمُلُوكَ تُصَرّعُ ويقول أقوام أذل بسخطهم [ (2) ] ... إن ابن أشرف ظَلّ كَعْبًا يَجْزَعُ صَدَقُوا فَلَيْتَ الْأَرْضَ سَاعَةَ قُتّلُوا ... ظَلّتْ تَسِيخُ بِأَهْلِهَا [ (3) ] وَتُصَدّعُ نُبّئْت أَنّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامِهِمْ ... فِي النّاسِ يَبْنِي الصّالِحَاتِ وَيَجْمَعُ لِيَزُورَ يَثْرِبَ بِالْجُمُوعِ وَإِنّمَا ... يَسْعَى عَلَى الْحَسَبِ الْقَدِيمُ الْأَرْوَعُ [ (4) ] قَالَ الْوَاقِدِيّ: أَمْلَاهَا عَلَيّ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ أَبِي الزّنَادِ، قَالُوا: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ فَأَخْبَرَهُ بِمَنْزِلِهِ عِنْدَ أَبِي وَدَاعَةَ، فَجَعَلَ يَهْجُو مَنْ نَزَلَ عِنْدَهُ حَتّى رَجَعَ كَعْبٌ إلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمّا أَرْسَلَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ أَخَذَهَا الناس معه وَأَظْهَرُوا الْمَرَاثِيَ وَجَعَلَ مَنْ لَقِيَ مِنْ الصّبْيَانِ وَالْجَوَارِي يُنْشِدُونَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ بِمَكّةَ، ثُمّ إنّهُمْ رَثَوْا بِهَا، فَنَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا شَهْرًا، وَلَمْ تَبْقَ دَارٌ بِمَكّةَ إلّا فِيهَا نَوْحٌ، وَجَزّ النّسَاءُ شَعْرَ الرّءُوسِ، وَكَانَ يُؤْتَى بِرَاحِلَةِ الرّجُلِ مِنْهُمْ أَوْ بِفَرَسِهِ فَتُوقَفُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَنُوحُونَ حَوْلَهَا، وَخَرَجْنَ إلَى السّكَكِ فَسَتَرْنَ السّتُورَ [ (5) ] فِي الْأَزِقّةِ وَقَطَعْنَ الطّرُقَ فَخَرَجْنَ يَنُحْنَ، وَصَدّقُوا رُؤْيَا عَاتِكَةَ وَجُهَيْمِ بْنِ الصّلْتِ. وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، وَقَدْ كَمِدَ على من قتل من
وَلَدِهِ، كَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى وَلَدِهِ، وَتَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَكَانَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ: احْمِلْ مَعِي خَمْرًا وَاسْلُكْ بِي الْفَجّ الّذِي سَلَكَ أَبُو حُكَيْمَةَ. فَيَأْتِي بِهِ عَلَى الطّرِيقِ عِنْدَ فَجّ، فَيَجْلِسُ فَيَسْقِيهِ حَتّى يَنْتَشِيَ، ثُمّ يَبْكِي عَلَى أَبِي حُكَيْمَةَ وَإِخْوَتِهِ، ثُمّ يَحْثِي التّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُول لِغُلَامِهِ: وَيْحَك! اُكْتُمْ عَلَيّ أَنْ تَعْلَمَ بِي قُرَيْشٌ، فَإِنّي أَرَاهَا لَمْ تُجْمِعْ الْبُكَاءَ عَلَى قَتْلَاهَا. فَحَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ رَجَعُوا إلَى مَكّةَ وَقُتِلَ أَهْلُ بَدْرٍ: لَا تَبْكُوا عَلَى قَتْلَاكُمْ فَيَبْلُغَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِكُمْ، وَلَا تَبْعَثُوا فِي أَسْرَاكُمْ فَيَأْرَبَ [ (1) ] بِكُمْ الْقَوْمُ، أَلَا فَأَمْسِكُوا عَنْ الْبُكَاءِ! قَالَتْ: وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ- زَمْعَةُ، وَعُقَيْلٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ- فَكَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى قَتْلَاهُ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنْ اللّيْلِ، فَقَالَ لِغُلَامِهِ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا؟ لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حُكَيْمَةَ- يَعْنِي زَمْعَةَ- فَإِنّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ! فَذَهَبَ الْغُلَامُ وَرَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: إنّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرِهَا قَدْ أَضَلّتْهُ. فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: تُبَكّي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ ... وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ ... عَلَى بَدْرٍ تَصَاغَرَتْ الْخُدُودُ [ (2) ] فَبَكّي إنْ بَكَيْت عَلَى عَقِيلٍ ... وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
وَبَكّيهِمْ وَلَا تَسَمِي [ (1) ] جَمِيعًا ... وَمَا لِأَبِي حُكَيْمَةَ مِنْ نَدِيدِ [ (2) ] عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ ... وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ أَلَا قَدْ سَادَ بعدهم رجال ... ولولا يوم بدر لَمْ يَسُودُوا أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزّنَادِ قَالَ: سَمِعْت أَبِي يُنْشِدُ: تَصَاغَرَتْ الْخُدُودُ. وَلَا يُنْكِرُ الْجُدُودُ. قَالُوا: وَمَشَى نِسَاءُ قُرَيْشٍ إلَى هِنْدِ بنت عتبة فقأن: أَلَا تَبْكِينَ عَلَى أَبِيك وَأَخِيك وَعَمّك وَأَهْلِ بَيْتِك؟ فَقَالَتْ: حَلْقَى [ (3) ] ، أَنَا أَبْكِيهِمْ فَيَبْلُغُ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِنَا، وَنِسَاءُ بَنِي الْخَزْرَجِ! لَا وَاَللهِ، حَتّى أَثْأَرَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَالدّهْنُ عَلَيّ حَرَامٌ إنْ دَخَلَ رَأْسِي حَتّى نَغْزُوَ مُحَمّدًا. وَاَللهِ، لَوْ أَعْلَمُ أَنّ الْحُزْنَ يُذْهِبُ مِنْ قَلْبِي بَكَيْت، وَلَكِنْ لَا يُذْهِبُهُ إلّا أَنْ أَرَى ثَأْرِي بِعَيْنِي مِنْ قَتَلَةِ الْأَحِبّةِ. فَمَكَثَتْ عَلَى حَالِهَا لَا تَقْرَبُ الدّهْنَ، وَمَا قَرِبَتْ فِرَاشَ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ يَوْمِ حَلَفَتْ حَتّى كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ. وَبَلَغَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، وَهُوَ فِي أَهْلِهِ، وَقَدْ كَانَ شَهِدَ مَعَهُمْ بَدْرًا، أَنّ قُرَيْشًا بَكَتْ عَلَى قَتْلَاهَا، فَقَدِمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ خَفّتْ أَحْلَامُكُمْ، وَسَفِهَ رَأْيُكُمْ، وَأَطَعْتُمْ نِسَاءَكُمْ، وَمِثْلُ قَتْلَاكُمْ يُبْكَى عَلَيْهِمْ؟ هُمْ أَجَلّ مِنْ الْبُكَاءِ، مَعَ أَنّ ذَلِكَ يُذْهِبُ غَيْظَكُمْ عَنْ عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ الْغَيْظُ عَنْكُمْ إلّا أَنْ تُدْرِكُوا ثَأْرَكُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ. فَسَمِعَ أبو سفيان بن حرب كَلَامَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ، غُلِبْت وَاَللهِ! مَا نَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى قَتِيلٍ لَهَا إلَى الْيَوْمِ، وَلَا بَكَاهُنّ شاعر إلّا
نَهَيْته، حَتّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَإِنّي لَأَنّا الْمَوْتُورُ الثّائِرُ، قُتِلَ ابْنِي حَنْظَلَةُ وَسَادَةُ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي، أَصْبَحَ هَذَا الْوَادِي مُقْشَعِرّا لِفَقْدِهِمْ. فَحَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ الْأَنْصَارِيّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ إلَى مَكّةَ وَقُتِلَ صَنَادِيدُهُمْ وأشرافهم، أقبل عمير ابن وَهْبِ بْنِ عُمَيْرِ الْجُمَحِيّ حَتّى جَلَسَ إلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: قَبّحَ اللهُ الْعَيْشَ بَعْدَ قَتْلَى بَدْرٍ. قَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ: أَجَلْ وَاَللهِ، مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ، وَلَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ لَا أَجِدُ لَهُ قَضَاءً، وَعِيَالٌ لَا أَدَعُ لَهُمْ شَيْئًا، لَرَحَلْت إلَى مُحَمّدٍ حَتّى أَقْتُلَهُ إنْ مَلَأْت عَيْنَيّ مِنْهُ. فَإِنّهُ بَلَغَنِي أَنّهُ يَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، فَإِنّ لِي عِنْدَهُمْ عِلّةً، أَقُولُ: قَدِمْت عَلَى ابْنِي هَذَا الْأَسِيرِ. فَفَرِحَ صَفْوَانُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ وَقَالَ: يَا أَبَا أُمَيّةَ، وَهَلْ نَرَاك فَاعِلًا؟ قَالَ: إي وَرَبّ هَذِهِ الْبَنِيّةِ! قَالَ صَفْوَانُ: فَعَلَيّ دَيْنُك، وَعِيَالُك أُسْوَةُ عِيَالِي، فَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنّهُ لَيْسَ بِمَكّةَ رَجُلٌ أَشَدّ تَوَسّعًا عَلَى عِيَالِهِ مِنّي. فَقَالَ عُمَيْرٌ: قَدْ عَرَفْت بِذَلِكَ يَا أَبَا وَهْبٍ. قَالَ صَفْوَانُ: فَإِنّ عِيَالَك مَعَ عِيَالِي، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجَزُ عَنْهُمْ، وَدَيْنُك عَلَيّ. فَحَمَلَهُ صَفْوَانُ عَلَى بَعِيرٍ وَجَهّزَهُ، وَأَجْرَى عَلَى عِيَالِهِ مِثْلَ مَا يُجْرِي عَلَى عِيَالِ نَفْسِهِ. وَأَمَرَ عُمَيْرٌ بِسَيْفِهِ فَشُحِذَ [ (1) ] وَسُمّ، ثُمّ خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ لِصَفْوَانَ: اُكْتُمْ عَلَيّ أَيّامًا حَتّى أَقْدَمَهَا. وَخَرَجَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ صَفْوَانُ، وَقَدِمَ عُمَيْرٌ فَنَزَلَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ، وَأَخَذَ السّيْفَ فَتَقَلّدَهُ. ثُمّ عَمَدَ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَحَدّثُونَ وَيَذْكُرُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ فى بدر، فرأى عميرا وعليه السيف،
فَفَزِعَ عُمَرُ مِنْهُ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: دُونَكُمْ الْكَلْبَ! هَذَا عَدُوّ اللهِ الّذِي حَرّشَ بَيْنَنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَحَزَرْنَا لِلْقَوْمِ، وَصَعّدَ فِينَا وَصَوّبَ، يُخْبِرُ قُرَيْشًا أَنّهُ لَا عَدَدَ لَنَا وَلَا كَمِينَ. فَقَامُوا إلَيْهِ فَأَخَذُوهُ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَمَعَهُ السّلَاحُ، وَهُوَ الْغَادِرُ الْخَبِيثُ الّذِي لَا نَأْمَنُهُ عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدْخِلْهُ علىّ! فخرج عمر فأخذ بخمالة سَيْفِهِ فَقَبَضَ بِيَدِهِ عَلَيْهَا، وَأَخَذَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى قَائِمَةَ السّيْفِ، ثُمّ أَدْخَلَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا عُمَرُ، تَأَخّرْ عَنْهُ! فَلَمّا دَنَا عُمَيْرٌ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَنْعِمْ صَبَاحًا! قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَكْرَمَنَا اللهُ عَنْ تَحِيّتِك وَجَعَلَ تَحِيّتَنَا «السّلَامَ» ، وَهِيَ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَنّةِ. قَالَ عُمَيْرٌ: إنّ عَهْدَك بِهَا لَحَدِيثٌ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَبْدَلَنَا اللهُ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَمَا أَقْدَمَك يَا عُمَيْرُ؟ قَالَ: قَدِمْت فِي أَسِيرِي عِنْدَكُمْ تُقَارِبُونَنَا فِيهِ، فَإِنّكُمْ الْعَشِيرَةُ وَالْأَهْلُ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا بَالُ السّيْفِ؟ قَالَ: قَبّحَهَا اللهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ مِنْ شَيْءٍ؟ وَإِنّمَا نَسِيته حِينَ نَزَلَتْ وَهُوَ فِي رَقَبَتِي، وَلَعَمْرِي إنّ لِي لَهَمّا غَيْرَهُ! فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اُصْدُقْ، مَا أَقْدَمَك؟ قَالَ: مَا قَدِمْت إلّا فِي أَسِيرِي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا شَرَطْت لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ فِي الْحِجْرِ؟ فَفَزِعَ عُمَيْرٌ فَقَالَ: مَاذَا شَرَطْت لَهُ؟ قَالَ: تَحَمّلْت لَهُ بِقَتْلِي عَلَى أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَك وَيَعُولَ عِيَالَك، وَاَللهُ حَائِلٌ بَيْنِي وَبَيْنَك [ (1) ] . قَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ وَأَنّك صَادِقٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا الله! كنّا يا رسول الله نكذّبك
بِالْوَحْيِ وَبِمَا يَأْتِيك مِنْ السّمَاءِ. وَإِنّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَفْوَانَ كَمَا قُلْت، فَلَمْ يَطّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، وَقَدْ أَمَرْته أَنْ يَكْتُمَ عَنّي لَيَالِيَ مَسِيرِي فَأَطْلَعَك اللهُ عَلَيْهِ، فَآمَنْت بِاَللهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدْت أَنّ مَا جِئْت بِهِ حَقّ، الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ! وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ هَدَاهُ اللهُ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَخِنْزِيرٌ كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْهُ حِينَ طَلَعَ، وَهُوَ السّاعَةَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ بَعْضِ وَلَدِي. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلّمُوا أَخَاكُمْ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي كُنْت جَاهِدًا عَلَى إطْفَاءِ نُورِ اللهِ، فَلَهُ الْحَمْدُ أَنْ هَدَانِي، فَائْذَنْ لِي فَأَلْحَقُ قُرَيْشًا فَأَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَعَلّ اللهَ يَهْدِيهِمْ وَيَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْ الْهَلَكَةِ. فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ فَلَحِقَ بِمَكّةَ، فَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْ عُمَيْرٍ كُلّ رَاكِبٍ يَقْدَمُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَيَقُولُ: هَلْ حَدَثَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ حَدَثٍ؟ وَيَقُولُ لِقُرَيْشٍ: أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ. فَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ صَفْوَانُ عَنْ عُمَيْرٍ فَقَالَ: أَسْلَمَ. فَلَعَنَهُ صَفْوَانُ وَلَعَنَهُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكّةَ وَقَالُوا: صَبَأَ عُمَيْرٌ! فَحَلَفَ صَفْوَانُ أَلّا يُكَلّمَهُ أَبَدًا وَلَا يَنْفَعَهُ، وَطَرَحَ عِيَالَهُ. وَقَدِمَ عُمَيْرٌ عَلَيْهِمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَخَبّرَهُمْ بِصِدْقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ نَزَلَ فِي أَهْلِهِ وَلَمْ يَقْرَبْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ، فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَدَعَا إلَيْهِ، فَبَلَغَ صَفْوَانَ فَقَالَ: قَدْ عَرَفْت حِينَ لَمْ يَبْدَأْ بِي قَبْلَ مَنْزِلِهِ، وَإِنّمَا رَحَلَ مِنْ عِنْدِي، أَنّهُ قَدْ [ (1) ] ارْتَكَسَ، وَلَا أُكَلّمُهُ مِنْ رَأْسِي أَبَدًا، وَلَا أَنْفَعُهُ وَلَا عِيَالَهُ بِنَافِعَةٍ أَبَدًا. فَوَقَفَ عَلَيْهِ عُمَيْرٌ، وَهُوَ فى
المطعون من المشركين ببدر
الْحِجْرِ، فَقَالَ: أَبَا وَهْبٍ! فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَنْتَ سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، أَرَأَيْت الّذِي كُنّا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ حَجَرٍ وَالذّبْحِ لَهُ، أَهَذَا دِينٌ؟ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَلَمْ يُجِبْهُ صفوان بكلمة. المطعون مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ وَكَانَ الْمُطْعِمُونَ فِي عَبْدِ مَنَافٍ: الْحَارِثَ بْنَ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَشَيْبَةَ وعُتْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ: زَمْعَةَ بن الأسود بن المطلب بن أسد، ونوفل بْنَ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيّةِ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو جَهْلٍ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: نُبَيْهَ وَمُنَبّهَ ابْنَا الْحَجّاجِ. قَالَ [ (1) ] : وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ يَقُولُ: مَا أَطْعَمَ أَحَدٌ بِبَدْرٍ إلّا قُتِلَ. قَالَ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِيهِمْ، وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا. وَقَدْ ذَكَرُوا عِدّةً، مِنْهُمْ سُهَيْلٌ وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ وَغَيْرُهُمَا. فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمْت عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي فِدَاءِ الْأَسْرَى، فَاضْطَجَعْت فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَدْ أَصَابَنِي الْكَرَى فَنِمْت، فَأُقِيمَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَقُمْت فَزِعًا بِقِرَاءَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَغْرِبِ وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [ (2) ] ، فَاسْتَمَعْت قِرَاءَتَهُ حَتّى خَرَجْت مِنْ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَوّلُ مَا دَخَلَ الْإِسْلَامُ قَلْبِي. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، قال: قدم من
قُرَيْشٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فِي فِدَاءِ أَصْحَابِهِمْ. وَحَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَدِمَ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَ الْمُطّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ، ثُمّ قَدِمُوا بَعْدَهُ بِثَلَاثِ لَيَالٍ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ يزيد ابن النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ لِكُلّ رَجُلٍ. فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: سَأَلْت نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ: كَمْ [ (1) ] كَانَ الْفِدَاءُ؟ قَالَ: أَرْفَعُهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، إلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، إلَى أَلْفَيْنِ، إلَى أَلْفٍ، إلَى قَوْمٍ [ (2) ] لَا مَالَ لَهُمْ، مَنّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَبِي وَدَاعَةَ: إنّ لَهُ بِمَكّةَ ابْنًا كَيّسًا لَهُ مَالٌ، وَهُوَ مُغْلٍ فِدَاءَهُ. فَافْتَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ أَوّلَ أَسِيرٍ اُفْتُدِيَ. وَذَلِكَ أَنّ قُرَيْشًا قَالَتْ لِابْنِهِ الْمُطّلِبِ وَرَأَتْهُ يَتَجَهّزُ، يَخْرُجُ إلَى أَبِيهِ، فَقَالُوا: لَا تَعْجَلْ، فَإِنّا نَخَافُ أَنْ تُفْسِدَ عَلَيْنَا فِي أُسَارَانَا، وَيَرَى مُحَمّدٌ تَهَالُكَنَا فَيُغْلِيَ عَلَيْنَا الْفِدْيَةَ، فَإِنْ كُنْت تَجِدُ فَإِنّ كُلّ قَوْمِك لَا يَجِدُونَ مِنْ السّعَةِ مَا تَجِدُ. فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ حَتّى تَخْرُجُوا. فَخَادَعَهُمْ حَتّى إذَا غَفَلُوا خَرَجَ مِنْ اللّيْلِ مُشْرِقًا [ (3) ] عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَسَارَ أَرْبَعَ لَيَالٍ إلَى الْمَدِينَةِ، فَافْتَدَى أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. فَلَامَتْهُ فى دلك قريش فَقَالَ: مَا كُنْت لِأَتْرُكَ أَبِي أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْقَوْمِ وَأَنْتُمْ مُتَضَجّعُونَ [ (4) ] . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بن حرب: إنّ هذا غلام حدث،
أسماء النفر الذين قدموا فى الأسرى
مُعْجَبٌ بِرَأْيِهِ، وَهُوَ مُفْسِدٌ عَلَيْكُمْ! إنّي وَاَللهِ غَيْرُ مُفْتَدٍ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَلَوْ مَكَثَ سَنَةً أَوْ يُرْسِلُهُ مُحَمّدٌ! وَاَللهِ مَا أَنَا بِأَعْوَزِكُمْ، وَلَكِنّي أَكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيّ أَوْ أُدْخِلَ عَلَيْكُمْ مَا يَشُقّ عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ عَمْرٌو كَأُسْوَتِكُمْ. أَسَمَاءُ النّفَرِ الّذِينَ قَدِمُوا فِي الأسرى من بنى عبد شمس: الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ أَخُو أَبِي الْعَاصِ، وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَمِنْ عَبْدِ الدّارِ: طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ: عُثْمَانُ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ، ومن بنى محزوم: عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَفَرْوَةُ بْنُ السّائِبِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: الْمُطّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ [ (1) ] . فَحَدّثَنِي الْمُنْذِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمّا بَعَثَ أَهْلُ مَكّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي فِدَاءِ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ لِخَدِيجَةَ- يُقَالُ: إنّهَا مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ [ (2) ] ، كَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أَدَخَلْتهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى بِهَا. فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِلَادَةَ عَرَفَهَا وَرَقّ لَهَا،
ذكر سورة الأنفال
وَذَكَرَ خَدِيجَةَ وَرَحّمَ عَلَيْهَا، وَقَالَ: إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدّوا إلَيْهَا مَتَاعَهَا فَعَلْتُمْ. فَقَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَطْلَقُوا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرّبِيعِ وَرَدّوا عَلَى زَيْنَبَ مَتَاعَهَا. وَأَخَذَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ أَنْ يُخَلّيَ سَبِيلَهَا، فَوَعَدَهُ ذَلِكَ، وَقَدِمَ فِي فِدَائِهِ عَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ أَخُوهُ. وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ أَخُو خَوّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ. ذكر سورة الأنفال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قَالَ: لَمّا غَنِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ اخْتَلَفُوا، فَادّعَتْ كُلّ طَائِفَةٍ أَنّهُمْ أَحَقّ بِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً يَقُولُ: زَادَتْهُمْ يَقِينًا. وَفِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يَقُولُ: يَقِينًا. وَفِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ يَقُولُ: لِمَا أَمَرَك رَبّك أَنْ تَخْرُجَ إلَى بَدْرٍ هُوَ الْحَقّ. وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبّادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْزُومِيّ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْتِكَ قال: من المدينة. وفى قوله: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. كَرِهَ خُرُوجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إلَى بَدْرٍ، قَالُوا: نَحْنُ قَلِيلٌ وَمَا الْخُرُوجُ بِرَأْيٍ! حَتّى كَانَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ كَبِيرٌ. وَفِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ لَمّا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ بَدْرٍ نَزَلَ عَلَيْهِ جبرئيل عَلَيْهِ السّلَامُ فَخَبّرَهُ بِمَسِيرِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ يُرِيدُ عِيرَهَا، فَوَعَدَهُ اللهُ إمّا الْعِيرَ وَإِمّا لِقَاءَ قُرَيْشٍ فَيُصِيبُهُمْ. فَلَمّا كَانَ
ببدر أخذوا السّقاء، وسألوهم عن العير يُخْبِرُونَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَلَا يُحِبّ ذَلِك الْمُسْلِمُونَ لِأَنّهَا شَوْكَةٌ، وَيُحِبّونَ الْعِيرَ. وَفِي قَوْلِهِ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ يَقُولُ: يُظْهِرُ الدّينَ. وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ يَعْنِي مِنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ يَعْنِي لِيُظْهِرَ الْحَقّ، وَيُبْطِلَ الْباطِلَ الّذِي جَاءُوا بِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ يَعْنِي قُرَيْشًا، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يَعْنِي بَعْضُهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى يَعْنِي عَدَدَ الْمَلَائِكَةِ الّذِينَ أَخْبَرَهُمْ بِهَا، وَلِيَعَلَمُنّ أَنّ اللهَ يَنْصُرُكُمْ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ يَقُولُ أَلْقَى عَلَيْكُمْ النّوْمَ أَمْنًا مِنْهُ فَقَذَفَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ أَجْنَبَ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ يَقُولُ: يُصَلّي وَلَا يَغْتَسِلُ! وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ بِالطّمَأْنِينَةِ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ كَانَ الْمَوْضِعُ دَهْسًا فَلَبّدَهُ [ (1) ] . إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فَكَانَ الْمَلَكُ يَتَصَوّرُ فِي صُورَةِ الرّجُلِ فَيَقُولُ: اُثْبُتْ فَإِنّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَكَانَتْ أَفْئِدَتُهُمْ [ (2) ] تَخْفِقُ، لَهَا وَجَبَانٌ كَالْحَصَاةِ يُرْمَى بِهَا فِي الطّسْتِ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ يَعْنِي الْأَعْنَاقَ، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ يَدًا ورجلا. لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقُولُ كَفَرُوا بِاَللهِ وجحدوا رسوله. وفى قوله ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ يَعْنِي الْقَتْلَ بِبَدْرٍ، وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ. إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً إلَى قَوْلِهِ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَوْمَ بَدْرٍ خَاصّةً. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ قَوْلُ الرّجُلِ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا قَتَلْت فُلَانًا،
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى حِينَ رَمَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَبْضَةِ تُرَابًا: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً يَعْنِي نَصْرَهُ إيّاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: اللهُمّ، أَقْطَعُنَا لِلرّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرَفُ، فَأَحِنْهُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا لِمَنْ بَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يَعْنِي تُسْلِمُوا، وَإِنْ تَعُودُوا لِلْقِتَالِ، نَعُدْ بِالْقَتْلِ لَكُمْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً قَالُوا: لَنَا جَمَاعَةٌ بِمَكّةَ نَغْزُوهُ غَزْوَةً تُصِيبُهُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ يَعْنِي الدعاء، هذه الآية فى يوم أُحُدٍ، عَاتَبَهُمْ عَلَيْهَا. لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ يَقُولُ: لَا تُنَافِقُوا وَأَدّوا كُلّ مَا اُسْتُوْدِعْتُمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ يَقُولُ: إذَا كَثُرَ مَالُهُ عَظُمَتْ فِتْنَتُهُ وَتَطَاوَلَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ وَلَدُهُ كَثِيرًا رَأَى أَنّهُ عَزِيزٌ. وَفِي قَوْلِهِ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً يَعْنِي مَخْرَجًا. وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ هَذَا بِمَكّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، حِينَ أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ. (وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قَالَ: الْمُتَكَلّمُ بِهَذَا النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ [ (1) ] يَوْمَ بَدْرٍ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكّةَ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يَعْنِي يُصَلّونَ. ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يَعْنِي الْهَزِيمَةَ وَالْقَتْلَ. وَفِي قَوْلِهِ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ يَوْمَ بدر. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ
لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إلَى قَوْلِهِ ثُمَّ يُغْلَبُونَ حَيْثُ خَرَجُوا إلَى بَدْرٍ حَسْرَةً وَنَدَامَةً، ثُمَّ يُغْلَبُونَ فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ، يَقُولُ: ثُمّ إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ. قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ يَقُولُ: إنْ يُسْلِمُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ رَأَيْتُمْ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ* يَعْنِي لَا يَكُونَ شِرْكٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لَا يُذْكَرُ إِسَافُ وَلَا نَائِلَةُ. وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. قَالَ: الّذِي لِلّهِ هُوَ لِلرّسُولِ، وَاَلّذِي لِذِي الْقُرْبَى قَرَابَةَ رَسُولِ اللهِ، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ فُرّقَ بَيْنَ الْحَقّ وَالْبَاطِلِ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا يَعْنِي أَصْحَابَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلُوا بِبَدْرٍ، وَالْمُشْرِكُونَ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، بَيْنَهُمْ قَوْزٌ مِنْ رَمْلٍ، وَالرّكْبُ رَكْبُ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ لَصِقَ بِالْبَحْرِ أَسْفَلَ مِنْ بَدْرٍ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لَا مَحَالَةَ يَأْتِي رَكْبٌ قَبْلَ رَكْبٍ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا قَتْلُ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ يَقُولُ: يُقْتَلُ مَنْ قُتِلَ عَنْ عُذْرٍ وَحُجّةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيّ مِنْهُمْ عَنْ عُذْرٍ وَحُجّةٍ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا قَالَ: نَامَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فَقُلّلُوا فِي عَيْنِهِ، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ يَقُولُ: رُعِبْتُمْ، وَلَتَنازَعْتُمْ يَقُولُ: اخْتَلَفْتُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ يَعْنِي الِاخْتِلَافَ بَيْنَكُمْ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يَعْنِي ضَعْفَ قُلُوبِكُمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً يَعْنِي جَمِيعًا، فَلَا تَفِرّوا وَكَبّرُوا. وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا يَعْنِي عَلَى السّيْفِ، يَقُولُ: كَبّرُوا اللهَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَلَا تُظْهِرُوا التّكْبِيرَ، فَإِنّ إظْهَارَهُ فِي الْحَرْبِ فَشَلٌ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يَعْنِي مَخْرَجَ قُرَيْشٍ إلَى بَدْرٍ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ هَذَا كُلّهُ كَلَامُ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ، يَقُولُ فِيمَا يَرْوُونَ: تَصَوّرَ إبْلِيسُ فِي صُورَتِهِ يَوْمَئِذٍ. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ يَعْنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشًا نَكَصَ إبْلِيسُ وَهُوَ يَرَى الْمَلَائِكَةَ تَقْتُلُ وَتَأْسِرُ وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ. إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ نَفَرٌ كَانُوا أَقَرّوا بِالْإِسْلَامِ، فَلَمّا قُلّلَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَعْيُنِهِمْ فُلّوا [ (1) ] ، وَقَالُوا هَذَا الْكَلَامَ فَقُتِلُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ يَعْنِي أَسْتَاههمْ وَلَكِنّهُ كَنّى. أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ الثّوْرِيّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَفِي قَوْلِهِ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى قَوْلِهِ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ يعنى قينقاع، بنى النّضير، وَقُرَيْظَةَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ اُقْتُلْهُمْ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً إلَى آخِرِ الْآيَةِ، نَزَلَتْ فِي بَنِي قَيْنُقَاعَ، سَارَ إلَيْهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ قَالَ: الرّمْيُ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ يَقُول: ارْتَبِطُوا لِخَيْلٍ تَصْهَلُ وَتُرَى، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ. يَعْنِي خَيْبَرَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها إلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَعْنِي قُرَيْظَةَ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ يَعْنِي قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرَ حِينَ قَالُوا: نَحْنُ نُسْلِمُ وَنَتّبِعُك. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ
نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ ثُمّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فَصَارَ الرّجُلُ يَغْلِبُ الرّجُلَيْنِ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي أَخْذَ الْمُسْلِمِينَ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا يَقُولُ الْفِدَاءَ، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يُرِيدُ أَنْ يُقْتَلُوا. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ قَالَ سَبَقَ إحْلَالُ الْغَنِيمَةِ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً قَالَ: إحْلَالُ الْغَنَائِمِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا يَعْنِي قُرَيْشًا الّذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ بَدْرٍ، وَآوَوْا وَنَصَرُوا الْأَنْصَارَ، وَأَمّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا يَقُولُ: لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وِرَاثَةٌ حَتّى يُهَاجِرُوا، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يَعْنِي مُدّةٌ وَعَهْدٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ يَقُولُ: لَا تَوَلّوْا أَحَدًا مِنْ الْكَافِرِينَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض، ثم نسخ آية الميراث. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَفِي قَوْلِهِ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى [ (1) ] يَوْمَ بَدْرٍ. فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً [ (2) ] يَوْمَ بَدْرٍ. أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ (3) ] يَوْمَ بَدْرٍ. حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ [ (4) ] يَوْمَ بَدْرٍ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ [ (1) ] يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [ (2) ] فَلَمْ يَكُنْ إلّا يَسِيرًا حَتّى كَانَ وَقْعَةُ بَدْرٍ. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [ (3) ] نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِيَسِيرٍ. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً [ (4) ] يوم بدر. فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ (بَيْنَنا) وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [ (5) ] مِنْ قَبْلِ يَوْمِ بَدْرٍ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [ (6) ] قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ خَاصّةً، وَكَانَ قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ إذَا لَقِيَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ لَا يَفِرّونَ، فَإِنّهُمْ إذَا لَمْ يَفِرّوا غَلَبُوا. ثُمّ خُفّفَ عَنْهُمْ فَقَالَ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [ (7) ] فَنَسَخَتْ الْأُولَى، فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُول: مَنْ فَرّ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرّ، وَمَنْ فَرّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرّ. وَفِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [ (8) ] يَعْنِي قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ. وَفِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ [ (9) ] قَالَ بِالسّيُوفِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [ (10) ] يَقُولُ: السّيْفُ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ قال: يوم بدر. حَدّثَنَا الثّوْرِيّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ مجاهد، قال: بالسيوف
ذكر من أسر من المشركين
يَوْمَ بَدْرٍ. حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيّ عن عبد الملك بن عبيد، عن مجاهد، عَنْ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ (1) ] قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ. ذِكْرُ مَنْ أُسِرَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وحدّثنى محمّد ابن صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَا: أُسِرَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ مَحْمُودٌ: أَسَرَهُ عُبَيْدُ بْنُ أَوْسٍ الظّفَرِيّ. وَأَسَرَ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ، وَعُتْبَةُ حَلِيفٌ لِبَنِي هَاشِمٍ مِنْ بَنِي فِهْرٍ. حَدّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: أُسِرَ مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رَجُلَانِ: السّائِبُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، أَسَرَهُمَا سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ الْأَشْهَلِيّ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْأَنْصَارِيّ. وَلَمْ يَقْدَمْ لَهُمَا أَحَدٌ، وَكَانَا لَا مَالَ لَهُمَا، فَفَكّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا بِغَيْرِ فِدْيَةٍ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، قُتِلَ صَبْرًا بِالصّفْرَاءِ [ (2) ] قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ بِأَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ الْعَجْلَانِيّ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي
وَجْزَةَ [ (1) ] ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وقّاص، فقدم فى فدائه الوليد ابن عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَافْتَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. فحدّثنى محمّد بن يحيى ابن سهل، عن أبى عفير، أنّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ، لَمّا [ (2) ] أَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَدّ الْأَسْرَى، كَانَ الّذِي [رَدّهُ] ، أَسَرَهُ سَعْدٌ أَوّلَ مَرّةٍ، ثُمّ اقْتَرَعُوا عَلَيْهِ فَصَارَ أَيْضًا لَهُ. وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، صَارَ فِي سَهْمِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْعَةِ، كَانَ أَسَرَهُ عَلِيّ، وَأَرْسَلَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ لِسَعْدِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ أَكّالٍ مِنْ بَنِي مُعَاوِيَةَ، خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَحُبِسَ بِمَكّةَ، وَأَبُو الْعَاصِ بْنُ الرّبِيعِ، أَسَرَهُ خِرَاشُ بْنُ الصّمّة. حدّثنيه إسحاق ابن خَارِجَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمَ فِي فِدَائِهِ عَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ أَخُوهُ. وَحَلِيفٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ أَبُو رِيشَةَ، افْتَدَاهُ عَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ. وَعَمْرُو بْنُ الْأَزْرَقِ افْتَكّهُ عَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ، وَكَانَ الّذِي صَارَ فِي سَهْمِهِ تَمِيمٌ مَوْلَى خِرَاشِ بْنِ الصّمّةِ، وَعُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْحَضْرَمِيّ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، فَصَارَ فِي الْقُرْعَةِ لِأُبَيّ بن كعب، افتداه عمرو بن سفيان ابن أُمَيّةَ، وَأَبُو الْعَاصِ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَسَرَهُ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَقَدِمَ فِي فِدَائِهِ ابْنُ عَمّهِ. وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عَدِيّ بْنُ الْخِيَارِ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ خِرَاشُ بْنُ الصّمّةِ- حَدّثَنِي بِذَلِكَ أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ- وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ، ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، حَلِيفٌ لَهُمْ، أَسَرَهُ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، افْتَدَاهُمْ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَ أَبَا ثَوْرٍ أبو مرثد الغنوىّ فى ثلاثة.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ: أَبُو عَزِيزِ بْنُ عُمَيْرٍ، أَسَرَهُ أَبُو الْيَسَرِ ثُمّ اُقْتُرِعَ عَلَيْهِ فَصَارَ لِمُحْرِزِ بْنِ نَضْلَةَ، وَأَبُو عَزِيزٍ أَخُوهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ لِأُمّهِ وَأَبِيهِ. فَقَالَ مُصْعَبٌ لِمُحْرِزٍ: اُشْدُدْ يَدَيْك بِهِ، فَإِنّ لَهُ أُمّا بِمَكّةَ كَثِيرَةَ الْمَالِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو عَزِيزٍ: هَذِهِ وَصَاتُك بِي يَا أَخِي؟ فَقَالَ مُصْعَبٌ: إنّهُ أَخِي دُونَك! فَبَعَثَتْ أُمّهُ فِيهِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ سَأَلَتْ أَغْلَى مَا تُفَادِي بِهِ قُرَيْشٌ، فَقِيلَ لَهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الْحَارِثِ ابن السّبّاقِ، أَسَرَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَقَدِمَ فِي فِدَائِهِمَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى: السّائِبُ بْنُ أَبِي حُبَيْشِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، أَسَرَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَائِذِ بْنِ أَسَدٍ، أَسَرَهُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَسَالِمُ بْنُ شَمّاخٍ، أَسَرَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، قَدِمَ فِي فِدَائِهِمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ لِكُلّ رَجُلٍ- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ: مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ، أَسَرَهُ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ أَسِيرًا. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: خَالِدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَسَرَهُ سَوَادُ بْنُ غَزِيّةَ [ (1) ] ، وَأُمَيّةُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَسَرَهُ بِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَكَانَ أَفْلَتَ يَوْمَ نَخْلَةَ، فَأَسَرَهُ واقد بن عبد الله بن التّمِيمِيّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمْكَنَنِي مِنْك، فَقَدْ كُنْت أَفْلَتّ فِي الْمَرّةِ الْأُولَى يَوْمَ نَخْلَةَ. فَقَدِمَ فِي فِدَائِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَافْتَدَاهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ. وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَسَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ، فَقَدِمَ فِي فِدَائِهِ أَخُوهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَتَمَنّعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ
حَتّى افْتَكّاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَجَعَلَ هِشَامٌ لَا يُرِيدُ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ، يُرِيدُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَقَالَ خَالِدٌ لِهِشَامٍ: إنّهُ لَيْسَ بِابْنِ أُمّك، وَاَللهِ لَوْ أَبَى [ (1) ] فِيهِ إلّا كَذَا وَكَذَا لَفَعَلْت. ثُمّ خَرَجَا بِهِ حَتّى بَلَغَا بِهِ ذَا الْحُلَيْفَةِ [ (2) ] ، فَأَفْلَتَ فَأَتَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا أَسْلَمْت قَبْلَ أَنْ تُفْتَدَى؟ قَالَ: كَرِهْت أَنْ أُسْلِمَ حَتّى أُفْتَدَى [ (3) ] بِمِثْلِ مَا اُفْتُدِيَ بِهِ قَوْمِي. فَأَسْلَمَ- وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُ أَخْبَرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ إلّا أَنّهُ قَالَ: أَسَرَهُ سَلِيطُ. بْنُ قَيْسٍ الْمَازِنِيّ- وَقَيْسُ بْنُ السّائِبِ، كَانَ أَسَرَهُ عَبْدَةُ بْنُ الْحَسْحَاسِ، فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ حِينًا وَهُوَ يَظُنّ أَنّ لَهُ مَالًا، وَقَدِمَ أَخُوهُ فَرْوَةُ بْنُ السّائِبِ فِي فِدَائِهِ، فَأَقَامَ أَيْضًا حِينًا، ثُمّ افْتَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فِيهَا عَرْضٌ. وَمِنْ بَنِي أَبِي رِفَاعَةَ: صَيْفِيّ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ بْنِ عَابِدِ [ (4) ] بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عمرو بْنِ مَخْزُومٍ، وَكَانَ لَا مَالَ لَهُ، أَسَرَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ ثُمّ أَرْسَلَهُ، وَأَبُو الْمُنْذِرِ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ اُفْتُدِيَ بِأَلْفَيْنِ، وَعَبْدُ اللهِ، وَهُوَ أَبُو عَطَاءِ بْنُ السّائِبِ بْنِ عَابِدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، اُفْتُدِيَ بِأَلْفِ درهم، أسره سعد ابن أَبِي وَقّاصٍ، وَالْمُطّلِبُ بْنُ حَنْطَبِ [ (5) ] بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ أَبُو أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَأَرْسَلَهُ بَعْدَ حِينٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ حَلِيفٌ لَهُمْ عُقَيْلِيّ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ:
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا يَقْطُرُ الدّمَا قَدِمَ فِي فِدَائِهِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، كَانَ الّذِي أَسَرَهُ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ- ثَمَانِيَةٌ. وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ بْنِ خَلَفٍ، وَاَلّذِي أَسَرَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الْبَيَاضِيّ، قَدِمَ فِي فِدَائِهِ أَبُوهُ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ، فَتَمَنّعَ بِهِ فَرْوَةُ حِينًا، وَأَبُو عَزّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبٍ، مَنّ عَلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْلَفَهُ أَلّا يُكْثِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا، فَأَرْسَلَهُ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ، فَأُسِرَ يَوْمَ أُحُدٍ فَضُرِبَ عُنُقُهُ، وَوَهْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ، قَدِمَ أَبُوهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ فِي فِدَائِهِ حِينَ بَعَثَهُ صَفْوَانُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ فَأَرْسَلَ لَهُ ابْنَهُ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ الزّرَقِيّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ دَرّاجِ بْنِ الْعَنْبَسِ [ (1) ] بْنِ وَهْبَانَ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، وَكَانَ لَا مَالَ لَهُ فَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا [ (2) ] وَأَرْسَلَهُ، وَالْفَاكِهُ مَوْلَى أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، أَسَرَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ- أَرْبَعَةٌ وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو: أَبُو وَدَاعَةَ بْنُ ضُبَيْرَةَ، وَكَانَ أَوّلَ أَسِيرٍ اُفْتُدِيَ، قَدِمَ فِي فِدَائِهِ ابْنُهُ الْمُطّلِبُ، افْتَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَفَرْوَةُ بْن خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، قَدِمَ فِي فِدَائِهِ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، افْتَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ قَبِيصَةَ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، كَانَ الّذِي أسره عثمان ابن مَظْعُونٍ، وَالْحَجّاجُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سَعْدٍ، أَسَرَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَأَفْلَتْ فَأَخَذَهُ أَبُو داود المازنىّ- أربعة.
وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: سُهَيْلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ ابن نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ، قَدِمَ فِي فِدَائِهِ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَسَرْت سُهَيْلًا فَلَمْ أَبْتَغِ [ (1) ] ... بِهِ غَيْرَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمْ وَخِنْدِفُ تَعْلَمُ أَنّ الْفَتَى ... سُهَيْلًا فَتَاهَا إذَا تُظّلَمْ ضَرَبْت بِذِي السّيْفِ حَتّى انْحَنَى [ (2) ] ... وَأَكْرَهْت نَفْسِي عَلَى ذِي الْعَلَمْ [ (2) ] فَلَمّا قَدِمَ مِكْرَزٌ انْتَهَى إلَى رِضَاهُمْ فِي سُهَيْلٍ وَدَفَعَ الْفِدَاءَ، أَرْبَعَةَ آلَافٍ، قَالُوا: هَاتِ مَالَنَا. قَالَ: نَعَمْ، اجْعَلُوا رَجُلًا مَكَانَ رَجُلٍ وَخَلّوا سَبِيلَهُ. فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ يَقُولُ: رَجُلًا بِرَجُلٍ! وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ أَبِي الزّنَادِ يقولان: رجلا برجل! فخلّوا سبيل سهيل وحبسوا مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَبَعَثَ سُهَيْلٌ بِالْمَالِ مَكَانَهُ مِنْ مَكّةَ. وَعَبْدُ [ (3) ] بْنُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ، أَسَرَهُ عُمَيْرُ بْنُ عَوْفٍ مَوْلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ الْعُزّى بْنُ مَشْنُوءِ بْنِ وَقْدَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ، فَسَمّاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ النّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ- ثَلَاثَةٌ. ومن بنى فهر: الطّفيل بن أبى فنيع، وَابْنُ جَحْدَمٍ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ محمّد بن يحيى بن حبّان، قال:
تسمية المطعين فى طريق بدر من المشركين
كَانَ الْأَسْرَى الّذِينَ يُحْصَوْنَ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ. فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: كَانَ الْأَسْرَى سَبْعِينَ وَالْقَتْلَى سَبْعِينَ. فَحَدّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، مِثْلَهُ. وَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: كَانَ الْأَسْرَى زِيَادَةً عَلَى سَبْعِينَ وَالْقَتْلَى زِيَادَةً عَلَى سَبْعِينَ. فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، قال: أسر يوم بدر أربعة وسبعون. تِسمية المطعين فِي طَرِيقِ بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْيَرْبُوعِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، قَالَ: كَانَ الْمُطْعِمُونَ فِي بَدْرٍ تِسْعَةً، مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ ثَلَاثَةٌ: الْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَشَيْبَةُ وَعُتْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ: زَمْعَةُ بْنُ الأسود بن المطلب بن أسد، ونوفل بن خويلد ابن الْعَدَوِيّةِ- اثْنَانِ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ- وَاحِدٌ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ- وَاحِدٌ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: نُبَيْهُ وَمُنَبّهُ ابْنَا الْحَجّاجِ- رَجُلَانِ. فَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ: أَوّلُ من نحر لهم أبو جهل بِمَرّ الظّهْرَانِ عَشْرًا، ثُمّ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ بِعُسْفَانَ تِسْعًا، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بِقُدَيْدٍ عَشْرًا. وَمَالُوا إلَى الْمِيَاهِ مِنْ نَحْوِ الْبَحْرِ، ضَلّوا
تسمية من استشهد من المسلمين ببدر
الطّرِيقَ، فَأَقَامُوا بِهَا يَوْمًا فَنَحَرَ لَهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ تِسْعَةً، ثُمّ أَصْبَحُوا بِالْجُحْفَةِ فَنَحَرَ لَهُمْ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَشْرًا، ثُمّ أَصْبَحُوا بِالْأَبْوَاءِ فَنَحَرَ لَهُمْ قَيْسٌ الْجُمَحِيّ تِسْعًا، ثُمّ نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ عَشْرًا، وَنَحَرَ لَهُمْ الْحَارِثُ بن ماء بدر تِسْعًا، ثُمّ نَحَرَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ عَلَى مَاءِ بدر عشرا، ونحر له مِقْيَسٌ عَلَى مَاءِ بَدْرٍ تِسْعًا، ثُمّ شَغَلَتْهُمْ الْحَرْبُ فَأَكَلُوا مِنْ أَزْوَادِهِمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّناد: والله، ما أظنّ مقيس كَانَ يَقْدِرُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَا يَعْرِفُ الْوَاقِدِيّ قَيْسَ الْجُمَحِيّ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أُمّ بَكْرِ بِنْتِ الْمِسْوَرِ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: كَانَ النّفَرُ يَشْتَرِكُونَ فِي الطّعَامِ، فَيُنْسَبُ إلَى الرّجُلِ الْوَاحِدِ وَيُسْكَتُ عَنْ سَائِرِهِمْ. تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِبَدْرٍ حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْت الزّهْرِيّ: كَمْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِبَدْرٍ؟ قَالَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. ثُمّ عَدّهُمْ عَلَيّ، فَهُمْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ سَمّيْت. وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رُومَانَ مِثْلَهُ، سِتّةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَثَمَانِيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، قَتَلَهُ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَدَفَنَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصّفْرَاءِ. وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ: عُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، قَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ- أَخْبَرَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ- وَعُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو ذُو الشّمَالَيْنِ، قَتَلَهُ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ. وَمِنْ بَنِي عدىّ بن كعب: عاقل ابن أَبِي الْبُكَيْرِ [ (1) ] حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بن بكر، قتله مالك بن زهير
الْجُشَمِيّ، وَمِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ، أَخْبَرَنِيهِ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: وَحَدّثَنِيهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ. وَيُقَالُ أَوّلُ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ. وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: صَفْوَانُ بْنُ بَيْضَاءَ، قَتَلَهُ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ، وَحَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحْرِزُ بْنُ جَعْفَرِ [ (1) ] بْنِ عَمْرٍو، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو. وَمِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: مُبَشّرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، قَتَلَهُ أَبُو ثَوْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، قَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ، وَيُقَال طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ: حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، رَمَاهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ حَنْجَرَتَهُ فَقَتَلَهُ. [قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَسَمِعْت الْمَكّيّينَ يَقُولُونَ ابْنُ الْعَرِقَةِ] [ (2) ] . وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ: عَوْفُ وَمُعَوّذُ ابْنَا عَفْرَاءَ، قَتَلَهُمَا أَبُو جَهْلٍ. وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ حَرَامٍ: عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: أَوّلُ قَتِيلٍ قُتِلَ من الأنصار فى الإسلام عمير ابن الْحُمَامِ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ، وَيُقَالُ حَارِثَةُ بن سراقة، رماه حبّان ابن الْعَرِقَةِ. وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ: رَافِعُ بْنُ الْمُعَلّى، قَتَلَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ فُسْحُمٍ [ (3) ] ، قَتَلَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ. حَدّثَنِي ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: قَتَلَ أَنَسَةَ مَوْلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ. حَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ الزّبَيْرِ بْنِ عَدِيّ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ ربّه [ (4) ] بن عبد الله،
تسمية من قتل من المشركين ببدر
عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ قَالَ: أَرَانِي أَبِي أَرْبَعَةَ قُبُورٍ بِسَيّرَ- شِعْبٌ مِنْ مَضِيقِ الصّفْرَاءِ- فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مِنْ شُهَدَاءِ بَدْرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَثَلَاثَةٌ بِالدّبّةِ- أَسْفَلَ مِنْ الْعَيْنِ الْمُسْتَعْجِلَةِ. وَأَرَانِي قَبْرَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بِذَاتِ أَجْدَالٍ- بِالْمَضِيقِ أَسْفَلَ مِنْ الْجَدْوَلِ. وَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ أَنّ مُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ جُرِحَ بِبَدْرٍ فَمَاتَ مِنْ جُرْحِهِ بِالْمَدِينَةِ. وَعُبَيْدَ بْنَ السّكَنِ، اشْتَكَى فَمَاتَ حِينَ قَدِمَ. حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَوّلُ أَنْصَارِيّ قُتِلَ فِي الْإِسْلَامِ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ بِبَدْرٍ، وَأَوّلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِهْجَعٌ، قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ. وَيُقَالُ أَوّلُهُمْ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، قَتَلَهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ. تَسْمِيَةُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِذَلِكَ. وَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، مِثْلَهُ. قَالَ: وَحَدّثَنِيهِ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ. وَالْحَارِثُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ، قَتَلَهُ عمّار ابن يَاسِرٍ. وَعَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ، قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ. وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ
وَابْنُهُ، وَمَوْلَيَانِ لَهُمْ، قَتَلَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ عُمَيْرَ بْنَ أَبِي عُمَيْرٍ. وَعُبَيْدَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، قَتَلَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ أَبُو حَمْزَةَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ. [قَالَ ابْنُ حَيّوَيْهِ: رَأَيْت فِي نُسْخَةٍ عَتِيقَةٍ: أَبُو حَمْزَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْمُونٍ] [ (1) ] . وَحَدّثَنِيهِ مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ. وَالْعَاصُ بْنُ سَعِيدٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. حَدّثَنِي بِذَلِك مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رُومَانَ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، مِثْلَهُ. وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ بِأَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصّفْرَاءِ صَبْرًا بِالسّيْفِ. وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَتَلَهُ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَذَفّفَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ وَعَلِيّ. وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أَنْمَارَ [ (2) ] ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ- اثْنَا عَشَرَ. وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل، قَتَلَهُ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافَ. وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ: رَبِيعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، قَتَلَهُ أَبُو دجانة، أخبرنيه عبد الله ابن جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَتَلَهُ ثَابِتُ بْنُ الْجِذْعِ. وَالْحَارِثُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَعَقِيلُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ، قَتَلَهُ حمزة وعلىّ،
شَرِكَا فِي قَتْلِهِ. وَحَدّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ قَالَ: قَتَلَهُ عَلِيّ وَحْدَهُ. وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ، وَهُوَ الْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ، قَتَلَهُ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ. وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، عَنْ عَبّادِ بْنِ تَمِيمٍ، قَالَ: قَتَلَهُ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ. وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بن أبى صعصعة، عن أيّوب ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، قَالَ: قَتَلَهُ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ. وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَتَلَهُ أَبُو الْيَسَرِ. وَنَوْفَلُ بن خويلد ابن أَسَدٍ، وَهُوَ ابْنُ الْعَدَوِيّةِ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رُومَانَ، قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ- خَمْسَةٌ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ: النّضْرُ بن الحارث بن كلدة، قتله علىّ ابن أَبِي طَالِبٍ صَبْرًا بِالسّيْفِ بِالْأُثَيْلِ بِأَمْرِ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، وزيد ابن مُلَيْصٍ مَوْلَى عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف بن عبد الدار، قتله علىّ ابن أَبِي طَالِبٍ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ مُصْعَبٍ الْعَبْدِيّ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة، قَالَ: قَتَلَهُ بِلَالٌ. وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ: عُمَيْرُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كعب بن سعد ابن تَيْمٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَعُثْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ، قَتَلَهُ صُهَيْبٌ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ، ثُمّ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ بن عبد الله بن عمرو بْنِ مَخْزُومٍ: أَبُو جَهْلٍ، ضَرَبَهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَوّذُ وَعَوْفُ ابْنَا
عَفْرَاءَ، وَذَفّفَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَالْعَاصُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. حَدّثَنِيهِ إبْرَاهِيمُ بن سعد، عن محمّد ابن عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رُومَانَ، مِثْلَهُ. وَيَزِيدُ بْنُ تَمِيمٍ التّمِيمِيّ حَلِيفٌ لَهُمْ، قَتَلَهُ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ. وَيُقَالُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَأَبُو مُسَافِعٍ الْأَشْعَرِيّ حَلِيفٌ لَهُمْ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ. وَحَرْمَلَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، قَتَلَهُ عَلِيّ- أَصْحَابُنَا جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ بَنِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: أَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ، قَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ. أَخْبَرَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو. وَمِنْ بَنِي الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: أَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. وَقَالَ لِي إسحاق بن خارجة: إنّ حباب بْنِ الْمُنْذِرِ قَتَلَهُ. وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ: مَسْعُودُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَمِنْ بَنِي عَابِدِ [ (1) ] بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي رِفَاعَةَ، وَهُوَ أُمَيّةُ بْنُ عَابِدٍ: رِفَاعَةُ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ، قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ. وَأَبُو الْمُنْذِرِ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ، قَتَلَهُ مَعْنُ بْنُ عَدِيّ الْعَجْلَانِيّ. وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ قَتَلَهُ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ أُبَيّ بْنُ الْعَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَالسّائِبُ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ، قَتَلَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عوف.
وَمِنْ بَنِي أَبِي السّائِبِ، وَهُوَ صَيْفِيّ بْنُ عَابِدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ: السّائِبُ بْنُ أَبِي السّائِبِ، قَتَلَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَخْبَرَنَا أصحابنا جميعا بذلك. وحليفان لهم من طيّء: عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ، قَتَلَهُ يَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَأَخُوهُ جَبّارُ [ (1) ] بْنُ سُفْيَانَ، قَتَلَهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ [ (2) ] وَمِنْ بَنِي عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ: حَاجِزُ بْنُ السّائِبِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ عَائِذٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَعُوَيْمِرُ بْنُ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، قَتَلَهُ النّعْمَانُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ- تِسْعَةَ عَشَرَ. وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ: أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، قَتَلَهُ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافَ وَبِلَالٌ، شَرِكَا فِيهِ. أَخْبَرَنِيهِ ابْنُ أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَمُحَمّدُ بْنُ صالح، عن عاصم بن عمر، ويزيد بن رُومَانَ، بِذَلِكَ. وَحَدّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: قَتَلَهُ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ. وَعَلِيّ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، قَتَلَهُ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ. وَأَوْسُ بْنُ الْمِعْيَرِ [ (3) ] بْنِ لُوذَانَ، قَتَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، شَرِكَا فِيهِ. وَحَدّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ، قَالَتْ: قَتَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ. وَمُنَبّهُ بْنُ الْحَجّاجِ، قَتَلَهُ أَبُو الْيَسَرِ، وَيُقَالُ: عَلِيّ، وَيُقَالُ: أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ. حَدّثَنِي أُبَيّ بْنُ عَبّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، قَالَ: أَنَا قَتَلْت مُنَبّهَ بْنَ الْحَجّاجِ. وَنُبَيْهُ بن الحجّاج، قتله
تسمية من شهد بدرا من قريش والأنصار
عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبّهٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَأَبُو الْعَاصِ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ. وَحَدّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ أَصْحَابِهِ، قَالُوا: قَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَحَدّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ مَوْلَى عَلِيّ عَلَيْهِ السّلام بذلك. وعاصم ابن أَبِي عَوْفِ بْنِ ضُبَيْرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدٍ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ- سَبْعَةٌ. وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ حَلِيفٌ لَهُمْ، قَتَلَهُ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. وَمَعْبَدُ بْنُ وَهْبٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ كَلْبٍ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ أَخِي يَحْيَى. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة. وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: قتله أبو دجانة. فجميع من يحصى فتله تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا. [مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَشَرِكَ فِي قَتْلِهِ- اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا] [ (1) ] تَسْمِيَةُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، وَمَنْ ضرب له رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِسَهْمٍ وَهُوَ غَائِبٌ، ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ. وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ محمّد،
عَنْ أَبِيهِ، بِذَلِكَ: ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ ضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِهَامِهِمْ وَأُجُورِهِمْ. وَحَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمَوَالِي عِشْرُونَ رجلا. وحدّثنى عبد الله ابن جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللهِ بْنَ حَسَنٍ يَقُولُ: مَا شَهِدَ بَدْرًا إلّا قُرَشِيّ أَوْ أَنْصَارِيّ، أَوْ حَلِيفٌ لِقُرَشِيّ أَوْ حَلِيفٌ لِأَنْصَارِيّ، أَوْ مَوْلًى لَهُمْ. مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: مُحَمّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب الْمُبَارَكُ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو مَرْثَدٍ كَنّازُ بْنُ حُصَيْنٍ الْغَنَوِيّ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، حَلِيفَانِ لِحَمْزَةَ، وَأَنَسَةُ مَوْلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو كَبْشَةَ مَوْلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَشَهِدَهَا شُقْرَانُ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ بِشَيْءٍ، وَكَانَ عَلَى الْأَسْرَى فَأَحْذَاهُ [ (1) ] كُلّ رَجُلٍ لَهُ أَسِيرٌ، فَأَصَابَ أَكْثَرَ مِمّا أَصَابَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ- ثَمَانِيَةٌ سِوَى شُقْرَانَ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ- أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ- وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُنَا، وَلَيْسَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ تَسْمِيَتُهُ. وَمِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عبد المطّلب ابن عَبْدِ مَنَافٍ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَالطّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ- أَرْبَعَةٌ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بن أبى العاص
ابن أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَمْ يَحْضُرْ، تَخَلّفَ عَلَى ابْنَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُقَيّةَ، فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره- ذَكَرَهُ الْقَوْمُ جَمِيعًا- وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بن ربيعة، وسالم مولى أبى حُذَيْفَةَ. وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ دُودَانَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَأَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنٍ، وسنان ابن أَبِي سِنَانِ بْنِ مِحْصَنٍ، وَشُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ، وعتبة بن وهب. وربيعة ابن أَكْثَمَ، وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ. وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، وَمِدْلَاجُ بْنُ عَمْرٍو، وثقف بن عمرو، وحليف لهم من طيّء سُوَيْدُ بْنُ مَخْشِيّ. حَدّثَنِي بِهِ أَبُو مَعْشَرٍ، وابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، قَالَ: وَزَعَمَ لِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزّهْرِيّ أَنّهُ أَرْبَدُ بْنُ حُمَيْرَةَ، وَأَنّهُ يُكَنّى أَبَا مَخْشِيّ، وَأَنّهُ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَأَخْبَرَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنّ صُبَيْحًا مَوْلَى الْعَاصِ تَجَهّزَ إلَى بَدْرٍ فَاشْتَكَى، فَحَمَلَ عَلَى بَعِيرِهِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ، ثُمّ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُمْ سِتّةَ عَشَرَ سِوَى صُبَيْحٍ. وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرِ بْنِ أهيب ابن نُسَيْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ، أَخُوهُ سُلَيْمٌ. وَمِنْ بَنِي مَازِنٍ: حُبَابٌ مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى: الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَسَعْدٌ مَوْلَى حَاطِبٍ- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ: طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمّدٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو. وَحَدّثَنِيهِ قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْلَةَ بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وعمير ابن أَبِي وَقّاصٍ. وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ: عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيّ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ ثُمَامَةَ بْنِ مطرود بن زهير بن ثعلبة ابن مَالِكِ بْنِ الشّرِيدِ بْنِ فَأْسِ بْنِ ذُرَيْمِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ أَهُودَ بْنِ بَهْرَاءَ، وَهُوَ الّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَخَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ بْنِ جَنْدَلَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ مَوْلَى أُمّ سِبَاعِ بِنْتِ أَنْمَارَ. أَخْبَرَنِي بِنَسَبِ خَبّابٍ، مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى يَتِيمُ عُرْوَةَ. وَمَسْعُودُ بْنُ الرّبِيعِ مِنْ الْقَارّةِ، وَذُو الْيَدَيْنِ عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَضْلَةَ بْنِ غبشان بن سليم ابن مَالِكِ بْنِ أَفْصَى مِنْ خُزَاعَةَ- ثَمَانِيَةٌ. وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ: أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو عبد الله بن عثمان ابن عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره، وبلال ابن رَبَاحٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ- خَمْسَةٌ. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَشَمّاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشّرِيدِ، وَأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ، وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَمُعَتّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ الْحَمْرَاءِ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ- خَمْسَةٌ.
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ: عُمَرُ بْنُ الخطّاب بن نفيل بن عبد العزّى ابن رِيَاحٍ، وَزَيْدُ بْنُ الْخَطّابِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، كَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ هُوَ وَطَلْحَةَ يَتَحَسّبَانِ الْعِيرَ، فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَعَمْرُو بْنُ سُرَاقَةَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ أَذَاةَ [ (1) ] بْنِ رِيَاحٍ. وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: عَاقِلُ بْنُ أَبِي الْبُكَيْرِ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَخَالِدُ بْنُ أَبِي الْبُكَيْرِ، قُتِلَ يَوْمَ الرّجيع، وإياس [ (2) ] بن أبى البكير، وعامر ابن أَبِي الْبُكَيْرِ، وَمِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ مِنْ الْيَمَنِ، وَخَوْلِيّ وَابْنُهُ حَلِيفَانِ لَهُمْ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيّ- عَنْزٌ بَطْنٌ مِنْ رَبِيعَةَ- حَلِيفٌ لَهُمْ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التّمِيمِيّ، حَلِيفٌ لَهُمْ- ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرٍو: عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَقُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَبْدُ الله ابن مَظْعُونٍ، وَالسّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ- خَمْسَةٌ. وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو: خُنَيْسُ [ (3) ] بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسٍ. وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ مخرمة بن عبد العزّى، وعبد الله ابن سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، كَانَ أَقْبَلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَانْحَازَ إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَوَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. حَدّثَنِي بِهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: وَحَدّثَنِيهِ ابْنُ أَبِي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، قَالَ: وَحَدّثَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنَ مُحَمّدٍ. وَأَبُو سَبْرَةَ ابْنُ أَبِي رُهْمٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ عَوْفٍ مَوْلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ يَمَانِيّ، وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عبد ودّ. حدّثنى به
عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ رَبّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، بِذَلِكَ- وَهُمْ سِتّةٌ سِوَى حَاطِبٍ. حَدّثَنِي عَطَاءُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلٍ مَعَ أَبِيهِ فِي نَفَقَتِهِ، وَخَرَجَ وَلَا يَشُكّ أَبُوهُ أَنّهُ عَلَى دِينِهِ، فَلَمّا قَرّبُوا انْحَازَ حَتّى جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْقِتَالِ، فَغَاظَ أَبَاهُ ذَلِكَ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: فَجَعَلَ اللهُ لِي وَلَهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا. وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: أَبُو عُبَيْدَةَ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْجَرّاحِ، وَصَفْوَانُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَعِيَاضُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ أَبِي سَرْحٍ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، وَهُمْ مِنْ بَنِي ضَبّةَ- وَهُمْ سِتّةٌ. فَحَدّثَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ أَبُو الْحُصَيْبِ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عن هشام ابن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ سُهْمَانُ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ مِائَةَ سَهْمٍ. حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ سِتّةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، وَالْأَنْصَارُ مِائَتَيْنِ وَسَبْعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا، وَالْأَنْصَارُ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَعَمْرُو بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ: وَالْحَارِثُ بْنُ أَنَسِ بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بنى زعورا: سعد بن مالك
ابن عَبْدِ بْنِ كَعْبٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ، وَرَافِعُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ كُرْزِ بْنِ سَكَنِ بْنِ زَعُورَا بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَالْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ بْنِ عَدِيّ بن أبى غنم بن سالم ابن عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ مِنْ الْقَوَاقِلَةِ، دَارُهُ فِيهِمْ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَدِيّ بن مجدعة بن حارثة ابن الْحَارِثِ، مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَجْدَعَةَ، قُتِلَ يَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ، وَعُبَيْدُ بْنُ التّيّهَانِ، حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ بَلِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ- خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَمِنْ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ: مَسْعُودُ بْنُ عَبْدِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ جُشَمِ بْنِ مَجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ جُشَمِ بْنِ حَارِثَةَ. وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ مِنْ بَلِيّ- وَهُمْ ثَلَاثَةٌ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي عَبْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ مِثْلَهُ- عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي عَبْسِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ. وَمِنْ بَنِي ظَفَرٍ، مِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ كَعْبٍ: قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ زَيْدٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَوَادٍ. وَمِنْ بَنِي رِزَاحِ بْنِ كَعْبٍ: نَصْرُ [ (1) ] بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ رِزَاحِ بْنِ ظَفَرِ بْنِ كَعْبِ، وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيّ، عَبْدُ الله بن طارق بن مالك
ابن تَيْمِ بْنِ شُعْبَةَ بْنِ سَعْدِ اللهِ بْنِ فَرَانَ [ (1) ] بْنِ بَلِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ، قُتِلَ بِالرّجِيعِ [ (2) ] ، وَأَخُوهُ لِأُمّهِ مُعَتّبُ بن عبيد بن أناس بن تيم ابن شُعْبَةَ بْنِ سَعْدِ اللهِ بْنِ فَرَانَ بْنِ بَلِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ- ثَمَانِيَةٌ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي عبس، عن أبيه، ومحمّد ابن صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ. وَحَدّثَنِيهِ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، مِثْلَهُ. وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ: مُبَشّرُ بن عبد المنذر ابن زَنْبَرَ [ (3) ] ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيّةَ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَرَافِعُ بْنُ عَنْجَدَةَ- اسْمُ أُمّهِ عَنْجَدَةُ- وَعُبَيْدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، اسْتَعْمَلَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، رَدّهُ مِنْ الرّوْحَاءِ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، رَدّهُ مِنْ الرّوحاء، ضرب له بسهمه وأجره- نسعة. وَمِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عَاصِمُ ابن ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ- وَقَيْسٌ أَبُو الْأَقْلَحِ، كُنْيَتُهُ ابْنُ عِصْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ ضُبَيْعَةَ، قُتِلَ بِالرّجِيعِ، وَالْأَحْوَصُ الشّاعِرُ مِنْ وَلَدِهِ- وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرِ بْنِ مُلَيْلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْعَطّافِ، وَأَبُو مُلَيْلِ بْنُ الْأَزْعَرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْعَطّافِ، لَا عَقِبَ لَهُ، وَعُمَيْرُ بْنُ مَعْبَدِ بْنِ الْأَزْعَرِ، لَا عَقِبَ لَهُ، وسهل ابن حُنَيْفِ بْنِ وَاهِبِ بْنِ عُكَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بن ثعلبة- خمسة.
وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: أُنَيْسُ بْنُ قَتَادَةَ ابن رَبِيعَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ زَوْجُ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ، لَا عَقِبَ لَهُ. وَمِنْ حلفائهم: معن بن عدىّ ابن الْجَدّ بْنِ الْعَجْلَانِ، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَرِبْعِيّ بْنُ رَافِعٍ، وَثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، قُتِلَ يَوْمَ طُلَيْحَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْجَدّ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عدىّ بن الجدّ ابن الْعَجْلَانِ، لَا عَقِبَ لَهُ. وَخَرَجَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ الْجَدّ بْنِ الْعَجْلَانِ، فَرَدّهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَضَرَبَ لَهُ بِأَجْرِهِ وَسَهْمِهِ- إلَى مَسْجِدِ الضّرَارِ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُمْ، وَسَالِمٌ مَوْلَى ثُبَيْتَةَ بِنْتِ يَعَارَ، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ. حَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ، عَنْ أَبِي الْبَدّاحِ بْنِ عَاصِمٍ بِذَلِكَ- ثَمَانِيَةٌ. وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَة بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، أَمِيرُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد على الرّماة، وعاصم ابن قَيْسٍ، وَأَبُو ضَيّاحِ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو حَنّةَ- وليس فى بدر أبو حَنّةَ- وَسَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْبَكّائِينَ، وَالْحَارِثُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ أَبِي خَذْمَةَ [ (1) ] وَخَوّاتُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ، كُسِرَ بِالرّوْحَاءِ. حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ خَوّاتِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، ذَلِكَ- ثَمَانِيَةٌ. وَمِنْ بَنِي جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بن عوف: المنذر ابن مُحَمّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ حَرِيشِ بْنِ جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ، وَيُكْنَى أَبَا عَبْدَةَ، وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ، وَلِأُحَيْحَةَ عَقِبٌ من غيره
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي أُنَيْفٍ: أَبُو عَقِيلِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ بَيْحَانَ، وَكَانَ اسْمُ أَبِي عَقِيلٍ عَبْدَ الْعُزّى فَسَمّاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرّحْمَنِ عَدُوّ الْأَوْثَانِ، قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ، وَهُوَ أَبُو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة ابن بَيْحَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ تَيْمِ بْنِ يَرَاشَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُبَيْلَةَ [ (1) ] بْنِ قَسْمِيلَ بْنِ فَرَانَ بْنِ بَلِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ السّلْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ: سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ قُدَامَةَ، وَمَالِكُ بْنُ قُدَامَةَ، وَابْنُ عَرْفَجَةَ، وَتَمِيمٌ مَوْلَى بَنِي غَنْمِ بْنِ السّلْمِ- خَمْسَةٌ. فَهَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَمِنْ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: جَابِرُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَمَالِكُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ نُمَيْلَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَنُعْمَانُ بْنُ عَصَرٍ [ (2) ] ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِيّ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أُمَيّةَ، لَيْسَ ثَبْتٌ. وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَة بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بن غنم: أبو أيّوب، واسمه خالد ابن زَيْدِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ ثَعْلَبَة، مَاتَ بِأَرْضِ الرّومِ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ. وَمِنْ بَنِي عُسَيْرَةَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ: ثَابِتُ بْنُ خَالِدِ بْنِ النّعْمَانِ بن خنساء بن عسيرة.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ، عُمَارَةُ بْنُ حَزْمِ بْنِ زَيْدِ، وَسُرَاقَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ غَزِيّةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدٍ. وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ: حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وسليم ابن قَيْسِ بْنِ قَهْدٍ، وَاسْمُ قَهْدٍ خَالِدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة ابن غَنْمٍ. وَمِنْ بَنِي عَائِذِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ غَنْمٍ: سُهَيْلُ بْنُ رَافِعِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بن عائذ ابن ثَعْلَبَة بْنِ غَنْمٍ، وَعَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ، واسم أبى الزّغباء سنان بن سبيع ابن ثَعْلَبَة بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ بُدَيْلِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَصْرِ بْنِ كَاهِلِ بْنِ نصر ابن مَالِكِ بْنِ غَطَفَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ- ثَمَانِيَةٌ. وَمِنْ بَنِي زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ غَنْمٍ: مَسْعُودُ بْنُ أَوْسِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبُو خزيمة ابن أَوْسِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة، وَرَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سَوَادِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفٍ: عَوْفُ وَمُعَوّذُ وَمُعَاذُ، بَنُو الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بَنُو عَفْرَاءَ، وَهِيَ ابْنَةُ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة، ونعيمان ابن عَمْرِو بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَوَادٍ، وَعَامِرُ بْنُ مُخَلّدِ بْنِ سَوَادٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَوَادٍ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسِ بْنِ سَوَادٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَوَادٍ، وَثَابِتُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَوَادٍ، وَعُصَيْمَةُ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَرَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ وَدِيعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جُرَادِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ طحيل بن عمرو بن غنم ابن الرّبَعَةِ بْنِ رُشْدَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْت الرّبَيّعَ بِنْتَ مُعَوّذِ بْنِ عَفْرَاءَ تَقُولُ: أَبُو الْحَمْرَاءِ مَوْلًى لِلْحَارِثِ بْنِ رفاعة قد شهدا بدرا.
قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، مِثْلَهُ- اثْنَا عَشَرَ بِأَبِي الْحَمْرَاءِ. فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ بِأَبِي الْحَمْرَاءِ. وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ: ثَعْلَبَة بْنُ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنِ بْنِ عَمْرِو ابن عَتِيكٍ، وَسَهْلُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ عمرو بن عتيك، والحارث ابن الصّمّةِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَتِيكٍ، كُسِرَ بِالرّوْحَاءِ، ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره- حدّثينه أَصْحَابُنَا جَمِيعًا- وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، وَهُمْ بَنُو حُدَيْلَةَ، ثُمّ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ عبيد ابن زَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ: أُبَيّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ ابن عُبَيْدٍ، وَأَنَسُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدٍ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ: أَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، أَخُو حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبُو شَيْخٍ، وَاسْمُهُ أُبَيّ بن ثابت ابن الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبُو طَلْحَةَ، وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ: حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَالِكٍ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ ثَعْلَبَة بْنِ وَهْبِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ، وَيُكْنَى عَمْرٌو أَبَا حَكِيمَةَ، وَسَلِيطُ بن قيس بن عمرو بن عبيد ابن مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو سَلِيطٍ، واسمه أسيرة بن عمرو بن عامر ابن مَالِكٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَمْرٌو يُكْنَى أَبَا خارجة بن قيس بن مالك ابن عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرٍ،
وَعَامِرُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسْحَاسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرٍ، وَمُحْرِزُ ابن عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيّ، وَثَابِتُ بْنُ خَنْسَاءَ ابن عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرٍ، قتل يوم أحد، وسواد بن غزيّة ابن أُهَيْبٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِيّ- ثَمَانِيَةٌ. وَمِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ جُنْدُبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غنم بن عدىّ بن النّجّار: قيس ابن السّكَنِ بْنِ قَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، وَيُكْنَى قَيْسٌ أَبَا زَيْدٍ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ كَعْبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُنْدُبِ بْنِ ظَالِمِ بْنِ عَبْسِ بْنِ حَرَامِ بْنِ جُنْدُبٍ، وَسُلَيْمُ بْنُ مِلْحَانَ، وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ- خَمْسَةٌ. وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ: قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَاسْمُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرُو بْنُ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ. فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمُشَاةِ. وَعَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ، وَهُوَ كَانَ عَامِلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَغَانِمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعُصَيْمٌ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي أَسَدٍ- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي خَنْسَاءَ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ: عُمَيْرٌ، وَيُكْنَى. أَبَا دَاوُدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَسُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ ابن مَبْذُولٍ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَة بْنِ مَازِنٍ: قَيْسُ بْنُ مُخَلّدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ صَخْرِ بن حبيب ابن الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ مَازِنٍ. وَمِنْ بَنِي دِينَارِ بْنِ النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ دِينَارٍ النّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عبد الأشهل، والضّحّاك
ابن عَبْدِ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَسُلَيْمُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَة، وَهُوَ أَخٌ لِلنّعْمَانِ وَالضّحّاكِ ابْنَيْ عَبْدِ عَمْرٍو لِأُمّهِمَا، وَكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ، قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَارْتُثّ [ (1) ] يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ مِنْ الْقَتْلَى، وَجَابِرُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ حَارِثَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ دِينَارٍ. وَمِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كعب بن حارثة بن دينار: كعب بن زيد ابن مَالِكٍ وَبُجَيْرُ بْنُ أَبِي بُجَيْرٍ حَلِيفٌ لَهُمْ- وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ. وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَة. سَعْدُ بْنُ رَبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْن مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، قُتِلَ بِأُحُدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَخَلّادُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، قُتِلَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ صِهْرًا لِأَبِي بَكْرٍ، ابْنَتُهُ خَارِجَةُ امْرَأَةُ أَبِي بَكْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ- أَرْبَعَةٌ. وَمِنْ بَنِي زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ ابن الْخَزْرَجِ: بَشِيرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ جُلَاسٍ، قُتِلَ يَوْمَ عَيْنِ التّمْرِ [ (2) ] مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَسُبَيْعُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَيْشَةَ بن أميّة بن عامر بن عدىّ ابن كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعُبَادَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكٍ، وَسِمَاكُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَيْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَة بن كعب بن الخزرج، وهو الذي يُقَالُ لَهُ فُسْحُمٌ- سِتّةٌ. وَمِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَمِنْ بَنِي أَخِيهِ، وأخوه زيد
ابن الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَهُمَا التّوْأَمَانِ: خُبَيْبُ بْنُ يساف بن عنبة ابن عَمْرِو بْنِ خَدِيجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ جُشَمٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عَبْدِ رَبّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ الّذِي أُرِيَ الْأَذَانَ [ (1) ] ، وَأَخُوهُ حُرَيْثُ بْنُ زَيْدٍ، حَدّثَنِي بِهِ شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ حُرَيْثًا شَهِدَ بَدْرًا، وَأَصْحَابُنَا عَلَى ذَلِكَ، وَسُفْيَانُ بْنُ بِشْرٍ- خَمْسَةٌ. وَمِنْ بَنِي جُدَارَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: تَمِيمُ بْنُ يعار ابن قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ جُدَارَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَيْرٍ مِنْ بَنِي جُدَارَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُزَيّنِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُرْفُطَةَ- أَرْبَعَةٌ. وَمِنْ بَنِي الْأَبْجَرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ عَبْدُ اللهِ بْنُ الرّبِيعِ ابن قَيْسِ بْنِ عَبّادِ بْنِ الْأَبْجَرِ- وَاحِدٌ. وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ بَنُو الْحُبْلَى، وَإِنّمَا كَانَ سالم عظيم البطن فسمّى الحلبي: عبد الله بن عبد الله بن أبي بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكٍ، [ابْنِ السّلُولِ] ، وَإِنّمَا السّلُولُ امْرَأَةٌ [وَهِيَ] أُمّ أُبَيّ، وَأَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكٍ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي جَزْءِ [ (2) ] بْنِ عَدِيّ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمٍ: زَيْدُ بْنُ وديعة ابن عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ جَزْءٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَة ابن مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمٍ، وَعَامِرُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، حَلِيفٌ
لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كَلَدَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللهِ بْنِ غَطَفَانَ، وَمَعْبَدُ بْنُ عَبّادِ بْنِ قَشْعَرَ بْنِ الْقَدْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمٍ، وَيُكْنَى أَبَا خَمِيصَةَ، وَعَاصِمُ بْنُ الْعُكَيْرِ [ (1) ] حَلِيفٌ لَهُمْ- سِتّةٌ. وَمِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمٍ: نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ العجلان، وغسّان ابن مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَجْلَانِ، وَمُلَيْلُ بْنُ وَبْرَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَعِصْمَةُ بْنُ الْحُصَيْنِ بْنِ وَبْرَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَجْلَانِ- أَرْبَعَةٌ. وَمِنْ بَنِي أَصْرَمَ بْنِ فِهْرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمٍ: عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بْنِ أَصْرَمَ، وَأَخُوهُ أَوْسُ بْنُ الصّامِتِ. وَمِنْ بَنِي دَعْدِ بْنِ فِهْرِ بْنِ غَنْمٍ: النّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ دَعْدٍ، وَهُوَ الّذِي يُسَمّى قَوْقَلًا. قَالَ الْوَاقِدِيّ: إنّمَا سُمّيَ قَوْقَلًا لِأَنّهُ كَانَ إذَا اسْتَجَارَ بِهِ رَجُلٌ قَالَ لَهُ: قَوْقِلْ [ (2) ] بِأَعْلَا يَثْرِبَ وَأَسْفَلِهَا فَأَنْتَ آمِنٌ، فَسُمّيَ الْقَوْقَلَ. وَمِنْ بَنِي قُرْيُوش بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمٍ: أُمَيّةُ بْنُ لُوذَانَ بن سالم بن ثابت ابن هَزّالِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قُرْيُوش بْنِ غَنْمٍ. وَمِنْ بَنِي دَعْدٍ رَجُلَانِ. وَمِنْ بَنِي مَرْضَخَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ: مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ- وَاحِدٌ. وَمِنْ بَنِي لُوذَانَ بْنِ غَنْمٍ: رَبِيعُ بْنُ إيَاسٍ، وَأَخُوهُ وَرَقَةُ بْنُ إيَاسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمٍ، وَعَمْرُو بْنُ إيَاسٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ بَلِيّ، ثُمّ مِنْ بَنِي غُصَيْنَةَ: الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادِ بن عمرو بن زمرة بن عمرو
ابن عَمّارَةَ، [ (1) ] وَعَبْدَةُ بْنُ الْحَسْحَاسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زمرة، وبحّاث بن ثعلبة ابن خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَارَةَ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ ثَعْلَبَة بْنِ خَزْمَةَ ابن أَصْرَمَ، وَحَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَهْرَاءَ، يُقَالُ لَهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ مُعَاوِيَةَ. حَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِذَلِكَ. قَالَ: وَأَصْحَابُنَا جَمِيعًا أَنّ الْحَلِيفَ ثَبَتَ- ثَمَانِيَةٌ. وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي زيد بن ثعلبة ابن الْخَزْرَجِ: أَبُو دُجَانَةَ، وَهُوَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ بن لوذان بن عبد ودّ ابن ثَعْلَبَة، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ أَمِيرًا لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، مِنْ بَنِي الْبَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَوْفٍ: أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْبَدِيّ، وَمَالِكُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَهَؤُلَاءِ بَنُو الْبَدِيّ. حَدّثَنِي أُبَيّ بْنُ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: تجهّز سعد ابن مَالِكٍ يَخْرُجُ إلَى بَدْرٍ فَمَرِضَ فَمَاتَ، فَمَوْضِعُ قبره عنده دَارِ ابْنِ فَارِطٍ، فَأَسْهَمَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: مَاتَ بِالرّوْحَاءِ، وَأَسْهَمَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي الْبَدِيّ. وَمِنْ بَنِي طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ: عَبْدُ رَبّهِ بن حقّ بن أوس ابن قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ طَرِيفٍ، وَكَعْبُ بْنُ جَمّازِ [ (2) ] بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَة، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ غَسّانَ، وَضَمْرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ مَرْدَغَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بن الرّبعة بن رشدان بن
قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ، وَبَسْبَسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ خَرَشَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ رُشْدَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ- خَمْسَةٌ. وَمِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ [ (1) ] بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمٍ، مِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ: خِرَاشُ بْنُ الصّمّةِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ حَرَامٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ حَرَامٍ، وَتَمِيمٌ مَوْلَى خِرَاشِ بْنِ الصّمّةِ، وَعُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَمُعَاذُ بْنُ الْجَمُوحِ، وَمُعَوّذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَة، قُتِلَ بِأُحُدٍ، وَهُوَ أَبُو جَابِرٍ، وَحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبٍ، وَخَلّادُ ابن عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، وَحَبِيبُ بْنُ الْأَسْوَدِ مَوْلًى لَهُمْ، وَثَابِتُ بْنُ ثَعْلَبَة بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة الّذِي يُقَالُ لَهُ الْجِذْعُ، وَعُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ حَرَامٍ- أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا. حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، أَنّ مُعَاذَ بْنَ الصّمّةِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ شَهِدَ بَدْرًا، وَلَيْسَ بِمُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ. وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ، ثُمّ مِنْ بَنِي خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ: بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرِ بْنِ سِنَانِ بْنِ صَيْفِيّ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْجَدّ بْنِ قَيْسِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَسِنَانُ بْنُ صَيْفِيّ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَحَمْزَةُ بْنُ الْحُمَيّرِ- قَالَ: وَسَمِعْت أنّه خارجة بن الحميّر- وعبد الله ابن الْحُمَيّرِ، حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ أَشْجَعَ مِنْ بَنِي دهمان.
وَمِنْ بَنِي نُعْمَانَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمٍ: عَبْدُ الله ابن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ سِنَانٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ سِنَانٍ مَوْلًى لَهُمْ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رِئَابِ بْنِ النّعْمَانِ، وَخُلَيْدَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ سِنَانٍ، وَيُقَالُ لَبْدَةُ بْنُ قَيْسٍ- أَرْبَعَةٌ. وَمِنْ بَنِي خُنَاسِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ: يَزِيدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَرْحِ بْنِ خُنَاسٍ، وَأَخُوهُ مَعْقِلُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَرْحِ بْنِ خُنَاسٍ، وَعَبْدُ الله ابن النّعْمَانِ بْنِ بَلْذَمَةَ بْنِ خُنَاسٍ- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي خَنْسَاءَ بْنِ عُبَيْدٍ: جَبّارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ عُبَيْدٍ- وَاحِدٌ. وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَة بْنِ عُبَيْدٍ: الضّحّاكُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عُبَيْدٍ، وَسَوَادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عُبَيْدٍ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ صَخْرِ بْنِ حَرَامِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمٍ، وأخوه معبد بن قيس بن صخر ابن حَرَامِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمٍ. وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ، ثُمّ مِنْ بَنِي حَدِيدَةَ: يَزِيدُ ابن عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَيُكْنَى يَزِيدُ أَبَا الْمُنْذِرِ، وَسُلَيْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَدِيدَةَ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَعَنْتَرَةُ مَوْلَى سُلَيْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَدِيدَةَ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ نَابِي بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادٍ: عَبْسُ بْنُ عامر بن عدىّ ابن ثَعْلَبَة بْنِ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيّ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وَأَبُو الْيَسَرِ، وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادٍ، وَسَهْلُ بن قيس بن أبى كعب ابن الْقَيْنِ، قُتِلَ بِأُحُدٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ وَثَعْلَبَةُ وَعَبْدُ اللهِ ابْنَا أُنَيْسٍ اللّذَانِ كَسّرَا أَصْنَامَ بَنِي سلمة.
وَمِنْ بَنِي زُرَيْقِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمِ ابن الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي مُخَلّدِ بْنِ عَامِرِ بن زريق: قيس بن محصن ابن خَالِدِ بْنِ مُخَلّدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُخَلّدٍ، وَجُبَيْرُ بْنُ إيَاسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُخَلّدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُخَلّدٍ، وَيُكْنَى أَبَا عُبَادَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَالِدٍ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قيس بن خالد ابن مُخَلّدٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ خَلَدَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُخَلّدٍ- سَبْعَةٌ. وَمِنْ بَنِي خَالِدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ: عَبّادُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بن خالد ابن عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ- وَاحِدٌ. وَمِنْ بَنِي خَلَدَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ: أَسْعَدُ بْنُ يَزِيدَ بن الفاكه بن زيد ابن خَلَدَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالْفَاكِهُ بْن بِشْرِ بْنِ الفاكه بن زيد بن خلدة، ومعاذ ابن مَاعِصِ بْنِ قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ، وَأَخُوهُ عَائِذُ بن ماعص، ومسعود بن سعد ابن قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ، قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ- خَمْسَةٌ. وَمِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ: رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَخَلّادُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مالك بن العجلان، وعبيد بن زيد ابن عَامِرِ بْنِ الْعَجْلَانِ- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ: رَافِعُ بْنُ الْمُعَلّى بْنِ لُوذَانَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حارثة بن ثعلبة بن عدىّ ابن مَالِكٍ، وَأَخُوهُ هِلَالُ بْنُ الْمُعَلّى، قُتِلَ بِبَدْرٍ- اثْنَانِ. وَمِنْ بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ: زِيَادُ بْنُ لَبِيدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ سِنَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ بَيَاضَةَ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَذْفَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَامِرٍ، وَخَالِدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بن العجلان
ذكر سرية قتل عصماء بنت مروان
ابن عَلِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ، وَرُحَيْلَةُ [ (1) ] بْنُ ثَعْلَبَة بْنِ خَالِدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ بَيَاضَةَ- أَرْبَعَةٌ. وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ بَيَاضَةَ: حُلَيْفَةُ بْنُ عَدِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ، وَغَنّامُ بْنُ أَوْسِ بْنِ غَنّامِ بْنِ أَوْسِ ابن عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ، وَعَطِيّةُ بْنُ نُوَيْرَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَطِيّةَ ابن عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ خَالِدُ بْنُ القاسم، عن زرعة بن عبد الله ابن زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ أَنّ الرّجُلَيْنِ ثَبَتَ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَلَيْسَ بِمُجْتَمَعٍ عَلَيْهِمَا. ذكر سَرِيّةِ قَتْلِ عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ، كَانَتْ تَحْتَ يَزِيدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حِصْنٍ الْخَطْمِيّ، وَكَانَتْ تُؤْذِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعِيبُ الْإِسْلَامَ، وَتُحَرّضُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ شِعْرًا: فَبِاسْتِ بَنِي مَالِكٍ والنّبِيتِ [ (2) ] ... وَعَوْفٍ وَبِاسْتِ بَنِي الْخَزْرَجِ أَطَعْتُمْ أَتَاوِيّ [ (3) ] مِنْ غَيْرِكُمْ ... فَلَا مِنْ مُرَادٍ وَلَا مُذْحِجِ [ (4) ] تَرَجّوْنَهُ بَعْدَ قَتْلِ الرّءُوسِ ... كَمَا يُرْتَجَى مَرَقُ الْمُنْضَجِ قَالَ عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ بْنِ خَرَشَةَ بْنِ أميّة الخطمىّ [ (5) ] حين بلغه قولها
وَتَحْرِيضُهَا: اللهُمّ، إنّ لَك عَلَيّ نَذْرًا لَئِنْ رَدَدْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ لَأَقْتُلَنّهَا- وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِبَدْرٍ- فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من بدر جَاءَهَا عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ فِي جَوْفِ اللّيْلِ حَتّى دَخَلَ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا، وَحَوْلَهَا نَفَرٌ مِنْ وَلَدِهَا نِيَامٌ، مِنْهُمْ مَنْ تُرْضِعُهُ فِي صَدْرِهَا، فَجَسّهَا بِيَدِهِ، فَوَجَدَ الصّبِيّ تُرْضِعُهُ فَنَحّاهُ عَنْهَا، ثُمّ وَضَعَ سَيْفَهُ عَلَى صَدْرِهَا حَتّى أَنْفَذَهُ مِنْ ظَهْرِهَا، ثُمّ خَرَجَ حَتّى صَلّى الصّبْحَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ. فَلَمّا انْصَرَفَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَى عُمَيْرٍ فَقَالَ: أَقَتَلْت بِنْتَ مَرْوَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله. وخشي عمير أن يكون فتات عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهَا فَقَالَ: هَلْ عَلَيّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ [ (1) ] ، فَإِنّ أَوّلَ مَا سَمِعْت هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عُمَيْرٌ: فَالْتَفَتَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ: إذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَنْظُرُوا إلَى رَجُلٍ نَصَرَ اللهَ وَرَسُولَهُ بِالْغَيْبِ، فَانْظُرُوا إلَى عُمَيْرِ بْنِ عَدِيّ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْأَعْمَى الّذِي تَشَدّدَ [ (2) ] فِي طَاعَةِ اللهِ. فَقَالَ: لَا تَقُلْ الْأَعْمَى، وَلَكِنّهُ الْبَصِيرُ! فَلَمّا رَجَعَ عُمَيْرٌ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ بَنِيهَا فِي جَمَاعَةٍ يَدْفِنُونَهَا، فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ حِينَ رَأَوْهُ مُقْبِلًا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: يَا عُمَيْرُ، أَنْتَ قَتَلْتهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قُلْتُمْ بِأَجْمَعِكُمْ مَا قَالَتْ لَضَرَبْتُكُمْ بِسَيْفِي هَذَا حَتّى أَمُوتَ أَوْ أَقْتُلَكُمْ. فيومئذ ظهر الإسلام
سرية قتل أبى عفك
فِي بَنِي خَطْمَةَ، وَكَانَ مِنْهُمْ رِجَالٌ يَسْتَخْفُونَ بِالْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِمْ، فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَمْدَحُ عُمَيْرَ بْنَ عَدِيّ، أَنْشَدَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ: بَنِي وَائِلٍ وَبَنِي وَاقِف ... وخطمة دون بنى الخزرج مَتَى مَا دَعَتْ أُخْتُكُمْ وَيْحَهَا ... بِعَوْلَتِهَا وَالْمَنَايَا تَجِي فَهَزّتْ فَتًى مَاجِدًا عِرْقُهُ ... كَرِيمَ الْمَدَاخِلِ وَالْمَخْرَجِ فَضَرّجَهَا [ (1) ] مِنْ نَجِيعِ الدّمَاءِ [ (2) ] ... قُبَيْلَ الصّبَاحِ وَلَمْ يَحْرَجِ فَأَوْرَدَك اللهُ بَرْدَ الْجِنَا ... نِ جَذْلَانَ فِي نِعْمَةِ الْمَوْلِجِ حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ قَتْلُ عَصْمَاءَ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، مَرْجِعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. سَرِيّةُ قَتْلِ أَبِي عَفَكٍ حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ [ (3) ] ، وَحَدّثَنَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالَا: إنّ شَيْخًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَفَكٍ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ بَلَغَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ حِينَ [ (4) ] قَدِمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، كَانَ يُحَرّضُ عَلَى عَدَاوَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَدْرٍ رَجَعَ وَقَدْ ظفّره الله بما ظفّره،
فَحَسَدَهُ وَبَغَى فَقَالَ: قَدْ عِشْت حِينًا وَمَا إنْ أَرَى ... مِنْ النّاسِ دَارًا وَلَا مَجْمَعَا أَجَمّ [ (1) ] عُقُولًا وَآتَى إلَى ... مُنِيبٍ [ (2) ] سِرَاعًا إذَا مَا دَعَا فَسَلّبَهُمْ أَمْرَهُمْ رَاكِبٌ ... حَرَامًا حَلَالًا لِشَتّى مَعَا فَلَوْ كَانَ بِالْمُلْكِ صَدّقْتُمُ ... وَبِالنّصْرِ تَابَعْتُمُ تُبّعَا فَقَالَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْبَكّائِينَ مِنْ بَنِي النّجّارِ: عَلَيّ نَذْرٌ أَنْ أَقْتُلَ أَبَا عَفَكٍ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُ. فَأَمْهَلَ فَطَلَبَ لَهُ غِرّةً، حَتّى كَانَتْ لَيْلَةٌ صَائِفَةٌ، فَنَامَ أَبُو عَفَكٍ بِالْفِنَاءِ فِي الصّيْفِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقْبَلَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَوَضَعَ السّيْفَ عَلَى كَبِدِهِ حَتّى خَشّ فِي الْفِرَاشِ، وَصَاحَ عَدُوّ اللهِ فَثَابَ إلَيْهِ أُنَاسٌ مِمّنْ هُمْ عَلَى قَوْلِهِ، فَأَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ وَقَبَرُوهُ. وَقَالُوا: مَنْ قَتَلَهُ؟ وَاَللهِ لَوْ نَعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ لَقَتَلْنَاهُ بِهِ! فَقَالَتْ النّهْدِيّةُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، هَذِهِ الْأَبْيَاتَ: تُكَذّبُ [ (3) ] دِينَ اللهِ وَالْمَرْءَ أَحْمَدَا ... لَعَمْرُ الّذِي أَمْنَاكَ [ (4) ] إذْ بِئْسَ مَا يُمْنَى حَبَاك حَنِيفٌ آخِرَ اللّيل طعنة ... أبا عفك خذها على كبر السّنّ فإنى وإن أعلم بقاتلك الّذي أ ... باتك حِلْسَ اللّيْلِ مِنْ إنْسٍ اوْ جِنّي فَحَدّثَنِي مَعْنُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ رُقَيْشٍ قَالَ: قُتِلَ أَبُو عَفَكٍ فِي شَوّالٍ عَلَى رأس عشرين شهرا.
غزوة قينقاع
غَزْوَةُ قَيْنُقَاعَ غَزْوَةُ قَيْنُقَاعَ يَوْمَ السّبْتِ لِلنّصْفِ مِنْ شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا، حَاصَرَهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عن الحارث بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ ابْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَادَعَتْهُ يَهُودُ كُلّهَا، وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كِتَابًا. وَأَلْحَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّ قَوْمٍ بِحُلَفَائِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَانًا، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا، فَكَانَ فِيمَا شَرَطَ أَلّا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ عَدُوّا. فَلَمّا أَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَ بَدْرٍ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، بَغَتْ يَهُودُ وَقَطَعَتْ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَهْدِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ فَجَمَعَهُمْ، ثُمّ قال: يا معشر يهود، أسلموا، فو الله إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّي رَسُولُ اللهِ، قَبْلَ أَنْ يُوقِعَ اللهُ بِكُمْ مِثْلَ وَقْعَةِ قُرَيْشٍ. فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، لَا يَغُرّنّكَ مَنْ لَقِيت، إنّك قَهَرْت قَوْمًا أَغْمَارًا [ (1) ] . وَإِنّا وَاَللهِ أَصْحَابُ الْحَرْبِ، وَلَئِنْ قَاتَلْتنَا لَتَعْلَمَنّ أَنّك لَمْ تُقَاتِلْ مِثْلَنَا. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ إظْهَارِ الْعَدَاوَةِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ، جَاءَتْ امْرَأَةٌ نَزِيعَةٌ [ (2) ] مِنْ الْعَرَبِ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَتْ عِنْدَ صَائِغٍ فِي حُلِيّ لَهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ قَيْنُقَاعَ فَجَلَسَ مِنْ وَرَائِهَا وَلَا تَشْعُرُ، فَخَلّ [ (3) ] دِرْعَهَا إلَى ظَهْرِهَا بِشَوْكَةٍ، فَلَمّا قَامَتْ الْمَرْأَةُ بَدَتْ عورتها فضحكوا منها. فقام إليه
رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاتّبَعَهُ فَقَتَلَهُ، فَاجْتَمَعَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَتَحَايَشُوا فَقَتَلُوا الرّجُلَ، وَنَبَذُوا الْعَهْدَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَارَبُوا، وَتَحَصّنُوا فِي حِصْنِهِمْ، فَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَرَهُمْ، فَكَانُوا أَوّلَ مَنْ سَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وأجلى يهود قينقاع، وكانوا أوّل بهود حَارَبَتْ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [ (1) ] ، فَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: فَحَصَرَهُمْ فِي حِصْنِهِمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً أَشَدّ الْحِصَارِ حَتّى قَذَفَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ. قَالُوا: أَفَنَنْزِلُ وَنَنْطَلِقُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، إلّا عَلَى حُكْمِي! فَنَزَلُوا عَلَى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِمْ فَرُبِطُوا. قَالَ: فَكَانُوا يُكَتّفُونَ كِتَافًا. قالوا: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى كِتَافِهِمْ الْمُنْذِرَ بْنَ قُدَامَةَ السّالِمِيّ [ (2) ] . قَالَ: فَمَرّ بِهِمْ ابْنُ أُبَيّ وَقَالَ: حُلّوهُمْ! فَقَالَ الْمُنْذِرُ: أَتَحُلّونَ قَوْمًا رَبَطَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَاَللهِ لَا يَحُلّهُمْ رَجُلٌ إلّا ضَرَبْت عُنُقَهُ. فَوَثَبَ ابْنُ أُبَيّ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَنْبِ دِرْعِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَلْفِهِ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيّ! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضْبَانَ، مُتَغَيّرَ الْوَجْهِ، فَقَالَ: وَيْلَك، أَرْسِلْنِي! فَقَالَ: لَا أُرْسِلُك حَتّى تُحْسِنَ فى موالىّ، أربع مائة دارع وثلاثمائة حَاسِرٍ، مَنَعُونِي يَوْمَ الْحَدَائِقِ وَيَوْمَ بُعَاثٍ مِنْ الأحمر والأسود، تريد أن تحصدهم
فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ؟ يَا مُحَمّدُ، إنّي امْرُؤٌ أَخْشَى الدّوَائِرَ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَلّوهُمْ، لَعَنَهُمْ اللهُ، وَلَعَنَهُ مَعَهُمْ! فَلَمّا تَكَلّمَ ابْنُ أُبَيّ فِيهِمْ تَرَكَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَتْلِ، وَأَمَرَ بِهِمْ أَنْ يُجْلَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ ابْنُ أُبَيّ بِحُلَفَائِهِ مَعَهُ، وَقَدْ أَخَذُوا بِالْخُرُوجِ، يُرِيدُ أَنْ يُكَلّمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِرّهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، فَيَجِدُ عَلَى بَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمَ بْنَ سَاعِدَةَ، فَذَهَبَ لِيَدْخُلَ فَرَدّهُ عُوَيْمٌ وَقَالَ: لَا تَدْخُلْ حَتّى يُؤْذِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك. فَدَفَعَهُ ابْنُ أُبَيّ، فَغَلُظَ عَلَيْهِ عُوَيْمٌ حَتّى جَحَشَ وَجْهَ ابْنِ أُبَيّ الْجِدَارُ فَسَالَ الدّمُ، فَتَصَايَحَ حَلْفَاؤُهُ مِنْ يَهُودَ، فَقَالُوا: أَبَا الْحُبَابِ، لَا نُقِيمُ أَبَدًا بِدَارٍ أَصَابَ وَجْهَك فِيهَا هَذَا، لَا نقدر أن نغيّر. فَجَعَلَ ابْنُ أُبَيّ يَصِيحُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدّمَ عَنْ وَجْهِهِ، يَقُولُ: وَيْحَكُمْ، قِرّوا! فَجَعَلُوا يَتَصَايَحُونَ: لَا نُقِيمُ أَبَدًا بِدَارٍ أَصَابَ وَجْهَك [فِيهَا] هَذَا، لَا نَسْتَطِيعُ لَهُ غَيْرًا! وَلَقَدْ كَانُوا أَشْجَعَ يَهُودَ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ أُبَيّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَحَصّنُوا، وَزَعَمَ أَنّهُ سَيَدْخُلُ مَعَهُمْ، فَخَذَلَهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ، وَلَزِمُوا حِصْنَهُمْ فَمَا رَمَوْا بِسَهْمٍ وَلَا قَاتَلُوا حَتّى نَزَلُوا عَلَى صُلْحِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُكْمِهِ، وَأَمْوَالُهُمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا نَزَلُوا وَفَتَحُوا حِصْنَهُمْ، كَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ هُوَ الّذِي أَجْلَاهُمْ وَقَبَضَ أَمْوَالَهُمْ. وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سِلَاحِهِمْ ثَلَاثَ قِسِيّ، قَوْسٌ تُدْعَى الْكَتُومَ كُسِرَتْ بِأُحُدٍ، وَقَوْسٌ تُدْعَى الرّوْحَاءَ، وَقَوْسٌ تُدْعَى الْبَيْضَاءَ، وَأَخَذَ دِرْعَيْنِ مِنْ سِلَاحِهِمْ، دِرْعًا يُقَالُ لَهَا الصّغْدِيّةُ وَأُخْرَى فِضّةُ، وَثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ، سَيْفٌ قلعىّ [ (1) ] ، وسيف يقال له بتّار [ (2) ] ،
وَسَيْفٌ آخَرُ، وَثَلَاثَةَ أَرْمَاحٍ. قَالَ: وَوَجَدُوا فِي حُصُونِهِمْ سِلَاحًا كَثِيرًا وَآلَةً لِلصّيَاغَةِ، وَكَانُوا صَاغَةً. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَوَهَبَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعًا مِنْ دُرُوعِهِمْ، وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ دِرْعًا لَهُ مَذْكُورَةً، يُقَالُ لَهَا السّحْلُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَرَضُونَ وَلَا قِرَابٌ-[يَعْنِي مَزَارِعَ] [ (1) ] . وَخَمّسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ مِنْهُمْ، وَقَسّمَ مَا بَقِيَ عَلَى أَصْحَابِهِ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ أَنْ يُجْلِيَهُمْ، فَجَعَلَتْ قَيْنُقَاعُ تَقُولُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، مِنْ بَيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ- وَنَحْنُ مَوَالِيك- فَعَلْت هَذَا بِنَا؟ قَالَ لَهُمْ عُبَادَةُ: لَمّا حَارَبْتُمْ جِئْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِنْهُمْ وَمِنْ حِلْفِهِمْ. وَكَانَ ابْنُ أُبَيّ وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْحِلْفِ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ: تَبَرّأْت مِنْ حِلْفِ مَوَالِيك؟ مَا هَذِهِ بِيَدِهِمْ عِنْدَك [ (2) ] ! فَذَكّرَهُ مَوَاطِنَ قَدْ أَبْلَوْا فِيهَا، فَقَالَ عُبَادَةُ: أَبَا الْحُبَابِ، تَغَيّرَتْ الْقُلُوبُ وَمَحَا الْإِسْلَامُ الْعُهُودَ، أَمَا وَاَللهِ إنّك لَمُعْصِمٌ بِأَمْرٍ سَتَرَى غِبّهُ غَدًا! فَقَالَتْ قَيْنُقَاعُ: يَا مُحَمّدُ، إنّ لَنَا دَيْنًا فِي النّاسِ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَجّلُوا وَضَعُوا! وَأَخَذَهُمْ عُبَادَةُ بِالرّحِيلِ وَالْإِجْلَاءِ، وَطَلَبُوا التّنَفّسَ فَقَالَ لَهُمْ: وَلَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَكُمْ ثَلَاثٌ لَا أَزِيدُكُمْ عَلَيْهَا! هَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كُنْت أَنَا مَا نَفّسْتُكُمْ. فَلَمّا مَضَتْ ثَلَاثٌ خَرَجَ فِي آثَارِهِمْ حَتّى سَلَكُوا إلَى الشّامِ، وَهُوَ يَقُولُ: الشّرَفَ الْأَبْعَدَ، الْأَقْصَى، فَأَقْصَى! وَبَلَغَ خَلْفَ ذُبَابٍ، ثم
رَجَعَ وَلَحِقُوا بِأَذْرِعَاتٍ [ (1) ] . وَقَدْ سَمِعْنَا فِي إجْلَائِهِمْ حَيْثُ نَقَضُوا الْعَهْدَ غَيْرَ حَدِيثِ ابْنِ كَعْبٍ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ حَسَدُوا فَأَظْهَرُوا الْغِشّ، فنزل عليه جبرئيل عَلَيْهِ السّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [ (2) ] . قَالَ: فَلَمّا فَرَغَ جِبْرِيلُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَنَا أَخَافُهُمْ. فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، وَلِرَسُولِ اللهِ أَمْوَالُهُمْ، وَلَهُمْ الذّرّيّةُ وَالنّسَاءُ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الرّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إنّي لَبِالفَلْجَتَيْنِ [ (3) ] مُقْبِلٌ مِنْ الشّامِ، إذْ لَقِيت بَنِي قَيْنُقَاعَ يَحْمِلُونَ الذّرّيّةَ وَالنّسَاءَ، قَدْ حَمَلُوهُمْ عَلَى الْإِبِلِ وَهُمْ يَمْشُونَ، فَسَأَلْتهمْ فَقَالُوا: أَجْلَانَا مُحَمّدٌ وَأَخَذَ أَمْوَالَنَا. قُلْت: فَأَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: الشّامَ. قَالَ سَبْرَةُ: فَلَمّا نَزَلُوا بِوَادِي الْقُرَى أَقَامُوا شَهْرًا، وَحَمَلْت يَهُودُ وَادِي الْقُرَى مَنْ كَانَ رَاجِلًا مِنْهُمْ، وَقَوّوْهُمْ، وَسَارُوا إلَى أَذْرِعَاتٍ فَكَانُوا بِهَا، فَمَا كَانَ أَقَلّ بَقَاءَهُمْ. حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ المنذر على المدينة ثلاث مرّات: بدر القتال، وبنى قينقاع، وغزوة السّويق.
غزوة السويق
غَزْوَةُ السّوِيق غَزْوَةُ السّوِيقِ فِي ذِي الْحِجّةِ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجّةِ، فَغَابَ خَمْسَةَ أَيّامٍ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ الزّهْرِيّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَا: لَمّا رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ إلَى مَكّةَ مِنْ بَدْرٍ حَرّمَ أَبُو سُفْيَانَ الدّهْنَ حَتّى يَثْأَرَ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ بِمَنْ أُصِيبَ مِنْ قَوْمِهِ فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ- فِي حَدِيثِ الزّهْرِيّ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ كَعْبٍ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا- حَتّى سَلَكُوا النّجْدِيّةَ. فَجَاءُوا بَنِي النّضير لَيْلًا، فَطَرَقُوا حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ لِيَسْتَخْبِرُوهُ مِنْ أَخْبَارِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ، وَطَرَقُوا سَلّامَ بْنَ مِشْكَمٍ فَفَتَحَ لَهُمْ فَقَرَاهُمْ، وَسَقَى أَبَا سُفْيَانَ خَمْرًا، وَأَخْبَرَهُ مِنْ أَخْبَارِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. فَلَمّا كَانَ بِالسّحَرِ خَرَجَ فَمَرّ بِالْعُرَيْضِ [ (1) ] ، فَيَجِدُ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَ أَجِيرٍ لَهُ فِي حَرْثِهِ فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَجِيرَهُ، وَحَرّقَ بَيْتَيْنِ بِالْعُرَيْضِ وَحَرّقَ حَرْثًا لَهُمْ، وَرَأَى أَنّ يَمِينَهُ قَدْ حُلّتْ، ثُمّ ذَهَبَ هَارِبًا، وَخَافَ الطّلَبَ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَدَبَ أَصْحَابَهُ فَخَرَجُوا فِي أَثَرِهِ، وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ يَتَخَفّفُونَ فَيُلْقُونَ جُرُبَ السّوِيقِ [ (2) ]- وَهِيَ عَامّةُ زَادِهِمْ- فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَمُرّونَ
غزوة قرارة الكدر [ (4) ]
بِهَا فَيَأْخُذُونَهَا، فَسُمّيَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزْوَةَ السّوِيقِ لِهَذَا الشّأْنِ، حَتّى انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ. فَقَالَ [أَبُو سُفْيَانَ] ، [ (1) ] فِي حَدِيثِ الزّهْرِيّ، هَذِهِ الْأَبْيَاتَ: سَقَانِي فَرَوّانِي كُمَيْتًا مُدَامَةً [ (2) ] ... عَلَى ظَمَأٍ مِنّي سَلَامُ بْنُ مِشْكَمِ وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو يَجُودُ وَدَارُهُ ... بِيَثْرِبَ مَأْوَى كُلّ أَبْيَضَ خِضْرِمِ [ (3) ] كَانَ الزّهْرِيّ يُكَنّيهِ أَبَا عَمْرٍو، وَالنّاسُ يُكَنّونَهُ أَبَا الْحَكَمِ. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: كَانَتْ فِي ذِي الْحِجّةِ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. غزوة قرارة الكدر [ (4) ] إلى بنى سليم وَغَطَفَانَ لِلنّصْفِ مِنْ الْمُحَرّمِ، عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، غَابَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الْمَدِينَةِ إلَى قَرَارَةَ الْكُدْرِ، وَكَانَ الّذِي هَاجَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ بِهَا جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ وَسُلَيْمٍ. فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الطّرِيقَ حَتّى جَاءَ فَرَأَى آثَارَ النّعَمِ وَمَوَارِدَهَا، وَلَمْ يَجِدْ فِي الْمَجَالِ أَحَدًا، فَأَرْسَلَ فِي أَعْلَى الْوَادِي نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَقْبَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَطْنِ الْوَادِي،
فَوَجَدَ رِعَاءً فِيهِمْ غُلَامٌ يُقَال لَهُ يَسَارٌ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ النّاسِ فَقَالَ يَسَارٌ: لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ، إنّمَا أُورَدُ [ (1) ] لِخَمْسٍ وَهَذَا يَوْمٌ رِبْعِيّ، وَالنّاسُ قَدْ ارْتَبَعُوا إلَى الْمِيَاهِ، وَإِنّمَا نَحْنُ عُزّابٌ [ (2) ] فِي النّعَمِ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ظَفِرَ بِنَعَمٍ، فَانْحَدَرَ إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى إذَا صَلّى الصّبْحَ فَإِذَا هُوَ بِيَسَارٍ فَرَآهُ يُصَلّي. فَأَمَرَ الْقَوْمَ أَنْ يُقَسّمُوا غَنَائِمَهُمْ، فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَقْوَى لَنَا أَنْ نَسُوقَ النّعَمَ جَمِيعًا، فَإِنّ فِينَا مَنْ يَضْعُفُ عَنْ حَظّهِ الّذِي يَصِيرُ إلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْتَسِمُوا! فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كَانَ أَنْمَا بِك [ (3) ] الْعَبْدُ الّذِي رَأَيْته يُصَلّي، فَنَحْنُ نُعْطِيكَهُ فِي سَهْمِك. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد طِبْتُمْ بِهِ نَفْسًا؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْتَقَهُ، وَارْتَحَلَ النّاسُ فَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَاقْتَسَمُوا غَنَائِمَهُمْ فَأَصَابَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَبْعَةُ أَبْعِرَةٍ، وَكَانَ الْقَوْمُ مِائَتَيْنِ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ السّعْدِيّ، عَنْ. حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَمّنْ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي أَرْوَى الدّوْسِيّ، قَالَ: كُنْت فِي السّرِيّةِ، وَكُنْت مِمّنْ يَسُوقُ النّعَمَ، فَلَمّا كُنّا بِصِرَار- عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ- خَمّسَ النّعَمَ، وَكَانَ النّعَمُ خَمْسَمِائَةِ بَعِيرٍ، فَأَخْرَجَ خُمُسَهُ وَقَسّمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَصَابَهُمْ بَعِيرَانِ بَعِيرَانِ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُوحٍ، عَنْ أبى عفير، قال: استخلف رسول الله
قتل ابن الأشرف
صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أُمّ مَكْتُومٍ، وَكَانَ يُجَمّعُ بِهِمْ وَيَخْطُبُ إلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ، يَجْعَلُ الْمِنْبَرَ عَنْ يَسَارِهِ [ (1) ] قَتْلُ ابْنِ الْأَشْرَفِ وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ. حَدّثَنِي عَبْدُ الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ، فَكَانَ الّذِي اجْتَمَعُوا لَنَا عَلَيْهِ قَالُوا: إنّ ابْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ شَاعِرًا وَكَانَ يَهْجُو النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَيُحَرّضُ عَلَيْهِمْ كُفّارَ قُرَيْشٍ فِي شِعْرِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلَاطٌ- مِنْهُمْ الْمُسْلِمُونَ الّذِينَ تَجْمَعُهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، فِيهِمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ، وَمِنْهُمْ حُلَفَاءُ لِلْحَيّيْنِ جَمِيعًا الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتِصْلَاحَهُمْ كُلّهُمْ وَمُوَادَعَتَهُمْ، وَكَانَ الرّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَبُوهُ مُشْرِكًا [ (2) ] . فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَذًى شَدِيدًا، فَأَمَرَ اللهُ عَزّ وَجَلّ نَبِيّهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِالصّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَفِيهِمْ أُنْزِلَ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ (1) ] . وَفِيهِمْ أَنَزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... [ (2) ] الْآيَةَ. فَلَمّا أَبَى ابْنُ الْأَشْرَفِ أَنْ يَنْزِعَ عَنْ أَذَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْهُمْ، فَلَمّا قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِالْبِشَارَةِ مِنْ بَدْرٍ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْرِ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، فَرَأَى الْأَسْرَى مُقَرّنِينَ [ (3) ] ، كُبّتْ وَذَلّ، ثُمّ قَالَ لِقَوْمِهِ: وَيْلَكُمْ، وَاَللهِ لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا الْيَوْمَ! هَؤُلَاءِ سَرَاةُ النّاسِ قَدْ قُتِلُوا وَأُسِرُوا، فَمَا عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا: عَدَاوَتُهُ مَا حَيِينَا. قَالَ: وَمَا أَنْتُمْ وَقَدْ وَطِئَ قَوْمَهُ وَأَصَابَهُمْ؟ وَلَكِنّي أَخْرُجُ إلَى قُرَيْشٍ فَأَحُضّهُمْ وَأَبْكِي قَتْلَاهُمْ، فَلَعَلّهُمْ يَنْتَدِبُونَ فَأَخْرُجَ مَعَهُمْ. فَخَرَجَ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ وَوَضَعَ رَحْلَهُ عِنْدَ أَبِي وَدَاعَةَ بْنِ ضُبَيْرَةَ السّهْمِيّ، وَتَحْتَهُ عَاتِكَةُ بنت أسيد ابن أبى العيص، فجعل يرثى قريشا ويقول: طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِك أَهْلِهِ ... وَلِمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلّ وَتَدْمَعُ [ (4) ] قُتِلَتْ سَرَاةُ النّاسِ حَوْلَ حِيَاضِهِ ... لَا تَبْعَدُوا إنّ الْمُلُوكَ تُصَرّعُ وَيَقُولُ أَقْوَامٌ أذل بسخطهم [ (5) ] ... إن ابن أشرف ظل كعبا يَجْزَعُ صَدَقُوا فَلَيْتَ الْأَرْضَ سَاعَةَ قُتّلُوا ... ظَلّتْ تَسِيخُ بِأَهْلِهَا [ (6) ] وَتُصَدّعُ كَمْ قَدْ أُصِيبَ بِهَا مِنَ ابْيَضَ مَاجِدٍ ... ذِي بَهْجَةٍ يَأْوِي إلَيْهِ الضّيّع [ (7) ]
طَلْقِ الْيَدَيْنِ إذَا الْكَوَاكِبُ أَخْلَفَتْ [ (1) ] ... حَمّالِ أَثْقَالٍ يَسُودُ وَيَرْبَعُ [ (2) ] نُبّئْت أَنّ بَنِي الْمُغِيرَةِ كُلّهُمْ ... خَشَعُوا لِقَتْلِ أَبِي الْحَكِيمِ وَجُدّعُوا [ (3) ] وَابْنَا رَبِيعَةَ عِنْدَهُ وَمُنَبّهٌ ... هَلْ نَالَ مِثْلَ الْمُهْلَكِينَ التّبّعُ فَأَجَابَهُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ، يَقُولُ: أَبَكَى لِكَعْبٍ [ (4) ] ثُمّ عُلّ بِعَبْرَةٍ ... مِنْهُ وَعَاشَ مُجَدّعًا لَا يَسْمَعُ وَلَقَدْ رَأَيْت بِبَطْنِ بَدْرٍ مِنْهُمُ ... قَتْلَى تَسُحّ لَهَا الْعُيُونُ وَتَدْمَعُ فَابْكِي فَقَدْ أَبْكَيْتِ عَبْدًا رَاضِعًا ... شِبْهَ الْكُلَيْبِ لِلْكُلَيْبَةِ يَتْبَعُ وَلَقَدْ شَفَى الرّحْمَنُ مِنْهُمْ سَيّدًا ... وَأَحَانَ [ (5) ] قَوْمًا قَاتَلُوهُ وَصُرّعُوا وَنَجَا وَأَفْلَتْ مِنْهُمْ مَنْ قَلْبُهُ ... شَغَفٌ [ (6) ] يَظَلّ لِخَوْفِهِ يَتَصَدّعُ وَنَجَا وَأَفْلَتْ مِنْهُمْ مُتَسَرّعًا ... فَلّ فَلِيلٌ هَارِبٌ يَتَهَزّعُ وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حسّبان، فَأَخْبَرَهُ بِنُزُولِ كَعْبٍ عَلَى مَنْ نَزَلَ، فَقَالَ حَسّانُ: أَلَا أَبْلِغُوا [ (7) ] عَنّي أَسِيدًا رِسَالَةً ... فَخَالُك عبد بالسّراب مجرّب.
لَعَمْرُك مَا أَوْفَى أَسِيدٌ بِجَارِهِ [ (1) ] ... وَلَا خَالِدٌ وَلَا الْمُفَاضَةُ [ (2) ] زَيْنَبُ وَعَتّابُ عَبْدٌ غَيْرُ مُوفٍ بذمّة ... كذوب شؤون الرّأْسِ قِرْدٌ مُدَرّبُ فَلَمّا بَلَغَهَا [ (3) ] هِجَاؤُهُ نَبَذَتْ رَحْلَهُ وَقَالَتْ: مَا لَنَا وَلِهَذَا الْيَهُودِيّ؟ أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ بِنَا حَسّانُ؟ فَتَحَوّلَ، فَكُلّمَا تَحَوّلَ عِنْدَ قَوْمٍ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسّانَ فَقَالَ: ابْنُ الْأَشْرَفِ نَزَلَ عَلَى فُلَانٍ. فَلَا يَزَالُ يَهْجُوهُمْ حَتّى نُبِذَ رَحْلُهُ، فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مَأْوًى قَدِمَ الْمَدِينَةَ. فَلَمّا بَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدُومُ ابْنِ الْأَشْرَفِ قَالَ: اللهُمّ، اكْفِنِي ابْنَ الْأَشْرَفِ بِمَا شِئْت فِي إعْلَانِهِ الشّرّ وَقَوْلِهِ الْأَشْعَارَ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِي بِابْنِ الْأَشْرَفِ، فَقَدْ آذَانِي؟ فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا أَقْتُلُهُ. قَالَ: فَافْعَلْ! فَمَكَثَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَيّامًا لَا يَأْكُلُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، تَرَكْت الطّعَامَ وَالشّرَابَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْت لَك قَوْلًا فَلَا أَدْرِي أَفِي لَك بِهِ أَمْ لَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْك الْجَهْدُ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: شاور سعد بن معاذ فى أمره. فاجتمع محمّد بن مسلمة وَنَفَرٌ مِنْ الْأَوْسِ مِنْهُمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ سِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ أوس، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ نَقْتُلُهُ، فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَقُلْ [ (4) ] ، فَإِنّهُ لَا بُدّ لَنَا مِنْهُ. قَالَ: قُولُوا ! فَخَرَجَ أَبُو نَائِلَةَ إلَيْهِ، فَلَمّا رَآهُ كَعْبٌ أَنْكَرَ شَأْنَهُ، وَكَادَ يُذْعَرُ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ كمين،
فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ: حَدَثَتْ لَنَا حَاجَةٌ إلَيْك. قَالَ. وَهُوَ فِي نَادِي قَوْمِهِ وَجَمَاعَتِهِمْ: اُدْنُ إلَيّ فَخَبّرْنِي بِحَاجَتِك. وَهُوَ مُتَغَيّرُ اللّوْنِ مَرْعُوبٌ- فكان أبو نائلة ومحمّد ابن مَسْلَمَةَ أَخَوَيْهِ مِنْ الرّضَاعَةِ- فَتَحَدّثَا سَاعَةً وَتَنَاشَدَا الْأَشْعَارَ، وَانْبَسَطَ كَعْبٌ وَهُوَ يَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ: حَاجَتُك! وَأَبُو نَائِلَةَ يُنَاشِدُهُ الشّعْرَ- وَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ يَقُولُ الشّعْرَ- فَقَالَ كَعْبٌ: حَاجَتُك، لَعَلّك أَنْ تُحِبّ أَنْ يَقُومَ مَنْ عِنْدَنَا؟ فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ قَامُوا. قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: إنّي كَرِهْت أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْمُ ذَرْوَ [ (1) ] كَلَامِنَا، فَيَظُنّونَ! كَانَ قُدُومُ هَذَا الرّجُلِ عَلَيْنَا مِنْ الْبَلَاءِ، وَحَارَبَتْنَا الْعَرَبُ وَرَمَتْنَا عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَتَقَطّعَتْ السّبُلُ عَنّا حَتّى جَهِدَتْ الْأَنْفُسُ وَضَاعَ الْعِيَالُ، أَخَذَنَا بِالصّدَقَةِ وَلَا نَجِدُ مَا نَأْكُلُ. فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ وَاَللهِ كُنْت أُحَدّثُك بِهَذَا يَا ابْنَ سَلَامَةَ، أَنّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ: وَمَعِي رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْت أَنْ آتِيَك بِهِمْ فَنَبْتَاعَ مِنْك طَعَامًا أَوْ تَمْرًا وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ إلَيْنَا، وَنَرْهَنُك مَا يَكُونُ لَك فِيهِ ثِقَةٌ. قَالَ كَعْبٌ: أَمَا إنّ رِفَافِي تَقْصِفُ تَمْرًا، مِنْ عَجْوَةٍ تَغِيبُ فِيهَا الضّرْسُ، أَمَا وَاَللهِ مَا كُنْت أُحِبّ يَا أَبَا نائلة أن أرى هذه الخصاصة بك، وَإِنْ كُنْت مِنْ أَكْرَمِ النّاسِ عَلَيّ، أَنْتَ أَخِي، نَازَعْتُك الثّدْيَ! قَالَ سِلْكَانُ: اُكْتُمْ عَنّا مَا حَدّثْتُك مِنْ ذِكْرِ مُحَمّدٍ. قَالَ كَعْبٌ: لَا أَذْكُرُ مِنْهُ حَرْفًا. ثُمّ قَالَ كَعْبٌ: يَا أَبَا نَائِلَةَ، اُصْدُقْنِي ذَاتَ نَفْسِك، مَا الّذِي تُرِيدُونَ فِي أَمْرِهِ؟ قَالَ: خِذْلَانَهُ وَالتّنَحّيَ عَنْهُ. قَالَ: سَرَرْتنِي يَا أَبَا نَائِلَةَ! فَمَاذَا تَرْهَنُونَنِي، أَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ؟ فَقَالَ: لَقَدْ أَرَدْت أَنْ تَفْضَحَنَا وَتُظْهِرَ أَمْرَنَا! وَلَكِنّا نَرْهَنُك مِنْ الْحَلْقَةِ مَا تَرْضَى بِهِ. قَالَ كَعْبٌ: إنّ فِي الْحَلْقَةِ لَوَفَاءً. وَإِنّمَا يَقُولُ ذَلِكَ سِلْكَانُ لِئَلّا ينكرهم إذا جاءوا بالسلاح.
فَخَرَجَ أَبُو نَائِلَةَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى مِيعَادٍ، فَأَتَى أَصْحَابَهُ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوهُ إذَا أَمْسَى لِمِيعَادِهِ. ثُمّ أَتَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشَاءً فَأَخْبَرُوهُ، فَمَشَى مَعَهُمْ حَتّى أَتَى الْبَقِيعَ [ (1) ] ، ثُمّ وَجّهَهُمْ، ثُمّ قَالَ: امْضُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ وَعَوْنِهِ! وَيُقَال: وَجّهَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَلّوْا الْعِشَاءَ وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ مِثْلِ النّهَارِ، فِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. قَالَ: فَمَضَوْا حَتّى أَتَوْا ابْنَ الْأَشْرَفِ، فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى حِصْنِهِ هَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ، وَكَانَ ابْنُ الْأَشْرَفِ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَوَثَبَ فَأَخَذَتْ امْرَأَتُهُ بِنَاحِيَةِ مِلْحَفَتِهِ وَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ إنّك رَجُلٌ مُحَارَبٌ، وَلَا يَنْزِلُ مِثْلُك فِي هَذِهِ السّاعَةِ. فَقَالَ: مِيعَادٌ، إنّمَا هُوَ أَخِي أَبُو نَائِلَةَ، وَاَللهِ لَوْ وَجَدَنِي نَائِمًا مَا أَيْقَظَنِي. ثُمّ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْمِلْحَفَةَ وَهُوَ يَقُولُ: لَوْ دُعِيَ الْفَتَى لِطَعْنَةٍ أَجَابَ. ثُمّ نَزَلَ إلَيْهِمْ فَحَيّاهُمْ، ثُمّ جَلَسُوا فَتَحَدّثُوا سَاعَةً حَتّى انْبَسَطَ إلَيْهِمْ، ثُمّ قَالُوا لَهُ: يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ، هَلْ لَك أَنْ تَتَمَشّى إلَى شَرْجِ الْعَجُوزِ [ (2) ] فَنَتَحَدّثَ فِيهِ بَقِيّةَ لَيْلَتِنَا؟ قَالَ: فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ حَتّى وَجّهُوا قِبَلَ الشّرْجِ، فَأَدْخَلَ أَبُو نَائِلَةَ يَدَهُ فِي رَأْسِ كَعْبٍ ثُمّ قَالَ: وَيْحَك، مَا أَطْيَبَ عِطْرِك هَذَا يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ! وَإِنّمَا كَانَ كَعْبٌ يَدّهِنُ بِالْمِسْكِ الْفَتِيتِ بِالْمَاءِ وَالْعَنْبَرِ حَتّى يَتَلَبّدَ فِي صُدْغَيْهِ، وَكَانَ جَعْدًا جَمِيلًا. ثُمّ مَشَى سَاعَةً فَعَادَ بِمِثْلِهَا حَتّى اطْمَأَنّ إلَيْهِ، وَسُلْسِلَتْ يَدَاهُ فِي شَعْرِهِ وَأَخَذَ بِقُرُونِ رَأْسِهِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: اُقْتُلُوا عَدُوّ اللهِ! فَضَرَبُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، فَالْتَفّتْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، وَرَدّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَصِقَ بِأَبِي نَائِلَةَ. قال محمّد بن مسلمة: فذكرت مغولا [ (3) ]
مَعِي كَانَ فِي سَيْفِي فَانْتَزَعْته فَوَضَعْته فِي سُرّتِهِ، ثُمّ تَحَامَلْت عَلَيْهِ فَقَطَطْته حَتّى انْتَهَى إلَى عَانَتِهِ، فَصَاحَ عَدُوّ اللهِ صَيْحَةً مَا بَقِيَ أُطْمٌ مِنْ آطَامِ يَهُودَ إلّا قَدْ أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ. فَقَالَ ابْنُ سُنَيْنَةَ، يَهُودِيّ مِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ، وَبَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ: إنّي لَأَجِدُ رِيحَ دَمٍ بِيَثْرِبَ مَسْفُوحٍ. وَقَدْ كَانَ أَصَابَ بَعْضُ الْقَوْمِ الْحَارِثَ بْنَ أَوْسٍ بِسَيْفِهِ وَهُمْ يَضْرِبُونَ كَعْبًا، فَكَلَمَهُ فِي رِجْلِهِ. فَلَمّا فَرَغُوا احْتَزّوا رَأْسَهُ ثُمّ حَمَلُوهُ مَعَهُمْ، ثُمّ خَرَجُوا يَشْتَدّونَ وَهُمْ يَخَافُونَ مِنْ يَهُودَ الْأَرْصَادَ، حَتّى أَخَذُوا عَلَى بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ ثُمّ عَلَى قُرَيْظَةَ، وَإِنّ نِيرَانَهُمْ فِي الْآطَامِ لَعَالِيَةٌ، ثُمّ عَلَى بُعَاثٍ [ (1) ] ، حَتّى إذَا كانوا بِحَرّةِ الْعُرَيْضِ نَزَفَ الْحَارِثُ الدّمَ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ فناداهم: أقرءوا رَسُولَ اللهِ مِنّي السّلَامَ! فَعَطَفُوا عَلَيْهِ فَاحْتَمَلُوهُ حَتّى أَتَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلمّا بلغوا بقيع الغرقد كَبّرُوا. وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللّيْلَةَ يُصَلّي، فَلَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَهُمْ بِالْبَقِيعِ كَبّرَ وَعَرَفَ أَنْ قَدْ قَتَلُوهُ. ثُمّ انْتَهَوْا يَعْدُونَ حَتّى وَجَدُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَفْلَحَتْ الْوُجُوهُ! فَقَالُوا: وَوَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ! وَرَمَوْا بِرَأْسِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللهَ عَلَى قَتْلِهِ. ثُمّ أَتَوْا بِصَاحِبِهِمْ الْحَارِثِ فَتَفَلَ فِي جُرْحِهِ فَلَمْ يُؤْذِهِ، فَقَالَ فِي ذَلِك عبّاد بن بشر: صَرَخْت بِهِ فَلَمْ يَجْفِلْ [ (2) ] لِصَوْتِي ... وَأَوْفَى [ (3) ] طَالِعًا مِنْ فَوْقِ قَصْرِ فَعُدْت فَقَالَ مَنْ هَذَا المنادى ... فقلت أخوك عبّاد بن بشر
فَقَالَ مُحَمّدٌ أَسْرِعْ إلَيْنَا ... فَقَدْ جِئْنَا لِتَشْكُرَنَا [ (1) ] وَتَقْرِي وَتَرْفِدَنَا فَقَدْ جِئْنَا سِغَابًا ... بِنِصْفِ الْوَسْقِ [ (2) ] مِنْ حَبّ وَتَمْرٍ وَهَذِي دِرْعُنَا رَهْنًا فَخُذْهَا ... لِشَهْرٍ إنْ وَفّى أَوْ نِصْفِ شَهْرِ فَقَالَ مَعَاشِرٌ سَغِبُوا وَجَاعُوا ... لَقَدْ عَدِمُوا الْغِنَى مِنْ غَيْرِ فَقْرِ وَأَقْبَلَ نَحْوَنَا يَهْوِي سَرِيعًا ... وَقَالَ لَنَا لَقَدْ جِئْتُمْ لِأَمْرِ وَفِي أَيْمَانِنَا بِيضٌ حِدَادٌ ... مُجَرّبَةٌ بِهَا الْكُفّارُ نَفْرِي فَعَانَقَهُ ابْنُ مَسْلَمَةَ الْمُرَادِي [ (3) ] ... بِهِ الْكَفّانِ كَاللّيْثِ الْهِزَبْرِ وَشَدّ بِسَيْفِهِ صَلْتًا عَلَيْهِ ... فَقَطّرَهُ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرِ وَصَلْت وَصَاحِبَايَ فَكَانَ لَمّا ... قَتَلْنَاهُ الْخَبِيثَ كَذِبْحِ عِتْرِ [ (4) ] وَمَرّ بِرَأْسِهِ نَفَرٌ كِرَامٌ ... هُمُ نَاهُوك مِنْ صِدْقٍ وَبِرّ وَكَانَ اللهُ سَادِسَنَا فَأُبْنَا ... بِأَفْضَلِ نِعْمَةٍ وَأَعَزّ نَصْرِ قَالَ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ: أَنَا رَأَيْت قَائِلَ هَذَا الشّعْرِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ: لَوْلَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ لَظَنَنْت أَنّهَا ثَبْتٌ. قَالُوا: فَلَمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ اللّيْلَةِ الّتِي قُتِلَ فِيهَا ابْنُ الْأَشْرَفِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ الْيَهُودِ فَاقْتُلُوهُ. فَخَافَتْ الْيَهُودُ فَلَمْ يَطْلُعْ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ وَلَمْ يَنْطِقُوا، وَخَافُوا أَنْ يُبَيّتُوا كَمَا بُيّتَ ابْنُ الْأَشْرَفِ. وَكَانَ ابْنُ سُنَيْنَةَ مِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ، وَكَانَ حَلِيفًا لِحُوَيّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ،
قَدْ أَسْلَمَ، فَعَدَا مُحَيّصَةُ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ حُوَيّصَةُ يَضْرِبُ مُحَيّصَةَ، وَكَانَ أَسَنّ مِنْهُ، يَقُولُ: أَيْ عَدُوّ اللهِ، أَقَتَلْته؟ أَمَا وَاَللهِ لَرُبّ شَحْمٍ فِي بَطْنِك مِنْ مَالِهِ! فَقَالَ مُحَيّصَةُ: وَاَللهِ، لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِك الّذِي أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتُك. قَالَ: وَاَللهِ، لَوْ أَمَرَك محمّد أن تقتلني؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ حُوَيّصَةُ: وَاَللهِ، إنّ دِينًا يَبْلُغُ هَذَا لَدِينٌ مُعْجِبٌ. فَأَسْلَمَ حُوَيّصَةُ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ مُحَيّصَةُ- وَهِيَ ثَبْتٌ، لَمْ أَرَ أَحَدًا يَدْفَعُهَا- يَقُولُ: يَلُومُ ابْنُ أُمّي لَوْ أُمِرْت بِقَتْلِهِ ... لَطَبّقْت ذِفْرَاهُ [ (1) ] بِأَبْيَضَ قَاضِبِ حُسَامٍ كَلَوْنِ الْمِلْحِ أُخْلِصَ صَقْلُهُ ... مَتَى مَا تُصَوّبُهُ فَلَيْسَ بِكَاذِبِ وَمَا سَرّنِي أَنّي قَتَلْتُك طَائِعًا ... وَلَوْ أَنّ لِي مَا بَيْنَ بُصْرَى [ (2) ] وَمَأْرِبِ فَفَزِعَتْ الْيَهُودُ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَجَاءُوا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحُوا فَقَالُوا: قَدْ طُرِقَ صَاحِبُنَا اللّيْلَةَ وَهُوَ سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا قُتِلَ غِيلَةً بِلَا جُرْمٍ وَلَا حَدَثٍ عَلِمْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّهُ لَوْ قَرّ كَمَا قَرّ غَيْرُهُ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ مَا اُغْتِيلَ، وَلَكِنّهُ نَالَ مِنّا الْأَذَى وَهَجَانَا بِالشّعْرِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إلّا كَانَ لَهُ السّيْفُ [ (3) ] . وَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا يَنْتَهُونَ إلَى مَا فِيهِ، فَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابًا تَحْتَ الْعِذْقِ فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ. فَحَذِرَتْ الْيَهُودُ وَخَافَتْ وَذَلّتْ مِنْ يَوْمِ قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ. فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعِنْدَهُ ابْنُ يَامِينَ النّضْرِيّ: كيف كان قتل ابن الأشرف؟
شأن غزوة غطفان بذي أمر [ (4) ]
قَالَ ابْنُ يَامِينَ: كَانَ غَدْرًا. وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ جَالِسٌ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقَالَ: يَا مَرْوَانُ، أَيَغْدِرُ [ (1) ] رَسُولُ اللهِ عِنْدَك؟ وَاَللهِ، مَا قَتَلْنَاهُ إلّا بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاَللهِ، لَا يُؤْوِينِي وَإِيّاكَ سَقْفُ بَيْتٍ إلّا الْمَسْجِدَ. وَأَمّا أَنْتَ يَا ابْنَ يَامِينَ، فَلِلّهِ عَلَيّ إنْ أَفْلَتّ، وَقَدَرْت [ (2) ] عَلَيْك وَفِي يَدِي سَيْفٌ إلّا ضَرَبْت بِهِ رَأْسَك! فَكَانَ ابْنُ يَامِينَ لَا يَنْزِلُ فِي بَنِي قُرَيْظَة حتى يبعث له رسول يَنْظُرُ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ ضِيَاعِهِ نَزَلَ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمّ صَدَرَ، وَإِلّا لَمْ يَنْزِلْ. فَبَيْنَا مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِي جِنَازَةٍ وَابْنُ يَامِينَ بِالْبَقِيعِ، فَرَأَى نَعْشًا عَلَيْهِ جَرَائِدُ رَطْبَةٌ لِامْرَأَةٍ، جَاءَ فَحَلّهُ. فَقَامَ النّاسُ فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ، مَا تَصْنَعُ؟ نَحْنُ نَكْفِيك! فَقَامَ إلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُهُ بِهَا جَرِيدَةً جَرِيدَةً حَتّى كَسَرَ تِلْكَ الْجَرَائِدَ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ حَتّى لَمْ يَتْرُكْ فِيهِ مَصَحّا، ثُمّ أَرْسَلَهُ وَلَا طَبَاخَ [ (3) ] بِهِ، ثُمّ قَالَ: وَاَللهِ، لَوْ قَدَرْت عَلَى السّيْفِ لَضَرَبْتُك بِهِ. شَأْنُ غَزْوَةِ غَطَفَانَ بِذِي أَمَر [ (4) ] وَكَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وعشرين شهرا. خرج رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ من ربيع، فغاب أحد عشر يوما.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي هُنَيْدَةَ قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَتّابٍ، وَحَدّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ الضّحّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بن محمد بن أبي بكر، عن عبد اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَزَادَ بَعْضُهُمْ [عَلَى بَعْضٍ] [ (1) ] فِي الْحَدِيثِ، وَغَيْرُهُمْ قَدْ حَدّثَنَا أَيْضًا، قَالُوا: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ جَمْعًا مِنْ ثَعْلَبَة وَمُحَارِبٍ بِذِي أَمَرّ، قَدْ تَجَمّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْ أَطْرَافِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جمعهم رجل منهم يقال له دعثور ابن الْحَارِثِ بْنِ مُحَارِبٍ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ وَخَمْسِينَ، وَمَعَهُمْ أَفْرَاسٌ، فَأَخَذَ عَلَى الْمُنَقّى [ (2) ] ، ثم سلك مضيق الخبيث [ (3) ] ، ثُمّ خَرَجَ إلَى ذِي الْقَصّةِ [ (4) ] ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ بِذِي الْقَصّةِ يُقَالُ لَهُ جَبّارٌ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَة، فَقَالُوا: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ يَثْرِبَ [ (5) ] . قَالُوا: وَمَا حَاجَتُك بِيَثْرِبَ؟ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَرْتَادَ لِنَفْسِي وَأَنْظُرَ. قَالُوا: هَلْ مَرَرْت بِجَمْعٍ، أَوْ بَلَغَك [خَبَرٌ] لِقَوْمِك؟ قَالَ: لَا، إلّا أَنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنّ دُعْثُورَ بْنَ الْحَارِثِ فِي أُنَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ عُزْلٌ. فَأَدْخَلُوهُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّهُمْ لَنْ يُلَاقُوك، إنْ سَمِعُوا [ (6) ] بِمَسِيرِك هَرَبُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَأَنَا سَائِرٌ مَعَك وَدَالّك عَلَى عَوْرَتِهِمْ [ (7) ] . فَخَرَجَ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَمّهُ إلَى بِلَالٍ، فَأَخَذَ بِهِ طَرِيقًا أَهْبَطَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَثِيبٍ [ (8) ] ، وَهَرَبَتْ مِنْهُ
الْأَعْرَابُ فَوْقَ الْجِبَالِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا قَدْ غيّبوا سرحهم فى ذرى الجبال وذراريّهم، فَلَمْ يُلَاقِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا، إلّا أَنّهُ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا أَمَرّ وَعَسْكَرَ مُعَسْكَرَهُمْ [ (1) ] فَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ كَثِيرٌ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ فَأَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَطَرُ فَبَلّ ثَوْبَهُ، وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِيَ ذِي أَمَرّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ. ثُمّ نَزَعَ ثِيَابَهُ فَنَشَرَهَا لِتَجِفّ، وَأَلْقَاهَا عَلَى شَجَرَةٍ ثُمّ اضْطَجَعَ تَحْتَهَا [ (2) ] وَالْأَعْرَابُ يَنْظُرُونَ إلَى كُلّ مَا يَفْعَلُ، فَقَالَتْ الْأَعْرَابُ لِدُعْثُور، وكان سيّدها وأشجعها: قد أمكنت مُحَمّدٌ، وَقَدْ انْفَرَدَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَيْثُ إنْ غَوّثَ بِأَصْحَابِهِ لَمْ يُغَثْ حَتّى تَقْتُلَهُ. فَاخْتَارَ سَيْفًا مِنْ سُيُوفِهِمْ صَارِمًا، ثُمّ أَقْبَلَ مُشْتَمِلًا عَلَى السّيْفِ حَتّى قَامَ عَلَى رَأْسِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّيْفِ مَشْهُورًا، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، مَنْ يَمْنَعُك مِنّي الْيَوْمَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُ! قَالَ: وَدَفَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي صَدْرِهِ وَوَقَعَ السّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ بِهِ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُك مِنّي الْيَوْمَ؟ قَالَ: لَا أَحَدَ. قَالَ: فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، وَاَللهِ، لَا أُكْثِرُ عَلَيْك جَمْعًا أَبَدًا! فَأَعْطَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، ثُمّ أَدْبَرَ، ثُمّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أَمَا وَاَللهِ لِأَنْتَ خَيْرٌ مِنّي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَحَقّ بِذَلِكَ مِنْك. فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالُوا: أَيْنَ مَا كُنْت تَقُولُ وَقَدْ أَمْكَنَك وَالسّيْفُ فِي يَدِك؟ قَالَ: وَاَللهِ، كَانَ ذَلِكَ وَلَكِنّي نَظَرْت إلَى رَجُلٍ أَبْيَضَ طَوِيلٍ، دَفَعَ فِي صَدْرِي فَوَقَعْت لِظَهْرِي، فعرفت أنه ملك وشهدت
غزوة بنى سليم ببحران [ (2) ] بناحية الفرع
أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، وَاَللهِ لَا أُكْثِرُ عَلَيْهِ! وَجَعَلَ يَدْعُو قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [ (1) ] الْآيَةَ. وَكَانَتْ غَيْبَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَاسْتَخْلَفَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ بِبُحْرَانَ [ (2) ] بِنَاحِيَةِ الْفُرْعِ لِلَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى [ (3) ] ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، غَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرًا. حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: لَمّا بَلَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من بنى سليم كثيرا [ (4) ] ببحران، تَهَيّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ وَلَمْ يُظْهِرْ وَجْهًا، فَخَرَجَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَغَذّوا [ (5) ] السّيْرَ حَتّى إذَا كَانُوا دُونَ بُحْرَانَ بِلَيْلَةٍ، لَقِيَ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَاسْتَخْبَرُوهُ عَنْ الْقَوْمِ وَعَنْ جَمْعِهِمْ. فَأَخْبَرَهُ أَنّهُمْ قَدْ افْتَرَقُوا أَمْسِ وَرَجَعُوا إلَى مَائِهِمْ [ (6) ] ، فَأَمَرَ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحُبِسَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ، ثُمّ سَارَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى ورد بحران، وليس به أحد، وأقام
شأن سرية القردة [ (1) ]
أَيّامًا ثُمّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرّجُلَ. وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَشْرَ لَيَالٍ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نُوحٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ. شَأْنُ سَرِيّةِ الْقَرَدَةِ [ (1) ] فِيهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَهِيَ أَوّلُ سَرِيّةٍ خَرَجَ فِيهَا زَيْدٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَمِيرًا، وَخَرَجَ لِهِلَالِ جُمَادَى الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَهْلِهِ، قَالُوا: كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ حَذِرَتْ طَرِيقَ الشّامِ أَنْ يَسْلُكُوهَا، وَخَافُوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَكَانُوا قَوْمًا تُجّارًا، فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: إنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ قَدْ عَوّرُوا عَلَيْنَا مَتْجَرَنَا، فَمَا نَدْرِي كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَصْحَابِهِ، لَا يَبْرَحُونَ السّاحِلَ، وَأَهْلُ السّاحِلِ قَدْ وَادَعَهُمْ وَدَخَلَ عَامّتُهُمْ مَعَهُ، فَمَا نَدْرِي أَيْنَ نَسْلُك، وَإِنْ أَقَمْنَا نَأْكُلُ رُءُوسَ أَمْوَالِنَا وَنَحْنُ فِي دَارِنَا هَذِهِ، مَا لَنَا بِهَا نِفَاقٌ [ (2) ] ، إنّمَا نَزَلْنَاهَا عَلَى التّجَارَةِ، إلَى الشّامِ فِي الصّيْفِ وَفِي الشّتَاءِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ. قَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ: فَنَكّبْ [ (3) ] عَنْ السّاحِلِ، وَخُذْ طَرِيقَ الْعِرَاقِ. قَالَ صَفْوَانُ: لَسْت بِهَا عَارِفًا. قَالَ أَبُو زَمْعَةَ: فَأَنَا أَدُلّك عَلَى أَخْبَرِ [ (4) ] دَلِيلٍ بِهَا يَسْلُكُهَا وَهُوَ مُغْمَضُ الْعَيْنِ إنْ شَاءَ الله. قال:
مَنْ هُوَ؟ قَالَ: فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ الْعِجْلِيّ. قَدْ دَوّخَهَا وَسَلَكَهَا. قَالَ صَفْوَانُ: فَذَلِكَ وَاَللهِ! فَأَرْسَلَ إلَى فُرَاتٍ. فَجَاءَهُ فَقَالَ: إنّي أُرِيدُ الشّامَ وَقَدْ عَوّرَ عَلَيْنَا مُحَمّدٌ مَتْجَرَنَا لِأَنّ طَرِيقَ عِيرَاتِنَا عَلَيْهِ. فَأَرَدْت طَرِيقَ الْعِرَاقِ. قَالَ فُرَاتٌ: فَأَنَا أَسْلُكُ بِك فِي طَرِيقِ الْعِرَاقِ. ليس يطأها أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ- إنّمَا هِيَ أَرْضُ نَجْدٍ وَفَيَافٍ. قَالَ صَفْوَانُ: فَهَذِهِ حَاجَتِي، أَمّا الْفَيَافِي فَنَحْنُ شَاتُونَ وَحَاجَتُنَا إلَى الْمَاءِ الْيَوْمَ قَلِيلٌ. فَتَجَهّزَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ أَبُو زَمْعَةَ بِثَلَاثِمِائَةِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَنُقَرِ [ (1) ] فِضّةٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ بِبَضَائِعَ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ. وَخَرَجَ صَفْوَانُ بِمَالٍ كَثِيرٍ- نُقَرِ فِضّةٍ وَآنِيَةِ فِضّةٍ وَزْنِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَخَرَجُوا عَلَى ذَاتِ عِرْقٍ [ (2) ] . وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَنَزَلَ عَلَى كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فِي بَنِي النّضِيرِ فَشَرِبَ مَعَهُ، وَشَرِبَ مَعَهُ سَلِيطُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ أَسْلَمَ- وَلَمْ تُحَرّمْ الْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ- وَهُوَ يَأْتِي بَنِي النّضِيرِ وَيُصِيبُ مِنْ شَرَابِهِمْ. فَذَكَرَ نُعَيْمٌ خُرُوجَ صَفْوَانَ فِي عِيرِهِ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ، فَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حَارِثَةَ فِي مِائَةِ رَاكِبٍ، فَاعْتَرَضُوا لَهَا فَأَصَابُوا الْعِيرَ. وَأَفْلَتْ أَعْيَانُ الْقَوْمِ وَأَسَرُوا رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ، وَقَدِمُوا بِالْعِيرِ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَمّسَهَا، فَكَانَ الْخُمُسُ يَوْمَئِذٍ قِيمَةَ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَسَمَ مَا بَقِيَ عَلَى أَهْلِ السّرِيّةِ. وَكَانَ فِي الْأَسْرَى فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ، فَأُتِيَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ: أَسْلِمْ، إنْ تُسْلِمْ نَتْرُكْكَ مِنْ الْقَتْلِ، فَأَسْلَمَ فَتَرَكَهُ مِنْ القتل.
غزوة أحد
غَزْوَةُ أُحُدٍ يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. وَاسْتَخْلَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ، قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ، وَمُعَاذُ ابن مُحَمّدٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزّنَادِ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، فِي رِجَالٍ لَمْ أُسَمّ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وقد جمعت كلّ الذي دّثونى، قالوا: لمّا رجع من حضر بدرا من الْمُشْرِكِينَ إلَى مَكّةَ، وَالْعِيرُ الّتِي قَدِمَ بِهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ مِنْ الشّامِ مَوْقُوفَةٌ فِي دَارِ النّدْوَةِ- وَكَذَلِك كَانُوا يَصْنَعُونَ- فَلَمْ يُحَرّكْهَا أَبُو سُفْيَانَ وَلَمْ يُفَرّقْهَا لِغَيْبَةِ أَهْلِ العير، مشت أشراف قريش إلى أبو سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ: الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وعبد الله ابن أَبِي رَبِيعَةَ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَحُجَيْرُ بْنُ أَبِي إهَابٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا سُفْيَانَ، اُنْظُرْ هَذِهِ الْعِيرَ الّتِي قَدِمْت بِهَا فَاحْتَبَسْتهَا [ (1) ] ، فَقَدْ عَرَفْت أَنّهَا أَمْوَالُ أَهْلِ مَكّةَ وَلَطِيمَةُ قريش، وهم طيّبو الأنفس، يجهّزون بهذه
الْعِيرِ جَيْشًا [ (1) ] إلَى مُحَمّدٍ، وَقَدْ تَرَى مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِنَا، وَأَبْنَائِنَا، وَعَشَائِرِنَا. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَقَدْ طَابَتْ أَنْفُسُ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنَا أَوّلُ مَنْ أَجَابَ إلَى ذَلِكَ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَعِي، فَأَنَا وَاَللهِ الْمَوْتُورُ الثّائِرُ، قَدْ قُتِلَ ابْنِي حَنْظَلَةُ بِبَدْرٍ وَأَشْرَافُ قَوْمِي. فَلَمْ تَزَلْ الْعِيرُ مَوْقُوفَةً حَتّى تَجَهّزُوا لِلْخُرُوجِ إلَى أُحُدٍ، فَبَاعُوهَا وَصَارَتْ ذَهَبًا عَيْنًا، فَوُقِفَ عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ. وَيُقَالُ إنّمَا قَالُوا: يَا أَبَا سُفْيَانَ، بِعْ الْعِيرَ ثُمّ اعْزِلْ أَرْبَاحَهَا. وَكَانَتْ الْعِيرُ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَكَانَ الْمَالُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانُوا يَرْبَحُونَ فِي تِجَارَتِهِمْ. لِلدّينَارِ دِينَارًا، وَكَانَ مَتْجَرُهُمْ مِنْ الشّامِ غَزّةَ، لَا يَعْدُونَهَا إلَى غَيْرِهَا. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ حَبَسَ عِيرَ زُهْرَةَ لِأَنّهُمْ رَجَعُوا مِنْ طَرِيقِ بَدْرٍ، وَسَلّمَ مَا كَانَ لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَلِبَنِي أَبِيهِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، فَأَبَى مَخْرَمَةُ أَنْ يَقْبَلَ عِيرَهُ حَتّى يُسَلّمَ إلَى بَنِي زُهْرَةَ جَمِيعًا. وَتَكَلّمَ الْأَخْنَسُ فَقَالَ: مَا لِعِيرِ بَنِي زُهْرَةَ مِنْ بَيْنِ عِيرَاتِ قُرَيْشٍ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لِأَنّهُمْ رَجَعُوا عَنْ قُرَيْشٍ. قَالَ الْأَخْنَسُ: أَنْتَ أَرْسَلْت إلَى قُرَيْشٍ أَنْ ارْجِعُوا فَقَدْ أَحْرَزْنَا الْعِيرَ، لَا تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ شَيْءٍ، فَرَجَعْنَا. فَأَخَذَتْ زُهْرَةُ عِيرَهَا، وَأَخَذَ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ- أَهْلُ ضَعْفٍ، لَا عَشَائِرَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ- كُلّ مَا كَانَ لَهُمْ فِي الْعِيرِ. فَهَذَا يُبَيّنُ أَنّمَا أَخْرَجَ الْقَوْمُ أَرْبَاحَ الْعِيرِ. وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ (2) ] الْآيَةَ. فَلَمّا أَجْمَعُوا عَلَى الْمَسِيرِ قَالُوا: نَسِيرُ فِي الْعَرَبِ فَنَسْتَنْصِرُهُمْ فَإِنّ عَبْدَ مَنَاةَ غَيْرُ مُتَخَلّفِينَ عَنّا، هُمْ أَوْصَلُ العرب لأرحامنا، ومن اتّبعنا من الأحابيش [ (3) ] .
فَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا أَرْبَعَةً مِنْ قُرَيْشٍ يَسِيرُونَ فِي الْعَرَبِ يَدْعُونَهُمْ إلَى نَصْرِهِمْ، فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُبَيْرَةَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ، وَابْنَ الزّبَعْرَى، وَأَبَا عَزّةَ الْجُمَحِيّ، فَأَطَاعَ النّفَرُ وَأَبَى أَبُو عَزّةَ أَنْ يَسِيرَ، وَقَالَ: مَنّ عَلَيّ مُحَمّدٌ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يَمُنّ عَلَى غَيْرِي، وَحَلَفْت لَا أُظَاهِرُ عَلَيْهِ عَدُوّا أَبَدًا. فَمَشَى إلَيْهِ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فَقَالَ: اُخْرُجْ! فأبى فقال: عاهدت محمّدا يوم بدر لَا أُظَاهِرُ عَلَيْهِ عَدُوّا أَبَدًا، وَأَنَا أَفِي [ (1) ] لَهُ بِمَا عَاهَدْته عَلَيْهِ، مَنّ عَلَيّ وَلَمْ يَمُنّ عَلَى غَيْرِي حَتّى قَتَلَهُ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ الْفِدَاءَ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اُخْرُجْ مَعَنَا، فَإِنْ تُسْلِمْ أُعْطِك مِنْ الْمَالِ مَا شِئْت، وَإِنْ تُقْتَلْ كَانَ عِيَالُك مَعَ عِيَالِي. فَأَبَى أَبُو عَزّةَ حَتّى كَانَ الْغَدُ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ آيِسًا مِنْهُ، فَلَمّا كَانَ الْغَدُ جَاءَهُ صَفْوَانُ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ الْكَلَامَ الْأَوّلَ فَأَبَى، فَقَالَ جُبَيْرٌ: مَا كُنْت أَظُنّ أَنّي أَعِيشُ حَتّى يَمْشِي إلَيْك أَبُو وَهْبٍ فِي أَمْرٍ تَأْبَى عَلَيْهِ! فَأَحْفَظُهُ، فَقَالَ: فَأَنَا أَخْرُجُ! قَالَ: فَخَرَجَ فِي الْعَرَبِ يَجْمَعُهَا، وَهُوَ يَقُولُ: يَا [ (2) ] بَنِي عَبْدِ مناة الرّزّام [ (3) ] ... أَنْتُمْ حُمَاةٌ وَأَبُوكُمْ حَامْ لَا تُسْلِمُونِي لَا يَحِلّ إِسْلَامْ ... لَا تَعِدُونِي [ (4) ] نَصْرَكُمْ بَعْدَ الْعَامْ قَالَ: وَخَرَجَ مَعَهُ النّفَرُ فَأَلّبُوا الْعَرَبَ وَجَمَعُوهَا، وَبَلَغُوا ثَقِيفًا فَأَوْعَبُوا [ (5) ] . فَلَمّا أَجْمَعُوا الْمَسِيرَ وَتَأَلّبَ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَحَضَرُوا، اخْتَلَفَتْ قريش
فِي إخْرَاجِ الظّعُنِ [ (1) ] مَعَهُمْ. فَحَدّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى سَعْدٍ، عَنْ نِسْطَاسٍ، قَالَ: قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: اُخْرُجُوا بِالظّعُنِ، فَأَنَا أَوّلُ مَنْ فَعَلَ، فَإِنّهُ أَقْمَنُ أَنْ يُحْفِظْنَكُمْ وَيُذَكّرْنَكُمْ قَتْلَى بَدْرٍ، فَإِنّ الْعَهْدَ حَدِيثٌ وَنَحْنُ قَوْمٌ مُسْتَمِيتُونَ لَا نُرِيدُ أَنْ نَرْجِعَ إلَى دَارِنَا حَتّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا أَوْ نَمُوتَ دُونَهُ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ: أَنَا أَوّلُ مَنْ أَجَابَ إلَى مَا دَعَوْت إلَيْهِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَمَشَى فِي ذَلِكَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذَا لَيْسَ بِرَأْيٍ، أَنْ تُعَرّضُوا حُرَمَكُمْ عَدُوّكُمْ، وَلَا آمَنُ أَنْ تَكُونَ الدّائِرَةُ [ (2) ] لَهُمْ، فَتَفْتَضِحُوا فِي نِسَائِكُمْ. فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: لَا كَانَ غَيْرُ هَذَا أَبَدًا! فَجَاءَ نَوْفَلٌ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، فَصَاحَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ: إنّك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلَى نِسَائِك، نَعَمْ، نَخْرُجُ فَنَشْهَدُ الْقِتَالَ، فَقَدْ رُدّتْ الْقِيَانُ مِنْ الْجُحْفَةِ فِي سَفَرِهِمْ إلَى بَدْرٍ فَقُتِلَتْ الْأَحِبّةُ يَوْمَئِذٍ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَسْت أُخَالِفُ قُرَيْشًا، أَنَا رَجُلٌ مِنْهَا، مَا فَعَلَتْ فَعَلْت. فَخَرَجُوا بِالظّعُنِ. قَالُوا: فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِامْرَأَتَيْنِ- هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ، وَأُمَيْمَةَ [ (3) ] بِنْتِ سَعْدِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَشْيَمَ بْنِ كِنَانَةَ. وَخَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بِامْرَأَتَيْنِ، بَرْزَةَ بِنْتِ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ، وَهِيَ أُمّ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَفْوَانَ الْأَصْغَرِ. وَخَرَجَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ بِامْرَأَتِهِ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ، وَهِيَ مِنْ الْأَوْسِ، وَهِيَ أُمّ بَنِي طلحة، أمّ مسافع، والحارث، وكلاب، وجلاس،
بَنِي طَلْحَةَ. وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ بِامْرَأَتِهِ أُمّ جُهَيْمٍ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ بِامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِامْرَأَتِهِ هِنْدِ بِنْتِ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، وَهِيَ أُمّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَخَرَجَتْ خُنَاسُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ الْمُضَرّبِ مَعَ ابْنِهَا أَبِي عَزِيزِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيّ. وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بِامْرَأَتِهِ رَمْلَةَ بِنْتِ طَارِقِ بْنِ عَلْقَمَةَ. وَخَرَجَ كِنَانَةُ بن علىّ بن ربيعة ابن عَبْدِ الْعُزّى بِامْرَأَتِهِ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتِ طَارِقٍ. وَخَرَجَ سُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ بِامْرَأَتِهِ قَتِيلَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ هِلَالٍ. وَخَرَجَ النّعْمَانُ وَجَابِرٌ ابْنَا مَسْكِ الذّئْبِ بِأُمّهِمَا الدّغُنّيّةِ. وَخَرَجَ غُرَابُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ بِامْرَأَتِهِ عَمْرَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ، وَهِيَ الّتِي رَفَعَتْ لِوَاءَ قُرَيْشٍ حِينَ سَقَطَ. حَتّى تَرَاجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى لِوَائِهَا. قَالُوا: وَخَرَجَ سُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ بِعَشَرَةٍ مِنْ وَلَدِهِ، وَحَشَدَتْ بَنُو كِنَانَةَ. وَكَانَتْ الْأَلْوِيَةُ يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ مَكّةَ ثَلَاثَةَ أَلْوِيَةٍ عَقَدُوهَا فِي دَارِ النّدْوَةِ- لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ سُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ، وَلِوَاءٌ فِي الْأَحَابِيشِ [ (1) ] يَحْمِلُهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلِوَاءٌ يَحْمِلُهُ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ. وَيُقَالُ: خَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَلَفّهَا عَلَى لِوَاءٍ وَاحِدٍ يَحْمِلُهُ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهُوَ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ بِمَنْ ضَوَى [ (2) ] إلَيْهِمْ، وَكَانَ فِيهِمْ مِنْ ثَقِيفٍ مِائَةُ رَجُلٍ، وَخَرَجُوا بِعُدّةٍ وَسِلَاحٍ كَثِيرٍ، وَقَادُوا مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُمِائَةِ دَارِعٍ وَثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ. فَلَمّا أَجْمَعُوا الْمَسِيرَ كَتَبَ الْعَبّاسُ
ابن عَبْدِ الْمُطّلِبِ كِتَابًا وَخَتَمَهُ، وَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ ثَلَاثًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخْبِرَهُ أَنْ قُرَيْشًا قَدْ أَجْمَعَتْ الْمَسِيرَ [ (1) ] إلَيْك فَمَا كُنْت صَانِعًا إذَا حَلّوا بِك فَاصْنَعْهُ. وَقَدْ تَوَجّهُوا إلَيْك [ (2) ] ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَقَادُوا مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَفِيهِمْ سَبْعُمِائَةِ دَارِعٍ وَثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ، وَأَوْعَبُوا مِنْ السّلَاحِ. فَقَدِمَ الْغِفَارِيّ فَلَمْ يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وَوَجَدَهُ بِقُبَاءَ [ (3) ] ، فَخَرَجَ حَتّى يَجِدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَابِ مَسْجِدِ قُبَاءَ يَرْكَبُ حِمَارَهُ، فَدَفَعَ إلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَاسْتَكْتَمَ أُبَيّا مَا فِيهِ، فَدَخَلَ مَنْزِلَ سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ فَقَالَ: فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: لَا، فَتَكَلّمْ بِحَاجَتِك. فَأَخْبَرَهُ بِكِتَابِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ، وَقَدْ أَرْجَفَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَالْمُنَافِقُونَ، وَقَالُوا: مَا جَاءَ مُحَمّدًا شَيْءٌ يُحِبّهُ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَكْتَمَ سَعْدًا الْخَبَرَ. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ إليه فقال: مَا قَالَ لَك رَسُولُ اللهِ؟ فَقَالَ: مَا لَك وَلِذَلِكَ، لَا أُمّ لَك؟ قَالَتْ: قَدْ كُنْت أَسْمَعُ عَلَيْك. وَأَخْبَرَتْ سَعْدًا الْخَبَرَ، فَاسْتَرْجَعَ سَعْدٌ وَقَالَ: لَا أَرَاك تَسْتَمِعِينَ عَلَيْنَا وَأَنَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلّمْ بِحَاجَتِك! ثُمّ أَخَذَ يَجْمَعُ لَبّتَهَا [ (4) ] ، ثُمّ خَرَجَ يَعْدُو بِهَا حَتّى أَدْرَكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِسْرِ [ (5) ] وَقَدْ بَلَحَتْ [ (6) ] ، فقال: يا رسول
اللهِ، إنّ امْرَأَتِي سَأَلَتْنِي عَمّا قُلْت، فَكَتَمْتهَا فَقَالَتْ قَدْ سَمِعْت قَوْلَ رَسُولِ اللهِ! فَجَاءَتْ بِالْحَدِيثِ كُلّهِ، فَخَشِيت يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَتَظُنّ أَنّي أَفْشَيْت سِرّك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَلّ سَبِيلَهَا. وَشَاعَ الْخَبَرُ فِي النّاسِ بِمَسِيرِ قُرَيْشٍ، وَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ، سَارُوا مِنْ مَكّةَ أَرْبَعًا، فَوَافَوْا قُرَيْشًا وَقَدْ عَسْكَرُوا بِذِي طُوًى، فَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ، ثُمّ انْصَرَفُوا فَوَجَدُوا قُرَيْشًا بِبَطْنِ رَابِغٍ فَنَكّبُوا عَنْ قُرَيْشٍ- وَرَابِغٌ عَلَى لَيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي حَكِيمَةَ الْأَسْلَمِيّ، قَالَ: لَمّا أَصْبَحَ أَبُو سفيان بالأبواء أخبر أنّ عمرو ابن سَالِمٍ وَأَصْحَابَهُ رَاحُوا أَمْسِ مُمْسِينَ إلَى مَكّةَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَحْلِفُ بِاَللهِ أَنّهُمْ جَاءُوا مُحَمّدًا فَخَبّرُوهُ بِمَسِيرِنَا، وَحَذّرُوهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِعَدَدِنَا، فَهُمْ الْآنَ يَلْزَمُونَ صَيَاصِيَهُمْ، فَمَا أَرَانَا نُصِيبُ مِنْهُمْ شَيْئًا فِي وَجْهِنَا. فَقَالَ صَفْوَانُ: إنْ لَمْ يَصْحَرُوا [ (1) ] لَنَا عَمَدْنَا إلَى نَخْلِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَقَطَعْنَاهُ، فَتَرَكْنَاهُمْ وَلَا أَمْوَالَ لَهُمْ فَلَا يَجْتَبِرُونَهَا [ (2) ] أَبَدًا، وَإِنْ أَصْحَرُوا لَنَا فَعَدَدُنَا أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِهِمْ وَسِلَاحُنَا أَكْثَرُ مِنْ سِلَاحِهِمْ، وَلَنَا خَيْلٌ وَلَا خَيْلَ مَعَهُمْ، وَنَحْنُ نُقَاتِلُ عَلَى وِتْرٍ عِنْدَهُمْ وَلَا وِتْرَ لَهُمْ عِنْدَنَا. وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ قَدْ خَرَجَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ أَوْسِ [ (3) ] اللهِ حَتّى قَدِمَ بِهِمْ مَكّةَ حِينَ قَدِمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَأَقَامَ مَعَ قُرَيْشٍ وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ فَقَالَ لَهُمْ: إنّ مُحَمّدًا ظَاهِرٌ فَاخْرُجُوا بِنَا إلى قوم نوازرهم.
فَخَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ يُحَرّضُهَا وَيُعْلِمُهَا أَنّهَا عَلَى الْحَقّ، وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ بَاطِلٌ، فَسَارَتْ قُرَيْشٌ إلَى بَدْرٍ وَلَمْ يَسِرْ مَعَهَا، فَلَمّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إلَى أُحُدٍ سَارَ مَعَهَا، وَكَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: إنّي لَوْ قَدِمْت عَلَى قَوْمِي لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، وَهَؤُلَاءِ مَعِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي وَهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا. فَصَدّقُوهُ بِمَا قَالَ وَطَمِعُوا بِنَصْرِهِ. وَخَرَجَ النّسَاءُ مَعَهُنّ الدّفوف، يحرّضن الرجال ويذكّرنهم قتلى بدر فى كُلّ مَنْزِلٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ يَنْزِلُونَ كُلّ مَنْهَلٍ، يَنْحَرُونَ مَا نَحَرُوا مِنْ الْجُزُرِ مِمّا كَانُوا جَمَعُوا [ (1) ] مِنْ الْعِيرِ وَيَتَقَوّوْنَ بِهِ فِي مَسِيرِهِمْ، وَيَأْكُلُونَ مِنْ أَزْوَادِهِمْ مِمّا جَمَعُوا مِنْ الْأَمْوَالِ. وكانت قريش لَمّا مَرّتْ بِالْأَبْوَاءِ قَالَتْ: إنّكُمْ قَدْ خَرَجْتُمْ بِالظّعُنِ مَعَكُمْ، وَنَحْنُ نَخَافُ عَلَى نِسَائِنَا. فَتَعَالَوْا نَنْبُشُ قَبْرَ أُمّ مُحَمّدٍ، فَإِنّ النّسَاءَ عَوْرَةٌ، فَإِنْ يُصِبْ مِنْ نِسَائِكُمْ أَحَدًا قُلْتُمْ هَذِهِ رِمّةُ أُمّك، فَإِنْ كَانَ بَرّا بِأُمّهِ كَمَا يَزْعُمُ، فَلَعَمْرِي لَيُفَادِيَنّكُمْ بِرِمّةِ أُمّهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِأَحَدٍ مِنْ نِسَائِكُمْ، فَلَعَمْرِي لَيَفْدِيَن رِمّةَ أُمّهِ بِمَالٍ كَثِيرٍ إنْ كَانَ بِهَا بَرّا. وَاسْتَشَارَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَهْلَ الرّأْيِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لَا تَذْكُرْ مِنْ هَذَا شَيْئًا، فَلَوْ فَعَلْنَا نَبَشَتْ بَنُو بَكْرٍ وَخُزَاعَةُ مَوْتَانَا. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، صَبِيحَةَ عَشْرٍ مِنْ مَخْرَجِهِمْ مِنْ مَكّةَ، لِخَمْسِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَمَعَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ وَمِائَتَا فَرَسٍ. فَلَمّا أَصْبَحُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ خَرَجَ فُرْسَانٌ فَأَنْزَلَهُمْ [ (2) ] بِالْوِطَاءِ. وَبَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنَيْنِ لَهُ، أَنَسًا وَمُؤْنِسًا ابْنَيْ فَضَالَةَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، فَاعْتَرَضَا لِقُرَيْشٍ بِالْعَقِيقِ، فسارا معهم حتى نزلوا
بِالْوِطَاءِ. فَأَتَيَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ ازْدَرَعُوا الْعِرْضَ- وَالْعِرْضُ مَا بَيْنَ الْوِطَاءِ بِأُحُدٍ إلَى الْجُرُفِ، إلَى الْعَرْصَةِ، عَرْصَةِ الْبَقْلِ الْيَوْمَ- وَكَانَ أَهْلُهُ بَنُو سَلَمَةَ، وَحَارِثَةَ، وَظَفَرٍ، وَعَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَكَانَ الْمَاءُ يَوْمَئِذٍ بِالْجُرُفِ أَنْشَاطًا [ (1) ] ، لَا يَرِيمُ سَائِقُ النّاضِحِ [ (2) ] مَجْلِسًا وَاحِدًا، يَنْفَتِلُ [ (3) ] الْجَمَلُ فِي سَاعَةٍ [ (4) ] ، حتى ذهب بِمِيَاهِهِ عُيُونُ الْغَابَةِ الّتِي حَفَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. فَكَانُوا قَدْ أَدْخَلُوا آلَةَ زَرْعِهِمْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الْمَدِينَةَ فَقَدِمَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى زَرْعِهِمْ وَخَلّوْا فِيهِ إبِلَهُمْ وَخُيُولَهُمْ- وَقَدْ شَرِبَ الزّرْعُ فِي الدّقِيقِ [ (5) ] ، وَكَانَ لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ فِي الْعِرْضِ عِشْرُونَ نَاضِحًا يَسْقِي شَعِيرًا- وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ حَذِرُوا عَلَى جِمَالِهِمْ وَعُمّالِهِمْ وَآلَةِ حَرْثِهِمْ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرْعَوْنَ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَتّى أَمْسَوْا، فَلَمّا أَمْسَوْا جَمَعُوا الْإِبِلَ وَقَصَلُوا [ (6) ] عَلَيْهَا الْقَصِيلَ، وَقَصَلُوا عَلَى خُيُولِهِمْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَمّا أَصْبَحُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَلّوْا ظَهْرَهُمْ فِي الزّرْعِ وَخَيْلَهُمْ حَتّى تَرَكُوا الْعِرْضَ لَيْسَ بِهِ خَضْرَاءُ. فَلَمّا نَزَلُوا وَحَلّوا الْعَقْدَ وَاطْمَأَنّوا، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ إلَى الْقَوْمِ، فَدَخَلَ فِيهِمْ وَحَزَرَ ونظر إلى جمع مَا يُرِيدُ، وَبَعَثَهُ سِرّا وَقَالَ لِلْحُبَابِ: لَا تخبرني بين أحد من المسلمين
إلّا أَنْ تَرَى قِلّةً [ (1) ] . فَرَجَعَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ خَالِيًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأَيْت؟ قَالَ: رَأَيْت يَا رَسُولَ اللهِ عَدَدًا، حَزْرَتُهُمْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ قَلِيلًا، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَرَأَيْت دُرُوعًا ظَاهِرَةً، حَزَرْتهَا سَبْعمِائَةٍ دِرْعٍ. قَالَ: هَلْ رَأَيْت ظُعُنًا؟ قَالَ: رَأَيْت النّسَاءَ مَعَهُنّ الدّفَافُ وَالْأَكْبَارُ- الْأَكْبَارُ يَعْنِي الطّبُولَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَدْنَ أَنْ يُحَرّضْنَ الْقَوْمَ وَيُذَكّرْنَهُمْ قَتْلَى بَدْرٍ، هَكَذَا جَاءَنِي خَبَرُهُمْ، لَا تَذْكُرْ مِنْ شَأْنِهِمْ حَرْفًا، حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، اللهُمّ بِك أَجُولُ وَبِك أَصُولُ. وَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتّى إذَا كَانَ بِأَدْنَى الْعِرْضِ إذَا طَلِيعَةُ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ عَشْرَةُ أَفْرَاسٍ، فَرَكَضُوا فِي أَثَرِهِ فَوَقَفَ لَهُمْ عَلَى نَشَزٍ مِنْ الْحَرّةِ، فَرَاشَقَهُمْ بِالنّبْلِ مَرّةً وَبِالْحِجَارَةِ مَرّةً حَتّى انْكَشَفُوا عَنْهُ. فَلَمّا وَلّوْا جَاءَ إلَى مَزْرَعَتِهِ بِأَدْنَى الْعِرْضِ، فَاسْتَخْرَجَ سَيْفًا كَانَ لَهُ وَدِرْعَ حَدِيدٍ كَانَا دُفِنَا فِي نَاحِيَةِ الْمَزْرَعَةِ، فَخَرَجَ بِهِمَا يَعْدُو حَتّى أَتَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَخَبّرَ قَوْمَهُ بِمَا لَقِيَ مِنْهُمْ. وَكَانَ مَقْدَمُهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ، وَكَانَتْ الْوَقْعَةُ يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ. وَبَاتَتْ وُجُوهُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ: سَعْدُ بْنُ معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، فِي عِدّةٍ، لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، عَلَيْهِمْ السّلَاحُ، فِي الْمَسْجِدِ بِبَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفًا مِنْ بَيَاتِ [ (2) ] الْمُشْرِكِينَ، وَحَرَسَتْ الْمَدِينَةَ تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتّى أَصْبَحُوا. وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع المسلمون خطب [ (3) ] .
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمر بن قتادة، عن محمود ابن لَبِيدٍ، قَالَ: ظَهَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّي رَأَيْت فِي مَنَامِي رُؤْيَا، رَأَيْت كَأَنّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، وَرَأَيْت كَأَنّ سَيْفِي ذَا الْفَقَارِ انْقَصَمَ [ (1) ] مِنْ عِنْدِ ظُبَتِهِ [ (2) ] ، وَرَأَيْت بَقَرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْت كَأَنّي مُرْدِفٌ كَبْشًا. فَقَالَ النّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا أَوّلْتهَا؟ قَالَ: أَمّا الدّرْعُ الْحَصِينَةُ فَالْمَدِينَةُ، فَامْكُثُوا فِيهَا، وَأَمّا انْقِصَامُ [ (3) ] سَيْفِي مِنْ عِنْدِ ظُبَتِهِ فَمُصِيبَةٌ فِي نَفْسِي، وَأَمّا الْبَقَرُ الْمُذَبّحُ. فَقَتْلَى فِي أَصْحَابِي، وَأَمّا مُرْدِفٌ كَبْشًا، فَكَبْشُ الْكَتِيبَةِ نَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللهُ وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَمّا انْقِصَامُ [ (3) ] سَيْفِي، فَقَتْلُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عن الزّهرىّ، عن عروة، عن المسور ابن مَخْرَمَةَ، قَالَ: قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَرَأَيْت فِي سَيْفِي فَلّا فَكَرِهْته، فَهُوَ الّذِي أَصَابَ وَجْهَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيّ! وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلّا يَخْرُجَ مِنْ الْمَدِينَةِ لِهَذِهِ الرّؤْيَا، فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ أَنْ يُوَافَقَ عَلَى مِثْلِ مَا رَأَى وَعَلَى [ (4) ] مَا عَبّرَ عَلَيْهِ الرّؤْيَا. فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنّا نقاتل فى الجاهليّة فيها، ونجعل
النّسَاءَ وَالذّرَارِيّ فِي هَذِهِ الصّيَاصِي، وَنَجْعَلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ. وَاَللهِ، لَرُبّمَا مَكَثَ الْوِلْدَانُ شَهْرًا يَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ إعْدَادًا لِعَدُوّنَا، وَنَشْبِكُ الْمَدِينَةَ بِالْبُنْيَانِ فَتَكُونُ كَالْحِصْنِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَتَرْمِي الْمَرْأَةُ وَالصّبِيّ مِنْ فَوْقِ الصّيَاصِي وَالْآطَامِ، وَنُقَاتِلُ بِأَسْيَافِنَا فِي السّكَكِ. يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ مَدِينَتَنَا عَذْرَاءُ مَا فُضّتْ عَلَيْنَا قَطّ، وَمَا خَرَجْنَا إلَى عَدُوّ قَطّ إلّا أَصَابَ مِنّا، وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا قَطّ إلّا أَصَبْنَاهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنّهُمْ إنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرّ مَحْبِسٍ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ مَغْلُوبِينَ [ (1) ] ، لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا. يَا رَسُولَ اللهِ، أَطِعْنِي فِي هَذَا الْأَمْرِ وَاعْلَمْ أَنّي وَرِثْت هَذَا الرّأْيَ مِنْ أَكَابِرِ قَوْمِي وَأَهْلِ الرّأْيِ مِنْهُمْ، فَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَالتّجْرِبَةِ. وَكَانَ رَأْيُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ رَأْيِ ابْنِ أُبَيّ، وَكَانَ ذَلِكَ رَأْيَ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: امكثوا فِي الْمَدِينَةِ، وَاجْعَلُوا النّسَاءَ وَالذّرَارِيّ فِي الْآطَامِ، فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِي الْأَزِقّةِ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُمْ، وَارْمُوا مِنْ فَوْقِ الصّيَاصِي وَالْآطَامِ. فَكَانُوا قَدْ شَبّكُوا الْمَدِينَةَ بِالْبُنْيَانِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ فَهِيَ كَالْحِصْنِ. فَقَالَ فِتْيَانٌ أَحْدَاثٌ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، وَطَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوجَ إلَى عَدُوّهِمْ، وَرَغِبُوا فِي الشّهَادَةِ، وَأَحَبّوا لِقَاءَ الْعَدُوّ: اُخْرُجْ بِنَا إلَى عَدُوّنَا! وَقَالَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ السّنّ وَأَهْلِ النّيّةِ [ (2) ] ، مِنْهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالنّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فِي غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ: إنّا نَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَظُنّ عَدُوّنَا أَنّا كَرِهْنَا الْخُرُوجَ إلَيْهِمْ جُبْنًا عَنْ لِقَائِهِمْ، فَيَكُونُ هَذَا جُرْأَةً [ (3) ] مِنْهُمْ عَلَيْنَا، وَقَدْ كنت يوم بدر فى ثلاثمائة
رَجُلٍ فَظَفّرَك اللهُ عَلَيْهِمْ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ بَشَرٌ كثير، وقد كُنّا نَتَمَنّى هَذَا الْيَوْمَ وَنَدْعُو اللهَ بِهِ، فَقَدْ سَاقَهُ اللهُ إلَيْنَا فِي سَاحَتِنَا. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَرَى مِنْ إلْحَاحِهِمْ كَارِهٌ، وَقَدْ لَبِسُوا السّلَاحَ يَخْطِرُونَ بِسُيُوفِهِمْ، يَتَسَامَوْنَ [ (1) ] كَأَنّهُمْ الْفُحُولُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ أَبُو أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: يَا رَسُولَ الله، نحن والله بين إحدى الحسنين- إمّا يُظَفّرُنَا اللهُ بِهِمْ فَهَذَا الّذِي نُرِيدُ، فَيُذِلّهُمْ اللهُ لَنَا فَتَكُونُ هَذِهِ وَقْعَةً مَعَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَلَا يَبْقَى [ (2) ] مِنْهُمْ إلّا الشّرِيدُ، وَالْأُخْرَى يَا رَسُولَ اللهِ، يَرْزُقُنَا اللهُ الشّهَادَةَ، وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أُبَالِي [ (3) ] أَيّهُمَا كَانَ، إنّ كُلّا لَفِيهِ الْخَيْرُ! فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ إلَيْهِ قَوْلًا، وَسَكَتَ. فَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَاَلّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ، لَا أَطْعَمُ الْيَوْمَ طَعَامًا حَتّى أُجَالِدَهُمْ بِسَيْفِي خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ يُقَالُ كَانَ حَمْزَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَائِمًا، وَيَوْمَ السّبْتِ صَائِمًا، فَلَاقَاهُمْ وَهُوَ صَائِمٌ. قَالُوا: وَقَالَ النّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَالِمٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا أَشْهَدُ أَنّ الْبَقَرَ الْمُذَبّحَ قَتْلَى مِنْ أَصْحَابِك وَأَنّي مِنْهُمْ، فَلِمَ تَحْرِمُنَا الجنّة؟ فو الذي لَا إلَهَ إلّا هُوَ لَأَدْخُلَنهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ؟ قَالَ: إنّي أُحِبّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا أَفِرّ يَوْمَ الزّحْفِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْت! فَاسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذ. وَقَالَ إيَاسُ [ (4) ] بْنُ أوس ابن عَتِيكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَحْنُ بَنُو عَبْدِ الأشهل من البقر المذبّح، نرجو
يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ نُذَبّحَ فِي الْقَوْمِ وَيُذَبّحَ فِينَا، فَنَصِيرُ إلَى الْجَنّةِ وَيَصِيرُونَ إلَى النّارِ، مَعَ أَنّي يَا رَسُولَ اللهِ لَا أُحِبّ أَنْ تَرْجِعَ قُرَيْشٌ إلَى قَوْمِهَا فَيَقُولُونَ: حَصَرْنَا مُحَمّدًا فِي صَيَاصِي يَثْرِبَ وَآطَامِهَا! فَيَكُونُ هَذَا جُرْأَةً [ (1) ] لِقُرَيْشٍ، وَقَدْ وَطِئُوا سَعَفَنَا فَإِذَا لَمْ نَذُبّ عَنْ عِرْضِنَا لَمْ نَزْرَعْ [ (2) ] ، وَقَدْ كُنّا يَا رَسُولَ اللهِ فِي جَاهِلِيّتِنَا وَالْعَرَبُ يَأْتُونَنَا، وَلَا يَطْمَعُونَ بِهَذَا مِنّا حَتّى نَخْرُجَ إلَيْهِمْ بِأَسْيَافِنَا حَتّى نَذُبّهُمْ عَنّا، فَنَحْنُ الْيَوْمَ أَحَقّ إذْ أَيّدَنَا [ (3) ] اللهُ بِك، وَعَرَفْنَا مَصِيرَنَا، لَا نَحْصُرُ أَنْفُسَنَا فِي بُيُوتِنَا. وَقَامَ خَيْثَمَةُ أَبُو سَعْدِ بْنُ خَيْثَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ قُرَيْشًا مَكَثَتْ حَوْلًا تَجْمَعُ الْجُمُوعَ وَتَسْتَجْلِبُ الْعَرَبَ فِي بَوَادِيهَا وَمَنْ تَبِعَهَا مِنْ أَحَابِيشِهَا، ثُمّ جَاءُونَا قَدْ قَادُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا [ (4) ] الْإِبِلَ حَتّى نَزَلُوا بِسَاحَتِنَا فَيَحْصُرُونَنَا فِي بُيُوتِنَا وَصَيَاصِيِنَا، ثُمّ يَرْجِعُونَ وَافِرِينَ لَمْ يُكْلَمُوا، فَيُجَرّئُهُمْ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَتّى يَشُنّوا الْغَارَاتِ عَلَيْنَا، وَيُصِيبُوا أَطْرَافَنَا [ (5) ] ، وَيَضَعُوا الْعُيُونَ وَالْأَرْصَادَ عَلَيْنَا، مَعَ مَا قَدْ صَنَعُوا بِحُرُوثِنَا، وَيَجْتَرِئُ عَلَيْنَا الْعَرَبُ حَوْلَنَا حَتّى يَطْمَعُوا فِينَا إذَا رَأَوْنَا لَمْ نَخْرُجْ إلَيْهِمْ، فَنَذُبّهُمْ عَنْ جِوَارِنَا [ (6) ] وَعَسَى اللهُ أَنْ يُظَفّرَنَا بِهِمْ فَتِلْكَ عَادَةُ اللهِ عِنْدَنَا، أَوْ تَكُونَ الْأُخْرَى فَهِيَ الشّهَادَةُ. لَقَدْ أَخْطَأَتْنِي وَقْعَةُ بَدْرٍ وَقَدْ كُنْت عَلَيْهَا حَرِيصًا، لَقَدْ بَلَغَ مِنْ حِرْصِي أَنْ سَاهَمْت ابْنِي فِي الْخُرُوجِ فَخَرَجَ سَهْمُهُ فَرُزِقَ الشّهَادَةَ، وَقَدْ كُنْت حَرِيصًا عَلَى الشّهَادَةِ. وَقَدْ رَأَيْت ابْنِي الْبَارِحَةَ فِي النّوْمِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، يَسْرَحُ فِي ثِمَارِ الْجَنّةِ وَأَنْهَارِهَا وَهُوَ يَقُولُ: الْحَقْ بِنَا تُرَافِقْنَا فى الجنّة،
فَقَدْ وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا! وَقَدْ وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَصْبَحْت مُشْتَاقًا إلَى مُرَافَقَتِهِ فِي الْجَنّةِ، وَقَدْ كَبِرَتْ سِنّي، وَرَقّ [ (1) ] عَظْمِي، وَأَحْبَبْت لِقَاءَ رَبّي، فَادْعُ اللهَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَرْزُقَنِي الشّهَادَةَ وَمُرَافَقَةَ سَعْدٍ فِي الْجَنّةِ. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيدًا. وَقَالُوا: قَالَ أَنَسُ بْنُ قَتَادَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هِيَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إمّا الشّهَادَةُ وَإِمّا الْغَنِيمَةُ وَالظّفْرُ فِي قَتْلِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْهَزِيمَةَ. قَالُوا: فَلَمّا أَبَوْا إلّا الْخُرُوجَ [ (2) ] صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ بِالنّاسِ، ثُمّ وَعَظَ النّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدّ وَالْجِهَادِ [ (3) ] ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ لَهُمْ النّصْرَ مَا صَبَرُوا. فَفَرِحَ النّاسُ بِذَلِكَ حَيْثُ أَعْلَمَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشّخُوصِ إلَى عَدُوّهِمْ، وَكَرِهَ ذَلِكَ الْمَخْرَجَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتّهَيّؤِ لِعَدُوّهِمْ. ثُمّ صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ بِالنّاسِ، وَقَدْ حَشَدَ النّاسُ وَحَضَرَ أَهْلُ الْعَوَالِي، وَرَفَعُوا النّسَاءَ فِي الْآطَامِ، فَحَضَرَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَلِفّهَا وَالنّبِيتُ [وَلِفّهَا] [ (4) ] وَتَلَبّسُوا السّلَاحَ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ، وَدَخَلَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَعَمّمَاهُ وَلَبِسَاهُ، وَصَفّ النّاسُ لَهُ مَا بَيْنَ حُجْرَتِهِ إلَى مِنْبَرِهِ، يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ، فَجَاءَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَا: قُلْتُمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قُلْتُمْ، وَاسْتَكْرَهْتُمُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ، وَالْأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ السّمَاءِ، فردّوا الأمر إليه، فما أمركم
فافعلوه وَمَا رَأَيْتُمْ لَهُ فِيهِ هَوًى أَوْ رَأْيٌ فَأَطِيعُوهُ. فَبَيْنَا الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَقُولُ: الْقَوْلُ مَا قَالَ سَعْدٌ! وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْبَصِيرَةِ عَلَى الشّخُوصِ، وَبَعْضُهُمْ لِلْخُرُوجِ كَارِهٌ، إذْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ لَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَقَدْ لَبِسَ الدّرْعَ فَأَظْهَرَهَا، وَحَزَمَ وَسَطَهَا بِمِنْطَقَةٍ مِنْ حَمَائِلِ سَيْفٍ مِنْ أَدَمٍ، كَانَتْ عِنْدَ آلِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ، وَاعْتَمّ، وَتَقَلّدَ السّيْفَ. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدِمُوا جَمِيعًا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَقَالَ الّذِينَ يُلِحّونَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُلِحّ عَلَى رَسُولِ اللهِ فِي أَمْرٍ يَهْوَى خِلَافَهُ. وَنَدّمَهُمْ أَهْلُ الرّأْيِ الّذِينَ كَانُوا يُشِيرُونَ بِالْمُقَامِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَك فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك، [وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَسْتَكْرِهَك وَالْأَمْرُ إلَى اللهِ ثُمّ إلَيْك] [ (1) ] . فَقَالَ: قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ، وَلَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. وَكَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ إذَا لَبِسَ النّبِيّ لَأْمَتَهُ لَمْ يَضَعْهَا حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُنْظُرُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَاتّبِعُوهُ، امْضُوا عَلَى اسْمِ اللهِ فَلَكُمْ النّصْرُ مَا صَبَرْتُمْ. حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو النّجّارِيّ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ ثُمّ خَرَجَ- وَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ- صَلّى عَلَيْهِ، ثُمّ دَعَا بِدَابّتِهِ فَرَكِبَ إلَى أُحُدٍ. حَدّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ لَهُ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ وَهُوَ مُوَجّهٌ إلَى أُحُدٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهُ قِيلَ لى إنك تقتل غدا! وهو يتنفّس
مَكْرُوبًا، فَضَرَبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: أَلَيْسَ الدّهْرُ كُلّهُ غَدًا؟ ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَةِ أَرْمَاحٍ، فَعَقَدَ ثَلَاثَةَ أَلْوِيَةٍ، فَدَفَعَ لِوَاءَ الْأَوْسِ إلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْخَزْرَجِ إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ- وَيُقَالُ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ- وَدَفَعَ لِوَاءَ الْمُهَاجِرِينَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَيُقَالُ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ. ثُمّ دَعَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرَسِهِ فَرَكِبَهُ، وَأَخَذَ [ (1) ] النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْسَ وَأَخَذَ قَنَاةً بِيَدِهِ- زُجّ الرّمْحِ يَوْمَئِذٍ مِنْ شَبَهٍ [ (2) ]- وَالْمُسْلِمُونَ مُتَلَبّسُونَ السّلَاحَ قَدْ أَظْهَرُوا الدّرُوعَ، فِيهِمْ مِائَةُ دَارِعٍ. فَلَمّا رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ السّعْدَانِ أَمَامَهُ يَعْدُوَانِ- سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ- كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارِعٌ، وَالنّاسُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتّى سَلَكَ عَلَى الْبَدَائِعِ [ (3) ] ، ثُمّ زُقَاقِ الْحِسْيِ [ (4) ] ، حَتّى أَتَى الشّيْخَيْنِ [ (5) ]- وَهُمَا أُطُمَانِ كَانَا فِي الْجَاهِلِيّةِ فِيهِمَا شَيْخٌ أَعْمَى وَعَجُوزٌ عَمْيَاءُ يَتَحَدّثَانِ، فَسُمّيَ الْأُطُمَانِ الشّيْخَيْنِ- حَتّى انْتَهَى إلَى رَأْسِ الثّنِيّةِ، الْتَفَتَ فَنَظَرَ إلَى كَتِيبَةٍ خَشْنَاءَ لَهَا زَجَلٌ [ (6) ] خَلْفَهُ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَؤُلَاءِ حُلَفَاءُ ابْنِ أُبَيّ مِنْ يَهُودَ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يستنصر [ (7) ] بأهل الشرك على
أَهْلِ الشّرْكِ. وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى أَتَى الشّيْخَيْنِ فَعَسْكَرَ بِهِ. وَعُرِضَ عَلَيْهِ غِلْمَانٌ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ ظُهَيْرٍ، وَعَرَابَةُ [ (1) ] بْنُ أَوْسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَرَدّهُمْ. قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَقَالَ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إنّهُ رَامٍ [ (2) ] ! وَجَعَلْت أَتَطَاوَلُ وَعَلَيّ خُفّانِ لِي، فَأَجَازَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا أَجَازَنِي قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لِرَبِيبِهِ مُرَيّ بْنِ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ، وَهُوَ زَوْجُ أُمّهِ: يا أبة، أَجَازَ رَسُولُ اللهِ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَرَدّنِي، وَأَنَا أَصْرَعُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ. فَقَالَ مُرَيّ بْنُ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ: يَا رَسُولَ اللهِ رَدَدْت ابْنِي وَأَجَزْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَابْنِي يَصْرَعُهُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تَصَارَعَا! فَصَرَعَ سَمُرَةُ رَافِعًا فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ أُمّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ. وَأَقْبَلَ ابْنُ أُبَيّ فَنَزَلَ نَاحِيَةً مِنْ الْعَسْكَرِ، فَجَعَلَ حُلَفَاؤُهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ لِابْنِ أُبَيّ: أَشَرْت عَلَيْهِ بِالرّأْيِ وَنَصَحْته وَأَخْبَرْته أَنّ هَذَا رَأْيُ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِك، وَكَانَ ذَلِكَ رَأْيَهُ مَعَ رأيك فأنى أَنْ يَقْبَلَهُ، وَأَطَاعَ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانَ الّذِينَ مَعَهُ! فَصَادَفُوا مِنْ ابْنِ أُبَيّ نِفَاقًا وَغِشّا. فَبَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشّيْخَيْنِ، وبات ابن أبىّ فى صحابه، وَفَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرْضِ أَصْحَابِهِ [ (3) ] . وَغَابَتْ الشّمْسُ فَأَذّنَ بَلَالٌ بِالْمَغْرِبِ، فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بأصحابه،
ثُمّ أَذّنَ بِالْعِشَاءِ فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلٌ فِي بَنِي النّجّارِ. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَرَسِ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا، يَطُوفُونَ بِالْعَسْكَرِ حَتّى أَدْلَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ رَأَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أدلج، ونزل بالشيخين، فجمعوا خَيْلَهُمْ وَظَهْرَهُمْ وَاسْتَعْمَلُوا عَلَى حَرَسِهِمْ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَبَاتَتْ صَاهِلَةُ خَيْلِهِمْ لَا تَهْدَأُ، وَتَدْنُو طَلَائِعُهُمْ حَتّى تُلْصَقَ بِالْحَرّةِ، فَلَا تُصَعّدُ فِيهَا حَتّى تَرْجِعَ خَيْلُهُمْ، وَيَهَابُونَ مَوْضِعَ الْحَرّةِ وَمُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ صَلّى الْعِشَاءَ: مَنْ يَحْفَظُنَا اللّيْلَةَ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ. قَالَ: اجْلِسْ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَحْفَظُنَا هَذِهِ اللّيْلَةَ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا أَبُو سَبُعٍ. قَالَ: اجْلِسْ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَحْفَظُنَا هَذِهِ اللّيْلَةَ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: ابْنَ عَبْدِ قَيْسٍ. قَالَ: اجْلِسْ. وَمَكَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثُمّ قَالَ: قُومُوا ثَلَاثَتَكُمْ. فَقَامَ ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ صَاحِبَاك؟ فَقَالَ ذَكْوَانُ: أَنَا الّذِي كُنْت أَجَبْتُك اللّيْلَةَ. قَالَ: فَاذْهَبْ، حَفِظَك اللهُ! قَالَ: فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَأَخَذَ دَرَقَتَهُ، وَكَانَ يَطُوفُ بِالْعَسْكَرِ تِلْكَ اللّيْلَةَ، وَيُقَالُ كَانَ يَحْرُسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُفَارِقْهُ. وَنَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى أَدْلَجَ، فَلَمّا كَانَ فِي السّحَرِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ الْأَدِلّاءُ؟ مَنْ رَجُلٌ يَدُلّنَا عَلَى الطّرِيقِ
وَيُخْرِجُنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ؟ فَقَامَ أَبُو حَثْمَةَ [ (1) ] الْحَارِثِيّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. وَيُقَالُ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ [ (2) ] ، وَيُقَالُ مُحَيّصَةُ- وَأَثْبَتُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَبُو حَثْمَةَ. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ، فَسَلَكَ بِهِ فِي بَنِي حَارِثَةَ، ثُمّ أَخَذَ فِي الْأَمْوَالِ حَتّى يَمُرّ بِحَائِطِ مِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيّ، وَكَانَ أَعْمَى الْبَصَرِ مُنَافِقًا، فَلَمّا دَخَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حَائِطَهُ قَامَ يَحْثِي التّرَابَ فِي وُجُوهِهِمْ وَجَعَلَ يَقُولُ: إنْ كُنْت رَسُولَ اللهِ، فَلَا تَدْخُلْ حَائِطِي. فَيَضْرِبُهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ بِقَوْسٍ فِي يَدِهِ، فَشَجّهُ فِي رَأْسِهِ فَنَزَلَ الدّمُ، فَغَضِبَ لَهُ بَعْضُ بَنِي حَارِثَةَ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ، فَقَالَ: هِيَ عَدَاوَتُكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، لَا تَدْعُونَهَا أَبَدًا لَنَا. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: لَا وَاَللهِ، وَلَكِنّهُ نِفَاقُكُمْ. وَاَللهِ، لَوْلَا أَنّي لَا أَدْرِي مَا يُوَافِقُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ لَضَرَبْت عُنُقَهُ وَعُنُقَ مَنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ! فَأُسْكِتُوا [ (3) ] . وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا هُوَ فِي مَسِيرِهِ إذْ ذَبّ فَرَسُ أَبِي بَرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ بِذَنَبِهِ، فَأَصَابَ كُلّابَ [ (4) ] سَيْفِهِ فَسَلّ سَيْفَهُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صَاحِبَ السّيْفِ، شِمْ سَيْفَك، فَإِنّي إخَال السّيُوفَ سَتُسَلّ فَيَكْثُرُ سَلّهَا! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطّيَرَةَ.
ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الشّيْخَيْنِ دِرْعًا وَاحِدَةً، حَتّى انْتَهَى إلَى أُحُدٍ، فَلَبِسَ دِرْعًا أُخْرَى، وَمِغْفَرًا وَبَيْضَةً فَوْقَ الْمِغْفَرِ. فَلَمّا نَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشّيْخَيْنِ زَحَفَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى تَعْبِيَةٍ [ (1) ] حَتّى انْتَهَوْا إلَى مَوْضِعِ أَرْضِ ابْنِ عَامِرٍ الْيَوْمَ. فَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ- إلَى مَوْضِعِ الْقَنْطَرَةِ الْيَوْمَ- جَاءَ وَقَدْ حَانَتْ الصّلَاةُ، وَهُوَ يَرَى الْمُشْرِكِينَ، أَمَرَ بَلَالًا فَأَذّنَ وَأَقَامَ وَصَلّى بِأَصْحَابِهِ الصّبْحَ صُفُوفًا، وَارْتَحَلَ [ (2) ] ابْنُ أُبَيّ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي كَتِيبَةٍ كَأَنّهُ هَيْقٌ [ (3) ] يَقْدُمُهُمْ، فَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ فَقَالَ: أُذَكّرُكُمْ اللهَ وَدِينَكُمْ وَنَبِيّكُمْ، وَمَا شَرَطْتُمْ لَهُ أَنْ تَمْنَعُوهُ مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ. فَقَالَ ابْنُ أُبَيّ: مَا أَرَى يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَلَئِنْ أَطَعْتنِي يَا أَبَا جابر لترجعنّ، فإنّ أهل الرأى والحجى قَدْ رَجَعُوا، وَنَحْنُ نَاصِرُوهُ فِي مَدِينَتِنَا، وَقَدْ خَالَفْنَا وَأَشَرْت عَلَيْهِ بِالرّأْيِ، فَأَبَى إلّا طَوَاعِيَةَ الْغِلْمَانِ. فَلَمّا أَبَى عَلَى عَبْدِ اللهِ أَنْ يَرْجِعَ وَدَخَلُوا أَزِقّةَ الْمَدِينَةِ، قَالَ لَهُمْ أَبُو جَابِرٍ: أَبْعَدَكُمْ اللهُ، إنّ اللهَ سَيُغْنِي النّبِيّ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ نَصْرِكُمْ! فَانْصَرَفَ ابْنُ أُبَيّ وَهُوَ يَقُولُ: أَيَعْصِينِي وَيُطِيعُ الْوِلْدَانَ؟ وَانْصَرَفَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَعْدُو حَتّى لَحِقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يُسَوّي الصّفُوفَ. فَلَمّا أُصِيبَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرّ ابْنُ أُبَيّ، وَأَظْهَرَ الشّمَاتَةَ وَقَالَ: عَصَانِي وَأَطَاعَ مَنْ لَا رَأْيَ لَهُ! وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُفّ أَصْحَابَهُ، وَجَعَلَ الرّمَاةَ خَمْسِينَ رَجُلًا عَلَى عَيْنَيْنِ، [ (4) ] عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وقيل عليهم سعد
ابن أَبِي وَقّاصٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالثّبْتُ عِنْدَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ. وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يصفّ أصحابه، فجعل أُحُدًا خَلْفَ ظَهْرِهِ وَاسْتَقْبَلَ الْمَدِينَةَ، وَجَعَلَ عَيْنَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ فَاسْتَدْبَرُوا الْمَدِينَةَ فِي الْوَادِي وَاسْتَقْبَلُوا أُحُدًا. وَيُقَالُ جَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنَيْنِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَاسْتَدْبَرَ الشّمْسَ وَاسْتَقْبَلَهَا الْمُشْرِكُونَ- وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، أَنّ أُحُدًا خَلْفَ ظَهْرِهِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْمَدِينَةَ. حدّثنى يعقوب بن محمّد بن الظّفَرِيّ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ بْنِ السّكَنِ [ (1) ] ، قَالَ: لَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ، وَالْقَوْمُ نُزُولٌ بِعَيْنَيْنِ، أَتَى أُحُدًا حَتّى جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ. قَالَ: وَنَهَى أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدٌ حَتّى يأمره، فلمّا سمع بذلك عمارة بن زياد بْنِ السّكَنِ قَالَ: أَتُرْعَى زُرُوعُ بَنِي قَيْلَةَ [ (2) ] ، وَلَمّا نُضَارِبْ؟ وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ، قَدْ صَفّوا صُفُوفَهُمْ وَاسْتَعْمَلُوا عَلَى الْمَيْمَنَةِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ. وَلَهُمْ مُجَنّبَتَانِ مِائَتَا فَرَسٍ، وَجَعَلُوا عَلَى الْخَيْلِ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ- وَيُقَالُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ- وَعَلَى الرّمَاةِ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانُوا مِائَةَ رَامٍ. وَدَفَعُوا اللّوَاءَ إلَى طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ- وَاسْمُ أَبِي طَلْحَةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ. وَصَاحَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: يَا بنى عبد الدار، نحن نعرف أنّكم
أَحَقّ بِاللّوَاءِ مِنّا! إنّا إنّمَا أَتَيْنَا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ اللّوَاءِ، وَإِنّمَا يُؤْتَى الْقَوْمُ مِنْ قِبَلِ لِوَائِهِمْ، فَالْزَمُوا لِوَاءَكُمْ وَحَافِظُوا عَلَيْهِ، وَخَلّوْا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنّا قَوْمٌ مُسْتَمِيتُونَ مَوْتُورُونَ، نَطْلُبُ ثَأْرًا حَدِيثَ الْعَهْدِ. وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ: إذَا زَالَتْ الْأَلْوِيَةُ فَمَا قِوَامُ النّاسِ وَبَقَاؤُهُمْ بَعْدَهَا! فَغَضِبَ بَنُو عَبْدِ الدّارِ وَقَالُوا: نَحْنُ نُسَلّمُ لِوَاءَنَا؟ لَا كَانَ هَذَا أَبَدًا، فَأَمّا الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ [ (1) ] ، فَسَتَرَى! ثُمّ أَسْنَدُوا الرّمَاحَ إلَيْهِ، وَأَحْدَقَتْ بَنُو عَبْدِ الدّارِ بِاللّوَاءِ، وَأَغْلَظُوا لِأَبِي سُفْيَانَ بَعْضَ الْإِغْلَاظِ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَنَجْعَلُ لِوَاءً آخَرَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَلَا يَحْمِلُهُ إلّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ، لَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ أَبَدًا! وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ يُسَوّي تِلْكَ الصّفُوفَ، وَيُبَوّئُ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ [ (2) ] يَقُولُ: تَقَدّمْ يَا فُلَانٌ! وَتَأَخّرْ يَا فُلَانٌ! حَتّى إنّهُ لَيَرَى مَنْكِبَ الرّجُلِ خَارِجًا فَيُؤَخّرُهُ، فَهُوَ يُقَوّمُهُمْ كَأَنّمَا يُقَوّمُ بِهِمْ الْقِدَاحَ، حَتّى إذَا اسْتَوَتْ الصّفُوفُ سَأَلَ: مَنْ يَحْمِلُ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ؟ قِيلَ: بَنُو عَبْدِ الدّارِ. قَالَ: نَحْنُ أَحَقّ بِالْوَفَاءِ مِنْهُمْ. أَيْنَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ؟ قَالَ: هَا أَنَا ذَا! قَالَ: خُذْ اللّوَاءَ. فَأَخَذَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَتَقَدّمَ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النّاسُ، أُوصِيكُمْ بِمَا أَوْصَانِي اللهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَالتّنَاهِي عَنْ مَحَارِمِهِ. ثُمّ إنّكُمْ الْيَوْمَ بِمَنْزِلِ أَجْرٍ وَذُخْرٍ لِمَنْ ذَكَرَ الّذِي عَلَيْهِ ثُمّ وَطّنَ نَفْسَهُ لَهُ عَلَى الصّبْرِ وَالْيَقِينِ وَالْجِدّ وَالنّشَاطِ، فَإِنّ جِهَادَ الْعَدُوّ شَدِيدٌ، شَدِيدٌ كَرْبُهُ [ (3) ] ،
قَلِيلٌ مَنْ يَصْبِرُ [ (1) ] عَلَيْهِ إلّا مَنْ عَزَمَ اللهُ رُشْدَهُ، فَإِنّ اللهَ مَعَ مَنْ أَطَاعَهُ، وَإِنّ الشّيْطَانَ مَعَ مَنْ عَصَاهُ، فَافْتَتِحُوا [ (2) ] أَعْمَالَكُمْ بِالصّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ، وَالْتَمِسُوا بِذَلِكَ مَا وَعَدَكُمْ اللهُ، وَعَلَيْكُمْ بِاَلّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ، فَإِنّي حَرِيصٌ عَلَى رُشْدِكُمْ، فَإِنّ الِاخْتِلَافَ وَالتّنَازُعَ وَالتّثْبِيطَ [ (3) ] مِنْ أَمْرِ الْعَجْزِ وَالضّعْفِ مِمّا لَا يُحِبّ اللهُ، وَلَا يُعْطِي عَلَيْهِ النّصْرَ وَلَا الظّفَرَ. يَا أَيّهَا النّاسُ، جُدّدَ فِي صَدْرِي [ (4) ] أَنّ مَنْ كَانَ عَلَى حَرَامٍ فَرّقَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَمَنْ [ (5) ] رَغِبَ لَهُ عَنْهُ غَفَرَ اللهُ ذَنْبَهُ، وَمَنْ صَلّى عَلَيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ عَشْرًا، وَمَنْ أَحْسَنَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُ أَوْ آجِلِ آخِرَتِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلّا صَبِيّا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مَرِيضًا أَوْ عَبْدًا مَمْلُوكًا، وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا اسْتَغْنَى اللهُ عَنْهُ، وَاَللهُ غَنِيّ حَمِيدٌ. مَا أَعْلَمُ مِنْ عَمَلٍ يُقَرّبُكُمْ إلَى اللهِ إلّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا أَعْلَمُ مِنْ عَمَلٍ يُقَرّبُكُمْ إلَى النّارِ إلّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ. وَإِنّهُ قَدْ نَفَثَ [ (6) ] فِي رُوعِي الرّوحُ الْأَمِينُ، أَنّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَوْفِيَ أَقْصَى رِزْقِهَا، لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا. فَاتّقُوا اللهَ رَبّكُمْ وَأَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الرّزْقِ، وَلَا يَحْمِلَنكُمْ اسْتِبْطَاؤُهُ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ رَبّكُمْ، فَإِنّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى مَا عِنْدَهُ إلّا بِطَاعَتِهِ. قَدْ بَيّنَ لَكُمْ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، غَيْرَ أَنّ بَيْنَهُمَا شَبَهًا مِنْ الْأَمْرِ لَمْ يَعْلَمْهَا كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ إلّا مَنْ عَصَمَ، فَمَنْ تَرَكَهَا حَفِظَ عِرْضَهُ وَدِينَهُ، وَمَنْ وَقَعَ فِيهَا كَانَ كَالرّاعِي إلى جنب الحمى أو شك أن يقع فيه. وليس ملك إلّا
وَلَهُ حِمًى، أَلَا وَإِنّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ. وَالْمُؤْمِنُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَالرّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ، إذَا اشْتَكَى تَدَاعَى عَلَيْهِ سَائِرُ الْجَسَدِ. وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ! حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: إنّ أَوّلَ مَنْ أَنْشَبَ الْحَرْبَ بَيْنَهُمْ أَبُو عَامِرٍ، طَلَعَ فِي خَمْسِينَ مِنْ قَوْمِهِ مَعَهُ عَبِيدُ قُرَيْشٍ، فَنَادَى أَبُو عَامِرٍ، وَهُوَ عَبْدُ عَمْرٍو: يَا آلَ [ (1) ] أَوْسٍ، أَنَا أَبُو عَامِرٍ! فَقَالُوا: لَا مَرْحَبًا بِك وَلَا أَهْلًا يَا فَاسِقُ! فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرّ! وَمَعَهُ عَبِيدُ أَهْلِ مَكّةَ، فَتَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ حَتّى تَرَاضَخُوا [ (2) ] بِهَا سَاعَةً، حَتّى وَلّى أَبُو عَامِرٍ وَأَصْحَابُهُ وَدَعَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ إلَى الْبِرَازِ. وَيُقَالُ: إنّ الْعَبِيدَ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَأَمَرُوهُمْ بِحِفْظِ عَسْكَرِهِمْ. قَالَ: وَجَعَلَ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِيَ الْجَمْعَانِ أَمَامَ صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ يَضْرِبْنَ بِالْأَكْبَارِ وَالدّفَافِ وَالْغَرَابِيلِ [ (3) ] ، ثُمّ يَرْجِعْنَ فَيَكُنّ فِي مُؤَخّرِ الصّفّ، حَتّى إذَا دَنَوْا مِنّا [ (4) ] تَأَخّرَ النّسَاءُ يَقُمْنَ خَلْفَ الصّفُوفِ، فَجَعَلْنَ كُلّمَا وَلّى رَجُلٌ حَرّضْنَهُ وَذَكّرْنَهُ قَتْلَاهُمْ بِبَدْرٍ. وَكَانَ قُزْمَانُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ قَدْ تَخَلّفَ عَنْ أُحُدٍ، فَلَمّا أَصْبَحَ عَيّرَهُ نِسَاءُ بَنِي ظَفَرٍ فَقُلْنَ: يَا قُزْمَانُ، قَدْ خَرَجَ الرّجَالُ وبقيت! يا قزمان، ألا تستحي مِمّا صَنَعْت؟ مَا أَنْتَ إلّا امْرَأَةٌ، خَرَجَ قَوْمُك فَبَقِيت فِي الدّارِ! فَأَحْفَظَنهُ، فَدَخَلَ بَيْتَهُ فَأَخْرَجَ قَوْسَهُ وَجَعْبَتَهُ وَسَيْفَهُ- وَكَانَ يُعْرَفُ بِالشّجَاعَةِ-
فَخَرَجَ يَعْدُو حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُسَوّي صُفُوفَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَاءَ مِنْ خَلْفِ الصّفُوفِ حَتّى انْتَهَى إلَى الصّفّ الْأَوّلِ فَكَانَ فِيهِ. وَكَانَ أَوّلَ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ نَبْلًا كَأَنّهَا الرّمَاحُ، وَإِنّهُ لَيَكِتّ [ (1) ] كَتِيتَ الْجَمَلِ. ثُمّ صَارَ إلَى السّيْفِ فَفَعَلَ الْأَفَاعِيلَ، حَتّى إذَا كَانَ آخِرَ ذَلِكَ قَتَلَ نَفْسَهُ. وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذَكَرَهُ قَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ. فَلَمّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ كَسَرَ جَفْنَ [ (2) ] سَيْفِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: الْمَوْتُ أَحْسَنُ مِنْ الْفِرَارِ! يَا آلَ أَوْسٍ، قَاتِلُوا عَلَى الْأَحْسَابِ وَاصْنَعُوا مِثْلَ مَا أَصْنَعُ! قَالَ: فَيَدْخُلُ بِالسّيْفِ وَسْطَ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُقَالَ قَدْ قُتِلَ، ثُمّ يَطْلُعُ وَيَقُولُ: أَنَا الْغُلَامُ الظّفَرِيّ! حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَةً، وَأَصَابَتْهُ الْجِرَاحَةُ وَكَثُرَتْ بِهِ فَوَقَعَ. فَمَرّ بِهِ قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ فَقَالَ: أَبَا الْغَيْدَاقُ! قَالَ لَهُ قُزْمَانُ: يَا لَبّيْكَ! قَالَ: هَنِيئًا لَك الشّهَادَةَ! قَالَ قُزْمَانُ: إنّي وَاَللهِ مَا قَاتَلْت يَا أَبَا عَمْرٍو عَلَى دِينٍ، مَا قَاتَلْت إلّا عَلَى الْحِفَاظِ أَنْ تَسِيرَ قُرَيْشٌ إلَيْنَا حَتّى تَطَأَ سَعَفَنَا. فذٍكر لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِرَاحَتُهُ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ. فَأَنْدَبَتْهُ [ (3) ] الْجِرَاحَةُ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ اللهَ يُؤَيّدُ هَذَا الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِرِ. قَالُوا: وَتَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الرّمَاةِ فَقَالَ: احْمُوا لَنَا ظُهُورَنَا، فَإِنّا نَخَافُ أَنْ نُؤْتَى مِنْ وَرَائِنَا، وَالْزَمُوا مَكَانَكُمْ لَا تَبْرَحُوا مِنْهُ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نَهْزِمُهُمْ، حَتّى نَدْخُلَ عَسْكَرَهُمْ، فَلَا تُفَارِقُوا مَكَانَكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تُعِينُونَا وَلَا تَدْفَعُوا عنّا، اللهمّ، إنّى أشهدك عليهم!
وَارْشُقُوا خَيْلَهُمْ بِالنّبْلِ، فَإِنّ الْخَيْلَ لَا تُقْدِمُ عَلَى النّبْلِ. وَكَانَ لِلْمُشْرِكِينَ مُجَنّبَتَانِ، مَيْمَنَةٌ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَمَيْسَرَةٌ عَلَيْهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. قَالُوا: وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ الْأَعْظَمَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْأَوْسِ إلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَلِوَاءَ الْخَزْرَجِ إلَى سَعْدٍ أَوْ حُبَابٍ. وَالرّمَاةُ يَحْمُونَ ظُهُورَهُمْ، يَرْشُقُونَ خَيْلَ الْمُشْرِكِينَ بِالنّبْلِ، فَتُوَلّي هَوَارِبَ [ (1) ] . قَالَ بَعْضُ الرّمَاةِ: لَقَدْ رَمَقْت نَبْلَنَا [ (2) ] ، مَا رَأَيْت سَهْمًا وَاحِدًا مِمّا نَرْمِي بِهِ خَيْلَهُمْ يَقَعُ بِالْأَرْضِ إلّا فِي فَرَسٍ أَوْ رَجُلٍ. قَالُوا: وَدَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدّمُوا صَاحِبَ لِوَائِهِمْ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ، وَصَفّوا صُفُوفَهُمْ، وَأَقَامُوا النّسَاءَ خَلْفَ الرّجَالِ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ يَضْرِبْنَ بِالْأَكْبَارِ وَالدّفُوفِ، وَهِنْدٌ وَصَوَاحِبُهَا يُحَرّضْنَ وَيَذْمُرْنَ [ (3) ] الرّجَالَ وَيُذَكّرْنَ مَنْ أُصِيبَ بِبَدْرٍ وَيَقُلْنَ: نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النّمَارِقْ إنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ ... أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ [ (4) ] وَصَاحَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَلْ لَك فِي الْبِرَازِ [ (5) ] ؟ قَالَ طَلْحَةُ: نَعَمْ. فَبَرَزَا بَيْنَ الصّفّيْنِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ تَحْتَ الرّايَةِ عَلَيْهِ دِرْعَانِ وَمِغْفَرٌ وبيضة، فالتقيا
فَبَدَرَهُ [ (1) ] عَلِيّ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَمَضَى السّيْفُ حَتّى فَلَقَ هَامَتَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى لِحْيَتِهِ [ (2) ] ، فَوَقَعَ طَلْحَةُ وَانْصَرَفَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ. فَقِيلَ لِعَلِيّ: أَلَا ذَفّفْتَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إنّهُ لَمّا صُرِعَ اسْتَقْبَلَتْنِي عَوْرَتُهُ فَعَطَفَنِي عَلَيْهِ الرّحِمُ [ (3) ] ، وَقَدْ عَلِمْت أَنّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيَقْتُلُهُ- هُوَ كَبْشُ الْكَتِيبَةِ. وَيُقَالُ حَمَلَ عَلَيْهِ طَلْحَةُ، فَاتّقَاهُ عَلِيّ بِالدّرَقَةِ فَلَمْ يَصْنَعْ سَيْفُهُ شَيْئًا. وَحَمَلَ عَلَيْهِ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَعَلَى طَلْحَةَ دِرْعٌ مُشَمّرَةٌ، فَضَرَبَ سَاقَيْهِ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، ثُمّ أَرَادَ أَنْ يُذَفّفَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ بِالرّحِمِ فَتَرَكَهُ عَلِيّ فَلَمْ يُذَفّفْ عَلَيْهِ، حَتّى مَرّ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فَذَفّفَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ إنّ عَلِيّا ذَفّفَ عَلَيْهِ. فَلَمّا قُتِلَ طَلْحَةُ سُرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَظْهَرَ التّكْبِيرَ، وَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ. ثُمّ شَدّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَتَائِبِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ حَتّى نُقِضَتْ [ (4) ] صُفُوفُهُمْ، وَمَا قُتِلَ إلّا طَلْحَةُ. ثُمّ حَمَلَ لِوَاءَهُمْ بَعْدَ طَلْحَةَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، أَبُو شَيْبَةَ، وَهُوَ أَمَامَ النّسْوَةِ، يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: إنّ عَلَى أَهْلِ [ (5) ] اللّوَاءِ حَقّا ... أَنْ تُخْضَبَ الصّعْدَةُ [ (6) ] أَوْ تَنْدَقّا فَتَقَدّمَ بِاللّوَاءِ، وَالنّسَاءُ يُحَرّضْنَ وَيَضْرِبْنَ بِالدّفُوفِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده
وَكَتِفَهُ، حَتّى انْتَهَى إلَى مُؤْتَزَرِهِ [ (1) ] حَتّى بَدَا سَحْرُهُ، ثُمّ رَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ سَاقِي الْحَجِيجَ! ثُمّ حَمَلَهُ [ (2) ] أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي [ (3) ] طَلْحَةَ، فَرَمَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فَأَصَابَ حَنْجَرَتَهُ، وَكَانَ دَارِعًا وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ لَا رَفْرَفَ [ (4) ] لَهُ، فَكَانَتْ حَنْجَرَتُهُ بَادِيَةً، فَأَدْلَعَ لِسَانَهُ إدْلَاعَ الْكَلْبِ. وَيُقَالُ: إنّ أَبَا سَعْدٍ لَمّا حَمَلَ اللّوَاءَ قَامَ النّسَاءُ خَلْفَهُ يَقُلْنَ: ضَرْبًا بَنِي عَبْدِ الدّارْ ... ضَرْبًا حُمَاةَ الْأَدْبَارْ ضَرْبًا بِكُلّ بَتّارْ [ (5) ] فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ: فَأَضْرِبُهُ فَأَقْطَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى، فَأَخَذَ اللّوَاءَ بِالْيُسْرَى، فَأَحْمِلُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى فَضَرَبْتهَا [ (6) ] فَقَطَعْتهَا، فَأَخَذَ اللّوَاءَ بِذِرَاعَيْهِ جَمِيعًا فَضَمّهُ إلَى صَدْرِهِ، ثُمّ حَنَى عَلَيْهِ ظَهْرَهُ، قَالَ سَعْدٌ: فَأَدْخَلَ سِيَةَ [ (7) ] الْقَوْسِ بَيْنَ الدّرْعِ وَالْمِغْفَرِ فَأَقْلَعُ الْمِغْفَرَ فَأَرْمِي بِهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، ثُمّ ضَرَبْته حَتّى قَتَلْته، ثُمّ أَخَذْت أَسْلُبُهُ دِرْعَهُ، فَنَهَضَ إلَيّ سُبَيْعُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ وَنَفَرٌ مَعَهُ فَمَنَعُونِي سَلَبَهُ. وَكَانَ سَلَبُهُ أَجْوَدَ سَلَبِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ- دِرْعٌ فَضْفَاضَةٌ، وَمِغْفَرٌ، وَسَيْفٌ جَيّدٌ، وَلَكِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. وَهَذَا أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ، وَهَكَذَا اُجْتُمِعَ عَلَيْهِ، أَنّ سَعْدًا قَتَلَهُ. ثُمّ حَمَلَهُ مُسَافِعُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَرَمَاهُ عَاصِمُ بن ثابت بن
أَبِي الْأَقْلَحِ وَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ أَبِي الْأَقْلَحِ! فَقَتَلَهُ، فَحُمِلَ إلَى أُمّهِ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ الشّهِيدِ وَهِيَ مَعَ النّسَاءِ، فَقَالَتْ: مَنْ أَصَابَك؟ قَالَ، لَا أَدْرِي، سَمِعْته يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ أَبِي الْأَقْلَحِ! قَالَتْ سُلَافَةُ: أَقْلَحِيّ وَاَللهِ! أَيْ مِنْ رَهْطِي. وَيُقَالُ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ كِسْرَةَ- كَانُوا يُقَالُ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ بَنُو كِسَرِ الذّهَبِ. فَقَالَ لِأُمّهِ حِينَ سَأَلَتْهُ مَنْ قَتَلَك؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، سَمِعْته يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ كِسْرَةَ! قَالَتْ سُلَافَةُ: إحْدَى وَاَللهِ [ (1) ] كِسْرَى! تَقُولُ: إنّهُ رَجُلٌ مِنّا. فَيَوْمَئِذٍ نَذَرَتْ أَنْ تَشْرَبَ فِي قِحْفِ رَأْسِ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ الْخَمْرَ، وَجَعَلَتْ تَقُولُ: لِمَنْ جَاءَ بِهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ. ثُمّ حَمَلَهُ كِلَابُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، ثُمّ حَمَلَهُ الْجُلّاسُ [ (2) ] بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، ثُمّ حَمَلَهُ أَرْطَاةُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، فَقَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، ثُمّ حَمَلَهُ شُرَيْحُ بْنُ قَارِظٍ [ (3) ] ، فَلَسْنَا نَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ، ثُمّ حَمَلَهُ صُؤَابٌ غُلَامُهُمْ، فَاخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِ، فَقَائِلٌ قَالَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ، وَقَائِلٌ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَقَائِلٌ قُزْمَانُ- وَكَانَ أَثْبَتَهُمْ عِنْدَنَا قُزْمَانُ. قَالَ: انْتَهَى إلَيْهِ قُزْمَانُ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى، فَاحْتَمَلَ اللّوَاءَ بِالْيُسْرَى، ثُمّ قَطَعَ الْيُسْرَى فَاحْتَضَنَ اللّوَاءَ بِذِرَاعَيْهِ وَعَضُدَيْهِ، ثُمّ حَنَى عَلَيْهِ ظَهْرَهُ، وَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ، هَلْ أُعْذِرْت [ (4) ] ؟ فَحَمَلَ عَلَيْهِ قُزْمَانُ فقتله
وَقَالُوا: مَا ظَفّرَ اللهُ نَبِيّهُ فِي مَوْطِنٍ قَطّ مَا ظَفّرَهُ وَأَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، حَتّى عَصَوْا الرّسُولَ وَتَنَازَعُوا فِي الْأَمْرِ. لَقَدْ قُتِلَ أَصْحَابُ اللّوَاءِ وَانْكَشَفَ الْمُشْرِكُونَ مُنْهَزِمِينَ [ (1) ] ، لَا يَلْوُونَ، وَنِسَاؤُهُمْ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ بَعْدَ ضَرْبِ الدّفَافِ وَالْفَرَحِ حَيْثُ الْتَقَيْنَا. [قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَقَدْ رَوَى كَثِيرٌ مِنْ الصّحَابَةِ مِمّنْ شَهِدَ أُحُدًا، قَالَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ:] [ (2) ] وَاَللهِ إنّي لَأَنْظُرُ إلَى هِنْدٍ وَصَوَاحِبِهَا مُنْهَزِمَاتٍ، مَا دُونَ أَخْذِهِنّ شَيْءٌ لِمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ. وَكُلّمَا أَتَى خَالِدٌ مِنْ قِبَلِ مَيْسَرَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَجُوزُ حَتّى يَأْتِيَ مِنْ قِبَلِ السّفْحِ فَيَرُدّهُ الرّمَاةُ، حَتّى فَعَلُوا ذَلِكَ مِرَارًا، وَلَكِنّ الْمُسْلِمِينَ أُتُوا مِنْ قِبَلِ الرّمَاةِ. إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْعَزَ إلَيْهِمْ فَقَالَ: قُومُوا عَلَى مَصَافّكُمْ هَذَا، فَاحْمُوا ظُهُورَنَا، فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا لَا تَشْرَكُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تَنْصُرُونَا. فَلَمّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَتَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، يَضَعُونَ السّلَاحَ فِيهِمْ حَيْثُ شَاءُوا حَتّى أَجْهَضُوهُمْ [ (3) ] عَنْ الْعَسْكَرِ، وَوَقَعُوا يَنْتَهِبُونَ الْعَسْكَرَ، قَالَ بَعْضُ الرّماة لبعض: لم تقيمون ها هنا فِي غَيْرِ شَيْءٍ؟ قَدْ هَزَمَ اللهُ الْعَدُوّ وَهَؤُلَاءِ إخْوَانُكُمْ يَنْتَهِبُونَ عَسْكَرَهُمْ، فَادْخُلُوا عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ فَاغْنَمُوا مَعَ إخْوَانِكُمْ فَقَالَ بَعْضُ الرّمَاةِ لِبَعْضٍ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَكُمْ: «احْمُوا ظُهُورَنَا فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا، احْمُوا ظُهُورَنَا» ؟ فَقَالَ الْآخَرُونَ لَمْ يُرِدْ رَسُولُ اللهِ هَذَا، وَقَدْ أَذَلّ اللهُ الْمُشْرِكِينَ وَهَزَمَهُمْ، فَادْخُلُوا الْعَسْكَرَ فَانْتَهِبُوا مَعَ إخْوَانِكُمْ. فَلَمّا اخْتَلَفُوا خَطَبَهُمْ أَمِيرُهُمْ عبد الله بن جبير- وكان
يَوْمَئِذٍ مُعْلِمًا بِثِيَابٍ بِيضٍ- فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ أَمَرَ بِطَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَلّا يُخَالَفَ لِرَسُولِ اللهِ أَمْرٌ [ (1) ] ، فَعَصَوْا وَانْطَلَقُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الرّمَاةِ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ إلّا نُفَيْرٌ مَا يَبْلُغُونَ الْعَشَرَةَ، فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ أَنَسِ بْنِ رَافِعٍ، يَقُولُ: يَا قَوْمِ، اُذْكُرُوا عَهْدَ نَبِيّكُمْ إلَيْكُمْ، وَأَطِيعُوا أَمِيرَكُمْ. قَالَ: فَأَبَوْا [ (2) ] وَذَهَبُوا إلَى عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَهِبُونَ، وَخَلّوْا الْجَبَلَ وَجَعَلُوا يَنْتَهِبُونَ، وَانْتَقَضَتْ صُفُوفُ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَدَارَتْ رِجَالُهُمْ [ (3) ] ، وَحَالَتْ الرّيحُ [ (4) ] ، وَكَانَتْ أَوّلَ النّهَارِ إلَى أَنْ رَجَعُوا صَبّا، فَصَارَتْ دَبُورًا حَيْثُ كَرّ الْمُشْرِكُونَ، بَيْنَا الْمُسْلِمُونَ قَدْ شُغِلُوا بِالنّهْبِ وَالْغَنَائِمِ. قَالَ نِسْطَاسٌ [ (5) ] مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَكَانَ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ: كُنْت مَمْلُوكًا فَكُنْت فِيمَنْ خُلّفَ فِي الْعَسْكَرِ، وَلَمْ يُقَاتِلْ يَوْمَئِذٍ مَمْلُوكٌ إلّا وَحْشِيّ، وَصُؤَابٌ غُلَامُ بَنِي عَبْدِ الدّارِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، خَلّفُوا غِلْمَانَكُمْ عَلَى مَتَاعِكُمْ يَكُونُونَ هُمْ الّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى رِحَالِكُمْ. فَجَمَعْنَا بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، وَعَقَلْنَا الْإِبِلَ، وَانْطَلَقَ الْقَوْمُ عَلَى تَعْبِيَتِهِمْ [ (6) ] مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَأَلْبَسْنَا الرّحَالَ الْأَنْطَاعَ. وَدَنَا [ (7) ] الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً ثُمّ إذَا أَصْحَابُنَا مُنْهَزِمُونَ، فَدَخَلَ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ عَسْكَرَنَا ونحن فى
الرّحَالِ، فَأَحْدَقُوا بِنَا، فَكُنْت فِيمَنْ أُسِرُوا. وَانْتَهَبُوا الْعَسْكَرَ أَقْبَحَ انْتِهَابٍ، حَتّى إنّ رَجُلًا مِنْهُمْ قَالَ: أَيْنَ مَالُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ؟ فَقُلْت: مَا حَمَلَ إلّا نَفَقَةً، هِيَ فِي الرّحْلِ. فَخَرَجَ يَسُوقُنِي حَتّى أَخْرَجْتهَا مِنْ الْعَيْبَةِ خَمْسِينَ وَمِائَةَ مِثْقَالٍ. وَقَدْ وَلّى أَصْحَابُنَا وَأَيِسْنَا مِنْهُمْ، وَانْحَاشَ [ (1) ] النّسَاءُ، فَهُنّ فِي حُجَرِهِنّ سَلْمٌ لِمَنْ أَرَادَهُنّ. وَصَارَ النّهْبُ فِي أَيْدِي الرّجَالِ، فَإِنّا لَعَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ إلَى أَنْ نَظَرْت إلَى الْجَبَلِ [ (2) ] ، فَإِذَا الْخَيْلُ مُقْبِلَةٌ فَدَخَلُوا الْعَسْكَرَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرُدّهُمْ، قَدْ ضُيّعَتْ الثّغُورُ الّتِي كَانَ بِهَا الرّمَاةُ وَجَاءُوا إلَى النّهْبِ وَالرّمَاةُ يَنْتَهِبُونَ، وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِمْ مُتَأَبّطِي قِسِيّهِمْ وَجِعَابِهِمْ، كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي يَدَيْهِ أَوْ حِضْنِهِ شَيْءٌ قَدْ أَخَذَهُ، فَلَمّا دَخَلَتْ خَيْلُنَا دَخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ غَارّينَ [ (3) ] آمِنِينَ، فَوَضَعُوا فِيهِمْ السّيُوفَ فَقَتَلُوا فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا. وَتَفَرّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَتَرَكُوا مَا انْتَهَبُوا وَأَجْلَوْا [ (4) ] عَنْ عَسْكَرِنَا، فَرَجَعْنَا مَتَاعَنَا بَعْدُ فَمَا فَقَدْنَا مِنْهُ شَيْئًا، وَخَلّوْا أَسْرَانَا، وَوَجَدْنَا الذّهَبَ فِي الْمَعْرَكِ. وَلَقَدْ رَأَيْت رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ضَمّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ إلَيْهِ ضَمّةً ظَنَنْت أَنّهُ سَيَمُوتُ حَتّى أَدْرَكْته بِهِ رَمَقٌ، فَوَجَأْته [ (5) ] بِخَنْجَرٍ مَعِي فَوَقَعَ، فَسَأَلْت عَنْهُ بَعْدُ فَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ. ثُمّ هَدَانِي اللهُ عَزّ وَجَلّ بَعْدُ لِلْإِسْلَامِ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم الذين
أغاروا على النّهب، فأخذوا مِنْ الذّهَبِ، بَقِيَ مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ رجع به حيث غشنا الْمُشْرِكُونَ وَاخْتَلَطُوا إلّا رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَاصِمُ بْنُ ثابت ابن أَبِي الْأَقْلَحِ، جَاءَ بِمِنْطَقَةٍ وَجَدَهَا فِي الْعَسْكَرِ فِيهَا خَمْسُونَ دِينَارًا، فَشَدّهَا عَلَى حِقْوَيْهِ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ، وَجَاءَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ بِصُرّةٍ فِيهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا، أَلْقَاهَا فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ وَالدّرْعُ فَوْقَهَا قَدْ حَزَمَ وَسْطَهُ. فَأَتَيَا بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ، فَلَمْ يُخَمّسْهُ وَنَفّلَهُمَا إيّاهُ. قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: فَلَمّا انْصَرَفَ الرّمَاةُ وَبَقِيَ مَنْ بَقِيَ، نَظَرَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى خَلَاءِ الْجَبَلِ وَقِلّةِ أَهْلِهِ، فَكَرّ بِالْخَيْلِ وَتَبِعَهُ عِكْرِمَةُ فِي الْخَيْلِ، فَانْطَلَقَا إلَى بَعْضِ الرّمَاةِ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ. فَرَامُوا الْقَوْمَ حَتّى أُصِيبُوا، وَرَامَى عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ، ثُمّ طَاعَنَ بِالرّمْحِ حَتّى انْكَسَرَ، ثُمّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، فَقَاتَلَهُمْ حَتّى قُتِلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَأَقْبَلَ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، وَكَانَا قَدْ حَضَرَا قَتْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُمَا آخِرُ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْجَبَلِ حَتّى لَحِقَا الْقَوْمَ، وَإِنّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَانْتَقَضَتْ صُفُوفُنَا. وَنَادَى إبْلِيسُ وَتَصَوّرَ فِي صُورَةِ جُعَالِ بْنِ سُرَاقَةَ: إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ! ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ. فَابْتُلِيَ يَوْمَئِذٍ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ بِبَلِيّةٍ عَظِيمَةٍ حِينَ تَصَوّرَ إبْلِيسُ فِي صُورَتِهِ، وَإِنّ جُعَالَ لَيُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَشَدّ الْقِتَالِ، وَإِنّهُ إلَى جَنْبِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ وَخَوّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، فو الله مَا رَأَيْنَا دُولَةً كَانَتْ أَسْرَعَ مِنْ دُولَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْنَا. وَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جُعَالِ بْنِ سُرَاقَةَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ يَقُولُونَ: هَذَا الّذِي صَاحَ «إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ» . فَشَهِدَ لَهُ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ أَنّهُ كَانَ إلَى جَنْبِهِمَا حِينَ صَاحَ الصّائِحُ، وَأَنّ الصّائِحَ غَيْرُهُ. قَالَ رَافِعٌ: وَشَهِدْت لَهُ بَعْدُ.
يَقُولُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: فَكُنّا أُتِينَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا وَمَعْصِيَةِ نَبِيّنَا، وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ، وَصَارُوا يُقْتَلُونَ وَيَضْرِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مَا يَشْعُرُونَ بِهِ [ (1) ] مِنْ الْعَجَلَةِ وَالدّهَشِ، وَلَقَدْ جُرِحَ يَوْمَئِذٍ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ جُرْحَيْنِ، ضَرَبَهُ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَمَا يَدْرِي، يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيّ! قَالَ: وَكَرّ أَبُو زَعْنَةَ فِي حَوْمَةِ الْقِتَالِ فَضَرَبَ أَبَا بُرْدَةَ ضَرْبَتَيْنِ مَا يَشْعُرُ، إنّهُ لَيَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا أَبُو زَعْنَةَ! حَتّى عَرَفَهُ بَعْدُ. فَكَانَ إذَا لَقِيَهُ قَالَ: اُنْظُرْ إلَى مَا صَنَعْت بِي. فَيَقُولُ لَهُ أَبُو زَعْنَةَ: أَنْتَ ضَرَبْت أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَلَا تَشْعُرُ، وَلَكِنّ هَذَا الْجُرْحَ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَذُكِرَ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، يَا أَبَا بُرْدَةَ، لَك أَجْرُهُ حَتّى كَأَنّهُ ضَرَبَك أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَكَانَ الْيَمَانُ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ وَقْشٍ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ، قَدْ رُفِعَا فِي الْآطَامِ مَعَ النّسَاءِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا أَبَا لَك، مَا نَسْتَبْقِي مِنْ أنفسنا، فو الله مَا نَحْنُ إلّا هَامَةً الْيَوْمَ أَوْ غَدًا، فَمَا بَقِيَ مِنْ أَجَلِنَا قَدْرُ ظِمْءِ [ (2) ] دَابّةٍ. فَلَوْ أَخَذْنَا أَسْيَافَنَا فَلَحِقْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلّ اللهَ يَرْزُقُنَا الشّهَادَةَ. قَالَ: فَلَحِقَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ مِنْ النّهَارِ. فَأَمّا رِفَاعَةُ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمّا حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ فَالْتَقَتْ عَلَيْهِ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ، حِينَ اخْتَلَطُوا، وَحُذَيْفَةُ يَقُولُ: أَبِي! أَبِي! حَتّى قُتِلَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ، مَا صَنَعْتُمْ! فَزَادَتْهُ [ (3) ] عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَتِهِ أَنْ تُخْرَجَ. ويقال إنّ الذي أصابه عتبة بن
مَسْعُودٍ، فَتَصَدّقَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ بِدَمِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وأقبل يومئذ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة! فأقبلوا عنقا [ (1) ] واحدة: لبيك داعي الله! لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربة في رأسه مثقلة [ (2) ] وما يدري، حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون: أمت! أمت! فكف بعضهم عن بعض. فَحَدّثَنِي الزّبَيْرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْفَضْلِ، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ اللّوَاءَ، فَقُتِلَ مُصْعَبٌ فَأَخَذَهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ مُصْعَبٍ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِمُصْعَبٍ فِي آخِرِ النّهَارِ: تَقَدّمْ يَا مُصْعَبُ! فَالْتَفَتَ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَقَالَ: لَسْت بِمُصْعَبٍ فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ مَلَكٌ أُيّدَ بِهِ. وَسَمِعْت أبا معشر يقول مثل ذلك. فحدّثنى عُبَيْدَةُ بِنْتُ نَائِلٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، عن أبيها سعد ابن أَبِي وَقّاصٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتنِي أَرْمِي بِالسّهْمِ يَوْمَئِذٍ فَيَرُدّهُ عَلَيّ رَجُلٌ أَبْيَضُ حَسَنُ الْوَجْهِ، لَا أَعْرِفُهُ حَتّى كَانَ بَعْدُ فَظَنَنْت أَنّهُ مَلَكٌ. حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، يُقَاتِلَانِ أَشَدّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتهمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. حَدّثَنِي عبد الملك بن سليم [ (3) ] ، عن قطعن بن وهب، عن عبيد بن
عمير، قال: لمّا رجعت قريش بن أحد جعلوا يَتَحَدّثُونَ فِي أَنْدِيَتِهِمْ بِمَا ظَفِرُوا وَيَقُولُونَ: لَمْ نَرَ الْخَيْلَ الْبُلْقَ وَلَا الرّجَالَ الْبِيضَ الّذِينَ كُنّا نَرَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَلَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: لَمْ يُمَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد بملك وَاحِدٍ، إنّمَا كَانُوا يَوْمَ بَدْر. حَدّثَنِي ابْنُ خَدِيجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي لُحَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ تُقَاتِلْ. حَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ إلّا يَوْمَ بَدْر. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَدْ وَعَدَهُمْ اللهُ أَنْ يَمُدّهُمْ لَوْ صَبَرُوا، فَلَمّا انْكَشَفُوا لَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَئِذٍ. حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ الْمَازِنِيّ، قَالَ: لَمّا صَاحَ الشّيْطَانُ أَزَبّ الْعَقَبَةَ [ (1) ] إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ، لِمَا أَرَادَ اللهُ عَزّ وَجَلّ مِنْ ذَلِكَ، سَقَطَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَتَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَأَصْعَدُوا فِي الْجَبَلِ. فَكَانَ أَوّلُ مَنْ بَشّرَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم سلام كعب بن مالك. قال كعب:
فَجَعَلْت أَصِيحُ، وَيُشِيرُ إلَيّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِصْبَعِهِ عَلَى فِيهِ أَنْ اسكت. فحدّثنى مُوسَى بْنُ شَيْبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُمَيْرَةَ بِنْتِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: لَمّا انْكَشَفَ النّاسُ كُنْت أَوّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَشّرْت بِهِ الْمُؤْمِنِينَ حَيّا سَوِيّا. قَالَ كَعْبٌ: وَأَنَا فِي الشّعْبِ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبًا بِلَأْمَتِهِ- وَكَانَتْ صَفْرَاءَ أَوْ بَعْضَهَا- فَلَبِسَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأْمَتَهُ فَلَبِسَهَا كَعْبٌ. وَقَاتَلَ كَعْبٌ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى جُرِحَ سَبْعَةَ عَشَرَ جُرْحًا. حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت أَوّلَ مَنْ عَرَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فَعَرَفْت عَيْنَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَنَادَيْت: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَبْشِرُوا! هَذَا رَسُولُ اللهِ! فَأَشَارَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ اُصْمُتْ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ الْأَعْرَجِ، قَالَ: لَمّا صَاحَ الشّيْطَانُ «إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ» ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَيّكُمْ قَتَلَ مُحَمّدًا؟ قَالَ ابْنُ قَمِيئَةَ: أَنَا قَتَلْته. قَالَ: نُسَوّرُك [ (1) ] كَمَا تَفْعَلُ الْأَعَاجِمُ بِأَبْطَالِهَا. وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَطُوفُ بِأَبِي عَامِرٍ الْفَاسِقِ فِي الْمَعْرَكِ هَلْ يَرَى مُحَمّدًا [بَيْنَ الْقَتْلَى] ، [ (2) ] فَمَرّ بِخَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، هَلْ تَدْرِي مَنْ هَذَا الْقَتِيلُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: هَذَا خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ الْخَزْرَجِيّ، هَذَا سيّد
بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. وَمَرّ بِعَبّاسِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ إلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: هَذَا ابْنُ قَوْقَلٍ، هَذَا الشّرِيفُ فِي بَيْتِ الشّرَفِ. قَالَ: ثم مرّ بذكوان ابن عَبْدِ قَيْسٍ، فَقَالَ: هَذَا مِنْ سَادَاتِهِمْ. وَمَرّ بِابْنِهِ حَنْظَلَةَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا ابْنَ عامر؟ قال: هذا أعزّ من ها هنا عَلَيّ، هَذَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا نَرَى مَصْرَعَ مُحَمّدٍ، وَلَوْ كَانَ قَتَلَهُ لَرَأَيْنَاهُ، كَذَبَ ابْنُ قَمِيئَةَ! وَلَقِيَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَالَ: هَلْ تَبَيّنَ عِنْدَك قَتْلُ مُحَمّدٍ؟ قَالَ خَالِدٌ: رَأَيْته أَقْبَلَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مُصْعِدِينَ فِي الْجَبَلِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ هَذَا حَقّ! كَذَبَ ابْنُ قَمِيئَةَ، زَعَمَ أَنّهُ قَتَلَهُ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، قَالَ: سَمِعْت مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ انْكَشَفَ النّاسُ إلَى الْجَبَلِ وَهُمْ لَا يَلْوُونَ عَلَيْهِ، وَإِنّهُ لَيَقُولُ: إلَيّ يَا فُلَانُ، إلَيّ يَا فُلَانُ، أَنَا رَسُولُ اللهِ! فلما عَرّجَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ عَلَيْهِ وَمَضَيَا. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ، وَاسْمُ أَبِي جَهْمٍ عُبَيْدٌ، قَالَ: كَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يُحَدّثُ وَهُوَ بِالشّامِ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ! لَقَدْ رَأَيْتنِي وَرَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَحِمَهُ اللهُ حِينَ جَالُوا وَانْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ، وَإِنّي لَفِي كَتِيبَةٍ خَشْنَاءَ فَمَا عَرَفَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي، فَنَكَبْت عَنْهُ وَخَشِيت إنْ أَغْرَيْت بِهِ مَنْ مَعِي أَنْ يَصْمُدُوا لَهُ، فَنَظَرْت إلَيْهِ مُوَجّهًا إلَى الشّعْبِ. حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْت رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ:
شَهِدْت أُحُدًا فَنَظَرْت إلَى النّبْلِ تَأْتِي مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطَهَا، كُلّ ذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْهُ. وَلَقَدْ رَأَيْت عَبْدَ اللهِ بْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ، فَلَا نَجَوْت إنْ نَجَا! وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَنْبِهِ، مَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمّ جاوزه، ولقى عبد الله ابن شِهَابٍ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ، فَقَالَ صَفْوَانُ: تَرِحْت [ (1) ] ، أَلَمْ يُمْكِنْك أَنْ تَضْرِبَ مُحَمّدًا فَتَقْطَعَ هَذِهِ الشّأْفَةَ [ (2) ] ، فَقَدْ أَمْكَنَك اللهُ مِنْهُ؟ قَالَ: وَهَلْ رَأَيْته؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنْتَ إلَى جَنْبِهِ. قَالَ: وَاَللهِ مَا رَأَيْته. أَحْلِفُ بِاَللهِ إنّهُ مِنّا مَمْنُوعٌ، خَرَجْنَا أَرْبَعَةً تَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمْ نَخْلُصْ إلَى ذَلِكَ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ نَمْلَةَ بْنِ أَبِي نَمْلَةَ- وَاسْمُ أَبِي نَمْلَةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مُعَاذٌ أَخًا لِلْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ لِأُمّهِ- فَقَالَ: لَمّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ نَظَرْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ إلّا نُفَيْرٌ، فَأَحْدَقَ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَانْطَلَقُوا بِهِ إلَى الشّعْبِ، وَمَا لِلْمُسْلِمِينَ لِوَاءٌ قَائِمٌ، وَلَا فِئَةٌ، وَلَا جَمْعٌ، وَإِنّ كَتَائِبَ الْمُشْرِكِينَ لَتَحُوشُهُمْ [ (3) ] مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً فِي الْوَادِي، يَلْتَقُونَ وَيَفْتَرِقُونَ، مَا يَرَوْنَ أَحَدًا مِنْ النّاسِ يَرُدّهُمْ. فَاتّبَعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْظُرُ إلَيْهِ وَهُوَ يَؤُمّ أَصْحَابَهُ، ثُمّ رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ نَحْوَ عَسْكَرِهِمْ وَتَآمَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي طَلَبِنَا، فَالْقَوْمُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَطَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم إلى أصحابه،
فَكَأَنّهُمْ لَمْ يُصِبْهُمْ شَيْءٌ حِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمًا. حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْعَبْدَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَمَلَ مُصْعَبٌ اللّوَاءَ فَلَمّا جَالَ الْمُسْلِمُونَ ثَبَتَ بِهِ، فَأَقْبَلَ ابْنُ قَمِيئَةَ وَهُوَ فَارِسٌ فَضَرَبَ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَطَعَهَا، وَهُوَ يَقُولُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [ (1) ] . وَأَخَذَ اللّوَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَحَنَى عَلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى، فَحَنَى عَلَى اللّوَاءِ وَضَمّهُ بِعَضُدَيْهِ إلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... الْآيَةَ. ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ الثّالِثَةَ فَأَنْفَذَهُ وَانْدَقّ الرّمْحُ، وَوَقَعَ مُصْعَبٌ وَسَقَطَ اللّوَاءُ، وَابْتَدَرَهُ رجلان من بنى عبد الدار، سُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ وَأَبُو الرّومِ، وَأَخَذَهُ أَبُو الرّومِ فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ حَتّى دَخَلَ بِهِ الْمَدِينَةَ حِينَ انْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ. وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أُمّهَا، عَنْ الْمِقْدَادِ، قَالَ: لَمّا تَصَافَفْنَا لِلْقِتَالِ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ رَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَلَمّا قُتِلَ أَصْحَابُ اللّوَاءِ وَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ الْهَزِيمَةَ الْأُولَى، وَأَغَارَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَسْكَرِهِمْ فَانْتَهَبُوا، ثُمّ كَرّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَتَوْا مِنْ خَلْفِهِمْ فَتَفَرّقَ النّاسُ [ (2) ] ، وَنَادَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِ الْأَلْوِيَةِ، فَأَخَذَ اللّوَاءَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ثُمّ قُتِلَ. وَأَخَذَ رَايَةَ الْخَزْرَجِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ تَحْتَهَا، وَأَصْحَابُهُ مُحْدِقُونَ بِهِ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَبِي الرّومِ الْعَبْدَرِيّ آخِرَ النّهَارِ، وَنَظَرْت إلَى لِوَاءِ الْأَوْسِ مَعَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، فَنَاوَشُوهُمْ سَاعَةً وَاقْتَتَلُوا عَلَى الِاخْتِلَاطِ مِنْ الصّفُوفِ. وَنَادَى الْمُشْرِكُونَ بِشِعَارِهِمْ: يَا لَلْعُزّى، يَا آلَ هُبَلَ! فأوجعوا والله فينا قتلا
ذَرِيعًا، وَنَالُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَالُوا. لَا وَاَلّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقّ، إنْ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَالَ شِبْرًا وَاحِدًا، إنّهُ لَفِي وَجْهِ الْعَدُوّ، وَتُثَوّبُ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَرّةً وَتَتَفَرّقُ عَنْهُ مَرّةً، فَرُبّمَا رَأَيْته قَائِمًا يَرْمِي عَنْ قَوْسِهِ أَوْ يَرْمِي بِالْحَجَرِ حَتّى تَحَاجَزُوا. وَثَبَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ فِي عِصَابَةٍ صَبَرُوا مَعَهُ، أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سَبْعَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَسَبْعَةٌ من الأنصار: أبو بكر، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ: الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وأبو دجانة، وعاصم بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ. ويقال ثبت سعد بن عبادة، ومحمّد ابن مَسْلَمَةَ، فَيَجْعَلُونَهُمَا مَكَانَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَبَايَعَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ عَلَى الْمَوْتِ- ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَخَمْسَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: عَلِيّ، وَالزّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ عَلَيْهِمْ السّلَامُ، وَأَبُو دُجَانَةَ، وَالْحَارِثُ بن الصّمّة، وحباب ابن المنذر، وعاصم بن ثابت، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ، حَتّى انْتَهَى مَنْ انْتَهَى مِنْهُمْ إلَى قَرِيبٍ مِنْ الْمِهْرَاسِ [ (1) ] . وَحَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جبيرة، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: ثَبَتَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثُونَ رَجُلًا كُلّهُمْ يَقُولُ: وَجْهِي دُونَ وَجْهِك، وَنَفْسِي دُونَ نَفْسِك، وَعَلَيْك السّلَامُ غَيْرَ مُوَدّعٍ. وَقَالُوا: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا لَحَمَهُ القتال وخلص إليه،
وَذَبّ عَنْهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو دُجَانَةَ حَتّى كَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحَةُ، جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ رَجُلٌ يَشْرِي نَفْسَهُ؟ فَوَثَبَ فِئَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ خَمْسَةٌ، مِنْهُمْ عُمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ السّكَنِ، فَقَاتَلَ حَتّى أَثْبَتَ، وَفَاءَتْ فِئَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَاتَلُوا حَتّى أَجْهَضُوا أَعْدَاءَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَارَةَ بْنِ زِيَادٍ: اُدْنُ مِنّي! إلَيّ، إلَيّ! حَتّى وَسّدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَمَهُ- وَبِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُرْحًا- حَتّى مَاتَ. وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَذْمُرُ النّاسَ وَيَحُضّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَذْلَقُوا [ (1) ] الْمُسْلِمِينَ بِالرّمْيِ، مِنْهُمْ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ، وَأَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ، فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ: ارْمِ، فِدَاك أَبِي وَأُمّي! وَرَمَى حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ ذَيْلَ أُمّ أَيْمَنَ- وَجَاءَتْ يَوْمَئِذٍ تَسْقِي الْجَرْحَى- فَعَقَلَهَا [ (2) ] وَانْكَشَفَ عَنْهَا، فَاسْتَغْرَبَ فِي الضّحِكِ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَفَعَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ سَهْمًا لَا نَصْلَ لَهُ فَقَالَ: ارْمِ! فَوَقَعَ السّهْمُ فِي ثُغْرَةِ نَحْرِ حِبّانَ فَوَقَعَ مُسْتَلْقِيًا وَبَدَتْ عَوْرَتُهُ. قَالَ سَعْدٌ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ يَوْمَئِذٍ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. ثُمّ قَالَ: اسْتَقَادَ لَهَا سَعْدٌ، أَجَابَ اللهُ دَعْوَتَك وَسَدّدَ رَمْيَتَك! وَرَمَى يَوْمَئِذٍ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ الْجُشَمِيّ أَخُو أَبِي أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ، وَكَانَ هُوَ وَحِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ قَدْ أَسْرَعَا فِي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَكْثَرَا فِيهِمْ الْقَتْلَ بِالنّبْلِ، يَتَسَتّرَانِ بِالصّخْرِ وَيَرْمِيَانِ الْمُسْلِمِينَ. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ [ (3) ] أَبْصَرَ سَعْدُ بن أبى وقّاص مالك بن زهير
وَرَاءَ صَخْرَةٍ، قَدْ رَمَى وَأَطْلَعَ رَأْسَهُ، فَيَرْمِيهِ سَعْدٌ فَأَصَابَ السّهْمُ عَيْنَهُ حَتّى خَرَجَ مِنْ قَفَاهُ، فَنَزَا [ (1) ] فِي السّمَاءِ قَامَةً ثُمّ رَجَعَ فَسَقَطَ، فَقَتَلَهُ اللهُ عَزّ وَجَلّ. وَرَمَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قَوْسِهِ حَتّى صَارَتْ شَظَايَا، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ وَكَانَتْ عِنْدَهُ. وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النّعْمَانِ حَتّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ. قَالَ قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ: فَجِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: إي رَسُولَ اللهِ، إنّ تَحْتِي امْرَأَةً شَابّةً جَمِيلَةً أُحِبّهَا وَتُحِبّنِي وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقْذَرَ مَكَانَ عَيْنِي. فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدّهَا فَأَبْصَرَتْ [ (2) ] وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَلَمْ تَضْرِبْ عَلَيْهِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ أَسَنّ: هِيَ وَاَللهِ أَقْوَى عَيْنَيّ! وَكَانَتْ أَحْسَنَهُمَا. وَبَاشَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ، فَرَمَى بِالنّبْلِ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ وَتَكَسّرَتْ سِيَةُ قَوْسِهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ انْقَطَعَ وَتَرُهُ، وَبَقِيَتْ فِي يَدِهِ قِطْعَةٌ تَكُونُ شِبْرًا فِي سِيَةِ الْقَوْسِ، وَأَخَذَ الْقَوْسَ عُكّاشَةُ بْنُ محصن يُوتِرُهُ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا يَبْلُغُ الْوَتَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: مدّه، يبلغ! قال عكّاشة: فو الذي بَعَثَهُ بِالْحَقّ، لَمَدَدْته حَتّى بَلَغَ وَطَوَيْت مِنْهُ لَيّتَيْنِ [ (3) ] أَوْ ثَلَاثَةً عَلَى سِيَةِ الْقَوْسِ. ثُمّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْسَهُ، فَمَا زَالَ يَرْمِي الْقَوْمَ، وَأَبُو طَلْحَة أَمَامَهُمْ يَسْتُرُهُ مُتَرّسًا عَنْهُ، حَتّى نَظَرْت إلَى قَوْسِهِ قَدْ تَحَطّمَتْ، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ. وكان
أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ نَثَرَ [ (1) ] كِنَانَتَهُ بَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَامِيًا وَكَانَ صَيّتًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَكَانَ فِي كِنَانَتِهِ خَمْسُونَ سَهْمًا، فَنَثَرَهَا [ (2) ] بَيْنَ يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جَعَلَ يَصِيحُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَفْسِي دُونَ نَفْسِك! فَلَمْ يَزَلْ يَرْمِي بِهَا سَهْمًا سَهْمًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع رأسه خلف أبى طلحة بَيْنَ رَأْسِهِ [ (3) ] وَمَنْكِبِهِ يَنْظُرُ إلَى مَوَاقِعِ النّبْلِ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: نَحْرِي دُونَ نَحْرِك، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاك! فَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَأْخُذُ الْعُودَ مِنْ الْأَرْضِ فَيَقُولُ: ارْمِ يَا أَبَا طَلْحَةَ! فَيَرْمِي بِهَا سَهْمًا جَيّدًا. وَكَانَ الرّمَاةُ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورُ مِنْهُمْ [ (4) ] : سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَالسّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَخِرَاشُ بْنُ الصّمّةِ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ سِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ، وَأَبُو طلحة، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، وَقَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ. وَرُمِيَ يَوْمَئِذٍ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ فِي نَحْرِهِ، فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَصَقَ عَلَيْهِ فَبَرَأَ، وَكَانَ أَبُو رُهْمٍ يُسَمّى الْمَنْحُور. وَكَانَ أربعة من قريش قَدْ تَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَهُمْ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ- عبد الله بن شهاب، وعتبة بن
أَبِي وَقّاصٍ، وَابْنُ قَمِيئَةَ، وَأُبَيّ بْنُ خَلَفٍ. وَرَمَى عُتْبَةُ يَوْمَئِذٍ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعَةِ أَحْجَارٍ وَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ- أَشْظَى [ (1) ] بَاطِنَهَا، الْيُمْنَى السّفْلَى- وَشُجّ فِي وَجْنَتَيْهِ [حَتّى غَابَ حَلَقُ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ] [ (2) ] وَأُصِيبَتْ رُكْبَتَاهُ فَجُحِشَتَا. وَكَانَتْ حُفَرٌ حَفَرَهَا أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِق كَالْخَنَادِقِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى بَعْضِهَا وَلَا يَشْعُرُ بِهِ. وَالثّبْتُ عِنْدَنَا أَنّ الّذِي رَمَى وَجْنَتَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قَمِيئَةَ، وَاَلّذِي رَمَى شَفَتَهُ وَأَصَابَ رَبَاعِيَتَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ. وَأَقْبَلَ ابْنُ قَمِيئَةَ وَهُوَ يقول: دلّونى على محمّد، فو الذي يُحْلَفُ بِهِ [ (3) ] ، لَئِنْ رَأَيْته لَأَقْتُلَنهُ! فَعَلَاهُ بِالسّيْفِ، وَرَمَاهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ مَعَ تَجْلِيلِ السّيْفِ [ (4) ] ، وَكَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَانِ، فَوَقَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ (5) ] فِي الْحُفْرَةِ الّتِي أَمَامَهُ فَجُحِشَتْ رُكْبَتَاهُ، وَلَمْ يَصْنَعْ سَيْفُ ابْنِ قَمِيئَةَ شَيْئًا إلّا وَهَنُ الضّرْبَةِ بِثِقَلِ السّيْفِ، فَقَدْ وَقَعَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةُ يَحْمِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَعَلِيّ آخِذٌ بِيَدَيْهِ حَتّى اسْتَوَى قَائِمًا. حَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ الْمَازِنِيّ، قَالَ: حَضَرْت يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا غُلَامٌ، فَرَأَيْت ابْنَ قَمِيئَةَ عَلَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّيْفِ، فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فِي حُفْرَةٍ أَمَامَهُ حَتّى تَوَارَى، فَجَعَلْت أَصِيحُ- وَأَنَا غلام- حتى رأيت الناس
ثَابُوا إلَيْهِ. قَالَ: فَأَنْظُرُ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ آخِذًا بِحِضْنِهِ حَتّى قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ إنّ الّذِي شَجّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَبْهَتِهِ ابْنُ شِهَابٍ، وَاَلّذِي أَشْظَى رَبَاعِيَتَهُ وَأَدْمَى شَفَتَيْهِ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَاَلّذِي رَمَى وَجْنَتَيْهِ حَتّى غَابَ الْحَلَقُ فِي وَجْنَتَيْهِ ابْنُ قَمِيئَةَ، وَسَالَ الدّمُ فِي شَجّتِهِ الّتِي فِي جَبْهَتِهِ حَتّى أَخْضَلَ الدّمُ لِحْيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَغْسِلُ الدّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ... [ (1) ] الْآيَةَ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ: سَمِعْته يَقُولُ: اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ أَدْمَوْا فَا رَسُولِ اللهِ، اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ أَدْمَوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ، اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ قَتَلَهُ رَسُولُ اللهِ! قَالَ سَعْدٌ: فَقَدْ شَفَانِي مِنْ عُتْبَةَ أَخِي دُعَاءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد حَرَصْت عَلَى قَتْلِهِ حِرْصًا مَا حَرَصْته عَلَى شَيْءٍ قَطّ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْته لَعَاقّا بالوالد سيّء الْخُلُقِ. وَلَقَدْ تَخَرّقْتُ صُفُوفَ الْمُشْرِكِينَ مَرّتَيْنِ أَطْلُبُ أخى لأقتله، ولكن راغ [ (2) ] منّى روعان الثّعْلَبِ، فَلَمّا كَانَ الثّالِثَةَ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا تُرِيدُ؟ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ نَفْسَك؟ فَكَفَفْت، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ لَا يَحُولَن الْحَوْلُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ! قَالَ: وَاَللهِ، مَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى أَحَدٍ مِمّنْ رَمَاهُ أَوْ جَرَحَهُ! مَاتَ عُتْبَةُ، وَأَمّا ابْنُ قَمِيئَةَ فَإِنّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ. فَقَائِلٌ يَقُولُ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ إنّهُ رمى يوم أحد
بِسَهْمٍ. فَأَصَابَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ فَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ قَمِيئَةَ! فَقَتَلَ مُصْعَبًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقْمَأَهُ [ (1) ] اللهُ! فَعَمَدَ إلَى شَاةٍ يَحْتَلِبُهَا فَنَطَحَتْهُ بِقَرْنِهَا وَهُوَ مُعْتَقِلُهَا فَقَتَلَتْهُ، فَوُجِدَ مَيّتًا بَيْنَ الْجِبَالِ، لِدَعْوَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عَدُوّ اللهِ قَدْ رَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ قَتَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْأَدْرَمِ [ (2) ] مِنْ بنى فهر. وَيُقْبِلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرٍ حين رأى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، يَرْكُضُ فَرَسَهُ مُقَنّعًا فِي الْحَدِيدِ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ زُهَيْرٍ، دُلّونِي على محمّد، فو الله لَأَقْتُلَنهُ أَوْ لَأَمُوتَن دُونَهُ! فَتَعَرّضَ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَالَ: هَلُمّ إلَى مَنْ يَقِي نَفْسَ مُحَمّدٍ بِنَفْسِهِ! فَضَرَبَ فَرَسَهُ فَعَرْقَبَهَا [ (3) ] فَاكْتَسَعَتْ الْفَرَسُ، ثُمّ عَلَاهُ بِالسّيْفِ [ (4) ] وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ خَرَشَةَ! وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ يَقُولُ: اللهُمّ ارْضَ عَنْ ابْنِ خَرَشَةَ كَمَا أَنَا عَنْهُ رَاضٍ. حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قالت: سمعت أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَرُمِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ حَتّى دَخَلَتْ فِي وَجْنَتَيْهِ حَلَقَتَانِ مِنْ الْمِغْفَرِ، فَأَقْبَلْت أَسْعَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْسَانٌ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَطِيرُ طَيَرَانًا، فقلت: اللهمّ اجعله
طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ! حَتّى تَوَافَيْنَا إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أَبُو عُبَيْدَةُ بْنُ الْجَرّاحِ، فَبَدَرَنِي فَقَالَ: أَسْأَلُك بالله يا أبا بَكْر أَلّا تَرَكْتنِي، فَأَنْزِعُهُ مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو بكر: فتركته وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم صاحبكم! يعنى طلحة بن عبيد الله. فأخذ أبو عُبَيْدَةَ بِثَنِيّتِهِ حَلَقَةَ الْمِغْفَرِ فَنَزَعَهَا، وَسَقَطَ عَلَى ظهره وسقطت ثنيّة أبى عُبَيْدَةَ، ثُمّ أَخَذَ الْحَلَقَةَ الْأُخْرَى بِثَنِيّتِهِ الْأُخْرَى، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي النّاسِ أَثْرَمَ [ (1) ] . وَيُقَالُ إنّ الّذِي نَزَعَ الْحَلَقَتَيْنِ مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كَلَدَةَ، وَيُقَالُ أَبُو الْيُسْرِ- وَأَثْبَتُ ذلك عندنا عقبة ابن وَهْبِ بْنِ كَلَدَةَ. وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يُحَدّثُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُصِيبَ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَدَخَلَتْ الْحَلَقَتَانِ مِنْ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتَيْهِ، فَلَمّا نُزِعَتَا جَعَلَ الدّمُ يَسْرُبُ كَمَا يَسْرُبُ الشّنّ [ (2) ] ، فَجَعَلَ مَالِكُ بن سنان يَمْلُجُ [ (3) ] الدّمَ بِفِيهِ ثُمّ ازْدَرَدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَنْ خَالَطَ دَمُهُ دَمِي فلينظر إلى مالك بن سنان. فَقِيلَ لِمَالِكٍ: تَشْرَبُ الدّمَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَشْرَبُ دَمَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَسّ دَمُهُ دَمِي، لَمْ تُصِبْهُ النّارُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَكُنّا مِمّنْ رُدّ مِنْ الشّيْخَيْنِ، لَمْ نَجُزْ [ (4) ] مَعَ الْمُقَاتِلَةِ، فَلَمّا كَانَ من
النّهَارِ وَبَلَغَنَا مُصَابَ [ (1) ] رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرّقَ النّاسِ عَنْهُ، جِئْت مَعَ غِلْمَانٍ مِنْ بَنِي خَدِرَةَ نَعْتَرِضُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَنْظُرُ إلَى سَلَامَتِهِ فَنَرْجِعُ بِذَلِكَ إلَى أَهْلِنَا، فَلَقِينَا النّاسَ مُنْصَرِفِينَ بِبَطْنِ قَنَاةٍ [ (2) ] ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا هِمّةٌ إلّا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَنْظُرُ إلَيْهِ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيّ قَالَ: سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ؟ قُلْت: نَعَمْ، بِأَبِي وَأُمّي! فَدَنَوْت مِنْهُ فَقَبّلْت رُكْبَتَهُ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ. ثُمّ قَالَ: آجَرَك اللهُ فِي أَبِيك! ثُمّ نَظَرْت إلَى وَجْهِهِ فَإِذَا فِي وَجْنَتَيْهِ مَوْضِعُ الدّرْهَمِ فِي كُلّ وَجْنَةٍ، وَإِذَا شَجّةٌ فِي جَبْهَتِهِ عِنْدَ أُصُولِ الشّعْرِ، وَإِذَا شَفَتُهُ السّفْلَى تَدْمَى، وَإِذَا رَبَاعِيَتُهُ الْيُمْنَى شَظِيّةٌ، فَإِذَا عَلَى جُرْحِهِ شَيْءٌ أَسْوَدُ. فَسَأَلْت: مَا هَذَا عَلَى وَجْهِهِ؟ فَقَالُوا: حَصِيرٌ مُحَرّقٌ. وَسَأَلْت: مَنْ دَمّى وَجْنَتَيْهِ؟ فَقِيلَ: ابْنُ قَمِيئَةَ. فَقُلْت: مَنْ شَجّهُ فِي جَبْهَتِهِ؟ فَقِيلَ: ابْنُ شِهَابٍ. فَقُلْت: مَنْ أَصَابَ شَفَتَهُ؟ فَقِيلَ: عُتْبَةُ. فَجَعَلْت أَعْدُو بَيْنَ يَدَيْهِ حَتّى نَزَلَ بِبَابِهِ، فَمَا نَزَلَ إلّا حَمْلًا، وَأَرَى رُكْبَتَيْهِ مَجْحُوشَتَيْنِ، يَتّكِئُ عَلَى السّعْدَيْنِ- سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ- حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ. فَلَمّا غَرَبَتْ الشّمْسُ وَأَذّنَ بَلَالٌ بِالصّلَاةِ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ يَتَوَكّأُ عَلَى السّعْدَيْنِ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ، وَالنّاسُ فِي الْمَسْجِدِ يُوقِدُونَ النّيرَانَ يُكَمّدُونَ بِهَا الْجِرَاحَ. ثُمّ أَذّنَ بِلَالٌ بِالْعِشَاءِ حِينَ غَابَ الشّفَقُ، فَلَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ بِلَالٌ عِنْدَ بَابِهِ حَتّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ ثُمّ نَادَاهُ: الصّلَاةَ، يَا رَسُولَ اللهِ! فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ نَائِمًا. قَالَ: فَرَمَقْته فَإِذَا هُوَ أَخَفّ فِي مِشْيَتِهِ مِنْهُ حِينَ دَخَلَ بَيْتَهُ، فَصَلّيْت مَعَهُ الْعِشَاءَ ثم رجع إلى بيته، وقد صفّ
لَهُ الرّجَالُ مَا بَيْنَ بَيْتِهِ إلَى مُصَلّاهُ، يَمْشِي وَحْدَهُ حَتّى دَخَلَ، وَرَجَعْت إلَى أَهْلِي فَخَبّرْتهمْ بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدُوا اللهَ عَلَى ذَلِكَ وَنَامُوا، وَكَانَتْ وُجُوهُ الْخَزْرَجِ وَالْأَوْسِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرُسُونَهُ فَرَقًا مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ تَكِرّ. قَالُوا: وَخَرَجَتْ فَاطِمَةُ فِي نِسَاءٍ، وَقَدْ رَأَتْ الّذِي بِوَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَنَقَتْهُ وَجَعَلَتْ تَمْسَحُ الدّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ أَدْمَوْا وَجْهَ رَسُولِهِ! وَذَهَبَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَأْتِي بِمَاءٍ مِنْ الْمِهْرَاسِ، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: أَمِسْكِي هَذَا السّيْفَ غَيْرَ ذَمِيمٍ. فَأَتَى بِمَاءٍ فِي مِجَنّهِ [ (1) ] ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ- وَكَانَ قَدْ عَطِشَ- فَلَمْ يَسْتَطِعْ، وَوَجَدَ رِيحًا مِنْ الْمَاءِ كَرِهَهَا فَقَالَ: هَذَا مَاءٌ آجِنٌ [ (2) ] . فَمَضْمَضَ مِنْهُ فَاهُ لِلدّمِ فِي فِيهِ، وَغَسَلَتْ فَاطِمَةُ الدّمَ عَنْ أَبِيهَا. وَلَمّا أَبْصَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ مُخْتَضِبًا قَالَ: إنْ كُنْت أَحْسَنْت الْقِتَالَ، فَقَدْ أَحْسَنَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَسَيْفُ أَبِي دُجَانَةَ غَيْرُ مَذْمُومٍ. فَلَمْ يُطِقْ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ، فَخَرَجَ مُحَمّدُ بْنُ مسلمة يَطْلُبُ مَعَ النّسَاءِ مَاءً، وَكُنّ قَدْ جِئْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، مِنْهُنّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَحْمِلْنَ الطّعَامَ وَالشّرَابَ عَلَى ظُهُورِهِنّ، وَيَسْقِينَ الْجَرْحَى وَيُدَاوِينَهُمْ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: رَأَيْت أُمّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ وَعَائِشَةَ عَلَى ظُهُورِهِمَا الْقِرَبُ يَحْمِلَانِهَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَتْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ [ (3) ] تَسْقِي الْعَطْشَى
وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَكَانَتْ أُمّ أَيْمَنَ تَسْقِي الْجَرْحَى. فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عِنْدَهُمْ مَاءً- وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَطِشَ يَوْمَئِذٍ عَطَشًا شَدِيدًا- ذَهَبَ مُحَمّدٌ إلَى قَنَاةٍ وَأَخَذَ سِقَاءَهُ حَتّى اسْتَقَى مِنْ حِسْيٍ [ (1) ]- قَنَاةٍ عِنْدَ قُصُورِ التّيْمِيّينَ الْيَوْمَ- فَأَتَى بِمَاءٍ عَذْبٍ فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ بِخَيْرٍ. وَجَعَلَ الدّمُ لَا يَنْقَطِعُ، وَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَنْ يَنَالُوا مِنّا مِثْلَهَا حَتّى تَسْتَلِمُوا الرّكْنَ. فَلَمّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الدّمَ لَا يَرْقَأُ- وَهِيَ تَغْسِلُ الدّمَ، وَعَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَصُبّ الْمَاءَ عَلَيْهَا بِالْمِجَنّ- أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ حَتّى صَارَ رَمَادًا، ثُمّ أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدّمُ. وَيُقَالُ إنّهَا دَاوَتْهُ بِصُوفَةٍ مُحْتَرِقَةٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ يُدَاوِي الْجُرْحَ الّذِي فِي وَجْهِهِ بِعَظْمٍ بَالٍ حَتّى يَذْهَبَ أَثَرُهُ، وَلَقَدْ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِدُ وَهَنَ ضَرْبَةِ ابْنِ قَمِيئَةَ عَلَى عَاتِقِهِ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، وَيُدَاوِي الْأَثَرَ الّذِي بِوَجْهِهِ بِعَظْمٍ بَالٍ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ يَرْكُضُ فَرَسُهُ، حَتّى إذَا دَنَا مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَرَضَ لَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لِيَقْتُلُوهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسْتَأْخِرُوا عَنْهُ! فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَرْبَتُهُ فِي يَدِهِ فَرَمَاهُ مَا بَيْنَ سَابِغَةِ الْبَيْضَةِ وَالدّرْعِ فَطَعَنَهُ هُنَاكَ، فَوَقَعَ أُبَيّ عَنْ فَرَسِهِ، فَكُسِرَ ضِلَعٌ مِنْ أَضْلَاعِهِ، وَاحْتَمَلُوهُ ثَقِيلًا حَتّى وَلّوْا قَافِلِينَ فَمَاتَ بِالطّرِيقِ، وَنَزَلَتْ فِيهِ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ (2) ] .
فَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ عَاصِمِ بن عمر، عن عبد الله ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ قَدِمَ فِي فِدَاءِ ابْنِهِ، وَكَانَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّ عِنْدِي فَرَسًا لِي أُجِلّهَا فَرَقًا [ (1) ] مِنْ ذُرَةٍ كُلّ يَوْمٍ، أَقْتُلُك عَلَيْهَا. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل، أَنَا أَقْتُلُك عَلَيْهَا إنْ شَاءَ الله. وَيُقَالُ قَالَ ذَلِكَ بِمَكّةَ فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَتَهُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: أَنَا أَقْتُلُهُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ الله. قَالُوا: وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْقِتَالِ لَا يَلْتَفِتُ وَرَاءَهُ، فَكَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إنّي أَخْشَى أَنْ يَأْتِيَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ مِنْ خَلْفِي، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَآذِنُونِي [ (2) ] بِهِ. فَإِذَا بِأُبَيّ يَرْكُضُ عَلَى فَرَسِهِ، وَقَدْ رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَهُ، فَجَعَلَ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مُحَمّدُ، لَا نَجَوْت إنْ نَجَوْت! فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كُنْت صَانِعًا حِينَ يَغْشَاك! فَقَدْ جَاءَك، وَإِنْ شِئْت عَطَفَ عَلَيْهِ بَعْضُنَا. فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَنَا أُبَيّ فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحربة من الحارث ابن الصّمّةِ، ثُمّ انْتَفَضَ بِأَصْحَابِهِ كَمَا يَنْتَفِضُ الْبَعِيرُ، فَتَطَايَرْنَا عَنْهُ تَطَايُرَ الشّعَارِيرِ [ (3) ] ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُشْبِهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَدّ الْجِدّ. ثُمّ أَخَذَ الْحَرْبَةَ فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَرْبَةِ فِي عُنُقِهِ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَعَلَ يَخُورُ كَمَا يَخُورُ الثّوْرُ. وَيَقُولُ لَهُ أَصْحَابُهُ: أَبَا عَامِرٍ، وَاَللهِ مَا بِك بَأْسٌ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الّذِي بِك بِعَيْنِ أَحَدِنَا مَا ضَرّهُ.
قال: واللّات وَالْعُزّى، لَوْ كَانَ الّذِي بِي بِأَهْلِ ذِي الْمَجَازِ [ (1) ] لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ! أَلَيْسَ قَالَ: «لَأَقْتُلَنك» ؟ فَاحْتَمَلُوهُ وَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ طَلَبِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَحِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمِ أَصْحَابِهِ فِي الشّعْبِ. وَيُقَالُ تَنَاوَلَ الْحَرْبَةَ مِنْ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَاتَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ بِبَطْنِ رَابِغٍ [ (2) ] ، فَإِنّي لَأَسِيرُ بِبَطْنِ رَابِغٍ بَعْدَ هَوِيّ [ (3) ] مِنْ اللّيْلِ، إذَا نَارٌ تَأجّجُ، فَهِبْتهَا، وَإِذَا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا فِي سِلْسِلَةٍ يَجْتَذِبُهَا [ (4) ] يَصِيحُ: الْعَطَشَ! وَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: لَا تَسْقِهِ، فَإِنّ هَذَا قَتِيلُ رَسُولِ اللهِ، هَذَا أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ. فَقُلْت: أَلَا سُحْقًا! وَيُقَالُ مَاتَ بِسَرِفٍ [ (5) ] . وَيُقَالُ لَمّا تَنَاوَلَ الْحَرْبَةَ مِنْ الزّبَيْرِ حَمَلَ أُبَيّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَضْرِبَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَحُولُ بِنَفْسِهِ دُونَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَرَبَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَجْهَهُ، وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرْجَةً بَيْنَ سَابِغَةِ الْبَيْضَةِ وَالدّرْعِ فَطَعَنَهُ هُنَاكَ، فَوَقَعَ وَهُوَ يَخُورُ. قَالَ: وَأَقْبَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ يُحْضِرُ فَرَسًا لَهُ أَبْلَقَ، يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ لَأْمَةٌ لَهُ كَامِلَةٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَجّهٌ إلَى الشّعْبِ، وَهُوَ يَصِيحُ: لَا نَجَوْت إنْ نَجَوْت! فَيَقِفُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْثُرُ بِهِ فَرَسُهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُفَرِ الّتِي كَانَتْ حَفَرَ أَبُو عَامِرٍ، فَيَقَعُ الْفَرَسُ لِوَجْهِهِ، وَخَرَجَ الْفَرَسُ عَائِرًا فَيَأْخُذُهُ أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فيعقرونه،
وَيَمْشِي إلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ فَتَضَارَبَا سَاعَةً بِسَيْفَيْنِ، ثُمّ يَضْرِبُ الْحَارِثُ رِجْلَهُ- وَكَانَتْ الدّرْعُ مُشَمّرَةً- فَبَرَكَ وَذَفّفَ عَلَيْهِ. وَأَخَذَ الْحَارِثُ يَوْمَئِذٍ دِرْعًا جَيّدَةً وَمِغْفَرًا وَسَيْفًا جَيّدًا، وَلَمْ يُسْمَعْ بِأَحَدٍ سَلَبَ يَوْمَئِذٍ غَيْرُهُ. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَى قِتَالِهِمَا وَسَأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّجُلِ، فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَحَانَهُ [ (1) ] . وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنِ جَحْشٍ أَسَرَهُ بِبَطْنِ نَخْلَةَ حَتّى قَدِمَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَافْتَدَى فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ حَتّى غَزَا أُحُدًا فَقُتِلَ بِهِ. وَيَرَى مَصْرَعَهُ عُبَيْدُ بْنُ حَاجِزٍ الْعَامِرِيّ- عَامِرُ بْنُ لُؤَيّ- فَأَقْبَلَ يَعْدُو كَأَنّهُ سَبُعٌ، فَيَضْرِبُ الْحَارِثَ بْنَ الصّمّة ضَرْبَةً جَرَحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، فَوَقَعَ الْحَارِثُ جَرِيحًا حَتّى احْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ. وَيُقْبِلُ أَبُو دُجَانَةَ عَلَى عُبَيْدٍ فَتَنَاوَشَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتّقِي بِالدّرَقَةِ ضَرْبَ السّيْفِ، ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ فَاحْتَضَنَهُ، ثُمّ جَلَدَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمّ ذَبَحَهُ بِالسّيْفِ كَمَا تُذْبَحُ الشّاةُ، ثُمّ انْصَرَفَ فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالُوا: إنّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ جَعَلَ يَنْضَحُ بِالنّبْلِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَبّلُوا سَهْلًا فَإِنّهُ سَهْلٌ! وَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَبِي الدّرْدَاءِ، وَالنّاسُ مُنْهَزِمُونَ كُلّ وَجْهٍ، فَقَالَ: نِعْمَ الْفَارِسُ عُوَيْمِرٌ! [قَالَ الْوَاقِدِيّ:] غَيْرَ أَنّهُ يُقَالُ لَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ نَظَرَ إلَى أَبِي أُسَيْرَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ وَلَقِيَ أَحَدَ بَنِي عوف فاختلفا
ضَرَبَاتٍ، كُلّ ذَلِكَ يَرُوغُ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ [ (1) ] . قَالَ: فَنَظَرَ إلَيْهِمَا كَأَنّهُمَا سَبُعَانِ ضَارِيَانِ، يَقِفَانِ مَرّةً وَيَقْتَتِلَانِ مَرّةً، ثُمّ تَعَانَقَا فَضَبَطَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَوَقَعَا لِلْأَرْضِ، فَعَلَاهُ أَبُو أُسَيْرَةَ فَذَبَحَهُ بِسَيْفِهِ كَمَا تُذْبَحُ الشّاةُ، وَنَهَضَ عَنْهُ. وَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمَ أَغَرّ مُحَجّلٍ، يَجُرّ قَنَاةً طَوِيلَةً، فَطَعَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَنَظَرْت إلَى سِنَانِ الرّمْحِ خَرَجَ مِنْ صَدْرِهِ، وَوَقَعَ أَبُو أُسَيْرَةَ مَيّتًا، وَانْصَرَفَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَقُولُ: أَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ! قَالُوا: وَقَاتَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يَوْمَئِذٍ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَانَ طَلْحَةُ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَكَرّ [ (2) ] الْمُشْرِكُونَ وَأَحْدَقُوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، فَمَا أَدْرِي أَقُومُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَوْ مِنْ وَرَائِهِ، أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، فَأَذُبّ بِالسّيْفِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مَرّةً وَأُخْرَى مِنْ وَرَائِهِ حَتّى انْكَشَفُوا. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَقُولُ لِطَلْحَةَ: قَدْ أَنْحَبَ [ (3) ] ! وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ وَذَكَرَ طَلْحَةَ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللهُ، إنّهُ كَانَ أَعْظَمَنَا غِنَاءً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ! قِيلَ: كَيْفَ يَا أَبَا إسْحَاقَ؟ قَالَ: لَزِمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنّا نَتَفَرّقُ عَنْهُ ثُمّ نَثُوبُ إلَيْهِ، لَقَدْ رَأَيْته يَدُورُ حَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتَرّسُ بِنَفْسِهِ. وَسُئِلَ طَلْحَةُ: يَا أَبَا مُحَمّدٍ، مَا أَصَابَ إصْبَعَك؟ قَالَ: رَمَى مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ الْجُشَمِيّ بِسَهْمٍ يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ لَا تُخْطِئُ رَمْيَتُهُ، فَاتّقَيْت بِيَدِي عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَ خِنْصَرِي، فَشُكّ فَشُلّ إصْبَعُهُ. وَقَالَ حِينَ رَمَاهُ. حَسّ [ (4) ] ! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قَالَ بِسْمِ اللهِ لَدَخَلَ الْجَنّةَ وَالنّاسُ يَنْظُرُونَ! من أحبّ أن ينظر إلى
رَجُلٍ يَمْشِي فِي الدّنْيَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، طَلْحَةُ مِمّنْ قَضَى نَحْبَه. وَقَالَ طَلْحَةُ: لَمّا جَالَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْجَوْلَةَ ثُمّ تَرَاجَعُوا، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ مالك بن المضرّب يَجُرّ رُمْحًا لَهُ، عَلَى فَرَسٍ كُمَيْتٍ أَغَرّ، مُدَجّجًا فِي الْحَدِيدِ، يَصِيحُ: أَنَا أَبُو ذَاتِ الْوَدَعِ [ (1) ] ، دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ! فَأَضْرِبُ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ فانكسعت، ثم أتناول رمحه فو الله مَا أَخْطَأْت بِهِ عَنْ حَدَقَتِهِ، فَخَارَ كَمَا يَخُورُ الثّوْرُ، فَمَا بَرِحْت بِهِ وَاضِعًا رِجْلِي عَلَى خَدّهِ حَتّى أَزَرْته شَعُوبَ [ (2) ] . وَكَانَ طَلْحَةُ قَدْ أَصَابَتْهُ فِي رَأْسِهِ الْمُصَلّبَةِ [ (3) ] ، ضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَتَيْنِ، ضَرْبَةً وَهُوَ مُقْبِلٌ وَالْأُخْرَى وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ، وَكَانَ قَدْ نَزَفَ مِنْهَا الدّمُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: جِئْت إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: عَلَيْك بِابْنِ عَمّك! فَأَتَى طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ وَقَدْ نَزَفَ الدّمُ، فَجَعَلْت أَنْضَحُ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ وَهُوَ مَغْشِيّ عَلَيْهِ، ثُمّ أَفَاقَ فَقَالَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ؟ فَقُلْت: خَيْرًا، هُوَ أَرْسَلَنِي إلَيْك. قَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ، كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَهُ جَلَلٌ. وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ الْفِهْرِيّ يَقُولُ: نَظَرْت إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ فِي عُمْرَةٍ، فَنَظَرْت إلَى الْمُصَلّبَةِ فِي رَأْسِهِ. فَقَالَ ضِرَارٌ: أَنَا وَاَللهِ ضَرَبْته هَذِهِ، اسْتَقْبَلَنِي فَضَرَبْته ثُمّ أَكِرّ عَلَيْهِ وَقَدْ أَعْرَضَ فَأَضْرِبُهُ أُخْرَى. وَقَالُوا: لَمّا كَانَ يَوْمُ الْجَمَلِ وَقَتَلَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَام مَنْ قتل من الناس
وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ، جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ فَتَكَلّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَالَ مِنْ [ (1) ] طَلْحَةَ فَزَبَرَهُ عَلِيّ وَقَالَ: إنّك لَمْ تَشْهَدْ يَوْمَ أُحُدٍ وَعِظَمَ غِنَائِهِ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَكَانِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْكَسَرَ الرّجُلُ وَسَكَتَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: وَمَا كَانَ غِنَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ يَوْمَ أُحُدٍ يَرْحَمُهُ اللهُ؟ فَقَالَ عَلِيّ: نَعَمْ، يَرْحَمُهُ اللهُ! فَلَقَدْ رَأَيْته وَإِنّهُ لَيُتَرّسُ بِنَفْسِهِ دُونَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنّ السّيُوفَ لَتَغْشَاهُ وَالنّبْلَ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَإِنْ هُوَ إلّا جُنّةٌ بِنَفْسِهِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال قَائِلٌ: إنْ كَانَ يَوْمًا قَدْ قُتِلَ فِيهِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَصَابَ رَسُولَ اللهِ فِيهِ الْجِرَاحَةُ. فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيْتَ أَنّي غُودِرْت مَعَ أَصْحَابِ نُحْصِ الْجَبَل. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ: نُحْصِ الْجَبَلِ أَسْفَلَهُ. ثُمّ قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمَئِذٍ وَإِنّي لَأَذُبّهُمْ فِي نَاحِيَةٍ، وَإِنّ أَبَا دُجَانَةَ لَفِي نَاحِيَةٍ يَذُبّ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَإِنّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ يَذُبّ طَائِفَةً مِنْهُمْ، حَتّى فَرّجَ اللهُ ذَلِكَ كُلّهُ. وَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَانْفَرَدْت مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ فِرْقَةٌ خَشْنَاءُ فِيهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَدَخَلْت وَسَطَهَا بِالسّيْفِ فَضَرَبْت بِهِ وَاشْتَمَلُوا عَلَيّ حَتّى أَفْضَيْت [ (2) ] إلَى آخِرِهِمْ، ثُمّ كَرَرْت فِيهِمْ الثّانِيَةَ حَتّى رَجَعْت مِنْ حَيْثُ جِئْت، وَلَكِنّ الْأَجَلَ اسْتَأْخَرَ وَيَقْضِي اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَحَدّثَنِي جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ نَظَرَ إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَإِنّهُ لَيَحُوشُهُمْ يَوْمَئِذٍ كَمَا تُحَاشُ الْغَنَمُ، وَلَقَدْ اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ حَتّى قِيلَ قد
قُتِلَ. ثُمّ بَرَزَ وَالسّيْفُ فِي يَدِهِ وَافْتَرَقُوا عَنْهُ، وَجَعَلَ يَحْمِلُ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْهُمْ وَإِنّهُمْ لَيَهْرُبُونَ مِنْهُ إلَى جَمْعٍ مِنْهُمْ، وَصَارَ الْحُبَابُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْحُبَابُ يَوْمَئِذٍ مُعْلِمًا بِعِصَابَةٍ خَضْرَاءَ فِي مِغْفَرِهِ. وَطَلَعَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى فَرَسٍ، مُدَجّجًا لَا يُرَى مِنْهُ إلّا عَيْنَاهُ، فَقَالَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ أَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَتِيقٍ. قَالَ: فَنَهَضَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبَارِزُهُ. وَقَدْ جَرّدَ أَبُو بَكْرٍ سَيْفَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِمْ سَيْفَك، وَارْجِعْ إلَى مَكَانِك وَمَتّعْنَا بِنَفْسِك. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا وَجَدْت لِشَمّاسِ بْنِ عُثْمَانَ شَبَهًا إلّا الْجُنّةَ- يَعْنِي مِمّا يُقَاتِلُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْمِي [ (1) ] يَمِينًا وَلَا شِمَالًا إلّا رَأَى شَمّاسًا فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ يَذُبّ بِسَيْفِهِ، حَتّى غُشِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرّسَ بِنَفْسِهِ دُونَهُ حَتّى قُتِلَ، فَذَلِكَ قَوْلُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا وَجَدْت لِشَمّاسٍ شَبَهًا إلّا الْجُنّةَ. وَكَانَ أَوّلُ مَنْ أَقْبَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ التّوْلِيَةِ قَيْسَ بْنَ مُحَرّثٍ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ بَلَغُوا بَنِي حَارِثَةَ فَرَجَعُوا سِرَاعًا، فَصَادَفُوا الْمُشْرِكِينَ فِي كَرّتِهِمْ [ (2) ] فَدَخَلُوا فِي حَوْمَتِهِمْ، وَمَا أَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتّى قُتِلُوا. وَلَقَدْ ضَارَبَهُمْ قَيْسُ بْنُ مُحَرّثٍ وَامْتَنَعَ بِسَيْفِهِ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ نَفَرًا، فَمَا قَتَلُوهُ إلّا بِالرّمَاحِ، نَظَمُوهُ [ (3) ] ، وَلَقَدْ وُجِدَ بِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ طَعْنَةً [ (4) ] قَدْ جَافَتْهُ،
وَعَشْرُ ضَرَبَاتٍ فِي بَدَنِهِ. وَكَانَ عَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَأَوْسُ بْنُ أَرْقَمَ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبّاسٌ رَافِعٌ صَوْتَهُ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللهَ وَنَبِيّكُمْ [ (1) ] ! هَذَا الّذِي أَصَابَكُمْ بِمَعْصِيَةِ نَبِيّكُمْ، فَيُوعِدُكُمْ [ (2) ] النّصْرَ فَمَا صَبَرْتُمْ! ثُمّ نَزَعَ مِغْفَرَهُ عَنْ رَأْسِهِ وَخَلَعَ دِرْعَهُ فَقَالَ لِخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: هَلْ لَك فِي دُرْعِي وَمِغْفَرِي؟ قَالَ خَارِجَةُ: لَا، أَنَا أُرِيدُ الّذِي تُرِيدُ. فَخَالَطُوا الْقَوْمَ جَمِيعًا، وَعَبّاسٌ يَقُولُ: مَا عُذْرُنَا عِنْدَ رَبّنَا إنْ أُصِيبَ رَسُولُ اللهِ وَمِنّا عَيْنُ تَطْرِفُ؟ يَقُولُ خَارِجَةُ: لَا عُذْرَ لَنَا عِنْدَ رَبّنَا وَلَا حُجّةَ. فَأَمّا عَبّاسٌ فَقَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ السّلَمِيّ، وَلَقَدْ ضَرَبَهُ عَبّاسٌ ضَرْبَتَيْنِ فَجَرَحَهُ جُرْحَيْنِ عَظِيمَيْنِ، فَارْتُثّ يَوْمَئِذٍ جَرِيحًا فَمَكَثَ جَرِيحًا سَنَةً ثُمّ اسْتُبِلّ [ (3) ] . وَأَخَذَتْ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ الرّمَاحُ فَجُرِحَ بَضْعَةَ عَشَرَ جُرْحًا، فمرّ به صفوان ابن أُمَيّةَ فَعَرَفَهُ فَقَالَ: هَذَا مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ وَبِهِ رَمَقٌ! فَأَجْهَزَ عَلَيْهِ. وَقُتِلَ أَوْسُ بْنُ أَرْقَمَ. وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: مَنْ رَأَى خُبَيْبَ بْنَ يَسَافٍ؟ وَهُوَ يَطْلُبُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَمَثّلَ يَوْمَئِذٍ بِخَارِجَةَ وَقَالَ: هَذَا مِمّنْ أَغْرَى بِأَبِي يَوْمَ بَدْرٍ- يَعْنِي أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ- الْآنَ شَفَيْت نَفْسِي حِينَ قَتَلْت الْأَمَاثِلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ، قَتَلْت ابْنَ قَوْقَلٍ [ (4) ] ، وَقَتَلْت ابْنَ أَبِي زُهَيْرٍ، وَقَتَلْت أَوْسَ بْنَ أَرْقَمَ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السّيْفَ
بِحَقّهِ؟ قَالُوا: وَمَا حَقّهُ؟ قَالَ: يَضْرِبُ بِهِ الْعَدُوّ. فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ عَرَضَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الشّرْطِ، فَقَامَ الزّبَيْرُ فَقَالَ: أَنَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وَجَدَ عُمَرُ وَالزّبَيْرُ فِي أَنْفُسِهِمَا. ثُمّ عَرَضَهُ الثالثة، فقال أبو دجانة: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ آخُذُهُ بِحَقّهِ. فَدَفَعَهُ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَدَقَ بِهِ حِينَ لَقِيَ الْعَدُوّ، وَأَعْطَى السّيْفَ حَقّهُ. فَقَالَ أَحَدُ الرّجُلَيْنِ- إمّا عُمَرُ وَإِمّا الزّبَيْرُ: وَاَللهِ لَأَجْعَلَن هَذَا الرّجُلَ مِنْ شَأْنِي، الّذِي أَعْطَاهُ النّبِيّ السّيْفَ وَمَنَعَنِيهِ [ (1) ] . قَالَ: فَاتّبَعْته [ (2) ] . قال: فو الله مَا رَأَيْت أَحَدًا قَاتَلَ أَفْضَلَ مِنْ قِتَالِهِ، لَقَدْ رَأَيْته يَضْرِبُ بِهِ حَتّى إذَا كَلّ عَلَيْهِ وَخَافَ أَلّا يَحِيكَ [ (3) ] عَمَدَ بِهِ إلَى الْحِجَارَةِ فَشَحَذَهُ، ثُمّ يَضْرِبُ بِهِ فِي الْعَدُوّ حَتّى رَدّهُ كَأَنّهُ مِنْجَلٌ. وَكَانَ حِينَ أَعْطَاهُ السّيْفَ مَشَى بَيْنَ الصّفّيْنِ وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ يَمْشِي تِلْكَ الْمِشْيَةَ: إنّ هَذِهِ لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ إلّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ. وَكَانَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِمُونَ فِي الزّحُوفِ، أَحَدُهُمْ أَبُو دُجَانَةَ، كَانَ يُعَصّبُ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ، وَكَانَ قَوْمُهُ يَعْلَمُونَ أَنّهُ إذَا اعْتَصَبَ بِهَا أَحْسَنَ الْقِتَالَ، وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يُعْلِمُ بِصُوفَةٍ بَيْضَاءَ، وَكَانَ الزّبَيْرُ يُعْلِمُ بِعِصَابَةٍ صَفْرَاءَ، وَكَانَ حَمْزَةُ يُعْلِمُ بِرَيْشِ نَعَامَةٍ. قَالَ أَبُو دُجَانَةَ: إنّي لَأَنْظُرُ يَوْمَئِذٍ إلَى امْرَأَةٍ تَقْذِفُ النّاسَ وَتَحُوشُهُمْ حَوْشًا مُنْكَرًا، فَرَفَعْت عَلَيْهَا السّيْفَ وَمَا أَحْسِبُهَا إلّا رَجُلًا. قَالَ: وَأَكْرَهُ أَنْ أَضْرِبَ بِسَيْفِ رَسُولِ اللهِ امْرَأَةً! وَالْمَرْأَةُ عَمْرَةُ بنت الحارث.
وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: أَصَابَنِي الْجِرَاحُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمّا رَأَيْت مَثْلَ الْمُشْرِكِينَ [ (1) ] بِقَتْلَى الْمُسْلِمِينَ أَشَدّ الْمَثْلِ وَأَقْبَحَهُ، قُمْت فَتَجَاوَزْت [ (2) ] عَنْ الْقَتْلَى حَتّى تَنَحّيْت، فَإِنّي لَفِي مَوْضِعِي، إذْ أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ الْعُقَيْلِيّ جَامِعُ اللّأْمَةِ يَحُوزُ [ (3) ] الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ: اسْتَوْسِقُوا كَمَا يُسْتَوْسَقُ جُرْبُ الْغَنَمِ! مُدَجّجًا فِي الْحَدِيدِ يَصِيحُ: يَا مَعْشَرَ قريش، لَا تَقْتُلُوا مُحَمّدًا، ائْسِرُوهُ أَسِيرًا حَتّى نُعَرّفُهُ بِمَا صَنَعَ. وَيَصْمُدُ لَهُ قُزْمَانُ، فَيَضْرِبُهُ بِالسّيْفِ ضَرْبَةً عَلَى عَاتِقِهِ رَأَيْت مِنْهَا سَحْرَهُ، ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَانْصَرَفَ. وَطَلَعَ عَلَيْهِ آخَرُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [ (4) ] مَا أَرَى مِنْهُ إلّا عَيْنَيْهِ، فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً حَتّى جَزَلَهُ [ (5) ] بِاثْنَيْنِ: قَالَ: قُلْنَا مَنْ هُوَ؟ قَالَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ. ثُمّ يَقُولُ كَعْبٌ: إنّي لَأَنْظُرُ يَوْمَئِذٍ وَأَقُولُ: مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الرّجُلِ أَشْجَعَ بِالسّيْفِ! ثُمّ خُتِمَ لَهُ بِمَا خُتِمَ لَهُ بِهِ. فَيَقُولُ: مَا هُوَ وَمَا خُتِمَ لَهُ بِهِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ، قَتَلَ نَفْسَهُ يَوْمَئِذٍ. قَالَ كَعْبٌ: وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ جَامِعُ اللّأْمَةِ يَصِيحُ: اسْتَوْسِقُوا كَمَا يُسْتَوْسَقُ جُرْبُ الْغَنَمِ. وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ لَأْمَتُهُ، فَمَشَيْت حَتّى كُنْت مِنْ وَرَائِهِ ثُمّ قُمْت أُقَدّرُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ بِبَصَرِي [ (6) ] ، فَإِذَا الْكَافِرُ أَكْثَرُهُمَا عُدّةً وَأُهْبَةً، فَلَمْ أَزَلْ أَنْظُرُهُمَا حَتّى الْتَقَيَا، فضرب المسلم الكافر
عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسّيْفِ، فَمَضَى [السّيْفُ] [ (1) ] حَتّى بَلَغَ وَرِكَيْهِ، وَتَفَرّقَ الْمُشْرِكُ فِرْقَتَيْنِ. وَكَشَفَ الْمُسْلِمُ عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى يَا كَعْبُ؟ أَنَا أَبُو دُجَانَةَ. قَالَ: وَكَانَ رُشَيْدٌ الْفَارِسِيّ مولى بنى معاوية لَقِيَ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ مُقَنّعًا فِي الْحَدِيدِ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ عُوَيْمٍ! فَيَعْتَرِضُ لَهُ سَعْدٌ مَوْلَى حَاطِبٍ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً جَزَلَهُ بِاثْنَيْنِ [وَيُقْبِلُ عَلَيْهِ رُشَيْدٌ فَيَضْرِبُهُ عَلَى عَاتِقِهِ، فَقَطَعَ الدّرْعَ حَتّى جَزَلَهُ بِاثْنَيْنِ] [ (1) ] ، وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيّ! وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى ذَلِكَ وَيَسْمَعُهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلَا قُلْت خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيّ؟ فَيَعْتَرِضُ لَهُ أَخُوهُ، وَأَقْبَلَ يَعْدُو كَأَنّهُ كَلْبٌ، يَقُولُ: أَنَا ابْنُ عُوَيْمٍ! وَيَضْرِبُهُ رُشَيْدٌ عَلَى رَأْسِهِ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَفَلَقَ رَأْسَهُ، يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيّ! فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَحْسَنْت يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! فَكَنّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَلَا وَلَدَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو النّمِرِ الْكِنَانِيّ: أَقْبَلْت يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَنَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ حَضَرْت فِي عَشْرَةٍ مِنْ إخْوَتِي، فَقُتِلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ. وَكَانَتْ الرّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ أَوّلَ مَا الْتَقَيْنَا، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَانْكَشَفْنَا مُوَلّينَ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَهَبْ الْعَسْكَرِ، حَتّى بَلَغْت عَلَى قَدَمَيّ الْجَمّاءَ، ثُمّ كَرّتْ خَيْلُنَا فَقُلْنَا: وَاَللهِ مَا كَرّتْ الْخَيْلُ إلّا عَنْ أَمْرٍ رَأَتْهُ. فَكَرَرْنَا عَلَى أَقْدَامِنَا كَأَنّنَا الْخَيْلُ، حَتّى نَجِدَ الْقَوْمَ قَدْ أَخَذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ صُفُوفٍ، مَا يَدْرِي بَعْضُهُمْ مَنْ يَضْرِبُ، وَمَا لِلْمُسْلِمِينَ لِوَاءٌ قَائِمٌ، وَمَعَ رَجُلٍ من بنى عبد الدار لواءنا. وأسمع شعار
أَصْحَابِ مُحَمّدٍ بَيْنَهُمْ: أَمِتْ! أَمِتْ! فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: مَا «أَمِتْ» ؟ وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنّ أَصْحَابَهُ مُحْدِقُونَ بِهِ، وَإِنّ النّبْلَ لَتَمُرّ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَتَقْصُرُ [ (1) ] بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَخْرُجُ مِنْ وَرَائِهِ، وَلَقَدْ رَمَيْت يَوْمَئِذٍ بِخَمْسِينَ مِرْمَاةً فَأَصَبْت مِنْهَا بِأَسْهُمٍ بَعْضَ أَصْحَابِهِ. ثُمّ هَدَانِي اللهُ إلَى الْإِسْلَامِ. فَكَانَ عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ شَاكّا فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ قَوْمُهُ يُكَلّمُونَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَيَقُولُ: لَوْ أَعْلَمُ مَا تَقُولُونَ حَقّا مَا تَأَخّرْت عَنْهُ! حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَدَا لَهُ الْإِسْلَامُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ، فَأَسْلَمَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَخَرَجَ حَتّى دَخَلَ فِي الْقَوْمِ، فَقَاتَلَ حَتّى أُثْبِتَ، فَوُجِدَ فِي الْقَتْلَى جَرِيحًا مَيّتًا، فَدَنَوْا مِنْهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِك يَا عَمْرُو؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ، آمَنْت بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ، ثُمّ أَخَذْت سَيْفِي وَحَضَرْت، فَرَزَقَنِي اللهُ الشّهَادَةَ. وَمَاتَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ. قَالُوا: قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ دَاوُدَ ابن الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ، وَالنّاسُ حَوْلَهُ: أَخْبِرُونِي بِرَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنّةَ لَمْ يُصَلّ لِلّهِ سَجْدَةً قَطّ! فَيَسْكُتُ النّاسُ فَيَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: هُوَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ. قَالُوا: وَكَانَ مُخَيْرِيقٌ [ (2) ] الْيَهُودِيّ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، فقال يوم السبت
وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاَللهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّ محمّدا نبىّ، وأنّ نصره عليكم لحقّ. قالوا: إنّ الْيَوْمَ يَوْمُ السّبْتِ. قَالَ: لَا سَبْتَ! ثُمّ أَخَذَ سِلَاحَهُ ثُمّ حَضَرَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَهُ [ (1) ] الْقَتْلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودَ. وَقَدْ كَانَ مُخَيْرِيقٌ حِينَ خَرَجَ إلَى أُحُدٍ قَالَ: إنْ أَصَبْت فَأَمْوَالِي لِمُحَمّدٍ يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللهُ! فَهِيَ عَامّةُ صَدَقَاتِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ حَاطِبُ بْنُ أُمَيّةَ مُنَافِقًا، وَكَانَ ابْنُهُ يَزِيدُ بْنُ حَاطِبٍ رَجُلَ صِدْقٍ، شَهِدَ أُحُدًا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتُثّ جَرِيحًا، فَرَجَعَ بِهِ قَوْمُهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ أَبُوهُ، وَهُوَ يَرَى أَهْلَ الدّارِ يَبْكُونَ عِنْدَهُ، أَنْتُمْ وَاَللهِ صَنَعْتُمْ هَذَا بِهِ! قَالُوا: كَيْفَ؟ قَالَ: غَرَرْتُمُوهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتّى خَرَجَ فَقُتِلَ، ثُمّ صَارَ [ (2) ] مِنْكُمْ فِي شَيْءٍ آخَرَ، تَعِدُونَهُ جَنّةً يَدْخُلُ فِيهَا، جَنّةً مِنْ حَرْمَلٍ [ (3) ] ! قَالُوا: قَاتَلَك اللهُ! قَالَ: هُوَ ذَاكَ! وَلَمْ يُقِرّ بِالْإِسْلَامِ. قَالُوا: وَكَانَ قُزْمَانُ عَدِيدًا [ (4) ] فِي بَنِي ظَفَرٍ لَا يُدْرَى مِمّنْ هُوَ، وَكَانَ لَهُمْ حَائِطًا مُحِبّا، وَكَانَ مُقِلّا لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا زَوْجَةَ، وَكَانَ شُجَاعًا يُعْرَفُ بِذَلِكَ فِي حُرُوبِهِمْ، تِلْكَ الّتِي كَانَتْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ. فَشَهِدَ أُحُدًا فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا فَقَتَلَ سِتّةً أَوْ سَبْعَةً، وَأَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ فَقِيلَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُزْمَانُ قَدْ أَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ، فَهُوَ شَهِيدٌ! قَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ. فَأُتِيَ [ (5) ] إلَى قُزْمَانُ فَقِيلَ لَهُ: هَنِيئًا لَك يَا أَبَا الْغَيْدَاقِ الشّهَادَةَ! قَالَ: بِمَ تُبَشّرُونِ؟ وَاَللهِ مَا قَاتَلْنَا إلّا على الأحساب. قالوا: بشّرناك بالجنّة. قال:
جَنّةٌ مِنْ حَرْمَلٍ، وَاَللهِ مَا قَاتَلْنَا عَلَى جَنّةٍ وَلَا عَلَى نَارٍ، إنّمَا قَاتَلْنَا عَلَى أَحْسَابِنَا! فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَجَعَلَ يَتَوَجّأُ بِهِ نَفْسَهُ، فَلَمّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْمِشْقَصُ أَخَذَ السّيْفَ فَاتّكَأَ عَلَيْهِ حَتّى خَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَجُلًا أَعْرَجَ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ- وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشَاهِدَ أَمْثَالَ الْأَسَدِ- أَرَادَ بَنُوهُ [ (1) ] أَنْ يَحْبِسُوهُ وَقَالُوا: أَنْتَ رَجُلٌ أَعْرَجُ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْك، وَقَدْ ذَهَبَ بَنُوك مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: بَخٍ! يَذْهَبُونَ إلَى الْجَنّةِ وَأَجْلِسُ أَنَا عِنْدَكُمْ! فَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ امْرَأَتُهُ: كَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ مُوَلّيًا، قَدْ أَخَذَ دَرَقَتَهُ، يَقُولُ: اللهُمّ لَا تَرُدّنِي إلَى أَهْلِي خِزْيًا! فَخَرَجَ وَلَحِقَهُ بَنُوهُ [ (2) ] يُكَلّمُونَهُ فِي الْقُعُودِ، فَأَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ بَنِي [ (3) ] يُرِيدُونَ أَنْ يَحْبِسُونِي عَنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْخُرُوجِ مَعَك، وَاَللهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ الْجَنّةَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمّا أَنْتَ، فَقَدْ عَذَرَك اللهُ تَعَالَى وَلَا جِهَادَ عَلَيْك. [فَأَبَى] [ (4) ] فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِيهِ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَمْنَعُوهُ [ (5) ] ، لَعَلّ اللهَ يَرْزُقُهُ الشّهَادَةَ. فَخَلّوْا عَنْهُ فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: نَظَرْت إلَى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون،
ثُمّ ثَابُوا وَهُوَ فِي الرّعِيلِ [ (1) ] الْأَوّلِ، لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى ضِلَعِهِ [ (2) ] فِي رِجْلِهِ، يَقُولُ: أَنَا وَاَللهِ مُشْتَاقٌ إلَى الْجَنّةِ! ثُمّ أَنْظُرُ إلَى ابْنِهِ يَعْدُو فِي أَثَرِهِ حَتّى قُتِلَا جَمِيعًا. وَكَانَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَتْ فِي نِسْوَةٍ تَسْتَرْوِحُ الْخَبَرَ- وَلَمْ يُضْرَبْ الْحِجَابُ يَوْمَئِذٍ- حَتّى إذَا كَانَتْ بِمُنْقَطِعِ الحرّة وهي هابطة من بنى حارثة إلَى الْوَادِي، لَقِيَتْ هِنْدَ بِنْتَ عَمْرِو بْنِ حرام أخت عبد الله بن عمرو ابن حَرَامٍ تَسُوقُ بَعِيرًا لَهَا، عَلَيْهِ زَوْجُهَا عَمْرُو بن الجموح، وابنها خلّاد ابن عَمْرٍو، وَأَخُوهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عِنْدَك الْخَبَرُ، فَمَا وَرَاءَكِ؟ فَقَالَتْ هِنْدٌ: خَيْرًا، أَمّا رَسُولُ اللهِ فَصَالِحٌ، وَكُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَهُ جَلَلٌ. وَاِتّخَذَ الله من المؤمنين شهداء، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [ (3) ] . قَالَتْ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَتْ: أَخِي، وَابْنِي خَلّادٌ، وَزَوْجِي عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ. قَالَتْ: فَأَيْنَ تَذْهَبِينَ بِهِمْ؟ قَالَتْ: إلَى الْمَدِينَةِ أَقْبُرُهُمْ فِيهَا ... حَلْ! تَزْجُرُ بَعِيرَهَا، ثُمّ بَرَكَ بَعِيرُهَا فَقُلْت: لِمَا عَلَيْهِ! قَالَتْ: مَا ذَاكَ بِهِ، لَرُبّمَا حَمَلَ مَا يَحْمِلُ الْبَعِيرَانِ، وَلَكِنّي أَرَاهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ. فَزَجَرَتْهُ فَقَامَ، فَلَمّا وَجّهَتْ بِهِ إلَى الْمَدِينَةِ بَرَكَ، فوجّهته راجعة إلى أحد فأسرع. فَرَجَعَتْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنّ الْجَمَلَ مَأْمُورٌ، هَلْ قَالَ شيئا؟ قالت: إنّ عمرا لمّا
وجّه إلى أحد استقبل الْقِبْلَةَ وَقَالَ: اللهُمّ لَا تَرُدّنِي إلَى أَهْلِي خِزْيًا وَارْزُقْنِي الشّهَادَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِذَلِكَ الْجَمَلُ لَا يَمْضِي! إنّ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرّهُ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ. يَا هِنْدُ، مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ مُظِلّةً عَلَى أَخِيك مِنْ لَدُنْ قُتِلَ إلَى السّاعَةِ يَنْظُرُونَ أَيْنَ يُدْفَنُ. ثُمّ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى قَبَرَهُمْ، ثُمّ قَالَ: يَا هِنْدُ، قَدْ تَرَافَقُوا فِي الْجَنّةِ جَمِيعًا، عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَابْنُك خَلّادٌ، وَأَخُوك عَبْدُ اللهِ. قَالَتْ هِنْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ، عَسَى أَنْ يَجْعَلَنِي مَعَهُمْ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ، مِنْهُمْ أَبِي، فَقُتِلُوا شُهَدَاءَ. قَالَ جَابِرٌ: كَانَ أَبِي أَوّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ أَبُو أَبِي الْأَعْوَرِ السّلَمِيّ، فَصَلّى عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الْهَزِيمَةِ. قَالَ جَابِرٌ: لَمّا اُسْتُشْهِدَ أَبِي جَعَلَتْ عَمّتِي تَبْكِي، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيهَا؟ مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تَظَلّ عَلَيْهِ بِأَجْنِحَتِهَا حَتّى دُفِنَ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ: رَأَيْت فِي النّوْمِ قبل يوم أحد بأيّام وَكَأَنّي رَأَيْت مُبَشّرَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ يَقُولُ: أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْنَا فِي أَيّامٍ. فَقُلْت: وَأَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: فِي الْجَنّةِ، نَسْرَحُ مِنْهَا حَيْثُ نَشَاءُ. قُلْت لَهُ: أَلَمْ تُقْتَلْ يَوْمَ بَدْرٍ؟ فَقَالَ: بَلَى، ثُمّ أُحْيِيت. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذِهِ الشّهَادَةُ يَا أَبَا جَابِرٍ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، ادْفِنُوا عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بْنَ الْجَمُوحِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَيُقَالُ إنّهُمَا وُجِدَا وَقَدْ مُثّلَ بِهِمَا كُلّ
الْمَثْلِ، قُطِعَتْ آرَابُهُمَا- يَعْنِي عُضْوًا عُضْوًا- فَلَا تُعْرَفُ أَبْدَانُهُمَا، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْفِنُوهُمَا جَمِيعًا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَيُقَالُ إنّمَا أَمَرَ بِدَفْنِهِمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ الصّفَاءِ فَقَالَ: ادْفِنُوا هَذَيْنِ الْمُتَحَابّيْنِ فِي الدّنْيَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ رَجُلًا أَحْمَرَ أَصْلَعَ [ (1) ] ، لَيْسَ بِالطّوِيلِ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ طَوِيلًا، فَعُرِفَا وَدَخَلَ السّيْلُ عَلَيْهِمَا- وَكَانَ قَبْرُهُمَا مِمّا يَلِي السّيْلَ [ (2) ]- فَحُفِرَ عَنْهُمَا، وَعَلَيْهِمَا نَمِرَتَانِ [ (3) ] ، وَعَبْدُ اللهِ قَدْ أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي وَجْهِهِ، فَيَدُهُ عَلَى وَجْهِهِ [ (4) ] ، فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ فَثَعَبَ [ (5) ] الدّمُ، فَرُدّتْ إلَى مَكَانِهَا فَسَكَنَ الدّمُ. قَالَ جَابِرٌ: فَرَأَيْت أَبِي فِي حُفْرَتِهِ فَكَأَنّهُ نَائِمٌ، وَمَا تَغَيّرَ مِنْ حَالِهِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. فَقِيلَ لَهُ: أَفَرَأَيْت أَكْفَانَهُ؟ فَقَالَ: إنّمَا كُفّنَ فِي نَمِرَةٍ خُمّرَ بِهَا وَجْهُهُ وَعَلَى رِجْلَيْهِ الْحَرْمَلُ، فَوَجَدْنَا النّمِرَةَ كَمَا هِيَ وَالْحَرْمَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ وبين وقت دفنه ستّة وأربعون ستة. فَشَاوَرَهُمْ جَابِرٌ فِي أَنْ يُطَيّبَ بِمِسْكٍ، فَأَبَى ذَلِكَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: لَا تُحْدِثُوا فِيهِمْ [ (6) ] شَيْئًا. وَيُقَالُ إنّ مُعَاوِيَةَ لَمّا أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ كِظَامَةَ [ (7) ]- وَالْكِظَامَةُ عَيْنٌ أَحْدَثَهَا مُعَاوِيَةُ- نَادَى مُنَادِيهِ بِالْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ لَهُ قَتِيلٌ بِأُحُدٍ فَلْيَشْهَدْ! فَخَرَجَ النّاسُ إلى قتلاهم فوجدوهم طرايا يتثنّون [ (8) ] ،
فَأَصَابَتْ الْمِسْحَاةُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَثَعَبَ دَمًا. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: لَا يُنْكِرُ بَعْدَ هَذَا مُنْكِرٌ أَبَدًا. وَوُجِدَ عَبْدُ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَوُجِدَ خارجة بن زيد بن أبى زهير وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. فَأَمّا قبر عبد الله وَعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ فَحُوّلَ، وَذَلِك أَنّ الْقَنَاةَ كَانَتْ تَمُرّ عَلَى قَبْرِهِمَا، وَأَمّا قَبْرُ خَارِجَةَ وَسَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ فَتُرِكَا، وَذَلِك لِأَنّ مَكَانَهُمَا كَانَ مُعْتَزَلًا، وَسُوّيَ عَلَيْهِمَا التّرَابُ. وَلَقَدْ كَانُوا يَحْفِرُونَ التّرَابَ، فَكُلّمَا حَفَرُوا فِتْرًا [ (1) ] مِنْ تُرَابٍ فَاحَ عَلَيْهِمْ الْمِسْكُ. وَقَالُوا: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَابِرٍ: يَا جَابِرُ، أَلَا أُبَشّرْك؟ قَالَ، قُلْت: بَلَى بِأَبِي وَأُمّي! قَالَ: فَإِنّ اللهَ أَحْيَا أَبَاك. ثُمّ كَلّمَهُ كَلَامًا فَقَالَ: تَمَنّ عَلَى رَبّك مَا شِئْت. فَقَالَ: أَتَمَنّى أَنْ أَرْجِعَ فَأُقْتَلَ مَعَ نَبِيّك، ثُمّ أُحْيَا فَأُقْتَلَ مَعَ نَبِيّك. قَالَ: إنّي قَدْ قَضَيْت أَنّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ. قَالُوا: وَكَانَتْ نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمّ عُمَارَةَ، وَهِيَ امرأة غزيّة بن عمرو [ (2) ] ، وشهدت أحدا هي وَزَوْجُهَا وَابْنَاهَا، وَخَرَجَتْ، مَعَهَا شَنّ لَهَا فِي أَوّلِ النّهَارِ تُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَ الْجَرْحَى، فَقَاتَلَتْ يَوْمَئِذٍ وَأَبْلَتْ بَلَاءً حَسَنًا، فَجُرِحَتْ اثْنَيْ عَشَرَ جُرْحًا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ أَوْ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ. فَكَانَتْ أُمّ سَعْدٍ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ رَبِيع تَقُولُ: دَخَلْت عَلَيْهَا فَقُلْت لَهَا: يَا خَالَةِ، حَدّثِينِي خَبَرَك. فَقَالَتْ: خَرَجْت أَوّلَ النّهَارِ إلَى أُحُدٍ، وَأَنَا أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النّاسُ، وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ، فَانْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله
عليه وسلّم وهو فى أصحابه، والدّولة والريح لِلْمُسْلِمِينَ. فَلَمّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلْت أُبَاشِرُ القتال وأدبّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالسّيْفِ وَأَرْمِي بِالْقَوْسِ حَتّى خَلَصَتْ إلَيّ الْجِرَاحُ. فَرَأَيْت عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا لَهُ غَوْرٌ أَجْوَفُ [ (1) ] ، فَقُلْت: يَا أُمّ عُمَارَةَ، مَنْ أَصَابَك بِهَذَا؟ قَالَتْ: أَقْبَلَ ابْنُ قَمِيئَةَ، وَقَدْ وَلّى النّاسُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَصِيحُ: دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ، فَلَا نَجَوْت إنْ نَجَا! فَاعْتَرَضَ لَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأُنَاسٌ مَعَهُ، فَكُنْت فِيهِمْ، فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضّرْبَةَ، وَلَقَدْ ضَرَبْته عَلَى ذَلِكَ ضَرَبَاتٍ، وَلَكِنّ عَدُوّ اللهِ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ. قُلْت: يَدَكِ، مَا أَصَابَهَا؟ قَالَتْ: أُصِيبَتْ يَوْمَ الْيَمَامَةِ لَمّا جَعَلَتْ الْأَعْرَابُ يَنْهَزِمُونَ بِالنّاسِ، نَادَتْ [ (2) ] الْأَنْصَارُ: «أَخْلِصُونَا» ، فَأُخْلِصَتْ الْأَنْصَارُ، فَكُنْت مَعَهُمْ، حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى حَدِيقَةِ الْمَوْتِ [ (3) ] ، فَاقْتَتَلْنَا عَلَيْهَا سَاعَةً حَتّى قُتِلَ أَبُو دُجَانَةَ عَلَى بَابِ الْحَدِيقَةِ، وَدَخَلْتهَا وَأَنَا أُرِيدُ عَدُوّ اللهِ مُسَيْلِمَةَ، فَيَعْتَرِضُ لِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَضَرَبَ يدي فقطعها، فو الله مَا كَانَتْ لِي نَاهِيَةً وَلَا عَرّجْت عَلَيْهَا حَتّى وَقَفْت عَلَى الْخَبِيثِ مَقْتُولًا، وَابْنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ الْمَازِنِيّ يَمْسَحُ سَيْفَهُ بِثِيَابِهِ. فَقُلْت: قَتَلْته؟ قَالَ: نَعَمْ. فَسَجَدْت شُكْرًا لِلّهِ. وَكَانَ ضَمْرَةُ بْنُ سَعِيدٍ يُحَدّثُ عَنْ جَدّتِهِ، وَكَانَتْ قَدْ شَهِدَتْ أُحُدًا تَسْقِي الْمَاءَ، قَالَتْ: سَمِعْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَمُقَامُ نُسَيْبَةَ بِنْتِ كَعْبٍ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ! وَكَانَ يَرَاهَا تُقَاتِلُ يَوْمَئِذٍ أَشَدّ الْقِتَالِ، وَإِنّهَا لَحَاجِزَةٌ ثَوْبَهَا عَلَى وَسَطِهَا، حتى جرحت ثلاثة عشر
جُرْحًا. فَلَمّا حَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ كُنْت فِيمَنْ غَسّلَهَا، فَعَدّدْت جِرَاحَهَا جُرْحًا جُرْحًا فَوَجَدْتهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُرْحًا. وَكَانَتْ تَقُولُ: إنّي لَأَنْظُرُ إلَى ابْنِ قَمِيئَةَ وَهُوَ يَضْرِبُهَا عَلَى عَاتِقِهَا- وَكَانَ أَعْظَمَ جِرَاحِهَا، لَقَدْ دَاوَتْهُ سَنَةً- ثُمّ نَادَى مُنَادِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ! فَشَدّتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا فَمَا اسْتَطَاعَتْ مِنْ نَزْفِ الدّمِ. وَلَقَدْ مَكَثْنَا لَيْلَنَا نُكَمّدُ الْجِرَاحَ حَتّى أَصْبَحْنَا، فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَمْرَاءِ، مَا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ حَتّى أَرْسَلَ إلَيْهَا عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ الْمَازِنِيّ يَسْأَلُ عَنْهَا، فَرَجَعَ إلَيْهِ يُخْبِرُهُ بِسَلَامَتِهَا فَسُرّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْجَبّارِ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ قَالَ: قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ: قَدْ رَأَيْتنِي وَانْكَشَفَ النّاسُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا بَقِيَ إلّا نُفَيْرٌ مَا يُتِمّونَ عَشْرَةً، وَأَنَا وَابْنَايَ وَزَوْجِي بَيْنَ يَدَيْهِ نَذُبّ عَنْهُ، وَالنّاسُ يَمُرّونَ بِهِ مُنْهَزِمِينَ. وَرَآنِي لَا تُرْسَ مَعِي، فَرَأَى رَجُلًا مُوَلّيًا مَعَهُ تُرْسٌ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ التّرْسِ، أَلْقِ تُرْسَك إلَى مَنْ يُقَاتِلُ! فَأَلْقَى تُرْسَهُ فَأَخَذْته فَجَعَلْت أُتَرّسُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنّمَا فَعَلَ بِنَا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رَجّالَةً مِثْلَنَا أَصَبْنَاهُمْ، إنْ شَاءَ اللهُ! فَيُقْبِلُ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ فَضَرَبَنِي، وَتَرّسْت لَهُ فَلَمْ يَصْنَعْ سَيْفُهُ شَيْئًا وَوَلّى، وَأَضْرِبُ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ. فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِيحُ: يَا ابْنَ أُمّ عُمَارَةَ، أُمّك، أُمّك! قَالَتْ: فَعَاوَنَنِي عَلَيْهِ حَتّى أَوْرَدْته شَعُوب. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: جُرِحْت يَوْمَئِذٍ جُرْحًا فِي عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنه الرّقل [ (1) ]
وَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيّ وَمَضَى عَنّي، وَجَعَلَ الدّمُ لَا يَرْقَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْصِبْ جُرْحَك. فَتَقْبَلُ أُمّي إلَيّ وَمَعَهَا عَصَائِبُ فِي حَقْوَيْهَا قَدْ أَعَدّتْهَا لِلْجِرَاحِ، فَرَبَطَتْ جُرْحِي وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ يَنْظُرُ، ثُمّ قَالَتْ: انْهَضْ يَا بُنَيّ فَضَارِبْ الْقَوْمَ. فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَمَنْ يُطِيقُ مَا تُطِيقِينَ يَا أُمّ عُمَارَةَ؟ قَالَتْ: وَأَقْبَلَ الرّجُلُ الّذِي ضَرَبَنِي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا ضَارِبُ ابْنِك. قَالَتْ: فَأَعْتَرِضُ لَهُ فَأَضْرِبُ سَاقَهُ فَبَرَكَ، فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَسّمَ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمّ قَالَ: اسْتَقَدْتِ يَا أُمّ عُمَارَةَ! ثُمّ أَقْبَلْنَا إلَيْهِ نَعْلُوهُ [ (1) ] بِالسّلَاحِ حَتّى أَتَيْنَا عَلَى نَفَسِهِ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي ظَفّرَك وَأَقَرّ عَيْنَك مِنْ عَدُوّك، وَأَرَاك ثَأْرَك بِعَيْنِك. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ [ (2) ] بِمُرُوطٍ [ (3) ] ، فَكَانَ فِيهَا مِرْطٌ وَاسِعٌ جَيّدٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنّ هَذَا الْمِرْطَ لَثَمَنُ كَذَا وَكَذَا، فَلَوْ أَرْسَلْت بِهِ إلَى زَوْجَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ صَفِيّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ- وَذَلِك حِدْثَانَ مَا دَخَلَتْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ. فَقَالَ: أَبْعَثُ بِهِ إلَى مَنْ هُوَ أَحَقّ مِنْهَا، أُمّ عمارة نسيبة بنت كعب. سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ يَقُولُ: مَا الْتَفَتّ يَمِينًا وَلَا شمالا إلّا وأنا أراها تقاتل دوني.
فَقَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ. عن مروان بن أبى سعيد ابن المعلّى، قال: قيل لأمّ عمارة: هل كنّ نساء قريش يَوْمَئِذٍ يُقَاتِلْنَ مَعَ أَزْوَاجِهِنّ؟ فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاَللهِ، مَا رَأَيْت امْرَأَةً مِنْهُنّ رَمَتْ بِسَهْمٍ وَلَا بِحَجَرٍ، وَلَكِنْ رَأَيْت مَعَهُنّ الدّفَافَ وَالْأَكْبَارَ، يَضْرِبْنَ وَيُذَكّرْنَ الْقَوْمَ قَتْلَى بَدْرٍ، وَمَعَهُنّ مَكَاحِلُ وَمَرَاوِدُ، فَكُلّمَا وَلّى رَجُلٌ أَوْ تَكَعْكَعَ [ (1) ] نَاوَلَتْهُ إحْدَاهُنّ مِرْوَدًا وَمُكْحُلَةً وَيَقُلْنَ: إنّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ! وَلَقَدْ رَأَيْتهنّ وَلّيْنَ مُنْهَزِمَاتٍ مُشَمّرَاتٍ- وَلَهَا عَنْهُنّ الرّجَالُ أَصْحَابُ الْخَيْلِ، وَنَجَوْا عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ- يَتْبَعْنَ الرّجَالَ عَلَى الْأَقْدَامِ، فَجَعَلْنَ يَسْقُطْنَ فِي الطّرِيقِ. وَلَقَدْ رَأَيْت هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ، وَكَانَتْ امْرَأَةً ثَقِيلَةً وَلَهَا خَلْقٌ، قَاعِدَةً خَاشِيَةً مِنْ الْخَيْلِ مَا بِهَا مَشْيٌ، وَمَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى، حَتّى كَرّ [ (2) ] الْقَوْمُ عَلَيْنَا فَأَصَابُوا مِنّا مَا أَصَابُوا، فَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُ مَا أَصَابَنَا يَوْمَئِذٍ مِنْ قِبَلِ الرّمَاةِ وَمَعْصِيَتِهِمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ابن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، قال: سمعت عبد الله بن زيد ابن عاصم يقول: شهدت أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمّا تَفَرّقَ النّاسُ عَنْهُ دَنَوْت مِنْهُ، وَأُمّي تَذُبّ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أُمّ عُمَارَةَ! قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: ارْمِ! فَرَمَيْت بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِحَجَرٍ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ، فَأَصَبْت [ (3) ] عَيْنَ الْفَرَسِ فَاضْطَرَبَ الْفَرَسُ حَتّى وَقَعَ هُوَ وَصَاحِبُهُ، وَجَعَلْت أَعْلُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى نَضَدْت عَلَيْهِ مِنْهَا وِقْرًا [ (4) ] ، وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ وَيَتَبَسّمُ، فَنَظَرَ إلَى جُرْحٍ بِأُمّي على عاتقها فقال: أمّك، أمّك!
اعْصِبْ جُرْحَهَا، بَارَكَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ! مُقَامُ أُمّك خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَمُقَامُ رَبِيبِك- يَعْنِي زَوْجَ أُمّهِ- خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَمُقَامُك لَخَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، رَحِمَكُمْ اللهُ أَهْلَ الْبَيْتِ! قَالَتْ: اُدْعُ اللهَ أَنْ نُرَافِقَك فِي الْجَنّةِ. قَالَ: اللهُمّ اجْعَلْهُمْ رُفَقَائِي فِي الْجَنّةِ. قَالَتْ: مَا أُبَالِي مَا أَصَابَنِي مِنْ الدّنْيَا. قَالُوا: وَكَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ تَزَوّجَ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ بْنِ سَلُولَ، فَأُدْخِلْت عَلَيْهِ فِي اللّيْلَةِ الّتِي فِي صُبْحِهَا قِتَالُ أُحُدٍ. وَكَانَ قَدْ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمّا صَلّى الصّبْحَ غَدًا يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَزِمَتْهُ جَمِيلَةُ فَعَادَ فَكَانَ مَعَهَا، فَأَجْنَبَ مِنْهَا ثُمّ أَرَادَ الْخُرُوجَ، وَقَدْ أَرْسَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ إلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ قَوْمِهَا فَأَشْهَدَتْهُمْ أَنّهُ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَقِيلَ لَهَا بَعْدُ: لِمَ أَشْهَدْت عَلَيْهِ؟ قَالَتْ: رَأَيْت كَأَنّ السّمَاءَ فُرِجَتْ فَدَخَلَ فِيهَا حَنْظَلَةُ ثُمّ أُطْبِقَتْ، فَقُلْت: هَذِهِ الشّهَادَةُ! فَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ أَنّهُ قَدْ دَخَلَ بِهَا [ (1) ] . وَتَعْلَقُ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، ثُمّ تَزَوّجَهَا ثَابِتُ بْنُ قيس بَعْدُ فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمّدَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ. وَأَخَذَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ سِلَاحَهُ، فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ وَهُوَ يُسَوّي الصّفُوفَ. قَالَ: فَلَمّا انْكَشَفَ المشركون اعترض حنظلة ابن أبى عامر لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَضَرَبَ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ فَاكْتَسَعَتْ الْفَرَسُ، وَيَقَعُ أَبُو سُفْيَانَ إلَى الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَصِيحُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَنَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ! وَحَنْظَلَةُ يُرِيدُ ذَبْحَهُ بِالسّيْفِ، فَأَسْمَعَ الصّوْتُ رِجَالًا لَا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ مِنْ الْهَزِيمَةِ حَتّى عَايَنَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ شَعُوبَ، فَحَمَلَ [ (2) ] على حنظلة
بِالرّمْحِ فَأَنْفَذَهُ، فَمَشَى حَنْظَلَةُ إلَيْهِ بِالرّمْحِ وَقَدْ أَثْبَتَهُ، ثُمّ ضَرَبَهُ الثّانِيَةَ فَقَتَلَهُ. وَهَرَبَ أَبُو سُفْيَانَ يَعْدُو عَلَى قَدَمَيْهِ فَلَحِقَ بِبَعْضِ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَ عَنْ صَدْرِ فَرَسِهِ وَرَدِفَ وَرَاءَ أَبِي [ (1) ] سُفْيَانَ- فَذَلِكَ قَوْلُ [ (2) ] أَبِي سُفْيَانَ. فَلَمّا قُتِلَ حَنْظَلَةُ مَرّ عَلَيْهِ أَبُوهُ، وَهُوَ مَقْتُولٌ إلَى جَنْبِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ، فَقَالَ: إنْ كُنْت لَأُحَذّرُك هَذَا الرّجُلَ [ (3) ] مِنْ قَبْلِ هَذَا الْمَصْرَعِ، وَاَللهِ إنْ كُنْت لَبَرّا بِالْوَالِدِ، شَرِيفَ الْخُلُقِ فِي حَيَاتِك، وَإِنّ مَمَاتَك لَمَعَ سَرَاةِ أَصْحَابِك وَأَشْرَافِهِمْ. وَإِنْ جَزَى اللهُ هَذَا الْقَتِيلَ- لِحَمْزَةَ- خَيْرًا، أَوْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ، فَجَزَاك [ (4) ] اللهُ خَيْرًا. ثُمّ نَادَى: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، حَنْظَلَةُ لَا يُمَثّلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ خَالَفَنِي وَخَالَفَكُمْ، فَلَمْ يَأْلُ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرَى خَيْرًا. فَمُثّلَ بِالنّاسِ وَتُرِكَ فَلَمْ يُمَثّلْ بِهِ. وَكَانَتْ هِنْدٌ أَوّلَ مَنْ مَثّلَ بِأَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَتْ النّسَاءَ بِالْمَثْلِ- جَدْعِ الْأُنُوفِ وَالْآذَانِ- فَلَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ إلّا عَلَيْهَا مِعْضَدَانِ [ (5) ] وَمَسَكَتَانِ وَخَدَمَتَانِ، وَمُثّلَ بِهِمْ كُلّهُمْ إلّا حَنْظَلَةَ. وَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تُغَسّلُ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِر بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِمَاءِ الْمُزْنِ فِي صِحَافِ الْفِضّةِ. قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ: فَذَهَبْنَا فَنَظَرْنَا إلَيْهِ فَإِذَا رَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً. قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: فَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته، فَأَرْسَلَ إلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنّهُ خَرَجَ وَهُوَ جُنُب. وَأَقْبَلَ وَهْبُ بْنُ قَابُوسٍ الْمُزَنِيّ، وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بن عقبة بن
قَابُوسٍ، بِغَنَمٍ لَهُمَا مِنْ جَبَلِ مُزَيْنَةَ، فَوَجَدَا الْمَدِينَةَ خُلُوفًا [ (1) ] فَسَأَلَا: أَيْنَ النّاسُ؟ فَقَالُوا: بِأُحُدٍ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَا: لَا نَبْتَغِي أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ. فَخَرَجَا حَتّى أَتَيَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ فَيَجِدَانِ الْقَوْمَ يَقْتَتِلُونَ، وَالدّوْلَةُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَغَارَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي النّهْبِ، وَجَاءَتْ الْخَيْلُ مِنْ وَرَائِهِمْ، خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَاخْتَلَطُوا، فَقَاتَلَا أَشَدّ الْقِتَالِ. فَانْفَرَقَتْ فِرْقَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ؟ فَقَالَ وَهْبُ بْنُ قَابُوسٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَامَ فَرَمَاهُمْ بِالنّبْلِ حَتّى انْصَرَفُوا ثُمّ رَجَعَ [ (2) ] ، فَانْفَرَقَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ؟ فَقَالَ الْمُزَنِيّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَامَ فَذَبّهَا بِالسّيْفِ حَتّى وَلّوْا، ثُمّ رَجَعَ الْمُزَنِيّ. ثُمّ طَلَعَتْ كَتِيبَةٌ أُخْرَى فَقَالَ: مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْمُزَنِيّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: قُمْ وَأَبْشِرْ بِالْجَنّةِ. فَقَامَ الْمُزَنِيّ مَسْرُورًا يَقُولُ: وَاَللهِ لَا أَقِيلُ وَلَا أَسْتَقِيلُ. فَقَامَ فَجَعَلَ يَدْخُلُ فِيهِمْ فَيَضْرِبُ بِالسّيْفِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَالْمُسْلِمُونَ، حَتّى خَرَجَ مِنْ أَقْصَاهُمْ [ (3) ] ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللهُمّ ارْحَمْهُ! ثُمّ يَرْجِعُ فِيهِمْ فَمَا زَالَ كَذَلِكَ، وَهُمْ مُحْدِقُونَ بِهِ، حَتّى اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ وَرِمَاحُهُمْ فَقَتَلُوهُ، فَوُجِدَ بِهِ يَوْمَئِذٍ عِشْرُونَ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، كُلّهَا قَدْ خَلَصَتْ إلَى مَقْتَلٍ، وَمُثّلَ بِهِ أَقْبَحَ الْمَثْلِ يَوْمَئِذٍ. ثُمّ قَامَ ابْنُ أَخِيهِ فَقَاتَلَ كَنَحْوِ قِتَالِهِ حَتّى قُتِلَ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ: إنّ أَحَبّ مِيتَةٍ أَمُوتُ عليها لما مات عليها المزنىّ.
وَكَانَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ يُحَدّثُ يَقُولُ: شَهِدْنَا الْقَادِسِيّةَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ، فَلَمّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا وَقُسِمَتْ بَيْنَنَا غَنَائِمُنَا، فأسقط فتى من آل قابوس من مُزَيْنَةَ، فَجِئْت سَعْدًا حِينَ فَرَغَ [ (1) ] مِنْ نَوْمِهِ فَقَالَ: بِلَالٌ؟ قُلْت: بِلَالٌ! قَالَ: مَرْحَبًا بِك، مَنْ هَذَا مَعَك؟ قُلْت: رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ آلِ قَابُوسٍ. قَالَ سَعْدٌ: مَا أَنْتَ يَا فَتًى مِنْ الْمُزَنِيّ الّذِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: ابْنُ أَخِيهِ. قَالَ سَعْدٌ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، وَنَعِمَ اللهُ بِك عَيْنًا [ (2) ] ، ذَلِكَ الرّجُلُ شَهِدْت مِنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ مَشْهَدًا مَا شَهِدْته مِنْ أَحَدٍ. لَقَدْ رَأَيْتنَا وَقَدْ أَحْدَقَ الْمُشْرِكُونَ بِنَا مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطَنَا وَالْكَتَائِبُ تَطْلُعُ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرْمِي بِبَصَرِهِ فِي النّاسِ يَتَوَسّمُهُمْ [ (3) ] يَقُولُ: مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ؟ كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ الْمُزَنِيّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ! كُلّ ذَلِكَ يَرُدّهَا [ (4) ] ، فَمَا أَنْسَى آخِرَ مَرّةٍ قَامَهَا [ (5) ] فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ وَأَبْشِرْ بِالْجَنّةِ! قَالَ سَعْدٌ: وَقُمْت عَلَى أَثَرِهِ، يَعْلَمُ اللهُ أَنّي أَطْلُبُ مِثْلَ مَا يَطْلُبُ يَوْمَئِذٍ مِنْ الشّهَادَةِ، فَخُضْنَا حَوْمَتَهُمْ حَتّى رَجَعْنَا فِيهِمْ الثّانِيَةَ، وَأَصَابُوهُ رَحِمَهُ اللهُ، وَوَدِدْت وَاَللهِ أَنّي كُنْت أُصِبْت يَوْمَئِذٍ مَعَهُ، وَلَكِنّ أَجَلِي اسْتَأْخَرَ. ثُمّ دَعَا سَعْدٌ مِنْ سَاعَتِهِ بِسَهْمِهِ فَأَعْطَاهُ وَفَضّلَهُ وَقَالَ: اخْتَرْ فِي الْمُقَامِ عِنْدَنَا أَوْ الرّجُوعِ إلَى أَهْلِك. فَقَالَ بِلَالٌ: إنّهُ يَسْتَحِبّ الرّجُوعَ. فَرَجَعْنَا. وَقَالَ سَعْدٌ: أَشْهَدُ لَرَأَيْت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عليه وهو
مَقْتُولٌ، وَهُوَ يَقُولُ: رَضِيَ اللهُ عَنْك فَإِنّي عَنْك رَاضٍ. ثُمّ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ- وَقَدْ نَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِرَاحِ [ (1) ] مَا نَالَهُ، وَإِنّي لَأَعْلَمُ أَنّ الْقِيَامَ لَيَشُقّ عَلَيْهِ- عَلَى قَبْرِهِ حَتّى وُضِعَ فِي لَحْدِهِ، وَعَلَيْهِ بُرْدَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ خُضْرٌ [ (2) ] ، فَمَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُرْدَةَ عَلَى رَأْسِهِ فَخَمّرَهُ، وَأَدْرَجَهُ فِيهَا طُولًا وَبَلَغَتْ نِصْفَ سَاقَيْهِ، وَأَمَرَنَا فَجَمَعْنَا الْحَرْمَلَ فَجَعَلْنَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ وَهُوَ فِي لَحْدِهِ، ثُمّ انْصَرَفَ. فَمَا حَالٌ أَمُوتُ عَلَيْهَا أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ تَعَالَى عَلَى حَالِ الْمُزَنِيّ. قَالُوا: وَلَمّا صَاحَ إبْلِيسُ «إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ» تَفَرّقَ النّاسُ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَرَدَ الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أَوّلُ مَنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ يُخْبِرُ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قد قتل سَعْدَ بْنَ عُثْمَانَ أَبُو عُبَادَةَ. ثُمّ وَرَدَ بَعْدَهُ رِجَالٌ حَتّى دَخَلُوا عَلَى نِسَائِهِمْ، حَتّى جَعَلَ النّسَاءُ يَقُلْنَ: أَعَنْ رَسُولِ اللهِ تَفِرّونَ؟ قَالَ: يَقُولُ ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ: أَعَنْ رَسُولِ اللهِ تَفِرّونَ؟ ثُمّ جَعَلَ يُؤَفّفُ [ (3) ] بِهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ بِالْمَدِينَةِ، يُصَلّي بِالنّاسِ، ثُمّ قَالَ: اعْدِلُونِي [ (4) ] عَلَى الطّرِيقِ- يَعْنِي طَرِيقَ أُحُدٍ- فَعَدَلُوهُ عَلَى الطّرِيقِ، فَجَعَلَ يَسْتَخْبِرُ كُلّ مَنْ لَقِيَ عَنْ طَرِيقِ أُحُدٍ حَتّى لَحِقَ الْقَوْمَ، فَعَلِمَ بِسَلَامَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ رَجَعَ. وَكَانَ ممّن ولّى فلان [ (5) ] ، والحارث ابن حَاطِبٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَسَوّادُ بْنُ غَزِيّةَ، وسعد بن عثمان، وعقبة
ابن عُثْمَانَ، وَخَارِجَةُ بْنُ عَامِرٍ، بَلَغَ مَلَلَ [ (1) ] ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي حَارِثَة، بَلَغُوا الشّقْرَةَ [ (2) ] وَلَقِيَتْهُمْ أُمّ أَيْمَنَ تَحْثِي فِي وُجُوهِهِمْ التّرَابَ، وَتَقُولُ لِبَعْضِهِمْ: هَاكَ الْمِغْزَلُ فَاغْزِلْ بِهِ، وَهَلُمّ سَيْفَك! فَوَجّهَتْ إلَى أُحُدٍ مَعَ نُسَيّاتٍ مَعَهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ: إنّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْدُوا الْجَبَلَ، وَكَانُوا فِي سَفْحِهِ، وَلَمْ يُجَاوِزُوهُ إلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ فِيهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ (3) ] . وَيُقَالُ: إنّهُ كَانَ بَيْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَعُثْمَانَ كَلَامٌ، فَأَرْسَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ إلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَدَعَاهُ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى أَخِيك فَبَلّغْهُ عَنّي مَا أَقُولُ لَك، فَإِنّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا يُبَلّغُهُ غَيْرَك. قَالَ الْوَلِيدُ: أَفْعَلُ. قَالَ: قُلْ، يقول لك عبد الرحمن: شهدت بدرا ولم تشهد، وثبتّ يوم أحد وولّيت عَنْهُ، وَشَهِدْت بَيْعَةَ الرّضْوَانِ وَلَمْ تَشْهَدْهَا. فَجَاءَهُ [ (4) ] فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقَ أَخِي! تَخَلّفْت عَنْ بدر على ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مَرِيضَةٌ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِي وَأَجْرِي فَكُنْت بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَضَرَ. وَوَلّيْت يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَدْ عَفَا اللهُ ذَلِكَ عَنّي [ (5) ] ، فَأَمّا بَيْعَةُ الرّضْوَانِ فَإِنّي خَرَجْت إلَى أَهْلِ [ (6) ] مَكّةَ، بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ عُثْمَانَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ. وَبَايَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى يَدَيْهِ الْأُخْرَى [ (1) ] ، فَكَانَتْ شِمَالُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا مِنْ يَمِينِي. فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ حِينَ جَاءَهُ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ: صَدَقَ أَخِي! وَنَظَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَقَالَ: هَذَا مِمّنْ عَفَا اللهُ عَنْهُ، وَاَللهِ مَا عَفَا اللهُ عَنْ شَيْءٍ فَرَدّهُ، وَكَانَ تَوَلّى يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ. وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنْ عثمان فقال: إنه أذنب يوم أحد ذنبا عَظِيمًا، فَعَفَا اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ مِمّنْ تَوَلّى يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَأَذْنَبَ فِيكُمْ ذَنْبًا صَغِيرًا فَقَتَلْتُمُوهُ! وَقَالَ عَلِيّ: لَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَجَالَ النّاسُ تِلْكَ الْجَوْلَةَ أَقْبَلَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ دَارِعٌ مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ، مَا يُرَى مِنْهُ إلّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ. فَيَعْتَرِضُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُ أُمَيّةُ. قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: وَأَصْمُدُ لَهُ فَأَضْرِبُهُ بِالسّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ- وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ وَتَحْتَ الْبَيْضَةِ مِغْفَرٌ- فَنَبَا سَيْفِي، وَكُنْت رَجُلًا قَصِيرًا. وَيَضْرِبُنِي بِسَيْفِهِ فَأَتّقِي بِالدّرَقَةِ، فَلَحِجَ سَيْفُهُ فَأَضْرِبُهُ، وَكَانَتْ دِرْعُهُ مُشَمّرَةً، فَأَقْطَعُ رِجْلَيْهِ، وَوَقَعَ فَجَعَلَ يُعَالِجُ سَيْفَهُ حَتّى خَلّصَهُ مِنْ الدّرَقَةِ، وَجَعَلَ يُنَاوِشُنِي وَهُوَ بَارِكٌ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، حَتّى نَظَرْت إلَى فَتْقٍ تَحْتَ إبِطِهِ فَأَخُشّ بِالسّيْفِ فِيهِ، فَمَالَ وَمَاتَ وَانْصَرَفْت عنه.
وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ [ (1) ] . وَقَالَ أَيْضًا: أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ! وَقَالُوا: أَتَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فِي رَهْطٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قُعُودًا، وَمَرّ بِهِمْ أَنَسُ بْنُ النّضْرِ بْنِ ضَمْضَمٍ عَمّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ: مَا يُقْعِدُكُمْ؟ قَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ! ثُمّ [ (2) ] جَالَدَ بِسَيْفِهِ حَتّى قُتِلَ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَبْعَثَهُ اللهُ أُمّةً وَحْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَوُجِدَ بِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً فِي وَجْهِهِ. مَا عُرِفَ حَتّى عَرَفَتْ أُخْتُهُ حُسْنَ بَنَانِهِ، وَيُقَالُ حُسْنَ ثَنَايَاهُ [ (3) ] . قَالُوا: وَمَرّ مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَهُوَ قَاعِدٌ فِي حَشْوَتِهِ، بِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُرْحًا، كُلّهَا قَدْ خَلَصَتْ إلَى مَقْتَلٍ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ؟ قَالَ خَارِجَةُ: فَإِنْ كَانَ قَدْ قُتِلَ فَإِنّ اللهَ حَيّ لَا يَمُوتُ، فَقَدْ بَلّغَ مُحَمّدٌ، فَقَاتِلْ عَنْ دِينِك! وَمَرّ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ وَبِهِ اثْنَا عَشَرَ جُرْحًا، كُلّهَا قَدْ خَلَصَ إلَى مَقْتَلٍ، فَقَالَ: عَلِمْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ؟ قَالَ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ: أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا قَدْ بَلّغَ رِسَالَةَ رَبّهِ، فَقَاتِلْ عَنْ دِينِك، فَإِنّ اللهَ حَيّ لَا يَمُوتُ! وَقَالَ مُنَافِقٌ: إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قُتِلَ فَارْجِعُوا إلى قومكم، فإنهم داخلو البيوت.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمّارٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ الْخِطْمِيّ. قَالَ: أَقْبَلَ ثَابِتُ بْنُ الدّحْدَاحَةِ يَوْمَئِذٍ وَالْمُسْلِمُونَ أَوْزَاعٌ، قَدْ سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَجَعَلَ يَصِيحُ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، إلَيّ! إلَيّ! أَنَا ثَابِتُ بْنُ الدّحْدَاحَةِ، إنْ كَانَ مُحَمّدٌ قَدْ قُتِلَ فَإِنّ اللهَ حَيّ لَا يَمُوتُ! فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنّ اللهَ مُظْهِرُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ! فَنَهَضَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ يَحْمِلُ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَقَفَتْ لَهُمْ كَتِيبَةٌ خَشْنَاءُ، فِيهَا رُؤَسَاؤُهُمْ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، فَجَعَلُوا يُنَاوِشُونَهُمْ. وَحَمَلَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالرّمْحِ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ فَوَقَعَ مَيّتًا. وَقُتِلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ. فَيُقَالُ إنّ هَؤُلَاءِ لَآخِرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَوَصَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الشّعْبِ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِتَالٌ. كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أُحُدٍ قَدْ خَاصَمَ إلَيْهِ يَتِيمٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَبَا لُبَابَةَ فِي عَذْقٍ بَيْنَهُمَا، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لُبَابَةَ، فَجَزَعَ الْيَتِيمُ عَلَى الْعَذْقِ، وَطَلَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم العذق إلى أبى لبابة لِلْيَتِيمِ، فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَبِي لُبَابَةَ: لَك بِهِ عَذْقٌ فِي الْجَنّةِ [ (1) ] . فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ، فَقَالَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أرأيت إن أعطيت اليتيم عذقه، ما لي [ (2) ] ؟ قَالَ: عَذْقٌ فِي الْجَنّةِ. قَالَ: فَذَهَبَ ثَابِتُ بن الدّحداحة فاشترى من أبى لبابة ابن عَبْدِ الْمُنْذِرِ ذَلِكَ الْعَذْقَ بِحَدِيقَةِ نَخْلٍ، ثُمّ رَدّ عَلَى الْغُلَامِ الْعَذْقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُبّ عَذْقٍ مُذَلّلٍ لابن الدّحداحة فى الجنّة.
فَكَانَتْ تُرْجَى لَهُ الشّهَادَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى قُتِلَ بِأُحُدٍ. وَيُقْبِلُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ فَارِسًا، يَجُرّ قَنَاةً لَهُ طَوِيلَةً، فيطعن عمرو ابن مُعَاذٍ فَأَنْفَذَهُ، وَيَمْشِي عَمْرٌو إلَيْهِ حَتّى غُلِبَ، فَوَقَعَ لِوَجْهِهِ. يَقُولُ ضِرَارٌ: لَا تَعْدَمَن رَجُلًا زَوّجَك مِنْ الْحُورِ الْعِينِ. وَكَانَ يَقُولُ: زَوّجْت عَشَرَةً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: سَأَلْت ابْنَ جَعْفَرٍ: هَلْ قَتَلَ عَشَرَةً؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنّهُ قَتَلَ إلّا ثَلَاثَةً. وَقَدْ ضَرَبَ يَوْمَئِذٍ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حَيْثُ جَالَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْجَوْلَةَ بِالْقَنَاةِ. قَالَ: يَا ابْنَ الْخَطّابِ، إنّهَا نِعْمَةٌ مَشْكُورَةٌ، وَاَللهِ مَا كُنْت لِأَقْتُلَك! وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ يُحَدّثُ وَيَذْكُرُ وَقْعَةَ أُحُدٍ، وَيَذْكُرُ الْأَنْصَارَ وَيَتَرَحّمُ عَلَيْهِمْ، وَيَذْكُرُ غِنَاءَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَشَجَاعَتَهُمْ، وَتَقَدّمَهُمْ [ (1) ] عَلَى الْمَوْتِ، ثُمّ يَقُولُ: لَمّا قُتِلَ أَشْرَافُ قَوْمِي بِبَدْرٍ جَعَلْت أَقُولُ: مَنْ قَتَلَ أَبَا الْحَكَمِ؟ يُقَالُ: ابْنُ عَفْرَاءَ. مَنْ قَتَلَ أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ؟ يقال: خبيب ابن يَسَافٍ. مَنْ قَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ؟ قَالُوا: عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. مَنْ قَتَلَ فُلَانًا؟ فَيُسَمّى لِي. مَنْ أَسَرَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو؟ قَالُوا: مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ. فَلَمّا خَرَجْنَا إلَى أُحُدٍ وَأَنَا أَقُولُ: إنْ أَقَامُوا فِي صَيَاصِيِهِمْ فَهِيَ مَنِيعَةٌ، لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِمْ، نُقِيمُ أَيّامًا ثُمّ نَنْصَرِفُ، وَإِنْ خَرَجُوا إلَيْنَا مِنْ صَيَاصِيِهِمْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ- مَعَنَا عَدَدٌ كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِهِمْ وَقَوْمٌ [ (2) ] مَوْتُورُونَ خَرَجْنَا بِالظّعُنِ يُذَكّرْنَنَا قَتْلَى بَدْرٍ، وَمَعَنَا كُرَاعٌ وَلَا كُرَاعَ مَعَهُمْ، وَمَعَنَا سِلَاحٌ أَكْثَرُ مِنْ سلاحهم. فقضى لهم أن خرجوا، فالتقينا، فو الله
مَا أَقَمْنَا لَهُمْ حَتّى هُزِمْنَا وَانْكَشَفْنَا مُوَلّينَ، فَقُلْت فِي نَفْسِي: هَذِهِ أَشَدّ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ! وَجَعَلْت أَقُولُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: كُرّ عَلَى الْقَوْمِ! فَجَعَلَ يَقُولُ: وَتَرَى وَجْهًا نَكُرّ فِيهِ؟ حَتّى نَظَرْت إلَى الْجَبَلِ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ الرّمَاةُ خَالِيًا، فَقُلْت: أَبَا سُلَيْمَانَ، اُنْظُرْ وَرَاءَك! فَعَطَفَ عَنَانَ فَرَسِهِ، فَكّرَ وَكَرَرْنَا مَعَهُ، فَانْتَهَيْنَا إلَى الْجَبَلِ فَلَمْ نَجِدْ عَلَيْهِ أَحَدًا لَهُ بَالٌ، وَجَدْنَا نُفَيْرًا فَأَصَبْنَاهُمْ، ثُمّ دَخَلْنَا الْعَسْكَرَ، وَالْقَوْمُ غَارّونَ يَنْتَهِبُونَ الْعَسْكَرَ، فَأَقْحَمْنَا الْخَيْلَ عَلَيْهِمْ فَتَطَايَرُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَوَضَعْنَا السّيُوفَ فِيهِمْ حَيْثُ شِئْنَا. وَجَعَلْت أَطْلُبُ الْأَكَابِرَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ قَتَلَةَ الْأَحِبّةِ فَلَا أَرَى أَحَدًا، قَدْ هَرَبُوا، فَمَا كَانَ حَلْبَ نَاقَةٍ حَتّى تداعيت الْأَنْصَارُ بَيْنَهَا، فَأَقْبَلَتْ فَخَالَطُونَا وَنَحْنُ فُرْسَانٌ، فَصَبَرُوا لَنَا [ (1) ] ، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ حَتّى عَقَرُوا فَرَسِي وَتَرَجّلْت، فَقَتَلْت مِنْهُمْ عَشَرَةً. وَلَقِيت مِنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ الْمَوْتَ النّاقِعَ حَتّى وَجَدْت رِيحَ الدّمِ، وَهُوَ مُعَانِقِي، مَا يُفَارِقُنِي حَتّى أَخَذَتْهُ الرّمَاحُ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ وَوَقَعَ، فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أُكْرِمهُمْ بِيَدِي وَلَمْ يُهِنّي بِأَيْدِيهِمْ. وَقَالُوا: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِذَكْوَانِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ؟ قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَنَا رَأَيْت يَا رَسُولَ اللهِ فَارِسًا يَرْكُضُ فِي أَثَرِهِ حَتّى لَحِقَهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَجَوْت إنْ نجوت! فحمل عليه بفرسه، وذكوان رجل، فَضَرَبَهُ وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ عِلَاجٍ! فَأَهْوَيْت إلَيْهِ وَهُوَ فَارِسٌ، فَضَرَبْت رِجْلَهُ بِالسّيْفِ حَتّى قَطَعْتهَا عَنْ نِصْفِ الْفَخِذِ، ثُمّ طَرَحْته مِنْ فَرَسِهِ فَذَفَفْت عَلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ أَبُو الحكم بن الأخنس بن شريق ابن علاج بن عمرو بن وهب الثّقفىّ.
وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ خَوّاتٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: قَالَ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمّا كَرّ الْمُشْرِكُونَ انْتَهَوْا إلَى الْجَبَلِ، وَقَدْ عَرِيَ مِنْ الْقَوْمِ، وَبَقِيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ، فَهُمْ عَلَى رَأْسِ عَيْنَيْنِ. فلمّا طلع خالد ابن الْوَلِيدِ وَعِكْرِمَةُ فِي الْخَيْلِ [ (1) ] ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: انْبَسِطُوا نَشْرًا [ (2) ] لِئَلّا يَجُوزَ الْقَوْمُ! فَصَفّوا وَجْهَ الْعَدُوّ، وَاسْتَقْبَلُوا الشّمْسَ، فَقَاتَلُوا سَاعَةً حَتّى قُتِلَ أَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَدْ جُرِحَ عَامّتُهُمْ. فَلَمّا وَقَعَ جَرّدُوهُ وَمَثّلُوا بِهِ أَقْبَحَ الْمَثْلِ، وَكَانَتْ الرّمَاحُ قَدْ شَرَعَتْ فِي بَطْنِهِ حَتّى خَرَقَتْ مَا بَيْنَ سُرّتِهِ إلَى خَاصِرَتِهِ إلَى عَانَتِهِ [ (3) ] ، فَكَانَتْ حَشْوَتُهُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا. فَلَمّا جَالَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْجَوْلَةَ مَرَرْت بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَلَقَدْ ضَحِكْت فِي مَوْضِعٍ مَا ضَحِكَ فِيهِ أَحَدٌ قَطّ، وَنَعَسْت فِي مَوْضِعٍ مَا نَعَسَ فِيهِ أَحَدٌ، وَبَخِلْت فِي مَوْضِعٍ مَا بَخِلَ فِيهِ أَحَدٌ. فَقِيلَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: حَمَلْته فَأَخَذْت بِضَبُعَيْهِ [ (4) ] ، وَأَخَذَ أَبُو حَنّةَ بِرِجْلَيْهِ، وَقَدْ شَدَدْت [ (5) ] جُرْحَهُ بِعِمَامَتِي، فَبَيْنَا نَحْنُ نَحْمِلُهُ وَالْمُشْرِكِينَ نَاحِيَةً إلَى أَنْ سَقَطَتْ عِمَامَتِي مِنْ جُرْحِهِ فَخَرَجَتْ حَشْوَتُهُ، فَفَزِعَ صَاحِبِي وَجَعَلَ يَلْتَفِتُ وَرَاءَهُ يَظُنّ أَنّهُ الْعَدُوّ، فَضَحِكْت. وَلَقَدْ شَرَعَ لِي رَجُلٌ بِرُمْحٍ يَسْتَقْبِلُ بِهِ ثُغْرَةَ نَحْرِي، فَغَلَبَنِي النّوْمُ وَزَالَ الرّمْحُ. وَلَقَدْ رَأَيْتنِي حِينَ انْتَهَيْت إلَى الْحَفْرِ لَهُ، وَمَعِي قَوْسِي، وَغَلُظَ عَلَيْنَا الْجَبَلُ فَهَبَطْنَا بِهِ الْوَادِيَ، فَحَفَرْت بِسِيَةِ الْقَوْسِ وَفِيهَا الْوَتَرُ، فَقُلْت: لَا أُفْسِدُ
الْوَتَرَ! فَحَلَلْته ثُمّ حَفَرْت بِسِيَتِهَا حَتّى أَنْعَمْنَا، ثُمّ غَيّبْنَاهُ وَانْصَرَفْنَا، وَالْمُشْرِكُونَ بَعْدُ نَاحِيَةً، وَقَدْ تَحَاجَزْنَا، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ وَلّوْا. قَالُوا: وَكَانَ وَحْشِيّ عَبْدًا لِابْنَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ- وَيُقَالُ كَانَ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ- فَقَالَتْ ابْنَةُ الْحَارِثِ: إنّ أَبِي قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْت أَحَدَ الثّلَاثَةِ فَأَنْتَ حُرّ، إنْ قَتَلْت مُحَمّدًا، أَوْ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَوْ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنّي لَا أَرَى فِي الْقَوْمِ كُفُؤًا لِأَبِي غَيْرَهُمْ. قَالَ وَحْشِيّ: أَمّا رَسُولُ اللهِ فَقَدْ عَلِمْت [ (1) ] أَنّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَنّ أَصْحَابَهُ لَنْ يُسْلِمُوهُ. وَأَمّا حَمْزَةُ فَقُلْت: وَاَللهِ لَوْ وَجَدْته نَائِمًا مَا أَيْقَظْته مِنْ هَيْبَتِهِ، وَأَمّا عَلِيّ فَقَدْ كُنْت أَلْتَمِسُهُ [ (2) ] . قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي النّاسِ أَلْتَمِسُ عَلِيّا إلَى أَنْ طَلَعَ عَلَيّ، فَطَلَعَ رَجُلٌ حَذِرٌ مَرِسٌ، كَثِيرُ الِالْتِفَاتِ. فَقُلْت: مَا هَذَا صَاحِبِي الّذِي أَلْتَمِسُ! إذْ رَأَيْت حَمْزَةَ يَفْرِي النّاسَ فَرْيًا، فَكَمَنْت إلَى صَخْرَةٍ، وَهُوَ مُكَبّسٌ، لَهُ كَثِيبٌ [ (3) ] ، فَاعْتَرَضَ لَهُ سِبَاعُ ابن أُمّ أَنْمَارٍ- وَكَانَتْ أُمّهُ خَتّانَةً بِمَكّةَ مَوْلَاةً لِشَرِيفِ بْنِ عِلَاجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ، وَكَانَ سِبَاعٌ يُكَنّى أَبَا نِيَارٍ- فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ: وَأَنْتَ أَيْضًا يَا ابْنَ مُقَطّعَةِ الْبُظُورِ [ (4) ] مِمّنْ يُكْثِرُ عَلَيْنَا. هَلُمّ إلَيّ! فَاحْتَمَلَهُ حَتّى إذَا بَرَقَتْ [ (5) ] قَدَمَاهُ رَمَى بِهِ، فَبَرَكَ عَلَيْهِ فَشَحَطَهُ شَحْطَ الشّاةِ. ثُمّ أَقْبَلَ إلَيّ مِكْبَسًا [ (6) ] حِينَ رَآنِي، فَلَمّا بَلَغَ الْمَسِيلَ وَطِئَ على جرف [ (7) ] فزلّت قدمه، فهززت حربتي
حَتّى رَضِيت مِنْهَا، فَأَضْرِبُ بِهَا فِي خَاصِرَتِهِ حَتّى خَرَجْت مِنْ مَثَانَتِهِ. وَكَرّ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: أَبَا عُمَارَةَ! فَلَا يُجِيبُ، فَقُلْت: قَدْ، وَاَللهِ مَاتَ الرّجُلُ! وَذَكَرْت هِنْدًا وَمَا لَقِيَتْ عَلَى أَبِيهَا وَعَمّهَا وَأَخِيهَا، وَانْكَشَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ حِينَ أَيْقَنُوا مَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنِي، فَأَكُرّ عَلَيْهِ فَشَقَقْت بَطْنَهُ فَأَخْرَجْت كَبِدَهُ، فَجِئْت بِهَا إلَى هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ، فَقُلْت: مَاذَا لِي إنْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِيك؟ قَالَتْ: سَلَبِي! فَقُلْت: هَذِهِ كَبِدُ حَمْزَةَ. فَمَضَغَتْهَا ثُمّ لَفَظَتْهَا، فَلَا أَدْرِي لَمْ تُسِغْهَا أَوْ قَذَرَتْهَا. فَنَزَعَتْ ثِيَابَهَا وَحُلِيّهَا فَأَعْطَتْنِيهِ، ثُمّ قَالَتْ: إذَا جِئْت مَكّةَ فَلَك عَشَرَةُ دَنَانِيرَ. ثُمّ قَالَتْ: أَرِنِي مَصْرَعَهُ! فَأَرَيْتهَا مَصْرَعَهُ، فَقَطَعَتْ مَذَاكِيرَهُ، وَجَدَعَتْ أَنْفَهُ، وَقَطَعَتْ أُذُنَيْهِ، ثُمّ جَعَلَتْ مَسَكَتَيْنِ وَمِعْضَدَيْنِ وخدمتين حتى قدمت بذلك مكّة، وقدمت يكبده مَعَهَا. فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَدِيّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ: غَزَوْنَا الشّامَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَمَرَرْنَا بِحِمْصٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقُلْنَا: وَحْشِيّ! فَقَالُوا: لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، هُوَ الْآنَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حَتّى يُصْبِحَ. فَبِتْنَا مِنْ أَجْلِهِ وَإِنّا لَثَمَانُونَ رَجُلًا، فَلَمّا صَلّيْنَا الصّبْحَ جِئْنَا إلَى مَنْزِلِهِ، فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، قَدْ طُرِحَتْ لَهُ زِرْبِيّةٌ [ (1) ] قَدْرَ مَجْلِسِهِ، فَقُلْنَا لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ وَعَنْ مُسَيْلِمَةَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا بِتْنَا هَذِهِ اللّيْلَةَ إلّا مِنْ أَجْلِك. فَقَالَ: إنّي كُنْت عَبْدًا لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ بن عدىّ، فَلَمّا خَرَجَ النّاسُ إلَى أُحُدٍ دَعَانِي فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت مَقْتَلَ طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيّ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمْ تَزَلْ نِسَاؤُنَا فِي حُزْنٍ شَدِيدٍ إلَى يَوْمِي هذا،
فَإِنْ قَتَلْت حَمْزَةَ فَأَنْتَ حُرّ. قَالَ: فَخَرَجْت مَعَ النّاسِ وَلِي مَزَارِيقُ [ (1) ] ، وَكُنْت أَمُرّ بِهِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ فَتَقُولُ: إيه أَبَا دَسِمَةَ، اشْفِ وَاشْتَفِ! فَلَمّا وَرَدْنَا أُحُدًا نَظَرْت إلَى حَمْزَةَ يَقْدُمُ النّاسَ يَهُدّهُمْ [ (2) ] هَدّا فَرَآنِي وَأَنَا قَدْ كَمَنْت لَهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَأَقْبَلَ نَحْوِي وَيَعْتَرِضُ لَهُ سِبَاعٌ الْخُزَاعِيّ، فَأَقْبَلَ إلَيْهِ فَقَالَ: وَأَنْتَ أَيْضًا [يَا] ابْنَ مُقَطّعَةِ الْبُظُورِ مِمّنْ يُكْثِرُ عَلَيْنَا، هَلُمّ إلَيّ! قَالَ: وَأَقْبَلَ حَمْزَةُ فَاحْتَمَلَهُ حَتّى رَأَيْت بَرَقَانَ رِجْلَيْهِ، ثُمّ ضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمّ قَتَلَهُ. وَأَقْبَلَ نَحْوِي سَرِيعًا حَتّى يَعْتَرِضَ لَهُ جُرُفٌ فَيَقَعُ فِيهِ، وَأَزْرُقُهُ بِمِزْرَاقِي فَيَقَعُ فِي ثُنّتِهِ [ (3) ] حَتّى خَرَجَ مِنْ بَيْن رِجْلَيْهِ، فَقَتَلْته، وَأَمُرّ بِهِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ [ (4) ] فَأَعْطَتْنِي حُلِيّهَا وَثِيَابَهَا. وَأَمّا مُسَيْلِمَةُ، فَإِنّا دَخَلْنَا حَدِيقَةَ الْمَوْتِ، فَلَمّا رَأَيْته زَرَقْته بِالْمِزْرَاقِ وَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِالسّيْفِ، فَرَبّك أَعْلَمُ أَيّنَا قَتَلَهُ إلّا أَنّي سَمِعْت امْرَأَةً تَصِيحُ فَوْقَ الدّيْرِ [ (5) ] : قَتَلَهُ الْعَبْدُ الْحَبَشِيّ. قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَقُلْت: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: فَأَكَرّ [ (6) ] بَصَرَهُ عَلَيّ، وَقَالَ: ابْنُ عَدِيّ وَلِعَاتِكَةِ بِنْتِ أَبِي الْعِيصِ! قَالَ: قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا وَاَللهِ مَا لِي بِك عَهْدٌ بَعْدَ أَنْ رَفَعْتُك إلَى أُمّك فِي مِحَفّتِهَا الّتِي تُرْضِعُك فِيهَا، وَنَظَرْت إلَى بَرَقَانِ قدميك حتى كأن الآن.
وَكَانَ فِي سَاقَيْ هِنْدٍ خَدَمَتَانِ مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ، وَمَسَكَتَانِ مِنْ وَرِقٍ [ (1) ] ، وَخَوَاتِمَ مِنْ وَرِقٍ، كُنّ فِي أَصَابِعِ رِجْلَيْهَا، فَأَعْطَتْنِي ذَلِكَ. وَكَانَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَقُولُ: رُفِعْنَا [ (2) ] فِي الْآطَامِ وَمَعَنَا حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَنَحْنُ فِي فَارِعٍ [ (3) ] ، فَجَاءَ نَفَرٌ مِنْ الْيَهُودِ يَرْمُونَ الْأُطُمَ، فَقُلْت: عِنْدَك يَا ابْنَ الْفُرَيْعَةِ [ (4) ] ! فَقَالَ: لَا وَاَللهِ، مَا أَسْتَطِيعُ، مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَخْرُجَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى أُحُدٍ! وَيَصْعَدُ يَهُودِيّ إلَى الْأُطُمِ فَقُلْت: شُدّ عَلَى يَدِي السّيْفَ، ثُمّ بَرِئَتْ! فَفَعَلَ. قَالَتْ: فَضَرَبْت عُنُقَهُ، ثُمّ رَمَيْت بِرَأْسِهِ إلَيْهِمْ، فَلَمّا رَأَوْهُ انْكَشَفُوا. قَالَتْ: وَإِنّي فِي فَارِعٍ أَوّلَ النّهَارِ مُشْرِفَةٌ عَلَى الْأُطُمِ، فَرَأَيْت الْمِزْرَاقَ يزرق به، فقلت: أو من سِلَاحِهِمْ الْمَزَارِيقُ؟ أَفَلَا أَرَاهُ هَوَى إلَى أَخِي وَلَا أَشْعُرُ. قَالَتْ: ثُمّ خَرَجْت آخِرَ النّهَارِ حَتّى جِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَتْ تُحَدّثُ تَقُولُ: كُنْت أَعْرِفُ انْكِشَافَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى الْأُطُمِ، يَرْجِعُ حَسّانٌ إلَى أَقْصَى الْأُطُمِ، فَإِذَا رَأَى الدّوْلَةَ لِأَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ حَتّى يَقِفَ عَلَى جِدَارِ الْأُطُمِ. قَالَتْ: وَلَقَدْ خَرَجْت وَالسّيْفُ فِي يَدِي، حَتّى إذَا كُنْت فِي بَنِي حَارِثَةَ أَدْرَكْت نِسْوَةً مِنْ الْأَنْصَارِ وَأُمّ أَيْمَنَ مَعَهُنّ، فكان الجمز [ (5) ] منّا حتى
انْتَهَيْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ أَوْزَاعٌ، فَأَوّلُ مَنْ لَقِيت عَلِيّ ابْنُ أَخِي، فَقَالَ: ارْجِعِي يَا عَمّةِ فَإِنّ فِي النّاسِ تَكَشّفًا فَقُلْت: رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: صَالِحٌ بِحَمْدِ اللهِ! قُلْت: اُدْلُلْنِي عَلَيْهِ حَتّى أَرَاهُ. فَأَشَارَ لِي إلَيْهِ إشَارَةً خَفِيّةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَانْتَهَيْت إلَيْهِ وَبِهِ الْجِرَاحَةُ. قَالَ: وَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَا فَعَلَ عَمّي؟ مَا فَعَلَ عَمّي حَمْزَةُ؟ فَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ فَأَبْطَأَ، فَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: يَا رَبّ إنّ الْحَارِثَ بْنَ الصّمّهْ ... كَانَ رَفِيقًا وَبِنَا ذَا ذِمّهْ قَدْ ضَلّ فِي مَهَامِهٍ مُهِمّهْ ... يَلْتَمِسُ الْجَنّةَ فِيمَا تَمّهْ [ (1) ] قَالَ الْوَاقِدِيّ: سَمِعْتهَا مِنْ الْأَصْبَغِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَنَا غُلَامٌ، وَكَانَ بِسِنّ أَبِي الزّنَادِ- حَتّى انْتَهَى إلَى الْحَارِثِ وَوَجَدَ حَمْزَةَ مَقْتُولًا، فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا وَقَفْت مَوْقِفًا قَطّ أَغْيَظَ إلَيّ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ! فَطَلَعَتْ صَفِيّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا زُبَيْرُ أَغْنِ عَنّي أُمّك، وَحَمْزَةُ يُحْفَرُ لَهُ. فَقَالَ: يَا أُمّهُ، إنّ فِي النّاسِ تَكَشّفًا [فَارْجِعِي] . فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِفَاعِلَةٍ حَتّى أَرَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا رَأَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ ابْنَ أُمّي حَمْزَةَ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُوَ فِي النّاسِ. قَالَتْ: لَا أَرْجِعُ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ. قَالَ الزّبَيْرُ: فَجَعَلْت أَطِدُهَا [ (2) ] إلَى الْأَرْضِ حَتّى دُفِنَ حَمْزَةُ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا أَنْ يُحْزِنَ ذَلِكَ نِسَاءَنَا، لَتَرَكْنَاهُ لِلْعَافِيَةِ- يَعْنِي السّبَاعَ وَالطّيْرَ- حَتّى يُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ بُطُونِ السّبَاعِ وحواصل الطّير.
وَنَظَرَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ إلَى حَمْزَةَ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يَهُدّ [ (1) ] النّاسَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. فَقَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رَجُلًا أَسْرَعَ فِي قَوْمِهِ- وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مُعْلِمًا بِرِيشَةِ نِسْرٍ. وَيُقَالُ: لَمّا أُصِيبَ حَمْزَةُ جَاءَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَطْلُبُهُ، فَحَالَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ الْأَنْصَارُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهَا! فَجَلَسَتْ عِنْدَهُ فَجَعَلَتْ إذَا بَكَتْ بَكَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا نَشَجَتْ يَنْشِجُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْكِي، وَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَكَتْ بَكَى، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِك [ (2) ] أَبَدًا! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: أبشرا! أتانى جبرئيل فَأَخْبَرَنِي أَنّ حَمْزَةَ مَكْتُوبٌ فِي أَهْلِ السّمَوَاتِ السّبْعِ- حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ. قَالَ: وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثْلًا شَدِيدًا فَأَحْزَنَهُ ذَلِكَ الْمَثْلُ، ثُمّ قَالَ: لَئِنْ ظَفِرْت بِقُرَيْشٍ لَأُمَثّلَن بِثَلَاثِينَ مِنْهُمْ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [ (3) ] فَعَفَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُمَثّلْ بِأَحَدٍ. وَجَعَلَ أَبُو قَتَادَةَ يُرِيدُ أَنْ يَنَالَ مِنْ قُرَيْش، لِمَا رَأَى مِنْ غَمّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ حَمْزَةَ وَمَا مُثّلَ بِهِ، كُلّ ذَلِكَ يُشِيرُ إلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اجْلِسْ ثَلَاثًا- وَكَانَ قَائِمًا- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْتَسِبُك عِنْدَ اللهِ. ثُمّ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا قتادة، إنّ قُرَيْشًا أَهْلُ أَمَانَةٍ، مَنْ بَغَاهُمْ الْعَوَاثِرَ كبّه الله لفيه، وعسى إن
طَالَتْ بِك مُدّةٌ أَنْ تَحْقِرَ [ (1) ] عَمَلَك مَعَ أَعْمَالِهِمْ وَفَعَالَك مَعَ فَعَالِهِمْ، لَوْلَا أَنْ تَبْطَرَ قُرَيْشٌ لَأَخْبَرْتهَا بِمَا لَهَا عِنْدَ اللهِ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا غَضِبْت إلّا لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ حِينَ نَالُوا مِنْهُ مَا نَالُوا! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْت، بِئْسَ الْقَوْمُ كَانُوا لِنَبِيّهِمْ! وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ: يَا رَسُولَ الله، إنّ هولاء قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ تَرَى، وَقَدْ سَأَلْت اللهَ عَزّ وَجَلّ وَرَسُولَهُ فَقُلْت: اللهُمّ إنّي أُقْسِمُ عَلَيْك أَنْ نَلْقَى الْعَدُوّ غَدًا فَيَقْتُلُونَنِي وَيَبْقُرُونَنِي وَيُمَثّلُونَ بِي، فَأَلْقَاك مَقْتُولًا قَدْ صُنِعَ هَذَا بِي، فَتَقُول: فِيمَ صُنِعَ بِك هَذَا؟ فَأَقُول: فِيك! وَأَنَا أَسْأَلُك أُخْرَى: أَنْ تَلِي تَرِكَتِي مِنْ بَعْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ وَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ، وَمُثّلَ بِهِ كُلّ الْمَثْلِ وَدُفِنَ، وَدُفِنَ هُوَ وَحَمْزَةُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَوَلِيَ تَرِكَتَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَى لِأُمّهِ مَالًا بِخَيْبَرَ. وَأَقْبَلَتْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ وَهِيَ أُخْتُهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا حَمْنُ، احْتَسِبِي! قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: خَالُك حَمْزَةُ. قَالَتْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، غفر الله له ورحمه، فهنيئا لَهُ الشّهَادَةَ! ثُمّ قَالَ لَهَا: احْتَسِبِي! قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَخُوك. قَالَتْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، غَفَرَ اللهُ لَهُ وَرَحِمَهُ، هَنِيئًا لَهُ الْجَنّةَ! ثُمّ قَالَ لَهَا: احْتَسِبِي! قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: مصعب بن عمير [ (2) ] . قالت: وا حزناه! ويقال إنها قالت: وا عقراه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ لِلزّوْجِ مِنْ الْمَرْأَةِ مَكَانًا مَا هُوَ لِأَحَدٍ. ثُمّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ قُلْت هَذَا؟ قَالَتْ: يا رسول الله،
ذَكَرْت يُتْمَ بَنِيهِ فَرَاعِنِي. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَلَدِهِ أَنْ يُحْسَنَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْخَلَفِ، فَتَزَوّجَتْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمّدَ بْنَ طَلْحَةَ، وَكَانَ أَوْصَلَ النّاسِ لِوَلَدِهِ. وَكَانَتْ حَمْنَةُ خَرَجَتْ يَوْمَئِذٍ إلَى أُحُدٍ مَعَ النّسَاءِ يَسْقِينَ الْمَاءَ. وَخَرَجَتْ السّمَيْرَاءُ بِنْتُ قَيْسٍ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ ابْنَاهَا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ، النّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَسُلَيْمُ بْنُ الْحَارِثِ، فَلَمّا نُعِيَا لَهَا قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: خَيْرًا، هُوَ بِحَمْدِ اللهِ صَالِحٌ عَلَى مَا تُحِبّينَ. قَالَتْ: أَرُونِيهِ أَنْظُرُ إلَيْهِ! فَأَشَارُوا لَهَا إلَيْهِ فَقَالَتْ: كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك يَا رَسُولَ اللهِ جَلَلٌ. وَخَرَجَتْ تَسُوقُ بِابْنَيْهَا بَعِيرًا تَرُدّهُمَا إلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَتْهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَتْ: أَمّا رَسُولُ اللهِ، بِحَمْدِ اللهِ فَبِخَيْرٍ، لَمْ يَمُتْ! واتخذ الله من المؤمنين شهداء وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [ (1) ] . قَالَتْ: مَنْ هَؤُلَاءِ مَعَك؟ قَالَتْ: ابْنَايَ ... حَلْ! حَلْ! وَقَالُوا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَأْتِينِي بخبر سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ؟ فَإِنّي قَدْ رَأَيْته- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْوَادِي- وَقَدْ شَرَعَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ سِنَانًا. قَالَ: فَخَرَجَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ- وَيُقَالُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ- فَخَرَجَ نَحْوَ تِلْكَ النّاحِيَةِ. قَالَ: وَأَنَا وَسْطَ الْقَتْلَى أَتَعَرّفُهُمْ، إذْ مَرَرْت بِهِ صَرِيعًا فِي الْوَادِي، فَنَادَيْته فَلَمْ يُجِبْ، ثُمّ قُلْت: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي إلَيْك! فتنفّس كما يتنفّس الكير [ (2) ] ، ثم قال:
وَإِنّ رَسُولَ اللهِ لَحَيّ؟ قَالَ: قُلْت: نَعَمْ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنّهُ شُرِعَ لَك اثْنَا عَشَرَ سِنَانًا. قَالَ: طُعِنْت اثْنَتَيْ عَشْرَةَ طَعْنَةً، كُلّهَا أَجَافَتْنِي [ (1) ] ، أَبْلِغْ قَوْمَك الْأَنْصَارَ السّلَامَ وَقُلْ لَهُمْ: اللهَ، اللهَ! وَمَا عَاهَدْتُمْ عَلَيْهِ رَسُولَ اللهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ! وَاَللهِ مَا لَكُمْ عُذْرٌ عِنْدَ اللهِ إنْ خُلِصَ إلَى نَبِيّكُمْ وَمِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ! وَلَمْ أَرِمْ [ (2) ] مِنْ عِنْدِهِ حَتّى مَاتَ. قَالَ: فَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته. قَالَ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَقُولُ: اللهُمّ الْقَ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ وَأَنْتَ عَنْهُ رَاضٍ! قَالُوا: وَلَمّا صَاحَ إبْلِيسُ «إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ» يُحْزِنُهُمْ [ (3) ] بِذَلِكَ، تَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَجَعَلَ النّاسُ يَمُرّونَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَلْوِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ، حَتّى انْتَهَى مَنْ انْتَهَى مِنْهُمْ إلَى الْمِهْرَاسِ [ (4) ] ، وَوَجّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَصْحَابَهُ فِي الشّعْبِ. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا صَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ كَانُوا فِئَتَهُ [ (5) ] . وَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: لَمّا انْتَهَى إلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا [ (6) ] فِئَتَهُ، فَانْتَهَى إلَى الشّعْبِ وَأَصْحَابُهُ فِي الْجَبَلِ أَوْزَاعٌ، يَذْكُرُونَ مَقْتَل مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَيَذْكُرُونَ مَا جَاءَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ كَعْبٌ: وَكُنْت أَوّلَ مَنْ عَرَفَهُ وعليه
الْمِغْفَرُ. قَالَ: فَجَعَلْت أَصِيحُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ حَيّا سَوِيّا! وَأَنَا فِي الشّعْبِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُومِئُ إلَيّ بِيَدِهِ عَلَى فِيهِ أَنْ اُسْكُتْ، ثُمّ دَعَا بِلَأْمَتِي- وَكَانَتْ صَفْرَاءَ أَوْ بَعْضَهَا- فَلَبِسَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَعَ لَأْمَتَهُ. قَالَ: وَطَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الشّعْبِ بَيْنَ السّعْدَيْنِ، سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، يَتَكَفّأُ فِي الدّرْعِ، وَكَانَ إذَا مَشَى تَكَفّأَ تَكَفّؤًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُقَالُ إنّهُ كَانَ يَتَوَكّأُ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ- وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جُرِحَ يَوْمَئِذٍ، فَمَا صَلّى الظّهْرَ إلّا جَالِسًا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ بِي قُوّةً! فَحَمَلَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى الصّخْرَةِ عَلَى طَرِيقِ أُحُدٍ- مَنْ أَرَادَ شِعْبَ الْجَزّارِينَ- لَمْ يَعْدُهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَيْرِهَا، ثُمّ حَمَلَهُ طَلْحَةُ حَتّى ارْتَفَعَ عَلَيْهَا، ثُمّ مَضَى إلَى أَصْحَابِهِ وَمَعَهُ النّفَرُ الّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ. فَلَمّا نَظَرَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ مَعَهُ جَعَلُوا يُوَلّونَ فِي الشّعْبِ، ظَنّوا أَنّهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، حَتّى جَعَلَ أَبُو دُجَانَةَ يُلِيحُ إلَيْهِمْ بِعِمَامَةٍ حَمْرَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، فَعَرَفُوهُ فَرَجَعُوا، أَوْ بَعْضُهُمْ. وَيُقَالُ إنّهُ لَمّا طَلَعَ فِي النّفَرِ الّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ، الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ- سَبْعَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَسَبْعَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ- وَجَعَلُوا يُوَلّونَ فِي الْجَبَلِ، جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسّمُ إلَى أَبِي بكر وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَلِحْ إلَيْهِمْ! فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُلِيحُ، وَلَا يَرْجِعُونَ حَتّى نَزَعَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةً حَمْرَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، فَأَوْفَى [ (1) ] عَلَى الْجَبَلِ فَجَعَلَ يَصِيحُ وَيُلِيحُ، فَوَقَفُوا حَتّى تَلَاحَقَ [ (2) ] الْمُسْلِمُونَ. وَلَقَدْ وَضَعَ أَبُو بُرْدَةَ بن نيار سهما على كبد قوسه،
فَأَرَادَ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ الْقَوْمَ [ (1) ] ، فَلَمّا تَكَلّمُوا وَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنّهُمْ [ (2) ] لَمْ يُصِبْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مُصِيبَةٌ حِينَ أَبْصَرُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ عَرَضَ الشّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ وَتَخْزِيَتِهِ [ (3) ] لَهُمْ حِينَ أَبْصَرُوا عَدُوّهُمْ قَدْ انْفَرَجُوا عَنْهُمْ. قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: إنّي إلَى جَنْبِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيّ وَهُوَ يَذْكُرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ قَوْمِهِ وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ، فَيُخْبَرُ بِرِجَالٍ، مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ وَخَارِجَةُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَهُوَ يَسْتَرْجِعُ وَيَتَرَحّمُ عَلَيْهِمْ، وَبَعْضُهُمْ يَسْأَلُ بَعْضًا عَنْ حميمه، فهم يخبرون بعضهم بعضا. فبيناهم عَلَى ذَلِكَ رَدّ اللهُ الْمُشْرِكِينَ لِيَذْهَبَ بِالْحُزْنِ عَنْهُمْ، فَإِذَا عَدُوّهُمْ فَوْقَهُمْ قَدْ عَلَوْا، وَإِذَا كَتَائِبُ الْمُشْرِكِينَ. فَنَسُوا مَا كَانُوا يَذْكُرُونَ، وَنَدَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَضّنَا عَلَى الْقِتَالِ، وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فِي عُرْضِ الْجَبَلِ يَعْدُونَ. فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: لَمّا صَاحَ الشّيْطَانُ «قُتِلَ مُحَمّدٌ» أَقْبَلْت أَرْقَى فِي الْجَبَلِ كَأَنّي أُرْوِيّةٌ [ (4) ] ، فَانْتَهَيْت إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... [ (5) ] الْآيَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهُمّ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُوَنَا [ (6) ] ! فَانْكَشَفُوا. قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ: لَقَدْ رَأَيْتنَا قَبْلَ أَنْ يُلْقَى عَلَيْنَا النّعَاسُ، وَإِنّا لَسِلْمٌ لِمَنْ أَرَادَنَا، لِمَا بِنَا مِنْ الْحُزْنِ، فَأُلْقِيَ عَلَيْنَا النّعَاسُ فنمنا حتى
تَنَاطَحَ الْحَجَفُ [ (1) ] ، وَفَزِعْنَا وَكَأَنّا لَمْ يُصِبْنَا قَبْلَ ذَلِكَ نَكْبَةٌ. وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: غَشِيَنَا النّعَاسُ حَتّى كَانَ حَجَفُ الْقَوْمِ تَنَاطَحَ. وَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ: غَشِيَنَا النّعَاسُ فَمَا مِنّا رَجُلٌ إلّا وَذَقَنُهُ فِي صَدْرِهِ مِنْ النّوْمِ، فَأَسْمَعُ مُعَتّبَ بْنَ قُشَيْرٍ يَقُولُ- وَإِنّي لَكَالْحَالِمِ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا [ (2) ] فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا [ (2) ] . قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: لَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمَئِذٍ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي إلَى جَنْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَصَابَنَا النّعَاسُ أَمَنَةً مِنْهُ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا يَغُطّ غَطِيطًا حَتّى إنّ الحجف التناطح. وَلَقَدْ رَأَيْت سَيْفَ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ، وَأَخَذَهُ بَعْدَ مَا تَثَلّمَ، وَإِنّ الْمُشْرِكِينَ لَتَحْتنَا. وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أُلْقِيَ عَلَيْنَا النّعَاسُ، فَكُنْت أَنْعَسُ حَتّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي. وَكَانَ النّعَاسُ لَمْ يُصِبْ أَهْلَ النّفَاقِ وَالشّكّ يَوْمَئِذٍ، فَكُلّ مُنَافِقٍ يَتَكَلّمُ بِمَا فِي نَفْسِهِ، وَإِنّمَا أَصَابَ النّعَاسُ أَهْلَ الْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالُوا: لَمّا تَحَاجَزُوا أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ الِانْصِرَافَ، وَأَقْبَلَ يَسِيرُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ حَوّاءُ [ (3) ] أُنْثَى، فَأَشْرَفَ [ (4) ] عَلَى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عُرْضِ الْجَبَلِ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: اُعْلُ هُبَلُ! ثُمّ يَصِيحُ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ؟ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَيْنَ ابْنُ الْخَطّابِ؟ يَوْمٌ بيوم بدر، ألا إنّ
الْأَيّامَ دُوَلٌ، وَإِنّ الْحَرْبَ سِجَالٌ، وَحَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ [ (1) ] ! فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُجِيبُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى، فَأَجِبْهُ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اُعْلُ هُبَلُ! فَقَالَ عُمَرُ: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلّ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّهَا قَدْ أَنْعَمَتْ، فَعَالِ [ (2) ] عَنْهَا! ثُمّ قَالَ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ؟ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَيْنَ ابْنُ الْخَطّابِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ، وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهَذَا عُمَرُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمُ بِيَوْمِ بَدْرٍ، أَلَا إنّ الْأَيّامَ دُوَلٌ، وَإِنّ الْحَرْبَ سِجَالٌ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الْجَنّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النّارِ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّكُمْ لَتَقُولُونَ ذَلِكَ! لَقَدْ خِبْنَا إذَنْ وَخَسِرْنَا! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزّى وَلَا عُزّى لَكُمْ! فَقَالَ عُمَرُ: اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّهَا قَدْ أَنْعَمَتْ يَا ابْنَ الْخَطّابِ، فَعَالِ عَنْهَا. ثُمّ قَالَ: قُمْ إلَيّ يَا ابْنَ الْخَطّابِ، أُكَلّمْك. فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْشُدُك بِدِينِك، هَلْ قَتَلْنَا مُحَمّدًا؟ قَالَ عُمَرُ: اللهُمّ لَا، وَإِنّهُ لَيَسْمَعُ كَلَامَك الْآنَ. قَالَ: أَنْتَ عِنْدِي أَصْدَقُ مِنْ ابْنِ قَمِيئَةَ- وَكَانَ ابْنُ قَمِيئَةَ أَخْبَرَهُمْ أَنّهُ قَتَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ: إنّكُمْ وَاجِدُونَ فِي قَتْلَاكُمْ عَيْثًا [ (3) ] وَمَثْلًا، أَلَا إنّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَنْ رَأْيِ سَرَاتِنَا. ثُمّ أَدْرَكَتْهُ حَمِيّةُ الْجَاهِلِيّةِ فَقَالَ: أَمّا إذْ كَانَ ذَلِكَ فَلَمْ نَكْرَهْهُ. ثُمّ نَادَى: أَلَا إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ! فَوَقَفَ عُمَرُ وَقْفَةً يَنْتَظِرُ مَا يَقُولُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ! ثُمّ انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ
إلَى أَصْحَابِهِ وَأَخَذُوا فِي الرّحِيلِ، فَأَشْفَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فَاشْتَدّتْ شَفَقَتُهُمْ مِنْ أَنْ يُغِيرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَتَهْلِكَ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ائْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، إنْ رَكِبُوا الْإِبِلَ وَجَنّبُوا الْخَيْلَ فَهُوَ الظّعْنُ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَجَنّبُوا الْإِبِلَ فَهِيَ الْغَارَةُ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ سَارُوا إلَيْهَا لَأَسِيرَن إلَيْهِمْ ثُمّ لَأُنَاجِزَنهُمْ. قَالَ سَعْدٌ: فَوَجّهْت أَسْعَى، وَأَرْصَدْتُ فِي نَفْسِي إنْ أَفْزَعَنِي شَيْءٌ رَجَعَتْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَا أَسْعَى، فَبَدَأْت بِالسّعْيِ حِينَ ابْتَدَأْت، فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ حَتّى إذَا كَانُوا بِالْعَقِيقِ، وَكُنْت حَيْثُ أَرَاهُمْ وَأَتَأَمّلُهُمْ، فَإِذَا هُمْ قَدْ رَكِبُوا الْإِبِل وَجَنّبُوا الْخَيْلَ، فَقُلْت: إنّهُ الظّعْنُ إلَى بِلَادِهِمْ. فَوَقَفُوا وَقْفَةً بِالْعَقِيقِ وَتَشَاوَرُوا فِي دُخُولِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: قَدْ أَصَبْتُمْ الْقَوْمَ، فَانْصَرِفُوا فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ وَأَنْتُمْ كَالّونَ، وَلَكُمْ الظّفَرُ، فَإِنّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَغْشَاكُمْ. قَدْ وَلّيْتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاَللهِ مَا تَبِعُوكُمْ وَالظّفَرُ لَهُمْ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَهَاهُمْ صَفْوَانُ! فَلَمّا رَآهُمْ سَعْدٌ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مُنْطَلِقِينَ، قَدْ دَخَلُوا فِي الْمُكَيْمِنِ [ (1) ] ، رَجَعَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ كَالْمُنْكَسِرِ، فَقَالَ: وَجّهَ الْقَوْمُ يَا رَسُولَ اللهِ إلَى مَكّةَ، امْتَطَوْا الْإِبِلَ وَجَنّبُوا الْخَيْلَ. فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقُلْت ذَلِكَ، ثُمّ خَلَا بِي فَقَالَ: حَقّا مَا تَقُولُ؟ قُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: مَا لِي [ (2) ] رَأَيْتُك مُنْكَسِرًا؟ قَالَ، فَقُلْت: كَرِهْت أَنْ آتِيَ [ (3) ] الْمُسْلِمِينَ
فَرِحًا بِقُفُولِهِمْ إلَى بِلَادِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ سَعْدًا لَمُجَرّبٌ! وَيُقَالُ إنّ سَعْدًا لَمّا رَجَعَ جَعَلَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِأَنْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ، فَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلَى سَعْدٍ أَنْ اخْفِضْ صَوْتَك! قَالَ: ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ! فَلَا تُرِي النّاسَ مِثْلَ هَذَا الْفَرَحَ بِانْصِرَافِهِمْ، فَإِنّمَا رَدّهُمْ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ شِبْلٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: إنْ رَأَيْت الْقَوْمَ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ فَأَخْبِرْنِي فيما بنين وَبَيْنَك، وَلَا تَفُتّ أَعْضَادَ الْمُسْلِمِينَ. فَذَهَبَ فَرَآهُمْ قَدْ امْتَطَوْا الْإِبِلَ فَرَجَعَ، فَمَا مَلَكَ أَنْ جَعَلَ يَصِيحُ سُرُورًا بِانْصِرَافِهِمْ. فَلَمّا قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَكّةَ لَمْ يَصِلْ إلَى بَيْتِهِ حَتّى أَتَى هُبَلَ فَقَالَ: قَدْ أَنْعَمَتْ وَنَصَرْتنِي وَشَفَيْت نَفْسِي مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ! وَحَلَقَ رَأْسَهُ. وَقِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: كَيْفَ كَانَ افْتِرَاقُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: مَا تُرِيدُ [ (1) ] إلَى ذَلِكَ؟ قَدْ جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ. ثُمّ قَالَ: لَمّا كَرَرْنَا عَلَيْهِمْ أَصَبْنَا مَنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ وَتَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ. وَفَاءَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعْدُ، فَتَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فَقَالُوا: لَنَا الْغَلَبَةُ، فَلَوْ انْصَرَفْنَا فَإِنّهُ بَلَغَنَا أَنّ ابْنَ أُبَيّ انْصَرَفَ بِثُلُثِ النّاسِ، وَقَدْ تَخَلّفَ نَاسٌ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُرّوا عَلَيْنَا وَفِينَا جِرَاحٌ، وَخَيْلُنَا عَامّتُهَا قَدْ عُقِرَتْ مِنْ النّبْلِ. فَمَضَوْا [ (2) ] ، فَمَا بَلَغْنَا الرّوْحَاءَ حَتّى قَامَ عَلَيْنَا عِدّةٌ مِنْهَا، ومضينا [ (3) ] .
ذكر من قتل بأحد من المسلمين
ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ بِأُحُدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حدّثنى سليمان ابن بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: قُتِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ بِأُحُدٍ سَبْعُونَ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ رُبَيْحِ بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري مِثْلَهُ. وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، أَرْبَعَةٌ من قريش وَسَائِرُهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ- الْمُزَنِيّ، وَابْنُ أَخِيهِ، وَابْنَا الْهَبِيتِ- أَرْبَعَةٌ وَسَبْعُونَ، هَذَا الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ. وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، قَتَلَهُ وَحْشِيّ، هَذَا الْأَصَحّ لَا. اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا. ومن بنى أميّة: عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، قَتَلَهُ أَبُو الْحَكَمِ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ. وَيُقَالُ خَمْسَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ- مِنْ بَنِي أَسَدٍ: سَعْدٌ مَوْلَى حَاطِبٍ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: شَمّاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشّرِيدِ، قَتَلَهُ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ. وَيُقَالُ إنّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ أَصَابَهُ جُرْحٌ بِأُحُدٍ، فَلَمْ يَزَلْ جَرِيحًا حَتّى مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَغُسِلَ بِبَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَالِيَةِ بَيْنَ قَرْنَيْ [ (1) ] الْبِئْرِ الّتِي صَارَتْ لِعَبْدِ الصّمَدِ بْنِ عَلِيّ الْيَوْمَ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قَتَلَهُ ابْنُ قَمِيئَةَ. وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: عَبْدُ الله وعبد الرحمن ابنا الهبيت.
وَمِنْ مُزَيْنَةَ رَجُلَانِ: وَهْبُ بْنُ قَابُوسٍ، وَابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ قَابُوسٍ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا: عَمْرُو بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَنَسِ بْنِ رَافِعٍ، وَعِمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ السّكَنِ، وَسَلَمَةُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ، قَتَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ ابْنُ حَرْبٍ، وَعَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَرِفَاعَةُ ابْنُ وَقْشٍ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ، قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً، وَيُقَالُ عُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ قَتَلَهُ خَطَأً، وَصَيْفِيّ بْنُ قَيْظِيّ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَالْحَبَابُ بْنُ قَيْظِيّ، وَعَبّادُ بْنُ سَهْلٍ، قَتَلَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ. وَمِنْ أَهْلِ رَاتِجَ [ (1) ] ، وَهُمْ إلَى عَبْدِ الْأَشْهَلِ: إيَاسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ ابْنِ زَعُورَاءَ بْنِ جُشَمٍ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَعُبَيْدُ بْنُ التّيْهَانِ، قَتَلَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَحَبِيبُ [ (2) ] بْنُ قِيَمٍ. وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ضُبَيْعَةَ، وَهُوَ أَبُو الْبَنَاتِ الّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُقَاتِلُ ثُمّ أَرْجِعُ إلَى بَنَاتِي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ اللهُ عَزّ وَجَل [ (3) ] . وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ضُبَيْعَةَ: حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ ابْنُ شَعُوبٍ. وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ: أَنِيسُ بْنُ قَتَادَةَ، قَتَلَهُ أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ أَمِيرُ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على
الرّمَاةِ، قَتَلَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ السّلَمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ: خَيْثُمَةُ أَبُو سَعْدٍ، قَتَلَهُ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ. وَمِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ: عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ، قَتَلَهُ ابْنُ الزّبَعْرَى. وَمِنْ بَنِي معاوية: سيتق [ (1) ] بْنُ حَاطِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هَيْشَةَ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ- ثَمَانِيَةٌ. وَمِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، قَتَلَهُ صَفْوَانُ ابْنُ أُمَيّةَ، وَسَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ، دُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَأَوْسُ بْنُ أَرْقَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبٍ- أَرْبَعَةٌ. وَمِنْ بَنِي الْأَبْجَرِ، وَهُمْ بَنُو خَدِرَةَ [ (2) ] : مَالِكُ بْنُ سِنَانِ بْنِ الْأَبْجَرِ، وَهُوَ أَبُو أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَتَلَهُ غُرَابُ بْنُ سُفْيَانَ، وَسَعْدُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمّارِ بْنِ الْأَبْجَرِ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعِ بْنِ رَافِعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ابن عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ: ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ خَالِدِ بن نميلة، وحارثة ابن عَمْرٍو، وَنَفْثُ [ (3) ] بْنُ فَرْوَةَ بْنِ الْبَدِيّ- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي طَرِيفٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَقَيْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَطَرِيفٌ، وَضَمْرَةُ، حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ جُهَيْنَةَ. وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، مِنْ بَنِي سَالِمٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بن
الْعَجْلَانِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمٍ: نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ، وَالْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنُ نَضْلَةَ، قَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ السّلَمِيّ، وَالنّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ، قَتَلَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَعَبَدَةُ بْنُ الْحِسْحَاسِ، دُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ، قَتَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ غِيلَةً. حَدّثَنِي الْيَمَانُ بْنُ مَعَنٍ، عَنْ أَبِي وَجْزَةَ، قَالَ: دُفِنَ ثَلَاثَةُ نفر يوم أحد فى قَبْرٍ وَاحِدٍ- نُعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ وَالْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ، وَعَبَدَةُ بْنُ الْحِسْحَاسِ. وَكَانَتْ قِصّةُ مُجَذّرِ بْنِ ذِيَادٍ أَنّ حُضَيْرَ الْكَتَائِبِ جَاءَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَكَلّمَ سُوَيْدَ بْنَ الصّامِتِ، وَخَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ- وَيُقَالُ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ- فَقَالَ: تَزُورُونِي فَأَسْقِيكُمْ مِنْ الشّرَابِ وَأَنْحَرُ لَكُمْ، وَتُقِيمُونَ عِنْدِي أَيّامًا. قَالُوا: نَحْنُ نَأْتِيك يَوْمَ كَذَا وَكَذَا. فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ جَاءُوهُ فَنَحَرَ لَهُمْ جَزُورًا وَسَقَاهُمْ الْخَمْرَ، وَأَقَامُوا عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ حَتّى تَغَيّرَ اللّحْمُ، وَكَانَ سُوَيْدٌ يَوْمئِذٍ شَيْخًا كَبِيرًا. فَلَمّا مَضَتْ الثّلَاثَةُ الْأَيّامِ، قَالُوا: مَا نُرَانَا [ (1) ] إلّا رَاجِعِينَ إلَى أَهْلِنَا. فَقَالَ حُضَيْرٌ: مَا أَحْبَبْتُمْ! إنْ أَحْبَبْتُمْ فَأَقِيمُوا، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ فَانْصَرِفُوا فَخَرَجَ الْفِتْيَانُ بِسُوَيْدٍ يَحْمِلَانِهِ حَمْلًا مِنْ الثّمْلِ، فَمَرّوا لَاصِقَيْنِ بِالْحَرّةِ حَتّى كَانُوا قَرِيبًا مِنْ بَنِي غُصَيْنَةَ [ (2) ]- وَهِيَ وِجَاهَ بَنِي سَالِمٍ إلَى مَطْلَعِ الشّمْسِ. فَجَلَسَ سُوَيْدٌ وَهُوَ يَبُولُ، وهو ممتلى سُكْرًا، فَبَصُرَ بِهِ [ (3) ] إنْسَانٌ مِنْ الْخَزْرَجِ، فَخَرَجَ حَتّى أَتَى الْمُجَذّرَ بْنَ ذِيَادٍ فَقَالَ: هَلْ لَك فِي الْغَنِيمَةِ الْبَارِدَةِ؟ قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: سُوَيْدٌ! أَعَزْلُ لَا سِلَاحَ مَعَهُ، ثَمِلٌ! قال: فخرج المجذّر
ابن ذِيَادٍ بِالسّيْفِ صَلْتًا [ (1) ] ، فَلَمّا رَآهُ الْفَتَيَانِ وَلّيَا، وَهُمَا أَعَزَلَانِ لَا سِلَاحَ مَعَهُمَا- وَالْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ- فَانْصَرَفَا سَرِيعَيْنِ. وَثَبَتَ الشّيْخُ وَلَا حَرَاكَ بِهِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ مُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ فَقَالَ: قَدْ أَمْكَنَ اللهُ مِنْك! فَقَالَ: مَا تُرِيدُ بِي؟ قَالَ: قَتْلَك. قَالَ: فَارْفَعْ عَنْ الطّعَامِ وَاخَفْضِ عَنْ الدّمَاغِ، وَإِذَا رَجَعْت إلَى أُمّك فَقُلْ: إنّي قَتَلْت سُوَيْدَ بْنَ الصّامِتِ. وَكَانَ قَتْلُهُ هَيّجَ وَقْعَةَ بُعَاثَ، فَلَمّا قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أَسْلَمَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ وَمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ، فَشَهِدَا بَدْرًا فَجَعَلَ الْحَارِثُ يَطْلُبُ مُجَذّرًا لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ، فَلَا يَقْدِرُ [ (2) ] عَلَيْهِ يَوْمئِذٍ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْجَوْلَةَ أَتَاهُ الْحَارِثُ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ثُمّ خَرَجَ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فلمّا رجع من حمراء الأسد أتاه جبرئيل عَلَيْهِ السّلَامُ فَأَخْبَرَهُ أَنّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ قَتَلَ مُجَذّرًا غِيلَةً، وَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ. فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قُبَاءٍ فِي الْيَوْمِ الّذِي أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ، فِي يَوْمٍ حَارّ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا لَا يَرْكَبُ فِيهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُبَاءٍ، إنّمَا كَانَتْ الْأَيّامُ الّتِي يَأْتِي فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَاءَ يَوْمَ السّبْتِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ. فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ قُبَاءٍ صَلّى فِيهِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُصَلّيَ. وَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ فَجَاءَتْ تُسَلّمُ [ (3) ] عَلَيْهِ، وَأَنْكَرُوا إتْيَانَهُ فِي تَلِك السّاعَةِ وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدّثُ وَيَتَصَفّحُ النّاسَ حَتّى طَلَعَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فِي مِلْحَفَةٍ مُوَرّسَةٍ [ (4) ] ، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عُوَيْمَ بْنَ سَاعِدَةَ فَقَالَ لَهُ: قَدِمَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ بِمُجَذّرِ بْنِ ذِيَادٍ، فَإِنّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ. فَأَخَذَهُ عُوَيْمٌ فَقَالَ الْحَارِثُ: دَعْنِي أُكَلّمْ رَسُولَ اللهِ! فَأَبَى عُوَيْمٌ عَلَيْهِ، فَجَابَذَهُ يُرِيدُ كَلَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ، وَدَعَا بِحِمَارِهِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَعَلَ الْحَارِثُ يَقُولُ: قَدْ وَاَللهِ قَتَلْته يَا رَسُولَ اللهِ. وَاَللهِ مَا كَانَ قَتْلِي إيّاهُ رُجُوعًا عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَا ارْتِيَابًا فِيهِ، وَلَكِنّهُ حَمِيّةَ الشّيْطَانِ وَأَمْرٌ وُكِلْت فِيهِ إلَى نَفْسِي. وَإِنّي أَتُوبُ إلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِمّا عَمِلْت، وَأُخْرِجُ دِيَتَهُ، وَأَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَأُعْتِقُ رِقْبَةً، وَأُطْعِمُ سِتّينَ مِسْكِينًا، إنّي أَتُوبُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ! وَجَعَلَ يُمْسِكُ بِرِكَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَنُو الْمُجَذّرِ حُضُورٌ لَا يَقُولُ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شَيْئًا حَتّى إذَا اسْتَوْعَبَ كَلَامَهُ قَالَ: قَدّمْهُ يَا عُوَيْمُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ! وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِمَهُ عُوَيْمُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَيُقَالُ: إنّ خُبَيْبَ بْنَ يِسَافٍ، نَظَرَ إلَيْهِ حَيْنَ ضَرَبَ عُنُقَهُ فَجَاءَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ يَفْحَصُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ. فَبَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم على حِمَارِهِ فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَخَبّرَهُ بِذَلِكَ فِي مَسِيرِهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمًا فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ: يَا حَارِ فِي سِنَةٍ مِنْ نَوْمِ أوّلكم [ (1) ] ... أم كنت ويلك [ (2) ] مغترّا بجبريل
وَأَنْشَدَنِي مُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ وَأَشْيَاخُهُمْ أَنّ سُوَيْدَ بْنَ الصّامِتِ قَالَ عِنْدَ مَقْتَلِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ: أَبْلِغْ جُلَاسًا [ (1) ] وَعَبْدَ اللهِ مَأْلُكَةً [ (2) ] ... وَإِنْ كَبِرَتْ [ (3) ] فَلَا تَخْذُلْهُمَا حَارِ اُقْتُلْ جِدَارَةَ [ (4) ] إمّا كُنْت لَاقِيَهَا ... وَالْحَيّ عَوْفًا [ (5) ] عَلَى عُرْفٍ وَإِنْكَارِ وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ: عَنْتَرَةُ مَوْلَى بَنِي سَلِمَةَ، قَتَلَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ. وَمِنْ بَلْحُبْلَى: رِفَاعَةُ بْنُ عَمْرٍو. وَمِنْ بَنِي حَرَامٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، قَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَخَلّادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ جَعُونَةَ- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ: الْمُعَلّى بْنُ لَوْذَانَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ رُسْتُمَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، قَتَلَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ: ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، قتله أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق. وَمِنْ بَنِي النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَوَادٍ: عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، قَتَلَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، وَابْنُهُ قَيْسُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَامِرُ بْنُ مُخَلّدٍ. وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ: أَبُو أُسَيْرَةَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَمْرِو ابْنِ مَالِكٍ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ مُطَرّفِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَمْرٍو. وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، وهم بنو مغالة: أوس بن حرام.
تسمية من قتل من المشركين
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ: أَنَسُ بْنُ النّضر بن ضمضم، قتله سفيان ابن عُوَيْفٍ. وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ: قَيْسُ بْنُ مُخَلّدٍ [ (1) ] ، وَكَيْسَانُ مَوْلَاهُمْ، وَيُقَالُ عَبْدٌ لَهُمْ لَمْ يَعْتِقْ. وَمِنْ بَنِي دِينَارٍ: سُلَيْمُ بْنُ الحارث، والنعمان بن عبد عَمْرٍو، وَهُمَا ابْنَا السّمَيْرَاءِ بِنْتِ قَيْسٍ. اُسْتُشْهِدَ مِنْ بَنِي النّجّارِ اثْنَا عَشَرَ. تَسْمِيَةُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ: طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ يَحْمِلُ لِوَاءَهُمْ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَعُثْمَانُ بن ابى طَلْحَةَ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَمُسَافِعُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، وَالْحَارِثُ بْنُ طَلْحَةَ، قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكِلَابُ بْنُ طَلْحَةَ، قَتَلَهُ الزّبَيْرُ ابْنُ الْعَوّامِ، وَالْجُلَاسُ [ (2) ] بْنُ طَلْحَةَ، قَتَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَأَرْطَاةُ بْنُ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ [ (3) ] ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السّلام، وقاسط [ (4) ] بن
شُرَيْحِ بْنِ عُثْمَانَ- ثُمّ حَمَلَهُ صُؤَابٌ- فَيُقَالُ قَتَلَهُ قُزْمَانُ، وَأَبُو عَزِيزِ بْنُ عُمَيْرٍ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ. وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ: أَبُو الْحَكَمِ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَسِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى الْخُزَاعِيّ، وَاسْمُ عَبْدِ الْعُزّى عَمْرُو بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبّاسِ بْنِ سُلَيْمٍ وَهُوَ ابْنُ أُمّ أَنْمَارٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: هِشَامُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بن المغيرة، قتله قزمان، والوليد ابن الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ، وَأُمَيّةُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ الْعُقَيْلِيّ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ. حَدّثْنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقْبَلَ قُزْمَانُ يَشُدّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَتَلَقّاهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ، وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاجِلٌ، فَاضْطَرَبَا بِأَسْيَافِهِمَا. فَيَمُرّ بِهِمَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَحَمَلَ الرّمْحَ عَلَى قُزْمَانَ، فَسَلَكَ الرّمْحُ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، شَطَبَ [ (1) ] الرّمْحَ، وَمَضَى خَالِدٌ وَهُوَ يَرَى أَنّهُ قَدْ قَتَلَهُ. فَضَرَبَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَطَعَنَهُ أُخْرَى فَلَمْ يُجْهِزْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَالَا يَتَجَاوَلَانِ حَتّى قَتَلَ قُزْمَانُ خَالِدَ بْنَ الْأَعْلَمِ، وَمَاتَ قُزْمَانُ مِنْ جِرَاحَةٍ بِهِ مِنْ سَاعَتِهِ. وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ- خَمْسَةٌ. وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ: عُبَيْدُ بْنُ حَاجِزٍ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ، وشيبة ابن مَالِكِ بْنِ الْمُضَرّبِ، قَتَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ. وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: أَبَيّ بْنُ خَلَفٍ، قَتَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، وَهُوَ
أَبُو عَزّةَ، أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسِيرًا يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يَأْخُذْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ أَسِيرًا غَيْرَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، مُنّ علي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مَرّتَيْنِ، وَلَا تَرْجِعْ إلَى مَكّةَ تَمْسَحْ عَارِضَيْك تَقُولُ: سَخِرْت بِمُحَمّدٍ مَرّتَيْنِ! ثُمّ أَمَرَ بِهِ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْوَاقِدِيّ: وَسَمِعْنَا فِي أَسْرِهِ غَيْرَ ذَلِكَ. حَدّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ قَالَ: لَمّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ نَزَلُوا بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ فِي أَوّلِ اللّيْلِ سَاعَةً، ثُمّ رَحَلُوا وَتَرَكُوا أَبَا عَزّةَ نَائِمًا مَكَانَهُ حَتّى ارْتَفَعَ النّهَارُ وَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مُسْتَنْبِهٌ يَتَلَدّدُ [ (1) ] ، وَكَانَ الّذِي أَخَذَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، فَأَمَرَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ َمنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ: خَالِدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ، وَأَبُو الشّعْثَاءِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ، وَأَبُو الْحَمْرَاءِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ، وَغُرَابُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ. قَالُوا: فَلَمّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ أَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْوَاتِهِمْ، فَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِيمَنْ أُتِيَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوّلًا، صَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تُغَسّلُهُ، لِأَنّ حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ جُنُبًا ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَلَمْ يُغَسّلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشّهَدَاءَ، وَقَالَ: لُفّوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَجِرَاحِهِمْ، فَإِنّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُجْرَحُ فِي اللهِ إلّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِجُرْحِهِ، لَوْنُهُ لَوْنُ [ (2) ] دَمٍ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضَعُوهُمْ، أَنَا الشّهِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَة. فَكَانَ حمزة أوّل من كبّر عليه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا. ثُمّ جَمَعَ إلَيْهِ الشّهَدَاءَ، فَكَانَ كُلّمَا أُتِيَ بِشَهِيدٍ وَضَعَ إلَى جَنْبِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَصَلّى عَلَيْهِ وَعَلَى الشّهَدَاءِ، حَتّى صَلّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ مَرّةً لِأَنّ الشّهَدَاءَ سَبْعُونَ. وَيُقَالُ كَانَ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ وَحَمْزَةُ عَاشِرُهُمْ فَيُصَلّي عَلَيْهِمْ، ثُمّ يَرْفَعُ التّسْعَةَ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ، وَيُؤْتَى بِتِسْعَةٍ آخَرِينَ فَيُوضَعُونَ إلَى جَنْبِ حَمْزَةَ فَيُصَلّي عَلَيْهِمْ، حَتّى فَعَلَ ذَلِكَ سَبْعَ مَرّاتٍ. وَيُقَالُ كَبّرَ عَلَيْهِمْ تِسْعًا وَسَبْعًا وَخَمْسًا. وَكَانَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَابْنُ عَبّاسٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُونَ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدٌ. فقال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسُوا إخْوَانَنَا، أَسْلَمُوا كَمَا أَسْلَمْنَا، وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَلَا أَدْرِي مَا تحدثون بعدي. فبكى أبو بكر وَقَالَ: إنّا لَكَائِنُونَ بَعْدَك؟ وَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ لِلْمُسْلِمِينَ: احْفِرُوا، وَأَوْسِعُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ، وَقَدّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُقَدّمُونَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا فِي الْقَبْرِ. وَكَانَ مِمّنْ يُعْرَفُ أَنّهُ دُفِنَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ، وَالنّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدَةُ بْنُ الْحَسْحَاسِ، فِي
قَبْرٍ وَاحِدٍ. فَلَمّا وَارَوْا [ (1) ] حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ تُمَدّ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْقَبْرِ، فَجَعَلَتْ الْبُرْدَةُ إذَا خَمّرُوا رَأْسَهُ بَدَتْ قَدَمَاهُ، وَإِذَا خَمّرُوا رِجْلَيْهِ تَنْكَشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَطّوا وَجْهَهُ! وَجَعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ الْحَرْمَلَ، فَبَكَى الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَمّ رَسُولِ اللهِ، لَا نَجِدُ [ (2) ] لَهُ ثَوْبًا! فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَفْتَتِحُ- يَعْنِي الْأَرْيَافَ وَالْأَمْصَارَ- فَيَخْرُجُ إلَيْهَا النّاسُ، ثُمّ يُبْعَثُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ: إنّكُمْ بِأَرْضِ حِجَازٍ جَرْدِيّةٍ [الْجَرْدِيّةُ الّتِي لَيْسَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَشْجَارِ] [ (3) ] وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَصْبِرُ وَاحِدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدّتِهَا إلّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا- أَوْ شَهِيدًا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ! قَالُوا: وَأَتَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ [ (4) ] بِطَعَامٍ، فَقَالَ: حَمْزَةُ- أَوْ رَجُلٌ آخَرُ- لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ، وَقُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إلّا بُرْدَةٌ، وَكَانَا [ (5) ] خَيْرًا مِنّي. وَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم على مصعب ابن عُمَيْرٍ، وَهُوَ مَقْتُولٌ [ (6) ] فِي بُرْدَةٍ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُك بِمَكّةَ وَمَا بِهَا أَحَدٌ أَرَقّ حُلّةً وَلَا أَحْسَنَ لِمّةً مِنْك، ثُمّ أَنْتَ شَعِثُ الرأس فى بردة. ثم أمر به ي بر، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ أَخُوهُ أَبُو الرّومِ، وَعَامِرُ بن ربيعة، وسويبط بن عمرو ابن حَرْمَلَةَ. وَنَزَلَ فِي قَبْرِ حَمْزَةَ عَلِيّ، وَالزّبَيْرُ، وأبو بكر، وَعُمَرُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس على حفرته.
وَكَانَ النّاسُ أَوْ عَامّتُهُمْ قَدْ حَمَلُوا قَتَلَاهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ، فَدُفِنَ بِبَقِيعِ الْجَبَلِ مِنْهُمْ عِدّةٌ، عِنْدَ دَارِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْيَوْمَ بِالسّوقِ، سُوقِ الظّهْرِ، وَدُفِنَ بِبَنِي سَلِمَةَ بَعْضُهُمْ، وَدُفِنَ مَالِكُ بْنُ سِنَانَ فِي مَوْضِعِ أَصْحَابِ الْعَبَاءِ الّذِي عِنْدَ دَارِ نَخْلَةَ. ثُمّ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدّوا الْقَتْلَى إلَى مَضَاجِعِهِمْ! وَكَانَ النّاسُ قَدْ دَفَنُوا قَتَلَاهُمْ، فَلَمْ يُرَدّ أَحَدٌ إلّا رَجُلًا وَاحِدًا أَدْرَكَهُ الْمُنَادِي وَلَمْ يُدْفَنْ، وَهُوَ شَمّاسُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيّ، كَانَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ وَبِهِ رَمَقٌ فَأُدْخِلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي اللهُ عَنْهَا زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ: ابْنُ عَمّي يُدْخَلُ عَلَى غَيْرِي! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْمِلُوهُ إلَى أُمّ سَلَمَةَ. فَحُمِلَ إلَيْهَا فَمَاتَ عِنْدَهَا، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَرُدّهُ إلَى أُحُدٍ، فَدُفِنَ هُنَاكَ كَمَا هُوَ فِي ثِيَابِهِ الّتِي مَاتَ فِيهَا، وَكَانَ قَدْ مَكَثَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلَكِنّهُ لَمْ يُذَقْ شَيْئًا، وَلَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُغَسّلْهُ. قَالُوا: وَكَانَ مَنْ دُفِنَ هُنَاكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنّمَا دُفِنَ فِي الْوَادِي. وَكَانَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ إذَا سُئِلَ عَنْ تِلْكَ الْقُبُورِ الْمُجْتَمِعَةِ بِأُحُدٍ يَقُولُ: قَوْمٌ مِنْ الْأَعْرَابِ كَانُوا زَمَانَ الرّمَادَةِ فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هُنَاكَ، فَمَاتُوا فَتِلْكَ قُبُورُهُمْ. وَكَانَ عَبّادُ بْنُ تَمِيمٍ الْمَازِنِيّ يُنْكِرُ تِلْكَ [ (1) ] الْقُبُورِ وَيَقُولُ: إنّمَا هُمْ قَوْمٌ مَاتُوا زَمَانَ الرّمَادَةِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ يَقُولَانِ: لَا نَعْرِفُ تِلْكَ الْقُبُورِ الْمُجْتَمِعَةِ، إنّمَا هِيَ قُبُورُ نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَقُبُورٌ مَنْ قُبُورِ الشّهَدَاءِ قَدْ غُيّبَتْ، لَا نَعْرِفُهُمْ بِالْوَادِي وَبِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا، إلّا أَنّا نَعْرِفُ قَبْرَ حمزة بن عبد المطّلب، وقبر
سَهْلِ [ (1) ] بْنِ قَيْسٍ، وَقَبْرَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. وَقَدْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَزُورُهُمْ فِي كُلّ حَوْلٍ، وَإِذَا تَفَوّهَ [ (2) ] الشّعْبَ رَفَعَ صَوْتَهُ فَيَقُولُ: السّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ! ثُمّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كُلّ حَوْلٍ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمّ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ثُمّ مُعَاوِيَةُ حَيْنَ مَرّ حَاجّا أَوْ مُعْتَمِرًا. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيْتَ أَنّي غُودِرْت مَعَ أَصْحَابِ الْجَبَلِ. وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْتِيهِمْ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ وَالثّلَاثَةِ، فَتَبْكِي عِنْدَهُمْ وَتَدْعُو. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ يَذْهَبُ إلَى مَالِهِ بِالْغَابَةِ، فَيَأْتِي مِنْ خَلْفِ قُبُورِ الشّهَدَاءِ فَيَقُولُ: السّلَامُ عَلَيْكُمْ! ثَلَاثًا، ثُمّ يُقْبِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: أَلَا تُسَلّمُونَ عَلَى قَوْمٍ يَرُدّونَ عَلَيْكُمْ السّلَامَ؟ لَا يُسَلّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إلّا رَدّوا عَلَيْهِ السّلَامَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، وَدَعَا، وَقَرَأَ: رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [ (3) ] ، أَشْهَدُ أَنّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأْتُوهُمْ وَزُورُوهُمْ وَسَلّمُوا عَلَيْهِمْ! وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يسلّم عليهم أحدا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلّا رَدّوا عَلَيْه. وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ حَمْزَةَ فَيَدْعُو وَيَقُولُ لِمَنْ مَعَهُ: لَا يُسَلّمُ عَلَيْهِمْ أحدا إلّا ردّوا عليه السّلام، فلا تدعوا
السّلَامَ عَلَيْهِمْ وَزِيَارَتَهُمْ. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ يُحَدّثُ أَنّهُ كَانَ يَذْهَبُ مَعَ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَسَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ فِي الْأَشْهُرِ إلَى أُحُدٍ، فَيُسَلّمَانِ عَلَى قَبْرِ حَمْزَةَ أَوّلَهَا، وَيَقِفَانِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ قبر عبد الله بن عمرو ابن حَرَامٍ مَعَ قُبُورِ مَنْ هُنَاكَ. وَكَانَتْ أُمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تَذْهَبُ فَتُسَلّمُ عَلَيْهِمْ فِي كُلّ شَهْرٍ فَتَظَلّ [ (1) ] يَوْمَهَا، فَجَاءَتْ يَوْمًا وَمَعَهَا غُلَامَهَا نَبْهَانُ [ (2) ] ، فَلَمْ يُسَلّمْ فَقَالَتْ: أَيْ لُكَعُ، أَلَا تُسَلّمُ عَلَيْهِمْ؟ وَاَللهِ لَا يُسَلّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إلّا رَدّوا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكَانَ أَبُو هَرِيرَةَ يُكْثِرُ الِاخْتِلَافَ إلَيْهِمْ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو إذَا رَكِبَ إلَى الْغَابَةِ فَبَلَغَ ذُبَابَ، عَدَلَ إلَى قُبُورِ الشّهَدَاءِ فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمّ رَجَعَ إلَى ذُبَابَ حَتّى اسْتَقْبَلَ الطّرِيقَ- طَرِيقَ الْغَابَةِ- وَيَكْرَهُ أَنْ يَتّخِذَهُمْ طَرِيقًا، ثُمّ يُعَارِضُ الطّرِيقَ حَتّى يَرْجِعَ إلَى طَرِيقِهِ الْأُولَى. وَكَانَتْ فَاطِمَةُ الْخُزَاعِيّةُ قَدْ أَدْرَكَتْ تَقُولُ: رَأَيْتنِي وَغَابَتْ الشّمْسُ بِقُبُورِ الشّهَدَاءِ وَمَعِي أُخْتٌ لِي، فَقُلْت لَهَا: تَعَالَيْ، نُسَلّمُ عَلَى قَبْرِ حَمْزَةَ وَنَنْصَرِفُ. قَالَتْ: نَعَمْ. فَوَقَفْنَا عَلَى قَبْرِهِ فَقُلْنَا: السّلَامُ عَلَيْك يَا عَمّ رَسُولِ اللهِ. فَسَمِعْنَا كَلَامًا رَدّ عَلَيْنَا: وَعَلَيْكُمَا السّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ. قَالَتَا: وَمَا قُرْبَنَا أَحَدٌ مِنْ النّاسِ. قَالُوا: فَلَمّا فَرَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دَفْنِ أَصْحَابِهِ دَعَا بِفَرَسِهِ فَرَكِبَهُ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ عَامّتُهُمْ جَرْحَى، وَلَا مِثْلَ لِبَنِي سَلِمَةَ وَبَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَمَعَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَلَمّا كَانُوا بِأَصْلِ الْحَرّةِ قَالَ: اصْطَفّوا فَنُثْنِيَ عَلَى اللهِ! فَاصْطَفّ النّاسُ صَفّيْنِ خَلْفَهُمْ النّسَاءُ، ثُمّ [ (3) ] دَعَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، لَك الْحَمْدُ كُلّهُ! اللهُمّ،
لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْت، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَلْت، وَلَا مُضِلّ لِمَنْ هَدَيْت، وَلَا مُقَرّبَ لِمَا بَاعَدْت، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرّبْت! اللهُمّ إنّي أَسْأَلُك مِنْ بَرَكَتِك وَرَحْمَتِك وَفَضْلِك وَعَافِيَتِك! اللهُمّ إنّي أَسْأَلُك النّعِيمَ الْمُقِيمَ الّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ! اللهُمّ إنّي أَسْأَلُك الْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ وَالْغِنَاءَ يَوْمَ الْفَاقَةِ، عَائِذًا بِك اللهُمّ مِنْ شَرّ مَا أَعْطَيْتنَا [ (1) ] وَشَرّ مَا مَنَعْت مِنّا! اللهُمّ تَوَفّنَا مُسْلِمِينَ! اللهُمّ حَبّبْ إلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرّهْ إلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الرّاشِدِينَ! اللهُمّ عَذّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الّذِينَ يُكَذّبُونَ رَسُولَك وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِك! اللهُمّ أَنْزِلْ عَلَيْهِمْ رِجْسَك وَعَذَابَك! إلَهَ الْحَقّ! آمِينَ! وَأَقْبَلَ حَتّى نَزَلَ بِبَنِي حَارِثَةَ يَمِينًا حَتّى طَلَعَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَى قَتَلَاهُمْ، فَقَالَ: لَكِنّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ. فَخَرَجَ النّسَاءُ يَنْظُرْنَ إلَى سِلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ أُمّ عَامِرٍ الْأَشْهَلِيّةُ تَقُولُ: قِيلَ لَنَا قَدْ أَقْبَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي النّوْحِ عَلَى قَتَلَانَا، فَخَرَجْنَا فَنَظَرْت إلَيْهِ فَإِذَا عَلَيْهِ الدّرْعُ كَمَا هِيَ، فَنَظَرْت إلَيْهِ فَقُلْت: كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ. وَخَرَجَتْ أُمّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ- وَهِيَ كَبْشَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ [ (2) ] بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ- تَعْدُو نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ عَلَى فَرَسِهِ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُمّي! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِهَا! فَدَنَتْ حَتّى تَأَمّلَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فقالت: أمّا
إذْ رَأَيْتُك سَالِمًا، فَقَدْ أَشْوَتْ [ (1) ] الْمُصِيبَةُ. فَعَزّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمْرِو بْنِ مُعَاذٍ ابْنِهَا، ثُمّ قَالَ: يَا أُمّ سَعْدٍ، أَبْشِرِي وَبَشّرِي أَهْلِيهِمْ أَنّ قَتَلَاهُمْ قَدْ تَرَافَقُوا فِي الْجَنّةِ جَمِيعًا- وَهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا- وَقَدْ شَفَعُوا فِي أَهْلِيهِمْ. قَالَتْ: رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَبْكِي عَلَيْهِمْ بَعْدَ هَذَا؟ ثُمّ قَالَتْ: اُدْعُ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَنْ خُلّفُوا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ أَذْهِبْ حُزْنَ قُلُوبِهِمْ وَاجْبُرْ [ (2) ] مُصِيبَتَهُمْ، وَأَحْسِنْ الْخَلَفَ عَلَى مَنْ خُلّفُوا. ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَلّ أَبَا عَمْرٍو الدّابّةَ. فَخَلّى [ (3) ] الْفَرَسَ وَتَبِعَهُ الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أَبَا عَمْرٍو، إنّ الْجِرَاحَ فِي أَهْلِ دَارِك فَاشِيَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَجْرُوحٌ إلّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُرْحُهُ كَأَغْزَرِ مَا كَانَ، اللّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرّيحُ رِيحُ مِسْكٍ [ (4) ] ، فَمَنْ كَانَ مَجْرُوحًا فَلْيَقِرّ فِي دَارِهِ وَلْيُدَاوِ جُرْحَهُ، وَلَا يَبْلُغُ مَعِي بَيْتِي عَزْمَةً مِنّي. فَنَادَى فِيهِمْ سَعْدٌ: عَزْمَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلّا يَتّبِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرِيحٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَتَخَلّفَ كُلّ مَجْرُوحٍ، فَبَاتُوا يُوقِدُونَ النّيرَانَ وَيُدَاوُونَ الْجِرَاحَ، وَإِنّ فِيهِمْ لَثَلَاثِينَ جَرِيحًا. وَمَضَى سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِهِ، ثُمّ رَجَعَ إلَى نِسَائِهِ فَسَاقَهُنّ، وَلَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ إلّا جَاءَ بِهَا إلَى بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَيْنَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ فَرَغَ مِنْ النّوُمِ لثلث الليل،
فَسَمِعَ الْبُكَاءَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ عَلَى حَمْزَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَضِيَ اللهُ عَنْكُنّ وَعَنْ أَوْلَادِكُنّ! وَأَمَرَنَا أَنْ نُرَدّ إلَى مَنَازِلِنَا [ (1) ] . قَالَتْ [ (2) ] : فَرَجَعْنَا إلَى بُيُوتِنَا بَعْدَ لَيْلٍ، مَعَنَا رِجَالُنَا، فَمَا بَكَتْ مِنّا امْرَأَةٌ قَطّ إلّا بَدَأَتْ بِحَمْزَةَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَيُقَالُ إنّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ جَاءَ بِنِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ، وَجَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ بِنِسَاءِ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَدْت هَذَا! وَنَهَاهُنّ الْغَدَ عَنْ النّوْحِ أَشَدّ النّهْيِ. وَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ بِالْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ عِنْدَ نَكْبَةٍ قَدْ أَصَابَتْ أَصْحَابَهُ، وَأُصِيبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ. فَجَعَلَ ابْنُ أُبَيّ وَالْمُنَافِقُونَ مَعَهُ يَشْمَتُونَ وَيُسَرّونَ بِمَا أَصَابَهُمْ وَيُظْهِرُونَ أَقْبَحَ الْقَوْلِ. وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَامّتُهُمْ جَرِيحٌ، وَرَجَعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ وَهُوَ جَرِيحٌ، فَبَاتَ يَكْوِي الْجِرَاحَةَ بِالنّارِ حَتّى ذَهَبَ اللّيْلُ، وَجَعَلَ أَبُوهُ يَقُولُ: مَا كَانَ خُرُوجُك مَعَهُ إلَى هَذَا الْوَجْهِ بِرَأْيٍ! عَصَانِي مُحَمّدٌ وَأَطَاعَ الْوِلْدَانَ، وَاَللهِ لَكَأَنّي كُنْت أَنْظُرُ إلَى هَذَا. فَقَالَ ابْنُهُ: الّذِي صَنَعَ اللهُ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ. وَأَظْهَرَتْ الْيَهُودُ الْقَوْلَ السّيّئَ فَقَالُوا: مَا مُحَمّدٌ إلّا طَالِبُ مُلْكٍ، مَا أُصِيبَ هَكَذَا نَبِيّ قَطّ، أُصِيبَ فِي بَدَنِهِ وَأُصِيبَ فِي أَصْحَابِهِ! وَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يُخَذّلُونَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالتّفَرّقِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ لِأَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كَانَ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ عِنْدَنَا مَا قُتِلَ. حتى سمع
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ذَلِكَ فِي أَمَاكِنَ، فَمَشَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَأْذِنَهُ فِي قَتْلِ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عُمَرُ، إنّ اللهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ وَمُعِزّ نَبِيّهُ، وَلِلْيَهُودِ ذِمّةٌ فَلَا أَقْتُلُهُمْ. قَالَ: فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم: أليس يظهرون شهادة أن لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَعَوّذًا مِنْ السّيْفِ، فَقَدْ بَانَ لَهُمْ أَمْرُهُمْ وَأَبْدَى اللهُ أَضْغَانَهُمْ عِنْدَ هَذِهِ النّكْبَةِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُهِيت عَنْ قَتْلِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ. يَا ابْنَ الْخَطّابِ، إنّ قُرَيْشًا لَنْ يَنَالُوا مِنّا مِثْلَ هَذَا الْيَوْمِ حَتّى نَسْتَلِمَ الرّكْنَ. قَالُوا: فَكَانَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ مَقَامٌ يَقُومُهُ كُلّ جُمُعَةٍ شَرَفًا لَهُ لَا يُرِيدُ تَرْكَهُ، فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحُدٍ إلَى الْمَدِينَةِ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَقَامَ ابْنُ أُبَيّ فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَدْ أَكْرَمَكُمْ اللهُ بِهِ، اُنْصُرُوهُ وَأَطِيعُوهُ. فَلَمّا صَنَعَ بِأُحُدٍ مَا صَنَعَ قَامَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقَامَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَقَالُوا: اجْلِسْ يَا عَدُوّ اللهِ! وَقَامَ إلَيْهِ أَبُو أَيّوبَ وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ، وَكَانَا أَشَدّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ مِمّنْ حَضَرَ، وَلَمْ يَقُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَجَعَلَ أَبُو أَيّوبَ يَأْخُذُ بِلِحْيَتِهِ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ يَدْفَعُ فِي رَقَبَتِهِ، وَيَقُولَانِ لَهُ: لَسْت لِهَذَا الْمَقَامِ بِأَهْلٍ! فَخَرَجَ بَعْدَ مَا أَرْسَلَاهُ، وَهُوَ يَتَخَطّى رِقَابَ النّاسِ وَهُوَ يَقُولُ: كَأَنّمَا قُلْت هُجْرًا [ (1) ] ، قُمْت لِأَشُدّ أَمْرَهُ! فَلَقِيَهُ مُعَوّذُ بْنُ عَفْرَاءَ فقال: مالك؟ قَالَ: قُمْت ذَلِكَ الْمَقَامَ الّذِي كُنْت أَقَوْمُ أَوّلًا، فَقَامَ إلَيّ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي، فَكَانَ أَشَدّهُمْ عَلَيّ عُبَادَةُ، وَخَالِدُ بْنُ زَيْدٍ. فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَيَسْتَغْفِرَ لَك رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ:
ما نزل من القرآن بأحد
وَاَللهِ مَا أَبْغِي يَسْتَغْفِرُ لِي. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ.. [ (1) ] الْآيَةُ. قَالَ: وَلَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى ابْنِهِ جَالِسٌ فِي النّاسِ، مَا يَشُدّ الطّرْفَ إلَيْهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَخَرَجَنِي مُحَمّدٌ مِنْ مِرْبَدِ سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ [ (2) ] . مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ بِأُحُدٍ قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عن أمّ بكر بنت المسور ابن مَخْرَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ أَبِي الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: حَدّثْنَا عَنْ أُحُدٍ! فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي عُدّ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ فَكَأَنّك حَضَرْتنَا: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: غَدَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ فَجَعَلَ يَصُفّ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ كَأَنّمَا يُقَوّمُ بِهِمْ الْقِدَاحَ، إنْ رَأَى صَدْرًا خَارِجًا قَالَ: تَأَخّرْ! وَفِي قَوْلِهِ: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: هُمْ بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، هَمّوا أَلّا يَخْرُجُوا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ، ثُمّ عَزَمَ لَهُمَا فَخَرَجُوا. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، يَقُولُ: قَلِيلٌ، كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبَضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مَا أَبْلَاكُمْ بِبَدْرٍ مِنْ الظّفَرِ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَذَا يَوْمُ أُحُدٍ، أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُنْزَلِينَ. بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا.. الْآيَةُ، كَانَ نَزَلَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى أُحُدٍ: إنّي مُمِدّكُمْ بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ قَالَ: فَلَمْ يَصْبِرُوا وَانْكَشَفُوا فَلَمْ يُمَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَلَكٍ وَاحِدٍ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ مُسَوِّمِينَ قَالَ: مُعْلِمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ لِتَسْتَبْشِرُوا بِهِمْ وَلِتَطْمَئِنّوا إلَيْهِمْ. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ يَقُولُ: نُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا وَيَنْقَلِبُونَ خَائِبِينَ. لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ قَالَ: يَعْنِي الّذِينَ انْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ. وَيُقَالُ نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ حَيْنَ رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِهِ مِنْ الْمَثْلِ فَقَالَ: لَأُمَثّلَنّ بِهِمْ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَيُقَالُ نَزَلَ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ رُمِيَ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلَ يَقُولُ: كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ إذَا حَلّ حَقّ أَحَدِهِمْ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ غَرِيمَهُ أَخّرَهُ عَنْهُ وَأَضْعَفَهُ عَلَيْهِ. وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ: التّكْبِيرَةُ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فَيُقَالُ الْجَنّةُ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ قَالَ: السّرّاءُ الْيُسْرُ وَالضّرّاءُ الْعُسْرُ، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يَعْنِي عَمّنْ آذَاهُمْ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ مَا أُوتِيَ إلَيْهِمْ. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا فَكَانَ يُقَالُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ تَوْبَةٍ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ. هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ مِنْ الْعَمَى، وَهُدىً مِنْ الضّلَالَةِ، وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلا تَهِنُوا يَقُولُ: فِي
قِتَالِ الْعَدُوّ، وَلا تَحْزَنُوا عَلَى مَنْ أُصِيبَ مِنْكُمْ بِأُحُدٍ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يَقُولُ: قَدْ أَصَبْتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ضِعْفَ مَا أَصَابُوا مِنْكُمْ بِأُحُدٍ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ يَعْنِي جِرَاحٌ، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يَعْنِي جِرَاحَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ يَقُولُ: لَهُمْ دَوْلَةٌ وَلَكُمْ دَوْلَةٌ، وَالْعَاقِبَةُ لَكُمْ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يَقُولُ: مَنْ قَاتَلَ [مَعَ] نَبِيّهِ، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ مَنْ قُتِلَ بِأُحُدٍ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يَعْنِي يَبْلُوهُمْ- الّذِينَ قَاتَلُوا وَثَبَتُوا، وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ يَعْنِي مَنْ قُتِلَ بِأُحُدٍ وَأَبْلَى فِيهِ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ مَنْ يَصْبِرُ يَوْمئِذٍ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ قَالَ: السّيُوفُ فِي أَيَدِي الرّجَالِ، كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَخَلّفُوا عَنْ بَدْرٍ فَكَانُوا هُمْ الّذِينَ أَلَحّوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوجِ إلَى أُحُدٍ فَيُصِيبُونَ مِنْ الْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَلّى مِنْهُمْ مَنْ وَلّى. وَيُقَالُ هُوَ فِي نَفَرٍ كَانُوا تَكَلّمُوا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ فَقَالُوا: لَيْتَنَا نَلْقَى جَمْعًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَإِمّا أَنْ نَظْفَرَ بِهِمْ أَوْ نُرْزَقَ الشّهَادَةَ. فَلَمّا نَظَرُوا إلَى الْمَوْتِ يَوْمَ أُحُدٍ هَرَبُوا. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: إنّ إبْلِيسَ تَصَوّرَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي صُورَةِ جُعَالَ بْنِ سُرَاقَةَ الثّعْلَبِيّ فَنَادَى «إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ» فَتَفَرّقَ النّاسُ فِي كُلّ وَجْهٍ، فَقَالَ عُمَرُ: إنّي أَرْقَى فِي الْجَبَلِ كَأَنّي أُرْوِيّةً حَتّى انْتَهَيْت إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَنْزِلُ عَلَيْهِ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.. الْآيَةُ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ يَقُولُ: تَوَلّى. وَما كانَ
لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا يَقُولُ: مَا كَانَ لَهَا أَنْ تَمُوتَ دُونَ أَجَلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أُبَيّ حَيْنَ رَجَعَ بِأَصْحَابِهِ وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ بِأُحُدٍ لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا. فَأَخْبَرَهُ اللهُ أَنّهُ كِتَابٌ مُؤَجّلٌ، يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها يَقُولُ: مَنْ يَعْمَلْ لِلدّنْيَا نُعْطِهِ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ يَقُولُ: يُرِيدُ الْآخِرَةَ، نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ قَالَ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا يَقُولُ: مَا اسْتَسْلَمُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا ضَعُفَتْ نِيّاتُهُمْ، وَمَا اسْتَكانُوا يَقُولُ: مَا ذَلّوا لِعَدُوّهِمْ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ يُخْبِرُ أَنّهُمْ صَبَرُوا. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إلَى قَوْلِهِ وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ يَقُولُ: أَعْطَاهُمْ النّصْرَ وَالظّفَرَ وَأَوْجَبَ لَهُمْ الْجَنّةَ فِي الْآخِرَةِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ يَقُولُ: إنْ تُطِيعُوا الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا يَخْذُلُونَكُمْ تَرْتَدّوا عَنْ دِينِكُمْ. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ: يَتَوَلّاكُمْ. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرْت بِالرّعْبِ شَهْرًا أَمَامِي وَشَهْرًا خَلْفِي. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ وَالْحِسّ الْقَتْلُ، يَقُولُ: الّذِي خَبّرَكُمْ أَنّكُمْ إنْ صَبَرْتُمْ أَمَدّكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَهَنْتُمْ عَنْ الْعَدُوّ، وَتَنَازَعْتُمْ يَعْنِي اخْتِلَافَ الرّمَاةِ حَيْثُ وَضَعَهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْصِيَتَهُمْ وَتَقَدّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلّا تَبْرَحُوا وَلَا تُفَارِقُوا مَوْضِعَكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تُعِينُونَا وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نَغْنَمُ فَلَا تُشْرِكُونَا، مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ يَعْنِي هَزِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَتَوَلّيْتُمْ هَارِبِينَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الدُّنْيا يَعْنِي الْعَسْكَرَ وَمَا فِيهِ مِنْ النّهْبِ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ الّذِينَ ثَبَتُوا مِنْ الرّمَاةِ وَلَمْ يَغْنَمُوا [ (1) ]- عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدّنْيَا حَتّى سَمِعْت هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ يَقُولُ: حَيْثُ كَانَتْ الدّوْلَةُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ، لِيَبْتَلِيَكُمْ ليرجع المشركون فيقتلوا من قتلوا مِنْكُمْ وَيَجْرَحُوا مَنْ جُرِحُوا مِنْكُمْ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يَعْنِي عَمّنْ وَلّى يَوْمئِذٍ مِنْكُمْ وَمَنْ أَرَادَ مَا أَرَادَ مِنْ النّهْبِ، فَعَفَا عَنْ ذَلِكَ كُلّهِ. إِذْ تُصْعِدُونَ يَعْنِي فِي الْجَبَلِ تَهْرُبُونَ، وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ كَانُوا يَمُرّونَ مُنْهَزِمِينَ يَصْعَدُونَ إلَى الْجَبَلِ، وَرَسُولُهُمْ يُنَادِيهِمْ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَنَا رَسُولُ اللهِ! إلَيّ! إلَيّ! فَلَا يَلْوِي عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَعَفَا ذَلِكَ عَنْهُمْ. فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ فالغمّ الأوّل الجراح والقتل، والغمّ الْآخِرُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْغَمّ الْأَوّلِ مِنْ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ. وَيُقَالُ الْغَمّ الْأَوّلُ حَيْثُ صَارُوا إلَى الْجَبَلِ بِهَزِيمَتِهِمْ وَتَرْكِهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْغَمّ الْآخِرُ [حَيْنَ] [ (2) ] تَفَرّعَهُمْ الْمُشْرِكُونَ [ (3) ] ، فَعَلَوْهُمْ مِنْ فَرْعِ الْجَبَلِ فَنَسُوا الْغَمّ الْأَوّلَ. وَيُقَالُ غَمًّا بِغَمٍّ بَلَاءً عَلَى أَثَرِ بَلَاءٍ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ يَقُولُ: لِئَلّا تَذْكُرُوا مَا فَاتَكُمْ مِنْ نَهْبِ مَتَاعِهِمْ، وَلا مَا أَصابَكُمْ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ أَوْ جُرِحَ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً إلَى قَوْلِهِ مَا قُتِلْنا هاهُنا، قَالَ الزّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعْت هَذَا الْقَوْلَ مِنْ مُعَتّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيّ
النّعَاسُ وَإِنّي لَكَالْحَالِمِ، أَسْمَعُهُ يَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَنّهُ صَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ. قَالَ اللهُ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدّ مِنْ أَنْ يَصِيرُوا إلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ يَقُولُ: يُخْرِجُ أَضْغَانَهُمْ وَغِشّهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يَقُولُ: مَا يُكِنّونَ مِنْ نُصْحٍ أَوْ غِشّ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا يَعْنِي مَنْ انْهَزَمَ يَوْمَ أُحُدٍ، يَقُولُ: أَصَابَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ يَعْنِي انْكِشَافَهُمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إلَى قَوْلِهِ مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا قَالَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيّ، يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِلْمُؤْمِنَيْنِ: لَا تَكَلّمُوا وَلَا تَقُولُوا كَمَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ. وَهُوَ الّذِي قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ كَالَّذِينَ كَفَرُوا، لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ إلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَقُولُ: مَنْ قُتِلَ بِالسّيْفِ أَوْ مَاتَ بِإِزَاءِ عَدُوّ أَوْ مُرَابِطٍ فَهُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُ مِنْ الدّنْيَا. وَقَوْلُهُ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ يَقُولُ: تَصِيرُونَ إلَيْهِ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ يَعْنِي أَصْحَابَهُ الّذِينَ انْكَشَفُوا بِأُحُدٍ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أَمَرَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الْحَرْبِ وَحْدَهُ، وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُشَاوِرُ أَحَدًا إلّا فِي الْحَرْبِ، فَإِذا عَزَمْتَ أَيْ جَمَعْت، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يوم بدر، كَانُوا قَدْ غَنِمُوا قَطِيفَةً حَمْرَاءَ، فَقَالُوا: مَا نَرَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا قَدْ أَخَذَهَا! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ آمَنَ بِاَللهِ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللهِ؟ وَقَوْلُهُ هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ يَقُولُ: فَضَائِلُ
بَيْنَهُمْ عِنْدَ اللهِ. قَوْلُهُ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْنِي مُحَمّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ* الْقُرْآنَ وَالْحِكْمَةَ وَالصّوَابَ فِي الْقَوْلِ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ*، قَوْلُهُ أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ، هَذَا مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ مَعَ مَا نَالَهُمْ مِنْ الْجِرَاحِ. قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بِمَعْصِيَتِكُمْ الرّسُولَ، يَعْنِي الرّمَاةَ، وَقَوْلُهُ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قَتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ. وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا يَعْلَمُ مَنْ أَبْلَى وَقَاتَلَ وَقَتَلَ، وَيَعْلَمُ الّذِينَ نَافَقُوا، وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هَذَا ابْنُ أُبَيّ، وَقَوْلُهُ أَوِ ادْفَعُوا يَقُولُ: كَثّرُوا السّوَادَ وَيُقَالُ الدّعَاءَ. قَالَ ابْنُ أُبَيّ يَوْمَ أُحُدٍ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتّبَعْنَاكُمْ، يَقُولُ اللهُ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيّ. وَفِي قَوْلِهِ الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا هذا ابن أبىّ، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيّ. وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً إلَى قَوْلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ إخْوَانَكُمْ لَمّا أُصِيبُوا بِأُحُدٍ جُعِلَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنَهَارَ الْجَنّةِ فَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلّ الْعَرْشِ، فَلَمّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمَطْعَمِهِمْ، وَرَأَوْا حُسْنَ مُنْقَلَبِهِمْ، قَالُوا: لَيْتَ إخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا أَكْرَمَنَا اللهُ وَبِمَا نَحْنُ فِيهِ لِئَلّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أُبَلّغُهُمْ
عَنْكُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً.. الْآيَةُ. وَبَلَغَنَا عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشّهَدَاءَ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ فِي الْجَنّةِ فِي قُبّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ بُكْرَةً وَعَشِيّا. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إنّ أَرْوَاحَ الشّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ كَطَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلّقَةٌ بِالْعَرْشِ، فَتَسْرَحُ فِي أَيّ الْجَنّةِ شَاءَتْ، فَأَطْلَعَ رَبّك عَلَيْهِمْ إطْلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ مِنْ شَيْءٍ فَأَزِيدَكُمُوهُ؟ قَالُوا: رَبّنَا، أَلَسْنَا فِي الْجَنّةِ نَسْرَحُ فِي أَيّهَا نَشَاءُ؟ فَأَطْلَعَ عَلَيْهِمْ ثَانِيَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ مِنْ شَيْءٍ فَأَزِيدَكُمُوهُ؟ قَالُوا: رَبّنَا، تُعِيدُ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا فَنُقْتَلُ فِي سَبِيلِك. وَقَوْلُهُ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ، هَؤُلَاءِ الّذِينَ غَزَوْا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا كَانَ فِي الْمُحَرّمِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ إذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِلَالٌ جَالِسٌ عَلَى بَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَذّنَ بِلَالٌ وَهُوَ يَنْتَظِرُ خُرُوجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ خَرَجَ، فَنَهَضَ إلَيْهِ الْمُزَنِيّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْبَلْت مِنْ أَهْلِي حَتّى إذَا كُنْت بِمَلَلٍ فَإِذَا قُرَيْشٌ قَدْ نَزَلُوا، فَقُلْت: لَأَدْخُلَنّ فِيهِمْ وَلَأَسْمَعَنّ مِنْ أَخْبَارِهِمْ. فَجَلَسْت مَعَهُمْ فَسَمِعْت أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ: مَا صَنَعْنَا شَيْئًا، أَصَبْتُمْ شَوْكَةَ الْقَوْمِ وَحِدّتَهُمْ، فَارْجِعُوا نَسْتَأْصِلْ مَنْ بَقِيَ! وَصَفْوَانُ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أبا بكر وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَذَكَرَ لَهُمَا مَا أَخْبَرَهُ الْمُزَنِيّ، فَقَالَا: اُطْلُبْ الْعَدُوّ، وَلَا يَقْحَمُونَ عَلَى الذّرّيّةِ! فَلَمّا سَلّمَ ثَابَ النّاسُ، وَأَمَرَ بِلَالًا يُنَادِي يَأْمُرُ النّاسَ بِطَلَبِ
عَدُوّهِمْ. وَقَالُوا: لَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ الْأَحَدِ [ (1) ] أَمَرَ بِطَلَبِ عَدُوّهِمْ، فَخَرَجُوا وَبِهِمْ الْجِرَاحَاتُ. وَفِي قَوْلِهِ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً إلَى قَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ. فَإِنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَعَدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد بَدْرَ الْمَوْعِدِ الصّفْرَاءِ، عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ. فَقِيلَ لِأَبِي سُفْيَانَ: أَلَا تُوَافِي النّبِيّ؟ فَبَعَثَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ إلَى الْمَدِينَةِ يُثَبّطُ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ لَهُ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ إنْ هُوَ رَدّهُمْ، وَيَقُولُ إنّهُمْ قَدْ جَمَعُوا جَمُوعًا وَقَدْ جَاءُوكُمْ فِي دَارِكُمْ، لَا تَخْرُجُوا إلَيْهِمْ. حَتّى كَادَ ذَلِكَ يُثَبّطُهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ، فَبَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي أَحَدٌ لَخَرَجْت وَحْدِي. فَأَنْهَجْتُ [ (2) ] لَهُمْ بَصَائِرَهُمْ، فَخَرَجُوا بِتِجَارَاتٍ وَكَانَ بَدْرُ مَوْسِمًا. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ فِي التّجَارَةِ، يَقُولُ: ارْبَحُوا، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا، وَأَقَامُوا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ ثُمّ انْصَرَفُوا. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ يَقُولُ: الشّيْطَانُ يُخَوّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ وَمَنْ أَطَاعَهُ. وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ يَقُولُ: اسْتَحَبّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ يَقُولُ: مَا يُصِحّ أَبْدَانَهُمْ، وَيَرْزُقُهُمْ وَيُرِيهِمْ الدّوْلَةَ عَلَى عَدُوّهِمْ، يَقُولُ: أُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا كُفْرًا. مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ يَعْنِي مُصَابَ أَهْلِ أُحُدٍ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي يُقَرّبُ مِنْ رُسُلِهِ. وَفِي قَوْلِهِ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ إلَى قَوْلِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ* قَالَ: يَأْتِي كَنْزُ الّذِي لَا يُؤَدّي حَقّهُ ثُعْبَانًا فِي عُنُقِهِ، يَنْهَشُ لِهْزِمَتَيْهِ [ (1) ] . يَقُولُ: أَنَا كَنْزُك. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً* [ (2) ] قَالَ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيّ: اللهُ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ لِيَسْتَقْرِضَ مِنّا؟ .. وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ* مِنْ كُفْرِكُمْ وَقَتْلِكُمْ الْأَنْبِيَاءَ. الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ.. الْآيَةُ وَاَلّتِي تَلِيهَا، يَعْنِي يَهُودَ. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يَعْنِي الْيَهُودَ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا* يَعْنِي مِنْ الْعَرَبِ، أَذىً كَثِيراً.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ إلَى قَوْلِهِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* قَالَ: أَخَذَ عَلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ [فِي أَمْرِ] صِفّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلّا يَكْتُمُوهُ. فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاِتّخَذُوهُ مَأْكَلَةً وَغَيّرُوا صِفَتَهُ. وَقَوْلُهُ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا قَالَ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا فَقَدِمَ قَالُوا: إذَا غَزَوْت فَنَحْنُ نَخْرُجُ مَعَك. فَإِذَا غَزَا لَمْ يَخْرُجُوا مَعَهُ، وَيُقَالُ هُمْ الْيَهُودُ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ قَالَ: يُصَلّونَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، يَعْنِي مُضْطَجِعِينَ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا قَالَ: الْقُرْآنُ، لَيْسَ كُلّهُمْ رَأَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ مَكّةَ. لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ يَقُولُ: تِجَارَتُهُمْ وَحِرْفَتُهُمْ. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ يَعْنِي عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلَامٍ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِبَاطٌ، إنّمَا كَانَتْ الصّلَاةُ بَعْدَ الصّلَاةِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: لَمّا قُتِلَ سَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ بِأُحُدٍ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ، ثُمّ مَضَى إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ. وَجَاءَ أَخُو سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ فَأَخَذَ مِيرَاثَ سَعْدٍ، وَكَانَ لِسَعْدٍ ابْنَتَانِ وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ حَامِلًا، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَوَارَثُونَ عَلَى مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ حَتّى قُتِلَ سَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ. فَلَمّا قَبَضَ عَمّهُنّ الْمَالَ- وَلَمْ تَنْزِلْ الْفَرَائِضُ- وَكَانَتْ امْرَأَةُ سَعْدٍ امْرَأَةً حَازِمَةً، صَنَعَتْ طَعَامًا- ثُمّ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خُبْزًا وَلَحْمًا وَهِيَ يَوْمئِذٍ بِالْأَسْوَافِ [ (1) ] . فَانْصَرَفْنَا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصّبْحِ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَنَحْنُ نَذْكُرُ وَقْعَةَ أُحُدٍ وَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَنَذْكُرُ سَعْدَ بْنَ رَبِيعٍ إلَى أَنْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا بِنَا! فَقُمْنَا مَعَهُ وَنَحْنُ عِشْرُونَ رَجُلًا حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى الْأَسْوَافِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلْنَا مَعَهُ فَنَجِدُهَا قَدْ رَشّتْ مَا بَيْن صُورَيْنِ [ (2) ] وَطَرَحَتْ خَصَفَةً [ (3) ] . قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاَللهِ مَا ثَمّ وِسَادَةٌ ولا بساط، فجلسنا ورسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدّثُنَا عَنْ سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ، يَتَرَحّمُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْت الْأَسِنّةَ شَرَعَتْ إلَيْهِ يَوْمئِذٍ حَتّى قُتِلَ. فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ النّسْوَةُ بَكَيْنَ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَهَاهُنّ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْبُكَاءِ. قَالَ جَابِرٌ: ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ. قَالَ: فَتَرَاءَيْنَا مَنْ يَطْلُعُ، فَطَلَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقُمْنَا فَبَشّرْنَاهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ سَلّمَ ثُمّ رَدّوا عَلَيْهِ ثُمّ جَلَسَ. ثُمّ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ. فَتَرَاءَيْنَا مَنْ يَطْلُعُ مِنْ خِلَالِ السّعَفِ. فَطَلَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقُمْنَا فَبَشّرْنَاهُ بِمَا قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلّمَ ثُمّ جَلَسَ. ثُمّ قَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ. فَنَظَرْنَا مِنْ خِلَالِ السّعَفِ، فَإِذَا عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ قَدْ طَلَعَ، فَقُمْنَا فَبَشّرْنَاهُ بِالْجَنّةِ، ثُمّ جَاءَ فَسَلّمَ ثُمّ جَلَسَ، ثُمّ أُتِيَ بِالطّعَامِ. قَالَ جَابِرٌ: فَأُتِيَ مِنْ الطّعَامِ بِقَدْرِ مَا يَأْكُلُ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِيهِ فَقَالَ: خُذُوا [ (1) ] بِسْمِ اللهِ! فَأَكَلْنَا مِنْهَا حَتّى نَهِلْنَا، وَاَللهِ مَا أُرَانَا حَرّكْنَا مِنْهَا شَيْئًا. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْفَعُوا هَذَا الطّعَامَ! فَرَفَعُوهُ، ثُمّ أَتَيْنَا بِرُطَبٍ فِي طَبَقٍ فِي بَاكُورَةٍ أَوْ مُؤَخّرٍ قَلِيلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللهِ، كُلُوا! قَالَ: فَأَكَلْنَا حَتّى نَهِلْنَا، وَإِنّي لَأَرَى فِي الطّبَقِ نَحْوًا مِمّا أُتِيَ بِهِ. وَجَاءَتْ الظّهْرُ فَصَلّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَمَسّ مَاءً، ثُمّ رَجَعَ إلَى مَجْلِسِهِ فَتَحَدّثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ جَاءَتْ الْعَصْرُ فَأُتِيَ بِبَقِيّةِ الطّعَامِ يَتَشَبّعُ بِهِ، فَقَامَ النّبِيّ صلّى الله عليه
وسلم فَصَلّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يَمَسّ مَاءً، ثُمّ قَامَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ سَعْدَ بْنَ رَبِيعٍ قُتِلَ بِأُحُدٍ، فَجَاءَ أَخُوهُ فَأَخَذَ مَا تَرَكَ، وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَلَا مَالَ لَهُمَا، وَإِنّمَا يُنْكَحُ- يَا رَسُولَ اللهِ- النّسَاءُ عَلَى الْمَالِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:، اللهُمّ أَحْسِنْ الْخِلَافَةَ عَلَى تَرِكَتِهِ، لَمْ يَنْزِلْ عَلَيّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَعُودِي إلَيّ إذَا رَجَعْت! فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِهِ جَلَسَ عَلَى بَابِهِ وَجَلَسْنَا مَعَهُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرَحَاءُ حَتّى ظَنَنّا أَنّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَسُرّيَ عَنْهُ وَالْعَرَقُ يَتَحَدّرُ عَنْ جَبِينِهِ مِثْلَ الْجُمَانِ. فَقَالَ: عَلَيّ بِامْرَأَةِ سَعْدٍ! قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو حَتّى جَاءَ بِهَا. قَالَ: وَكَانَتْ امْرَأَةً حَازِمَةً جَلْدَةً، فَقَالَ: أَيْنَ عَمّ وَلَدِك؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِي مَنْزِلِهِ. قَالَ: اُدْعِيهِ لِي! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسِي! فَجَلَسَتْ وَبَعَثَ رَجُلًا يَعْدُو إلَيْهِ فَأَتَى بِهِ وَهُوَ فِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَأَتَى وَهُوَ مُتْعَبٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْفَعْ إلَى بَنَاتِ أَخِيك ثُلُثَيْ مَا تَرَكَ أَخُوك. فَكَبّرَتْ امْرَأَتُهُ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْفَعْ إلَى زَوْجَةِ أَخِيك الثّمُنَ وَشَأْنُك وَسَائِرُ مَا بِيَدِك. وَلَمْ يُوَرّثْ الْحَمْلَ يَوْمئِذٍ. وَهِيَ أُمّ سَعْدِ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ امْرَأَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أُمّ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ. فَلَمّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَزَوّجَ زَيْدٌ أُمّ سَعْدِ بِنْتَ سَعْدٍ وَكَانَتْ حَامِلًا، فَقَالَ: إنْ كَانَتْ لَك حَاجَةٌ أَنْ تَكَلّمِي فِي مِيرَاثِك مِنْ أَبِيك، فَإِنّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ وَرّثَ الْحَمْلَ الْيَوْمَ، وَكَانَتْ أُمّ سَعْدٍ يَوْمَ قُتِلَ أَبُوهَا سَعْدٌ حَمْلًا. فَقَالَتْ: مَا كُنْت لِأَطْلُبَ مِنْ أَخِي شَيْئًا. وَلَمّا انْكَشَفَ الْمُشْرِكُونَ بِأُحُدٍ [ (1) ] كَانَ أوّل من قدم بخبر أحد وانكشاف
الْمُشْرِكِينَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، كَرِهَ أَنْ يَقْدَمَ مَكّةَ وَقَدِمَ الطّائِفَ فأخبر: إنّ أصحاب محمّد قَدْ ظَفِرُوا وَانْهَزَمْنَا، كُنْت أَوّلَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ! وَذَلِكَ حَيْنَ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ الِانْهِزَامَةَ الْأُولَى، ثُمّ تَرَاجَعَ الْمُشْرِكُونَ بَعْدُ فَنَالُوا مَا نَالُوا. وَكَانَ أَوّلُ مَنْ أَخْبَرَ قُرَيْشًا بِقَتْلِ أَصْحَابِ محمّد وَظَفَرِ قُرَيْشٍ وَحْشِيّ. وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ شَيْبَةَ، عن قطن بْنِ وَهْبٍ اللّيْثِيّ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ وَحْشِيّ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ بِمُصَابِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارَ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَرْبَعًا، فَانْتَهَى إلَى الثّنِيّةِ الّتِي تَطْلُعُ عَلَى الْحَجُونِ [ (1) ] ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! مِرَارًا، حَتّى ثَابَ النّاسُ إلَيْهِ وَهُمْ خَائِفُونَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ. فَلَمّا رَضِيَ مِنْهُمْ قال: أبشروا، قد قتلنا أصحاب محمّد مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْ مِثْلُهَا فِي زَحْفٍ قَطّ، وَجَرَحْنَا مُحَمّدًا فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْجِرَاحِ، وَقَتَلْت رَأْسَ الْكَتِيبَةِ حَمْزَةُ. وَتَفَرّقَ النّاسُ فِي كُلّ وَجْهٍ بِالشّمَاتَةِ بِقَتْلِ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ وَإِظْهَارِ السّرُورِ، وَخَلَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ بِوَحْشِيّ فَقَالَ: اُنْظُرْ مَا تَقُولُ! قَالَ وَحْشِيّ: قَدْ وَاَللهِ صَدَقْت. قَالَ: أَقَتَلَتْ حَمْزَةَ؟ قَالَ: قَدْ وَاَللهِ زَرَقْته بِالْمِزْرَاقِ فِي بَطْنِهِ حَتّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ، ثُمّ نُودِيَ فَلَمْ يُجِبْ، فَأَخَذْت كَبِدُهُ وَحَمَلْتهَا إلَيْك لِتَرَاهَا. قَالَ: أَذْهَبْت حُزْنَ نِسَائِنَا [ (2) ] ، وَبَرّدْت حَرّ قُلُوبِنَا [ (3) ] ! فَأَمَرَ يَوْمئِذٍ نِسَاءَهُ بِمُرَاجَعَةِ الطّيبِ وَالدّهْنِ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قد انهزم يومئذ، فمضى على
وَجْهِهِ فَنَامَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَلَمّا أَصْبَحَ دخل المدينة فأتى منزل عثمان ابن عفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَضَرَبَ بَابَهُ، فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ هُوَ هَاهُنَا، هُوَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَأَرْسِلِي إلَيْهِ، فَإِنّ لَهُ عِنْدِي ثَمَنَ بَعِيرٍ اشْتَرَيْته عَامَ أَوّلٍ فَجِئْته بِثَمَنِهِ، وَإِلّا ذَهَبْت. قَالَ: فَأَرْسَلْت إلَى عُثْمَانَ فَجَاءَ، فَلَمّا رَآهُ قَالَ: وَيْحَك، أَهْلَكْتنِي وَأَهْلَكْت نَفْسَك، مَا جَاءَ بِك؟ قَالَ: يَا ابْنَ عَمّ، لَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ أَقْرَبَ إلَيّ مِنْك وَلَا أَحَقّ. فَأَدْخَلَهُ عُثْمَانُ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، ثُمّ خَرَجَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ أَمَانًا، وَقَدْ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أَنْ يَأْتِيَهُ عُثْمَانُ: إنّ مُعَاوِيَةَ قَدْ أَصْبَحَ بِالْمَدِينَةِ فَاطْلُبُوهُ. فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اُطْلُبُوهُ فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ عفّانَ فَدَخَلُوا بَيْتَ عُثْمَانَ فَسَأَلُوا أُمّ كُلْثُومٍ، فَأَشَارَتْ إلَيْهِ فَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْ تَحْتِ حِمَارَةٍ [ (1) ] لَهُمْ، فَانْطَلَقُوا بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُثْمَانُ جَالِسٌ عِنْدً رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا رَآهُ عُثْمَانُ قَدْ أُتِيَ بِهِ قَالَ: وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، مَا جِئْتُك إلّا أَنْ أَسْأَلَك أَنْ تُؤَمّنَهُ، فَهَبْهُ لِي يَا رَسُولَ اللهِ! فَوَهَبَهُ لَهُ وَأَمّنَهُ وَأَجّلَهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ وُجِدَ بَعْدَهُنّ قُتِلَ. قَالَ: فَخَرَجَ عُثْمَانُ فَاشْتَرَى لَهُ بَعِيرًا وَجَهّزَهُ، ثُمّ قَالَ: ارْتَحِلْ! فَارْتَحَلَ. وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَخَرَجَ عُثْمَانُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَأَقَامَ مُعَاوِيَةُ حَتّى كَانَ الْيَوْمُ الثّالِثُ، فَجَلَسَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَخَرَجَ حَتّى إذَا كَانَ بِصُدُورِ الْعَقِيقِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ مُعَاوِيَةَ قَدْ أَصْبَحَ قَرِيبًا فَاطْلُبُوهُ. فَخَرَجَ النّاسُ فِي طلبه فإذا هو قد أخطأ الطريق،
غزوة حمراء الأسد [ (2) ]
فَخَرَجُوا فِي أَثَرِهِ حَتّى يُدْرِكُوهُ فِي يَوْمِ الرّابِعِ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ أَسْرَعَا فِي طَلَبِهِ، فَأَدْرَكَاهُ بِالْجَمّاءِ فَضَرَبَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَقَالَ عَمّارٌ: إنّ لِي فِيهِ حَقّا! فَرَمَاهُ عَمّارٌ بِسَهْمٍ فَقَتَلَاهُ، ثُمّ انْصَرَفَا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ. وَيُقَالُ: أُدْرِكَ بِثَنِيّةِ الشّرِيدِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ حَيْثُ أَخْطَأَ الطّرِيقَ، فَأَدْرَكَاهُ فَلَمْ يَزَالَا يَرْمِيَانِهِ بِالنّبْلِ [ (1) ] وَاِتّخَذَاهُ غَرَضًا حَتّى مَاتَ. غَزْوَةُ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ [ (2) ] وَكَانَتْ يَوْمَ الْأَحَدِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَابَ خَمْسًا. قَالُوا: لَمّا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّبْحَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَمَعَهُ وُجُوهُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا بَاتُوا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بَابِهِ- سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ، وَقَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَعُبَيْدُ بْنُ أَوْسٍ فِي عِدّةٍ مِنْهُمْ. فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصّبْحِ أَمَرَ بلالا أن يُنَادِي: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وسلّم يَأْمُرُكُمْ بِطَلَبِ عَدُوّكُمْ، وَلَا يَخْرُجُ مَعَنَا إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ بِالْأَمْسِ. قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَاجِعًا إلَى دَارِهِ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالْمَسِيرِ. قَالَ: وَالْجِرَاحُ فِي النّاسِ فَاشِيَةٌ، عَامّةُ بنى عبد الأشهل جَرِيحٌ، بَلْ كُلّهَا، فَجَاءَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم أن تطلبوا
عدوّكم. قال: يقول أسيد بن حضير، وَبِهِ سَبْعُ جِرَاحَاتٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُدَاوِيَهَا: سَمْعًا وَطَاعَةً لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ! فَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَلَمْ يُعَرّجْ عَلَى دَوَاءِ جِرَاحِهِ، وَلَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَوْمَهُ بَنِي سَاعِدَةَ فَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ، فَتَلَبّسُوا وَلَحِقُوا. وَجَاءَ أَبُو قَتَادَةَ أَهْلَ خُرْبَى، وَهُمْ يُدَاوُونَ الْجِرَاحَ، فَقَالَ: هَذَا مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ بِطَلَبِ عَدُوّكُمْ. فَوَثَبُوا إلَى سِلَاحِهِمْ وَمَا عَرّجُوا [ (1) ] عَلَى جِرَاحَاتِهِمْ. فَخَرَجَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَرْبَعُونَ جَرِيحًا، بِالطّفَيْلِ بن النّعمان ثلاثة عشر جرحا، وبخراش ابن الصّمّةِ عَشْرُ جِرَاحَاتٍ، وَبِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ بَضْعَةَ عشر جرحا، وبقطبة ابن عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةٍ تِسْعُ جِرَاحَاتٍ، حَتّى وَافَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ إلَى رَأْسِ الثّنِيّةِ- الطّرِيقُ الْأُولَى يَوْمئِذٍ- عَلَيْهِمْ السّلَاحُ قَدْ صَفّوا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَالْجِرَاحُ فِيهِمْ فَاشِيَةٌ قَالَ: اللهُمّ ارْحَمْ بَنِي سَلِمَةَ! قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَحَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: إنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ، وَرَافِعَ بْنَ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجَعَا مِنْ أُحُدٍ وَبِهِمَا جِرَاحٌ كَثِيرَةٌ، وَعَبْدُ اللهِ أَثْقَلُهُمَا مِنْ الْجِرَاحِ، فَلَمّا أَصْبَحُوا وَجَاءَهُمْ سعد ابن مُعَاذٍ يُخْبِرُهُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ بِطَلَبِ عَدُوّهِمْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: وَاَللهِ إنْ تَرْكَنَا غَزْوَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ لَغَبْنٌ! وَاَللهِ مَا عِنْدَنَا دَابّةٌ نَرْكَبُهَا وَمَا نَدْرِي كَيْفَ نَصْنَعُ! قَالَ عَبْدُ اللهِ: انْطَلِقْ بِنَا! قَالَ رَافِعٌ: لَا وَاَللهِ، مَا بِي مَشْيٌ. قَالَ أَخُوهُ، انْطَلِقْ بِنَا، نَتَجَارّ وَنَقْصِدْ [ (2) ] ! فَخَرَجَا يَزْحَفَانِ، فَضَعُفَ رَافِعٌ فَكَانَ عَبْدُ الله يحمله على ظهره عقبة [ (3) ] ويمشى
الْآخَرُ عُقْبَةً، حَتّى أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْعِشَاءِ وَهُمْ يُوقِدُونَ النّيرَانَ، فَأُتِيَ بِهِمَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى حَرَسِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ- فَقَالَ: مَا حَبَسَكُمَا؟ فَأَخْبَرَاهُ بِعِلّتِهِمَا، فَدَعَا لَهُمَا بِخَيْرٍ وَقَالَ: إنْ طَالَتْ لَكُمْ مُدّةٌ كَانَتْ لَكُمْ مَرَاكِبُ مِنْ خَيْلٍ وَبِغَالٍ وَإِبِلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ لَكُمْ! حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: هَذَانِ أَنَسٌ وَمُؤْنِسٌ وَهَذِهِ قِصّتُهُمَا. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ مُنَادِيًا نَادَى أَلّا يَخْرُجَ مَعَنَا إلّا مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ بِالْأَمْسِ. وَقَدْ كُنْت حَرِيصًا عَلَى الْحُضُورِ [ (1) ] ، وَلَكِنّ أَبِي خَلّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي وَقَالَ: يَا بُنَيّ، لَا يَنْبَغِي لِي وَلَك أَنْ نَدَعَهُنّ وَلَا رَجُلَ عِنْدَهُنّ، وَأَخَافُ عَلَيْهِنّ وَهُنّ نَسِيَاتٌ ضِعَافٌ، وَأَنَا خَارِجٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلّ اللهَ يَرْزُقَنِي الشّهَادَةَ. فَتَخَلّفَتْ عَلَيْهِنّ فَاسْتَأْثَرَهُ اللهُ عَلَيّ بِالشّهَادَةِ وَكُنْت رَجَوْتهَا، فَأْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ أَسِيرَ مَعَك. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ جَابِرٌ: فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ أَحَدٌ لَمْ يَشْهَدْ الْقِتَالَ بِالْأَمْسِ غَيْرِي، وَاسْتَأْذَنَهُ رِجَالٌ لَمْ يَحْضُرُوا الْقِتَالَ فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِلِوَائِهِ، وَهُوَ مَعْقُودٌ لَمْ يُحَلّ مِنْ الْأَمْسِ، فَدَفَعَهُ إلَى عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَيُقَالُ دَفَعَهُ إلى أبى بكر. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَجْرُوحٌ، فِي وَجْهِهِ أَثَرُ الْحَلَقَتَيْنِ، وَمَشْجُوجٌ فِي جَبْهَتِهِ فِي أُصُولِ الشّعَرِ، وَرَبَاعِيَتُهُ قَدْ شَظِيَتْ، وَشَفَتُهُ قَدْ كُلِمَتْ مِنْ بَاطِنهَا، وَهُوَ متوهّن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة،
وَرُكْبَتَاهُ مَجْحُوشَتَانِ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، وَالنّاسُ قَدْ حُشِدُوا، وَنَزَلَ أَهْلُ الْعَوَالِي حَيْثُ جَاءَهُمْ الصّرِيخُ، ثُمّ رَكَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ فَدَعَا بِفَرَسِهِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَتَلَقّاهُ طَلْحَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَدْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَخَرَجَ يَنْظُرُ مَتَى يَسِيرُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ وَمَا يُرَى مِنْهُ إلّا عَيْنَاهُ، فَقَالَ: يَا طَلْحَةُ، سِلَاحَك! فَقُلْت: قَرِيبًا. قَالَ طَلْحَةُ: فَأَخْرُجُ أَعْدُو فَأَلْبَسُ دِرْعِي، وَآخُذُ سَيْفِي، وَأَطْرَحُ دَرَقَتِي فِي صَدْرِي، وَإِنّ بِي لَتِسْعَ جِرَاحَاتٍ وَلَأَنَا أَهَمّ بِجِرَاحِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنّي بِجِرَاحِي. ثُمّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَلْحَةَ فَقَالَ: تُرَى الْقَوْمَ الْآنَ؟ قَالَ: هُمْ بِالسّيّالَةِ. قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الّذِي ظَنَنْت، أَمَا إنّهُمْ يَا طَلْحَةُ لَنْ يَنَالُوا مِنّا مِثْلَ أَمْسَ حَتّى يَفْتَحَ اللهُ مَكّةَ عَلَيْنَا. وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم ثلاثة نفر من أَسْلَمَ طَلِيعَةً فِي آثَارِ الْقَوْمِ: سَلِيطًا وَنُعْمَانَ ابْنَيْ سُفْيَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ دَارِمٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَمَعَهُمَا ثَالِثٌ مِنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي عُوَيْرٍ [ (1) ] لَمْ يُسَمّ لَنَا. فَأَبْطَأَ الثّالِثُ عَنْهُمَا وَهُمَا يَجْمِزَانِ [ (2) ] ، وَقَدْ انْقَطَعَ قِبَالُ [ (3) ] نَعْلِ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ: أَعْطِنِي نَعْلَك. قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَا أَفْعَلُ! فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا بِرِجْلِهِ فِي صَدْرِهِ، فَوَقَعَ لِظَهْرِهِ وَأَخَذَ نَعْلَيْهِ. وَلَحِقَ الْقَوْمُ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَلَهُمْ زَجَلٌ، وَهُمْ يَأْتَمِرُونَ بِالرّجُوعِ، وَصَفْوَانُ يَنْهَاهُمْ عَنْ الرّجُوعِ، فَبَصُرُوا بِالرّجُلَيْنِ فَعَطَفُوا عَلَيْهِمَا فَأَصَابُوهُمَا. فَانْتَهَى الْمُسْلِمُونَ إلَى مَصْرَعِهِمَا بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ فَعَسْكَرُوا، وَقَبَرُوهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. فقال ابن
عَبّاسٍ: هَذَا قَبْرُهُمَا وَهُمَا الْقَرِينَانِ. وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ حَتّى عَسْكَرُوا بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ. قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَ عَامّةُ زَادِنَا التّمْرَ، وَحَمَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ثَلَاثِينَ جَمَلًا [ (1) ] حَتّى وَافَتْ الْحَمْرَاءَ، وَسَاقَ جُزُرًا فَنَحَرُوا فِي يَوْمٍ اثْنَيْنِ وَفِي يَوْمٍ ثَلَاثًا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُمْ فِي النّهَارِ بِجَمْعِ الْحَطْبِ، فَإِذَا أَمْسَوْا أَمَرَنَا أَنْ نُوقِدَ النّيرَانَ. فَيُوقِدُ كُلّ رَجُلٍ نَارًا، فَلَقَدْ كُنّا تِلْكَ اللّيَالِيَ نُوقِدُ خَمْسَمِائَةِ نَارٍ حَتّى تُرَى مِنْ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، وَذَهَبَ ذِكْرُ مُعَسْكَرِنَا وَنِيرَانِنَا فِي كُلّ وَجْهٍ حَتّى كَانَ مِمّا كَبَتَ اللهُ تَعَالَى عَدُوّنَا. وَانْتَهَى مَعْبَدُ بْنُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ مُشْرِكٌ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ سَلَمًا لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، لَقَدْ عَزّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَك [ (2) ] فِي أَصْحَابِك، وَلَوَدِدْنَا أَنّ اللهَ أَعْلَى كَعْبَك [ (3) ] ، وَأَنّ الْمُصِيبَةَ كَانَتْ بِغَيْرِك. ثُمّ مَضَى مَعْبَدٌ [ (4) ] حَتّى يَجِدَ أَبَا سُفْيَانَ وَقُرَيْشًا بِالرّوْحَاءِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا مُحَمّدًا أَصَبْتُمْ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، فَبِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ! فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى الرّجُوعِ، وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَا صَنَعْنَا شَيْئًا، أَصَبْنَا أَشْرَافَهُمْ ثُمّ رَجَعْنَا قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ وَفْرٌ- وَالْمُتَكَلّمُ بِهَذَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. فلمّا جاء معبد إلى أبى سفيان قَالَ: هَذَا مَعْبَدٌ وَعِنْدَهُ الْخَبَرُ، مَا وَرَاءَك يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ: تَرَكْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ خَلْفِي يَتَحَرّقُونَ عَلَيْكُمْ بِمِثْلِ النّيرَانِ، وَقَدْ أَجْمَعَ مَعَهُ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ بِالْأَمْسِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَتَعَاهَدُوا أَلّا يَرْجِعُوا حَتّى يَلْحَقُوكُمْ فَيَثْأَرُوا مِنْكُمْ، وغضبوا لقومهم
غَضَبًا شَدِيدًا وَلِمَنْ أَصَبْتُمْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ. قَالُوا: وَيْلَك! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاَللهِ مَا نَرَى أَنْ نَرْتَحِلَ حَتّى نَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ! ثُمّ قَالَ مَعْبَدُ: لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْت مِنْهُمْ أَنْ قُلْت أَبْيَاتًا: كَادَتْ تُهَدّ [ (1) ] مِنْ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إذْ سَالَتْ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ [ (2) ] الْأَبَابِيلِ تَعْدُو [ (3) ] بِأُسْدٍ كَرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ [ (4) ] ... عِنْدَ اللّقَاءِ وَلَا مِيلٍ [ (5) ] مَعَازِيلِ فَقُلْت وَيْلَ ابْنَ حَرْبٍ مِنْ لِقَائِهِمْ ... إذَا تَغَطْمَطَتْ [ (6) ] الْبَطْحَاءُ بِالْجِيلِ وَكَانَ مِمّا [ (7) ] رَدّ اللهُ تَعَالَى أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ كَلَامُ صَفْوَانِ بْنِ أُمَيّةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ مَعْبَدُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ، لَا تَفْعَلُوا! فَإِنّ الْقَوْمَ قَدْ حَزِنُوا [ (8) ] وَأَخْشَى أَنْ يَجْمَعُوا عَلَيْكُمْ مَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْخَزْرَجِ، فَارْجِعُوا وَالدّوْلَةُ لَكُمْ، فَإِنّي لَا آمَنُ إنْ رَجَعْتُمْ أَنْ تَكُونَ الدّوْلَةُ عَلَيْكُمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْشَدُهُمْ صَفْوَانُ وَمَا كَانَ بِرَشِيدٍ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سُوّمَتْ [ (9) ] لَهُمْ الْحِجَارَةُ، وَلَوْ رَجَعُوا لَكَانُوا كَأَمْسِ الذّاهِبِ! فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ سِرَاعًا خَائِفِينَ مِنْ الطّلَبِ لَهُمْ، وَمَرّ بِأَبِي سفيان نفر من عبد القيس
سرية أبى سلمة بن عبد الأسد إلى قطن [ (4) ] إلى بنى أسد فى المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا
يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: هَلْ مُبْلِغُو [ (1) ] مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ مَا أَرْسَلَكُمْ بِهِ، عَلَى أَنْ أُوَقّرَ لَكُمْ أَبَاعِرَكُمْ زَبِيبًا غَدًا بِعُكَاظٍ إنْ أَنْتُمْ جِئْتُمُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: حَيْثُمَا لَقِيتُمْ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَأَخْبِرُوهُمْ أَنّا قَدْ أَجَمَعْنَا الرّجْعَةَ إلَيْهِمْ، وَأَنّا آثَارَكُمْ. فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ، وَقَدِمَ الرّكْبُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِالْحَمْرَاءِ، فَأَخْبَرُوهُمْ الّذِي أَمَرَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالُوا: حَسُبْنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! وَفِي ذَلِكَ أَنَزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ.. [ (2) ] الْآيَةُ. وَقَوْلَهُ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ.. [ (3) ] الْآيَةَ. وَكَانَ مَعْبَدٌ قَدْ أَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِمُهُ أَنْ قَدْ انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ خَائِفِينَ وَجِلِينَ. ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. سَرِيّةُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ إلَى قَطَنٍ [ (4) ] إلَى بَنِي أَسَدٍ فِي الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ. وَغَيْرُهُ أَيْضًا قَدْ حَدّثَنِي مِنْ حَدِيثِ هَذِهِ السّرِيّةِ، وَعِمَادُ الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ ابن عُثْمَانَ، عَنْ سَلَمَةَ، قَالُوا: شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ أَحَدًا، وَكَانَ نَازِلًا فِي بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَالِيَةِ حَيْنَ تَحَوّلَ مِنْ قُبَاءٍ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ. فَجُرِحَ بِأُحُدٍ جُرْحًا عَلَى عَضُدِهِ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ، فَجَاءَهُ الْخَبَرُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارَ إلَى حمراء الأسد، فركب
حِمَارًا وَخَرَجَ يُعَارِضُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى لَقِيَهُ حَيْنَ هَبَطَ مِنْ الْعَصْبَةِ [ (1) ] بِالْعَقِيقِ، فَسَارَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ. فَلَمّا رَجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ انْصَرَفَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجَعَ مِنْ الْعَصْبَةِ، فَأَقَامَ شَهْرًا يُدَاوِي جُرْحَهُ حَتّى رَأَى أَنْ قَدْ بَرَأَ، وَدَمَلَ الْجُرْحُ عَلَى بَغْيٍ [ (2) ] لَا يُدْرَى بِهِ، فَلَمّا كَانَ هِلَالُ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَةِ، دَعَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اُخْرُجْ فِي هَذِهِ السّرِيّةِ فَقَدْ اسْتَعْمَلْتُك عَلَيْهَا. وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَقَالَ: سِرْ حَتّى تَرِدَ أَرْضَ بَنِي أَسَدٍ، فَأَغِرْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ تَلَاقَى عَلَيْك جَمُوعُهُمْ. وَأَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، فَخَرَجَ مَعَهُ فِي تِلْكَ السّرِيّةِ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ، مِنْهُمْ: أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ وَهُوَ أَخُو أَبِي سَلَمَةَ لِأُمّهِ- أُمّهُ بَرّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ- وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَخْرَمَةَ الْعَامِرِيّ. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: مُعَتّبُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ حَمْرَاءَ الْخُزَاعِيّ حَلِيفٌ فِيهِمْ، وَأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَمِنْ بَنِي فِهْرٍ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ: أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ، وَأَبُو عَبْسٍ، وقتادة بن النّعمان، ونصر بْنُ الْحَارِثِ الظّفَرِيّ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَأَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ، وَخُبَيْبُ بْنُ يِسَافٍ، وَمَنْ لَمْ يُسَمّ لَنَا. وَاَلّذِي هَاجَهُ أَنّ رَجُلًا مِنْ طَيّئ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يُرِيدُ امْرَأَةً ذَاتَ رَحِمٍ بِهِ مِنْ طَيّئ مُتَزَوّجَةً رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ عَلَى صِهْرِهِ الّذِي هُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنّ طُلَيْحَةَ وَسَلَمَةَ ابْنَيْ خُوَيْلِدٍ تَرَكَهُمَا قَدْ سَارَا فِي قَوْمِهِمَا وَمَنْ أَطَاعَهُمَا بدعوتهما إلى حرب
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا لِلْمَدِينَةِ، وَقَالُوا: نَسِيرُ إلَى مُحَمّدٍ فِي عُقْرِ دَارِهِ، وَنُصِيبُ مِنْ أَطْرَافِهِ، فإنّ لهم سرحا يرعى جوانب المدينة، وتخرج عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَقَدْ أَرْبَعْنَا [ (1) ] خَيْلَنَا، وَنَخْرُجُ عَلَى النّجَائِبِ الْمَخْبُورَةِ، فَإِنْ أَصَبْنَا نَهْبًا لَمْ نُدْرَك، وَإِنْ لَاقَيْنَا جَمْعَهُمْ كُنّا قَدْ أَخَذْنَا لِلْحَرْبِ عُدّتَهَا، مَعَنَا خَيْلٌ وَلَا خَيْلَ مَعَهُمْ، وَمَعَنَا نَجَائِبُ أَمْثَالُ الْخَيْلِ، وَالْقَوْمُ مَنْكُوبُونَ قَدْ أَوْقَعَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ حَدِيثًا، فَهُمْ لَا يَسْتَبِلّونَ دَهْرًا، وَلَا يَثُوبُ لَهُمْ جَمْعٌ. فَقَامَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ قَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ، وَاَللهِ مَا هَذَا بِرَأْيٍ! مَا لَنَا قِبَلَهُمْ وِتْرٌ وَمَا هُمْ نُهْبَةٌ لِمُنْتَهِبٍ، إنّ دَارَنَا لَبَعِيدَةٌ مِنْ يَثْرِبَ وَمَا لَنَا جَمْعٌ كَجَمْعِ قُرَيْشٍ. مَكَثَتْ قريش دَهْرًا تَسِيرُ فِي الْعَرَبِ تَسْتَنْصِرُهَا وَلَهُمْ وِتْرٌ يَطْلُبُونَهُ، ثُمّ سَارُوا وَقَدْ امْتَطُوا الْإِبِلَ وَقَادُوا الْخَيْلَ وَحَمَلُوا السّلَاحَ مَعَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ- ثَلَاثَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ سِوَى أَتْبَاعِهِمْ- وَإِنّمَا جَهْدُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ إنْ كَمُلُوا، فَتُغَرّرُونَ بِأَنْفُسِكُمْ وَتَخْرُجُونَ مِنْ بَلَدِكُمْ، وَلَا آمَنُ أَنْ تَكُونَ الدّائِرَةُ عَلَيْكُمْ. فَكَادَ ذَلِكَ أَنْ يُشَكّكَهُمْ فِي الْمَسِيرِ، وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ. فَخَرَجَ بِهِ الرّجُلُ الّذِي مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ مَا أَخْبَرَ الرّجُلُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سَلَمَةَ، فَخَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ وَخَرَجَ مَعَهُ الطّائِيّ دَلِيلًا فَأَغَذّوْا [ (2) ] السّيْرَ، وَنَكَبَ بِهِمْ عَنْ سَنَنِ الطّرِيقِ، وَعَارَضَ الطّرِيقَ وَسَارَ بِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَسَبَقُوا الْأَخْبَارَ وَانْتَهَوْا إلَى أَدْنَى قَطَنٍ- مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي أَسَدٍ، هُوَ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمْعُهُمْ- فَيَجِدُونَ سَرْحًا فَأَغَارُوا عَلَى سَرْحِهِمْ فَضَمّوهُ، وَأَخَذُوا رِعَاءً لهم،
مُمَالِيك ثَلَاثَةٍ، وَأَفْلَتْ سَائِرُهُمْ فَجَاءُوا جَمْعَهُمْ فَخَبّرُوهُمْ الْخَبَرَ وَحَذّرُوهُمْ جَمْعَ أَبِي سَلَمَةَ، وَكَثّرُوهُ عِنْدَهُمْ فَتَفَرّقَ الْجَمْعُ فِي كُلّ وَجْهٍ. وَوَرَدَ أَبُو سَلَمَةَ الْمَاءَ فَيَجِدُ الْجَمْعَ قَدْ تَفَرّقَ، فَعَسْكَرَ وَفَرّقَ أَصْحَابَهُ فِي طَلَبِ النّعَمِ وَالشّاءِ، فَجَعَلَهُمْ ثَلَاثَ فِرَقٍ- فِرْقَةٌ أَقَامَتْ مَعَهُ، وَفِرْقَتَانِ أَغَارَتَا فِي نَاحِيَتَيْنِ شَتّى. وَأَوْعَزَ إلَيْهِمَا أَلّا يُمْعِنُوا فِي طَلَبٍ وَأَلّا يَبِيتُوا إلّا عِنْدَهُ إنْ سَلّمُوا، وَأَمَرَهُمْ أَلّا يَفْتَرِقُوا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى كُلّ فِرْقَةٍ عَامِلًا مِنْهُمْ. فَآبُوا إلَيْهِ جَمِيعًا سَالِمِينَ، قَدْ أَصَابُوا إبِلًا وَشَاءً وَلَمْ يَلْقَوْا أَحَدًا، فَانْحَدَرَ أَبُو سَلَمَةَ بِذَلِكَ كُلّهِ إلَى الْمَدِينَةِ رَاجِعًا، وَرَجَعَ مَعَهُ الطّائِيّ، فَلَمّا سَارُوا لَيْلَةً قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: اقْتَسِمُوا غَنَائِمَكُمْ. فَأَعْطَى أَبُو سَلَمَةَ الطّائِيّ الدّلِيلَ رِضَاهُ مِنْ الْمَغْنَمِ، ثُمّ أَخَرَجَ صَفِيّا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا، ثُمّ أَخْرَجَ الْخُمُسَ، ثُمّ قَسَمَ مَا بَقِيَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَعَرَفُوا سُهْمَانَهُمْ، ثُمّ أَقْبَلُوا بِالنّعَمِ وَالشّاءِ يَسُوقُونَهَا حَتّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بن عمير، عن عبد الرحمن ابن سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: كَانَ الّذِي جَرَحَ أَبَا سَلَمَةَ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ، رَمَاهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِمَعْبَلَةٍ فِي عَضُدِهِ، فَمَكَثَ شَهْرًا يُدَاوِيهِ فَبَرَأَ فِيمَا نَرَى، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا إلَى قَطَنٍ، وَغَابَ بِضْعَ عَشْرَةٍ. فَلَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ انْتَقَضَ الْجُرْحُ، فَمَاتَ لِثَلَاثِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَغَسَلَ مِنْ الْيَسِيرَةِ- بِئْرِ بَنِي أُمَيّةَ- بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَكَانَ اسْمُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ الْعَبِيرُ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَسِيرَةَ، ثُمّ حُمِلَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ فَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: وَاعْتَدّتْ أُمّي حَتّى خَلَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمّ تَزَوّجَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ بِهَا فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوّالٍ، فَكَانَتْ أُمّي تَقُولُ: مَا بَأْسٌ فِي النّكَاحِ فِي شَوّالٍ وَالدّخُولِ فِيهِ، قَدْ تَزَوّجَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَوّالٍ وَأَعْرَسَ بِي فِي شَوّالٍ. وَمَاتَتْ أُمّ سَلَمَةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثْت عُمَرَ بْنَ عُثْمَانَ الْجَحْشِيّ، فَعَرَفَ السّرِيّةَ وَمَخْرَجَ أَبِي سَلَمَةَ إلَى قَطَنٍ، وَقَالَ: أَمَا سُمّيَ لَك الطّائِيّ؟ قُلْت: لَا. قَالَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ طَرِيفٍ عَمّ زَيْنَبَ الطّائِيّةِ، وَكَانَتْ تَحْتَ طُلَيْبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَنَزَلَ الطّائِيّ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَذَهَبَ بِهِ طُلَيْبٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَ خَبَرَ بَنِي أَسَدٍ وَمَا كَانَ مِنْ هُمُومِهِمْ بِالْمَسِيرِ. وَرَجَعَ مَعَهُمْ الطّائِيّ دَلِيلًا وَكَانَ خِرّيتًا [ (1) ] ، فَسَارَ بِهِمْ أَرْبَعًا إلَى قَطَنٍ، وَسَلَكَ بِهِمْ غَيْرَ الطّرِيقِ، لِأَنْ يَعْمِيَ الْخَبَرَ عَلَى الْقَوْمِ. فَجَاءُوا الْقَوْمَ وَهُمْ غَارُونَ عَلَى صِرْمَةَ [ (2) ] ، فَوَجَدُوا الصّرْمَ قَدْ نَذِرُوا [ (3) ] بِهِمْ وَخَافُوهُمْ فَهُمْ مُعِدّونَ، فَاقْتَتَلُوا فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ جِرَاحَةٌ، وَافْتَرَقُوا. ثُمّ أَغَارَ الطّائِيّونَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى بَنِي أَسَدٍ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَيْضًا جِرَاحٌ، وَأَصَابُوا لَهُمْ نَعَمًا وَشَاءً، فَمَا تَخَلّصُوا مِنْهُمْ شَيْئًا حَتّى دَخَلَ الْإِسْلَامُ. قَالَ الْوَاقِدِيّ، وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: أَبُو سلمة من شهداء أحد للجرح الّذِي جُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمّ انْتَقَضَ بِهِ. وَكَذَلِكَ أَبُو خَالِدٍ الزّرَقِيّ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ، جُرِحَ بِالْيَمَامَةِ جُرْحًا، فَلَمّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عمر انتقض به الجرح
فَمَاتَ فِيهِ، فَصَلّى عَلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: هُوَ مِنْ شُهَدَاءِ الْيَمَامَةِ لِأَنّهُ جُرِحَ بِالْيَمَامَةِ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثْت يَعْقُوبَ بْنَ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ كُلّهُ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَبَا سَلَمَةَ فِي الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، فِي مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ. فَكَانُوا يَسِيرُونَ اللّيْلَ وَيَكْمُنُونَ النّهَارَ حَتّى وَرَدُوا قَطَنٍ، فَوَجَدُوا الْقَوْمَ قَدْ جَمَعُوا جَمْعًا فَأَحَاطَ بِهِمْ أَبُو سَلَمَةَ فِي عَمَايَةِ الصّبْحِ، وَقَدْ وَعَظَ الْقَوْمَ وَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَرَغّبَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَحَضّهُمْ عَلَيْهِ، وَأَوْعَزَ إلَيْهِمْ فِي الْإِمْعَانِ فِي الطّلَبِ، وَأَلّفَ بَيْنَ كُلّ رَجُلَيْنِ. فَانْتَبَهَ الْحَاضِرُ قَبْلَ حَمْلَةِ الْقَوْمِ عَلَيْهِمْ، فَتَهَيّئُوا وَأَخَذُوا السّلَاحَ، أَوْ مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ، وَصَفّوا لِلْقِتَالِ. وَحَمَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَضَرَبَهُ فَأَبَانَ رِجْلَهُ، ثُمّ ذَفّفَ عَلَيْهِ، وحمل رجل من الأعراب على مسعود ابن عُرْوَةَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ بِالرّمْحِ فَقَتَلَهُ، وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَاحِبِهِمْ أَنْ يُسْلَبَ مِنْ ثِيَابِهِ فَحَازُوهُ إلَيْهِمْ. ثُمّ صَاحَ سَعْدٌ: مَا يُنْتَظَرُ! فَحَمَلَ أَبُو سَلَمَةَ فَانْكَشَفَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى حَامِيَتِهِمْ، وَتَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، ثُمّ تَفَرّقَ الْمُشْرِكُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَأَمْسَكَ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ الطّلَبِ فَانْصَرَفُوا إلَى الْمَحَلّةِ، فَوَارَوْا صَاحِبَهُمْ وَأَخَذُوا مَا خَفّ لَهُمْ مِنْ مَتَاعِ الْقَوْمِ [ (1) ] ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَحَلّةِ ذُرّيّةٌ، ثُمّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إلَى الْمَدِينَةِ، حَتّى إذَا كَانُوا مِنْ الْمَاءِ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ أَخْطَئُوا الطّرِيقَ، فَهَجَمُوا عَلَى نَعَمٍ لَهُمْ فِيهِمْ رِعَاؤُهُمْ، وَإِنّمَا نَكّبُوا عَنْ سَنَنِهِمْ، فَاسْتَاقُوا النّعَمَ وَاسْتَاقُوا الرّعَاءَ، فَكَانَتْ غَنَائِمُهُمْ سَبْعَةَ أَبْعِرَةٍ. فَحَدّثَنِي ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: قال سعد
غزوة بئر معونة فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا
ابن أَبِي وَقّاصٍ: فَلَمّا أَخْطَأْنَا الطّرِيقَ اسْتَأْجَرْنَا رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ دَلِيلًا يَدُلّنَا عَلَى الطّرِيقِ، فَقَالَ: أَنَا أَهْجُمُ بِكَمْ عَلَى نَعَمٍ، فَمَا تَجْعَلُونَ لِي مِنْهُ؟ قَالُوا: الْخُمُسَ. قَالَ: فَدَلّهُمْ عَلَى النّعَمِ وَأَخَذَ خُمُسَهُ. غَزْوَةُ بِئْرِ مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَأَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمّينَ، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ الّذِي حَدّثُونِي، قَالُوا: قَدِمَ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الْبَرَاءِ مَلَاعِبَ الْأَسِنّةِ [ (1) ] عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسَيْنِ وَرَاحِلَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَقَبْلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ! فَعَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يُبْعِدْ، وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّي أَرَى أَمْرَك هَذَا أَمْرًا حَسَنًا شَرِيفًا، وَقَوْمِي خَلْفِي، فَلَوْ أَنّك بَعَثْت نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِك مَعِي لَرَجَوْت أَنْ يُجِيبُوا دَعْوَتَك وَيَتّبِعُوا أَمْرَك، فَإِنْ هُمْ اتّبَعُوك فَمَا أَعَزّ أَمْرَك! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي أَخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ. فَقَالَ عَامِرٌ: لَا تَخَفْ عَلَيْهِمْ، أَنَا لَهُمْ جَارٍ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
نَجْدٍ. وَكَانَ مِنْ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَجُلًا شَبَبَةً [ (1) ] يُسَمّونَ الْقُرّاءَ. كَانُوا إذَا أَمْسَوْا أَتَوْا نَاحِيَةً مِنْ الْمَدِينَةِ فَتَدَارَسُوا وَصَلّوْا، حَتّى إذَا كَانَ وِجَاهَ الصّبْحِ اسْتَعْذَبُوا مِنْ الْمَاءِ وَحَطِبُوا مِنْ الْحَطَبِ فَجَاءُوا بِهِ إلَى حِجْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَهْلُوهُمْ يَظُنّونَ أَنّهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ يَظُنّونَ أَنّهُمْ فِي أَهْلِيهِمْ. فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجُوا فَأُصِيبُوا فِي بِئْرِ مَعُونَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتَلَتِهِمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: كَانُوا سَبْعِينَ، وَيُقَالُ إنّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ، وَرَأَيْت الثّبْتَ عَلَى أَنّهُمْ أَرْبَعُونَ. فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ كِتَابًا، وَأَمّرَ عَلَى أَصْحَابِهِ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو السّاعِدِيّ، فَخَرَجُوا حَتّى كَانُوا عَلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهُوَ مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي سُلَيْمٍ، وَهُوَ بَيْنَ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ وَبَنِي سُلَيْمٍ، وَكِلَا الْبَلَدَيْنِ يُعَدّ مِنْهُ. فَحَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: خَرَجَ الْمُنْذِرُ بِدَلِيلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ يُقَالُ لَهُ الْمُطّلِبُ، فَلَمّا نَزَلُوا عَلَيْهَا عَسْكَرُوا بِهَا وَسَرّحُوا ظَهْرَهُمْ، وَبَعَثُوا فِي سَرْحِهِمْ الْحَارِثَ بْنَ الصّمّةِ، وَعَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ. وَقَدّمُوا حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ. فَلَمّا انْتَهَى حَرَامٌ إلَيْهِمْ لم يقرأوا الْكِتَابَ، وَوَثَبَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ عَلَى حَرَامٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ بَنِي عَامِرٍ فَأَبَوْا. وَقَدْ كَانَ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ أَبُو بَرَاءٍ خَرَجَ قَبْلَ الْقَوْمِ إلَى نَاحِيَةِ نَجْدٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ قَدْ أَجَارَ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ، فَلَا يَعْرِضُوا لَهُمْ، فَقَالُوا: لَنْ يُخْفَرَ جِوَارُ أَبِي بَرَاءٍ. وَأَبَتْ عَامِرٌ أَنْ تَنْفِرَ مَعَ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ، فَلَمّا أَبَتْ عَلَيْهِ بَنُو عَامِرٍ اسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ سُلَيْمٍ- عُصَيّةَ وَرِعْلًا- فَنَفَرُوا مَعَهُ
وَرَأّسُوهُ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ: أَحْلِفُ بِاَللهِ مَا أَقْبَلُ هَذَا وَحْدَهُ! فَاتّبَعُوا إثْرَهُ حَتّى وَجَدُوا الْقَوْمَ، قَدْ اسْتَبْطَئُوا صَاحِبَهُمْ فَأَقْبَلُوا فِي إثْرِهِ، فَلَقِيَهُمْ الْقَوْمُ وَالْمُنْذِرُ مَعَهُمْ، فَأَحَاطَتْ بَنُو عَامِرٍ بِالْقَوْمِ وَكَاثَرُوهُمْ، فَقَاتَلَ الْقَوْمُ حَتّى قُتِلَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَبَقِيَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالُوا لَهُ: إنْ شِئْت آمَنّاك. فَقَالَ: لَنْ أُعْطِيَ بِيَدِي وَلَنْ أَقْبَلَ لَكُمْ أَمَانّا حَتّى آتِيَ مَقْتَلَ حَرَامٍ، ثُمّ بَرِئَ مِنّي جِوَارُكُمْ. فَآمَنُوهُ حَتّى أَتَى مَصْرَعَ حَرَامٍ، ثُمّ بَرِئُوا إلَيْهِ مِنْ جِوَارِهِمْ، ثُمّ قَاتَلَهُمْ حَتّى قُتِلَ، فَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْنَقَ لِيَمُوتَ» [ (1) ] . وَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ وَعَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ بِالسّرْحِ، وَقَدْ ارْتَابَا بِعُكُوفِ الطّيْرِ عَلَى مَنْزِلِهِمْ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، فَجَعَلَا يَقُولَانِ: قُتِلَ وَاَللهِ أَصْحَابُنَا، وَاَللهِ مَا قَتَلَ أَصْحَابَنَا إلّا أَهْلُ نَجْدٍ! فَأَوْفَى عَلَى نَشَزٍ مِنْ الْأَرْضِ فَإِذَا أَصْحَابُهُمْ مَقْتُولُونَ وَإِذَا الْخَيْلُ وَاقِفَةٌ، فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ لعمرو بْنِ أُمَيّةَ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر. فقال الْحَارِثُ: مَا كُنْت لِأَتَأَخّرَ عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ الْمُنْذِرُ. فَأَقْبَلَا لِلْقَوْمِ [ (2) ] فَقَاتَلَهُمْ الْحَارِثُ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ، ثُمّ أَخَذُوهُ فَأَسَرُوهُ وَأَسَرُوا عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ. وَقَالُوا لِلْحَارِثِ: مَا تُحِبّ أَنْ نَصْنَعَ بِك، فَإِنّا لَا نُحِبّ قَتْلَك؟ قتل: أَبْلِغُونِي مَصْرَعَ الْمُنْذِرِ وَحَرَامٍ، ثُمّ بَرِئَتْ مِنّي ذِمّتُكُمْ. قَالُوا: نَفْعَلُ. فَبَلَغُوا بِهِ ثُمّ أَرْسَلُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ ثُمّ قُتِلَ، فَمَا قَتَلُوهُ حَتّى شَرَعُوا لَهُ الرّمَاحَ فَنَظَمُوهُ فِيهَا. وقال عامر بن الطّفيل لعمرو من أُمَيّةَ، وَهُوَ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَمْ يُقَاتِلْ: إنّهُ قَدْ كَانَتْ عَلَى أُمّي نَسَمَةٌ، فَأَنْتَ حُرّ عَنْهَا! وَجَزّ نَاصِيَتَهُ. وَقَالَ عَامِرُ بْنُ
الطّفَيْلِ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ، هَلْ تَعْرِفُ أَصْحَابَك؟ قَالَ، قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: فَطَافَ فِيهِمْ وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَنْسَابِهِمْ فَقَالَ: هَلْ تفقد منهم من أَحَدٍ؟ قَالَ: أَفْقِدُ مَوْلًى لِأَبِي بَكْرٍ يُقَالُ لَهُ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ. فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ فِيكُمْ؟ قَالَ، قُلْت: كَانَ مِنْ أَفْضَلِنَا وَمِنْ أَوّلِ أَصْحَابِ نَبِيّنَا. قَالَ: أَلَا أُخْبِرُك خَبَرَهُ؟ وَأَشَارَ إلَى رَجُلٍ فَقَالَ: هَذَا طَعَنَهُ بِرُمْحِهِ، ثُمّ انْتَزَعَ رُمْحَهُ فَذَهَبَ بِالرّجُلِ عُلُوّا فِي السّمَاءِ حَتّى وَاَللهِ مَا أَرَاهُ. قَالَ عَمْرٌو، فَقُلْت: ذَلِكَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ! وَكَانَ الّذِي قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِلَابٍ يُقَالُ لَهُ جَبّارُ بْنُ سَلْمَى، ذَكَرَ أَنّهُ لَمّا طَعَنَهُ قَالَ، سَمِعْته يَقُولُ «فُزْت وَاَللهِ» ! قَالَ، فَقُلْت فِي نَفْسِي: مَا قَوْلُهُ «فُزْت» ؟ قَالَ: فَأَتَيْت الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ وَسَأَلْته عَنْ قَوْلِهِ «فُزْت» ، فَقَالَ: الْجَنّةَ. قَالَ: وَعَرَضَ عَلَيّ الْإِسْلَامَ. قَالَ: فَأَسْلَمْت، وَدَعَانِي إلَى الْإِسْلَامِ مَا رَأَيْت مِنْ مَقْتَلِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ مِنْ رَفْعِهِ إلَى السّمَاءِ عُلُوّا. قَالَ: وَكَتَبَ الضّحّاكُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِإِسْلَامِي وَمَا رَأَيْت مِنْ مَقْتَلِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنّ الْمَلَائِكَةَ وَارَتْ جُثّتَهُ! وَأَنْزَلَ عِلّيّينَ. فَلَمّا جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُ بِئْرِ مَعُونَةَ، جَاءَ مَعَهَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ مُصَابُهُمْ وَمُصَابُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ، وَبَعَثَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْت لِهَذَا كَارِهًا. وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتَلَتِهِمْ بَعْدَ الرّكْعَةِ مِنْ الصّبْحِ، فِي صُبْحِ تِلْكَ اللّيْلَةِ الّتِي جَاءَهُ الْخَبَرُ، فَلَمّا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حمده! قال: اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللهُمّ، عَلَيْك بِبَنِي لِحْيَانَ وَزِعْبٍ وَرِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيّةَ، فَإِنّهُمْ عَصَوْا اللهَ وَرَسُولَهُ، اللهُمّ، عَلَيْك
بِبَنِي لِحْيَانَ وَعَضَلَ وَالْقَارّةَ، اللهُمّ، أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ ابْنِ هِشَامٍ، وَعَيّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، غِفَارٌ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَأَسْلَمَ سَالَمَهَا اللهُ! ثُمّ سجد. فقال ذلك خمس غشرة، وَيُقَالُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.. [ (1) ] الْآيَةُ. وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: يَا رَبّ [ (2) ] ، سَبْعِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ! وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: قَتَلْت من الأنصار فى مواطن سبعين سبعين- يوم أحد سبعون، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ سَبْعُونَ. وَلَمْ يَجِدْ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قَتْلَى مَا وَجَدَ عَلَى قَتْلَى بِئْرِ مَعُونَةَ. وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ قُرْآنًا قَرَأْنَاهُ حَتّى نُسِخَ: بَلّغُوا قَوْمَنَا أَنّا لَقِينَا رَبّنَا فَرَضِيَ عَنّا وَرَضِينَا عَنْهُ. قَالُوا: وَأَقْبَلَ أَبُو بَرَاءٍ سَائِرًا، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ هِمّ [ (3) ] ، فَبَعَثَ مِنْ الْعِيصِ ابْنَ أَخِيهِ لَبِيَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بِهَدِيّةٍ، فَرَسٍ، فَرَدّهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لَا أَقَبْلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ! فَقَالَ لَبِيدٌ: مَا كُنْت أَظُنّ أَنّ أَحَدًا مِنْ مُضَرَ يَرُدّ هَدِيّةَ أَبِي بَرَاءٍ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَبِلْت هَدِيّةَ مُشْرِكٍ لَقَبِلْت هَدِيّةَ أَبِي بَرَاءٍ. قَالَ: فَإِنّهُ قَدْ بَعَثَ يَسْتَشْفِيكَ مِنْ وَجَعٍ بِهِ- وَكَانَتْ بِهِ الدّبَيْلَةُ. فَتَنَاوَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَبُوبَةً [ (4) ] مِنْ الْأَرْضِ فَتَفَلَ فِيهَا، ثُمّ نَاوَلَهُ وَقَالَ: دُفْهَا بِمَاءٍ ثُمّ اسْقِهَا إيّاهُ. فَفَعَلَ فَبَرِئَ. وَيُقَالُ إنّهُ
بعث إليه بعكّة [ (1) ] عسل فَلَمْ يَزَلْ يَلْعَقُهَا حَتّى بَرِئَ. فَكَانَ أَبُو بَرَاءٍ يَوْمَئِذٍ سَائِرًا فِي قَوْمِهِ يُرِيدُ أَرْضَ بَلِيّ، فَمَرّ بِالْعِيصِ فَبَعَثَ ابْنَهُ رَبِيعَةَ مَعَ لَبِيدٍ يَحْمِلَانِ طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِيعَةَ: مَا فَعَلَتْ ذِمّةُ أَبِيك؟ قَالَ رَبِيعَةُ: نَقَضَتْهَا ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ أَوْ طَعْنَةٌ بِرُمْحٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَخَرَجَ ابْنُ أَبِي بَرَاءٍ فَخَبّرَ أَبَاهُ، فَشَقّ عَلَيْهِ مَا فَعَلَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ وَمَا صَنَعَ بِأَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَرَكَةَ بِهِ مِنْ الْكِبَرِ وَالضّعْفِ، فَقَالَ: أَخْفِرنِي ابْنَ أَخِي مِنْ بَيْنِ بَنِي عَامِرٍ. وَسَارَ حَتّى كَانُوا عَلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَلِيّ يُقَالُ لَهُ الْهَدْمُ [ (2) ] ، فَيَرْكَبُ رَبِيعَةُ فَرَسًا لَهُ وَيَلْحَقُ عَامِرًا وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، فَطَعَنَهُ بِالرّمْحِ فَأَخْطَأَ مَقَاتِلَهُ. وَتَصَايَحَ النّاسُ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ: إنّهَا لَمْ تَضُرّنِي! إنّهَا لَمْ تَضُرّنِي! وَقَالَ: قَضَيْت ذِمّةَ أَبِي بَرَاءٍ. وَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ: قَدْ عَفَوْت عَنْ عَمّي، هَذَا فِعْلَهُ! وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، اهْدِ بَنِي عَامِرٍ وَاطْلُبْ خُفْرَتِي [ (3) ] مِنْ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ. وَأَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ حَتّى قَدِمَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَارَ عَلَى رِجْلَيْهِ أَرْبَعًا، فَلَمّا كَانَ بِصُدُورِ قَنَاةٍ [ (4) ] لَقِيَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي كِلَابٍ، قَدْ كَانَا قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَسَاهُمَا، وَلَهُمَا مِنْهُ أَمَانٌ. وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ عَمْرٌو، فَقَايَلَهُمَا فَلَمّا نَامَا وَثَبَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا لِلّذِي أَصَابَتْ بَنُو عَامِرٍ مِنْ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ. ثُمّ قَدِمَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلّم
تسمية من استشهد من قريش
فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَقَالَ: أَنْتَ مِنْ بَيْنِهِمْ! وَيُقَالُ إنّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ رَجَعَ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَعَثْتُك قَطّ إلّا رَجَعْت إلَيّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِك. وَيُقَالُ إنّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي السّرِيّةِ إلّا أَنْصَارِيّ، وَهَذَا الثّبْتُ عِنْدَنَا. وَأَخْبَرَ عَمْرُو النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقْتَلِ الْعَامِرِيّيْنِ فَقَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعْت، قَتَلْت رَجُلَيْنِ كَانَ لَهُمَا مِنّي أَمَانٌ وَجِوَارٌ، لِأَدِيَنّهُمَا! فكتب إليه عامر بن الطّفيل وبعت ونفرا مِنْ أَصْحَابِهِ يُخْبِرُهُ: إنّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَهُمَا مِنْك أَمَانٌ وَجِوَارٌ. فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُمَا، دِيَةَ حُرّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيْهِمْ. حَدّثَنِي مُصْعَبٌ، عَنْ أَبِي أَسْوَدَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: حَرَصَ الْمُشْرِكُونَ بِعُرْوَةَ بْنِ الصّلْتِ أَنْ يُؤَمّنُوهُ فَأَبَى- وَكَانَ ذَا خِلّةٍ بِعَامِرٍ- مَعَ أَنّ قَوْمَهُ بَنِي سُلَيْمٍ [ (1) ] حَرَصُوا عَلَى ذَلِكَ، فَأَبَى وَقَالَ: لَا أَقَبْلُ لَكُمْ أَمَانًا وَلَا أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنْ مَصْرَعِ أَصْحَابِي. وَقَالُوا حَيْنَ أُحِيطَ بِهِمْ: اللهُمّ، إنّا لَا نَجِدُ مَنْ يُبَلّغُ رَسُولَك السّلَامَ غَيْرَك، فَاقْرَأْ عَلَيْهِ السّلَامَ- فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِذَلِكَ. تَسْمِيَةُ من استشهد من قريش مِنْ بَنِي تَيْمٍ: عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: نَافِعٌ مِنْ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ: الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، أَمِيرُ الْقَوْمِ، وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ مُعَاذُ بْنُ مَاعِصٍ، وَمِنْ بَنِي النّجّارِ: حَرَامٌ وَسُلَيْمٌ [ (2) ] ابْنَا مِلْحَانَ، ومن بنى عمرو بن مبذول: الحارث
ابن الصّمّةِ، وَسَهْلُ بْنُ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَالطّفَيْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بن مالك: أنس بن معاذ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبُو شَيْخٍ أُبَيّ بْنُ ثَابِتِ ابن الْمُنْذِرِ، وَمِنْ بَنِي دِينَارِ بْنِ النّجّارِ: عَطِيّةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَارْتُثّ مِنْ الْقَتْلَى كَعْبُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قَيْسٍ- قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عُرْوَةُ بْنُ الصّلْتِ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَمِنْ النّبِيتِ: مَالِكُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ ثَابِتٍ. فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِمّنْ يُحْفَظُ اسْمُهُ سِتّةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَرْثِي نَافِعَ بْنَ بُدَيْلٍ، سَمِعْت أَصْحَابَنَا يَنْشُدُونَهَا: رَحِمَ اللهُ نَافِعَ بْنَ بُدَيْلٍ ... رَحْمَةَ الْمُبْتَغِي ثَوَابَ الْجِهَادِ صَارِمٌ صَادِقُ اللّقَاءِ إذَا مَا ... أَكْثَرَ النّاسُ قَالَ قَوْلَ السّدَادِ وَقَالَ أَنَسُ بْنُ عَبّاسٍ السّلَمِيّ، وَكَانَ خَالَ طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيّ، وَكَانَ طُعَيْمَةُ يُكْنَى أَبَا الرّيّانِ، خَرَجَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ يُحَرّضُ قَوْمَهُ يَطْلُبُ بِدَمِ ابْنِ أَخِيهِ، حَتّى قَتَلَ نَافِعَ بْنَ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، فَقَالَ: تَرَكْت ابْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ ثَاوِيًا ... بِمُعْتَرَكٍ تَسْفِي عَلَيْهِ الْأَعَاصِرُ ذَكَرْت أَبَا الرّيّانِ لَمّا عَرَفْته ... وَأَيْقَنْت أَنّي يَوْمَ ذَلِكَ ثَائِرُ [ (1) ] سَمِعْت أَصْحَابَنَا يَثْبُتُونَهَا. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو: صَلّى الْإِلَهُ على ابن عمرو إنّه ... صَدْقُ اللّقَاءِ وَصَدْقُ ذَلِكَ أَوْفَقُ قَالُوا لَهُ أَمْرَيْنِ فَاخْتَرْ فِيهِمَا ... فَاخْتَارَ فِي الرّأْيِ الّذِي هُوَ أَرْفَقُ أَنْشَدَنِي ابْنُ جَعْفَرٍ قَصِيدَةَ حَسّانٍ «سحّا غير نزر» . [ (2) ]
غزوة الرجيع فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا
غَزْوَةُ الرّجِيعِ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَ الرّجِيعِ عُيُونًا إلَى مَكّةَ لِيُخْبِرُوهُ خَبَرَ قُرَيْشٍ، فَسَلَكُوا عَلَى النّجْدِيّةِ حَتّى كَانُوا بِالرّجِيعِ فَاعْتَرَضَتْ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صالح، ومحمّد بن يحيى بن سهل ابن أَبِي حَثْمَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، فِي رِجَالٍ مِمّنْ لَمْ أُسَمّ [ (1) ] ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِبَعْضِ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جَمَعْت الّذِي حَدّثُونِي، قَالُوا: لَمّا قُتِلَ سُفْيَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيّ مَشَتْ بَنُو لِحْيَانَ إلَى عَضَلٍ وَالْقَارّةِ، فَجَعَلُوا لَهُمْ فَرَائِضَ عَلَى أَنْ يَقْدَمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُكَلّمُوهُ، فَيُخْرِجَ إلَيْهِمْ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَدْعُونَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ. فَنَقْتُلَ مَنْ قَتَلَ صَاحِبَنَا وَنَخْرُجَ بِسَائِرِهِمْ إلَى قُرَيْشٍ بِمَكّةَ فَنُصِيبَ بِهِمْ ثَمَنًا، فَإِنّهُمْ لَيْسُوا لِشَيْءٍ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يُؤْتَوْا بِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ، يُمَثّلُونَ بِهِ وَيَقْتُلُونَهُ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ. فَقَدِمَ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارّةِ- وَهُمَا حَيّانِ إلَى خُزَيْمَةَ [ (2) ]- مُقِرّيْنِ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالُوا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ فِينَا إسْلَامًا فَاشِيًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِك يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ وَيُفَقّهُونَنَا فِي الإسلام.
فَبَعَثَ مَعَهُمْ سَبْعَةَ نَفَرٍ: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ، وَخَالِدُ بْنُ أَبِي الْبُكَيْرِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ طَارِقٍ البَلَوِيّ حَلِيفٌ فِي بَنِي ظَفَرٍ، وَأَخَاهُ لِأُمّهِ مُعَتّبُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَلِيفٌ فِي بَنِي ظَفَرٍ، وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ بْنِ بلحارث بن الخزرج، وزيد ابن الدّثِنّة مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. وَيُقَالُ كَانُوا عَشْرَةً وَأَمِيرُهُمْ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَيُقَالُ أَمِيرُهُمْ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. فَخَرَجُوا حَتّى إذَا كَانُوا بِمَاءٍ لهُذَيْل- يُقَالُ لَهُ الرّجِيعُ قَرِيبٌ مِنْ الْهَدّةِ [ (1) ]- خَرَجَ النّفَرُ فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ أَصْحَابَهُمْ الّذِينَ بَعَثَهُمْ اللّحْيَانِيّونَ، فَلَمْ يُرَعْ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا بِالْقَوْمِ، مِائَةُ رَامٍ وَفِي أَيْدِيهمْ السّيُوفُ. فَاخْتَرَطَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْيَافَهُمْ ثُمّ قَامُوا، فَقَالَ الْعَدُوّ: مَا نُرِيدُ قِتَالَكُمْ، وَمَا نُرِيدُ إلّا أَنْ نُصِيبَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ ثَمَنًا، وَلَكُمْ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ لَا نقتلكم، فأما خبيب بن عدىّ، وزيد ابن الدّثِنّة، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ طَارِقٍ، فَاسْتَأْسَرُوا. وَقَالَ خُبَيْبٌ: إنّ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدًا. وَأَمّا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمَرْثَدٌ، وَخَالِدُ بْنُ أَبِي البكير، ومعتب ابن عُبَيْدٍ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا جِوَارَهُمْ وَلَا أَمَانَهُمْ. وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ: إنّي نَذَرْت أَلّا أَقْبَلَ جِوَارَ مُشْرِكٍ أَبَدًا. فَجَعَلَ عَاصِمٌ يُقَاتِلُهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: مَا عِلّتِي وَأَنَا جَلْدٌ نَابِلُ ... النّبْلُ وَالْقَوْسُ لَهَا بَلَابِلُ [ (2) ] تَزِلّ عَنْ صَفْحَتِهَا الْمَعَابِلُ ... الْمَوْتُ حَقّ وَالْحَيَاةُ بَاطِلُ وَكُلّ مَا حَمّ الْإِلَهُ نَازِلُ ... بِالْمَرْءِ وَالْمَرْءُ إلَيْهِ آئِلُ إن لم أقاتلكم فأمّى هابل [ (3) ]
قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَا رَأَيْت مِنْ أَصْحَابِنَا أَحَدًا يَدْفَعُهُ. قَالَ: فَرَمَاهُمْ بِالنّبْلِ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ، ثُمّ طَاعَنَهُمْ بِالرّمْحِ حَتّى كُسِرَ رُمْحُهُ، وَبَقِيَ السّيْفُ فَقَالَ: اللهُمّ حَمَيْت دِينَك أَوّلَ نَهَارِي فَاحْمِ لِي لَحْمِي آخِرَهُ! وَكَانُوا يُجَرّدُونَ كُلّ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ: فَكُسِرَ غِمْدُ سَيْفِهِ ثُمّ قَاتَلَ حَتّى قُتِلَ، وَقَدْ جَرَحَ رَجُلَيْنِ وَقَتَلَ وَاحِدًا. فَقَالَ عَاصِمٌ وَهُوَ يُقَاتِل: أَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ وَمِثْلِي رَامَى ... وَرِثْت مَجْدًا مَعْشَرًا كِرَامًا أَصَبْت مَرْثَدًا وَخَالِدًا قِيَامًا [ (1) ] ثُمّ شَرَعُوا فِيهِ الْأَسِنّةَ حَتّى قَتَلُوهُ. وَكَانَتْ سُلَافَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ الشّهِيدِ. قَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَبَنُوهَا أَرْبَعَةٌ، قَدْ كَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ، الْحَارِثُ، وَمُسَافِعًا، فَنَذَرَتْ لَئِنْ أَمْكَنَهَا اللهُ مِنْهُ أَنْ تَشْرَبَ فِي قِحْفِ [ (2) ] رَأْسِهِ الْخَمْرَ، وَجَعَلَتْ لِمَنْ جَاءَ بِرَأْسِ عَاصِمٍ مِائَةَ نَاقَةٍ، قَدْ عَلِمَتْ ذَلِكَ الْعَرَبُ وَعَلِمَتْهُ بَنُو لِحْيَانَ فَأَرَادُوا أَنْ يَحْتَزّوا رَأْسَ عَاصِمٍ لِيَذْهَبُوا بِهِ إلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ لِيَأْخُذُوا مِنْهَا مِائَةَ نَاقَةٍ. فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الدّبْرَ فَحَمَتْهُ فَلَمْ يَدْنُ إلَيْهِ أَحَدٌ إلّا لَدَغَتْ وَجْهَهُ، وَجَاءَ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ بِهِ. فَقَالُوا: دَعُوهُ إلَى اللّيْلِ، فَإِنّهُ إذَا جَاءَ اللّيْلُ ذَهَبَ عَنْهُ الدّبْرُ. فَلَمّا جَاءَ اللّيْلُ بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِ سَيْلًا- وَكُنّا مَا نَرَى فِي السّمَاءِ سَحَابًا فِي وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ- فَاحْتَمَلَهُ فَذَهَبَ بِهِ فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِ. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وَهُوَ يَذْكُرُ عَاصِمًا- وَكَانَ عَاصِمٌ نَذَرَ أَلّا يَمَسّ مُشْرِكًا وَلَا يَمَسّهُ مُشْرِكٌ تَنَجّسًا بِهِ. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ لَيَحْفَظُ. الْمُؤْمِنِينَ، فَمَنَعَهُ اللهُ عَزّ وجلّ أن
يَمَسّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا امْتَنَعَ فِي حَيَاتِهِ. وَقَاتَلَ مُعَتّبُ بْنُ عُبَيْدٍ حَتّى جُرِحَ فِيهِمْ، ثُمّ خَلَصُوا إلَيْهِ فَقَتَلُوهُ. وَخَرَجُوا بِخُبَيْبٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ طَارِقٍ، وَزَيْدِ بْنِ الدّثِنّة حَتّى إذَا كَانُوا بِمَرّ الظّهْرَانِ، وَهُمْ مُوثَقُونَ بِأَوْتَارِ قِسِيّهِمْ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ طَارِقٍ: هَذَا أَوّلُ الْغَدْرِ! وَاَللهِ لَا أُصَاحِبُكُمْ، إنّ لِي فِي هَؤُلَاءِ لَأُسْوَةٌ- يَعْنِي الْقَتْلَى. فَعَالَجُوهُ فَأَبَى، وَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ رِبَاطِهِ ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ، فَانْحَازُوا عَنْهُ فَجَعَلَ يَشُدّ فِيهِمْ وَيَنْفَرِجُونَ عَنْهُ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى قَتَلُوهُ- فَقَبْرُهُ بِمَرّ الظّهْرَانِ. وَخَرَجُوا بِخُبَيْبِ بْنِ عُدّيّ، وَزَيْدِ بْنِ الدّثِنّة حَتّى قَدِمُوا بِهِمَا مَكّةَ، فَأَمّا خُبَيْبٌ فَابْتَاعَهُ حُجَيْرُ بْنُ أَبِي إهَابٍ بِثَمَانِينَ مِثْقَالِ ذَهَبٍ. وَيُقَالُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ فَرِيضَةً [ (1) ] ، وَيُقَالُ اشْتَرَتْهُ ابْنَةُ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ. وَكَانَ حُجَيْرُ إنّمَا اشْتَرَاهُ لِابْنِ أَخِيهِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَمّا زَيْدُ بْنُ الدّثِنّة، فَاشْتَرَاهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بِخَمْسِينَ فَرِيضَةً فَقَتَلَهُ بِأَبِيهِ، وَيُقَالُ إنّهُ شَرِكَ فِيهِ أُنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَدَخَلَ بِهِمَا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَحُبِسَ حُجَيْرُ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيّ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا مَاوِيّةُ، مَوْلَاةٌ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَحَبَسَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ زَيْدَ بْنَ الدّثِنّة عِنْدَ نَاسٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، وَيُقَالُ عِنْدَ نِسْطَاسٍ غُلَامِهِ. وَكَانَتْ مَاوِيّةُ قَدْ أَسْلَمَتْ بَعْدُ فَحَسُنَ إسْلَامُهَا، وَكَانَتْ تَقُولُ: وَاَللهِ مَا رَأَيْت أَحَدًا خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ. وَاَللهِ لَقَدْ اطّلَعْت عَلَيْهِ مِنْ صِيرِ [ (2) ] الْبَابِ وَإِنّهُ لَفِي الْحَدِيدِ، مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ حَبّةَ عِنَبٍ تُؤْكَلُ، وَإِنّ فِي يَدِهِ لَقِطْفَ عِنَبٍ مِثْلَ رَأْسِ الرّجُلِ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَمَا هُوَ إلّا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ. وَكَانَ خُبَيْبٌ يتهجّد بالقرآن،
وَكَانَ يَسْمَعُهُ النّسَاءُ فَيَبْكِينَ وَيُرَقّقْنَ عَلَيْهِ. قَالَتْ، فَقُلْت لَهُ: يَا خُبَيْبُ، هَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ: لَا، إلّا أَنْ تَسْقِيَنِي الْعَذْبَ، وَلَا تُطْعِمِينِي مَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ، وَتُخْبِرِينِي إذَا أَرَادُوا قَتْلِي. قَالَتْ: فَلَمّا انْسَلَخَتْ الْأَشْهُرُ الحرم وأجمعوا على قتله أتيته فأخبرته، فو الله مَا رَأَيْته اكْتَرَثَ لِذَلِكَ، وَقَالَ: ابْعَثِي لِي بِحَدِيدَةٍ أَسْتَصْلِحْ بِهَا. قَالَتْ: فَبَعَثْت إلَيْهِ مُوسَى مَعَ ابْنَيْ أَبِي حُسَيْنٍ، فَلَمّا وَلّى الْغُلَامُ قُلْت: أَدْرَكَ وَاَللهِ الرّجُلُ ثَأْرَهُ، أَيّ شَيْءٍ صَنَعْت؟ بَعَثْت هَذَا الْغُلَامَ بِهَذِهِ الْحَدِيدَةِ، فَيَقْتُلُهُ وَيَقُولُ «رَجُلٌ بِرَجُلٍ» . فَلَمّا أَتَاهُ ابْنِي بِالْحَدِيدَةِ تَنَاوَلَهَا مِنْهُ ثُمّ قَالَ مُمَازِحًا لَهُ: وَأَبِيك إنّك لَجَرِيءٌ! أَمَا خَشِيَتْ أُمّك غَدِرِي حَيْنَ بَعَثْت مَعَك بِحَدِيدَةٍ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ قَتْلِي؟ قَالَتْ مَاوِيّةُ: وَأَنَا أَسْمَعُ ذَلِكَ فَقُلْت: يَا خُبَيْبُ، إنّمَا أَمّنْتُك بِأَمَانِ اللهِ وَأَعْطَيْتُك بِإِلَهِك، وَلَمْ أُعْطِك لِتَقْتُلَ ابْنِي. فَقَالَ خُبَيْبٌ: مَا كُنْت لِأَقْتُلَهُ، وَمَا نَسْتَحِلّ فِي دِينِنَا الْغَدْرَ. ثُمّ أَخْبَرَتْهُ أَنّهُمْ مُخْرِجُوهُ فَقَاتَلُوهُ بِالْغَدَاةِ. قَالَ: فَأَخْرَجُوهُ بِالْحَدِيدِ حَتّى انْتَهَوْا بِهِ إلَى التّنْعِيمِ [ (1) ] ، وَخَرَجَ مَعَهُ النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ، فَلَمْ يَتَخَلّفْ أَحَدٌ، إمّا مَوْتُورٌ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَشَافَى بِالنّظَرِ مِنْ وِتْرِهِ، وَإِمّا غَيْرُ مَوْتُورٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. فَلَمّا انْتَهَوْا بِهِ إلَى التّنْعِيمِ، وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ الدّثِنّة، فَأَمَرُوا بِخَشَبَةٍ طَوِيلَةٍ فَحَفَرَ لَهَا، فَلَمّا انْتَهَوْا بِخُبَيْبٍ إلَى خَشَبَتِهِ قَالَ: هَلْ أَنْتُمْ تَارِكِيّ فَأُصَلّيَ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ أَتَمّهُمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَوّلَ فِيهِمَا. فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَوّلُ مَنْ سَنّ الرّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القتل خبيب.
قَالُوا: ثُمّ قَالَ: أَمَا وَاَللهِ لَوْلَا أَنْ تَرَوْا أَنّي جَزِعْت مِنْ الْمَوْتِ لَاسْتَكْثَرْت مِنْ الصّلَاةِ. ثُمّ قَالَ: اللهُمّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا [ (1) ] ، وَلَا تُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: لَقَدْ حَضَرْت دَعْوَتَهُ وَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَإِنّ أَبَا سُفْيَانَ لَيُضْجِعَنِي إلَى الْأَرْضِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ، وَلَقَدْ جَبَذَنِي يَوْمَئِذٍ أَبُو سُفْيَانَ جَبْذَةً، فَسَقَطْت عَلَى عَجْبِ ذَنَبِي فَلَمْ أَزَلْ أَشْتَكِي السّقْطَةَ زَمَانًا. وَقَالَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى: لَقَدْ رَأَيْتنِي أَدْخَلْت إصْبَعِي فِي أُذُنِي وَعَدَوْت هَرَبًا فَرَقًا أَنْ أَسْمَعَ دُعَاءَهُ. وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: لَقَدْ رَأَيْتنِي أَتَوَارَى بِالشّجَرِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْت جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمَئِذٍ أَتَسَتّرُ بِالرّجَالِ فَرَقًا مِنْ أَنْ أُشْرِفَ لِدَعْوَتِهِ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ بَرْصَاءَ: وَاَللهِ مَا ظَنَنْت أَنْ تُغَادِرَ دَعْوَةُ خُبَيْبٍ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَعِيدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ [ (2) ] الْجُمَحِيّ عَلَى حِمْصَ، وَكَانَتْ تُصِيبُهُ، غَشْيَةٌ وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فَسَأَلَهُ فِي قَدْمَةٍ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ حَمْصَ فَقَالَ: يا سعيد،
ما الّذِي يُصِيبُك؟ أَبِك جُنّةٌ؟ قَالَ: لَا وَاَللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنّي كُنْت فِيمَنْ حضر خبيبا حين قتل وسمعت دعوته، فو الله مَا خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِي وَأَنَا فِي مَجْلِسٍ إلّا غُشِيَ عَلَيّ. قَالَ: فَزَادَتْهُ عِنْدَ عُمَرَ خَيْرًا. وَحَدّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُمّانَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، قَالَ: حَضَرْت يَوْمَئِذٍ دَعْوَةَ خُبَيْبٍ، فَمَا كُنْت أَرَى أَنّ أَحَدًا مِمّنْ حَضَرَ يَنْفَلِت مِنْ دَعْوَتِهِ، وَلَقَدْ كُنْت قَائِمًا فَأَخْلَدْت إلَى الْأَرْضِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَتِهِ، وَلَقَدْ مَكَثَتْ قُرَيْشٌ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ وَمَا لَهَا حَدِيثٌ فِي أَنْدِيَتِهَا إلّا دَعْوَةَ خُبَيْبٍ. قَالُوا: فَلَمّا صَلّى الرّكْعَتَيْنِ حَمَلُوهُ إلَى الْخَشَبَةِ، ثُمّ وَجّهُوهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَوْثَقُوهُ رِبَاطًا، ثُمّ قَالُوا: ارْجِعْ عَنْ الْإِسْلَامِ، نُخْلِ سَبِيلَك! قَالَ: لَا وَاَللهِ مَا أُحِبّ أَنّي رَجَعْت عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَنّ لِي مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا! قَالُوا: فَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا فِي مَكَانِك وَأَنْتَ جَالِسٌ فِي بَيْتِك؟ قَالَ: وَاَللهِ مَا أُحِبّ أَنْ يُشَاكَ مُحَمّدٌ بِشَوْكَةٍ وَأَنَا جَالِسٌ فِي بَيْتِي. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: ارْجِعْ يَا خُبَيْبُ! قال: لا أرجع أبدا! قالوا: أما واللّات وَالْعُزّى، لَئِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنَقْتُلَنّكَ! فَقَالَ: إنّ قَتْلِي فِي اللهِ لَقَلِيلٌ! فَلَمّا أَبَى عَلَيْهِمْ، وَقَدْ جَعَلُوا وَجْهَهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، قَالَ: أَمّا صَرْفُكُمْ وَجْهِي عَنْ الْقِبْلَةِ، فَإِنّ اللهَ يَقُولُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ... [ (1) ] . ثُمّ قَالَ: اللهُمّ إنّي لَا أَرَى إلّا وَجْهَ عَدُوّ، اللهُمّ إنّهُ لَيْسَ هَاهُنَا أَحَدٌ يُبَلّغُ رَسُولَك السّلَامَ عَنّي، فَبَلّغْهُ أَنْتَ عَنّي السّلَامَ! فَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَتْهُ غَمْيَةٌ [ (2) ] كَمَا كَانَ يأخذه إذا أنزل عليه
الْوَحْيُ. قَالَ: ثُمّ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ «وَعَلَيْهِ السّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ» ، ثُمّ قَالَ «هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُنِي مِنْ خُبَيْبٍ السّلَامَ» . قَالَ: ثُمّ دَعَوْا أَبْنَاءً مِنْ أَبْنَاءِ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ فَوَجَدُوهُمْ أَرْبَعِينَ غُلَامًا، فَأَعْطَوْا كُلّ غُلَامٍ رُمْحًا، ثُمّ قَالُوا: هَذَا الّذِي قَتَلَ آبَاءَكُمْ. فَطَعَنُوهُ بِرِمَاحِهِمْ طَعْنًا خَفِيفًا، فَاضْطَرَبَ عَلَى الْخَشَبَةِ فَانْقَلَبَ، فَصَارَ وَجْهُهُ إلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ وَجْهِي نَحْوَ قِبْلَتِهِ الّتِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَلِنَبِيّهِ وَلِلْمُؤْمِنَيْنِ! وَكَانَ الّذِينَ أَجَلَبُوا عَلَى قَتْلِ خُبَيْبٍ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّ. وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ مِمّنْ حَضَرَ، وَكَانَ يَقُولُ: وَاَللهِ مَا أَنَا قَتَلْت خُبَيْبًا إنْ كُنْت يَوْمَئِذٍ لَغُلَامًا صَغِيرًا. وَلَكِنّ رجلا من بنى عبد الدار يُقَالُ لَهُ أَبُو مَيْسَرَةَ مِنْ عَوْفِ بْنِ السّبّاقِ أَخَذَ بِيَدِي فَوَضَعَهَا عَلَى الْحَرْبَةِ، ثُمّ أَمْسَكَ بِيَدِي ثُمّ جَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ حَتّى قَتَلَهُ، فَلَمّا طَعَنَهُ بِالْحَرْبَةِ أَفْلَتْ، فَصَاحُوا: يَا أَبَا سِرْوَعَةَ، بِئْسَ مَا طَعَنَهُ أَبُو مَيْسَرَةَ! فَطَعَنَهُ أَبُو سِرْوَعَةَ حَتّى أَخَرَجَهَا مِنْ ظَهْرِهِ، فَمَكَثَ سَاعَةً يُوَحّدُ اللهَ وَيَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ. يَقُولُ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ: لَوْ تَرَكَ ذِكْرَ مُحَمّدٍ عَلَى حَالٍ لَتَرَكَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، مَا رَأَيْنَا قَطّ وَالِدًا يَجِدُ بِوَلَدِهِ مَا يَجِدُ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ بِمُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ الدّثِنّة عِنْدَ آلِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ مَحْبُوسًا فِي حَدِيدٍ، وَكَانَ يَتَهَجّدُ بِاللّيْلِ وَيَصُومُ النّهَارَ، وَلَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِمّا أُتِيَ بِهِ مِنْ الذّبَائِحِ. فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى صَفْوَانَ، وَكَانُوا قَدْ أَحْسَنُوا إسَارَهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ صَفْوَانُ: فَمَا الّذِي تَأْكُلُ مِنْ الطّعَامِ؟ قَالَ: لَسْت آكُلُ مِمّا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَكِنّي أَشْرَبُ اللّبَنَ. وَكَانَ يَصُومُ، فَأَمَرَ لَهُ صَفْوَانُ بِعُسّ مِنْ لَبَنٍ
عند فطره فيشرب منه حتى يكون بمثلها مِنْ الْقَابِلَةِ. فَلَمّا خَرَجَ بِهِ وَبِخُبَيْبٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ الْتَقَيَا، وَمَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ [ (1) ] مِنْ النّاسِ، فَالْتَزَمَ كُلّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَأَوْصَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالصّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُ، ثُمّ افْتَرَقَا. وَكَانَ الّذِي وَلِيَ قَتْلَ زَيْدٍ نِسْطَاسٌ غُلَامُ صَفْوَانَ، خَرَجَ بِهِ إلَى التّنْعِيمِ فَرَفَعُوا لَهُ جَذَعًا [ (2) ] ، فَقَالَ: أُصَلّي رَكْعَتَيْنِ! فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ حَمَلُوهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، ثُمّ جَعَلُوا يَقُولُونَ لِزَيْدٍ: ارْجِعْ عَنْ دِينِك الْمُحْدَثِ وَاتّبِعْ دِينَنَا، وَنُرْسِلَك! قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَا أُفَارِقُ دِينِي أَبَدًا! قَالُوا: أَيَسُرّك أَنّ مُحَمّدًا فِي أَيْدِينَا مَكَانَك وَأَنْتَ فِي بَيْتِك؟ قَالَ: مَا يَسُرّنِي أَنّ مُحَمّدًا أُشِيكَ بِشَوْكَةٍ وَأَنّي فِي بَيْتِي! قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا، مَا رَأَيْنَا أَصْحَابَ رَجُلٍ قَطّ أَشَدّ لَهُ حُبّا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ بِمُحَمّدٍ. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ، صَحِيحَةٌ سَمِعْتهَا مِنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ: فَلَيْتَ خُبَيْبًا لَمْ تَخُنْهُ أَمَانَةٌ ... وَلَيْتَ خُبَيْبًا كَانَ بِالْقَوْمِ عَالِمًا شَرَاهُ [ (3) ] زُهَيْرُ بْنُ الْأَغَرّ وَجَامِعٌ [ (4) ] ... وَكَانَا قديما يركبان المحار ما أَجَرْتُمْ فَلَمّا أَنْ أَجَرْتُمْ غَدَرْتُمْ ... وَكُنْتُمْ بِأَكْنَافِ الرّجِيعِ اللهَازِمَا [ (5) ] وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ، ثَبْتٌ قديمة [ (6) ] :
غزوة بنى النضير
لَوْ كَانَ فِي الدّارِ قَرْمٌ [ (1) ] ذُو مُحَافَظَةٍ ... حَامِي الْحَقِيقَةِ مَاضٍ خَالُهُ أَنَسُ [ (2) ] إذَنْ حَلَلْت خُبَيْبًا مَنْزِلًا فُسُحًا [ (3) ] ... وَلَمْ يُشَدّ عَلَيْك الْكَبْلُ [ (4) ] وَالْحَرَسُ وَلَمْ تَقُدْك إلَى التّنْعِيمِ زِعْنِفَةٌ [ (5) ] ... مِنْ الْمَعَاشِرِ مِمّنْ قَدْ نَفَتْ عُدَس [ (6) ] فَاصْبِرْ خُبَيْبُ فَإِنّ الْقَتْلَ مَكْرَمَةٌ ... إلَى جِنَانِ نَعِيمٍ تَرْجِعُ النّفْسُ دَلّوك [ (7) ] غَدْرًا وَهُمْ فِيهَا أُولُو خُلُفٍ ... وَأَنْتَ ضَيْفٌ لَهُمْ فِي الدّارِ مُحْتَبَسُ غَزْوَةُ بَنِي النّضِيرِ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ سَهْلٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، فِي رِجَالٍ مِمّنْ لَمْ أُسَمّهِمْ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِبَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ الّذِي حَدّثُونِي، قالوا: أقبل عمرو ابن أُمَيّةَ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ حَتّى كَانَ بِقَنَاةٍ، فَلَقِيَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَنَسَبَهُمَا فَانْتَسَبَا، فَقَابَلَهُمَا [ (8) ] حَتّى إذَا نَامَا وَثَبَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا. ثم خرج حتى
وَرَدَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَاعَتِهِ فِي قَدْرِ حَلْبِ شَاةٍ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ مَا صَنَعْت، قَدْ كَانَ لَهُمَا مِنّا أَمَانٌ وَعَهْدٌ! فَقَالَ: مَا شَعَرْت، كُنْت أَرَاهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا، وَكَانَ قَوْمُهُمَا قَدْ نَالُوا مِنّا مَا نَالُوا مِنْ الْغَدْرِ بِنَا. وَجَاءَ بِسَلَبِهِمَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُزِلَ سَلَبُهُمَا حَتّى بُعِثَ بِهِ مع ديتهما. وذلك أنّ عامر ابن الطّفَيْلِ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِي، وَلَهُمَا مِنْك أَمَانٌ وَعَهْدٌ، فَابْعَثْ بِدِيَتِهِمَا إلَيْنَا. فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي النّضِيرِ يَسْتَعِينُ فِي دِيَتِهِمَا، وَكَانَتْ بَنُو النّضِيرِ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَامِرٍ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ السّبْتِ فَصَلّى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، ثُمّ جَاءَ بَنِي النّضِيرِ فَيَجِدُهُمْ فِي نَادِيهِمْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَكَلّمَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعِينُوهُ فِي دِيَةِ الْكِلَابِيّيْنِ اللّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ. فَقَالُوا: نَفْعَلُ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا أَحْبَبْت. قَدْ أَنَى لَك أَنْ تَزُورَنَا وَأَنْ تَأْتِيَنَا، اجْلِسْ حَتّى نُطْعِمَك! وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَنِدٌ إلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ، ثُمّ خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَتَنَاجَوْا، فَقَالَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، قَدْ جَاءَكُمْ مُحَمّدٌ فِي نَفِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَبْلُغُونَ عَشْرَةً- وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيّ، وَالزّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ- فَاطْرَحُوا عَلَيْهِ حِجَارَةً مِنْ فَوْقِ هَذَا الْبَيْتِ الّذِي هُوَ تَحْتَهُ فَاقْتُلُوهُ، فَلَنْ تَجِدُوهُ أَخْلَى مِنْهُ السّاعَةَ! فَإِنّهُ إنْ قُتِلَ تَفَرّقَ أَصْحَابُهُ، فَلَحِقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ بِحَرَمِهِمْ، وَبَقِيَ مَنْ هَاهُنَا مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حُلَفَاؤُكُمْ، فَمَا كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصْنَعُوا يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ فَمِنْ الْآنَ! فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جَحّاشٍ: أَنَا أَظْهَرُ عَلَى الْبَيْتِ
فَأَطْرَحُ عَلَيْهِ صَخْرَةً. قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: يَا قَوْمِ، أَطِيعُونِي هَذِهِ الْمَرّةَ وَخَالِفُونِي الدّهْرَ! وَاَللهِ إنْ فَعَلْتُمْ لَيُخْبَرَنّ بِأَنّا قَدْ غَدَرْنَا بِهِ، وَإِنّ هَذَا نَقْضُ الْعَهْدِ الّذِي بَيْنَنَا وبينه، فلا تفعلوا! ألا فو الله لَوْ فَعَلْتُمْ الّذِي تُرِيدُونَ لَيَقُومَنّ بِهَذَا الدّينِ مِنْهُمْ قَائِمٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَسْتَأْصِلُ الْيَهُودَ وَيُظْهِرُ دِينَهُ! وَقَدْ هَيّأَ [ (1) ] الصّخْرَةَ لِيُرْسِلَهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْدُرَهَا، فَلَمّا أَشْرَفَ بِهَا جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا هَمّوا بِهِ، فَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا كَأَنّهُ يُرِيدُ حَاجَةً، وَتَوَجّهَ إلَى الْمَدِينَةِ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ يَتَحَدّثُونَ وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّهُ قَامَ يَقْضِي حَاجَةً، فَلَمّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا مُقَامُنَا هَا هُنَا بِشَيْءٍ، لَقَدْ وَجّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمْرٍ. فَقَامُوا، فَقَالَ حُيَيّ: عَجّلَ أَبُو الْقَاسِمِ! قَدْ كُنّا نُرِيدُ أَنْ نَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَنُغَدّيَهُ. وَنَدِمَتْ الْيَهُودُ عَلَى مَا صَنَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ كِنَانَةُ بْنُ صُوَيْرَاءَ [ (2) ] : هَلْ تَدْرُونَ لِمَ قَامَ مُحَمّدٌ؟ قَالُوا: لَا وَاَللهِ، مَا نَدْرِي وَمَا تَدْرِي أَنْتَ! قَالَ: بَلَى وَالتّوْرَاةِ، إنّي لَأَدْرِي، قَدْ أُخْبِرَ مُحَمّدٌ مَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْغَدْرِ، فَلَا تَخْدَعُوا أَنَفْسَكُمْ، وَاَللهِ إنّهُ لَرَسُولُ اللهِ، وَمَا قَامَ إلّا أَنّهُ أُخْبِرَ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ. وَإِنّهُ لَآخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي هَارُونَ فَجَعَلَهُ اللهُ حَيْثُ شَاءَ. وَإِنّ كُتُبَنَا وَاَلّذِي دَرَسْنَا فِي التّوْرَاةِ التي لم غير وَلَمْ تُبَدّلْ أَنّ مَوْلِدَهُ بِمَكّةَ وَدَارَ هِجْرَتِهِ يَثْرِبُ، وَصِفَتُهُ بِعَيْنِهَا مَا تُخَالِفُ حَرْفًا مِمّا فِي كِتَابِنَا، وَمَا يَأْتِيكُمْ [بِهِ] أَوْلَى مِنْ مُحَارَبَتِهِ إيّاكُمْ، وَلَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْكُمْ ظَاعِنِينَ، يَتَضَاغَى [ (3) ] صبيانكم، قد تركتم دوركم خلوفا
وَأَمْوَالَكُمْ، وَإِنّمَا هِيَ شَرَفُكُمْ، فَأَطِيعُونِي فِي خُصْلَتَيْنِ، وَالثّالِثَةُ لَا خَيْرَ فِيهَا! قَالُوا: مَا هُمَا؟ قَالَ: تُسْلِمُونَ وَتَدْخُلُونَ مَعَ مُحَمّدٍ، فَتَأْمَنُونَ عَلَى أَمْوَالِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ، وَتَكُونُونَ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ، وَتَبْقَى بِأَيْدِيكُمْ أَمْوَالُكُمْ، وَلَا تُخْرَجُونَ [ (1) ] مِنْ دِيَارِكُمْ. قَالُوا: لَا نُفَارِقُ التّوْرَاةَ وَعَهْدَ مُوسَى! قَالَ: فَإِنّهُ مُرْسَلٌ إلَيْكُمْ: اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي، فَقُولُوا نَعَمْ- فَإِنّهُ لَا يَسْتَحِلّ لَكُمْ دَمًا وَلَا مَالًا- وَتَبْقَى أَمْوَالُكُمْ، إنْ شِئْتُمْ بِعْتُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ. قَالُوا: أَمّا هَذَا فَنَعَمْ. قَالَ: أَمَا وَاَللهِ إنّ الْأُخْرَى خَيْرُهُنّ لِي. قَالَ: أَمَا وَاَللهِ لَوْلَا [ (2) ] أَنّي أَفْضَحُكُمْ لَأَسْلَمْت. وَلَكِنْ وَاَللهِ لَا تُعَيّرُ شَعْثَاءُ بِإِسْلَامِي أَبَدًا حَتّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكُمْ- وَابْنَتُهُ شَعْثَاءُ الّتِي كَانَ حَسّانٌ يَنْسِبُ [ (3) ] بِهَا. فَقَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: قَدْ كُنْت لِمَا صَنَعْتُمْ كَارِهًا، وَهُوَ مُرْسِلٌ إلَيْنَا أَنْ اُخْرُجُوا مِنْ دَارِي، فَلَا تُعَقّبْ يَا حُيَيّ كَلَامَهُ، وَأَنْعِمْ لَهُ بِالْخُرُوجِ، فَاخْرُجْ مِنْ بِلَادِهِ! قَالَ: أَفْعَلُ، أَنَا أَخْرُجُ! فَلَمّا رَجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ تَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَقَوْا رَجُلًا خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ فَسَأَلُوهُ: هَلْ لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَقِيته بِالْجِسْرِ دَاخِلًا. فَلَمّا انْتَهَى أَصْحَابُهُ إلَيْهِ وَجَدُوهُ قَدْ أَرْسَلَ إلى محمّد ابن مَسْلَمَةَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُمْت وَلَمْ نَشْعُرْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَمّتْ الْيَهُودُ بِالْغَدْرِ بِي، فَأَخْبَرَنِي اللهُ بِذَلِكَ فَقُمْت. وَجَاءَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى يَهُودِ بَنِي النّضِيرِ فَقُلْ لَهُمْ، إنّ رَسُولَ اللهِ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ أَنْ اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِه. فَلَمّا جَاءَهُمْ قَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ بِرِسَالَةٍ، وَلَسْت أَذْكُرُهَا لَكُمْ حَتّى أُعَرّفَكُمْ شَيْئًا تَعْرِفُونَهُ.
قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِالتّوْرَاةِ الّتِي أَنَزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنّي جِئْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيْنَكُمْ التّوْرَاةُ، فَقُلْتُمْ لِي فِي مَجْلِسِكُمْ هَذَا: يَا ابْنَ مَسْلَمَةَ، إنْ شِئْت أَنْ نُغَدّيَك غَدّيْنَاك، وَإِنْ شِئْت أَنّ نُهَوّدَك هَوّدْنَاك. فَقُلْت لَكُمْ: غَدّونِي وَلَا تُهَوّدُونِي، فَإِنّي وَاَللهِ لَا أَتَهَوّدُ أَبَدًا! فَغَدّيْتُمُونِي فِي صَحْفَةٍ لَكُمْ، وَاَللهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهَا كَأَنّهَا جَزْعَةٌ [ (1) ] ، فَقُلْتُمْ لِي: مَا يَمْنَعُك مِنْ دِينِنَا إلّا أَنّهُ دِينُ يَهُودَ. كَأَنّك تُرِيدُ الْحَنِيفِيّةَ الّتِي سَمِعْت بِهَا، أَمَا إنّ أَبَا عَامِرٍ قَدْ سَخِطَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا، أَتَاكُمْ صَاحِبُهَا الضّحُوكُ الْقَتّالُ، فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، يَأْتِي مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، يَرْكَبُ الْبَعِيرَ وَيَلْبَسُ الشّمْلَةَ، وَيَجْتَزِئُ بِالْكِسْرَةِ، سَيْفُهُ عَلَى عَاتِقِهِ، لَيْسَتْ مَعَهُ آيَةٌ، هُوَ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ، كَأَنّهُ وَشِيجَتُكُمْ [ (2) ] هَذِهِ، وَاَللهِ لَيَكُونَنّ بِقَرْيَتِكُمْ هَذِهِ سَلَبٌ وَقَتْلٌ وَمَثْلٌ! قَالُوا: اللهُمّ نَعَمْ، قَدْ قُلْنَاهُ لَك وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ. قَالَ: قَدْ فَرَغْت، إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ يَقُولُ لَكُمْ: قَدْ نَقَضْتُمْ الْعَهْدَ الّذِي جَعَلْت لَكُمْ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْغَدْرِ بِي! وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا كَانُوا ارْتَأَوْا مِنْ الرّأْيِ وَظُهُورِ عَمْرِو بْنِ جَحّاشٍ عَلَى الْبَيْتِ يَطْرَحُ الصّخْرَةَ، فَأَسْكَتُوا فَلَمْ يَقُولُوا حَرْفًا. وَيَقُولُ: اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي، فَقَدْ أَجّلْتُكُمْ عَشْرًا فَمَنْ رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبْت عُنُقَهُ! قَالُوا: يَا مُحَمّدُ، مَا كُنّا نَرَى أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا رَجُلٌ عن الْأَوْسِ. قَالَ مُحَمّدٌ: تَغَيّرَتْ الْقُلُوبُ. فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ أَيّامًا يَتَجَهّزُونَ وَأَرْسَلُوا إلَى ظَهْرٍ لَهُمْ بذي المجدر [ (3) ] تجلب، وتكاروا من ناس من أشجع
[إبِلًا] [ (1) ] وَأَخَذُوا [ (2) ] فِي الْجَهَازِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذلك إذا جَاءَهُمْ رَسُولُ ابْنِ أُبَيّ، أَتَاهُمْ سُوَيْدٌ وَدَاعِسٌ فَقَالَا: يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ: لَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَأَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ، فَإِنّ مَعِي أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِي وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ فَيَمُوتُونَ مِنْ آخِرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَيْكُمْ، وَتَمُدّكُمْ قُرَيْظَةُ فَإِنّهُمْ لَنْ يَخْذُلُوكُمْ، وَيَمُدّكُمْ حُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ. وَأَرْسَلَ ابْنُ أُبَيّ إلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ يُكَلّمُهُ أَنْ يَمُدّ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: لَا يَنْقُضُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ رَجُلٌ وَاحِدٌ الْعَهْدَ. فَيَئِسَ ابْنُ أُبَيّ مِنْ قُرَيْظَةَ وَأَرَادَ أَنْ يُلْحِمَ الْأَمْرَ فِيمَا بَيْنَ بَنِي النّضِيرِ وَرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزَلْ يُرْسِلُ إلَى حُيَيّ حَتّى قَالَ حُيَيّ: أَنَا أُرْسِلُ إلَى مُحَمّدٍ أُعْلِمُهُ أَنّا لَا نَخْرُجُ مِنْ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَلْيَصْنَعْ مَا بَدَا لَهُ. وَطَمِعَ حُيَيّ فِيمَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ، وَقَالَ حُيَيّ: نَرْمِ [ (3) ] حُصُونَنَا، ثُمّ نُدْخِلُ مَاشِيَتَنَا [ (4) ] ، وَنُدْرِبُ [ (5) ] أَزِقّتَنَا، وَنَنْقُلُ الْحِجَارَةَ إلَى حُصُونِنَا، وَعِنْدَنَا مِنْ الطّعَامِ مَا يكفينا سنة، وماءنا وَاتِنٌ [ (6) ] فِي حُصُونِنَا لَا نَخَافُ قَطْعَهُ. فَتَرَى مُحَمّدًا يَحْصُرُنَا سَنَةً؟ لَا نَرَى هَذَا. قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: مَنّتْك نَفْسُك وَاَللهِ يَا حُيَيّ الْبَاطِلَ، إنّي وَاَللهِ لَوْلَا أَنْ يُسَفّهَ رَأْيُك أَوْ يُزْرَى بِك لَاعْتَزَلْتُك بِمَنْ أَطَاعَنِي من اليهود، فلا تفعل يا حيىّ، فو الله إنّك لَتَعْلَمُ وَنَعْلَمُ مَعَك أَنّهُ لَرَسُولُ اللهِ وَأَنّ صِفَتَهُ عِنْدَنَا، فَإِنْ لَمْ نَتّبِعْهُ وَحَسَدْنَاهُ حَيْثُ خَرَجَتْ النّبُوّةُ مِنْ بَنِي هَارُونَ! فَتَعَالَ فنقبل ما أعطانا من الأمن ونخرج
مِنْ بِلَادِهِ، فَقَدْ عَرَفْت أَنّك خَالَفَتْنِي فِي الْغَدْرِ بِهِ، فَإِذَا كَانَ أَوَانُ الثّمَرِ جِئْنَا أَوْ جَاءَ مَنْ جَاءَ مِنّا إلَى ثَمَرِهِ فَبَاعَ أَوْ صَنَعَ مَا بَدَا لَهُ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَيْنَا فَكَأَنّا لَمْ نَخْرُجْ مِنْ بِلَادِنَا إذَا كَانَتْ أَمْوَالُنَا بِأَيْدِينَا، إنّا إنّمَا شَرُفْنَا عَلَى قَوْمِنَا بِأَمْوَالِنَا وَفِعَالِنَا، فَإِذَا ذَهَبَتْ أَمْوَالُنَا مِنْ أَيْدِينَا كُنّا كَغَيْرِنَا مِنْ الْيَهُودِ فِي الذّلّةِ وَالْإِعْدَامِ. وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ سَارَ إلَيْنَا فَحَصَرَنَا فِي هَذِهِ الصّيَاصِي يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمّ عَرَضْنَا عَلَيْهِ مَا أَرْسَلَ بِهِ إلَيْنَا، لَمْ يَقْبَلْهُ وَأَبَى عَلَيْنَا. قَالَ حُيَيّ: إنّ مُحَمّدًا لَا يَحْصُرُنَا [إلّا] [ (1) ] إنْ أَصَابَ مِنّا نُهْزَةً، وَإِلّا انْصَرَفَ، وَقَدْ وَعَدَنِي ابْنُ أُبَيّ مَا قَدْ رَأَيْت. فَقَالَ سَلّامٌ: لَيْسَ قَوْلُ ابْنِ أُبَيّ بِشَيْءٍ، إنّمَا يُرِيدُ ابْنُ أُبَيّ أَنْ يُوَرّطَك فِي الْهَلَكَةِ حَتّى تُحَارِبَ مُحَمّدًا، ثُمّ يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ وَيَتْرُكُك. قَدْ أَرَادَ مِنْ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ النّصْرَ فَأَبَى كَعْبٌ وَقَالَ: لَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَنَا حَيّ. وَإِلّا فَإِنّ ابْنَ أُبَيّ قَدْ وَعَدَ حُلَفَاءَهُ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ مِثْلَ مَا وَعَدَك حَتّى حَارَبُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَحَصَرُوا أَنَفْسَهُمْ فِي صَيَاصِيِهِمْ وَانْتَظَرُوا نُصْرَةَ ابْنِ أُبَيّ، فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَسَارَ مُحَمّدٌ إلَيْهِمْ، فَحَصَرَهُمْ حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَابْنُ أُبَيّ لَا يَنْصُرُ حُلَفَاءَهُ وَمَنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ، وَنَحْنُ لَمْ نَزَلْ نَضْرِبُهُ بِسُيُوفِنَا مَعَ الْأَوْسِ فِي حَرْبِهِمْ كُلّهَا، إلَى أَنْ تَقَطّعَتْ حَرْبُهُمْ فَقَدِمَ مُحَمّدٌ فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ. وَابْنُ أُبَيّ لَا يَهُودِيّ عَلَى دِينِ يَهُودَ، وَلَا عَلَى دِينِ مُحَمّدٍ، وَلَا هُوَ عَلَى دِين قَوْمِهِ، فَكَيْفَ تَقْبَلُ مِنْهُ قَوْلًا قَالَهُ؟ قَالَ حُيَيّ: تَأْبَى نَفْسِي إلّا عَدَاوَةَ مُحَمّدٍ وَإِلّا قِتَالَهُ. قَالَ سلّام: فهو والله جلاؤنا مِنْ أَرْضِنَا، وَذَهَابُ أَمْوَالِنَا، وَذَهَابُ شَرَفِنَا، أَوْ سِبَاءُ ذَرَارِيّنَا مَعَ قَتْلِ مُقَاتِلِينَا. فَأَبَى حُيَيّ إلّا مُحَارَبَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ سَارُوكُ [ (2) ] بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ- وكان ضعيفا عندهم فى عقله
كَأَنّ بِهِ جِنّةٌ- يَا حُيَيّ، أَنْتَ رَجُلٌ مَشْئُومٌ، تُهْلِكُ بَنِي النّضِيرِ! فَغَضِبَ حُيَيّ وَقَالَ: كُلّ بَنِي النّضِيرِ قَدْ كَلّمَنِي حَتّى هَذَا الْمَجْنُونُ. فَضَرَبَهُ إخْوَتُهُ وَقَالُوا لِحُيَيّ: أَمْرُنَا لِأَمْرِك تَبَعٌ، لَنْ نُخَالِفَك. فَأَرْسَلَ حُيَيّ أَخَاهُ جُدَيّ بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّا لَا نَبْرَحُ مِنْ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ ابْنَ أُبَيّ فَيُخْبِرَهُ بِرِسَالَتِهِ إلَى مُحَمّدٍ، وَيَأْمُرَهُ بِتَعْجِيلِ مَا وَعَدَ مِنْ النّصْرِ. فَذَهَبَ جدي بن أخطب إلى رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلّذِي أَرْسَلَهُ حُيَيّ، فَجَاءَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُ، فَأَظْهَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التّكْبِيرَ، وَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ لِتَكْبِيرِهِ، وَقَالَ: حَارَبْت الْيَهُود! وَخَرَجَ جُدَيّ حَتّى دَخَلَ عَلَى ابْنِ أُبَيّ وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ مَعَ نَفِيرٍ مِنْ حُلَفَائِهِ، وَقَدْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي النّضِيرِ، فَيَدْخُلُ عبد الله بن عبد الله بن أبي عَلَى عَبْدِ اللهِ أَبِيهِ وَعَلَى النّفَرِ مَعَهُ، وَعِنْدَهُ جُدَيّ بْنُ أَخْطَبَ، فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَخَرَجَ يَعْدُو، فَقَالَ جُدَيّ: لَمّا رَأَيْت ابْنَ أُبَيّ جَالِسًا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ وَابْنُهُ عَلَيْهِ السّلَاحُ، يَئِسْت مِنْ نَصْرِهِ فَخَرَجْت أَعْدُو إلَى حُيَيّ، فَقَالَ: مَا وَرَاءَك؟ قُلْت: الشّرّ! سَاعَةَ أَخْبَرْت مُحَمّدًا بِمَا أَرْسَلْت بِهِ إلَيْهِ أَظْهَرَ التّكْبِيرَ وَقَالَ «حَارَبْت الْيَهُودَ» . فَقَالَ: هَذِهِ مَكِيدَةٌ مِنْهُ. قَالَ: وَجِئْت ابْنَ أُبَيّ فَأَعْلَمْته، وَنَادَى مُنَادِي مُحَمّدٍ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي النّضِيرِ. قَالَ: وَمَا رَدّ عَلَيْك ابْنُ أُبَيّ؟ فَقَالَ جُدَيّ: لَمْ أَرَ عِنْدَهُ خَيْرًا. قَالَ: أَنَا أُرْسِلُ إلَى حُلَفَائِي فَيَدْخُلُونَ مَعَكُمْ. وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ فَصَلّى الْعَصْرَ بِفَضَاءِ بَنِي النّضِيرِ، فَلَمّا رَأَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قَامُوا عَلَى جُدُرِ حُصُونِهِمْ، مَعَهُمْ النّبْلُ وَالْحِجَارَةُ. وَاعْتَزَلَتْهُمْ قُرَيْظَةُ فَلَمْ تُعِنْهُمْ
بِسِلَاحٍ وَلَا رِجَالٍ وَلَمْ يَقْرَبُوهُمْ. وَجَعَلُوا يَرْمُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ حَتّى أَظَلَمُوا، وَجَعَلَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْدَمُونَ [ (1) ] ، مَنْ كَانَ تَخَلّفَ فِي حَاجَتِهِ، حَتّى تَتَامّوا عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِ الدّرْعُ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ. وَقَدْ اسْتَعْمَلَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى الْعَسْكَرِ، وَيُقَالُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ يُحَاصِرُونَهُمْ، يُكَبّرُونَ حَتّى أَصْبَحُوا، ثُمّ أَذّنَ بِلَالٌ بِالْمَدِينَةِ، فَغَدَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أَصْحَابِهِ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، فَصَلّى بِالنّاسِ بِفَضَاءِ بَنِي خَطْمَةَ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ، وَحُمِلَتْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبّةٌ مِنْ أَدَمٍ. وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: كَانَتْ الْقُبّةُ مِنْ غَرَبٍ [ (2) ] عَلَيْهَا مُسُوحٌ [ (3) ] ، أَرْسَلَ بِهَا سَعْدُ بْنُ عبادة، فأمره بِلَالًا فَضَرَبَهَا فِي مَوْضِعٍ الْمَسْجِدِ الصّغِيرِ الّذِي بِفَضَاءِ بَنِي خَطْمَةَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُبّةَ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ عَزْوَك، وَكَانَ أَعْسَرَ رَامِيًا، فَرَمَى فَبَلَغَ نَبْلُهُ قُبّةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِقُبّتِهِ فَحُوّلَتْ إلَى مَسْجِدِ الْفَضِيخِ [ (4) ] وَتَبَاعَدَتْ مِنْ النّبْلِ. وَأَمْسَوْا فَلَمْ يَقْرَبْهُمْ ابْنُ أُبَيّ وَلَا أَحَدٌ مِنْ حُلَفَائِهِ وَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ، وَيَئِسَتْ بَنُو النّضِيرِ مِنْ نَصْرِهِ، وَجَعَلَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَكِنَانَةُ بْنُ صُوَيْرَاءَ يقولان لحيىّ: أين نصر ابن أُبَيّ كَمَا زَعَمْت؟ قَالَ حُيَيّ: فَمَا أَصْنَعُ؟ هي
مَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَيْنَا. وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدّرْعُ وَبَاتَ، وَظَلّ مُحَاصِرَهُمْ، فَلَمّا كَانَ لَيْلَةً مِنْ اللّيَالِي فُقِدَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ حَيْنَ قَرُبَ الْعِشَاءُ، فَقَالَ النّاسُ: مَا نَرَى عَلِيّا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ، فَإِنّهُ فِي بَعْضِ شَأْنِكُمْ! فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ بِرَأْسِ عَزْوَك، فَطَرَحَهُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي كَمَنْت لِهَذَا الْخَبِيثِ فَرَأَيْت رَجُلًا شُجَاعًا، فَقُلْت: مَا أَجْرَأَهُ أَنْ يَخْرُجَ إذَا أَمْسَيْنَا يَطْلُبُ مِنّا غِرّةً. فَأَقْبَلَ مُصْلِتًا سَيْفَهُ فِي نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَشَدَدْت عَلَيْهِ فَقَتَلْته، وَأَجْلَى أَصْحَابَهُ وَلَمْ يَبْرَحُوا قَرِيبًا، فَإِنْ بَعَثْت مَعِي نَفَرًا رَجَوْت أَنْ أَظْفَرَ بِهِمْ. فَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا دُجَانَةَ، وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْل أَنْ يَدْخُلُوا حِصْنَهُمْ، فَقَتَلُوهُمْ وَأَتَوْا بِرُءُوسِهِمْ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُءُوسِهِمْ فَطُرِحَتْ فِي بَعْضِ بِئَارِ بَنِي خَطْمَةَ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَحْمِلُ التّمْرَ إلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَقَامُوا فِي حِصْنِهِمْ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّخْلِ فَقُطِعَتْ وَحُرِقَتْ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى قَطْعِهَا رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَبَا لَيْلَى الْمَازِنِيّ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ سَلّامٍ، فَكَانَ أَبُو لَيْلَى يَقْطَعُ الْعَجْوَةَ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلّامٍ يَقْطَعُ اللّوْنَ [ (1) ] ، فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو لَيْلَى: كَانَتْ الْعَجْوَةُ أَحْرَقَ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ: قَدْ عَرَفْت أَنّ اللهَ سَيُغْنِمُهُ أَمْوَالَهُمْ، وَكَانَتْ الْعَجْوَةُ خَيْرَ أَمْوَالِهِمْ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ رِضَاءً بِمَا صَنَعْنَا جَمِيعًا ... مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [ (2) ] أَلْوَانِ النّخْلِ، لِلّذِي فَعَلَ ابْنُ سَلّامٍ، أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها يَعْنِي الْعَجْوَةَ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ. وَقَطَعَ أَبُو لَيْلَى الْعَجْوَةَ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يَعْنِي بَنِي النّضير،
رِضَاءً مِنْ اللهِ بِمَا صَنَعَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا. فَلَمّا قُطِعَتْ الْعَجْوَةُ شَقّ النّسَاءُ الْجُيُوبَ، وَضَرَبْنَ الْخُدُودَ، وَدَعَوْنَ بِالْوَيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَهُنّ؟ فَقِيلَ: يَجْزَعْنَ عَلَى قَطْعِ الْعَجْوَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ مِثْلَ الْعَجْوَةِ جُزِعَ عَلَيْهِ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَجْوَةُ وَالْعَتِيقُ- الْفَحْلُ الّذِي يُؤَبّرُ بِهِ النّخْلُ- مِنْ الْجَنّةِ، وَالْعَجْوَةُ شِفَاءٌ مِنْ السّمّ. فَلَمّا صِحْنَ صَاحَ بِهِنّ أَبُو رَافِعٍ سلّام: إن قطعت العجوة ها هنا فَإِنّ لَنَا بِخَيْبَرٍ عَجْوَةً. قَالَتْ عَجُوزٌ مِنْهُنّ: خَيْبَرٌ، يُصْنَعُ بِهَا مِثْلُ هَذَا! فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَضّ اللهُ فَاك! إنّ حُلَفَائِي بِخَيْبَرٍ لَعَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ. فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ فَتَبَسّمَ. وَجَزِعُوا عَلَى قَطْعِ الْعَجْوَةِ فَجَعَلَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ يَقُولُ: يَا حُيَيّ، الْعَذْقُ خَيْرٌ مِنْ الْعَجْوَةِ، يُغْرَسُ فَلَا يُطْعِمُ ثَلَاثِينَ سَنَةً يُقْطَعُ! فَأَرْسَلَ حُيَيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا مُحَمّدُ، إنّك كُنْت تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ، لِمَ تَقْطَعُ النّخْلَ؟ نَحْنُ نُعْطِيك الّذِي سَأَلْت، وَنَخْرُجُ مِنْ بِلَادِك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَقْبَلُهُ الْيَوْمَ، وَلَكِنْ اُخْرُجُوا مِنْهَا وَلَكُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا الْحَلْقَةُ. فَقَالَ سَلّامٌ: اقْبَلْ وَيْحَك، قَبْلَ أَنْ تَقْبَلَ شَرّا مِنْ هَذَا! فَقَالَ حُيَيّ: مَا يَكُونُ شَرّا مِنْ هَذَا؟ قَالَ سَلّامٌ: يَسْبِي الذّرّيّةَ وَيَقْتُلُ الْمُقَاتِلَةَ مَعَ الْأَمْوَالِ، فَالْأَمْوَالُ الْيَوْمَ أَهْوَنُ عَلَيْنَا إذَا لَحَمْنَا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسّبَاءِ. فَأَبَى حُيَيّ أَنْ يَقْبَلَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ يَامِينُ بْنُ عمير وأبو سعد ابن وَهْبٍ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: وَإِنّك [ (1) ] لَتَعْلَمُ أَنّهُ لَرَسُولُ اللهِ، فَمَا تَنْتَظِرُ أَنْ نُسْلِمَ فَنَأْمَنَ عَلَى دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا؟ فَنَزَلَا مِنْ اللّيْلِ فَأَسْلَمَا فأحرزا دماءهما وأموالهما.
ثُمّ نَزَلَتْ الْيَهُودُ عَلَى أَنّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا الْحَلْقَةُ، فَلَمّا أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ يَامِينَ: أَلَمْ تَرَ إلَى ابْنِ عَمّك عَمْرِو ابن جِحَاشٍ وَمَا هَمّ بِهِ مِنْ قَتْلِي؟ وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ، كَانَتْ الرّوَاعُ بِنْتُ عُمَيْرٍ تَحْتَ عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ. فَقَالَ ابْنُ يَامِينَ: أَنَا أَكْفِيكَهُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَجَعَلَ لِرَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَمْرَو بْنَ جِحَاشٍ، وَيُقَالُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ. فَاغْتَالَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمّ جَاءَ ابْنُ يَامِينَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِهِ، فَسُرّ بِذَلِكَ. وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَأَجَلَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَوَلِيَ إخْرَاجَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. فَقَالُوا: إنّ لَنَا دُيُونًا عَلَى النّاسِ إلَى آجَالٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَجّلُوا وَضَعُوا. فَكَانَ لِأَبِي رَافِعٍ سَلّامُ بْنُ أَبِي الحقيق على أسيد ابن حُضَيْرٍ عِشْرُونَ وَمِائَةُ دِينَارٍ إلَى سَنَةٍ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَخْذِ رَأْسِ مَالِهِ ثَمَانِينَ دِينَارًا، وَأَبْطَلَ مَا فَضَلَ. وَكَانُوا فِي حِصَارِهِمْ يُخَرّبُونَ بُيُوتَهُمْ مِمّا يَلِيهِمْ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخَرّبُونَ مَا يَلِيهِمْ وَيُحَرّقُونَ حَتّى وَقَعَ الصّلْحُ، فَتَحَمّلُوا، فَجَعَلُوا يَحْمِلُونَ الْخَشَبَ وَنُجُفَ [ (1) ] الْأَبْوَابِ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ: لَوْ رَأَيْتنِي وَأَنَا أَشُدّ الرّحْلَ لِخَالِك بَحْرِيّ بْنِ عَمْرٍو وَأُجْلِيهِ مِنْهَا! وَحَمَلُوا النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ، فَخَرَجُوا عَلَى بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ عَلَى الْجَبَلِيّةِ، ثُمّ عَلَى الْجِسْرِ حَتّى مَرّوا بِالْمُصَلّى، ثُمّ شَقّوا سُوقَ الْمَدِينَةِ، وَالنّسَاءُ فِي الْهَوَادِجِ عَلَيْهِنّ الْحَرِيرُ وَالدّيبَاجُ، وَقُطُفُ الْخَزّ الْخُضْرُ وَالْحُمْرُ، وَقَدْ صَفّ لَهُمْ النّاسُ، فَجَعَلُوا يَمُرّونَ قِطَارًا [ (2) ] فِي أَثَرِ قِطَارٍ، فَحُمِلُوا عَلَى سِتّمِائَةِ بَعِيرٍ، يَقُولُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
هَؤُلَاءِ فِي قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي قُرَيْشٍ. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ يَرَاهُمْ وَسَرَاةُ الرّجَالِ عَلَى الرّحَالِ: أَمَا وَاَللهِ إنّ لَقَدْ كَانَ عِنْدَكُمْ لَنَائِلٌ لِلْمُجْتَدِي وَقِرًى حَاضِرٌ لِلضّيْفِ، وَسَقْيًا لِلْمُدَامِ، وَحِلْمٌ عَلَى مَنْ سَفِهَ عَلَيْكُمْ، وَنَجْدَةٌ إذَا اُسْتُنْجِدْتُمْ. فَقَالَ الضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ: وَاصَبَاحَاه، نَفْسِي فَدَاؤُكُمْ! مَاذَا تَحَمّلْتُمْ بِهِ مِنْ السّؤْدُدِ وَالْبَهَاءِ، وَالنّجْدَةِ وَالسّخَاءِ؟ قَالَ، يَقُولُ نعيم ابن مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ: فِدًى لِهَذِهِ الْوُجُوهِ الّتِي كَأَنّهَا الْمَصَابِيحُ ظَاعِنِينَ مِنْ يَثْرِبَ. مَنْ لِلْمُجْتَدِي الْمَلْهُوفِ؟ وَمَنْ لِلطّارِقِ السّغْبَانِ؟ وَمَنْ يَسْقِي الْعُقَارَ؟ وَمَنْ يُطْعِمُ الشّحْمَ فَوْقَ اللّحْمِ؟ مَا لَنَا بِيَثْرِبَ بعدكم مقام. يقول أبو عبس ابن جَبْرٍ [ (1) ] وَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَهُ: نَعَمْ، فَالْحَقْهُمْ حَتّى تدخل معهم المار. قَالَ نُعَيْمٌ: مَا هَذَا جَزَاؤُهُمْ مِنْكُمْ، لَقَدْ اسْتَنْصَرْتُمُوهُمْ فَنَصَرُوكُمْ عَلَى الْخَزْرَجِ، وَلَقَدْ اسْتَنْصَرْتُمْ [ (2) ] سَائِرَ الْعَرَبِ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْكُمْ. قَالَ أَبُو عَبْسٍ: قَطَعَ الْإِسْلَامُ الْعُهُودَ. قَالَ: وَمَرّوا يَضْرِبُونَ بِالدّفُوفِ وَيُزَمّرُونَ بِالْمَزَامِيرِ، وَعَلَى النّسَاءِ الْمُعَصْفَرَاتُ وَحُلِيّ الذّهَبِ، مُظْهِرِينَ ذَلِكَ تَجَلّدًا. قَالَ: يَقُولُ جُبَارُ بْنُ صَخْرٍ: مَا رَأَيْت زُهَاءَهُمْ [ (3) ] لِقَوْمٍ زَالُوا مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ. وَنَادَى أَبُو رَافِعٍ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَرَفَعَ مَسْكَ الْجَمَلِ وَقَالَ: هَذَا مِمّا نَعُدّهُ لِخَفْضِ الْأَرْضِ وَرَفْعِهَا، فَإِنْ يَكُنْ النّخْلُ قَدْ تَرَكْنَاهَا فَإِنّا نَقْدَمُ عَلَى نَخْلٍ بِخَيْبَرٍ. فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ رَبِيحِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: لَقَدْ مَرّ يَوْمئِذٍ نِسَاءٌ مِنْ نِسَائِهِمْ
فِي تِلْكَ الْهَوَادِجِ قَدْ سَفَرْنَ عَنْ الْوُجُوهِ، لَعَلَيّ لَمْ أَرَ مِثْلَ جَمَالِهِنّ لِنِسَاءٍ قَطّ. لَقَدْ رَأَيْت الشّقْرَاءَ بِنْتَ كِنَانَةَ يَوْمَئِذٍ كَأَنّهَا لُؤْلُؤَةُ غَوّاصٍ، وَالرّوَاعَ بِنْتَ عُمَيْرٍ مِثْلَ الشّمْسِ الْبَازِغَةِ، فِي أَيْدِيهِنّ أَسْوِرَةُ الذّهَبِ، وَالدّرّ فِي رِقَابِهِنّ. وَلَقِيَ الْمُنَافِقُونَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ خَرَجُوا حُزْنًا شَدِيدًا، لَقَدْ لَقِيت زَيْدَ بْنَ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ وَهُوَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ، وَهُوَ يُنَاجِيهِ فِي بَنِي غَنْمٍ وَهُوَ يَقُولُ: تَوَحّشْت بِيَثْرِبَ لِفَقْدِ بَنِي النّضِيرِ، وَلَكِنّهُمْ يَخْرُجُونَ إلَى عِزّ وَثَرْوَةٍ مِنْ حُلَفَائِهِمْ، وَإِلَى حُصُونٍ مَنِيعَةٍ شَامِخَةٍ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ لَيْسَتْ كَمَا هَاهُنَا. قَالَ: فَاسْتَمَعْت عَلَيْهِمَا سَاعَةً، وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاشّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالُوا: وَمَرّتْ فِي الظّعُنِ يَوْمَئِذٍ سَلْمَى صَاحِبَةُ عُرْوَةَ بْنِ الْوَرْدِ الْعَبْسِيّ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنّهَا كَانَتْ امْرَأَةً مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَسَبَاهَا عُرْوَةُ مِنْ قَوْمِهَا فَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا وَنَزَلَتْ مِنْهُ مَنْزِلًا، فَقَالَتْ لَهُ، وَجَعَلَ وَلَدَهُ يُعَيّرُونَ بِأُمّهِمْ «يَا بَنِي الْأَخِيذَةِ!» ، فَقَالَتْ: أَلَا تَرَى وَلَدَك يُعَيّرُونَ؟ قَالَ: فَمَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: تَرُدّنِي إلَى قَوْمِي حَتّى يَكُونُوا هُمْ الّذِينَ يُزَوّجُونَك. قال: نعم. فأرسلت إلى قومها أن القوم بِالْخَمْرِ ثُمّ اُتْرُكُوهُ حَتّى يَشْرَبَ وَيَثْمَلَ، فَإِنّهُ إذَا ثَمِلَ لَمْ يُسْأَلْ شَيْئًا إلّا أَعْطَاهُ. فَلَقُوهُ وَنَزَلَ فِي بَنِي النّضِيرِ، فَسَقَوْهُ الْخَمْرَ، فَلَمّا سَكِرَ سَأَلُوهُ سَلْمَى فَرَدّهَا عَلَيْهِمْ، ثُمّ أَنْكَحُوهُ بَعْدُ. وَيُقَالُ: إنّمَا جَاءَ بِهَا إلَى بَنِي النّضِيرِ وَكَانَ صُعْلُوكًا يُغِيرُ. فَسَقَوْهُ الْخَمْرَ فَلَمّا انْتَشَى مَنَعُوهُ، وَلَا شَيْءَ مَعَهُ إلّا هِيَ، فَرَهَنَهَا فَلَمْ يَزَلْ يَشْرَبُ حَتّى غَلِقَتْ فَلَمّا صَحَا قَالَ لَهَا: انْطَلِقِي. قَالُوا: لَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ، قَدْ أَغْلَقْتهَا. فَبِهَذَا صَارَتْ عِنْدَ بَنِي النّضِيرِ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدِ: سَقَوْنِي الْخَمْرَ ثُمّ تَكَنّفُونِي ... عُدَاةُ اللهِ مِنْ كذب وزور
وَقَالُوا لَسْت بَعْدَ فِدَاءِ سَلْمَى ... بِمُغْنٍ [ (1) ] مَا لَدَيْك وَلَا فَقِيرِ فَلَا وَاَللهِ لَوْ كَالْيَوْمِ أَمْرِي ... وَمَنْ لِي بِالتّدَبّرِ فِي الْأُمُورِ [ (2) ] إذًا لَعَصَيْتهمْ فِي أَمْرِ سَلْمَى [ (3) ] ... وَلَوْ رَكِبُوا عِضَاهَ الْمُسْتَعْوِرِ [ (4) ] أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ. حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ قَالَ: وَقَبَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْوَالَ وَقَبَضَ الْحَلْقَةَ، فَوَجَدَ مِنْ الْحَلْقَةِ خَمْسِينَ دِرْعًا، وَخَمْسِينَ بَيْضَةً، وَثَلَاثَمِائَةِ سَيْفٍ، وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا. وَيُقَالُ غَيّبُوا بَعْضَ سِلَاحِهِمْ وَخَرَجُوا بِهِ. وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الّذِي وَلِيَ قَبْضَ الْأَمْوَالِ وَالْحَلْقَةَ وَكَشْفَهُمْ عَنْهَا. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تُخَمّسُ مَا أَصَبْت مِنْ بَنِي النّضِيرِ كَمَا خَمّسْت مَا أَصَبْت مِنْ بَدْرٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَجْعَلُ شَيْئًا جَعَلَهُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِي دُونَ الْمُؤْمِنِينَ! بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ... [ (5) ] الْآيَةُ، كَهَيْئَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ السّهْمَانِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ صَفَايَا، فكانت بنو
النّضير حبسا [ (1) ] النوائبه، وَكَانَتْ فَدَكُ لِابْنِ السّبِيلِ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ قَدْ جَزّأَهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجُزْءَانِ لِلْمُهَاجِرِينَ وَجُزْءٌ كَانَ يُنْفَقُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ، فَإِنّ فَضْلَ رَدّهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ. حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُمَرَ الْحَارِثِيّ، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ، قَالَ: إنّمَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ بَنِي النّضِيرِ، كَانَتْ لَهُ خَالِصَةً، فَأَعْطَى مَنْ أَعْطَى مِنْهَا وَحَبَسَ مَا حَبَسَ. وَكَانَ يَزْرَعُ تَحْتَ النّخْلِ زَرْعًا كَثِيرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ لَهُ مِنْهَا قُوتُ أَهْلِهِ سَنَةً مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ لِأَزْوَاجِهِ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ [ (2) ] وَالسّلَاحِ، وَإِنّهُ كَانَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ ذَلِكَ السّلَاحُ الّذِي اُشْتُرِيَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَعْمَلَ عَلَى أَمْوَالِ بَنِي النّضِيرِ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ، وَرُبّمَا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْبَاكُورَةِ مِنْهَا، وَكَانَتْ صَدَقَاتُهُ مِنْهَا وَمِنْ أَمْوَالِ مُخَيْرِيقٍ. وَهِيَ سَبْعَةُ حَوَائِطَ- الْمِيثَبُ، وَالصّافِيَةُ، وَالدّلّالُ، وَحُسْنَى، وَبُرْقَةُ، وَالْأَعْوَافُ، وَمَشْرَبَةُ أُمّ إبْرَاهِيمَ، وَكَانَتْ أُمّ إبْرَاهِيمَ تَكُون هُنَاكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهَا هُنَاكَ. وَقَالُوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا تَحَوّلَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إلَى الْمَدِينَةِ تَحَوّلَ أَصْحَابُهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَنَافَسَتْ فِيهِمْ الْأَنْصَارُ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَيْهِمْ حَتّى اقْتَرَعُوا فِيهِمْ بِالسّهْمَانِ، فَمَا نَزَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ إلّا بِقُرْعَةِ سَهْمٍ. فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمّ العلاء،
قَالَتْ: صَارَ [ (1) ] لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي الْقُرْعَةِ، وَكَانَ فِي مَنْزِلِنَا حَتّى تُوُفّيَ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ فِي دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمّا غَنِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النّضِيرِ دَعَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فَقَالَ: اُدْعُ لِي قَوْمَك! قَالَ ثَابِتٌ: الْخَزْرَجَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَنْصَارَ كُلّهَا! فَدَعَا لَهُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ، فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ ذَكَرَ الْأَنْصَارَ وَمَا صَنَعُوا بِالْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْزَالَهُمْ إيّاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَأَثَرَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمّ قَالَ: إنْ أَحْبَبْتُمْ قَسَمْت بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ مِمّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيّ مِنْ بَنِي النّضِيرِ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ السّكْنَى فِي مَسَاكِنِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتهمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِكُمْ. فَتَكَلّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلْ تَقْسِمُهُ لِلْمُهَاجِرِينَ [ (2) ] وَيَكُونُونَ فِي دُورِنَا كَمَا كَانُوا. وَنَادَتْ الْأَنْصَارُ: رَضِينَا وَسَلّمْنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ! فَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَى الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يعط أحدا من الأنصار من ذلك الفئ شَيْئًا، إلّا رَجُلَيْنِ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ- سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَأَبَا دُجَانَةَ. وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ سَيْفًا لَهُ ذِكْرٌ عِنْدَهُمْ. قَالُوا: وَكَانَ مِمّنْ أَعْطَى مِمّنْ سُمّيَ لَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِئْرَ حِجْرٍ، وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِئْرَ جَرْمٍ، وأعطى عبد الرحمن ابن عَوْفٍ سُؤَالَةَ- وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ مَالُ سليم. وأعطى صهيب بن
ذكر ما نزل من القرآن فى بنى النضير
سِنَانَ الضّرّاطَةَ، وَأَعْطَى الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْبُوَيْلَةَ. وَكَانَ مَالُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَأَبِي دُجَانَةَ مَعْرُوفًا، يُقَالُ لَهُ مَالُ ابْنِ خَرَشَةَ، وَوَسّعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النّاسِ مِنْهَا. ذِكْرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بَنِي النّضير سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [ (1) ] قَالَ كُلّ شَيْءٍ سَبّحَ لَهُ، وَتَسْبِيحُ الْجُدُرِ النّقْضُ [ (2) ] . حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ حُيَيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [ (3) ] يعنى بنى النّضير حَيْنَ أَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الشّامِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوّلَ الْحَشْرِ فِي الدّنْيَا إلَى الشّامِ، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِلْمُؤْمِنَيْنِ: مَا ظَنَنْتُمْ ذَلِكَ، كَانَ لَهُمْ عِزّ وَمَنَعَةٌ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ حَيْنَ تَحَصّنُوا، فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا قال ظُهُورِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَاؤُهُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ رَعَبُوا وَأَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ، وَكَانَ الرّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ لَهُ وَجَبَانٌ [ (4) ] ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قَالَ كَانُوا لَمّا حُصِرُوا وَالْمُسْلِمُونَ يَحْفِرُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ وَهُمْ يَنْقُبُونَ مِمّا يَلِيهِمْ، فَيَأْخُذُونَ الْخَشَبَ وَالنّجُفَ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ قَالَ يعنى يا أهل
الْعُقُولِ. وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ [ (1) ] يَقُولُ فِي أُمّ الْكِتَابِ أَنْ يَجْلُوا. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (2) ] يَقُولُ عَصَوْا اللهَ وَرَسُولَهُ وَخَالَفُوهُ. مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها.. [ (3) ] الْآيَةُ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَعْمَلَ عَلَى قَطْعِ نَخْلِهِمْ أَبَا لَيْلَى الْمَازِنِيّ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ سَلّامٍ، فَكَانَ أَبُو لَيْلَى يَقْطَعُ الْعَجْوَةَ، وَكَانَ ابْنُ سَلّامٍ يَقْطَعُ اللّوْنَ، فَقَالَ لَهُمْ بَنُو النّضِيرِ: أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مَا يَحِلّ لَكُمْ عَقْرُ النّخْلِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْطَعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَقْطَعُ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَلْوَانِ النّخْلِ سِوَى الْعَجْوَةِ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها قَالَ الْعَجْوَةُ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يَقُولُ يَغِيظُهُمْ مَا قُطِعَ مِنْ النّخْلِ. مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ (4) ] قوله لله ولرسوله وَاحِدٌ وَلِذِي الْقُرْبى قَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَسَهْمُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمْسُ الْخُمْسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي بَنِي هَاشِمٍ مِنْ الْخُمْسِ وَيُزَوّجُ أَيَامَاهُمْ. وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ دَعَاهُمْ إلَى أَنْ يُزَوّجَ أَيَامَاهُمْ وَيَخْدُمَ عَائِلَهُمْ وَيَقْضِيَ عَنْ غَارِمَهُمْ، فَأَبَوْا إلّا أَنْ يُسَلّمَهُ كُلّهُ، وَأَبَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَحَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيّا كَانُوا يَجْعَلُونَهُ فِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ. وَقَوْلُهُ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ يقول لا يستنّ بها
مِنْ بَعْدُ فَتُعْطَى الْأَغْنِيَاءَ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا يَقُولُ مَا جَاءَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا نَزَلَ مِنْ الْوَحْيِ. لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً [ (1) ] يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ الّذِينَ هاجروا إلى المدينة قبل بدر. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ [ (2) ] يَعْنِي الْأَنْصَارَ، يَقُولُ هُمْ أَهْلُ الدّارِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ لَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَدًا مِمّا أَعْطَى غَيْرَهُمْ، يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ حَيْنَ أَعْطَاهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُعْطِ الْأَنْصَارَ، فَهَذِهِ الْأَثَرَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ حَيْنَ قَالُوا لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطِهِمْ وَلَا تُعْطِنَا وَهُمْ مُحْتَاجُونَ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ قال ظلم الناس. وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [ (3) ] يَعْنِي الّذِينَ أَسْلَمُوا فَحَقّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً [ (4) ] قَوْلُ ابْنِ أُبَيّ حَيْنَ أَرْسَلَ سُوَيْدًا وَدَاعِسًا [ (5) ] إلَى بَنِي النّضِيرِ: أَقِيمُوا وَلَا تَخْرُجُوا فَإِنّ مَعِي مِنْ قَوْمِي وَغَيْرِهِمْ أَلْفَيْنِ، يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ فَيَمُوتُونَ عَنْ آخِرِهِمْ دُونَكُمْ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يَعْنِي ابْنَ أُبَيّ وَأَصْحَابَهُ. لَئِنْ أُخْرِجُوا [ (6) ] حَيْنَ أَجْلَاهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَخْرُجْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إنْسَانٌ وَاحِدٌ مَعَهُمْ، وَقُوتِلُوا فلم يدخل
الْحُصُنَ مِنْهُمْ إنْسَانٌ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ يَعْنِي يَنْهَزِمُونَ مِنْ الرّعْبِ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [ (1) ] يَعْنِي ابْنَ أُبَيّ وَالْمُنَافِقِينَ الّذِينَ مَعَهُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً [ (2) ] يعنى بنى النّضير وَالْمُنَافِقِينَ، إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ يَقُولُ فِي حُصُونِهِمْ، أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَبَنِي النّضِيرِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ يَقُولُ دِينُ بَنِي النّضِيرِ مُخَالِفٌ دِينَ الْمُنَافِقِينَ [وَهُمْ] جَمِيعًا، فِي عَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ مُجْتَمِعُونَ. كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ [ (3) ] قَالَ يَعْنِي قَيْنُقَاعَ حَيْنَ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [ (4) ] قَالَ هَذَا مَثَلٌ لِابْنِ أُبَيّ وَأَصْحَابِهِ الّذِينَ جَاءُوا بَنِي النّضِيرَ فَقَالُوا: أَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ فَنَحْنُ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ إنْ قُوتِلْتُمْ، وَنَخْرُجُ إنْ أُخْرِجْتُمْ كَذِبًا وَبَاطِلًا، مَنّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [ (5) ] يَقُولُ مَا عَمِلَتْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [ (6) ] يَقُولُ أَعَرَضُوا عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فَأَضَلّهُمْ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَعْمَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا. وَقَالَ الْقُدُّوسُ [ (7) ] الظّاهِرُ، والْمُهَيْمِنُ الشّهِيدُ.
غزوة بدر الموعد
غَزْوَةُ بَدْرِ الْمَوْعِد وَكَانَتْ لِهِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا، وَغَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا سِتّ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ رَوَاحَةَ. حَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيّ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَكُلّ قَدْ حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم ممن لَمْ أُسَمّ، قَالُوا: لَمّا أَرَادَ أَبُو سُفْيَان أَنْ يَنْصَرِفَ يَوْمَ أُحُدٍ نَادَى: مَوْعِدٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ رَأْسَ الْحَوْلِ، نَلْتَقِي فِيهِ فَنَقْتَتِلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قُلْ نَعَمْ إنْ شَاءَ اللهُ. وَيُقَالُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: مَوْعِدُكُمْ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. فَافْتَرَقَ النّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ فَخَبّرُوا مَنْ قِبَلَهُمْ بِالْمَوْعِدِ وَتَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ وَأَجْلَبُوا [ (1) ] ، وَكَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ الْأَيّامِ لِأَنّهُمْ رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ وَالدّوْلَةُ لَهُمْ، طَمِعُوا فِي بَدْرٍ الْمَوْعِدِ أَيْضًا بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الظّفَرِ. وَكَانَ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ مَجْمَعًا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعَرَبُ، وَسُوقًا تَقُومُ لِهِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ إلَى ثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ، فَإِذَا مَضَتْ ثَمَانِي لَيَالٍ مِنْهُ تَفَرّقَ النّاسُ إلَى بِلَادِهِمْ. فَلَمّا دَنَا الْمَوْعِدُ كَرِهَ أبو سفيان الخروج إلى رسول
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ يُحِبّ أَنْ يُقِيمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا يُوَافِقُونَ الْمَوْعِدَ. فَكَانَ كُلّ مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ مَكّةَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ أَظْهَرَ لَهُ: إنّا نُرِيدُ أَنْ نَغْزُوَ مُحَمّدًا فِي جَمْعٍ كَثِيفٍ. فَيَقْدَمُ الْقَادِمُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَاهُمْ عَلَى تَجَهّزٍ فَيَقُولُ: تَرَكْت أَبَا سُفْيَانَ قَدْ جَمَعَ الْجُمُوعَ، وَسَارَ فِي الْعَرَبِ لِيَسِيرَ إلَيْكُمْ لِمَوْعِدِكُمْ. فَيَكْرَهُ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَيَهِيبُهُمْ ذَلِكَ. وَيَقْدَمُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ مَكّةَ، فَجَاءَهُ أَبُو سفيان بن حرب في رجال من قريش فقال: يا نعيم، إنّي وَعَدْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ نَلْتَقِيَ نَحْنُ وَهُوَ بِبَدْرٍ الصّفْرَاءِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ. فَقَالَ نُعَيْمٌ: مَا أَقْدَمَنِي إلّا مَا رَأَيْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ يَصْنَعُونَ مِنْ إعْدَادِ السّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَقَدْ تَجَلّبَ إلَيْهِ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ مِنْ بَلِيّ وَجُهَيْنَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَتَرَكْت الْمَدِينَةَ أَمْسَ وَهِيَ كَالرّمّانَةِ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَحَقّا مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إي وَاَللهِ. فَجَزَوْا نُعَيْمًا خَيْرًا وَوَصَلُوهُ وَأَعَانُوهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَسْمَعُك تَذْكُرُ مَا تَذْكُرُ، مَا قَدْ أَعَدّوا؟ وَهَذَا عَامُ جَدْبٍ- قَالَ نُعَيْمٌ: الْأَرْضُ مِثْلُ ظَهْرِ التّرْسِ، لَيْسَ فِيهَا لِبَعِيرٍ شَيْءٌ- وَإِنّمَا يُصْلِحُنَا عَامُ خِصْبٍ غَيْدَاقٍ [ (1) ] تَرْعَى فِيهِ الظّهْرُ وَالْخَيْلُ وَنَشْرَبُ اللّبَنَ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ وَلَا أَخْرُجُ فَيَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، وَيَكُونُ الْخُلْفُ مِنْ قِبَلِهِمْ أَحَبّ إلَيّ. وَنَجْعَلُ لَك عِشْرِينَ فَرِيضَةً، عَشْرًا جِذَاعًا [ (2) ] وَعَشْرًا حِقَاقًا [ (3) ] ، وَتُوضَعُ لك على يدي
سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَيَضْمَنُهَا لَك. قَالَ نُعَيْمٌ: رضيث. وَكَانَ سُهَيْلٌ صَدِيقًا لِنُعَيْمٍ فَجَاءَ سُهَيْلًا فَقَالَ: يَا أَبَا يَزِيدَ، تَضْمَنُ لِي عِشْرِينَ فَرِيضَةً عَلَى أَنْ أَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَأَخْذُلَ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. [قَالَ] : فَإِنّي خَارِجٌ. فَخَرَجَ عَلَى بَعِيرٍ حَمَلُوهُ عَلَيْهِ، وَأَسْرَعَ السّيْرَ فَقَدِمَ وَقَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ مُعْتَمِرًا، فَوَجَدَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهّزُونَ، فَقَالَ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أَيْنَ يَا نُعَيْمُ؟ قَالَ: خَرَجْت مُعْتَمِرًا إلَى مَكّةَ. فَقَالُوا: لَك عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَرَكْت أَبَا سُفْيَانَ قَدْ جَمَعَ الْجُمُوعَ وَأَجْلَبَ مَعَهُ الْعَرَبَ، فَهُوَ جَاءَ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَأَقِيمُوا وَلَا تَخْرُجُوا فَإِنّهُمْ قَدْ أَتَوْكُمْ فِي دَارِكُمْ وَقَرَارِكُمْ، فَلَنْ يَفْلِتَ مِنْكُمْ إلّا الشّرِيدُ، وَقُتِلَتْ سَرَاتُكُمْ وَأَصَابَ مُحَمّدًا فِي نَفْسِهِ [ (1) ] مَا أَصَابَهُ مِنْ الْجِرَاحِ. فَتُرِيدُونَ أَنْ تَخْرُجُوا إلَيْهِمْ فَتَلْقَوْهُمْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ؟ بِئْسَ الرّأْيُ رَأَيْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ- وَهُوَ مَوْسِمٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ النّاسُ- وَاَللهِ مَا أَرَى أَنْ يَفْلِتَ مِنْكُمْ أَحَدٌ! وَجَعَلَ يَطُوفُ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى رَعَبَهُمْ وَكَرّهَ إلَيْهِمْ الْخُرُوجَ، حَتّى نَطَقُوا بِتَصْدِيقِ قَوْلِ نُعَيْمٍ، أَوْ مَنْ [ (2) ] نَطَقَ مِنْهُمْ. وَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ وَقَالُوا: مُحَمّدٌ لَا يَفْلِتُ [ (3) ] مِنْ هَذَا الْجَمْعِ! وَاحْتَمَلَ الشّيْطَانُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ النّاسِ لِخَوْفِ الْمُسْلِمِينَ، حَتّى بَلَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عِنْدَهُ، حَتّى خَافَ رَسُولُ اللهِ أَلّا يَخْرُجَ مَعَهُ أَحَدٌ. فَجَاءَهُ أَبُو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ سَمِعَا مَا سَمِعَا فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ إنّ اللهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ وَمُعِزّ نَبِيّهُ، وَقَدْ وَعَدْنَا الْقَوْمَ مَوْعِدًا وَنَحْنُ لَا نُحِبّ أَنْ
نَتَخَلّفَ عَنْ الْقَوْمِ، فَيَرَوْنَ أَنّ هَذَا جُبْنٌ منّا عنهم، فسر لموعدهم، فو الله إنّ فِي ذَلِكَ لَخِيرَةٌ! فَسُرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ثُمّ قَالَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرُجَن وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي أَحَدٌ! قَالَ: فَلَمّا تَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلّمَ بِمَا بَصّرَ اللهُ عَزّ وَجَلّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَذْهَبَ مَا كَانَ رَعَبَهُمْ الشّيْطَانُ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ بِتِجَارَاتٍ لَهُمْ إلَى بَدْرٍ. فَحُدّثْت عَنْ يَزِيدَ، عَنْ خَصِيفَةَ، قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتنَا وَقَدْ قُذِفَ الرّعْبُ فِي قُلُوبِنَا، فَمَا أَرَى أَحَدًا لَهُ نِيّةٌ فِي الْخُرُوجِ، حَتّى أَنْهَجَ اللهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بَصَائِرَهُمْ، وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ تَخْوِيفَ الشّيْطَانِ. فَخَرَجُوا فَلَقَدْ خَرَجْت بِبِضَاعَةٍ إلَى مَوْسِمِ بَدْرٍ، فَرَبِحْت لِلدّينَارِ دِينَارًا، فَرَجَعْنَا بِخَيْرٍ وَفَضْلٍ مِنْ رَبّنَا. فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ وَنَفَقَاتٍ، فَانْتَهَوْا إلَى بَدْرٍ لَيْلَةَ هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَامَ السّوقُ صَبِيحَةَ الْهِلَالِ، فَأَقَامُوا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ وَالسّوقُ قَائِمَةٌ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَانَتْ الْخَيْلُ عَشْرَةَ أَفْرَاسٍ: فَرَسٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَرَسٌ لِأَبِي بَكْرٍ، وَفَرَسٌ لِعُمَرَ، وَفَرَسٌ لِأَبِي قَتَادَةَ، وَفَرَسٌ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ، وَفَرَسٌ لِلْحُبَابِ، وَفَرَسٌ لِلزّبَيْرِ، وَفَرَسٌ لِعَبّادِ بْنِ بِشْرٍ. فَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ الْمِقْدَادُ: شَهِدْت بَدْرَ الْمَوْعِدَ عَلَى فَرَسِي سُبْحَةً، أَرْكَبُ ظَهْرَهَا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. ثُمّ إنّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ بَعَثْنَا نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ لِأَنْ يَخْذُلَ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ عَنْ الْخُرُوجِ وَهُوَ جَاهِدٌ، وَلَكِنْ نَخْرُجُ نَحْنُ فَنَسِيرُ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ ثُمّ نَرْجِعُ، فَإِنْ كَانَ مُحَمّدٌ لَمْ يَخْرُجْ بَلَغَهُ أَنّا خَرَجْنَا فَرَجَعْنَا لِأَنّهُ لَمْ يَخْرُجْ، فَيَكُونُ هَذَا لَنَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ أَظْهَرَنَا أَنّ هَذَا عَامُ جَدْبٍ وَلَا يُصْلِحُنَا
إلّا عَامُ عُشْبٍ. قَالُوا: نَعَمْ مَا رَأَيْت. فَخَرَجَ فِي قُرَيْشٍ، وَهُمْ أَلْفَانِ وَمَعَهُمْ خَمْسُونَ فَرَسًا، حَتّى انْتَهَوْا إلَى مَجَنّةَ [ (1) ] ثُمّ قَالَ: ارْجِعُوا، لَا يُصْلِحُنَا إلّا عَامُ خِصْبٍ غَيْدَاقٍ، نَرْعَى فِيهِ الشّجَرَ وَنَشْرَبُ فِيهِ اللّبَنَ، وَإِنّ عَامَكُمْ هَذَا عَامُ جَدْبٍ، وَإِنّي رَاجِعٌ فَارْجِعُوا. فَسَمّى أَهْلُ مَكّةَ ذَلِكَ الْجَيْشَ جَيْشَ السّوِيقِ، يَقُولُونَ: خَرَجُوا يَشْرَبُونَ السّوِيقَ. وَكَانَ يَحْمِلُ لِوَاءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْظَمَ يَوْمَئِذٍ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ يُقَالُ لَهُ مَخْشِيّ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ الّذِي حَالَفَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمِهِ فِي غَزْوَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُولَى إلَى وَدّانَ فَقَالَ- وَالنّاسُ مُجْتَمِعُونَ فِي سُوقِهِمْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ- فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، لَقَدْ أُخْبِرْنَا أَنّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَمَا أَعْلَمُكُمْ إلّا أَهْلَ الْمَوْسِمِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليرفع ذلك إلى عدوّه من قريش: مَا أَخْرَجَنَا إلّا مَوْعِدُ أَبِي سُفْيَانَ وَقِتَالُ عَدُوّنَا، وَإِنْ شِئْت [ (2) ] مَعَ ذَلِكَ نَبَذْنَا إلَيْك وَإِلَى قَوْمِك الْعَهْدَ، ثُمّ جَالَدْنَاكُمْ قَبْلَ أَنْ نَبْرَحَ مِنْ مَنْزِلِنَا هَذَا. فَقَالَ الضّمْرِيّ: بَلْ، نَكُفّ أَيْدِيَنَا عَنْكُمْ وَنَتَمَسّكُ بِحِلْفِك. وَسَمِعَ بِذَلِكَ معبد ابن أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ فَانْطَلَقَ سَرِيعًا، وَكَانَ مُقِيمًا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ، وَقَدْ رَأَى أَهْلَ الْمَوْسِمِ وَرَأَى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعَ كَلَامَ مَخْشِيّ، فَانْطَلَقَ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَ بِخَبَرِ مَوْسِمِ بَدْرٍ. فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِكَثْرَةِ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ، وَأَنّهُمْ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ، وَمَا سَمِعَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلضّمْرِيّ، وَقَالَ: وافى محمّد فى ألفين من
أَصْحَابِهِ، وَأَقَامُوا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ حَتّى تَصَدّعَ أَهْلُ الْمَوْسِمِ. فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ لِأَبِي سُفْيَانَ: قَدْ وَاَللهِ نَهَيْتُك يَوْمَئِذٍ أَنْ تَعِدَ الْقَوْمَ، وقد اجترأوا عَلَيْنَا وَرَأَوْا أَنْ قَدْ أَخْلَفْنَاهُمْ، وَإِنّمَا خَلّفَنَا الضّعْفُ عَنْهُمْ. فَأَخَذُوا فِي الْكَيْدِ وَالنّفَقَةِ فِي قِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَجْلَبُوا مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ، وَجَمَعُوا الْأَمْوَالَ الْعِظَامَ، وَضَرَبُوا الْبَعْثَ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ، فَلَمْ يُتْرَكْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلّا أَنْ يَأْتِيَ بِمَا قَلّ أَوْ كَثُرَ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَقَلّ مِنْ أُوقِيّةٍ لِغَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. وَقَالَ مَعْبَدٌ: لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْت أَنْ قُلْت شِعْرًا: تَهْوَى عَلَى دِينِ [ (1) ] أَبِيهَا الْأَتْلَدِ [ (2) ] ... إذْ جَعَلَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ [ (3) ] مَوْعِدِ وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الْغَدِ ... إذْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتَيْ مُحَمّدِ وَعَجْوَةٍ مَوْضُوعَةٍ كالعَنْجَدِ [ (4) ] وَيَزْعُمُونَ أَنّ حُمّامًا [ (5) ] قَالَهَا. وَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [ (6) ] الْآيَةَ، يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ- قَالَ الْوَاقِدِيّ: أَنْشَدَنِيهَا مَشْيَخَةُ آلِ كَعْبٍ وَأَصْحَابُنَا جَمِيعًا: وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ بَدْرًا فَلَمْ نَجِدْ ... لِمَوْعِدِهِ صِدْقًا وَمَا كَانَ وَافِيَا فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتنَا فَلَقِيتنَا ... رَجَعْت ذَمِيمًا وَافْتَقَدْت الْمَوَالِيَا [ (7) ]
تَرَكْنَا بِهَا أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنِهِ ... وَعَمْرًا أَبَا جَهْلٍ تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللهِ أُفّ لِدِينِكُمْ ... وَأَمْرُكُمْ السّيّئُ [ (1) ] الّذِي كَانَ غَاوِيَا وَإِنّي وَإِنْ عَنّفْتُمُونِي [ (2) ] لَقَائِلٌ ... فِدًى لِرَسُولِ اللهِ أَهْلِي وَمَا لِيَا أَطَعْنَا فَلَمْ نَعْدِلْ سِوَاهُ بِغَيْرِهِ ... شِهَابًا لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللّيْلِ هَادِيَا وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ- ثَبَتَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ وَابْنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُمَا: أَقَمْنَا عَلَى الرّسّ النّزُوعِ [ (3) ] ثَمَانِيَا ... بِأَرْعَنَ [ (4) ] جَرّارٍ عَرِيضِ الْمَبَارِكِ بِكُلّ كُمَيْتٍ جَوْزُهُ [ (5) ] نِصْفُ خَلْقِهِ ... وَأُدْمٍ [ (6) ] طُوّالٍ مُشْرِفَاتِ الْحَوَارِكِ [ (7) ] تَرَى الْعَرْفَجَ [ (8) ] الْعَامِيّ تُبْدَى أُصُولَهُ ... مَنَاسِمُ [ (9) ] أَخْفَافِ الْمَطِيّ الرّوَاتِك [ (10) ] إذَا هَبَطَتْ خَوْرَاتٍ [ (11) ] مِنْ رَمْلِ عَالِجٍ [ (12) ] ... فَقُولَا لَهَا لَيْسَ الطّرِيقُ هُنَالِكِ ذَرُوا فَلَجَاتِ [ (13) ] الشّامِ قَدْ حَالَ دُونَهَا ... ضِرَابٌ كأفواه المخاض الأوارك [ (14) ]
سرية ابن عتيك إلى أبى رافع
بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبّهِمْ ... وَأَنْصَارِ حَقّ أُيّدُوا بِمَلَائِكِ فَإِنْ نَلْقَ فِي تَطْوَافِنَا وَالْتِمَاسِنَا ... فُرَاتَ بْنَ حَيّانٍ يَكُنْ رَهْنَ هَالِكِ وَإِنْ نَلْقَ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ بَعْدَهُ ... نَزِدْ فِي سَوَادِ وَجْهِهِ لَوْنَ حَالِكِ [ (1) ] فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ [ (2) ] . هَكَذَا كَانَ. سَرِيّةُ ابْنِ عَتِيكٍ إلَى أَبِي رَافِعٍ خَرَجُوا لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ فِي السّحَرِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجّةِ، عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا، وَغَابُوا عَشْرَةَ أَيّامٍ. حَدّثَنِي أَبُو أَيّوبَ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ حَتّى أَتَيْنَا خَيْبَرَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَتْ أُمّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَتِيكٍ بِخَيْبَرَ يَهُودِيّةً أَرْضَعَتْهُ، وَقَدْ بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ نَفَرٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيّ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ. قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إلَى خَيْبَرَ، وَبَعَثَ عَبْدُ اللهِ إلَى أُمّهِ فَأَعْلَمَهَا بِمَكَانِهِ، فَخَرَجَتْ إلَيْنَا بِجِرَابٍ مَمْلُوءٍ تَمْرًا كَبِيسًا وَخُبْزًا، فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثُمّ قَالَ لَهَا: يَا أُمّاهُ، إنّا قَدْ أَمْسَيْنَا، [ (3) ] بَيّتِينَا عِنْدَك فَأَدْخِلِينَا خَيْبَرَ. فَقَالَتْ أُمّهُ: كَيْفَ تُطِيقُ خَيْبَرَ وَفِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ؟ وَمَنْ تُرِيدُ فِيهَا؟ قَالَ: أَبَا رَافِعٍ. فَقَالَتْ: لا تقدر عليه.
قَالَ: وَاَللهِ لَأَقْتُلَنهُ أَوْ لَأُقْتَلَن دُونَهُ قَبْلَ ذلك. قالت: فادخلوا علىّ ليلا. فدخلوا عَلَيْهَا فَلَمّا نَامَ أَهْلُ خَيْبَرَ، وَقَدْ قَالَتْ لَهُمْ: اُدْخُلُوا فِي خَمَرِ [ (1) ] النّاسِ، فَإِذَا هَدَأَتْ الرّجْلُ فَاكْمُنُوا! فَفَعَلُوا وَدَخَلُوا عَلَيْهَا ثُمّ قَالَتْ: إنّ الْيَهُودَ لَا تُغْلِقُ عَلَيْهَا أَبْوَابَهَا فَرَقًا أَنْ يَطْرُقَهَا ضَيْفٌ، فَيُصْبِحُ أَحَدُهُمْ بِالْفِنَاءِ وَلَمْ يُضَفْ، فَيَجِدُ الْبَابَ مَفْتُوحًا فَيَدْخُلُ فَيَتَعَشّى. فَلَمّا هَدَأَتْ الرّجْلُ قَالَتْ: انْطَلِقُوا حَتّى تَسْتَفْتِحُوا عَلَى أَبِي رَافِعٍ فَقُولُوا «إنّا جِئْنَا لِأَبِي رَافِعٍ بِهَدِيّةٍ» فَإِنّهُمْ سَيَفْتَحُونَ لَكُمْ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمّ خَرَجُوا لَا يَمُرّونَ بِبَابٍ مِنْ بُيُوتِ خَيْبَرَ إلّا أَغْلَقُوهُ حَتّى أَغْلَقُوا بُيُوتَ الْقَرْيَةِ كُلّهَا، حَتّى انْتَهَوْا إلَى عَجَلَةٍ [ (2) ] عِنْدَ قَصْرِ سَلّامٍ [ (3) ] . قَالَ: فَصَعِدْنَا وَقَدِمْنَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَتِيكٍ، لِأَنّهُ كَانَ يَرْطُنُ بِالْيَهُودِيّةِ، ثُمّ اسْتَفْتَحُوا عَلَى أَبِي رَافِعٍ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَتِيكٍ وَرَطَنَ بِالْيَهُودِيّةِ: جِئْت أَبَا رَافِعٍ بِهَدِيّةٍ. فَفَتَحَتْ لَهُ فَلَمّا رَأَتْ السّلَاحَ أَرَادَتْ تَصِيحُ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: وَازْدَحَمْنَا عَلَى الْبَابِ أَيّنَا يَبْدُرُ إلَيْهِ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَصِيحَ. قَالَ: فَأَشَرْت إلَيْهَا السّيْفَ. قَالَ: وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَسْبِقَنِي أَصْحَابِي إلَيْهِ. قَالَ: فَسَكَنَتْ [ (4) ] سَاعَةً. قَالَ: ثُمّ قُلْت لَهَا: أَيْنَ أَبُو رَافِعٍ؟ وَإِلّا ضَرَبْتُك بِالسّيْفِ! فَقَالَتْ: هُوَ ذَاكَ فِي الْبَيْتِ. فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَمَا عَرَفْنَاهُ إلّا بِبَيَاضِهِ كَأَنّهُ قُطْنَةٌ [ (5) ] مُلْقَاةٌ، فَعَلَوْنَاهُ بِأَسْيَافِنَا فَصَاحَتْ امْرَأَتُهُ، فَهَمّ بَعْضُنَا أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهَا ثُمّ ذَكَرْنَا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ قَتْلِ النساء. قال:
فَلَمّا انْتَهَيْنَا جَعَلَ سَمْكُ [ (1) ] الْبَيْتِ يَقْصُرُ عَلَيْنَا، وَجَعَلَتْ سُيُوفُنَا تَرْجِعُ. قَالَ ابْنُ أُنَيْسٍ: وَكُنْت رَجُلًا أَعْشَى لَا أُبْصِرُ بِاللّيْلِ إلّا بَصَرًا ضَعِيفًا. قَالَ: فَتَأَمّلْته كَأَنّهُ قَمَرٌ. قَالَ: فَأَتّكِئُ بِسَيْفِي عَلَى بَطْنِهِ حَتّى سَمِعْت خَشّهُ [ (2) ] فِي الْفِرَاشِ وَعَرَفْت أَنّهُ قَدْ قَضَى. قَالَ: وَجَعَلَ الْقَوْمُ يَضْرِبُونَهُ جَمِيعًا، ثُمّ نَزَلْنَا وَنَسِيَ أَبُو قَتَادَةَ قَوْسَهُ فَذَكَرَهَا بَعْدَ مَا نَزَلَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ دَعْ الْقَوْسَ. فَأَبَى فَرَجَعَ فَأَخَذَ قَوْسَهُ، وَانْفَكّتْ رِجْلُهُ فَاحْتَمَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَصَاحَتْ امْرَأَتُهُ، فَتَصَايَحَ أَهْلُ الدّارِ بَعْدَ مَا قُتِلَ. فَلَمْ يَفْتَحْ أَهْلُ الْبُيُوتِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَيْلًا طَوِيلًا، وَاخْتَبَأَ الْقَوْمُ فِي بَعْضِ مَنَاهِرِ [ (3) ] خَيْبَرَ. وَأَقْبَلَتْ الْيَهُودُ وَأَقْبَلَ الْحَارِثُ أَبُو زَيْنَبَ، فَخَرَجَتْ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ الْقَوْمُ الْآنَ. فَخَرَجَ الْحَارِثُ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ فِي آثَارِنَا، يَطْلُبُونَنَا بِالنّيرَانِ فِي شُعَلِ [ (4) ] السّعَفِ، وَلَرُبّمَا [ (5) ] وَطِئُوا فِي النّهْرِ، فَنَحْنُ فِي بَطْنِهِ وَهُمْ عَلَى ظَهْرِهِ فَلَا يَرَوْنَا، فَلَمّا أَوْعَبُوا فِي الطّلَبِ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا رجعوا إلَى امْرَأَتِهِ فَقَالُوا لَهَا: هَلْ تَعْرِفِينَ مِنْهُمْ أَحَدًا؟ قَالَتْ: سَمِعْت مِنْهُمْ كَلَامَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَتِيكٍ، فَإِنْ كَانَ فِي بِلَادِنَا هَذِهِ فَهُوَ مَعَهُمْ. فَكُرّوا الطّلَبَ الثّانِيَةَ، وَقَالَ الْقَوْمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: لَوْ أَنّ بَعْضَنَا أَتَاهُمْ فَنَظَرَ هَلْ مَاتَ الرّجُلُ أَمْ لَا. فَخَرَجَ الْأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيّ حَتّى دَخَلَ مَعَ الْقَوْمِ وَتَشَبّهَ بِهِمْ، فَجَعَلَ فِي يَدِهِ شُعْلَةً كَشُعَلِهِمْ حَتّى كَرّ الْقَوْمُ الثّانِيَةَ إلَى الْقَصْرِ وَكَرّ مَعَهُمْ، ويجد الدار قد
شُحِنَتْ [ (1) ] . قَالَ: فَأَقْبَلُوا جَمِيعًا يَنْظُرُونَ إلَى أَبِي رَافِعٍ مَا فَعَلَ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ مَعَهَا شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ ثُمّ أَحْنَتْ عَلَيْهِ تَنْظُرُ أَحَيّ أَمْ مَيّتٌ هُوَ، فَقَالَتْ: فَاظَ [ (2) ] وَإِلَهِ مُوسَى! قَالَ: ثُمّ كَرِهْت أَنْ أَرْجِعَ إلّا بِأَمْرٍ بَيّنٍ. قَالَ: فَدَخَلْت الثّانِيَةَ مَعَهُمْ، فَإِذَا الرّجُلُ لَا يَتَحَرّكُ مِنْهُ عِرْقٌ. قَالَ: فَخَرَجَتْ الْيَهُودُ فِي صَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ: وَأَخَذُوا فِي جَهَازِهِ يَدْفِنُونَهُ. قَالَ: وَخَرَجْت مَعَهُمْ وَقَدْ أَبْطَأْت عَلَى أَصْحَابِي بَعْضَ الْإِبْطَاءِ. قَالَ: فَانْحَدَرْت عَلَيْهِمْ فِي النّهْرِ فَخَبّرْتهمْ، فَمَكَثْنَا فِي مَكَانِنَا يَوْمَيْنِ حَتّى سَكَنَ عَنّا الطّلَبُ، ثُمّ خَرَجْنَا مُقْبِلِينَ إلَى الْمَدِينَةِ، كُلّنَا يَدّعِي قَتْلَهُ، فَقَدِمْنَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمّا رَآنَا قَالَ: أَفْلَحَتْ الْوُجُوهُ! فَقُلْنَا أَفْلَحَ وَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: أَقَتَلْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَكُلّنَا يَدّعِي قَتْلَهُ. قَالَ: عَجّلُوا عَلَيّ بِأَسْيَافِكُمْ. فَأَتَيْنَا بِأَسْيَافِنَا ثُمّ قَالَ: هَذَا قَتَلَهُ، هَذَا أَثَرُ الطّعَامِ فِي سَيْفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ أَجْلَبَ فِي غَطَفَانَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ الْجُعْلَ الْعَظِيمَ لِحَرْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ هَؤُلَاءِ النّفَرَ. فَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ قَالَ: حَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ [ (3) ] قَالَ: لَمّا انْتَهَوْا إلَى أَبِي رَافِعٍ تَشَاجَرُوا فِي قَتْلِهِ. قَالَ: فَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ. وَكَانَ رَجُلًا أَعْشَى فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟ قَالُوا: تَرَى بَيَاضَهُ كَأَنّهُ قَمَرٌ. قَالَ: قَدْ رَأَيْت. قَالَ: وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَقَامَ النّفَرُ مَعَ الْمَرْأَةِ يَفْرُقُونَ أن تصيح، قد شهروا سيوفهم عليها،
غزوة ذات الرقاع
وَدَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَضَرَبَ بِالسّيْفِ، فرجعت السّيْفُ عَلَيْهِ لِقِصَرِ السّمْكِ فَاتّكَأَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ خَمْرًا حَتّى سَمِعَ خَشّ السّيْفِ وَهُوَ فِي الْفِرَاشِ. وَيُقَالُ كَانَتْ السّرِيّةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتّ. غَزْوَةُ ذَاتِ الرّقَاعِ فَإِنّمَا سُمّيَتْ ذَاتِ الرّقَاعِ لِأَنّهُ جَبَلٌ فِيهِ بُقَعٌ حُمْرٌ وَسَوَادٌ وَبَيَاضٌ [ (1) ] خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ السّبْتِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. وَقَدِمَ صِرَارًا [ (2) ] يَوْمَ الْأَحَدِ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ وَغَابَ خَمْسَ عَشْرَةَ. فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مُقْسِمٍ، وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مُحَمّدِ بن أبى بكر، عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَقَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَدِيثِ، وَغَيْرُهُمْ قَدْ حَدّثَنِي بِهِ، قَالُوا: قَدِمَ قَادِمٌ بِجَلَبٍ لَهُ فَاشْتَرَى بِسُوقِ النّبَطِ، وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ جَلَبْت جَلَبَك؟ قَالَ: جِئْت مِنْ نَجْدٍ وَقَدْ رَأَيْت أَنْمَارًا وَثَعْلَبَةَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ جُمُوعًا، وَأَرَاكُمْ هَادِينَ [ (3) ] عَنْهُمْ. فَبَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَوْلُهُ، فَخَرَجَ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ قَائِلٌ: كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ أَوْ ثَمَانَمِائَةٍ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ، حَتّى سَلَكَ عَلَى الْمَضِيقِ [ (1) ] ثُمّ أَفْضَى إلَى وَادِي الشّقَرَةِ فَأَقَامَ بِهِ يَوْمًا، وَبَثّ السّرَايَا فَرَجَعُوا إلَيْهِ مَعَ اللّيْلِ، وَخَبّرُوهُ أَنّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَحَدًا وَقَدْ وَطِئُوا آثَارًا حَدِيثَةً. ثُمّ سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أصحابه حتى أبى مَحَالّهُمْ، فَيَجِدُونَ الْمَحَالّ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَقَدْ ذَهَبَتْ الْأَعْرَابُ إلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَهُمْ مُطِلّونَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ خَافَ النّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ قَرِيبٌ وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَارّونَ. وَخَافَتْ الْأَعْرَابُ أَلّا يَبْرَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى يَسْتَأْصِلَهُمْ. وَفِيهَا صَلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف. فحدّثنى ربيعة ابن عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: فَكَانَ أَوّلَ مَا صَلّى يَوْمَئِذٍ صَلَاةُ الْخَوْفِ، وَخَافَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِ وَهُمْ فِي الصّلَاةِ وَهُمْ صُفُوفٌ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوّاتٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلّيْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ وَطَائِفَةٌ خَلْفَهُ وَطَائِفَةٌ مُوَاجِهَةٌ الْعَدُوّ، فَصَلّى بِالطّائِفَةِ الّتِي خَلْفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمّ ثَبَتَ قَائِمًا فَصَلّوْا خَلْفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمّ سَلّمُوا، وَجَاءَتْ الطّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، وَالطّائِفَةُ الْأُولَى مُقْبِلَةٌ عَلَى الْعَدُوّ، فَلَمّا صَلّى بِهِمْ رَكْعَةً ثَبَتَ جَالِسًا حَتّى أَتَمّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً وسجدتين ثم سلّم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أَصَابَ فِي مَحَالّهِمْ نِسْوَةً، وَكَانَ فِي السّبْيِ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ كَانَ زَوْجُهَا يُحِبّهَا، فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ حَلَفَ زَوْجُهَا لَيَطْلُبَن مُحَمّدًا، وَلَا يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ حَتّى يُصِيبَ مُحَمّدًا، أَوْ يُهْرِيقَ فِيهِمْ دَمًا، أَوْ تَتَخَلّصُ صَاحِبَتَهُ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ عَشِيّةَ ذَاتِ رِيحٍ، فَنَزَلَ فِي شِعْبٍ اسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا اللّيْلَةَ؟ فَقَامَ رَجُلَانِ، عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ نَكْلَؤُك. وَجَعَلَتْ الرّيحُ لَا تَسْكُنُ، وَجَلَسَ الرّجُلَانِ عَلَى فَمِ الشّعْبِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَيّ اللّيْلِ أَحَبّ إلَيْك، أَنْ أَكْفِيَك أَوّلَهُ فَتَكْفِينِي آخِرَهُ؟ قَالَ: اكْفِنِي أَوّلَهُ. فَنَامَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وقام عبّاد بن بشر [ (1) ] يُصَلّي، وَأَقْبَلَ عَدُوّ اللهِ يَطْلُبُ غِرّةً وَقَدْ سَكَنَتْ الرّيحُ، فَلَمّا رَأَى سَوَادَهُ مِنْ قَرِيبٍ قَالَ: يَعْلَمُ اللهُ إنّ هَذَا لَرَبِيئَةُ [ (2) ] الْقَوْمِ! فَفَوّقَ لَهُ سَهْمًا فَوَضَعَهُ فِيهِ فَانْتَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، ثُمّ رَمَاهُ بِآخَرَ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَانْتَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، ثُمّ رَمَاهُ الثّالِثَ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَلَمّا غَلَبَ عَلَيْهِ الدّمُ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمّ قَالَ لِصَاحِبِهِ: اجْلِسْ فَقَدْ أَتَيْت! فَجَلَسَ عَمّارٌ، فَلَمّا رَأَى الْأَعْرَابِيّ أَنّ عَمّارًا قَدْ قَامَ عَلِمَ أَنّهُمْ قَدْ نَذَرُوا بِهِ. فَقَالَ عَمّارٌ: أَيْ أَخِي، مَا مَنَعَك أَنْ تُوقِظَنِي بِهِ فِي أَوّلِ سَهْمٍ رَمَى بِهِ؟ قَالَ: كُنْت فِي سُورَةٍ أَقْرَأهَا وَهِيَ سُورَةُ الْكَهْفِ، فَكَرِهْت أَنْ أَقْطَعَهَا حَتّى أَفْرُغَ مِنْهَا، وَلَوْلَا أَنّي خَشِيت أَنْ أُضَيّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْصَرَفْت وَلَوْ أُتِيَ عَلَى نَفْسِي. وَيُقَالُ: الْأَنْصَارِيّ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَأَثْبَتُهُمَا عِنْدَنَا عَمّارُ بْنُ ياسر.
فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: إنّا لَمَعَ النّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلّم إذا جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِفَرْخٍ طَائِرٍ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَأَقْبَلَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا حَتّى طَرَحَ نَفْسَهُ فِي يَدَيْ الّذِي أَخَذَ فَرْخَهُ. فَرَأَيْت النّاسَ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا الطّائِرِ؟ أَخَذْتُمْ فَرْخَهُ فَطَرَحَ نَفْسَهُ رَحْمَةً لِفَرْخِهِ! وَاَللهِ لَرَبّكُمْ أَرْحَمُ بِكُمْ مِنْ هَذَا الطّائِرِ بِفَرْخِهِ! قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فِي غَزْوَتِه. قَالَ جَابِرٌ: فَإِنّا لَفِي مُنْصَرَفِنَا أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا تَحْتَ ظِلّ شَجَرَةٍ فَقُلْت: هَلُمّ إلَى الظّلّ يَا رَسُولَ اللهِ. فَدَنَا إلَى الظّلّ فَاسْتَظَلّ، فَذَهَبْت لِأُقَرّبَ إلَيْهِ شَيْئًا، فَمَا وَجَدْت إلّا جَرْوًا مِنْ قِثّاءٍ فِي أَسْفَلِ الْغِرَارَةِ. قَالَ: فَكَسَرْته كَسْرًا ثُمّ قَرّبْته إلَيْهِ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟ فَقُلْنَا: شَيْءٌ فَضَلَ مِنْ زَادِ الْمَدِينَةِ. فَأَصَابَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جَهَرْنَا [ (1) ] صَاحِبًا لَنَا، يَرْعَى ظَهْرَنَا وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مُتَخَرّقٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا لَهُ غَيْرُ هَذَا؟ فَقُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ لَهُ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ فِي الْعَيْبَةِ. فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُذْ ثَوْبَيْك. فَأَخَذَ ثَوْبَيْهِ فَلَبِسَهُمَا ثُمّ أَدْبَرَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلَيْسَ هَذَا أَحْسَنَ؟ مَا لَهُ ضَرَبَ اللهُ عُنُقَهُ؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ الرّجُلُ فَقَالَ: فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي سَبِيلِ اللهِ. قَالَ جَابِرٌ: فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سبيل الله.
قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدّثُ عِنْدَنَا إلَى أَنْ جَاءَنَا عُلْبَةُ [ (1) ] بْنُ زَيْدٍ الْحَارِثِيّ بِثَلَاثِ بَيْضَاتٍ أَدَاحِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَجَدْت هَذِهِ الْبَيْضَاتِ فِي مَفْحَصِ نَعَامٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دُونَك يَا جَابِرُ، فَاعْمَلْ هَذِهِ الْبَيْضَاتِ! فَوَثَبْت فَعَمِلْتهنّ، ثُمّ جِئْت بِالْبَيْضِ فِي قَصْعَةٍ، وَجَعَلْت أَطْلُبُ خُبْزًا فَلَا أَجِدُهُ. قَالَ: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْضِ بِغَيْرِ خُبْزٍ. قَالَ جَابِرٌ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمْسَكَ يَدَهُ وَأَنَا أَظُنّ أَنّهُ قَدْ انْتَهَى إلَى حَاجَتِهِ، وَالْبَيْضُ فِي الْقَصْعَةِ كَمَا هُوَ. قَالَ: ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلَ مِنْهُ عَامّةُ أَصْحَابِنَا، ثُمّ رُحْنَا مُبَرّدِينَ. قَالَ جَابِرٌ: وَإِنّا لَنَسِيرُ إلَى أَنْ أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا لَك يا جابر؟ فقلت: أبى رَسُولَ اللهِ جَدّي [ (2) ] أَنْ يَكُونَ لِي بَعِيرُ سُوءٍ، وَقَدْ مَضَى النّاسُ وَتَرَكُونِي! قَالَ: فَأَنَاخَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرَهُ فَقَالَ: أَمَعَك مَاءٌ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. فَجِئْته بِقَعْبٍ مِنْ مَاءٍ، فَنَفَثَ فِيهِ ثُمّ نَضَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ وَعَلَى عَجُزِهِ، ثُمّ قَالَ: أَعْطِنِي عَصًا. فَأَعْطَيْته عَصًا مَعِي- أَوْ قَالَ قَطَعْت لَهُ عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ. قَالَ: ثُمّ نَخَسَهُ، ثُمّ قَرَعَهُ بِالْعَصَا، ثُمّ قَالَ: ارْكَبْ يَا جَابِرُ. قَالَ: فَرَكِبْت. قَالَ: فَخَرَجَ، وَاَلّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقّ، يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ [ (3) ] مُوَاهَقَةً مَا تَفُوتُهُ نَاقَتُهُ. قَالَ: وَجَعَلْت أَتَحَدّثُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم ثم قال:
يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَتَزَوّجْت؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: بِكْرًا أَمْ ثَيّبًا؟ فَقُلْت: ثَيّبًا. فَقَالَ: أَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُك! فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي وَأُمّي إنّ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ، وَتَزَوّجْت امْرَأَةً جَامِعَةً تَلُمّ شَعَثَهُنّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنّ. قَالَ: أَصَبْت. ثُمّ قَالَ: إنّا لَوْ قَدِمْنَا صِرَارًا أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَسَمِعَتْ بِنَا فَنَفّضَتْ نَمَارِقَهَا. قَالَ، قُلْت: وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا [ (1) ] نَمَارِقُ. قَالَ: أَمَا إنّهَا سَتَكُونُ، فَإِذَا قَدِمْت فَاعْمَلْ عَمَلًا كَيّسًا. قَالَ، قُلْت: أَفْعَلُ مَا اسْتَطَعْت. قَالَ: ثُمّ قَالَ: بِعْنِي جَمَلَك هَذَا يَا جَابِرُ. قُلْت: بَلْ هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: لَا، بَلْ بِعْنِيهِ. قَالَ: قُلْت نَعَمْ، سُمْنِي بِهِ. قَالَ: فَإِنّي آخُذُهُ بِدِرْهَمٍ. قَالَ قُلْت: تَغْبِنُنِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: لَا، لَعَمْرِي! قَالَ جَابِرٌ: فَمَا زَالَ يَزِيدُنِي دِرْهَمًا دِرْهَمًا حَتّى بَلَغَ بِهِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا- أُوقِيّةً- فَقَالَ: أَمَا رَضِيت؟ فَقُلْت: هُوَ لَك. فَقَالَ: فَظَهْرُهُ لَك حَتّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ. قَالَ: وَيُقَالُ إنّهُ قَالَ «آخُذُهُ مِنْك بِأُوقِيّةٍ وَظَهْرُهُ لَك» فَبَاعَهُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمّا قَدِمْنَا صِرَارًا أَمَرَ بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، فَأَقَامَ بِهِ يَوْمَهُ ثُمّ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ. قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْت لِلْمَرْأَةِ: قَدْ أَمَرَنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا كَيّسًا. قَالَتْ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدُونَك فَافْعَلْ. قَالَ: ثُمّ أَصْبَحْت فَأَخَذْت بِرَأْسِ الْجَمَلِ فَانْطَلَقْت حَتّى أَنَخْته عِنْدَ حُجْرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسْت حَتّى خَرَجَ، فَلَمّا خَرَجَ قَالَ: أَهَذَا الْجَمَلُ؟ قُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ الّذِي اشْتَرَيْت. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَقَالَ: اذْهَبْ فَأَعْطِهِ أُوقِيّةً، وَخُذْ بِرَأْسِ جَمَلِك يَا ابْنَ أَخِي فَهُوَ لَك. فَانْطَلَقْت مَعَ بِلَال فَقَالَ بِلَالٌ: أنت ابن
صَاحِبُ الشّعْبِ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. فَقَالَ: وَاَللهِ لَأُعْطِيَنك وَلَأَزِيدَنك. فَزَادَنِي قِيرَاطًا أَوْ قِيرَاطَيْنِ. قَالَ: فَمَا زَالَ ذَلِكَ [ (1) ] يُثْمِرُ وَيَزِيدُنَا اللهُ بِهِ: وَنَعْرِفُ مَوْضِعَهُ حَتّى أُصِيبَ هَا هُنَا قَرِيبًا عِنْدَكُمْ- يَعْنِي الْجَمَلَ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَطِيّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمّا انْصَرَفْنَا رَاجِعِينَ، فَكُنّا بِالشّقْرَةِ، قَالَ لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جَابِرُ، مَا فَعَلَ دَيْنُ أَبِيك؟ فَقُلْت: عَلَيْهِ انْتَظَرْت يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يُجَذّ نَخْلُهُ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذَا جَذَذْت فَأَحْضِرْنِي قَالَ، قُلْت: نَعَمْ. ثُمّ قَالَ: مَنْ صَاحِبُ دَيْنِ أَبِيك؟ فَقُلْت: أَبُو الشّحْمِ الْيَهُودِيّ، لَهُ عَلَى أَبِي سِقَةُ [ (2) ] تَمْرٍ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَتَى تَجُذّهَا؟ قُلْت: غَدًا. قَالَ: يَا جَابِرُ، فَإِذَا جَذَذْتهَا فَاعْزِلْ الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَتِهَا، وَأَلْوَانَ التّمْرِ عَلَى حِدَتِهَا. قَالَ: فَفَعَلْت، فَجَعَلْت الصّيْحَانِيّ عَلَى حِدَةٍ، وَأُمّهَاتَ الْجَرَادَيْنِ عَلَى حِدَةٍ، وَالْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمّ عَمَدْت إلَى جُمّاعٍ مِنْ التّمْرِ مِثْلِ نُخْبَةٍ [ (3) ] وَقَرْنٍ وَشُقْحَةٍ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَنْوَاعِ، وَهُوَ أَقَلّ التّمْرِ، فَجَعَلْته حَبْلًا [ (4) ] وَاحِدًا، ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَبّرْته، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عِلْيَةُ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوا الحائط وحضر أبو الشّحم. قال:
غزوة دومة الجندل
فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى التّمْرِ مُصَنّفًا قَالَ: اللهُمّ بَارِكْ لَهُ! ثُمّ انْتَهَى إلَى الْعَجْوَةِ فَمَسّهَا بِيَدِهِ وَأَصْنَافَ التّمْرِ، ثُمّ جَلَسَ وَسَطَهَا ثُمّ قَالَ: اُدْعُ غَرِيمَك. فَجَاءَ أَبُو الشّحْمِ فَقَالَ: اكْتَلْ! فَاكْتَالَ حَقّهُ كُلّهُ مِنْ حَبْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْعَجْوَةُ، وَبَقِيّةُ التّمْرِ كَمَا هُوَ. ثُمّ قَالَ: يَا جَابِرُ، هَلْ بَقِيَ عَلَى أَبِيك شَيْءٌ؟ قَالَ، قُلْت: لَا. قَالَ: وَبَقِيَ سَائِرُ التّمْرِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ دَهْرًا وَبِعْنَا مِنْهُ حَتّى أَدْرَكَتْ الثّمَرَةُ مِنْ قَابِلَ، وَلَقَدْ كُنْت أَقُولُ: لَوْ بِعْت أَصْلَهَا مَا بَلَغَتْ مَا كَانَ عَلَى أَبِي مِنْ الدّيْنِ، فَقَضَى اللهُ مَا كَانَ عَلَى أَبِي مِنْ الدّيْنِ. فَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقُولُ: مَا فَعَلَ دَيْنُ أَبِيك؟ فَقُلْت: قَدْ قَضَاهُ اللهُ عَزّ وَجَلّ. فَقَالَ: اللهُمّ اغْفِرْ لِجَابِرٍ! فَاسْتَغْفَرَ لِي فِي لَيْلَةٍ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرّةً. حَدّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: اسْتَخْلَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. غِزِوِة دُومَةِ الْجَنْدَلِ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَقَدِمَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ، فَكِلَاهُمَا قَدْ حَدّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَغَيْرُهُمَا قَدْ حَدّثَنَا أيضا.
قَالُوا: أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْنُوَ إلَى أَدْنَى الشّامِ، وَقِيلَ لَهُ إنّهَا طَرَفٌ مِنْ أَفْوَاهِ الشّامِ، فَلَوْ دَنَوْت لَهَا كَانَ ذَلِكَ مِمّا يُفْزِعُ قَيْصَرَ. وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ أَنّ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ جَمْعًا كَثِيرًا، وَأَنّهُمْ يَظْلِمُونَ مَنْ مَرّ بِهِمْ مِنْ الضّافِطَةِ [ (1) ] ، وَكَانَ بِهَا سُوقٌ عَظِيمٌ وَتُجّارٌ، وَضَوَى إلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا مِنْ الْمَدِينَةِ. فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ، فَخَرَجَ فِي ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويمكن النّهَارَ، وَمَعَهُ دَلِيلٌ لَهُ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ مَذْكُورٌ، هَادٍ خِرّيتٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغِذّا لِلسّيْرِ، وَنَكَبَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَلَمّا دَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُومَةِ الْجَنْدَلِ- وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا يَوْمٌ أَوْ لَيْلَةٌ سَيْرَ الرّاكِبِ الْمُعْتِقِ [ (2) ]- قَالَ لَهُ الدّلِيلُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ سَوَائِمَهُمْ تَرْعَى فَأَقِمْ لِي حَتّى أَطّلِعَ لَك. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَخَرَجَ الْعُذْرِيّ طَلِيعَةً حَتّى وَجَدَ آثَارَ النّعَمِ وَالشّاءِ وَهُمْ مُغَرّبُونَ، ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ وَقَدْ عَرَفَ مَوَاضِعَهُمْ، فَسَارَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى هَجَمَ عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَرِعَائِهِمْ، فَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصَابَ، وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ فِي كُلّ وَجْهٍ. وَجَاءَ الْخَبَرُ أَهْلَ دُومَةِ الْجَنْدَلِ فَتَفَرّقُوا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ، فَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، فَأَقَامَ بِهَا أَيّامًا وَبَثّ السّرَايَا وَفَرّقَهَا حَتّى غَابُوا عَنْهُ يَوْمًا ثُمّ رَجَعُوا إلَيْهِ، وَلَمْ يُصَادِفُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، وَتَرْجِعُ السّرِيّةُ بِالْقِطْعَةِ مِنْ الْإِبِلِ،
غزوة المر يسيع [ (1) ]
إلّا أَنّ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أَخَذَ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَتَى بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: هَرَبُوا أَمْسِ حَيْثُ سَمِعُوا بِأَنّك قَدْ أَخَذْت نَعَمَهُمْ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ أَيّامًا فَأَسْلَمَ، فَرَجَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سباع بن عرفطة. غِزوة المر يسيع [ (1) ] فِي سَنَةِ خَمْسٍ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَعْبَانَ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ لِهِلَالِ رَمَضَانَ وَغَابَ شَهْرًا إلّا لَيْلَتَيْنِ. حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جعفر، وابن أبي سبرة، ومحمد بن صالح، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَخَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ وَعَائِذُ بْنُ يَحْيَى، وَعُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيّ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ حَدّثَنِي قَالُوا: إنّ بَلْمُصْطَلِقَ مِنْ خُزَاعَةَ كَانُوا يَنْزِلُونَ نَاحِيَةَ الْفُرُعِ، وَهُمْ حُلَفَاءُ فِي بنى مدلج، وَكَانَ رَأْسُهُمْ وَسَيّدُهُمْ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ، وَكَانَ قَدْ سَارَ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَرَبِ، فَدَعَاهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْتَاعُوا خَيْلًا وَسِلَاحًا وَتَهَيّئُوا لِلْمَسِيرِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُعِلَتْ الرّكْبَانُ تَقَدّمَ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ فَيُخْبِرُونَ بِمَسِيرِهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيّ يَعْلَمُ عِلْمَ ذَلِكَ، وَاسْتَأْذَنَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ فَأَذِنَ له، فخرج حتى ورد
عَلَيْهِمْ مَاءَهُمْ، فَوَجَدَ قَوْمًا مَغْرُورِينَ قَدْ تَأَلّبُوا وَجَمَعُوا الْجُمُوعَ، فَقَالُوا: مَنْ الرّجُلُ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْكُمْ، قَدِمْت لِمَا بَلَغَنِي عَنْ جَمْعِكُمْ لِهَذَا الرّجُلِ، فَأَسِيرُ فِي قَوْمِي وَمَنْ أَطَاعَنِي فَتَكُونُ يَدُنَا وَاحِدَةً حَتّى نَسْتَأْصِلَهُ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ: فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، فَعَجّلْ عَلَيْنَا. قَالَ بُرَيْدَةُ: أَرْكَبُ الْآنَ فَآتِيكُمْ بِجَمْعٍ كَثِيفٍ مِنْ قَوْمِي وَمَنْ أَطَاعَنِي. فَسَرّوا بِذَلِكَ مِنْهُ، وَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْقَوْمِ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ عَدُوّهِمْ فَأَسْرَعَ النّاسُ لِلْخُرُوجِ، وَقَادُوا الْخُيُولَ وَهِيَ ثَلَاثُونَ فَرَسًا، فِي الْمُهَاجِرِينَ مِنْهَا عَشَرَةٌ وَفِي الْأَنْصَارِ عِشْرُونَ، وَلِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسَانِ، وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَام فَارِسًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَالزّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو. وَفِي الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، وَقَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَمَعْنُ بْنُ عَدِيّ، وَسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَزْمَةَ [ (1) ] ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَأُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، وَالْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَزِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَمُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ. قَالُوا: وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا فِي غَزَاةٍ قَطّ مِثْلِهَا، لَيْسَ بِهِمْ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ إلّا أَنْ يُصِيبُوا مِنْ عَرَضِ الدّنْيَا، وَقَرُبَ عَلَيْهِمْ السّفَرُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى سَلَكَ عَلَى الْحَلَائِقِ [ (2) ] فَنَزَلَ بِهَا. فَأُتِيَ يَوْمَئِذٍ بِرَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَسَلّمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم
أَيْنَ أَهْلُك؟ قَالَ: بِالرّوْحَاءِ. قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: إيّاكَ جِئْت لِأُومِنَ بِك وَأَشْهَدُ أَنّ مَا جِئْت بِهِ الْحَقّ، وَأُقَاتِلَ مَعَك عَدُوّك قال له رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَاك لِلْإِسْلَامِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيّ الْأَعْمَالِ أَحَبّ إلَى اللهِ؟ قَالَ: الصّلَاةُ فِي أَوّلِ وَقْتِهَا. قَالَ: فَكَانَ الرّجُلُ بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلّي حِينَ تَزِيغُ الشّمْسُ، وَحِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَحِينَ تَغْرُب الشّمْسُ، لَا يُؤَخّرُ الصّلَاةَ إلَى الْوَقْتِ الْآخَرِ. قَالَ: فَلَمّا نَزَلَ بِبَقْعَاءَ [ (1) ] أَصَابَ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ فَقَالُوا لَهُ: مَا وَرَاءَك؟ أَيْنَ النّاسُ؟ قَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ. فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَتَصْدُقَن أَوْ لَأَضْرِبَن عُنُقَك. قَالَ: فَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَلْمُصْطَلِقَ، تَرَكْت الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ قَدْ جَمَعَ لَكُمْ الْجُمُوعَ، وَتَجَلّبَ إلَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَبَعَثَنِي إلَيْكُمْ لِآتِيَهُ بِخَبَرِكُمْ وَهَلْ تَحَرّكْتُمْ مِنْ الْمَدِينَةِ. فَأَتَى عُمَرُ بِذَلِكَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْإِسْلَامِ وَعَرَضَهُ عَلَيْهِ، فَأَبَى وَقَالَ: لَسْت بِمُتّبِعٍ دِينَكُمْ حَتّى أَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ قَوْمِي، إنْ دَخَلُوا فِي دِينِكُمْ كُنْت كَأَحَدِهِمْ، وَإِنْ ثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ فَأَنَا رَجُلٌ مِنْهُمْ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَضْرِبُ عُنُقَهُ! فَقَدّمَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عُنُقَه، فَذَهَبَ الْخَبَرُ إلَى بَلْمُصْطَلِقَ. فَكَانَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَقُولُ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتْ: جَاءَنَا خَبَرُهُ وَمَقْتَلُهُ وَمَسِيرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْنَا النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم فسئ [ (2) ] أَبِي وَمَنْ مَعَهُ وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا، وَتَفَرّقَ عَنْهُمْ مَنْ كَانَ قَدْ اجْتَمَعَ إلَيْهِمْ مِنْ أَفْنَاءِ الْعَرَبِ، فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ سِوَاهُمْ.
ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُرَيْسِيعِ وَهُوَ الْمَاءُ فَنَزَلَهُ، وَضُرِبَ [ (1) ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبة مِنْ أَدَمٍ، وَمَعَهُ مِنْ نِسَائِهِ عَائِشَةُ وَأُمّ سَلَمَةَ. وَقَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى الْمَاءِ وَأَعَدّوا وَتَهَيّئُوا لِلْقِتَالِ، فَصَفّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَدَفَعَ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَبِي بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَايَةَ الْأَنْصَارِ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَيُقَالُ كَانَ مَعَ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ. ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَنَادَى فِي النّاسِ: قُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللهُ، تَمْنَعُوا بِهَا أَنَفْسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ. فَفَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَبَوْا. فَكَانَ أَوّلَ مَنْ رَمَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ، فَرَمَى الْمُسْلِمُونَ سَاعَةً بِالنّبْلِ، ثُمّ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْمِلُوا، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَمَا أَفْلَتَ مِنْهُمْ إنْسَانٌ، وَقُتِلَ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ وَأُسِرَ سَائِرُهُمْ. وَسَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرّجَالَ وَالنّسَاءَ وَالذّرّيّةَ، [وَغُنِمَتْ] النّعَمُ وَالشّاءُ، وَمَا قُتِلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلّا رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ يُحَدّثُ قَالَ: حَمَلَ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ صَفْوَانُ ذُو الشّقْرِ، فَلَمْ تَكُنْ لِي بِأُهْبَةٍ حَتّى شَدَدْت عَلَيْهِ وَكَانَ الْفَتْحُ. وَكَانَ شَعَارُهُمْ: يَا مَنْصُورُ، أَمِتْ أَمِتْ! وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحَدّثُ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارّونَ، وَنَعَمُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيّهُمْ. وَالْحَدِيثُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. وَكَانَ هَاشِمُ بْنُ ضُبَابَةَ [ (2) ] قَدْ خَرَجَ فِي طَلَبِ العدوّ، فرجع فى ريح
شَدِيدَةٍ وَعَجَاجٍ [ (1) ] ، فَتَلْقَى رَجُلًا مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ يُقَالُ لَهُ أَوْسٌ، فَظَنّ أَنّهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَعَلِمَ بَعْدُ أَنّهُ مُسْلِمٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُخْرَجَ دِيَتُهُ. وَيُقَالُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو ابْنِ عَوْفٍ، فَقَدِمَ أَخُوهُ مِقْيَسٌ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ لَهُ بِالدّيَةِ فَقَبَضَهَا، ثُمّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، ثُمّ خَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ مُرْتَدّا وَهُوَ يَقُولُ: شَفَى النّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... يُضَرّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الأخادع [ (2) ] ثأرت به قهرا وَحَمّلْت عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النّجّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ [ (3) ] حَلَلْت بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْت ثُؤْرَتِي ... وَكُنْت إلَى الْأَوْثَانِ أَوّلَ رَاجِعِ سَمِعْت عَبْدَ الرّحْمَنِ يَقُولُ: أَنْشَدَنِيهَا أَبِي. فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ حَتّى قَتَلَهُ نُمَيْلَةُ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْأَبْيَضِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّتِهِ، وَهِيَ مَوْلَاةُ جُوَيْرِيَةَ قَالَتْ: سَمِعْت جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ تَقُولُ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عَلَى الْمُرَيْسِيعِ فَأَسْمَعُ أَبِي يَقُولُ: أَتَانَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ. قَالَتْ: فَكُنْت أَرَى مِنْ النّاسِ وَالْخَيْلِ مَا لَا أَصِفُ مِنْ الْكَثْرَةِ، فَلَمّا أَنْ أَسْلَمْت وَتَزَوّجَنِي رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَجَعْنَا جَعَلْت أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسُوا كَمَا كُنْت أرى، فعلمت أنه رغب من
اللهِ تَعَالَى يُلْقِيهِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ. فَكَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ يَقُولُ: لَقَدْ كُنّا نَرَى رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، مَا كُنّا نَرَاهُمْ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفَضِيلِ، قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ مَسْعُودِ بْنُ هُنَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقْعَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا مَسْعُودُ؟. فَقُلْت: جِئْت لِأَنْ أُسَلّمَ عَلَيْك وَقَدْ أَعْتَقَنِي أَبُو تَمِيمٍ. قَالَ: بَارَكَ اللهُ عَلَيْك، أَيْنَ تَرَكْت أَهْلَك؟ قَالَ: تَرَكَتْهُمْ بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالْخَذَوَاتِ [ (1) ] ، وَالنّاسُ صَالِحُونَ، وَقَدْ رَغِبَ النّاسُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَثُرَ حَوْلَنَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِلّهِ الْحَمْدُ الّذِي هَدَاهُمْ! ثُمّ قَالَ مَسْعُودٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ رَأَيْتنِي أَمْسِ وَلَقِيت رَجُلًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَدَعَوْته إلَى الْإِسْلَامِ فَرَغّبْته فِيهِ فَأَسْلَمَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَإِسْلَامُهُ عَلَى يَدَيْك كَانَ خَيْرًا لَك مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ. ثُمّ قَالَ: كُنْ مَعَنَا حَتّى نَلْقَى عَدُوّنَا، فَإِنّي أَرْجُو أَنْ يُنَفّلَنَا اللهُ أَمْوَالَهُمْ. قَالَ: فَسِرْت مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غَنّمَهُ اللهُ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ، فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطْعَةً مِنْ إبِلٍ وَقِطْعَةً مِنْ غَنَمٍ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أَقْدِرُ أَنْ أَسُوقَ الْإِبِلَ وَمَعِي الْغَنَمُ؟ اجْعَلْهَا غَنَمًا كُلّهَا أَوْ إبِلًا كُلّهَا. فَتَبَسّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قَالَ: أَيّ ذَلِكَ أَحَبّ إلَيْك؟ قُلْت: تَجْعَلُهَا إبِلًا. قَالَ: أَعْطِهِ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ. قَالَ: فَأَعْطَيْتهَا. فَيُقَالُ لَهُ: قَارَعَهُ مِنْ الْمَالِ أَوْ مِنْ الْخُمُسِ؟ قَالَ: وَاَللهِ مَا أَدْرِي، فَرَجَعْت إلى أهلى، فو الله مَا زِلْنَا فِي خَيْرٍ مِنْهَا إلَى يَوْمِنَا هَذَا. فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عبد الله
ابن أَبِي جَهْمٍ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَسْرَى فَكُتِفُوا وَجُعِلُوا نَاحِيَةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحَصِيبِ [ (1) ] . وَأَمَرَ بِمَا وُجِدَ فِي رِحَالِهِمْ مِنْ رِثّةِ [الْمَتَاعِ] [ (2) ] وَالسّلَاحِ فَجُمِعَ، وَعُمِدَ إلَى النّعَمِ وَالشّاءِ فَسِيقَ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ شُقْرَانَ مَوْلَاهُ، وَجَمَعَ الذّرّيّةَ نَاحِيَةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَقْسَمِ- مَقْسَمِ الْخُمُسِ- وَسُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ مِنْ جَمِيعِ الْمَغْنَمِ، فَكَانَ يَلِيهِ مَحْمِيَةُ بْنُ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ. وَحَدّثَنِي محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَا: جَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على خُمُسِ الْمُسْلِمِينَ مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ. قَالَا: وَكَانَ يَجْمَعُ الْأَخْمَاسَ وَكَانَتْ الصّدَقَاتُ عَلَى حِدَتِهَا، أهل الْفَيْءِ بِمَعْزِلٍ عَنْ الصّدَقَةِ، وَأَهْلُ الصّدَقَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ الْفَيْءِ، وَكَانَ يُعْطِي مِنْ الصّدَقَةِ الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ وَالضّعِيفَ. فَإِذَا احْتَلَمَ الْيَتِيمُ نُقِلَ إلَى الْفَيْءِ وَأُخْرِجَ مِنْ الصّدَقَةِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَإِنْ كَرِهَ الْجِهَادَ وَأَبَاهُ لَمْ يُعْطَ مِنْ الصّدَقَةِ شَيْئًا، وَخَلّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكْسِبَ لِنَفْسِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ سَائِلًا، فَأَتَاهُ رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ مِنْ الْخُمُسِ فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهُ، وَلَا حَظّ فِيهَا لِغَنِيّ وَلَا لِقَوِيّ مُكْتَسِبٍ. قَالُوا: فَاقْتُسِمَ السّبْيُ وَفُرّقَ، فَصَارَ فِي أَيْدِي الرّجَالِ، وَقُسِمَتْ الرّثّةُ وَقُسِمَ النّعَمُ وَالشّاءُ، وَعُدِلَتْ الْجَزُورُ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ وَبِيعَتْ الرّثّةُ فِيمَنْ يُرِيدُ، وَأُسْهِمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ، وَلِلرّاجِلِ سَهْمٌ. وَكَانَتْ الْإِبِلُ أَلْفَيْ بَعِيرٍ وَخَمْسَةَ آلَافِ شَاةٍ، وَكَانَ السّبْيُ مِائَتَيْ أَهْلِ بَيْتٍ. فَصَارَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قيس وابن عمّ
لَهُ، فَكَاتَبَهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ ذَهَبٍ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ جَارِيَةً حُلْوَةً، لَا يَكَادُ يَرَاهَا أَحَدٌ إلّا ذَهَبَتْ بِنَفْسِهِ، فَبَيْنَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدِي وَنَحْنُ عَلَى الْمَاءِ إذْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ جُوَيْرِيَةُ تَسْأَلُهُ فى كتابتها. قالت عائشة: فو الله مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا فَكَرِهْت دُخُولَهَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَرَفْت أَنّهُ سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ الّذِي رَأَيْت، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ أَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأنا جويرية بنت الحارث ابن أَبِي ضِرَارٍ سَيّدِ قَوْمِهِ، أَصَابَنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا قَدْ عَلِمْت، وَوَقَعْت فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ وَابْنِ عَمّ لَهُ، فَتَخَلّصَنِي مِنْ ابْنِ عَمّهِ بِنَخَلَاتٍ لَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَكَاتَبَنِي ثَابِتٌ عَلَى مَا لَا طَاقَةَ لِي بِهِ وَلَا يَدَانِ، وَمَا أَكْرَهَنِي عَلَى ذَلِكَ إلّا أَنّي رَجَوْتُك صَلّى اللهُ عَلَيْك فَأَعِنّي فى مكاتبى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو خير مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أُؤَدّي عَنْك كِتَابَتَك وَأَتَزَوّجُك. قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ فَعَلْت! فَأَرْسَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثَابِتٍ فَطَلَبَهَا مِنْهُ، فَقَالَ ثَابِتٌ: هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي وَأُمّي. فَأَدّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابَتِهَا، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا. وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلى الناس، ورجال بنى المصطلق قَدْ اُقْتُسِمُوا وَمُلِكُوا وَوُطِئَ نِسَاؤُهُمْ، فَقَالُوا: أَصْهَارُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَأَعْتَقُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ السّبْيِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَأَعْتَقَ مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ بِتَزْوِيجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيّاهَا، فَلَا أَعْلَمُ امْرَأَةً أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا. فَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَتْ جُوَيْرِيَةُ: رَأَيْت
قَبْلَ قُدُومِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ كَأَنّ الْقَمَرَ يَسِيرُ مِنْ يَثْرِبَ حَتّى وَقَعَ فِي حِجْرِي، فَكَرِهْت أَنْ أُخْبِرَهَا أَحَدًا مِنْ النّاسِ، حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا سُبِينَا رَجَوْت الرّؤْيَا، فَلَمّا أَعْتَقَنِي وَتَزَوّجَنِي وَاَللهِ مَا كَلّمْته فِي قَوْمِي حَتّى كَانَ الْمُسْلِمُونَ هُمْ الّذِينَ أَرْسَلُوهُمْ، وَمَا شَعَرْت إلّا بِجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ عَمّي تُخْبِرُنِي الْخَبَرَ، فَحَمِدْت اللهَ عَزّ وَجَل. وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَ كُلّ أَسِيرٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَيُقَالُ جَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَ أَرْبَعِينَ مِنْ قَوْمِهَا. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، قَالَ: كَانَ السّبْيُ مِنْهُمْ مَنْ مَنّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ اُفْتُدِيَ، وَذَلِك بَعْدَ مَا صَارَ السّبْيُ فِي أَيْدِي الرّجَالِ، فَافْتُدِيَتْ الْمَرْأَةُ وَالذّرّيّةُ بِسِتّ فَرَائِضَ. وَكَانُوا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ بِبَعْضِ السّبْيِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ أَهْلُوهُمْ فَافْتَدَوْهُمْ، فَلَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِق إلّا رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا. وَهَذَا الثّبْتُ. فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عبيد، عن عبد الرحمن ابن سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَدِمَ الْوَفْدُ الْمَدِينَةَ فَافْتَدَوْا السّبْيَ بَعْدَ السّهْمَانِ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الْأَبْيَضِ، عَنْ جَدّتِهِ وَهِيَ مَوْلَاةُ جُوَيْرِيَةَ، كَانَ عَالِمًا بِحَدِيثِهِمْ، قَالَتْ: سَمِعْت جُوَيْرِيَةَ تَقُولُ: افْتَدَانِي أَبِي مِنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ بِمَا اُفْتُدِيَ بِهِ امْرَأَةٌ مِنْ السّبْيِ، ثُمّ خَطَبَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى فأنكحنى. قالت: وكان اسمها برّة فَسَمّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوَيْرِيَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ «خَرَجَ مِنْ بَيْتِ بَرّةَ» . قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَأَثْبَتُ (مِنْ) هَذَا عِنْدَنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَنْهَا كِتَابَتَهَا وَأَعْتَقَهَا وتزوّجها.
وَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ لَهَا كَمَا كَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ، وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ. وَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمّدِ بن يحيى بن حبان، عن أبى محيرير، وَأَبِي ضَمْرَةَ [ (1) ] ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبَايَا، وَبِنَا شَهْوَةُ النّسَاءِ، وَاشْتَدّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا الْفِدَاءَ فَأَرَدْنَا الْعَزْلَ فَقُلْنَا: نَعْزِلُ. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: مَا عَلَيْكُمْ أَلّا تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلّا هِيَ كَائِنَةٌ. وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ: فَقَدِمَ عَلَيْنَا وُفُودُهُمْ فَافْتَدَوْا الذّرّيّةَ وَالنّسَاءَ، وَرَجَعُوا بِهِنّ إلَى بِلَادِهِمْ، وَخُيّرَ مَنْ خُيّرَ مِنْهُنّ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَ مَنْ صَارَتْ فِي سَهْمِهِ، فَأَبَيْنَ إلّا الرّجُوعَ. قَالَ الضحّاك: فحدّثت هذا الحديث أبا النّصر فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عن أبن سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، وَخَرَجْت بِجَارِيَةٍ لِي أَبَيْعُهَا فِي السّوقِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا سَعِيدٍ، لَعَلّك تُرِيدُ بَيْعَهَا وَفِي بَطْنِهَا مِنْك سَخْلَةٌ! قَالَ: فَقُلْت كَلّا، إنّي كُنْت أَعْزِلُ عَنْهَا. فَقَالَ: تِلْكَ الْمَوْءُودَةُ الصّغْرَى. قَالَ: فَجِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته ذَلِكَ، فَقَالَ: كَذَبَتْ الْيَهُودُ! كذبت اليهود! تم بعون الله تعالى الجزء الأول من مغازي الواقدىّ ويليه الجزء الثاني وأوله «ذِكْرُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ ابْنِ أُبَيّ»
الجزء الثاني
الجزء الثاني ذِكْرُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ ابْنِ أُبَيّ قَالُوا: فَبَيْنَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَاءِ الْمُرَيْسِيعِ قَدْ انْقَطَعَتْ الْحَرْبُ، وَهُوَ مَاءٌ ظَنُونٌ [ (1) ] ، إنّمَا يَخْرُجُ فِي الدّلْوِ نِصْفُهُ، أَقْبَلَ سِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ- وَهُوَ حَلِيفٌ فِي بَنِي سَالِمٍ- وَمَعَهُ فَتَيَانِ مِنْ بَنِي سَالِمٍ يَسْتَقُونَ، فَيَجِدُونَ عَلَى الْمَاءِ جَمْعًا مِنْ الْعَسْكَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَكَانَ جَهْجَا [ (2) ] بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيّ أَجِيرًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَأَدْلَى سِنَانٌ وَأَدْلَى جَهْجَا دَلْوَهُ، وَكَانَ جَهْجَا أَقْرَبَ السّقَاءِ إلَى سِنَانِ بْنِ وَبَرٍ، فَالْتَبَسَتْ دَلْوُ سِنَانٍ وَدَلْوُ جَهْجَا، فَخَرَجَتْ إحْدَى الدّلْوَيْنِ وَهِيَ دَلْوُ سِنَانِ بْنِ وَبَرٍ. قَالَ سِنَانٌ: فَقُلْت: دَلْوِي. فَقَالَ جَهْجَا: وَاَللهِ، مَا هِيَ إلّا دَلْوِي. فَتَنَازَعَا إلَى أَنْ رَفَعَ جَهْجَا يَدَهُ فَضَرَبَ سِنَانًا فَسَالَ الدّمُ، فَنَادَى: يَا آلَ خَزْرَجٍ [ (3) ] ! وَثَارَتْ الرّجَالُ. قَالَ سِنَانٌ: وَأَعْجَزَنِي جَهْجَا هَرَبًا وَأَعْجَزَ أَصْحَابِي، وَجَعَلَ يُنَادِي فِي الْعَسْكَرِ: يَا آلَ قُرَيْشٍ! يَا آلَ كِنَانَةَ! فَأَقْبَلَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ سِرَاعًا. قَالَ سِنَانٌ: فَلَمّا رَأَيْت مَا رَأَيْت نَادَيْت بِالْأَنْصَارِ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَشَهَرُوا السّلَاحَ حَتّى خَشِيت أَنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، حَتّى جَاءَنِي نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُونَ: اُتْرُكْ حَقّك! [قَالَ سِنَانٌ] : وَإِذَا ضَرَبْته لَمْ يَضْرُرْنِي شَيْئًا. قَالَ سِنَانٌ: فَجَعَلْت لَا أَسْتَطِيعُ أَفْتَاتُ عَلَى حُلَفَائِي بِالْعَفْوِ لِكَلَامِ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَوْمِي يأبون أن
أَعْفُو إلّا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَقْتَصّ مِنْ جَهْجَا. ثُمّ إنّ الْمُهَاجِرِينَ كَلّمُوا حُلَفَائِي، فَكَلّمُوا عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ وَنَاسًا مِنْ حُلَفَائِي، فَكَلّمَنِي حُلَفَائِي فَتَرَكْت ذَلِكَ وَلَمْ أَرْفَعْهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ ابْنُ أُبَيّ جَالِسًا فِي عَشَرَةٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ: ابْنُ أُبَيّ، وَمَالِكٌ، وَدَاعِسٌ، وَسُوَيْدٌ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ، وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ [ (1) ] ، وَزَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ [ (2) ] ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نَبْتَلَ- وَفِي الْقَوْمِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ قَدْ بَلَغَ- فَبَلَغَهُ صِيَاحُ جَهْجَا: يَا آلَ قُرَيْشٍ! فَغَضِبَ ابْنُ أُبَيّ غَضَبًا شَدِيدًا، وَكَانَ مِمّا ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ وَسَمِعَ مِنْهُ أَنْ قَالَ: وَاَللهِ، مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ مَذَلّةً! وَاَللهِ، إنْ كُنْت لَكَارِهًا لِوَجْهِي هَذَا وَلَكِنْ قَوْمِي غَلَبُونِي! قَدْ فَعَلُوهَا، قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بَلَدِنَا، وَأَنْكَرُوا مِنّتَنَا [ (3) ] . وَاَللهِ، مَا صِرْنَا وَجَلَابِيبُ [ (4) ] قُرَيْشٍ هَذِهِ إلّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ «سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك» . وَاَللهِ، لَقَدْ ظَنَنْت أَنّي سَأَمُوتُ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِمَا هَتَفَ بِهِ جَهْجَا وَأَنَا حَاضِرٌ، لَا يَكُونُ لِذَلِكَ مِنّي غِيَرٌ. وَاَللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المدينة لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ! ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ فَنَزَلُوا مَنَازِلَكُمْ، وَآسَيْتُمُوهُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ حَتّى اسْتَغْنَوْا! أَمَا وَاَللهِ، لَوْ أَمْسَكْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ بِلَادِكُمْ، ثُمّ لَمْ يَرْضَوْا بِمَا فَعَلْتُمْ حَتّى جَعَلْتُمْ أَنَفْسَكُمْ أغراضا للمنايا، فقتلتم دونه، فأيتمتم
أَوْلَادَكُمْ وَقَلَلْتُمْ وَكَثُرُوا. فَقَامَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ كُلّهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَجِدُ عِنْدَهُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ- أَبَا بَكْرٍ، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدًا، وَمُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَأَوْسَ بْنَ خَوْلِيّ، وَعَبّادَ بْنَ بِشْرٍ- فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُ وَتَغَيّرَ وَجْهَهُ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا غُلَامُ، لَعَلّك غَضِبْت عَلَيْهِ! قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَقَدْ سَمِعْته مِنْهُ. قَالَ: لَعَلّهُ أَخْطَأَ سَمْعُك! قَالَ: لَا يَا نَبِيّ اللهِ! قَالَ: لَعَلّهُ شُبّهَ عَلَيْك! قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَقَدْ سَمِعْته مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ! وَشَاعَ فِي الْعَسْكَرِ مَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ، وَلَيْسَ لِلنّاسِ حَدِيثٌ إلّا مَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ، وَجَعَلَ الرّهْطُ مِنْ الْأَنْصَارِ [ (1) ] يُؤَنّبُونَ الْغُلَامَ وَيَقُولُونَ: عَمَدْت إلَى سَيّدِ قَوْمِك تَقُولُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَقَدْ ظَلَمْت وَقَطَعْت الرّحِمَ! فَقَالَ زَيْدٌ: وَاَللهِ لَقَدْ سَمِعْت مِنْهُ! قَالَ: وو الله، مَا كَانَ فِي الْخَزْرَجِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَحَبّ إلَيّ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ، وَاَللهِ، لَوْ سَمِعْت هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ أَبِي لَنَقَلْتهَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنّي لَأَرْجُو أَنْ يُنْزِلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيّهِ حَتّى يَعْلَمُوا أَنَا كَاذِبٌ أَمْ غَيْرِي، أَوْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقَ قَوْلِي. وَجَعَلَ زَيْدٌ يَقُولُ: اللهُمّ، أَنْزِلْ عَلَى نَبِيّك مَا يُصَدّقُ حَدِيثِي! فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَأْتِك بِرَأْسِهِ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَيُقَالُ قَالَ: قُلْ لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، يَأْتِك بِرَأْسِهِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ: لَا يَتَحَدّثُ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ. وَقَامَ النّفَرُ مِنْ الْأَنْصَارِ الّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدّهُ عَلَى الْغُلَامِ، فَجَاءُوا إلَى ابْنِ أُبَيّ فَأَخْبَرُوهُ، وَقَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ: يَا أَبَا الْحُبَابِ، إنْ كنت قلته
فَأَخْبِرْ النّبِيّ يَسْتَغْفِرْ لَك، وَلَا تَجْحَدْهُ فَيَنْزِلَ مَا يُكَذّبُك. وَإِنْ كُنْت لَمْ تَقُلْهُ فَأْتِ رَسُولَ اللهِ فَاعْتَذِرْ إلَيْهِ وَاحْلِفْ لِرَسُولِ اللهِ مَا قُلْته. فَحَلَفَ بِاَللهِ الْعَظِيمِ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. ثُمّ إنّ [ (1) ] ابْنَ أُبَيّ أَتَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ أُبَيّ، إنْ كَانَتْ سَلَفَتْ مِنْك مَقَالَةٌ فَتُبْ. فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاَللهِ: مَا قُلْت مَا قَالَ زَيْدٌ، وَلَا تَكَلّمْت بِهِ! وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا، فَكَانَ يُظَنّ أَنّهُ قَدْ صَدَقَ، وَكَانَ يُظَنّ بِهِ سُوءُ الظّنّ. فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، قَالَ: لَمّا كَانَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ أُبَيّ مَا كَانَ أَسْرَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّيْرَ، وَأَسْرَعْت مَعَهُ، وَكَانَ مَعِي أَجِيرٌ اسْتَأْجَرْته يَقُومُ عَلَى فَرَسِي، فَاحْتَبَسَ عَلَيّ فَوَقَفْت لَهُ عَلَى الطّرِيقِ أَنْتَظِرُهُ حَتّى جَاءَ، فَلَمّا جَاءَ وَرَأَى مَا بِي مِنْ الْغَضَبِ أَشْفَقَ أَنْ أَقَعَ بِهِ، فَقَالَ: أَيّهَا الرّجُلُ، عَلَى رِسْلِك، فَإِنّهُ قَدْ كَانَ فِي النّاسِ أَمْرٌ مِنْ بَعْدِك، فَحَدّثْنِي بِمَقَالَةِ ابْنِ أُبَيّ. قَالَ عُمَرُ: فَأَقْبَلْت حَتّى جِئْت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في فَيْءِ شَجَرَةٍ، عِنْدَهُ غُلَيْمٌ أُسَيْوِدُ يَغْمِزُ ظَهْرَهُ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنّك تَشْتَكِي ظَهْرَك. فَقَالَ: تَقَحّمَتْ بِي النّاقَةُ اللّيْلَةَ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إِيذَنْ لِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَ ابْنِ أُبَيّ فِي مَقَالَتِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: أو كنت فَاعِلًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ! قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا لَأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ بِيَثْرِبَ كَثِيرَةٌ، لَوْ أَمَرْتهمْ بِقَتْلِهِ قَتَلُوهُ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمُرْ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ يَقْتُلُهُ. قَالَ: لَا يَتَحَدّثُ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا قَتَلَ أَصْحَابَهُ. قَالَ، فَقُلْت: فَمُرْ النّاسَ بِالرّحِيلِ. قَالَ: نَعَمْ. فَأَذّنْت بِالرّحِيلِ فى الناس.
وَيُقَالُ: لَمْ يَشْعُرْ أَهْلُ الْعَسْكَرِ إلّا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ طَلَعَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَكَانُوا فِي حَرّ شَدِيدٍ، وَكَانَ لَا يَرُوحُ حَتّى يُبْرِدَ، إلّا أَنّهُ لَمّا جَاءَهُ خَبَرُ ابْنِ أُبَيّ رَحَلَ فِي تِلْكَ السّاعَةِ. فَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: السّلَامُ عَلَيْك أَيّهَا النّبِيّ وَرَحْمَةُ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَيْك السّلَامُ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ رَحَلْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْت تَرْحَلُ فِيهَا! وَيُقَالُ لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ- قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهُوَ أَثْبَتُ عِنْدَنَا- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، خَرَجْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْت تَرُوحُ فِيهَا! فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: أو لم يَبْلُغْكُمْ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ؟ قَالَ: أَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ابْنُ أُبَيّ، زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ! قَالَ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ تُخْرِجُهُ إنْ شِئْت، فَهُوَ الْأَذَلّ وَأَنْتَ الْأَعَزّ، وَالْعِزّةُ لِلّهِ وَلَك وَلِلْمُؤْمِنِينَ. ثُمّ قَالَ: يَا رسول الله، ارفق به فو الله لَقَدْ جَاءَ اللهُ بِك، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيُنَظّمُونَ لَهُ الْخَرَزَ، مَا بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ إلّا خَرَزَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ يُوشَعَ الْيَهُودِيّ، قَدْ أَرّبَ [ (1) ] بِهِمْ فِيهَا لِمَعْرِفَتِهِ بِحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا لِيُتَوّجُوهُ، فَجَاءَ اللهُ بِك عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَمَا يَرَى إلّا قَدْ سَلَبَتْهُ مُلْكَهُ. قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ مِنْ يَوْمِهِ ذلك، وزيد ابن أَرْقَمَ يُعَارِضُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَاحِلَتِهِ، يُرِيهِ وَجْهَهُ فِي الْمَسِيرِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِثّ رَاحِلَتَهُ فَهُوَ مُغِذّ فِي السّيْرِ، إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: فَمَا هُوَ إلّا إن رأيت رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ تَأْخُذُهُ الْبُرَحَاءُ وَيَعْرَقُ جَبِينُهُ، وَتَثْقُلُ يَدَا رَاحِلَتِهِ حَتّى مَا كَادَ يَنْقُلُهَا، عَرَفْت أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوحَى إليه، ورجوت أن يكون ينزل
عَلَيْهِ تَصْدِيقُ خَبَرِي. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: فَسُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي وَأَنَا عَلَى رَاحِلَتِي حَتّى ارْتَفَعْت مِنْ مَقْعَدِي وَيَرْفَعُهَا إلَى السّمَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: وَفَتْ أُذُنُك يَا غُلَامُ، وَصَدّقَ اللهُ حَدِيثَك! وَنَزَلَ فِي ابْنِ أُبَيّ السّورَةُ مِنْ أَوّلِهَا إلَى آخِرِهَا وَحْدَهُ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ... [ (1) ] فَحَدّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْهُرَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ. سَمِعْت عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ لِابْنِ أُبَيّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: إِيتِ رَسُولَ اللهِ، يَسْتَغْفِرْ لَك. قَالَ: فَرَأَيْته يَلْوِي رَأْسَهُ مُعْرِضًا. يَقُولُ عُبَادَةُ: أَمَا وَاَللهِ لَيُنْزِلَن فِي لَيّ رَأْسِك قُرْآنٌ يُصَلّى بِهِ. وَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الوليد ابن عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، قَالَ: مَرّ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ عَشِيّةَ رَاحَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُرَيْسِيعِ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ فَلَمْ يُسَلّمْ عَلَيْهِ، ثُمّ مَرّ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ فَلَمْ يُسَلّمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ أُبَيّ: إنّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ تَمَالَأْتُمَا [ (2) ] عَلَيْهِ. فَرَجَعَا إلَيْهِ فَأَنّبَاهُ وَبَكَتَاهُ بِمَا صَنَعَ، وَبِمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ إكْذَابًا لِحَدِيثِهِ، وَجَعَلَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ يَقُولُ: لَا أَكَذِبُ عَنْك أَبَدًا حَتّى أَعْلَمَ أَنْ قَدْ تَرَكْت مَا أَنْتَ [ (3) ] عَلَيْهِ وَتُبْت إلَى اللهِ، إنّا أَقْبَلْنَا عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ نَلُومُهُ وَنَقُولُ لَهُ «كَذَبْت عَلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِك» حَتّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ حَدِيثِ زَيْدٍ وَإِكْذَابِ حَدِيثِك. وجعل بن أُبَيّ يَقُولُ: لَا أَعُودُ أَبَدًا! وَبَلَغَ ابْنَهُ عبد الله ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ مَقَالَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مُرْ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ يأتك برأسه» فجاء إلى النبىّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كُنْت تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ أَبِي فيما بلغك عنه فمرني، فو الله لِأَحْمِلَن إلَيْك رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِك هَذَا. وَاَللهِ، لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ فِيهَا رَجُلٌ أَبَرّ بِوَالِدٍ مِنّي، وَمَا أَكَلَ [ (1) ] طَعَامًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا مِنْ الدّهْرِ، وَلَا يَشْرَبُ شَرَابًا إلّا بِيَدِي، وَإِنّي لَأَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ تَأْمُرَ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ أَبِي يَمْشِي فِي النّاسِ، فَأَقْتُلُهُ فَأَدْخُلُ النّارَ، وَعَفْوُك أَفْضَلُ، وَمَنّك أَعْظَمُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ اللهِ، مَا أَرَدْت قَتْلَهُ وَمَا أَمَرْت بِهِ، وَلَنُحْسِنَنّ صُحْبَتَهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَبِي كَانَتْ هَذِهِ الْبَحْرَةُ [ (2) ] قَدْ اتّسَقُوا عَلَيْهِ لِيُتَوّجُوهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ اللهُ بِك، فَوَضَعَهُ اللهُ وَرَفَعَنَا بِك، وَمَعَهُ قَوْمٌ يُطِيفُونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَ أُمُورًا قَدْ غَلَبَ اللهُ عَلَيْهَا. قَالَ: فَلَمّا انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَ أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تركه ولم يأمره بقتله، قال: ألا إنما الدّنْيَا حَوَادِثُ تُنْتَظَرْ ... وَمِنْ أَعْجَبِ الْأَحْدَاثِ مَا قَالَهُ عُمَرْ يُشِيرُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ الْوَحْيُ هَكَذَا ... وَلَمْ يَسْتَشِرْهُ بِاَلّتِي تَحْلِقُ الشّعَرْ وَلَوْ كَانَ لِلْخَطّابِ ذَنْبٌ كَذَنْبِهِ ... فَقُلْت لَهُ مَا قَالَ فِي وَالِدِي كَشَرْ غَدَاةَ يَقُولُ ابْعَثْ إلَيْهِ مُحَمّدًا ... لِيَقْتُلَهُ بِئْسَ لَعَمْرُك مَا أَمَرْ فَقُلْت رَسُولَ اللهِ إنْ كُنْت فَاعِلًا ... كَفَيْتُك عَبْدَ اللهِ لَمْحَكَ بِالْبَصَرِ تُسَاعِدُنِي كَفّ وَنَفْسٌ سَخِيّةٌ ... وَقَلْبٌ عَلَى الْبَلْوَى أَشَدّ مِنْ الْحَجَرْ وَفِي ذَاكَ مَا فِيهِ وَالْأُخْرَى [ (3) ] غَضَاضَة ... وَفِي العين منّى نحو صاحبها عور
فَقَالَ أَلَا لَا يَقْتُلُ الْمَرْءُ طَائِعًا ... أَبَاهُ وَقَدْ كَادَتْ تَطِيرُ بِهَا مُضَرْ أَنْشَدَنِيهَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخَذْتهَا فِي الْكِتَابِ. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. فَحَدّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْهُرَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: لَمّا رُحْنَا مِنْ الْمُرَيْسِيعِ قَبْلَ الزّوَالِ كَانَ الْجَهْدُ بِنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا، مَا أَنَاخَ مِنّا رَجُلٌ إلّا لِحَاجَتِهِ أَوْ لِصَلَاةٍ يُصَلّيهَا. وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِثّ رَاحِلَتَهُ، وَيَخْلُفُ بِالسّوْطِ فِي مَرَاقّهَا [ (1) ] حَتّى أَصْبَحْنَا، وَمَدَدْنَا يَوْمَنَا حَتّى انْتَصَفَ النّهَارُ أَوْ كَرَبَ، وَلَقَدْ رَاحَ النّاسُ وَهُمْ يَتَحَدّثُونَ بِمَقَالَةِ ابْنِ أُبَيّ وَمَا كَانَ مِنْهُ، فَمَا هُوَ إلّا أَنْ أَخَذَهُمْ السّهَرُ وَالتّعَبُ بِالْمَسِيرِ، فَمَا نَزَلُوا حَتّى مَا يُسْمَعُ لِقَوْلِ ابْنِ أُبَيّ فِي أَفْوَاهِهِمْ- يَعْنِي ذِكْرًا. وَإِنّمَا أَسْرَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّاسِ لِيَدْعُوَا حَدِيثَ ابْنِ أُبَيّ، فَلَمّا نَزَلُوا وَجَدُوا مَسّ الْأَرْضِ فَوَقَعُوا نِيَامًا. ثُمّ رَاحَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّاسِ مُبْرِدًا، فَنَزَلَ مِنْ الْغَدِ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ بَقْعَاءُ فَوْقَ النّقِيعِ، وَسَرّحَ النّاسُ ظَهْرَهُمْ، فَأَخَذَتْهُمْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ حَتّى أَشْفَقَ النّاسُ مِنْهَا، وَسَأَلُوا عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ خَالَفَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالُوا: لَمْ تَهِجْ هَذِهِ الرّيحُ إلّا مِنْ حَدَثٍ! وَإِنّمَا بِالْمَدِينَةِ الذّرَارِيّ وَالصّبْيَانُ. وَكَانَتْ بَيْنَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ مُدّةٌ، فَكَانَ ذَلِكَ حِينَ انْقِضَائِهَا فَدَخَلَهُمْ أَشَدّ الْخَوْفِ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفُهُمْ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس عَلَيْكُمْ بَأْسٌ مِنْهَا، مَا بِالْمَدِينَةِ مِنْ نَقْبٍ إلّا عَلَيْهِ مَلَكٌ يَحْرُسُهُ، وَمَا كَانَ لِيَدْخُلَهَا عدوّ حتى تأتوها، ولكنه مات اليوم
مُنَافِقٌ عَظِيمُ النّفَاقِ بِالْمَدِينَةِ، فَلِذَلِكَ عَصَفَتْ الرّيحُ. وَكَانَ مَوْتُهُ لِلْمُنَافِقِينَ غَيْظًا شَدِيدًا، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ، مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَتْ الرّيحُ يَوْمَئِذٍ أَشَدّ مَا كَانَتْ قَطّ. إلَى أَنْ زَالَتْ الشّمْسُ، ثُمّ سَكَنَتْ آخِرَ النّهَارِ. قَالَ جَابِرٌ: فَسَأَلْت حِينَ قَدِمْت قَبْلَ أن أدخل بيتي: من مات؟ فقالوا: زَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ. وَذَكَرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنّهُمْ وَجَدُوا مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ شِدّةِ الرّيحِ حَتّى دُفِنَ عَدُوّ اللهِ فَسَكَنَتْ الرّيحُ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ يَوْمَئِذٍ لَابْنِ أُبَيّ: أَبَا حُبَابٍ، مَاتَ خَلِيلُك! قَالَ: أَيّ أَخِلّائِي؟ قَالَ: مَنْ مَوْتُهُ فَتْحٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: زَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ. قَالَ: يَا وَيْلَاه، كَانَ وَاَللهِ وَكَانَ! فَجَعَلَ يَذْكُرُ، فَقُلْت: اعْتَصَمْت بِالذّنْبِ الْأَبْتَرِ [ (1) ] . قَالَ: مَنْ أَخْبَرَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِمَوْتِهِ؟ قُلْت: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا السّاعَةَ أَنّهُ مَاتَ هَذِهِ السّاعَةَ. قَالَ: فَأُسْقِطَ فِي يَدَيْهِ وَانْصَرَفَ كَئِيبًا حَزِينًا. قَالُوا: وَسَكَنَتْ الرّيحُ آخِرَ النّهَارِ فَجَمَعَ النّاسُ ظُهُورَهُمْ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ رُومَانَ، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بْنِ قَتَادَةَ، قَالَا: وَفُقِدَتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَصْوَاءُ مِنْ بَيْنِ الْإِبِلِ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَهَا فِي كُلّ وَجْهٍ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ- وَكَانَ مُنَافِقًا وَهُوَ فِي رِفْقَةٍ قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْهُمْ عَبّادُ ابن بِشْرِ بْنِ وَقَشٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقَشٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ- فَقَالَ: أَيْنَ يَذْهَبُ هَؤُلَاءِ فِي كُلّ وَجْهٍ؟ قَالُوا: يَطْلُبُونَ نَاقَةَ رسول الله،
قَدْ ضَلّتْ. قَالَ: أَفَلَا يُخْبِرُهُ اللهُ بِمَكَانِ نَاقَتِهِ؟ فَأَنْكَرَ الْقَوْمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالُوا: قَاتَلَك اللهُ يَا عَدُوّ اللهِ، نَافَقْت! ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: وَاَللهِ، لَوْلَا أَنّي لَا أَدْرِي مَا يُوَافِقُ رَسُولُ اللهِ مِنْ ذَلِكَ لَأَنْفَذْتُ خُصْيَتَك بِالرّمْحِ يَا عَدُوّ اللهِ، فَلِمَ خَرَجْت مَعَنَا وَهَذَا فِي نَفْسِك؟ قَالَ: خَرَجْت لِأَطْلُبَ مِنْ عَرَضِ الدّنْيَا، وَلَعَمْرِي إنّ مُحَمّدًا لَيُخْبِرُنَا بِأَعْظَمَ مِنْ شَأْنِ النّاقَةِ، يُخْبِرُنَا عَنْ أَمْرِ السّمَاءِ. فَوَقَعُوا بِهِ جَمِيعًا وَقَالُوا: وَاَللهِ، لَا يَكُونُ مِنْك سَبِيلٌ أَبَدًا وَلَا يُظِلّنَا وَإِيّاكَ ظِلّ أَبَدًا، وَلَوْ عَلِمْنَا مَا فِي نَفْسِك مَا صَحِبْتنَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. ثُمّ وَثَبَ هَارِبًا [ (1) ] مُنْهَزِمًا مِنْهُمْ أَنْ يَقَعُوا بِهِ وَنَبَذُوا مَتَاعَهُ، فَعَمَدَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ مَعَهُ فِرَارًا مِنْ أَصْحَابِهِ مُتَعَوّذًا بِهِ. وَقَدْ جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُ مَا قَالَ مِنْ السّمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُنَافِقُ يَسْمَعُ: إنّ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ شَمِتَ أَنْ ضَلّتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ وَقَالَ «أَلَا يُخْبِرُهُ اللهُ بِمَكَانِهَا؟ فَلَعَمْرِي إنّ مُحَمّدًا لَيُخْبِرُنَا بِأَعْظَمَ مِنْ شَأْنِ النّاقَةِ!» وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلّا اللهُ، وَإِنّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَنِي بِمَكَانِهَا، وَإِنّهَا فِي هَذَا الشّعْبِ مُقَابِلَكُمْ، قَدْ تَعَلّقَ زِمَامُهَا بِشَجَرَةٍ، فَاعْمِدُوا عَمْدَهَا. فَذَهَبُوا فَأَتَوْا بِهَا مِنْ حَيْثُ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نَظَرَ الْمُنَافِقُ إلَيْهَا قَامَ سَرِيعًا إلَى رُفَقَائِهِ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، فَإِذَا رَحْلُهُ مَنْبُوذٌ، وَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَقُمْ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَقَالُوا لَهُ حِينَ دَنَا: لَا تَدْنُ مِنّا! قَالَ: أُكَلّمُكُمْ! فَدَنَا فَقَالَ: أُذَكّرُكُمْ بِاَللهِ، هَلْ أَتَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مُحَمّدًا فَأَخْبَرَهُ بِاَلّذِي قُلْت؟ قَالُوا: لَا وَاَللهِ، وَلَا قُمْنَا مِنْ مَجْلِسِنَا هَذَا. قَالَ: فَإِنّي قَدْ وَجَدْت عِنْدَ الْقَوْمِ مَا تَكَلّمَتْ بِهِ، وَتَكَلّمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ رسول الله صلّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنّهُ قَدْ أُتِيَ بِنَاقَتِهِ، وَإِنّي قَدْ كُنْت فِي شَكّ مِنْ شَأْنِ مُحَمّدٍ فَأَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ، وَاَللهِ لَكَأَنّي لَمْ أُسْلِمْ إلّا الْيَوْمَ. قَالُوا لَهُ: فَاذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللهِ يَسْتَغْفِرْ لَك. فَذَهَبَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَاعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ. وَيُقَالُ إنّهُ لَمْ يَزَلْ فَسْلًا [ (1) ] حَتّى مَاتَ، وَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ شَدّادٍ، قَالَ: لَمّا مَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّقِيعِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ الْمُرَيْسِيعِ وَرَأَى سَعَةً، وَكَلَأً، وَغُدُرًا [ (2) ] كَثِيرَةً تَتَنَاخَسُ [ (3) ] ، وَخُبّرَ بِمَرَاءَتِهِ وَبَرَاءَتِهِ [ (4) ] ، فَسَأَلَ عَنْ الْمَاءِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إذَا صِفْنَا قُلْت الْمِيَاهُ وَذَهَبَتْ الْغُدُرُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا، وَأَمَرَ بِالنّقِيعِ أَنْ يُحْمَى، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ، فَقَالَ بِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَمْ أَحَمْي مِنْهُ؟ قَالَ: أَقِمْ رَجُلًا صَيّتًا إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ- يَعْنِي مُقْمِلًا- فَحَيْثُ انْتَهَى صَوْتُهُ فَاحْمِهِ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ وَإِبِلِهِمْ الّتِي يَغْزُونَ عَلَيْهَا. قَالَ بِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْت مَا كَانَ مِنْ سَوَائِمِ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: لَا يَدْخُلُهَا. قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْت الْمَرْأَةَ وَالرّجُلَ الضّعِيفَ تَكُونُ لَهُ الْمَاشِيَةُ الْيَسِيرَةُ وَهُوَ يَضْعُفُ عَنْ التّحَوّلِ؟ قَالَ: دَعْهُ يَرْعَى. فَلَمّا كَانَ زَمَانُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حماه على ما كان رسول
ذكر عائشة رضى الله عنها وأصحاب الإفك
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَاهُ، ثُمّ كَانَ عُمَرُ فَكَثُرَتْ بِهِ الْخَيْلُ، وَكَانَ عُثْمَانُ فَحَمَاهُ أَيْضًا. وَسَبّقَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ الْخَيْلِ وَبَيْنَ الْإِبِلِ، فَسَبَقَتْ الْقَصْوَاءُ الْإِبِلَ، وَسَبَقَ فَرَسُهُ- وَكَانَ مَعَهُ فَرَسَانِ، لِزَازٌ [ (1) ] وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ الظّرِبُ- فَسَبَقَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الظّرِبِ، وَكَانَ الّذِي سَبَقَ عَلَيْهِ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ، وَاَلّذِي سَبَقَ عَلَى نَاقَتِهِ بِلَالٌ. ذِكْرُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَصْحَابِ الْإِفْكِ حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبّادٍ، عَنْ عيسى بن معمر، عن عباد ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ قَالَ، قُلْت لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: حَدّثِينَا يَا أُمّهُ حَدِيثَك فى غروة الْمُرَيْسِيعِ. قَالَتْ: يَا ابْنَ أَخِي، إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا، وَكَانَ يُحِبّ أَلّا أُفَارِقَهُ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ. فَلَمّا أَرَادَ غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ أَقْرَعَ بَيْنَنَا فَخَرَجَ سَهْمِي وَسَهْمُ أُمّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَغَنّمَهُ اللهُ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ، ثُمّ انْصَرَفْنَا رَاجِعِينَ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا لَيْسَ مَعَهُ مَاءٌ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى مَاءٍ. وَقَدْ سَقَطَ عِقْدٌ لِي مِنْ عُنُقِي، فَأَخْبَرْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ بِالنّاسِ حَتّى أَصْبَحُوا، وَضَجّ النّاسُ وَتَكَلّمُوا وَقَالُوا: احْتَبَسَتْنَا عَائِشَةُ. وَأَتَى النّاسُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى إلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَالنّاسُ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَضَاقَ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَجَاءَنِي مُغَيّظًا فَقَالَ: أَلَا تَرَيْنَ مَا صَنَعَتْ بالناس؟ حبست رسول
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنّاسُ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي عِتَابًا شَدِيدًا وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التّحَرّكِ إلّا مَكَانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأسه على فخذي وهو نائم. فقال أسيد ابن حُضَيْرٍ: وَاَللهِ، إنّي لَأَرْجُو أَنْ تَنْزِلَ لَنَا رُخْصَةٌ، وَنَزَلَتْ آيَةُ التّيَمّمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَا يُصَلّونَ إلّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا حَيْثُمَا أَدْرَكَتْنِي الصّلَاةُ. فَقَالَ أسيد ابن حُضَيْرٍ: مَا هِيَ بِأَوّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: وَكَانَ أُسَيْدُ رَجُلًا صَالِحًا فِي بَيْتٍ مِنْ الْأَوْسِ عَظِيمٍ. ثُمّ إنّا سِرْنَا مَعَ الْعَسْكَرِ حَتّى إذَا نَزَلْنَا مَوْضِعًا دَمِثًا طَيّبًا ذَا أَرَاكٍ، قَالَ: يَا عَائِشَةُ، هَلْ لَك فِي السّبَاقِ؟ قُلْت: نَعَمْ. فَتَحَزّمْت بِثِيَابِي وَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ اسْتَبَقْنَا فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ السّبْقَةِ الّتِي كُنْت سَبَقْتِينِي. وَكَانَ جَاءَ إلَى مَنْزِلِ أَبِي وَمَعِي شَيْءٌ فَقَالَ: هَلُمّيهِ! فَأَبَيْت فَسَعَيْت وَسَعَى عَلَى أَثَرِي فَسَبَقْته. وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ الْحِجَابُ. قَالَتْ: وَكَانَ النّسَاءُ إذْ ذَاكَ إلَى الْخِفّةِ، هُنّ إنّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلَقَ [ (1) ] مِنْ الطّعَامِ، لَمْ يُهَيّجْنَ [ (2) ] بِاللّحْمِ فَيَثْقُلْنَ. وَكَانَ اللّذَانِ يُرَحّلَانِ بَعِيرِي رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَوْهِبَةَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَانَ الّذِي يَقُودُ بِي الْبَعِيرَ. وَإِنّمَا كُنْت أَقْعُدُ فِي الْهَوْدَجِ فَيَأْتِي فَيَحْمِلُ الْهَوْدَجَ فَيَضَعُهُ عَلَى الْبَعِيرِ، ثُمّ يَشُدّهُ بِالْحِبَالِ وَيَبْعَثُ بِالْبَعِيرِ، وَيَأْخُذُ بِزِمَامِ الْبَعِيرِ فَيَقُودُ بِي الْبَعِيرَ.
وَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ يُقَادُ بِهَا هَكَذَا، فَكُنّا نَكُونُ حَاشِيَةً مِنْ النّاسِ، يَذُبّ عَنّا مَنْ يَدْنُو مِنّا، فَرُبّمَا سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَنْبِي وَرُبّمَا سَارَ إلَى جَنْبِ أُمّ سَلَمَةَ. قَالَتْ: فَلَمّا دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ نَزَلْنَا مَنْزِلًا فَبَاتَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ اللّيْلِ، ثُمّ ادّلَجَ وَأَذِنَ لِلنّاسِ بِالرّحِيلِ فَارْتَحَلَ الْعَسْكَرُ. وَذَهَبْت لِحَاجَتِي فَمَشَيْت حَتّى جَاوَزَتْ الْعَسْكَرَ وَفِي عُنُقِي عِقْدٌ لِي مِنْ جَزَعِ ظِفَارِ [ (1) ] ، وَكَانَتْ أُمّي أَدْخَلَتْنِي فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا قَضَيْت حَاجَتِي انْسَلّ مِنْ عُنُقِي فَلَا أَدْرِي بِهِ، فَلَمّا رَجَعْت إلَى الرّحْلِ ذَهَبْت أَلْتَمِسُهُ فِي عُنُقِي فَلَمْ أَجِدْهُ، وَإِذَا الْعَسْكَرُ قَدْ نَغَضُوا [ (2) ] إلّا عِيرَاتٌ [ (3) ] ، وَكُنْت أَظُنّ أَنّي لَوْ أَقَمْت شَهْرًا لَمْ يُبْعَثْ بَعِيرِي حَتّى أَكُونَ فِي هَوْدَجِي، فَرَجَعْت فِي الْتِمَاسِهِ فَوَجَدْته فِي الْمَكَانِ الّذِي ظَنَنْت أَنّهُ فِيهِ، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ وَأَتَى الرّجُلَانِ خِلَافِي، فَرَحّلُوا الْبَعِيرَ وَحَمَلُوا الْهَوْدَجَ وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّي فِيهِ، فَوَضَعُوهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلَا يَشُكّونَ أَنّي فِيهِ- وَكُنْت قَبْلُ لَا أَتَكَلّمُ إذْ أَكُونُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْكِرُوا شَيْئًا- وَبَعَثُوا الْبَعِيرَ فَقَادُوا بِالزّمَامِ وَانْطَلَقُوا، فَرَجَعْت إلَى الْعَسْكَرِ وَلَيْسَ فِيهِ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، وَلَا أَسْمَعُ صَوْتًا وَلَا زَجْرًا. قَالَتْ: فَأَلْتَفِعُ بِثَوْبِي وَاضْطَجَعْت وَعَلِمْت أَنّي إن افتقدت رجع إلىّ. قالت: فو الله، إنّي لَمُضْطَجِعَةٌ فِي مَنْزِلِي، قَدْ غَلَبَتْنِي عَيْنِي فنمت. وكان صفوان ابن مُعَطّلٍ السّلَمِيّ ثُمّ الذّكْوَانِيّ عَلَى سَاقَةِ النّاسِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَادّلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فِي عَمَايَةِ الصّبْحِ، فَيَرَى سَوَادَ إنْسَانٍ فَأَتَانِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، وَأَنَا مُتَلَفّعَةٌ، فأثبتنى فاستيقظت باسترجاعه حين
عرفني. فخمّرت وجهى بملحفتى، فو الله إنْ كَلّمَنِي كَلِمَةً غَيْرَ أَنّي سَمِعْت اسْتِرْجَاعَهُ حين أناخ بعيره. ثم وطى عَلَى يَدِهِ مُوَلّيًا عَنّي، فَرَكِبْت عَلَى رَحْلِهِ، وَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي حَتّى جِئْنَا الْعَسْكَرَ شَدّ الضّحَا، فَارْتَعَجَ الْعَسْكَرُ وَقَالَ أَصْحَابُ الْإِفْكِ الّذِي قَالُوا- وَتَوَلّى كِبَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ- وَلَا أَشْعُرُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَالنّاسُ يَخُوضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ. ثُمّ قَدِمْنَا فَلَمْ أَنْشِبْ أَنْ اشْتَكَيْت شَكْوَى شَدِيدَةً، وَلَا يَبْلُغُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَقَدْ انْتَهَى ذَلِكَ إلَى أَبَوَيّ، وَأَبَوَايَ لَا يَذْكُرَانِ لِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، إلّا أَنّي قَدْ أَنْكَرْت مِنْ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُطْفَهُ بِي وَرَحْمَتَهُ، فَلَا أَعْرِفُ مِنْهُ اللّطْفَ الّذِي كُنْت أَعْرِفُ حِينَ اشْتَكَيْت، إنّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلّمُ فَيَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَكُنْت إذَا اشْتَكَيْت لَطَفَ بِي وَرَحِمَنِي وَجَلَسَ عِنْدِي. وَكُنّا قَوْمًا عَرَبًا لَا نَعْرِفُ الْوُضُوءَ فِي الْبُيُوتِ، نَعَافُهَا وَنَقْذُرُهَا، وَكُنّا نَخْرُجُ إلَى الْمَنَاصِعِ [ (1) ] بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِحَاجَتِنَا. فَذَهَبْت لَيْلَةً وَمَعِي أُمّ مِسْطَحٍ مُلْتَفِعَةً فِي مِرْطِهَا، فَتَعَلّقَتْ بِهِ فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ! فَقُلْت: بِئْسَ لَعَمْرُ اللهِ مَا قُلْت، تَقُولِينَ هَذَا لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ فَقَالَتْ لِي مُجِيبَةً: مَا تَدْرِينَ وَقَدْ سَالَ بِك السّيْلُ. قُلْت: ماذا تقولين؟ فأخبرتنى ول أَصْحَابِ الْإِفْكِ، فَقَلّصَ ذَلِكَ مِنّي، وَمَا قَدَرْت عَلَى أَنْ أَذْهَبَ لِحَاجَتِي، وَزَادَنِي مَرَضًا عَلَى مَرَضِي، فَمَا زِلْت أَبْكِي لَيْلِي وَيَوْمِي. قَالَتْ: وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْت: ائْذَنْ لِي أَذْهَبُ إلَى أَبَوَيّ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا. فَأَذِنَ لِي فَأَتَيْت أَبَوَيّ فَقُلْت لِأُمّي: يَغْفِرُ اللهُ لَكِ، تَحَدّثَ النّاسُ بِمَا تَحَدّثُوا بِهِ وَذَكَرُوا مَا ذَكَرُوا وَلَا تَذْكُرِينَ لِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا! فَقَالَتْ: يَا بُنَيّةُ، خَفّضِي عليك الشأن، فو الله مَا كَانَتْ جَارِيَةٌ حَسْنَاءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبّهَا ولها ضرائر إلّا كثّرن عليها القالة
وَكَثّرَ النّاسُ عَلَيْهَا. فَقُلْت: سُبْحَانَ اللهِ، وَقَدْ تَحَدّثَ النّاسُ بِهَذَا كُلّهِ؟ قَالَتْ: فَبَكَيْت تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتّى أَصْبَحْت لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا وَأُسَامَةَ فَاسْتَشَارَهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. قَالَتْ: وَكَانَ أَحَدُ الرّجُلَيْنِ أَلْيَنَ قَوْلًا مِنْ الْآخَرِ. قَالَ أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْبَاطِلُ وَالْكَذِبُ، وَلَا نَعْلَمُ إلّا خَيْرًا، وَإِنّ بَرِيرَةَ تَصْدُقُك. وَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَمْ يُضَيّقْ اللهُ عَلَيْك، النّسَاءُ كَثِيرٌ وَقَدْ أَحَلّ اللهُ لَك وَأَطَابَ، فَطَلّقْهَا وَانْكِحْ غَيْرَهَا. قَالَتْ: فَانْصَرَفَا، وَخَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَرِيرَةَ فَقَالَ: يَا بَرِيرَةُ، أَيّ امْرَأَةٍ تَعْلَمِينَ عَائِشَةَ؟ قَالَتْ: هِيَ أَطْيَبُ مِنْ طِيبِ الذّهَبِ، وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهَا إلّا خَيْرًا، وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَئِنْ كَانَتْ عَلَى [ (1) ] غَيْرِ ذَلِكَ لَيُخْبِرَنك اللهُ عَزّ وَجَلّ بِذَلِكَ، إلّا أَنّهَا جَارِيَة تَرْقُدُ عَنْ الْعَجِينِ حَتّى تَأْتِيَ الشّاةُ فَتَأْكُلَ عَجِينَهَا، وَقَدْ لُمْتهَا فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَرّةٍ. وَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَلَمْ تَكُنْ امْرَأَةٌ تُضَاهِي [ (2) ] عَائِشَةَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غَيْرَهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ كُنْت أَخَافُ عَلَيْهَا أَنْ تَهْلِكَ لِلْغَيْرَةِ عَلَيّ، فَقَالَ لَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا زَيْنَبُ، مَاذَا عَلِمْت عَلَى عَائِشَةَ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَاشَى سَمْعِي وَبَصَرِي، مَا عَلِمْت عَلَيْهَا إلّا خَيْرًا. وَاَللهِ، مَا أُكَلّمُهَا وَإِنّي لَمُهَاجِرَتُهَا، وَمَا كُنْت أَقُولُ إلّا الْحَقّ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَمّا زَيْنَبُ، فَعَصَمَهَا اللهُ، وَأَمّا غَيْرُهَا فَهَلَكَ مَعَ مَنْ هَلَكَ. ثُمّ سَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ أَيْمَنَ فَقَالَتْ: حَاشَى سَمْعِي
وَبَصَرِي أَنْ أَكُونَ عَلِمْت أَوْ ظَنَنْت بِهَا قَطّ إلّا خَيْرًا. ثُمّ صَعِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: مَنْ يَعْذِرُنِي مِمّنْ يُؤْذِينِي فِي أَهْلِي؟ وَيَقُولُونَ لِرَجُلٍ، وَاَللهِ مَا عَلِمْت عَلَى ذَلِكَ الرّجُلِ إلّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي إلّا مَعِي، وَيَقُولُونَ عَلَيْهِ غَيْرَ الْحَقّ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُك مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ يَكُ مِنْ الْأَوْسِ آتِك بِرَأْسِهِ. وَإِنْ يَكُ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ فَمُرْنَا بِأَمْرِك نَمْضِي لَك. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ- وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنّ الْغَضَبَ بَلَغَ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ مَا غُمِصَ [ (1) ] عَلَيْهِ فِي نِفَاقٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ إلّا أَنّ الْغَضَبَ يَبْلُغُ مِنْ أَهْلِهِ- فَقَالَ: كَذَبْت لَعَمْرُ اللهِ، لَا تَقْتُلْهُ وَلَا تَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ. وَاَللهِ، مَا قُلْت هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلّا أَنّك قَدْ عَرَفْت أَنّهُ مِنْ الْخَزْرَجِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ مَا قُلْت ذَلِكَ، وَلَكِنّك تَأْخُذُنَا بِالذّحُولِ [ (2) ] كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فِي الْجَاهِلِيّةِ، وَقَدْ مَحَا اللهُ ذَلِكَ! فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: كَذَبْت وَاَللهِ، لَنَقْتُلَنّهُ وَأَنْفُك رَاغِمٌ، فَإِنّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ! وَاَللهِ، لَوْ نَعْلَمُ مَا يَهْوَى رَسُولُ اللهِ مِنْ ذَلِكَ فِي رَهْطِي الْأَدْنَيْنَ مَا رَامَ رَسُولُ اللهِ مَكَانَهُ حَتّى آتِيَهُ بِرَأْسِهِ، وَلَكِنّي لَا أَدْرِي مَا يَهْوَى رَسُولُ اللهِ! قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: تَأْبَوْنَ يَا آلَ أَوْسٍ إلّا أَنْ تَأْخُذُونَا بِذُحُولٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيّةِ. وَاَللهِ، مَا لَكُمْ بِذِكْرِهَا حَاجَةٌ، وَإِنّكُمْ لَتَعْرِفُونِ لِمَنْ الْغَلَبَةُ فِيهَا، وَقَدْ مَحَا اللهُ بِالْإِسْلَامِ ذَلِكَ كُلّهُ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت مَوْطِنَنَا يَوْمَ بُعَاثَ! ثُمّ تَغَالَظُوا، وَغَضِبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فنادى: يا آل خزرج! فانحازت الخزرج
كُلّهَا إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. وَنَادَى سَعْدُ بن معاذ: يال أَوْسٍ! فَانْحَازَتْ الْأَوْسُ كُلّهَا إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ حَزْمَةَ مُغِيرًا حَتّى أَتَى بِالسّيْفِ يَقُولُ: أَضْرِبُ بِهِ رَأْسَ النّفَاقِ وَكَهْفَهُ. فَلَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ فِي رَهْطِهِ وَقَالَ: ارْمِ بِهِ، يُحْمَلُ السّلَاحُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ! لَوْ عَلِمْنَا أَنّ لِرَسُولِ اللهِ فِي هَذَا هَوًى أَوْ طَاعَةً مَا سَبَقْتنَا إلَيْهِ. فَرَجَعَ الْحَارِثُ [ (1) ] وَاصْطَفّتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحَيّيْنِ جَمِيعًا أَنْ اُسْكُتُوا، وَنَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَهَدّأَهُمْ وَخَفّضَهُمْ حَتّى انْصَرَفُوا. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلِيّ فَجَلَسَ عِنْدِي، وَقَدْ مَكَثَ شَهْرًا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُوحَى إلَيْهِ فِي شَأْنِي. قَالَتْ: فَتَشَهّدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ، ثُمّ قَالَ: أَمَا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنّهُ بَلَغَنِي كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْت بَرِيئَةً يُبَرّئُك اللهُ، وَإِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِشَيْءٍ مِمّا يَقُولُ النّاسُ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ عَزّ وَجَلّ، فَإِنّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمّ تَابَ إلَى اللهِ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُ ذَهَبَ دَمْعِي حَتّى مَا أَجِدُ مِنْهُ شَيْئًا، وَقُلْت لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: وَاَللهِ، مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ وَمَا أُجِيبُ بِهِ عَنْك. قَالَتْ: فَقُلْت لِأُمّي: أَجِيبِي عَنّي رَسُولَ اللهِ. فَقَالَتْ: وَاَللهِ، مَا أَدْرِي مَا أُجِيبُ عَنْك لِرَسُولِ اللهِ. وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السّنّ، لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ. قَالَتْ: فَقُلْت: إنّي وَاَللهِ قَدْ عَلِمْت أَنّكُمْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِكُمْ فَصَدّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْت لَكُمْ إنّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدّقُونِي، وَلَئِنْ اعْتَرَفْت لَكُمْ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ اللهُ أَنّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لتصدّقونى. وإنى
وَاَللهِ مَا أَجِدُ لِي مِثْلًا إلّا أَبَا يُوسُفَ إذْ يَقُولُ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ [ (1) ] وَاَللهُ مَا يَحْضُرُنِي ذِكْرُ يَعْقُوبَ، وَمَا أَهْتَدِي مِنْ الْغَيْظِ. الّذِي أَنَا فِيهِ. ثُمّ تَحَوّلْت فَاضْطَجَعْت عَلَى فِرَاشِي وَقُلْت: وَاَللهُ يَعْلَمُ أَنّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَا بِاَللهِ وَاثِقَةٌ أَنْ يُبَرّئَنِي اللهُ بِبَرَاءَتِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَمَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الْعَرَبِ دَخَلَ عَلَيْهِمْ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ أَبِي بَكْرٍ. وَاَللهِ، مَا قِيلَ لَنَا هَذَا فِي الْجَاهِلِيّةِ حَيْثُ لَا نَعْبُدُ اللهَ وَلَا نَدَعُ لَهُ شَيْئًا، فَيُقَالُ لَنَا فِي الْإِسْلَامِ! قَالَتْ: وَأَقْبَلَ عَلَيّ أَبِي مُغْضَبًا. قَالَتْ: فَاسْتَعْبَرْت فَقُلْت فِي نَفْسِي: «وَاَللهِ لَا أَتُوبُ إلَى اللهِ مِمّا ذَكَرْتُمْ أَبَدًا» ، وَاَيْمُ اللهِ لَأَنَا كُنْت أَحْقَرَ فِي نَفْسِي وَأَصْغَرَ شَأْنًا مِنْ أَنْ ينزل فىّ قرآن يقرأه النّاسُ فِي صَلَاتِهِمْ، وَلَكِنْ قَدْ كُنْت أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَوْمِهِ شَيْئًا يُكَذّبُهُمْ [ (2) ] اللهُ عَنّي بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِي، أَوْ يُخْبِرُ خَبَرًا، فَأَمّا قُرْآنٌ، فَلَا وَاَللهِ مَا ظَنَنْته! قالت: فو الله، مَا بَرِحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتّى يَغْشَاهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا كَانَ يَغْشَاهُ. قَالَتْ: فَسُجّيَ بِثَوْبِهِ وَجُمِعَتْ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَأَمّا أَنَا حين رأيت ما رأيت فو الله لَقَدْ فَرِحْت بِهِ وَعَلِمْت أَنّي بَرِيئَةٌ، وَأَنّ اللهَ تَعَالَى غَيْرُ ظَالِمٍ لِي. قَالَتْ: وَأَمّا أبواى فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا سُرّيَ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى ظَنَنْت لَتَخْرُجَن أَنْفُسُهُمَا فَرَقًا أَنْ يَأْتِيَ أَمْرٌ مِنْ اللهِ تَحْقِيقُ مَا قَالَ النّاسُ. ثُمّ كَشَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، وَإِنّهُ لَيَتَحَدّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ، وَهُوَ يمسح جبينه، فكانت أوّل كلمة قالها
«يَا عَائِشَةُ، إنّ اللهَ قَدْ أَنَزَلَ بَرَاءَتَك» . قَالَتْ: وَسُرّيَ عَنْ أَبَوَيّ وَقَالَتْ أُمّي: قَوْمِي إلَى رَسُولِ اللهِ. فَقُلْت: وَاَللهِ، لَا أَقُومُ إلّا بِحَمْدِ اللهِ لَا بِحَمْدِك. فَأَنْزَلَ اللهُ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ [ (1) ] الْآيَةَ. قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى النّاسِ مَسْرُورًا فَصَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ تَلَا عَلَيْهِمْ بِمَا نَزَلَ عَلَيْهِ فِي بَرَاءَةِ عَائِشَةَ. قَالَتْ: فَضَرَبَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدّ، وَكَانَ الّذِي تَوَلّى كِبَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ، وَكَانَ مِسْطَحُ بْنُ أثاثة، وحسّان ابن ثَابِتٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَيُقَالُ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَضْرِبْهُمْ- وَهُوَ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ رَمَى مُحْصَنَةً لَعَنَهُ اللهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ: إنّمَا ذَاكَ لِأُمّ الْمُؤْمِنِينَ خَاصّةً. فَحَدّثَنِي ابْنُ أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيّوبَ، أَنّ أُمّ أَيّوبَ قَالَتْ لِأَبِي أَيّوبَ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَفَكُنْتِ يَا أُمّ أَيّوبَ فَاعِلَةً ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاَللهِ. قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاَللهِ خَيْرٌ مِنْك. فَلَمّا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَذَكَرَ أَهْلُ الْإِفْكِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [ (2) ] ، يَعْنِي أَبَا أَيّوبَ حِينَ قَالَ لِأُمّ أَيّوبَ، وَيُقَالُ إنّمَا قَالَهَا أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ. فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى. عَنْ أُمّ سَعْدِ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ، قَالَتْ: قَالَتْ أُمّ الطّفِيلِ لِأُبَيّ بْنِ كَعْبٍ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: أىّ ذلك؟ قالت: ما يقولون.
قال: هو والله الكذب. أو كنت تَفْعَلِينَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: أَعُوذُ بِاَللهِ. قَالَ: فَهِيَ وَاَللهِ خَيْرٌ مِنْك. قَالَتْ: وَأَنَا أَشْهَدُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالُوا: وَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيّامًا، ثُمّ أَخَذَ بِيَدِ سعد ابن مُعَاذٍ فِي نَفَرٍ، فَخَرَجَ يَقُودُ بِهِ حَتّى دَخَلَ بِهِ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَمَنْ مَعَهُ، فَتَحَدّثَا عِنْدَهُ سَاعَةً، وَقَرّبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ طَعَامًا، فَأَصَابَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَكَثَ أَيّامًا، ثُمّ أَخَذَ بِيَدِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَنَفَرٍ مَعَهُ. فَانْطَلَقَ بِهِ حَتّى دَخَلَ مَنْزِلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَتَحَدّثَا سَاعَةً وَقَرّبَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ طَعَامًا. فَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَنْ مَعَهُمْ، ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنّمَا فَعَلَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لِأَنْ يَذْهَبَ مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الّذِي تَقَاوَلَا. فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ. عَنْ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه سلّم حِينَ احْتَبَسَ عَلَى قِلَادَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِذَاتِ الْجَيْشِ، فَلَمّا طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْ كَادَ نَزَلَتْ آيَةُ التّيَمّمِ، فَمَسَحْنَا الْأَرْضَ بِالْأَيْدِي ثُمّ مَسَحْنَا الْأَيْدِيَ إلَى الْمَنَاكِبِ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصّلَاتَيْنِ فِي سَفَرِهِ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ رُومَانَ، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أُمّهِ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَعِمَادُ الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ رُومَانَ، وَعَاصِمٍ وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: لَمّا قَالَ ابْنُ أُبَيّ مَا قَالَ، وَذَكَرَ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ وَجَهْجَا، وَكَانَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، قَالَ: وَمِثْلُ هَذَيْنِ يَكْثُرُ عَلَى قَوْمِي، وَقَدْ
أَنَزَلْنَا مُحَمّدًا فِي دُورِ [ (1) ] كِنَانَةَ وَعِزّهَا! وَاَللهِ، لَقَدْ كَانَ جُعَيْلٌ يَرْضَى أَنْ يَسْكُتَ فَلَا يَتَكَلّمُ، فَصَارَ الْيَوْمَ يَتَكَلّمُ. وَقَوْلُ ابْنِ أُبَيّ أيضا فى صفوان ابن مُعَطّلٍ وَمَا رَمَاهُ بِهِ، فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ: أَمْسَى الْجَلَابِيبُ قَدْ رَاعُوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ الْفُرَيْعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ [ (2) ] فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ جَاءَ صَفْوَانُ إلَى جُعَيْلِ بْنِ سُرَاقَةَ فقال: انطلق بنا، نضرب حسان، فو الله مَا أَرَادَ غَيْرَك وَغَيْرِي، وَلَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. فَأَبِي جُعَيْلٌ أَنْ يَذْهَبَ، فَقَالَ لَهُ: لَا أَفْعَلُ إلّا أَنْ يَأْمُرَنِي رَسُولُ اللهِ، وَلَا تَفْعَلُ أَنْتَ حَتّى تُؤَامِرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. فَأَبَى صَفْوَانُ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مُصْلِتًا السّيْفَ حَتّى ضَرَبَ حَسّانَ ابن ثَابِتٍ فِي نَادِي قَوْمِهِ، فَوَثَبَتْ الْأَنْصَارُ إلَيْهِ فَأَوْثَقُوهُ رِبَاطًا- وَكَانَ الّذِي وَلِي ذَلِكَ مِنْهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ- وَأَسَرُوهُ أَسْرًا قَبِيحًا. فَمَرّ بِهِمْ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ؟ أَمِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ وَرِضَائِهِ أَمْ مِنْ أَمْرٍ فَعَلْتُمُوهُ؟ قَالُوا: مَا عَلِمَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ [ (3) ] : لَقَدْ اجْتَرَأْت، خَلّ عَنْهُ! ثُمّ جَاءَ بِهِ وَبِثَابِتٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسُوقُهُمْ، فَأَرَادَ ثَابِتٌ أَنْ يَنْصَرِفَ، فَأَبَى عُمَارَةُ حَتّى جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ حَسّانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَهَرَ عَلَيّ السّيْفَ فِي نَادِي قَوْمِي، ثُمّ ضَرَبَنِي لِأَنْ أَمَوْتَ، وَلَا أَرَانِي إلّا مَيّتًا مِنْ جِرَاحَتِي. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفْوَانَ فَقَالَ: ولم ضربته وحملت
السّلَاحَ عَلَيْهِ؟ وَتَغَيّظَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ آذَانِي وَهَجَانِي وَسَفِهَ عَلَيّ وَحَسَدَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى حَسّانَ فَقَالَ: أَسَفِهْت عَلَى قَوْمٍ أَسْلَمُوا؟ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْبِسُوا صَفْوَانَ، فَإِنْ مَاتَ حَسّانُ فَاقْتُلُوهُ بِهِ. فَخَرَجُوا بِصَفْوَانَ [ (1) ] ، فَبَلَغَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ مَا صَنَعَ صَفْوَانُ، فَخَرَجَ فِي قَوْمِهِ مِنْ الْخَزْرَجِ حَتّى أَتَاهُمْ، فَقَالَ: عَمَدْتُمْ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ تُؤْذُونَهُ وَتَهْجُونَهُ بِالشّعْرِ وَتَشْتُمُونَهُ، فَغَضِبَ لِمَا قِيلَ لَهُ، ثُمّ أَسَرْتُمُوهُ أَقْبَحَ الْإِسَارِ [ (2) ] وَرَسُولُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ! قَالُوا: فَإِنّ رَسُولَ اللهِ أَمَرَنَا بِحَبْسِهِ وَقَالَ: إنْ مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَاقْتُلُوهُ. قَالَ سَعْدٌ: وَاَللهِ، إنّ أَحَبّ إلَى رَسُولِ اللهِ لَلْعَفْوُ، وَلَكِنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قَضَى بَيْنَكُمْ بِالْحَقّ، وَإِنّ رَسُولَ اللهِ يَعْنِي [ (3) ] لَيُحِبّ أَنْ يَتْرُكَ صَفْوَانَ. وَاَللهِ، لَا أَبْرَحُ حَتّى يُطْلَقَ! فَقَالَ حَسّانُ: مَا كَانَ لِي مِنْ حَقّ فَهُوَ لَك يَا أَبَا ثَابِتٍ. وَأَبَى قَوْمُهُ، فَغَضِبَ قَيْسٌ ابْنُهُ غَضَبًا شَدِيدًا فَقَالَ: عَجَبًا لَكُمْ، مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ! إنّ حَسّان قَدْ تَرَكَ حَقّهُ وَتَأْبَوْنَ أَنْتُمْ! مَا ظَنَنْت أَنّ أَحَدًا مِنْ الْخَزْرَجِ يُرِدْ أَبَا ثَابِتٍ فِي أَمْرٍ يَهْوَاهُ. فَاسْتَحْيَا الْقَوْمُ وَأَطْلَقُوهُ مِنْ الْوَثَاقِ، فَذَهَبَ بِهِ سَعْدٌ إلَى بَيْتِهِ فَكَسَاهُ حُلّةً، ثُمّ خَرَجَ صَفْوَانُ حَتّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِيُصَلّيَ فِيهِ، فَرَآهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صَفْوَانُ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: مَنْ كَسَاهُ؟ قَالُوا: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: كَسَاهُ اللهُ مِنْ حُلَلِ [ (4) ] الْجَنّةِ. ثُمّ كَلّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ: لَا أُكَلّمُك أَبَدًا إنْ لَمْ تَذْهَبْ إلَى رسول الله فتقول: كلّ حقّ لى
قِبَلَ صَفْوَانَ فَهُوَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَقْبَلَ حَسّانُ فِي قَوْمِهِ حَتّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُلّ حَقّ لِي قِبَلَ صَفْوَانَ بْنِ مُعَطّلٍ فَهُوَ لَك. قَالَ: قَدْ أَحْسَنْت وَقَبِلْت ذَلِكَ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضًا بَرَاحًا [ (1) ] وَهِيَ بَيْرُحَاءُ [ (2) ] وَمَا حَوْلَهَا وَسِيرِينَ، وَأَعْطَاهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ حَائِطًا كَانَ يَجِدُ [ (3) ] مَالًا كَثِيرًا عِوَضًا لَهُ مِمّا عَفَا عَنْ حَقّهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَحَدّثَ هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنّ حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ حَبَسَ صَفْوَانَ، فَلَمّا بَرِئَ حَسّانُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا حَسّانُ، أَحْسِنْ فِيمَا [ (4) ] أَصَابَك. فَقَالَ: هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرَاحًا وَأَعْطَاهُ سِيرِينَ عِوَضًا. فَحَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَذْكُرُ حَسّانَ إلّا بِخَيْرٍ. وَلَقَدْ سَمِعَتْ عُرْوَةَ بْنَ الزّبَيْرِ يَوْمًا يَسُبّهُ لِمَا كَانَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: لَا تَسُبّهُ يَا بُنَيّ، أَلَيْسَ هُوَ الّذِي يَقُولُ: فَإِنّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ سَمِعَ أَبَا عبيدة
ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمَعَةَ الْأَسَدِيّ يُخْبِرُ أَنّهُ سَمِعَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: حَسّانُ حِجَازٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، لَا يُحِبّهُ مُنَافِقٌ وَلَا يُبْغِضُهُ مُؤْمِنٌ. وَقَالَ حَسّانُ يَمْدَحُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: حَصَانٌ رَزَانٌ [ (1) ] لَا تَزْنِ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى [ (2) ] مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ [ (3) ] فَإِنْ كَانَ مَا قَدْ جَاءَ عَنّي قُلْته ... فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيّ أَنَامِلِي هِيَ أَبْيَاتٌ أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ وَابْنُ جَعْفَرٍ حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنْت رَفِيقَ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، فَأَقْبَلْنَا حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى وَادِي الْعَقِيقِ فِي وَسَطِ اللّيْلِ فَإِذَا النّاسُ مُعَرّسُونَ [ (4) ] . قُلْنَا: فَأَيْنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: فِي مُقَدّمِ النّاسِ، قَدْ نَامَ فَقَالَ لِي عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا جَابِرُ، هَلْ لَك بِنَا فِي التّقَدّمِ وَالدّخُولِ عَلَى أَهْلِنَا؟ فَقُلْت: يَا أَبَا مُحَمّدٍ، لَا أُحِبّ أَنْ أُخَالِفَ النّاسَ، لَا أَرَى أَحَدًا تَقَدّمَ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: وَاَللهِ، مَا نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَقَدّمٍ. قَالَ جَابِرٌ: أَمّا أَنَا فَلَسْت بِبَارِحٍ. فَوَدّعَنِي وَانْطَلَقَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَنْظُرُ إلَيْهِ عَلَى ظَهْرِ الطّرِيقِ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَطَرَقَ أَهْلَهُ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَإِذَا مِصْبَاحٌ فِي وَسَطِ بَيْتِهِ وَإِذَا مَعَ امْرَأَتِهِ إنسان طويل، فظنّ
غزوة الخندق
أَنّهُ رَجُلٌ، وَسُقِطَ فِي يَدَيْهِ وَنَدِمَ عَلَى تَقَدّمِهِ. وَجَعَلَ يَقُولُ، الشّيْطَانُ مَعَ الْغُرّ، فَاقْتَحَمَ الْبَيْتَ رَافِعًا سَيْفَهُ، قَدْ جَرّدَهُ مِنْ غِمْدِهِ يُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَهُمَا. ثُمّ فَكّرَ وَاذّكَرَ، فَغَمَزَ امْرَأَتَهُ بِرِجْلِهِ فَاسْتَيْقَظَتْ فَصَاحَتْ وَهِيَ تَوْسَنُ، فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ، فَمَنْ هَذَا؟ قَالَتْ: رُجَيْلَةُ [مَاشِطَتِي] [ (1) ] ، سَمِعْنَا بِمَقْدِمِكُمْ فَدَعَوْتهَا تُمَشّطُنِي فَبَاتَتْ عِنْدِي. فَبَاتَ فَلَمّا أَصْبَحَ خَرَجَ مُعْتَرِضًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَهُ بِبِئْرِ أَبِي عنبة، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، فَالْتَفَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بَشِيرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا النّعْمَانِ. فَقَالَ: لَبّيْكَ. قَالَ: إنّ وَجْهَ عَبْدِ اللهِ لَيُخْبِرُك أَنّهُ قَدْ كَرِهَ طُرُوقَ أَهْلِهِ. فَلَمّا انْتَهَى إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رَسُولُ اللهِ: خَبَرَك يَا ابْنَ رَوَاحَةَ. فَأَخْبَرَهُ كَيْفَ كَانَ تَقَدّمَ وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَطْرُقُوا النّسَاءَ لَيْلًا. قَالَ جَابِرٌ: فَكَانَ ذَلِكَ أَوّلَ مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ جَابِرٌ: فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْعَسْكَرِ وَلُزُومَهُ وَالْجَمَاعَةَ، لَقَدْ أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ، وَكُنّا مَرَرْنَا عَلَى وَادِي الْقُرَى فَانْتَهَيْنَا إلَى الْجُرُفِ [ (2) ] لَيْلًا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَطْرُقُوا النّسَاءَ لَيْلًا. قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقَ رَجُلَانِ فَعَصَيَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيَا جَمِيعًا مَا يَكْرَهَانِ. غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ عَسْكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَحَاصَرُوهُ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَانْصَرَفَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ سَنَةَ
خَمْسٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الحارث عن أبيه، وربيعة ابن عُثْمَانَ، وَمُحَمّدٌ عَنْ الزّهْرِيّ، وَعَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَحِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَأَيّوبُ بن النعمان بن عبد الله بن كعب بْنِ مَالِكٍ، وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، وَعَائِذُ بْنُ يَحْيَى الزّرَقِيّ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهِشَامُ بن سعد، ومجمّع ابن يَعْقُوبَ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَالضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَبْدُ الرحمن بن محمّد ابن أَبِي بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَابْنُ أَبِي الزّنَادِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ حَدّثَنِي، فَكَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِي، قَالُوا: لَمّا أَجْلَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النّضِيرِ سَارُوا إلَى خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهَا مِنْ الْيَهُودِ قَوْمٌ أَهْلُ عَدَدٍ وَجَلَدٍ، وَلَيْسَتْ لَهُمْ مِنْ الْبُيُوتِ وَالْأَحْسَابِ [ (1) ] مَا لِبَنِي النّضِيرِ- كَانَ بَنُو النّضِيرِ سِرّهُمْ، وَقُرَيْظَةُ مِنْ وَلَدِ الْكَاهِنِ مِنْ بَنِي هَارُونَ- فَلَمّا قَدِمُوا خَيْبَرَ خَرَجَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهَوْذَةُ بْنُ الْحُقَيْقِ. وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيّ مِنْ الْأَوْسِ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ، وَأَبُو عَامِرٍ الرّاهِبُ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا إلَى مَكّةَ يَدْعُونَ قُرَيْشًا وَأَتْبَاعَهَا إلَى حَرْبِ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لِقُرَيْشٍ: نَحْنُ مَعَكُمْ حَتّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمّدًا. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَذَا الّذِي أقدمكم ونزعكم [ (2) ] ؟ قالوا: نعم، جئنا
لِنُحَالِفَكُمْ عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ وَقِتَالِهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، أَحَبّ النّاسِ إلَيْنَا مَنْ أَعَانَنَا عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ. قَالَ النّفَرُ: فَأَخْرَجَ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ كُلّهَا أَنْتَ فِيهِمْ، وَنَدْخُلُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ حَتّى نُلْصِقَ أَكْبَادَنَا بِهَا، ثُمّ نَحْلِفُ بِاَللهِ جَمِيعًا لَا يَخْذُلُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَلَتَكُونَن كَلِمَتُنَا وَاحِدَةً عَلَى هَذَا الرّجُلِ مَا بَقِيَ مِنّا رَجُلٌ. فَفَعَلُوا فَتَحَالَفُوا عَلَى ذَلِكَ وَتَعَاقَدُوا، ثُمّ قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: قَدْ جَاءَكُمْ رُؤَسَاءُ أَهْلِ يَثْرِبَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ الْأُوَلِ، فَسَلُوهُمْ عَمّا نَحْنُ عَلَيْهِ وَمُحَمّدٌ، أَيّنَا أَهْدَى؟ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأُوَلِ وَالْعِلْمِ، أَخْبِرُونَا عَمّا أَصْبَحْنَا نَحْنُ فِيهِ وَمُحَمّدٌ، دِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمّدٍ؟ فَنَحْنُ عُمّارُ الْبَيْتِ، وَنَنْحَرُ الْكَوْمَ، وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَنَعْبُدُ الْأَصْنَامَ. قَالُوا: اللهُمّ، أَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ مِنْهُ، إنّكُمْ لَتُعَظّمُونَ هَذَا الْبَيْتَ، وَتَقُومُونَ عَلَى السّقَايَةِ، وَتَنْحَرُونَ الْبُدْنَ، وَتَعْبُدُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ مِنْهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [ (1) ] . فَاتّعَدُوا لِوَقْتٍ وَقّتُوهُ، فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّكُمْ قَدْ وَعَدْتُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لِهَذَا الْوَقْتِ وَفَارَقُوكُمْ عَلَيْهِ، فَفُوا لَهُمْ بِهِ! لَا يَكُونُ هَذَا كَمَا كَانَ، وَعَدْنَا مُحَمّدًا بَدْرَ الصّفْرَاءِ فَلَمْ نَفِ بِمَوْعِدِهِ، وَاجْتَرَأَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ، وَقَدْ كُنْت كَارِهًا لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ. فَخَرَجَتْ الْيَهُودُ حَتّى أَتَتْ غَطَفَانَ، وَأَخَذَتْ قُرَيْشٌ فِي الْجَهَازِ، وَسَيّرَتْ فِي الْعَرَبِ تَدْعُوهُمْ إلَى نَصْرِهَا، وَأَلّبُوا أَحَابِيشَهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. ثُمّ خَرَجْت اليهود حتى جاءوا بنى سليم،
فَوَعَدُوهُمْ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ إذَا سَارَتْ قُرَيْشٌ. ثُمّ سَارُوا [ (1) ] فِي غَطَفَانَ، فَجَعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ سَنَةً، وَيَنْصُرُونَهُمْ وَيَسِيرُونَ مَعَ قُرَيْشٍ إلَى مُحَمّدٍ إذَا سَارُوا. فَأَنْعَمَتْ بِذَلِكَ غَطَفَانُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَسْرَعَ إلَى ذَلِكَ مِنْ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ. وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ تَبِعَهَا مِنْ أَحَابِيشِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَعَقَدُوا اللّوَاءَ فِي دَارِ النّدْوَةِ، وَقَادُوا مَعَهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ فَرَسٍ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِنْ الظّهْرِ أَلْفُ بَعِيرٍ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ. وَأَقْبَلَتْ سُلَيْمٌ فَلَاقَوْهُمْ بِمَرّ الظّهْرَانِ، وَبَنُو سُلَيْمٍ يَوْمَئِذٍ سَبْعُمِائَةٍ، يَقُودُهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ حَلِيفُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ، وَهُوَ أَبُو أَبِي الْأَعْوَرِ الّذِي كَانَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِصِفّينَ. وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ يَقُودُهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَخَرَجَتْ بَنُو أَسَدٍ وَقَائِدُهَا طَلْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيّ، وَخَرَجَتْ بَنُو فَزَارَةَ وَأَوْعَبَتْ [ (2) ] ، وَهُمْ أَلْفٌ يَقُودُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَخَرَجَتْ أَشْجَعُ وَقَائِدُهَا مَسْعُودُ بْنُ رُخَيْلَةَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ- لَمْ تُوعِبْ أَشْجَعَ. وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ يَقُودُ قَوْمَهُ بَنِي مُرّةَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ. لَمّا أَجَمَعَتْ غَطَفَانُ السّيْرَ أَبَى الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ الْمَسِيرَ وَقَالَ لِقَوْمِهِ: تَفَرّقُوا فِي بِلَادِكُمْ وَلَا تَسِيرُوا إلَى مُحَمّدٍ، فَإِنّي أَرَى أَنّ مُحَمّدًا أَمْرُهُ ظَاهِرٌ، لَوْ نَاوَأَهُ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَكَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ. فَتَفَرّقُوا فِي بِلَادِهِمْ وَلَمْ يَحْضُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهَكَذَا رَوَى الزّهْرِيّ وَرَوَتْ بَنُو مُرّةَ. حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَا: شَهِدَتْ بَنُو مُرّةَ الْخَنْدَقَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ وَقَائِدُهُمْ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ الْمُرّيّ، وَهَجَاهُ حسّان وأنشد [ (3) ]
شِعْرًا، وَذَكَرُوا مُجَاوَرَةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ. فَكَانَ هَذَا أَثْبَتَ عِنْدَنَا أَنّهُ شَهِدَ الْخَنْدَقَ فِي قَوْمِهِ، وَلَكِنّهُ كَانَ أَمْثَلَ تُقْيَةً مِنْ عُيَيْنَةَ. قَالُوا: وَكَانَ الْقَوْمُ جَمِيعًا الّذِينَ وَافَوْا الْخَنْدَقَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَسُلَيْمٍ، وَغَطَفَانَ، وَأَسَدٍ، عَشَرَةَ آلَافٍ، فَهِيَ عَسَاكِرُ ثَلَاثَةٍ، وَعِنَاجُ [ (1) ] الْأَمْرِ إلَى أَبِي سُفْيَانَ. فَأَقْبَلُوا فَنَزَلَتْ قُرَيْشٌ بِرُومَةَ [ (2) ] وَوَادِي الْعَقِيقِ فِي أَحَابِيشِهَا وَمَنْ ضَوَى إلَيْهَا مِنْ الْعَرَبِ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ فِي قَادَتِهَا حَتّى نَزَلُوا بِالزّغَابَةِ إلَى جَانِبِ أُحُدٍ. وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تُسَرّحُ رِكَابَهَا فِي وَادِي الْعَقِيقِ فِي عِضَاهِهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ لِلْخَيْلِ إلّا مَا حَمَلُوهُ مَعَهُمْ مِنْ عَلَفٍ- وَكَانَ عَلَفُهُمْ الذّرَةَ- وَسَرّحَتْ غَطَفَانُ إبِلَهَا إلَى الْغَابَةِ فِي أَثْلِهَا وَطَرْفَائِهَا فِي عِضَاهِ الْجُرُفِ. وَقَدِمُوا فِي زَمَانٍ لَيْسَ فِي الْعِرْضِ [ (3) ] زَرْعٌ، فَقَدْ حَصَدَ النّاسُ قَبْلَ ذَلِكَ بِشَهْرٍ، فَأَدْخَلُوا حَصَادَهُمْ وَأَتْبَانَهُمْ. وَكَانَتْ غَطَفَانُ تُرْسِلُ خَيْلَهَا فِي أَثَرِ الْحَصَادِ- وَكَانَ خَيْلُ غَطَفَانَ ثَلَاثَمِائَةٍ- بِالْعِرْضِ فَيُمْسِكُ ذَلِكَ مِنْ خَيْلِهِمْ [ (4) ] ، وَكَادَتْ إبِلُهُمْ تَهْلِكُ مِنْ الْهُزَالِ. وَكَانَتْ الْمَدِينَةُ لَيَالِيَ قَدِمُوا جَدِيبَةً. فَلَمّا فَصَلَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكّةَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ رَكْبٌ مِنْ خُزَاعَةَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِفُصُولِ قُرَيْشٍ، فَسَارُوا مِنْ مَكّةَ إلَى الْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، فَذَلِكَ حِينَ نَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ عَدُوّهِمْ، وَشَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ بِالْجِدّ وَالْجِهَادِ، وَوَعَدَهُمْ النّصْرَ إنْ هُمْ صَبَرُوا وَاتّقُوا، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ. وَشَاوَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه
وسلم، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ يُكْثِرُ مُشَاوَرَتَهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَقَالَ: أَنَبْرُزُ لَهُمْ مِنْ الْمَدِينَةِ، أَمْ نَكُونُ فِيهَا وَنُخَنْدِقُهَا عَلَيْنَا، أَمْ نَكُونُ قَرِيبًا وَنَجْعَلُ ظُهُورَنَا إلَى هَذَا الْجَبَلِ؟ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نَكُونُ مِمّا يَلِي بُعَاثَ إلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ إلَى الْجُرْفِ. فَقَالَ قَائِلٌ: نَدْعُ الْمَدِينَةَ خُلُوفًا! فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا إذْ كُنّا بِأَرْضِ فَارِسَ وَتَخَوّفْنَا الْخَيْلَ خَنْدَقْنَا عَلَيْنَا، فَهَلْ لَك يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ نُخَنْدِقَ؟ فَأَعْجَبَ رَأْيُ سَلْمَانَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرُوا حِينَ دَعَاهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يَخْرُجُوا، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الْخُرُوجَ وَأَحَبّوا الثّبَاتَ فِي الْمَدِينَةِ. فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَهْمٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا لَهُ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَارْتَادَ مَوْضِعًا يَنْزِلُهُ، فَكَانَ أَعْجَبَ الْمَنَازِلِ إلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ سَلْعًا [ (1) ] خَلْفَ ظَهْرِهِ، ويخندق من المذاذ [ (2) ] إلَى ذُبَابٍ إلَى رَاتِجٍ [ (3) ] . فَعَمِلَ يَوْمَئِذٍ فِي الْخَنْدَقِ، وَنَدَبَ النّاسَ، فَخَبّرَهُمْ بِدُنُوّ عَدُوّهِمْ، وَعَسْكَرَهُمْ إلَى سَفْحِ سَلْعٍ. وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَعْمَلُونَ مُسْتَعْجِلِينَ يُبَادِرُونَ قُدُومَ الْعَدُوّ عَلَيْهِمْ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ مَعَهُمْ فِي الْخَنْدَقِ لِيُنَشّطَ. الْمُسْلِمِينَ، وَعَمِلُوا، وَاسْتَعَارُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ آلَةً كَثِيرَةً مِنْ مَسَاحِي، وَكَرَازِينَ [ (4) ] وَمَكَاتِلَ، يَحْفِرُونَ بِهِ الْخَنْدَقَ- وَهُمْ يَوْمَئِذٍ سِلْمٌ لِلنّبِيّ صلّى
الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ قُدُومَ قُرَيْشٍ. وَوَكّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلّ جَانِبٍ مِنْ الْخَنْدَقِ قَوْمًا يَحْفِرُونَهُ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَحْفِرُونَ مِنْ جَانِبِ رَاتِجٍ إلَى ذُبَابٍ، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ تَحْفِرُ مِنْ ذُبَابٍ إلَى جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ سَائِرُ الْمَدِينَةِ مُشَبّكًا بِالْبُنْيَانِ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: كُنْت أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ [ (1) ] وَالشّبَابُ يَنْقُلُونَ التّرَابَ، وَالْخَنْدَقُ بَسْطَةٌ [ (2) ] أَوْ نَحْوُهَا، وكان المهاجرون والأنصار ينقلون على رؤوسهم فِي الْمَكَاتِلِ، وَكَانُوا إذَا رَجَعُوا بِالْمَكَاتِلِ جَعَلُوا فِيهَا الْحِجَارَةَ يَأْتُونَ بِهَا مِنْ جَبَلِ سَلْعٍ. وَكَانُوا يَجْعَلُونَ التّرَابَ مِمّا يَلِي النّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وكانوا يَسْطُرُونَ الْحِجَارَةَ مِمّا يَلِيهِمْ كَأَنّهَا حِبَالُ [ (3) ] التّمْرِ- وَكَانَتْ الْحِجَارَةُ مِنْ أَعْظَمِ سِلَاحِهِمْ يَرْمُونَهُمْ بِهَا. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَحْمِلُ التّرَابَ فِي الْمَكَاتِلِ وَيَطْرَحُهُ، وَالْقَوْمُ يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَذَا الْجَمَالُ لَا جَمَالُ خَيْبَرَ ... هَذَا أَبَرّ رَبّنَا وَأَطْهَرُ وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ إذَا رَأَوْا مِنْ الرّجُلِ فُتُورًا ضَحِكُوا مِنْهُ. وَتَنَافَسَ النّاسُ يَوْمَئِذٍ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنّا! .. وَكَانَ قَوِيّا عَارِفًا بِحَفْرِ الْخَنَادِقِ. وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: هُوَ مِنّا وَنَحْنُ أَحَقّ بِهِ! فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ فَقَالَ: سَلْمَانُ رَجُلٌ منا أهل
الْبَيْتِ. وَلَقَدْ كَانَ يَوْمَئِذٍ يَعْمَلُ عَمَلَ عَشَرَةِ رِجَالٍ حَتّى عَانَهُ [ (1) ] يَوْمَئِذٍ قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ، فَلُبِطَ بِهِ [ (2) ] ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مُرُوهُ فَلْيَتَوَضّأْ لَهُ، وليغتسل به. ويكفإ الْإِنَاءَ خَلْفَهُ. فَفَعَلَ فَكَأَنّمَا حُلّ مِنْ عِقَالٍ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ مبشّر قال: سمعت جابر ابن عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: لَقَدْ كُنْت أَرَى سَلْمَانَ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ طُولًا وَخَمْسًا فِي الْأَرْضِ، فَمَا تَحَيّنْته حَتّى فَرَغَ وَحْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمّ، لَا عَيْشَ إلّا عَيْشُ الْآخِرَةِ. وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَعَلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَرْتَجِزُ وَنَحْفِرُ، وَكُنّا- بَنِي سَلِمَةَ- نَاحِيَةٌ، فَعَزَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيّ أَلّا أَقُولَ شَيْئًا، فَقُلْت: هَلْ عَزَمَ عَلَى غَيْرِي؟ قَالُوا: حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ. قَالَ: فَعَرَفْت أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّمَا نَهَانَا لِوَجْدِنَا لَهُ وَقِلّتِهِ عَلَى غَيْرِنَا، فَمَا تَكَلّمْت بِحَرْفٍ حَتّى فَرَغْنَا مِنْ الْخَنْدَقِ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: لَا يَغْضَبُ أَحَدٌ مِمّا قَالَ صَاحِبُهُ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ سُوءًا، إلّا مَا قَالَ كَعْبٌ وَحَسّانُ فَإِنّهُمَا يَجِدَانِ ذَلِكَ. وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَانَ ذَمِيمًا قَبِيحًا، وَكَانَ يَعْمَلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فِي الْخَنْدَقِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَيّرَ اسْمَهُ يَوْمَئِذٍ فَسَمّاهُ عمرا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سَمّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرًا ... وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا ظَهْرًا قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلّا أَنْ يَقُولَ «عَمْرًا» [ (1) ] . فَبَيْنَا الْمُسْلِمُونَ يَحْفِرُونَ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِيمَنْ يَنْقُلُ التّرَابَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَظَرَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ يَا رَسُولَ اللهِ الّذِي أَبْقَانِي حَتّى آمَنْت بِك، إنّي عَانَقْت أَبَا هَذَا يَوْمَ بُعَاثَ، ثَابِتَ بْنَ الضّحّاكِ، فَكَانَتْ اللّبْجَةُ [ (2) ] بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إنّهُ نِعْمَ الْغُلَامُ! وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَدْ رَقَدَ فِي الْخَنْدَقِ، غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتّى أُخِذَ سِلَاحُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَهُوَ فِي قُرّ شَدِيدٍ- تُرْسُهُ، وَقَوْسُهُ، وَسَيْفُهُ- وَهُوَ عَلَى شَفِيرِ الْخَنْدَقِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ وَيَحْرُسُونَهُ، وَتَرَكُوا زَيْدًا نَائِمًا، وَلَا يَشْعُرُونَ بِهِ حَتّى جَاءَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ فَأَخَذَ سِلَاحَهُ، وَلَا يَشْعُرُ حَتّى فَزِعَ بَعْدَ فَقْدِ سِلَاحِهِ، حَتّى بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا زَيْدًا فَقَالَ: يَا أَبَا رُقَادٍ، نِمْت حَتّى ذَهَبَ سِلَاحُك! ثُمّ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لَهُ عِلْمٌ بِسِلَاحِ هَذَا الْغُلَامِ؟ فَقَالَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَهُوَ عِنْدِي. فَقَالَ: فَرُدّهُ عَلَيْهِ، وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَوّعَ الْمُسْلِمُ أَوْ يُؤْخَذَ مَتَاعُهُ لَاعِبًا جَادّا [ (3) ] . حَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إلّا يَحْفِرُ فِي الْخَنْدَقِ أَوْ يَنْقُلُ التّرَابَ، وَلَقَدْ رُئِيَ رَسُولُ الله صلّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ- وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. لَا يَتَفَرّقَانِ فِي عَمَلٍ، وَلَا مَسِيرٍ، وَلَا مَنْزِلٍ- يَنْقُلَانِ التّرَابَ فِي ثِيَابِهِمَا يَوْمَئِذٍ مِنْ الْعَجَلَةِ، إذْ لَمْ يَجِدَا مَكَاتِلَ لِعَجَلَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَحْسَنَ فِي حُلّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنّهُ كَانَ أَبْيَضَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ، كَثِيرَ الشّعْرِ، يَضْرِبُ الشّعْرُ مَنْكِبَيْهِ. وَلَقَدْ رَأَيْته يَوْمَئِذٍ يَحْمِلُ التّرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ حَتّى حَالَ الْغُبَارُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ بَطْنِهِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَحْفِرُ فِي الْخَنْدَقِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالتّرَابُ عَلَى صَدْرِهِ وَبَيْنَ عُكَنِهِ [ (1) ] ، وَإِنّهُ لَيَقُولُ: اللهُمّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا يُرَدّدُ ذَلِكَ. وَحَدّثَنِي أُبَيّ بْنُ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: كُنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَأَخَذَ الْكَرْزَنَ وَضَرَبَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرًا فَصَلّ الْحَجَرَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِمّ تَضْحَكُ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أضحك من قوم يؤتى بهم مِنْ الْمَشْرِقِ فِي الْكُبُولِ [ (2) ] ، يُسَاقُونَ إلَى الْجَنّةِ وَهُمْ كَارِهُونَ. فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحُكْمِيّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَضْرِبُ يومئذ بالمعول، فصادف
حَجَرًا صَلْدًا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الْمِعْوَلَ، وَهُوَ عِنْدَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَذَهَبَتْ أَوّلُهَا بَرْقَةً إلَى الْيَمَنِ، ثُمّ ضَرَبَ أُخْرَى فَذَهَبَتْ بَرْقَةً إلَى الشّامِ، ثُمّ ضَرَبَ أُخْرَى فَذَهَبَتْ بَرْقَةً نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَكُسِرَ الْحَجَرُ عِنْدَ الثّالِثَةِ. فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ: وَاَلّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقّ، لَصَارَ كَأَنّهُ سَهْلَةٌ [ (1) ] وَكَانَ كُلّمَا ضَرَبَ ضَرْبَةً يَتْبَعُهُ سَلْمَانُ بِبَصَرِهِ [ (2) ] ، فَيُبْصِرُ عِنْدَ كُلّ ضَرْبَةٍ بَرْقَةً، فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْت الْمِعْوَلَ كُلّمَا ضَرَبْت بِهِ أَضَاءَ مَا تَحْتَهُ. فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ رَأَيْت ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي رَأَيْت فِي الْأُولَى قُصُورَ الشّامِ، ثُمّ رَأَيْت فِي الثّانِيَةِ قُصُورَ الْيَمَنِ، وَرَأَيْت فِي الثّالِثَةِ قَصْرَ كِسْرَى الْأَبْيَضَ بِالْمَدَائِنِ. وَجَعَلَ يَصِفُهُ لِسَلْمَانَ فَقَالَ: صَدَقْت وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، إنّ هَذِهِ لَصِفَتُهُ، وَأَشْهَدُ أَنّك لَرَسُولُ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ فُتُوحٌ يَفْتَحُهَا اللهُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي يَا سَلْمَانُ، لَتُفْتَحَن الشّامُ، وَيَهْرُبُ هِرَقْلُ إلَى أَقْصَى مَمْلَكَتِهِ، وَتَظْهَرُونَ عَلَى الشّامِ فَلَا يُنَازِعُكُمْ أَحَدٌ، وَلَتُفْتَحَن الْيَمَنُ، وَلَيُفْتَحَن هَذَا الْمَشْرِقُ، وَيُقْتَلُ كِسْرَى بَعْدَهُ. قَالَ سَلْمَانُ: فَكُلّ هَذَا قَدْ رَأَيْت. قَالُوا: وَكَانَ الْخَنْدَقُ مَا بَيْنَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ بِخُرْبَى إلَى رَاتِجٍ، فَكَانَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ ذُبَابٍ إلَى رَاتِجٍ، وَكَانَ لِلْأَنْصَارِ مَا بَيْنَ ذُبَابٍ إلَى خُرْبَى، فَهَذَا الّذِي حَفَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَشَبّكُوا الْمَدِينَةَ بِالْبُنْيَانِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ وَهِيَ كَالْحِصْنِ. وَخَنْدَقَتْ بَنُو عبد الأشهل عليها بما يَلِي رَاتِجٍ إلَى خَلْفِهَا، حَتّى جَاءَ الْخَنْدَقُ من وراء المسجد، وخندقت
بَنُو دِينَارٍ مِنْ عِنْدِ خُرْبَى إلَى مَوْضِعِ دَارِ ابْنِ أَبِي الْجُنُوبِ الْيَوْمَ. وَرَفَعَ الْمُسْلِمُونَ النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ فِي الْآطَامِ، وَرَفَعَتْ بَنُو حَارِثَةَ الذّرَارِيّ فِي أُطُمِهِمْ، وَكَانَ أُطُمًا مَنِيعًا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ فِيهِ. وَرَفَعَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ فِي الْآطَامِ، وَخَنْدَقَ بَعْضُهُمْ حَوْلَ الْآطَامِ بِقُبَاءَ، وَحَصّنَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَلَفّهَا [ (1) ] ، وخَطْمَةُ، وَبَنُو أُمَيّةَ، وَوَائِلٌ، وَوَاقِفٌ، فَكَانَ ذَرَارِيّهُمْ فِي آطَامِهِمْ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبْجَرَ [ (2) ] ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَسّانَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي شُيُوخُ بَنِي وَاقِفٍ أَنّهُمْ حَدّثُوهُ أَنّ بَنِي وَاقِفٍ جَعَلُوا ذَرَارِيّهُمْ وَنِسَاءَهُمْ فِي أُطُمِهِمْ، وَكَانُوا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَتَعَاهَدُونَ أَهْلِيهِمْ بِأَنْصَافِ النّهَارِ بِإِذْنِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْهَاهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَلَحّوا أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السّلَاحَ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَكَانَ هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ يَقُولُ: أَقْبَلْت فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي وَبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَقَدْ نَكَبْنَا عَنْ الْجِسْرِ وَصَفْنَةَ [ (3) ] فَأَخَذْنَا على قباء، حتى إذا كنا بعوسا [ (4) ] إذَا نَفَرٌ مِنْهُمْ فِيهِمْ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ الْقُرَظِيّ، فَنَضَحُونَا بِالنّبْلِ سَاعَةً، وَرَمَيْنَاهُمْ بِالنّبْلِ، وَكَانَتْ بَيْنَنَا جِرَاحَةٌ، ثُمّ انْكَشَفُوا عَلَى حَامِيَتِهِمْ وَرَجَعْنَا إلَى أَهْلِنَا، فَلَمْ نَرَ لَهُمْ جَمْعًا بَعْدُ. وَحَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ الْخَنْدَقُ الّذِي خَنْدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ جبل بنى عبيد إلى راتج
- وَهَذَا أَثْبَتُ الْأَحَادِيثِ عِنْدَنَا. وَذَكَرُوا أَنّ الْخَنْدَقَ لَهُ أَبْوَابٌ، فَلَسْنَا نَدْرِي أَيْنَ مَوْضِعُهَا. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي هُنَيْدَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَصَابَ النّاسُ كُدْيَةً يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَضَرَبُوا فِيهَا بِمَعَاوِلِهِمْ حَتّى انْكَسَرَتْ، فَدَعَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبّهُ عَلَيْهَا فَعَادَتْ كَثِيبًا. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْفِرُ، وَرَأَيْته خَمِيصًا، وَرَأَيْت بَيْنَ عُكَنِهِ الْغُبَارَ، فَأَتَيْت امْرَأَتِي فَأَخْبَرْتهَا مَا رَأَيْت مِنْ خَمَصِ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: وَاَللهِ، مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إلّا هَذِهِ الشّاةُ وَمُدّ مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ جَابِرٌ: فَاطْحَنِي وَأَصْلِحِي. قَالَتْ: فَطَبَخْنَا بَعْضَهَا وَشَوَيْنَا بَعْضَهَا، وَخُبِزَ الشّعِيرُ. [قَالَ جَابِرٌ] : ثُمّ أَتَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَكَثْت حَتّى رَأَيْت أَنّ الطّعَامَ قَدْ بَلَغَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ صَنَعْت لَك طَعَامًا فَأْتِ أَنْتَ وَمَنْ أَحْبَبْت مِنْ أَصْحَابِك. فَشَبّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ فِي أَصَابِعِي، ثُمّ قَالَ: أَجِيبُوا، جَابِرٌ يَدْعُوكُمْ! فَأَقْبَلُوا مَعَهُ فَقُلْت: وَاَللهِ، إنّهَا الْفَضِيحَةُ! فَأَتَيْت الْمَرْأَةَ فَأَخْبَرْتهَا فَقَالَتْ: أَنْتَ دَعَوْتهمْ أَوْ هُوَ دَعَاهُمْ؟ فَقُلْت: بَلْ هُوَ دَعَاهُمْ! قَالَتْ: دَعْهُمْ، هُوَ أَعْلَمُ. قَالَ: فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ، فَكَانُوا فِرَقًا، عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ، ثُمّ قَالَ لَنَا: اغْرِفُوا وَغَطّوا الْبُرْمَةَ، وَأَخْرِجُوا مِنْ التّنّورِ الْخُبْزَ ثُمّ غَطّوهُ. فَفَعَلْنَا فَجَعَلْنَا نَغْرِفُ وَنُغَطّي الْبُرْمَةَ ثُمّ نَفْتَحُهَا، فَمَا نَرَاهَا نَقَصَتْ شَيْئًا، وَنُخْرِجُ الْخُبْزَ مِنْ التّنّورِ ثُمّ نُغَطّيهِ، فَمَا نَرَاهُ يَنْقُصُ شَيْئًا. فَأَكَلُوا حَتّى شَبِعُوا، وَأَكَلْنَا وَأَهْدَيْنَا، فَعَمِلَ النّاسُ يَوْمَئِذٍ كُلّهُمْ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَعَلَتْ الْأَنْصَارُ تَرْتَجِزُ وَتَقُولُ:
نَحْنُ الّذِينَ بَايَعُوا مُحَمّدًا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ لَا خَيْرَ إلّا خَيْرُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ زَائِدَةَ، عَنْ أبى سلمة ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللّيْثِيّ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يعرض الغلمان وَهُوَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ، فَأَجَازَ مَنْ أَجَازَ وَرَدّ مَنْ رَدّ، وَكَانَ الْغِلْمَانُ يَعْمَلُونَ مَعَهُ، الّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا وَلَمْ يُجِزْهُمْ، وَلَكِنّهُ لَمّا لُحِمَ الْأَمْرُ أَمَرَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ إلَى الْآطَامِ مَعَ الذّرَارِيّ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَلَقَدْ كُنْت أَرَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لَيَضْرِبُ مَرّةً بِالْمَعُولِ، وَمَرّةً يَغْرِفُ بِالْمِسْحَاةِ التّرَابَ، وَمَرّةً يَحْمِلُ التّرَابَ فِي الْمِكْتَلِ. وَلَقَدْ رَأَيْته يَوْمًا بَلَغَ مِنْهُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ اتّكَأَ عَلَى حَجَرٍ عَلَى شِقّهِ الْأَيْسَرِ، فَذَهَبَ بِهِ النّوُمُ. فَرَأَيْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاقِفَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ يُنَحّيَانِ النّاسَ أَنْ يَمُرّوا بِهِ فَيُنَبّهُوهُ، وَأَنَا قَرّبْت مِنْهُ، فَفَزِعَ وَوَثَبَ، فَقَالَ: أَلَا أَفْزَعْتُمُونِي! فَأَخَذَ الْكَرْزَنَ يَضْرِبُ بِهِ، وَإِنّهُ لَيَقُولُ: اللهُمّ إنّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ اللهُمّ الْعَنْ عَضْلًا وَالْقَارَهْ ... فَهُمْ كَلّفُونِي أَنْقُلُ الْحِجَارَهْ فَكَانَ مِمّنْ أَجَازَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَهُوَ ابْنُ خمس عشرة.
حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ حَفَرَهُ سِتّةَ أَيّامٍ وَحَصّنَهُ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُبُرَ سَلْعٍ، فَجَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ وَالْخَنْدَقَ أَمَامَهُ، وَكَانَ عَسْكَرُهُ هُنَالِكَ. وَضَرَبَ قُبّةً مِنْ أَدَمٍ، وَكَانَتْ الْقُبّةُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْأَعْلَى الّذِي بِأَصْلِ الْجَبَلِ- جَبَلُ الْأَحْزَابِ- وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْقِبُ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَتَكُونُ عَائِشَةُ أَيّامًا، ثُمّ تَكُونُ أُمّ سَلَمَةَ، ثُمّ تَكُونُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ الثّلَاثُ اللّاتِي يُعْقِبُ بَيْنَهُنّ فِي الْخَنْدَقِ، وَسَائِرُ نِسَائِهِ فِي أُطُمِ بَنِي حَارِثَةَ. وَيُقَالُ: كُنّ فِي الْمَسِيرِ [ (1) ] ، أُطُمٌ فِي بَنِي زُرَيْقٍ، وَكَانَ حَصِينًا. وَيُقَالُ: كَانَ بَعْضُهُنّ فِي فَارِعٍ [ (2) ]- وَكُلّ هَذَا قَدْ سَمِعْنَاهُ. فَحَدّثَنِي أَبُو أَيّوبَ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ يَقُولُ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَلِقُرَيْشٍ فِي مَسِيرِهِ مَعَهُمْ: إنّ قَوْمِي قُرَيْظَةَ مَعَكُمْ، وَهُمْ أَهْلُ حَلْقَةٍ وَافِرَةٍ، هُمْ سَبْعُمِائَةِ مُقَاتِلٍ وَخَمْسُونَ مُقَاتِلًا. فَلَمّا دَنَوْا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ: ائْتِ قَوْمَك، حَتّى يَنْقُضُوا الْعَهْدَ الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ. فَذَهَبَ حُيَيّ حَتّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ صَالَحَ قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرَ وَمَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْيَهُودِ أَلّا يَكُونُوا مَعَهُ وَلَا عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَنْصُرُوهُ مِمّنْ دَهَمَهُ مِنْهُمْ، وَيُقِيمُوا عَلَى مَعَاقِلِهِمْ [ (3) ] الْأُولَى الّتِي بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَيُقَالُ إنّ حيىّ
عَدَلَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَسَلَكَ عَلَى الْعَصَبَةِ حَتّى طَرَقَ كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ، وَكَانَ كَعْبٌ صَاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَعَهْدِهَا. فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ يُحَدّثُ يَقُولُ: كَانَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ رَجُلًا مَشْئُومًا، هُوَ شَأْمُ بَنِي النّضِيرِ قَوْمُهُ، وَشَأْمُ قُرَيْظَةَ حَتّى قُتِلُوا، وَكَانَ يُحِبّ الرّئَاسَةَ وَالشّرَفَ عَلَيْهِمْ، وَلَهُ فِي قُرَيْشٍ شَبَهٌ- أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ. فَلَمّا أَتَى حُيَيّ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ كَرِهَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ دُخُولَهُ دَارَهُمْ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَهُ غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ، فَقَالَ لَهُ حُيَيّ: قَدْ جِئْتُك بِمَا تَسْتَرِيحُ بِهِ مِنْ مُحَمّدٍ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ حَلّتْ وَادِي الْعَقِيقِ، وَغَطَفَانَ بِالزّغَابَةِ. قَالَ غَزَالٌ: جِئْتنَا وَاَللهِ بِذُلّ الدّهْرِ! قَالَ حُيَيّ: لَا تَقُلْ هَذَا! ثُمّ وُجّهَ إلَى بَابِ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ فَدَقّ عَلَيْهِ، فَعَرَفَهُ كَعْبٌ وَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِدُخُولِ حُيَيّ عَلَيّ، رَجُلٌ مَشْئُومٌ قَدْ شَأَمَ قَوْمَهُ، وَهُوَ الْآنَ يَدْعُونِي إلَى نَقْضِ الْعَهْدِ! قَالَ: فَدَقّ عَلَيْهِ، فَقَالَ كَعْبٌ: إنّك امْرُؤٌ مَشْئُومٍ قَدْ شَأَمْت قَوْمَك حَتّى أَهْلَكْتهمْ، فَارْجِعْ عَنّا فَإِنّك إنّمَا تُرِيدُ هَلَاكِي وَهَلَاكَ قَوْمِي! فَأَبَى حُيَيّ أَنْ يَرْجِعَ، فَقَالَ كَعْبٌ: يَا حُيَيّ، إنّي عَاقَدْتُ مُحَمّدًا وَعَاهَدْته، فَلَمْ نَرَ مِنْهُ إلّا صِدْقًا، وَاَللهِ، مَا أَخْفَرَ [ (1) ] لَنَا ذِمّةً وَلَا هَتَكَ لَنَا سِتْرًا، وَلَقَدْ أَحْسَنَ جِوَارَنَا. فَقَالَ حُيَيّ: وَيْحَك! إنّي قَدْ جِئْتُك بِبَحْرِ طَامٍ وَبِعَزّ الدّهْرِ، جِئْتُك بِقُرَيْشٍ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، وَجِئْتُك بِكِنَانَةَ حَتّى أَنْزَلْتهمْ بِرُومَةَ، وَجِئْتُك بِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتّى أَنْزَلْتهمْ بِالزّغَابَةِ إلَى نَقْمَى [ (2) ] ، قَدْ قَادُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ، وَالْعَدَدُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَالْخَيْلُ أَلْفُ فَرَسٍ، وَسِلَاحٌ كَثِيرٌ، وَمُحَمّدٌ لَا يفلت فى فورنا هذا، وقد تعاقدوا
وَتَعَاهَدُوا أَلّا يَرْجِعُوا حَتّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمّدًا وَمَنْ مَعَهُ. قَالَ كَعْبٌ: وَيْحَك! جِئْتنِي وَاَللهِ بِذُلّ الدّهْرِ وَبِسَحَابٍ يَبْرُقُ وَيَرْعُدُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. وَأَنَا فِي بَحْرٍ لُجّيّ، لَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَرِيمَ دَارِي، وَمَالِي مَعِي وَالصّبْيَانُ وَالنّسَاءُ، فَارْجِعْ عَنّي، فَإِنّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيمَا جِئْتنِي بِهِ. قَالَ حُيَيّ: وَيْحَك! أُكَلّمُك. قَالَ كَعْبٌ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ: وَاَللهِ، مَا أَغْلَقْت دُونِي إلّا لِجَشِيشَتِك أَنْ آكُلَ مَعَك مِنْهَا، فَلَك أَلّا أُدْخِلَ يَدِي فِيهَا. قَالَ: فَأَحْفَظُهُ [ (1) ] ، فَفَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُهُ فِي الذّرْوَةِ وَالْغَارِبِ [ (2) ] حَتّى لَانَ لَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ عَنّي يَوْمَك هَذَا حَتّى أُشَاوِرَ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ. فَقَالَ: قَدْ جَعَلُوا الْعَهْدَ وَالْعَقْدَ إلَيْك فَأَنْتَ تَرَى لَهُمْ. وَجَعَلَ يُلِحّ عَلَيْهِ حَتّى فَتَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: يَا حُيَيّ، قَدْ دَخَلْت فِيمَا تَرَى كَارِهًا لَهُ، وَأَنَا أَخْشَى أَلّا يُقْتَلَ مُحَمّدٌ، وَتَنْصَرِفُ قُرَيْشٌ إلَى بِلَادِهَا، وَتَرْجِعُ أَنْتَ إلَى أَهْلِك، وَأَبْقَى فِي عُقْرِ الدّارِ وَأُقْتَلُ وَمَنْ مَعِي. فَقَالَ حُيَيّ: لَك مَا فِي التّوْرَاةِ الّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ، لَئِنْ لَمْ يُقْتَلْ مُحَمّدٌ فِي هَذِهِ الْفَوْرَةِ وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبُوا مُحَمّدًا، لَأَدْخُلَن مَعَك حِصْنَك حَتّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَك. فَنَقَضَ كَعْبٌ الْعَهْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا حُيَيّ بِالْكِتَابِ الّذِي كَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَشَقّهُ حُيَيّ، فَلَمّا شَقّهُ حُيَيّ عَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ قَدْ لَحَمَ وَفَسَدَ، فَخَرَجَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَهُمْ حِلَقٌ حَوْلَ مَنْزِلِ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، فَخَبّرَهُمْ الْخَبَرَ. يقول الزّبير بن باطا: وإهلاك اليهود! تولّى قريش وغطفان
وَيَتْرُكُونَنَا فِي عُقْرِ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا وَذَرَارِيّنَا، وَلَا قُوّةَ لَنَا بِمُحَمّدٍ! مَا بَاتَ يَهُودِيّ عَلَى حُزَمٍ قَطّ، وَلَا قَامَتْ يَهُودِيّةٌ بِيَثْرِبَ أَبَدًا. ثُمّ أَرْسَلَ كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ إلَى نَفَرٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ خَمْسَةً- الزّبَيْرَ بْنَ بَاطَا، ونبّاش بن قيس، وغزّال ابن سَمَوْأَلٍ، وَعُقْبَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَكَعْبَ بْنَ زَيْدٍ، فَخَبّرَهُمْ خَبَرَ حُيَيّ، وَمَا أَعْطَاهُ حُيَيّ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ فَيَدْخُلَ مَعَهُ فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُ. يقول الزّبير ابن بَاطَا: وَمَا حَاجَتُك إلَى أَنْ تُقْتَلَ وَيُقْتَلَ مَعَك حُيَيّ! قَالَ: فَأُسْكِتَ كَعْبٌ وَقَالَ الْقَوْمُ: نَحْنُ نَكْرَهُ نُزْرِي بِرَأْيِك أَوْ نُخَالِفُك، وَحُيَيّ مَنْ قَدْ عَرَفْت شُومَهُ. وَنَدِمَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَحَمَ الْأَمْرُ لَمّا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى مِنْ حَرْبِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي الْخَنْدَقِ أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو في قُبّتِهِ- وَقُبّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضْرُوبَةٌ مِنْ أَدَمٍ فِي أَصْلِ الْجَبَلِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الّذِي فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ- مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى خَنْدَقِهِمْ يَتَنَاوَبُونَ، مَعَهُمْ بِضْعَةً وَثَلَاثُونَ فَرَسًا، وَالْفُرْسَانُ يَطُوفُونَ عَلَى الْخَنْدَقِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ، يَتَعَاهَدُونَ رِجَالًا وَضَعُوهُمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ، إلَى أَنْ جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَنِي أَنّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ نَقَضَتْ الْعَهْدَ وَحَارَبَتْ. فَاشْتَدّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَنْ نَبْعَثُ يَعْلَمُ لَنَا عِلْمَهُمْ؟ فَقَالَ عُمَرُ: الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. فَكَانَ أَوّلَ النّاسِ بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن الْعَوّامِ، فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَذَهَبَ الزّبَيْرُ فَنَظَرَ، ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتهمْ يُصْلِحُونَ حُصُونَهُمْ وَيُدْرِبُونَ طُرُقَهُمْ، وَقَدْ جَمَعُوا مَاشِيَتَهُمْ. فَذَلِكَ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ لِكُلّ نَبِيّ حَوَارِيّا، وَحَوَارِيّ الزّبَيْرُ وَابْنُ عَمّتِي.
ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَأُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، فَقَالَ: إنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَحَارَبُوا، فَاذْهَبُوا فَانْظُرُوا إنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي حَقّا، فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَأَظْهِرُوا الْقَوْلَ، وَإِنْ كَانَ حَقّا فَتَكَلّمُوا بِكَلَامٍ تَلْحَنُونَ لِي بِهِ أَعْرِفُهُ، لَا تَفُتّوا أَعْضَادَ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ وَجَدُوا الْقَوْمَ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَنَاشَدُوهُمْ اللهَ وَالْعَهْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ، أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِمَ الْأَمْرُ، وَأَلّا يُطِيعُوا حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ. فَقَالَ كَعْبٌ: لَا نَرُدّهُ أَبَدًا، قَدْ قَطَعْته كَمَا قَطَعْت هَذَا الْقِبَالَ [ (1) ] لِقِبَالِ نَعْلِهِ. وَوَقَعَ كَعْبٌ بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ يَسُبّهُ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: تَسُبّ سَيّدَك يَا عَدُوّ اللهِ؟ مَا أَنْتَ لَهُ بِكُفْءٍ! أَمَا وَاَللهِ يَا ابْنَ الْيَهُودِ [ (2) ] ، لَتُوَلّيَن قُرَيْشٌ إنْ شَاءَ اللهُ مُنْهَزِمَةً وَتَتْرُكُك فِي عُقْرِ دَارِك، فَنَسِيرُ إلَيْك فَتَنْزِلُ مِنْ جُحْرِك هَذَا عَلَى حُكْمِنَا. وَإِنّك لَتَعْلَمُ النّضِيرَ، كَانُوا أَعَزّ مِنْك وَأَعْظَمَ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ، دِيَتُك نِصْفُ دِيَتِهِمْ، وَقَدْ رَأَيْت مَا صَنَعَ اللهُ بِهِمْ. وَقَبْلَ ذَلِكَ بَنُو قَيْنُقَاعَ، نَزَلُوا عَلَى حُكْمِنَا. قَالَ كَعْبٌ: يَا ابْنَ الْحُضَيْرِ، تخوّفوننى بالمسير إلىّ؟ أما والتوراة، لَقَدْ رَآنِي أَبُوك يَوْمَ بُعَاثَ- لَوْلَا نَحْنُ لَأَجْلَتْهُ الْخَزْرَجُ مِنْهَا. إنّكُمْ وَاَللهِ مَا لَقِيتُمْ أَحَدًا يُحْسِنُ الْقِتَالَ وَلَا يَعْرِفُهُ، نَحْنُ وَاَللهِ نُحْسِنُ قِتَالَكُمْ! وَنَالُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ أَقْبَحَ الْكَلَامِ، وَشَتَمُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ شَتْمًا قَبِيحًا حَتّى أَغْضَبُوهُ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: دَعْهُمْ فَإِنّا لَمْ نَأْتِ لِهَذَا، مَا بَيْنَنَا أَشَدّ مِنْ المشاتمة- السيف! وكان
الّذِي يَشْتُمُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: عَضِضْتَ بِبَظْرِ [ (1) ] أُمّك! فَانْتَفَضَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ غَضَبًا، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ بَنِي النّضِيرِ. قَالَ غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ: أَكَلْت أَيْرَ أَبِيك! قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ أَحْسَنَ مِنْهُ. قَالَ: ثُمّ رَجَعُوا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: عَضَلُ وَالْقَارَةُ. وَسَكَتَ الرّجُلَانِ- يُرِيدُ بِعَضَلَ وَالْقَارَةَ غَدْرَهُمْ بِخُبَيْبٍ وَأَصْحَابِ الرّجِيعِ- ثُمّ جَلَسُوا. فَكَبّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ بِنَصْرِ اللهِ وَعَوْنِهِ. وَانْتَهَى الْخَبَرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِنَقْضِ بَنِي قُرَيْظَةَ الْعَهْدَ، فَاشْتَدّ الْخَوْفُ وَعَظُمَ الْبَلَاءُ. قُرِئَ عَلَى ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الثّلْجِيّ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ، قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بن أبي بكر، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَخَوّاتَ بْنَ جُبَيْرٍ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. قَالُوا: وَنَجَمَ النّفَاقُ، وَفَشِلَ النّاسُ، وَعَظُمَ الْبَلَاءُ، وَاشْتَدّ الْخَوْفُ، وَخِيفَ عَلَى الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ، وَكَانُوا كَمَا قال الله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [ (2) ] وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وِجَاهَ الْعَدُوّ، لَا يَسْتَطِيعُونَ الزّوَالَ عَنْ مَكَانِهِمْ، يَعْتَقِبُونَ خَنْدَقَهُمْ وَيَحْرُسُونَهُ. وَتَكَلّمَ قَوْمٌ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ، فَقَالَ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ: يَعِدُنَا مُحَمّدٌ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لا
يَأْمَنُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى حَاجَتِهِ، وَمَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا! فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَأَرْجُو أن أطوف بالبيت العتيق وَآخُذَ الْمِفْتَاحَ، وَلَيُهْلِكَن اللهُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَلَتُنْفَقَن أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ- يَقُولُ ذَلِكَ حِينَ رَأَى مَا بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَرْبِ. فَسَمِعَهُ مُعَتّبٌ فَقَالَ مَا قَالَ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ قَالَ: هَمّتْ بَنُو قُرَيْظَةَ أَنْ يُغَيّرُوا عَلَى بَيْضَةِ الْمَدِينَةِ لَيْلًا، فَأَرْسَلُوا حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ إلَى قُرَيْشٍ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنْهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ، وَمِنْ غَطَفَانَ أَلْفٌ، فَيُغِيرُوا بِهِمْ [ (1) ] . فَجَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ فَعَظُمَ الْبَلَاءُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ سَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ الْأَشْهَلِيّ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ يَحْرَسُونَ الْمَدِينَةَ وَيُظْهِرُونَ التّكْبِيرَ، وَمَعَهُمْ خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا أَصْبَحُوا أَمّنُوا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَقَدْ خِفْنَا عَلَى الذّرَارِيّ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَشَدّ [مِنْ] خَوْفِنَا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، وَلَقَدْ كُنْت أُوفِي عَلَى سَلْعٍ فَأَنْظُرُ إلَى بُيُوتِ الْمَدِينَةِ، فَإِذَا رَأَيْتهمْ هَادِينَ [ (2) ] حَمِدْت اللهَ عَزّ وَجَلّ، فَكَانَ مِمّا رَدّ اللهُ بِهِ قُرَيْظَةَ عَمّا أَرَادُوا أَنّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ تُحْرَسُ. حَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ خَوّاتٍ، عَنْ ابْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ مُحَاصِرُو الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: انْطَلِقْ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَانْظُرْ هَلْ تَرَى لَهُمْ غُرّةً أَوْ خَلَلًا مِنْ مَوْضِعٍ فَتُخْبِرُنِي. قَالَ: فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ عِنْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ، فَتَدَلّيْت من سلع وغربت
لِي الشّمْسُ فَصَلّيْت الْمَغْرِبَ، ثُمّ خَرَجْت حَتّى أَخَذْت فِي رَاتِجٍ، ثُمّ عَلَى عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمّ فِي زُهْرَةَ، ثُمّ عَلَى بُعَاثَ. فَلَمّا دَنَوْت مِنْ الْقَوْمِ قُلْت: أَكْمُنُ لَهُمْ. فَكَمَنْت وَرَمَقْت الْحُصُونَ سَاعَةً، ثُمّ ذَهَبَ بِي النّوْمُ فَلَمْ أَشْعُرْ إلّا بِرَجُلٍ قَدْ احْتَمَلَنِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَوَضَعَنِي عَلَى عُنُقِهِ ثُمّ انْطَلَقَ يَمْشِي. قَالَ: فَفَزِعْت وَرَجُلٌ يَمْشِي بِي عَلَى عَاتِقِهِ، فَعَرَفْت أَنّهُ طَلِيعَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ وَاسْتَحْيَيْت تِلْكَ السّاعَةَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيَاءً شَدِيدًا، حَيْثُ ضَيّعْت ثَغْرًا أَمَرَنِي بِهِ، ثُمّ ذَكَرْت غَلَبَةَ النّوْمِ. قَالَ: وَالرّجُلُ يُرْقَلُ بِي إلَى حُصُونِهِمْ، فَتَكَلّمَ بِالْيَهُودِيّةِ فَعَرَفْته، قَالَ: أَبْشِرْ بِجَزْرَةٍ سَمِينَةٍ! قَالَ: وَذَكَرْت وَجَعَلْت أَضْرِبُ بِيَدِي- وَعَهْدِي بِهِمْ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَبَدًا إلّا بِمِعْوَلٍ فِي وَسَطِهِ. قَالَ: فَأَضَعُ يَدِي عَلَى الْمِعْوَلِ فَأَنْتَزِعُهُ، وَشُغِلَ بِكَلَامِ رَجُلٍ مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ، فَانْتَزَعْته فَوَجَأْت بِهِ كَبِدَهُ فَاسْتَرْخَى وَصَاحَ: السّبُعُ! فَأَوْقَدَتْ الْيَهُودُ النّارَ عَلَى آطَامِهَا بِشُعَلِ السّعَفِ. وَوَقَعَ مَيّتًا وَانْكَشَفَ، فَكُنْت لَا أُدْرَكُ، [ (1) ] وَأَقْبَلَ مِنْ طَرِيقِي الّتِي جِئْت مِنْهَا. وَجَاءَ جِبْرِيلُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ظَفِرْت يَا خَوّاتُ! ثُمّ خَرَجَ فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ خَوّاتٍ كَذَا وَكَذَا. وَآتِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَحَدّثُونَ، فَلَمّا رَآنِي قَالَ: أَفْلَحَ وَجْهُك! قُلْت: وَوَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: أَخْبِرْنِي خَبَرَك. فَأَخْبَرْته، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَكَذَا أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ. وَقَالَ الْقَوْمُ: هَكَذَا حَدّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ خَوّاتٌ: فَكَانَ لَيْلُنَا بِالْخَنْدَقِ نَهَارًا. قال غير صالح: قال خوّات: رأيتنى
وَأَنَا أَتَذَكّرُ سُوءَ أَثَرِي عِنْدَهُمْ بَعْدَ مُمَالَحَةٍ وَخِلْصِيّةٍ مِنّي لَهُمْ، فَقُلْت: هُمْ يُمَثّلُونَ بِي كُلّ الْمَثْلَ حَتّى ذَكَرْت الْمِعْوَلَ. حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: خَرَجَ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ لَيْلَةً مِنْ حِصْنِهِمْ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ، وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ أَشِدّائِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: عَسَى أَنْ نُصِيبَ مِنْهُمْ غُرّةً. فَانْتَهَوْا إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَيَجِدُونَ نَفَرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ، فَنَاهَضُوهُمْ فَرَامُوهُمْ سَاعَةً بِالنّبْلِ، ثُمّ انْكَشَفَ الْقُرَيْظِيّونَ مُوَلّينَ. وَبَلَغَ سَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ وَهُمْ بِنَاحِيَةِ بَنِي حَارِثَةَ، فَأَقْبَلَ فِي أَصْحَابِهِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى حُصُونِهِمْ، فَجَعَلُوا يُطِيفُونَ بِحُصُونِهِمْ حَتّى خَافَتْ الْيَهُودُ، وَأَوْقَدُوا النّيرَانَ عَلَى آطَامِهِمْ وَقَالُوا: البيات! وهدموا قرني [ (1) ] بئر لهم وهوّ روها [ (2) ] عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا يَطْلُعُوا مِنْ حِصْنِهِمْ وَخَافُوا خوفا شديدا. وحدّثنى شيخ من قريش، قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ وَابْنُ جَعْفَرٍ هَذَا أَثْبَتُ مِنْ الّذِي فِي أُحُدٍ، قَالَ: كَانَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَجُلًا جَبَانًا، فَكَانَ قَدْ رُفِعَ مَعَ النّسَاءِ فِي الْآطَامِ، فَكَانَتْ صَفِيّةُ فِي أُطُمِ فَارِعٍ، وَمَعَهَا جَمَاعَةٌ وَحَسّانُ مَعَهُمْ. فَأَقْبَلَ عَشَرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ وَرَأْسُهُمْ غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ نَهَارًا، فَجَعَلُوا يَنْقَمِعُونَ [ (3) ] وَيَرْمُونَ الْحِصْنَ، فَقَالَتْ صَفِيّةُ لِحَسّانَ: دُونَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ! قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَا أُعَرّضُ نفسي لهولاء الْيَهُودِ. وَدَنَا أَحَدُهُمْ إلَى بَابِ الْحِصْنِ يُرِيدُ أن يدخل، فاحتجزت صفيّة بثوبها، ثم
أَخَذَتْ خَشَبَةً فَنَزَلَتْ إلَيْهِ فَضَرَبَتْهُ ضَرْبَةً شَدَخَتْ رَأْسَهُ فَقَتَلَتْهُ، فَهَرَبَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ. وَاجْتَمَعَتْ بنو حارثة فبعثوا أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ، وَلَيْسَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مِثْلَ دَارِنَا، لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ غَطَفَانَ أَحَدٌ يَرُدّهُمْ عَنّا، فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَرْجِعْ إلَى دُورِنَا فَنَمْنَعْ ذَرَارِيّنَا وَنِسَاءَنَا. فَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعُوا بِذَلِكَ وَتَهَيّئُوا لِلِانْصِرَافِ. فَبَلَغَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَجَاءَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تَأْذَنْ لَهُمْ، إنّا وَاَللهِ مَا أَصَابَنَا وَإِيّاهُمْ شِدّةٌ قَطّ إلّا صَنَعُوا هَكَذَا. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِبَنِي حَارِثَةَ: هَذَا لَنَا مِنْكُمْ أَبَدًا، مَا أَصَابَنَا وَإِيّاكُمْ شِدّةٌ إلّا صَنَعْتُمْ هَكَذَا. فَرَدّهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت عَائِشَةُ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول: لقد رأيت لسعد ابن أَبِي وَقّاصٍ لَيْلَةً وَنَحْنُ بِالْخَنْدَقِ لَا أَزَالُ أُحِبّهُ أَبَدًا. قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَلِفُ إلَى ثُلْمَةٍ فِي الْخَنْدَقِ يَحْرُسُهَا، حَتّى إذَا آذَاهُ الْبَرْدُ جَاءَنِي فأدفأته فى حصني، فَإِذَا دَفِئَ خَرَجَ إلَى تِلْكَ الثّلْمَةِ يَحْرُسُهَا وَيَقُولُ: مَا أَخْشَى أَنْ يُؤْتَى النّاسُ إلّا مِنْهَا. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فى حصني قَدْ دَفِئَ وَهُوَ يَقُولُ: لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي [ (1) ] ! قَالَتْ: إلَى أَنْ سَمِعْت صَوْتَ السّلَاحِ وَقَعْقَعَةَ الْحَدِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ. قَالَ: عَلَيْك بِهَذِهِ الثّلْمَةِ، فَاحْرُسْهَا. قَالَتْ: وَنَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى سَمِعْت غَطِيطَهُ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عن عبد الله
ابن أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ: قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: كُنْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ فَلَمْ أُفَارِقْهُ مَقَامَهُ كُلّهُ. وَكَانَ يَحْرُسُ بِنَفْسِهِ فِي الْخَنْدَقِ، وَكُنّا فِي قُرّ شَدِيدٍ، فَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَيْهِ قَامَ فَصَلّى مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُصَلّيَ فِي قُبّتِهِ، ثُمّ خَرَجَ فَنَظَرَ سَاعَةً فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: هَذِهِ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ تُطِيفُ بِالْخَنْدَقِ، مَنْ لَهُمْ؟ ثُمّ نَادَى: يَا عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ. فَقَالَ عَبّادٌ: لَبّيْكَ! قَالَ: أَمَعَك أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي كُنّا حَوْلَ قُبّتِك. قَالَ: فَانْطَلِقْ فِي أَصْحَابِك فَأَطِفْ بِالْخَنْدَقِ، فَهَذِهِ خَيْلٌ مِنْ خَيْلِهِمْ تُطِيفُ بِكُمْ يَطْمَعُونَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْكُمْ غُرّةً. اللهُمّ ادْفَعْ عَنّا شَرّهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ وَاغْلِبْهُمْ، لَا يَغْلِبُهُمْ غَيْرُك! فَخَرَجَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فِي أَصْحَابِهِ، فَإِذَا بِأَبِي سُفْيَانَ فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُطِيفُونَ بِمَضِيقِ الْخَنْدَقِ. وَقَدْ نَذَرَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ. فَوَقَفْنَا مَعَهُمْ فَرَمَيْنَاهُمْ حَتّى أَذْلَقْنَاهُمْ [ (1) ] بِالرّمْيِ فَانْكَشَفُوا رَاجِعِينَ إلَى مَنْزِلِهِمْ. وَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجِدُهُ يُصَلّي فَأَخْبَرْته. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَنَامَ حَتّى سَمِعْت غَطِيطَهُ فَمَا تَحَرّكَ حَتّى سَمِعْت بِلَالًا يُؤَذّنُ بِالصّبْحِ وَبَيَاضِ الْفَجْرِ، فَخَرَجَ فَصَلّى بِالْمُسْلِمِينَ. فَكَانَتْ تَقُولُ: يَرْحَمُ اللهُ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ، فَإِنّهُ كَانَ أَلْزَمَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُبّةِ رَسُولِ اللهِ يَحْرُسُهَا أَبَدًا. فَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَحْرُسُ الْخَنْدَقَ فِي أَصْحَابِهِ، فَانْتَهَوْا إلَى مَكَانٍ مِنْ الْخَنْدَقِ تطفره [ (2) ] الخيل،
فَإِذَا طَلِيعَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مِائَةُ فَارِسٍ أَوْ نَحْوُهَا، عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُرِيدُونَ أَنْ يُغَيّرُوا إلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ عَلَيْهَا بِأَصْحَابِهِ، فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ حَتّى أَجْهَضُوا عَنّا وَوَلّوْا. وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ اللّيْلَةَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ، فَقَالَ لِأُسَيْدٍ: إنّ هَذَا مَكَانٌ مِنْ الْخَنْدَقِ مُتَقَارِبٌ، وَنَحْنُ نَخَافُ تَطْفُرَهُ خَيْلُهُمْ- وَكَانَ النّاسُ عَجِلُوا فِي حَفْرِهِ. وَبَادَرُوا فَبَاتُوا يُوَسّعُونَهُ حَتّى صَارَ كَهَيْئَةِ الْخَنْدَقِ وَأَمّنُوا أَنْ تَطْفُرَهُ خَيْلُهُمْ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَنَاوَبُونَ الْحِرَاسَةَ، وَكَانُوا فِي قُرّ شَدِيدٍ وَجُوعٍ. فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَتِيقٍ السّلَمِيّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتنِي أَحْرُسُ الْخَنْدَقَ، وَخَيْلُ الْمُشْرِكِينَ تُطِيفُ بِالْخَنْدَقِ وَتَطْلُبُ غُرّةً وَمُضِيقًا مِنْ الْخَنْدَقِ فَتَقْتَحِمُ فِيهِ، وَكَانَ عَمْرُو بن العاص وخالد ابن الْوَلِيدِ هُمَا اللّذَانِ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ، يَطْلُبَانِ الْغَفْلَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَلَقِينَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي مِائَةِ فَارِسٍ، قَدْ جَالَ بِخَيْلِهِ يُرِيدُ مَضِيقًا مِنْ الْخَنْدَقِ يُرِيدُ أَنْ يَعْبُرَ فُرْسَانُهُ، فَنَضَحْنَاهُمْ بِالنّبْلِ حَتّى انْصَرَفَ [ (1) ] . فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي مِائَةِ فَارِسٍ. فَأَقْبَلُوا مِنْ الْعَقِيقِ حَتّى وَقَفُوا بِالْمُذَادِ وِجَاهَ [ (2) ] قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَنَذِرْت بِالْقَوْمِ فَقُلْت لِعَبّادِ بْنِ بِشْرٍ، وَكَانَ عَلَى حَرَسِ قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَائِمًا يُصَلّي، فَقُلْت: أَتَيْت! فَرَكَعَ ثُمّ سَجَدَ، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ هُوَ رَابِعُهُمْ، فَأَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: هَذِهِ قُبّةُ مُحَمّدٍ، ارْمُوا! فَرَمَوْا، فَنَاهَضْنَاهُمْ حَتّى وَقَفْنَا عَلَى شَفِيرِ الْخَنْدَقِ، وَهُمْ بِشَفِيرِ [ (3) ] الْخَنْدَقِ مِنْ الْجَانِبِ الآخر،
فَتَرَامَيْنَا، وَثَابَ [ (1) ] إلَيْنَا أَصْحَابُنَا، وَثَابَ إلَيْهِمْ أَصْحَابُهُمْ، وَكَثُرَتْ الْجِرَاحَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. ثُمّ اتّبَعُوا الْخَنْدَقَ عَلَى حَافّتَيْهِ وَتَبِعْنَاهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى مَحَارِسِهِمْ، فَكُلّمَا نَمُرّ بِمَحْرِسٍ نَهَضَ مَعَنَا طَائِفَةٌ وَثَبَتَ طَائِفَةٌ، حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى رَاتِجٍ فَوَقَفُوا وَقْفَةً طَوِيلَةً، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ قُرَيْظَةَ يُرِيدُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى بَيْضَةِ الْمَدِينَةِ، فَمَا شَعَرْنَا إلّا بِخَيْلِ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ يَحْرُسُ، فَيَأْتُونَ مِنْ خَلْفِ رَاتِجٍ، فَلَاقَوْا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَاقْتَتَلُوا وَاخْتَلَطُوا، فَمَا كَانَ إلّا حَلْبُ شَاةٍ حَتّى نَظَرْت إلَى خَيْلِ خَالِدٍ مُوَلّيَةً، وَتَبِعَهُ سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ حَتّى رَدّهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. فَأَصْبَحَ خَالِدٌ وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ تَزِرِي عَلَيْهِ وَتَقُولُ: مَا صَنَعْت شَيْئًا فِيمَنْ فِي الْخَنْدَقِ وَلَا فِيمَنْ أَصْحَرَ لَك [ (2) ] . فَقَالَ خَالِدٌ: أَنَا أَقْعُدُ اللّيْلَةَ، وَابْعَثُوا خَيْلًا حَتّى أَنْظُرُ أَيّ شَيْءٍ تَصْنَعُ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: وَاَللهِ، إنّي لَفِي جَوْفِ اللّيْلِ فِي قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ، إلَى أَنْ سَمِعْت الْهَيْعَةَ [ (3) ] ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: يَا خَيْلَ اللهِ! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ «يَا خَيْلَ اللهِ» فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتِهِ فَخَرَجَ مِنْ الْقُبّةِ، فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ الصّحَابَةِ عِنْدَ قُبّتِهِ يَحْرُسُونَهَا، مِنْهُمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَ: مَا بَالُ النّاسِ؟ قَالَ عَبّادٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا صَوْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، اللّيْلَةَ نَوْبَتُهُ يُنَادِي: «يَا خَيْلَ اللهِ» وَالنّاسُ يَثُوبُونَ إلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ حُسَيْكَةَ مَا بَيْنَ ذُبَابٍ وَمَسْجِدِ الْفَتْحِ. فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه
وسلم لِعَبّادِ بْنِ بِشْرٍ: اذْهَبْ فَانْظُرْ، ثُمّ ارْجِعْ إلَيّ إنْ شَاءَ الله فَأَخْبِرْنِي! قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَقُمْت عَلَى بَابِ الْقُبّةِ أَسْمَعُ كُلّ مَا يَتَكَلّمَانِ بِهِ. قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا حَتّى جَاءَهُ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ فِي خيل المشركين، معه مسعود بن رخيلة ابن نُوَيْرَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ سُحْمَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِلَالِ بْنِ خَلَاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ ابن رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، فِي خَيْلِ غَطَفَانَ، وَالْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ. قَالَتْ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَمِغْفَرَهُ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ. وَخَرَجَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ، حَتّى أَتَى تِلْكَ الثّغْرَةَ، فَلَمْ يَلْبَث أَنْ رَجَعَ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَالَ: صَرَفَهُمْ اللهُ، وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ الْجِرَاحَةُ. قَالَتْ: فَنَامَ حَتّى سَمِعْت غَطِيطَهُ، وَسَمِعْت هَائِعَةً أُخْرَى، فَفَزِعَ فَوَثَبَ فَصَاحَ: يَا عَبّادُ ابن بِشْرٍ! قَالَ: لَبّيْكَ! قَالَ: اُنْظُرْ مَا هَذَا. فَذَهَبَ ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ: هَذَا ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مَعَهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي خَيْلِ غَطَفَانَ عِنْدَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ. فَعَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمّ خَرَجَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ إلَى تِلْكَ الثّغْرَةِ، فَلَمْ يَأْتِنَا حَتّى كَانَ السّحَرُ، فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: رَجَعُوا مَفْلُولِينَ، قَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ الْجِرَاحَةُ. ثُمّ صَلّى بِأَصْحَابِهِ الصّبْحَ وَجَلَسَ. فَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ تَقُولُ: قَدْ شَهِدْت مَعَهُ مَشَاهِدَ فِيهَا قِتَالٌ وَخَوْفٌ- الْمُرَيْسِيعَ، وَخَيْبَر، وَكُنّا بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي الْفَتْحِ، وُحَنَيْنٍ- لَمْ يَكُنْ فى ذَلِكَ شَيْءٌ أَتْعَبُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَخْوَفُ عِنْدَنَا مِنْ الْخَنْدَقِ. وَذَلِكَ أَنّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ [ (1) ] ، وَأَنّ قُرَيْظَةَ لَا نَأْمَنُهَا عَلَى الذّرَارِيّ، وَالْمَدِينَةُ تُحْرَسُ حَتّى الصّبَاحِ، يُسْمَعُ تَكْبِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا حتى يصبحوا
خَوْفًا، حَتّى رَدّهُمْ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] [ (1) ] . حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قَالَ: كُنّا حَوْلَ قُبّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْرُسُهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ نَسْمَعُ غَطِيطَهُ، إذْ [ (2) ] وَافَتْ أَفْرَاسٌ عَلَى سَلْعٍ، فَبَصُرَ بِهِمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَأَخْبَرَنَا بِهِمْ، قَالَ: فَأَمْضَى إلَى الْخَيْلِ، وَقَامَ عَبّادٌ عَلَى بَابِ قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِذًا بِقَائِمِ السّيْفِ يَنْظُرُنِي، فَرَجَعْت فَقُلْت: خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ أَشْرَفَتْ، عَلَيْهَا سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ، فَرَجَعْت إلَى مَوْضِعِنَا. ثُمّ يَقُولُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: كَانَ لَيْلُنَا بِالْخَنْدَقِ نَهَارًا حَتّى فَرّجَهُ اللهُ. حَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَتِيقٍ، عن جابر، وحدّثنى الضّحّاك ابن عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ خَوْفُنَا عَلَى الذّرَارِيّ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَشَدّ مِنْ خَوْفِنَا مِنْ قُرَيْشٍ! حَتّى فَرّجَ اللهُ ذَلِكَ. قَالُوا: فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَنَاوَبُونَ بَيْنَهُمْ، فَيَغْدُو أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي أَصْحَابِهِ يَوْمًا، وَيَغْدُو هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَوْمًا، وَيَغْدُو عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَوْمًا، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ يَوْمًا، فَلَا يَزَالُونَ يُجِيلُونَ خَيْلَهُمْ مَا بَيْنَ الْمَذَادِ إلَى رَاتِجٍ، وَهُمْ فِي نَشَرٍ [ (3) ] مِنْ أَصْحَابِهِمْ، يَتَفَرّقُونَ مَرّةً وَيَجْتَمِعُونَ أُخْرَى، حَتّى عَظُمَ الْبَلَاءُ وَخَافَ النّاسُ خَوْفًا شَدِيدًا. وَيُقَدّمُونَ رُمَاتَهُمْ- وَكَانَ مَعَهُمْ رُمَاةٌ، حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ، وأبو أسامة الجشمىّ، وغيرهم من
أَفْنَاءِ [ (1) ] الْعَرَبِ- فَعَمَدُوا يَوْمًا مِنْ ذَلِكَ فَتَنَاوَشُوا بِالنّبْلِ سَاعَةً، وَهُمْ جَمِيعًا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ وِجَاهَ قُبّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ، عَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ، وَيُقَالُ عَلَى فَرَسِهِ. فَيَرْمِي حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ [ (2) ] ، فَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَرّقَ اللهُ وَجْهَك فِي النّارِ! وَيُقَال أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ رَمَاهُ، وَكَانَ دَارِعًا. فَكَانَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: كُنّا فِي أُطُمِ بَنِي حَارِثَةَ قَبْلَ الْحِجَابِ وَمَعَنَا أُمّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَمَرّ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِ رَدْعٌ خَلُوقٌ [ (3) ] مَا رَأَيْت أَحَدًا فِي الْخَلُوقِ مِثْلَهُ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ، مُشْمِرَةٌ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، وَاَللهِ، إنّي لَأَخَافُ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ مِنْ تَشْمِيرَةِ دِرْعِهِ مَا أَصَابَهُ، فَمَرّ يُرَفّلُ فِي يَدِهِ الْحَرْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَبِثَ قَلِيلًا يُدْرِكُ الْهَيْجَا [ (4) ] حَمَلْ [ (5) ] ... مَا أَحَسَنَ الْمَوْتَ إذَا حَانَ الْأَجَلْ وَأُمّهُ تَقُولُ: الْحَقْ بِرَسُولِ اللهِ يَا بُنَيّ! وَقَدْ وَاَللهِ تَأَخّرْت، فَقُلْت: وَاَللهِ يَا أُمّ سَعْدٍ، لَوَدِدْت أَنّ دِرْعَ سَعْدٍ أَسْبَغُ عَلَى بَنَانِهِ. قَالَتْ أُمّ سَعْدٍ: يَقْضِي اللهُ مَا هُوَ قَاضٍ! فَقَضَى لَهُ أَنْ أُصِيبَ يَوْمَئِذٍ، وَلَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنّهُ قَدْ رُمِيَ، تَقُولُ أُمّهُ: وَا جبلاه!
ثُمّ إنّ رُؤَسَاءَهُمْ أَجَمَعُوا أَنْ يَغْدُوَا جَمِيعًا، فَغَدَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمَخْزُومِيّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، فِي عِدّةٍ، فَجَعَلُوا يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ، وَمَعَهُ رُؤَسَاءُ غَطَفَانَ- عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَمَسْعُودُ [ (1) ] بْنُ رُخَيْلَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، وَمِنْ سُلَيْمٍ رُؤَسَاؤُهُمْ، وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ. وَتَرَكُوا الرّجَالَ مِنْهُمْ خُلُوفًا، يَطْلُبُونَ مُضِيقًا يُرِيدُونَ يَقْتَحِمُونَ خَيْلَهُمْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَانْتَهَوْا إلَى مَكَانٍ [ (2) ] قَدْ أَغْفَلَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلُوا يُكْرِهُونَ خَيْلَهُمْ وَيَقُولُونَ: هَذِهِ الْمَكِيدَةُ، مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَصْنَعُهَا وَلَا تَكِيدُهَا. قَالُوا [ (3) ] : إنّ مَعَهُ رَجُلًا فَارِسِيّا، فَهُوَ الّذِي أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا. قَالُوا: فَمَنْ هُنَاكَ إذًا؟ فَعَبَرَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جهل، ونوفل بن عبد الله، وضرار ابن الْخَطّابِ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدٍ، وَقَامَ سَائِرُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وَرَاءِ الْخَنْدَقِ لَا يَعْبُرُونَ، وَقِيلَ لِأَبِي سُفْيَانَ: أَلَا تَعْبُرُ؟ قَالَ: قَدْ عَبَرْتُمْ، فَإِنْ احْتَجْتُمْ إلَيْنَا عَبَرْنَا. فَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ وَيَقُولُ: وَلَقَدْ بُحِحْتُ مِنْ النّدَا ... ءِ لِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ وَعَمْرٌو يَوْمَئِذٍ ثَائِرٌ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا فَارْتُثّ جَرِيحًا فَلَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا، وَحَرّمَ الدّهْنَ حَتّى يَثْأَرَ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرٌ- يُقَالُ بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً. فَلَمّا دَعَا إلَى الْبِرَازِ قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَنَا أُبَارِزُهُ يَا رَسُولَ اللهِ! ثَلَاثَ مَرّاتٍ. وَإِنّ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ كَأَنّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطّير، لمكان
عَمْرٍو وَشَجَاعَتِهِ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ، وَعَمّمَهُ وَقَالَ: اللهُمّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ! قَالَ: وَأَقْبَلَ عَمْرٌو يَوْمَئِذٍ وَهُوَ فَارِسٌ وَعَلِيّ رَاجِلٌ، فَقَالَ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّك كُنْت تَقُولُ فِي الْجَاهِلِيّةِ: لَا يَدْعُونِي أَحَدٌ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ إلّا قَبِلْتهَا! قَالَ: أَجَلْ! قَالَ عَلِيّ: فَإِنّي أَدْعُوك أَنْ تشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُسْلِمَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أَخّرْ هَذَا عَنّي. قَالَ: فَأُخْرَى، تَرْجِعُ إلَى بِلَادِك، فَإِنْ يَكُنْ مُحَمّدٌ صَادِقًا كُنْت أَسْعَدَ [النّاسِ] بِهِ، وَإِنْ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ الّذِي تُرِيدُ. قَالَ: هَذَا مَا لَا تَتَحَدّثُ بِهِ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَبَدًا، وَقَدْ نَذَرْت مَا نَذَرْت وَحَرّمْت الدّهْنَ. قَالَ: فَالثّالِثَةُ؟ قَالَ: الْبِرَازُ. قَالَ فَضَحِكَ عَمْرٌو ثُمّ قَالَ: إنّ هَذِهِ الْخَصْلَةُ مَا كُنْت أَظُنّ أَنّ أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ يُرَوّمُنِي عَلَيْهَا! إنّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَقْتُلَ مِثْلَك، وَكَانَ أَبُوك لِي نَدِيمًا، فَارْجِعْ، فَأَنْتَ غُلَامٌ حَدَثٌ، إنّمَا أَرَدْت شَيْخَيْ قُرَيْشٍ! أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ. قَالَ فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: فَإِنّي أَدْعُوك إلَى الْمُبَارَزَةِ فَأَنَا أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك. فَأَسِفَ عَمْرٌو وَنَزَلَ وَعَقَلَ فَرَسَهُ فَكَانَ جَابِرٌ يُحَدّثُ يَقُولُ: فَدَنَا أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ وَثَارَتْ بَيْنَهُمَا غَبَرَةٌ فَمَا نَرَاهُمَا، فَسَمِعْنَا التّكْبِيرَ تَحْتَهَا فَعَرَفْنَا أَنّ عَلِيّا قَتَلَهُ. فَانْكَشَفَ أَصْحَابُهُ الّذِينَ فِي الْخَنْدَقِ هَارِبِينَ، وطفرت بهم خيلهم، إلّا أن نوفل ابن عَبْدِ اللهِ وَقَعَ بِهِ فَرَسُهُ فِي الْخَنْدَقِ، فَرُمِيَ بِالْحِجَارَةِ حَتّى قُتِلَ. وَرَجَعُوا هَارِبِينَ، وَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَنَاوَشُوهُمْ سَاعَةً. وَحَمَلَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ بِالرّمْحِ، حَتّى إذَا وَجَدَ عُمَرُ مَسّ الرّمْحِ رَفَعَهُ عَنْهُ وَقَالَ: هَذِهِ نِعْمَةٌ مَشْكُورَةٌ، فَاحْفَظْهَا يَا ابْنَ الْخَطّابِ! إنّي قَدْ كُنْت حَلَفْت لَا تُمَكّنَنِي يَدَايَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَبَدًا. فَانْصَرَفَ ضِرَارٌ رَاجِعًا إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ قِيَامٌ عِنْدَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ.
وَيُقَالُ: حَمَلَ الزّبَيْرُ عَلَى نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِالسّيْفِ حَتّى شَقّهُ بِاثْنَيْنِ وَقُطِعَ أَنَدُوجُ [ (1) ] سَرْجِهِ- وَالْأُنْدُوجُ: اللّبْدُ الّذِي يَكُونُ تَحْتَ السّرْجِ- وَيُقَالُ إلَى كَاهِلِ الْفَرَسِ. فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، مَا رَأَيْنَا سَيْفًا مِثْلَ سَيْفِك! فَيَقُولُ: وَاَللهِ، مَا هُوَ بِالسّيْفِ وَلَكِنّهَا السّاعِدُ وَهَرَبَ عِكْرِمَةُ وَهُبَيْرَةُ فَلَحِقَا بِأَبِي سُفْيَانَ، وَحَمَلَ الزّبَيْرُ عَلَى هُبَيْرَةَ فَضَرَبَ ثُفْرَ [ (2) ] فَرَسِهِ فَقَطَعَ ثُفْرَ فَرَسِهِ وَسَقَطَتْ دِرْعٌ كَانَ مُحْقِبَهَا الْفَرَسَ، فَأَخَذَ الزّبَيْرُ الدّرْعَ، وَفَرّ عِكْرِمَةُ وَأَلْقَى رُمْحَهُ. فَلَمّا رَجَعُوا إلَى أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ يَكُنْ لَنَا فِيهِ شَيْءٌ، ارْجِعُوا! فَنَفَرَتْ [ (3) ] قُرَيْشٌ فَرَجَعَتْ إلَى الْعَقِيقِ، وَرَجَعَتْ غَطَفَانُ إلَى مَنَازِلِهَا، وَاتّعَدُوا يَغْدُونَ جَمِيعًا وَلَا يَتَخَلّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَبَاتَتْ قُرَيْشٌ يُعَبّئُونَ أَصْحَابَهُمْ، وَبَاتَتْ غَطَفَانُ يُعَبّئُونَ أَصْحَابَهُمْ، وَوَافَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَنْدَقِ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ. وَعَبّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَحَضّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَوَعَدَهُمْ النّصْرَ إنْ صَبَرُوا، وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ جَعَلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ الْحِصْنِ مِنْ كَتَائِبِهِمْ [ (4) ] فَأَخَذُوا بِكُلّ وَجْهٍ مِنْ الْخَنْدَقِ. فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَاتَلُونَا يَوْمَهُمْ وَفَرّقُوا كَتَائِبَهُمْ، وَنَحْوًا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً غَلِيظَةً فِيهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُ ذَلِكَ إلَى هَوِيّ مِنْ اللّيْلِ، مَا يَقْدِرُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَزُولُوا مِنْ مَوَاضِعِهِمْ، وَمَا يَقْدِرُ [ (5) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَلَاةِ الظّهْرِ
وَلَا الْعَصْرِ وَلَا الْمَغْرِبِ وَلَا الْعِشَاءِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا صَلّيْنَا! فَيَقُولُ: وَلَا أَنَا وَاَللهِ مَا صَلّيْت! حَتّى كَشَفَهُمْ اللهُ تَعَالَى فَرَجَعُوا مُتَفَرّقِينَ. فَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى مَنْزِلِهَا، وَرَجَعَتْ غَطَفَانُ إلَى مَنْزِلِهَا، وَانْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ إلَى قُبّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ عَلَى الْخَنْدَقِ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ عَلَى شَفِيرِ الْخَنْدَقِ إذْ كَرّتْ خَيْلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يطلبون غرّة، عليهم خالد بن الوليد، فناوشوهم سَاعَةً وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ وَحْشِيّ، فَزَرَقَ الطّفَيْلَ بْنَ النّعْمَانِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بِمِزْرَاقِهِ فَقَتَلَهُ، فَكَانَ يَقُولُ: أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى حَمْزَةَ وَالطّفَيْلَ بِحَرْبَتِي وَلَمْ يُهِنّي بِأَيْدِيهِمَا. فَلَمّا صَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَوْضِعِ قُبّتِهِ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذّنَ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذّنَ وَأَقَامَ لِلظّهْرِ، وَأَقَامَ بَعْدُ لِكُلّ صَلَاةٍ إقَامَةً إقَامَةً. وَقَدْ حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ- وَهُوَ أَثْبَتُ الْحَدِيثَيْنِ عِنْدَنَا- قَالَ: أَخْبَرَنِي الْمَقْبُرِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَلَسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَوِيّ مِنْ اللّيْلِ حَتّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزّ وَجَلّ: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [ (1) ] . فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَمَرَهُ، فَأَقَامَ صَلَاةَ الظّهْرِ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا. ثُمّ أَقَامَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمّ أَقَامَ الْمَغْرِبَ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمّ أَقَامَ الْعِشَاءَ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا. قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ صَلَاةَ الْخَوْفِ: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [ (2) ] .
وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: شَغَلَنَا الْمُشْرِكُونَ عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى- يَعْنِي الْعَصْرَ- مَلَأَ الله أجوافهم وقبورهم نارا! وَأَرْسَلَتْ بَنُو مَخْزُومٍ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يطلبون جيفة نوفل ابن عَبْدِ اللهِ يَشْتَرُونَهَا بِالدّيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّمَا هِيَ جِيفَةُ حِمَارٍ! وَكَرِهَ ثَمَنَهُ. فَلَمّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ تِلْكَ اللّيْلَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قِتَالٌ جَمِيعًا حَتّى انْصَرَفُوا، إلّا أَنّهُمْ لَا يَدْعُونَ يَبْعَثُونَ الطّلَائِعَ بِاللّيْلِ، يَطْمَعُونَ فِي الْغَارَةِ. وَخَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ طَلِيعَتَانِ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا، فَالْتَقَيَا وَلَا يَشْعُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَلَا يَظُنّونَ إلّا أَنّهُمْ الْعَدُوّ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ جِرَاحَةٌ وَقَتْلٌ، وَلَسْنَا نَعْرِفُ مَنْ قَتَلَ وَلَمْ يُسَمّ لَنَا. ثُمّ نَادَوْا بِشَعَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَكَانَ شَعَارُهُمْ: حم لَا يُنْصَرُونَ! فَجَاءُوا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِرَاحُكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فَإِنّهُ شَهِيدٌ. فَكَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ إذَا دَنَا الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ نَادَوْا بِشَعَارِهِمْ، لِأَنْ يَكُفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَلَا يَرْمُونَ بِنَبْلٍ وَلَا بِحَجَرٍ. كَانُوا يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ بِاللّيْلِ حَتّى الصّبَاحِ يَتَنَاوَبُونَ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ أَيْضًا، يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ حَتّى يُصْبِحُوا. قَالَ: فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي يَطْلُعُونَ إلَى [ (1) ] أَهْلِيهِمْ، فَيَقُولُ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَإِذَا أَلَحّوا فِي كَثْرَةِ مَا يَسْتَأْذِنُونَهُ يَقُولُ: مَنْ ذَهَبَ مِنْكُمْ فَلْيَأْخُذْ سِلَاحَهُ فَإِنّي لَا آمَنُ بَنِي قُرَيْظَةَ، هُمْ عَلَى طَرِيقِكُمْ. وَكَانَ كُلّ مَنْ يَذْهَبُ مِنْهُمْ إنّمَا يَسْلُكُونَ عَلَى سَلْعٍ حَتّى يدخلوا المدينة، ثم يذهبون إلى العالية.
فَحَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ صَيْفِيّ مَوْلَى ابْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي السّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فِي بَيْتِهِ فَوَجَدَهُ يُصَلّي، قَالَ: فَجَلَسْت أَنْتَظِرُهُ حَتّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ. قَالَ: فَسَمِعْت تَحْرِيكًا تَحْتَ سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ فَإِذَا حَيّةٌ، فَقُمْت لِأَقْتُلَهَا فَأَشَارَ إلَيّ أَنْ اجْلِسْ. فَلَمّا جَلَسْت سَلّمَ وَأَشَارَ إلَى بَيْتٍ فِي الدّارِ، فَقَالَ لِي: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. فَقَالَ: إنّهُ كَانَ فِيهِ فَتًى حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْخَنْدَقِ فَكَانَ يَسْتَأْذِنُهُ بِأَنْصَافِ النّهَارِ لِيَطّلِعَ إلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ سِلَاحَك فَإِنّي أَخْشَى عَلَيْك بَنِي قُرَيْظَة. قَالَ: فَأَخَذَ الرّجُلُ سِلَاحَهُ وَذَهَبَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَهَيّأَ لَهَا الرّمْحَ لِيَطْعَنَهَا، وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالَتْ: اُكْفُفْ عَلَيْك رُمْحَك حَتّى تَرَى مَا فِي بَيْتِك! فَكَفّ وَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِحَيّةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ، فَرَكَزَ فِيهَا رُمْحَهُ فانتظمها فيه، ثم خرج به فَنَصَبَهُ فِي الدّارِ، فَاضْطَرَبَتْ الْحَيّةُ فِي رَأْسِ الرّمْحِ وَخَرّ الْفَتَى مَيّتًا، فيما نَدْرِي أَيّهمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا، الْفَتَى أَوْ الْحَيّةُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَجِئْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ أَنْ يُحْيِيَهُ. فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ. ثُمّ قَالَ: إنّ بِالْمَدِينَةِ جِنّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنّمَا هُوَ شَيْطَانٌ. فَحَدّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: بَعَثْنَا ابْنَ أُخْتِنَا ابْنَ عُمَرَ يَأْتِينَا بِطَعَامٍ وَلُحُفٍ وَقَدْ بَلَغْنَا مِنْ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ، فَخَرَجَ ابْنُ عُمَرَ حَتّى إذَا هَبَطَ. مِنْ سَلْعٍ- وَذَلِكَ لَيْلًا- غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ حَتّى أَصْبَحَ. فَاهْتَمَمْنَا بِهِ فَخَرَجْت أَطْلُبُهُ فَأَجِدُهُ نَائِمًا، وَالشّمْسُ قَدْ ضَحّتْهُ، فَقُلْت: الصّلَاةُ، أَصَلّيْت الْيَوْمَ؟ قَالَ: لَا. قُلْت: فَصَلّ. فَقَامَ سريعا
إلَى الْمَاءِ، وَذَهَبَتْ إلَى مَنْزِلِنَا بِالْمَدِينَةِ فَجِئْت بِتَمْرٍ وَلِحَافٍ وَاحِدٍ، فَكُنّا نَلْبَسُ ذَلِكَ اللّحَافَ جَمِيعًا- مَنْ قَامَ مِنّا فِي الْمَحْرَسِ ذَهَبَ مَقْرُورًا ثُمّ رَجَعَ حَتّى يَدْخُلَ فِي اللّحَافِ، حَتّى فَرّجَ اللهُ ذَلِكَ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُصِرْت بِالصّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدّبُورِ. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: جَاءَتْ الْجَنُوبُ إلَى الشّمَالِ فَقَالَتْ: انْطَلِقِي بِنَصْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَتْ الشّمَالُ: إنّ الْحُرّةَ لَا تَسْرِي بِلَيْلٍ. فَبَعَثَ اللهُ عَزّ وَجَلّ الصّبَا، فَأَطْفَأَتْ نِيرَانَهُمْ وَقَطَعَتْ أَطْنَابَ فَسَاطِيطَهُمْ. حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رِيَاحٍ الْأَنْصَارِيّ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ، مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ، قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، فَكَانَ أَهْلُوهُمْ يَبْعَثُونَ إلَيْهِمْ بِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ ابْنَتَهَا بِجَفْنَةِ تَمْرٍ عَجْوَةٍ فِي ثَوْبِهَا، فَقَالَتْ: يَا بُنَيّةُ، اذْهَبِي إلَى أَبِيك بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، وَخَالِك عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا. فَانْطَلَقَتْ الْجَارِيَةُ حَتّى تَأْتِيَ الْخَنْدَقَ، فَتَجِدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي أَصْحَابِهِ وَهِيَ تَلْتَمِسُهُمَا، فَقَالَ: تَعَالَيْ يَا بُنَيّةُ، مَا هَذَا مَعَك؟ قَالَتْ: بَعَثَتْنِي أُمّي إلَى أَبِي وَخَالِي بِغَدَائِهِمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَاتِيهِ! قَالَتْ: فَأَعْطَيْته فَأَخَذَهُ فِي كَفّيْهِ، ثُمّ أَمَرَ بِثَوْبٍ فَبُسِطَ لَهُ، وَجَاءَ بِالتّمْرِ فَنَثَرَهُ عَلَيْهِ فَوْقَ الثّوْبِ، فَقَالَ لِجُعَالِ بْنِ سُرَاقَةَ: نَادِ [ (1) ] بِأَهْلِ الْخَنْدَقِ أَنْ هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ. فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ يَأْكُلُونَ مِنْهُ، حَتّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ وَإِنّهُ لَيَفِيضُ مِنْ أَطْرَافِ الثّوْبِ. وَحَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن معتّب، قال: أرسلت
أُمّ عَامِرٍ الْأَشْهَلِيّةُ بِقَعْبَةٍ فِيهَا حَيْسٌ [ (1) ] إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فِي قُبّتِهِ وَهُوَ عِنْدَ أُمّ سَلَمَةَ، فَأَكَلَتْ أُمّ سَلَمَةَ حَاجَتَهَا، ثُمّ خَرَجَ بِالْبَقِيّةِ فَنَادَى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى عَشَائِهِ، فَأَكَلَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ حَتّى نَهِلُوا وَهِيَ كَمَا هِيَ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قَالَ: حُصِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وأصحابه بضع عشرة حتى حلص إلَى كُلّ امْرِئٍ مِنْهُمْ الْكَرْبُ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ إنّي أَنْشُدُك عَهْدَك وَوَعْدَك، اللهُمّ إنّك إنْ تَشَأْ لا تعبد! فبيناهم عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْحَالِ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ- وَلَمْ يَحْضُرْ الْخَنْدَقَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ وَلَا قَوْمُهُ، وَيُقَالُ حَضَرَهَا الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهُوَ أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا. وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إلَيْهِ وَإِلَى عُيَيْنَةَ: أَرَأَيْت إنْ جَعَلْت لَكُمْ ثُلُثَ تَمْرِ الْمَدِينَةِ تَرْجِعَانِ بِمَنْ مَعَكُمْ وَتُخَذّلَانِ بَيْنَ الْأَعْرَابِ؟ قَالَا: تُعْطِينَا نِصْفَ تَمْرِ الْمَدِينَةِ. فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَزِيدَهُمَا عَلَى الثّلُثِ، فَرَضِيَا بِذَلِكَ وَجَاءَا فِي عَشَرَةٍ مِنْ قَوْمِهِمَا حِينَ [ (2) ] تَقَارَبَ الْأَمْرُ، فَجَاءُوا وَقَدْ أَحَضَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَأَحْضَرَ الصّحِيفَةَ وَالدّوَاةَ، وَأَحْضَرَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَأَعْطَاهُ الصّحِيفَةَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكْتُبَ الصّلْحَ بَيْنَهُمْ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ قَائِمٌ عَلَى رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ. فَأَقْبَلَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وَلَا يَدْرِي بِمَا كَانَ مِنْ الْكَلَامِ، فَلَمّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ عُيَيْنَةُ مَادّا رِجْلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَ مَا يُرِيدُونَ، فَقَالَ: يَا عَيْنَ الْهِجْرِسِ [ (1) ] ، اقْبِضْ رِجْلَيْك! أَتَمُدّ رِجْلَيْك بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ؟ وَمَعَهُ الرّمْحُ. وَاَللهِ، لَوْلَا رَسُولُ اللهِ لَأَنْفَذْتُ خُصْيَتَيْك بِالرّمْحِ! ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كَانَ أَمْرًا مِنْ السّمَاءِ فَامْضِ له، وإن كان غير ذلك فو الله لَا نُعْطِيهِمْ إلّا السّيْفَ! مَتَى طَمِعُوا [ (2) ] بِهَذَا مِنّا؟ فَأُسْكِتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَاسْتَشَارَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُتّكِئٌ عَلَيْهِمَا، وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ، فَتَكَلّمَ بِكَلَامٍ يُخْفِيهِ، وَأَخْبَرَهُمَا بِمَا قَدْ أَرَادَ مِنْ الصّلْحِ. فَقَالَا: إنْ كَانَ هَذَا أَمْرًا مِنْ السّمَاءِ فَامْضِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لَمْ تُؤْمَرْ فِيهِ وَلَك فِيهِ هَوًى فَامْضِ لِمَا كَانَ لَك فِيهِ هَوًى، فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِنْ كَانَ إنّمَا هُوَ الرّأْيُ فَمَا لَهُمْ عِنْدَنَا إلّا السّيْفُ. وَأَخَذَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْكِتَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي رَأَيْت الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسِ وَاحِدَةٍ فَقُلْت أُرْضِيهِمْ وَلَا أُقَاتِلُهُمْ. فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كَانُوا لَيَأْكُلُونَ الْعِلْهِزَ [ (3) ] فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ الْجَهْدِ، مَا طَمِعُوا بِهَذَا مِنّا قَطّ، أَنْ يَأْخُذُوا تَمْرَةً إلّا بِشِرًى أو قِرًى! فَحِينَ أَتَانَا اللهُ تَعَالَى بِك، وَأَكْرَمَنَا بِك، وَهَدَانَا بِك نُعْطِي الدّنِيّةَ! لَا نُعْطِيهِمْ أَبَدًا إلّا السّيْفَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شُقّ الْكِتَابُ. فَتَفَلَ سَعْدٌ فِيهِ، ثُمّ شَقّهُ وَقَالَ: بَيْنَنَا السّيْفُ! فَقَامَ عُيَيْنَةُ وَهُوَ يَقُولُ: أَمَا وَاَللهِ لَلّتِي تَرَكْتُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ الْخُطّةِ الّتِي أخذتم،
وَمَا لَكُمْ بِالْقَوْمِ طَاقَةٌ. فَقَالَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ: يَا عُيَيْنَةُ، أَبِالسّيْفِ تُخَوّفُنَا؟ سَتَعْلَمُ أَيّنَا أجزع! وإلّا فو الله لَقَدْ كُنْت أَنْتَ وَقَوْمَك تَأْكُلُونَ الْعِلْهِزَ وَالرّمّةَ [ (1) ] مِنْ الْجَهْدِ فَتَأْتُونَ هَاهُنَا مَا تَطْمَعُونَ بِهَذَا مِنّا إلّا قِرًى أَوْ شِرًى، وَنَحْنُ لَا نَعْبُدُ شَيْئًا. فَلَمّا هَدَانَا اللهُ وَأَيّدَنَا بِمُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُمُونَا هَذِهِ الْخُطّةَ! أَمَا وَاَللهِ، لَوْلَا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ مَا وَصَلْتُمْ إلَى قَوْمِكُمْ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعُوا، بَيْنَنَا السّيْفُ! رَافِعًا صَوْتَهُ. فَرَجَعَ عُيَيْنَةُ وَالْحَارِثُ وَهُمَا يَقُولَانِ: وَاَللهِ، مَا نَرَى أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَلَقَدْ أُنْهِجَتْ لِلْقَوْمِ بَصَائِرُهُمْ! وَاَللهِ، مَا حَضَرْت إلّا كُرْهًا لِقَوْمٍ غَلَبُونِي، وَمَا مَقَامُنَا بِشَيْءٍ، مَعَ أَنّ قُرَيْشًا إنْ عَلِمَتْ بِمَا عَرَضْنَا عَلَى مُحَمّدٍ عَرَفْت أَنّا قَدْ خَذَلْنَاهَا وَلَمْ نَنْصُرْهَا. قَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ وَاَللهِ ذَلِكَ! قَالَ الْحَارِثُ: أَمَا إنّا لَمْ نُصِبْ بِتَعَرّضِنَا لِنَصْرِ قُرَيْشٍ عَلَى مُحَمّدٍ، وَاَللهِ لَئِنْ ظَهَرَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مُحَمّدٍ لَيَكُونَن الْأَمْرُ فِيهَا دُونَ سَائِرِ الْعَرَبِ، مَعَ أَنّي أَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا ظَاهِرًا. وَاَللهِ، لَقَدْ كَانَ أَحْبَارُ يَهُودِ خَيْبَرَ وَإِنّهُمْ يُحَدّثُونَ أَنّهُمْ يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنّهُ يُبْعَثُ نَبِيّ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى صِفَتِهِ. قَالَ عُيَيْنَةُ: إنّا وَاَللهِ مَا جِئْنَا نَنْصُرُ قُرَيْشًا. وَلَوْ اسْتَنْصَرْنَا قُرَيْشًا مَا نَصَرَتْنَا وَلَا خَرَجْت مَعَنَا مِنْ حرمها. ولكنى كنت أطمع أن تأخذ تَمْرَ الْمَدِينَةِ فَيَكُونُ لَنَا بِهِ ذِكْرٌ مَعَ مَا لَنَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْغَنِيمَةِ، مَعَ أَنّا نَنْصُرُ حُلَفَاءَنَا مِنْ الْيَهُودِ فَهُمْ جَلَبُونَا إلَى مَا هَاهُنَا. قَالَ الْحَارِثُ: قَدْ وَاَللهِ أَبَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ إلّا السّيْفَ، وَاَللهِ لَتُقَاتِلُنّ [ (2) ] عَنْ هَذَا السّعَفِ. مَا بَقِيَ مِنْهَا رَجُلٌ مقيم [ (3) ] ، وقد أجدب
ذكر نعيم بن مسعود
الْجَنَابُ وَهَلَكَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ. قَالَ عُيَيْنَةُ: لَا شَيْءَ. فَلَمّا أَتَيَا مَنْزِلَهُمَا جَاءَتْهُمَا غَطَفَانُ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكُمْ؟ قَالُوا: لَمْ يَتِمّ الْأَمْرُ، رَأَيْنَا قَوْمًا عَلَى بَصِيرَةٍ وَبَذْلِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ صَاحِبِهِمْ، وَقَدْ هَلَكْنَا وَهَلَكَتْ قُرَيْشٌ، وَقُرَيْشٌ تَنْصَرِفُ وَلَا تُكَلّمُ مُحَمّدًا! وَإِنّمَا يَقَعُ حَرّ مُحَمّدٍ بِبَنِي قُرَيْظَةَ، إذَا وَلّيْنَا جَثَمَ عَلَيْهِمْ فَحَصَرَهُمْ جُمُعَةً حَتّى يُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ. قَالَ الْحَارِثُ: بُعْدًا وَسُحْقًا! مُحَمّدٌ أَحَبّ إلَيْنَا مِنْ الْيَهُودِ. ذِكْرُ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْجَعِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ أَهْلَ شَرَفٍ وَأَمْوَالٍ، وَكُنّا قَوْمًا عَرَبًا، لَا نَخْلَ لَنَا وَلَا كَرْمَ، وَإِنّمَا نَحْنُ أَهْلُ شَاةٍ وَبَعِيرٍ. فَكُنْت أَقْدَمُ عَلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، فَأُقِيمُ عِنْدَهُمْ الْأَيّامَ، أَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهِمْ وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ، ثُمّ يُحَمّلُونَنِي تَمْرًا عَلَى رِكَابِي مَا كَانَتْ، فَأَرْجِعُ إلَى أَهْلِي. فَلَمّا سَارَتْ الْأَحْزَابُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرْت مَعَ قَوْمِي، وَأَنَا عَلَى دِينِي، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارِفًا، فَأَقَامَتْ الْأَحْزَابُ مَا أَقَامَتْ حَتّى أَجْدَبَ الْجَنَابُ وَهَلَكَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ، وَقَذَفَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ. وَكَتَمْت قَوْمِي إسْلَامِي، فَأَخْرُجُ حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَأَجِدُهُ يُصَلّي، فَلَمّا رَآنِي جَلَسَ ثُمّ قَالَ: مَا جَاءَ بِك يَا نُعَيْمُ؟ قُلْت: إنّي جِئْت أُصَدّقُك وَأَشْهَدُ أَنّ مَا جِئْت بِهِ حَقّ، فَمُرْنِي بِمَا شئت يا رسول الله، فو الله لَا تَأْمُرُنِي بِأَمْرٍ إلّا مَضَيْت لَهُ، قَوْمِي لَا يَعْلَمُونَ بِإِسْلَامِي وَلَا غَيْرُهُمْ. قَالَ: مَا اسْتَطَعْت أَنْ تُخَذّلَ النّاسَ فَخَذّلْ! قَالَ، قُلْت: أفعل، ولكن
يَا رَسُولَ اللهِ أَقُولُ فَأَذِنَ لِي. قَالَ: قُلْ مَا بَدَا لَك فَأَنْتَ فِي حِلّ. قَالَ: فَذَهَبْت حَتّى جِئْت بَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَمّا رَأَوْنِي رَحّبُوا وَأَكْرَمُوا وَحَيّوْا وَعَرَضُوا عَلَيّ الطّعَامَ وَالشّرَابَ، فَقُلْت: إنّي لَمْ آتِ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، إنّمَا جِئْتُكُمْ نَصَبًا بِأَمْرِكُمْ، وَتَخَوّفًا عَلَيْكُمْ، لِأُشِيرَ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ وُدّي إيّاكُمْ وَخَاصّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ وَأَنْتَ عِنْدَنَا عَلَى مَا تُحِبّ مِنْ الصّدْقِ وَالْبِرّ. قَالَ: فَاكْتُمُوا عَنّي. قَالُوا: نَفْعَلُ. قَالَ: إنّ أَمْرَ هَذَا الرّجُلُ بَلَاءٌ- يَعْنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَنَعَ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ بِبَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِي النّضِيرِ، وَأَجْلَاهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ بَعْدَ قَبْضِ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ سَارَ فِينَا فَاجْتَمَعْنَا مَعَهُ لِنَصْرِكُمْ، وَأَرَى الْأَمْرَ قَدْ تَطَاوَلَ كَمَا تَرَوْنَ، وَإِنّكُمْ وَاَللهِ، مَا أَنْتُمْ وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ مِنْ مُحَمّدٍ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمّا قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ فَهُمْ قَوْمٌ جَاءُوا سَيّارَةً حَتّى نَزَلُوا حَيْثُ رَأَيْتُمْ، فَإِنْ وَجَدُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ، أَوْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ انْشَمَرُوا إلَى بِلَادِهِمْ. وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، وَقَدْ غَلُظَ عَلَيْهِمْ جَانِبُ مُحَمّدٍ، أَجَلَبُوا عَلَيْهِ أَمْسِ إلَى اللّيْلِ، فَقَتَلَ رَأْسَهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ، وَهَرَبُوا مِنْهُ [ (1) ] ، مُجَرّحِينَ وَهُمْ لَا غَنَاءَ [ (2) ] بِهِمْ عَنْكُمْ، لِمَا تَعْرِفُونَ عِنْدَكُمْ. فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ قُرَيْشٍ وَلَا غَطَفَانَ حَتّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ تَسْتَوْثِقُونَ بِهِ مِنْهُمْ أَلّا يُنَاجِزُوا مُحَمّدًا. قَالُوا: أَشَرْت بِالرّأْيِ عَلَيْنَا وَالنّصْحِ. وَدَعَوْا لَهُ وَتَشَكّرُوا، وَقَالُوا: نَحْنُ فَاعِلُونَ. قَالَ: وَلَكِنْ اُكْتُمُوا عَنّي. قَالُوا: نَعَمْ، نَفْعَلُ. ثُمّ خَرَجَ إلَى أَبِي سفيان بن حرب في رجال من قريش فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، قَدْ جِئْتُك بِنَصِيحَةٍ فَاكْتُمْ عَنّي. قَالَ: أَفْعَلُ. قَالَ: تَعْلَمُ أَنّ قُرَيْظَةَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بينهم
وَبَيْنَ مُحَمّدٍ، وَأَرَادُوا إصْلَاحَهُ وَمُرَاجَعَتَهُ. أَرْسَلُوا إلَيْهِ وَأَنَا عِنْدَهُمْ: إنّا سَنَأْخُذُ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا نُسَلّمُهُمْ إلَيْك تَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ وَتَرُدّ جَنَاحَنَا الّذِي كَسَرْت إلَى دِيَارِهِمْ- يَعْنُونَ بَنِي النّضِيرِ- وَنَكُونُ مَعَك عَلَى قُرَيْشٍ حَتّى نَرُدّهُمْ عَنْك. فَإِنْ بَعَثُوا إلَيْكُمْ يَسْأَلُونَكُمْ رَهْنًا فَلَا تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ أَحَدًا وَاحْذَرُوهُمْ عَلَى أَشْرَافِكُمْ، وَلَكِنْ اُكْتُمُوا عَنّي وَلَا تَذْكُرُوا مِنْ هَذَا حَرْفًا. قَالُوا: لَا نَذْكُرُهُ. ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى غَطَفَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، إنّي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَاكْتُمُوا عَنّي، وَاعْلَمُوا أَنّ قُرَيْظَةَ بَعَثُوا إلَى مُحَمّدٍ- وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ- فَاحْذَرُوا أَنْ تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ أَحَدًا مِنْ رِجَالِكُمْ. وَكَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَصَدّقُوهُ، وَأَرْسَلَتْ الْيَهُودُ غَزّالَ بْنَ سَمَوْأَلٍ إلَى أَبِي سفيان بن حرب وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ: إنّ ثَوَاءَكُمْ قَدْ طَالَ وَلَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا وَلَيْسَ الّذِي تَصْنَعُونَ بِرَأْيٍ، إنّكُمْ لَوْ وَعَدْتُمُونَا يَوْمًا تَزْحَفُونَ [ (1) ] فِيهِ إلَى مُحَمّدٍ، فَتَأْتُونَ مِنْ وَجْهٍ وَتَأْتِي غَطَفَانُ مِنْ وَجْهٍ وَنَخْرُجُ نَحْنُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، لَمْ يُفْلِتْ مِنْ بَعْضِنَا. وَلَكِنْ لَا نَخْرُجُ مَعَكُمْ حَتّى تُرْسِلُوا إلَيْنَا بِرِهَانٍ مِنْ أَشْرَافِكُمْ يَكُونُونَ عِنْدَنَا، فَإِنّا نَخَافُ إنْ مَسّتْكُمْ الْحَرْبُ وَأَصَابَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ شَمّرْتُمْ وَتَرَكْتُمُونَا فِي عُقْرِ دَارِنَا وَقَدْ نَابَذْنَا مُحَمّدًا بِالْعَدَاوَةِ. فَانْصَرَفَ الرّسُولُ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَيْهِمْ شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَذَا مَا قَالَ نُعَيْمٌ. فَخَرَجَ نُعَيْمٌ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، أَنَا عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ حَتّى جَاءَ رَسُولُكُمْ إلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الرّهَانَ، فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلَمّا وَلّى قَالَ: لَوْ طَلَبُوا مِنّي عَنَاقًا [ (2) ] مَا رَهَنْتهَا! أَنَا أَرْهَنُهُمْ سَرَاةَ أَصْحَابِي يَدْفَعُونَهُمْ إلَى مُحَمّدٍ يَقْتُلُهُمْ! فَارْتَأَوْا آرَاءَكُمْ حَتّى تَأْخُذُوا الرّهْنَ، فَإِنّكُمْ إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مُحَمّدًا وَانْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ تَكُونُوا عَلَى مُوَاعَدَتِكُمْ [ (3) ] الأولى. قالوا:
تَرْجُو ذَلِكَ يَا نُعَيْمُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: فَإِنّا لَا نُقَاتِلُهُ. وَاَللهِ، لَقَدْ كُنْت لِهَذَا كَارِهًا وَلَكِنْ حُيَيّ رَجُلٌ مَشْئُومٌ. قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: إنْ انْكَشَفَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ عَنْ مُحَمّدٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنّا إلّا السّيْفُ. قَالَ نُعَيْمٌ: لَا تَخْشَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ. قَالَ الزّبَيْرُ: بَلَى وَالتّوْرَاةُ، وَلَوْ أَصَابَتْ الْيَهُودُ رَأْيَهَا وَلَحَمَ الْأَمْرُ لَتَخْرُجَن إلَى مُحَمّدٍ وَلَا يَطْلُبُونَ مِنْ قُرَيْشٍ رَهْنًا، فَإِنّ قُرَيْشًا لَا تُعْطِينَا رَهْنًا أَبَدًا، وَعَلَى أَيّ وَجْهٍ تُعْطِينَا قُرَيْشٌ الرّهْنَ وَعَدَدُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِنَا، وَمَعَهُمْ كُرَاعٌ وَلَا كُرَاعٌ مَعَنَا، وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْهَرَبِ وَنَحْنُ لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ وَهَذِهِ غَطَفَانُ تَطْلُبُ إلَى مُحَمّدٍ أَنْ يُعْطِيَهَا بَعْضَ تَمْرِ الْأَوْسِ وَتَنْصَرِفُ، فَأَبَى مُحَمّدٌ إلّا السّيْفَ، فَهُمْ يَنْصَرِفُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ. فَلَمّا كَانَ لَيْلَةُ السّبْتِ كَانَ مِمّا صَنَعَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيّهِ أَنْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ الْجَنَابَ قَدْ أَجْدَبَ، وَهَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفّ، وَغَدَرَتْ الْيَهُودُ وَكَذَبَتْ، وَلَيْسَ هَذَا بِحَيْنِ مُقَامٍ فَانْصَرِفُوا! قَالَتْ قُرَيْشٌ: فَاعْلَمْ عِلْمَ الْيَهُودِ وَاسْتَيْقِنْ خَبَرَهُمْ. فَبَعَثُوا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ حَتّى جَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ عِنْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ مَسَاءَ لَيْلَةِ السّبْتِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ إنّهُ قَدْ طَالَ الْمُكْثُ وَجَهَدَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ، وَإِنّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامَةٍ، اُخْرُجُوا إلَى هَذَا الرّجُلِ حَتّى نُنَاجِزَهُ بِالْغَدَاةِ. قَالُوا: غَدًا السّبْتُ لَا نُقَاتِلُ وَلَا نَعْمَلُ فِيهِ عَمَلًا، وَإِنّا مَعَ ذَلِكَ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ إذَا انْقَضَى سَبْتُنَا حَتّى تُعْطُونَا رِهَانًا مِنْ رِجَالِكُمْ يَكُونُونَ مَعَنَا لِئَلّا تَبْرَحُوا حَتّى نُنَاجِزَ مُحَمّدًا، فَإِنّا نَخْشَى إنْ أَصَابَتْكُمْ الْحَرْبُ أَنْ تُشَمّرُوا إلَى بِلَادِكُمْ وَتَدْعُونَا وَإِيّاهُ فِي بِلَادِنَا وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، مَعَنَا الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ وَالْأَمْوَالُ. فَرَجَعَ عِكْرِمَةُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: أَحْلِفُ بِاَللهِ إنّ الْخَبَرَ الّذِي جَاءَ بِهِ نُعَيْمٌ حَقّ، لَقَدْ غَدَرَ أَعْدَاءُ اللهِ. وَأَرْسَلَتْ غَطَفَانُ إلَيْهِمْ
مَسْعُودَ بْنَ رُخَيْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ رِسَالَةِ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَجَابُوهُمْ بِمِثْلِ جَوَابِ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَتْ الْيَهُودُ حَيْثُ رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْهُمْ: نَحْلِفُ بِاَللهِ إنّ الْخَبَرَ الّذِي قَالَ نُعَيْمٌ لَحَقّ. وَعَرَفُوا أَنّ قُرَيْشًا لَا تُقِيمُ فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَكّرَ أَبُو سُفْيَانَ إلَيْهِمْ وَقَالَ: إنّا وَاَللهِ لَا نَفْعَلُ، إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا. فَقَالَتْ الْيَهُودُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ الْأَوّلِ، وَجَعَلَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ: الْخَبَرُ مَا قَالَ نُعَيْمٌ. وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ تَقُولُ: الْخَبَرُ مَا قَالَ نُعَيْمٌ. وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ هَؤُلَاءِ وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ هَؤُلَاءِ، وَاخْتَلَفَ أَمْرُهُمْ، فَكَانَ نُعَيْمٌ يَقُولُ: أَنَا خَذّلْتُ بَيْنَ الْأَحْزَابِ حَتّى تَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَأَنَا أَمِينُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سِرّهِ. فَكَانَ صَحِيحَ الْإِسْلَامِ بَعْدُ فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا قَالَتْ قُرَيْظَةُ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ مَا قَالَتْ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حرب لحيىّ ابن أَخْطَبَ: أَيْنَ مَا وَعَدْتنَا مِنْ نَصْرِ قَوْمِك؟ قَدْ خَلّوْنَا وَهُمْ يُرِيدُونَ الْغَدْرَ بِنَا! قَالَ حُيَيّ: كَلّا وَالتّوْرَاةِ، وَلَكِنّ السّبْتَ قَدْ حَضَرَ وَنَحْنُ لَا نَكْسِرُ السّبْتَ، فَكَيْفَ نُنْصَرُ عَلَى مُحَمّدٍ إذَا كَسَرْنَا السّبْتَ؟ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ اُغْدُوا [ (1) ] عَلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ بِمِثْلِ حَرْقِ النّارِ. وَخَرَجَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ حَتّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: فِدَاءَكُمْ أَبِي وَأُمّي، إنّ قُرَيْشًا قَدْ اتّهَمَتْكُمْ بِالْغَدْرِ وَاتّهَمُونِي مَعَكُمْ، وَمَا السّبْتُ لَوْ كَسَرْتُمُوهُ لِمَا قَدْ حَضَرَ مِنْ أَمْرِ عَدُوّكُمْ؟ قَالَ: فَغَضِبَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، ثُمّ قَالَ: لَوْ قَتَلَهُمْ مُحَمّدٌ حَتّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ مَا كَسَرْنَا سَبْتَنَا. فَرَجَعَ حُيَيّ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَقَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْك يا يَهُودِيّ أَنّ قَوْمَك يُرِيدُونَ الْغَدْرَ؟ قَالَ حُيَيّ: لَا وَاَللهِ، مَا يُرِيدُونَ الْغَدْرَ، وَلَكِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْأَحَدِ. فَقَالَ أبو سفيان:
وَمَا السّبْتُ؟ قَالَ: يَوْمٌ مِنْ أَيّامِهِمْ يُعَظّمُونَ الْقِتَالَ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنّ سَبْطًا مِنّا أَكَلُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ السّبْتِ فَمَسَخَهُمْ اللهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا أَرَانِي أَسْتَنْصِرُ بِإِخْوَةِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ! ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ بَعَثْت عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ إلَيْهِمْ فَقَالُوا: لَا نُقَاتِلُ حَتّى تَبْعَثُوا لَنَا [ (1) ] بِالرّهَانِ مِنْ أَشْرَافِكُمْ. وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا جَاءَنَا غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ بِرِسَالَتِهِمْ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَحْلِفُ باللّات إنْ هُوَ إلّا غَدْرُكُمْ، وَإِنّي لَأَحْسَبُ أَنّك قَدْ دَخَلْت فِي غَدْرِ الْقَوْمِ! قَالَ حُيَيّ: وَالتّوْرَاةِ الّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ مَا غَدَرْت! وَلَقَدْ جِئْتُك مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ هُمْ أَعْدَى النّاسِ لِمُحَمّدٍ وَأَحْرَصُهُمْ عَلَى قِتَالِهِ، وَلَكِنْ مَا مُقَامُ يَوْمٍ وَاحِدٍ حَتّى يَخْرُجُوا مَعَك! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا وَاَللهِ وَلَا سَاعَةً، لَا أُقِيمُ بِالنّاسِ انْتِظَارَ غَدْرِكُمْ. حتى خاف حيىّ ابن أَخْطَبَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَخَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ الْخَوْفِ حَتّى بَلَغَ الرّوْحَاءَ، فَمَا رَجَعَ إلّا مُتَسَرّقًا لِمَا أَعْطَى كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ مِنْ نَفْسِهِ لَيَرْجِعَن إلَيْهِ، فَدَخَلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِصْنَهُمْ لَيْلًا وَيَجِدُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَحَفَ إلَيْهِمْ سَاعَةَ وَلّتْ الْأَحْزَابُ فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ: كَانَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ حِينَ جَاءَهُ، وَجَعَلَ كَعْبٌ يَأْبَى فَقَالَ حُيَيّ: لَا تُقَاتِلْ حَتّى تَأْخُذَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِهَانًا عِنْدَكُمْ. وَذَلِكَ مِنْ حُيَيّ خَدِيعَةً لِكَعْبٍ حَتّى يَنْقُضَ الْعَهْدَ، وَعَرَفَ أَنّهُ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ لَحَمَ الْأَمْرُ. وَلَمْ يُخْبِر حُيَيّ قُرَيْشًا بِاَلّذِي قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَمّا جَاءَهُمْ عِكْرِمَةُ يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ السّبْتَ قالوا: لانكسر السّبْتَ، وَلَكِنْ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَلَا نَخْرُجُ حَتّى تعطونا الرّهان. فقال عكرمة: أىّ
رِهَانٍ؟ قَالَ كَعْبٌ: الّذِي شَرَطْتُمْ لَنَا. قَالَ: وَمَنْ شَرَطَهَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ. فَأَخْبَرَ أَبَا سُفْيَانَ ذَلِكَ فَقَالَ لِحُيَيّ: يَا يَهُودِيّ، نَحْنُ قُلْنَا لَك كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: لَا وَالتّوْرَاةِ، مَا قُلْت ذَلِكَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: بَلْ هُوَ الْغَدْرُ مِنْ حُيَيّ. فَجَعَلَ حُيَيّ يَحْلِفُ بِالتّوْرَاةِ مَا قَالَ ذَلِكَ. حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّهِ قَالَ، قَالَ كَعْبٌ: يَا حُيَيّ لَا نَخْرُجُ حَتّى نَأْخُذَ مِنْ كُلّ أَصْحَابِك مِنْ كُلّ بَطْنٍ سَبْعِينَ رَجُلًا رَهْنًا فِي أَيْدِينَا. فَذَكَرَ ذَلِكَ حُيَيّ لِقُرَيْشٍ وَلِغَطَفَانَ [ (1) ] وَقَيْسٍ، فَفَعَلُوا وَعَقَدُوا بَيْنَهُمْ عَقْدًا بِذَلِكَ حَتّى شَقّ كَعْبٌ الْكِتَابَ. فَلَمّا أَرْسَلَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ تَسْتَنْصِرُهُ قَالَ: الرّهْنُ! فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا، لِمَا أَرَادَ اللهُ عَزّ وَجَلّ. وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ قَالَ، سَمِعْته يَقُولُ: أَرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ أَنْ ائْتُوا فَإِنّا سَنُغِيرُ عَلَى بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ. فَسَمِعَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَ مُوَادِعًا لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عِنْدَ عُيَيْنَةَ حِينَ أَرْسَلَتْ بِذَلِكَ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَقْبَلَ نُعَيْمٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا وَمَا أَرْسَلَتْ بِهِ قُرَيْظَةُ إلَى الْأَحْزَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَعَلّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ. فَقَامَ نُعَيْمٌ بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ. قَالَ: وَكَانَ نُعَيْمٌ رَجُلًا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ، فَلَمّا وَلّى مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاهِبًا إلَى غَطَفَانَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا الّذِي قُلْت؟ إنْ كَانَ أَمْرٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى فَامْضِهِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا رَأْيًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِك فَإِنّ شَأْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا يُؤْثَرُ عَنْك. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو رأى رأيته
الْحَرْبُ خُدْعَةٌ. ثُمّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِ نُعَيْمٍ، فَدَعَاهُ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْت الّذِي سَمِعْتنِي قُلْت آنِفًا؟ اُسْكُتْ عَنْهُ فَلَا تَذْكُرْهُ! فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى جَاءَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ عَلِمْتُمْ مُحَمّدًا قَالَ شَيْئًا قَطّ، إلّا كَانَ حَقّا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنّهُ قَالَ لِي فِيمَا أَرْسَلَتْ بِهِ إلَيْكُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ: «فَلَعَلّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ» ، ثُمّ نَهَانِي أَذْكُرَهُ لَكُمْ. فَانْطَلَقَ عُيَيْنَةُ حَتّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ نُعَيْمٍ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لَهُمْ: إنّمَا أَنْتُمْ فِي مَكْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: نُرْسِلُ إلَيْهِمْ الْآنَ فَنَسْأَلُهُمْ الرّهْنَ، فَإِنْ دَفَعُوا الرّهْنَ إلَيْنَا فَقَدْ صَدَقُونَا، وَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ فَنَحْنُ مِنْهُمْ فِي مَكْرٍ. فَجَاءَهُمْ رَسُولُ أَبِي سُفْيَانَ فَسَأَلَهُمْ الرّهْنَ لَيْلَةَ السّبْتِ فَقَالُوا: هَذِهِ لَيْلَةُ السّبْتِ وَلَسْنَا نَقْضِي فِيهَا وَلَا فِي يَوْمِهَا أَمْرًا، فَأَمْهِلْ حَتّى يَذْهَبَ السّبْتُ. فَخَرَجَ الرّسُولُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَرُءُوسُ الْأَحْزَابِ مَعَهُ: هَذَا مَكْرٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَارْتَحِلُوا فَقَدْ طَالَتْ إقَامَتُكُمْ. فَآذَنُوا بِالرّحِيلِ، وَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الرّيحَ، حَتّى مَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ يَهْتَدِي لِمَوْضِعِ رَحْلِهِ، فَارْتَحَلُوا فَوَلّوْا مُنْهَزِمِينَ. وَيُقَالُ إنّ حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: أَنَا آخُذُ لَك مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ سَبْعِينَ رَجُلًا رَهْنًا عِنْدَك حَتّى يَخْرُجُوا فَيُقَاتِلُوا، فَهُمْ أَعْرَفُ بِقِتَالِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ. فَكَانَ هَذَا الّذِي قَالَ إنّ أَبَا سُفْيَانَ طَلَبَ الرّهْنَ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَأَثْبَتُ الْأَشْيَاءِ عِنْدَنَا قَوْلُ نُعَيْمٍ الْأَوّلِ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى يُحَدّثُ أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. دعا عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ: اللهُمّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمْ الْأَحْزَابَ! اللهُمّ اهْزِمْهُمْ!
فَحَدّثَنِي كُثَيّرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْأَحْزَابِ فِي مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ. قَالَ: فَعَرَفْنَا السّرُورَ فِي وَجْهِهِ. قَالَ جَابِرٌ: فَمَا نَزَلَ بِي أَمْرٌ غَائِظٌ مُهِمّ إلّا تَحَيّنْت تِلْكَ السّاعَةَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَأَدْعُو اللهَ فَأَعْرِفُ الْإِجَابَةَ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ يُحَدّثُ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى الْجَبَلِ الّذِي عَلَيْهِ الْمَسْجِدُ، فَدَعَا فِي إزَارٍ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدّا، ثُمّ جَاءَهُ مَرّةً أُخْرَى فَصَلّى وَدَعَا. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بن عمر يقول: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَرِيقِ الْقَابِلِ الصّابّ عَلَى أَرْضِ بَنِي النّضِيرِ، وَهُوَ الْيَوْمَ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ الّذِي بِأَسْفَلَ الْجَبَلِ. وَيُقَالُ إنّهُ صَلّى فِي تِلْكَ الْمَسَاجِدِ كُلّهَا الّتِي حَوْلَ الْمَسْجِدِ الّذِي فَوْقَ الْجَبَلِ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهَذَا أَثْبَتُ الْأَحَادِيثِ. وَقَالُوا: لَمّا كَانَ لَيْلَةُ السّبْتِ بَعَثَ اللهُ الرّيحَ فَقَلَعَتْ [ (1) ] وَتَرَكَتْ: وَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلَى أَنْ ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ لَيْلَةَ قُتِلَ ابْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا حَزَبَهُ [ (2) ] الْأَمْرُ أَكْثَرَ الصّلَاةَ. قَالُوا: وَكَانَ حِصَارُ الْخَنْدَقِ فِي قُرّ شَدِيدٍ وَجُوعٍ، فَكَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتنَا فِي الْخَنْدَقِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْنَا الْبَرْدُ وَالْجُوعُ والخوف،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ جَعَلَهُ اللهُ رَفِيقِي فِي الْجَنّةِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَنّةَ وَالرّجُوعَ، فَمَا قَامَ مِنّا رَجُلٌ! ثُمّ عَادَ يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ، وَمَا قَامَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ شِدّةِ الْجُوعِ وَالْقُرّ وَالْخَوْفِ. فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَا يَقُومُ أَحَدٌ، دَعَانِي فَقَالَ: يَا حُذَيْفَةُ! قَالَ: فَلَمْ أَجِدْ بُدّا مِنْ الْقِيَامِ حِينَ فَوّهَ [ (1) ] بِاسْمِي، فَجِئْته وَلِقَلْبِي وَجَبَانٌ فِي صَدْرِي، فَقَالَ: تَسْمَعُ كَلَامِي مُنْذُ اللّيْلَةَ وَلَا تَقُومُ؟ فَقُلْت: لَا، وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، إنْ قَدَرْت عَلَى مَا بِي مِنْ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ، وَلَا تَرْمِينَ بِسَهْمٍ وَلَا بِحَجَرٍ، وَلَا تَطْعَنُ بِرُمْحٍ، وَلَا تَضْرِبَن بِسَيْفٍ حَتّى تَرْجِعَ إلَيّ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا بِي يَقْتُلُونِي وَلَكِنّي أَخَافُ أَنْ يُمَثّلُوا بِي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ عَلَيْك بَأْسٌ! فَعَرَفْت أَنّهُ لَا بَأْسَ عَلَيّ مَعَ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَوّلِ. ثُمّ قَالَ: اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَقُولُونَ. فَلَمّا وَلّى حُذَيْفَةُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، احْفَظْهُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ! فَدَخَلَ عَسْكَرَهُمْ فَإِذَا هُمْ يَصْطَلُونَ عَلَى نِيرَانِهِمْ، وَإِنّ الرّيحَ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا تُقِرّ لَهُمْ قَرَارًا [ (2) ] وَلَا بِنَاءً. فَأَقْبَلْت فَجَلَسْت عَلَى نَارٍ مَعَ قَوْمٍ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: احْذَرُوا الْجَوَاسِيسَ وَالْعُيُونَ، وَلْيَنْظُرْ كُلّ رَجُلٍ جَلِيسَهُ. قَالَ، فَالْتَفَتّ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْت: مَنْ أَنْتَ؟ وَهُوَ عَنْ يَمِينِي. فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. وَالْتَفَتّ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَقُلْت: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. ثُمّ قَالَ أبو سفيان:
إنّكُمْ وَاَللهِ لَسْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ، وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغْنَا عَنْهُمْ الّذِي نَكْرَهُ، وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الرّيحِ مَا تَرَوْنَ! وَاَللهِ، مَا يَثْبُتُ لَنَا بِنَاءٌ وَلَا تَطْمَئِنّ لَنَا قِدْرٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنّي مُرْتَحِلٌ. وَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ، وَجَلَسَ عَلَى بَعِيرِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ، ثُمّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ، فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إلّا بَعْدَ مَا قَامَ. وَلَوْلَا عَهْدُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيّ: «لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتّى تأتى» ثم شئت، لقتلته. فناداه عكرمة ابن أَبِي جَهْلٍ: إنّك رَأْسُ الْقَوْمِ وَقَائِدُهُمْ، تَقْشَعُ وَتَتْرُكُ النّاسَ؟ فَاسْتَحْيَى أَبُو سُفْيَانَ فَأَنَاخَ جَمَلَهُ وَنَزَلَ عَنْهُ، وَأَخَذَ بِزِمَامِهِ وَهُوَ يَقُودُهُ، وَقَالَ: ارْحَلُوا! قَالَ: فَجَعَلَ النّاسُ يَرْتَحِلُونَ وَهُوَ قَائِمٌ حتى خفّ العسكر، ثم قال لعمرو ابن الْعَاصِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، لَا بُدّ لِي وَلَك أَنْ نُقِيمَ فِي جَرِيدَةٍ [ (1) ] مِنْ خَيْلٍ بِإِزَاءِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنّا لَا نَأْمَنُ أَنْ نُطْلَبَ حَتّى يَنْفُذَ الْعَسْكَرُ. فَقَالَ عَمْرٌو: أَنَا أُقِيمُ. وَقَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: مَا تَرَى يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ فَقَالَ: أَنَا أَيْضًا أُقِيمُ. فَأَقَامَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَسَارَ الْعَسْكَرُ إلّا هَذِهِ الْجَرِيدَةُ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ. قَالُوا: وَذَهَبَ حُذَيْفَةُ إلَى غَطَفَانَ فَوَجَدَهُمْ قَدْ ارْتَحَلُوا، فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ. وَأَقَامَتْ الْخَيْلُ حَتّى كَانَ السّحَرُ، ثُمّ مَضَوْا فَلَحِقُوا الْأَثْقَالَ وَالْعَسْكَرَ مَعَ ارْتِفَاعِ النّهَارِ بِمَلَلَ، فَغَدَوَا إلَى السّيّالَةِ. وَكَانَتْ غَطَفَانُ لَمّا ارْتَحَلَتْ وَقَفَ مَسْعُودُ بْنُ رُخَيْلَةَ فِي خَيْلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَوَقَفَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فِي خَيْلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَوَقَفَ فُرْسَانٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فِي أَصْحَابِهِمْ، ثُمّ تَحَمّلُوا جَمِيعًا فِي طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، وَكَرِهُوا أَنْ يتفرّقوا حتى
أَتَوْا عَلَى الْمِرَاضِ [ (1) ] ، ثُمّ تَفَرّقَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ إلَى مَحَالّهَا. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ- يَعْنِي ابْنَ مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ- قَالَ: لَمّا انْصَرَفَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَالَ: قَدْ عَلِمَ كُلّ ذِي عَقْلٍ أَنّ مُحَمّدًا لَمْ يَكْذِبْ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ: أَنْتَ أَحَقّ النّاسِ أَلّا يَقُولَ هَذَا. قَالَ عَمْرٌو: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنّهُ نَزَلَ عَلَى شَرَفِ أَبِيك وَقَتَلَ سَيّدَ قَوْمِك. وَيُقَالُ: الّذِي تَكَلّمَ بِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَا نَدْرِي، لَعَلّهُمَا قَدْ تَكَلّمَا بِذَلِكَ جَمِيعًا. قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَدْ عَلِمَ كُلّ حَلِيمٍ أَنّ مُحَمّدًا لَمْ يَكْذِبْ قَطّ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: إنّ أَحَقّ النّاسِ أَلّا يَقُولَ هَذَا أَنْتَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: نَزَلَ عَلَى شَرَفِ أَبِيك، وَقَتَلَ سَيّدَ قَوْمِك أَبَا جَهْلٍ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: كَانَ مُحَاصَرَةُ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عبيد الله بن مقسم، عن جابر ابن عَبْدِ اللهِ، قَالَ: عِشْرِينَ يَوْمًا. وَيُقَالُ خَمْسَةَ عَشَرِ يَوْمًا، وَهَذَا أَثْبَتُ ذَلِكَ عِنْدَنَا. فَلَمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْخَنْدَقِ أَصْبَحَ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعَسَاكِرِ، قَدْ هَرَبُوا وَذَهَبُوا. وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الثّبَتُ أَنّهُمْ انْقَشَعُوا إلَى بِلَادِهِمْ، وَلَمّا أَصْبَحُوا أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الِانْصِرَافِ إلَى مَنَازِلِهِمْ، فَخَرَجُوا مُبَادِرِينَ مَسْرُورِينَ بِذَلِكَ. وَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْلَمَ بَنُو قُرَيْظَةَ رَجْعَتَهُمْ [ (2) ] إلَى مَنَازِلِهِمْ، فَأَمَرَ بِرَدّهِمْ، وبعث من ينادى فى أثرهم، فما
رَجَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ. فَكَانَ مِمّنْ يَرُدّهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَجَعَلْت أَصِيحُ فِي أَثَرِهِمْ فِي كُلّ نَاحِيَةٍ: إنّ رَسُولَ اللهِ أَمَرَكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا، فَمَا رَجَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ الْقُرّ وَالْجُوعِ. فَكَانَ يَقُولُ: كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى سُرْعَتَهُمْ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِقُرَيْشٍ عُيُونٌ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: أَمَرَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أَرُدّهُمْ، فَجَعَلْت أَصِيحُ بِهِمْ فَمَا يَرْجِعُ أَحَدٌ، فَانْطَلَقْت فِي أَثَرِ بَنِي حَارِثَةَ، فَوَاَللهِ مَا أَدْرَكْتهمْ حَتّى دَخَلُوا بُيُوتَهُمْ، وَلَقَدْ صِحْت فَمَا يَخْرُجُ إلَيّ أَحَدٌ مِنْ جَهْدِ الْجُوعِ وَالْقُرّ، فَرَجَعَتْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْقَاهُ فِي بَنِي حَرَامٍ مُنْصَرِفًا، فَأَخْبَرْته فَضَحِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي وَجْزَةَ، قَالَ: لَمّا مَلّتْ قُرَيْشٌ الْمُقَامَ، وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ، وَضَاقُوا بِالْخَنْدَقِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يُغِيرَ عَلَى بَيْضَةِ الْمَدِينَةِ، كَتَبَ كِتَابًا [ (1) ] فِيهِ: باسمك اللهمّ، فإنى أحلف باللّات وَالْعُزّى، لَقَدْ سِرْت إلَيْك فِي جَمْعِنَا، وَإِنّا نُرِيدُ أَلّا نَعُودَ إلَيْك أَبَدًا حَتّى نَسْتَأْصِلَك، فَرَأَيْتُك [ (2) ] قَدْ كَرِهْت لِقَاءَنَا، وَجَعَلْت مَضَايِقَ وَخَنَادِقَ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ عَلّمَك هَذَا؟ فَإِنْ نَرْجِعْ عَنْكُمْ فَلَكُمْ مِنّا يَوْمٌ كَيَوْمِ أُحُدٍ، تُبْقَرُ فِيهِ النّسَاءُ. وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ أَبِي أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ، فَلَمّا أَتَى بِالْكِتَابِ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَيّ بْنَ كَعْبٍ، فَدَخَلَ مَعَهُ قُبّتَهُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ ... أَمَا بَعْدُ، فَقَدِيمًا غَرّك بِاَللهِ الْغَرُورُ، أَمّا مَا ذَكَرْت أَنّك سِرْت إلَيْنَا فِي جَمْعِكُمْ، وَأَنّك لَا تُرِيدُ
أَنْ تَعُودَ حَتّى تَسْتَأْصِلَنَا، فَذَلِكَ أَمْرٌ اللهُ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَهُ، وَيَجْعَلُ لَنَا الْعَاقِبَةَ حَتّى لا تذكر اللّات وَالْعُزّى. وَأَمّا قَوْلُك: «مَنْ عَلّمَك الّذِي صَنَعْنَا مِنْ الْخَنْدَقِ» ، فَإِنّ اللهَ تَعَالَى أَلْهَمَنِي ذَلِكَ لِمَا أَرَادَ مِنْ غَيْظِك بِهِ وَغَيْظِ أَصْحَابِك، وَلَيَأْتِيَن عَلَيْك يَوْمٌ تُدَافِعُنِي بِالرّاحِ، وَلْيَأْتِيَن عَلَيْك يوم أكسر فيه اللّات، وَالْعُزّى، وَإِسَافَ، وَنَائِلَةَ، وَهُبَلَ، حَتّى أُذَكّرُك ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنّ فِي الْكِتَابِ «وَلَقَدْ عَلِمْت أَنّي لَقِيت أَصْحَابَك بِأَحْيَاءَ [ (1) ] وَأَنَا فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ، فَمَا حَصَرَ أَصْحَابُك مِنّا شَعْرَةً، وَرَضُوا بِمُدَافَعَتِنَا بِالرّاحِ. ثُمّ أَقْبَلْت فِي عِيرِ قُرَيْشٍ حَتّى لَقِيت قَوْمِي، فَلَمْ تَلْقَنَا، فَأَوْقَعْت بِقَوْمِي وَلَمْ أَشْهَدْهَا مِنْ وَقْعَةٍ. ثُمّ غَزَوْتُكُمْ فِي عُقْرِ دَارِكُمْ فَقَتَلْت وَحَرَقْت- يَعْنِي غَزْوَةَ السّوِيقِ- ثُمّ غَزَوْتُك فِي جَمْعِنَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَكَانَتْ وَقْعَتُنَا فِيكُمْ مِثْلَ وَقْعَتِكُمْ بِنَا بِبَدْرٍ، ثُمّ سِرْنَا إلَيْكُمْ فِي جَمْعِنَا وَمَنْ تَأَلّبَ إلَيْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَلَزِمْتُمْ الصّيَاصِيَ [ (2) ] وخندقتم الخنادق» .
باب ما أنزل الله من القرآن فى الخندق
بَابُ مَا أَنَزَلَ اللهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْخَنْدَقِ حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي شَأْنِ الْخَنْدَقِ يَذْكُرُ نِعْمَتَهُ وَكِفَايَتَهُ عَدُوّهُمْ بَعْدَ سُوءِ الظّنّ مِنْهُمْ وَمَقَالَةِ مَنْ تَكَلّمَ بِالنّفَاقِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [ (1) ] . قَالَ: وَكَانَتْ الْجُنُودُ الّتِي أَتَتْ الْمُؤْمِنِينَ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ وَأَسَدًا وَسُلَيْمًا، وَكَانَتْ الْجُنُودُ الّتِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الرّيحَ. وَذَكَرَ: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [ (2) ] وَكَانَ الّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَاَلّذِينَ جَاءُوا مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَأَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَسُلَيْمٌ. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [ (3) ] . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [ (4) ] ، قَوْلُ مُعَتّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [ (5) ] ، يَقُولُ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها [ (6) ] ، مِنْ نَوَاحِيهَا، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ. وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [ (7) ] إلَى قَوْلِهِ تعالى
ذكر من قتل من المسلمين يوم الخندق
وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا، كَانَ ثَعْلَبَةُ عَاهَدَ اللهَ يَوْمَ أُحُدٍ لَا يُوَلّي دُبُرًا أَبَدًا بَعْدَ أُحُدٍ. ثُمّ ذَكَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ حِينَ أَتَاهُمْ الْأَحْزَابُ فَحَصَرُوهُمْ، وَظَاهَرَتْهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ فِي الْخَنْدَقِ فَاشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ، فَقَالُوا لَمّا رَأَوْا ذَلِكَ: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [ (1) ] ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ (2) ] ، وَفِي قَوْلِهِ: رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ [ (3) ] ، يَقُولُ قُتِلَ أَوْ أُبْلِيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُبْلَى، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، مَا تَغَيّرَتْ نِيّاتُهُمْ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [ (4) ] حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُجَاهَدٍ، قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ فَقَالَ: هَذَا مِمّنْ قَضَى نَحْبَهُ. ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، رَمَاهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ فَمَاتَ، وَيُقَالُ رَمَاهُ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ زَعُورَاءَ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ الْأَشْهَلِيّ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بنى عويف فقتله.
ذكر من قتل من المشركين
وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ: الطّفَيْلُ بْنُ النّعْمَانِ. قَتَلَهُ وَحْشِيّ، وَكَانَ وَحْشِيّ يَقُولُ: أَكْرَمَ اللهُ بِحَرْبَتِي حَمْزَةَ وَالطّفَيْلَ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي، قَتَلَهُ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ. وَمِنْ بَنِي دِينَارٍ: كَعْبُ بْنُ زَيْدٍ، وَكَانَ قَدْ اُرْتُثّ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ فَصَحّ حَتّى قُتِلَ فِي الْخَنْدَقِ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ. فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِتّةُ نَفَرٍ. ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ: عَمْرُو بْنُ عَبْدِ بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ، قَتَلَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، وَيُقَالُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ: عُثْمَانُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ، مَاتَ بِمَكّةَ مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ. ذِكْرُ مَا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي الْخَنْدَقِ. قَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ: هَكَذَا كَانَ ... بَابُ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ سَارَ إلَيْهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَحَاصَرَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمّ انْصَرَفَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحَجّةِ سَنَةَ خَمْسٍ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ. قَالُوا: لَمّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْخَنْدَقِ، وَخَافَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ خَوْفًا شَدِيدًا، وَقَالُوا: مُحَمّدٌ يَزْحَفُ إلَيْنَا! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ حَتّى جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَكَانَتْ امْرَأَةُ نَبّاشِ بْنِ قَيْسٍ قَدْ رَأَتْ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي حِصَارِ الْخَنْدَقِ، قَالَتْ: أَرَى الْخَنْدَقَ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ، وَأَرَى النّاسَ تَحَوّلُوا إلَيْنَا وَنَحْنُ فِي حُصُونِنَا قَدْ ذُبِحْنَا [ذَبْحَ] الْغَنَمِ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِزَوْجِهَا، فَخَرَجَ زَوْجُهَا فَذَكَرَهَا لِلزّبَيْرِ بْنِ بَاطَا، فَقَالَ الزّبَيْرُ: مَا لَهَا لَا نَامَتْ عَيْنُهَا، تُوَلّي قُرَيْشٌ وَيَحْصُرُنَا مُحَمّدٌ! وَالتّوْرَاة، وَلَمَا بَعْدَ الْحِصَارِ أَشَدّ مِنْهُ! قَالُوا: فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَنْدَقِ دَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَغَسَلَ رَأْسَهُ وَاغْتَسَلَ، وَدَعَا بِالْمِجْمَرَةِ لِيُجْمِرَ، وَقَدْ صَلّى الظّهْرَ، وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ [ (1) ] وَعَلَيْهَا قَطِيفَةٌ، عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ، فَوَقَفَ عِنْدَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ فَنَادَى: عَذِيرَك مِنْ مُحَارِبٍ! قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا فَقَالَ [ (2) ] : أَلَا أَرَاك وَضَعْت اللّأْمَةَ وَلَمْ تَضَعْهَا الْمَلَائِكَةُ بَعْدُ؟ لَقَدْ طَرَدْنَاهُمْ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، إنّ اللهَ يَأْمُرُك أَنْ تَسِيرَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنّي عَامِدٌ إلَيْهِمْ فَمُزَلْزِلٌ بِهِمْ حُصُونَهُمْ. وَيُقَالُ جَاءَهُ عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ فَدَفَعَ إلَيْهِ لِوَاءً، وَكَانَ اللّوَاءُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يُحَلّ مِنْ مَرْجِعِهِ مِنْ الْخَنْدَقِ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَذّنَ فِي النّاسِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكُمْ أَلّا تُصَلّوا الْعَصْرَ إلّا بِبَنِي قُرَيْظَةَ. ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم السّلَاحَ وَالْمِغْفَرَ وَالدّرْعَ وَالْبَيْضَةَ، وَأَخَذَ قَنَاةً بِيَدِهِ، وَتَقَلّدَ التّرْسَ وَرَكِبَ فَرَسَهُ، وَحَفّ بِهِ أَصْحَابُهُ وَتَلَبّسُوا السّلَاحَ وَرَكِبُوا الْخَيْلَ، وَكَانَتْ سِتّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم
قَدْ قَادَ فَرَسَيْنِ وَرَكِبَ وَاحِدًا، يُقَالُ لَهُ اللّحَيْفُ، فَكَانَتْ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ مَعَهُ. وَعَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَارِسٌ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ. وَفِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ: عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَارِسٌ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَارِسٌ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ: عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ. وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ: أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ: عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ. وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ: عَبْدُ اللهِ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَمِنْ بَنِي فِهْرٍ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ. وَمِنْ الْأَوْسِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأَبُو نَائِلَةَ، وَسَعْدُ بن زيد. ومن بنى ظفر: قتادة ابن النّعْمَانِ. وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَمَعْنُ بْنُ عَدِيّ، وَثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ. وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ: الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ. وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ. وَفِي بَنِي زُرَيْقٍ: رُقَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو عَيّاشٍ، وَمُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ. وَمِنْ بَنِي ساعدة: سعد ابن عُبَادَةَ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَيّوبَ بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، قال: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ وَالْخَيْلُ وَالرّجّالَةُ حَوْلَهُ، فَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفَرٍ مِنْ بَنِي النّجّارِ بِالصّورَيْنِ [ (1) ] فِيهِمْ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ، قَدْ صَفّوا عَلَيْهِمْ السّلَاحَ، فَقَالَ: هَلْ مَرّ بِكُمْ أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ مَرّ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ
إسْتَبْرَقٍ، فَأَمَرَنَا بِلُبْسِ السّلَاحِ، فَأَخَذْنَا سِلَاحَنَا وَصَفَفْنَا، وَقَالَ لَنَا: هَذَا رَسُولُ اللهِ يَطّلِعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ. قَالَ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ: فَكُنّا صَفّيْنِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ جِبْرِيلُ! فَكَانَ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ يَقُولُ: رَأَيْت جِبْرِيلَ مِنْ الدّهْرِ مَرّتَيْنِ- يَوْمَ الصّورَيْنِ وَيَوْمَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ حِينَ رَجَعْنَا مِنْ حُنَيْنٍ. وَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَنَزَلَ عَلَى بِئْرٍ لَنَا [ (1) ] أَسْفَلَ حَرّةِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ قَدْ سَبَقَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: انْتَهَيْنَا إلَيْهِمْ فَلَمّا رَأَوْنَا أَيْقَنُوا بِالشّرّ، وَغَرَزَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ الرّايَةَ عِنْدَ أَصْلِ الْحِصْنِ، فَاسْتَقْبَلُونَا فِي صَيَاصِيِهِمْ يَشْتُمُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجَهُ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَسَكَتْنَا وَقُلْنَا: السّيْفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ! وَطَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا رَآهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَلْزَمَ اللّوَاءَ فَلَزِمْته، وَكَرِهَ أَنْ يَسْمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَاهُمْ وَشَتْمَهُمْ. فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، وَتَقَدّمَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللهِ، لَا نَبْرَحُ حِصْنَكُمْ حَتّى تَمُوتُوا جُوعًا. إنّمَا أَنْتُمْ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِي جُحْرٍ. قَالُوا: يَا ابْنَ الْحُضَيْرِ، نَحْنُ مَوَالِيكُمْ دُونَ الْخَزْرَجِ! وَخَارُوا [ (2) ] ، وَقَالَ: لَا عَهْدَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَلَا إلّ [ (3) ] . وَدَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، وَتَرّسْنَا عنه، فقال:
يَا إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَعَبَدَةَ الطّوَاغِيتِ، أَتَشْتُمُونَنِي؟ قَالَ: فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ بِالتّوْرَاةِ الّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى: مَا فَعَلْنَا! وَيَقُولُونَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا كُنْت جَهُولًا! ثُمّ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرّمَاةَ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَحَدّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ زُبَيْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَعْدُ، تَقَدّمَ فَارْمِهِمْ! فَتَقَدّمْت حَيْثُ تَبْلُغُهُمْ نَبْلِي، وَمَعِي نَيّفٌ عَلَى الْخَمْسِينَ، فَرَمَيْنَاهُمْ سَاعَةً وَكَأَنّ نَبْلَنَا مِثْلُ [ (1) ] جَرَادٍ، فَانْجَحَرُوا فَلَمْ يَطْلُعْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَأَشْفَقْنَا عَلَى نَبْلِنَا أَنْ يَذْهَبَ، فَجَعَلْنَا نَرْمِي بَعْضَهَا [ (2) ] وَنُمْسِكُ الْبَعْضَ. فَكَانَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو الْمَازِنِيّ- وَكَانَ رَامِيًا- يَقُولُ: رَمَيْت يَوْمَئِذٍ بِمَا فِي كِنَانَتِي، حَتّى أَمْسَكْنَا عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللّيْلِ. قَالَ: وَقَدْ رَمَوْنَا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ عَلَى فَرَسِهِ عَلَيْهِ السّلَاحُ، وَأَصْحَابُ الْخَيْلِ حَوْلَهُ، ثُمّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفْنَا إلَى مَنْزِلِنَا وَعَسْكَرْنَا فَبِتْنَا، وَكَانَ طَعَامُنَا تَمْرًا بَعَثَ بِهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، أَحْمَالَ تَمْرٍ، فَبِتْنَا [ (3) ] نَأْكُلُ مِنْهَا، وَلَقَدْ رُئِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَأْكُلُونَ مِنْ ذَلِكَ التّمْرِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: نِعْمَ الطّعَامُ التّمْرُ! وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشَاءً، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصَلّ حَتّى جَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ صَلّى، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا عَابَ عَلَى أَحَدٍ صَلّى، وَلَا عَلَى أَحَدٍ لَمْ يُصَلّ حتى بلغ بنى قريظة. ثم غدونا
عَلَيْهِمْ بِسُحْرَةٍ، فَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرّمَاةَ، وَعَبّأَ أَصْحَابَهُ فَأَحَاطُوا بِحُصُونِهِمْ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَعْتَقِبُونَ فَيُعْقِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَمَا بَرِحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَامِيهِمْ حَتّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ. فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانُوا يُرَامُونَنَا مِنْ حُصُونِهِمْ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ أَشَدّ الرّمْيِ، وَكُنّا نَقُومُ حَيْثُ تَبْلُغُهُمْ نَبْلُنَا فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمود، قال: قال محمّد ابن مَسْلَمَةَ: حَصَرْنَاهُمْ أَشَدّ الْحِصَارِ، فَلَقَدْ رَأَيْتنَا يَوْمَ غَدَوْنَا عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَجَعَلْنَا نَدْنُو مِنْ الْحِصْنِ وَنَرْمِيهِمْ مِنْ كَثَبٍ، وَلَزِمْنَا حُصُونَهُمْ فَلَمْ نُفَارِقْهَا حَتّى أَمْسَيْنَا، وَحَضّنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِهَادِ وَالصّبْرِ. ثُمّ بِتْنَا عَلَى حُصُونِهِمْ، مَا رَجَعْنَا إلَى مُعَسْكَرِنَا حَتّى تَرَكُوا قِتَالَنَا وَأَمْسَكُوا عَنْهُ وَقَالُوا: نُكَلّمُك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ. فَأَنْزَلُوا نَبّاشَ بْنَ قَيْسٍ، فَكَلّمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، نَنْزِلُ عَلَى مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَنُو النّضِيرِ، لَك الْأَمْوَالُ وَالْحَلْقَةُ وَتَحْقِنُ دِمَاءَنَا، وَنَخْرُجُ مِنْ بِلَادِكُمْ بِالنّسَاءِ وَالذّرَارِيّ، وَلَنَا مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا الْحَلْقَةَ. فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: فَتَحْقِنُ دِمَاءَنَا وَتُسَلّمُ لَنَا النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، إلّا أَنْ تَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِي. فَرَجَعَ نَبّاشٌ إلَى أَصْحَابِهِ بِمَقَالَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كعب ابن أَسَدٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاَللهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّ مُحَمّدًا نَبِيّ اللهِ، وَمَا مَنَعَنَا مِنْ الدّخُولِ مَعَهُ إلّا الْحَسَدُ لِلْعَرَبِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّا مِنْ بَنِي.
إسْرَائِيلَ فَهُوَ حَيْثُ جَعَلَهُ اللهُ. وَلَقَدْ كُنْت كَارِهًا لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ، وَلَكِنّ الْبَلَاءَ وَشُؤْمَ هَذَا الْجَالِسِ [ (1) ] عَلَيْنَا وَعَلَى قَوْمِهِ، وَقَوْمُهُ كَانُوا أَسْوَأَ [ (2) ] مِنّا. لَا يَسْتَبْقِي مُحَمّدٌ رَجُلًا وَاحِدًا إلّا مَنْ تَبِعَهُ. أَتَذْكُرُونَ مَا قَالَ لَكُمْ ابْنُ خِرَاشٍ [ (3) ] حِين قَدِمَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ: تَرَكْت الْخَمْرَ وَالْخَمِيرَ وَالتّأْمِيرَ، وَجِئْت إلَى السّقَاءِ وَالتّمْرِ وَالشّعِيرِ؟ قَالُوا: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: يَخْرُج مِنْ [ (4) ] هَذِهِ الْقَرْيَةِ نَبِيّ، فَإِنْ خَرَجَ وَأَنَا حَيّ اتّبَعْته وَنَصَرْته، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدِي فَإِيّاكُمْ أَنْ تُخْدَعُوا عَنْهُ، فَاتّبِعُوهُ وَكُونُوا أَنْصَارَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَقَدْ آمَنْتُمْ بِالْكِتَابَيْنِ كِلَيْهِمَا الْأَوّلِ وَالْآخِرِ. قَالَ كَعْبٌ: فَتَعَالَوْا فَلْنُتَابِعْهُ وَلْنُصَدّقْهُ وَلْنُؤْمِنْ بِهِ، فَنَأْمَنُ عَلَى دِمَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَنَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَعَهُ. قَالُوا: لَا نَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِنَا، نَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالنّبُوّةِ، وَنَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِنَا؟ فَجَعَلَ كَعْبٌ يَرُدّ عَلَيْهِمْ الْكَلَامَ بِالنّصِيحَةِ لَهُمْ. قَالُوا: لَا نُفَارِقُ التّوْرَاةَ وَلَا نَدَعُ مَا كُنّا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ مُوسَى. قَالَ: فَهَلُمّ فَلْنَقْتُلْ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، ثُمّ نَخْرُجُ فِي أَيْدِينَا السّيُوفُ إلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ. فَإِنْ قَتَلَنَا قُتِلْنَا وَمَا وَرَاءَنَا أَمْرٌ نَهْتَمّ بِهِ، وَإِنْ ظَفِرْنَا فَلَعَمْرِي لَنَتَخِذَنّ النّسَاءَ وَالْأَبْنَاءَ. فَتَضَاحَكَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ثُمّ قَالَ: مَا ذَنْبُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ؟ وَقَالَتْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ، الزّبِيرُ بْنُ بَاطَا وَذَوُوهُ: مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ بَعْدَ هَؤُلَاءِ. قَالَ: فَوَاحِدَةٌ قَدْ بَقِيَتْ مِنْ الرّأْيِ لَمْ يَبْقَ غَيْرُهَا، فَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوهَا فَأَنْتُمْ بَنُو إِسْتِهَا. قَالُوا: مَا هِيَ؟ قَالَ: اللّيْلَةُ السّبْتُ، وَبِالْحَرِيّ [ (5) ] أَنْ يَكُونَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ آمِنِينَ لَنَا فِيهَا أَنْ نقاتله، فنخرج
فَلَعَلّنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْهُ غِرّةً. قَالُوا: نُفْسِدُ سَبْتَنَا، وَقَدْ عَرَفْت مَا أَصَابَنَا فِيهِ؟ قَالَ حُيَيّ: قَدْ دَعَوْتُك إلَى هَذَا وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ حُضُورٌ فَأَبَيْت أَنْ نَكْسِرَ السّبْتَ، فَإِنْ أَطَاعَتْنِي الْيَهُودُ فَعَلُوا. فَصَاحَتْ الْيَهُودُ: لَا نَكْسِرُ السّبْتَ. قَالَ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ: وَكَيْفَ نُصِيبُ مِنْهُمْ غِرّةً وَأَنْتَ تَرَى أَنّ أَمْرَهُمْ كُلّ يَوْمٍ يَشْتَدّ. كَانُوا أَوّلَ مَا يُحَاصِرُونَنَا إنّمَا يُقَاتِلُونَ بِالنّهَارِ وَيَرْجِعُونَ اللّيْلَ، فَكَانَ هَذَا لَك قَوْلًا «لَوْ بَيّتْنَاهُمْ» . فَهُمْ الْآنَ يُبَيّتُونَ اللّيْلَ وَيَظَلّونَ النّهَارَ، فَأَيّ غِرّةً نُصِيبُ مِنْهُمْ؟ هِيَ مَلْحَمَةٌ وَبَلَاءٌ كُتِبَ عَلَيْنَا. فَاخْتَلَفُوا وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَرَقّوا عَلَى النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ، وَذَلِكَ أَنّ النّسَاءَ [وَالصّبْيَانَ] لَمّا رَأَوْا ضَعْفَ أَنْفُسِهِمْ هَلَكُوا، فَبَكَى النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ، فَرَقّوا عَلَيْهِمْ. فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ ثَعْلَبَةُ وأُسَيْدُ ابْنَا سَعِيّةَ [ (1) ] ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَمّهُمْ [ (2) ] : يَا مَعْشَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاَللهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ وَأَنّ صِفَتَهُ عِنْدَنَا، حَدّثَنَا بِهَا عُلَمَاؤُنَا وَعُلَمَاءُ بَنِي النّضِيرِ. هَذَا أَوّلُهُمْ- يَعْنِي حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ- مَعَ جُبَيْرِ بْنِ الْهَيّبَانِ [ (3) ] أَصْدَقُ النّاسِ عِنْدَنَا، هُوَ خَبّرَنَا بِصِفَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ. قَالُوا: لَا نُفَارِقُ التّوْرَاةَ! فَلَمّا رَأَى هَؤُلَاءِ النّفَرُ إبَاءَهُمْ، نَزَلُوا فِي اللّيْلَةِ الّتِي فِي صُبْحِهَا نَزَلَتْ قُرَيْظَةُ، فَأَسْلَمُوا فَأَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، قَالَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، إنّكُمْ قَدْ حَالَفْتُمْ مُحَمّدًا عَلَى مَا حَالَفْتُمُوهُ عَلَيْهِ، أَلّا تَنْصُرُوا عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ عَدُوّهِ، وَأَنْ تنصروه
مِمّنْ دَهَمَهُ، فَنَقَضْتُمْ ذَلِكَ الْعَهْدَ الّذِي كَانَ بينكم وبينه، فلم أدخل فيه ولم أشرككم فِي غَدْرِكُمْ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا مَعَهُ فاثبتوا [على] اليهودية وأعطوا الجزية، فو الله مَا أَدْرِي يَقْبَلُهَا أَمْ لَا. قَالُوا: نَحْنُ لَا نُقِرّ لِلْعَرَبِ بِخَرْجٍ فِي رِقَابِنَا يَأْخُذُونَنَا بِهِ، الْقَتْلُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ! قَالَ: فَإِنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ. وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ مَعَ بَنِي سَعِيّةَ فَمَرّ بِحَرَسِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ سُعْدَى. فَقَالَ مُحَمّدٌ: مُرّ! اللهُمّ، لَا تَحْرِمْنِي إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ. فَخَلّى سَبِيلَهُ وَخَرَجَ حَتّى أَتَى مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَاتَ بِهِ حَتّى أَصْبَحَ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَا فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ هُوَ حَتّى السّاعَةِ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ: ذَلِكَ رَجُلٌ نَجّاهُ اللهُ بِوَفَائِهِ. وَيُقَالُ إنّهُ لَمْ يَطْلُعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يُبَادِرْ [ (1) ] لِلْقِتَالِ، فِي رِوَايَتِنَا. حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَرّ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى عَلَى الْحَرَسِ، فَنَادَاهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ سُعْدَى. قَالَ مُحَمّدٌ: قَدْ عَرَفْنَاك. ثُمّ قَالَ مُحَمّدٌ: اللهُمّ، لَا تَحْرِمْنِي إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ. حَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَامَ إلَيْهِ الزّبير فبارزه. فقالت صفيّة: وا جدّي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيّهُمَا عَلَا صَاحِبَهُ قَتَلَهُ. فَعَلَاهُ الزّبَيْرُ فَقَتَلَهُ، فنفله رسول الله صلّى الله عليه عليه وسلّم سلبه.
قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَلَمْ يُسْمَعْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي قِتَالِهِمْ وَأَرَاهُ وَهَلْ- هَذَا فِي خَيْبَرَ. حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: كَانَ أَوّلَ شَيْءٍ عَتَبَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَنّهُ خَاصَمَ يَتِيمًا لَهُ فِي عَذْقٍ. فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِذْقِ لِأَبِي لُبَابَةَ، فَصَيّحَ [ (1) ] الْيَتِيمُ وَاشْتَكَى إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لُبَابَةَ: هَبْ لِي الْعَذْقَ يَا أَبَا لُبَابَةَ- لِكَيْ يَرُدّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْيَتِيمِ. فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ أَنْ يَهَبَهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَعْطِهِ الْيَتِيمَ وَلَك مِثْلُهُ فِي الْجَنّةِ. فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ أَنْ يُعْطِيَهُ. قَالَ الزّهْرِيّ: فَحَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ: لَمّا أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ قَالَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ- وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللهِ إنْ ابْتَعْت هَذَا الْعَذْقَ فَأَعْطَيْته هَذَا الْيَتِيمَ، أَلِي مِثْلُهُ فِي الْجَنّةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَانْطَلَقَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ حَتّى لَقِيَ أَبَا لُبَابَةَ فَقَالَ: أَبْتَاعُ مِنْك عَذْقَك بِحَدِيقَتِي- وَكَانَتْ لَهُ حَدِيقَةُ نَخْلٍ. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: نَعَمْ. فَابْتَاعَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ الْعَذْقَ بِحَدِيقَةٍ مِنْ نَخْلٍ، فَأَعْطَاهُ الْيَتِيمَ. فَلَمْ يَلْبَثْ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ أَنْ جَاءَ كُفّارُ قُرَيْشٍ إلَى أُحُدٍ، فَخَرَجَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ فَقُتِلَ شَهِيدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة. قَالُوا: فَلَمّا اشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْحِصَارُ أَرْسَلُوا إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر.
فَحَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ السّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا أَرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُرْسِلَنِي إلَيْهِمْ، دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى حُلَفَائِك، فَإِنّهُمْ أَرْسَلُوا إلَيْك مِنْ بَيْنِ الْأَوْسِ. قَالَ: فَدَخَلْت عَلَيْهِمْ وَقَدْ اشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْحِصَارُ، فَبَهَشُوا [ (1) ] إلَيّ وَقَالُوا: يَا أَبَا لُبَابَةَ، نَحْنُ مَوَالِيك دُونَ النّاسِ كُلّهِمْ. فَقَامَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ فَقَالَ: أَبَا بَشِيرٍ، قَدْ عَلِمْت مَا صَنَعْنَا فِي أَمْرِك وَأَمْرِ قَوْمِك يَوْمَ الْحَدَائِقِ وَبُعَاثٍ، وَكُلّ حَرْبٍ كُنْتُمْ فِيهَا. وَقَدْ اشْتَدّ عَلَيْنَا الْحِصَارُ وَهَلَكْنَا، وَمُحَمّدٌ يَأْبَى يُفَارِقُ حِصْنَنَا حَتّى نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِهِ. فَلَوْ زَالَ عَنّا لَحِقْنَا بِأَرْضِ الشّامِ أَوْ خَيْبَرَ، وَلَمْ نَطَأْ لَهُ حُرّا [ (2) ] أَبَدًا، وَلَمْ نُكْثِرْ عَلَيْهِ جَمْعًا أَبَدًا. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: أَمّا مَا كَانَ هَذَا مَعَكُمْ، فَلَا يَدَعُ هَلَاكَكُمْ- وَأَشَرْت إلَى حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ. قَالَ كَعْبٌ: هُوَ وَاَللهِ أَوْرَدَنِي ثُمّ لَمْ يُصْدِرْنِي. فَقَالَ حُيَيّ: فَمَا أَصْنَعُ؟ كُنْت أَطْمَعُ فِي أَمْرِهِ، فَلَمّا أَخْطَأَنِي آسَيْتُك بِنَفْسِي، يُصِيبُنِي مَا أَصَابَك. قَالَ كَعْبٌ: وَمَا حَاجَتِي إلَى أَنْ أُقْتَلَ أَنَا وَأَنْتَ وَتُسْبَى ذَرَارِيّنَا؟ قَالَ حُيَيّ: مَلْحَمَةٌ وَبَلَاءٌ كُتِبَ عَلَيْنَا. ثُمّ قَالَ كَعْبٌ: مَا تَرَى، فَإِنّا قَدْ اخْتَرْنَاك عَلَى غَيْرِك؟ إنّ مُحَمّدًا قَدْ أَبَى إلّا أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِهِ، أَفَنَنْزِلُ [ (3) ] ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَانْزِلُوا- وَأَوْمَأَ إلَى حَلْقِهِ، هُوَ الذّبْحُ. قَالَ: فَنَدِمْت فَاسْتَرْجَعْت، فَقَالَ لِي كَعْبٌ: مَا لَك يَا أَبَا لُبَابَةَ؟ فَقُلْت: خُنْت اللهَ وَرَسُولَهُ. فنزلت وإنّ لحيتي لمبتلّة من الدموع،
وَالنّاسُ يَنْتَظِرُونَ رُجُوعِي إلَيْهِمْ. حَتّى أَخَذْت مِنْ وَرَاءِ الْحِصْنِ طَرِيقًا آخَرَ حَتّى جِئْت إلَى الْمَسْجِدِ فَارْتَبَطْت، فَكَانَ ارْتِبَاطِي إلَى الْأُسْطُوَانَةِ الْمُخَلّقَةِ [ (1) ] الّتِي تُقَالُ أُسْطُوَانَةُ التّوْبَةِ- وَيُقَالُ لَيْسَ تِلْكَ، إنّمَا ارْتَبَطَ إلَى أُسْطُوَانَةٍ كَانَتْ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ عِنْدَ بَابِ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ- وَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَابِي وَمَا صَنَعْت فَقَالَ: دَعُوهُ حَتّى يُحْدِثَ اللهُ فِيهِ مَا يَشَاءُ. لَوْ كَانَ جَاءَنِي اسْتَغْفَرْت لَهُ، فَأَمّا إذْ لَمْ يَأْتِنِي وَذَهَبَ فَدَعُوهُ! قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: فَكُنْت فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَأَذْكُرُ رُؤْيَا رَأَيْتهَا. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ. عَنْ أَيّوبَ بْنِ خَالِدٍ: قَالَ، قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: رَأَيْت فِي النّوْمِ وَنَحْنُ مُحَاصِرُو بَنِي قُرَيْظَةَ كَأَنّي فِي حَمْأَةٍ آسِنَةٍ، فَلَمْ أَخْرُجْ مِنْهَا حَتّى كِدْت أَمُوتَ مِنْ رِيحِهَا. ثُمّ أَرَى نَهَرًا جَارِيًا، فَأَرَانِي اغْتَسَلْت مِنْهُ حَتّى اسْتَنْقَيْتُ، وَأَرَانِي أَجِدُ رِيحًا طَيّبَةً. فَاسْتَعْبَرَهَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: لَتَدْخُلَنّ فِي أَمْرٍ تَغْتَمّ لَهُ، ثُمّ يُفَرّجُ عَنْك. فَكُنْت أَذْكُرُ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَنَا مُرْتَبِطٌ، فَأَرْجُو أَنْ تَنْزِلَ تَوْبَتِي. فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَعْمَلَ أَبَا لُبَابَةَ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَلَمّا أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ عَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ. وَارْتَبَطَ أَبُو لُبَابَةَ سَبْعًا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الّتِي عِنْدَ بَابِ أُمّ سَلَمَةَ فِي حَرّ شَدِيدٍ، لَا يَأْكُلُ فِيهِنّ وَلَا يَشْرَبُ، وَقَالَ: لَا أَزَالُ هَكَذَا حَتّى أُفَارِقَ الدّنْيَا أَوْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيّ. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى مَا يَسْمَعُ الصّوْتَ مِنْ الْجَهْدِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ بكرة
وَعَشِيّةً، ثُمّ تَابَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَنُودِيَ: إنّ اللهَ قَدْ تَابَ عَلَيْك! وَأَرْسَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ لِيُطْلِقَ عَنْهُ رِبَاطَهُ، فَأَبَى أَنْ يُطْلِقَهُ عَنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ فَأَطْلَقَهُ. قَالَ الزّهْرِيّ: فَحَدّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحِلّ عَنْهُ رِبَاطَهُ، وَإِنّ رَسُولَ اللهِ لَيَرْفَعُ صَوْتَهُ يُكَلّمُهُ وَيُخْبِرُهُ بِتَوْبَتِهِ، وَمَا يَدْرِي كَثِيرًا مِمّا يَقُولُ مِنْ الْجَهْدِ وَالضّعْفِ. وَيُقَالُ مَكَثَ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرْبُوطًا، وَكَانَتْ ابْنَتُهُ تَأْتِيهِ بِتَمَرَاتٍ لِفِطْرِهِ، فَيَلُوكُ مِنْهُنّ وَيَتْرُكُ وَيَقُولُ: وَاَللهِ، مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَسِيغَهَا فَرَقًا أَلّا تَنْزِلَ تَوْبَتِي. وَتُطْلِقُهُ عِنْدَ وَقْتِ كُلّ صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ تَوَضّأَ، وَإِلّا أَعَادَتْ الرّبَاطَ. وَلَقَدْ كَانَ الرّبَاطُ حَزّ فِي ذِرَاعَيْهِ، وَكَانَ مِنْ شَعَرٍ، وَكَانَ يُدَاوِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ دَهْرًا، وَكَانَ ذَلِكَ يَبِينُ فِي ذِرَاعَيْهِ بَعْدَ مَا بَرِئَ. وَقَدْ سَمِعْنَا فِي تَوْبَتِهِ وَجْهًا آخَرَ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمّدِ بن عبد الرحمن ابن ثَوْبَانَ [ (1) ] ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: إنّ تَوْبَةَ أَبِي لُبَابَةَ نَزَلَتْ فِي بَيْتِي. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَسَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ فِي السّحَرِ فَقُلْت: مِمّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَضْحَكَ اللهُ سِنّك؟ قَالَ: تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ. قَالَتْ، قُلْت: أُوذِنُهُ بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَا شِئْت. قَالَتْ: فَقُمْت عَلَى بَابِ الْحُجْرَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ، فَقُلْت: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَبْشِرْ فقد تاب الله عليك
فَثَارَ النّاسُ إلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ، فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: لَا، حَتّى يَأْتِيَ رَسُولُ اللهِ فَيَكُونَ هُوَ الّذِي يُطْلِقُ عَنّي. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصّبْحِ أَطْلَقَهُ. وَنَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.. [ (1) ] الْآيَةَ. وَيُقَال نَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [ (2) ] . وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: نَزَلَتْ فِيهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ. [ (3) ] الْآيَةَ. وَأَثْبَتُ ذَلِكَ عِنْدَنَا قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً. وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنَا أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِي الّتِي أَصَبْت فِيهَا هَذَا الذّنْبَ، فَأُخْرِجُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُجْزِئُ عَنْك الثّلُثُ. فَأَخْرَجَ الثّلُثَ، وَهَجَرَ أَبُو لُبَابَةَ دَارَ قَوْمِهِ. ثُمّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبِنْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْهُ إلّا خَيْرٌ حَتّى فَارَقَ الدّنْيَا. قَالُوا: وَلَمّا جَهَدَهُمْ الْحِصَارُ وَنَزَلُوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وَسَلّم أَمَرَ رَسُولُ اللهِ بِأَسْرَاهُمْ فَكُتّفُوا رِبَاطًا، وَجُعِلَ عَلَى كِتَافِهِمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَنُحّوا نَاحِيَةً، وَأَخْرَجُوا النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ مِنْ الْحُصُونِ فَكَانُوا نَاحِيَةً وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلَامٍ، وَأَمَرَ رَسُولُ الله صلّى الله
عليه وسلم بِجَمْعِ أَمْتِعَتِهِمْ وَمَا وُجِدَ فِي حُصُونِهِمْ مِنْ الْحَلْقَةِ وَالْأَثَاثِ وَالثّيَابِ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ: وُجِدَ فِيهَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ سَيْفٍ، وَثَلَاثُمِائَةِ دِرْعٍ، وَأَلْفَا رُمْحٍ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ تُرْسٍ وَحَجَفَةٍ [ (1) ] . وَأَخْرَجُوا أَثَاثًا كَثِيرًا، وَآنِيَةً كَثِيرَةً، وَوَجَدُوا خَمْرًا وَجِرَارَ سَكَرٍ، فَهُرِيقَ ذَلِكَ كُلّهُ وَلَمْ يُخَمّسْ. وَوَجَدُوا مِنْ الْجِمَالِ النّوَاضِحِ عِدّةً، وَمِنْ الْمَاشِيَةِ، فَجُمِعَ هَذَا كُلّهُ. حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: أَنَا كُنْت مِمّنْ كَسَرَ جِرَارَ السّكَرِ يَوْمَئِذٍ. حَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قَالَ: وَتَنَحّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ، وَدَنَتْ الْأَوْسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، حُلَفَاؤُنَا دُونَ الْخَزْرَجِ، وقد رأيت ما صنعت ببني فينقاع بِالْأَمْسِ حُلَفَاءِ ابْنِ أُبَيّ، وَهَبْت لَهُ ثَلَاثَمِائَةِ حَاسِرٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ دَارِعٍ. وَقَدْ نَدِمَ حُلَفَاؤُنَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ نَقْضِهِمْ الْعَهْدَ، فَهَبْهُمْ لَنَا. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ، لَا يَتَكَلّمُ حَتّى أَكْثَرُوا عَلَيْهِ وَأَلَحّوا وَنَطَقَتْ الْأَوْسُ كُلّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِمْ إلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَذَلِكَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَسَعْدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي خَيْمَةِ كُعَيْبَةَ [ (2) ] بِنْتِ سَعْدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَكَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَلُمّ الشّعَثَ، وَتَقُومُ عَلَى الضّائِعِ وَاَلّذِي لَا أَحَدَ لَهُ. وَكَانَ لَهَا خَيْمَةٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ سَعْدًا فيها. فلمّا جعل رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ خَرَجَتْ الْأَوْسُ حَتّى جَاءُوهُ، فَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ بِشَنَذَةٍ [ (1) ] مِنْ لِيفٍ، وَعَلَى الْحِمَارِ قَطِيفَةٌ فَوْقَ الشّنَذَةِ وَخِطَامُهُ حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ. فَخَرَجُوا حَوْلَهُ يَقُولُونَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ وَلّاك أَمْرَ مَوَالِيك لِتُحْسِنَ فِيهِمْ فَأَحْسِنْ، فَقَدْ رَأَيْت ابْنَ أُبَيّ وَمَا صَنَعَ فِي حُلَفَائِهِ. وَالضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ يَقُولُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَوَالِيَك، مَوَالِيَك! قَدْ مَنَعُوك فِي الْمَوَاطِنِ كُلّهَا، وَاخْتَارُوك عَلَى مَنْ سِوَاك وَرَجَوْا عِيَاذَك [ (2) ] ، وَلَهُمْ جِمَالٌ وَعِدَدٌ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيك وَحُلَفَائِك، إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ الْبَقِيّةَ! نَصَرُوك يَوْمَ الْبُعَاثِ وَالْحَدَائِقِ وَالْمَوَاطِنِ، وَلَا تَكُنْ شَرّا مِنْ ابْنِ أُبَيّ. قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَجَعَلَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، وَإِنّا وَاَللهِ قَاتَلْنَا بِهِمْ فَقَتَلْنَا، وَعَازَزْنَا بِهِمْ فَعَزَزْنَا! قَالُوا: وَسَعْدٌ لَا يَتَكَلّمُ، حَتّى إذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ سَعْدٌ: قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلّا تَأْخُذَهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. فقال الضّحّاك بن خليفة: وا قوماه! ثُمّ رَجَعَ الضّحّاكُ إلَى الْأَوْسِ فَنَعَى لَهُمْ بنى قريظة. وقال معتّب بن قشير: وا سوء صَبَاحَاهُ! وَقَالَ حَاطِبُ بْنُ أُمَيّةَ الظّفَرِيّ: ذَهَبَ قَوْمِي آخِرَ الدّهْرِ. وَأَقْبَلَ سَعْدٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنّاسُ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ، فَلَمّا طَلَعَ سَعْدٌ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إلَى سَيّدِكُمْ. فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَقُولُونَ: فَقُمْنَا لَهُ عَلَى أَرْجُلِنَا صَفّيْنِ، يُحَيّيهِ كُلّ رَجُلٍ مِنّا، حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: إنّمَا عَنَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «قُومُوا إلَى سَيّدِكُم» يَعْنِي بِهِ الْأَنْصَارَ دُونَ
قُرَيْشٍ. قَالَتْ الْأَوْسُ الّذِينَ بَقُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو، إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ وَلّاك الْحُكْمَ، فَأَحْسِنْ فِيهِمْ وَاذْكُرْ بَلَاءَهُمْ عِنْدَك. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: أَتَرْضَوْنَ بِحُكْمِي لِبَنِي قُرَيْظَةَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَدْ رَضِينَا بِحُكْمِك وَأَنْتَ غَائِبٌ عَنّا، اخْتِيَارًا مِنّا لَك وَرَجَاءَ أَنْ تَمُنّ عَلَيْنَا كَمَا فَعَلَهُ غَيْرُك فِي حُلَفَائِهِ مِنْ قَيْنُقَاعَ، وَأَثَرُنَا عِنْدَك أَثَرُنَا، وَأَحْوَجُ مَا كُنّا الْيَوْمَ إلَى مُجَازَاتِك. فَقَالَ سَعْدٌ: لَا آلُوكُمْ جَهْدًا. فَقَالُوا: مَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ هَذَا؟ ثُمّ قَالَ: عَلَيْكُمْ عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ أَنّ الْحُكْمَ فِيكُمْ مَا حَكَمْت؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ سَعْدٌ لِلنّاحِيَةِ الْأُخْرَى الّتِي فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهَا إجْلَالًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا مِثْلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ: نَعَمْ. قَالَ سَعْدٌ: فَإِنّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى، وَتُسْبَى النّسَاءُ وَالذّرّيّةُ، وَتُقْسَمُ الْأَمْوَالُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللهِ عَزّ وَجَلّ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ [ (1) ] . وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي اللّيْلَةِ الّتِي فِي صُبْحِهَا نَزَلَتْ قُرَيْظَةُ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَا فَقَالَ: اللهُمّ، إنْ كُنْت أَبْقَيْت مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإِنّهُ لَا قَوْمَ أَحَبّ إلَيّ أَنْ أُقَاتِلَ مِنْ قَوْمٍ كَذّبُوا رَسُولَ اللهِ، وَآذَوْهُ وَأَخْرَجُوهُ! وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ قَدْ وَضَعَتْ أَوْزَارَهَا عَنّا وَعَنْهُمْ فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً، وَلَا تُمِتْنِي حَتّى تُقِرّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ! فَأَقَرّ اللهُ عَيْنَهُ مِنْهُمْ. فَأَمَرَ بِالسّبْيِ فَسِيقُوا إلَى دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ إلى دار ابنة الحارث [ (2) ] . وأمر رسول
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحْمَالِ التّمْرِ فَنُثِرَتْ عَلَيْهِمْ، فَبَاتُوا يَكْدُمُونَهَا كَدْمَ الْحُمُرِ، وَجَعَلُوا لَيْلَتَهُمْ يَدْرُسُونَ التّوْرَاةَ، وَأَمَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالثّبَاتِ عَلَى دِينِهِ وَلُزُومِ التّوْرَاةِ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّلَاحِ وَالْأَثَاثِ وَالْمَتَاعِ وَالثّيَابِ، فَحُمِلَ إلَى دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَأَمَرَ بِالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَتُرِكَتْ هُنَاكَ تَرْعَى فِي الشّجَرِ. قَالُوا: ثُمّ غَدَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم إلى السنوق، فَأَمَرَ بِخُدُودٍ [ (1) ] فَخُدّتْ فِي السّوقِ مَا بَيْنَ مَوْضِعِ دَارِ أَبِي جَهْمٍ الْعَدَوِيّ إلَى أَحْجَارِ الزّيْتِ بِالسّوقِ، فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَحْفِرُونَ هُنَاكَ، وَجَلَسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عِلْيَةُ أَصْحَابِهِ، وَدَعَا بِرِجَالِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ رَسْلًا رَسْلًا، تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ. فَقَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ: مَا تَرَى مُحَمّدًا مَا يَصْنَعُ بنا؟ قال: ما يسوؤكم وما ينوؤكم، وَيْلَكُمْ! عَلَى كُلّ حَالٍ لَا تَعْقِلُونَ! أَلَا تَرَوْنَ أَنّ الدّاعِيَ لَا يَنْزِعُ، وَأَنّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُ؟ هُوَ وَاَللهِ السّيْفُ، قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلَى غَيْرِ هَذَا فَأَبَيْتُمْ! قَالُوا: لَيْسَ هَذَا بِحِينِ عِتَابٍ، لَوْلَا أَنّا كَرِهْنَا أَنْ نُزْرِيَ بِرَأْيِك مَا دَخَلْنَا فِي نَقْضِ الْعَهْدِ الّذِي كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ. قَالَ حُيَيّ: اُتْرُكُوا مَا تَرَوْنَ مِنْ التّلَاوُمِ فَإِنّهُ لَا يَرُدّ عَنْكُمْ شَيْئًا، وَاصْبِرُوا لِلسّيْفِ. فَلَمْ يَزَالُوا يُقْتَلُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الّذِينَ يَلُونَ قَتْلَهُمْ عَلِيّ وَالزّبَيْرُ. ثُمّ أُتِيَ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ مَجْمُوعَةٍ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، عَلَيْهِ حُلّةٌ شَقْحِيّةٌ [ (2) ] قَدْ لَبِسَهَا لِلْقَتْلِ، ثُمّ عَمَدَ إلَيْهَا فَشَقّهَا أُنْمُلَةً لِئَلّا يَسْلُبَهُ إيّاهَا أَحَدٌ، وَقَدْ قَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ طَلَعَ: أَلَمْ يُمَكّنْ اللهُ مِنْك يَا عدوّ الله؟ قال:
بَلَى وَاَللهِ، مَا لُمْت نَفْسِي فِي عَدَاوَتِك، وَلَقَدْ الْتَمَسْت الْعِزّ فِي مَكَانِهِ [ (1) ] ، وَأَبَى اللهُ إلّا أَنْ يُمَكّنَك مِنّي، وَلَقَدْ قَلْقَلْت كُلّ مُقَلْقَلٍ [ (2) ] ، وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللهُ يُخْذَلْ. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النّاسُ، لَا بَأْسَ بِأَمْرِ اللهِ! قَدْرٌ وَكِتَابٌ، مَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ! ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَضُرِبَ عُنُقُهُ، ثُمّ أُتِيَ بِغَزّالِ بْنِ سَمَوْأَلٍ فَقَالَ: أَلَمْ يُمَكّنْ اللهُ مِنْك؟ قَالَ: بَلَى يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَأَمَرَ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. ثُمّ أُتِيَ بِنَبّاشِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَدْ جَابَذَ [ (3) ] الّذِي جَاءَ بِهِ حَتّى قَاتَلَهُ فَدَقّ الّذِي جَاءَ بِهِ أَنْفَهُ فَأَرْعَفَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلّذِي جَاءَ بِهِ: لِمَ صَنَعْت بِهِ هَذَا؟ أَمَا كَانَ فِي السّيْفِ كِفَايَةٌ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَابَذَنِي لِأَنْ يَهْرُبَ. فَقَالَ: كَذَبَ وَالتّوْرَاةِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَوْ خَلّانِي مَا تَأَخّرْت عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ قَوْمِي حَتّى أَكُونَ كَأَحَدِهِمْ. قَالَ: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْسِنُوا إسَارَهُمْ، وَقَيّلُوهُمْ، وَأَسْقُوهُمْ حَتّى يُبْرِدُوا فَتَقْتُلُوا مَنْ بَقِيَ، لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرّ الشّمْسِ وَحَرّ السّلَاحِ- وَكَانَ يَوْمًا صَائِفًا. فَقَيّلُوهُمْ وَأَسْقَوْهُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ، فَلَمّا أَبْرَدُوا رَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ مَنْ بَقِيَ، وَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ، وَكَانَتْ إحْدَى خَالَاتِهِ، وَكَانَتْ قَدْ صَلّتْ الْقِبْلَتَيْنِ وَبَايَعَتْهُ، وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ سَمَوْأَلٍ لَهُ انْقِطَاعٌ إلَيْهَا وَإِلَى أَخِيهَا سَلِيطِ بْنِ قَيْسٍ وَأَهْلِ الدّارِ، وَكَانَ حِينَ حُبِسَ أَرْسَلَ إلَيْهَا أَنْ كَلّمِي مُحَمّدًا فِي تَرْكِي، فَإِنّ لِي بِكُمْ حُرْمَةً، وَأَنْتِ إحْدَى أُمّهَاتِهِ، فَتَكُونَ لَكُمْ عِنْدِي يَدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ رسول الله صلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَك يَا أُمّ الْمُنْذِرِ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، رِفَاعَةُ بْنُ سَمَوْأَلٍ كَانَ يَغْشَانَا وَلَهُ بِنَا حُرْمَةٌ فَهَبْهُ لِي. وَقَدْ رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُوذُ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، هُوَ لَك. ثُمّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهُ سَيُصَلّي وَيَأْكُلُ لَحْمَ الْجَمَلِ. فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ قَالَ: إنْ يُصَلّ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَإِنْ يَثْبُتْ عَلَى دِينِهِ فَهُوَ شَرّ لَهُ. قَالَتْ: فَأَسْلَمَ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مَوْلَى أُمّ الْمُنْذِرِ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاجْتَنَبَ الدّارَ، حَتّى بَلَغَ أُمّ الْمُنْذِرِ ذَلِكَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ: إنّي وَاَللهِ مَا أَنَا لَك بِمَوْلَاةٍ، وَلَكِنّي كَلّمْت رَسُولَ اللهِ فَوَهَبَك لِي، فَحَقَنْت دَمَك وَأَنْتَ عَلَى نَسَبِك. فَكَانَ بَعْدُ يَغْشَاهَا، وَعَادَ إلَى الدّارِ. وَجَاءَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَا: يَا رَسُولِ اللهِ، إنّ الْأَوْسَ كَرِهَتْ قَتْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ لِمَكَانِ حِلْفِهِمْ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَرِهَهُ مِنْ الْأَوْسِ مَنْ فِيهِ [ (1) ] خَيْرٌ، فَمَنْ كَرِهَهُ مِنْ الْأَوْسِ لَا أَرْضَاهُ اللهُ! فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تُبْقِيَنّ دَارًا مِنْ دُورِ الْأَوْسِ إلّا فَرّقْتهمْ فِيهَا، فَمَنْ سَخِطَ ذَلِكَ فَلَا يُرْغِمُ اللهُ إلّا أَنْفَهُ، فَابْعَثْ إلَى دَارِي أَوّلَ دُورِهِمْ. فَبَعَثَ إلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بِاثْنَيْنِ، فَضَرَبَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ رَقَبَةَ أَحَدِهِمَا، وَضَرَبَ أَبُو نَائِلَةَ الْآخَرَ. وَبَعَثَ إلَى بَنِي حَارِثَةَ بِاثْنَيْنِ، فَضَرَبَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ النّيَارِ رَقَبَةَ أَحَدِهِمَا، وَذَفّفَ [ (2) ] عَلَيْهِ مُحَيّصَةُ، وَضَرَبَ الْآخَرُ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، ذَفّفَ عَلَيْهِ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ. وَبَعَثَ إلَى بَنِي ظَفَرٍ بِأَسِيرَيْنِ. فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمر بن قتادة، قال:
قَتَلَ أَحَدَهُمَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَقَتَلَ الْآخَرَ نصر بْنُ الْحَارِثِ. قَالَ عَاصِمٌ: وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُعَاوِيّ قَالَ: أَرْسَلَ إلَيْنَا- بَنِي مُعَاوِيَةَ- بِأَسِيرَيْنِ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا جَبْرُ بْنُ عَتِيكٍ، وَقَتَلَ الْآخَرَ نُعْمَانُ بْنُ عَصْرٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بلىّ. قالوا: وَأَرْسَلَ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِأَسِيرَيْنِ، عُقْبَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَخِيهِ وَهْبِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَالْآخَرَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ. وَأَرْسَلَ إلَى بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ. وَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بكعب ابن أَسَدٍ مَجْمُوعَةٍ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، وَكَانَ حَسَنَ الْوَجْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟ قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. قَالَ: وَمَا انْتَفَعْتُمْ بِنُصْحِ ابْنِ خِرَاشٍ [ (1) ] وَكَانَ مُصَدّقًا بِي، أَمَا أَمَرَكُمْ بِاتّبَاعِي وَإِنْ رَأَيْتُمُونِي تُقْرِئُونِي مِنْهُ السّلَامَ؟ قَالَ: بَلَى وَالتّوْرَاةِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَوْلَا أَنْ تُعَيّرَنِي الْيَهُودُ بِالْجَزَعِ مِنْ السّيْفِ لَاتّبَعْتُك، وَلَكِنّي عَلَى دِينِ الْيَهُودِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. فَحَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو ابن سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالَ: لَمّا قَتَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ، وَنَبّاشَ بْنَ قَيْسٍ، وَغَزّالَ بْنَ سَمَوْأَلٍ، وَكَعْبَ بْنَ أَسَدٍ وَقَامَ، قَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: عَلَيْك بِمَنْ بَقِيَ. فَكَانَ سَعْدٌ يُخْرِجُهُمْ رَسْلًا رَسْلًا يَقْتُلُهُمْ. قَالُوا: وَكَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي النّضِيرِ يُقَالُ لَهَا نُبَاتَةُ، وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَكَانَ يُحِبّهَا وَتُحِبّهُ، فَلَمّا اشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْحِصَارُ بَكَتْ إلَيْهِ وَقَالَتْ: إنّك لَمُفَارِقِي. فَقَالَ: هُوَ وَالتّوْرَاةِ مَا تَرَيْنَ، وَأَنْتِ امْرَأَةٌ فَدَلّي عَلَيْهِمْ هَذِهِ الرّحَى، فَإِنّا لَمْ نَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا بَعْدُ، وَأَنْتِ امْرَأَةٌ، وإن
يَظْهَرْ مُحَمّدٌ عَلَيْنَا لَا يَقْتُلْ النّسَاءَ. وَإِنّمَا كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُسْبَى، فَأَحَبّ أَنْ تُقْتَلَ بِجُرْمِهَا. وَكَانَتْ فِي حِصْنِ الزّبِيرِ بْنِ بَاطَا، فَدَلّتْ رَحًى فَوْق الْحِصْنِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ رُبّمَا جَلَسُوا تَحْتَ الْحِصْنِ يَسْتَظِلّونَ فِي فَيْنِهِ، فَأَطْلَعَتْ الرّحَى، فَلَمّا رَآهَا الْقَوْمُ انْفَضّوا، وَتُدْرِكُ خَلّادَ بن سويد فتشدخ رأسه، فحذر المسلمون أصل الْحِصْنِ. فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَلُوا، دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَجَعَلَتْ تَضْحَكُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَهِيَ تَقُولُ: سَرَاةُ بَنِي قُرَيْظَةَ يُقْتَلُونَ! إذْ سَمِعَتْ صَوْتَ قَائِلٍ يَقُولُ: يَا نُبَاتَةُ. قَالَتْ: أَنَا وَاَللهِ الّتِي أُدْعَى. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: قَتَلَنِي زَوْجِي- وَكَانَتْ جَارِيَةً حُلْوَةَ الْكَلَامِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَيْفَ قَتَلَك زَوْجُك؟ قَالَتْ: كُنْت فِي حِصْنِ الزّبِيرِ بْنِ بَاطَا، فَأَمَرَنِي فَدَلّيْت رَحًى عَلَى أَصْحَابِ مُحَمّدٍ فَشَدَخَتْ رَأْسَ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَمَاتَ وَأَنَا أُقْتَلُ بِهِ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فَقُتِلَتْ بِخَلّادِ بْنِ سُوَيْدٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: لَا أَنْسَى طَيّبَ نَفْسِ نُبَاتَةَ وَكَثْرَةَ ضَحِكِهَا، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنّهَا تُقْتَلُ. فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: قُتِلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ يَوْمَهُمْ حَتّى قُتِلُوا بِاللّيْلِ عَلَى شُعَلِ السّعَفِ. حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ ثُمَامَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ: قُتِلُوا إلَى أَنْ غَابَ الشّفَقُ، ثُمّ رُدّ عَلَيْهِمْ التّرَابُ فِي الْخَنْدَقِ. وَكَانَ مَنْ شُكّ فِيهِ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ بَلَغَ نُظِرَ إلَى مُؤْتَزَرِهِ، إنْ كَانَ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُنْبِتْ طُرِحَ فِي السّبْيِ. فَحَدّثَنِي عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: كَانُوا سِتّمِائَةٍ إلّا عَمْرَو بْنَ السّعْدَى وُجِدَتْ رمّته [ (1) ] ونحا. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: خُرُوجُهُ مِنْ الْحِصْنِ أَثْبَتُ.
وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ [ (1) ] ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: كَانُوا مَا بَيْنَ سِتّمِائَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةٍ. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ: كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ. قَالُوا: وَكَانَ نِسَاءُ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ تَحَوّلُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَفِي دَارِ أُسَامَةَ يَقُلْنَ: عَسَى مُحَمّدٌ أَنْ يَمُنّ عَلَى رِجَالِنَا أَوْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ فِدْيَةً. فَلَمّا أَصْبَحْنَ وَعَلِمْنَ بِقَتْلِ رِجَالِهِنّ صِحْنَ وَشَقَقْنَ الْجُيُوبَ، وَنَشَرْنَ الشّعُورَ، وَضَرَبْنَ الْخُدُودَ عَلَى رِجَالِهِنّ، فَمَلَأْنَ الْمَدِينَةَ. قَالَ، يَقُولُ الزّبِيرُ بْن بَاطَا: اُسْكُتْنَ، فَأَنْتُنّ أَوّلُ مَنْ سُبِيَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُنْذُ كَانَتْ الدّنْيَا؟ وَلَا يُرْفَعُ السّبْيُ عَنْهُمْ حَتّى نَلْتَقِيَ نَحْنُ وَأَنْتُنّ [ (2) ] ، وَإِنْ كَانَ فِي رِجَالِكُنّ [ (3) ] خَيْرٌ فَدُوكُنّ [ (4) ] ، فَالْزَمْنَ [ (5) ] دِينَ الْيَهُودِ فَعَلَيْهِ نَمُوتُ وَعَلَيْهِ نَحْيَى. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، قَالَا: كَانَ الزّبِيرُ بْنُ بَاطَا مَنّ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَأَتَى ثَابِتٌ الزّبِيرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ، هَلْ تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَك؟ قَالَ ثَابِتٌ: إنّ لَك عِنْدِي يَدًا، وَقَدْ أَرَدْت أَنْ أَجْزِيَك بِهَا. قَالَ الزّبِيرُ: إنّ الْكَرِيمَ يَجْزِي الْكَرِيمَ، وَأَحْوَجُ مَا كُنْت إلَيْهِ الْيَوْمَ. فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رسول
اللهِ إنّهُ كَانَ لِلزّبِيرِ عِنْدِي يَدٌ، جَزّ نَاصِيَتِي يَوْمَ بُعَاثٍ فَقَالَ: اُذْكُرْ هَذِهِ النّعْمَةَ عِنْدَك. وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا فَهَبْهُ لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهُوَ لَك. فَأَتَاهُ فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ وَهَبَك لِي. قَالَ الزّبِيرُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا أَهْلَ وَلَا وَلَدَ وَلَا مَالَ بِيَثْرِبَ، مَا يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ؟ فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي وَلَدَهُ. فَأَعْطَاهُ وَلَدَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي مَالَهُ وَأَهْلَهُ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَهْلَهُ، فَرَجَعَ إلَى الزّبِيرِ فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ أَعْطَانِي وَلَدَك وَأَهْلَك وَمَالَك. فَقَالَ الزّبِيرُ: يَا ثَابِتُ، أَمّا أَنْتَ فَقَدْ كَافَأْتنِي وَقَضَيْت بِاَلّذِي عَلَيْك. يَا ثَابِتُ، مَا فَعَلَ الّذِي كَأَنّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيّةٌ تَتَرَاءَى عَذَارَى الْحَيّ فِي وَجْهِهِ- كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ سَيّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي، سَيّدُ الْحَيّيْنِ كِلَيْهِمَا، يَحْمِلُهُمْ فِي الْحَرْبِ وَيُطْعِمُهُمْ فِي الْمَحَلّ- حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ: قتل. قال: فما فعل أول غدية الْيَهُودِ إذَا حَمَلُوا، وَحَامِيَتُهُمْ إذَا وَلّوْا- غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْحُوّلُ الْقُلّبُ الّذِي لَا يَؤُمّ جَمَاعَةً إلّا فَضّهَا وَلَا عُقْدَةً إلّا حَلّهَا- نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ؟ قَالَ: قُتِلَ. [قَالَ:] فَمَا فَعَلَ لِوَاءُ الْيَهُودِ فِي الزّحْفِ- وَهْبُ بْنُ زَيْدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ وَالِي رِفَادَةِ الْيَهُودِ وَأَبُو الْأَيْتَامِ وَالْأَرَامِلِ مِنْ الْيَهُودِ- عُقْبَةُ بْنُ زَيْدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْعَمْرَانِ اللّذَانِ كَانَا يَلْتَقِيَانِ بِدِرَاسَةِ التّوْرَاةِ؟ قَالَ: قُتِلَا. قَالَ: يَا ثَابِتُ، فَمَا خَيْرٌ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ! أَأَرْجِعُ إلَى دَارٍ كَانُوا فِيهَا حُلُولًا فَأَخْلُدَ فِيهَا بَعْدَهُمْ؟ لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، فَإِنّي أَسْأَلُك بِيَدِي عِنْدَك إلّا قَدّمْتنِي إلَى هَذَا الْقَتّالِ الّذِي يَقْتُلُ سَرَاةَ بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمّ يُقَدّمُنِي إلَى مَصَارِعِ قَوْمِي، وَخُذْ سَيْفِي فَإِنّهُ صَارِمٌ فَاضْرِبْنِي بِهِ ضَرْبَةً وَأَجْهِزْ، وَارْفَعْ يَدَك
عَنْ الطّعَامِ، وَأَلْصِقْ بِالرّأْسِ وَاخْفِضْ عَنْ الدّمَاغِ، فَإِنّهُ أَحْسَنُ لِلْجَسَدِ أَنْ يَبْقَى فِيهِ الْعُنُقُ. يَا ثَابِتُ، لَا أَصْبِرُ إفْرَاغَ دَلْوٍ مِنْ نَضْحٍ حَتّى أَلْقَى الْأَحِبّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ يَسْمَعُ قَوْلَهُ: وَيْحَك يَا ابْنَ بَاطَا، إنّهُ لَيْسَ إفْرَاغَ دَلْوٍ، وَلَكِنّهُ عَذَابٌ أَبَدِيّ. قَالَ: يَا ثَابِتُ، قَدّمْنِي فَاقْتُلْنِي! قَالَ ثَابِتٌ: ما كنت لأقتلك. قَالَ الزّبِيرُ: مَا كُنْت أُبَالِي مَنْ قَتَلَنِي! وَلَكِنْ يَا ثَابِتُ، اُنْظُرْ إلَى امْرَأَتِي وَوَلَدِي فَإِنّهُمْ جَزِعُوا مِنْ الْمَوْتِ، فَاطْلُبْ إلَى صَاحِبِك أَنْ يُطْلِقَهُمْ وَأَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ. وَأَدْنَاهُ إلَى الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ، فَقَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَطَلَبَ ثَابِتٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، فَرَدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ، وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ مِنْ السّبَا، وَرَدّ عَلَيْهِمْ الْأَمْوَالَ مِنْ النّخْلِ وَالْإِبِلِ وَالرّثّةِ إلّا الْحَلْقَةَ، فَإِنّهُ لَمْ يَرُدّهَا عَلَيْهِمْ. فَكَانُوا مَعَ آلِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ. قَالُوا: وَكَانَتْ رَيْحَانَةُ بِنْتُ زَيْدٍ مِنْ بَنِي النّضِيرِ مُتَزَوّجَةً فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ صَفِيّا، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَعَرَضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَبَتْ إلّا الْيَهُودِيّةَ. فَعَزَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ إلَى ابْنِ سَعِيّةَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ سَعِيّةَ: فِدَاك أَبِي وَأُمّي، هِيَ تُسْلِمُ! فَخَرَجَ حَتّى جَاءَهَا، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا: لَا تَتّبِعِي قَوْمَك، فَقَدْ رَأَيْت مَا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، فَأَسْلِمِي يَصْطَفِيك رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ إذْ سَمِعَ وَقْعَ نَعْلَيْنِ فَقَالَ: إنّ هَاتَيْنِ لَنَعْلَا ابْنِ سَعِيّةَ يُبَشّرُنِي بِإِسْلَامِ رَيْحَانَةَ. فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ أَسْلَمَتْ رَيْحَانَةُ! فَسُرّ بِذَلِكَ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي
ذكر قسم المغنم وبيعه
صَعْصَعَةَ، عَنْ أَيّوبَ بْنِ بَشِيرٍ الْمُعَاوِيّ، قَالَ: أَرْسَلَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ أُمّ الْمُنْذِرِ، وَكَانَتْ عِنْدَهَا حَتّى حَاضَتْ حَيْضَةً، ثُمّ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا، فَجَاءَتْ أُمّ الْمُنْذِرِ فَأَخْبَرَتْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِ أُمّ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ: إنْ أَحْبَبْت أُعْتِقُك وَأَتَزَوّجُك فَعَلْتُ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ تَكُونِي فِي مِلْكِي أَطَؤُك بِالْمِلْكِ فَعَلْتُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهُ أَخَفّ عَلَيْك وَعَلَيّ أَنْ أَكُونَ فِي مِلْكِك. فَكَانَتْ فِي مِلْكِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطَؤُهَا حَتّى مَاتَتْ عِنْدَهُ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: سَأَلْت الزّهْرِيّ عَنْ رَيْحَانَةَ فَقَالَ: كَانَتْ أَمَةً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا، وَكَانَتْ تَحْتَجِبُ فِي أَهْلِهَا وَتَقُولُ: لَا يَرَانِي أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذَا أَثْبَتُ الْحَدِيثَيْنِ عِنْدَنَا. وَكَانَ زَوْجُ رَيْحَانَةَ قَبْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَكَمَ. ذِكْرُ قَسْمِ الْمَغْنَمِ وَبَيْعِهِ قَالُوا: لَمّا اجْتَمَعَتْ الْمَغَانِمُ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَتَاعِ فَبِيعَ فِيمَنْ يُرِيدُ، وَبِيعَ السّبْيُ فِيمَنْ يُرِيدُ، وَقُسِمَتْ النّخْلُ. فَكَانَ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَظَفَرٍ، وَحَارِثَةَ، وَبَنُو مُعَاوِيَةَ، وَهَؤُلَاءِ النّبِيتُ [ (1) ] ، لَهُمْ سَهْمٌ. وَكَانَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَمَنْ بَقِيَ مِنْ الْأَوْسِ سَهْمًا. وَكَانَتْ بَنُو النّجّارِ، وَمَازِنٍ، وَمَالِكٍ، وَذُبْيَانَ، وَعَدِيّ، سَهْمًا. وَكَانَتْ سَلِمَةُ، وَزُرَيْقٌ، وَبَلْحَارِثُ بْنُ الْخَزْرَجِ، سَهْمًا. وَكَانَتْ الْخَيْلُ سِتّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، فَكَانَتْ أَوّلَ مَا أُعْلِمَتْ سُهْمَانُ الْخَيْلِ يَوْمَ الْمُرَيْسِيعِ، ثم فى بنى
قُرَيْظَةَ أَيْضًا عُمِلَ فِيهَا مَا عُمِلَ فِي الْمُرَيْسِيعِ. أُسْهِمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ، وَلِلرّاجِلِ سَهْمٌ. وَأَسْهَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَلّادِ بْنِ سُوَيْدٍ، قُتِلَ تَحْتَ الْحِصْنِ، وَأَسْهَمَ لِأَبِي سِنَانِ بْنِ مِحْصَنٍ، مَاتَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاصِرُهُمْ، وَكَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَالْخَيْلُ سِتّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، فَكَانَتْ السّهْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا، لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ. وَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ الْخَيْلُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ سِتّا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَقَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَفْرَاسٍ، فَلَمْ يَضْرِبْ إلّا سَهْمًا وَاحِدًا، وَكَانَتْ السّهْمَانُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا، وَأَسْهَمَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَجُزّئَتْ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، وَكُتِبَ فِي سَهْمٍ مِنْهَا «لِلّهِ» ، وَكَانَتْ السّهْمَانُ يَوْمَئِذٍ بَوَاءً [ (1) ] ، فَخَرَجَتْ السّهْمَانُ، وَكَذَلِك الرّثّةُ وَالْإِبِلُ وَالْغَنَمُ وَالسّبْيُ. ثُمّ فُضّ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ عَلَى النّاسِ، وَأَحْذَى [ (2) ] النّسَاءَ يَوْمَئِذٍ اللّاتِي حَضَرْنَ الْقِتَالَ، وَضَرَبَ لِرَجُلَيْنِ- وَاحِدٍ [ (3) ] قُتِلَ وَآخَرَ مَاتَ. وَأَحْذَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءً شَهِدْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُنّ- صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأُمّ عُمَارَةَ، وَأُمّ سَلِيطٍ، وَأُمّ الْعَلَاءِ، وَالسّمَيْرَاءُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَأُمّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ نَجْرَةَ السّاعِدِيّ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: حَضَرْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيعُ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَاشْتَرَى أَبُو الشّحْمِ الْيَهُودِيّ امْرَأَتَيْنِ، مَعَ كُلّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَطْفَالٍ غِلْمَانٍ، وَجَوَارٍ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ دِينَارٍ، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَلَسْتُمْ عَلَى دِينِ الْيَهُودِ؟ فَتَقُولُ الْمَرْأَتَانِ: لَا نُفَارِقُ دِينَ قَوْمِنَا حَتّى نَمُوتَ عَلَيْهِ! وَهُنّ يَبْكِينَ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا سُبِيَ بَنُو قُرَيْظَةَ- النّسَاءُ وَالذّرّيّةُ- بَاعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ طَائِفَةً، وَبَعَثَ طَائِفَةً إلَى نَجْدٍ، وَبَعَثَ طَائِفَةً إلَى الشّامِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، يَبِيعُهُمْ وَيَشْتَرِي بِهِمْ سِلَاحًا وَخَيْلًا، وَيُقَالُ بَاعَهُمْ بَيْعًا مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَاقْتَسَمَا فَسَهَمَهُ عُثْمَانُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَجَعَلَ عُثْمَانُ عَلَى كُلّ مَنْ جَاءَ مِنْ سَبْيِهِمْ شَيْئًا مُوفِيًا [ (1) ] ، فَكَانَ يُوجَدُ عِنْدَ الْعَجَائِزِ الْمَالُ وَلَا يُوجَدُ عِنْدَ الشّوَابّ، فَرَبِحَ عُثْمَانُ مَالًا كَثِيرًا- وَسَهَمَ عَبْدُ الرّحْمَنِ- وَذَلِكَ أَنّ عُثْمَانَ صَارَ فِي سَهْمِهِ الْعَجَائِزُ. وَيُقَالُ: لَمّا قَسَمَ جَعَلَ الشّوَابّ عَلَى حِدَةٍ وَالْعَجَائِزَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمّ خَيّرَ عَبْدُ الرّحْمَنِ عُثْمَانَ، فَأَخَذَ عُثْمَانُ الْعَجَائِزَ. حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ السّبْيُ أَلْفًا مِنْ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ، فَأَخْرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة قَبْلَ بَيْعِ الْمَغْنَمِ، جَزّأَ السّبْيَ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَخَذَ خُمُسًا، فَكَانَ يُعْتِقُ مِنْهُ وَيَهَبُ مِنْهُ، وَيُخَدّمُ مِنْهُ مَنْ أَرَادَ. وَكَذَلِكَ صَنَعَ بِمَا أَصَابَ مِنْ رِثّتِهِمْ، قُسِمَتْ قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ، وَكَذَلِكَ النّخْلُ، عَزَلَ خُمُسَهُ. وَكُلّ ذَلِكَ يُسْهِمُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، وَيَكْتُبُ فِي سَهْمٍ مِنْهَا «لِلّهِ» ثُمّ يُخْرِجُ السّهْمَ، فَحَيْثُ صَارَ [ (2) ] سَهْمُهُ أَخَذَهُ وَلَمْ يَتَخَيّرْ. وصار الخمس إلى محمية
ابْنِ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ، وَهُوَ الّذِي قَسَمَ الْمَغْنَمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْهِمُ وَلَا يَتَخَيّرُ. حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي الْقَسْمِ وَالْبَيْعِ وَالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ: لَا يُفَرّقُ بَيْنَ الْأُمّ وَوَلَدِهَا حَتّى يَبْلُغُوا. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا بُلُوغُهُمْ؟ قَالَ: تَحِيضُ الْجَارِيَةُ وَيَحْتَلِمُ الْغُلَامُ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ يَوْمَئِذٍ يُفَرّقُ بَيْن الْأُخْتَيْنِ إذَا بَلَغَتَا، وَبَيْنَ الْأُمّ وَابْنَتِهَا إذَا بَلَغَتْ، وَكَانَتْ الْأُمّ تُبَاعُ، وَوَلَدُهَا الصّغَارُ، مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ، وَمِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَتَيْمَاءَ وَخَيْبَرَ يَخْرُجُونَ بِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيدُ صَغِيرًا لَيْسَ مَعَهُ أُمّ لَمْ يُبَعْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَا مِنْ الْيَهُودِ، إلّا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَحَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بن محمود، قال: قال محمّد ابن مَسْلَمَةَ: ابْتَعْت يَوْمَئِذٍ مِنْ السّبْيِ ثَلَاثَةً، امْرَأَةً مَعَهَا ابْنَاهَا، بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِينَارًا، وَكَانَ ذَلِكَ حَقّي وَحَقّ فَرَسِي مِنْ السّبْيِ وَالْأَرْضِ وَالرّثّةِ، وَغَيْرِي كَهَيْئَتِي. وَكَانَ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، لَهُ سَهْمٌ وَلِفَرَسِهِ سَهْمَانِ. وَحَدّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِزَامِيّ- وَكَانَ يُلَقّبُ قُصَيّا- عَنْ جَعْفَرِ بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ: شَهِدْت بَنِي قُرَيْظَةَ فَارِسًا، فَضُرِبَ لِي سَهْمٌ، وَلِفَرَسِي سَهْمٌ.
ذكر سعد بن معاذ
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، قَالَ: كَانَ مَعَ الزّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ فَرَسَانِ، فَأَسْهَمَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ. ذَكَرَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قالوا: لَمّا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ رَجَعَ إلَى خَيْمَةِ كُعَيْبَةَ بِنْتِ سَعْدٍ الْأَسْلَمِيّةِ، وَكَانَ رَمَاهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ- وَيُقَالُ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ- فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ، فَكَوَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّارِ، وَانْتَفَخَتْ يَدُهُ فَتَرَكَهُ فَسَالَ الدّمُ، فَحَسَمَهُ أُخْرَى فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: اللهُمّ، رَبّ السّمَوَاتِ السّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السّبْعِ، فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ فِي النّاسِ قَوْمٌ أَحَبّ إلَيّ أَنْ أُقَاتِلَ مِنْ قَوْمٍ كَذّبُوا رَسُولَك، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ! وَإِنّي أَظُنّ أَنْ قَدْ وُضِعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَأَبْقِنِي أُقَاتِلُهُمْ فِيك! وَإِنْ كُنْت قَدْ وَضَعْت الْحَرْبَ، فَافْجُرْ هَذَا الْكَلْمَ وَاجَعَل مَوْتِي فِيهِ، فَقَدْ أَقْرَرْت عَيْنَيّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، لِعَدَاوَتِهِمْ لَك وَلِنَبِيّك وَلِأَوْلِيَائِك! فَفَجَرَهُ اللهُ، وَإِنّهُ لَرَاقِدٌ بَيْن ظَهْرَيْ اللّيْلِ وَمَا يُدْرَى بِهِ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَأَتَاهُ وَهُوَ يَسُوقُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَجَدُوهُ قَدْ سُجّيَ بِمُلَاءَةٍ بَيْضَاءَ، وَكَانَ سَعْدٌ رَجُلًا أَبْيَضَ طَوِيلًا، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَجَعَلَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ ثُمّ قَالَ: اللهُمّ إنّ سَعْدًا قَدْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِك، وَصَدّقَ رَسُولَك، وَقَضَى الّذِي عَلَيْهِ، فَاقْبِضْ رُوحَهُ بِخَيْرِ مَا تَقْبِضُ فِيهِ أَرْوَاحَ الْخَلْقِ. فَفَتَحَ سَعْدٌ عَيْنَيْهِ حِينَ سَمِعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللهِ، أَشْهَدُ أَنّك قَدْ بَلّغْت رِسَالَتَهُ. وَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَأْسَ سَعْدٍ مِنْ حِجْرِهِ ثُمّ قَامَ وَانْصَرَفَ، وَلَمْ يَمُتْ بَعْدُ وَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ، فَمَكَثَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ وَمَاتَ خِلَافَهُ. وَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ مَاتَ سَعْدٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إسْتَبْرَقٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، مَنْ هَذَا الرّجُلُ الصّالِحُ الّذِي مَاتَ فِيكُمْ؟ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السّمَاءِ، وَاهْتَزّ لَهُ عَرْشُ الرّحْمَنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ: عَهْدِي بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَهُوَ يَمُوتُ! ثُمّ خَرَجَ فَزِعًا إلَى خَيْمَةِ كُعَيْبَةَ يَجُرّ ثَوْبَهُ مُسْرِعًا، فَوَجَدَ سَعْدًا قَدْ مَاتَ. وَأَقْبَلَتْ رِجَالُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَاحْتَمَلُوهُ إلَى مَنْزِلِهِ. قَالَ: فَخَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره، فينقطع ثعل أَحَدِهِمْ فَلَمْ يُعَرّجْ عَلَيْهَا، وَيَسْقُطُ رِدَاؤُهُ فَلَمْ يَلْوِ عَلَيْهِ، وَمَا يُعَرّجُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ حَتّى دَخَلُوا عَلَى سَعْدٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَدْ سَمِعْنَا أَنّ النّبِيّ حَضَرَهُ حِينَ تُوُفّيَ. وَأَخْبَرَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: لَمّا انْفَجَرَتْ يَدُ سَعْدٍ بِالدّمِ قَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَنَقَهُ، وَالدّمُ يَنْفَحُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِحْيَتِهِ، لَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَنْ يَقِيَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدّمَ إلّا ازْدَادَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْبًا، حَتّى قَضَى. وَحَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ خَرِيشٍ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ عَلَى الْبَابِ نُرِيدُ أَنْ نَدْخُلَ عَلَى أَثَرِهِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إلّا سَعْدٌ مُسَجّى. قَالَ: فَرَأَيْته يتخطّى، فلمّا رأيته بتخطّى وَقَفْت، وَأَوْمَأَ إلَيّ: قِفْ! فَوَقَفْت، وَرَدَدْت مَنْ وَرَائِي، وَجَلَسَ سَاعَةً ثُمّ خَرَجَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأَيْت أَحَدًا وَقَدْ رَأَيْتُك تتخطّى!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا قَدَرْت عَلَى مَجْلِسٍ حَتّى قَبَضَ لِي مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَحَدَ جَنَاحَيْهِ، فَجَلَسْت. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَنِيئًا لَك أَبَا عَمْرٍو! هَنِيئًا لَك أَبَا عَمْرٍو!. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ. عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمّ سَعْدٍ تَبْكِي وَتَقُولُ: وَيْلُ أُمّ سَعْدٍ سَعْدَا جَلَادَةً وَحَدّا [ (1) ] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَهْلًا يَا أُمّ سَعْدٍ، لَا تَذْكُرِي سَعْدًا. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهَا يَا عُمَرُ، فَكُلّ بَاكِيَةٍ مُكْثِرَةٌ إلّا أُمّ سَعْدٍ، مَا قَالَتْ مِنْ خَيْرٍ فَلَمْ تَكْذِبْ. وَأُمّ سَعْدٍ، كَبْشَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْجَرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَأُخْتُهَا، الْفَارِعَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ، وَهِيَ أُمّ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ. قَالُوا: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يغسّل، فغسّله الحارث ابن أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ يَصُبّ الْمَاءَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاضِرٌ. فَغُسّلَ بِالْمَاءِ الْأُولَى، وَالثّانِيَةَ بِالْمَاءِ وَالسّدْرِ، وَالثّالِثَةَ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ، ثُمّ كُفّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ صُحَارِيّةٍ [ (2) ] وَأُدْرِجَ فِيهَا إدْرَاجًا، وَأُتِيَ بِسَرِيرٍ كَانَ عِنْدَ آلِ سَبْطٍ، يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَوْتَى، فَوُضِعَ عَلَى السّرِيرِ، فَرُئِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُهُ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِهِ حِينَ رُفِعَ مِنْ دَارِهِ إلَى أَنْ خَرَجَ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبى بكر بن
حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي أَمَامَ جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَخَرَجَ بِالنّاسِ، فَلَمّا بَرَزَ إلَى الْبَقِيعِ قَالَ: خُذُوا فِي جِهَازِ صَاحِبِكُمْ! قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَكُنْت أَنَا مِمّنْ حَفَرَ لَهُ قَبْرَهُ، وَكَانَ يَفُوحُ عَلَيْنَا الْمِسْكُ كُلّمَا حَفَرْنَا قَبْرَهُ مِنْ تُرَابٍ، حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى اللّحْدِ. قَالَ رُبَيْحٌ: وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي مُحَمّدُ بن المنكدر، عن محمّد بن شرحبيل ابن حَسَنَةَ، قَالَ: أَخَذَ إنْسَانٌ قَبْضَةً مِنْ قَبْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَذَهَبَ بِهَا، ثُمّ نَظَرَ إلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا هِيَ مِسْكٌ. قَالُوا: ثُمّ اُحْتُمِلَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كُنْت لَتَقْطَعُنَا فِي ذَهَابِك إلَى سَعْدٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَشِينَا أَنْ تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ إلَيْهِ كَمَا سَبَقَتْنَا إلَى غُسْلِ حَنْظَلَةَ [ (1) ] . وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ سَعْدٌ رَجُلًا جَسِيمًا فَلَمْ نَرَ أَخَفّ مِنْهُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ إنّمَا خَفّ لِأَنّهُ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. قَالَ: كَذَبُوا، وَلَكِنّهُ خَفّ لِحَمْلِ الْمَلَائِكَةِ. فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ حُفْرَتِهِ، وَوَضَعْنَا اللّبِنَ وَالْمَاءَ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَحَفَرْنَا لَهُ عِنْدَ دَارِ عُقَيْلٍ الْيَوْمَ، وَطَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَوَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ ثُمّ صَلّى عَلَيْهِ، فَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ النّاسِ مَا مَلَأَ البقيع.
ذكر من قتل من المسلمين فى حصار بنى قريظة
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا انْتَهَوْا إلَى قَبْرِهِ نَزَلَ فِي قَبْرِهِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ: الْحَارِثُ بن أوس بن معاذ، وأسيد بن حضير، وَأَبُو نَائِلَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ عَلَى قَدَمَيْهِ عَلَى قَبْرِهِ، فَلَمّا وُضِعَ فِي لَحْدِهِ تَغَيّرَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَسَبّحَ ثَلَاثًا، فَسَبّحَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثًا حَتّى ارْتَجّ الْبَقِيعُ. ثُمّ كَبّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، وَكَبّرَ أَصْحَابُهُ ثَلَاثًا حَتّى ارْتَجّ الْبَقِيعُ بِتَكْبِيرِهِ فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَا لِوَجْهِك تَغَيّرًا وَسَبّحْت ثَلَاثًا! قَالَ: تَضَايَقَ عَلَى صَاحِبِكُمْ قَبْرُهُ، وَضُمّ ضَمّةً لَوْ نَجَا مِنْهَا أَحَدٌ لَنَجَا مِنْهَا سَعْدٌ، ثُمّ فَرّجَ اللهُ عَنْهُ. حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ: جَاءَتْ أُمّ سَعْدٍ- وَهِيَ كَبْشَةُ بِنْتُ عُبَيْدٍ- تَنْظُرُ إلَى سَعْدٍ فِي اللّحد، فَرَدّهَا النّاسُ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها! فَأَقْبَلَتْ حَتّى نَظَرَتْ إلَيْهِ، وَهُوَ فِي اللّحْدِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ اللّبِنُ وَالتّرَابُ، فَقَالَتْ أَحْتَسِبُك عِنْدَ اللهِ! وَعَزّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرِهِ، وَجَلَسَ نَاحِيَةً، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَرُدّونَ تُرَابَ الْقَبْرِ وَيُسَوّونَهُ، وَتَنَحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس حَتّى سُوّيَ عَلَى قَبْرِهِ وَرُشّ عَلَى قَبْرِهِ الْمَاءُ، ثُمّ أَقْبَلَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَدَعَا لَهُ، ثُمّ انْصَرَفَ. ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي حِصَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ خَلّادُ بْنُ سُوَيْدٍ مِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، دَلّتْ عَلَيْهِ نُبَاتَةُ رَحًى فَشَدَخَتْ رَأْسَهُ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ! وَقَتَلَهَا بِهِ. وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنٍ، فَدَفَنَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَاكَ،
فَهُوَ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ الْيَوْمَ. حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا قُتِلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَدِمَ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ الْأَشْجَعِيّ خَيْبَرَ، قَدْ سَارَ يَوْمَيْنِ، وَيَهُودُ بَنِي النّضِيرِ- سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَيَهُودُ خيبر جلوس فِي نَادِيهِمْ يَتَحَسّبُونَ خَبَرَ قُرَيْظَةَ، قَدْ بَلَغَهُمْ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ حَصَرَهُمْ وَهُمْ يَتَوَقّعُونَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: الشّرّ! قُتِلَتْ مُقَاتِلَةُ قُرَيْظَةَ صَبْرًا بِالسّيْفِ! قَالَ كِنَانَةُ: مَا فَعَلَ حُيَيّ؟ قَالَ حُسَيْلٌ: حُيَيّ قَدْ طَاحَ، ضُرِبَتْ عُنُقُهُ صَبْرًا. وَجَعَلَ يُخْبِرُهُمْ عَنْ سَرَاتِهِمْ- كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، وَغَزّالِ بْنِ سَمَوْأَلٍ، وَنَبّاشِ بْنِ قَيْسٍ- أَنّهُ حَضَرَهُمْ قُتِلُوا بَيْنَ يَدَيْ مُحَمّدٍ. قَالَ سَلّامُ بْن مِشْكَمٍ: هَذَا كُلّهُ عَمَلُ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ، شَأَمَنَا أَوّلًا وَخَالَفَنَا فِي الرّأْيِ، فَأَخْرَجَنَا مِنْ أَمْوَالِنَا وَشَرَفِنَا وَقَتَلَ إخْوَانَنَا. وَأَشَدّ مِنْ الْقَتْلِ سِبَاءُ الذّرّيّةِ، لَا قَامَتْ يَهُودِيّةٌ بِالْحِجَازِ أَبَدًا، لَيْسَ لِلْيَهُودِ عَزْمٌ وَلَا رَأْيٌ. قَالُوا: وَبَلَغَ النّسَاءَ فَصَيّحْنَ، وَشَقَقْنَ الْجُيُوبَ، وَجَزَزْنَ الشّعُورَ، وَأَقَمْنَ الْمَآتِمَ، وَضَوَى إلَيْهِنّ نِسَاءُ الْعَرَبِ. وَفَزِعَتْ الْيَهُودُ إلَى سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ فَقَالُوا: فَمَا الرّأْيُ أَبَا عَمْرٍو؟ وَيُقَالُ أَبَا الْحَكَمِ. قَالَ: وَمَا تَصْنَعُونَ بِرَأْيٍ لَا تَأْخُذُونَ مِنْهُ حَرْفًا؟ قَالَ كِنَانَةُ: لَيْسَ هَذَا بِحِينِ عِتَابٍ، قَدْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى مَا تَرَى. قَالَ: مُحَمّدٌ قَدْ فَرَغَ مِنْ يَهُودِ يَثْرِبَ، وَهُوَ سَائِرٌ إلَيْكُمْ، فَنَازِلٌ بِسَاحَتِكُمْ، وَصَانِعٌ بِكُمْ مَا صَنَعَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ. قَالُوا: فَمَا الرّأْيُ؟ قَالَ: نَسِيرُ إلَيْهِ بِمَنْ مَعَنَا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ، فَلَهُمْ عَدَدٌ، وَنَسْتَجْلِبُ يَهُودَ تَيْمَاءَ، وَفَدَكٍ، وَوَادِي الْقُرَى، وَلَا نَسْتَعِينُ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مَا صَنَعَتْ بِكُمْ الْعَرَبُ بَعْدَ أَنْ شَرَطْتُمْ لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ نَقَضُوا ذَلِكَ وَخَذَلُوكُمْ، وَطَلَبُوا مِنْ مُحَمّدٍ بَعْضَ تَمْرِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ، مَعَ أَنّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ
باب شأن سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد بن نبيح
هُوَ الّذِي كَادَهُمْ بِمُحَمّدٍ، وَمَعْرُوفُهُمْ إلَيْهِ مَعْرُوفُهُمْ! ثُمّ نَسِيرُ إلَيْهِ فِي عُقْرِ دَارِهِ فَنُقَاتِلُ عَلَى وِتْرٍ حَدِيثٍ وَقَدِيمٍ. فَقَالَتْ الْيَهُودُ: هَذَا الرّأْيُ. فَقَالَ كِنَانَةُ: إنّي قَدْ خَبَرْت الْعَرَبَ فَرَأَيْتهمْ [ (1) ] أَشِدّاءَ عَلَيْهِ، وَحُصُونُنَا هَذِهِ لَيْسَتْ مِثْلَ مَا هُنَاكَ، وَمُحَمّدٌ لَا يَسِيرُ إلَيْنَا أَبَدًا لِمَا يَعْرِفُ. قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: هَذَا رَجُلٌ لَا يُقَاتِلُ حَتّى يُؤْخَذَ بِرَقَبَتِهِ. فَكَانَ ذلك [والله] [ (2) ] محمود! وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ [ (3) ] بَابُ شَأْنِ سَرِيّةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أنيس إلى سفيان بن خالد بن نبيح قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: خَرَجْت مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ، عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ شَهْرًا، فَغِبْت اثْنَتَيْ عشرة ليلة، وقدمت يوم السبت لسبع بقين مِنْ الْمُحَرّمِ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ سُفْيَانَ بْنَ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيّ، ثُمّ اللّحْيَانِيّ، وَكَانَ نَزَلَ عُرَنَةَ [ (4) ] وَمَا حَوْلَهَا فِي نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، فَجَمَعَ الْجُمُوعَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَوَى إلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَفْنَاءِ النّاسِ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُنَيْسٍ، فَبَعَثَهُ سَرِيّةً وَحْدَهُ إلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه
وسلم: انْتَسِبْ إلَى خُزَاعَةَ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَعْرِفُهُ، فَصِفْهُ لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّك إذَا رَأَيْته هِبْته وَفَرِقْت مِنْهُ وَذَكَرْت الشّيْطَانَ. وَكُنْت لَا أَهَابُ الرّجَالَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا فَرِقْت مِنْ شَيْءٍ قَطّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى، آيَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَهُ [ (1) ] أَنْ تَجِدَ لَهُ قُشَعْرِيرَةً إذَا رَأَيْته. وَاسْتَأْذَنْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُولَ، فَقَالَ: قُلْ مَا بَدَا لَك. قَالَ: فَأَخَذْت سَيْفِي لَمْ أَزِدْ عَلَيْهِ، وَخَرَجْت أَعْتَزِي إلَى خُزَاعَةَ، فَأَخَذْت عَلَى الطّرِيقِ حَتّى انْتَهَيْت إلَى قُدَيْدٍ، فَأَجِدُ بِهَا خُزَاعَةَ كَثِيرًا، فَعَرَضُوا عَلَيّ الْحُمْلَانَ وَالصّحَابَةَ، فَلَمْ أُرِدْ ذَلِكَ وَخَرَجْت [ (2) ] حَتّى أَتَيْت بَطْنَ سَرِفَ، ثُمّ عَدَلْت حَتّى خَرَجْت عَلَى عُرَنَةَ، وَجَعَلْت أُخْبِرُ مَنْ لَقِيت أَنّي أُرِيدُ سُفْيَانَ بْنَ خَالِدٍ لِأَكُونَ مَعَهُ، حَتّى إذَا كُنْت بِبَطْنِ عُرَنَةَ لَقِيته يَمْشِي، وَوَرَاءَهُ الْأَحَابِيشُ وَمَنْ اسْتَجْلَبَ وَضَوَى إلَيْهِ. فَلَمّا رَأَيْته هِبْته، وعرفته بالنّعث الّذِي نَعَتَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَأَيْتنِي أَقْطُرُ [ (3) ] فَقُلْت صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ! وَقَدْ دَخَلْت فِي وَقْتِ الْعَصْرِ حِينَ رَأَيْته، فَصَلّيْت وَأَنَا أَمْشِي أُومِئُ إيمَاءً بِرَأْسِي، فَلَمّا دَنَوْت مِنْهُ قَالَ: مَنْ الرّجُلُ؟ فَقُلْت: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، سَمِعْت بِجَمْعِك لِمُحَمّدٍ فَجِئْتُك لِأَكُونَ مَعَك. قَالَ: أَجَلْ، إنّي لَفِي الْجَمْعِ لَهُ. فَمَشَيْت مَعَهُ، وَحَدّثْته فَاسْتَحْلَى حَدِيثِي، وَأَنْشَدْته شِعْرًا، وَقُلْت: عَجَبًا لِمَا أَحْدَثَ مُحَمّدٌ مِنْ هَذَا الدّينِ الْمُحْدَثِ، فَارَقَ الْآبَاءَ وَسَفّهَ أَحْلَامَهُمْ! قَالَ: لَمْ يَلْقَ مُحَمّدٌ أَحَدًا يُشْبِهُنِي! قَالَ: وهو يتوكأ على عصا يهد الأرض،
حَتّى انْتَهَى إلَى خِبَائِهِ، وَتَفَرّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ إلَى مَنَازِلَ قَرِيبَةٍ مِنْهُ وَهُمْ مُطِيفُونَ بِهِ، فَقَالَ: هَلُمّ يَا أَخَا خُزَاعَةَ! فَدَنَوْت مِنْهُ فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: اُحْلُبِي! فَحَلَبَتْ ثُمّ نَاوَلَتْنِي، فَمَصَصْت ثُمّ دَفَعْته إلَيْهِ، فَعَبّ كَمَا يَعُبّ الْجَمْلُ حَتّى غَابَ أَنْفُهُ فِي الرّغْوَةِ [ (1) ] ، ثُمّ قَالَ: اجْلِسْ. فَجَلَسْت مَعَهُ، حَتّى إذَا هَدَأَ النّاسُ وَنَامُوا وَهَدَأَ، اغْتَرَرْته [ (2) ] فَقَتَلْته وَأَخَذْت رَأْسَهُ، ثُمّ أَقْبَلْت وَتَرَكْت نِسَاءَهُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، وَكَانَ النّجَاءُ مِنّي حَتّى صَعِدْت فِي جَبَلٍ فَدَخَلْت غَارًا. وَأَقْبَلَ الطّلَبُ مِنْ الْخَيْلِ وَالرّجَالِ تَوَزّعُ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَأَنَا مُخْتَفٍ فِي غَارِ الْجَبَلِ، وَضَرَبَتْ الْعَنْكَبُوتُ عَلَى الْغَارِ، وَأَقْبَلَ رَجُلٌ وَمَعَهُ إدَاوَةٌ ضَخْمَةٌ وَنَعْلَاهُ فِي يَدِهِ، وَكُنْت حَافِيًا، وَكَانَ أَهَمّ أَمْرِي عِنْدِي الْعَطَشَ، كُنْت أَذْكُرُ تِهَامَةَ وَحَرّهَا، فَوَضَعَ إدَاوَتَهُ وَنَعْلَهُ وَجَلَسَ يَبُولُ عَلَى بَابِ الْغَارِ، ثُمّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَيْسَ فِي الْغَارِ أَحَدٌ. فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، وَخَرَجْت إلَى الْإِدَاوَةِ فَشَرِبْت مِنْهَا وَأَخَذْت النّعْلَيْنِ فَلَبِسْتهمَا، فَكُنْت أَسِيرُ اللّيْلَ وَأَتَوَارَى النّهَارَ حَتّى جِئْت الْمَدِينَةَ فَوَجَدْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمّا رَآنِي قَالَ: أَفْلَحَ الْوَجْهُ! قُلْت: أَفْلَحَ وَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ! فَوَضَعْت رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخْبَرْته خَبَرِي، فَدَفَعَ إلَيّ عَصًا فَقَالَ: تَخَصّرْ [ (3) ] بِهَذِهِ فِي الْجَنّةِ، فَإِنّ الْمُتَخَصّرِينَ فِي الْجَنّةِ قَلِيلٌ. فَكَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ حَتّى إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى أَهْلَهُ أَنْ يُدْرِجُوهَا فِي كَفَنِهِ. وَكَانَ قَتْلُهُ فِي الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ شهرا
غزوة القرطاء [ (1) ]
غَزْوَةُ الْقُرْطَاءِ [ (1) ] حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ جعفر بن محمود، قال: قال محمد ابن مَسْلَمَةَ: خَرَجْت فِي عَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ، فَغِبْت تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقَدِمْت لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ شَهْرًا. حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَنَسٍ الظّفَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْحَدِيثِ، قَالَا: بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مَسْلَمَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فِيهِمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَالْحَارِثُ ابن خَزَمَةَ، إلَى بَنِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ اللّيْلَ وَيَكْمُنَ النّهَارَ، وَأَنْ يَشُنّ عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ. فَكَانَ مُحَمّدٌ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ، حَتّى إذَا كَانَ بِالشّرَبَةِ [ (2) ] لَقِيَ ظُعُنًا، فَأَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُ مَنْ هُمْ. فَذَهَبَ الرّسُولُ ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: قَوْمٌ مِنْ مُحَارِبٍ. فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُ، وَحَلّوا وَرَوّحُوا مَاشِيَتَهُمْ. فَأَمْهَلَهُمْ حَتّى إذَا ظَعَنُوا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَ نَفَرًا مِنْهُمْ وَهَرَبَ سَائِرُهُمْ، فَلَمْ يَطْلُبْ مَنْ هَرَبَ، وَاسْتَاقَ نَعَمًا وَشَاءً وَلَمْ يَعْرِضْ لِلظّعُنِ. ثُمّ انْطَلَقَ حَتّى إذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ يطلعه على بنى بكر بعث عبّاد ابن بِشْرٍ إلَيْهِمْ، فَأَوْفَى عَلَى الْحَاضِرِ فَأَقَامَ، فَلَمّا رَوّحُوا مَاشِيَتَهُمْ وَحَلَبُوا وَعَطّنُوا [ (3) ] جَاءَ إلَى مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَأَخْبَرَهُ، فَخَرَجَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَشَنّ عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةً، وَاسْتَاقُوا النّعم والشاء ثم انحدروا
غزوة بنى لحيان
إلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا أَصْبَحَ حِينَ أَصْبَحَ إلّا بِضَرِيّةَ [ (1) ] ، مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَتَيْنِ. ثُمّ حَدَرْنَا النّعَمَ، وَخِفْنَا الطّلَبَ، وَطَرَدْنَا الشّاءَ أَشَدّ الطّرْدِ، فَكَانَتْ تَجْرِي مَعَنَا كَأَنّهَا الْخَيْلُ، حَتّى بَلَغْنَا الْعَدَاسَةَ، فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا الشّاءُ بِالرّبَذَةِ [ (2) ] ، فَخَلّفْنَاهُ مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي يَقْصِدُونَ بِهِ، وَطُرِدَ النّعَمُ فَقُدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ مُحَمّدٌ يَقُولُ: خَرَجْت مِنْ ضَرِيّةَ، فَمَا رَكِبْت خُطْوَةً حَتّى وَرَدْت بَطْنَ نَخْلٍ [ (3) ] ، فَقُدِمَ بِالنّعَمِ، خَمْسِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ، وَالشّاءِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ آلَافِ شَاةٍ، فَلَمّا قَدِمْنَا خَمّسَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فَضّ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا بَقِيَ، فَعَدَلُوا الْجَزُورَ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ، فَأَصَابَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ. غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ أَبُو الْحَسَنِ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سِتّ فَبَلَغَ غُرَانَ وَعُسْفَانَ [ (4) ] ، وَغَابَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرُهُمَا قَدْ حَدّثَنِي، وَقَدْ زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، قَالُوا: وجد رسول الله صلّى الله
عليه وسلم عَلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَصْحَابِهِ [ (1) ] وَجْدًا شَدِيدًا، فَخَرَجَ [فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ وَمَعَهُمْ عِشْرُونَ فَرَسًا] [ (2) ] فِي أَصْحَابِهِ فَنَزَلَ بِمَضْرِبِ الْقُبّةِ [ (3) ] مِنْ نَاحِيَةِ الْجُرْفِ، فَعَسْكَرَ فِي أَوّلِ نَهَارِهِ وَهُوَ يُظْهِرُ أَنّهُ يُرِيدُ الشّامَ، ثُمّ رَاحَ مُبْرِدًا فَمَرّ عَلَى غُرَابَات [ (4) ] ، ثُمّ عَلَى بِينَ [ (5) ] ، حَتّى خَرَجَ عَلَى صُخَيْرَاتِ الثّمَامِ [ (6) ] ، فَلَقِيَ الطّرِيقَ هُنَاكَ. ثُمّ أَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى انْتَهَى إلَى بَطْنِ غُرَانَ حَيْثُ كَانَ مُصَابُهُمْ، فَتَرَحّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: هَنِيئًا لَكُمْ الشّهَادَةُ! فَسَمِعَتْ بِهِ لِحْيَانُ فهربوا فى رءوس الجبال، فلم يقدر مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ، فَأَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَبَعَثَ السّرَايَا فِي كُلّ نَاحِيَةٍ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَحَدٍ، ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى عُسْفَانَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ: إنّ قُرَيْشًا قَدْ بَلَغَهُمْ مَسِيرِي وَأَنّي قَدْ وَرَدْت عُسْفَانَ، وَهُمْ يَهَابُونَ أَنْ آتِيَهُمْ، فَاخْرُجْ فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فِيهِمْ حَتّى أَتَوْا الْغَمِيمَ، ثُمّ رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ هَذَا يَبْلُغُ قُرَيْشًا فَيَذْعَرُهُمْ، وَيَخَافُونَ أَنْ نَكُونَ نُرِيدُهُمْ- وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ يَوْمَئِذٍ فِي أَيْدِيهِمْ. فَبَلَغَ قُرَيْشًا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَغَ الْغَمِيمَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَتَى مُحَمّدٌ الْغَمِيمَ إلّا يُرِيدُ أَنْ يُخَلّصَ
غزوة الغابة
خُبَيْبًا. وَكَانَ خُبَيْبٌ وَصَاحِبَاهُ فِي حَدِيدٍ مُوثَقِينَ، فَجَعَلُوا فِي رِقَابِهِمْ الْجَوَامِعَ، وَقَالُوا: قَدْ بَلَغَ مُحَمّدٌ ضَجْنَانَ وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَيْنَا! فَدَخَلَتْ مَاوِيّةُ عَلَى خُبَيْبٍ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ وَقَالَتْ: هَذَا صَاحِبُك قَدْ بَلَغَ ضَجْنَانَ يُرِيدُكُمْ. فَقَالَ خُبَيْبٌ: وَهَلْ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ خُبَيْبٌ: يَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ! قَالَتْ: وَاَللهِ، مَا يَنْتَظِرُونَ بِك إلّا أَنْ يَخْرُجَ الشّهْرُ الْحَرَامُ، وَيُخْرِجُوك فَيَقْتُلُوك وَيَقُولُونَ: أَتَرَى مُحَمّدًا غَزَانَا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ وَنَحْنُ لَا نَسْتَحِلّ أَنْ نَقْتُلَ صَاحِبَهُ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ؟ وَكَانَ مَأْسُورًا عِنْدَهُمْ، وَخَافُوا أَنْ يَدْخُلَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو يقول: آئبون، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبّنَا حَامِدُونَ! اللهُمّ، أَنْتَ الصّاحِبُ فِي السّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ عَلَى الْأَهْلِ! اللهُمّ، أَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَسُوءِ المنظر في الأهل والمال! اللهم، بلغنا بلاغا صَالِحًا يَبْلُغُ إلَى خَيْرٍ، مَغْفِرَةً مِنْك وَرِضْوَانًا! وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَكَانَ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَكَانَتْ سَنَةَ سِتّ فِي الْمُحَرّمِ، وَهَذَا أَوّلُ مَا قَالَ هَذَا الدّعَاءَ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا كُلّهُمْ. غَزْوَةُ الْغَابَةِ حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَغَارَ عُيَيْنَةُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتّ، وَغَزَوْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي طَلَبِهِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَغِبْنَا خَمْسَ لَيَالٍ وَرَجَعْنَا لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ. وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أُمّ مَكْتُومٍ. حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَعَلِيّ بْنُ يَزِيدَ، وَغَيْرُهُمْ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ، قَالُوا: كَانَتْ لقاح [ (1) ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ لِقْحَةً، وَكَانَتْ مِنْ شَتّى، مِنْهَا مَا أَصَابَ فِي ذَاتِ الرّقَاعِ، وَمِنْهَا مَا قَدِمَ بِهِ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ نَجْدٍ. وَكَانَتْ تَرْعَى الْبَيْضَاءَ [ (2) ] وَدُونَ الْبَيْضَاءِ، فَأَجْدَبَ مَا هُنَاكَ فَقَرّبُوهَا إلَى الْغَابَةِ، تُصِيبُ مِنْ أَثْلِهَا وَطَرْفَائِهَا وَتَغْدُو فِي الشّجَرِ- قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: الْغَادِيَةُ: تَغْدُو فِي الْعِضَاهِ، أُمّ غَيْلَانَ وَغَيْرِهَا، والواضعة: الإبل ترعى الخمض، والأوارك: التي ترعى الأراك- فكان الراعي يؤوب بِلَبَنِهَا كُلّ لَيْلَةٍ عِنْدَ الْمَغْرِبِ. وَكَانَ أَبُو ذَرّ قَدْ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى لِقَاحِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي أَخَافُ عَلَيْك مِنْ هَذِهِ الضّاحِيَةِ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْك، وَنَحْنُ لا نأمن من عيينة ابن حِصْنٍ وَذَوِيهِ، هِيَ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِمْ فَأَلَحّ عَلَيْهِ أَبُو ذَرّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: ائْذَنْ لِي. فَلَمّا أَلَحّ عَلَيْهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكَأَنّي بِك، قَدْ قُتِلَ ابْنُك، وَأُخِذَتْ امْرَأَتُك، وَجِئْت تَتَوَكّأُ عَلَى عَصَاك. فَكَانَ أَبُو ذَرّ يَقُولُ: عَجَبًا لِي! إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لَكَأَنّي بِك» وَأَنَا أُلِحّ عَلَيْهِ، فَكَانَ وَاَللهِ عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ: لَمّا كَانَتْ لَيْلَةُ السّرْحِ جَعَلَتْ فَرَسِي سَبْحَةً لَا تَقِرّ ضَرْبًا بِأَيْدِيهَا. وَصَهِيلًا. فَيَقُولُ أَبُو مَعْبَدٍ: وَاَللهِ، إنّ لَهَا شَأْنًا! فَنَنْظُرُ آرِيّهَا [ (3) ] فَإِذَا هُوَ مَمْلُوءٌ عَلَفًا، فَيَقُولُ: عَطْشَى!. فَيَعْرِضُ الْمَاءَ عَلَيْهَا فَلَا تُرِيدُهُ، فَلَمّا طَلَعَ الْفَجْرُ أَسْرَجَهَا وَلَبِسَ سِلَاحَهُ، وَخَرَجَ حَتّى صَلّى الصّبْحَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، وَدَخَلَ النبىّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ، وَرَجَعَ الْمِقْدَادُ إلَى بَيْتِهِ، وَفَرَسُهُ لَا تَقِرّ، فَوَضَعَ سَرْجَهَا وَسِلَاحَهُ وَاضْطَجَعَ، وَجَعَلَ [ (1) ] إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَأَتَاهُ آتٍ فَقَالَ: إنّ الْخَيْلَ قَدْ صِيحَ بِهَا. فَكَانَ أَبُو ذَرّ يَقُولُ: وَاَللهِ، إنّا لَفِي مَنْزِلِنَا، وَلِقَاحُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رُوّحَتْ، وَعُطّنَتْ، وَحُلِبَتْ عَتَمَتُهَا [ (2) ] وَنِمْنَا، فَلَمّا كَانَ فِي اللّيْلِ أَحْدَقَ بِنَا عُيَيْنَةُ فِي أَرْبَعِينَ فَارِسًا، فَصَاحُوا بِنَا وَهُمْ قِيَامٌ عَلَى رُءُوسِنَا، فَأَشْرَفَ لَهُمْ ابْنِي فَقَتَلُوهُ، وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَنَجَوْا، وَتَنَحّيْت عَنْهُمْ وَشَغَلَهُمْ عَنّي إطْلَاقُ عُقُلِ اللّقَاحِ، ثُمّ صَاحُوا فِي أَدْبَارِهَا، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهَا. وَجِئْت إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته وَهُوَ يَتَبَسّمُ. فَكَانَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ يَقُولُ: غَدَوْت أُرِيدُ الْغَابَةَ لِلِقَاحِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنْ أُبَلّغَهُ لَبَنَهَا، حَتّى أَلْقَى غُلَامًا لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَانَ فِي إبِلٍ لعبد الرحمن بن عوف، فأخطأوا مَكَانَهَا وَاهْتَدَوْا إلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَنِي أَنّ لِقَاحَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَغَارَ عَلَيْهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي أَرْبَعِينَ فَارِسًا، فَأَخْبَرَنِي أَنّهُمْ قَدْ رَأَوْا مَدَدًا بَعْدَ ذَلِكَ أُمِدّ بِهِ عُيَيْنَةُ. قَالَ سَلَمَةُ: فَأَحْضَرْت فَرَسِي رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى وَافَيْت عَلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ [ (3) ] فَصَرَخْت بِأَعْلَى صَوْتِي: يَا صَبَاحَاهُ! ثَلَاثًا، أسمع من بين لا لَابَتَيْهَا. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: نَادَى: الْفَزَعَ! الْفَزَعَ! ثَلَاثًا، ثُمّ وَقَفَ وَاقِفًا عَلَى فَرَسِهِ حَتّى طَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيدِ مُقَنّعًا فَوَقَفَ واقفا، فكان أوّل من
أَقْبَلَ إلَيْهِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، عَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ شَاهِرًا سَيْفَهُ، فَعَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً فِي رُمْحِهِ وَقَالَ: امْضِ حَتّى تَلْحَقَك الْخُيُولُ، إنّا عَلَى أَثَرِك. قَالَ الْمِقْدَادُ: فَخَرَجْت وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ الشّهَادَةَ، حَتّى أُدْرِكَ أُخْرَيَاتِ الْعَدُوّ، وَقَدْ أَذَمّ [ (1) ] بِهِمْ فَرَسٌ لَهُمْ فَاقْتَحَمَ فَارِسُهُ وَرَدَفَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ، فَآخُذُ الْفَرَسَ الْمُذِمّ فَإِذَا هُوَ ضَرَعٌ [ (2) ] ، أَشْقَرُ، عَتِيقٌ، لَمْ يَقْوَ عَلَى الْعَدْوِ، وَقَدْ غَدَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَقْصَى الْغَابَةِ فَحَسِرَ، فَأَرْبِطُ فِي عُنُقِهِ قِطْعَةَ وَتَرٍ وَأُخَلّيهِ، وَقُلْت: إنْ مَرّ بِهِ أَحَدٌ فَأَخَذَهُ جِئْته بِعَلَامَتِي فِيهِ. فَأُدْرِكُ مَسْعَدَةَ فَأَطْعَنُهُ بِرُمْحٍ فِيهِ اللّوَاءُ، فَزَلّ الرّمْحُ وَعَطَفَ عَلَيّ بِوَجْهِهِ فَطَعَنَنِي وَآخُذُ الرّمْحَ بِعَضُدِي فَكَسَرْته، وَأَعْجَزَنِي هَرَبًا، وَأَنْصِبُ لِوَائِي فَقُلْت: يَرَاهُ أَصْحَابِي. وَيَلْحَقُنِي أَبُو قَتَادَةَ مُعَلّمًا بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَسَايَرْته سَاعَةً وَنَحْنُ نَنْظُرُ إلَى دُبُرِ مَسْعَدَةَ، فَاسْتَحَثّ فَرَسَهُ فَتَقَدّمَ عَلَى فَرَسِي، فَبَانَ سَبْقُهُ فَكَانَ أَجْوَدَ مِنْ فَرَسِي حَتّى غَابَ عَنّي فَلَا أَرَاهُ. ثُمّ أَلْحَقُهُ فَإِذَا هُوَ يَنْزِعُ بُرْدَتَهُ، فَصِحْت: مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: خَيْرًا أَصْنَعُ كَمَا صَنَعْت بِالْفَرَسِ. فَإِذَا هُوَ قَدْ قَتَلَ مَسْعَدَةَ وَسَجّاهُ بِبُرْدَةٍ. وَرَجَعْنَا فَإِذَا فَرَسٌ فِي يَدِ عُلْبَةَ بْنِ زَيْدٍ الْحَارِثِيّ، فَقُلْت: فَرَسِي هَذَا وَعَلَامَتِي فِيهِ! فقال: تعالى إلَى النّبِيّ، فَجَعَلَهُ مَغْنَمًا. وَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ عَلَى رِجْلَيْهِ يَعْدُو لِيَسْبِقَ الْخَيْلَ مِثْلَ السّبُعِ. قَالَ سَلَمَةُ: حَتّى لَحِقْت الْقَوْمَ فَجَعَلْت أَرْمِيهِمْ بِالنّبْلِ، وَأَقُولُ حِينَ أَرْمِي: خُذْهَا مِنّي وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ! فَتَكِرّ عَلَيّ خَيْلٌ مِنْ خيلهم، فإذا
وُجّهَتْ نَحْوِي انْطَلَقْت هَارِبًا فَأَسْبِقُهَا، وَأَعْمِدُ إلَى الْمَكَانِ الْمُعْوِرِ [ (1) ] فَأُشْرِفُ عَلَيْهِ وَأَرْمِي بِالنّبْلِ إذَا أَمْكَنَنِي الرّمْيُ وَأَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرّضّعْ [ (2) ] فَمَا زِلْت أَكَافِحُهُمْ وَأَقُولُ: قِفُوا قَلِيلًا، يَلْحَقْكُمْ أَرْبَابُكُمْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَيَزْدَادُونَ عَلَيّ حَنَقًا فَيَكِرّونَ عَلَيّ، فَأُعْجِزُهُمْ هَرَبًا حَتّى انْتَهَيْت بِهِمْ إلَى ذِي قَرَدٍ [ (3) ] . وَلَحِقَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُيُولُ عِشَاءً، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ وَلَيْسَ لَهُمْ مَاءٌ دُونَ أَحْسَاءِ كَذَا وكذا، فلو بعثتني فى مائة رجل استنقذت مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ السّرْحِ، وَأَخَذْت بِأَعْنَاقِ الْقَوْمِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَلَكْت فَأَسْجِحْ [ (4) ] . ثُمّ قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّهُمْ لَيُقْرَوْنَ فِي غَطَفَانَ. فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ، قَالَ: تَوَافَتْ الْخَيْلُ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ- الْمِقْدَادُ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ مَاعِصٍ، وَسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ. حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ثَلَاثَةٌ: الْمِقْدَادُ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ: سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ أَمِيرُهُمْ، وَأَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ فَارِسُ جلوة [ (5) ] ،
وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ. قَالَ أَبُو عَيّاشٍ: أَطْلُعُ عَلَى فَرَسٍ لِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَعْطَيْت فَرَسَك مَنْ هُوَ أَفْرَسُ مِنْك فَتَبِعَ الْخُيُولَ! فَقُلْت: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَفْرَسُ النّاسِ. فَرَكَضْته، فَمَا جَرَى بِي خَمْسِينَ ذِرَاعًا حَتّى صَرَعَنِي الْفَرَسُ. فَكَانَ أَبُو عَيّاشٍ يَقُولُ: فَعَجَبًا! إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ أَعْطَيْت فَرَسَك هَذَا مَنْ هُوَ أَفْرَسُ مِنْك» وَأَقُولُ: «أَنَا أَفْرَسُ النّاسِ» . قَالُوا: وَذَهَبَ الصّرِيخُ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَجَاءَتْ الْأَمْدَادُ، فَلَمْ تَزَلْ الْخَيْلُ تَأْتِي، وَالرّجَالُ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَالْإِبِلِ، وَالْقَوْمُ يَعْتَقِبُونَ الْبَعِيرَ وَالْحِمَارَ، حَتّى انْتَهَوْا إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قَرَدٍ، فَاسْتَنْقَذُوا عَشْرَ لَقَائِحَ، وَأَفْلَتْ الْقَوْمُ بِمَا بَقِيَ وَهِيَ عَشْرٌ. وَكَانَ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ حَلِيفًا فِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَلَمّا نَادَى الصّرِيخُ: «الْفَزَعَ! الْفَزَعَ!» كَانَ فَرَسٌ لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ يُقَالُ لَهُ ذُو اللّمّةِ مَرْبُوطًا فِي الْحَائِطِ، فَلَمّا سَمِعَ صَاهِلَةَ الْخَيْلِ صَهَلَ وَجَالَ فِي الْحَائِطِ فِي شَطَنِهِ، فَقَالَ لَهُ النّسَاءُ: هَلْ لَك يَا مُحْرِزُ فِي هَذَا الْفَرَسِ فَإِنّهُ كَمَا تَرَى صَنِيعٌ [ (1) ] جَامّ تَرْكَبُهُ فَتَلْحَقُ اللّوَاءَ؟ وَهُوَ يَرَى رَايَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مُرّ بِهَا الْعُقَابَ يَحْمِلُهَا سَعْدٌ. قَالُوا: فَخَرَجَ فَجَزِعَ وَقَطَعَ وَادِيَ قَنَاةَ فَسَبَقَ الْمِقْدَادَ، فَيُدْرِكُ الْقَوْمَ بِهَيْقَا [ (2) ] فَاسْتَوْقَفَهُمْ فَوَقَفُوا، فطاعنهم ساعة بالرمح، ويحمل عليه مسعدة
فَطَعَنَهُ بِالرّمْحِ فَدَقّهُ فِي صُلْبِهِ، وَتَنَاوَلَ رُمْحَ مُحْرِزٍ، وَعَارَ [ (1) ] فَرَسُهُ حَتّى رَجَعَ إلَى آرِيّهِ، فَلَمّا رَآهُ النّسَاءُ وَأَهْلُ الدّارِ قَالُوا: قَدْ قُتِلَ. وَيُقَالُ: كَانَ مُحْرِزٌ عَلَى فَرَسٍ كَانَ لِعُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ يُدْعَى الْجَنَاحَ، قَاتَلَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: الّذِي قَتَلَ مُحْرِزَ بْنَ نَضْلَةَ أَوْثَارٌ، وَأَقْبَلَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَيُدْرِكُ أَوْثَارًا، فَتَوَاقَفَا فَتَطَاعَنَا حَتّى انْكَسَرَتْ رِمَاحُهُمَا، ثُمّ صَارَا إلَى السيفين فشدّ عليه عباد ابن بِشْرٍ فَعَانَقَهُ، ثُمّ طَعَنَهُ بِخَنْجَرٍ مَعَهُ فَمَاتَ. وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: كَانَ أَوْثَارٌ وَعَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُمَا يُقَالُ [لَهُ] الْفُرُطُ [ (2) ] رَدِيفَيْنِ عَلَيْهِ، قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. فَحَدّثَنِي زَكَرِيّا بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمّ عَامِرِ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السّكَنِ، قَالَتْ: كُنْت مِمّنْ حَضّ مُحْرِزًا عَلَى اللّحُوقِ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَاَللهِ إنّا لَفِي أُطُمِنَا نَنْظُرُ إلَى رَهَجِ الْغُبَارِ إذْ أَقْبَلَ ذُو اللّمّةِ، فَرَسُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، حَتّى انْتَهَى إلَى آرِيّهِ، فَقُلْت: أُصِيبَ وَاَللهِ! فَحَمَلْنَا عَلَى الْفَرَسِ رَجُلًا مِنْ الْحَيّ فَقُلْنَا: أَطْلِعْ لَنَا رَسُولَ اللهِ هَلْ أَصَابَهُ إلّا خَيْرٌ، ثم ارجع إلَيْنَا سَرِيعًا. قَالَ: فَخَرَجَ مُحْضِرًا [ (3) ] حَتّى لَحِقَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَيْقَا فِي النّاسِ، ثُمّ رَجَعَ فَأَخْبَرَنَا بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدْنَا اللهَ تَعَالَى عَلَى سَلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ، قَالَ مُحْرِزُ بْنُ
نَضْلَةَ: قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِيَ الْقَوْمَ بِيَوْمٍ رَأَيْت السّمَاءَ فُرّجَتْ لِي، فَدَخَلْت السّمَاءَ الدّنْيَا حَتّى انْتَهَيْت إلَى السّابِعَةِ، وَانْتَهَيْت إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَقِيلَ لِي: هَذَا مَنْزِلُك. فَعَرَضْتهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ مِنْ أَعْبَرِ النّاسِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ بِالشّهَادَةِ! فَقُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ. وَحَدّثَنِي يَحْيَى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أُمّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: إنّي لَأَغْسِلُ رَأْسِي، قَدْ غَسَلْت أَحَدَ شِقّيْهِ، إذْ سَمِعْت فَرَسِي جَرْوَةَ تَصْهَلُ وَتَبْحَثُ بِحَافِرِهَا، فَقُلْت: هَذِهِ حَرْبٌ قَدْ حَضَرَتْ! فَقُمْت وَلَمْ أَغْسِلْ شِقّ رَأْسِي الْآخَرَ، فَرَكِبْت وَعَلَيّ بُرْدَةٌ لِي، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِيحُ: الْفَزَعَ! الْفَزَعَ! قَالَ: وَأُدْرِكُ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو فَسَايَرْته سَاعَةً، ثُمّ تَقَدّمَهُ فَرَسِي وَكَانَتْ أَجْوَدَ مِنْ فَرَسِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي الْمِقْدَادُ- وَكَانَ سَبَقَنِي- بِقَتْلِ مَسْعَدَةَ مُحْرِزًا. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ لِلْمِقْدَادِ: يَا أَبَا مَعْبَدٍ، أَنَا أَمَوْتُ أَوْ أَقْتُلُ قَاتِلَ مُحْرِزٍ. فَضَرَبَ فَرَسَهُ فَلَحِقَهُمْ أَبُو قَتَادَةَ، وَوَقَفَ لَهُ مَسْعَدَةُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو قَتَادَةَ بِالْقَنَاةِ فَدَقّ صُلْبَهُ وَيَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْخَزْرَجِيّ! وَوَقَعَ مَسْعَدَةُ مَيّتًا، وَنَزَلَ أَبُو قَتَادَةَ فَسَجّاهُ بِبُرْدَتِهِ، وَجَنّبَ فَرَسَهُ مَعَهُ، وَخَرَجَ يُحْضِرُ فِي أَثَرِ الْقَوْمِ حَتّى تَلَاحَقَ النّاسُ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَلَمّا مَرّ النّاسُ وَنَظَرُوا إلَى بُرْدَةِ أَبِي قَتَادَةَ عَرَفُوهَا فَقَالُوا: هَذَا أَبُو قَتَادَةَ قَتِيلٌ! وَاسْتَرْجَعَ أَحَدُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، وَلَكِنّهُ قَتِيلُ أَبِي قَتَادَةَ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ بُرْدَتَهُ لِتَعْرِفُوا أَنّهُ قَتِيلُهُ. فَخَلّوا بَيْنَ أَبِي قَتَادَةَ وَبَيْنَ قَتِيلِهِ وَسَلَبِهِ وَفَرَسِهِ، فَأَخَذَهُ كُلّهُ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ أَخَذَ سَلَبَهُ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا وَاَللهِ! أَبُو قَتَادَةَ قَتَلَهُ، ادْفَعْهُ إلَيْهِ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: لَمّا أَدْرَكَنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَنَظَرَ إلَيّ قَالَ: اللهُمّ بَارِكْ لَهُ فِي شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ! وَقَالَ: أَفْلَحَ وَجْهُك! قُلْت: وَوَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: قَتَلْت مَسْعَدَةَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا هَذَا الّذِي بِوَجْهِك؟ قُلْت: سَهْمٌ رُمِيت بِهِ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: فَادْنُ مِنّي! فَدَنَوْت مِنْهُ فَبَصَقَ عَلَيْهِ، فَمَا ضَرَبَ [ (1) ] عَلَيْهِ قَطّ. وَلَا قَاحَ. فَمَاتَ أَبُو قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَكَأَنّهُ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ: وَأَعْطَانِي يَوْمَئِذٍ فَرَسَ مَسْعَدَةَ وَسِلَاحَهُ، وَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَك فِيهِ! حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ: لَمّا كَانَ يَوْمُ السّرْحِ أَتَانَا الصّرِيخُ، فَأَنَا فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَأَلْبَسُ دِرْعِي وَأَخَذْت سِلَاحِي، وَأَسْتَوِي عَلَى فَرَسٍ لِي جَامّ حِصَانٍ، يُقَالُ لَهُ النّجْلُ [ (2) ] ، فَأَنْتَهِي إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ لَا أَرَى إلّا عَيْنَيْهِ، وَالْخَيْلُ تَعْدُو قِبَلَ قَنَاةَ، فَالْتَفَتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا سَعْدُ امْضِ، قَدْ اسْتَعْمَلْتُك عَلَى الْخَيْلِ حَتّى أَلْحَقَك إنْ شَاءَ اللهُ. فَقَرّبْت فَرَسِي سَاعَةً ثُمّ خَلّيْته فَمَرّ يُحْضِرُ، فَأَمُرّ بِفَرَسٍ حَسِيرٍ، فَقُلْت: مَا هَذَا؟ وَأَمُرّ بِمَسْعَدَةَ قَتِيلِ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَمُرّ بِمُحْرِزٍ قَتِيلًا فَسَاءَنِي، وَأَلْحَقُ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو، وَمُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ، فَأَحْضَرْنَا وَنَحْنُ نَنْظُرُ إلَى رَهَجِ الْقَوْمِ، وَأَبُو قَتَادَةَ فِي أَثَرِهِمْ، وَأَنْظُرُ إلَى ابْنِ الْأَكْوَعِ يَسْبِقُ الْخَيْلَ أَمَامَ الْقَوْمِ يَرْشُقُهُمْ بِالنّبْلِ، فَوَقَفُوا وَقْفَةً وَنَلْحَقُ بِهِمْ فَتَنَاوَشْنَا سَاعَةً، وَأَحْمِلُ عَلَى حبيب بن عيينة
بِالسّيْفِ فَأَقْطَعُ مَنْكِبَهُ الْأَيْسَرَ، وَخَلّى الْعِنَانَ، وَتَتَايَعَ [ (1) ] فَرَسُهُ، فَيَقَعُ لِوَجْهِهِ، وَاقْتَحَمَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذْت فَرَسَهُ. وَكَانَ شِعَارُنَا: أَمِتْ أَمِتْ! وَقَدْ سَمِعْنَا فِي قَتْلِ حُبَيْبِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَجْهًا آخَرَ. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إنّ الْمُسْلِمِينَ لَمّا تَلَاحَقُوا هُمْ وَالْعَدُوّ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَخَرَجَ أَبُو قَتَادَةَ فِي وَجْهِهِ، فَقَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ مَسْعَدَةَ، وَقُتِلَ أَوْثَارٌ وَعَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ، قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَإِنّ حُبَيْبَ بْنَ عُيَيْنَةَ كان على فرس له، هو وفرقة ابن مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، قَتَلَهُمْ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو. قَالُوا: وَتَلَاحَقَ النّاسُ بِذِي قَرَدٍ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ. فَحَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله ابن أَبِي جَهْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى الْقِبْلَةِ، وَصَفّ طَائِفَةً خَلْفَهُ، وَطَائِفَةً مُوَاجِهَةً الْعَدُوّ، فَصَلّى بِالطّائِفَةِ الّتِي خَلْفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمّ انْصَرَفُوا فَقَامُوا مَقَامَ أَصْحَابِهِمْ، وَأَقْبَلَ الْآخَرُونَ فَصَلّى بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ، وَلِكُلّ رَجُلٍ مِنْ الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةٌ. حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَبِي الرّجَالِ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حَزْمٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ مَعْمَرٍ، قَالَ: أَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قَرَدٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً يَتَحَسّبُ [ (2) ] الْخَبَرَ، وَقَسَمَ فِي كُلّ مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ جَزُورًا يَنْحَرُونَهَا، وَكَانُوا خَمْسَمِائَةٍ، وَيُقَالُ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ. قَالُوا: وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ الله صلّى
الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مَكْتُومٍ. وَأَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ يَحْرُسُونَ الْمَدِينَةَ خَمْسَ لَيَالٍ حَتّى رَجَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحْمَالِ تَمْرٍ وَبِعَشَرَةِ جَزَائِرَ بِذِي قَرَدٍ. وَكَانَ فِي النّاسِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْوَرْدُ، وَكَانَ هُوَ الّذِي قَرّبَ الْجُزُرَ [ (1) ] وَالتّمْرَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: يَا قَيْسُ، بَعَثَك أَبُوك فَارِسًا، وَقَوّى الْمُجَاهِدِينَ، وَحَرَسَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْعَدُوّ، اللهُمّ ارْحَمْ سَعْدًا وَآلَ سَعْدٍ! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الْمَرْءُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ! فَتَكَلّمَتْ الْخَزْرَجُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ بَيْتُنَا [ (2) ] وَسَيّدُنَا وَابْنُ سَيّدِنَا! كَانُوا يُطْعِمُونَ فِي الْمَحْلِ، وَيَحْمِلُونَ الْكَلّ [ (3) ] وَيَقْرُونَ الضّيْفَ، وَيُعْطُونَ فِي النّائِبَةِ، وَيَحْمِلُونَ عَنْ الْعَشِيرَةِ! فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خِيَارُ النّاسِ فِي الْإِسْلَامِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ إذَا فَقُهُوا فِي الدّينِ. وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بِئْرِ هَمّ قَالُوا: يا رسول الله، ألا تسمّ بِئْرَ هَمّ؟ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا وَلَكِنْ يَشْتَرِيهَا بَعْضُكُمْ فَيَتَصَدّقُ بِهَا. فَاشْتَرَاهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَتَصَدّقَ بِهَا. حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَمِيرُ الْفُرْسَانِ الْمِقْدَادَ حَتّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي قَرَدٍ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبِيدِ اللهِ بن رافع بن خديج، عن المسور ابن رِفَاعَةَ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: كان سعيد بن زيد أمير القوم،
وَقَالَ لِحَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ: أَرَأَيْت حَيْثُ جَعَلْت الْمِقْدَادَ رَأْسَ السّرِيّةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنّ رَسُولَ اللهِ اسْتَعْمَلَنِي عَلَى السّرِيّةِ، وَإِنّك لَتَعْلَمُ لَقَدْ نَادَى الصّرِيخُ: الْفَزَعَ! فَكَانَ الْمِقْدَادُ أَوّلَ مَنْ طَلَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امْضِ حَتّى تَلْحَقَك الْخُيُولُ. فَمَضَى أَوّلُ، ثُمّ تَوَافَيْنَا بَعْدُ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَضَى الْمِقْدَادُ أَوّلَنَا، فَاسْتَعْمَلَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم على السّرِيّةِ. فَقَالَ حَسّانٌ: يَا ابْنَ عَمّ، وَاَللهِ مَا أَرَدْت إلّا الْقَافِيَةَ حَيْثُ قُلْت: غَدَاةَ فَوَارِسِ الْمِقْدَادِ ... [ (1) ] فَحَلَفَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ أَلّا يُكَلّمَ حَسّانًا أَبَدًا. وَالثّبْتُ عِنْدَنَا أَنّ أَمِيرَهُمْ سعد بن زيد الأشهلىّ. قالوا: وَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَقْبَلَتْ امْرَأَةُ أَبِي ذَرّ عَلَى ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الْقَصْوَاءِ، وَكَانَتْ فِي السّرْحِ، فَكَانَ فِيهَا جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ، فَكَانَ مِمّا تَخَلّصَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَدَخَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ مِنْ أَخْبَارِ النّاسِ، ثُمّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي نَذَرْت إنْ نَجَانِي اللهُ عَلَيْهَا أَنْ أَنْحَرَهَا فَآكُلَ مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا. فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: بِئْسَ مَا جَزَيْتهَا أَنْ حَمَلَك اللهُ عَلَيْهَا وَنَجّاك ثُمّ تَنْحَرِينَهَا! إنّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكِينَ، إنّمَا هِيَ نَاقَةٌ مِنْ إبِلِي فَارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى بَرَكَةِ اللهِ. حَدّثَنِي فَائِدٌ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلِيّ، عَنْ جَدّتِهِ سَلْمَى، قَالَتْ: نَظَرْت إلَى لَقُوحٍ [ (2) ] عَلَى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهَا السّمْرَاءُ، فَعَرَفْتهَا فَدَخَلْت عَلَى رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت:
ذكر من قتل من المسلمين ومن المشركين
هَذِهِ لِقْحَتُك السّمْرَاءُ عَلَى بَابِك. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَبْشِرًا، وَإِذَا رَأْسُهَا بِيَدِ ابْنِ أَخِي عُيَيْنَةَ، فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَهَا ثُمّ قَالَ: أَيْمَ بِك؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَهْدَيْت لَك هَذِهِ اللّقْحَةَ. فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَضَهَا مِنْهُ، ثُمّ أَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمّ أَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِ أَوَاقٍ مِنْ فِضّةٍ، فَجَعَلَ يَتَسَخّطُ. قَالَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُثِيبُهُ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إبِلِك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيّ! ثُمّ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظّهْرَ، ثُمّ صَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: إنّ الرّجُلَ لَيُهْدِي لِي النّاقَةَ مِنْ إبِلِي أَعْرِفُهَا كَمَا أَعْرِفُ بَعْضَ أَهْلِي، ثُمّ أُثِيبُهُ عَلَيْهَا فَيَظَلّ يَتَسَخّطُ عَلَيّ، وَلَقَدْ هَمَمْت أَلّا أَقْبَلَ هَدِيّةً [إلّا مِنْ قُرَشِيّ أَوْ أَنْصَارِيّ- وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَوْ ثَقَفِيّ أَوْ دَوْسِيّ] [ (1) ] . ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدٌ: مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، قَتَلَهُ مَسْعَدَةُ. وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ: مَسْعَدَةُ بْنُ حَكَمَةَ، قَتَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَأَوْثَارٌ وَابْنُهُ عَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ، قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَحُبَيْبُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَتَلَهُ المقداد. وقال حسّان بن ثابت ...
سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر [ (1) ] فى شهر ربيع الأول سنة ست
سَرِيّةُ عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ إلَى الْغَمْرِ [ (1) ] فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبّهِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ يُحَدّثُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدٍ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُكّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا- مِنْهُمْ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، وَشُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ، وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ. فَخَرَجَ سَرِيعًا يُغِذّ السّيْرَ، وَنَذَرَ الْقَوْمَ فَهَرَبُوا مِنْ مَائِهِمْ فَنَزَلُوا عَلْيَاءَ بِلَادِهِمْ، فَانْتَهَى إلَى الْمَاءِ فَوَجَدَ الدّارَ خُلُوفًا، فَبَعَثَ الطّلَائِعَ يَطْلُبُونَ خَبَرًا أَوْ يَرَوْنَ أَثَرًا حَدِيثًا، فَرَجَعَ إلَيْهِ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ رَأَى أَثَرَ نَعَمٍ قَرِيبًا، فَتَحَمّلُوا فَخَرَجُوا حَتّى يُصِيبُوا رَبِيئَةً لَهُمْ قَدْ نَظَرَ لَيْلَتَهُ يَسْمَعُ الصّوْتَ، فَلَمّا أَصْبَحَ نَامَ فَأَخَذُوهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالُوا: الْخَبَرَ عَنْ النّاسِ! قَالَ: وَأَيْنَ النّاسُ؟ قَدْ لَحِقُوا بِعَلْيَاءِ بِلَادِهِمْ! قَالُوا: فَالنّعَمُ؟ قَالَ: مَعَهُمْ. فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ. قَالَ: تُؤَمّنُنِي عَلَى دَمِي وَأُطْلِعُك عَلَى نَعَمٍ لِبَنِي عَمّ لَهُمْ، لَمْ يَعْلَمُوا بِمَسِيرِكُمْ إلَيْهِمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَانْطَلَقُوا مَعَهُ، فَخَرَجَ حَتّى أَمْعَنَ، وَخَافُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ فِي غَدْرٍ، فَقَرّبُوهُ فَقَالُوا: وَاَللهِ، لَتَصْدُقَنّا أَوْ لَنَضْرِبَنّ عُنُقَك! قَالَ: تَطْلُعُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذَا الظّرَيْبِ [ (2) ] . قَالَ: فَأَوْفَوْا عَلَى الظّرَيْبِ فَإِذَا نَعَمٌ رَوَاتِعُ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِ فَأَصَابُوهُ، وَهَرَبَتْ الْأَعْرَابُ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَنَهَى عُكّاشَةُ عَنْ الطّلَبِ، وَاسْتَاقُوا مِائَتَيْ بَعِيرٍ فَحَدَرُوهَا إلَى الْمَدِينَةِ، وأرسلوا
سرية محمد بن مسلمة إلى ذى القصة إلى بنى ثعلبة وعوال فى ربيع الآخر
الرّجُلَ، وَقَدِمُوا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُصَبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا. سِريّة مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إلَى ذِي الْقَصّةِ إلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ وَعُوَالٍ فِي رَبِيعٍ الْآخِر حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي عَشَرَةٍ، فَوَرَدَ عَلَيْهِمْ لَيْلًا، فَكَمَنَ الْقَوْمُ حَتّى نَامَ وَنَامَ أَصْحَابُهُ، فَأَحْدَقُوا بِهِ وَهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ، فَمَا شَعَرَ الْقَوْمُ إلّا بِالنّبْلِ قَدْ خَالَطَتْهُمْ. فَوَثَبَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَعَلَيْهِ الْقَوْسُ، فَصَاحَ بِأَصْحَابِهِ: السلاح! فوثبوا فَتَرَامَوْا سَاعَةً مِنْ اللّيْلِ، ثُمّ حَمَلَتْ الْأَعْرَابُ بِالرّمَاحِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَةً، ثُمّ انْحَازَ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ إلَيْهِ فَقَتَلُوا مِنْ الْقَوْمِ رَجُلًا، ثُمّ حَمَلَ الْقَوْمُ فَقَتَلُوا مَنْ بَقِيَ. وَوَقَعَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ جَرِيحًا، فَضُرِبَ كَعْبُهُ فَلَا يَتَحَرّكُ، وَجَرّدُوهُمْ مِنْ الثّيَابِ وَانْطَلَقُوا، فَمَرّ رَجُلٌ عَلَى الْقَتْلَى فَاسْتَرْجَعَ، فَلَمّا سَمِعَهُ مُحَمّدٌ تَحَرّكَ لَهُ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، فَعَرَضَ عَلَى مُحَمّدٍ طَعَامًا وَشَرَابًا وَحَمَلَهُ حَتّى وَرَدَ بِهِ الْمَدِينَةَ. فَبَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا إلَى مَصَارِعِهِمْ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَاسْتَاقَ نَعَمًا ثُمّ رَجَعَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَذَكَرْت هَذِهِ السّرية لإبراهيم بن جعفر ابن مَحْمُودِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أبى أنّ محمّد بن مسلم خَرَجَ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ: أَبُو نَائِلَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ عَصْرٍ، وَمُحَيّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحُوَيّصَةُ، وَأَبُو بردة ابن نِيَارٍ، وَرَجُلَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَرَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ، فقتل المزنيّان
سرية أميرها أبو عبيدة إلى ذى القصة
وَالْغَطَفَانِيّ، وَارْتُثّ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ الْقَتْلَى. قَالَ مُحَمّدٌ: فَلَمّا كَانَتْ غَزْوَةُ خَيْبَرَ نَظَرْت إلَى أَحَدِ النّفَرِ الّذِينَ كَانُوا وَلُوا ضَرْبِي يَوْمَ ذِي الْقَصّةِ، فَلَمّا رَآنِي قَالَ: أَسْلَمْت وَجْهِي لِلّهِ! فَقُلْت: أَوْلَى! سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ إلَى ذِي الْقَصّةِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتّ لَيْلَةَ السّبْتِ، وَغَابَ لَيْلَتَيْنِ. حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ الْأَشْجَعِيّ، عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَيْلَةَ، وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِيهِ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَا: أَجْدَبَتْ بِلَادُ بَنِي ثَعْلَبَةَ وَأَنْمَارٍ، وَوَقَعَتْ سَحَابَةٌ بِالْمَرَاضِ إلَى تَغْلَمَيْنِ [ (1) ] ، فَصَارَتْ بَنُو مُحَارِبٍ وَثَعْلَبَةَ وَأَنْمَارٍ إلَى تِلْكَ السّحَابَةِ، وَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا أَنْ يُغِيرُوا عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، وَسَرْحُهُمْ يَوْمَئِذٍ يَرْعَى بِبَطْنِ هَيْقَا، فَبَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بْنَ الْجَرّاحِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ صَلّوْا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ يَمْشُونَ حَتّى وَافَوْا ذِي الْقَصّةِ مَعَ عَمَايَةِ الصّبْحِ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ فَأَعْجَزَهُمْ هَرَبًا فِي الْجِبَالِ، وَأَخَذَ رَجُلًا مِنْهُمْ وَوَجَدَ نَعَمًا مِنْ نَعَمِهِمْ فَاسْتَاقَهُ، وَرِثّةً مِنْ مَتَاعٍ، فَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ، فَأَسْلَمَ الرّجُلُ فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ خَمّسَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَسّمَ مَا بَقِيَ عليهم.
سرية زيد بن حارثة إلى العيص [1] فى جمادى الأولى سنة ست
سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الْعِيصِ [1] فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ الْغَابَةِ بَلَغَهُ أَنّ عِيرًا لِقُرَيْشٍ أَقْبَلَتْ مِنْ الشّامِ، فَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي سَبْعِينَ وَمِائَةِ رَاكِبٍ، فَأَخَذُوهَا وَمَا فِيهَا. وَأَخَذُوا يَوْمَئِذٍ فِضّةً كَثِيرَةً لِصَفْوَانَ [ (2) ] ، وَأَسَرُوا نَاسًا مِمّنْ كَانَ فِي الْعِيرِ مَعَهُمْ، مِنْهُمْ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرّبِيعِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ. فَأَمّا أَبُو الْعَاصِ فَلَمْ يَغْدُ أَنْ جَاءَ الْمَدِينَةَ، ثُمّ دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سَحَرًا، وَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَاسْتَجَارَهَا فَأَجَارَتْهُ. فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ قَامَتْ زَيْنَبُ عَلَى بَابِهَا فَنَادَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا فَقَالَتْ: إنّي قَدْ أَجَرْت أَبَا الْعَاصِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيّهَا النّاسُ، هَلْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْت؟ قَالُوا: نَعَمْ. قال: فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا عَلِمْت بِشَيْءٍ مِمّا كَانَ حتى سمعت الذي سمعتم، المومنون يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَارَتْ. فَلَمّا انْصَرَفَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْزِلِهِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ زَيْنَبُ فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَرُدّ إلَى أَبِي الْعَاصِ مَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ الْمَالِ، فَفَعَلَ وَأَمَرَهَا أَلّا يَقْرَبَهَا، فَإِنّهَا لَا تَحِلّ لَهُ مَا دَامَ مُشْرِكًا. ثُمّ كَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَكَانَتْ مَعَهُ بَضَائِعُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَدّوْا إلَيْهِ كلّ شيء، حتى إنهم ليردّون
الْإِدَاوَةَ [ (1) ] وَالْحَبْلَ، حَتّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ. وَرَجَعَ أَبُو الْعَاصِ إلَى مَكّةَ فَأَدّى إلَى كُلّ ذِي حَقّ حَقّهُ. قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِيَ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا وَاَللهِ. قَالَ: فَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، لَقَدْ أَسْلَمْت بِالْمَدِينَةِ، وَمَا مَنَعَنِي أَنْ أُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ إلّا أَنْ خَشِيت أَنْ تَظُنّوا أَنّي أَسْلَمْت لِأَنْ أَذْهَبَ بِاَلّذِي لَكُمْ. ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدّ عَلَيْهِ زَيْنَبَ بِذَلِكَ النّكَاحِ. وَيُقَالُ إنّ هَذِهِ الْعِيرَ كَانَتْ أَخَذَتْ طَرِيقَ الْعِرَاقِ، وَدَلِيلُهَا فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ الْعِجْلِيّ. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: وَأَمّا الْمُغِيرَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَأَفْلَتْ، فَتَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَكّةَ فأخذ الطريق نفسها، فلقه سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ قَافِلًا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَ الْمُغِيرَةَ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَأَقْبَلَ بِهِ حَتّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَهُمْ مُبْرِدُونَ. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، فَأَخْبَرَنِي ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: احْتَفِظِي بِهَذَا الْأَسِيرِ! وَخَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَهَوْت مَعَ امْرَأَةٍ أَتَحَدّثُ مَعَهَا، فَخَرَجَ وَمَا شَعَرْت بِهِ، فَدَخَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ فَقَالَ: أَيْنَ الْأَسِيرُ؟ فَقُلْت: وَاَللهِ مَا أَدْرِي، غَفَلْت عَنْهُ، وَكَانَ هَاهُنَا آنِفًا. فَقَالَ: قَطَعَ اللهُ يَدَك! قَالَتْ: ثُمّ خَرَجَ فَصَاحَ بِالنّاسِ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَأَخَذُوهُ بِالصّوْرَيْنِ، فَأُتِيَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدَخَلَ عَلَيّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُقَلّبُ بِيَدِي، فَقَالَ: مَا لَكِ؟ فَقُلْت: أَنْظُرُ كَيْفَ تُقْطَعُ يَدِي، قَدْ دَعَوْت عَلَيّ بِدَعْوَتِكُمْ! قَالَتْ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثُمّ قَالَ: اللهُمّ إنّمَا أنا بشر، أغضب وآسف
سرية زيد بن حارثة إلى الطرف [ (1) ] فى جمادى الآخرة سنة ست
كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ. فَأَيّمَا مُؤْمِنٍ أَوْ مُؤْمِنَةٍ دَعَوْت عَلَيْهِ بِدَعْوَةٍ فَاجْعَلْهَا لَهُ رَحْمَةً. سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الطّرَفِ [ (1) ] فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِي أَسَامّةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مَنّاحٍ، قَالَ: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بْنَ حَارِثَةَ إلَى الطّرَفِ إلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ، فَخَرَجَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، حَتّى إذَا كَانُوا بِالطّرَفِ أَصَابَ نَعَمًا وَشَاءً. وَهَرَبَتْ الْأَعْرَابُ وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَارَ إلَيْهِمْ، فَانْحَدَرَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتّى صَبّحَ الْمَدِينَةَ بِالنّعَمِ، وَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ حَتّى أَعْجَزَهُمْ، فَقَدِمَ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا. وَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ فِيهَا، وَإِنّمَا غَابَ أَرْبَعَ لَيَالٍ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي رُشْدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَنْ حَضَرَ السّرِيّةَ، قَالَ: أَصَابَهُمْ بَعِيرَانِ أَوْ حِسَابُهُمَا مِنْ الْغَنَمِ، فَكَانَ كُلّ بَعِيرٍ عَشْرًا مِنْ الْغَنَمِ، وَكَانَ شِعَارُنَا: أمِت! أمِت! سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى حِسْمَى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقْبَلَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ، قَدْ أَجَازَ دِحْيَةَ بِمَالٍ وَكَسَاهُ كُسًى. فَأَقْبَلَ حَتّى كَانَ بِحِسْمَى، فَلَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ جُذَامٍ فَقَطَعُوا عَلَيْهِ الطّرِيقَ، وَأَصَابُوا كلّ شيء
مَعَهُ فَلَمْ يَصِلْ إلَى الْمَدِينَةِ إلّا بِسَمَلٍ [ (1) ] ، فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَقّهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ. قَالَ: اُدْخُلْ. فَدَخَلَ فَاسْتَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمّا كَانَ مِنْ هِرَقْلَ حَتّى أَتَى عَلَى آخِرِ ذَلِكَ، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْبَلْت مِنْ عِنْدِهِ حَتّى كُنْت بِحِسْمَى فَأَغَارَ عَلَيّ قَوْمٌ مِنْ جُذَامٍ، فَمَا تَرَكُوا مَعِي شَيْئًا حَتّى أَقْبَلْت بِسَمَلِي [ (2) ] ، هَذَا الثّوْبَ. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ قَالَ: سَمِعْت شَيْخًا مِنْ سَعْدِ هُذَيْمٍ كَانَ قَدِيمًا يُخْبِرُ عَنْ أَبِيهِ يَقُولُ: إنّ دِحْيَةَ لَمّا أُصِيبَ- أَصَابَهُ [ (3) ] الْهُنَيْدُ بْنُ عَارِضٍ وَابْنُهُ عَارِضُ بْنُ الْهُنَيْدِ، وكانا والله نكدين مشؤومين، فَلَمْ يُبْقُوا مَعَهُ شَيْئًا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي الضّبَيْبِ فَنَفَرُوا إلَى الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ. فَكَانَ فِيمَنْ نَفَرَ مِنْهُمْ النّعْمَانُ بْنُ أَبِي جُعَالٍ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ، وَكَانَ نُعْمَانُ رَجُلَ الْوَادِي ذَا الْجَلَدِ وَالرّمَايَةِ [ (4) ] . فَارْتَمَى النّعْمَانُ وَقُرّةُ بْنُ أَبِي أَصْفَرَ الصّلعِيّ، فَرَمَاهُ قُرّةُ فَأَصَابَ كَعْبَهُ فَأَقْعَدَهُ إلَى الْأَرْضِ. ثُمّ انْتَهَضَ النّعْمَانُ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ عَرِيضِ السّرْوَةِ [ (5) ] ، فَقَالَ: خُذْهَا مِنْ الْفَتَى! فَخَلّ السّهْمُ فِي رُكْبَتِهِ فَشَنّجَهُ وَقَعَدَ، فَخَلّصُوا لِدِحْيَةَ مَتَاعَهُ فَرَجَعَ بِهِ سَالِمًا إلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ مُوسَى، فَسَمِعْت شَيْخًا آخَرَ يَقُولُ: إنّمَا خَلّصَ مَتَاعَ دِحْيَةَ رَجُلٌ كَانَ صَحِبَهُ مِنْ قُضَاعَةَ، هُوَ الّذِي كَانَ اسْتَنْقَذَ لَهُ كلّ شيء أخذ منه
رَدّهُ عَلَى دِحْيَةَ. ثُمّ إنّ دِحْيَةَ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه سلّم فَاسْتَسْعَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَ الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ، فَأَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَسِيرِ، فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَعَهُ. وَقَدْ كَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيّ قَدِمَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافِدًا، فَأَجَازَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمّ سَأَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ مَعَهُ كِتَابًا، فَكَتَبَ مَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ إلَى قَوْمِهِ عَامّةً وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ فَهُوَ مِنْ حِزْبِ اللهِ وَحِزْبِ رَسُولِهِ، وَمَنْ ارْتَدّ فَلَهُ أَمَانُ شَهْرَيْنِ. فَلَمّا قَدِمَ رِفَاعَةُ عَلَى قَوْمِهِ بِكِتَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ فَأَجَابُوهُ وَأَسْرَعُوا، وَنَفَذُوا إلَى مُصَابِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيّ [ (1) ] فَوَجَدُوا أَصْحَابَهُ قَدْ تَفَرّقُوا. وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ خِلَافَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ، وَرَدّ مَعَهُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيّ. وَكَانَ زَيْدٌ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ، وَمَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ. وَقَدْ اجْتَمَعَتْ غَطَفَانُ كُلّهَا وَوَائِلٌ وَمَنْ كَانَ مِنْ سَلَامَات وَبَهْرَاءَ حِينَ جَاءَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ بِكِتَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتّى نَزَلُوا- الرّجَالُ وَرِفَاعَةُ- بِكُرَاعِ [ (2) ] رُؤَيّةَ لَمْ يُعْلَمْ. وَأَقْبَلَ الدّلِيلُ الْعُذْرِيّ بِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ حَتّى هَجَمَ بِهِمْ، فَأَغَارُوا مَعَ الصّبْحِ عَلَى الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ وَمَنْ كَانَ فِي مَحَلّتِهِمْ، فَأَصَابُوا مَا وَجَدُوا، وَقَتَلُوا
فِيهِمْ فَأَوْجَعُوا [ (1) ] ، وَقَتَلُوا الْهُنَيْدَ وَابْنَهُ، وَأَغَارُوا عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَأَخَذُوا مِنْ النّعَمِ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَمِنْ الشّاءِ خَمْسَةَ آلَافِ شَاةٍ، وَمِنْ السّبْيِ مِائَةً مِنْ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ. وَكَانَ الدّلِيلُ إنّمَا جَاءَ بِهِمْ مِنْ قِبَلِ الْأَوْلَاجِ [ (2) ] ، فَلَمّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ الضّبَيْبُ بِمَا صَنَعَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ رَكِبُوا، فَكَانَ فِيمَنْ رَكِبَ حِبّانُ بْنُ مِلّةَ [ (3) ] ، وَابْنُهُ، فَدَنَوْا مِنْ الْجَيْشِ وَتَوَاصَوْا لَا يَتَكَلّمُ أَحَدٌ إلّا حِبّانُ بْنُ مِلّةَ [ (3) ] ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَلَامَةٌ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ قَالَ «قَوَدِي!» فَلَمّا طَلَعُوا عَلَى الْعَسْكَرِ طَلَعُوا عَلَى الدّهْمِ مِنْ السّبْيِ وَالنّعَمِ، وَالنّسَاءِ وَالْأُسَارَى أَقْبَلُوا جَمِيعًا، وَاَلّذِي يَتَكَلّمُ حِبّانُ بْنُ مِلّةَ يَقُولُ: إنّا قَوْمٌ مُسْلِمُونَ. وَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ، عَارِضٌ رُمْحَهُ، فَأَقْبَلَ يَسُوقُهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: قَوَدِي! فَقَالَ حِبّانُ: مَهْلًا! فَلَمّا وَقَفُوا عَلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ لَهُ حِبّانُ: إنّا قَوْمٌ مُسْلِمُونَ. قَالَ لَهُ زَيْدٌ: اقْرَأْ أُمّ الْكِتَابِ! وَكَانَ زَيْدٌ إنّمَا يَمْتَحِنُ أَحَدَهُمْ بِأُمّ الْكِتَابِ لَا يَزِيدُهُ. فَقَرَأَ حِبّانُ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: نَادُوا فِي الْجَيْشِ «إنّهُ قَدْ حَرُمَ عَلَيْنَا مَا أَخَذْنَاهُ مِنْهُمْ بِقِرَاءَةِ أُمّ الْكِتَابِ» . فَرَجَعَ الْقَوْمُ وَنَهَاهُمْ زَيْدٌ أَنْ يَهْبِطُوا وَادِيَهُمْ الّذِي جَاءُوا مِنْهُ، فَأَمْسَوْا فِي أَهْلِيهِمْ، وَهُمْ فِي رَصَدٍ لِزَيْدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَاسْتَمَعُوا حَتّى نَامَ أَصْحَابُ زَيْدِ بن حارثة، فلمّا هدأوا وَنَامُوا رَكِبُوا إلَى رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ- وَكَانَ فِي الرّكْبِ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ أَبُو زَيْدِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو أَسَمَاءَ بْنُ عَمْرٍو، وَسُوَيْدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَخُوهُ، وَبَرْذَعُ بْنُ زَيْدٍ، وَثَعْلَبَةُ بن عدىّ- حتى
صَبّحُوا رِفَاعَةَ بِكُرَاعِ رُؤَيّةَ، بِحَرّةِ لَيْلَى [ (1) ] ، فَقَالَ حِبّانُ [ (2) ] : إنّك لَجَالِسٌ تَحْلُبُ الْمِعْزَى [وَنِسَاءُ جُذَامٍ أُسَارَى] [ (3) ] . فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَدَخَلَ مَعَهُمْ حَتّى قَدِمُوا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ- سَارُوا ثَلَاثًا- فَابْتَدَاهُمْ رِفَاعَةُ فَدَفَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَهُ الّذِي كَتَبَ مَعَهُ، فَلَمّا قَرَأَ كِتَابَهُ اسْتَخْبَرَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا صَنَعَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْقَتْلَى؟ فَقَالَ رِفَاعَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ أَعْلَمُ، لَا تُحَرّمُ عَلَيْنَا حَلَالًا وَلَا تُحِلّ لَنَا حَرَامًا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ [ (4) ] : أَطْلِقْ لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ كَانَ حَيّا، وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ أَبُو زَيْدٍ! قَالَ الْقَوْمُ: فَابْعَثْ مَعَنَا يَا رَسُولَ اللهِ رَجُلًا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، يُخَلّي بَيْنَنَا وَبَيْنَ حَرَمِنَا وَأَمْوَالِنَا. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْطَلِقْ مَعَهُمْ يَا عَلِيّ! فَقَالَ عَلِيّ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا يُطِيعُنِي زَيْدٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا سَيْفِي فَخُذْهُ. فَأَخَذَهُ فَقَالَ: لَيْسَ مَعِي بَعِيرٌ أَرْكَبُهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هَذَا بَعِيرٌ! فَرَكِبَ بَعِيرَ أَحَدِهِمْ وَخَرَجَ مَعَهُمْ حَتّى لَقُوا رافع ابن مَكِيثٍ بَشِيرَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إبِلِ الْقَوْمِ، فَرَدّهَا عَلِيّ عَلَى الْقَوْمِ. وَرَجَعَ رَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ رَدِيفًا حَتّى لَقُوا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بِالْفَحْلَتَيْنِ [ (5) ] ، فَلَقِيَهُ عَلِيّ وَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ يَأْمُرُك أَنْ تَرُدّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَا كَانَ بِيَدِك مِنْ أَسِيرٍ أَوْ سَبْيٍ أَوْ مَالٍ. فَقَالَ زَيْدٌ: عَلَامَةً مِنْ رَسُولِ اللهِ! فَقَالَ عَلِيّ: هَذَا سَيْفُهُ! فَعَرَفَ زَيْدٌ السّيْفَ فنزل فصاح
سرية أميرها عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل فى شعبان سنة ست
بِالنّاسِ فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ: مَنْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ سَبْيٍ أَوْ مَالٍ فَلْيَرُدّهُ، فَهَذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ. فَرَدّ إلَى النّاسِ كُلّ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ، حَتّى إنْ كَانُوا لَيَأْخُذُونَ الْمَرْأَةَ مِنْ تَحْتِ فَخِذِ الرّجُلِ. حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زيد بن أسلم، عن بسر بْنِ مِحْجَنٍ الدّيلِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت فِي تِلْكَ السّرِيّةِ، فَصَارَ لِكُلّ رَجُلٍ سَبْعَةُ أَبْعِرَةٍ وَسَبْعُونَ شَاةً، وَيَصِيرُ لَهُ مِنْ السّبْيِ الْمَرْأَةُ وَالْمَرْأَتَانِ، فَوَطِئُوا بِالْمِلْكِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، حَتّى رَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ كُلّهُ إلَى أَهْلِهِ، وَكَانَ قَدْ فَرّقَ وَبَاعَ مِنْهُ . سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنُ قَمّادِينَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَقَالَ: وَتَجَهّزْ فَإِنّي بَاعِثُك فِي سَرِيّةٍ مِنْ يَوْمِك هَذَا، أَوْ مِنْ غَدٍ إنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَمِعْت ذَلِكَ فَقُلْت: لَأَدْخُلَنّ فلأصلّينّ مع النبىّ العداة، فَلَأَسْمَعَنّ وَصِيّتَهُ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ: فَغَدَوْت فَصَلّيْت فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَنَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فِيهِمْ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ مِنْ اللّيْلِ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فَيَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرّحْمَنِ: مَا خَلّفَك عَنْ أَصْحَابِك؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَدْ مَضَى أَصْحَابُهُ فِي السّحَرِ، فَهُمْ مُعَسْكِرُونَ بِالْجُرْفِ وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ: أَحْبَبْت يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِي بِك، وَعَلَيّ ثِيَابُ سَفَرِي. قَالَ: وَعَلَى عَبْدِ الرحمن ابن عَوْفٍ عِمَامَةٌ قَدْ لَفّهَا عَلَى رَأْسِهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَدَعَاهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَنَقَضَ عِمَامَتَهُ بِيَدِهِ، ثُمّ عَمّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ،
فَأَرْخَى بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِنْهَا، ثُمّ قَالَ: هَكَذَا فَاعْتَمّ يَا ابْنَ عَوْفٍ! قَالَ: وَعَلَى ابْنِ عَوْفٍ السّيْفُ مُتَوَشّحَهُ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُغْزُ بِاسْمِ اللهِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ فَقَاتِلْ مَنْ كَفَرَ بِاَللهِ، لَا تَغُلّ وَلَا تَغْدِرْ وَلَا تَقْتُلْ وَلِيدًا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ثُمّ بَسَطَ يَدَهُ، فَقَالَ: يَا أَيّهَا النّاسُ، اتّقُوا خَمْسًا قَبْلَ أَنْ يَحِلّ بِكُمْ، مَا نُقِضَ مِكْيَالُ قَوْمٍ إلّا أَخَذَهُمْ اللهُ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَمَا نَكَثَ قَوْمٌ عَهْدَهُمْ إلّا سَلّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوّهُمْ، وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ الزّكَاةَ إلّا أَمْسَكَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَطْرَ السّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُسْقَوْا، وَمَا ظَهَرَتْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إلّا سَلّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ الطّاعُونَ، وَمَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ آيِ الْقُرْآنِ إلّا أَلْبَسَهُمْ اللهُ شِيَعًا، وَأَذَاقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. قَالَ: فَخَرَجَ عَبْدُ الرّحْمَنِ حَتّى لَحِقَ أَصْحَابَهُ فَسَارَ حَتّى قَدِمَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ، فَلَمّا حَلّ بِهَا دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَمَكَثَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ كَانُوا أَبَوْا أَوّلَ مَا قَدِمَ يُعْطُونَهُ إلّا السّيْفَ، فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الثّالِثُ أَسْلَمَ الْأَصْبَغُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيّ، وَكَانَ نَصْرَانِيّا وَكَانَ رَأْسَهُمْ. فَكَتَبَ عَبْدُ الرّحْمَنِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَال [لَهُ] رَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ، وَكَتَبَ يُخْبِرُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوّجَ فِيهِمْ، فَكَتَبَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوّجَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ تُمَاضِرَ. فَتَزَوّجَهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ وَبَنَى بِهَا، ثُمّ أَقْبَلَ بِهَا، وَهِيَ أُمّ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جعفر، عن ابن أبى عون، عَنْ صَالِحِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ إلَى كَلْبٍ، وَقَالَ: إنْ اسْتَجَابُوا لَك فَتَزَوّجْ ابْنَةَ مَلِكِهِمْ أَوْ ابْنَةَ سَيّدِهِمْ. فَلَمّا قدم دعاهم
سرية على بن أبى طالب عليه السلام إلى بنى سعد، بفدك [ (1) ] فى شعبان سنة ست
إلَى الْإِسْلَامِ فَاسْتَجَابُوا وَأَقَامَ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. وَتَزَوّجَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ بْنِ عَمْرٍو مَلِكِهِمْ، ثُمّ قَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ، وَهِيَ أُمّ أَبِي سَلَمَةَ. سَرِيّةُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى بَنِي سَعْدٍ، بِفَدَكٍ [ (1) ] فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِي عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عُتْبَةَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ فِي مِائَةِ رَجُلٍ إلَى حَيّ سَعْدٍ، بِفَدَكٍ، وَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا يُرِيدُونَ أَنْ يَمُدّوا يَهُودَ خَيْبَرَ، فَسَارَ اللّيْلَ وَكَمَنَ النّهَارَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْهَمَجِ [ (2) ] ، فَأَصَابَ عَيْنًا فَقَالَ: مَا أَنْتَ؟ هَلْ لَك عِلْمٌ بِمَا وَرَاءَك مِنْ جَمْعِ بَنِي سَعْدٍ؟ قَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ. فَشَدّوا عَلَيْهِ فَأَقَرّ أَنّهُ عَيْنٌ لَهُمْ بَعَثُوهُ إلَى خَيْبَرَ، يَعْرِضُ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَصْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ مِنْ تَمْرِهِمْ كَمَا جَعَلُوا لِغَيْرِهِمْ وَيَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: فَأَيْنَ الْقَوْمُ؟ قَالَ: تَرَكْتهمْ وَقَدْ تَجَمّعَ مِنْهُمْ مِائَتَا رَجُلٍ، وَرَاسُهُمْ وبر ابن عُلَيْمٍ. قَالُوا: فَسِرْ بِنَا حَتّى تَدُلّنَا. قَالَ: عَلَى أَنْ تُؤَمّنُونِي! قَالُوا: إنْ دَلَلْتنَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَرْحِهِمْ أَمّنّاك، وَإِلّا فَلَا أَمَانَ لَك. قَالَ: فَذَاكَ! فَخَرَجَ بِهِمْ دَلِيلًا لَهُمْ حَتّى سَاءَ ظَنّهُمْ بِهِ، وَأَوْفَى بِهِمْ عَلَى فَدَافِدَ وَآكَامٍ، ثُمّ أَفْضَى بِهِمْ إلَى سُهُولَةٍ فَإِذَا نعم كثير وشاء، فقال: هذا نعمهم وشاءهم. فَأَغَارُوا عَلَيْهِ فَضَمّوا النّعَمَ وَالشّاءَ. قَالَ: أَرْسِلُونِي! قَالُوا: لَا حَتّى نَأْمَنَ الطّلَبَ! وَنَذَرَ بِهِمْ الرّاعِيَ رِعَاءَ الْغَنَمِ وَالشّاءِ، فَهَرَبُوا إلَى جَمْعِهِمْ فحذّروهم،
فَتَفَرّقُوا وَهَرَبُوا، فَقَالَ الدّلِيلُ: عَلَامَ تَحْبِسُنِي؟ قَدْ تَفَرّقَتْ الْأَعْرَابُ وَأَنْذَرَهُمْ الرّعَاءُ. قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَمْ نَبْلُغْ مُعَسْكَرَهُمْ. فَانْتَهَى بِهِمْ إلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، فَأَرْسَلُوهُ وَسَاقُوا النّعَمَ وَالشّاءَ، النّعَمُ خَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَلْفَا شَاةٍ. حَدّثَنِي أُبَيْرُ بن العلاء، عن عيسى بن عميلة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: إنّي لَبِوَادِي الْهَمَجِ إلَى بَدِيعٍ [ (1) ] ، مَا شَعَرْت إلّا بِبَنِي سَعْدٍ يَحْمِلُونَ الظّعُنَ وَهُمْ هَارِبُونَ، فَقُلْت: مَا دَهَاهُمْ الْيَوْمَ؟ فَدَنَوْت إلَيْهِمْ فَلَقِيت رَأْسَهُمْ وَبَرَ بْنَ عُلَيْمٍ، فَقُلْت: مَا هَذَا الْمَسِيرُ؟ قَالَ: الشّرّ، سَارَتْ إلَيْنَا جُمُوعُ مُحَمّدٍ وَمَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، قَبْلَ أَنْ نَأْخُذَ لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا، وَقَدْ أَخَذُوا رَسُولًا لَنَا بَعَثْنَاهُ إلَى خَيْبَرَ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَنَا وَهُوَ صَنَعَ بِنَا مَا صَنَعَ. قُلْت: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: ابْنُ أَخِي، وَمَا كُنّا نَعُدّ فِي الْعَرَبِ فَتًى وَاحِدًا أجمع قلبا مِنْهُ. فَقُلْت: إنّي أَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا قَدْ أَمِنَ وَغَلُظَ، أَوْقَعَ بِقُرَيْشٍ فَصَنَعَ بِهِمْ مَا صَنَعَ، ثُمّ أَوْقَعَ بِأَهْلِ الْحُصُونِ بِيَثْرِبَ، قَيْنُقَاعَ وَبَنِي النّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، وَهُوَ سَائِرٌ إلَى هَؤُلَاءِ بِخَيْبَرَ. فَقَالَ لِي وَبَرٌ: لَا تَخْشَ ذَلِكَ! إنّ بِهَا رِجَالًا، وَحُصُونًا مَنِيعَةً، وَمَاءً وَاتِنًا [ (2) ] ، لَا دَنَا مِنْهُمْ مُحَمّدٌ أَبَدًا، وَمَا أحراهم أن يغزوه فى عقر داره. فقلت: وَتَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ: هُوَ الرّأْيُ لَهُمْ. فَمَكَثَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ ثَلَاثًا ثُمّ قَسّمَ الْغَنَائِمَ وَعَزَلَ الْخُمُسَ وَصَفِيّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لقوحا تدعى الحفدة قدم بها.
سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة فى رمضان سنة ست
سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى أُمّ قِرْفَةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن الحسن بن الحسن بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي تِجَارَةٍ إلَى الشّامِ، وَمَعَهُ بَضَائِعُ لِأَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ خُصْيَتَيْ تَيْسٍ فَدَبَغَهُمَا ثُمّ جَعَلَ بَضَائِعَهُمْ فِيهِمَا، ثُمّ خَرَجَ حَتّى إذَا كَانَ دُونَ وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، لَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مِنْ بَنِي بَدْرٍ، فَضَرَبُوهُ وَضَرَبُوا أَصْحَابَهُ حَتّى ظَنّوا أَنْ قَدْ قُتِلُوا، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ، ثُمّ اسْتُبِلّ [ (1) ] زَيْدٌ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَهُ فِي سَرِيّةٍ فَقَالَ لَهُمْ: اُكْمُنُوا النّهَارَ وَسِيرُوا اللّيْلَ. فَخَرَجَ بِهِمْ دَلِيلٌ لَهُمْ، وَنَذَرَتْ بِهِمْ بَنُو بَدْرٍ فَكَانُوا يَجْعَلُونَ نَاطُورًا [ (2) ] لَهُمْ حِينَ يُصْبِحُونَ فَيَنْظُرُ عَلَى جَبَلٍ لَهُمْ مُشْرِفٍ وَجْهَ الطّرِيقِ الّذِي يَرَوْنَ أَنّهُمْ يَأْتُونَ مِنْهُ، فَيَنْظُرُ قَدْرَ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَيَقُولُ: اسْرَحُوا فَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ لَيْلَتَكُمْ! فَلَمّا كَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى نَحْوِ مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ أَخْطَأَ بِهِمْ دَلِيلُهُمْ الطّرِيقَ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقًا أُخْرَى حَتّى أَمْسَوْا وَهُمْ عَلَى خَطَأٍ، فَعَرَفُوا خَطَأَهُمْ، ثُمّ صَمَدُوا [ (3) ] لَهُمْ فِي اللّيْلِ حَتّى صَبّحُوهُمْ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ نَهَاهُمْ حَيْثُ انْتَهَوْا عَنْ الطّلَبِ. قَالَ: ثم وعز إليهم ألّا يفترقوا. وقال.
ذكر من قتل أم قرفة
إذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا. وَأَحَاطُوا بِالْحَاضِرِ ثُمّ كَبّرَ وَكَبّرُوا، فَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ [ (1) ] الْأَكْوَعِ فَطَلَبَ رَجُلًا مِنْهُمْ حَتّى قَتَلَهُ، وَقَدْ أَمْعَنَ فِي طَلَبِهِ، وَأَخَذَ جَارِيَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ وَجَدَهَا فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ، وَأُمّهَا أُمّ قِرْفَةَ، وَأُمّ قِرْفَةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدٍ. فَغَنِمُوا، وَأَقْبَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَقْبَلَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ بِالْجَارِيَةِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ جَمَالَهَا، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ، مَا جَارِيَةٌ أَصَبْتهَا؟ قَالَ: جَارِيَةٌ يَا رَسُولَ اللهِ رَجَوْت أَنْ أَفْتَدِيَ بِهَا امْرَأَةً مِنّا مِنْ بَنِي فَزَارَةَ. فَأَعَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا يَسْأَلُهُ: مَا جَارِيَةٌ أَصَبْتهَا؟ حَتّى عَرَفَ سَلَمَةُ أَنّهُ يُرِيدُهَا فَوَهَبَهَا لَهُ، فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ امْرَأَةً لَيْسَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ غَيْرُهَا. فَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، فَأَتَى زَيْدٌ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرّ ثَوْبَهُ عُرْيَانًا، مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهَا، حَتّى اعْتَنَقَهُ وَقَبّلَهُ، ثُمّ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا ظَفّرَهُ اللهُ. ذِكْرُ مَنْ قَتَلَ أُمّ قِرْفَةَ قَتَلَهَا قَيْسُ بْنُ الْمُحَسّرِ قَتْلًا عَنِيفًا، رَبَطَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا حَبْلًا ثُمّ رَبَطَهَا بَيْنَ بَعِيرَيْنِ، وَهِيَ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ. وَقَتَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعَدَةَ، وَقَتَلَ قَيْسَ بْنَ النّعْمَانِ بْنِ مَسْعَدَةَ بْنِ حَكَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ بدر.
سرية أميرها عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم فى شوال سنة ست
سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ إلَى أسير بن زارم في شوال سنة ست قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، قَالَ: سَمِعْت عُرْوَةَ بْنَ الزّبَيْرِ قَالَ: غَزَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ خَيْبَرَ مَرّتَيْنِ، بَعَثَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعْثَةَ الْأُولَى إلَى خَيْبَرَ فِي رَمَضَانَ فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَنْظُرُ إلَى خَيْبَرَ، وَحَالِ أَهْلِهَا وَمَا يُرِيدُونَ وَمَا يَتَكَلّمُونَ بِهِ، فَأَقْبَلَ حَتّى أَتَى نَاحِيَةَ خَيْبَرَ فَجَعَلَ يَدْخُلُ الْحَوَائِطَ، وَفَرّقَ أَصْحَابَهُ فِي النّطَاةِ، وَالشّقّ، وَالْكَتِيبَةِ [ (1) ] ، وَوَعَوْا مَا سَمِعُوا مِنْ أُسَيْرٍ وَغَيْرِهِ. ثُمّ خَرَجُوا بَعْدَ إقَامَةِ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ، فَرَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَبّرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلّ مَا رَأَى وَسَمِعَ، ثُمّ خَرَجَ إلَى أُسَيْرٍ فِي شَوّالٍ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: كَانَ أُسَيْرٌ رَجُلًا شُجَاعًا، فَلَمّا قُتِلَ أَبُو رَافِعٍ أَمّرَتْ الْيَهُودُ أُسَيْرَ بْنَ زَارِمَ، فَقَامَ فِي الْيَهُودِ فَقَالَ: إنّهُ وَاَللهِ مَا سَارَ مُحَمّدٌ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْيَهُودِ إلّا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَصَابَ مِنْهُمْ مَا أَرَادَ، وَلَكِنّي أَصْنَعُ مَا لَا يَصْنَعُ أَصْحَابِي. فَقَالُوا: وَمَا عَسَيْت أَنْ تَصْنَعَ مَا لَمْ يَصْنَعْ أَصْحَابُك؟ قَالَ: أَسِيرُ فِي غَطَفَانَ فَأَجْمَعُهُمْ. فَسَارَ فِي غَطَفَانَ فَجَمَعَهَا، ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، نَسِيرُ إلَى مُحَمّدٍ فِي عُقْرِ دَارِهِ، فَإِنّهُ لَمْ يُغْزَ أَحَدٌ فِي دَارِهِ إلّا أَدْرَكَ مِنْهُ عَدُوّهُ بَعْضَ مَا يُرِيدُ. قَالُوا: نِعْمَ مَا رَأَيْت. فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَقَدِمَ عَلَيْهِ خَارِجَةُ بْنُ حُسَيْلٍ الْأَشْجَعِيّ، فَاسْتَخْبَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وراءه فقال: تركت
أُسَيْرَ بْنَ زَارِمَ يَسِيرُ إلَيْك فِي كَتَائِبِ الْيَهُودِ. قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ، فَانْتُدِبَ لَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: فَكُنْت فِيهِمْ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ. قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا خَيْبَرَ فَأَرْسَلْنَا إلَى أُسَيْرٍ: إنّا آمِنُونَ حَتّى نَأْتِيَك فَنَعْرِضَ عَلَيْك مَا جِئْنَا لَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَلِي مِثْلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا: إنّ رَسُولَ اللهِ بَعَثَنَا إلَيْك أَنْ تَخْرُجَ إلَيْهِ فَيَسْتَعْمِلَك عَلَى خَيْبَرَ وَيُحْسِنَ إلَيْك. فَطَمِعَ فِي ذَلِكَ، وَشَاوَرَ الْيَهُودَ فَخَالَفُوهُ فِي الْخُرُوجِ وَقَالُوا: مَا كَانَ مُحَمّدٌ يَسْتَعْمِلُ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ. فَقَالَ: بَلَى، قَدْ مَلِلْنَا الْحَرْبَ. قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ مَعَ كُلّ رَجُلٍ رَدِيفٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَسِرْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِقَرْقَرَةِ ثِبَارٍ [ (1) ] نَدِمَ أُسَيْرٌ حَتّى عَرَفْنَا النّدَامَةَ فيه. قال عبد الله ابن أُنَيْسٍ: وَأَهْوَى بِيَدِهِ إلَى سَيْفِي فَفَطِنْت لَهُ. قَالَ: فَدَفَعْت بَعِيرِي فَقُلْت: غَدْرًا أَيْ عَدُوّ اللهِ! ثُمّ تَنَاوَمْت فَدَنَوْت مِنْهُ لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَتَنَاوَلَ سَيْفِي، فَغَمَزْت بَعِيرِي وَقُلْت: هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَنْزِلُ فَيَسُوقُ بِنَا؟ فَلَمْ يَنْزِلْ أَحَدٌ، فَنَزَلْت عَنْ بَعِيرِي فَسُقْت بِالْقَوْمِ حَتّى انْفَرَدَ أُسَيْرٌ، فَضَرَبْته بِالسّيْفِ فَقَطَعْت مُؤَخّرَةَ الرّجْلِ وَأَنْدَرْت [ (2) ] عَامّةَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَسَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ وَفِي يَدِهِ مِخْرَشٌ مِنْ [ (3) ] شَوْحَطٍ، فَضَرَبَنِي فَشَجّنِي مأمومة [ (4) ] ، وملنا على
سرية أميرها كرز بن جابر
أَصْحَابِهِ فَقَتَلْنَاهُمْ كُلّهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَعْجَزَنَا شَدّا، وَلَمْ يُصَبْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ، ثُمّ أَقْبَلْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدّثُ أَصْحَابَهُ إذْ قَالَ لَهُمْ: تَمَشّوْا بِنَا إلَى الثّنِيّةِ نَتَحَسّبُ مِنْ أَصْحَابِنَا خَبَرًا. فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَلَمّا أَشْرَفُوا عَلَى الثّنِيّةِ فَإِذَا هُمْ بِسَرَعَانِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ. قَالَ: وَانْتَهَيْنَا إلَيْهِ فَحَدّثْنَاهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: نَجّاكُمْ اللهُ مِنْ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ! قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: فَدَنَوْت إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَثَ فِي شَجّتِي، فَلَمْ تَقِحْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَمْ تُؤْذِنِي، وَقَدْ كَانَ الْعَظْمُ فُلّ، وَمَسَحَ عَلَى وَجْهِي وَدَعَا لِي، وَقَطَعَ قِطْعَةً مِنْ عَصَاهُ فَقَالَ: أَمْسِكْ هَذَا مَعَك عَلَامَةً بَيْنِي وَبَيْنَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرِفُك بِهَا، فَإِنّك تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَخَصّرًا [ (1) ] . فَلَمّا دُفِنَ جُعِلَتْ مَعَهُ تَلِي جَسَدَهُ دُونَ ثِيَابِهِ. فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَطِيّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت أُصْلِحُ قَوْسِي. قَالَ: فَجِئْت فَوَجَدْت أَصْحَابِي قَدْ وُجّهُوا إلَى أُسَيْرِ بْنِ زَارِمَ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَرَى أسير ابن زَارِمَ! أَيْ اُقْتُلْهُ. سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ لَمّا أُغِيرَ عَلَى لِقَاحِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْجَدْرِ فِي شَوّالٍ سَنَةَ سِتّ، وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ المدينة [ (2) ]
حَدّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ عُرَيْنَةَ ثَمَانِيَةٌ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا، فَاسْتَوْبَأُوا [ (1) ] الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ بِهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى لِقَاحِهِ، وَكَانَ سَرْحُ الْمُسْلِمِينَ بِذِي الْجَدْرِ، فَكَانُوا بِهَا حَتّى صَحّوا وَسَمِنُوا. وَكَانُوا اسْتَأْذَنُوهُ يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ فَغَدَوْا عَلَى اللّقَاحِ فَاسْتَاقُوهَا [ (2) ] ، فَيُدْرِكُهُمْ مَوْلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ فَقَاتَلَهُمْ، فَأَخَذُوهُ فَقَطَعُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَغَرَزُوا الشّوْكَ فِي لِسَانِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتّى مَاتَ. وَانْطَلَقُوا بِالسّرْحِ، فَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى حِمَارٍ لَهَا حَتّى تَمُرّ بِيَسَارٍ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَمّا رَأَتْهُ وَمَا بِهِ- وَقَدْ مَاتَ- رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا وَخَبّرَتْهُمْ الْخَبَرَ، فَخَرَجُوا نَحْوَ يَسَارٍ حَتّى جَاءُوا بِهِ إلَى قُبَاءَ مَيّتًا. فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِهِمْ عِشْرِينَ فَارِسًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِمْ حتى أدركهم الليل، فباتوا بالجرّة وَأَصْبَحُوا فَاغْتَدَوْا لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَسْلُكُونَ، فَإِذَا هُمْ بِامْرَأَةٍ تَحْمِلُ كَتِفَ بَعِيرٍ، فَأَخَذُوهَا فَقَالُوا: مَا هَذَا مَعَك؟ قَالَتْ: مَرَرْت بِقَوْمٍ قَدْ نَحَرُوا بَعِيرًا فَأَعْطَوْنِي. قَالُوا: أَيْنَ هُمْ؟ قَالَتْ: هُمْ بِتِلْكَ الْقِفَارِ مِنْ الْحَرّةِ، إذَا وَافَيْتُمْ عَلَيْهَا رَأَيْتُمْ دُخَانَهُمْ. فَسَارُوا حَتّى أَتَوْهُمْ حِينَ فَرَغُوا مِنْ طَعَامِهِمْ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يَسْتَأْسِرُوا، فَاسْتَأْسَرُوا بِأَجْمَعِهِمْ لَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إنْسَانٌ، فَرَبَطُوهُمْ، وَأَرْدَفُوهُمْ عَلَى الْخَيْلِ حَتّى قَدِمُوا بِهِمْ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَابَةِ، فَخَرَجُوا نَحْوَهُ. قَالَ خَارِجَةُ: فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ قَالَ: حَدّثَنِي أَنَسُ بْنُ مالك
قَالَ: فَخَرَجْت أَسْعَى فِي آثَارِهِمْ مَعَ الْغِلْمَانِ حَتّى لَقِيَ بِهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزّغَابَةِ بِمَجْمَعِ السّيُولِ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ وَصُلِبُوا هُنَاكَ. قَالَ أَنَسٌ: إنّي لَوَاقِفٌ أَنْظُرُ إلَيْهِمْ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التّوَمَه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمّا قَطَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْدِي أَصْحَابِ اللّقَاحِ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ... [ (1) ] الْآيَةَ. قَالَ: فَلَمْ تُسْمَلْ بَعْدَ ذَلِكَ عَيْنٌ. قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: مَا بَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْثًا إلّا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُثْلَةِ. وَحَدّثَنِي ابْنُ بِلَالٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: لَمْ يَقْطَعْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَانًا قَطّ، وَلَمْ يَسْمُلْ عَيْنًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ وَالرّجْلِ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: أَمِيرُ السّرِيّةِ ابْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلّى، قَالَ: لَمّا ظَفِرُوا بِاللّقَاحِ خَلّفُوا عَلَيْهَا سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَمَعَهُ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ، وَكَانَتْ اللّقَاحُ خَمْسَ عَشْرَةَ لِقْحَةً غِزَارًا. فَلَمّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الزّغَابَةِ وَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ، إذَا اللّقَاحُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إلَيْهَا فتفقّد منها لقحة
غزوة الحديبية
لَهُ يُقَالُ لَهَا الْحِنّاءُ [ (1) ] فَقَالَ: أَيْ سَلَمَةُ، أَيْنَ الْحِنّاءُ؟ قَالَ: نَحَرَهَا الْقَوْمُ وَلَمْ يَنْحَرُوا غَيْرَهَا. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُنْظُرْ مَكَانًا تَرْعَاهَا فِيهِ. قَالَ: مَا كَانَ أَمْثَلَ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ بِذِي الْجَدْرِ. قَالَ: فَرَدّهَا إلَى ذِي الْجَدْرِ. فَكَانَتْ هُنَاكَ، وَكَانَ لَبَنُهَا يُرَاحُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلّ لَيْلَةٍ وَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ بَعْضِ وَلَدِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنّهُ أَخْبَرَهُ أَنّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ أَخْبَرَهُ بِعِدّةِ الْعِشْرِينَ فَارِسًا فَقَالَ: أَنَا، وَأَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ، وَأَبُو ذَرّ، وبريدة بن الحصيب، وَرَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ، وَجُنْدُبُ بْنُ مَكِيثٍ، وَبِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ، وَجُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ، وَصَفْوَانُ بْنُ مُعَطّلٍ، وَأَبُو رَوْعَةَ مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ بَدْرٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ صَخْرٍ، وَأَبُو ضُبَيْسٍ الْجُهَنِيّ. غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ [ (2) ] قَالَ: حَدّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْهَرَمِ، وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيّ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ
أَبِي صَعْصَعَةَ، وَمُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَسَعِيدُ بْنُ أبى زيد الزّرقىّ، وعابد ابن يَحْيَى، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمر، ومحمد بن يحيى ابن سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ مُحَمّدٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَحِزَامِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمّيْنَ قَدْ حَدّثَنِي، أَهْلُ الثّقَةِ، وَكَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِي، قَالُوا: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رَأَى فِي النّوْمِ أَنّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَحَلّقَ رَأْسَهُ، وَأَخَذَ مِفْتَاحَ الْبَيْتِ، وَعَرّفَ مَعَ الْمُعَرّفِينَ [ (1) ] ، فَاسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ إلَى الْعُمْرَةِ، فَأَسْرَعُوا وَتَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيّ فِي لَيَالٍ بَقِيَتْ مِنْ شَوّالٍ سَنَةَ سِتّ، فَقَدِمَ مُسْلِمًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرًا لَهُ، وَهُوَ عَلَى الرّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بُسْرُ، لَا تَبْرَحْ حَتّى تَخْرُجَ مَعَنَا فَإِنّا إنْ شَاءَ اللهُ مُعْتَمِرُونَ. فَأَقَامَ بُسْرٌ وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ [ (2) ] يَبْتَاعُ لَهُ بُدْنًا، فَكَانَ بُسْرٌ يَبْتَاعُ الْبُدْنَ وَيَبْعَثُ بِهَا إلَى ذِي الْجَدْرِ حَتّى حَضَرَ خُرُوجُهُ، فَأَمَرَ بِهَا فَجُلِبَتْ إلَى الْمَدِينَةِ، ثُمّ أَمَرَ بِهَا نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيّ [ (3) ] أَنْ يُقَدّمَهَا إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى هَدْيِهِ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ. وَخَرَجَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ، لَا يَشُكّونَ فِي الْفَتْحِ، لِلرّؤْيَا الّتِي رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَخَرَجُوا بِغَيْرِ سِلَاحٍ إلّا السّيُوفَ فِي الْقُرُبِ، وَسَاقَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْهَدْيَ، أهل قوّة- أبو بكر
وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- سَاقُوا هَدْيًا حَتّى وَقَفَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَسَاقَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بُدْنًا. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَتَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ عَلَيْنَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْب وَأَصْحَابِهِ، وَلَمْ نَأْخُذْ لِلْحَرْبِ عُدّتَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَدْرِي، وَلَسْت أُحِبّ أَحْمِلُ السّلَاحَ مُعْتَمِرًا. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ حَمَلْنَا السّلَاحَ مَعَنَا، فَإِنْ رَأَيْنَا مِنْ الْقَوْمِ رَيْبًا كُنّا مُعِدّينَ لَهُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَسْت أَحْمِلُ السّلَاحَ، إنّمَا خَرَجْت مُعْتَمِرًا. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِهِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ، فَاغْتَسَلَ فِي بَيْتِهِ وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ مِنْ نَسْجِ صُحَارٍ [ (1) ] ، وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ الْقَصْوَاءَ مِنْ عِنْدِ بَابِهِ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ، فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمّ دَعَا بِالْبُدْنِ فَجُلّلَتْ [ (2) ] ، ثُمّ أَشْعَرَ [ (3) ] بِنَفْسِهِ مِنْهَا عِدّةً، وَهُنّ مُوَجّهَاتٌ إلَى الْقِبْلَةِ، فِي الشّقّ الْأَيْمَنِ. وَيُقَالُ دَعَا بِبَدَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَشْعَرَهَا فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، ثُمّ أَمَرَ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ بِإِشْعَارِ مَا بَقِيَ، وَقَلّدَهَا نَعْلًا نَعْلًا، وَهِيَ سَبْعُونَ بَدَنَةً فِيهَا جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنِمَهُ بِبَدْرٍ، وَكَانَ يَكُونُ فِي لِقَاحِهِ بِذِي الْجَدْرِ. وَأَشْعَرَ الْمُسْلِمُونَ بُدْنَهُمْ، وَقَلّدُوا النّعَالَ فِي رِقَابِ الْبُدْنِ، وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَرْسَلَهُ عَيْنًا لَهُ، وَقَالَ: إنّ قُرَيْشًا قَدْ بَلَغَهَا أَنّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَخَبّرْ لِي خَبَرَهُمْ، ثم القنى بما يكون منهم.
فَتَقَدّمَ بُسْرٌ أَمَامَهُ، وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَقَدّمَهُ أَمَامَهُ طَلِيعَةً فِي خَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عِشْرِينَ فَارِسًا، وكان فيها رجال من المهاجرين وَالْأَنْصَارِ- الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ فَارِسًا، وَكَانَ أَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ فَارِسًا، وَكَانَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَارِسًا، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَارِسًا، وكان سعيد ابن زَيْدٍ فَارِسًا، وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسًا، وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَارِسًا، فِي عِدّةٍ مِنْهُمْ. وَيُقَالُ أَمِيرُهُمْ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ. ثُمّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ خَرَجَ وَدَعَا بِرَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَلَمّا انْبَعَثَتْ بِهِ مُسْتَقْبِلَةً الْقِبْلَةَ أَحْرَمَ وَلَبّى بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: لَبّيْكَ اللهُمّ لَبّيْكَ! لَبّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك، لَبّيْكَ! إنّ الْحَمْدَ وَالنّعْمَةَ لَك، وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك! وَأَحْرَمَ عَامّةُ الْمُسْلِمِينَ بِإِحْرَامِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ إلّا مِنْ الْجُحْفَةِ. وَسَلَكَ طَرِيقَ الْبَيْدَاءِ [ (1) ] ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ سِتّ عَشْرَةَ مِائَةً، وَيُقَالُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَيُقَالُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، خَرَجَ مَعَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِائَةُ رَجُلٍ، وَيُقَال سَبْعُونَ رَجُلًا، وَخَرَجَ مَعَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ: أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمّ عُمَارَةَ، وَأُمّ مَنِيعٍ، وَأُمّ عَامِرٍ الْأَشْهَلِيّةُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرّ بِالْأَعْرَابِ فِيمَا بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ فَيَسْتَنْفِرُهُمْ، فَيَتَشَاغَلُونَ [ (2) ] لَهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ- وَهُمْ بَنُو بَكْرٍ، وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ- فَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَيُرِيدُ مُحَمّدٌ يَغْزُو بِنَا إلَى قَوْمٍ مُعِدّينَ مُؤَيّدِينَ فِي الْكُرَاعِ وَالسّلَاحِ؟ وَإِنّمَا مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَكَلَةُ جَزُورٍ! لَنْ يَرْجِعَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ من سفرهم هذا أبدا!
قَوْمٌ لَا سِلَاحَ مَعَهُمْ وَلَا عُدَدٌ، وَإِنّمَا يَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ حَدِيثٍ عَهْدُهُمْ بِمَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدّمُ الْخَيْلَ، ثُمّ يُقَدّمُ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ مَعَ الْهَدْيِ، وَكَانَ مَعَهُ فَتَيَانِ مِنْ أَسْلَمَ، وَقَدّمَ الْمُسْلِمُونَ هَدْيَهُمْ مَعَ صَاحِبِ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاجِيَةِ بْنِ جُنْدُبٍ مَعَ الْهَدْيِ وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ بِمَلَلٍ، فَرَاحَ مِنْ مَلَلٍ وَتَعَشّى بِالسّيّالَةِ، ثُمّ أَصْبَحَ بِالرّوْحَاءِ، فَلَقِيَ بِهَا أَصْرَامًا [ (1) ] مِنْ بَنِي نَهْدٍ، مَعَهُمْ نَعَمٌ وَشَاءٌ، فَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَانْقَطَعُوا مِنْ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَبَنٍ مَعَ رَجُلٍ مِنْهُمْ. فَأَبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَقْبَلَ مِنْهُمْ وَقَالَ: لَا أَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْتَاعَ مِنْهُمْ فَابْتَاعُوهُ مِنْ الْأَعْرَابِ فَسُرّ الْقَوْمُ، وَجَاءُوا بِثَلَاثَةِ أَضُبّ أَحْيَاءٍ يَعْرِضُونَهَا، فَاشْتَرَاهَا قَوْمٌ أَحِلّةٌ مِنْ الْعَسْكَرِ، فَأَكَلُوا وَعَرَضُوا عَلَى الْمُحْرِمِينَ فَأَبَوْا حَتّى سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كُلُوا فَكُلّ صَيْدٍ لَيْسَ لَكُمْ حَلَالًا فِي الْإِحْرَامِ تَأْكُلُونَهُ، إلّا مَا صِدْتُمْ أَوْ صِيدَ لَكُمْ. قالوا: يا رسول الله، فو الله مَا صِدْنَا وَلَا صَادَتْهُ إلّا هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ، أَهْدَوْا لَنَا وَمَا يَدْرُونَ أَنْ يَلْقَوْنَا، إنّمَا هُمْ قَوْمٌ سَيّارَةٌ يُصْبِحُونَ الْيَوْمَ بِأَرْضٍ وَهُمْ الْغَدَ بِأَرْضٍ أُخْرَى يَتْبَعُونَ الْغَيْثَ، وَهُمْ يُرِيدُونَ سَحَابَةً وَقَعَتْ مِنْ الْخَرِيفِ بِفَرْشِ [ (2) ] مَلَلٍ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَسَأَلَهُ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، ذُكِرَتْ لَنَا سَحَابَةٌ وَقَعَتْ بِفَرْشِ مَلَلٍ مُنْذُ شهر، فأرسلنا رجلا منّا يرتاد
الْبِلَادَ، فَرَجَعَ إلَيْنَا فَخَبّرَنَا أَنّ الشّاةَ قَدْ شَبِعَتْ وَأَنّ الْبَعِيرَ يَمْشِي ثَقِيلًا مِمّا جَمَعَ مِنْ الْحَوْضِ، وَأَنّ الْغُدُرَ كَثِيرَةٌ مَرْوِيّةٌ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَلْحَقَ بِهِ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ المطّلب ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمِنّا الْمُحِلّ وَالْمُحْرِمُ، حَتّى إذَا كُنّا بِالْأَبْوَاءِ، وَأَنَا مُحِلّ، رَأَيْت حِمَارًا وَحْشِيّا، فَأَسْرَجْت فَرَسِي فَرَكِبْت فَقُلْت لِبَعْضِهِمْ: نَاوِلْنِي سَوْطِي! فَأَبَى أَنْ يُنَاوِلَنِي فَقُلْت: نَاوِلْنِي رُمْحِي! فَأَبَى، فَنَزَلْت فَأَخَذْت سَوْطِي وَرُمْحِي ثُمّ رَكِبْت فَرَسِي، فَحَمَلْت عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلْته، فَجِئْت بِهِ أَصْحَابِي الْمُحْرِمِينَ وَالْمُحِلّينَ، فَشَكّ الْمُحْرِمُونَ فِي أَكْلِهِ، حَتّى أَدْرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ تَقَدّمَنَا بِقَلِيلٍ، فَأَدْرَكْنَاهُ فَسَأَلْنَاهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَمَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ قَالَ: فَأَعْطَيْته الذّرَاعَ فَأَكَلَهَا حَتّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. فَقِيلَ لِأَبِي قَتَادَةَ: وَمَا خَلّفَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: طَبَخْنَا الْحِمَارَ فَلَمّا نَضِجَ لَحِقْنَاهُ وَأَدْرَكْنَاهُ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ الصّعْبِ بْنِ جَثّامَةَ، أَنّهُ حَدّثَهُ أَنّهُ جَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء بِحِمَارٍ وَحْشِيّ، فَأَهْدَاهُ لَهُ فَرَدّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الصّعْبُ: فَلَمّا رَآنِي وَمَا بِوَجْهِي مِنْ كَرَاهِيَةِ رَدّ هَدِيّتِي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا لَمْ نَرُدّهُ إلّا أَنّا حُرُمٌ. قَالَ: فَسَأَلْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا نُصَبّحُ الْعَدُوّ وَالْغَارَةَ فِي غَلَسِ الصّبْحِ فَنُصِيبُ الْوِلْدَانَ تَحْتَ بُطُونِ الْخَيْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُمْ مَعَ الْآبَاءِ.
وَقَالَ: سَمِعْته يَوْمَئِذٍ يَقُولُ: «لَا حِمَى إلّا لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ» . وَيُقَالُ إنّ الْحِمَارَ يَوْمَئِذٍ كَانَ حَيّا. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيّ، قَالَ: لَمّا نَزَلُوا الْأَبْوَاءَ أَهْدَى إيمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ جُزُرًا وَمِائَةَ شَاةٍ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ ابْنِهِ خُفَافِ بْنِ إيمَاءَ وَبَعِيرَيْنِ يَحْمِلَانِ لَبَنًا، فَانْتَهَى بِهِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنّ أَبِي أَرْسَلَنِي بِهَذِهِ الْجُزُرِ وَاللّبَنِ إلَيْك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى حَلَلْتُمْ هَاهُنَا؟ قَالَ: قَرِيبًا، كَانَ مَاءٌ عِنْدَنَا قَدْ أَجْدَبَ فَسُقْنَا مَاشِيَتَنَا إلَى مَاءٍ هَاهُنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكَيْفَ الْبِلَادُ هَاهُنَا؟ قَالَ: يُتَغَذّى بَعِيرُهَا، وَأَمّا الشّاةُ فَلَا تُذْكَرُ. فَقَبِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيّتَهُ، وَأَمَرَ بالغنم ففرّق فى أصحابه، وشربوا اللّبَنَ عُسّا عُسّا [ (1) ] حَتّى ذَهَبَ اللّبَنُ، وَقَالَ: بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ! فَحَدّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْغِفَارِيّ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، قَالَ: أُهْدِيَ يَوْمَئِذٍ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَدّانَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، مُعِيشًا [ (2) ] ، وَعِتْرًا [ (3) ] ، وَضَغَابِيسَ [ (4) ] ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْ الضّغَابِيسِ وَالْعِتْرِ وَأَعْجَبَهُ، وَأَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ هَذِهِ الْهَدِيّةُ وَيُرِي صَاحِبَهَا أَنّهَا طَرِيفَةٌ. وَحَدّثَنِي سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بن أبى ليلى،
عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: لَمّا كُنّا بِالْأَبْوَاءِ وَقَفَ عَلَيّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا أَنْفُخُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَقَالَ: هَلْ يُؤْذِيك هَوَامّك يَا كَعْبُ؟ قُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَك. قَالَ: وَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ (1) ] . فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَذْبَحَ شَاةً، أَوْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، أَوْ أُطْعِمَ سِتّةَ مَسَاكِينَ، كُلّ مِسْكِينٍ مُدّيْنِ «أَيّ ذَلِكَ فَعَلْت أَجْزَأَك» . وَيُقَالُ إنّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَهْدَى بَقَرَةً قَلّدَهَا وَأَشْعَرَهَا. وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: عَطِبَ لِي بَعِيرٌ مِنْ الْهَدْيِ حِينَ نَظَرْت إلَى الْأَبْوَاءِ، فَجِئْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَبْوَاءِ فَأَخْبَرْته فَقَالَ: انْحَرْهَا وَاصْبُغْ قَلَائِدَهَا فِي دَمِهَا، وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِك مِنْهَا شَيْئًا، وَخَلّ بَيْنَ النّاسِ وَبَيْنَهَا. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُحْفَةَ لَمْ يَجِدْ بِهَا مَاءً، فَبَعَثَ رَجُلًا فِي الرّوَايَا إلَى الْخَرّارِ، فَخَرَجَ الرّجُلُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَرَجَعَ بِالرّوَايَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْضِيَ قَدَمًا رُعْبًا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ! وَبَعَثَ رَجُلًا آخَرَ فَخَرَجَ بِالرّوَايَا، حَتّى إذَا كَانَ بِالْمَكَانِ الّذِي أَصَابَ الْأَوّلَ الرّعْبُ فَرَجَعَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَك؟ فَقَالَ: لَا وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْضِيَ رُعْبًا! قَالَ: اجْلِسْ! ثُمّ بَعَثَ رَجُلًا آخَرَ، فَلَمّا جَاوَزَ الْمَكَانَ الّذِي رَجَعَ مِنْهُ الرّجُلَانِ قَلِيلًا وَجَدَ مِثْلَ ذَلِكَ الرّعْبِ فَرَجَعَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَرْسَلَهُ بِالرّوَايَا وَخَرَجَ السّقّاءُ مَعَهُ، وَهُمْ لَا يَشُكّونَ فِي الرّجُوعِ لِمَا رَأَوْا مِنْ رُجُوعِ النّفَرِ، فَوَرَدُوا الْخَرّارَ فَاسْتَقَوْا ثُمّ أَقْبَلُوا بِالْمَاءِ، ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم
بِشَجَرَةٍ فَقُمّ [ (1) ] مَا تَحْتَهَا، فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّي كَائِنٌ لَكُمْ فَرَطًا [ (2) ] ، وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلّوا، كِتَابُ اللهِ وَسُنّتُهُ بِأَيْدِيكُمْ! وَيُقَالُ: قَدْ تَرَكْت فِيكُمْ كِتَابَ اللهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ. وَلَمّا بَلَغَ الْمُشْرِكِينَ خُرُوجُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَكّةَ رَاعَهُمْ ذَلِكَ، وَاجْتَمَعُوا لَهُ وَشَاوَرُوا فِيهِ ذَوِي رَأْيِهِمْ فَقَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْنَا فِي جُنُودِهِ مُعْتَمِرًا، فَتَسْمَعَ بِهِ الْعَرَبُ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا عَنْوَةً وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْحَرْبِ مَا بَيْنَنَا! وَاَللهِ، لَا كان هذا أبدا ومنّا عين تطرف، فارتأوا رَأْيَكُمْ! فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، وَجَعَلُوهُ إلَى نَفَرٍ مِنْ ذَوِي رَأْيِهِمْ- صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَسَهْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ- فَقَالَ صَفْوَانُ: مَا كُنّا لِنَقْطَعَ أَمْرًا حَتّى نُشَاوِرَكُمْ، نَرَى أَنْ نُقَدّمَ مِائَتَيْ فَارِسٍ إلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ وَنَسْتَعْمِلَ عَلَيْهَا رَجُلًا جَلْدًا. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نِعْمَ ما رأيت! فقدّموا على خيلهم عكرمة ابن أَبِي جَهْلٍ- وَيُقَالُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- وَاسْتَنْفَرَتْ قريش من أطاعها من الأحابيش، وأجلبت ثقيف مَعَهُمْ، وَقَدّمُوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي الْخَيْلِ، وَوَضَعُوا الْعُيُونَ عَلَى الْجِبَالِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ وَزَرٌ [ (3) ] وَزَعٌ كَانَتْ عُيُونُهُمْ عَشَرَةَ رِجَالٍ قَامَ [عَلَيْهِمْ] الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الصّوْتَ الْخَفِيّ: فَعَلَ مُحَمّدٌ كَذَا وَكَذَا! حَتّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى قُرَيْشٍ بِبَلْدَحٍ. وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ إلَى بَلْدَحٍ فَضَرَبُوا بِهَا الْقِبَابَ وَالْأَبْنِيَةَ، وَخَرَجُوا بِالنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ فَعَسْكَرُوا هُنَاكَ، وَدَخَلَ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ مَكّةَ فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِمْ وَرَأَى مِنْهُمْ مَا رَأَى، ثم رجع إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فَلَقِيَهُ بِغَدِيرِ ذَاتِ الْأَشْطَاطِ مِنْ وَرَاءِ عُسْفَانَ، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا بُسْرُ، مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَرَكْت قومك، كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، قَدْ سَمِعُوا بِمَسِيرِك فَفَزِعُوا وَهَابُوا أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً، وَقَدْ اسْتَنْفَرُوا لَك الْأَحَابِيشَ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ [ (1) ] ، قَدْ لَبِسُوا لَك جِلْدَ النّمُورِ لِيَصُدّوك عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ خَرَجُوا إلَى بَلْدَحٍ وَضَرَبُوا بِهَا الْأَبْنِيَةَ، وَتَرَكْت عُمّادَهُمْ يُطْعِمُونَ الْجُزُرَ أَحَابِيشَهُمْ وَمَنْ ضَوَى إلَيْهِمْ فِي دُورِهِمْ، وَقَدّمُوا الْخَيْلَ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَهَذِهِ خَيْلُهُمْ بِالْغَمِيمِ، وَقَدْ وَضَعُوا الْعُيُونَ عَلَى الْجِبَالِ وَوَضَعُوا الْأَرْصَادَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنّاسِ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ بِالْغَمِيمِ. ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: أَمّا بَعْدُ، فكيف ترون يا معشر المسلمين فى هولاء الّذِينَ اسْتَنْفَرُوا إلَيّ مَنْ أَطَاعَهُمْ لِيَصُدّونَا عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ أَتَرَوْنَ أَنْ نَمْضِيَ لِوَجْهِنَا إلَى الْبَيْتِ فَمَنْ صَدّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نُخَلّفَ هَؤُلَاءِ الّذِينَ اُسْتُنْفِرُوا لَنَا إلَى أَهْلِيهِمْ فَنُصِيبَهُمْ؟ فَإِنْ اتّبَعُونَا اتّبَعْنَا مِنْهُمْ عُنُقٌ يَقْطَعُهَا اللهُ، وَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَحْزُونِينَ مَوْتُورِينَ! فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! نَرَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ نَمْضِيَ لِوَجْهِنَا فَمَنْ صَدّنَا عَنْ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنّ خَيْلَ قُرَيْشٍ فِيهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمْ أَرَ أَحَدًا كَانَ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ مُشَاوَرَتُهُ أَصْحَابَهُ فِي الْحَرْبِ فَقَطْ. قَالَ: فَقَامَ الْمِقْدَادُ بن عمرو
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [ (1) ] ولكن: اذهب أنت وربُّك فَقَاتِلَا إنّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ. وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ سِرْت إلَى بَرْكِ الْغِمَادِ [ (2) ] لَسِرْنَا مَعَك مَا بَقِيَ مِنّا رَجُلٌ. وَتَكَلّمَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى أَنْ نَصْمُدَ لِمَا خَرَجْنَا لَهُ، فَمَنْ صَدّنَا قَاتَلْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّا لَمْ نَخْرُجْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، إنّمَا خَرَجْنَا عُمّارًا. وَلَقِيَهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، لَقَدْ اغْتَرَرْت بِقِتَالِ قَوْمِك جَلَابِيبِ [ (3) ] الْعَرَبِ، وَاَللهِ مَا أَرَى مَعَك أَحَدًا لَهُ وَجْهٌ، مَعَ أَنّي أَرَاكُمْ قَوْمًا لَا سِلَاحَ مَعَكُمْ! قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَضَضْتَ بَظْرَ اللّاتِ! قَالَ بُدَيْلٌ: أَمَا وَاَللهِ لَوْلَا يد لك عندي لأجبتك، فو الله مَا أُتّهَمُ أَنَا وَلَا قَوْمِي أَلّا أَكُونَ أُحِبّ أَنْ يَظْهَرَ مُحَمّدٌ! إنّي رَأَيْت قُرَيْشًا مُقَاتِلَتَك عَنْ ذَرَارِيّهَا وَأَمْوَالِهَا، قَدْ خَرَجُوا إلَى بَلْدَحٍ فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ، مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَرَادَفُوا [ (4) ] عَلَى الطّعَامِ، يُطْعِمُونَ الْجُزُرَ مَنْ جَاءَهُمْ، يَتَقَوّوْنَ بِهِمْ عَلَى حَرْبِكُمْ، فَرَ رَأْيَك! حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قَمّادِينَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ تَوَافَدُوا وَجَمَعُوا الْأَمْوَالَ يُطْعِمُونَ بِهَا مَنْ ضَوَى إلَيْهِمْ مِنْ الْأَحَابِيشِ، فَكَانَ يُطْعِمُ فِي أَرْبَعَةِ أَمْكِنَةٍ: فى دار النّدوة لجماعتهم،
وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ يُطْعِمُ فِي دَارِهِ، وَكَانَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يُطْعِمُ فِي دَارِهِ، وَكَانَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يُطْعِمُ فِي دَارِهِ، وَكَانَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى يُطْعِمُ فِي دَارِهِ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: وَدَنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِ حَتّى نَظَرَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَفّ خَيْلَهُ فِيمَا بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَهِيَ فِي مِائَتَيْ فرس، وأمر رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَتَقَدّمَ فِي خَيْلِهِ فَقَامَ بِإِزَائِهِ فَصَفّ أَصْحَابَهُ. قَالَ دَاوُدُ: فَحَدّثَنِي عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قَالَ: فَحَانَتْ صَلَاةُ الظّهْرِ فَأَذّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ وَصَفّ النّاسَ خَلْفَهُ يَرْكَعُ بِهِمْ وَيَسْجُدُ، ثُمّ سَلّمَ فَقَامُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التّعْبِيَةِ. فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَدْ كَانُوا عَلَى غِرّةٍ، لَوْ كُنّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ لَأَصَبْنَا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ تَأْتِي السّاعَةَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ! قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ.. [ (1) ] الْآيَةَ. قَالَ: فَحَانَتْ الْعَصْرُ فَأَذّنَ بِلَالٌ، وَأَقَامَ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَاجِهًا الْقِبْلَةَ، وَالْعَدُوّ أَمَامَهُ، وَكَبّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَبّرَ الصّفّانِ جَمِيعًا، ثُمّ رَكَعَ وَرَكَعَ الصّفّانِ جَمِيعًا، ثُمّ سَجَدَ فَسَجَدَ الصّفّ الّذِي يَلِيهِ وَقَامَ الْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُ. فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّجُودَ بِالصّفّ الْأَوّلِ وَقَامُوا مَعَهُ سَجَدَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ السّجْدَتَيْنِ، ثُمّ اسْتَأْخَرَ الصّفّ الّذِي يَلُونَهُ، وَتَقَدّمَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ، فَكَانُوا يَلُونَ رسول
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامُوا جَمِيعًا، ثُمّ رَكَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكَعَ الصّفّانِ جَمِيعًا، ثُمّ سَجَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ الصّفّ الّذِي يَلُونَهُ، وَقَامَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ يَحْرُسُونَهُ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوّ، فَلَمّا رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنْ السّجْدَتَيْنِ سَجَدَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ السّجْدَتَيْنِ اللّتَيْنِ بَقِيَتَا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَوَى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فَتَشَهّدَ، ثُمّ سَلّمَ عَلَيْهِمْ. فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: هَذِهِ أَوّلُ صَلَاةٍ صَلّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوْفِ. حَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَيّاشٍ الزّرَقِيّ، أَنّهُ كَانَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، فَذَكَرَ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى هَكَذَا، وَذَكَرَ أَبُو عَيّاشٍ أَنّهُ أَوّلُ مَا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ. حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوّلَ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرّقَاعِ، ثُمّ صَلّاهَا بَعْدُ بِعُسْفَانَ، بَيْنَهُمَا أَرْبَعُ سِنِينَ، وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا. قَالُوا: فَلَمّا أَمْسَى قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَيَامَنُوا فِي هَذَا الْعَصَلِ [ (1) ] ، فَإِنّ عُيُونَ قُرَيْشٍ بِمَرّ الظّهْرَانِ أَوْ بِضَجْنَانَ، فَأَيّكُمْ يَعْرِفُ ثَنِيّةَ ذَاتِ الْحَنْظَلِ [ (2) ] ؟ فَقَالَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ عَالِمٌ بِهَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُسْلُكْ أَمَامَنَا- فَأَخَذَ بِهِ بُرَيْدَةُ فِي الْعَصَلِ قِبَلَ جِبَالِ سُرَاوِعَ قَبْلَ المغرب، فسار قليلا تنكّبه الحجارة
وَتُعَلّقُهُ الشّجَرُ، وَحَارَ حَتّى كَأَنّهُ لَمْ يَعْرِفْهَا قطّ. قال: فو الله إنْ كُنْت لَأَسْلُكُهَا فِي الْجُمُعَةِ مِرَارًا. فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَوَجّهُ قَالَ: ارْكَبْ! فَرَكِبْت فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَدُلّنَا عَلَى طَرِيقِ ذَاتِ الْحَنْظَلِ؟ فَنَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَدُلّك. فَسَارَ قَلِيلًا ثُمّ سَقَطَ فِي خَمَرِ [ (1) ] الشّجَرِ، فَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْكَبْ. ثُمّ قَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَدُلّنَا عَلَى طَرِيقِ ذَاتِ الْحَنْظَلِ؟ فَنَزَلَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ نُهْمٍ [ (2) ] الْأَسْلَمِيّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَدُلّك. فَقَالَ: انْطَلِقْ أَمَامَنَا. فَانْطَلَقَ عَمْرٌو أَمَامَهُمْ حَتّى نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الثّنِيّةِ فَقَالَ: هَذِهِ ثَنِيّةُ ذَاتِ الْحَنْظَلِ؟ فَقَالَ عَمْرٌو: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَلَمّا وَقَفَ عَلَى رَأْسِهَا تَحَدّرَ بِهِ. قَالَ عَمْرٌو: وَاَللهِ إنْ كَانَ لَيَهُمّنِي نَفْسِي وَجَدّي، إنّمَا كَانَتْ مِثْلَ الشّرَاكِ [ (3) ] ، فَاتّسَعَتْ لِي حَتّى بَرَزَتْ وَكَانَتْ مَحَجّةً لَاحِبَةً [ (4) ] . وَلَقَدْ كَانَ النّفَرُ يَسِيرُونَ تِلْكَ اللّيْلَةَ جَمِيعًا مُعْطِفِينَ مِنْ سَعَتِهَا يَتَحَدّثُونَ، وَأَضَاءَتْ تِلْكَ اللّيْلَةُ حَتّى كَأَنّا فِي قَمَرٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِثْلُ هَذِهِ الثّنِيّةِ اللّيْلَةَ إلّا مِثْلُ الْبَابِ الّذِي قَالَ اللهُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [ (5) ] . حَدّثَنِي ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن الأعرج، عن أبى
هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَلِمَةُ الّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ: «لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا» . قَالَ: بَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَدَخَلُوا مِنْ قِبَلِ أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: «حَبّةٌ فِي شَعِيرَةٍ» . وَحَدّثَنِي عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْكَلِمَةُ الّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يَقُولُوا: «نَسْتَغْفِرُ اللهَ وَنَتُوبُ إلَيْهِ» . فَكِلَا هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ قَدْ رُوِيَ. قَالُوا: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَجُوزُ هَذِهِ الثّنِيّةَ أَحَدٌ إلّا غَفَرَ اللهُ لَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: وَكَانَ أَخِي لِأُمّي قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ فِي آخِرِ النّاسِ، قَالَ: فَوَقَفْت عَلَى الثّنِيّةِ فَجَعَلْت أَقُولُ لِلنّاسِ: إنّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «لَا يَجُوزُ هَذِهِ الثّنِيّةَ أَحَدٌ إلّا غُفِرَ لَهُ» . فَجَعَلَ النّاسُ يُسْرِعُونَ حَتّى جَازَ أَخِي فِي آخِرِ النّاسِ، وَفَرِقْت أَنْ يُصْبِحَ قَبْلَ أَنْ نَجُوزَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَقَلٌ فَلْيَصْطَنِعْ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَإِنّمَا مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقَلٌ- الثّقَلُ: الدّقِيقُ- وَإِنّمَا كَانَ عَامّةُ زَادِنَا التّمْرَ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا نَخَافُ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ تَرَانَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّهُمْ لَنْ يَرَوْكُمْ، إنّ اللهَ سَيُعِينُكُمْ عَلَيْهِمْ. فَأَوْقِدُوا النّيرَانَ، وَاصْطَنَعَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصْطَنِعَ. فَلَقَدْ أَوْقَدُوا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةِ نَارٍ. فَلَمّا أَصْبَحْنَا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّبْحَ، ثُمّ قَالَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ غَفَرَ اللهُ لِلرّكْبِ أَجْمَعِينَ إلّا رُوَيْكِبًا وَاحِدًا عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، الْتَقَتْ عَلَيْهِ رِجَالُ الْقَوْمِ لَيْسَ مِنْهُمْ. فَطُلِبَ فِي الْعَسْكَرِ وَهُوَ يُظَنّ أَنّهُ مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا بِهِ نَاحِيَةً إلَى ذَرَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مِنْ بَنِي ضمرة من
أَهْلِ سَيْفِ الْبَحْرِ، فَقِيلَ لِسَعِيدٍ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ سَعِيدٌ: وَيْحَك! اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ لَك! قَالَ: بَعِيرِي وَاَللهِ أَهَمّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي- وَإِذَا هُوَ قَدْ أَضَلّ بَعِيرًا لَهُ يَتْبَعُ الْعَسْكَرَ يَتَوَصّلُ بِهِمْ وَيَطْلُبُ بَعِيرَهُ- وَإِنّهُ لَفِي عَسْكَرِكُمْ، فَأَدّوا إلَيّ بَعِيرِي. فَقَالَ سَعِيدٌ: تَحَوّلْ عَنّي لَا حَيّاك اللهُ! أَلَا لَا أَرَى قُرْبِي إلّا دَاهِيَةً وَمَا أَشْعُرُ بِهِ! فَانْطَلَقَ الْأَعْرَابِيّ يَطْلُبُ بَعِيرَهُ بَعْدَ أَنْ اسْتَبْرَأَ الْعَسْكَرَ، فَبَيْنَا هُوَ فِي جِبَالِ سُرَاوِعَ إذْ زَلِقَتْ نَعْلُهُ فَتَرَدّى فَمَاتَ، فَمَا عُلِمَ بِهِ حَتّى أَكَلَتْهُ السّبَاعُ. وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّهُ سَيَأْتِي قَوْمٌ تَحْقِرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُرَيْشٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَإِنّهُمْ أَرَقّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، هُمْ خَيْرٌ مِنّا؟ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا- وَيَصِفُ هِشَامٌ فِي الصّفَةِ كَأَنّهُ يَقُولُ سَوَاءً- أَلَا إنّ فَضْلَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النّاسِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ [ (1) ] . حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ كَأَنّهُمْ قِطَعُ السّحَابِ، هُمْ خَيْرُ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: وَلَا نَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، ثُمّ الرّابِعَةَ قَالَ قَوْلًا ضَعِيفًا: إلّا أَنْتُمْ. حَدّثَنِي مَعْمَرٌ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عروة،
عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا دَنَا مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَعَتْ يَدُ رَاحِلَتِهِ عَلَى ثَنِيّةٍ تُهْبِطُهُ عَلَى غَائِطِ الْقَوْمِ، فَبَرَكَتْ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: حَلْ! حَلْ! فَأَبَتْ أَنْ تَنْبَعِثَ فَقَالُوا: خَلَأَتْ [ (1) ] الْقَصْوَاءُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّهَا مَا خَلَأَتْ، وَلَا هُوَ لَهَا بِعَادَةٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ. أَمَا وَاَللهِ لَا يَسْأَلُونَنِي الْيَوْمَ خُطّةً فِي تَعْظِيمِ حُرْمَةِ اللهِ إلّا أَعْطَيْتهمْ إيّاهَا. ثُمّ زَجَرْنَاهَا فَقَامَتْ، فَوَلّى رَاجِعًا عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ حَتّى نَزَلَ بِالنّاسِ عَلَى ثَمَدٍ [ (2) ] مِنْ ثِمَادِ الْحُدَيْبِيَةِ ظَنُونٍ [ (3) ] قَلِيلِ الْمَاءِ، يُتَبَرّضُ مَاؤُهُ تَبَرّضًا [ (4) ] ، فَاشْتَكَى النّاسُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِلّةَ الْمَاءِ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَغُرِزَ فِي الثّمَدِ، فَجَاشَتْ لَهُمْ بِالرّوَاءِ حَتّى صَدَرُوا عَنْهُ [ (5) ] بِعَطَنٍ. قَالَ: وَإِنّهُمْ لَيَغْرِفُونَ بِآنِيَتِهِمْ جُلُوسًا عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ. وَاَلّذِي نَزَلَ بِالسّهْمِ نَاجِيَةُ بْنُ الْأَعْجَمِ مِنْ أَسْلَمَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنّ جَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِنَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَهُوَ فِي الْقَلِيبِ: يَا أَيّهَا الْمَاتِحُ دَلْوِي دُونَكَا ... إنّي رَأَيْت النّاسَ يَحْمَدُونَكَا يُثْنُونَ خَيْرًا وَيُمَجّدُونَكَا فَقَالَ نَاجِيَةُ وَهُوَ فى القليب:
قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ يَمَانِيَهْ ... أَنّي أَنَا الْمَاتِحُ وَاسْمِي نَاجِيَهْ وَطَعْنَةٍ مِنّي رَشَاشٍ وَاهِيَهْ ... طَعَنْتهَا تَحْتَ صُدُورِ الْعَالِيَهْ أَنْشَدَنِيهَا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ نَاجِيَةَ بْنِ الْأَعْجَمِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بن وهب الأسلمىّ. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: الّذِي نَزَلَ بِالسّهْمِ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ. وَحَدّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ نَاجِيَةَ بْنَ الْأَعْجَمِ- وَكَانَ نَاجِيَةُ بْنُ الْأَعْجَمِ يُحَدّثُ- يَقُولُ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم حين شكا إلَيْهِ قِلّةُ الْمَاءِ، فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ وَدَفَعَهُ إلَيّ وَدَعَانِي بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ، فَجِئْته بِهِ فَتَوَضّأَ، فَقَالَ: مَضْمَضَ فَاهُ، ثُمّ مَجّ فِي الدّلْوِ، وَالنّاسُ فِي حَرّ شَدِيدٍ وَإِنّمَا هِيَ بِئْرٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ الْمُشْرِكُونَ إلَى بَلْدَحٍ فَغَلَبُوا عَلَى مِيَاهِهِ، فَقَالَ: انْزِلْ بِالْمَاءِ فَصُبّهُ فِي الْبِئْرِ وَأَثِرْ [ (1) ] مَاءَهَا بِالسّهْمِ. ففعلت، فو الذي بَعَثَهُ بِالْحَقّ مَا كُنْت أَخْرُجُ حَتّى كَادَ يَغْمُرُنِي، وَفَارَتْ كَمَا تَفُورُ الْقِدْرُ حَتّى طَمّتْ، واستوت بثفيرها يَغْتَرِفُونَ مَاءَ جَانِبِهَا حَتّى نَهِلُوا مِنْ آخِرِهِمْ. قَالَ: وَعَلَى الْمَاءِ يَوْمَئِذٍ نَفَرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ، وَأَوْسٌ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ، وَهُمْ جُلُوسٌ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَاءِ، وَالْبِئْرُ تَجِيشُ بِالرّوَاءِ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَفِيرِهَا. فَقَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ: وَيْحَك يَا أَبَا الْحُبَابِ! أَمَا آنَ لَك أَنْ تُبْصِرَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ؟ أَبَعْدَ هَذَا شَيْءٌ؟ وَرَدْنَا بِئْرًا يُتَبَرّضُ مَاؤُهَا- يُتَبَرّضُ: يَخْرُجُ فِي الْقَعْبِ جَرْعَةُ مَاءٍ- فَتَوَضّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الدّلو ومضمض فاه فى الدلو
ثُمّ أَفْرَغَ الدّلْوَ فِيهَا وَنَزَلَ بِالسّهْمِ فَحَثْحَثَهَا [ (1) ] فَجَاشَتْ بِالرّوَاءِ. قَالَ: يَقُولُ ابْنُ أُبَيّ: قَدْ رَأَيْت مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ أَوْسٌ: قَبّحَك اللهُ وَقَبّحَ رَأْيَك! فَيُقْبِلُ ابْنُ أُبَيّ يُرِيدُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ أَبَا الْحُبَابِ، أَيْنَ رَأَيْت مِثْلَ مَا رَأَيْت الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْت مِثْلَهُ قَطّ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِمَ قُلْت مَا قُلْت؟ قَالَ ابْنُ أُبَيّ: أَسَتَغْفِرُ اللهَ! قَالَ ابْنُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَغْفِرْ لَهُ! فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جَدّهِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْت خَالِدَ بْنَ عَبّادٍ الْغِفَارِيّ يَقُولُ: أَنَا نَزَلْت بِالسّهْمِ يَوْمَئِذٍ فِي الْبِئْرِ. حَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الْهَمْدَانِيّ، قَالَ: سَمِعْت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: أَنَا نَزَلْت بِالسّهْمِ. قَالُوا: وَمُطِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ مِرَارًا فَكَثُرَتْ الْمِيَاهُ. حَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذّاءِ، عَنْ أَبِي الْمُلَيْحِ الْهُذَلِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مُطِرْنَا بِالْحُدَيْبِيَةِ مَطَرًا فَمَا ابْتَلّتْ مِنْهُ أَسْفَلُ نِعَالِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الصّلَاةَ فِي الرّحَالِ. حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ، قَالَ: صَلّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّبْحَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فِي إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللّيْلِ، فَلَمّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعلم!
قَالَ: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ [ (1) ] . فَأَمّا مَنْ قَالَ مُطِرْت بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَأَمّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ، سَمِعْت ابْنَ أُبَيّ يَقُولُ- وَنَحْنُ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَمُطِرْنَا بِهَا- فَقَالَ ابْنُ أُبَيّ: هَذَا نَوْءُ الْخَرِيفِ، مُطِرْنَا بِالشّعْرَى! وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْحِجَازِيّ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: لَمّا نَزَلْنَا عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْمَاءُ قَلِيلٌ، سَمِعْت الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ: مَا كَانَ خُرُوجُنَا إلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِشَيْءٍ! نَمُوتُ مِنْ الْعَطَشِ عَنْ آخِرِنَا! فَقُلْت: لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، فَلِمَ خَرَجْت؟ قَالَ: خَرَجْت مَعَ قَوْمِي. قُلْت: فَلَمْ تَخْرُجْ مُعْتَمِرًا؟ قَالَ: لَا وَاَللهِ، مَا أَحْرَمْت. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَلَا نَوَيْت الْعُمْرَةَ؟ قَالَ: لَا! فَلَمّا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّجُلَ فَنَزَلَ بِالسّهْمِ، وَتَوَضّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدّلْوِ وَمَجّ فَاهُ فِيهِ، ثُمّ رَدّهُ فِي الْبِئْرِ، فَجَاشَتْ الْبِئْرُ بِالرّوَاءِ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَرَأَيْت الْجَدّ مَادّا رِجْلَيْهِ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ فِي الْمَاءِ، فَقُلْت: أَبَا عَبْدِ اللهِ! أَيْنَ مَا قُلْت؟ قَالَ: إنّمَا كُنْت أَمْزَحُ مَعَك، لَا تَذْكُرْ لِمُحَمّدٍ مِمّا قُلْت شَيْئًا. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَقَدْ كُنْت ذَكَرْته قَبْلَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَغَضِبَ الْجَدّ وَقَالَ: بَقِينَا مَعَ صِبْيَانٍ مِنْ قَوْمِنَا لَا يَعْرِفُونَ لَنَا شَرَفًا وَلَا سِنّا، لَبَطْنُ الْأَرْضِ الْيَوْمَ خَيْرٌ من ظهرها! قال أبو قتادة:
وَقَدْ كُنْت ذَكَرْت قَوْلَهُ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْنُهُ خَيْرٌ مِنْهُ! قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَلَقِيَنِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي فَجَعَلُوا يُؤَنّبُونَنِي وَيَلُومُونَنِي حِينَ رَفَعْت مَقَالَتَهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْت لَهُمْ: بِئْسَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ! وَيْحَكُمْ! عَنْ الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ تَذُبّونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، كَبِيرُنَا وَسَيّدُنَا. فَقُلْت: قَدْ وَاَللهِ طَرَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤْدَدَهُ عَنْ بَنِي سَلِمَةَ، وَسَوّدَ عَلَيْنَا بِشْرَ بْنَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ [ (1) ] ، وَهَدَمْنَا الْمَنَامَاتِ الّتِي كَانَتْ عَلَى بَابِ الْجَدّ وَبَنَيْنَاهَا عَلَى بَابِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ، فَهُوَ سَيّدُنَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَلَمّا دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْبَيْعَةِ فَرّ الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ فَدَخَلَ تَحْتَ بَطْنِ الْبَعِيرِ، فَخَرَجْت أَعْدُو وَأَخَذْت بِيَدِ رَجُلٍ كَانَ يُكَلّمُنِي فَأَخْرَجْنَاهُ مِنْ تَحْتِ بَطْنِ الْبَعِيرِ، فَقُلْت: وَيْحَك! مَا أَدْخَلَك هَاهُنَا؟ أَفِرَارًا مِمّا نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنّي رُعِبْت وَسَمِعْت الْهَيْعَةَ [ (2) ] . قَالَ الرّجُلُ: لَا نَضَحْت [ (3) ] عَنْك أَبَدًا، وَمَا فِيك خَيْرٌ. فَلَمّا مَرِضَ الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ وَنَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ لَزِمَ أَبُو قَتَادَةَ بَيْتَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتّى مَاتَ وَدُفِنَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَاَللهِ، مَا كُنْت لِأُصَلّيَ عَلَيْهِ وَقَدْ سَمِعْته يَقُولُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَذَا وَكَذَا، وَاسْتَحْيَيْت مِنْ قَوْمِي يَرَوْنَنِي خَارِجًا وَلَا أَشْهَدُهُ. وَيُقَالُ: خَرَجَ أَبُو قَتَادَةَ إلَى مَالِهِ بِالْوَادِيَيْنِ فَكَانَ فِيهِ حَتّى دُفِنَ، وَمَاتَ الْجَدّ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَقَالُوا: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديبية أهدى له عمرو
ابن سَالِمٍ وَبُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْخُزَاعِيّانِ غَنَمًا وَجَزُورًا، وَأَهْدَى عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ جُزُرًا، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِالْغَنَمِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ أَنّ عَمْرًا أَهْدَاهَا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَمْرٌو قَدْ أَهْدَى لَنَا مَا تَرَى، فَبَارَكَ اللهُ فِي عَمْرٍو! ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُزُرِ، تُنْحَرُ وَتُقْسَمُ فِي أَصْحَابِهِ، وَفَرّقَ الْغَنَمَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْ آخِرِهَا. قَالَتْ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَعَهُ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا مِنْ لَحْمِ الْجُزُرِ كَنَحْوٍ مِمّا دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ، وَشَرِكْنَا فِي شَاةٍ فَدَخَلَ عَلَيْنَا بَعْضُهَا. وَكَانَ الّذِي جَاءَنَا بِالْهَدِيّةِ غُلَامٌ مِنْهُمْ، فَأَجْلَسَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يَدَيْهِ، وَالْغُلَامُ فِي بُرْدَةٍ لَهُ بَلِيّةٍ [ (1) ] ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ، أَيْنَ تَرَكْت أَهْلَك؟ قَالَ: تَرَكْتهمْ قَرِيبًا بِضَجْنَانَ وَمَا وَالَاهُ. فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْت الْبِلَادَ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: تَرَكْتهَا وَقَدْ تَيَسّرَتْ، قَدْ أَمْشَرَ عِضَاهُهَا [ (2) ] ، وَأَعْذَقَ إذْخِرُهَا [ (3) ] ، وَأَسْلَبَ ثُمَامُهَا [ (4) ] ، وَأَبْقَلَ حَمْضُهَا [ (5) ] ، وَانْبَلّتْ الْأَرْضُ فَتَشَبّعَتْ شَاتُهَا إلَى اللّيْلِ، وَشَبِعَ بَعِيرُهَا إلَى اللّيْلِ مِمّا جَمَعَ مِنْ خَوْصٍ وَضَمْدِ الْأَرْضِ [ (6) ] وَبَقْلٍ، وَتَرَكْت مِيَاهَهُمْ كَثِيرَةً تَشْرَعُ فِيهَا الْمَاشِيَةُ، وَحَاجَةُ الْمَاشِيَةِ إلَى الْمَاءِ قَلِيلٌ لِرُطُوبَةِ الْأَرْضِ. فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لِسَانُهُ، فَأَمَرَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسوة فَكُسِيَ الْغُلَامُ، وَقَالَ الْغُلَامُ: إنّي أُرِيدُ أَنْ أمسّ
يَدَك أَطْلُبُ بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُدْنُ! فَدَنَا فَأَخَذَ يَدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبّلَهَا، وَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: بَارَكَ اللهُ فِيك! فَكَانَ قَدْ بَلَغَ سِنّا، وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ وَحَالٌ فِي قَوْمِهِ حَتّى تُوُفّيَ زَمَنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. قَالُوا: فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ جَاءَهُ بديل ابن وَرْقَاءَ وَرَكْبٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهُمْ عَيْبَةُ نُصْحِ [ (1) ] رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِهَامَةَ، مِنْهُمْ الْمُسْلِمُ وَمِنْهُمْ الْمُوَادِعُ، لَا يُخْفُونَ عَلَيْهِ بِتِهَامَةَ شَيْئًا، فَأَنَاخُوا رَوَاحِلَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ جَاءُوا فَسَلّمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ بُدَيْلٌ: جِئْنَاك مِنْ عِنْدِ قَوْمِك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، قد اسْتَنْفَرُوا لَك الْأَحَابِيشَ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ- النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ- يُقْسِمُونَ بِاَللهِ لَا يُخَلّونَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتّى تَبِيدَ خَضْرَاؤُهُمْ [ (2) ] . فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ، إنّمَا جِئْنَا لِنَطُوفَ بِهَذَا الْبَيْتِ، فَمَنْ صَدّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، وَقُرَيْشٌ قَوْمٌ قَدْ أَضَرّتْ بِهِمْ الْحَرْبُ وَنَهَكَتْهُمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتهمْ مُدّةً يَأْمَنُونَ فِيهَا، وَيُخَلّونَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النّاسِ، وَالنّاسُ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَإِنْ ظَهَرَ أَمْرِي عَلَى النّاسِ كَانُوا بَيْنَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ، أَوْ يُقَاتِلُوا وَقَدْ جَمَعُوا! وَاَللهِ لَأَجْهَدَنّ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي [ (3) ] أَوْ يُنْفِذَ اللهُ أَمْرَهُ!
فَوَعَى بُدَيْلٌ مَقَالَتَهُ وَرَكِبَ، ثُمّ رَكِبُوا إلَى قريش، وكان فى الرّكب عمرو ابن سَالِمٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: وَاَللهِ لَا تُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ يَعْرِضُ هَذَا أَبَدًا، حَتّى هَبَطُوا عَلَى كُفّارِ قُرَيْشٍ. فَقَالَ نَاسٌ مِنْهُمْ: هَذَا بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ، إنّمَا جَاءُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَخْبِرُوكُمْ، فَلَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ حَرْفٍ وَاحِدٍ! فَلَمّا رَأَى بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ أَنّهُمْ لَا يَسْتَخْبِرُونَهُمْ قَالَ بُدَيْلٌ: إنّا جِئْنَا مِنْ عِنْدِ مُحَمّدٍ، أَتُحِبّونَ أَنْ نُخْبِرَكُمْ؟ قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَالْحَكَمُ بْنُ ابى الْعَاصِ: لَا وَاَللهِ، مَا لَنَا حَاجَةٌ بِأَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ! وَلَكِنْ أَخْبِرُوهُ عَنّا أَنّهُ لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا عَامَهُ هَذَا أَبَدًا حَتّى لَا يَبْقَى مِنّا رَجُلٌ. فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ: وَاَللهِ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رَأْيًا أَعْجَبَ! وَمَا تَكْرَهُونَ أَنْ تَسْمَعُوا مِنْ بُدَيْلٍ وَأَصْحَابِهِ؟ فَإِنْ أَعْجَبَكُمْ أَمْرٌ قَبِلْتُمُوهُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ شَيْئًا تَرَكْتُمُوهُ، لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا أَبَدًا! وَقَالَ رجال من ذوى رأيهم وأشرافهم، صفوان ابن أُمَيّةَ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَخْبِرُونَا بِاَلّذِي رَأَيْتُمْ وَاَلّذِي سَمِعْتُمْ. فَأَخْبَرُوهُمْ بِمَقَالَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الّتِي قَالَ، وَمَا عَرَضَ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ الْمُدّةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا مَعْشَرَ قريش تَتّهِمُونَنِي؟ أَلَسْتُمْ الْوَالِدَ وَأَنَا الْوَلَدُ؟ وَقَدْ اسْتَنْفَرْت أَهْلَ عُكَاظٍ لِنَصْرِكُمْ، فَلَمّا بَلّحُوا [ (1) ] عَلَيّ نَفَرْت إلَيْكُمْ بِنَفْسِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي! فَقَالُوا: قَدْ فَعَلْت! فَقَالَ: وَإِنّي نَاصِحٌ لَكُمْ شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ، لَا أَدّخِرُ عَنْكُمْ نُصْحًا، وَإِنّ بُدَيْلًا قَدْ جَاءَكُمْ بِخُطّةِ رُشْدٍ لَا يَرُدّهَا أَحَدٌ أَبَدًا إلّا أَخَذَ شَرّا مِنْهَا، فَاقْبَلُوهَا مِنْهُ وَابْعَثُونِي حَتّى آتِيَكُمْ بِمِصْدَاقِهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنْظُرَ إلَى مَنْ مَعَهُ وَأَكُونَ لَكُمْ عَيْنًا آتِيكُمْ بِخَبَرِهِ. فَبَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أناخ راحلته
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى جَاءَهُ، ثُمّ قَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّي تَرَكْت قَوْمَك، كَعْبَ بْنَ لُؤَيّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيّ عَلَى أَعْدَادِ [ (1) ] مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ اسْتَنْفَرُوا لَك أَحَابِيشَهُمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَهُمْ يُقْسِمُونَ بِاَللهِ لَا يُخَلّونَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتّى تَجْتَاحَهُمْ. وَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ قِتَالِهِمْ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، أَنْ تَجْتَاحَ قَوْمَك، وَلَمْ نَسْمَعْ بِرَجُلٍ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَك، أَوْ بَيْنَ أَنْ يَخْذُلَك مَنْ نَرَى مَعَك، فَإِنّي لَا أَرَى مَعَك إلّا أَوْبَاشًا [ (2) ] مِنْ النّاسِ، لَا أَعْرِفُ وُجُوهَهُمْ وَلَا أَنْسَابَهُمْ. فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَالَ: اُمْصُصْ بَظْرَ اللّاتِ! أَنَحْنُ نَخْذُلُهُ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: أما والله لولا يدلك عِنْدِي لَمْ أَجْزِك بِهَا بَعْدُ لَأَجَبْتُك! وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ اسْتَعَانَ فِي حَمْلِ دِيَةٍ، فَأَعَانَهُ الرّجُلُ بِالْفَرِيضَتَيْنِ وَالثّلَاثِ وَأَعَانَهُ أَبُو بَكْرٍ بِعَشْرِ فَرَائِضَ، فَكَانَتْ هَذِهِ يَدَ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ. فَطَفِقَ عُرْوَةُ وَهُوَ يُكَلّمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسّ لِحْيَتَهُ- وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، عَلَى وَجْهِهِ الْمِغْفَرُ- فَطَفِقَ الْمُغِيرَةُ كُلّمَا مَسّ لِحْيَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَعَ يَدَهُ وَيَقُولُ: اُكْفُفْ يَدَك عَنْ مَسّ لِحْيَةِ رَسُولِ اللهِ قَبْلَ أَلّا تَصِلَ إلَيْك! فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ غَضِبَ عُرْوَةُ فَقَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَنْتَ يَا مُحَمّدُ مَنْ هَذَا الّذِي أَرَى مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا ابْنُ أَخِيك الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. قَالَ: وَأَنْتَ بِذَلِكَ يا غدر؟ والله ما غسلت عنك غدرتك إلّا بِعُلَابِطَ [ (1) ] أَمْسِ! لَقَدْ أَوْرَثْتنَا الْعَدَاوَةَ مِنْ ثقيف
إلَى آخِرِ الدّهْرِ! يَا مُحَمّدُ، أَتَدْرِي كَيْفَ صَنَعَ هَذَا؟ إنّهُ خَرَجَ فِي رَكْبٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمّا كَانُوا بَيْنَنَا وَنَامُوا فَطَرَقَهُمْ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ حَرَائِبَهُمْ وَفَرّ مِنْهُمْ. وَكَانَ الْمُغِيرَةُ خَرَجَ مَعَ نَفَرٍ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حُطَيْطِ بْنِ جُشَمِ بْنِ قَسِيّ- وَالْمُغِيرَةُ أَحَدُ الْأَحْلَامِ [ (1) ]- وَمَعَ الْمُغِيرَةِ حَلِيفَانِ لَهُ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا دَمّونُ- رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ- وَالْآخَرُ الشّرِيدُ، وَإِنّمَا كَانَ اسْمَهُ عَمْرٌو، فَلَمّا صَنَعَ الْمُغِيرَةُ بِأَصْحَابِهِ مَا صنع شرّده فسمّى الشّريد. وَخَرَجُوا إلَى الْمُقَوْقَسِ صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيّةِ، فَجَاءَ بَنِي مَالِكٍ وَآثَرَهُمْ عَلَى الْمُغِيرَةِ فَأَقْبَلُوا رَاجِعِينَ، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَيْسَانَ [ (2) ] شَرِبُوا خَمْرًا، فَكَفّ الْمُغِيرَةُ عَنْ بَعْضِ الشّرَابِ وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ، وَشَرِبَتْ بَنُو مَالِكٍ حَتّى سَكِرُوا، فَوَثَبَ عَلَيْهِمْ الْمُغِيرَةُ فَقَتَلَهُمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَلَمّا قَتَلَهُمْ وَنَظَرَ إلَيْهِمْ دَمّونُ تَغَيّبَ عَنْهُمْ، وَظَنّ أَنّ الْمُغِيرَةَ إنّمَا حَمَلَهُ عَلَى قَتْلِهِمْ السّكْرُ، فَجَعَلَ الْمُغِيرَةُ يَطْلُبُ دَمّونَ وَيَصِيحُ بِهِ فَلَمْ يَأْتِ، وَيُقَلّبُ الْقَتْلَى فَلَا يَرَاهُ فَبَكَى، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ دَمّونُ خَرَجَ إلَيْهِ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: مَا غَيّبَك؟ قَالَ: خَشِيت أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْت الْقَوْمَ. قَالَ الْمُغِيرَةُ: إنّمَا قَتَلْت بَنِي مَالِكٍ بِمَا صَنَعَ بِهِمْ الْمُقَوْقَسُ. قَالَ: وَأَخَذَ الْمُغِيرَةُ أَمْتِعَتَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَحِقَ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أُخَمّسُهُ، هَذَا غَدْرٌ! وَذَلِكَ حِينَ أُخْبِرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُمْ. وَأَسْلَمَ الْمُغِيرَةُ، وَأَقْبَلَ الشّرِيدُ فَقَدِمَ مَكّةَ فَأَخْبَرَ أَبَا سُفْيَانَ ابن حَرْبٍ بِمَا صَنَعَ الْمُغِيرَةُ بِبَنِي مَالِكٍ، فَبَعَثَ أبو سفيان معاوية بن أبى
سُفْيَانَ إلَى عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ- وَهُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بْنِ أَبِي عَامِرِ ابن مَسْعُودِ بْنِ مُعَتّبٍ- فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: خَرَجْت حَتّى إذَا كُنْت بِنَعْمَانَ [ (1) ] قُلْت فِي نَفْسِي: أَيْنَ أَسْلُكُ؟ [إنْ سَلَكْت] ذَا غِفَارٍ فَهِيَ أَبْعَدُ وَأَسْهَلُ، وَإِنْ سَلَكْت ذَا الْعَلَقِ [ (2) ] فَهِيَ أَغْلَظُ وَأَقْرَبُ. فَسَلَكْت ذَا غِفَارٍ فَطَرَقْت عُرْوَةَ بْنَ مسعود بن عمرو المالكي، فو الله مَا كَلّمْته مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ وَاللّيْلَةَ أُكَلّمُهُ. قَالَ: فَخَرَجْنَا إلَى مَسْعُودٍ فَنَادَاهُ عُرْوَةُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُرْوَةُ. فَأَقْبَلَ مَسْعُودٌ إلَيْنَا وَهُوَ يَقُولُ: أَطَرَقْت [عَرَاهِيَةً] [ (3) ] أَمْ طَرَقْت بِدَاهِيَةٍ؟ بَلْ طَرَقْت بِدَاهِيَةٍ! أَقَتَلَ رَكْبُهُمْ رَكْبَنَا أَمْ قَتَلَ رَكْبُنَا رَكْبَهُمْ؟ لَوْ قَتَلَ رَكْبُنَا رَكْبَهُمْ مَا طَرَقَنِي عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ! فَقَالَ عُرْوَةُ: أَصَبْت، قَتَلَ [ (4) ] رَكْبِي رَكْبَك يَا مَسْعُودُ، اُنْظُرْ مَا أَنْتَ فَاعِلٌ! فَقَالَ مَسْعُودٌ: إنّي عَالِمٌ بِحِدَةِ بَنِي مَالِكٍ وَسُرْعَتِهِمْ إلَى الْحَرْبِ فَهَبْنِي صَمْتًا. قَالَ: فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَا مَسْعُودٌ فَقَالَ: بَنِي مَالِكٍ، إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنّهُ قَتَلَ إخْوَانَكُمْ بَنِي مَالِكٍ فَأَطِيعُونِي وَخُذُوا الدّيَةَ، اقْبَلُوهَا مِنْ بَنِي عَمّكُمْ وَقَوْمِكُمْ. قَالُوا: لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، وَاَللهِ لَا تُقِرّك الْأَحْلَافُ أَبَدًا حِينَ تَقْبَلُهَا. قَالَ: أَطِيعُونِي وَاقْبَلُوا مَا قُلْت لكم، فو الله لكأنى بكنانة بن عبد يا ليل قَدْ أَقْبَلَ تَضْرِبُ دِرْعُهُ رَوْحَتَيْ [ (5) ] رِجْلَيْهِ، لَا يعانق رجلا إلّا
صَرَعَهُ، وَاَللهِ لَكَأَنّي بِجُنْدُبِ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ أَقْبَلَ كَالسّيّدِ عَاضّا عَلَى سَهْمٍ مُفَوّقٍ بِآخَرَ، لَا يَسِيرُ إلَى أَحَدٍ بِسَهْمِهِ إلّا وَضَعَهُ حَيْثُ يُرِيدُ! فَلَمّا غَلَبُوهُ أَعَدّ لِلْقِتَالِ وَاصْطَفّوا، أقبل كنانة بن عبد يا ليل يَضْرِبُ دِرْعُهُ رَوْحَتَيْ رِجْلَيْهِ يَقُولُ: مَنْ مُصَارِعٌ؟ ثُمّ أَقْبَلَ جُنْدُبُ بْنُ عَمْرٍو عَاضّا سَهْمًا مُفَوّقًا بِآخَرَ. قَالَ مَسْعُودٌ: يَا بَنِي مَالِكٍ أَطِيعُونِي! قَالُوا: الْأَمْرُ إلَيْك! قَالَ: فَبَرَزَ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا عُرْوَةُ بْنَ مَسْعُودٍ اُخْرُجْ إلَيّ! فَخَرَجَ إلَيْهِ فَلَمّا الْتَقَيَا بَيْنَ الصّفّيْنِ قَالَ: عَلَيْك ثَلَاثَ عَشْرَةَ دِيَةً، فَإِنّ الْمُغِيرَةَ قَدْ قَتَلَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاحْمِلْ بِدِيَاتِهِمْ. قَالَ عُرْوَةُ: حَمَلْت بِهَا، هِيَ عَلَيّ! قَالَ: فَاصْطَلَحَ النّاسُ. قَالَ الْأَعْشَى أَخُو بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: تَحَمّلَ عُرْوَةُ الْأَحْلَافِ [ (1) ] لَمّا ... رَأَى أَمْرًا تَضِيقُ بِهِ الصّدُورُ ثَلَاثَ مِئِينَ عَادِيَةً وَأَلْفًا ... كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلَدُ الصّبُورُ قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَلَمّا فَرَغَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَدّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابِهِ وَكَمَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُدّةِ، رَكِبَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إنّي قَدْ وَفَدْت عَلَى الْمُلُوكِ، عَلَى كِسْرَى وَهِرَقْلَ وَالنّجَاشِيّ، وَإِنّي وَاَللهِ مَا رَأَيْت مَلِكًا قَطّ أَطْوَعَ فِيمَنْ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ مِنْ مُحَمّدٍ فِي أَصْحَابِهِ، وَاَللهِ مَا يُشِدّونَ إلَيْهِ النّظَرَ، وَمَا يَرْفَعُونَ عِنْدَهُ الصّوْتَ، وَمَا يَكْفِيهِ إلّا أَنْ يُشِيرَ إلَى أَمْرٍ فَيُفْعَلَ، وَمَا يَتَنَخّمُ وَمَا يَبْصُقُ إلّا وَقَعَتْ فِي يَدَيْ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَمْسَحُ بِهَا جِلْدَهُ، وَمَا يَتَوَضّأُ إلّا ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ أَيّهُمْ يَظْفَرُ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَدْ حَزَرْت الْقَوْمَ، وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ إنْ أَرَدْتُمْ السّيْفَ بَذَلُوهُ لَكُمْ، وَقَدْ رَأَيْت قَوْمًا مَا يُبَالُونَ مَا يُصْنَعُ بِهِمْ إذَا مَنَعُوا صاحبهم، والله لقد رأيت
نُسَيّاتٍ مَعَهُ إنْ كُنّ لَيُسْلِمُنّهُ أَبَدًا عَلَى حَالٍ، فَرُوا رَأْيَكُمْ، وَإِيّاكُمْ وَإِضْجَاعَ الرّأْيِ [ (1) ] ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطّةً فَمَادّوهُ! يَا قَوْمِ، اقْبَلُوا مَا عَرَضَ فَإِنّي لَكُمْ نَاصِحٌ، مَعَ أَنّي أَخَافُ أَلّا تُنْصَرُوا عَلَيْهِ! رَجُلٌ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ مُعَظّمًا لَهُ، مَعَهُ الْهَدْيُ يَنْحَرُهُ وَيَنْصَرِفُ! فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لَا تَكَلّمْ بِهَذَا يَا أَبَا يَعْفُورٍ [ (2) ] ! لَوْ غَيْرُك تَكَلّمَ بِهَذَا لَلُمْنَاهُ، وَلَكِنْ نَرُدّهُ عَنْ الْبَيْتِ فِي عَامِنَا هَذَا وَيَرْجِعُ إلَى قَابِلٍ. قَالُوا: ثُمّ جَاءَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ، فَلَمّا طَلَعَ وَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنّ هَذَا رَجُلٌ غَادِرٌ! فَلَمّا انْتَهَى إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلّمَهُ بِنَحْوٍ مِمّا كلّمه أصحابه، فلمّا انتهى إلى قريش أخبرهم بما رد عليه. فبعثوا الجليس بْنَ عَلْقَمَةَ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ الْأَحَابِيشِ- فَلَمّا طَلَعَ الْحُلَيْسُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا مِنْ قَوْمٍ يُعَظّمُونَ الْهَدْيَ وَيَتَأَلّهُونَ [ (3) ] ، ابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ حَتّى يَرَاهُ. فَبَعَثُوا الْهَدْيَ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى الْهَدْيِ يَسِيلُ [ (4) ] فِي الْوَادِي عَلَيْهِ الْقَلَائِدُ، قَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ [ (5) ] يُرَجّعُ الْحَنِينَ. وَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ فِي وَجْهِهِ يُلَبّونَ، قَدْ أَقَامُوا نِصْفَ شَهْرٍ قَدْ تَفِلُوا [ (6) ] وَشَعِثُوا، رَجَعَ وَلَمْ يَصِلْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعْظَامًا لِمَا رَأَى، حَتّى رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: إنّي قَدْ رَأَيْت مَا لَا يَحِلّ صَدّهُ، رَأَيْت الْهَدْيَ فِي قَلَائِدِهِ قَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ، مَعْكُوفًا عَنْ مَحِلّهِ، وَالرّجَالَ قَدْ تَفِلُوا وَقَمِلُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهَذَا الْبَيْتِ! أَمَا وَاَللهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ، وَلَا عاقدناكم
عَلَى أَنْ تَصُدّوا عَنْ بَيْتِ اللهِ مَنْ جَاءَ مُعَظّمًا لِحُرْمَتِهِ مُؤَدّيًا لِحَقّهِ، وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُخَلّنّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ، أَوْ لَأَنْفِرَنّ بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ! قَالُوا: إنّمَا كُلّ مَا رَأَيْت مَكِيدَةٌ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَاكْفُفْ عَنّا حَتّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا بَعْضَ مَا نَرْضَى بِهِ. وَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ الْكَعْبِيّ عَلَى جَمَلٍ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يقال له الثّعْلَبُ، لِيُبَلّغَ أَشْرَافَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ لَهُ، وَيَقُولَ: إنّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، مَعَنَا الْهَدْيُ مَعْكُوفًا، فَنَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَنُحِلّ وَنَنْصَرِفُ. فَعَقَرُوا جَمَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاَلّذِي وَلِيَ عَقْرَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قَوْمِهِ حَتّى خَلّوا سَبِيلَ خِرَاشٍ، فَرَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكَدْ [ (1) ] ، فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَقِيَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ابْعَثْ رَجُلًا أَمْنَعَ مِنّي! فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، قَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي لَهَا، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بَنِي عَدِيّ مَنْ يَمْنَعُنِي، وَإِنْ أَحْبَبْت يَا رَسُولَ اللهِ دَخَلْت عَلَيْهِمْ. فَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا. قَالَ عُمَرُ: وَلَكِنْ أَدُلّك يَا رَسُولَ اللهِ عَلَى رَجُلٍ أَعَزّ بِمَكّةَ مِنّي، وَأَكْثَرَ عَشِيرَةً وَأَمْنَعَ، عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى قُرَيْشٍ فَخَبّرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَإِنّمَا جِئْنَا زَوّارًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظّمِينَ لِحُرْمَتِهِ، مَعَنَا الْهَدْيُ نَنْحَرُهُ وَنَنْصَرِفُ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ حَتّى أَتَى بَلْدَحَ، فَيَجِدُ قُرَيْشًا هُنَالِكَ فَقَالُوا: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ إليكم، يدعوكم إلى الله
وَإِلَى الْإِسْلَامِ، تَدْخُلُونَ فِي الدّينِ كَافّةً، فَإِنّ اللهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ وَمُعِزّ نَبِيّهُ! وَأُخْرَى تَكُفّونَ، وَيَلِي هَذَا مِنْهُ غَيْرُكُمْ، فَإِنْ ظَفَرُوا بِمُحَمّدٍ فَذَلِكَ مَا أَرَدْتُمْ، وَإِنْ ظَفِرَ مُحَمّدٌ كُنْتُمْ بِالْخِيَارِ، أَنْ تَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ أَوْ تُقَاتِلُوا وَأَنْتُمْ وَافِرُونَ جَامّونَ، إنّ الْحَرْبَ قَدْ نَهَكَتْكُمْ وَأَذْهَبَتْ بِالْأَمَاثِلِ مِنْكُمْ! وَأُخْرَى، إنّ رَسُولَ اللهِ يُخْبِرُكُمْ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالِ أحد، إنما جاء مُعْتَمِرًا، مَعَهُ الْهَدْيُ عَلَيْهِ الْقَلَائِدُ يَنْحَرُهُ وَيَنْصَرِفُ. فَجَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُكَلّمُهُمْ فَيَأْتِيهِمْ بِمَا لَا يُرِيدُونَ، وَيَقُولُونَ: قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ وَلَا كَانَ هَذَا أَبَدًا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً، فَارْجِعْ إلَى صَاحِبِك فَأَخْبِرْهُ أَنّهُ لا يصل إلينا. فقام إليه أبان ابن سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَرَحّبَ بَهْ وَأَجَازَهُ وَقَالَ: لَا تُقَصّرْ عَنْ حَاجَتِك! ثُمّ نَزَلَ عَنْ فَرَسٍ كَانَ عَلَيْهِ فَحَمَلَ عُثْمَانَ عَلَى السّرْجِ وَرَدَفَهُ وَرَاءَهُ، فَدَخَلَ عُثْمَانُ مَكّةَ، فَأَتَى أَشْرَافَهُمْ رَجُلًا رَجُلًا، أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ ابن أُمَيّةَ وَغَيْرَهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ لَقِيَ بِبَلْدَحٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَقِيَ بِمَكّةَ، فَجَعَلُوا يَرُدّونَ عَلَيْهِ: إنّ مُحَمّدًا لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا أَبَدًا! قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ثُمّ كُنْت أَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ مُسْتَضْعَفِينَ فَأَقُولُ: إنّ رَسُولَ اللهِ يُبَشّرُكُمْ بِالْفَتْحِ وَيَقُولُ: «أُظِلّكُمْ حَتّى لَا يَسْتَخْفِي بِمَكّةَ الْإِيمَانُ» [ (1) ] . فَقَدْ كُنْت أَرَى الرّجُلَ مِنْهُمْ وَالْمَرْأَةَ تَنْتَحِبُ حَتّى أَظُنّ أَنّهُ يَمُوتُ فَرَحًا بِمَا خَبّرْته، فَيَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْفِي الْمَسْأَلَةَ، وَيَشْتَدّ ذَلِك [عَلَى] أَنْفُسِهِمْ، وَيَقُولُونَ: اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللهِ مِنّا السّلَامَ، إنّ الّذِي أَنَزَلَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَقَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَهُ بَطْنَ مَكّةَ! وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَصَلَ عُثْمَانُ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَظُنّ عُثْمَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ مَحْصُورُونَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ،
وَمَا يَمْنَعُهُ وَقَدْ وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ؟ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ظَنّي بَهْ أَلّا يَطُوفَ حَتّى نَطُوفَ، فَلَمّا رَجَعَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: اشْتَفَيْت مِنْ الْبَيْتِ يَا عَبْدَ اللهِ! قَالَ عُثْمَانُ: بِئْسَ مَا ظَنَنْتُمْ بِي! لَوْ كُنْت بِهَا سَنَةً وَالنّبِيّ مُقِيمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَا طُفْت، وَلَقَدْ دَعَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى أَنْ أَطُوفَ فَأَبَيْت ذَلِكَ عَلَيْهَا. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لِرَسُولِ اللهِ كَانَ أَعْلَمَنَا بِاَللهِ تَعَالَى وَأَحْسَنِنَا ظَنّا. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ يَتَحَارَسُونَ اللّيْلَ، وَكَانَ الرّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَبِيتُ عَلَى الْحَرَسِ حَتّى يُصْبِحَ يُطِيفُ بِالْعَسْكَرِ، فَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَنَاوَبُونَ الْحِرَاسَةَ: أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَلَى فَرَسِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ تِلْكَ اللّيَالِي وَعُثْمَانُ بِمَكّةَ بَعْدُ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ بَعَثَتْ لَيْلًا خَمْسِينَ رَجُلًا، عَلَيْهِمْ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يُطِيفُوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَاءَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ غِرّةً، فَأَخَذَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَصْحَابُهُ، فَجَاءَ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عُثْمَانُ بِمَكّةَ قَدْ أَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا يَدْعُو قُرَيْشًا، وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ دَخَلُوا مَكّةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِيهِمْ، فَبَلَغَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إن عثمان وَأَصْحَابَهُ قَدْ قُتِلُوا، فَذَلِكَ حِينَ دَعَا إلَى الْبَيْعَةِ. وَبَلَغَ قُرَيْشًا حَبْسُ أَصْحَابِهِمْ، فَجَاءَ جَمْعٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ حَتّى تَرَامَوْا بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، وَأَسَرُوا أَيْضًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ حِينَئِذٍ أَسْرَى، ثُمّ إنّ قُرَيْشًا بَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى وَمِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ يوم مَنَازِلَ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ، وَقَدْ نَزَلَتْ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ
الْحُدَيْبِيَةِ جَمِيعًا. قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ: وَالرّسْلُ تَخْتَلِفُ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَمَرّ بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِي مَنْزِلِنَا. قَالَتْ: فَظَنَنْت أَنّهُ يُرِيدُ حَاجَةً فَإِذَا هُوَ قَدْ بَلَغَهُ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ قُتِلَ، فَجَلَسَ فِي رِحَالِنَا ثُمّ قَالَ: إنّ اللهَ أَمَرَنِي بِالْبَيْعَةِ. قَالَتْ: فَأَقْبَلَ النّاسُ يُبَايِعُونَهُ فِي رِحَالِنَا حَتّى تَدَارَكَ النّاسُ، فَمَا بَقِيَ لَنَا مَتَاعٌ إلّا وَطِئَ! وَزَوْجُهَا غَزِيّةُ بْنُ عَمْرٍو. وَقَالَتْ: فَبَايَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ يَوْمئِذٍ. قَالَتْ: فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَلَبّسُوا السّلَاحَ، وَهُوَ مَعَنَا قَلِيلٌ، إنّمَا خَرَجْنَا عُمّارًا، فَأَنَا أنظر إلى غزيّة ابن عَمْرٍو وَقَدْ تَوَشّحَ بِالسّيْفِ، فَقُمْت إلَى عَمُودٍ كُنّا نَسْتَظِلّ بَهْ فَأَخَذْته فِي يَدِي، وَمَعِي سِكّينٌ قَدْ شَدَدْته فِي وَسَطِي، فَقُلْت: إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ رَجَوْت أَنْ أَقْتُلَهُ. فَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يُبَايِعُ النّاسَ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ آخِذٌ بِيَدِهِ، فَبَايَعَهُمْ عَلَى أَلّا يَفِرّوا. وَقَالَ قَائِلٌ: بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ. وَيُقَالُ: أَوّلُ الناس بايع سنان بن أبى سنان ابن مِحْصَنٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبَايِعُك عَلَى مَا فِي نَفْسِك. فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النّاسَ عَلَى بَيْعَةِ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ الّذِينَ دَخَلُوا عَلَى أَهْلِيهِمْ عَشَرَةً مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة، وحاطب بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الشّمْسِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ، وَأَبُو الرّومِ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ وَهْبٍ حَلِيفُ سُهَيْلٍ فِي بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى. فَلَمّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَهْلٌ أَمَرَهُمْ!
قَالَ: مَنْ قَاتَلَك لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْيٍ ذَوِي رَأْيِنَا وَلَا ذَوِي الْأَحْلَامِ مِنّا، بَلْ كُنّا لَهُ كَارِهِينَ حِينَ بَلَغَنَا وَلَمْ نَعْلَمْ بِهِ، وَكَانَ مِنْ سُفَهَائِنَا! فَابْعَثْ إلَيْنَا بِأَصْحَابِنَا الّذِينَ أَسَرْت أَوّلَ مَرّةٍ وَاَلّذِينَ أَسَرْت آخِرَ مَرّةٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي غَيْرُ مُرْسِلِهِمْ حَتّى تُرْسِلَ أَصْحَابِي. قَالَ سُهَيْلٌ: أَنْصَفْتنَا! فَبَعَثَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص إلَى قُرَيْشٍ الشّتِيمَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ التّيْمِيّ: إنّكُمْ حَبَسْتُمْ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ، لَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَقَدْ كُنّا لِذَلِكَ كَارِهِينَ! وَقَدْ أَبَى مُحَمّدٌ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ أُسِرَ مِنْ أَصْحَابِكُمْ حَتّى تُرْسِلُوا أَصْحَابَهُ، وَقَدْ أَنْصَفَنَا، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنّ مُحَمّدًا يَطْلِقُ لَكُمْ أَصْحَابَكُمْ. فَبَعَثُوا إلَيْهِ بِمَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُمْ الّذِينَ أُسِرُوا أَوّلَ مَرّةٍ وَآخِرَ مَرّةٍ، فَكَانَ فِيمَنْ أُسِرَ أَوّلَ مَرّةٍ عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النّاسَ يَوْمئِذٍ تَحْتَ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، وَقَدْ كَانَ مِمّا صَنَعَ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: إنّ رُوحَ الْقُدُسِ قَدْ نَزَلَ عَلَى الرّسُولِ وَأَمَرَ بِالْبَيْعَةِ، فَأَخْرِجُوا عَلَى اسْمِ اللهِ فَبَايِعُوا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَخَرَجْت مَعَ أَبِي وَهُوَ يُنَادِي لِلْبَيْعَةِ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ النّدَاءِ أَرْسَلَنِي أَبِي إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَهُ أَنّي قَدْ أَذّنْت النّاسَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَأَرْجِعُ فَأَجِدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النّاسَ، فَبَايَعْته الثّانِيَةَ. قَالَ عَبْدُ الله لِعُمَرَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنَ لَهُ فَرَجَعَ، وَكَانَ يَمْسِكُ بِيَدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُبَايِعُ. فَلَمّا نَظَرَتْ قُرَيْشٌ- سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وحويطب ابن عَبْدِ الْعُزّى وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، وَعُيُونُ قُرَيْشٍ- إلَى مَا رَأَتْ مِنْ سُرْعَةِ النّاسِ إلَى الْبَيْعَةِ وَتَشْمِيرِهِمْ إلَى الْحَرْبِ، اشْتَدّ رُعْبُهُمْ وَخَوْفُهُمْ وَأَسْرَعُوا إلَى الْقَضِيّةِ.
فَلَمّا رَجَعَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَتَى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى الشّجَرَةِ فَبَايَعَهُ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ بَايَعَ النّاسَ قَالَ: إنّ عُثْمَانَ ذَهَبَ فِي حَاجَةِ اللهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، فَأَنَا أُبَايِعُ لَهُ! فَضَرَبَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: فَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ أَرْسَلَتْ إلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ: إنْ أَحْبَبْت أَنْ تَدْخُلَ فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَافْعَلْ. وَابْنُهُ جَالِسٌ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَت، أُذَكّرُك اللهَ أَنْ تَفْضَحَنَا فِي كُلّ مَوْطِنٍ، تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَطُفْ رَسُولُ اللهِ؟ فَأَبَى ابْنُ أُبَيّ وَقَالَ: لَا أَطُوفُ حَتّى يَطُوفَ رَسُولُ اللهِ. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَلَامُهُ ذَلِكَ فَسُرّ بِهِ. وَرَجَعَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ إلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِمَا رَأَوْا مِنْ سُرْعَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْبَيْعَةِ، وَمَا جَعَلُوا لَهُ، فَقَالَ أَهْلُ الرّأْيِ مِنْهُمْ: لَيْسَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ نُصَالِحَ مُحَمّدًا عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ عَنّا عَامَهُ هذا ويرجع قابل، فَيُقِيمُ ثَلَاثًا وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَنْصَرِفُ، وَيُقِيمُ بِبَلَدِنَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا. فَأَجْمَعُوا [عَلَى] ذَلِكَ، فَلَمّا أَجَمَعَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الصّلْحِ وَالْمُوَادَعَةِ بَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَمَعَهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَقَالُوا: ائْتِ مُحَمّدًا فَصَالِحْهُ، وَلْيَكُنْ فِي صُلْحِك لَا يَدْخُلُ فِي عَامِهِ هَذَا، فَوَاَللهِ لَا يَتَحَدّثُ الْعَرَبُ أَنّك دَخَلْت عَلَيْنَا عَنْوَةً. فَأَتَى سُهَيْلٌ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا رَآهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَعَ قَالَ: أَرَادَ الْقَوْمَ الصّلْحَ. فَكَلّمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالَ الْكَلَامَ، وَتَرَاجَعُوا، وَتَرَافَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَانْخَفَضَتْ. فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بن عبد الله، عن الحارث ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْت أُمّ عُمَارَةَ تَقُولُ: إنّي لِأَنْظُرَ إلَى
رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا يَوْمئِذٍ مُتَرَبّعًا، وَإِنّ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ وَسَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ مُقَنّعَانِ بِالْحَدِيدِ، قَائِمَانِ [ (1) ] عَلَى رَأْسِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذْ رَفَعَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو صَوْتَهُ قَالَا: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِك عِنْدَ رَسُولِ اللهِ! وَسُهَيْلٌ بَارِكٌ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، رَافِعٌ صَوْتَهُ كَأَنّي أَنْظُرُ إلَى عَلَمٍ [ (2) ] فِي شَفَتِهِ وَإِلَى أَنْيَابِهِ، وَإِنّ الْمُسْلِمِينَ لَحَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ. قَالُوا: فَلَمّا اصْطَلَحُوا فَلَمْ يَبْقَ إلّا الْكِتَابُ، وَثَبَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى! قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَلَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي. فَذَهَبَ عُمَرُ إلى أبى بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْر، أَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: بَلَى! فَقَالَ عُمَرُ: فَلِمَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْزَمْ غَرْزَهُ [ (3) ] ! فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنّ الْحَقّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَلَنْ نُخَالِفَ أَمْرَ اللهِ وَلَنْ يُضَيّعَهُ اللهُ! وَلَقِيَ عُمَرُ مِنْ الْقَضِيّةِ أَمْرًا كَبِيرًا، وَجَعَلَ يَرُدّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَلَامَ وَيَقُولُ: عَلَامَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ فَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَنَا رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيّعَنِي! قَالَ: فَجَعَلَ يَرُدّ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَلَامَ. قَالَ: يَقُولُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ: أَلّا تَسْمَعَ يَا ابْنَ الْخَطّابِ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ مَا يَقُولُ؟ تَعَوّذْ بِاَللهِ مِنْ الشّيْطَانِ وَاتّهِمْ رَأْيَك! قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَجَعَلْت أَتَعَوّذُ بِاَللهِ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ حِيَاءً، فما أصابنى
قَطّ شَيْءٌ مِثْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، مَا زِلْت أَصُومُ وَأَتَصَدّقُ مِنْ الّذِي صَنَعْت مَخَافَةَ كَلَامِي الّذِي تَكَلّمْت يَوْمئِذٍ. فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ لِي عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ، وَذَكَرَ الْقَضِيّةَ: ارْتَبْت ارْتِيَابًا لَمْ أَرْتَبْهُ مُنْذُ أَسْلَمْت إلّا يَوْمئِذٍ، وَلَوْ وَجَدْت ذَلِكَ الْيَوْمَ شِيعَةً تَخْرُجُ عَنْهُمْ رَغْبَةً عَنْ الْقَضِيّةِ لَخَرَجْت. ثُمّ جَعَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاقِبَتَهَا خَيْرًا وَرُشْدًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: جَلَسْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمًا، فَذَكَرَ الْقَضِيّةَ فَقَالَ: لَقَدْ دَخَلَنِي يَوْمئِذٍ مِنْ الشّكّ، وَرَاجَعْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يومئذ مراجعة ما رجعته مِثْلَهَا قَطّ، وَلَقَدْ عَتَقْت فِيمَا دَخَلَنِي يَوْمئِذٍ رِقَابًا، وَصُمْت دَهْرًا، وَإِنّي لَأَذْكُرُ مَا صَنَعْت خَالِيًا فَيَكُونُ أَكْبَرَ هَمّي، ثُمّ جَعَلَ اللهُ عَاقِبَةَ الْقَضِيّةِ خَيْرًا، فَيَنْبَغِي لِلْعِبَادِ أَنْ يَتّهِمُوا الرّأْيَ، وَاَللهِ لَقَدْ دَخَلَنِي يَوْمئِذٍ مِنْ الشّكّ حَتّى قُلْت فِي نَفْسِي: لَوْ كُنّا مِائَةَ رَجُلٍ عَلَى مِثْلِ رَأْيِي مَا دَخَلْنَا فِيهِ أَبَدًا! فَلَمّا وَقَعَتْ الْقَضِيّةُ أَسْلَمَ فِي الْهُدْنَةِ أَكْثَرَ مِمّنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْ يَوْمِ دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَا كَانَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ الصّلْحَ، لِأَنّهُمْ خَرَجُوا لَا يَشُكّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه حَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَنّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَأَخَذَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، وَعَرَفَ مَعَ الْمُعْرِفِينَ! فَلَمّا رَأَوْا الصّلْحَ دَخَلَ النّاسُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتّى كَادُوا يَهْلِكُونَ. فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ قَدْ اصْطَلَحُوا وَالْكِتَابُ لَمْ يُكْتَبْ، أَقْبَلَ أَبُو جَنْدَلِ بن سهيل، قد أفلت برسف فى القيد متوشّح السيف خلاله أَسْفَلُ مَكّةَ، فَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا حَتّى أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُكَاتِبُ سُهَيْلًا، فَرَفَعَ سُهَيْلٌ رَأْسَهُ فَإِذَا
بِابْنِهِ أَبِي جَنْدَلٍ، فَقَامَ إلَيْهِ سُهَيْلٌ فَضَرَبَ وَجْهَهُ بِغُصْنِ شَوْكٍ وَأَخَذَ بِلَبّتِهِ وَصَاحَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي؟ فَزَادَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ شَرّا إلَى مَا بِهِمْ، وَجَعَلُوا يَبْكُونَ لِكَلَامِ أَبِي جَنْدَلٍ. قَالَ: يَقُولُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى لِمُكَرّزِ بْنِ حَفْصٍ: ما رَأَيْت قَوْمًا قَطّ أَشَدّ حُبّا لِمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ لِمُحَمّدٍ وَبَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ! أَمّا إنّي أَقُولُ لَك لَا تَأْخُذْ مِنْ مُحَمّدٍ نَصَفًا أَبَدًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، حَتّى يَدْخُلَهَا عَنْوَةً! فَقَالَ مِكْرَزُ: أَنَا أَرَى ذَلِكَ. وَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا أَوّلُ مَا قَاضَيْتُك عَلَيْهِ، رَدّوهُ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاَللهِ لَا أُكَاتِبُك عَلَى شَيْءٍ حَتّى تَرُدّهُ إلَيّ. فَرَدّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهَيْلًا أَنْ يَتْرُكَهُ فَأَبَى سُهَيْلٌ، فَقَالَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَحُوَيْطِبٌ: يَا مُحَمّدُ، نَحْنُ نُجِيرُهُ لَك. فَأَدْخَلَاهُ فُسْطَاطًا فَأَجَارَاهُ، وَكَفّ أَبُوهُ عَنْهُ. ثُمّ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنّ اللهَ جَاعِلُ لَك وَلِمَنْ مَعَك فَرَجًا وَمَخْرَجًا! إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ وَأَعْطَوْنَا عَلَى ذَلِكَ عَهْدًا، وَإِنّا لَا نَغْدِرُ! وَعَادَ عُمَرُ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْت بِرَسُولِ اللهِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقّ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَلَيْسَ عَدُوّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَلِمَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ: إنّي رَسُولُ اللهِ، وَلَنْ أَعْصِيَهُ وَلَنْ يُضَيّعَنِي. فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتّى جَاءَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنّهُ رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يَعْصِيَهُ وَلَنْ يُضَيّعَهُ، وَدَعْ عَنْك مَا تَرَى يَا عُمَرُ! قَالَ عُمَرُ: فَوَثَبْت إلَى أَبِي جَنْدَلٍ أَمْشِي إلَى جَنْبِهِ. وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَدْفَعُهُ، وَعُمَرُ يقول: اصبر
يَا أَبَا جَنْدَلٍ، فَإِنّمَا هُمْ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ، وَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ وَأَنْتَ رَجُلٌ وَمَعَك السّيْفُ! فَرَجَوْت أَنْ يَأْخُذَ السّيْفَ وَيَضْرِبُ أَبَاهُ، فَضَنّ الرّجُلُ بِأَبِيهِ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا جَنْدَلٍ، إنّ الرّجُلَ يَقْتُلُ أَبَاهُ فِي اللهِ، وَاَللهِ لَوْ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا لَقَتَلْنَاهُمْ فِي اللهِ، فَرَجُلٌ بِرَجُلٍ! قَالَ: وَأَقْبَلَ أبو جندل على عمر فقال: مالك لَا تَقْتُلُهُ أَنْتَ؟ قَالَ عُمَرُ: نَهَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ وَقَتْلِ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: مَا أَنْتَ بِأَحَقّ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ مِنّي! وَقَالَ عُمَرُ وَرِجَالٌ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَمْ تَكُنْ حَدّثْتنَا أَنّك سَتَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَتَأْخُذُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَتُعَرّفُ مَعَ الْمُعَرّفِينَ؟ وَهَدْيُنَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْبَيْتِ وَلَا نَحْنُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْت لَكُمْ فِي سَفَرِكُمْ هَذَا؟ قَالَ عُمَرُ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إنّكُمْ سَتَدْخُلُونَهُ، وَآخُذُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، وَأَحْلِقُ رَأْسِي وَرُءُوسَكُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ، وَأُعَرّفُ مَعَ الْمُعَرّفِينَ! ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: أَنَسِيتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ؟ أَنَسِيتُمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ؟ أَنَسِيتُمْ يَوْمَ كَذَا؟ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذَكّرُهُمْ أُمُورًا- أَنَسِيتُمْ يَوْمَ كَذَا؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ يَا نَبِيّ اللهِ، مَا فَكّرْنَا فِيمَا فَكّرْت فِيهِ، لَأَنْتَ أَعْلَمُ بِاَللهِ وَبِأَمْرِهِ مِنّا! فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْقَضِيّةِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ قَالَ: هَذَا الّذِي وَعَدْتُكُمْ. فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَخَذَ الْمِفْتَاحَ فَقَالَ: اُدْعُوا لِي عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ! فَقَالَ: هَذَا الّذِي قُلْت لَكُمْ. فَلَمّا كَانَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ فَقَالَ: أَيْ عُمَرُ، هَذَا الّذِي قُلْت لَكُمْ! قَالَ: أَيْ رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ فَتْحٌ فِي الإسلام أعظم
مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ! وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا كَانَ فَتْحٌ فِي الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مِنْ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَكِنّ النّاسَ يَوْمئِذٍ قَصَرَ رَأْيُهُمْ عَمّا كَانَ بَيْنَ مُحَمّدٍ وَرَبّهِ، وَالْعِبَادُ يَعْجَلُونَ، وَاَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَعْجَلُ كَعَجَلَةِ الْعِبَادِ حَتّى تَبْلُغَ الْأُمُورُ مَا أَرَادَ اللهُ. لَقَدْ نَظَرْت إلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي حَجّهِ قَائِمًا عِنْدَ الْمَنْحَرِ يُقَرّبُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدْنَهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْحَرُهَا بِيَدِهِ، وَدَعَا الْحَلّاقَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَنْظُرُ إلَى سُهَيْلٍ يَلْقُطُ مِنْ شَعَرِهِ، وَأَرَاهُ يَضَعُهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَأَذْكُرُ إبَاءَهُ أَنْ يُقِرّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنْ يَكْتُبَ بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، وَيَأْبَى أَنْ يَكْتُبَ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، فَحَمِدْت اللهَ الّذِي هَدَاهُ لِلْإِسْلَامِ، وَصَلَوَاتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى نَبِيّ الرّحْمَةِ الّذِي هَدَانَا بِهِ وَأَنْقَذَنَا بِهِ مِنْ الْهَلَكَةِ! فَلَمّا حُضِرَتْ الدّوَاةُ وَالصّحِيفَةُ بَعْدَ طُولِ الْكَلَامِ وَالْمُرَاجَعَةِ فِيمَا بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ وَتَقَارَبَ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَكْتُبُ الْكِتَابَ بَيْنَهُمْ، وَدَعَا أَوْسَ بْنَ خَوْلِيّ يَكْتُبُ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا يَكْتُبُ إلّا أَحَدُ الرّجُلَيْنِ، ابْنُ عَمّك عَلِيّ أَوْ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ! فَأَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا يَكْتُبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُكْتُبْ بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا أَعْرِفُ الرّحْمَنَ، اُكْتُبْ كَمَا نَكْتُبُ بِاسْمِك اللهُمّ. فَضَاقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: هُوَ الرّحْمَنُ. وَقَالُوا: لَا تَكْتُبْ إلّا الرّحْمَنَ. قَالَ سُهَيْلٌ: إذًا لَا أُقَاضِيهِ عَلَى شَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُكْتُبْ بِاسْمِك اللهُمّ! هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَوْ أَعْلَمُ أَنّك رَسُولُ اللهِ مَا خَالَفْتُك، وَاتّبَعْتُك، أَفَتَرْغَبُ عَنْ اسْمِك وَاسْمِ أَبِيك مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؟ فَضَجّ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا ضَجّةً هِيَ أَشَدّ مِنْ الْأُولَى حَتّى ارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ،
وَقَامَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: لَا نَكْتُب إلّا مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ! فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ نَظَرَ إلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَخَذَا بِيَدِ الْكَاتِبِ فَأَمْسَكَاهَا وَقَالَا [ (1) ] : لَا تَكْتُبْ إلّا مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ، وَإِلّا فَالسّيْفُ بَيْنَنَا! عَلَامَ نُعْطِي هَذِهِ الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْفِضُهُمْ وَيُومِئُ بِيَدِهِ إلَيْهِمْ: اُسْكُتُوا! وَجَعَلَ حُوَيْطِبُ يَتَعَجّبُ مِمّا يَصْنَعُونَ، وَيُقْبِلُ عَلَى مِكْرَزِ بْنِ حَفْصٍ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْت قَوْمًا أَحْوَطَ لِدِينِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُكْتُبْ بِاسْمِك اللهُمّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سُهَيْلٍ حِينَ أَبَى أَنْ يُقِرّ بِالرّحْمَنِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [ (2) ] . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَاكْتُبْ! فَكَتَبَ: بِاسْمِك اللهُمّ، هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النّاسُ وَيَكْفِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ [ (3) ] ، وَأَنّ بَيْننَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً [ (4) ] ، وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ وَعَقْدِهِ فَعَلَ، وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهَا فَعَلَ، وَأَنّهُ مَنْ أَتَى مُحَمّدًا مِنْهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ رَدّهُ إلَيْهِ، وَأَنّهُ مَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ لَمْ تَرُدّهُ، وَأَنّ محمّدا
يَرْجِعُ عَنّا عَامَهُ هَذَا بِأَصْحَابِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْنَا قَابِلٌ فِي أَصْحَابِهِ فَيُقِيمُ ثَلَاثًا، لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِسِلَاحٍ إلّا سِلَاحَ الْمُسَافِرِ، السّيُوفُ فِي الْقُرُبِ. شَهِدَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد ابن مَسْلَمَةَ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ، وَكَتَبَ ذَلِكَ عَلَى صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ، فَلَمّا كَتَبَ الْكِتَابَ قَالَ سُهَيْلٌ: يَكُونُ عِنْدِي! وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ عِنْدِي! فَاخْتَلَفَا فَكَتَبَ لَهُ نُسْخَةً، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ الْأَوّلَ وَأَخَذَ سُهَيْلٌ نُسْخَتَهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ. وَوَثَبَتْ مِنْ هُنَاكَ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ نَدْخُلُ فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ وَعَقْدِهِ، وَنَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا. وَوَثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فقالوا: نحن ندخل مع قُرَيْشٌ فِي عَهْدِهَا وَعَقْدِهَا، وَنَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا. فَقَالَ حُوَيْطِبُ لِسُهَيْلٍ: بَادَأْنَا أَخْوَالَك بِالْعَدَاوَةِ وَقَدْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ مِنّا، قَدْ دَخَلُوا فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ وَعَقْدِهِ! قَالَ سُهَيْلٌ: ما هم إلّا كغيرهم، هولاء أَقَارِبُنَا وَلَحْمُنَا قَدْ دَخَلُوا مَعَ مُحَمّدٍ، قَوْمٌ اخْتَارُوا لَأَنْفُسِهِمْ أَمْرًا فَمَا نَصْنَعُ بِهِمْ؟ قَالَ حُوَيْطِبُ: نَصْنَعُ بِهِمْ أَنْ نَنْصُرَ عَلَيْهِمْ حَلْفَاءَنَا بَنِي بَكْرٍ. قَالَ سُهَيْلٌ: إيّاكَ أَنْ تَسْمَعَ هَذَا مِنْك بَنُو بَكْرٍ! فَإِنّهُمْ أَهْلُ شُؤْمٍ، فَيَقَعُوا بِخُزَاعَةَ فَيَغْضَبُ مُحَمّدٌ لِحُلَفَائِهِ، فَيَنْقُضُ الْعَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. قَالَ حُوَيْطِبٌ: حَظَوْت وَاَللهِ أَخْوَالَك بِكُلّ وَجْهٍ! فَقَالَ سُهَيْلٌ: تَرَى أَخْوَالِي أَعَزّ عَلَيّ مِنْ بَنِي بَكْرٍ؟ وَلَكِنْ وَاَللهِ لَا تَفْعَلُ قُرَيْشٌ شَيْئًا إلّا فَعَلْته، فَإِذَا أَعَانَتْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ فَإِنّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَبَنُو بَكْرٍ أَقْرَبُ إلَيّ فِي قدم النسب، وإن كان لهؤلاء لخؤولة، وَبَنُو بَكْرٍ مَنْ قَدْ عَرَفْت، لَنَا مِنْهُمْ مَوَاطِنُ كُلّهَا لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ، مِنْهَا يَوْمُ عُكَاظٍ.
قَالُوا: فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَانْطَلَقَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأَصْحَابُهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا وَاحْلِقُوا! فَلَمْ يُجِبْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلَى ذَلِكَ، فَقَالَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ كُلّ ذَلِكَ يَأْمُرُهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى دَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ مُغْضَبًا شَدِيدَ الْغَضَبِ، وَكَانَتْ مَعَهُ فِي سَفَرِهِ ذلك، فاضطجع فقالت: مالك يَا رَسُولَ اللهِ؟ مِرَارًا لَا تُجِيبُنِي [ (1) ] . ثُمّ قَالَ: عَجَبًا يَا أُمّ سَلَمَةَ! إنّي قُلْت لِلنّاسِ انْحَرُوا وَاحْلُقُوا وَحِلّوا مِرَارًا، فَلَمْ يُجِبْنِي أَحَدٌ مِنْ النّاسِ إلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ كلامي وينظرون فى وجهى! قالت، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، انْطَلِقْ أَنْتَ إلَى هَدْيِك فَانْحَرْهُ، فَإِنّهُمْ سَيَقْتَدُونَ بِك. قَالَتْ: فَاضْطَبَعَ [ (2) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبِهِ، ثُمّ خَرَجَ وَأَخَذَ الْحَرْبَةَ يَنْهِمُ [ (3) ] هَدْيَهُ. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يَهْوِي بِالْحَرْبَةِ إلَى الْبَدَنَةِ رَافِعًا صَوْتَهُ: بِسْمِ اللهِ وَاَللهُ أَكْبَرُ! قَالَتْ: فَمَا هَذَا إلّا أَنْ رَأَوْهُ نَحْرَ، فَتَوَاثَبُوا إلَى الْهَدْيِ، فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ حَتّى خَشِيت أَنْ يَغُمّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: فَكَأَنّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ مُضْطَبِعًا بِثَوْبِهِ وَالْحَرْبَةُ فِي يَدَيْهِ يَنْحَرُ بِهَا. حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: وَأَشْرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي الهدى، فنحر البدنة عن
سَبْعَةٍ، وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً. وَكَانَ جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ قَدْ غَنِمَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْزُونَ عَلَيْهِ الْمَغَازِيَ، وَكَانَ قَدْ ضُرِبَ فِي لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم الّتِي اسْتَاقَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَلِقَاحِهِ الّتِي كَانَتْ بِذِي الْجَدْرِ الّتِي كَانَ سَاقَهَا الْعُرَنِيّونَ، وَكَانَ جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ نَجِيبًا مَهْرِيّا [ (1) ] كَانَ يُرْعَى مَعَ الْهَدْيِ، فَشَرَدَ قَبْلَ الْقَضِيّةِ فَلَمْ يَقِفْ حَتّى انْتَهَى إلَى دَارِ أَبِي جَهْلٍ وَعَرَفُوهُ، وَخَرَجَ فِي أَثَرِهِ عَمْرُو بْنُ عَنَمَةَ [ (2) ] السّلَمِيّ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ لَهُ سُفَهَاءُ مِنْ سُفَهَاءِ مَكّةَ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: ادْفَعُوهُ إلَيْهِ. فَأَعْطَوْا بِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا أَنّا سَمّيْنَاهُ فِي الْهَدْيِ فَعَلْنَا. فَنَحَرَ الْجَمَلَ عَنْ سَبْعَةٍ، أَحَدُهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَكَانَ ابْنُ الْمُسَيّبِ يَقُولُ: كَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ، وَكَانَ النّاسُ سَبْعَمِائَةِ، وَكَانَ كُلّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا أَنّهُ سِتّ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ: وَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يَنْحَرُ بَدَنَاتٍ لَهُ سَاقَهَا مِنْ الْمَدِينَةِ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ أَيْضًا، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا [ (3) ] فِي الْحِلّ، وَكَانَ يُصَلّي فِي الْحَرَمِ. وَحَضَرَهُ يَوْمئِذٍ مَنْ يَسْأَلُ مِنْ لُحُومِ الْبُدْنِ مُعَتّرًا [ (4) ] غَيْرَ كَبِيرٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ مِنْ لُحُومِ الْبُدْنِ وَجُلُودِهَا. قَالَتْ أُمّ كُرْزٍ الْكَعْبِيّةُ: جِئْت أَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لُحُومِ
الْهَدْيِ حِينَ نَحَرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَسَمِعْته يَقُولُ: عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ [ (1) ] وَالْجَارِيَةُ شَاةٌ. وَأَكَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَدْيِهِمْ الّذِي نَحَرُوا يَوْمئِذٍ وَأَطْعَمُوا الْمَسَاكِينَ مِمّنْ حَضَرَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَ بِعِشْرِينَ بَدَنَةً لِتُنْحَرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَنَحَرَهَا عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَقَسَمَ لَحْمَهَا. وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد اللهِ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: فَأَنَا أَنْظُرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغَ مِنْ نَحْرِ الْبُدْنِ فَدَخَلَ قُبّةً لَهُ مِنْ أَدَمٍ حَمْرَاءَ، فِيهَا الْحَلّاقُ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، فَأَنْظُرُ إلَيْهِ قَدْ أَخَرَجَ رَأْسَهُ مِنْ قُبّتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: رَحِمَ اللهُ الْمُحَلّقِينَ! قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالْمُقَصّرِينَ! قَالَ: رَحِمَ اللهُ الْمُحَلّقِينَ- ثَلَاثًا. ثُمّ قَالَ: وَالْمُقَصّرِينَ. فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ، وَرَمَى بِشَعَرِهِ عَلَى شَجَرَةٍ كَانَتْ إلَى جَنْبِهِ مِنْ سَمُرَةٍ خَضْرَاءَ. قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ: فَجَعَلَ النّاسُ يَأْخُذُونَ الشّعَرَ مِنْ فَوْقِ الشّجَرَةِ فَيَتَحَاصّونَ [ (2) ] فِيهِ، وَجَعَلْت أُزَاحِمُ حَتّى أَخَذْت طَاقَاتٍ مِنْ شَعَرٍ. فَكَانَتْ عِنْدَهَا حَتّى مَاتَتْ تَغْسِلُ لِلْمَرِيضِ. قَالَ: وَحَلَقَ يَوْمئِذٍ نَاسٌ، وَقَصّرَ آخَرُونَ. قَالَتْ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ: وَقَصّرْت يَوْمئِذٍ أَطْرَافَ شَعَرِي. وَكَانَتْ أُمّ عُمَارَةَ تَقُولُ: قَصّرْت يَوْمئِذٍ- بِمِقَصّ مَعِي- الشّعَرَ وما شدّ.
حَدّثَنِي خِرَاشُ بْنُ هُنَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كان الذي حلقه خراش ابن أميّة. قالوا: أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ بَضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَيُقَالُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ نَزَلَ بِمَرّ الظّهْرَانِ ثُمّ نَزَلَ عُسْفَانَ، فَأَرْمَلُوا [ (1) ] مِنْ الزّادِ، فَشَكَا النّاسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنّهُمْ قَدْ بَلَغُوا مِنْ الْجُوعِ- وَفِي النّاسِ ظَهْرٌ-[وَقَالُوا] : فَنَنْحَرُ يَا رَسُولَ اللهِ وَنَدْهُنُ مِنْ شُحُومِهِ، وَنَتّخِذُ مِنْ جُلُودِهِ حِذَاءً! فَأَذِنَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تَفْعَلْ فَإِنْ يَكُ فِي النّاسِ بَقِيّةُ ظَهْرٍ يَكُنْ أَمْثَلَ، وَلَكِنْ اُدْعُهُمْ بِأَزْوَادِهِمْ ثُمّ اُدْعُ اللهَ فِيهَا. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، ثُمّ نَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ بَقِيّةٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَنْثُرْهُ عَلَى الْأَنْطَاعِ. قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِيّ: فَلَقَدْ رَأَيْت مَنْ يَأْتِي بِالتّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ، وَيَأْتِي بِالْكَفّ مِنْ الدّقِيقِ، وَالْكَفّ مِنْ السّوِيقِ، وَذَلِكَ كُلّهُ قَلِيلٌ. فَلَمّا اجْتَمَعَتْ أَزْوَادُهُمْ وَانْقَطَعَتْ مَوَادّهُمْ مَشَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا فَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمّ قَالَ: قُرّبُوا أَوْعِيَتَكُمْ! فَجَاءُوا بِأَوْعِيَتِهِمْ. قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: فَأَنَا حَاضِرٌ، فَيَأْتِي الرّجُلُ فَيَأْخُذُ مَا شَاءَ مِنْ الزّادِ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَأْخُذَ مَا لَا يَجِدُ لَهُ مَحْمَلًا، ثُمّ أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرّحِيلِ، فَلَمّا ارْتَحَلُوا مُطِرُوا مَا شَاءُوا وَهُمْ صَائِفُونَ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلُوا مَعَهُ، فَشَرِبُوا مِنْ الْمَاءِ، فَقَامَ رسول
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَهُمْ، فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَجَلَسَ اثْنَانِ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ مُعْرِضًا، فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمّا الْآخَرُ فَتَابَ، فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَمّا الثّالِثُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ. فَحَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ قَالَ، سَمِعْت شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُنْت أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُنْصَرَفِهِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْنِي، ثُمّ سَأَلْته فَلَمْ يُجِبْنِي، ثُمّ سَأَلْته فَلَمْ يُجِبْنِي. قَالَ عُمَرُ: فَقُلْت: ثَكِلَتْك أُمّك يَا عُمَرُ! نَذَرْت رَسُولَ اللهِ ثَلَاثًا، كُلّ ذَلِكَ لَا يُجِيبنِي! قَالَ: فَحَرّكْت بَعِيرِي حَتّى تَقَدّمْت النّاسَ، وَخَشِيت أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيّ قُرْآنٌ، فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، وَلَمّا كُنْت رَاجَعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَرَاهَتِي الْقَضِيّةَ، فَإِنّي لَأَسِيرُ مَهْمُومًا مُتَقَدّمًا لِلنّاسِ، فَإِذَا مُنَادٍ [ (1) ] يُنَادِي: يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطّابِ! فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مَا اللهُ بِهِ أَعْلَمُ، ثُمّ أَقْبَلْت حَتّى انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلّمْت فَرَدّ عَلَيّ السّلَامَ وَهُوَ مَسْرُورٌ، ثُمّ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيّ سُورَةٌ هِيَ أَحَبّ إلَيّ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [ (2) ] . فَبَشّرَهُ بِمَغْفِرَتِهِ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ وَنَصْرِهِ، وَطَاعَةِ مَنْ أَطَاعَ اللهَ تَعَالَى، وَنِفَاقِ مَنْ نَافَقَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ عَشْرَ آيَاتٍ. وَحَدّثَنِي مُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَمّعِ بْنِ جَارِيَةَ، قال:
لَمّا كُنّا بِضَجْنَانَ رَاجِعِينَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ رَأَيْت النّاسَ يُرْكَضُونَ فَإِذَا هُمْ يَقُولُونَ: أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قُرْآنٌ] ، فَرَكَضْت مَعَ النّاسِ، حَتّى تُوَافَيْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [ (1) ] ، فَلَمّا نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ: يَهْنِيكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَلَمّا هَنّأَهُ جِبْرِيلُ هَنّأَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَكَانَ مِمّا نَزَلَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قَالَ: قَضَيْنَا لَك قَضَاءً مُبِينًا، فَالْفَتْحُ قُرَيْشٌ [ (2) ] وَمُوَادَعَتُهُمْ، فَهُوَ أَعْظَمُ الْفَتْحِ. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [ (3) ] قَالَ: مَا كَانَ قَبْلَ النّبُوّةِ وَمَا تَأَخّرَ. قَالَ: مَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ إلَى أَنْ تُوُفّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، بِصُلْحِ قُرَيْشٍ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، قَالَ: الْحَقّ، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [ (4) ] حَتّى تَظْهَرَ فَلَا يَكُونُ شِرْكٌ. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [ (5) ] ، قَالَ: الطّمَأْنِينَةُ، لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ، قَالَ: يَقِينًا وَتَصْدِيقًا، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ عَزّ وَجَلّ: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ [ (6) ] ، قَالَ: مَا اجْتَرَحُوا، وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً، يَقُولُ: فَوْزًا لَهُمْ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ سَيّئَاتِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ
ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [ (1) ] ، يَعْنِي الّذِينَ مَرّ عَلَيْهِمْ بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ، مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَبَنِي بَكْرٍ، وَاسْتَنْفَرَهُمْ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ فَاعْتَلَوْا وَتَشَاغَلُوا بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. يَقُولُ: عَلَيْهِمْ مَا تَمَنّوْا وَظَنّوا، وَذَلِكَ أَنّهُمْ قَالُوا: إنّمَا خَرَجَ مُحَمّدٌ فِي أَكَلَةِ رَأْسٍ [ (2) ] ، يَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مَوْتُورِينَ، فَأَبَوْا أَنْ يَنْفِرُوا مَعَهُ. إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً [ (3) ] ، قَالَ: شَاهِدًا عَلَيْهِمْ وَمُبَشّرًا لَهُمْ بِالْجَنّةِ وَنَذِيرًا لَهُمْ مِنْ النّارِ. وَتُعَزِّرُوهُ [ (4) ] ، قَالَ: تَنْصُرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُعَظّمُوهُ، وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قَالَ: تُصَلّوا لِلّهِ بُكْرَةً وَعَشِيّا. إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [ (5) ] حِينَ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى بَيْعَةِ الرّضْوَانِ تَحْتَ الشّجَرَةِ، فَبَايَعُوهُ يَوْمئِذٍ عَلَى أَلّا يَفِرّوا، وَيُقَالُ: عَلَى الْمَوْتِ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، يَقُولُ: مَنْ بَدّلَ أَوْ غَيّرَ مَا بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنّمَا ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى فَإِنّ لَهُ الْجَنّةَ، سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [ (6) ] ، قَالَ: هُمْ الّذِينَ مَرّ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنْفَرَهُمْ وَاسْتَعَانَ بِهِمْ فِي بِدَايَتِهِ فَتَشَاغَلُوا بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمّا سَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ إلَى الْمَدِينَةِ جَاءُوهُ يَقُولُونَ اسْتَغْفِرْ لَنَا إبَاءَنَا أَنْ نَسِيرَ مَعَك. يَقُولُ اللهُ عَزّ وجلّ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ، يَقُولُ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [ (1) ] ، إلَى قَوْله عَزّ وَجَلّ: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً، قَالَ: قَوْلُهُمْ حِينَ مَرّ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم «وإنما محمّد [فِي] أَكَلَةِ رَأْسٍ، يَخْرُجُ إلَى قَوْمٍ مَوْتُورِينَ مُعِدّينَ، وَمُحَمّدٌ لَا سِلَاحٌ مَعَهُ وَلَا عِدّةٌ» فَأَبَوْا أَنْ يَنْفِرُوا، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ، قَالَ: كَانَ يَقِينًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً، يَقُولُ: هَلْكَى. وَقَوْلُهُ: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ... [ (2) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: هُمْ الّذِينَ تَخَلّفُوا عَنْهُ وَأَبَوْا أَنْ يَنْفِرُوا مَعَهُ، هَؤُلَاءِ الْعَرَبُ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَبَكْرٍ، لَمّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التّوَجّهَ إلَى خَيْبَرَ قَالُوا: نَحْنُ نَتْبَعُكُمْ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ. قَالَ: الّذِي قَضَى اللهُ، قَضَى أَلّا تَتْبَعُونَا، وَهُوَ كَلَامُ اللهِ، يُقَال قَضَاءَهُ. يَقُولُ: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الّذِينَ تَخَلّفُوا عَنْك فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ. سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [ (3) ] . قَالَ: هُمْ فَارِسُ وَالرّومُ، وَيُقَالُ: هَوَازِنُ، وَيُقَالُ: بَنِي حَنِيفَةَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً، قَالَ: إنْ أَبَيْتُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا كَمَا أَبَيْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَزْوَةِ [الحديبية] .
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [ (1) ] قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ الْعَوْرَاتُ الثّلَاثُ. لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [ (2) ] أَخْرِجُوا الْعُمْيَانَ وَالْمَرْضَى وَالْعُرْجَانَ مِنْ بُيُوتِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَيُقَالُ: هَذَا فِي الْغَزْوِ. وَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إذَا نَفَرُوا لِلْغَزْوِ وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ الزّمْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ رُخْصَةً لَهُمْ بِالْإِذْنِ فِي كُلّ. لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [ (3) ] ، قَالَ: وَهِيَ سَمُرَةٌ خَضْرَاءُ، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، قَالَ: صِدْقَ نِيّاتِهِمْ. فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، يَعْنِي الطّمَأْنِينَةَ، وَهُوَ بَيْعَةُ الرّضْوَانِ، فَتْحاً قَرِيباً، قَالَ: صُلْحُ قُرَيْشٍ، ومَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها [ (4) ] إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَفِي قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [ (5) ] ، قَالَ: فَتْحَ خَيْبَرَ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، قَالَ: الّذِينَ كَانُوا طَافُوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَجَاءَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِرّةً، فَأَسَرَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرًا، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: عِبْرَةً [ (6) ] ، صُلْحُ قُرَيْشٍ وَحُكْمٌ [لَمْ] يَكُنْ فيه سيف، وكان
فَتْحًا عَظِيمًا. وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها [ (1) ] ، قَالَ: فارس وَالرّومُ، وَيُقَالُ مَكّةُ. وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [ (2) ] ، يَقُولُ: لَوْ قَاتَلَتْكُمْ قُرَيْشٌ انْهَزَمُوا ثُمّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ اللهِ وَلِيّ، يَعْنِي حافظ، وَلَا نَصِيرَ مِنْ الْعَرَبِ. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [ (3) ] ، قَالَ: قَضَاءُ اللهِ الّذِي قَضَى وَلَا تَبْدِيلَ أَنّ رُسُلَهُ يَظْهَرُونَ وَيَغْلِبُونَ. وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [ (4) ] ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَسَرُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَسْرَى، فَكَفّ اللهُ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَتْلِهِمْ، وأَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، مَنْ كَانُوا حُبِسُوا بِمَكّةَ، فَذَلِكَ الظّفَرُ. هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [ (5) ] ، يَقُولُ: حَيْثُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْبَيْتِ وَحُبِسَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً، يَقُولُ: لَوْلَا رجال ونساء مستضعفون بمكّة، أَنْ تَطَؤُهُمْ، يَقُولُ: [أَنْ] تَقْتُلُوهُمْ وَلَا تَعْرِفُوهُمْ فَيُصِيبُكُمْ مِنْ ذَلِكَ بَلَاءٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ قَتَلْتُمْ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، لَوْ تَزَيَّلُوا، يَقُولُ: لَوْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِمْ، لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا، يَقُولُ: سَلَّطناكم عليهم بالسيف. إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [ (1) ] حَيْثُ أَبَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَكْتُبَ «مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ» وَحَيْثُ أَبَى أَنْ يَكْتُبَ «بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ» . فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ: بَيْنَهُمْ، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها، يَقُولُ: لَا إلَهِ إلّا اللهُ هُمْ أَحَقّ بِهَا وَأَوْلَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ. لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [ (2) ] إلَى قَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً، وَالْفَتْحُ الْقَرِيبُ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ فَحَلَقَ وَحَلَقَ مَعَهُ قَوْمٌ، وَقَصّرَ مَنْ قَصّرَ، وَدَخَلَ فِي حَجّتِهِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ آمَنِينَ لَا يَخَافُ إلّا اللهَ عَزّ وَجَلّ. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً [ (3) ] قَالَ: يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الرّكُوعِ وَالسّجُودِ الْفَضْلَ مِنْ اللهِ وَالرّضْوَانَ. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، قَالَ: أَثَرُ الْخُشُوعِ وَالتّوَاضُعِ، مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ، فَهَذَا فِي الْإِنْجِيلِ، يَعْنِي أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَلِيلًا، ثُمّ ازْدَادُوا، ثُمّ كَثُرُوا، ثُمّ اسْتَغْلَظُوا، وَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [ (4) ] ، قَالَ: هِيَ مَفْصُولَةٌ بِأَنّهُمْ آمَنُوا بِاَللهِ وَرُسُلِهِ يُصَدّقُونَهُمْ. قَالَ بَعْدُ: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ (4) ] وَفِي قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [ (5) ]
يَعْنِي مَا كَانَ فُتِحَ فِي الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مِنْ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. كَانَتْ الْحَرْبُ قَدْ حَجَزَتْ بَيْنَ النّاسِ وَانْقَطَعَ الْكَلَامُ، وَإِنّمَا كَانَ الْقِتَالُ حَيْثُ الْتَقَوْا، فَلَمّا كَانَتْ الْهُدْنَةُ وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَآمَنَ النّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ تَكَلّمَ بِالْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا إلّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، حَتّى دَخَلَ فِي تِلْكَ الْهُدْنَةِ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ الّذِينَ يَقُومُونَ بِالشّرْكِ وَبِالْحَرْبِ- عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَشْبَاهٌ لَهُمْ، وَإِنّمَا كَانَتْ الْهُدْنَةُ حَتّى نَقَضُوا الْعَهْدَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، دَخَلَ فِيهَا مِثْلُ مَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ، وَفَشَا الْإِسْلَامُ فِي كُلّ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْعَرَبِ. وَلَمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَتَاهُ أَبُو بِصَيْرٍ- وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ [ (1) ] حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ- مُسْلِمًا، قَدْ انْفَلَتَ مِنْ قَوْمِهِ فَسَارَ عَلَى قَدَمَيْهِ سَعْيًا، فَكَتَبَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وأزهر ابن عَبْدِ عَوْفٍ الزّهْرِيّ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا، وَبَعَثَا رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، اسْتَأْجَرَاهُ بِبَكْرٍ، ابْنِ لَبُونٍ- وَهُوَ خُنَيْسُ بْنُ جَابِرٍ- وَخَرَجَ مَعَ الْعَامِرِيّ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ كَوْثَرُ، وَحَمَلَا خُنَيْسُ بْنُ جَابِرٍ عَلَى بَعِيرٍ، وَكَتَبَا يَذْكُرَانِ الصّلْحَ بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ أَبَا بِصَيْرٍ، فَلَمّا قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَا بَعْدَ أَبِي بِصَيْرٍ بِثَلَاثَةِ أَيّامٍ فَقَالَ خُنَيْسٌ: يَا مُحَمّدُ، هَذَا كِتَابٌ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبَيّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَإِذَا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه،
وَأَشْهَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَك، مِنْ رَدّ مَنْ قَدِمَ عَلَيْك مِنْ أَصْحَابِنَا، فَابْعَثْ إلَيْنَا بِصَاحِبِنَا، فَأَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بِصَيْرٍ أَنْ يَرْجِعَ مَعَهُمْ وَدَفَعَهُ إلَيْهِمَا، فَقَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَرُدّنِي إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا بِصَيْرٍ، إنّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَا قَدْ عَلِمْت، وَلَا يَصْلُحُ لَنَا فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَإِنّ اللهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، قَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَرُدّنِي إلَى الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْطَلِقْ يَا أَبَا بِصَيْرٍ، فَإِنّ اللهَ سَيَجْعَلُ لَك مَخْرَجًا. فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْعَامِرِيّ وَصَاحِبِهِ، فَخَرَجَ مَعَهُمَا، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُسِرّونَ إلَى أَبِي بِصَيْرٍ: يَا أَبَا بِصَيْرٍ، أَبْشِرْ! فَإِنّ اللهَ جَاعِلٌ لَك مَخْرَجًا، وَالرّجُلُ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ، فَافْعَلْ وَافْعَلْ! يَأْمُرُونَهُ بِاَلّذِينَ مَعَهُ. فَخَرَجُوا حَتّى كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ- انْتَهَوْا إلَيْهَا عِنْدَ صَلَاةِ الظّهْرِ- فَدَخَلَ أَبُو بِصَيْرٍ مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ، وَمَعَهُ زَادٌ لَهُ يَحْمِلُهُ مِنْ تَمْرٍ، فَمَالَ إلَى أَصْلِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ زَادَهُ فَجَعَلَ يَتَغَدّى، وَقَالَ لِصَاحِبَيْهِ: اُدْنُوَا فَكُلَا! فَقَالَا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِك. فَقَالَ: وَلَكِنْ لَوْ دَعَوْتُمُونِي إلَى طَعَامِكُمْ لَأَجَبْتُكُمْ وَأَكَلْت مَعَكُمْ. فَاسْتَحْيِيَا فَدَنَوْا وَوَضَعَا أَيْدِيَهُمَا فِي التّمْرِ مَعَهُ، وَقَدّمَا سُفْرَةً لَهُمَا فِيهَا كِسْرٌ، فَأَكَلُوا جَمِيعًا، وَآنَسَهُمْ، وَعَلّقَ الْعَامِرِيّ بِسَيْفِهِ عَلَى حَجَرٍ فِي الْجِدَارِ، فَقَالَ أَبُو بِصَيْرٍ لِلْعَامِرِيّ: يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ، مَا اسْمُك؟ فَقَالَ: خُنَيْسٌ. قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ جَابِرٍ. فَقَالَ: يَا أَبَا جَابِرٍ أَصَارِمٌ سَيْفَك هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: نَاوِلْنِيهِ أَنْظُرْ إلَيْهِ إنْ شِئْت، فَنَاوَلَهُ الْعَامِرِيّ وَكَانَ أَقْرَبَ إلَى السّيْفِ مِنْ أَبِي بِصَيْرٍ، فَأَخَذَ
أَبُو بِصَيْرٍ بِقَائِمِ السّيْفِ، وَالْعَامِرِيّ مُمْسِكٌ بِالْجَفْنِ، فَعَلَاهُ بِهِ حَتّى بَرَدَ، وَخَرَجَ كَوْثَرُ هَارِبًا يَعْدُو نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ أَبُو بِصَيْرٍ فِي أَثْرِهِ، فَأَعْجَزَهُ حَتّى سَبَقَهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ أَبُو بِصَيْرٍ: وَاَللهِ لَوْ أَدْرَكْته لَأَسْلَكْته طَرِيقَ صَاحِبِهِ! فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ إذْ طَلَعَ الْمَوْلَى يَعْدُو، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ رَأَى ذُعْرًا! فَأَقْبَلَ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ويحك، مالك؟ قَالَ: قَتَلَ صَاحِبُكُمْ صَاحِبِي، وَأَفْلَتْ مِنْهُ وَلَمْ أَكَدْ! وَكَانَ الّذِي حَبَسَ أَبَا بِصَيْرٍ احْتِمَالُ سَلَبِهِمَا عَلَى بَعِيرِهِمَا، فَلَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ قَائِمًا حَتّى طَلَعَ أَبُو بِصَيْرٍ، فَأَنَاخَ الْبَعِيرَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ- سَيْفِ الْعَامِرِيّ- فَوَقَفَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ: وَفَتْ ذِمّتُك وَأَدّى اللهُ عَنْك، وَقَدْ أَسَلّمْتنِي بِيَدِ الْعَدُوّ، وَقَدْ امْتَنَعْت بِدِينِي مِنْ أَنْ أُفْتَنَ، وَتَبَغّيْتَ بِي أَنْ [ (1) ] أَكْذِبَ بِالْحَقّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلُ أُمّهِ، مِحَشّ حَرْبٍ [ (2) ] لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ! وَجَاءَ أَبُو بِصَيْرٍ بِسَلَبِ الْعَامِرِيّ خُنَيْسِ بْنِ جَابِرٍ وَرَحْلِهِ وَسَيْفِهِ، فَقَالَ: خَمّسْهُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي إذَا خَمّسْته رَأَوْنِي لَمْ أُوَفّ لَهُمْ بِاَلّذِي عَاهَدْتهمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ شَأْنُك بِسَلَبِ صَاحِبِك! وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْثَرَ: تَرْجِعُ بِهِ إلَى أَصْحَابِك. فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، قَدْ أَهَمّنِي نَفْسِي، مَا لِي بِهِ قُوّةٌ وَلَا يَدَانِ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لِأَبِي بِصَيْرٍ: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت! فَخَرَجَ أَبُو بِصَيْرٍ حَتّى أَتَى الْعِيصَ، فَنَزَلَ مِنْهُ نَاحِيَةً عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ عَلَى طَرِيقِ عِيرِ قُرَيْشٍ إلَى الشّامِ. قَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: فَخَرَجْت وَمَا مَعِي مِنْ الزّادِ إلّا كَفّ مِنْ تَمْرٍ فَأَكَلْتهَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، وَكُنْت آتِي السّاحِلَ فَأُصِيبُ حِيتَانًا قَدْ أَلْقَاهَا الْبَحْرُ فَآكُلُهَا. وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الّذِينَ قَدْ حُبِسُوا بِمَكّةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَلْحَقُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بِصَيْرٍ «وَيْلُ أُمّهِ، مِحَشّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ» ، فَجَعَلُوا يَتَسَلّلُونَ إلَى أَبِي بِصَيْرٍ. وَكَانَ الّذِي كَتَبَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُسْلِمِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ بِالسّاحِلِ عَلَى طَرِيقِ عِيرِ قُرَيْشٍ، فَلَمّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ كِتَابُ عُمَرَ جَعَلُوا يُتَسَلّلُونَ رَجُلًا رَجُلًا حَتّى انْتَهَوْا إلَى أَبِي بِصَيْرٍ فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ، قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا، فَكَانُوا قَدْ ضَيّقُوا عَلَى قُرَيْشٍ، لَا يَظْفَرُونَ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ إلّا قَتَلُوهُ، وَلَا تَمُرّ عِيرٌ إلّا اقْتَطَعُوهَا، حَتّى أَحْرَقُوا قُرَيْشًا، لَقَدْ مَرّ رَكْبٌ يُرِيدُونَ الشّامَ مَعَهُمْ ثَلَاثُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ هَذَا آخِرُ مَا اقْتَطَعُوا، لَقَدْ أَصَابَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ دِينَارًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ابْعَثُوا بِالْخُمُسِ إلَى رَسُولِ اللهِ. فَقَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: لَا يَقْبَلُهُ رَسُولُ اللهِ، قَدْ جِئْت بِسَلَبِ الْعَامِرِيّ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، وَقَالَ «إنّي إذَا فَعَلْت هَذَا لَمْ أَفِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ» . وَكَانُوا قَدْ أَمّرُوا عَلَيْهِمْ أَبَا بِصَيْرٍ، فَكَانَ يُصَلّي بِهِمْ وَيُفَرّضُهُمْ [ (1) ] وَيُجَمّعُهُمْ، وَهُمْ سَامِعُونَ لَهُ مُطِيعُونَ. فَلَمّا بَلَغَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو قتل أبى بصير المعامرىّ اشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَاَللهِ مَا صَالَحْنَا محمّدا على هذا.
قَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ بَرِئَ مُحَمّدٌ مِنْهُ، قَدْ أَمْكَنَ صَاحِبُكُمْ فَقَتَلَهُ بِالطّرِيقِ، فَمَا عَلَى مُحَمّدٍ فِي هَذَا؟ فَقَالَ سُهَيْلٌ: قَدْ وَاَللهِ عَرَفْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ أَوْفَى، وَمَا أُوتِينَا إلّا مِنْ قِبَلِ الرّسُولَيْنِ. قَالَ: فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ وَقَالَ: وَاَللهِ، لَا أُؤَخّرُ ظَهْرِي حَتّى يُودَى هَذَا الرّجُلُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّ هَذَا لَهُوَ السّفَهُ! وَاَللهِ لَا يُودَى! ثَلَاثًا. وَأَنّى [ (1) ] قُرَيْشٌ تَدِيهِ، وَإِنّمَا بَعَثَتْهُ بَنُو زُهْرَةَ؟ فَقَالَ سُهَيْلٌ: قَدْ وَاَللهِ صَدَقْت، مَا دِيَتُهُ إلّا عَلَى بَنِي زُهْرَةَ، وَهُمْ بَعَثُوهُ وَلَا يُخْرِجُ دِيَتَهُ غَيْرُهُمْ قَصْرَةً [ (2) ] ، لِأَنّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ، فَهُمْ أَوْلَى مِنْ عَقْلِهِ. فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَاَللهِ لَا نَدِيهِ، مَا قَتَلْنَا وَلَا أَمَرْنَا بِقَتْلِهِ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُخَالِفٌ لِدِينِنَا مُتّبِعٌ لِمُحَمّدٍ فَأَرْسَلُوا إلَى مُحَمّدٍ يَدِيهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا، مَا عَلَى مُحَمّدٍ دِيَةٌ وَلَا غُرْمٌ، قَدْ بَرِئَ مُحَمّدٌ، مَا كَانَ عَلَى مُحَمّدٍ أَكْثَرُ مِمّا صَنَعَ، لَقَدْ أَمْكَنَ الرّسُولَيْنِ مِنْهُ. فَقَالَ الْأَخْنَسُ: إنْ وَدَتْهُ قُرَيْشٌ كُلّهَا كَانَتْ زُهْرَةُ بَطْنًا [ (3) ] مِنْ قُرَيْشٍ تَدِيهِ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَدِهِ قُرَيْشٌ فَلَا نَدِيهِ أَبَدًا. فَلَمْ تَخْرُجْ لَهُ دِيَةٌ حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام الْفَتْحِ. فَقَالَ مَوْهَبُ بْنُ رِيَاحٍ، فِيمَا قَالَ سُهَيْلٌ فِي بَنِي زُهْرَةَ، وَمَا أَرَادَ أَنْ يُغَرّمَهُمْ مِنْ الدّيَةِ: أَتَانِي عَنْ سُهَيْلٍ ذَرْوُ قَوْلٍ ... ليُوقظَني وَمَا بي منْ رُقَاد فَإنْ كُنْتَ الْعتَابَ تُريدُ منّي ... فَمَا بَيْني وَبَيْنَكَ منَ بعَاد مَتَى تَغْمزْ قَنَاتي لاَ تَجدْني ... ضَعيفَ الرّأْي في الْكُرَب الشّدَاد يُسَامي الْأَكْرَمينَ بعزّ قَوْم ... هُمُ الرّأْسُ الْمُقَدّمُ في الْعبَاد أَنْشَدَنِيهَا عَبْدُ اللهِ بن أبى عبيدة، وسمعتهم يثبتونها.
فَلَمّا بَلَغَ أَبُو بِصَيْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَا بَلَغَ مِنْ الْغَيْظِ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ رَجُلًا، وَكَتَبَتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كِتَابًا يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ: أَلّا تُدْخِلَ أَبَا بِصَيْرٍ وَأَصْحَابَهُ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِهِمْ؟ وَكَتَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بِصَيْرٍ أَنْ يَقْدَمَ بِأَصْحَابِهِ مَعَهُ، فَجَاءَهُ الْكِتَابُ وَهُوَ يَمُوتُ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَهُوَ يَمُوتُ، فَمَاتَ وَهُوَ فِي يَدَيْهِ، فَقَبَرَهُ أَصْحَابُهُ هُنَاكَ وَصَلّوْا عَلَيْهِ، وَبَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، فِيهِمْ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَلَمّا دَخَلَ الْحَرّةَ عَثَرَ فَانْقَطَعَتْ إصْبَعُهُ فَرَبَطَهَا وَهُوَ يَقُولُ: هَلْ أَنْتِ إلّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ ... وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيت فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمَاتَ بِهَا. فَقَالَتْ أمّ سلمة: يا رسول الله، ايذن لِي أَبْكِي عَلَى الْوَلِيدِ. قَالَ: ابْكِي عَلَيْهِ! قَالَ: فَجَمَعَتْ النّسَاءَ وَصَنَعَتْ لَهُنّ [ (1) ] طَعَامًا، فَكَانَ مِمّا ظَهَرَ مِنْ بُكَائِهَا: يَا عَيْنُ فَابْكِي للول ... د بن الوليد بْنِ الْمُغِيرَهْ مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِي ... دِ أَبِي الْوَلِيدِ كَفَى الْعَشِيرَهْ فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْدَادَ الْوَلِيدِ قَالَ: مَا اتّخَذُوا الْوَلِيدَ إلّا حَنَانًا. وَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ قُرَشِيّةً خَرَجَتْ بَيْنَ أَبَوَيْهَا مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً إلَى اللهِ إلّا أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، كَانَتْ تُحَدّثُ تَقُولُ: كُنْت أَخْرُجُ إلَى بَادِيَةٍ لَنَا بِهَا أَهْلِي فَأُقِيمُ فِيهِمْ الثّلَاثَ وَالْأَرْبَعَ، وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ التّنْعِيمِ- أَوْ قَالَتْ بِالْحِصْحَاصِ [ (2) ]- ثُمّ أَرْجِعُ إلَى أهلى فلا ينكرون ذهابي، حتى أجمعت
السّيْرَ، فَخَرَجْت يَوْمًا مِنْ مَكّةَ كَأَنّي أُرِيدُ الْبَادِيَةَ الّتِي كُنْت فِيهَا، فَلَمّا رَجَعَ مَنْ تَبِعَنِي خَرَجْت حَتّى انْتَهَيْت إلَى الطّرِيقِ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ فَقُلْت: حَاجَتِي، فَمَا مَسْأَلَتُك وَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ. فَلَمّا ذَكَرَ خُزَاعَةَ اطْمَأْنَنْت إلَيْهِ، لِدُخُولِ خُزَاعَةَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَقْدِهِ، فَقُلْت: إنّي امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أُرِيدُ اللّحُوقَ بِرَسُولِ اللهِ، وَلَا عِلْمَ لِي بِالطّرِيقِ. فَقَالَ: أَهْلُ اللّيْلِ وَالنّهَارِ [ (1) ] ، أَنَا صَاحِبُك حَتّى أُورِدَك الْمَدِينَةَ. ثُمّ جَاءَنِي بِبَعِيرٍ فَرَكِبْته، فَكَانَ يَقُودُ بِي الْبَعِيرَ، لَا وَاَللهِ مَا يُكَلّمُنِي كَلِمَةً، حَتّى إذَا أَنَاخَ الْبَعِيرَ تَنَحّى عَنّي، فَإِذَا نَزَلْت جَاءَ إلَى الْبَعِيرِ فَقَيّدَهُ فِي الشّجِرَةِ وَتَنَحّى عَنّي [ (2) ] فِي الشّجَرَةِ، حَتّى [إذَا] كَانَ الرّوَاحُ جَذَعَ [ (3) ] الْبَعِيرُ فَقَرّبَهُ وَوَلّى عَنّي، فَإِذَا رَكِبْته أَخَذَ بِرَأْسِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ وَرَاءَهُ حَتّى نَنْزِلُ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا مِنْ صَاحِبٍ! فَكَانَتْ تَقُولُ: نِعْمَ الْحَيّ خُزَاعَةُ! قَالَتْ: فَدَخَلْت عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُنْتَقِبَةٌ فَمَا عَرَفْتنِي حَتّى انْتَسَبْت، وَكَشَفْت النّقَابَ فَالْتَزَمَتْنِي وَقَالَتْ: هَاجَرْت إلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ؟ فَقُلْت: نَعَمْ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَرُدّنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا رَدّ غَيْرِي مِنْ الرّجَالِ، أَبَا جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ، وَأَبَا بِصَيْرٍ، وَحَالُ الرّجَالِ يَا أُمّ سَلَمَةَ لَيْسَ كَحَالِ النّسَاءِ، وَالْقَوْمُ مُصَبّحِي، قَدْ طَالَتْ غيبتي عنهم اليوم
ثَمَانِيّةَ أَيّامٍ مُنْذُ فَارَقْتهمْ، فَهُمْ يَبْحَثُونَ قَدْرَ مَا كُنْت أَغِيبُ ثُمّ يَطْلُبُونَنِي، فَإِنْ لَمْ يَجِدُونِي رَحَلُوا إلَيّ فَسَارُوا ثَلَاثًا. فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ خَبَرَ أُمّ كُلْثُومٍ، فَرَحّبَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ أُمّ كُلْثُومٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي فَرَرْت بِدِينِي إلَيْك فَامْنَعْنِي وَلَا تَرُدّنِي إلَيْهِمْ يَفْتِنُونِي وَيُعَذّبُونِي، فَلَا صَبْرَ لِي عَلَى الْعَذَابِ، إنّمَا أَنَا امْرَأَةٌ وَضَعْفُ النّسَاءِ إلَى مَا تَعْرِفُ، وَقَدْ رَأَيْتُك رَدَدْت رَجُلَيْنِ إلَى الْمُشْرِكِينَ حَتّى امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا، وَأَنَا امْرَأَةٌ! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اللهَ نَقَضَ الْعَهْدَ فِي النّسَاءِ. وَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِنّ «الْمُمْتَحِنَةَ» ، وَحَكَمَ فِي ذَلِكَ بِحُكْمٍ رَضَوْهُ كُلّهُمْ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدّ مَنْ جَاءَ مِنْ الرّجَالِ، وَلَا يَرُدّ مَنْ جَاءَهُ مِنْ النّسَاءِ. وَقَدِمَ أَخَوَاهَا مِنْ الْغَدِ، الْوَلِيدُ وَعُمَارَةُ ابْنَا عُقْبَةَ بْنِ أبى معيط، فقالا: يا محمّد، فلنا بشرطنا وَمَا عَاهَدْتنَا عَلَيْهِ. فَقَالَ: قَدْ نَقَضَ اللهُ! فَانْصَرَفَا. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: دَخَلْت عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَهُوَ يَكْتُبُ إلَى هُنَيْدٍ صَاحِبِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ كَتَبَ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزّ وَجَلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [ (1) ] ، فَكَتَبَ إلَيْهِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ، فَكَانَ يَرُدّ الرّجَالَ، فَلَمّا هَاجَرَ النّسَاءُ أَبَى اللهُ ذَلِكَ أَنْ يَرُدّهُنّ إذَا اُمْتُحِنّ بِمِحْنَةِ الْإِسْلَامِ، فَزَعَمَتْ أَنّهَا جَاءَتْ رَاغِبَةً فِيهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يردّ صدقاتهنّ
إلَيْهِمْ [ (1) ] إنْ احْتَبَسْنَ عَنْهُمْ [ (2) ] ، وَأَنْ يَرُدّوا عَلَيْهِمْ مِثْلَ الّذِي يَرُدّونَ عَلَيْهِمْ [ (3) ] إنْ فَعَلُوا، فَقَالَ: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا [ (4) ] وَصَبّحَهَا أَخَوَاهَا مِنْ الْغَدِ [ (5) ] فَطَلَبَاهَا، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدّهَا إلَيْهِمْ، فَرَجَعَا إلَى مَكّةَ، فَأَخْبَرَا قُرَيْشًا، فَلَمْ يَبْعَثُوا فِي ذَلِكَ أَحَدًا، ورضوا بأن تحبس النساء وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا [ (6) ] ، قَالَ: فَإِنْ فَاتَ أَحَدًا مِنْهُمْ أَهْلَهُ إلَى الْكُفّارِ، فَإِنْ أَتَتْكُمْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ فَأَصَبْتُمْ فَعَوّضُوهُمْ مِمّا أَصَبْتُمْ صَدَاقَ الْمَرْأَةِ الّتِي أَتَتْكُمْ، فَأَمّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرّوا بِحُكْمِ اللهِ، وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُقِرّوا بِذَلِكَ، وَأَنّ مَا ذَابَ [ (7) ] لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ صَدَاقِ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِ الْمُشْرِكِينَ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَيْدِيكُمْ. وَلَسْنَا نَعْلَمُ امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاتَتْ زَوْجَهَا باللّحقوق بِالْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إيمَانِهَا، وَلَكِنّهُ حُكْمٌ حَكَمَ اللهُ بِهِ لِأَمْرٍ كَانَ، وَاَللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [ (8) ] ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَطَلّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ، فَتَزَوّجَهَا مُعَاوِيَةُ بن أبى سفيان، وطلّق عمر
غزوة خيبر
أَيْضًا بِنْتَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيّةَ، فَتَزَوّجَهَا أَبُو جَهْمِ بن حذيفة، وطلّق عياض ابن غَنْمٍ الْفِهْرِيّ أُمّ الْحَكَمِ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمئِذٍ، فَتَزَوّجَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ الثّقَفِيّ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ أُمّ الْحَكَمِ. غَزْوَةُ خَيْبَرَ [ (1) ] حَدّثَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمّدُ بْنُ الْعَبّاسِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ زَكَرِيّا بْنِ حَيّوَيْهِ لَفْظًا، سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو القاسم عبد الوهاب ابن عِيسَى بْنِ أَبِي حَيّةَ، قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ، قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ وَاقِدٍ الْوَاقِدِيّ، قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَعَبْدُ الرحمن ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ يحيى بن سهل، وعائذ ابن يَحْيَى، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيُونُسُ وَيَعْقُوبُ ابْنَا مُحَمّدٍ الظّفَرِيّانِ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدِ بْنِ الْمُعَلّى الزّرَقِيّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ ابْنَا مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ حَدِيثِ خَيْبَرَ بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمّينَ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ حَدِيثِ خَيْبَرَ، فَكَتَبْت مَا حدّثونى.
قَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْحَجّةِ تَمَامَ سَنَةَ سِتّ [ (1) ] ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيّةَ ذِي الْحَجّةِ وَالْمُحَرّمِ، وَخَرَجَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ- وَيُقَالُ خَرَجَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ- إلَى خَيْبَرَ. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِالتّهَيّؤِ لِلْغَزْوِ فَهُمْ مُجِدّونَ، وَتَجَلّبَ مَنْ حَوْلَهُ يَغْزُونَ مَعَهُ، وَجَاءَهُ الْمُخَلّفُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ رَجَاءَ الْغَنِيمَةِ، فَقَالُوا: نَخْرُجُ مَعَك! وَقَدْ كَانُوا تَخَلّفُوا عَنْهُ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَرْجَفُوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: نَخْرُجُ مَعَك إلَى خَيْبَرَ، إنّهَا رِيفُ الْحِجَازِ طَعَامًا وَوَدَكًا [ (2) ] وَأَمْوَالًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَخْرُجُوا مَعِي إلّا رَاغِبِينَ فِي الْجِهَادِ، فَأَمّا الْغَنِيمَةُ فَلَا. وَبَعَثَ مُنَادِيًا فَنَادَى: لَا يَخْرُجَنّ مَعَنَا إلّا رَاغِبٌ فِي الْجِهَادِ، فَأَمّا الْغَنِيمَةُ فَلَا! فَلَمّا تَجَهّزَ النّاسُ إلَى خَيْبَرَ شَقّ ذَلِكَ عَلَى يهود المدينة الذين هُمْ مُوَادِعُونَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَرَفُوا أَنّهُمْ إذَا دَخَلُوا خَيْبَرَ أَهَلَكَ اللهُ خَيْبَرَ كَمَا أَهَلَكَ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَالنّضِيرَ وَقُرَيْظَةَ. قَالَ: فَلَمّا تَجَهّزْنَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ من يهود المدينة له عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَقّ إلّا لَزِمَهُ، وَكَانَ لِأَبِي الشّحْمِ الْيَهُودِيّ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فِي شَعِيرٍ أَخَذَهُ لِأَهْلِهِ، فَلَزِمَهُ، فَقَالَ: أَجّلْنِي فَإِنّي أَرْجُو أَنْ أَقْدَمَ عَلَيْك فَأَقْضِيَك حَقّك إنْ شَاءَ اللهُ، إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ وَعَدَ نَبِيّهُ خَيْبَرَ أَنْ يَغْنَمَهُ إيّاهَا. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ مِمّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا الشّحْمِ، إنّا نَخْرُجُ إلَى رِيفِ الْحِجَازِ فِي الطّعَامِ وَالْأَمْوَالِ. فَقَالَ أَبُو الشّحْمِ حَسَدًا وَبَغْيًا: تَحْسِبُ أَنّ قِتَالَ خَيْبَرَ مِثْلُ مَا تَلْقَوْنَهُ مِنْ الْأَعْرَابِ؟ فِيهَا والتوراة عشرة آلاف مقاتل!
قَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: أَيْ عَدُوّ اللهِ! تُخَوّفْنَا بِعَدُوّنَا وَأَنْتَ فِي ذِمّتِنَا وَجِوَارِنَا؟ وَاَللهِ لَأَرْفَعَنّكَ إلَى رَسُولِ اللهِ! فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا تَسْمَعُ إلَى مَا يَقُولُ هَذَا الْيَهُودِيّ؟ وَأَخْبَرْته بِمَا قَالَ أَبُو الشّحْمِ. فَأَسْكَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَرْجِعْ إلَيْهِ شَيْئًا، إلّا أَنّي رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِشَيْءٍ لَمْ أَسْمَعْهُ، فَقَالَ الْيَهُودِيّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، هَذَا قَدْ ظَلَمَنِي وَحَبَسَنِي بِحَقّي وَأَخَذَ طَعَامِي! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطِهِ حَقّهُ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَخَرَجْت فَبِعْت أَحَدَ ثَوْبَيْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَطَلَبْت بَقِيّةَ حَقّهِ فَقَضَيْته، وَلَبِسْت ثَوْبِي الْآخَرَ، وَكَانَتْ عَلَيّ عِمَامَةٌ فَاسْتَدْفَأْت [ (1) ] بِهَا. وَأَعْطَانِي سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ ثَوْبًا آخَرَ، فَخَرَجْت فِي ثَوْبَيْنِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَفّلَنِي اللهُ خَيْرًا، وَغَنِمْت امْرَأَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَبِي الشّحْمِ قَرَابَةٌ فَبِعْتهَا مِنْهُ بِمَالٍ. وَجَاءَ أَبُو عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا نَفَقَةٌ وَلَا زَادَ وَلَا توب أَخْرُجُ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَقِيقَة سُنْبُلَانِيّة، [ (2) ] فَبَاعَهَا بِثَمَانِيّةِ دَرَاهِمَ، فَابْتَاعَ تَمْرًا بِدِرْهَمَيْنِ لَزَادَهُ وَتَرَكَ لِأَهْلِهِ نَفَقَةً دِرْهَمَيْنِ، وَابْتَاعَ بُرْدَةً بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِ خَيْبَرَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ إذْ أَبْصَرَ بِرَجُلٍ يَسِيرُ أَمَامَهُ، عَلَيْهِ شَيْءٌ يَبْرُقُ فِي الْقَمَرِ كَأَنّهُ فِي الشّمْسِ وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فَقِيلَ: أَبُو عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:
أَدْرَكُوهُ! [قَالَ] : فَأَدْرَكُونِي فَحَبَسُونِي، وَأَخَذَنِي مَا تَقَدّمَ وَمَا تَأَخّرَ، وَظَنَنْت أَنّهُ قَدْ نَزَلَ فِيّ أَمْرٌ مِنْ السّمَاءِ، فَجَعَلْت أَتَذَكّرُ مَا فَعَلْت حَتّى لَحِقَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فقال: مالك تَقْدُمُ النّاسَ لَا تَسِيرُ مَعَهُمْ؟ قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ نَاقَتِي نَجِيبَةٌ. قَالَ: فَأَيْنَ الشّقِيقَةُ الّتِي كَسَوْتُك؟ فَقُلْت: بِعْتهَا بِثَمَانِيّةِ دَرَاهِمَ، فَتَزَوّدَتْ بِدِرْهَمَيْنِ تَمْرًا، وَتَرَكْت لِأَهْلِي نَفَقَةِ دِرْهَمَيْنِ، وَاشْتَرَيْت بُرْدَةً بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: أَنْتَ وَاَللهِ يَا أَبَا عَبْسٍ وَأَصْحَابُك مِنْ الْفُقَرَاءِ! وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ سَلّمْتُمْ وَعِشْتُمْ قَلِيلًا لَيَكْثُرَنّ زَادَكُمْ، وَلَيَكْثُرَنّ مَا تَتْرُكُونَ لِأَهْلِيكُمْ، وَلَتَكْثُرَنّ دَرَاهِمُكُمْ وَعَبِيدُكُمْ، وَمَا ذَاكَ بِخَيْرٍ لَكُمْ! قَالَ أَبُو عَبْسٍ: فَكَانَ وَاَللهِ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ ثَمَانُونَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، فَقَالَ قَائِلٌ: رَسُولُ اللهِ بِخَيْبَرَ وَهُوَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ. فَقُلْت: لَا أَسْمَعُ بِهِ يَنْزِلُ مَكَانًا أَبَدًا إلّا جِئْته. فَتَحَمّلْنَا حَتّى جِئْنَاهُ بِخَيْبَرَ فَنَجِدُهُ قَدْ فَتَحَ النّطَاةَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ أَهْلَ الْكَتِيبَةِ، فَأَقَمْنَا حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا. وَكُنّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَصَلّيْنَا الصّبْحَ خَلْفَ سِبَاعِ بْنِ عُرْفُطَةَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَرَأَ فِي الرّكْعَةِ الْأُولَى سُورَةَ مَرْيَمَ وَفِي الْآخِرَةِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [ (1) ] ، فَلَمّا قَرَأَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [ (2) ] قُلْت: تَرَكْت عَمّي بِالسّرَاةِ لَهُ مِكْيَالَانِ، مكيال
يُطَفّفُ بِهِ وَمِكْيَالٌ يَتَبَخّسُ بِهِ [ (1) ] . وَيُقَالُ: اسْتَخْلَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذَرّ، وَالثّبْتُ عِنْدَنَا سِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ. وَكَانَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ لَا يَظُنّونَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُوهُمْ لِمَنَعَتِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ وَعَدَدِهِمْ، كَانُوا يَخْرُجُونَ كُلّ يَوْمٍ عَشْرَةَ آلَافِ مُقَاتِلٍ صُفُوفًا ثُمّ يَقُولُونَ: مُحَمّدٌ يَغْزُونَا؟ هَيْهَاتَ! هَيْهَاتَ! وَكَانَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْيَهُودِ يَقُولُونَ حِينَ تَجَهّزَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ: مَا أَمْنَعُ وَاَللهِ خَيْبَرَ مِنْكُمْ! لَوْ رَأَيْتُمْ خَيْبَرَ وَحُصُونَهَا وَرِجَالَهَا لَرَجَعْتُمْ قَبْلَ أَنْ تُصَلّوا إلَيْهِمْ، حُصُونٌ شَامِخَاتٌ فِي ذُرَى الْجِبَالِ، وَالْمَاءُ فِيهَا وَاتِنٌ [ (2) ] ، إنّ بِخَيْبَرَ لِأَلْفِ دَارِعٍ، مَا كَانَتْ أَسَدٌ وَغَطْفَان يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْعَرَبِ قَاطِبَةً إلّا بِهِمْ، فَأَنْتُمْ تُطِيقُونَ خَيْبَرَ؟ فَجَعَلُوا يُوحَوْنَ بِذَلِكَ إلَى أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ وَعَدَهَا اللهُ نَبِيّهُ أَنْ يَغْنَمَهُ إيّاهَا. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، فَعَمّى اللهُ عَلَيْهِمْ مَخْرَجَهُ إلّا بِالظّنّ حَتّى نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَاتِهِمْ لَيْلًا. وَكَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ حَيْثُ أَحَسّوا بِمَسِيرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ الْحَارِثُ أَبُو زَيْنَبَ الْيَهُودِيّ بِأَنْ يُعَسْكِرُوا خَارِجًا مِنْ حُصُونِهِمْ وَيَبْرُزُوا لَهُ، فَإِنّي قَدْ رَأَيْت مَنْ سَارَ إلَيْهِ مِنْ الْحُصُونِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَقَاءٌ بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمْ حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَبْيٍ وَمِنْهُمْ مِنْ قَتْلِ صَبْرًا. فَقَالَتْ الْيَهُودُ: إنّ حُصُونَنَا هَذِهِ لَيْسَتْ مِثْلَ تِلْكَ، هَذِهِ حصون منيعة فى
ذُرَى الْجِبَالِ. فَخَالَفُوهُ وَثَبَتُوا فِي حُصُونِهِمْ، فَلَمّا صَبّحَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَايَنُوهُ أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَسَلَكَ ثَنِيّةَ الْوَدَاعِ، ثُمّ أَخَذَ عَلَى الزّغَابَةَ، ثُمّ عَلَى نَقْمَى، ثُمّ سَلَكَ الْمُسْتَنَاخَ، ثُمّ كَبَسَ الْوَطِيحَ [ (1) ] ، وَمَعَهُمْ دَلِيلَانِ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا حَسِيلُ بْنُ خَارِجَةَ، وَالْآخَرُ عَبْدُ اللهِ بْنُ نُعَيْمٍ، خَرَجَ عَلَى عَصْرٍ [ (2) ] وَبِهِ مَسْجِدٌ، ثُمّ عَلَى الصّهْبَاءِ [ (3) ] . فَلَمّا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ قَالَ لِعَامِرِ بْنِ سِنَانٍ: انْزِلْ يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ فَخُذْ لَنَا مِنْ هَنَاتِك [ (4) ] . فَاقْتَحَمَ عَامِرٌ عَنْ رَاحِلَتِهِ، ثُمّ ارْتَجَزَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا [ (5) ] ... وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا فَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً [ (6) ] عَلَيْنَا ... وَثَبّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا إنّا إذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا ... وَبِالصّيَاحِ عَوّلُوا عَلَيْنَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُك اللهُ! فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وَجَبَتْ وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: لَوْلَا مُتْعَتُنَا [بِهِ] يَا رَسُولَ اللهِ! فَاسْتُشْهِدَ عَامِرٌ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَكَانَ سَلَمَةُ بن
الْأَكْوَعِ يَقُولُ: لَمّا كُنّا دُونَ خَيْبَرَ نَظَرْت إلَى ظَبْيٍ حَاقِفٍ [ (1) ] فِي ظِلّ شَجَرَةٍ، فَأَتَفَرّدُ لَهُ بِسَهْمٍ فَأَرْمِيهِ فَلَمْ يَصْنَعْ سَهْمِي شَيْئًا، وَأُذْعِرَ الظّبْيُ فَيَلْحَقُنِي عَامِرٌ فَفَوّقَ لَهُ السّهْمَ فَوَضَعَ السّهْمَ فِي جَنْبِ الظّبْيِ، وَيَنْقَطِعُ وَتَرُ الْقَوْسِ فَيَعْلَقُ رِصَافُهُ بِجَنْبِهِ، فَلَمْ يُخَلّصْهُ إلّا بَعْدَ شَدّ. وَوَقَعَ فِي نَفْسِي يَوْمئِذٍ طِيَرَةٌ وَرَجَوْت لَهُ الشّهَادَةَ فَبَصُرْت رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ فَيُصِيبُ نَفْسَهُ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ: أَلّا تُحَرّكَ بِنَا الرّكْبَ! فَنَزَلَ عَبْدُ اللهِ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَقَالَ: وَاَللهِ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ ارْحَمْهُ! فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَجَبَتْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ الواقدىّ: قتل يوم مؤتة شهيدا. قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصّهْبَاءِ فَصَلّى بِهَا الْعَصْرَ ثُمّ دَعَا بِالْأَطْعِمَةِ فَلَمْ يُؤْتَ إلّا بِالسّوِيقِ وَالتّمْرِ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلُوا مَعَهُ، ثُمّ قَامَ إلَى الْمَغْرِبِ فَصَلّى بِالنّاسِ وَلَمْ يَتَوَضّأْ، ثُمّ صَلّى الْعِشَاءَ بِالنّاسِ، ثُمّ دَعَا بِالْأَدِلّاءِ فَجَاءَ حُسَيْلُ بْنُ خَارِجَةَ الْأَشْجَعِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نُعَيْمٍ الْأَشْجَعِيّ. قَالَ: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِحُسَيْلٍ: امْضِ أَمَامَنَا حَتّى تَأْخُذَنَا صُدُورُ الْأَوْدِيَةِ، حَتّى نَأْتِيَ خَيْبَرَ مِنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشّامِ، فَأَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشّامِ وَبَيْنَ حُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ. فَقَالَ حُسَيْلٌ: أَنَا أَسْلُكُ بِك. فَانْتَهَى بِهِ إلَى مَوْضِعٍ لَهُ طُرُقٌ، فَقَالَ لَهُ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ لَهَا طُرُقًا يُؤْتَى مِنْهَا كُلّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمّهَا لِي! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَالِاسْمَ الْحَسَنَ، وَيَكْرَهُ الطّيَرَةَ وَالِاسْمَ الْقَبِيحَ. فَقَالَ الدّلِيلُ: لَهَا طَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا حَزَنٌ. قَالَ: لَا تَسْلُكْهَا! قَالَ: لَهَا طَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا شاش. قَالَ: لَا تَسْلُكْهَا! قَالَ: لَهَا طَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا حَاطِبٌ. قَالَ: لَا تَسْلُكْهَا! قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ أَسَمَاءً أَقْبَحَ! سَمّ لِرَسُولِ اللهِ! قَالَ: لَهَا طَرِيقٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَبْقَ غَيْرُهَا. فَقَالَ عُمَرُ: سَمّهَا. قَالَ: اسْمُهَا مَرْحَبٌ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ اُسْلُكْهَا! قَالَ عُمَرُ: أَلّا سَمّيْت هَذَا الطّرِيقَ أَوّلَ مَرّةٍ! وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عبّاد بن بشر فِي فَوَارِسَ طَلِيعَةٍ، فَأَخَذَ عَيْنًا لِلْيَهُودِ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالَ: مَنْ [ (1) ] أَنْتَ؟ قَالَ: بَاغٍ أَبْتَغِي أَبْعِرَةً ضَلّتْ لِي، أَنَا عَلَى أَثَرِهَا. قَالَ لَهُ عَبّادٌ: أَلَك عِلْمٌ بِخَيْبَرَ؟ قَالَ: عَهْدِي بِهَا حَدِيثٌ، فِيمَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ؟ قَالَ: عَنْ الْيَهُودِ. قَالَ: نَعَمْ، كَانَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ سَارُوا فِي حُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ، فَاسْتَنْفَرُوهُمْ وَجَعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ سَنَةً، فَجَاءُوا مُعَدّينَ مُؤَيّدِينَ [ (2) ] بِالْكُرَاعِ وَالسّلَاحِ يَقُودُهُمْ عُتْبَةُ بْنُ بَدْرٍ، وَدَخَلُوا مَعَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، وَفِيهَا عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَهُمْ أَهْلُ الْحُصُونِ الّتِي لَا تُرَامُ، وَسِلَاحٌ وَطَعَامٌ كَثِيرٌ لَوْ حُصِرُوا لِسِنِينَ لَكَفَاهُمْ، وَمَاءٌ وَاتِنٌ يَشْرَبُونَ فِي حُصُونِهِمْ، مَا أَرَى لِأَحَدٍ بِهِمْ طَاقَةً. فَرَفَعَ عبّاد بن بشر السّوْطَ. فَضَرَبَهُ ضَرْبَاتٍ وَقَالَ: مَا أَنْتَ إلّا عَيْنٌ لَهُمْ، اُصْدُقْنِي وَإِلّا ضَرَبْت عُنُقَك! فَقَالَ الأعرابىّ: أفتؤمّني على أن
أَصْدُقَك؟ قَالَ عَبّادٌ: نَعَمْ. فَقَالَ الْأَعْرَابِيّ: الْقَوْمُ مَرْعُوبُونَ مِنْكُمْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ لِمَا قَدْ صَنَعْتُمْ بِمَنْ كَانَ بِيَثْرِبَ مِنْ الْيَهُودِ، وَإِنّ يَهُودَ يَثْرِبَ بَعَثُوا ابْنَ عَمّ لِي وَجَدُوهُ بِالْمَدِينَةِ، قَدْ قَدِمَ بِسِلْعَةٍ يَبِيعُهَا، فَبَعَثُوهُ إلَى كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ يُخْبِرُونَهُ [ (1) ] بِقِلّتِكُمْ وَقِلّةِ خَيْلِكُمْ وَسِلَاحِكُمْ. [وَيَقُولُونَ لَهُ] : فَاصْدُقُوهُمْ الضّرْبَ يَنْصَرِفُوا عَنْكُمْ، فَإِنّهُ لَمْ يَلْقَ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ! وَقُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ قَدْ سَرَوْا بِمَسِيرِهِ إلَيْكُمْ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ مَوَادّكُمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِكُمْ وَسِلَاحِكُمْ وَجَوْدَةِ حُصُونِكُمْ! وَقَدْ تَتَابَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ يَهْوَى هَوَى مُحَمّدٍ، تَقُولُ قُرَيْشٌ: إنّ خَيْبَرَ تَظْهَرُ! وَيَقُولُ آخَرُونَ: يَظْهَرُ مُحَمّدٌ، فَإِنْ ظَفَرَ مُحَمّدٌ فَهُوَ ذُلّ الدّهْرِ! قَالَ الْأَعْرَابِيّ: وَأَنَا أَسْمَعُ كُلّ هَذَا، فَقَالَ لِي كِنَانَةُ: اذْهَبْ مُعْتَرِضًا للطريق فإنهم لا يستنكرون مكانك، واحزرهم لَنَا، وَادْنُ مِنْهُمْ كَالسّائِلِ لَهُمْ مَا تَقْوَى بِهِ، ثُمّ أَلْقِ إلَيْهِمْ كَثْرَةَ عَدَدِنَا وَمَادّتِنَا فَإِنّهُمْ لَنْ يَدَعُوا سُؤَالَك، وَعَجّلْ الرّجْعَةَ إلَيْنَا بِخَبَرِهِمْ. فَأَتَى بِهِ عَبّادٌ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: اضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ عَبّادٌ: جَعَلْت لَهُ الْأَمَانَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْهُ مَعَك يَا عَبّادُ! فَأَوْثِقْ رِبَاطًا. فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي دَاعِيك ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ لَمْ يَخْرُجْ الْحَبْلُ عَنْ عُنُقِك إلّا صَعَدًا! فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيّ، وَخَرَجَ الدّلِيلُ يَسِيرُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى انْتَهَى بِهِ، فَيَسْلُكُ بَيْنَ حِيَاضَ وَالسّرِيرِ [ (2) ] ، فَاتّبَعَ صُدُورَ الْأَوْدِيَةِ حَتّى هَبَطَ بِهِ الْخَرَصَةَ [ (3) ] ، ثُمّ نَهَضَ بِهِ حَتّى سَلَكَ بَيْنَ الشّقّ
وَالنّطَاةِ. وَلَمّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قِفُوا! ثُمّ قَالَ: قُولُوا: اللهُمّ رَبّ السّمَوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظَلّتْ، وَرَبّ الْأَرَضِينَ السّبْعِ وَمَا أَقَلّتْ، وَرَبّ الرّيَاحِ وَمَا ذَرّتْ، فَإِنّا نَسْأَلُك خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَنَعُوذ بِك مِنْ شَرّهَا وَشَرّ مَا فِيهَا. ثُمّ قَالَ: اُدْخُلُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ! فَسَارَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْمَنْزِلَةِ، وَعَرّسَ بِهَا سَاعَةً مِنْ اللّيْلِ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُومُونَ كُلّ لَيْلَةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ فَيَتَلَبّسُونَ السّلَاحَ وَيَصُفّونَ الْكَتَائِبَ، وَهُمْ عَشْرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ. وَكَانَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ خَرَجَ فِي رَكْبٍ إلَى غَطَفَانَ يَدْعُوهُمْ إلَى نَصْرِهِمْ، وَلَهُمْ نِصْفُ تَمْرِ خَيْبَرَ سَنَةً، وَذَلِكَ أَنّهُ بَلَغَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِرٌ إلَيْهِمْ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ قَدِمَ بِسِلْعَةٍ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَاعَهَا، ثُمّ رَجَعَ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: تَرَكْت مُحَمّدًا يُعَبّئُ أَصْحَابَهُ إلَيْكُمْ. فَبَعَثُوا [إلَى] حُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ، فَخَرَجَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ يَدْعُوهُمْ إلَى نَصْرِهِمْ، وَلَهُمْ نِصْفُ تَمْرِ خَيْبَرَ سَنَةً. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ لَمْ يَتَحَرّكُوا تِلْكَ اللّيْلَةَ، وَلَمْ يَصِحْ لَهُمْ دِيكٌ حَتّى طَلَعَتْ الشّمْسُ، فَأَصْبَحُوا وَأَفْئِدَتُهُمْ تَخْفِقُ، وَفَتَحُوا حُصُونَهُمْ مَعَهُمْ الْمَسَاحِي وَالْكَرَازِينُ وَالْمَكَاتِلُ [ (1) ] ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ قَالُوا: مُحَمّدٌ وَالْخَمِيسُ [ (2) ] ! فَوَلّوْا هَارِبِينَ حتى رجعوا
إلَى حُصُونِهِمْ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ! خَرِبَتْ خَيْبَرُ! إنّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَنْزِلَةِ جَعَلَ مَسْجِدًا فَصَلّى إلَيْهِ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ نَافِلَةً. فَثَارَتْ رَاحِلَتُهُ تَجُرّ زِمَامَهَا، فَأُدْرِكَتْ تَوَجّهُ إلَى الصّخْرَةِ لَا تُرِيدُ تَرْكَبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ! حَتّى بَرَكَتْ عِنْد الصّخْرَةِ، فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصّخْرَةِ، وَأَمَرَ بِرَحْلِهِ فَحَطّ، وَأَمَرَ النّاسَ بِالتّحَوّلِ إلَيْهَا، ثُمّ ابْتَنَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا مَسْجِدًا، فَهُوَ مَسْجِدُهُمْ الْيَوْمَ. فَلَمّا أَصْبَحَ جَاءَهُ الْحُبَابُ ابن الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْك، إنّك نَزَلْت مَنْزِلَك هَذَا، فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ أَمَرْت بِهِ فَلَا نَتَكَلّمُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الرّأْيُ تَكَلّمْنَا. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هُوَ الرّأْيُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَنَوْت مِنْ الْحِصْنِ وَنَزَلْت بَيْنَ ظُهْرَيْ النّخْلِ وَالنّزّ [ (1) ] ، مَعَ أَنّ أَهْلَ النّطَاةِ لِي بِهِمْ مَعْرِفَةٌ، لَيْسَ قَوْمٌ أَبْعَدَ مَدَى مِنْهُمْ، وَلَا أَعْدَلَ مِنْهُمْ، وَهُمْ مُرْتَفِعُونَ عَلَيْنَا، وَهُوَ أَسْرَعُ لِانْحِطَاطِ نَبْلُهُمْ، مَعَ أَنّي لَا آمَنُ مِنْ بَيَاتِهِمْ يَدْخُلُونَ فِي خَمْرِ [ (2) ] النّخْلِ، تَحَوّلْ يَا رَسُولَ الله إلى موضع بريء مِنْ النّزّ وَمِنْ الْوَبَاءِ، نَجْعَلْ الْحَرّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَتّى لَا يَنَالَنَا نَبْلُهُمْ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُقَاتِلهُمْ هَذَا الْيَوْمَ. وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه
وَسَلّمَ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: اُنْظُرْ لَنَا مَنْزِلًا بَعِيدًا مِنْ حُصُونِهِمْ بَرِيئًا [ (1) ] مِنْ الْوَبَاءِ، نَأْمَنُ فِيهِ بَيَاتَهُمْ. فَطَافَ مُحَمّدٌ حَتّى انْتَهَى إلَى الرّجِيعِ [ (2) ] ، ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا فَقَالَ: وَجَدْت لَك مَنْزِلًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى بَرَكَةِ اللهِ. وَقَاتَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَهُ ذَلِكَ إلَى اللّيْلِ يُقَاتِلُ أَهْلَ النّطَاةِ، يُقَاتِلُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا. وَحُشِدَتْ الْيَهُودُ يَوْمئِذٍ، فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ: لَوْ تَحَوّلْت يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا أَمْسَيْنَا إنْ شَاءَ اللهُ تَحَوّلْنَا. وَجَعَلْت نَبْلَ الْيَهُودِ تُخَالِطُ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ وَتَجَاوَزَهُ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْقُطُونَ نَبْلَهُمْ ثُمّ يَرُدّونَهَا عَلَيْهِمْ. فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَوّلَ، وَأَمَرَ النّاسُ فَتَحُولُوا إلَى الرّجِيعِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْدُو بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَايَاتِهِمْ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ! فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ الْيَهُودَ تَرَى النّخْلَ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِ أَوْلَادِهِمْ، فَاقْطَعْ نَخْلَهُمْ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ النّخْلِ، وَوَقَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي قَطْعِهَا حَتّى أَسْرَعُوا [ (3) ] فِي الْقَطْعِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ وَعَدَكُمْ خَيْبَرَ، وَهُوَ مُنْجِزٌ مَا وَعَدَك، فَلَا تَقْطَعْ النّخْلَ. فَأَمَرَ فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَى عَنْ قَطْعِ النّخْلِ. وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: رَأَيْت نَخْلًا بِخَيْبَرَ فِي النّطَاةِ مُقَطّعَةً، فَكَانَ ذَلِكَ مِمّا قَطَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم.
وَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَطَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي النّطَاةِ أَرْبَعَمِائَةِ عِذْقٍ، وَلَمْ تَقْطَعْ فِي غَيْرِ النّطَاةِ. فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ يَنْظُرُ إلَى صَوْرٍ [ (1) ] مِنْ كَبِيسٍ، قَالَ: أَنَا قَطَعْت هَذَا الصّوْرَ بِيَدِي حَتّى سَمِعْت بِلَالًا يُنَادِي عَزْمَةً مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَقْطَعُ النّخْلَ! فَأَمْسَكْنَا. قَالَ: وَكَانَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمئِذٍ، وَكَانَ يَوْمًا صَائِفًا شَدِيدَ الْحَرّ، وَهُوَ أَوّلُ يَوْمٍ قَاتَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ النّطَاةِ وَبِهَا بَدَأَ، فَلَمّا اشْتَدّ الْحَرّ عَلَى مَحْمُودٍ وَعَلَيْهِ أَدَاتُهُ كَامِلَةً جَلَسَ تَحْت حِصْنِ نَاعِم يَبْتَغِي فَيْئَهُ، وَهُوَ أَوّلُ حِصْنٍ بَدَأَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَظُنّ مَحْمُودٌ أَنّ فِيهِ أَحَدًا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ. إنّمَا ظَنّ أَنّ فِيهِ أَثَاثًا وَمَتَاعًا- وَنَاعِمٌ يَهُودِيّ، وَلَهُ حُصُونٌ ذَوَاتُ عَدَدٍ فَكَانَ هَذَا مِنْهَا- فَدَلّى عَلَيْهِ مَرْحَبٌ رَحًى فَأَصَابَ رَأْسَهُ. فَهَشّمَتْ الْبَيْضَةُ رَأْسَهُ حَتّى سَقَطَتْ جِلْدَةِ جَبِينِهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَدّ الْجِلْدَةَ فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، وَعَصَبَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبٍ. فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَوّلَ إلَى الرّجِيعِ وَخَافَ عَلَى أَصْحَابِهِ الْبَيَاتَ، فَضَرَبَ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ وَبَاتَ فِيهِ، وَكَانَ مَقَامُهُ بِالرّجِيعِ سَبْعَةَ أَيّامٍ، يَغْدُو كُلّ يَوْمٍ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَايَاتِهِمْ مُتَسَلّحِينَ وَيَتْرُكُ الْعَسْكَرَ بِالرّجِيعِ، وَيَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَيُقَاتِلُ أَهْلَ النّطَاةِ يَوْمَهُ إلَى اللّيْلِ، ثُمّ إذَا أَمْسَى رَجَعَ إلَى الرّجِيعِ. وَكَانَ قَاتَلَ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ أَسْفَلِ النّطَاةِ، ثُمّ عَادَ بَعْدُ فَقَاتَلَهُمْ مِنْ أَعْلَاهَا حَتّى
فتح الله عليه. وكان مَنْ جُرِحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُمِلَ إلَى الْمُعَسْكَرِ فَدُووِيَ، وَإِنْ كَانَ بِهِ انْطِلَاقٌ انْطَلَقَ إلَى مُعَسْكَرِ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليه وسلم. وَكَانَ أَوّلَ يَوْمٍ قَاتَلُوا فِيهِ جُرِحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ نَبْلِهِمْ، فَكَانُوا يُدَاوُونَ مِنْ الْجِرَاحِ. وَيُقَالُ: إنّ قَوْمًا شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَاءَ الْمَنْزِلِ فَأَمَرَهُمْ بِالتّحَوّلِ إلَى الرّجِيعِ، وَقَدِمُوا خَيْبَرَ عَلَى ثَمَرَةٍ خَضْرَاءَ وَهِيَ وَبِئَةٌ وَخَيْمَةٌ، فَأَكَلُوا مِنْ تلك الثّمرة، وأهمدتهم الْحُمّى، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قَرّسُوا [ (1) ] الْمَاءَ فِي الشّنَانِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ فَاحْدَرُوا الْمَاءَ عَلَيْكُمْ حَدْرًا [ (2) ] وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ. فَفَعَلُوا فَكَأَنّمَا أُنْشِطُوا مِنْ عِقَالٍ [ (3) ] . وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يُحَدّثُ: إنّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ مِنْ أَهْلِ النّطَاةِ نَادَانَا بَعْدَ لَيْلٍ وَنَحْنُ بِالرّجِيعِ: أَنَا آمَنُ وَأُبَلّغُكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: فَابْتَدَرْنَاهُ فَكُنْت أَوّلَ مَنْ سَبَقَ إلَيْهِ فَقُلْت: مَنْ [ (4) ] أَنْتَ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ. فَأَدْخَلْنَاهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْيَهُودِيّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ: تَؤُمّنّي وَأَهْلِي عَلَى أَنْ أَدُلّك عَلَى عَوْرَةٍ مِنْ عَوْرَاتِ الْيَهُودِ؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فَدَلّهُ عَلَى عَوْرَةِ الْيَهُودِ. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ تِلْكَ السّاعَةَ فَحَضّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَخَبّرَهُمْ أَنّ الْيَهُودَ قَدْ أَسْلَمَهَا حَلْفَاؤُهَا وَهَرَبُوا، وَأَنّهَا قَدْ تَجَادَلَتْ واختلفوا بينهم. قال
كَعْبٌ: فَغَدَوْنَا عَلَيْهِمْ فَظَفّرَنَا اللهُ بِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِي النّطَاةِ شَيْءٌ غَيْرَ الذّرّيّةِ فَلَمّا انْتَهَيْنَا إلَى الشّقّ وَجَدْنَا فِيهِ ذُرّيّةً، فَدَفَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْيَهُودِيّ زَوْجَتَهُ وَكَانَتْ فِي الشّقّ، فَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَرَأَيْته أَخَذَ بِيَدِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ. قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاوِبُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي حِرَاسَةِ اللّيْلِ فِي مَقَامِهِ بِالرّجِيعِ سَبْعَةَ أَيّامٍ. فَلَمّا كَانَتْ اللّيْلَةُ السّادِسَةُ مِنْ السّبْعِ اسْتَعْمَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ عَلَى الْعَسْكَرِ، فَطَافَ عُمَرُ بِأَصْحَابِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ وَفَرّقَهُمْ أَوْ فَرّقَ مِنْهُمْ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ فِي جَوْفِ اللّيْلِ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ، فَقَالَ الْيَهُودِيّ: اذْهَبْ بِي إلَى نَبِيّكُمْ حَتّى أُكَلّمَهُ، فَأَمْسَكَهُ عُمَرُ وَانْتَهَى بِهِ إلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُ يُصَلّي، فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَ عُمَرَ فَسَلّمَ وَأَدْخَلَهُ عَلَيْهِ، وَدَخَلَ عُمَرُ بِالْيَهُودِيّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِيّ: مَا وَرَاءَك وَمَنْ أَنْتَ [ (1) ] ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيّ: تَؤُمّنّي يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَأَصْدُقُك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَقَالَ الْيَهُودِيّ: خَرَجْت مِنْ حِصْنِ النّطَاةِ مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ لَيْسَ لَهُمْ نِظَامٌ، تَرَكْتهمْ يُتَسَلّلُونَ مِنْ الْحِصْنِ فِي هَذِهِ الليلة. قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ يَذْهَبُونَ؟ قَالَ: إلَى أَذَلّ مِمّا كَانُوا فِيهِ، إلَى الشّقّ، وَقَدْ رُعِبُوا مِنْك حَتّى إنّ أَفْئِدَتَهُمْ لَتَخْفِقُ، وَهَذَا حِصْنُ الْيَهُودِ فِيهِ السّلَاحُ وَالطّعَامُ وَالْوَدَكُ، وَفِيهِ آلَةُ حُصُونِهِمْ التي كانوا يقاتلون بها بعضهم بعضا، وقد غَيّبُوا ذَلِكَ فِي بَيْتٍ مِنْ حُصُونِهِمْ تَحْتَ الْأَرْضِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم:
وَمَا هُوَ؟ قَالَ: مَنْجَنِيقٌ مُفَكّكَةٌ وَدَبّابَتَانِ وَسِلَاحٌ مِنْ دُرُوعٍ وَبَيْضٍ وَسُيُوفٍ، فَإِذَا دَخَلْت الْحِصْنَ غَدًا وَأَنْتَ تَدْخُلُهُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ الْيَهُودِيّ: إنْ شَاءَ اللهُ أُوقِفُك عَلَيْهِ، فَإِنّهُ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ الْيَهُودِ غَيْرِي. وَأُخْرَى! قِيلَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: تَسْتَخْرِجُهُ، ثُمّ أَنْصِبُ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِ الشّقّ، وَتُدْخِلُ الرّجَالَ تَحْتَ الدّبّابَتَيْنِ فَيَحْفِرُونَ الْحِصْنَ فَتَفْتَحُهُ مِنْ يَوْمِك، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ بِحِصْنِ الْكَتِيبَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أَحْسَبُهُ قَدْ صَدَقَ. قَالَ الْيَهُودِيّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، احْقِنْ دَمِي. قَالَ: أَنْتَ آمِنٌ قَالَ: وَلِي زَوْجَةٌ فِي حِصْنِ النّزَارِ فَهَبْهَا لِي. قَالَ: هِيَ لَك. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لِلْيَهُودِ حَوّلُوا ذَرَارِيّهُمْ مِنْ النّطَاةِ؟ قَالَ: جَرّدُوهَا لِلْمُقَاتِلَةِ، وَحَوّلُوا الذّرَارِيّ إلَى الشّقّ وَالْكَتِيبَةِ. قَالُوا: ثُمّ دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: أَنْظِرْنِي أَيّامًا، فَلَمّا أَصْبَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا بِالْمُسْلِمِينَ إلَى النّطَاةِ، فَفَتَحَ اللهُ الْحِصْنَ، وَاسْتَخْرَجَ مَا كَانَ قَالَ الْيَهُودِيّ فِيهِ، فَأَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَنْجَنِيقِ أَنْ تُصْلَحَ وَتُنْصَبَ عَلَى الشّقّ عَلَى حِصْنِ النّزَارِ، فَهَيّئُوا، فَمَا رَمَوْا عَلَيْهَا بِحَجَرٍ حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ حِصْنَ النّزَارِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْتَهَى إلَيْهِ حَصَبِ الْحِصْنِ فَسَاخَ فِي الْأَرْضِ حَتّى أَخَذَ أَهْلَهُ أَخْذًا، وَأُخْرِجَتْ زَوْجَتُهُ، يُقَالُ لَهَا نُفَيْلَةُ، فَدَفَعَهَا إلَيْهِ. فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَطِيحَ وَسُلَالِم أَسْلَمَ الْيَهُودِيّ، ثُمّ خَرَجَ مِنْ خَيْبَرَ فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ، وَكَانَ اسْمُهُ سِمَاكَ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْتَهَى إلَى حِصْنِ نَاعِم فِي النّطَاةِ وَصَفّ أَصْحَابَهُ نَهَى عَنْ
الْقِتَالِ حَتّى يَأْذَنَ لَهُمْ، فَعَمِدَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فَحَمَلَ عَلَى يَهُودِيّ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مَرْحَبٌ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ النّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُسْتُشْهِدَ فُلَانٌ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْعِدْ مَا نَهَيْت عَنْ الْقِتَالِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا فَنَادَى: لَا تَحِلّ الْجَنّةُ لِعَاصٍ. ثُمّ أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِتَالِ وَحَثّ عَلَيْهِ، وَوَطّنَ الْمُسْلِمُونَ أنفسهم على القتال. وكان يسار الحبشىّ- عبد أَسْوَدَ [ (1) ] لِعَامِرٍ الْيَهُودِيّ- فِي غَنَمِ مَوْلَاهُ، فَلَمّا رَأَى أَهْلَ خَيْبَرَ يَتَحَصّنُونَ وَيُقَاتِلُونَ سَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: نُقَاتِلُ هَذَا الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ. قَالَ: فَوَقَعَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ فِي نَفْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِغَنَمِهِ يَسُوقُهَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، مَا تَقُولُ؟ مَا تدعو إليه؟ قال: أدعوا إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَشْهَدُ أَنّ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّي رَسُولُ اللهِ. قَالَ: فَمَا لِي؟ قَالَ: الْجَنّةُ إنْ ثَبَتّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَأَسْلَمَ. وَقَالَ: إنّ غَنَمِي هَذِهِ وَدِيعَةٌ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْرِجْهَا مِنْ الْعَسْكَرِ ثُمّ صِحْ بِهَا وَارْمِهَا بِحَصَيَاتٍ، فَإِنّ الله عَزّ وَجَلّ سَيُؤَدّي عَنْك أَمَانَتَك. فَفَعَلَ الْعَبْدُ فَخَرَجْت الْغَنَمُ إلَى سَيّدِهَا، وَعَلِمَ الْيَهُودِيّ أَنّ عَبْدَهُ قَدْ أَسْلَمَ. وَوَعَظَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ وَفَرّقَ بَيْنَهُمْ الرّايَاتِ، وَكَانَتْ ثَلَاثَ رَايَاتٍ، وَلَمْ تَكُنْ رَايَةٌ قَبْلَ يَوْمِ خَيْبَرَ، إنّمَا كَانَتْ الْأَلْوِيَةُ، وَكَانَتْ رَايَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّوْدَاءَ مِنْ بُرْدٍ لِعَائِشَةَ، تُدْعَى الْعِقَابَ، وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ، وَدَفَعَ رَايَةً إلَى عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَرَايَةً إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَرَايَةً إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَخَرَجَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِالرّايَةِ وَتَبِعَهُ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ، فَاحْتُمِلَ فَأُدْخِلَ خِبَاءً مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَاطّلَعَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه
وَسَلّمَ فِي الْخِبَاءِ فَقَالَ: لَقَدْ كَرّمَ اللهُ هَذَا الْعَبْدَ الْأَسْوَدَ وَسَاقَهُ إلَى خَيْبَرَ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ مِنْ نَفْسِهِ حَقّا، قَدْ رَأَيْت عِنْدَ رَأْسِهِ زَوْجَتَيْنِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ. قَالُوا: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُرّةَ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُيَيْمٌ يَقُولُ: أَنَا فِي الْجَيْشِ الّذِينَ كَانُوا مَعَ عُيَيْنَةَ مِنْ غَطَفَانَ، أَقْبَلَ مَدَدُ الْيَهُودِ، فَنَزَلْنَا بِخَيْبَرَ وَلَمْ نَدْخُلْ حِصْنًا. فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَهُوَ رَأْسُ غَطَفَانَ وَقَائِدُهُمْ أَنْ ارْجِعْ بِمَنْ مَعَك وَلَك نِصْفُ تَمْرِ خَيْبَرَ هَذِهِ السّنَةَ، إنّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي خَيْبَرَ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَسْت بِمُسْلِمٍ حَلْفَائِي وَجِيرَانِي. فَأَقَمْنَا فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ عُيَيْنَةَ إذْ سَمِعْنَا صَائِحًا، لَا نَدْرِي مِنْ السّمَاءِ أَوْ مِنْ الْأَرْضِ: أَهْلَكُمْ، أَهْلَكُمْ بِحَيْفَاءَ [ (1) ]- صِيحَ ثَلَاثَةً- فَإِنّكُمْ قَدْ خُولِفْتُمْ إلَيْهِمْ! وَيُقَالُ: إنّهُ لَمّا سَارَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فِيهِمْ حَلَفُوا مَعَهُ، وَارْتَأَسَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَدَخَلُوا مَعَ الْيَهُودِ فِي حُصُونِ النّطَاةِ قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِثَلَاثَةِ أَيّامٍ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَهُمْ فِي الْحِصْنِ، فَلَمّا انْتَهَى سَعْدٌ إلَى الْحِصْنِ نَادَاهُمْ: إنّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلّمَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ. فَأَرَادَ عُيَيْنَةُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْحِصْنَ فَقَالَ مَرْحَبٌ: لَا تَدْخُلْهُ فَيَرَى خَلَلَ حِصْنِنَا وَيَعْرِفُ نَوَاحِيَهُ الّتِي يُؤْتَى مِنْهَا، وَلَكِنْ تَخْرُجُ إلَيْهِ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ يَدْخُلَ فَيَرَى حَصَانَتَهُ وَيَرَى عَدَدًا كَثِيرًا. فَأَبَى مَرْحَبٌ أَنْ يُدْخِلَهُ، فَخَرَجَ عُيَيْنَةُ إلَى بَابِ الْحِصْنِ، فَقَالَ سَعْدٌ: إنّ رَسُولَ اللهِ أَرْسَلَنِي إلَيْك يَقُولُ: إنّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي خَيْبَرَ فَارْجِعُوا وَكُفّوا، فَإِنّ ظَهَرْنَا عَلَيْهَا فَلَكُمْ تَمْرُ خَيْبَرَ سَنَةً. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: إنّا وَاَللهِ مَا كُنّا لِنُسَلّمَ حَلْفَاءَنَا لِشَيْءٍ، وَإِنّا لنعلم ما لك
ولمن معك بما هاهنا طَاقَةٌ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَهْلُ حُصُونٍ مَنِيعَةٍ، وَرِجَالٍ عَدَدُهُمْ كَثِيرٌ، وَسِلَاحٌ. إنْ أَقَمْت هَلَكْت وَمَنْ مَعَك، وَإِنْ أَرَدْت الْقِتَالَ عَجّلُوا عَلَيْك بِالرّجَالِ وَالسّلَاحِ. وَلَا وَاَللهِ، مَا هَؤُلَاءِ كَقُرَيْشٍ، قَوْمٌ سَارُوا إلَيْك، إنْ أَصَابُوا غِرّةً مِنْك فَذَاكَ الّذِي أَرَادُوا وَإِلّا انْصَرَفُوا، وَهَؤُلَاءِ يُمَاكِرُونَكَ الْحَرْبَ ويطاولونك حتى تملّهم. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَشْهَدُ لَيَحْضُرَنّكَ فِي حِصْنِك هَذَا حَتّى تَطْلُبَ الّذِي كُنّا عَرَضْنَا عَلَيْك، فَلَا نُعْطِيك إلّا السّيْفَ، وَقَدْ رَأَيْت يَا عُيَيْنَةُ مِنْ قَدْ حَلَلْنَا بِسَاحَتِهِ مِنْ يَهُودِ يَثْرِبَ، كَيْفَ مَزّقُوا كُلّ مُمَزّقٍ! فَرَجَعَ سَعْدٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، وَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ اللهَ مُنْجِزٌ لَك مَا وَعَدَك وَمُظْهِرٌ دِينَهُ، فَلَا تُعْطِ هَذَا الْأَعْرَابِيّ تَمْرَةً وَاحِدَةً، يَا رَسُولَ اللهِ، لَئِنْ أَخَذَهُ السّيْفُ لَيُسَلّمُنّهُمْ وَلَيُهَرّبْنَ إلَى بِلَادِهِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ فِي الْخَنْدَقِ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُوَجّهُوا إلَى حِصْنِهِمْ الّذِي فِيهِ غَطَفَانُ، وَذَلِكَ عَشِيّةً وَهُمْ فِي حِصْنِ نَاعِم، فَنَادَى مُنَادِي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أَصْبِحُوا عَلَى رَايَاتِكُمْ عِنْدَ حِصْنِ نَاعِم الّذِي فِيهِ غَطَفَانُ. قَالَ: فَرُعِبُوا مِنْ ذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ هَذِهِ مِنْ تِلْكَ اللّيْلَةِ سَمِعُوا صَائِحًا يَصِيحُ، لَا يَدْرُونَ مِنْ السّمَاءِ أَوْ مِنْ الْأَرْضِ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، أَهْلَكُمْ أَهْلَكُمْ! الْغَوْثَ، الْغَوْثَ بِحَيْفَاءَ- صِيحَ ثَلَاثَةً- لَا تُرْبَةَ وَلَا مَالَ! قَالَ: فَخَرَجْت غَطَفَانُ على الصّعب والذّلول، وكان أَمْرًا صَنَعَهُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِنَبِيّهِ. فَلَمّا أَصْبَحُوا أَخْبَرَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ وَهُوَ فِي الْكَتِيبَةِ بِانْصِرَافِهِمْ، فَسَقَطَ فِي يَدَيْهِ [ (1) ] ، وَذَلّ وَأَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ وَقَالَ: كُنّا مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ فِي بَاطِلٍ، إنّا سِرْنَا فِيهِمْ فَوَعَدُونَا النّصْرَ وَغَرّونَا، وَلَعَمْرِي لَوْلَا مَا وَعَدُونَا مِنْ نَصْرِهِمْ ما نابذنا محمّدا بالحرب،
وَلَمْ نَحْفَظْ. كَلَامَ سَلّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ إذْ قَالَ: لَا تَسْتَنْصِرُوا بِهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ أَبَدًا فَإِنّا قَدْ بَلَوْنَاهُمْ. وَجَلَبَهُمْ لِنَصْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمّ غَرّوهُمْ. فَلَمْ نَرَ عِنْدَهُمْ وَفَاءً لَنَا، وَقَدْ سَارَ فِيهِمْ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ وَجَعَلُوا يَطْلُبُونَ الصّلْحَ مِنْ مُحَمّدٍ، ثُمّ زَحَفَ مُحَمّدٌ إلى بنى قريظة وَانْكَشَفَتْ غَطَفَانُ رَاجِعَةً إلَى أَهْلِهَا. قَالُوا: فَلَمّا انْتَهَى الْغَطَفَانِيّونَ إلَى أَهْلِهِمْ بِحَيْفَاءَ وَجَدُوا أَهْلَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ فَقَالُوا: هَلْ رَاعَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا وَاَللهِ. فَقَالُوا: لَقَدْ ظَنَنّا أَنّكُمْ قَدْ غَنِمْتُمْ، فَمَا نَرَى مَعَكُمْ غَنِيمَةً وَلَا خَيْرًا! فقال عيينة لأصحابه: هذا والله من مكايد مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، خَدَعَنَا وَاَللهِ! فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ: بِأَيّ شَيْءٍ؟ قَالَ عُيَيْنَةُ: إنّا فِي حِصْنِ النّطَاةِ بَعْدَ هَدْأَةٍ [ (1) ] إذْ سَمِعْنَا صَائِحًا يَصِيحُ، لَا نَدْرِي مِنْ السّمَاءِ أَوْ مِنْ الْأَرْضِ: أَهْلَكُمْ أَهْلَكُمْ بِحَيْفَاءَ- صِيحَ ثَلَاثَةً- فَلَا تُرْبَةَ وَلَا مَالٍ! قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ: يَا عُيَيْنَةُ، وَاَللهِ لَقَدْ غَبَرْت [ (2) ] إنْ انْتَفَعْت. وَاَللهِ إنّ الّذِي سَمِعْت لَمِنْ السّمَاءِ! وَاَللهِ لَيَظْهَرَنّ مُحَمّدٌ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ، حَتّى لَوْ نَاوَأَتْهُ الْجِبَالُ لَأَدْرَكَ مِنْهَا مَا أَرَادَ. فَأَقَامَ عُيَيْنَةُ أَيّامًا فِي أَهْلِهِ ثُمّ دَعَا أَصْحَابَهُ لِلْخُرُوجِ إلَى نَصْرِ الْيَهُودِ، فَجَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: يَا عُيَيْنَةُ أَطِعْنِي وَأَقِمْ فِي مَنْزِلِك وَدَعْ نَصْرَ الْيَهُودِ، مَعَ أَنّي لَا أَرَاك تَرْجِعُ إلَى خَيْبَرَ إلّا وَقَدْ فَتَحَهَا مُحَمّدٌ وَلَا آمِنْ عَلَيْك. فَأَبَى عُيَيْنَةُ أَنْ يَقْبَلَ قَوْلَهُ وَقَالَ: لَا أَسْلَمَ حُلَفَائِي لِشَيْءٍ. وَلَمّا وَلّى عُيَيْنَةُ إلَى أَهْلِهِ هَجَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْحُصُونِ حِصْنًا حِصْنًا، فَلَقَدْ انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حِصْنِ نَاعِم وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَحُصُونُ نَاعِم عِدّةٌ، فَرَمَتْ الْيَهُودُ يَوْمئِذٍ بِالنّبْلِ، وَتَرّسَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلّى الله عليه [وسلّم عن رسول
اللهِ] ، وَعَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ دِرْعَانِ وَمِغْفَرٌ وَبَيْضَةٌ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ الظّرِبُ [ (1) ] ، فِي يَدِهِ قَنَاةٌ وَتُرْسٌ، وَأَصْحَابُهُ مُحَدّقُونَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ دَفَعَ لِوَاءَهُ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَرَجَعَ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، ثُمّ دَفَعَهُ إلَى آخَرَ فَرَجَعَ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءَ الْأَنْصَارِ إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ وَرَجَعَ وَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا، فَحَثّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَالَتْ كَتَائِبُ الْيَهُودِ، أَمَامَهُمْ الْحَارِثُ أَبُو زَيْنَبَ يَقْدَمُ الْيَهُودَ يَهُدّ الْأَرْضَ هَدّا، فَأَقْبَلَ صَاحِبُ رَايَةِ الْأَنْصَارِ فَلَمْ يَزَلْ يَسُوقُهُمْ حَتّى انْتَهَوْا إلَى الْحِصْنِ فَدَخَلُوهُ، وَخَرَجَ أَسِيرُ الْيَهُودِيّ يَقْدَمُ أَصْحَابَهُ مَعَهُ عَادِيَتُهُ [ (2) ] وَكَشَفَ رَايَةَ أَصْحَابِ الْأَنْصَارِ حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْقِفِهِ، وَوَجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نَفْسِهِ حِدَةً شَدِيدَةً، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُمْ الّذِي وَعَدَهُمْ اللهُ، فَأَمْسَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْمُومًا، وَقَدْ كَانَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَجَعَ مَجْرُوحًا وَجَعَلَ يَسْتَبْطِئُ أَصْحَابَهُ، وَجَعَلَ صَاحِبُ رَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ يَسْتَبْطِئُ أَصْحَابَهُ وَيَقُولُ: أَنْتُمْ، وَأَنْتُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الْيَهُودَ جَاءَهُمْ الشّيْطَانُ فَقَالَ لَهُمْ: إنّ مُحَمّدًا يُقَاتِلُكُمْ عَلَى أَمْوَالِكُمْ! نَادَوْهُمْ: قُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللهُ، ثُمّ قَدْ أَحْرَزْتُمْ بِذَلِكَ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ، وَحِسَابَكُمْ عَلَى اللهِ. فَنَادَوْهُمْ بِذَلِكَ فَنَادَتْ الْيَهُودُ: إنّا لَا نَفْعَلُ وَلَا نَتْرُكُ عَهْدَ مُوسَى وَالتّوْرَاةُ بَيْنَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأُعْطِيَنّ الرّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، لَيْسَ بِفَرّارٍ، أَبَشَرٌ يَا مُحَمّدُ بْنَ مَسْلَمَةَ غَدًا، إنْ شَاءَ اللهُ يُقْتَلُ قاتل أخيك وتولّى عادية اليهود.
فَلَمّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهُوَ أَرْمَدُ، فَقَالَ: مَا أَبْصَرَ سَهْلًا وَلَا جَبَلًا. قَالَ: فَذَهَبَ إلَيْهِ فَقَالَ: افْتَحْ عَيْنَيْك. فَفَتْحهمَا فَتَفِلَ فِيهِمَا. قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: فَمَا رَمِدَتْ حَتّى السّاعَةِ. ثُمّ دَفَعَ إلَيْهِ اللّوَاءَ، وَدَعَا لَهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّصْرِ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ خَرَجَ إلَيْهِمْ الْحَارِثُ أَخُو مَرْحَبٍ فِي عَادِيَتِهِ، فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ وَثَبَتَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَاضْطَرَبَا ضَرْبَاتٍ فَقَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَرَجَعَ أَصْحَابُ الْحَارِثِ إلَى الْحِصْنِ فَدَخَلُوهُ وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَوْضِعِهِمْ، وَخَرَجَ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبُ أَضْرِبُ أَحْيَانًا وَحِينًا أُضْرَبُ فَحَمَلَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَطَرَهُ [ (1) ] عَلَى الْبَابِ وَفَتَحَ الْبَابِ: وَكَانَ لِلْحِصْنِ بَابَانِ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ شُيُوخٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ قَالُوا: قَتَلَ أَبُو دُجَانَةَ الْحَارِثَ أَبَا زَيْنَبَ، وَكَانَ يَوْمئِذٍ مُعَلّمًا بِعِمَامَةٍ حَمْرَاءَ، وَالْحَارِثُ مُعَلّمٌ فَوْقَ مِغْفَرِهِ، وَيَاسِرٌ وَأُسَيْرٌ وَعَامِرٌ مُعَلّمِينَ. حَدّثَنِي ابْن أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، قَالَ: نَزَلْت بِأَرِيحَا زَمَنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَإِذَا حَيّ مِنْ الْيَهُودِ، وَإِذَا رَجُلٌ يَهْدِجُ مِنْ الْكِبَرِ. فَقَالَ: مِمّنْ أَنْتُمْ؟ فَقُلْنَا: مِنْ الْحِجَازِ. فَقَالَ الْيَهُودِيّ: وَاشَوْقَاه إلَى الْحِجَازِ! أَنَا ابْنُ الْحَارِثِ الْيَهُودِيّ فَارِسُ خَيَابِرَ، قَتَلَهُ يَوْمَ خَيْبَرَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ يَوْمَ نَزَلَ مُحَمّدٌ خَيْبَرَ، وَكُنّا مِمّنْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إلَى الشّامِ. فَقُلْت: أَلَا تسلم؟ قال: أما إنّه خير لى
لَوْ فَعَلْت، وَلَكِنْ أُعَيّرُ، تُعَيّرُنِي الْيَهُودُ، تَقُولُ: أَبُوك ابْنُ سَيّدِ الْيَهُودِ لَمْ يَتْرُكْ الْيَهُودِيّةَ، قُتِلَ عَلَيْهَا أَبُوك وَتُخَالِفُهُ؟ وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: كُنّا مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ بَعَثَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرّايَةِ، فَلَقِيَ علىّ عليه السلام رجلا على بَابِ الْحِصْنِ، فَضَرَبَ عَلِيّا وَاتّقَاهُ بِالتّرْسِ عَلِيّ، فَتَنَاوَلَ عَلِيّ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَرّسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ. وَبَعَثَ رَجُلًا يُبَشّرُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحِ الْحِصْنِ، حِصْنِ مَرْحَبٍ وَدُخُولِهِمْ الْحِصْنَ. وَيُقَالُ: إنّ مرحب برز وهو كالفحل الصّؤول يَرْتَجِزُ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبُ أَضْرِبُ أَحْيَانًا وَحِينًا أُضْرَبُ يَدْعُو لِلْبِرَازِ. فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا وَاَللهِ الْمَوْتُورُ الثّائِرُ، قُتِلَ أَخِي بِالْأَمْسِ فَائْذَنْ لِي فِي قِتَالِ مَرْحَبٍ وَهُوَ قَاتِلُ أَخِي. فَأَذِنَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُبَارَزَتِهِ، وَدَعَا لَهُ بِدَعَوَاتٍ، وَأَعْطَاهُ سَيْفَهُ، فَخَرَجَ مُحَمّدٌ فَصَاحَ: يَا مَرْحَبُ، هَلْ لَك فِي الْبِرَازِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَبَرَزَ إلَيْهِ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَرْتَجِزُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبُ وَخَرَجَ محمّد بن مسلمة وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَاضٍ ... حُلْوٌ إذَا شِئْت وَسَمّ قَاضٍ وَيُقَالُ: إنّهُ جَعَلَ يَوْمئِذٍ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: يَا نَفْسُ إلّا تُقْتَلِي تَمُوتِي ... لَا صَبْرَ لِي بَعْدَ أَبِي النّبَيْتِ وَكَانَ أَخُوهُ مَحْمُودٌ يُكَنّى بِأَبِي النّبَيْتِ. قَالَ: وَبَرَزَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ. قَالَ: فَحَالَ بَيْنَهُمَا عَشْرَاتٌ [ (1) ] أَصْلُهَا كَمِثْلِ أَصْلِ الفحل من
النّخْلِ وَأَفْنَانٌ مُنْكَرَةٌ، فَكُلّمَا ضَرَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ اسْتَتَرَ بِالْعُشْرِ حَتّى قَطَعَا كُلّ سَاقٍ لَهَا، وَبَقِيَ أَصْلَهَا قَائِمًا [ (1) ] كَأَنّهُ الرّجُلُ الْقَائِمُ. وَأَفْضَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، وَبَدَرَ مَرْحَبٌ مُحَمّدًا، فَيَرْفَعُ السّيْفَ لِيَضْرِبَهُ، فَاتّقَاهُ مُحَمّدٌ بِالدّرَقَةِ فَلَحِجَ [ (2) ] سَيْفَهُ، وَعَلَى مَرْحَبٍ دِرْعٌ مُشَمّرَةٌ، فَيَضْرِبُ مُحَمّدٌ سَاقَيْ مَرْحَبٍ فَقَطَعَهُمَا. وَيُقَالُ: لَمّا اتّقَى مُحَمّدٌ بِالدّرَقَةِ وَشَمّرَتْ الدّرْعُ عَنْ سَاقَيْ مَرْحَبٍ حِينَ رَفَعَ يَدَيْهِ بِالسّيْفِ، فَطَأْطَأَ مُحَمّدٌ بِالسّيْفِ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ وَوَقَعَ مَرْحَبٌ، فَقَالَ مَرْحَبٌ: أَجْهِزْ يَا مُحَمّدُ! قَالَ مُحَمّدٌ: ذُقْ الْمَوْتَ كَمَا ذَاقَهُ أَخِي مَحْمُودٌ! وَجَاوَزَهُ وَمَرّ بِهِ عَلِيّ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَأَخَذَ سَلَبَهُ، فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَلَبِهِ، فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاَللهِ مَا قَطَعْت رِجْلَيْهِ ثُمّ تَرَكْته إلّا لِيَذُوقَ مُرّ السّلَاحِ وَشِدّةِ الْمَوْتِ كَمَا ذَاقَ أَخِي، مَكَثَ ثَلَاثًا يَمُوتُ، وَمَا مَنَعَنِي مِنْ الْإِجْهَازِ عَلَيْهِ شَيْءٌ، قَدْ كُنْت قَادِرًا بَعْدَ أَنْ قَطَعْت رِجْلَيْهِ أَنْ أَجْهَزَ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: صَدَقَ، ضَرَبْت عُنُقَهُ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ رِجْلَيْهِ. فَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ سَيْفَهُ وَدِرْعَهُ وَمِغْفَرَهُ وَبَيْضَتَهُ، فَكَانَ عِنْدَ آلِ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ سَيْفُهُ فِيهِ كِتَابٌ لَا يُدْرَى مَا هُوَ حَتّى قَرَأَهُ يَهُودِيّ مِنْ يَهُودِ تَيْمَاءَ فَإِذَا فِيهِ: هَذَا سَيْفُ مَرْحَبْ ... مَنْ يَذُقْهُ يَعْطَبْ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، وَحَدّثَنِي زَكَرِيّا بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أبيه، عن سلمة بن سلامة، ومجمّع
ابن يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَمّعِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالُوا جَمِيعًا: مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَتَلَ مَرْحَبًا. قَالُوا: وَبَرَزَ أُسَيْرٌ، وَكَانَ رَجُلًا أَيّدًا، وَكَانَ إلَى الْقِصَرِ، فَجَعَلَ يَصِيحُ، مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٍ، ثُمّ قتله محمّد ابن مَسْلَمَةَ. ثُمّ بَرَزَ يَاسِرٌ وَكَانَ مِنْ أَشِدّائِهِمْ، وَكَانَتْ مَعَهُ حَرْبَةٌ يَحُوشُ [ (1) ] بِهَا الْمُسْلِمِينَ حَوْشًا، فَبَرَزَ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَالَ الزّبَيْرُ: أَقَسَمْت عَلَيْك أَلّا خَلّيْت بَيْنِي وَبَيْنَهُ. فَفَعَلَ عَلِيّ وَأَقْبَلَ يَاسِرٌ بِحَرْبَتِهِ يَسُوقُ بِهَا النّاسَ، فَبَرَزَ لَهُ الزّبَيْرُ، فَقَالَتْ صَفِيّةُ: يَا رَسُولَ الله وا حزنى! ابْنِي يُقْتَلُ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: بَلْ ابْنُك يَقْتُلُهُ. قَالَ: فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَهُ الزّبَيْرُ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فِدَاك عَمّ وَخَالٌ! وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُلّ نَبِيّ حَوَارِيّ وَحَوَارِيّ الزّبَيْرُ وَابْنُ عَمّتِي. فَلَمّا قُتِلَ مَرْحَبٌ وَيَاسِرٌ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْشِرُوا، قَدْ تَرَحّبَتْ خَيْبَرُ وَتَيَسّرَتْ! وَبَرَزَ عَامِرٌ وَكَانَ رَجُلًا طَوِيلًا جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَعَ عَامِرٌ: أَتَرَوْنَهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ؟ وَهُوَ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ، يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ وَعَلَيْهِ دِرْعَانِ، مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ يَصِيحُ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَأَحْجَمَ النّاسُ عَنْهُ، فَبَرَزَ إلَيْهِ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَضَرَبَهُ ضَرَبَاتٍ، كُلّ ذَلِكَ لَا يَصْنَعُ شَيْئًا، حَتّى ضَرَبَ سَاقَيْهِ فَبَرَكَ، ثُمّ ذُفّفَ [ (2) ] عَلَيْهِ فَأَخَذَ سِلَاحَهُ. فَلَمّا قُتِلَ الْحَارِثُ، وَمَرْحَبٌ، وَأُسَيْرٌ، وَيَاسِرٌ، وَعَامِرٌ، مَعَ نَاسٍ من اليهود كثير
- وَلَكِنْ إنّمَا سُمّيَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ لِأَنّهُمْ كَانُوا أَهْلَ شَجَاعَةٍ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي حِصْنِ نَاعِم جَمِيعًا. وَلَمّا رُمِيَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ حِصْنِ نَاعِم حَمَلَ إلَى الرّجِيعِ فَمَكَثَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ يَمُوتُ، وَكَانَ الّذِي دَلّى عَلَيْهِ الرّحَا مَرْحَبٌ، فَجَعَلَ مَحْمُودٌ يَقُولُ لِأَخِيهِ: يَا أَخِي، بَنَاتُ أَخِيك لَا يَتْبَعْنَ الْأَفْيَاءَ [ (1) ] ، يَسْأَلْنَ النّاسَ. فَيَقُولُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: لَوْ لَمْ تَتْرُكْ مَالًا لَكَانَ لِي مَالٌ. وَمَحْمُودٌ كَانَ أَكْثَرُهُمَا مَالًا- وَلَمْ يَنْزِلْ يَوْمئِذٍ فَرَائِضُ الْبَنَاتِ- فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي مَاتَ فِيهِ مَحْمُودٌ وَهُوَ الْيَوْمُ الثّالِثُ، وَهُوَ الْيَوْمُ الّذِي قُتِلَ فِيهِ مَرْحَبٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يُبَشّرُ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنّ اللهَ قَدْ أَنْزَلَ فَرَائِضَ الْبَنَاتِ، وَأَنّ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ قَدْ قَتَلَ قَاتِلَهُ؟ فَخَرَجَ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَسُرّ بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّلَامَ مِنْهُ. قَالَ: فَأَقْرَأْته مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مَحْمُودٌ. لَا أَرَاهُ يَذْكُرُنِي، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ فِي مَوْضِعِهِ بِالرّجِيعِ فَمَاتَ خِلَافَهُ، فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْزِلَةٍ، وَقَدْ جُرِحَ عَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ نَفْسَهُ، حُمِلَ إلَى الرّجِيعِ فَمَاتَ، فَقُبِرَ عَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ مَعَهُ فِي غَارٍ. فَقَالَ مُحَمّدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ اقْطَعْ لِي عِنْدَ قَبْرِ أَخِي. قَالَ: لَك حَضَرُ [ (2) ] الْفَرَسِ فَإِنْ عَمِلْت فَلَك حَضَرُ فَرَسَيْنِ. وَكَانَ حِصْنُ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ فِي النّطَاةِ، وَكَانَ حِصْنُ الْيَهُودِ فِيهِ الطّعَامُ وَالْوَدَكُ وَالْمَاشِيَةُ وَالْمَتَاعُ، وَكَانَ فِيهِ خَمْسُمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ النّاسُ قَدْ أَقَامُوا أَيّامًا يُقَاتِلُونَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ طَعَامٌ إلّا العلف [ (3) ] . قال معتّب الأسلمىّ:
أَصَابَنَا مَعْشَرَ أَسْلَمَ خَصَاصَةً حِينَ قَدِمْنَا خَيْبَرَ، وَأَقَمْنَا عَشَرَةَ أَيّامٍ عَلَى حِصْنِ النّطَاةِ لَا نَفْتَحُ شَيْئًا فِيهِ طَعَامٌ، فَأَجْمَعَتْ أَسْلَمُ أَنْ يرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا: ايت مُحَمّدًا رَسُولَ اللهِ فَقُلْ: إنّ أَسْلَمَ يُقْرِئُونَك السّلَامَ وَيَقُولُونَ إنّا قَدْ جَهْدَنَا مِنْ الْجَوْعِ وَالضّعْفِ. فَقَالَ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ: وَاَللهِ إنْ رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطّ أَمْرًا [ (1) ] بَيْنَ الْعَرَبِ يَصْنَعُونَ [فِيهِ] هَذَا! فَقَالَ هِنْدُ بْنُ حَارِثَةَ: وَاَللهِ إنّا لَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ الْبِعْثَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْخَيْرِ. فَجَاءَهُ أَسَمَاءُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَسْلَمَ تَقُولُ: إنّا قَدْ جَهِدْنَا مِنْ الْجُوعِ وَالضّعْفِ فَادْعُ اللهَ لَنَا. فَدَعَا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَاَللهِ مَا بِيَدِي مَا أَقْرِيهِمْ [ (2) ] . ثُمّ صَاحَ بِالنّاسِ فَقَالَ: اللهُمّ افْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حِصْنٍ فِيهِ، أَكْثَرُهُ طَعَامًا وَأَكْثَرُهُ وَدَكًا. وَدَفَعُوا اللّوَاءَ إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَنَدَبَ النّاسَ، فَمَا رَجَعْنَا حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا الْحِصْنَ- حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ. فَقَالَتْ أُمّ مُطَاعٍ الْأَسْلَمِيّة، وَكَانَتْ قَدْ شَهِدَتْ خَيْبَرَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي نِسَاءٍ، قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْت أَسْلَمَ حِينَ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَكَوْا مِنْ شِدّةِ الْحَالِ، فَنَدَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فَنَهَضُوا، فَرَأَيْت أَسْلَمَ أَوّلَ مَنْ انْتَهَى إلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَإِنّ عَلَيْهِ لَخَمْسُمِائَةِ مُقَاتِلٍ، فَمَا غَابَتْ الشّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتّى فَتَحَهُ اللهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ قِتَالٌ شَدِيدٌ. بَرَزَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ يُوشَعُ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ، فَبَرَزَ إلَيْهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٌ فَقَتَلَهُ الْحُبَابُ. وَبَرَزَ آخَرُ يُقَالُ لَهُ الزّيّالُ، فَبَرَزَ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ الْغِفَارِيّ فَبَدَرَهُ الْغِفَارِيّ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً عَلَى هَامَتِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْغِفَارِيّ! فَقَالَ النّاسُ: بَطَلُ جِهَادِهِ. فَبَلَغَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بَأْسُ بِهِ، يُؤْجَرُ [ (1) ] وَيُحْمَدُ. وَكَانَ أَبُو الْيُسْرِ يُحَدّثُ أَنّهُمْ حَاصَرُوا حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، وَكَانَ حِصْنًا مَنِيعًا، وَأَقْبَلَتْ غَنَمٌ لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ تَرْتَعُ وَرَاءَ حِصْنِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يُطْعِمُنَا مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ؟ فَقُلْت: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَخَرَجْت أَسْعَى مِثْلَ الظّبْيِ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلّيًا قَالَ: اللهُمّ مَتّعْنَا بِهِ! فَأَدْرَكْت الْغَنَمَ وَقَدْ دَخَلَ أَوّلُهَا الْحِصْنَ، فَأَخَذْت شَاتَيْنِ مِنْ آخِرِهَا فَاحْتَضَنْتهمَا تَحْتَ يَدَيّ، ثُمّ أَقْبَلْت أَعْدُو كَأَنْ لَيْسَ مَعِي شَيْءٌ حَتّى أَتَيْت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذُبِحَتَا ثُمّ قَسَمَهُمَا، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ الّذِينَ هُمْ مَعَهُ مُحَاصِرِينَ الْحِصْنَ إلّا أَكَلَ مِنْهَا. فَقِيلَ لِأَبِي الْيَسَرِ: وَكَمْ كَانُوا؟ قَالَ: كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا. فَيُقَالُ: أَيْنَ بَقِيّةُ النّاسِ؟ فَيَقُولُ: فِي الرّجِيعِ بِالْمُعَسْكَرِ. فَسَمِعَ أَبُو الْيَسَرِ- وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ- وَهُوَ يَبْكِي فِي شَيْءٍ غَاظَهُ مِنْ بَعْضِ وَلَدِهِ، فَقَالَ: لَعَمْرِي بَقِيت بَعْدَ أَصْحَابِي وَمُتّعُوا بِي وَمَا أُمَتّعُ بِهِمْ! لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ مَتّعْنَا بِهِ! فَبَقِيَ فَكَانَ مِنْ آخِرِهِمْ. وَكَانَ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ يُحَدّثُ قَالَ: أَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، وَنَزَلْنَا خَيْبَرَ زَمَانَ الْبَلَحِ، وَهِيَ أَرْضٌ وَخِيمَةٌ حَارّةٌ شَدِيدٌ حُرّهَا. فَبَيْنَا نَحْنُ مُحَاصِرُونَ حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ فَخَرَجَ عِشْرُونَ حِمَارًا مِنْهُ أَوْ ثَلَاثُونَ، فَلَمْ يَقْدِرْ الْيَهُودُ عَلَى إدْخَالِهَا، وَكَانَ حِصْنُهُمْ له منعة، فأخذها المسلمون فانتحروها،
وَأَوْقَدُوا النّيرَانَ وَطَبَخُوا لُحُومَهَا فِي الْقُدُورِ وَالْمُسْلِمُونَ جِيَاعٌ، وَمَرّ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ فَأَمَرَ مُنَادِيًا: إنّ رَسُولَ اللهِ يَنْهَاكُمْ عَنْ الْحُمُرِ الْإِنْسِيّةِ- قَالَ: فَكَفَوْا الْقُدُورَ- وَعَنْ مُتْعَةِ النّسَاءِ، وَعَنْ كُلّ ذِي نَابٍ وَمِخْلَبٍ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ مُبَشّرٍ، قَالَ: كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ، فَذَبَحَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْلًا مِنْ خَيْلِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: أَرَأَيْت الْبِغَالَ، أَكُنْتُمْ تَأْكُلُونَهَا؟ قَالَ: لَا. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: ذَبَحْنَا بِخَيْبَرَ لِبَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ فَرَسَيْنِ، فَكُنّا نَأْكُلُ مِنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ. وَحَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ قَالَ: سَمِعْت خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقُولُ: حَضَرَتْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ يَقُولُ: حَرَامٌ أَكْلُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ. قَالُوا: وَكُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السّبَاعِ، وَمِخْلَبٍ مِنْ الطّيْرِ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: الثّبْت عِنْدَنَا أَنّ خَالِدًا لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ، وَأَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَكَانَ ابْنُ الْأَكْوَعِ يَقُولُ: كُنّا عَلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، أَسْلَمَ بِأَجْمَعِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ حَصَرُوا أَهْلَ الْحِصْنِ، فَلَقَدْ رَأَيْتنَا وَصَاحِبَ رَايَتِنَا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذَ الرّايَةَ فَغَدَوْنَا مَعَهُ. وغدا عامر ابن سِنَانٍ فَلَقِيَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ، وَبَدَرَهُ الْيَهُودِيّ فَيَضْرِبُ عَامِرًا، قَالَ عَامِرٌ:
فَاتّقَيْته بِدَرَقَتِي فَنَبَا سَيْفُ الْيَهُودِيّ عَنْهُ. قَالَ عَامِرٌ: فَأَضْرِبُ رِجْلَ الْيَهُودِيّ فَأَقْطَعُهَا، وَرَجَعَ السّيْفُ عَلَى عَامِرٍ فَأَصَابَهُ ذُبَابُهُ فَنَزَفَ فَمَاتَ. فَقَالَ أسيد ابن حُضَيْرٍ: حَبَطَ عَمَلُهُ. فَبَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ! إنّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ، إنّهُ جَاهَدَ مُجَاهِدٌ، وَإِنّهُ لَيَعُومُ فِي الْجَنّةِ عَوْمَ الدّعْمُوصِ [ (1) ] . حَدّثَنِي خالد بن إلياس، عن جعفر بن محمود بن محمّد، عن محمّد ابن مَسْلَمَةَ قَالَ: كُنْت فِيمَنْ تَرّسَ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلْت أَصِيحُ بِأَصْحَابِهِ: تَرَامَوْا بِالْحَجَفِ! فَفَعَلُوا فَرَمَوْنَا حَتّى ظَنَنْت أَلّا يُقْلِعُوا، فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى بِسَهْمٍ، فَمَا أَخْطَأَ رَجُلًا مِنْهُمْ، وَتَبَسّمَ إلَيّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْفَرَجُوا وَدَخَلُوا الْحِصْنَ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا انْتَهَيْنَا إلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَالْمُسْلِمُونَ جِيَاعٌ وَالْأَطْعِمَةُ فِيهِ كُلّهَا، وَغَزَا بِنَا الْحُبَابُ ابن الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ وَمَعَهُ رَايَتُنَا وَتَبِعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ أَقَمْنَا عَلَيْهِ يَوْمَيْنِ نُقَاتِلُهُمْ أَشَدّ الْقِتَالِ، فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الثّالِثُ بَكّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ كَأَنّهُ الدّقَلُ [ (2) ] فِي يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ، وَخَرَجَ وَعَادِيَتُهُ مَعَهُ فَرَمَوْا بِالنّبْلِ سَاعَةً سُرَاعًا، وَتَرّسْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم
وَأَمْطَرُوا عَلَيْنَا بِالنّبْلِ، فَكَانَ نَبْلُهُمْ مِثْلَ الْجَرَادِ حَتّى ظَنَنْت أَلّا يُقْلِعُوا، ثُمّ حَمَلُوا عَلَيْنَا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ حَتّى انْتَهَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ، قَدْ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَمِدْعَمٌ [ (1) ] يُمْسِكُ فَرَسَهُ. وَثَبَتَ الْحُبَابُ بِرَايَتِنَا، وَاَللهِ مَا يَزُولُ، يُرَامِيهِمْ عَلَى فَرَسِهِ، وَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ وَحَضّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَرَغّبَهُمْ فِيهِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ اللهَ قَدْ وَعَدَهُ خَيْبَرَ يُغَنّمُهُ إيّاهَا. قَالَ: فَأَقْبَلَ النّاسُ جَمِيعًا حَتّى عَادُوا إلَى صَاحِبِ رَايَتِهِمْ، ثُمّ زَحَفَ بِهِمْ الْحُبَابُ فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو قَلِيلًا قَلِيلًا، وَتَرْجِعُ الْيَهُودُ عَلَى أَدْبَارِهَا حَتّى لَحَمَهَا الشّرّ فَانْكَشَفُوا سِرَاعًا، وَدَخَلُوا الْحِصْنَ وَغَلّقُوا عَلَيْهِمْ، وَوَافَوْا عَلَى جُدُرِهِ- وَلَهُ جُدُرٌ دُونَ جُدُرٍ- فَجَعَلُوا يَرْمُونَنَا بِالْجَنْدَلِ [ (2) ] رَمْيًا كَثِيرًا، وَنَحّونَا عَنْ حِصْنِهِمْ بِوَقْعِ الْحِجَارَةِ حَتّى رَجَعْنَا إلَى مَوْضِعِ الْحُبَابِ الْأَوّلِ. ثُمّ إنّ الْيَهُودَ تَلَاوَمَتْ بَيْنَهَا وَقَالَتْ: مَا نَسْتَبْقِي لِأَنْفُسِنَا؟ قَدْ قُتِلَ أَهْلُ الْجَدّ وَالْجِلْدِ فِي حِصْنِ نَاعِم. فَخَرَجُوا مُسْتَمِيتِينَ، وَرَجَعْنَا إلَيْهِمْ فَاقْتَتَلْنَا عَلَى بَابِ الْحِصْنِ أَشَدّ الْقِتَالِ، وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ عَلَى الْبَابِ ثَلَاثَةٌ مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو ضيّاح، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا، ضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالسّيْفِ فَأَطَنّ قِحْفَ رَأْسِهِ، وَعَدِيّ بْنُ مَرّةَ بْنِ سراقة، طعنه حدهم بِالْحَرْبَةِ بَيْنَ ثَدْيِهِ فَمَاتَ، وَالثّالِثُ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ فَدَمَغَهُ. وَقَدْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ عَلَى الْحِصْنِ عِدّةً، كُلّمَا قَتَلْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا حَمَلُوهُ حَتّى يُدْخِلُوهُ الْحِصْنَ. ثُمّ حَمَلَ صَاحِبُ رَايَتِنَا وَحَمَلْنَا مَعَهُ، وَأَدْخَلْنَا الْيَهُودَ الْحِصْنَ وَتَبِعْنَاهُمْ فِي جَوْفِهِ، فَلَمّا دَخَلْنَا عَلَيْهِمْ الْحِصْنَ فَكَأَنّهُمْ غَنَمٌ، فقتلنا من أشرف لنا، وأسرنا منهم،
وَهَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ يَرْكَبُونَ الْحَرّةَ يُرِيدُونَ حِصْنَ قَلْعَةِ الزّبَيْرِ، وَجَعَلْنَا نَدَعُهُمْ يَهْرُبُونَ، وَصَعِدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جُدُرِهِ فَكَبّرُوا عَلَيْهِ تَكْبِيرًا كَثِيرًا، فَفَتَتْنَا أَعْضَادَ الْيَهُودِ بِالتّكْبِيرِ، لَقَدْ رَأَيْت فَتَيَانِ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ فَوْقَ الْحِصْنِ يُكَبّرُونَ، فَوَجَدْنَا وَاَللهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ مَا لَمْ نَظُنّ أَنّهُ هُنَاكَ، مِنْ الشّعِيرِ، وَالتّمْرِ، وَالسّمْنِ، وَالْعَسَلِ، وَالزّيْتِ، وَالْوَدَكِ. وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا وَاعْلِفُوا وَلَا تَحْتَمِلُوا. يَقُولُ: لَا تَخْرُجُوا بِهِ إلَى بِلَادِكُمْ. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَأْخُذُونَ مِنْ ذَلِكَ الْحِصْنِ مَقَامَهُمْ طَعَامَهُمْ وَعَلَفَ دَوَابّهِمْ، لَا يُمْنَعُ أَحَدُ أَنْ يَأْخُذَ حَاجَتَهُ وَلَا يُخَمّسُ الطّعَامَ. وَوَجَدُوا فِيهِ مِنْ الْبَزّ وَالْآنِيّةِ، وَوَجَدُوا خَوَابِيَ، السّكَرِ، فَأُمِرُوا فَكَسَرُوهَا، فَكَانُوا يَكْسِرُونَهَا حَتّى سَالَ السّكَرُ فِي الْحِصْنِ، وَالْخَوَابِي كِبَارٌ لَا يُطَاقُ حَمْلُهَا. وَكَانَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيّ يَقُولُ: وَجَدْنَا فِيهِ آنِيّةً مِنْ نُحَاسٍ وَفَخّارٍ كَانَتْ الْيَهُودُ تَأْكُلُ فِيهَا وَتَشْرَبُ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اغْسِلُوهَا وَاطْبُخُوا وَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا. وَقَالَ: أَسْخِنُوا فِيهَا الْمَاءَ ثُمّ اُطْبُخُوا بَعْدُ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا. وَأَخْرَجْنَا مِنْهُ غَنَمًا كَثِيرًا وَبَقَرًا وَحُمُرًا، وَأَخْرَجْنَا مِنْهُ آلَةً كَثِيرَةً لِلْحَرْبِ، وَمَنْجَنِيقًا [ (1) ] وَدَبّابَاتٍ وَعُدّةً، فَنَعْلَمُ أَنّهُمْ قَدْ كَانُوا يَظُنّونَ أَنّ الْحِصَارَ يَكُونُ دَهْرًا، فَعَجّلَ اللهُ خِزْيَهُمْ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقَدْ خَرَجَ مِنْ أُطُمٍ مِنْ حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ مِنْ الْبَزّ عِشْرُونَ عِكْمًا [ (2) ] مَحْزُومَةً مِنْ غَلِيظِ مَتَاعِ الْيَمَنِ، وَأَلْفُ وَخَمْسُمِائَةِ قَطِيفَةٍ، يُقَالُ: قَدِمَ كُلّ رَجُلٍ بِقَطِيفَةٍ عَلَى أَهْلِهِ، وَوَجَدُوا عَشَرَةَ أَحْمَالِ خَشَبٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَأَخْرَجَ مِنْ الْحِصْنِ ثم أحرق،
فَمَكَثَ أَيّامًا يَحْتَرِقُ، وَخَوَابِي سَكَرٍ كُسِرَتْ، وَزُقَاقُ خَمْرٍ فَأُهْرِيقَتْ. وَعَمِدَ يَوْمئِذٍ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَشَرِبَ مِنْ الْخَمْرِ، فَرَفَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهَ حِينَ رَفَعَ إلَيْهِ فَخَفَقَهُ بِنَعْلَيْهِ، وَمَنْ حَضَرَهُ، فَخَفَقُوهُ بِنِعَالِهِمْ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ الْخَمّارِ، وَكَانَ رَجُلًا لَا يَصْبِرُ عَنْ الشّرَابِ قَدْ ضَرَبَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اللهُمّ الْعَنْهُ! مَا أَكْثَرَ مَا يُضْرَبُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَفْعَلْ يَا عُمَرُ، فَإِنّهُ يُحِبّ اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: ثُمّ رَاحَ عَبْدُ اللهِ فَجَلَسَ مَعَهُمْ كَأَنّهُ أَحَدُهُمْ حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ قَالَتْ: لَقَدْ وَجَدْنَا فِي حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ مِنْ الطّعَامِ مَا كُنْت أَظُنّ أَنّهُ لَا يَكُونُ بِخَيْبَرَ، جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَأْكُلُونَ مَقَامَهُمْ شَهْرًا وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْحِصْنِ، فَيَعْلِفُونَ دَوَابّهُمْ، مَا يَمْنَعُ أَحَدُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خُمُسٌ، وَأُخْرِجُ مِنْ الّبُزُوزِ شَيْءٌ كَثِيرٌ يُبَاعُ فِي الْمَقْسَمِ، وَوُجِدَ فِيهِ خَرْزٌ مِنْ خَرْزِ الْيَهُودِ. فَقِيلَ لَهَا: فَمَنْ الّذِي يَشْتَرِي ذَلِكَ فِي الْمَقْسَمِ؟ قَالَتْ: الْمُسْلِمُونَ، وَالْيَهُودُ الّذِينَ كَانُوا فِي الْكَتِيبَةِ فَآمَنُوا، وَمَنْ حَضَرَ من الأعراب، فكل هولاء يَشْتَرِي، فَأَمّا مَنْ يَشْتَرِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّمَا يُحَاسَبُ بِهِ مِمّا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَغْنَمِ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمّا نَظَرَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ إلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْقُلُونَ مِنْهُ الطّعَامَ وَالْعَلَفَ وَالْبَزّ قَالَ: مَا أَحَدٌ يَعْلِفُ لَنَا دَوَابّنَا وَيُطْعِمُنَا مِنْ هَذَا الطّعَامِ الضّائِعِ، فَقَدْ كَانَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كِرَامًا! فَشَتَمَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا:
لَك الّذِي جَعَلَ لَك رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذُو الرّقَيْبَةِ [ (1) ] ، فَاسْكُتْ! وَبَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ يَجُولُونَ فِي حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَلَهُ مَدَاخِلُ، فَأَخْرَجُوا رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَتَعَجّبُوا لِسَوَادِ دَمِهِ، وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ سَوَادِ هَذَا الدّمِ قَطّ- قَالَ: يَقُولُ مُتَكَلّمٌ: فِي رَفّ مِنْ تِلْكَ الرّفَافِ الثّومُ وَالثّرِيدُ- وَأُنْزِلَ فَقَدّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ. قَالَ: وَتَحَوّلَتْ الْيَهُودُ مِنْ حِصْنِ نَاعِم كُلّهَا، وَمِنْ حصن الصّعب ابن مُعَاذٍ، وَمِنْ كُلّ حُصُونِ النّطَاةِ، إلَى حِصْنٍ يُقَالُ لَهُ قُلْعَةُ الزّبَيْرِ، فَزَحَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَالْمُسْلِمُونَ، فَحَاصَرَهُمْ وَغَلّقُوا عَلَيْهِمْ حِصْنَهُمْ وَهُوَ حَصِينٌ مَنِيعٌ، وَإِنّمَا هُوَ فِي رَأْسِ قَلْعَةٍ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ الْخَيْلُ وَلَا الرّجَالُ لِصُعُوبَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ، وَبَقِيت بَقَايَا لَا ذِكْرَ لَهُمْ فِي بَعْضِ حُصُونِ النّطَاةِ، الرّجُلُ وَالرّجُلَانِ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِزَائِهِمْ رِجَالًا [ (2) ] يَحْرُسُونَهُمْ، لَا يَطْلُعُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ إلّا قَتَلُوهُ. وَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَاصَرَةِ الّذِينَ فِي قَلْعَةِ الزّبَيْرِ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ غَزَالٌ فَقَالَ: أَبَا الْقَاسِمِ، تُؤَمّنّي عَلَى أَنْ أَدُلّك عَلَى مَا تَسْتَرِيحُ بِهِ مِنْ أَهْلِ النّطَاةِ وَتَخْرَجُ إلَى أَهْلِ الشّقّ، فَإِنّ أَهْلَ الشّقّ قَدْ هَلَكُوا رُعْبًا مِنْك؟ قَالَ: فَأَمّنّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ. فَقَالَ الْيَهُودِيّ: إنّك لَوْ أَقَمْت شَهْرًا مَا بَالُوا، لَهُمْ دُبُولٌ [ (3) ] تَحْتَ الْأَرْضِ، يَخْرُجُونَ بِاللّيْلِ فَيَشْرَبُونَ بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون
مِنْك، وَإِنْ قَطَعْت مَشْرَبَهُمْ عَلَيْهِمْ ضَجّوا. فَسَارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دُبُولِهِمْ فَقَطَعَهَا، فَلَمّا قَطَعَ عَلَيْهِمْ مَشَارِبَهُمْ لَمْ يُطِيقُوا الْمَقَامَ عَلَى الْعَطَشِ، فَخَرَجُوا فَقَاتَلُوا أَشَدّ الْقِتَالِ، وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمئِذٍ نَفَرٌ، وَأُصِيبَ مِنْ الْيَهُودِ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَشَرَةٌ، وَافْتَتَحَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ آخِرَ حُصُونِ النّطَاةِ. فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النّطَاةِ أَمَرَ بِالِانْتِقَالِ، وَالْعَسْكَرِ أَنْ يُحَوّلَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِالرّجِيعِ إلَى مَكَانِهِ الْأَوّلِ بِالْمَنْزِلَةِ، وَأَمّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيَاتِ وَمِنْ حَرْبِ الْيَهُودِ وَمَا يَخَافُ مِنْهُمْ، لِأَنّ أَهْلَ النّطَاةِ كَانُوا أَحَدّ الْيَهُودِ وَأَهْلَ النّجْدَةِ مِنْهُمْ. ثُمّ تَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ الشّقّ. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُمَرَ الْحَارِثِيّ، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: لَمّا تَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الشّقّ، وَبِهِ حُصُونٌ ذَاتُ عَدَدٍ، كَانَ أَوّلَ حِصْنِ بَدَأَ مِنْهَا حِصْنُ أُبَيّ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَلْعَةٍ يُقَالُ لَهَا سُمْرَانُ [ (1) ] ، فَقَاتَلَ عَلَيْهَا أَهْلَ الْحِصْنِ قِتَالًا شَدِيدًا. وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ غَزَالٌ [ (2) ] فَدَعَا إلَى الْبِرَازِ، فَبَرَزَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٍ، ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ الْحُبَابُ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى مِنْ نِصْفِ الذّرَاعِ، فَوَقَعَ السّيْفُ مِنْ يَدِ غَزّالٍ فَكَانَ أَعَزْلَ، وَرَجَعَ مُبَادِرًا مُنْهَزِمًا إلَى الْحِصْنِ، وَتَبِعَهُ الْحُبَابُ فَقَطَعَ عُرْقُوبَهُ، فَوَقَعَ فَذَفّفَ عَلَيْهِ. وَخَرَجَ آخَرُ فَصَاحَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ آلِ جَحْشٍ فَقَتَلَ الْجَحْشِيّ. وَقَامَ مكانه يدعو إلى
الْبِرَازِ وَيَبْرُزُ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ فَوْقَ الْمِغْفَرِ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، فَبَدَرَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، ثُمّ ذَفّفَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ سَلَبَهُ، دِرْعَهُ وَسَيْفَهُ، فَجَاءَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفّلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. وَأَحْجَمُوا عَنْ الْبِرَازِ، فَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ ثُمّ تَحَامَلُوا عَلَى الْحِصْنِ فَدَخَلُوهُ، يَقْدُمُهُمْ أَبُو دُجَانَةَ، فَوَجَدُوا فِيهِ أَثَاثًا وَمَتَاعًا وَغَنَمًا وَطَعَامًا، وَهَرَبَ مَنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَتَقَحّمُوا الْجُدُرَ كَأَنّهُمْ الظّبَاءُ [ (1) ] حَتّى صَارُوا إلَى حِصْنِ النّزَارِ [ (2) ] بِالشّقّ، وَجَعَلَ يَأْتِي مَنْ بَقِيَ مِنْ قُلَلِ [ (3) ] النّطَاةِ إلَى حِصْنِ النّزَارِ فَعَلّقُوهُ وَامْتَنَعُوا فِيهِ أَشَدّ الِامْتِنَاعِ. وَزَحَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ فِي أَصْحَابِهِ فَقَاتَلُوهُمْ، فَكَانُوا أَشَدّ أَهْلِ الشّقّ قِتَالًا، رَمَوْا الْمُسْلِمِينَ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ، حَتّى أَصَابَتْ النّبْلُ ثِيَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِقَتْ بِهِ، فَأَخَذَ النّبْلَ فَجَمَعَهَا ثُمّ أَخَذَ لَهُمْ كَفّا من حصا فَحَصَبَ بِهِ حِصْنَهُمْ، فَرَجَفَ بِهِمْ ثُمّ سَاخَ فِي الْأَرْضِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ: اسْتَوَى بِالْأَرْضِ حَتّى جَاءَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذُوا أَهْلَهُ أَخْذًا [ (4) ] . وَكَانَتْ فِيهِ صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَيّ وَابْنَةُ عَمّهَا. فَكَانَ عُمَيْرٌ مَوْلَى آبِي اللّحْمِ يَقُولُ: شَهِدْت صفيّة أخرجت وابنة عمّها وصبيّات من
حِصْنِ النّزَارِ، فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِصْنَ النّزَارِ بَقِيَتْ حُصُونٌ فِي الشّقّ، فَهَرَبَ أَهْلُهَا مِنْهَا حَتّى انْتَهَوْا إلَى أَهْلِ الْكَتِيبَةِ وَالْوَطِيحِ وَسُلَالِم. وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ يَقُولُ: وَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حِصْنِ النّزَارِ فَقَالَ: هَذَا آخِرُ حُصُونِ خَيْبَرَ كَانَ فِيهِ قِتَالٌ، لَمّا فَتَحْنَا هَذَا الْحِصْنَ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ قِتَالٌ حَتّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ، قُلْت لِجَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ: كَيْفَ صَارَتْ صَفِيّةُ فِي حِصْنِ النّزَارِ فِي الشّقّ وَحِصْنِ آلِ أَبِي الْحُقَيْقِ بِسُلَالِمَ، وَلَمْ يَسُبّ فِي حُصُونِ النّطَاةِ مِنْ النّسَاءِ وَالذّرّيّةِ أَحَدٌ وَلَا بِالشّقّ، إلّا فِي حِصْنِ النّزَارِ، فَإِنّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ ذُرّيّةٌ وَنِسَاءٌ؟ فَقَالَ: إنّ يَهُودَ خَيْبَرَ أَخَرَجُوا النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ إلَى الْكَتِيبَةِ وَفَرّغُوا حِصْنَ النّطَاةِ لِلْمُقَاتِلَةِ فَلَمْ يُسْبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلّا مَنْ كَانَ فِي حِصْنِ النّزَارِ، صَفِيّةُ وَابْنَةُ عَمّهَا وَنُسَيّاتٌ مَعَهَا. وَكَانَ كِنَانَةُ قَدْ رَأَى أَنّ حِصْنَ النّزَارِ أَحْصَنُ مَا هُنَالِكَ، فَأَخْرَجَهَا فِي اللّيْلَةِ الّتِي تَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَبِيحَتِهَا إلَى الشّقّ حَتّى أُسِرَتْ وَبِنْتُ عَمّهَا وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ ذَرَارِيّ الْيَهُودِ، وَبِالْكَتِيبَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَلَمّا صَالَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْكَتِيبَةِ أَمِنَ الرّجَالَ وَالذّرّيّةَ، وَدَفَعُوا إلَيْهِ الْأَمْوَالَ، وَالْبَيْضَاءَ وَالصّفْرَاءَ، وَالْحَلْقَةَ، وَالثّيَابَ، إلّا ثَوْبًا [ (1) ] عَلَى إنْسَانٍ. فَلَقَدْ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ حِينَ أَمّنَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْبِلُونَ وَيُدْبِرُونَ، وَيَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ، لَقَدْ أَنْفَقُوا عَامّةَ الْمَغْنَمِ مِمّا يشترون من الثياب من
الثّيَابِ وَالْمَتَاعِ، وَكَانُوا قَدْ غَيّبُوا نَقُودَهُمْ وَعَيْنَ مَالِهِمْ. قَالُوا: ثُمّ تَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْكَتِيبَةِ وَالْوَطِيحِ وَسُلَالِم، حصن ابن أَبِي الْحُقَيْقِ الّذِي كَانُوا فِيهِ، فَتَحَصّنُوا أَشَدّ التّحَصّنِ، وَجَاءَهُمْ كُلّ فَلّ [ (1) ] كَانَ قَدْ انْهَزَمَ مِنْ النّطَاةِ وَالشّقّ، فَتَحَصّنُوا مَعَهُمْ فِي الْقَمُوص وَهُوَ فِي الْكَتِيبَةِ، وَكَانَ حِصْنًا مَنِيعًا، وَفِي الوطيح وسلالم. وجعلوا لا يطلعون مِنْ حُصُونِهِمْ مُغَلّقِينَ عَلَيْهِمْ، حَتّى هَمّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْصِبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَيْهِمْ لَمّا رَأَى مِنْ تَغْلِيقِهِمْ، وَأَنّهُ لَا يَبْرُزُ مِنْهُمْ بَارِزٌ. فَلَمّا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ وَقَدْ حَصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّلْحَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ، قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ: وُجِدَ فِي الْكَتِيبَةِ خَمْسُمِائَةِ قَوْسٍ عَرَبِيّةٌ. وَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَمّنْ رَأَى كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ يَرْمِي بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ- يَعْنِي ذِرَاعً- فَيُدْخِلُهَا فِي هَدَفٍ شِبْرًا فِي شِبْرٍ، فَمَا هُوَ إلّا أَنْ قِيلَ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ الشّقّ فِي أَصْحَابِهِ، وَقَدْ تَهَيّأَ أَهْلُ الْقَمُوص وَقَامُوا عَلَى بَابِ الْحِصْنِ بِالنّبْلِ، فَنَهَضَ كِنَانَةُ إلَى قَوْسِهِ فَمَا قَدَرَ أَنْ يُوتِرَهَا مِنْ الرّعْدَةِ، وَأَوْمَأَ إلَى أَهْلِ الْحُصُونِ: لَا تَرْمُوا! وَانْقَمَعَ فِي حِصْنِهِ، فَمَا رُئِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، حَتّى أَجْهَدَهُمْ الْحِصَارُ وَقَذَفَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ. فَأَرْسَلَ كِنَانَةَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ شَمّاخٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَنْزِلْ إلَيْك أُكَلّمْك! فَلَمّا نَزَلَ شَمّاخٌ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَأُتِيَ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِرِسَالَةِ كِنَانَةَ. فَأَنْعَمَ لَهُ، فَنَزَلَ كِنَانَةُ فِي نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَا صَالَحَهُ، فَأَحْلَفَهُ عَلَى مَا أَحْلَفَهُ عَلَيْهِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ: تِلْكَ الْقِسِيّ وَالسّلَاحُ إنّمَا كَانَ لِآلِ أَبِي الْحُقَيْقِ جَمَاعَةٌ يُعِيرُونَهُ العرب، والحلي يعيرونه
الْعَرَبَ. ثُمّ يَقُولُ: كَانُوا شَرّ يَهُودِ يَثْرِبَ. قَالُوا: وَأَرْسَلَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْزِلْ فَأُكَلّمَك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. قَالَ: فَنَزَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَصَالَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَقْنِ دِمَاءِ مَنْ فِي حُصُونِهِمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَتَرَكَ الذّرّيّةَ لَهُمْ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ خَيْبَرَ وَأَرْضِهَا بِذَرَارِيّهِمْ، وَيُخَلّونَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ أَوْ أَرْضٍ، وَعَلَى الصّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْكُرَاعِ وَالْحَلْقَةِ، وَعَلَى الْبَزّ، إلّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمّةُ اللهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ إنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا. فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْأَمْوَالِ فَقَبَضَهَا، الْأَوّلُ فَالْأَوّلُ، وَبَعَثَ إلَى الْمَتَاعِ وَالْحَلْقَةِ فَقَبَضَهَا، فَوَجَدَ مِنْ الدّرُوعِ مِائَةَ دِرْعٍ، وَمِنْ السّيُوفِ أَرْبَعَمِائَةِ سَيْفٍ، وَأَلْفَ رُمْحٍ، وَخَمْسَمِائَةِ قَوْسٍ عَرَبِيّةٍ بِجِعَابِهَا. فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ عَنْ كَنْزِ آلِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَحُلِيّ مِنْ حُلِيّهِمْ، كَانَ يَكُونُ فِي مَسْكِ [ (1) ] الْجَمَلِ، كَانَ أَسْرَاهُمْ [ (2) ] يُعْرَفُ بِهِ، وَكَانَ الْعُرْسُ يَكُونُ بِمَكّةَ فَيَقْدَمُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَعَارُ ذَلِكَ الْحُلِيّ الشّهْرَ فَيَكُونُ فِيهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْحُلِيّ يَكُونُ عِنْدَ الْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ مِنْ آلِ أَبِي الْحُقَيْقِ. فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَنْفَقْنَاهُ فِي حَرْبِنَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَكُنّا نَرْفَعُهُ لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، فَلَمْ تُبْقِ الْحَرْبُ وَاسْتِنْصَارُ الرّجَالِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. وَحَلَفَا عَلَى ذَلِكَ فَوَكّدَا الْأَيْمَانَ وَاجْتَهَدَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لهما [ (3) ] :
بَرِئَتْ مِنْكُمَا ذِمّةُ اللهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ إنْ كان عند كما! قَالَا: نَعَمْ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكُلّ مَا أَخَذْت مِنْ أَمْوَالِكُمَا وَأَصَبْت مِنْ دِمَائِكُمَا فَهُوَ حِلّ لِي وَلَا ذِمّةَ لَكُمَا! قَالَا: نَعَمْ. وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيّا، وَالزّبِيرَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعَشَرَةً مِنْ الْيَهُودِ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ: إنْ كَانَ عِنْدَك مَا يَطْلُبُ مِنْك مُحَمّدٌ أَوْ تَعْلَمُ عِلْمَهُ فَأَعْلِمْهُ فَإِنّك تَأْمَنُ عَلَى دَمِك، وَإِلّا فَوَاَللهِ لَيَظْهَرَنّ عَلَيْهِ، قَدْ اطّلَعَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِمَا لَمْ نَعْلَمْهُ. فَزَبَرَهُ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَتَنَحّى الْيَهُودِيّ فَقَعَدَ. ثُمّ سَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَلّامِ بْن أَبِي الْحُقَيْقِ- وَكَانَ رَجُلًا ضَعِيفًا- عَنْ كَنْزِهِمَا، فَقَالَ: لَيْسَ لِي عِلْمٌ غَيْرَ أَنّي قَدْ كُنْت أَرَى كِنَانَةَ كُلّ غَدَاةٍ يَطُوفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ- قَالَ: وَأَشَارَ إلَى خَرِبَةٍ- فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ [ (1) ] دَفَنَهُ فَهُوَ فِيهَا. وَكَانَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ لَمّا ظَهَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النّطَاةِ أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ- وَكَانَ أَهْلُ النّطَاةِ أَخَذَهُمْ [الرّعْبُ]- فَذَهَبَ بِمَسْكِ الْجَمْلِ، فِيهِ حَلِيّهُمْ، فَحَفَرَ لَهُ فِي خَرِبَةٍ لَيْلًا وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ، ثُمّ سَوّى عَلَيْهِ التّرَابَ بِالْكَتِيبَةِ، وَهِيَ الْخَرِبَةُ الّتِي رَآهُ ثَعْلَبَةُ يَدُورُ بِهَا كُلّ غَدَاةٍ. فَأَرْسَلَ مَعَ ثَعْلَبَةَ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوَامّ وَنَفَرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى تِلْكَ الْخَرِبَةِ، فَحَفَرَ حَيْثُ أَرَاهُ ثَعْلَبَةُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكَنْزَ. وَيُقَالُ: إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ دَلّ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ الْكَنْزِ. فَلَمّا أُخْرِجَ الْكَنْزُ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزّبَيْرَ أَنْ يُعَذّبَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ حَتّى يَسْتَخْرِجَ كُلّ مَا عِنْدَهُ. فَعَذّبَهُ الزّبَيْرُ حَتّى جَاءَهُ بِزَنْدٍ [ (2) ] يَقْدَحُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمّ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلى محمّد بن مسلمة
يَقْتُلُهُ بِأَخِيهِ، فَقَتَلَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. وَأَمَرَ بِابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ الْآخَرِ، فَعُذّبَ ثُمّ دُفِعَ إلَى وُلَاةِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ فَقُتِلَ بِهِ، وَيُقَالُ: ضُرِبَ عُنُقُهُ. وَاسْتَحَلّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَمْوَالَهُمَا وَسَبَى ذَرَارِيّهُمَا. فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ الرّبِيعَةِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَمّنْ نَظَرَ إلَى مَا فِي مَسْكِ الْجَمْلِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُتِيَ بِهِ، فَإِذَا جُلّهُ أَسْوِرَةٌ الذّهَبِ، وَدَمَالِجُ الذّهَبِ، وَخَلَاخِلُ الذّهَبِ، وَقِرَطَةُ الذّهَبِ، وَنَظْمٌ مِنْ جَوْهَرٍ وَزُمُرّدٍ، وَخَوَاتِمُ ذَهَبٍ، وَفَتَخٌ [ (1) ] بِجَزْعِ ظَفَارِ مُجَزّعٌ بِالذّهَبِ. وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِظَامًا مِنْ جَوْهَرٍ فَأَعْطَاهُ بَعْضَ أَهْلِهِ، إمّا عَائِشَةُ أَوْ إحْدَى بَنَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ فَلَمْ تَمْكُثْ إلّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ حَتّى فَرّقَتْهُ فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْأَرَامِلِ، فَاشْتَرَى أَبُو الشّحْمِ ذُرَةً مِنْهَا. فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَارَ إلَى فِرَاشِهِ لَمْ ينم، فغدا فى فِي السّحَرِ حَتّى أَتَى عَائِشَةَ، وَلَمْ تَكُنْ لَيْلَتَهَا، أَوْ بِنْتَه، فَقَالَ: رُدّي عَلَيّ النّظَامَ فَإِنّهُ لَيْسَ لِي، وَلَا لَك فِيهِ حَقّ. فَخَبّرَتْهُ كَيْفَ صَنَعْت بِهِ، فَحَمْدُ اللهِ وَانْصَرَفَ. وَكَانَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَيّ تَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ النّظَامُ لِبِنْتِ كِنَانَةَ. وَكَانَتْ صَفِيّةُ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبَاهَا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْكَتِيبَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَرْسَلَ بِهَا مَعَ بَلَالٍ إلَى رَحْلِهِ. فَمَرّ بِهَا وَبِابْنَةِ عَمّهَا عَلَى الْقَتْلَى، فَصَاحَتْ ابْنَةُ عَمّهَا صِيَاحًا شَدِيدًا، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ بَلَالٌ فَقَالَ: أَذَهَبَتْ مِنْك الرّحْمَةُ؟ تمرّ بجارية حديثة السنّ على
الْقَتْلَى!، فَقَالَ بَلَالٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا ظَنَنْت أَنّك تَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَحْبَبْت أَنْ تَرَى مَصَارِعَ قَوْمِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَابْنَةِ عَمّ صَفِيّةَ: مَا هَذَا إلّا شَيْطَانٌ. وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ قَدْ نَظَرَ إلَى صَفِيّةَ فَسَأَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُقَالُ إنّهُ وَعَدَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ، فَأَعْطَاهُ ابْنَةَ عَمّهَا. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ أُخْتِهِ أُمّ عَبْدِ اللهِ، عَنْ ابْنَةِ أَبِي الْقَيْنِ الْمُزَنِيّ، قَالَتْ: كُنْت آلَفُ صَفِيّةَ مِنْ بَيْنَ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تُحَدّثُنِي عَنْ قَوْمِهَا وَمَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْهُمْ قَالَتْ: خَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ حَيْثُ أَجْلَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَمْنَا بِخَيْبَرَ، فَتَزَوّجَنِي كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَأَعْرَسَ بِي قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِأَيّامٍ، وَذَبَحَ جُزُرًا وَدَعَا بِالْيَهُودِ، وَحَوّلَنِي فِي حِصْنِهِ بِسُلَالِمَ، فَرَأَيْت فِي النّوْمِ كَأَنّ قمرا أقبل من يثرب يسير حتى وقع فِي حِجْرِي. فَذَكَرْت ذَلِكَ لَكِنَانَةَ زَوْجِي فَلَطَمَ عَيْنِي فَاخْضَرّتْ، فَنَظَرَ إلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلْت عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْته. قَالَتْ: وَجَعَلَتْ الْيَهُودُ ذَرَارِيّهَا فِي الْكَتِيبَةِ، وَجَرّدُوا حِصْنَ النّطَاةِ لِلْمُقَاتِلَةِ، فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَافْتَتَحَ حُصُونَ النّطَاةِ، وَدَخَلَ عَلَيّ كِنَانَةُ فَقَالَ: قَدْ فرغ محمّد من النّطاة، وليس هاهنا أَحَدٌ يُقَاتِلُ، قَدْ قُتِلَتْ الْيَهُودُ حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النّطَاةِ وَكَذَبَتْنَا الْعَرَبُ. فَحَوّلَنِي إلَى حِصْنِ النّزَارِ بِالشّقّ، - قَالَ: وَهُوَ أَحْصَنُ مِمّا عِنْدَنَا- فَخَرَجَ حَتّى أَدْخَلَنِي وَابْنَةَ عَمّي وَنُسَيّاتٍ مَعَنَا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَيْنَا قَبْلَ الْكَتِيبَةِ فَسُبِيت فِي النّزَارِ قَبْلَ أن
يَنْتَهِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْكَتِيبَةِ، فَأَرْسَلَ بِي إلَى رَحْلِهِ، ثُمّ جَاءَنَا حِينَ أَمْسَى فَدَعَانِي، فَجِئْت وَأَنَا مُقَنّعَةٌ حَيِيّةٌ، فَجَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: إنْ أَقَمْت عَلَى دِينِك لَمْ أُكْرِهْك، وَإِنْ اخْتَرْت اللهَ وَرَسُولَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَك. قَالَتْ: أَخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْإِسْلَامَ. فَأَعْتَقَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَزَوّجَنِي وَجَعَلَ عِتْقِي مَهْرِي، فَلَمّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ أَصْحَابُهُ: الْيَوْمَ نَعْلَمُ أَزَوْجَةً أَمْ سُرّيّةً، فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ فَسَيُحَجّبُهَا وَإِلّا فَهِيَ سُرّيّةٌ. فَلَمّا خَرَجَ أَمَرَ بِسِتْرٍ فَسَتَرَتْ بِهِ فَعَرَفَ أَنّي زَوْجَةٌ، ثُمّ قَدِمَ إلَى الْبَعِيرِ وَقَدّمَ فَخِذَهُ لِأَضَعَ رِجْلِي عَلَيْهَا، فَأَعْظَمَتْ ذَلِكَ وَوَضَعْت فَخِذِي عَلَى فَخِذِهِ، ثُمّ رَكِبْت. وَكُنْت أَلْقَى مِنْ أَزْوَاجِهِ، يَفْخَرْنَ عَلَيّ يَقُلْنَ: يَا بِنْتَ الْيَهُودِيّ. وَكُنْت أَرَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَطّفُ بِي وَيُكْرِمُنِي، فَدَخَلَ عَلَيّ يَوْمًا وَأَنَا أَبْكِي فقال: مالك؟ فَقُلْت: أَزْوَاجُك يَفْخَرْنَ عَلَيّ وَيَقُلْنَ: يَا بِنْتَ الْيَهُودِيّ. قَالَتْ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَضِبَ ثُمّ قَالَ: إذَا قالوا لك أو فاخروك فقولي: أبى هرون وعمّى موسى قالوا: وكان أبو شييم المري- قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ- يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا نَفّرْنَا أَهْلَهَا بِحَيْفَاءَ مَعَ عُيَيْنَةَ- قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ قَارّونَ هَادِئُونَ لَمْ يَهْجُهُمْ هَائِجٌ- رَجَعَ بِنَا عُيَيْنَةُ، فَلَمّا كَانَ دُونَ خَيْبَرَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْحُطَامُ عَرّسْنَا مِنْ اللّيْلِ فَفَزِعْنَا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: أَبْشِرُوا إنّي أَرَى اللّيْلَةَ فِي النّوْمِ أَنّي أُعْطِيت ذَا الرّقَيْبَةِ- جَبَلًا بِخَيْبَرَ- قَدْ وَاَللهِ قَدْ أَخَذْت بِرِقْبَةِ مُحَمّدٍ. قَالَ: فَلَمّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ فَوَجَدَ رَسُولَ الله صلى الله عليه
وَسَلّمَ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ وَغَنّمَهُ اللهُ مَا فِيهَا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: أُعْطِنِي يَا مُحَمّدُ مِمّا غَنِمْت مِنْ حُلَفَائِي فَإِنّي انْصَرَفْت عَنْك وَعَنْ قِتَالِك وَخَذَلْت حُلَفَائِي وَلَمْ أُكْثِرْ عَلَيْك، وَرَجَعْت عَنْك بِأَرْبَعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبْت، وَلَكِنْ الصّيَاحُ الّذِي سَمِعْت أَنَفَرَك إلَى أُهْلِكْ. قَالَ: أَجْزِنِي يَا مُحَمّدُ. قَالَ: لَك ذُو الرّقَيْبَةِ. قَالَ عُيَيْنَةُ: وَمَا ذُو الرّقَيْبَةِ؟ قَالَ: الْجَبَلُ الّذِي رَأَيْت فِي النّوْمِ أَنّك أَخَذْته. فَانْصَرَفَ عُيَيْنَةُ فَجَعَلَ يَتَدَسّسُ إلَى الْيَهُودِ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ أَمْرًا، وَاَللهِ مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا يُصِيبُ مُحَمّدًا غَيْرَكُمْ. قُلْت: أَهْلُ الْحُصُونِ وَالْعُدّةِ وَالثّرْوَةِ، أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ وَأَنْتُمْ فِي هَذِهِ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، وَهَذَا الطّعَامِ الْكَثِيرِ مَا يُوجَدُ لَهُ آكِلٌ، وَالْمَاءُ الْوَاتِنُ. قَالُوا: قَدْ أَرَدْنَا الِامْتِنَاعَ فِي قَلْعَةِ الزّبَيْرِ وَلَكِنّ الدّبُولَ [ (1) ] قُطِعَتْ عَنّا، وَكَانَ الْحُرّ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا بَقَاءٌ عَلَى الْعَطَشِ. قَالَ: قَدْ وُلِيتُمْ مِنْ حُصُونِ نَاعِمٍ مُنْهَزِمِينَ حَتّى صِرْتُمْ إلَى حِصْنِ قَلْعَةِ الزّبَيْرِ. وَجَعَلَ يَسْأَلُ عَمّنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فَيُخْبِرُ، قَالَ: قُتِلَ وَاَللهِ أَهْلُ الْجَدّ وَالْجَلَدِ، لَا نِظَامَ ليهود بالحجاز أبدا. ويسمع كلامه ثعلبة بن سلّام بن أبى الحقيق، وكانوا يَقُولُونَ إنّهُ ضَعِيفُ الْعَقْلِ مُخْتَلِطٌ، فَقَالَ: يَا عُيَيْنَةُ، أَنْتَ غَرَرْتهمْ وَخَذَلْتهمْ وَتَرَكْتهمْ وَقِتَالَ مُحَمّدٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا صَنَعْت بِبَنِي قُرَيْظَةَ! فَقَالَ عُيَيْنَةُ: إنّ مُحَمّدًا كَادَنَا فِي أَهْلِنَا، فَنَفَرْنَا إلَيْهِمْ حَيْثُ سَمِعْنَا الصّرِيخَ وَنَحْنُ نَظُنّ أَنّ مُحَمّدًا قَدْ خَالَفَ إلَيْهِمْ، فَلَمْ نَرَ شَيْئًا فَكَرَرْنَا إلَيْكُمْ لِنَنْصُرَكُمْ. قَالَ ثَعْلَبَةُ: وَمَنْ بَقِيَ تَنْصُرُهُ؟ قَدْ قُتِلَ مِنْ قُتِلَ وَبَقِيَ مَنْ بقي فصار عبدا لمحمّد، وسبانا،
وَقَبَضَ الْأَمْوَالَ! قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ لِعُيَيْنَةَ: لَا أَنْتَ نَصَرْت حُلَفَاءَك فَلَمْ يُعِدّوا عَلَيْك حِلْفَنَا! وَلَا أَنْتَ حَيْثُ وُلّيت- كُنْت أَخَذْت تَمْرَ خَيْبَرَ مِنْ مُحَمّدٍ سَنَةً! وَاَللهِ إنّي لَأَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا ظَاهِرًا، لَيَظْهَرَنّ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ. فَانْصَرَفَ عُيَيْنَةُ إلَى أَهْلِهِ يَفْتِلُ يَدَيْهِ، فَلَمّا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَك إنّك تُوضَعُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ؟ وَاَللهِ لَيَظْهَرَنّ مُحَمّدٌ عَلَى مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، الْيَهُودُ كَانُوا يُخْبِرُونَنَا هَذَا. أَشْهَدُ لَسَمِعْت أَبَا رَافِعٍ سَلّامَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ يَقُولُ: إنّا نَحْسُدُ مُحَمّدًا عَلَى النّبُوّةِ حَيْثُ خَرَجَتْ مِنْ بَنِي هرون، وَهُوَ نَبِيّ مُرْسَلٌ وَالْيَهُودُ لَا تُطَاوِعُنِي عَلَى هَذَا، وَلَنَا مِنْهُ ذَبَحَانِ، وَاحِدٌ بِيَثْرِبَ وَآخَرُ بِخَيْبَرَ. قَالَ الْحَارِثُ، قُلْت لِسَلّامٍ: يَمْلِكُ الْأَرْضَ جَمِيعًا؟ قَالَ: نَعَمْ وَالتّوْرَاةُ الّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، وَمَا أُحِبّ أَنْ تَعْلَمَ الْيَهُودُ بِقَوْلِي فِيهِ! قَالُوا: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَاطْمَأَنّ جَعَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَسْأَلُ: أَيّ الشّاةِ أَحَبّ إلَى مُحَمّدٍ؟ فَيَقُولُونَ: الذّرَاعُ وَالْكَتِفُ. فَعَمَدَتْ إلَى عَنْزٍ لَهَا فَذَبَحَتْهَا، ثُمّ عَمَدَتْ إلَى سُمّ لَابَطِيّ [ (1) ] ، قَدْ شَاوَرَتْ الْيَهُودَ فِي سُمُومٍ فَأَجْمَعُوا لَهَا عَلَى هَذَا السّمّ بِعَيْنِهِ، فَسَمّتْ الشّاةَ وَأَكْثَرَتْ فِي الذّرَاعَيْنِ وَالْكَتِفَيْنِ. فَلَمّا غَابَتْ الشّمْسُ صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ وَانْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ، وَيَجِدُ زَيْنَبَ جَالِسَةً عِنْدَ رَحْلِهِ فَيَسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَتْ: أَبَا الْقَاسِمِ، هَدِيّةٌ أَهْدَيْتهَا لَك. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الْهَدِيّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْهَدِيّةِ فَقَبَضْت مِنْهَا وَوَضَعْت بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لِأَصْحَابِهِ وَهُمْ حُضُورٌ، أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ: اُدْنُوا فَتَعَشّوْا! فَدَنَوَا فَمَدّوا أَيْدِيَهُمْ، وَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذّرَاعَ، وَتَنَاوَلَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ عَظْمًا، وَأَنْهَشَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا نَهْشًا وَانْتَهَشَ بِشْرٌ، فَلَمّا ازْدَرَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَتَهُ ازْدَرَدَ بِشْرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُفّوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنّ هَذِهِ الذّرَاعَ تُخْبِرُنِي أَنّهَا مَسْمُومَةٌ. فَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ: قَدْ وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَجَدْت ذَلِكَ مِنْ أَكْلَتِي الّتِي أَكَلْتهَا، فَمَا مَنَعَنِي أَنّ أَلْفِظَهَا إلّا كَرَاهِيَةَ أُنَغّصَ إلَيْك طَعَامَك، فَلَمّا تَسَوّغْتَ مَا فِي يَدِك لَمْ أَرْغَبْ بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِك، وَرَجَوْت أَلّا تَكُونَ ازْدَرَدْتهَا وَفِيهَا نَعْيٌ [ (1) ] . فَلَمْ يَرْمِ بِشْرٌ مِنْ مَكَانِهِ حَتّى عَادَ لَوْنُهُ كَالطّيْلَسَانِ، وَمَاطَلَهُ وَجَعُهُ سَنَةً لَا يَتَحَوّلُ إلّا مَا حُوّلَ، ثُمّ مَاتَ مِنْهُ. وَيُقَالُ لَمْ يَقُمْ مِنْ مَكَانِهِ حَتّى مَاتَ، وَعَاشَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ فَقَالَ: سَمَمْت الذّرَاعَ؟ فَقَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَك؟ قَالَ: الذّرَاعُ. قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَتْ: قَتَلْت أَبِي وَعَمّي وَزَوْجِي، وَنِلْت مِنْ قَوْمِي مَا نِلْت، فَقُلْت: إنْ كَانَ نَبِيّا فَسَتُخْبِرُهُ الشّاةُ مَا صَنَعْت، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ. فَاخْتَلَفَ عَلَيْنَا فِيهَا، فَقَالَ قَائِلٌ رِوَايَةً: أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَتْ ثُمّ صُلِبَتْ. وَقَالَ قَائِلٌ رِوَايَةً: عَفَا عَنْهَا. وَكَانَ نَفَرٌ ثَلَاثَةٌ قَدْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الطّعَامِ وَلَمْ يَسِيغُوا مِنْهُ شَيْئًا. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَاحْتَجَمُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ مِنْ الشّاةِ، وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ كَتِفِهِ الْيُسْرَى. وَيُقَالُ: احْتَجَمَ عَلَى كَاهِلِهِ، حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشّفْرَةِ.
وَقَالُوا: وَكَانَتْ أُمّ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ تَقُولُ: دَخَلْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الّذِي مَاتَ فِيهِ وَهُوَ مَحْمُومٌ فَمَسِسْته فَقُلْت: مَا وَجَدْت مِثْلَ [مَا] وُعِكَ [ (1) ] عَلَيْك عَلَى أَحَدٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ كَذَلِكَ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ، زَعَمَ النّاسُ أَنّ بِرَسُولِ اللهِ ذَاتُ الْجَنْبِ! مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلّطَهَا عَلَيّ، إنّمَا هِيَ هَمْزَةٌ مِنْ الشّيْطَانِ، وَلَكِنّهُ مِنْ الْأَكْلَةِ الّتِي أَكَلْت أَنَا وَابْنُك يَوْمَ خَيْبَرَ. مَا زَالَ يُصِيبُنِي مِنْهَا عِدَادٌ [ (2) ] حَتّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعٍ [ (3) ] أَبْهَرِيّ [ (4) ] . فَمَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدًا. وَيُقَالُ: إنّ الّذِي مَاتَ فِي الشّاةِ مُبَشّرُ بْنُ الْبَرَاءِ. وَبِشْرٌ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: سَأَلْت إبْرَاهِيمَ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ قَوْلِ زَيْنَبَ ابْنَةِ الْحَارِثِ «قَتَلْت أَبِي» قَالَ: قُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ أَبُوهَا الْحَارِثُ وَعَمّهَا يَسَارٌ، وَكَانَ أَخْبَرَ النّاسِ، هُوَ الّذِي أُنْزِلَ مِنْ الشّقّ، وَكَانَ الْحَارِثُ أَشْجَعَ الْيَهُودِ، وَأَخُوهُ زُبَيْرُ قُتِلَ يَوْمئِذٍ، فَكَانَ زَوْجُهَا سَيّدَهُمْ وَأَشْجَعَهُمْ سَلّامَ بْنَ مِشْكَمٍ، كَانَ مَرِيضًا وَكَانَ فِي حُصُونِ النّطَاةِ فَقِيلَ لَهُ: إنّهُ لَا قِتَالَ فِيكُمْ فَكُنْ فِي الْكَتِيبَةِ. قَالَ: لَا أَفْعَلُ أَبَدًا. فَقُتِلَ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَهُوَ أَبُو الْحَكَمِ الّذِي يَقُولُ فِيهِ الرّبِيعُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ: وَلَمّا تَدَاعَوْا بِأَسْيَافِهِمْ ... فَكَانَ الطّعَانُ دعونا سلاما
وَكُنّا إذَا مَا دَعَوْنَا بِهِ ... سَقَيْنَا سَرَاةَ الْعَدُوِ السمَامَا وَهُوَ كَانَ صَاحِبُ حَرْبِهِمْ وَلَكِن اللهَ شَغَلَهُ بِالْمَرَضِ. قَالُوا: وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَرْوَةَ بْنَ عَمْرٍو الْبِيَاضِيّ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ مَا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ فِي حُصُونِ النّطَاةِ وَحُصُونِ الشّقّ وَحُصُونِ الْكَتِيبَةِ، لَمْ يَتْرُكْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَتِيبَةِ إلّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ، وَجَمَعُوا أَثَاثًا كثيرا وَبَزّا وَقَطَائِفَ وَسِلَاحًا كَثِيرًا، وَغَنَمًا وَبَقَرًا، وَطَعَامًا وَأَدَمًا كَثِيرًا. فَأَمّا الطّعَامُ وَالْأَدَمُ وَالْعَلَفُ فَلَمْ يُخَمّسْ، يَأْخُذُ مِنْهُ النّاسُ حَاجَتَهُمْ، وَكَانَ مَنْ احْتَاجَ إلَى سِلَاحٍ يُقَاتِلُ بِهِ أَخَذَهُ مِنْ صَاحِبِ الْمَغْنَمِ، حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ فَرُدّ ذَلِكَ فِي الْمَغْنَمِ. فَلَمّا اجْتَمَعَ ذَلِكَ كُلّهُ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُزِئَ خَمْسَةَ أَجَزَاء، وَكَتَبَ فِي سَهْمٍ مِنْهَا «اللهُ» وَسَائِرُ السّهْمَانِ أَغْفَالٌ. فَكَانَ أَوّلَ مَا خَرَجَ سَهْمُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُتَخَيّرْ فِي الْأَخْمَاسِ، ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ [ (1) ] فِيمَنْ يُرِيدُ، فَجَعَلَ فَرْوَةُ يَبِيعُهَا فِيمَنْ يُرِيدُ، فَدَعَا فِيهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ وَقَالَ: اللهُمّ أَلْقِ عَلَيْهَا النّفَاقَ! قَالَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو: فَلَقَدْ رَأَيْت النّاسَ يَتَدَارَكُونَ عَلَيّ وَيَتَوَاثَبُونَ حَتّى نَفَقَ فِي يَوْمَيْنِ، وَلَقَدْ كُنْت أَرَى أَنّا لَا نَتَخَلّصُ مِنْهُ حِينًا لِكَثْرَتِهِ. وَكَانَ الْخُمُسُ الّذِي صَارَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَغْنَمِ يُعْطَى مِنْهُ عَلَى مَا أَرَادَ اللهُ مِنْ السّلَاحِ وَالْكِسْوَةِ، فَأَعْطَى مِنْهُ أَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ الثّيَابِ وَالْخَرْزِ وَالْأَثَاثِ، وَأَعْطَى رِجَالًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَنِسَاءً، وَأَعْطَى الْيَتِيمَ وَالسّائِلَ. وَجَمَعْت يَوْمئِذٍ مَصَاحِفَ فِيهَا التّوْرَاةُ مِنْ الْمَغْنَمِ، فَجَاءَتْ الْيَهُودُ تَطْلُبُهَا وَتَكَلّمَ فِيهَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم،
أَنْ تُرَدّ عَلَيْهِمْ. وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ، فَإِنّ الْغُلُولَ عَارٍ وَشَنَارٌ وَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَبَاعَ يَوْمئِذٍ فَرْوَةُ الْمَتَاعَ، فَأَخَذَ عِصَابَةً فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ لِيَسْتَظِلّ بِهَا مِنْ الشّمْسِ، ثُمّ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَهِيَ عَلَيْهِ فَذَكَرَ فَخَرَجَ فَطَرَحَهَا. وَأَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: عِصَابَةٌ مِنْ نَارٍ عَصَبْت بِهَا رَأْسَك. وَسَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ مِنْ الْفَيْءِ شَيْئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا يَحِلّ لِي مِنْ الْفَيْءِ خَيْطٌ وَلَا مِخْيَطٌ، لَا آخُذُ وَلَا أُعْطِي. فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عِقَالًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَتّى نَقْسِمَ الْغَنَائِمَ ثُمّ أُعْطِيك عِقَالًا، وَإِنْ شِئْت مِرَارًا [ (1) ] . وَكَانَ رَجُلٌ أَسْوَدَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْسِكُ دَابّتَهُ عِنْدَ الْقِتَالِ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ، فَقُتِلَ يَوْمئِذٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ اُسْتُشْهِدَ كَرْكَرَةٌ؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه الْآن لِيُحَرّقَ فِي النّارِ عَلَى شَمْلَةٍ غَلّهَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخَذْت شِرَاكَيْنِ يَوْمئِذٍ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ. وَتُوُفّيَ يَوْمئِذٍ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ، وَإِنّهُمْ ذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَلّوْا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فَتَغَيّرَتْ وُجُوهُ النّاسِ لِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ صَاحِبَكُمْ غَلّ فِي سَبِيلِ اللهِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ: فَفَتّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرْزًا مِنْ خَرْزِ الْيَهُودِ لَا يُسْوَى دِرْهَمَيْنِ. وَكَانَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا خَرْزًا مِنْ خَرْزِ الْيَهُودِ وَكَانُوا رُفَقَاءَ، فَقَالَ الْمُحَدّثُ لِهَذَا الْحَدِيثِ: لَوْ كَانَ الْخَرْزُ عِنْدَكُمْ الْيَوْمَ لَمْ يُسْوَ دِرْهَمَيْنِ. فَأُتِيَ بِذَلِكَ الْخَرْزِ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من المقسم،
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَسِينَا! هَذَا الْخَرْزَ عِنْدَنَا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلّكُمْ يَحْلِفُ بِاَللهِ أَنّهُ نَسِيَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَحَلَفُوا بِاَللهِ جَمِيعًا أَنّهُمْ نَسُوهُ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَرِيرِ الْمَوْتَى فَسُجِنَ عَلَيْهِمْ بِالرّبَاطِ، ثُمّ صَلّى عَلَيْهِمْ صَلَاةَ الْمَوْتَى. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِدُ الْغُلُولَ فِي رَحْلِ الرّجُلِ فَلَا يُعَاقِبُهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنّهُ أَحْرَقَ رَحْلَ أَحَدٍ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، وَلَكِنّهُ يُعَنّفُ وَيُؤَنّبُ وَيُؤْذِي وَيُعَرّفُ النّاسَ بِهِ. قَالُوا: وَاشْتَرَى يَوْمَ خيبر تبرا [ (1) ] بذهب جزافا، فلهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَكَانَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: أَصَبْت يَوْمئِذٍ قِلَادَةً فَبِعْتهَا بِثَمَانِيّةِ دَنَانِيرَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بِعْ الذّهَبَ وَزْنًا بِوَزْنٍ. وَكَانَ فِي الْقِلَادَةِ ذَهَبٌ وَغَيْرُهُ فَرَجَعْت فِيهَا. وَاشْتَرَى السّعْدَانُ تِبْرًا بِذَهَبٍ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ وَزْنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبَيْتُمَا فَرُدّا! وَوَجَدَ رَجُلٌ يَوْمئِذٍ فِي خَرِبَةٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَأَخَذَ مِنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ. وَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ يَقُولُ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِ [ (2) ] مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَلَا يَبِعْ [ (3) ] شَيْئًا مِنْ الْمَغْنَمِ حَتّى يَعْلَمَ، وَلَا يَرْكَبْ دَابّةً مِنْ الْمَغْنَمِ حَتّى إذَا بَرَاهَا [ (4) ] رَدّهَا، وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ الْمَغْنَمِ حَتّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدّهُ، وَلَا يَأْتِ مِنْ السّبْيِ حَتّى تَسْتَبْرِئَ وَتَحِيضَ حَيْضَةً، وَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى حَتّى تَضَعَ حَمْلَهَا. وَمَرّ رسول الله صلّى الله عليه
وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ عَلَى امْرَأَةٍ مُجِحّ [ (1) ] فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لِفُلَانٍ. قَالَ: فَلَعَلّهُ يَطَؤُهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ بِوَلَدِهَا يَرِثُهُ وَلَيْسَ بِابْنِهِ، أَوْ يَسْتَرْقِهِ وَهُوَ يَعْدُو فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ؟ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَتْبَعُهُ فِي قَبْرِهِ. قَالُوا: وَقَدِمَ أَهْلُ السّفِينَتَيْنِ [ (2) ] مِنْ عِنْدِ النّجَاشِيّ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ، فَلَمّا نَظَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَعْفَرٍ قَالَ: مَا أَدْرِي بِأَيّهِمَا أَنَا أُسَرّ، بِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَوْ فَتْحِ خَيْبَرَ! ثُمّ ضَمّهُ رَسُولُ اللهِ وَقَبّلَ بَيْن عَيْنَيْهِ. وَقَدِمَ الدّوْسِيّونَ فِيهِمْ أَبُو هَرِيرَةَ وَالطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأَصْحَابُهُمْ وَنَفَرٌ مِنْ الْأَشْجَعِيّينَ، فَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِيهِمْ أَنْ يُشْرِكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ. قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. وَنَظَرَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ [ (3) ] بْنِ الْعَاصِ إلَى أَبِي هَرِيرَةَ فَقَالَ: أَمّا أَنْتَ فَلَا. فَقَالَ أَبُو هَرِيرَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. قَالَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ: يَا عَجَبَاه لِوَبَرٍ [ (4) ] تَدَلّى عَلَيْنَا مِنْ قُدُومِ ضَأْنٍ [ (5) ] ! يَنْعَى عَلَى قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللهُ عَلَى يدي ولم يهنّى على يده. قالوا: وَكَانَ الْخُمُسُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلّ مَغْنَمٍ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ، شَهِدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَابَ عَنْهُ. وَكَانَ لَا يَقْسِمُ لِغَائِبٍ فِي مَغْنَمٍ لَمْ يَشْهَدْهُ، إلّا أَنّهُ فِي بدر ضرب لثمانية لم يشهدوا، كلّهم
مُسْتَحَقّ فِيهَا. وَكَانَتْ خَيْبَرُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، مَنْ شَهِدَهَا مِنْهُمْ أَوْ غَابَ عَنْهَا قَالَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [ (1) ] يَعْنِي خَيْبَرَ. وَقَدْ تَخَلّفَ عَنْهَا رِجَالٌ: مُرَيّ بْنُ سِنَانٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ، خَلّفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَغَيْرُهُمْ. وَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ تَخَلّفَ مِنْهُمْ وَمَنْ مَاتَ، وَأَسْهَمَ لِمَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ النّاسِ مِمّنْ لم يشهد الحديبية. وَأَسْهَمَ لِرُسُلٍ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ إلَى أَهْلِ فَدَكَ، مُحَيّصَة بْنُ مَسْعُودٍ الْحَارِثِيّ وَغَيْرُهُ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَحْضُرُوا. وَأَسْهَمَ لِثَلَاثَةِ مَرْضَى لَمْ يَحْضُرُوا الْقِتَالَ: سُوِيدُ بْنُ النّعْمَانِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي خُطَامَة، وَأَسْهَمَ لِلْقَتْلَى الّذِينَ قَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بن عبد الرحمن ابن أَبِي صَعْصَعَةَ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ: إنّمَا كَانَتْ خَيْبَرُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، لَمْ يَشْهَدْهَا غَيْرُهُمْ وَلَمْ يُسْهَمْ فِيهَا لِغَيْرِهِمْ. وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا أَنّ قَوْمًا شَهِدُوا خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا الْحُدَيْبِيَةَ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ قُطَيْرٍ الْحَارِثِيّ، عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيّصَة قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ غَزَا بِهِمْ إلَى خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ كَسُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَيُقَالُ: أَحَذَاهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَكَانَ مَعَهُمْ مَمْلُوكُونَ، مِنْهُمْ عُمَيْرٌ مَوْلَى آبّي اللّحْمِ. قَالَ عُمَيْرٌ: وَلَمْ يُسْهَمْ لِي وَأَعْطَانِي خُرْثِيّ [ (2) ] مَتَاعٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم
محذيهم [ (1) ] . وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ عِشْرُونَ امْرَأَةً: أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتُهُ، وَصَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأُمّ أَيْمَنَ، وَسَلْمَى امْرَأَةُ أَبِي رَافِعٍ مُوَلّاةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَامْرَأَةُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ وَلَدَتْ سَهْلَةَ بِنْتَ عَاصِمٍ بِخَيْبَرَ، وَأُمّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ، وَأُمّ مَنِيعٍ وَهِيَ أُمّ شباث، وكعيبة بنت سعد الأسلميّة، وأمّ مطاع الْأَسْلَمِيّة، وَأُمّ سُلَيْمٍ بِنْتُ مِلْحَانَ، وَأُمّ الضّحّاكِ بنت مسعود الحارثيّة، وهند بنت عمرو ابن حِزَامٍ، وَأُمّ الْعِلَاءِ الْأَنْصَارِيّةُ، وَأُمّ عَامِرٍ الْأَشْهَلِيّة، وَأُمّ عَطِيّةَ الْأَنْصَارِيّةُ، وَأُمّ سَلِيطٍ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ أُمّ عَلِيّ بِنْتِ الْحَكَمِ، عَنْ أُمَيّةَ بِنْتِ قَيْسِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ الْغِفَارِيّةِ، قَالَتْ: جِئْت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ فَقُلْنَا: إنّا نُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ نَخْرُجَ مَعَك فِي وَجْهِك هَذَا فَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنُعِينُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اسْتَطَعْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى بَرَكَةِ اللهِ! قَالَتْ: فَخَرَجْنَا مَعَهُ وَكُنْت جَارِيَةً حَدِيثَةَ السّنّ، فَأَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَقِيبَةِ رَحْلِهِ، فَنَزَلَ الصّبْحَ فَأَنَاخَ وَإِذَا أَنَا بِالْحَقِيبَةِ عَلَيْهَا دَمٌ مِنّي، وَكَانَتْ أَوّلَ حَيْضَةٍ حِضْتُهَا، فَتَقَبّضَتْ إلَى النّاقَةِ وَاسْتَحْيَيْت. فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِي وَرَأَى الدّمَ قَالَ: لَعَلّك نُفِسْت! قُلْت: نَعَمْ قَالَ: فَأَصْلِحِي مِنْ نَفْسِك، ثُمّ خُذِي إنَاءً مِنْ مَاءٍ، ثُمّ اطْرَحِي فِيهِ مِلْحًا وَاغْسِلِي مَا أَصَابَ الْحَقِيبَةَ مِنْ الدّمِ ثُمّ عُودِي. فَفَعَلَتْ،
فَلَمّا فَتَحَ اللهُ خَيْبَرَ رَضَخَ لَنَا مِنْ الْفَيْءِ وَلَمْ يُسْهِمْ، وَأَخَذَ هَذِهِ الْقِلَادَةَ الّتِي تَرَيْنَ فِي عُنُقِي فَأَعْطَانِيهَا وَعَلّقَهَا بِيَدِهِ فِي عنقي، فو الله لَا تُفَارِقُنِي أَبَدًا. وَكَانَتْ فِي عُنُقِهَا حَتّى مَاتَتْ وَأَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ مَعَهَا، وَكَانَتْ لَا تَطْهُرُ إلّا وَجَعَلَتْ فِي طَهُورِهَا مِلْحًا، وَأَوْصَتْ أَنْ يُجْعَلَ فِي غَسْلِهَا مِلْحٌ [ (1) ] حِينَ غَسَلَتْ. حَدّثَنِي عَبْدُ السّلَامِ بْنُ مُوسَى بْنِ جُبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْس، قَالَ: خَرَجْت مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ وَمَعِي زَوْجَتِي حُبْلَى، فَنُفِسَتْ بِالطّرِيقِ فَأَخْبَرَتْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انْقَعْ لَهَا تَمْرًا فَإِذَا أَنْعَمَ بَلّهُ فَامْرُثْهُ [ (2) ] ثُمّ تَشْرَبُهُ. فَفَعَلَتْ فَمَا رَأَتْ شَيْئًا تَكْرَهُهُ. فَلَمّا فَتَحْنَا خَيْبَرَ أَحْذَى النّسَاءَ وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُنّ، فَأَحْذَى زَوْجَتِي وَوَلَدِي الّذِي وُلِدَ. قَالَ عَبْدُ السّلَامِ: لَسْت أَدْرِي غُلَامٌ أَمْ جَارِيَةٌ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أُمّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيّةِ قَالَتْ: فَأَصَابَنِي ثَلَاثُ خَرَزَاتٍ، وَكَذَلِك أَصَابَ صَوَاحِبِي، وَأُتِيَ يَوْمئِذٍ بِرِعَاثٍ [ (3) ] مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: هَذَا لِبَنَاتِ أَخِي سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَدِمَ بِهَا عَلَيْهِنّ فَرَأَيْت ذَلِكَ الرّعَاثَ عَلَيْهِنّ، وَذَلِكَ مِنْ خُمُسِهِ يَوْمَ خَيْبَرَ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ ثُبَيْتَةَ بِنْتِ حَنْظَلَةَ الْأَسْلَمِيّة، عَنْ أُمّهَا أُمّ سِنَانٍ قَالَتْ: لَمّا أَرَادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج
جِئْته فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْرُجُ مَعَك فِي وَجْهِك هَذَا، أَخْرِزُ [ (1) ] السّقَاءَ، وَأُدَاوِي الْمَرْضَى وَالْجَرِيحَ إنْ كَانَتْ جِرَاحٌ- وَلَا يَكُونُ- وَأَنْظُرُ الرحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: اُخْرُجِي عَلَى بَرَكَةِ اللهِ فَإِنّ لَك صَوَاحِبُ قَدْ كَلّمْنَنِي وَأَذِنَتْ لَهُنّ مِنْ قَوْمِك وَمِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ شِئْت فَمَعَ قَوْمِك وَإِنْ شِئْت فَمَعَنَا. قُلْت: مَعَك! قَالَ: فَكُونِي مَعَ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِي. قَالَتْ: فَكُنْت مَعَهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْدُو مِنْ الرّجِيعِ كُلّ يَوْمٍ عَلَيْهِ الدّرْعُ، فَإِذَا أَمْسَى رَجَعَ إلَيْنَا، فَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ سَبْعَةِ أَيّامٍ حَتّى فَتَحَ اللهُ النّطَاةَ، فَلَمّا فَتَحَهَا تَحَوّلَ إلَى الشّقّ وَحَوْلَنَا إلَى الْمَنْزِلَةِ، فَلَمّا فَتَحَ خَيْبَرَ رَضَخَ لَنَا مِنْ الْفَيْءِ، فَأَعْطَانِي خَرْزًا وَأَوْضَاحًا [ (2) ] مِنْ فِضّةٍ أُصِيبَتْ فِي الْمَغْنَمِ، وَأَعْطَانِي قَطِيفَةً فَدَكِيّةً، وَبُرْدًا يَمَانِيًا، وَخَمَائِلَ [ (3) ] ، وَقِدْرًا مِنْ صُفْرٍ [ (4) ] . وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ جَرَحُوا فَكُنْت أُدَاوِيهِمْ بِدَوَاءٍ كَانَ عِنْدَ أَهْلِي فيبرأون، فَرَجَعْت مَعَ أُمّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ لِي حِينَ أَرَدْنَا نَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، وَكُنْت عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إبِلِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَحَهُ لِي، فَقَالَتْ: بَعِيرُك الّذِي تَحْتَك لَك رَقَبَتُهُ أَعْطَاكِيهِ رَسُولُ اللهِ. قَالَتْ: فَحَمِدْت اللهَ وَقَدِمْت بِالْبَعِيرِ فَبِعْته بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ. قَالَتْ: فَجَعَلَ اللهُ فِي وَجْهِي ذَلِكَ خَيْرًا. قَالُوا: فَأَسْهَمَ لِلنّسَاءِ، وَأَسْهَمَ لِسَهْلَةَ بِنْتِ عَاصِمٍ، وَلَدَتْ بِخَيْبَرَ، وَوُلِدَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْس بِخَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لِلنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ. وَيُقَالُ: رَضَخَ لِلنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كأهل الجهاد.
وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: رَأَيْت فِي رَقَبَةِ أُمّ عُمَارَةَ خَرْزًا حُمْرًا فَسَأَلْتهَا عَنْ الْخَرْزِ فَقَالَتْ: أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ خَرْزًا فِي حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ دُفِنَ فِي الْأَرْضِ، فَأُتِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ النّسَاءِ فَأُحْصِينَ، فَكُنّا عِشْرِينَ امْرَأَةً، فَقَسَمَ ذَلِكَ الْخَرْزَ بَيْنَنَا هَذَا وَأَرْضَخَ لَنَا مِنْ الْفَيْءِ، قَطِيفَةً وَبُرْدًا يَمَانِيًا وَدِينَارَيْنِ، وَكَذَلِك أَعْطَى صَوَاحِبِي. قُلْت: فَكَمْ كَانَتْ سُهْمَانُ الرّجَالِ؟ قَالَتْ: ابْتَاعَ زَوْجِي غَزِيّةُ بْنُ عَمْرٍو مَتَاعًا بِأَحَدَ عَشَرَ دِينَارًا وَنِصْفٍ، فَلَمْ يُطَالِبْ بِشَيْءٍ، فَظَنَنّا أَنّ هَذِهِ سُهْمَانُ الْفُرْسَانِ- وَكَانَ فَارِسًا- وَبَاعَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ فِي الشّق زَمَنَ عُثْمَانَ بِثَلَاثِينَ دِينَارًا. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَادَ فِي خَيْبَرَ ثَلَاثَةَ أَفْرَاسٍ، لِزَازٍ وَالظّربِ وَالسّكبِ [ (1) ] ، وَكَانَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ قَدْ قَادَ أَفْرَاسًا، وَكَانَ خرَاشُ بْنُ الصّمّةِ قد قاد فرسين، وكان البراء ابن أَوْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْجَعْدِ بْنِ عَوْفٍ- أبو إبراهيم [ (2) ] ابن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الّذِي أَرْضَعَهُ- قَدْ قَادَ فَرَسَيْنِ، وَكَانَ أَبُو عَمْرو الْأَنْصَارِيّ قَدْ قَادَ فَرَسَيْنِ. قَالَ: فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُلّ مَنْ كَانَ لَهُ فَرَسَانِ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، أَرْبَعَةً لِفَرَسَيْهِ وَسَهْمًا لَهُ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ. وَيُقَالُ إِنّهُ لَمْ يُسْهِمْ إِلّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ أَنّهُ أَسْهَمَ لِفَرَسٍ وَاحِدٍ. وَيُقَالُ: إِنّهُ عَرّبَ الْعَرَبِيّ يَوْمَ خَيْبَرَ وَهَجّنَ الْهَجِينَ، فَأَسْهَمَ لِلْعَرَبِيّ وَأَلْقَى الْهَجِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ الْهَجِينُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنّمَا كَانَتْ العراب حتى كان زمن عمر بن
الخطّاب وفتح العراق وَالشّامَ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْخَيْلِ لِنَفْسِهِ إِلّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، هُوَ مَعْرُوفٌ، سَهْمُ الْفَرَسِ. وَسَهْمُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّطَاةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، لِفَرَسِهِ سَهْمَانِ وَلَهُ سَهْمٌ، كَانَ مَعَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيّصَة، قَالَ: خَرَجَ سُوِيدُ بْنُ النّعْمَانِ عَلَى فَرَسٍ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى بُيُوتِ خَيْبَرَ فِي اللّيْلِ وَقَعَ بِهِ الْفَرَسُ، فَعَطَبَ الْفَرَسُ وَكُسِرَتْ يَدُ سُوَيْد، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتّى فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْمَ فَارِسَ. قَالُوا: وَكَانَتْ الْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ. وَيُقَالُ: ثَلَاثُمِائَةِ، وَمِائَتَانِ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. وَكَانَ الّذِي وَلِيَ إحْصَاءَ الْمُسْلِمِينَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَسَمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ الّذِي غَنِمُوا مِنْ الْمَتَاعِ الّذِي بِيعَ، ثُمّ أَحَصَاهُمْ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةِ، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ. فَكَانَتْ السّهْمَانُ عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَهُمْ الّذِينَ ضَرَبَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالسّهْمَانِ، وَلِخَيْلِهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ لَهَا أَرْبَعُمِائَةِ سَهْمٍ. فَكَانَتْ سُهْمَانُ الْمُسْلِمِينَ الّتِي أَسْهَمَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النّطَاةِ أَوْ فِي الشّقّ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ فَوْضَى لَمْ تُعْرَفْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تُحَدّ وَلَمْ تُقْسَمْ، إنّمَا لَهَا رُؤَسَاءُ مُسَمّوْنَ، لِكُلّ مِائَةِ رَأْسٍ يُعْرَفُ يُقْسَمُ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا خَرَجَ مِنْ غَلّتِهَا، فَكَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ فِي الشّقّ وَالنّطَاةِ: عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ. وَسَهْمُ بَنِي سَاعِدَةَ، وَسَهْمُ بَنِي النّجّارِ لَهُمْ رأس، وسهم
حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَسَهْمُ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ، وَسَهْمُ بَنِي سَلَمَةَ- وَكَانُوا أَكْثَرَ وَرَأَسَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ- وَسَهْمُ عُبَيْدَةَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، وَسَهْمُ أَوْسٍ، وَسَهْمُ بَنِي الزّبَيْرِ، وَسَهْمُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَسَهْمُ بِلْحَارِث بْنِ الْخَزْرَجِ، رَأْسُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَسَهْمُ بَيَاضَةَ، رَأْسُهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَهْمُ نَاعِمٍ. فَهَذِهِ ثَمَانِيّةَ عَشَرَ سَهْمًا فِي الشّقّ وَالنّطَاةِ فَوْضَى يَقْبِضُ رُؤَسَاؤُهُمْ الْغَلّةُ مِنْهُ، ثُمّ يُفِضْ عَلَيْهِمْ، وَيَبِيعُ الرّجُلُ سَهْمَهُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ. وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ سَهْمَهُ بِخَيْبَرَ بِبَعِيرَيْنِ ثُمّ قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلَمُ أَنّ الّذِي آخُذُ مِنْك خَيْرٌ مِنْ الّذِي أُعْطِيك، وَاَلّذِي أُعْطِيك دُونَ الّذِي آخُذُ مِنْك، وَإِنْ شِئْت فَخُذْ وَإِنْ شِئْت فَأَمْسِكْ! فَأَخَذَ الْغِفَارِيّ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَشْتَرِي مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَهْمٍ، وَأَخَذَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مِائَةٌ، وَهُوَ سهم أوس كان يسمّى سهم اللّفيف حتى صَارَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَابْتَاعَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ سَهْمِ أَسْلَمَ سُهْمَانًا، وَيُقَالُ: إنّ أَسْلَمَ كَانُوا بَضْعَةً وَسَبْعِينَ، وَغِفَارٌ بَضْعَةٌ وَعِشْرِينَ فَكَانُوا مِائَةً، وَيُقَالُ: كَانَتْ أَسْلَمُ مِائَةً وَسَبْعِينَ، وَغِفَارٌ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ، وَهَذَا مِائَتَا سَهْمٍ، وَالْقَوْلُ [الْأَوّلُ] أَثْبَتُ عِنْدَنَا. وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فَتَحَ خَيْبَرَ سَأَلَهُ الْيَهُودُ فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، نَحْنُ أَرْبَابُ النّخْلِ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَة بِهَا. فَسَاقَاهُمْ [ (1) ] رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر عَلَى شَطْرٍ مِنْ التّمْرِ وَالزّرْعِ، وَكَانَ يَزْرَعُ تَحْتَ النّخْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُقِرّكُمْ عَلَى مَا أَقَرّكُمْ اللهُ.
فَكَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى تُوُفّيَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَكَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ النّخْلَ، فَكَانَ يَخْرُصُهَا فَإِذَا خَرَصَ قَالَ: إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَتَضْمَنُونَ نِصْفَ مَا خَرَصْت، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَنَا وَنَضْمَنُ لَكُمْ مَا خَرَصْت. وَإِنّهُ خَرَصَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ وَسْقٍ، فَجَمَعُوا لَهُ حُلِيّا مِنْ حُلِيّ نِسَائِهِمْ فَقَالُوا: هَذَا لَك، وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ. فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاَللهِ إنّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إلَيّ، وَمَا ذَاكَ يَحْمِلُنِي أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ! فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ، فَلَمّا قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيهَانِ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ، وَيُقَالُ: جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَكَانَ يَصْنَعُ بِهِمْ مِثْلَ مَا كَانَ يَصْنَعُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَيُقَالُ: الّذِي خَرَصَ بَعْدَ ابْنِ رَوَاحَةَ عَلَيْهِمْ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو. قَالُوا: وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَقَعُونَ فِي حَرْثِهِمْ وَبَقْلِهِمْ بَعْدَ الْمُسَاقَاةِ وَبَعْدَ أَنْ صَارَ لِيَهُودَ نِصْفُهُ، فَشَكَتْ الْيَهُودُ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، وَيُقَالُ: عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَنَادَى: إنّ الصّلَاةَ جَامِعَةٌ، وَلَا يَدْخُلْ الْجَنّةَ إلّا مُسْلِمٌ. فَاجْتَمَعَ النّاسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ: إنّ الْيَهُودَ شَكَوْا إلَيّ أَنّكُمْ وَقَعْتُمْ فِي حَظَائِرِهِمْ، وَقَدْ أَمّنّاهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاَلّذِي فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَرَاضِيِهِمْ، وَعَامَلْنَاهُمْ، وَإِنّهُ لَا تَحِلّ أَمْوَالُ الْمُعَاهَدِينَ إلّا بِحَقّهَا. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ بِقَوْلِهِمْ شَيْئًا إلّا بِثَمَنٍ، فَرُبّمَا قَالَ الْيَهُودِيّ لِلْمُسْلِمِ: أَنَا أُعْطِيكَهُ بَاطِلًا [ (1) ] ! فَيَأْبَى الْمُسْلِمُ إلّا بِثَمَنٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْنَا فِي الْكَتِيبَةِ، فقال قائل: كانت
لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصَةً وَلَمْ يُوجِفْ [ (1) ] عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، إنّمَا كَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نُوحٍ، عَنْ ابْنِ غُفَيْر، وَمُوسَى بْنُ عمرو بن عبد الله ابن رَافِعٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ. وَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ. وَقَالَ قَائِلٌ: هِيَ خُمُسُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ، مِنْ الشّقّ وَالنّطَاةِ. وَحَدّثَنِي قُدَامَة بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: كَتَبَ إلَيّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خِلَافَتِهِ أَنْ افْحَصْ لِي عَنْ الْكَتِيبَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَسَأَلْت عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ فَقَالَتْ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا صَالَحَ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ جَزّأَ النّطَاةَ وَالشّقّ وَالْكَتِيبَةَ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، وَكَانَتْ الْكَتِيبَةُ جُزْءًا مِنْهَا، ثُمّ جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ بَعَرَاتٍ، وَأَعْلَمَ فِي بَعْرَةٍ مِنْهَا، فَجَعَلَهَا لِلّهِ، ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهُمّ اجْعَلْ سَهْمَك فِي الْكَتِيبَةِ. فَكَانَ أَوّلَ مَا خَرَجَ مِنْهَا الّذِي فِيهِ مَكْتُوبٌ عَلَى الْكَتِيبَةِ، فَكَانَتْ الْكَتِيبَةُ خُمُسَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ السّهْمَانُ أَغْفَالًا لَيْسَ عَلَيْهَا عَلَامَاتٌ، وَكَانَتْ فَوْضَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشَرَ سَهْمًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَتَبْت إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِذَلِكَ. وَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيّصَة، قَالَ: لَمّا خَرَجَ سَهْمُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الشّقّ وَالنّطَاةُ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ فَوْضَى. وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي مالك الحميرىّ، عن سعيد بن
تسمية سهمان الكتيبة
الْمُسَيّبِ، وَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ [ (1) ] ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: الْكَتِيبَةُ خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْعِمُ مَنْ أَطْعَمَ فِي الْكَتِيبَةِ وَيُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالثّبْتُ عِنْدَنَا أَنّهَا خُمُسُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ، لِأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُطْعِمْ مِنْ الشّقّ وَالنّطَاةِ أَحَدًا وَجَعَلَهَا سَهْمَانَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ [ (2) ] الْكَتِيبَةُ الّتِي أَطْعَمَ فِيهَا. كَانَتْ الْكَتِيبَةُ تُخْرَصُ ثَمَانِيّةُ آلَافِ وَسْقٍ تَمْرٍ، فَكَانَ [ (3) ] لِلْيَهُودِ نِصْفُهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَكَانَ يُزْرَعُ فِي الْكَتِيبَةِ شَعِيرٌ، فَكَانَ يَحْصُدُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ آلَافِ صَاعٍ، فَكَانَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفُهُ، أَلْفُ وَخَمْسُمِائَةِ صَاعٍ شَعِيرٌ، وَكَانَ يَكُونُ فِيهَا نَوًى فَرُبّمَا اجْتَمَعَ أَلْفُ صَاعٍ فَيَكُونُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفُهُ، فَكُلّ هَذَا قَدْ أَعْطَى مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ وَالنّوَى. تَسْمِيَةُ سُهْمَانِ الْكَتِيبَةِ خُمُسُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، وَسُلَالِم، وَالْجَاسِمَيْنِ، وَسَهْمَا النّسَاءِ، وَسَهْمَا مَقْسَمٍ- وَكَانَ يَهُودِيّا- وَسَهْمَا عَوَانٍ، وَسَهْمُ غِرّيث، وَسَهْمُ نُعَيْمٍ، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا. ذِكْرُ طُعْمِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَتِيبَةِ أَزْوَاجَهُ وَغَيْرَهُمْ أَطْعَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقًا تَمْرًا وَعِشْرِينَ وَسْقًا شَعِيرًا. وللعباس بن عبد المطلّب مائتي وسق، ولفاطمة وعلىّ
عَلَيْهِمَا السّلَامُ مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ ثَلَاثُمِائَةِ وَسْقٍ، والشعير من ذلك خمسة وثمانين وَسْقًا، لِفَاطِمَةَ مِنْ ذَلِكَ مِائَتَا وَسْقٍ. وَلِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ شَعِيرًا وَخَمْسُونَ وَسْقًا نَوًى، وَلِأُمّ رِمْثَةَ بِنْتِ عُمَرَ بن هاشم بن المطلّب خمسة أوساق شعير، وَلِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرِو خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا شَعِيرًا. وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أُمّهَا، قَالَتْ: بِعْنَا طُعْمَةَ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ خَيْبَرَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا شَعِيرًا مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ: هَذَا مَا أَعْطَى مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ مِائَةَ وَسْقٍ. وَلِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ، وَلِبَنِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِرَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِائَةَ وَسْقٍ، وَلِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِب مِائَةَ وَسْقٍ، وَلِلصّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِأَبِي نَبْقَةَ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِرُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِلْقَاسِمِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادٍ وَأُخْتِهِ هِنْدٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِصَفِيّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِبُحَيْنَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ [ (1) ] بْنِ الْمُطّلِبِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِلْحُصَيْنِ، وَخَدِيجَةَ، وَهِنْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِائَةَ وَسْقٍ، وَلِأُمّ الْحَكَمِ بِنْتِ الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِأُمّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، ولِجُمَانَةَ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِأُمّ طَالِبٍ بِنْتِ أَبِي طالب ثلاثين وسقا، ولقيس بن
مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِأَبِي أَرْقَمَ خمسين وسقا، ولعبد الرحمن ابن أبى بكر أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِأَبِي بَصْرَةَ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِابْنِ أَبِي حُبَيْشٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِعَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبٍ وَابْنَيْهِ خَمْسِينَ وَسْقًا، لَابْنَيْهِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِنُمَيْلَةَ الْكَلْبِيّ مِنْ بَنِي لَيْثٍ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِأُمّ حَبِيبَةَ بِنْتِ جَحْشٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِمَلْكَانَ بْنِ عِبْدَةَ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِمُحَيّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَأَوْصَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرّهَاوِيّينَ [ (1) ] بِطُعْمَةٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ بِجَادّ [ (2) ] مِائَةِ وَسْقٍ، وَلِلدّارِيَيْنِ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ، وَهُمْ عَشَرَةٌ مِنْ الدّارِيّينَ قَدِمُوا مِنْ الشّامِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَوْصَى لَهُمْ بِطُعْمَةِ مِائَةِ وَسْقٍ: هَانِئُ بْنُ حَبِيبٍ، وَالْفَاكِهُ بْنُ النّعْمَانِ، وَجَبَلَة بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو هِنْدِ بْنِ بَرّ وَأَخُوهُ الطّيّبُ بْنُ بَرّ، سَمّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ، وَتَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ أَوْسٍ، وَيَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَزِيزُ بْنُ مَالِكٍ، سَمّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرّحْمَنِ، وَأَخُوهُ مُرّةُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَوْصَى لِلْأَشْعَرِيّينَ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ أَبِي حَيّةَ قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ الثّلْجِيّ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: لَمْ يُوصِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، لَلدّارِيَيْنِ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ، وَلِلْأَشْعَرِيّينَ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ، وَلِلرّهَاوِيّين بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ، وَأَنْ يَنْفُذَ جَيْشُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ لَهُ
إلَى مَقْتَلِ أَبِيهِ، وَأَلّا يَتْرُكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ. قَالُوا: ثُمّ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي قَسْمِ خُمُسِ خَيْبَرَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَهُ فِي بَنِي هاشم وَبَنِي الْمُطّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ يَغُوثَ. وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ: قال جبير ابن مُطْعِمٍ: لَمّا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم سهم ذَوِي الْقُرْبَى بِخَيْبَرَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطّلب مَشَيْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ حَتّى دَخَلْنَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَؤُلَاءِ إخْوَانُنَا مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِك الّذِي وَضَعَك اللهُ بِهِ مِنْهُمْ، أَفَرَأَيْت إخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ، إنّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْك بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَعْطَيْتهمْ وَتَرَكَتْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: إنّ بنى المطّلب لَمْ يُفَارِقُونِي فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ، دَخَلُوا مَعَنَا فِي الشّعْبِ، إنّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ! وَشَبّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. قَالُوا: وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ يُحَدّثُ قَالَ: اجْتَمَعَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَا: لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ- لِي وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ- إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلّمَاهُ فَأَمّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصّدَقَاتِ، فَأَدّيَا مَا يُؤَدّي النّاسُ، وَأَصَابَا مَا يُصِيبُونَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. فَبُعِثَ بِي وَالْفَضْلِ فَخَرَجْنَا حَتّى جِئْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْنَاهُ، وَانْصَرَفَ إلَيْنَا مِنْ الظّهْرِ وَقَدْ وَقَفْنَا لَهُ عِنْدَ حُجْرَةِ زَيْنَبَ، فَأَخَذَ بِمَنَاكِبِهِمَا فَقَالَ: أَخْرِجَا مَا تُسِرّانِ [ (1) ] ! فَلَمّا دَخَلَ دَخَلَا عَلَيْهِ فَكَلّمَاهُ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ جِئْنَاك لِتُؤَمّرَنَا عَلَى هَذِهِ الصّدَقَاتِ فَنُؤَدّي مَا يُؤَدّي الناس، ونصيب ما يصيبون من
الْمَنْفَعَةِ. فَسَكَتَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ. إنّ الصّدَقَةَ لَا تَحِلّ لِمُحَمّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمّدٍ، إنّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النّاسِ. اُدْعُ لِي مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: زَوّجْ هَذَا ابْنَتَك- لِلْفَضْلِ. وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: زَوّجْ هَذَا ابْنَتَك- لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ. وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِمّا عِنْدَك مِنْ الْخُمُسِ! وَكَانَ يَكُونُ عَلَى الْخُمُسِ. فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: قَدْ دَعَانَا عُمَرُ إلَى أَنْ يَنْكِحَ فِيهِ أَيَامَانَا وَيَخْدِمُ مِنْهُ عَائِلَنَا، وَيُقْضَى مِنْهُ غَارِمُنَا، فَأَبَيْنَا عَلَيْهِ إلّا أَنْ يُسَلّمَهُ كُلّهُ، وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا. حَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيّا [ (1) ] عَلَيْهِمْ السّلَامُ جَعَلُوا هَذَيْنِ السّهْمَيْنِ عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي السّلَاحِ وَالْعُدّةِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَكَانَتْ تِلْكَ الطّعْمَةُ تُؤْخَذُ بِصَاعِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَفِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَمُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، حَتّى كَانَ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ فزاد فى الصاع سدس المدّ، فأعطى الناس بالصاع الذي زاد، ثم كان أبان ابن عُثْمَانَ فَزَادَ فِيهِ فَأَعْطَاهُمْ بِذَلِكَ، وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُطْعِمِينَ أَوْ قُتِلَ فِي حَيَاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بَكْرٍ فَإِنّهُ يَرِثُهُ تِلْكَ الطّعْمَةَ مِنْ وِرْثِ مَالِهِ. فَلَمّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ قَبَضَ طُعْمَةَ كُلّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُوَرّثْهُ، فَقَبَضَ طُعْمَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَقَبَضَ طُعْمَةَ جَعْفَرِ بن أبى طالب، وكلّمه فيه
عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَبَى، وَقَبَضَ طُعْمَةَ صَفِيّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَكَلّمَهُ الزّبَيْرُ فِي ذَلِكَ حَتّى غَالَظَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ بُرْدَهُ، فَلَمّا أَلَحّ عَلَيْهِ قَالَ: أُعْطِيك بَعْضَهُ. قَالَ الزّبَيْرُ: لَا وَاَللهِ، لَا تُخَلّفْ تَمْرَةً وَاحِدَةً تَحْبِسُهَا عَنّي! فَأَبَى عُمَرُ تَسْلِيمَهُ كُلّهُ إلَيْهِ. قَالَ الزّبَيْرُ: لَا آخُذُهُ إلّا جَمِيعًا! فَأَبَى عُمَرُ وَأَبَى أَنْ يَرُدّ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ. وَقَبَضَ طُعْمَةَ فَاطِمَةَ، فَكَلَمْ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ. وَكَانَ يُجِيزُ لِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعْنَ، فَمَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فِي خِلَافَتِهِ فَخَلّى بَيْنَ وَرَثَتِهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الطّعْمَةِ، وَأَجَازَ مَا صَنَعْنَ فِيهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، وَوَرِثَ ذَلِكَ كُلّ مَنْ وَرّثَهُنّ وَلَمْ يَفْعَلْ بِغَيْرِهِنّ. وَأَبَى أَنْ يُجِيزَ بَيْعَ مَنْ بَاعَ تِلْكَ الطّعْمَةِ، وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَا يُعْرَفُ، إذَا مَاتَ الْمُطْعِمُ بَطَلَ حَقّهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْعُهُ؟ إلّا أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنّهُ أَجَازَ مَا صَنَعْنَ، فَلَمّا وَلِيَ عُثْمَانُ كَلّمَ فِي تِلْكَ الطّعْمَةِ [ (1) ] فَرَدّ عَلَى أُسَامَةَ وَلَمْ يَرُدّ عَلَى غَيْره. فَكَلّمَهُ الزّبَيْرُ فِي طُعْمَةِ صَفِيّةَ أُمّهِ فَأَبَى يَرُدّهُ وَقَالَ: أَنَا حَاضِرُك حِينَ تَكَلّمَ عُمَرُ، وَعُمَرُ يَأْبَى عَلَيْك يَقُولُ «خُذْ بَعْضَهُ» ، فَأَنَا أُعْطِيك بَعْضَهُ الّذِي عَرَضَ عَلَيْك عُمَرُ، أَنَا أُعْطِيك الثّلُثَيْنِ وَأَحْتَبِسُ الثّلُثَ. فَقَالَ الزّبَيْرُ: لَا وَاَللهِ، لَا تَمْرَةً وَاحِدَةً حَتّى تُسَلّمَهُ كُلّهُ أَوْ تَحْتَبِسَهُ. حَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا تُوُفّيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ وَلَدُهُ وَرَثَتُهُ يَأْخُذُونَ طُعْمَتَهُ مِنْ خَيْبَرَ، مِائَةَ وَسْقٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَوَرِثَتْ امْرَأَتُهُ أُمّ رُومَانَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْكِنَانِيّةُ [ (2) ] ، وَحَبِيبَةُ بِنْتُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ،
تسمية من استشهد بخيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فَلَمْ يَزَلْ جَارِيًا عَلَيْهِنّ حَتّى كَانَ زَمَنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَوْ بَعْدَهُ فَقُطِعَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: سَأَلْت إبْرَاهِيمَ بْنَ جَعْفَرٍ عَمّنْ أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا أَبَدًا أَعْلَمَ مِنّي، كَانَ مَنْ أُعْطِيَ مِنْهُ طُعْمَةٌ جَرَتْ عَلَيْهِ حَتّى يَمُوتَ، ثُمّ يَرِثُهُ مِنْ وَرَثَتِهِ، يَبِيعُونَ وَيُطْعِمُونَ وَيَهَبُونَ، كَانَ هَذَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. قُلْت: مِمّنْ سَمِعْت ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ أَبِي وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْمِي. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَذَكَرْت لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ عُمَرَ كَانَ يَقْبِضُ تِلْكَ الطّعْمَةَ إذَا مَاتَ الْمَيّتُ فِي حَيَاةِ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِنّ. ثُمّ يَقُولُ: تُوُفّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَقَبَضَ طُعْمَتِهَا، فَكَلّمَ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهَا الْوَرَثَةَ. قَالَ: إنّمَا كَانَتْ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُعْمَةً مَا كَانَ الْمَرْءُ حَيّا، فَإِذَا مَاتَ فَلَا حَقّ لِوَرَثَتِهِ. قَالَ: فَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ حَتّى تُوُفّيَ، ثُمّ وَلِيَ عُثْمَانُ. وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعَمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ طُعْمَةً مِنْ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهَا كِتَابٌ، فَلَمّا تُوُفّيَ زَيْدٌ جَعَلَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. قُلْت: فَإِنّ بَعْضَ مَنْ يَرْوِي يَقُولُ: كَلّمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فِي طُعْمَةِ أَبِيهِ فَأَبَى، قَالَ: مَا كَانَ إلّا كَمَا أَخْبَرْتُك. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هَذَا الْأَمْرُ. تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ: رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ، قُتِلَ بِالنّطَاةِ، قَتَلَهُ الْحَارِثُ الْيَهُودِيّ، وَثَقْفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُمَيْطٍ، قَتَلَهُ أُسَيْرٌ الْيَهُودِيّ، وَرِفَاعَةُ بْنُ
مَسْرُوحٍ، قَتَلَهُ الْحَارِثُ الْيَهُودِيّ. وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى: عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ وَهْبٍ حَلِيفٌ لَهُمْ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهِمْ، قُتِلَ بِالنّطَاةِ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ دَلّى عَلَيْهِ مَرْحَبٌ رَحًى مِنْ حِصْنِ نَاعِمٍ بِالنّطَاةِ. وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: أَبُو الضّيّاحِ [ (1) ] بْنِ النّعْمَانِ، شَهِدَ بَدْرًا، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَعَدِيّ بْنُ مُرّةَ بْنِ سُرَاقَةَ، وَأَوْسُ بْنُ حَبِيبٍ، قُتِلَ عَلَى حِصْنِ نَاعِمٍ، وَأُنَيْفُ بْنُ وَائِلَةَ [ (2) ] ، قُتِلَ على حصن ناعم. ومن بنى زريق: مَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ، قَتَلَهُ مَرْحَبٌ. وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ: بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، مَاتَ مِنْ الشّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَفُضَيْلُ بْنُ النّعْمَانِ، وَهُوَ مِنْ الْعَرَبِ، مِنْ أَسْلَمَ، وَعَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ، أَصَابَ نَفْسَهُ عَلَى حِصْنِ نَاعِمٍ فَدُفِنَ هُوَ وَمَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِي غَارٍ وَاحِدٍ بِالرّجِيعِ. وَمِنْ بَنِي غِفَارٍ: عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ مُلَيْلٍ، وَيَسَارٌ، الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ، وَرَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ، فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الصّلَاةِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ قَائِلٌ: صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ قَائِلٌ: لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِمْ. وَقُتِلَ مِنْ الْيَهُودِ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ رَجُلًا. وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَبَلَة بْنَ جَوّالٍ الثّعْلَبِيّ كُلّ دَاجِنٍ بِخَيْبَرَ، وَيُقَالُ: أَعْطَاهُ كُلّ دَاجِنٍ فِي النّطَاةِ، وَلَمْ يُعْطِهِ من الكتيبة ولا من الشّقّ شيئا.
ذِكْرُ مَا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي خَيْبَرَ قَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيّ: يَا عِبَادَ اللهِ فِيمَا نَرْغَبْ ... مَا هُوَ إلّا مَأْكَلٌ وَمَشْرَبْ وَجَنّةٌ فِيهَا نَعِيمٌ مُعْجِبْ وَقَالَ أَيْضًا: أَنَا لِمَنْ أَبْصَرَنِي ابْنُ جُنْدُبْ ... يَا رَبّ قِرْنٍ [ (1) ] قَدْ تَرَكْت أَنْكَبْ [ (2) ] طَاحَ عَلَيْهِ [ (3) ] أَنْسُرٌ وَثَعْلَبْ أَنْشَدَنِي هَذَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ مِنْ وَلَدِ نَاجِيَةَ قَالَ: مَا زِلْت أَرْوِيهَا لِأَبِي وَأَنَا غُلَامٌ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنّهُ سُئِلَ عَنْ الرّهَانِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ حَيْنَ سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ فَقَالَ: كَانَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى يَقُولُ: انْصَرَفْت مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا مُسْتَيْقِنٌ أَنّ مُحَمّدًا سَيَظْهَرُ عَلَى الْخَلْقِ، وَتَأْبَى حَمِيّةُ الشّيْطَانِ إلّا لُزُومَ دِينِي، فَقَدِمَ عَلَيْنَا عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فَخَبّرَنَا أَنّ مُحَمّدًا سَارَ إلَى خَيَابِرَ، وَأَنّ خَيَابِرَ قَدْ جَمَعَتْ الْجَمُوعَ فَمُحَمّدٌ لَا يُفْلِتُ، إلَى أَنْ قَالَ عَبّاسٌ: مَنْ شَاءَ بَايَعْته لَا يُفْلِتُ مُحَمّدٌ. فَقُلْت: أَنَا أُخَاطِرُك. فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: أَنَا مَعَك يا عبّاس. وقال نوفل بن
مُعَاوِيَةَ: أَنَا مَعَك يَا عَبّاسُ. وَضَوَى [ (1) ] إلَيّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَتَخَاطَرْنَا مِائَةَ بَعِيرٍ خُمَاسًا إلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، أَقُولُ أَنَا وَحَيّزِي [ (2) ] «يَظْهَرُ مُحَمّدٌ» . وَيَقُولُ عَبّاسٌ وَحَيّزُهُ: «تَظْهَرُ غَطَفَان» . فَاضْطَرَبَ الصّوْتُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: خَشِيت واللّات حَيّزَ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ. فَغَضِبَ صَفْوَانُ وَقَالَ: أَدْرَكَتْك الْمُنَافِيَةُ! فَأَسْكَتَ أَبُو سُفْيَانَ، وَجَاءَهُ الْخَبَرُ بِظُهُورِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ حُوَيْطِبُ وَحَيّزُهُ الرّهْنَ. قَالُوا: وَكَانَتْ الْأَيْمَنُ تَحْلِفُ [ (3) ] عَنْ خَيْبَرَ، وَكَانَ أَهْلُ مَكّةَ حَيْنَ تَوَجّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ قَدْ تَبَايَعُوا بَيْنَهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَظْهَرُ الْحَلِيفَانِ أَسَدٌ وَغِفَارٌ وَالْيَهُودُ بِخَيْبَرَ، وذلك أنّ اليهود أوعبت فى حلفاءها، فَاسْتَنْصَرُوهُمْ وَجَعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ سَنَةً، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ بُيُوعٌ عِظَامٌ. وَكَانَ الْحَجّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السّلَمِيّ ثُمّ الْبَهْزِيّ قَدْ خَرَجَ يُغِيرُ فِي بَعْضِ غَارَاتِهِ، فَذُكِرَ لَهُ أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فَأَسْلَمَ وَحَضَرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَكَانَتْ أُمّ شَيْبَةَ بِنْتُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ أُخْتُ مَصْعَبٍ الْعَبْدِيّ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ الْحَجّاجُ مُكْثِرًا، لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، مَعَادِنُ الذّهَبِ الّتِي بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي حَتّى أَذْهَبَ فَآخُذَ مَا لِي عِنْدَ امْرَأَتِي، فَإِنْ عَلِمَتْ بِإِسْلَامِي لَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لَا بُدّ لِي يَا رَسُولَ اللهِ مِنْ [أَنْ] أَقُولَ. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ. قَالَ الحجّاج:
فَخَرَجْت فَلَمّا انْتَهَيْت إلَى الْحَرَمِ هَبَطْت فَوَجَدْتهمْ بِالثّنِيّةِ الْبَيْضَاءِ، وَإِذَا بِهِمْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَتَسَمّعُونَ الْأَخْبَارَ، قَدْ بَلَغَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ، وَعَرَفُوا أَنّهَا قَرْيَةُ الْحِجَازِ رِيفًا وَمَنَعَةً وَرِجَالًا وَسِلَاحًا، فَهُمْ يَتَحَسّبُونَ الْأَخْبَارَ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الرّهَانِ، فَلَمّا رَأَوْنِي قَالُوا: الحجّاج ابن عِلَاطٍ عِنْدَهُ وَاَللهِ الْخَبَرُ! يَا حَجّاجُ، إنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّ الْقَاطِعَ [ (1) ] قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ بَلَدِ الْيَهُودِ وَرِيفِ الْحِجَازِ. فَقُلْت: بَلَغَنِي أَنّهُ قَدْ سَارَ إلَيْهَا وَعِنْدِي مِنْ الْخَبَرِ مَا يَسُرّكُمْ. فَالْتَبَطُوا [ (2) ] بِجَانِبَيْ رَاحِلَتِي يَقُولُونَ: يَا حَجّاجُ أَخْبِرْنَا. فَقُلْت: لَمْ يَلْقَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ غَيْرَ أَهْلِ خَيْبَرَ. كَانُوا قَدْ سَارُوا فِي الْعَرَبِ يَجْمَعُونَ لَهُ الْجَمُوعَ وَجَمَعُوا لَهُ عَشَرَةَ آلَافٍ، فَهُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ يَسْمَعْ قَطّ بِمِثْلِهَا، وَأَسَرَ مُحَمّدٌ أَسْرًا، فَقَالُوا: لَنْ نَقْتُلْهُ حَتّى نَبْعَثَ بِهِ إلَى أَهْلِ مَكّةَ فَنَقْتُلُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ قَتَلَ مِنّا وَمِنْهُمْ! وَلِهَذَا فَإِنّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَيْكُمْ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ فِي عَشَائِرِهِمْ وَيَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ وَقَدْ صَنَعُوا بِكُمْ مَا صَنَعُوا. قَالَ: فَصَاحُوا بِمَكّةَ وَقَالُوا: قَدْ جَاءَكُمْ الْخَبَرُ، هَذَا مُحَمّدٌ إنّمَا يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ. وَقُلْت: أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي عَلَى غُرَمَائِي فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقَدِمَ فَأُصِيبُ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَنِي التّجّارُ إلَى مَا هُنَاكَ. فَقَامُوا فَجَمَعُوا إلَيّ مَالِي كَأَحَثّ جَمْعٍ سَمِعْت بِهِ، وَجِئْت صَاحِبَتِي وَكَانَ لِي عِنْدَهَا مَالٌ فَقُلْت لَهَا: مَالِي، لَعَلّي أَلْحَقُ بِخَيْبَرَ فَأُصِيبَ مِنْ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التّجّارُ إلَى مَنْ انْكَسَرَ هُنَاكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ [ (3) ] . وَسَمِعَ ذَلِكَ الْعَبّاسُ فَقَامَ، فَانْخَذَلَ ظَهْرُهُ فلم يستطع
الْقِيَامُ، فَأَشْفَقَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَهُ فَيُؤْذَى، وَعَلِمَ أَنْ سَيُؤْذَى عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِبَابِ دَارِهِ يُفْتَحُ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ، فَدَعَا بِابْنِهِ قُثَمَ وَكَانَ يُشْبِهُ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ أَلّا يَشْمَتَ بِهِ الْأَعْدَاءُ. وَحَضَرَ بَابَ الْعَبّاسِ بَيْنَ مُغِيظٍ مَحْزُونٍ، وَبَيْنَ شَامِتٍ، وَبَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، مَقْهُورِينَ بِظُهُورِ الْكُفْرِ وَالْبَغْيِ، فَلَمّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْعَبّاسَ طَيّبَةً نَفْسُهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ وَاشْتَدّتْ مُنّتُهُمْ [ (1) ] ، وَدَعَا غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ أَبُو زُبَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إلَى الْحَجّاجِ فَقُلْ، يَقُولُ الْعَبّاسُ: «اللهُ أَعَلَى وَأَجَلّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الّذِي تُخْبِرُ حَقّا» . فَجَاءَهُ فَقَالَ الْحَجّاجُ: قُلْ لِأَبِي الْفَضْلِ: أَحِلْنِي فِي بَعْضِ بُيُوتِك حَتّى آتِيَك ظُهْرًا بِبَعْضِ مَا تُحِبّ، فَاكْتُمْ عَنّي. فَأَقْبَلَ أَبُو زُبَيْنَةَ يُبَشّرُ الْعَبّاسَ «أَبْشِرْ بِاَلّذِي يَسُرّك» فَكَأَنّهُ لَمْ يَمَسّهُ شَيْءٌ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو زُبَيْنَةَ فَاعْتَنَقَهُ الْعَبّاسُ وَأَعْتَقَهُ وَأَخْبَرَهُ بِاَلّذِي قَالَ، فَقَالَ الْعَبّاسُ: لِلّهِ عَلَيّ عِتْقُ عَشْرِ رِقَابٍ! فَلَمّا كَانَ ظُهْرًا جَاءَهُ الْحَجّاجُ فَنَاشَدَهُ اللهَ: لَتَكْتُمَنّ عَلَيّ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ. فَوَاثَقَهُ الْعَبّاسُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنّي قَدْ أَسْلَمْت وَلِي مَالٌ عِنْدَ امْرَأَتِي وَدَيْنٌ عَلَى النّاسِ، وَلَوْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي لَمْ يَدْفَعُوا إلَيّ، تَرَكْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ، وَجَرَتْ سِهَامُ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيهَا وَانْتُثِلَ [ (2) ] مَا فِيهَا، وَتَرَكْته عَرُوسًا بِابْنَةِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقُتِلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ. قَالَ: فَلَمّا أَمْسَى الْحَجّاجُ مِنْ يَوْمِهِ خَرَجَ، وَطَالَ عَلَى الْعَبّاسِ تِلْكَ اللّيَالِي، وَيُقَالُ: إنّمَا اسْتَنْظَرَ الْعَبّاسُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَجَعَلَ الْعَبّاسُ يَقُولُ: يَا حَجّاجُ، اُنْظُرْ مَا تَقُولُ فَإِنّي عَارِفٌ بِخَيْبَرَ، هِيَ رِيفُ الْحِجَازِ أَجَمَعَ، وَأَهْلُ الْمَنَعَةِ وَالْعِدّةِ فِي الرّجَالِ. أَحَقّا مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إي وَاَللهِ، فَاكْتُمْ عَنّي يَوْمًا وليلة. حتى إذا مضى الأجل والناس
يَمُوجُونَ فِي شَأْنِ مَا تَبَايَعُوا عَلَيْهِ، عَمِدَ [ (1) ] الْعَبّاسُ إلَى حِلّةٍ فَلَبِسَهَا، وَتَخَلّقَ الْخَلُوقَ وَأَخَذَ فِي يَدِهِ قَضِيبًا، ثُمّ أَقْبَلَ يَخْطِرُ حَتّى وَقَفَ عَلَى بَابِ الْحَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ، فَقَرَعَهُ فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: لَا تَدْخُلْ، أَبَا الْفَضْلِ! قَالَ: فَأَيْنَ الْحَجّاجُ؟ قَالَتْ: انْطَلَقَ إلَى غَنَائِمِ مُحَمّدٍ لِيَشْتَرِيَ مِنْهَا الّتِي أَصَابَتْ الْيَهُودُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَهُ التّجّارُ إلَيْهَا. فَقَالَ لَهَا الْعَبّاسُ: فَإِنّ الرّجُلَ لَيْسَ لَك بِزَوْجٍ إلّا أَنْ تَتّبِعِي دِينَهُ، إنّهُ قَدْ أَسْلَمَ وَحَضَرَ الْفَتْحَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنّمَا ذَهَبَ بِمَالِهِ هَارِبًا مِنْك وَمِنْ أَهْلِك أَنْ يَأْخُذُوهُ. قَالَتْ: أَحَقّا يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ قَالَ: إي وَاَللهِ! قَالَتْ: وَالثّواقِب إنّك لَصَادِقٌ. ثُمّ قَامَتْ تُخْبِرُ أَهْلَهَا، وَانْصَرَفَ الْعَبّاسُ إلَى الْمَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ يَتَحَدّثُونَ بِمَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ الْحَجّاجِ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْهِ وَإِلَى حَالِهِ تَغَامَزُوا وَعَجِبُوا مِنْ تَجَلّدِهِ، ثُمّ دَخَلَ فِي الطّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْفَضْلِ، هَذَا وَاَللهِ التّجَلّدُ لِحُرّ الْمُصِيبَةِ! أَيْنَ كُنْت مُنْذُ ثَلَاثٍ لَا تَطْلُعُ؟ قَالَ الْعَبّاسُ: كَلّا وَاَلّذِي حَلَفْتُمْ بِهِ، لَقَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ وَتَرَكَ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ، وَضَرَبَ أَعْنَاقَ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ الْبِيضِ الْجِعَادِ الّذِينَ رَأَيْتُمُوهُمْ سَادَةَ النّضِيرِ مِنْ يَثْرِبَ، وَهَرَبَ الْحَجّاجُ بِمَالِهِ الّذِي عِنْدَ امْرَأَتِهِ. قَالُوا: مَنْ خَبّرَك بِهَذَا؟ قَالَ الْعَبّاسُ: الصّادِقُ فِي نَفْسِي، الثّقَةُ فِي صَدْرِي، فَابْعَثُوا إلَى أَهْلِهِ! فَبَعَثُوا فَوَجَدُوا الْحَجّاجَ قَدْ انْطَلَقَ بِمَالِهِ وَاسْتَكْتَمَ أَهْلَهُ حَتّى يُصْبِحَ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ كُلّهِ فَوَجَدُوهُ حَقّا، فَكَبّتْ الْمُشْرِكُونَ وَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ تَلْبَثْ قُرَيْشٌ خمسة أيّام حتى جاءهم الخبر بذلك.
باب شأن فدك
بَابُ شَأْنِ فَدَكَ [ (1) ] قَالُوا: لَمّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ فَدَنَا مِنْهَا، بَعَثَ مُحَيّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ إلَى فَدَكَ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُخَوّفُهُمْ أَنْ يَغْزُوَهُمْ كَمَا غَزَا أَهْلَ خَيْبَرَ وَيَحِلّ بِسَاحَتِهِمْ. قَالَ مُحَيّصَةُ: جِئْتهمْ فَأَقَمْت عِنْدَهُمْ يَوْمَيْنِ، وَجَعَلُوا يَتَرَبّصُونَ وَيَقُولُونَ: بِالنّطَاةِ عَامِرٌ، وَيَاسِرٌ، وَأُسَيْرٌ، وَالْحَارِثُ وَسَيّدُ الْيَهُودِ مَرْحَبٌ، مَا نَرَى مُحَمّدًا يَقْرَبُ حَرَاهُمْ [ (2) ] ، إنّ بِهَا عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ. قَالَ مُحَيّصَةُ: فَلَمّا رَأَيْت خُبْثَهُمْ أَرَدْت أَرْحَلُ رَاجِعًا، فَقَالُوا: نَحْنُ نُرْسِلُ مَعَك رِجَالًا يَأْخُذُونَ لَنَا الصّلْحَ- وَيَظُنّونَ أَنّ الْيَهُودَ تَمْتَنِعُ. فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتّى جَاءَهُمْ قَتْلُ أَهْلِ حِصْنِ نَاعِمٍ وَأَهْلِ النّجْدَةِ مِنْهُمْ، فَفَتّ ذَلِكَ أَعْضَادَهُمْ وَقَالُوا لِمُحَيّصَةَ: اُكْتُمْ عَنّا مَا قُلْنَا لَك وَلَك هَذَا الْحُلِيّ! لِحُلِيّ نِسَائِهِمْ، جَمَعُوهُ كَثِيرًا. فَقَالَ مُحَيّصَةُ: بَلْ أُخْبِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلّذِي سَمِعْت مِنْكُمْ. فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالُوا. [قَالَ مُحَيّصَةُ] : وَقَدِمَ مَعِي رَجُلٌ. مِنْ رُؤَسَائِهِمْ يُقَالُ لَهُ نُونُ بْنُ يُوشَعَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، صَالَحُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُجَلّيَهُمْ وَيُخَلّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْوَالِ. فَفَعَلَ، وَيُقَالُ: عَرَضُوا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ بِلَادِهِمْ وَلَا يَكُونُ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ جُذَاذُهَا جَاءُوا فَجَذّوهَا، فَأَبَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم
انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة
أن يقبل ذلك وقال لهم محيّصة: مالكم مَنَعَةٌ وَلَا رِجَالٌ وَلَا حُصُونٌ، لَوْ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْكُمْ مِائَةَ رَجُلٍ لَسَاقُوكُمْ إلَيْهِ. فَوَقَعَ الصّلْحُ بَيْنَهُمْ أَنّ لَهُمْ نِصْفَ الْأَرْضِ بِتُرْبَتِهَا لَهُمْ، وَلِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفُهَا، فَقَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وَهَذَا أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ. فَأَقَرّهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ، فلمّا كان عمر ابن الْخَطّابِ وَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ، بَعَثَ عُمَرُ إلَيْهِمْ مَنْ يُقَوّمُ أَرْضَهُمْ، فَبَعَثَ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيهَانِ وَفَرْوَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَيّانَ بْنِ صَخْرٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَقَوّمُوهَا لَهُمْ، النّخْلَ وَالْأَرْضَ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَدَفَعَ إلَيْهِمْ نِصْفَ قِيمَةِ النّخْلِ بِتُرْبَتِهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ يَزِيدُ- كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ جَاءَهُ مِنْ الْعِرَاقِ- وَأَجَلَاهُمْ عُمَرُ إلَى الشّامِ. وَيُقَالُ: بَعَثَ أَبَا خيثمة الْحَارِثِيّ فَقَوّمَهَا. انْصِرَافُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خَيْبَرَ إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ أَنَسٌ: انْصَرَفْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خَيْبَرَ وَهُوَ يُرِيدُ وَادِيَ الْقُرَى، وَمَعَهُ أُمّ سليم بِنْتُ مِلْحَانَ، وَكَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيّةَ حَتّى مَرّ بِهَا فَأَلْقَى عَلَيْهَا رِدَاءَهُ، ثُمّ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَقَالَ: إنْ تَكُونِي عَلَى دِينِك لَمْ نُكْرِهْك، فَإِنْ اخْتَرْت اللهَ وَرَسُولَهُ اتّخَذْتُك لِنَفْسِي. قَالَتْ: بَلْ أَخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: فَأَعْتَقَهَا فَتَزَوّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا مَهْرَهَا. فَلَمّا كَانَ بِالصّهْبَاءِ قَالَ لِأُمّ سُلَيْمٍ: اُنْظُرِي صَاحِبَتَك هَذِهِ فَامْشُطِيهَا! وَأَرَادَ أَنْ يُعَرّسَ بِهَا هُنَاكَ، فَقَامَتْ أُمّ سُلَيْمٍ- قَالَ أَنَسٌ: وَلَيْسَ معنا فساطيط ولا سرادقات- فأخذت كساءين
وَعَبَاءَتَيْنِ فَسَتَرَتْ بِهِمَا عَلَيْهَا [ (1) ] إلَى شَجَرَةٍ فَمَشَطَتْهَا وَعَطّرَتْهَا، وَأَعْرَسَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَاكَ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا خَرَجَ مِنْ خَيْبَرَ، وَقَرّبَ بَعِيرَهَا وَقَدْ سَتَرَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبِهِ، أَدْنَى فَخِذَهُ لِتَضَعَ رِجْلَهَا عَلَيْهِ، فَأَبَتْ وَوَضَعَتْ رُكْبَتَهَا عَلَى فَخِذِهِ، فَلَمّا بَلَغَ ثِبَارًا أَرَادَ أَنْ يُعَرّسَ بِهَا هُنَاكَ، فَأَبَتْ عَلَيْهِ حَتّى وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، حَتّى بَلَغَ الصّهْبَاءَ فَمَالَ إلَى دَوْمَةٍ هُنَاكَ فَطَاوَعَتْهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت حَيْنَ أَرَدْت أَنْ أَنْزِلَ بِثِبَارٍ- وَثِبَارٌ عَلَى سِتّةِ أَمْيَالٍ وَالصّهْبَاءُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ خِفْت عَلَيْك قُرْبَ الْيَهُودِ، فَلَمّا بَعُدْت أَمِنْت. فَزَادَهَا عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَعَلِمَ أَنّهَا قَدْ صَدّقَتْهُ، ودخلت عليه مساء تلك الليلة، وأو لم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عَلَيْهَا بِالْحَيْسِ [ (2) ] وَالسّوِيقِ وَالتّمْرِ، وَكَانَ قِصَاعُهُمْ الْأَنْطَاعَ [ (3) ] قَدْ بَسَطَتْ، فَرُئِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مَعَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْأَنْطَاعِ. قَالُوا: وَبَاتَ أَبُو أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ قَرِيبًا مِنْ قُبّتِهِ آخِذًا بِقَائِمِ السّيْفِ حَتّى أَصْبَحَ، فَلَمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فكبّر أبو أيّوب فقال: مالك يَا أَبَا أَيّوبَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَخَلْت بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ وَكُنْت قَدْ قَتَلْت أَبَاهَا وَإِخْوَتَهَا وَعُمُومَتَهَا وَزَوْجَهَا وَعَامّةَ عَشِيرَتِهَا، فَخِفْت أَنْ تَغْتَالَك. فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ مَعْرُوفًا. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَنَزَلَ صَفِيّةَ فِي مَنْزِلِ الْحَارِثَةِ بْنِ النّعْمَانِ، وَانْتَقَلَ حَارِثَةُ عَنْهَا. وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ يَدًا وَاحِدَةً
فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ إلَى أُمّ سَلَمَةَ تُسَلّمُ عَلَيْهَا- وَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ- وَتَسْأَلُهَا عَنْ صَفِيّةَ أَظَرِيفَةٌ هِيَ؟ فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: مَنْ أَرْسَلَك، عَائِشَةُ؟ فَسَكَتَتْ فَعَرَفَتْ أُمّ سَلَمَةَ أَنّهَا أَرْسَلَتْهَا، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: لَعَمْرِي إنّهَا لَظَرِيفَةٌ، وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا لَمُحِبّ. فَجَاءَتْ بَرِيرَةُ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ خَبَرَهَا، فَخَرَجَتْ عَائِشَةُ مُتَنَكّرَةً حَتّى دَخَلَتْ عَلَى صَفِيّةَ وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَنَظَرَتْ إلَيْهَا وَهِيَ مُنْتَقِبَةٌ، فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا خَرَجَتْ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ كَيْفَ رَأَيْت صَفِيّةَ؟ قَالَتْ: مَا رَأَيْت طَائِلًا، رَأَيْت يَهُودِيّةً بَيْنَ يَهُودِيّاتٍ- تَعْنِي عَمّاتِهَا وَخَالَاتِهَا- وَلَكِنّي قَدْ أُخْبِرْت أَنّك تُحِبّهَا، فَهَذَا خَيْرٌ لَهَا مِنْ لَوْ كَانَتْ ظَرِيفَةً. قَالَ: يَا عَائِشَةُ، لَا تَقُولِي هَذَا فَإِنّي عَرَضْت عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَسْرَعَتْ وَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ إسْلَامُهَا. قَالَ: فَرَجَعَتْ عَائِشَةُ فَأَخْبَرَتْ حَفْصَةَ بِظُرْفِهَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا حَفْصَةُ فَنَظَرَتْ إلَيْهَا ثُمّ رَجَعَتْ إلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: إنّهَا لَظَرِيفَةٌ وَمَا هِيَ كَمَا قُلْت. فَلَمّا آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصّهْبَاءَ سَلَكَ عَلَى بُرْمَةَ [ (1) ] حَتّى انْتَهَى إلَى وَادِي الْقُرَى يُرِيدُ مَنْ بِهَا مِنْ الْيَهُودِ. وَكَانَ أَبُو هَرِيرَةَ يُحَدّثُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خَيْبَرَ إلَى وَادِي الْقُرَى، وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجَذَامِيّ قَدْ وَهَبَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ [ (2) ] ، وَكَانَ يُرَحّلُ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه
وَسَلَّمَ. فَلَمّا نَزَلُوا بِوَادِي الْقُرَى انْتَهَيْنَا إلَى الْيَهُودِ وَقَدْ ضَوَى إلَيْهَا أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ، فَبَيْنَا مِدْعَمٌ يَحُطّ رَحْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ اسْتَقْبَلَتْنَا الْيَهُودُ بِالرّمْيِ حَيْثُ نَزَلْنَا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى تَعْبِيَةٍ وَهُمْ يَصِيحُونَ [ (1) ] فِي آطَامِهِمْ، فَيَقْبَلُ سَهْمٌ عَائِرٌ [ (2) ] فَأَصَابَ مِدْعَمًا فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النّاسُ: هَنِيئًا لَك الْجَنّةُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلّا وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنّ الشّمْلَةَ الّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمُقْسِمُ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا. فَلَمّا سَمِعَ بِذَلِكَ النّاسُ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ [ (3) ] أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ! أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ. وَعَبّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ وَصَفّهُمْ، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَرَايَةً إلَى الْحُباَبِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَرَايَةً إلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَرَايَةً إلَى عَبّادِ بْنِ بِشْرٍ. ثُمّ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرَهُمْ إنْ أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَحَقَنُوا دِمَاءَهُمْ وَحِسَابَهُمْ عَلَى اللهِ. فَبَرَزَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَبَرَزَ إلَيْهِ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ فَقَتَلَهُ، ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ إلَيْهِ الزّبَيْرُ فَقَتَلَهُ، ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامِ فَقَتَلَهُ، ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ، حَتّى قَتَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، كُلّمَا قَتَلَ رَجُلٌ دَعَا مَنْ بَقِيَ إلَى الْإِسْلَامِ. وَلَقَدْ كَانَتْ الصّلَاةُ تَحْضُرُ يَوْمئِذٍ فَيُصَلّي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ ثُمّ يَعُودُ فَيَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ ورسوله،
فَقَاتَلَهُمْ حَتّى أَمْسَوْا [ (1) ] وَغَدَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ تَرْتَفِعْ الشّمْسُ قَيْدَ رُمْحٍ حَتّى أَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَغَنّمَهُ [ (2) ] اللهُ أَمْوَالَهُمْ وَأَصَابُوا أَثَاثًا وَمَتَاعًا كَثِيرًا. وَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْقُرَى أَرْبَعَةَ أَيّامٍ، وَقَسَمَ مَا أَصَابَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِوَادِي الْقُرَى، وَتَرَكَ النّخْلَ وَالْأَرْضَ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَعَامَلَهُمْ عَلَيْهَا. فَلَمّا بَلَغَ يَهُودُ تَيْمَاءَ [ (3) ] مَا وَطِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَوَادِي الْقُرَى، صَالَحُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَأَقَامُوا بِأَيْدِيهِمْ أَمْوَالِهِمْ. فَلَمّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَخَرَجَ يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي الْقُرَى، لِأَنّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي أَرْضِ الشّامِ، وَيَرَى أَنّ مَا دُونَ وَادِي الْقُرَى إلَى الْمَدِينَةِ حِجَازٌ، وَأَنّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الشّامِ. وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَادِي الْقُرَى رَاجِعًا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ خَيْبَرَ وَمِنْ وَادِي الْقُرَى وَغَنّمَهُ اللهُ، فَلَمّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ سَرّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَتَهُ، حَتّى إذَا كَانَ قُبَيْلَ الصّبْحِ بِقَلِيلٍ نَزَلَ وَعَرّسَ. وَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ صَالِحٌ حَافِظٌ لَعَيْنِهِ يَحْفَظُ لَنَا صَلَاةَ الصّبْحِ؟ فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ وَوَضَعَ النّاسُ رُءُوسَهُمْ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ لِبَلَالٍ: يَا بِلَالُ احْفَظْ عَيْنَك! قَالَ: فَاحْتَبَيْت [ (4) ] بِعَبَاءَتِي وَاسْتَقْبَلْت الْفَجْرَ، فَمَا أَدْرِي مَتَى وَضَعْت جَنْبِي إلّا أَنّي لَمْ أَسْتَيْقِظْ إلّا بِاسْتِرْجَاعِ النّاسِ وَحَرّ الشّمْسِ، وَأَخَذَتْنِي الْأَلْسِنَةُ بِاللّوْمِ، وكان أشدّهم علىّ أبو بكر. وفرغ
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أَهْوَنَ لَائِمَةً مِنْ النّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَلِيَقْضِهَا. فَتَفَرّقَ النّاسُ فِي أُصُولِ الشّجَرِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَذّنْ يَا بِلَالُ بِالْأَذَانِ الْأَوّل. قَالَ بِلَالٌ: وَكَذَلِكَ كُنْت أَفْعَلُ فِي أَسْفَارِهِ، فَأَذِنْت فَلَمّا اجْتَمَعَ النّاسُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارْكَعُوا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. فَرَكَعُوا ثُمّ قَالَ: أَقِمْ يَا بِلَالُ! فَأَقَمْت فَتَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلّى بِالنّاسِ. قَالَ بِلَالٌ: فَمَا زَالَ يُصَلّي بِنَا حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَسْلُتُ [ (1) ] الْعَرَقُ مِنْ جَبِينِهِ مِنْ حَرّ الشّمْسِ، ثُمّ سَلّمَ فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: كَانَتْ أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ، وَلَوْ شَاءَ قَبَضَهَا وَكَانَ أَوْلَى بِهَا، فَلَمّا رَدّهَا إلَيْنَا صَلّيْنَا. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى بِلَالٍ فَقَالَ: مَهْ يَا بِلَالٌ! فَقَالَ: بِأَبِي وَأُمّي، قَبَضَ نَفْسِي الّذِي قَبَضَ نَفْسَك. فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسّمُ. وَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبّنَا وَنُحِبّهُ، اللهُمّ إنّي أُحَرّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ! قَالَ: وَانْتَهَى إلَى الْجَرْفِ لَيْلًا، فَنَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَطْرُقَ الرّجُلُ أَهْلَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عُمَارَةَ، قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ بِالْجَرْفِ: لَا تَطْرُقُوا النّسَاءَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. قَالَتْ: فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ الْحَيّ فَطَرَقَ أَهْلَهُ فَوَجَدَ مَا يَكْرَهُ فخلّى
سَبِيلَهُ وَلَمْ يَهْجُهُ [ (1) ] ، وَضَنّ بِزَوْجَتِهِ أَنْ يُفَارِقَهَا وَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ وَكَانَ يُحِبّهَا، فَعَصَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَى مَا يَكْرَه. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نُوحٍ الْحَارِثِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ حِزَامِ بْنِ مُحَيّصَةَ، عن أبيه، قال: كنّا بالمدينة وَالْمَجَاعَةُ تُصِيبُنَا، فَنَخْرُجُ إلَى خَيْبَرَ فَنُقِيمُ بِهَا مَا أَقَمْنَا ثُمّ نَرْجِعُ، وَرُبّمَا خَرَجْنَا إلَى فَدَكَ وَتَيْمَاءَ. وَكَانَتْ الْيَهُودُ قَوْمًا [ (2) ] لَهُمْ ثِمَارٌ لَا يُصِيبُهَا قَطْعُهُ [ (3) ] ، أَمّا تَيْمَاءُ فَعَيْنٌ جَارِيَةٌ تَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ جَبَلٍ لَمْ يُصِبْهَا قَطْعُهُ مُنْذُ كَانَتْ، وَأَمّا خَيْبَرُ فَمَاءٌ وَاتِنٌ، فَهِيَ مَغْفِرَةٌ [ (4) ] فِي الْمَاءِ، وَأَمّا فَدَكُ فَمِثْلُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَفَتَحَ خَيْبَرَ قُلْت لِأَصْحَابِي: هَلْ لَكُمْ فِي خَيْبَرَ فَإِنّا قَدْ جَهَدْنَا وَقَدْ أَصَابَنَا مَجَاعَةٌ؟ فَقَالَ أَصْحَابِي: إنّ الْبِلَادَ لَيْسَ كَمَا كَانَتْ، نَحْنُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ وَإِنّمَا نَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ عَدَاوَةٍ وَغِشّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَكُنّا قَبْلَ ذَلِكَ لَا نَعْبُدُ شَيْئًا. قَالُوا: قَدْ جَهَدْنَا، فَخَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَقَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ بِأَيْدِيهِمْ الْأَرْضُ وَالنّخْلُ لَيْسَ كَمَا كَانَتْ، قَدْ دَفَعَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ عَلَى النّصْفِ، فَأَمّا سَرَاةُ الْيَهُودِ وَأَهْلُ السّعَةِ مِنْهُمْ قَدْ قَتَلُوا- بَنُو أَبِي الْحُقَيْقِ وَسَلّامَ بْنَ مِشْكَمٍ، وَابْنَ الْأَشْرَفِ- وَإِنّمَا بَقِيَ قَوْمٌ لَا أَمْوَالَ لَهُمْ وَإِنّمَا هُمْ عُمّالُ أَيْدِيهِمْ. وَكُنّا نَكُونُ فِي الشّقّ يَوْمًا وَفِي النّطَاةِ يَوْمًا وَفِي الْكَتِيبَةِ يَوْمًا، فَرَأَيْنَا الْكَتِيبَةَ خَيْرًا لَنَا فَأَقَمْنَا بِهَا أَيّامًا، ثُمّ إنّ صَاحِبِي ذَهَبَ إلى الشّقّ فبات عنى وقد
كُنْت أُحَذّرُهُ الْيَهُودَ، فَغَدَوْت فِي أَثَرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتّى انْتَهَيْت إلَى الشّقّ فَقَالَ لِي أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ: مَرّ بِنَا حَيْنَ غَابَتْ الشّمْسُ يُرِيدُ النّطَاةَ. قَالَ: فَعَمَدْت إلَى النّطَاةِ، إلَى أَنْ قَالَ لِي غُلَامٌ مِنْهُمْ: تَعَالَ أَدُلّك عَلَى صَاحِبِك! فَانْتَهَى بِي إلَى مُنْهَر فأقامني عليه، فإذا الذباب يطلع من الْمَنْهَرِ. قَالَ: فَتَدَلّيْت فِي الْمَنْهَرِ فَإِذَا صَاحِبِي قَتِيلٌ، فَقُلْت لِأَهْلِ الشّقّ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ! قَالُوا: لَا وَاَللهِ، مَا لَنَا بِهِ عِلْمٌ! قَالَ: فَاسْتَعَنْت عَلَيْهِ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ حَتّى أَخْرَجْته وَكَفّنْته وَدَفَنْته، ثُمّ خَرَجْت سَرِيعًا حَتّى قَدِمْت عَلَى قَوْمِي بِالْمَدِينَةِ فَأَخْبَرْتهمْ الْخَبَرَ. وَنَجِدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ، فَخَرَجَ مَعِي مِنْ قَوْمِي ثَلَاثُونَ رَجُلًا، أَكْبَرُنَا أخى حويّصة، فخرج معنا عبد الرحمن ابن سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُولِ- وَالْمَقْتُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سهل- وكان عبد الرحمن ابن سَهْلٍ أَحْدَثَ مِنّي، فَهُوَ مُسْتَعْبَرٌ عَلَى أَخِيهِ رَقِيقٌ عَلَيْهِ، فَبَرَكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، وَقَدْ بَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ، فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: يَا رَسُولَ اللهِ إنّ أَخِي قُتِلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَبّرْ، كَبّرْ! فَتَكَلّمْت فَقَالَ: كَبّرْ، كَبّرْ! فَسَكَتّ. وَتَكَلّمَ أَخِي حُوَيّصَةُ فَتَكَلّمَ بِكَلِمَاتٍ وَذَكَرَ أَنّ الْيَهُودَ تُهْمَتُنَا وَظِنّتُنَا ثُمّ سَكَتَ، فَتَكَلّمْت وَأَخْبَرْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إمّا أَنّ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمّا أَنْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكَتَبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا إلَيْهِ: «مَا قَتَلْنَاهُ» . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيّصَةَ وَمُحَيّصَةَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ وَلِمَنْ مَعَهُمْ: تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ نَحْضُرْ وَلَمْ نَشْهَدْ. قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ. فوداه
رسول الله صلى الله عليه وسلم من عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ، خَمْسَةً وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ حِقّةً، وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ. قَالَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ: رَأَيْتهَا أَدْخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِائَةَ نَاقَةٍ، فَرَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ وَأَنَا يَوْمئِذٍ غُلَامٌ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ: كَانَتْ الْقَسَامَةُ فِي الْجَاهِلِيّةِ ثُمّ أَقَرّهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَضَى بِهَا فِي الْأَنْصَارِيّ الّذِي وُجِدَ بِخَيْبَرَ قَتِيلًا [ (1) ] فِي جُبّ مِنْ جِبَابِ الْيَهُودِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ: تَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ، خَمْسِينَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللهِ مَا قَتَلْنَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كَفّارٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللهِ أَنّهُمْ قَتَلُوا صَاحِبَكُمْ وَتَسْتَحِقّوا الدّمَ؟ قَالُوا: يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ دِيَتَهُ عَلَى الْيَهُودِ لِأَنّهُ قُتِلَ بِحَضْرَتِهِمْ. حَدّثَنِي مَخْرَمَة بْنُ بُكَيْر، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَتِهِ عَلَى الْيَهُودِ، فَإِنْ لَمْ يُعْطُوا فَلِيَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ. وَأَعَانَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا- فَهِيَ أَوّلُ مَا كَانَتْ الْقَسَامَة. وَكَانَ النّاسُ يَطْلُعُونَ إلَى أَمْوَالِهِمْ بِخَيْبَرَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله، عن أبيه،
قَالَ: خَرَجْت أَنَا وَالزّبَيْرُ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ نُفَيْلٍ إلَى أَمْوَالِنَا بِخَيْبَرَ فَطَلَعْنَا نَتَعَاهَدُهَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَبْعَثُ مَنْ يَطْلُعُهَا وَيَنْظُرُ إلَيْهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا، فَلَمّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ تَفَرّقْنَا فِي أَمْوَالِنَا. فَعُدِيَ عَلَيْنَا مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِي فَصُرِعَتْ يَدَايَ فَسَأَلُونِي: مِنْ صَنِعِ هَذَا بِك؟ فَقُلْت: لَا أَدْرِي، فَأَصْلَحُوا أَمْرَ يَدَيْ! وَقَالَ غَيْرُ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَحَرُوهُ بِاللّيْلِ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَكُوّعَ حَتّى أَصْبَحَ كَأَنّهُ كَانَ فِي وِثَاقٍ، وَجَاءَ أَصْحَابُهُ فَأَصْلَحُوا مِنْ يَدَيْهِ، فَقَدِمَ ابْنُ عُمَرَ الْمَدِينَةَ فَأَخْبَرَ أَبَاهُ بِمَا صُنِعَ بِهِ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قَالَ: أَقْبَلَ مُظَهّرُ بْنُ رَافِعٍ الْحَارِثِيّ بِأَعْلَاجٍ مِنْ الشّامِ يَعْمَلُونَ لَهُ بِأَرْضِهِ وَهُمْ عَشَرَةٌ، فَأَقْبَلَ حَتّى نَزَلَ بِهِمْ خَيْبَرَ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، فَيَدْخُلُ بِهِمْ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ: أَنْتُمْ نَصَارَى وَنَحْنُ يَهُودُ وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَرَبٌ قَدْ قَهَرُونَا بِالسّيْفِ، وَأَنْتُمْ عَشَرَةُ رِجَالٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَسُوقُكُمْ مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَيْرِ إلَى الْجَهْدِ وَالْبُؤْسِ، وَتَكُونُونَ فِي رِقّ شَدِيدٍ، فَإِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ قَرْيَتِنَا فَاقْتُلُوهُ. قَالُوا: لَيْسَ مَعَنَا سِلَاحٌ. فَدَسّوا إلَيْهِمْ سِكّينَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. قَالَ: فَخَرَجُوا فَلَمّا كَانُوا بِثِبَارَ قَالَ لِأَحَدِهِمْ، وَكَانَ الّذِي يَخْدُمُهُ مِنْهُمْ: نَاوِلْنِي كَذَا وَكَذَا. فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ جَمِيعًا قَدْ شَهَرُوا سَكَاكِينَهُمْ، فَخَرَجَ مُظَهّرٌ يَعْدُو إلَى سَيْفِهِ وَكَانَ فِي قِرَابِ رَاحِلَتِهِ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى الْقِرَابِ لَمْ يَفْتَحْهُ حَتّى بَعَجُوا بَطْنَهُ، ثُمّ انْصَرَفُوا سِرَاعًا حَتّى قَدِمُوا خَيْبَرَ عَلَى الْيَهُودِ فَآوَوْهُمْ وَزَوّدُوهُمْ وَأَعْطَوْهُمْ قُوّةً فَلَحِقُوا بِالشّامِ. وَجَاءَ عُمَرُ الْخَبَرَ بِمَقْتَلِ مُظَهّرِ بْنِ رَافِعٍ وَمَا صَنَعَتْ الْيَهُودُ، فَقَامَ عُمَرُ خَطِيبًا بِالنّاسِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّ
الْيَهُودَ فَعَلُوا بِعَبْدِ اللهِ مَا فَعَلُوا، وَفَعَلُوا بِمُظَهّرِ بْنِ رَافِعٍ مَعَ عَدْوَتِهِمْ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا أَشُكّ أَنّهُمْ أَصْحَابُهُ لَيْسَ لَنَا عَدُوّ هُنَاكَ غَيْرَهُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ بِهَا مَالٌ فَلْيَخْرُجْ فَأَنَا خَارِجٌ، فَقَاسَمَ مَا كَانَ بِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ، وَحَادّ حُدُودَهَا، وَمُوَرّفٌ أُرَفَهَا [ (1) ] وَمُجْلِي الْيَهُودِ مِنْهَا، فَإِنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لَهُمْ: «أُقِرّكُمْ مَا أَقَرّكُمْ اللهُ» وَقَدْ أَذِنَ اللهُ فِي جَلَائِهِمْ إلّا أَنْ يَأْتِيَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِعَهْدٍ أَوْ بَيّنَةٍ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ أَقَرّهُ فَأَقَرّهُ. فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَقَالَ: قَدْ وَاَللهِ أَصَبْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَوُفّقْت! إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُقِرّكُمْ مَا أَقَرّكُمْ اللهُ» ، وَقَدْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا بِعَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ فِي زَمَنِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا حَرّضُوا عَلَى مُظَهّرِ بْنِ رَافِعٍ حَتّى قَتَلَهُ أَعْبُدُهُ، وَمَا فَعَلُوا بِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، فَهُمْ أَهْلُ تُهْمَتِنَا وَظِنّتِنَا [ (2) ] . فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ مَعَك عَلَى مِثْلِ رَأْيِك؟ قَالَ: الْمُهَاجِرُونَ جَمِيعًا وَالْأَنْصَارُ. فَسُرّ بِذَلِكَ عُمَرُ. حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: بَلَغَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الّذِي تُوُفّيَ فِيهِ: «لَا يَجْتَمِعُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَان» . فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حَتّى وَجَدَ عَلَيْهِ الثّبْتَ مَنْ لَا يَتّهِمُ، فَأَرْسَلَ إلَى يهود الحجاز فقال: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنّي مُجَلّيهِ، فَإِنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ أَذِنَ فِي جَلَائِهِمْ. فأجلى عمر يهود الحجاز.
قَالُوا: فَخَرَجَ عُمَرُ بِأَرْبَعَةِ قُسّامٍ: فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الْبِيَاضِيّ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَحُبَابُ بْنُ صَخْرٍ السّلَمِيّ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيهَانِ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَسَمُوا خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشْرَ سَهْمًا، عَلَى الرّءُوسِ الّتِي سَمّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنّهُ سَمّى ثَمَانِيّةَ عَشْرَ سَهْمًا وَسَمّى رُؤَسَاءَهَا. وَيُقَالُ: إنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَمّى الرّؤَسَاءَ ثُمّ جزأوا الشّقّ والنّطاة، فجزأوها عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشْرَ سَهْمًا، جَعَلُوا ثَمَانِيّةَ عَشْرَ بَعْرَةً فَأَلْقَيْنَ فِي الْعَيْنِ [ (1) ] جَمِيعًا، وَلِكُلّ رَأْسٍ عَلَامَةٌ فِي بَعْرَتِهِ، فَإِذَا خَرَجَتْ أَوّلُ بَعْرَةٍ قِيلَ سَهْمُ فُلَانٍ وَسَهْمُ فُلَانٍ. وَكَانَ فِي الشّقّ ثَلَاثَةَ عَشْرَ سَهْمًا، وَفِي النّطَاةِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ حَكِيمُ بْنُ مُحَمّدٍ مِنْ آلِ مَخْرَمَة، عَنْ أَبِيهِ. فَكَانَ أَوّلَ سَهْمٍ خَرَجَ فِي النّطَاةِ سَهْمُ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ، ثُمّ سَهْمُ بَيَاضَةَ، يُقَالُ: إنّ رَأْسَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، ثُمّ سَهْمُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، ثُمّ سَهْمُ بِلْحَارِث بْنِ الْخَزْرَجِ، يُقَالُ: رَأْسُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، ثُمّ سَهْمُ نَاعِمٍ، يَهُودِيّ. ثُمّ ضَرَبُوا فِي الشّقّ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا عَاصِمُ بْنَ عَدِيّ، إنّك رَجُلٌ مَحْدُودٌ، فَسَهْمُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ سَهْمِك. فَخَرَجَ سَهْمُ عَاصِمٍ أَوّلَ سَهْمٍ فِي الشّقّ، وَيُقَالُ: إنّهُ سَهْمُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَنِي بَيَاضَةَ، وَالثّبْتُ أَنّهُ كَانَ مَعَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ. ثُمّ خَرَجَ سَهْمُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى أَثَرِ سَهْمِ عَاصِمٍ، ثُمّ سَهْمُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، ثُمّ سَهْمُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، ثُمّ سهم بنى ساعدة، يقال: رأسهم سعد ابن عُبَادَةَ، ثُمّ سَهْمُ بَنِي النّجّارِ، ثُمّ سَهْمُ بنى حارثة بن الحارث، ثم سهم
أَسْلَمَ وَغِفَارٍ، يُقَالُ: رَأْسُهُمْ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ، ثُمّ سَهْمَا سَلِمَةَ جَمِيعًا، ثُمّ سَهْمُ عُبَيْدِ السّهَامِ، ثُمّ سَهْمُ عُبَيْدٍ، ثُمّ سَهْمُ أَوْسٍ، صَارَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: فَسَأَلْت ابْنَ أَبِي حَبِيبَةَ: لِمَ سُمّيَ عُبَيْدُ السّهَامِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي دَاوُد بن الحصين قال: كان اسمه عبيد، وَلَكِنّهُ جَعَلَ يَشْتَرِي مِنْ السّهَامِ بِخَيْبَرَ فَسُمّيَ عُبَيْدَ السّهَامِ. حَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ابن نافع مولى بنى هاشم، عن يحيى ابن شِبْلٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: أَوّلُ مَا ضرب فى الشّقّ خرج سهم عاصم ابن عَدِيّ فِيهِ سَهْمُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: كُنْت أُحِبّ أَنْ يَخْرُجَ سَهْمِي مَعَ سَهْمِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا أَخْطَأَنِي قُلْت: اللهُمّ اجْعَلْ سَهْمِي فِي مَكَانٍ مُعْتَزِلٍ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَيّ طَرِيقٌ. فَكَانَ سَهْمُهُ مُعْتَزِلًا وَكَانَ شُرَكَاؤُهُ أَعْرَابًا، فَكَانَ يَسْتَخْلِصُ [ (1) ] مِنْهُمْ سِهَامَهُمْ، يَأْخُذُ حَقّ أَحَدِهِمْ بِالْفَرَسِ وَالشّيْءِ الْيَسِيرِ حَتّى خَلَصَ لَهُ سَهْمُ أَوْسٍ كُلّهُ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمّا قَسَمَ [ (2) ] عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَيْبَرَ خَيّرُوا أَزْوَاجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طُعُمِهِنّ الّذِي أَطْعَمَهُنّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَتِيبَةِ، إنْ أَحْبَبْنَ أَنْ يُقْطَعَ لَهُنّ مِنْ الْأَرْضِ [وَ] الْمَاءُ مَكَانُ طُعُمِهِنّ، أَوْ يُمْضَى لَهُنّ الْوُسُوقُ وَتَكُونُ مَضْمُونَةً لَهُنّ. فَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَحَفْصَةُ رضى الله عنها ممن
اخْتَارَ الْأَرْضَ وَالْمَاءَ، وَكَانَ سَائِرُهُنّ أَخَذْنَ [ (1) ] الْوُسُوقَ مَضْمُونَةً. حَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدٍ يَقُولُ، سَمِعْت عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها تقول يوما: رحم الله ابن الْخَطّابِ! قَدْ خَيّرَنِي فِيمَا صَنَعَ، خَيّرَنِي فِي الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَفِي الطّعْمَةِ، فَاخْتَرْت الْأَرْضَ وَالْمَاءَ، فَهُنّ فِي يَدَيّ، وَأَهْلُ الطّعْمِ مَرّةً يَنْقُصُهُمْ مَرْوَانُ، وَمَرّةً لَا يُعْطِيهِمْ شَيْئًا، وَمَرّةً يُعْطِيهِمْ. وَيُقَالُ: إنّمَا خَيّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ. حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَيّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النّاسَ كُلّهُمْ، فَمَنْ شَاءَ أَخَذَ الطّعْمَةَ كَيْلًا، وَمَنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَاءَ وَالتّرَابَ، وَأَذِنَ لِمَنْ شَاءَ بَاعَ، وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يُمْسِكَ أَمْسَكَ مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ، فَكَانَ مَنْ بَاعَ الْأَشْعَرِيّينَ، مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ مِائَةَ وَسْقٍ بِخَمْسَةِ آلَافِ [ (2) ] دِينَارٍ، وَبَاعَ الرّهَاوِيّونَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هَذَا الثّبْتُ عِنْدَنَا وَاَلّذِي رَأَيْت عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَيّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ طُعْمَةٌ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْمَاءِ والأرض أو الطّعمة مضمونة، فكان أسامة ابن زَيْدٍ اخْتَارَ الطّعْمَةُ مَضْمُونَةٌ. وَلَمّا فَرَغَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ الْقِسْمَةِ أَخَرَجَ يَهُودَ خيابر، وَمَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ خَيْبَرَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إلَى وَادِي الْقُرَى. وَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ بِالْقُسّامِ الّذِينَ قَسَمُوا: جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيهَانِ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وزيد بن ثابت، فقسموها على
أَعْدَادِ السّهَامِ، وَأَعْلَمُوا أُرَفَهَا، وَحَدّوا حُدُودَهَا، وَجَعَلُوهَا السّهَامَ تَجْرِي. فَكَانَ مَا قَسَمَ عُمَرُ مِنْ وادي القرى لعثمان بن عفّان خطر، ولعبد الرحمن ابن عَوْفٍ خَطَرٌ، وَلِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ خَطَرٌ- الْخَطَرُ هُوَ السّهْمُ- وَلِعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ خَطَرٌ، وَلِمُعَيْقِبٍ خَطَرٌ، وَلِعَبْدِ اللهِ بْنِ الْأَرْقَمِ خَطَرٌ، وَلِبَنِي جَعْفَرٍ خَطَرٌ، وَلِعَمْرِو بْنِ سُرَاقَةَ خَطَرٌ، وَلِعَبْدِ اللَّه وَعُبَيْدِ اللَّه خَطَرَانِ، وَلِشُيَيْمٍ خَطَرٌ، وَلِابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ خَطَرٌ، وَلِابْنِ أبى بكر خطر، ولعمر خطر، ولزيد ابن ثَابِتٍ خَطَرٌ، وَلِأُبَيّ بْنِ كَعْبٍ خَطَرٌ، وَلِمُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ خَطَرٌ، وَلِأَبِي طَلْحَةَ وَجُبَيْرٍ خَطَرٌ، وَلِجَبّارِ بْنِ صَخْرٍ خَطَرٌ، وَلِجَبّارِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَابٍ خَطَرٌ، وَلِمَالِكٍ بْنِ صَعْصَعَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ خَطَرٌ، وَلِسَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ خَطَرٌ، وَلِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ أَبِي شُرَيْقٍ خَطَرٌ، وَلِأَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ خَطَرٌ، وَلِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ خَطَرٌ، وَلِعَبّادِ بْنِ طَارِقٍ خَطَرٌ، وَلِجَبْرِ بْنِ عَتِيكٍ نِصْفُ خَطَرٍ، وَلِابْنِ الْحَارِثِ بْنِ قِيسٍ نِصْفُ خَطَرٍ، وَلِابْنِ جَرْمَةَ وَالضّحّاكِ خَطَرٌ. حَدّثَنِي عَبْدُ الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مِكْنَفٍ الْحَارِثِيّ، قَالَ: إنّمَا خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ الْقُسّامِ بِرَجُلَيْنِ، جَبّارِ بْنِ صَخْرٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، هُمَا قَاسِمَا الْمَدِينَةِ وَحَاسَبَاهَا، فَقَسَمَا خَيْبَرَ وَأَقَامَا نَخْلَ فَدَكَ وَأَرْضَهَا، وَدَفَعَ عُمَرُ إلَى يَهُودِ فَدَكَ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَقَسَمَا السّهْمَانِ بِوَادِي الْقُرَى، ثُمّ أَجْلَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَهُودَ الْحِجَازِ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَدْ تَصَدّقَ بِاَلّذِي صَارَ لَهُ مِنْ وَادِي الْقُرَى مع غيره .
سرية عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى تربة فى شعبان سنة سبع
سَرِيّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى تُرَبَةَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْع حَدّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا إلَى عَجُزِ [ (1) ] هَوَازِنَ بِتُرَبَةَ [ (2) ] ، فَخَرَجَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَمَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، فَكَانُوا يَسِيرُونَ اللّيْلَ وَيَكْمُنُونَ النّهَارَ، وَأَتَى الْخَبَرُ هَوَازِنَ فَهَرَبُوا، وَجَاءَ عُمَرُ مُحَالّهُمْ فَلَمْ يَلْقَ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَانْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى سَلَكَ النّجْدِيّةَ، فَلَمّا كَانَ بِالْجَدْرِ قَالَ الْهِلَالِيّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هَلْ لَك فِي جَمْعٍ آخَرَ تَرَكْته مِنْ خَثْعَمَ، جَاءُوا سَائِرِينَ قَدْ أَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ، إنّمَا أَمَرَنِي أَصْمَدُ [ (3) ] لِقِتَالِ هَوَازِنَ بِتُرَبَةَ. فَانْصَرَفَ عُمَرُ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ. سَرِيّةُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى نَجْدٍ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ حَدّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّارٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَمّرَهُ عَلَيْنَا، فَبَيّتْنَا نَاسًا مِنْ هَوَازِنَ، فَقَتَلْت بِيَدَيْ سَبْعَةً أَهْلَ أبيات [ (4) ] ، وكان شعارنا: أمت! أمت!
سرية بشير بن سعد إلى فدك فى شعبان سنة سبع
سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى فَدَكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا إلَى بَنِي مُرّةَ بِفَدَكَ. فَخَرَجَ فَلَقِيَ رِعَاءَ الشّاءِ فَسَأَلَ: أَيْنَ النّاسُ؟ فَقَالُوا: هُمْ فِي بِوَادِيهِمْ [ (1) ] . وَالنّاسُ يَوْمئِذٍ شَاتُونَ لَا يَحْضُرُونَ الْمَاءَ، فَاسْتَاقَ النّعَمَ وَالشّاءَ وَعَادَ مُنْحَدِرًا إلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ الصّرِيخُ فَأَخْبَرَهُمْ فَأَدْرَكَهُ الدّهْمُ مِنْهُمْ عِنْدَ اللّيْلِ، فَبَاتُوا [ (2) ] يُرَامُونَهُمْ بِالنّبْلِ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُ أَصْحَابِ بَشِيرٍ، وَأَصْبَحُوا وَحَمَلَ الْمُرّيُونَ عَلَيْهِمْ فَأَصَابُوا أَصْحَابَ بَشِيرٍ وَوَلّى مِنْهُمْ مَنْ وَلّى. وَقَاتَلَ بَشِيرٌ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى ضُرِبَ كَعْبُهُ، وَقِيلَ: قَدْ مَاتَ، وَرَجَعُوا بِنَعَمِهِمْ وَشَاءَهُمْ. وَكَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَ بِخَبَرِ السّرِيّةِ وَمُصَابِهَا عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ الْحَارِثِيّ. وَأُمْهِلَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ فِي الْقَتْلَى، فَلَمّا أَمْسَى تَحَامَلَ حَتّى انْتَهَى [إلَى] فَدَكَ، فَأَقَامَ عِنْدَ يَهُودِيّ بِفَدَكَ أَيّامًا حَتّى ارْتَفَعَ مِنْ الْجِرَاحِ، ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ. وَهَيّأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بْنَ الْعَوَامّ فَقَالَ: سِرْ حَتّى تَنْتَهِيَ إلَى مُصَابِ أَصْحَابِ بَشِيرٍ، فَإِنْ ظَفّرَك اللهُ بِهِمْ فَلَا تَبْقَ فِيهِمْ. وَهَيّأَ مَعَهُ مِائَتَيْ رَجُلٍ وَعَقَدَ لَهُ اللّوَاءَ، فَقَدِمَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ مِنْ سَرِيّةٍ قَدْ ظَفِرَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِلزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ: اجْلِسْ! وَبَعَثَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَخَرَجَ أُسَامَةُ بن زيد فى
السّرِيّةِ حَتّى انْتَهَى إلَى مُصَابِ بَشِيرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ. حَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كَانَ مَعَ غَالِبٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَسْعُودٍ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمّا دَنَا غَالِبٌ مِنْهُمْ بَعَثَ الطّلَائِعَ، فَبَعَثَ عُلْبَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي عَشَرَةٍ يَنْظُرُ إلَى جَمَاعَةِ مُحَالّهِمْ، حَتّى أَوْفَى عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ثُمّ رَجَعَ إلَى غَالِبٍ فَأَخْبَرَهُ. فَأَقْبَلَ غَالِبٌ يَسِيرُ حَتّى إذَا كَانَ مِنْهُمْ بِمَنْظَرٍ العين ليلا، وقد اجتلبوا وعطّنوا [ (1) ] وهدأوا، قَامَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: أَمّا بَعْدُ، فَإِنّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ تُطِيعُونِي وَلَا تَعْصُونِي وَلَا تُخَالِفُوا لِي أَمْرًا، فَإِنّهُ لَا رَأْي لِمَنْ لَا يُطَاعُ. ثُمّ أَلّفَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: يَا فُلَانُ أَنْتَ وَفُلَانٌ، يَا فُلَانُ أَنْتَ وَفُلَانٌ- لَا يُفَارِقُ كُلّ رَجُلٍ زَمِيلَهُ- وَإِيّاكُمْ أَنْ يَرْجِعَ إلَيّ أَحَدُكُمْ فَأَقُولُ: أَيْنَ فُلَانٌ صَاحِبُك؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، وَإِذَا كَبّرَتْ فَكَبّرُوا. قَالَ: فَكَبّرَ وَكَبّرُوا، وَأَخْرَجُوا السّيُوفَ. قَالَ: فَأَحَطْنَا بِالْحَاضِرِ [وَفِي الْحَاضِرِ] [ (2) ] نَعَمٌ وَقَدْ عَطَنُوا مَوَاشِيَهُمْ، فَخَرَجَ إلَيْنَا الرّجَالُ فَقَاتَلُوا سَاعَةً، فَوَضَعْنَا السّيُوفَ حَيْثُ شِئْنَا مِنْهُمْ وَنَحْنُ نَصِيحُ بِشِعَارِنَا: أَمِتْ! أَمِتْ! وَخَرَجَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فِي إثْرِ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ نَهِيكُ بْنُ مِرْدَاسٍ فَأَبْعَدَ، وَحَوَيْنَا عَلَى الْحَاضِرِ وَقَتَلْنَا مَنْ قَتَلْنَا، وَمَعَنَا النّسَاءُ وَالْمَاشِيَةُ، فَقَالَ أَمِيرُنَا: أَيْنَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ؟ فَجَاءَ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ اللّيْلِ، فَلَامَهُ أَمِيرُنَا لَائِمَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إلَى مَا عَهِدْت إلَيْك؟
فَقَالَ: إنّي خَرَجْت فِي إثْرِ رَجُلٍ جَعَلَ يَتَهَكّمُ بِي، حَتّى إذَا دَنَوْت وَلَحَمْته بِالسّيْفِ قَالَ: لَا إلَهَ إلّا اللهُ! فَقَالَ أَمِيرُنَا: أَغْمَدْت سَيْفَك؟ قَالَ: لَا وَاَللهِ مَا فَعَلْت حَتّى أَوْرَدْته شَعُوبَ. قَالَ: قُلْنَا: وَاَللهِ بِئْسَ ما فعلت وما جئت به، تقتل امرءا يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللهُ! فَنَدِمَ وَسَقَطَ فِي يَدَيْهِ. قَالَ: وَاسْتَقْنَا النّعَمَ وَالشّاءَ وَالذّرّيّةَ، وَكَانَتْ سِهَامُهُمْ عَشَرَةُ أَبْعِرَةً كُلّ رَجُلٍ، أَوْ عِدْلهَا مِنْ الْغَنَمِ. وَكَانَ يُحْسَبُ الْجَزُورُ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ. وَحَدّثَنِي شِبْلُ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ حُوَيّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كَانَ أَمِيرُنَا آخَى بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ. قَالَ أُسَامَةُ: فَلَمّا أَصَبْته وَجَدْت فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ مَوْجِدَةً شَدِيدَةً حَتّى رَأَيْتنِي وَمَا أَقْدِرُ عَلَى أَكْلِ الطّعَامِ حَتّى قَدِمْت الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبّلَنِي وَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْته، ثُمّ قَالَ لِي: يَا أُسَامَةُ، خَبّرْنِي عَنْ غَزَاتِك. قَالَ: فَجَعَلَ أُسَامَةُ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ حَتّى انْتَهَى إلَى صَاحِبِهِ الّذِي قَتَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَتَلْته يَا أُسَامَةُ، وَقَدْ قَالَ لَا إلَهَ إلّا اللهُ؟ قَالَ: فَجَعَلْت أَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّمَا قَالَهَا تَعَوّذًا مِنْ الْقَتْلِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا شَقَقْت قَلْبَهُ فَتَعْلَمَ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ [ (1) ] ؟ قَالَ أُسَامَةُ: لَا أَقْتُلُ أَحَدًا يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللهُ. قَالَ أُسَامَةُ: وَتَمَنّيْت أَنّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْت إلّا يَوْمئِذ. حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللّيْثِيّ، عن عبيد الله بن عدىّ بن الخيار، عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْت رَجُلًا مِنْ الْكُفّارِ يُقَاتِلُنِي، وضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها،
سرية بنى عبد بن ثعلبة عليها غالب بن عبد الله إلى الميفعة [ (1) ] فى رمضان سنة سبع
ثُمّ لَاذَ مِنّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ «أَسْلَمْت لِلّهِ» ، أَقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْتُلْهُ! قَالَ: فَإِنّي قَتَلْته فَمَاذَا؟ قَالَ: فَإِنّهُ بِمَنْزِلَتِك الّتِي كُنْت بِهَا قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الّتِي قَالَ. سَرِيّةُ بَنِي عَبْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَلَيْهَا غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ إلَى الْمَيْفَعَةِ [ (1) ] فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ الْكُدْرِ أَقَامَ أَيّامًا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ لَهُ يَسَارٌ مَوْلَاهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي قَدْ عَلِمْت غِرّةً مِنْ [ (2) ] بَنِي عَبْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَأَرْسَلَ مَعِي إلَيْهِمْ. فَأَرْسَلَ مَعَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، خَرَجَ بِهِمْ يَسَارٌ، فَظَعَنَ بِهِمْ فِي غَيْرِ الطّرِيقِ حَتّى فَنِيَتْ أَزْوَادُهُمْ وَجَهَدُوا، وَاقْتَسَمُوا التّمْرَ عَدَدًا، فَبَيْنَا الْقَوْمُ ذات ليلة بعد ما سَاءَ ظَنّهُمْ بِيَسَارٍ، وَظَنّ الْقَوْمُ أَنّ إسْلَامَهُ لَمْ يَصِحّ، وَقَدْ انْتَهَوْا إلَى مَكَانٍ قَدْ فَحَصَهُ [ (3) ] السّيْلُ، فَلَمّا رَآهُ يَسَارٌ كَبّرَ قَالَ: وَاَللهِ قَدْ ظُفِرْتُمْ بِحَاجَتِكُمْ، اُسْلُكُوا فِي هَذَا الْفَحْصِ حَتّى يَنْقَطِعَ بِكُمْ. فَسَارَ الْقَوْمُ فِيهِ سَاعَةٍ بِحِسّ خَفِيّ لَا يَتَكَلّمُونَ إلّا هَمْسًا [ (4) ] حتى انتهوا إلى ضرس [ (5) ]
سرية بشير بن سعد إلى الجناب [ (2) ] سنة سبع
مِنْ الْحَرّةِ، فَقَالَ يَسَارٌ لِأَصْحَابِهِ: لَوْ صَاحَ رَجُلٌ شَدِيدُ الصّوْتِ لَأَسْمَعَ الْقَوْمَ، فَارْتَأَوْا رَأْيَكُمْ! قَالَ غَالِبٌ: انْطَلِقْ بِنَا يَا يَسَارٍ أَنَا وَأَنْتَ، وَنَدَعُ الْقَوْمَ كَمِينًا، فَفَعَلَا، فَخَرَجْنَا حَتّى إذَا كُنّا [ (1) ] مِنْ الْقَوْمِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ سَمِعْنَا حِسّ النّاسِ وَالرّعَاءِ وَالْحُلُبِ، فَرَجَعَا سَرِيعَيْنِ فَانْتَهَيَا إلَى أَصْحَابِهِمَا، فَأَقْبَلُوا جَمِيعًا حَتّى إذَا كَانُوا مِنْ الْحَيّ قَرِيبًا، وَقَدْ وَعَظَهُمْ أَمِيرُهُمْ غَالِبٌ وَرَغّبَهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْإِمْعَانِ فِي الطّلَبِ، وَأَلّفَ بَيْنَهُمْ وَقَالَ: إذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا. فَكَبّرَ وَكَبّرُوا جَمِيعًا مَعَهُ، وَوَقَعُوا وَسَطَ مَحَالّهِمْ فَاسْتَاقُوا نَعَمًا وَشَاءَ، وَقَتَلُوا مِنْ أَشَرَف لَهُمْ، وَصَادَفُوهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْمَيْفَعَةُ. قَالَ: وَاسْتَاقُوا النّعَمَ فَحَدَرُوهُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنّهُمْ جَاءُوا بِأَسْرَى. سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى الْجِنَابِ [ (2) ] سَنَةَ سَبْعٍ حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَقَدْ كَانَ دَلِيلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أَيْنَ يَا حُسَيْلُ؟ قَالَ: قَدِمْت مِنْ الْجِنَابِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: تَرَكْت جَمْعًا مِنْ غَطَفَان بِالْجِنَابِ، قَدْ بَعَثَ إلَيْهِمْ عُيَيْنَةَ يَقُولُ لَهُمْ: إمّا تَسِيرُوا إلَيْنَا وَإِمّا نَسِيرُ إلَيْكُمْ. فَأَرْسَلُوا إليه أن سر
إلَيْنَا حَتّى نَزْحَفَ إلَى مُحَمّدٍ جَمِيعًا، وَهُمْ يُرِيدُونَك أَوْ بَعْضَ أَطْرَافِك. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وَعُمَرَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ، فَقَالَا جَمِيعًا: ابْعَثْ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ! فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرًا فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا اللّيْلَ وَيَكْمُنُوا النّهَارَ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ دَلِيلًا، فَسَارُوا اللّيْلَ وَكَمَنُوا النّهَارَ حَتّى أَتَوْا أَسْفَلَ خَيْبَرَ فَنَزَلُوا بِسِلَاحٍ [ (1) ] ، ثُمّ خَرَجُوا مِنْ سِلَاحٍ حَتّى دَنَوْا مِنْ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُمْ الدّلِيلُ: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ ثُلُثَا نَهَارٍ أَوْ نِصْفُهُ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ كَمَنْتُمْ وَخَرَجْت طَلِيعَةً لَكُمْ حَتّى آتِيَكُمْ بِالْخَبَرِ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ سِرْنَا جَمِيعًا. قَالُوا: بَلْ نُقَدّمُك. فَقَدّمُوهُ، فَغَابَ عَنْهُمْ سَاعَةً ثُمّ كَرّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: هَذَا أَوَائِلُ سَرْحِهِمْ فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ؟ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ أَغَرْنَا الْآنَ حَذِرَنَا الرّجَالُ وَالْعَطَنُ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَغْنَمُ مَا ظَهَرَ لَنَا ثُمّ نَطْلُبُ الْقَوْمَ. فَشَجُعُوا عَلَى النّعَمِ، فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرًا مَلَأُوا مِنْهُ أَيْدِيَهُمْ، وَتَفَرّقَ الرّعَاءُ وَخَرَجُوا سِرَاعًا، ثُمّ حَذِرُوا الْجَمْعَ فَتَفَرّقَ الْجَمْعُ وَحُذِرُوا، وَلَحِقُوا بِعَلْيَاءَ بِلَادِهِمْ، فَخَرَجَ بَشِيرٌ بِأَصْحَابِهِ حَتّى أَتَى مَحَالّهُمْ فَيَجِدُهَا وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ. فَرَجَعَ بِالنّعَمِ حَتّى إذَا كَانُوا بِسِلَاحٍ رَاجِعِينَ لَقُوا عَيْنًا لِعُيَيْنَةَ فَقَتَلُوهُ، ثُمّ لَقُوا جَمْعَ عُيَيْنَةَ، وَعُيَيْنَةُ لَا يَشْعُرُ بِهِمْ فَنَاوَشُوهُمْ، ثُمّ انْكَشَفَ جَمْعُ عُيَيْنَةَ وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ فَأَسَرُوهُمَا أَسْرًا، فَقَدِمُوا بِهِمَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا فأرسلهما النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قَالُوا: وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ الْمُرّيّ [حَلِيفًا] [ (1) ] لِعُيَيْنَةَ وَلَقِيَهُ مُنْهَزِمًا عَلَى فَرَسٍ لَهُ عَتِيقٍ يَعْدُو بِهِ عَدْوًا سَرِيعًا، فَاسْتَوْقَفَهُ الْحَارِثُ فَقَالَ: لَا، مَا أَقْدِرُ! الطّلَبُ خَلْفِي! أَصْحَابَ مُحَمّدٍ! وَهُوَ يَرْكُضُ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ: أَمَا لَك بَعْدَ أَنْ تُبْصِرَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ؟ إنّ مُحَمّدًا قَدْ وَطِئَ الْبِلَادَ وَأَنْتَ مَوْضِعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ. قَالَ الْحَارِثُ: فَتَنَحّيْت عَنْ سُنَنِ خَيْلِ مُحَمّدٍ حَتّى أَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنِي، فَأَقَمْت مِنْ [حِينِ] زَالَتْ الشّمْسُ إلَى اللّيْلِ، مَا أَرَى أَحَدًا- وَمَا طَلَبُوهُ إلّا الرّعْبَ الّذِي دَخَلَهُ. قَالَ: فَلَقِيته بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْحَارِثُ: فَلَقَدْ أَقَمْت فِي مَوْضِعٍ حَتّى اللّيْلِ، مَا رَأَيْت مِنْ طَلَبٍ. قَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ ذَاكَ، إنّي خِفْت الْإِسَارَ وَكَانَ أَثْرِي عِنْدَ مُحَمّدٍ مَا تَعْلَمُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ. قَالَ الْحَارِثُ: أَيّهَا الرّجُلُ، قَدْ رَأَيْت وَرَأَيْنَا مَعَك أمرا بيّنا فى بنى النّضير، ويوم الخندق وقريظة، وَقَبْلَ ذَلِكَ قَيْنُقَاعُ، وَفِي خَيْبَرَ، إنّهُمْ كَانُوا أعزّ يهود الحجاز كلّه، يُقِرّونَ لَهُمْ بِالشّجَاعَةِ وَالسّخَاءِ، وَهُمْ أَهْلُ حُصُونٍ مَنِيعَةٍ وَأَهْلُ نَخْلٍ، وَاَللهِ إنْ كَانَتْ الْعَرَبُ لَتَلْجَأُ إلَيْهِمْ فَيَمْتَنِعُونَ بِهِمْ. لَقَدْ سَارَتْ حَارِثَةُ بْنُ الْأَوْسِ حَيْثُ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ مَا كَانَ فَامْتَنَعُوا بِهِمْ مِنْ النّاسِ، ثُمّ قَدْ رَأَيْت حَيْثُ نَزَلَ بِهِمْ كَيْفَ ذَهَبَتْ تِلْكَ النّجْدَةُ وَكَيْفَ أُدِيلُ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ وَاَللهِ ذَاكَ، وَلَكِنْ نَفْسِي لَا تُقِرّنِي. قَالَ الْحَارِثُ: فَادْخُلْ مَعَ مُحَمّدٍ. قَالَ: أَصِيرُ تَابِعًا! قَدْ سَبَقَ قَوْمٌ إلَيْهِ فَهُمْ يَزِرُونَ بِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ يَقُولُونَ: شَهِدْنَا بَدْرًا وَغَيْرَهَا. قَالَ الْحَارِثُ: وَإِنّمَا هُوَ عَلَى مَا تَرَى، فَلَوْ تَقَدّمْنَا إلَيْهِ لَكُنّا مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ، قَدْ بَقِيَ قَوْمُهُ بَعْدَهُمْ مِنْهُ فِي مُوَادَعَةٍ وَهُوَ مَوْقِعٌ بِهِمْ وَقْعَةً، مَا وَطِئَ [ (2) ] لَهُ الأمر. قال عيينة: أرى والله! فاتّعدا
يُرِيدَانِ الْهِجْرَةَ وَالْقُدُومَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ مَرّ بِهِمَا فَرْوَةُ ابن هُبَيْرَةَ الْقُشَيْرِيّ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَهُمَا يَتَقَاوَلَانِ، فَأَخْبَرَاهُ بِمَا كَانَا فِيهِ وَمَا يُرِيدَانِ. قَالَ فَرْوَةُ: لَوْ اسْتَأْنَيْتُمْ حَتّى تَنْظُرُوا [ (1) ] مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُ فِي هَذِهِ الْمُدّةِ الّتِي هُمْ فِيهَا وَآتِيكُمْ بِخَبَرِهِمْ! فَأَخّرُوا الْقُدُومَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَضَى فَرْوَةُ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ فَتَحَسّبَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، فَإِذَا الْقَوْمُ عَلَى عَدَاوَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَدْخُلُوا طَائِعِينَ أَبَدًا، فَخَبّرَهُمْ بِمَا أوقع محمّد بأهل خيابر. قَالَ فَرْوَةُ: وَقَدْ تَرَكْت رُؤَسَاءَ الضّاحِيَةِ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ لِمُحَمّدٍ. قَالَتْ قُرَيْشٌ: فَمَا الرّأْيُ، فَأَنْتَ سَيّدُ أَهْلِ الْوَبَرِ؟ قَالَ: نَقْضِي هَذِهِ الْمُدّةَ الّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ وَنَسْتَجْلِبُ الْعَرَبَ [ (2) ] ، ثُمّ نَغْزُوهُ فِي عُقْرِ دَارِهِ. وَأَقَامَ أَيّامًا يُجَوّلُ فِي مَجَالِسِ قُرَيْشٍ، وَيَسْمَعُ بِهِ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، فَنَزَلَ مِنْ بَادِيَتِهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ لِقُرَيْشٍ، فَقَالَ نَوْفَلٌ: إذًا لَأَجِدُ عِنْدَكُمْ شَيْئًا! قَدِمْت الْآنَ لِمُقَدّمِك حَيْثُ بَلَغَنِي، وَلَنَا عَدُوّ قَرِيبٌ دَارُهُ، وَهُمْ عَيْبَةُ نُصْحِ مُحَمّدٍ لَا يُغَيّبُونَ عَلَيْهِ حَرْفًا مِنْ أُمُورِنَا. قَالَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: خُزَاعَةُ. قَالَ: قَبُحَتْ خُزَاعَةُ، قَعَدَتْ بِهَا يَمِينَهَا! قَالَ فَرْوَةُ: فَمَاذَا؟ قَالَ: اسْتَنْصَرَ قُرَيْشًا أَنْ يُعِينُونَا عَلَيْهِمْ. قَالَ فَرْوَةُ: فَأَنَا أَكْفِيكُمْ. فَلَقِيَ رُؤَسَاءَهُمْ، صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَقَالَ: أَلَا تَرَوْنَ مَاذَا نَزَلَ بِكُمْ! إنّكُمْ رَضِيتُمْ أَنْ تُدَافِعُوا مُحَمّدًا بِالرّاحِ. قَالُوا: فَمَا نَصْنَعُ؟ قَالَ: تُعِينُونَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى عَدُوّهِ وَعَدُوّكُمْ. قَالُوا: إذًا يَغْزُونَا مُحَمّدٌ فِي مَا لَا قبل لنا به فيوطئنا غلبة، وننزل
غزوة القضية
عَلَى حُكْمِهِ، وَنَحْنُ الْآنَ فِي مُدّةٍ وَعَلَى دِينِنَا. فَلَقِيَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: لَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ شَيْءٌ. وَرَجَعَ فَلَقِيَ عُيَيْنَةَ وَالْحَارِثَ فَأَخْبَرَهُمْ وَقَالَ: رَأَيْت قَوْمَهُ قَدْ أَيْقَنُوا عَلَيْهِ فَقَارَبُوا الرّجُلَ وَتَدَبّرُوا الْأَمْرَ. فَقَدِمُوا رِجْلًا وَأَخّرُوا أُخْرَى. غَزْوَةُ الْقَضِيّةِ [ (1) ] حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، وَابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، وَمُعَاذِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ محمّد بن يحيى بن حبان، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وَأَبُو مَعْشَرٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَغَيْرِهِمْ مِمّنْ لَمْ أُسَمّ، فَكَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِي قَالُوا: [لَمّا] [ (2) ] دَخَلَ هِلَالُ ذِي الْقَعَدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا- قَضَاءَ عُمْرَتِهِمْ [ (3) ]- وَأَلّا يَتَخَلّفَ أَحَدٌ مِمّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَلَمْ يَتَخَلّفْ أَحَدٌ شَهِدَهَا إلّا رِجَالٌ اُسْتُشْهِدُوا بِخَيْبَرَ وَرِجَالٌ مَاتُوا. وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مِمّنْ لَمْ يَشْهَدْ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ عُمّارًا، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ أَلْفَيْنِ. فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعَدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، بَعْدَ مَقْدَمِهِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهُوَ الشّهْرُ الذي صدّته المشركون، لقول الله
عَزّ وَجَلّ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [ (1) ] يَقُولُ: كَمَا صَدّوكُمْ عَنْ الْبَيْتِ فَاعْتَمَرُوا فِي قَابِلٍ. فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ حَاضِرِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْعَرَبِ: وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا مِنْ زَادٍ وَمَا لَنَا مَنْ يُطْعِمُنَا [ (2) ] . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْ يَتَصَدّقُوا، وَأَلّا يَكْفُوا أَيْدِيَهُمْ فَيَهْلِكُوا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، بِمَ نَتَصَدّقُ وَأَحَدُنَا لَا يَجِدُ شَيْئًا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَا كَانَ، وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِمِشْقَصٍ [ (3) ] يَحْمِلُ بِهِ أَحَدُكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [ (4) ] . قَالَ: نَزَلَتْ فِي تَرْكِ النّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ. حَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: مَتّعْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَوْ بِمِشْقَصٍ، وَلَا تُلْقِ بِيَدِك إلَى التّهْلُكَةِ. حَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَرْكِ النّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَحَدّثَنِي ابْنُ مُوهِبٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: سَاقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْقَضِيّةِ سِتّينَ بَدَنَةً. حَدّثَنِي غَانِمُ بْنُ أَبِي غَانِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ يَنَارٍ، قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيّ عَلَى هَدْيِهِ، يَسِيرُ بِالْهَدْيِ أَمَامَهُ يَطْلُبُ الرّعْيَ فِي الشّجَرِ، مَعَهُ أربعة فتيان من أسلم.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي رُهْمٍ، قَالَ: أَنَا كُنْت مِمّنْ يَسُوقُ الْهَدْيَ وَأَرْكَبُ عَلَى الْبُدْنِ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هَرِيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْت مِمّنْ صَاحَبَ الْبُدْنَ أَسُوقُهَا. حَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: قَلّدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ هُوَ بِنَفْسِهِ. حَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّلَاحَ وَالْبِيضَ وَالدّرُوعَ وَالرّمَاحَ، وَقَادَ مِائَةَ فَرَسٍ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ قَدّمَ الْخَيْلَ أَمَامَهُ، وَهِيَ مِائَةُ فرس عليها محمّد ابن مَسْلَمَةَ. وَقَدّمَ السّلَاحَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! حَمَلْت السّلَاحَ وَقَدْ شَرَطُوا عَلَيْنَا أَلّا نَدْخُلَ عَلَيْهِمْ إلّا بِسِلَاحِ الْمُسَافِرِ، السّيُوفُ فِي الْقُرُبِ! فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ الْحَرَمَ، وَلَكِنْ تَكُونُ قَرِيبًا مِنّا، فَإِنْ هَاجَنَا هَيْجٌ مِنْ الْقَوْمِ كَانَ السّلَاحُ قَرِيبًا مِنّا. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! تَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى ذَلِكَ؟ فَأَسْكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدّمَ الْبُدْنَ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَحْرَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ لِأَنّهُ سَلَكَ إلَى طَرِيقِ الْفُرْعِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَهَلّ مِنْ الْبَيْدَاءِ. وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَلَكْنَا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ عَلَى الْفُرْعِ، وَقَدْ أَحْرَمَ أَصْحَابِي غَيْرِي، فَرَأَيْت حِمَارًا وَحْشِيّا فَشَدَدْت عَلَيْهِ فَعَقَرْته، فَأَتَيْت أَصْحَابِي، فَمِنْهُمْ الْآكِلُ وَالتّارِكُ. فَسَأَلْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كل!
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: ثُمّ حَجّ حَجّةَ الْوَدَاعِ. فَأَحْرَمَ مِنْ الْبَيْدَاءِ، وَهَذِهِ الْعُمْرَةُ مِنْ الْمَسْجِدِ، لِأَنّ طَرِيقَهُ لَيْسَ عَلَى الْبَيْدَاءِ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبّي، وَالْمُسْلِمُونَ يُلَبّونَ، وَمَضَى مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بِالْخَيْلِ إلَى مَرّ الظّهْرَانِ، فَيَجِدُ بِهَا نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ فَسَأَلُوا مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللهِ، يُصْبِحُ هَذَا الْمَنْزِلَ غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ. فَرَأَوْا سِلَاحًا كَثِيرًا مَعَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا حَتّى أَتَوْا قُرَيْشًا فَأَخْبَرُوهُمْ بِاَلّذِي رَأَوْا مِنْ الْخَيْلِ وَالسّلَاحِ، فَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ فَقَالُوا: وَاَللهِ مَا أَحْدَثْنَا حَدَثًا، وَنَحْنُ عَلَى كِتَابِنَا وَمُدّتِنَا، فَفِيمَ يَغْزُونَا مُحَمّدٌ فِي أَصْحَابِهِ؟ وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّ الظّهْرَانِ، وَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّلَاحَ إلَى بَطْنِ يَأْجَجَ حَيْثُ يَنْظُرُ إلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الْأَحْنَفِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَتّى لَقَوْهُ بِبَطْنِ يَأْجَجَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ وَالْهَدْيُ وَالسّلَاحُ، قَدْ تَلَاحَقُوا، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ! وَاَللهِ مَا عَرَفْت صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا بِالْغَدْرِ! تَدْخُلُ بِالسّلَاحِ الْحَرَمَ عَلَى قَوْمِك، وَقَدْ شَرَطْت أَلّا تَدْخُلَ إلّا بِسِلَاحِ الْمُسَافِرِ، السيوف في القرب! فقال رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نَدْخُلُهَا إلّا كَذَلِك. ثُمّ رَجَعَ سَرِيعًا بِأَصْحَابِهِ إلَى مَكّةَ فَقَالَ: إنّ مُحَمّدًا لَا يَدْخُلُ بِسِلَاحٍ، وَهُوَ عَلَى الشّرْطِ الّذِي شَرَطَ لَكُمْ. فَلَمّا جَاءَ مِكْرَزٌ بِخَبَرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرِجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكّةَ إلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَخَلّوْا مَكّةَ، وَقَالُوا: وَلَا نَنْظُرُ إلَيْهِ وَلَا إلَى أَصْحَابِهِ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ أَمَامَهُ حَتّى حُبِسَ بِذِي طُوًى. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَحِمَهُمْ اللهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم
عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَأَصْحَابُهُ مُحْدِقُونَ [ (1) ] بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُتَوَشّحُو السّيُوفِ يُلَبّونَ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى ذِي طُوًى وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ، ثُمّ دَخَلَ مِنْ الثّنِيّةِ الّتِي تَطْلُعُهُ عَلَى الْحَجُونَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ. فَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْطَعْ التّلْبِيَةَ حَتّى جَاءَ عُرُوشَ [ (2) ] مَكّةَ. حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبّى حَتّى اسْتَلَمَ الرّكْنَ. حَدّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: وَخَلّفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَتَيْ رَجُلٍ عَلَى السّلَاحِ، عَلَيْهِمْ أَوْسُ بْنُ خَوْليّ. حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: شَهِدْت عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْت قَدْ شَهِدْت الْحُدَيْبِيَةَ، فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْتَهَى إلَى الْبَيْتِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ- وَقَدْ صُفّ لَهُ الْمُسْلِمُونَ- حِين دَنَا مِنْ الرّكْنِ حَتّى انْتَهَى إلَيْهِ، فَاسْتَلَمَ الرّكن بمحجنه مضطبعا [ (3) ] بثوبه، على راحلته،
وَالْمُسْلِمُونَ يَطُوفُونَ مَعَهُ قَدْ اضْطَبَعُوا بِثِيَابِهِمْ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَقُولُ: خَلّوا بَنِي الْكُفّارِ عَنْ سَبِيلِهْ ... إنّي شَهِدْت أَنّهُ رَسُولُهْ حَقّا وَكُلّ الْخَيْرِ فِي سَبِيلِهْ ... نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهْ كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهْ ... ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهْ [ (1) ] وَيُذْهِلُ [ (2) ] الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا عُمَرُ، إنّي أَسْمَعُ! فَأَسْكَتَ عُمَرُ. فَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبّاسٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْعَجْلَانِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْجَبَلِ وَهُمْ يَرَوْنَكُمْ، امْشُوا مَا بَيْنَ الْيَمَانِيّ وَالْأَسْوَدِ. فَفَعَلُوا. وَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمّا كَانَ الطّوَافُ السّابِعُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ عِنْدَ فَرَاغِهِ، وَقَدْ وَقَفَ الْهَدْيُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا الْمَنْحَرُ، وَكُلّ فِجَاجِ مَكّةَ مَنْحَرٌ! فَنَحَرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ. وَقَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَكَانَ قَدْ اعْتَمَرَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْحُدَيْبِيَةَ فَلَمْ يَنْحَرُوا، فَأَمّا مَنْ كَانَ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَخَرَجَ فِي الْقَضِيّةِ فَإِنّهُمْ شُرِكُوا فِي الْهَدْيِ. حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى
صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: لَمْ يَتَخَلّفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ إلّا اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ، إلّا مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، فَخَرَجْت وَنِسْوَةٌ مَعِي فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَلَمْ نُصَلّ إلَى الْبَيْتِ، فَقَصّرْنَ مِنْ أَشْعَارِهِنّ بِالْحُدَيْبِيَةِ ثُمّ اعْتَمَرْنَ [ (1) ] مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَضَاءً لِعُمْرَتِهِنّ، وَنَحَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَكَانَ مِمّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَقُتِلَ بِخَيْبَرَ وَلَمْ يَشْهَدْ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ: رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ مَسْرُوحٍ [ (2) ] ، وَثَقْفُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ وَهْبٍ الأسدي، وأبو ضيّاح، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، وَعَدِيّ بْنُ مُرّةَ بْنِ سراقة، وأوس بن حبيب، وأنيف ابن وائلة، وَمَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ الزّرَفِيّ، وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، وَعَامِرُ بْنُ الْأَكْوَع. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحَدّثُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ فِي الْقَضِيّةِ أَنْ يَهْدُوا، فَمَنْ وَجَدَ بَدَنَةً مِنْ الْإِبِلِ نَحَرَهَا، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ بَدَنَةً رَخّصَ لَهُمْ فِي الْبَقَرَةِ، فَقَدِمَ فُلَانٌ بِبَقَرٍ اشْتَرَاهُ النّاسُ مِنْهُ. حَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ حَلَقَ رَأْسَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ. حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، أَنّ الّذِي حَلَقَهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْعَدَوِيّ. حَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عقيل، عن سعيد ابن الْمُسَيّبِ، قَالَ: لَمّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُسُكَهُ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِ حَتّى أَذّنَ بِلَالٌ بِالظّهْرِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أبى جهل: لقد أكرم الله
أَبَا الْحَكَمِ حَيْثُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْعَبْدَ يَقُولُ مَا يَقُولُ! وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: لحمد لِلّهِ الّذِي أَذْهَبَ أَبِي قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا! وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أَسِيدٍ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمَاتَ أَبِي وَلَمْ يَشْهَدْ هَذَا الْيَوْمَ، حِينَ يَقُومُ بِلَالُ بْنُ أُمّ بِلَالٍ يَنْهَقُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ! وَأَمّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَرِجَالٌ مَعَهُ، فَحِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ غَطّوا وُجُوهَهُمْ. حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: لَمْ يَدْخُلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ فِي الْقَضِيّةِ، قَدْ أَرْسَلَ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَبَوْا وَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ فِي شَرْطِك. وَأَمَرَ بَلَالًا فَأَذّنَ فَوْقَ الْكَعْبَةِ يَوْمئِذٍ مَرّةً وَلَمْ يَعُدْ بَعْدُ، وَهُوَ الثّبْتُ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَزَوّجَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِم. حَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ. قَالَ: لَمّا حَلّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوّجَهَا. حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: إنّ عُمَارَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَأُمّهَا سَلْمَى بِنْتَ عُمَيْسٍ كَانَتْ بِمَكّةَ، فَلَمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كَلّمَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: عَلَامَ نَتْرُكُ بِنْتَ عَمّنَا يَتِيمَةً بَيْنَ ظَهْرَيْ الْمُشْرِكِينَ؟ فَلَمْ يَنْهَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إخْرَاجِهَا، فَخَرَجَ بِهَا، فَتَكَلّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَكَانَ وَصِيّ حَمْزَةَ، وَكَانَ النّبِيّ صلّى الله عليه
وسلم آخَى بَيْنَهُمَا حِينَ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: أَنَا أَحَقّ بِهَا، ابْنَةُ أَخِي! فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ جَعْفَرٌ قَالَ: الْخَالَةُ وَالِدَةٌ، وَأَنَا أَحَقّ بِهَا لِمَكَانِ خَالَتِهَا عِنْدِي، أَسَمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ. فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَلَا أَرَاكُمْ فِي ابْنَةِ عَمّي [ (1) ] ، وَأَنَا أَخَرَجْتهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَيْهَا نَسَبٌ دُونِي، وَأَنَا أَحَقّ بِهَا مِنْكُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَحْكُمُ بَيْنَكُمْ! أَمّا أَنْتَ يَا زَيْدُ فَمَوْلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَمّا أَنْتَ يَا عَلِيّ فَأَخِي وَصَاحِبِي، وَأَمّا أَنْتَ يَا جَعْفَرُ فَتُشْبِهُ خَلْقِي وَخُلُقِي، وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ أَحَقّ بِهَا! تَحْتَك خَالَتُهَا، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى عَمّتِهَا. فَقَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: فَلَمّا قَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ قَامَ جَعْفَرٌ فَحَجَلَ حَوْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هَذَا يَا جَعْفَرُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ النّجَاشِيّ إذَا أَرْضَى أَحَدًا قَامَ فَحَجَلَ حَوْلَهُ. فَقِيلَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَزَوّجْهَا! فَقَالَ: ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرّضَاعَةِ! فَزَوّجَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ. فَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَلْ جَزَيْت [ (2) ] سَلَمَةَ؟ حَدّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدٍ قَالَ: فَلَمّا كَانَ عِنْدَ الظّهْرِ يَوْمَ الرّابِعِ، أَتَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وُحَوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى- وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ يَتَحَدّثُ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ- فَقَالَ: قَدْ انْقَضَى أَجَلُك، فَاخْرَجْ عَنّا! فَقَالَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْت بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ [ (3) ] ، فَصَنَعْت لَكُمْ طعاما؟ فقالا: لا حاجة
لَنَا فِي طَعَامِك، اخْرَجْ عَنّا! نَنْشُدُك اللهَ يَا مُحَمّدُ وَالْعَهْدُ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَك إلّا خَرَجْت مِنْ أَرْضِنَا، فَهَذِهِ الثّلَاثُ قَدْ مَضَتْ! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْزِلْ بَيْتًا، وَضُرِبَتْ لَهُ قُبّةٌ مِنْ الْأَدَمِ بِالْأَبْطَحِ، فَكَانَ هُنَاكَ حَتّى خَرَجَ مِنْهَا، لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ سَقْفِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهَا. فغضب سعد ابن عُبَادَةَ لَمَا رَأَى مِنْ غِلْظَةِ كَلَامِهِمْ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِسُهَيْلٍ: كَذَبْت لَا أُمّ لَك، لَيْسَتْ بِأَرْضِك وَلَا أَرْضِ أَبِيك! وَاَللهِ لَا يَبْرَحُ مِنْهَا إلّا طَائِعًا رَاضِيًا. فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: يَا سَعْدُ، لَا تُؤْذِ قَوْمًا زَارُونَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: وَأَسْكَتّ الرّجُلَانِ عَنْ سَعْدٍ. قَالَ: ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَافِعٍ بِالرّحِيلِ، وَقَالَ: لَا يُمْسِيَنّ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى نَزَلَ سَرِفَ، وَتَتَامّ النّاسُ، وَخَلّفَ أَبَا رَافِعٍ لِيَحْمِلَ إلَيْهِ زَوْجَتَهُ [ (1) ] حِينَ يُمْسِي، وَأَقَامَ أَبُو رَافِعٍ حَتّى أَمْسَى، فَخَرَجَ بِمَيْمُونَةَ وَمَنْ مَعَهَا، فَلَقَوْا عَنَاءً [ (2) ] مِنْ سُفَهَاءِ الْمُشْرِكِينَ، آذَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ [ (3) ] النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ لَهَا أَبُو رَافِعٍ- وَانْتَظَرَ أَنْ يَبْطِشَ [ (4) ] أَحَدٌ [ (5) ] مِنْهُمْ فَيَسْتَخْلِي بِهِ [ (6) ] ، فَلَمْ يَفْعَلُوا- أَلَا إنّي قَدْ قُلْت لَهُمْ: «مَا شِئْتُمْ! هَذِهِ وَاَللهِ الْخَيْلُ وَالسّلَاحُ بِبَطْنِ يَأْجَجَ!» وَإِذَا الْخَيْلُ قَدْ قَرُبَتْ فَوَقَفَتْ لَنَا هُنَالِكَ وَالسّلَاحُ، وَقَدْ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ حِينَ طَافُوا بِالْبَيْتِ أَنْ يذهبوا إلَى أَصْحَابِهِمْ بِبَطْنِ يَأْجَجَ فَيُقِيمُوا عَلَى السّلَاحِ، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا، فلما
سرية ابن أبى العوجاء السلمى فى ذى الحجة سنة سبع
انْتَهَيْنَا إلَى بَطْنِ يَأْجَجَ سَارُوا مَعَنَا، فَلَمْ نَأْتِ سَرِفَ حَتّى ذَهَبَ عَامّةُ اللّيْلِ، ثُمّ أَتَيْنَا سَرِفَ، فَبَنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ أَدْلَجَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ. سَرِيّةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السّلَمِيّ فِي ذِي الْحَجّةِ سَنَةَ سَبْعٍ حَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ- رَجَعَ فِي ذِي الْحَجّةِ سَنَةَ سَبْعٍ- بَعَثَ ابْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ السّلَمِيّ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا، فَخَرَجَ إلَى بَنِي سُلَيْمٍ. وَكَانَ عَيْنٌ لِبَنِي سُلَيْمٍ مَعَهُ، فَلَمّا فَصَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ خَرَجَ الْعَيْنُ إلَى قَوْمِهِ فَحَذّرَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ، فَجَمَعُوا جَمْعًا كَثِيرًا. وَجَاءَهُمْ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ وَالْقَوْمُ مُعَدّونَ لَهُ، فَلَمّا رَآهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْا جَمْعَهُمْ دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَرَشَقُوهُمْ بِالنّبْلِ وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُمْ، وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إلَى مَا دَعَوْتُمْ إلَيْهِ. فَرَامُوهُمْ سَاعَةً، وَجَعَلَتْ الْأَمْدَادُ تَأْتِي حَتّى أُحْدِقُوا بِهِمْ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، فَقَاتَلَ الْقَوْمُ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى قُتِلَ عَامّتُهُمْ، وَأُصِيبَ صَاحِبُهُمْ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ جَرِيحًا مَعَ الْقَتْلَى، ثُمّ تَحَامَلَ حَتّى بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إسْلَامُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: كُنْت لِلْإِسْلَامِ مُجَانِبًا معاندا، فحضرت بدرا مع الْمُشْرِكِينَ فَنَجَوْت، ثُمّ حَضَرْت أُحُدًا فَنَجَوْت، ثُمّ حضرت الخندق [ (1) ] فقلت فى نفسي: كم
أُوضِعُ [ (1) ] ؟ وَاَللهِ لَيَظْهَرَنّ مُحَمّدٌ عَلَى قُرَيْشٍ! فَخَلّفْت [ (2) ] مَالِي بِالرّهْطِ وَأَفْلَتْ- يَعْنِي مِنْ النّاسِ- فَلَمْ أحضر الحديبية وَلَا صُلْحَهَا، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصّلْحِ وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى مَكّةَ، فَجَعَلْت أَقُولُ: يَدْخُلُ مُحَمّدٌ قَابِلًا مَكّةَ بِأَصْحَابِهِ، مَا مَكّةُ بِمَنْزِلٍ وَلَا الطّائِفُ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ خَيْرٌ مِنْ الْخُرُوجِ. وَأَنَا بَعْدُ نَاتٍ [ (3) ] عَنْ الْإِسْلَامِ، أَرَى لَوْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ كُلّهَا لَمْ أُسْلِمْ. فَقَدِمْت مَكّةَ فَجَمَعْت رِجَالًا مِنْ قَوْمِي كَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي وَيَسْمَعُونَ مِنّي وَيُقَدّمُونَنِي فِيمَا نَابَهُمْ، فَقُلْت لَهُمْ: كَيْفَ أَنَا فِيكُمْ؟ قَالُوا: ذُو رَأْيِنَا وَمِدْرَهُنَا [ (4) ] ، مَعَ يُمْنِ نَفْسٍ وَبَرَكَةِ أَمْرٍ [ (5) ] . قَالَ، [قُلْت] : تَعْلَمُونَ وَاَللهِ أَنّي لَأَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوّا مُنْكَرًا، وَإِنّي قَدْ رَأَيْت رَأْيًا. قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: نَلْحَقُ بِالنّجَاشِيّ فَنَكُونُ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ يَظْهَرُ مُحَمّدٌ كُنّا عِنْدَ النّجَاشِيّ، فَنَكُونُ تَحْتَ يَدِ النّجَاشِيّ أَحَبّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدِ مُحَمّدٍ، وَإِنْ تَظْهَرُ قُرَيْشٌ فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا. قَالُوا: هَذَا الرّأْيُ! قَالَ: فَاجْمَعُوا مَا تُهْدُونَهُ لَهُ. وَكَانَ أَحَبّ مَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ. قَالَ: فَجَمَعْنَا أَدَمًا كَثِيرًا، ثُمّ خَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا على النّجاشىّ، فو الله إنّا لَعِنْدَهُ إذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَهُ إلَيْهِ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيْهِ يُزَوّجُهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَدَخَلَ
عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْت لِأَصْحَابِي: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ، وَلَوْ قَدْ دَخَلْت عَلَى النّجَاشِيّ وَسَأَلْته إيّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْت عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ سُرّتْ قُرَيْشٌ وَكُنْت قَدْ أَجْزَأَتْ [ (1) ] عَنْهَا حِينَ قَتَلْت رَسُولَ مُحَمّدٍ. قَالَ: فَدَخَلْت عَلَى النّجَاشِيّ فَسَجَدْت لَهُ كَمَا كُنْت أَصْنَعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي! أَهْدَيْت لِي مِنْ بِلَادِك شَيْئًا؟ قَالَ: فَقُلْت: نَعَمْ أَيّهَا الْمَلِكُ، أَهْدَيْت لَك أَدَمًا كَثِيرًا. ثُمّ قَرّبْته إلَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ، وَفَرّقَ مِنْهُ أَشْيَاءَ بَيْنَ بِطَارِقَتِهِ، وَأَمَرَ بِسَائِرِهِ فَأُدْخِلَ فِي مَوْضِعٍ، وَأَمَرَ أَنْ يَكْتُبَ وَيَحْتَفِظُ بِهِ. فَلَمّا رَأَيْت طِيبَ نَفْسِهِ قُلْت: أَيّهَا الْمَلِكُ، إنّي قَدْ رَأَيْت رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدَك وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوّ لَنَا، قَدْ وَتَرَنَا وَقَتَلَ أَشْرَافَنَا وَخِيَارَنَا فَأُعْطِنِيهِ فَأَقْتُلْهُ! فَرَفَعَ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفِي ضَرْبَةً ظَنَنْت أَنّهُ كَسَرَهُ، وَابْتَدَرَ مِنْخَارِي، فَجَعَلْت أَتَلْقَى الدّمَ بِثِيَابِي، وَأَصَابَنِي مِنْ الذّلّ مَا لَوْ انْشَقّتْ بِي الْأَرْضُ دَخَلْت فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ. ثُمّ قُلْت لَهُ: أَيّهَا الْمَلِكُ، لَوْ ظَنَنْت أَنّك تَكْرَهُ مَا فَعَلْت مَا سَأَلْتُك. قَالَ: وَاسْتَحْيِي وَقَالَ: يَا عَمْرُو، تَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَك رَسُولَ رَسُولِ اللهِ- مَنْ يَأْتِيهِ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَاَلّذِي كَانَ يَأْتِي عِيسَى بن مَرْيَمَ- لِتَقْتُلَهُ؟ قَالَ عَمْرٌو: وَغَيّرَ اللهُ قَلْبِي عَمّا كُنْت عَلَيْهِ، وَقُلْت فِي نَفْسِي: عَرَفَ هَذَا الْحَقّ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَتُخَالِفُ أَنْتَ؟ قُلْت: أَتَشْهَدُ أَيّهَا الْمَلِكُ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَشْهَدُ بِهِ عِنْدَ اللهِ يَا عَمْرُو فَأَطِعْنِي وَاتّبَعَهُ، وَاَللهِ إنّهُ لَعَلَى الْحَقّ، وَلَيَظْهَرَنّ عَلَى كُلّ [ (2) ] دِينٍ خَالَفَهُ، كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. قُلْت: أَفَتُبَايِعُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فبسط يده فبايعته على الإسلام،
وَدَعَا لِي بِطَسْتٍ فَغَسَلَ عَنّي الدّمَ وَكَسَانِي ثِيَابًا، وَكَانَتْ ثِيَابِي قَدْ امْتَلَأَتْ مِنْ الدّمِ فَأَلْقَيْتهَا، ثُمّ خَرَجْت إلَى أَصْحَابِي فَلَمّا رَأَوْا كِسْوَةَ الْمَلِكِ سُرّوا بِذَلِكَ وَقَالُوا: هَلْ أَدْرَكْت مَنْ صَاحِبُك مَا أَرَدْت؟ فَقُلْت لَهُمْ: كَرِهْت أَنْ أُكَلّمَهُ فِي أَوّلِ مَرّةٍ وَقُلْت أَعُودُ إلَيْهِ. قَالُوا: الرّأْيُ مَا رَأَيْت! وَفَارَقْتهمْ كَأَنّي أَعْمِدُ لِحَاجَةٍ فَعَمِدْت إلَى مَوْضِعِ السّفُنِ، فَأَجِدُ سَفِينَةً قَدْ شُحِنَتْ بِرُقَعٍ [ (1) ] ، فَرَكِبْت مَعَهُمْ وَدَفَعُوهَا حَتّى انْتَهَوْا إلَى الشّعَيْبَةِ [ (2) ] ، وَخَرَجْت مِنْ الشّعَيْبَةِ وَمَعِي نَفَقَةٌ، فَابْتَعْت بَعِيرًا وَخَرَجْت أُرِيدُ الْمَدِينَةَ حَتّى خَرَجْت عَلَى مَرّ الظّهْرَانِ، ثُمّ مَضَيْت حَتّى كُنْت بِالْهَدّةِ، إذَا رَجُلَانِ قَدْ سَبَقَانِي بِغَيْرِ كَثِيرٍ يُرِيدَانِ مَنْزِلًا، وَأَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي خَيْمَةٍ، وَالْآخَرُ قَائِمٌ يُمْسِكُ الرّاحِلَتَيْنِ، فَنَظَرْت وَإِذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقُلْت: أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: مُحَمّدًا، دَخَلَ النّاسُ فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ بِهِ طَمَعٌ [ (3) ] ، وَاَللهِ لَوْ أَقَمْنَا لَأَخَذَ بِرِقَابِنَا كَمَا يُؤْخَذُ بِرِقْبَةِ الضّبُعِ فِي مَغَارَتِهَا. قُلْت: وَأَنَا وَاَللهِ قَدْ أَرَدْت مُحَمّدًا وَأَرَدْت الْإِسْلَامَ. وَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَرَحّبَ بِي فَنَزَلْنَا جَمِيعًا فِي الْمَنْزِلِ، ثُمّ تَرَافَقْنَا [ (4) ] حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَمَا أَنْسَى قَوْلَ رَجُلٍ لَقِينَاهُ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ يَصِيحُ: يَا رَبَاحُ! يَا رَبَاحُ! فَتَفَاءَلْنَا بِقَوْلِهِ وَسِرْنَا، ثُمّ نَظَرَ إلَيْنَا فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: قَدْ أَعْطَتْ مَكّةُ الْمَقَادَةَ بَعْدَ هَذَيْنِ! فَظَنَنْت أَنّهُ يَعْنِينِي وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمّ وَلّى مدبرا إلى المسجد سريعا
فَظَنَنْت أَنّهُ يُبَشّرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِنَا، فَكَانَ كَمَا ظَنَنْت. وَأَنَخْنَا بِالْحَرّةِ فَلَبِسْنَا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِنَا، وَنُودِيَ بِالْعَصْرِ فَانْطَلَقْنَا جَمِيعًا حَتّى طَلَعْنَا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِنّ لِوَجْهِهِ تَهَلّلًا، وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ قَدْ سُرّوا بِإِسْلَامِنَا. فَتَقَدّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَايَعَ، ثُمّ تَقَدّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَبَايَعَ، ثُمّ تقدّمت، فو الله مَا هُوَ إلّا أَنْ جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَا اسْتَطَعْت أَنْ أَرْفَعَ طَرْفِي إلَيْهِ حِيَاءً مِنْهُ، فَبَايَعْته عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَلَمْ يَحْضُرْنِي مَا تَأَخّرَ. فَقَالَ: إنّ الْإِسْلَامَ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ، والهجرة تجبّ ما كان قبلها. [قال] : فو الله مَا عَدَلَ بِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَمْرٍ حَزَبَهُ [ (1) ] مُنْذُ أَسْلَمْنَا، وَلَقَدْ كُنّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَلَقَدْ كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَكَانَ عُمَرُ عَلَى خَالِدٍ كَالْعَاتِبِ. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: فَذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي رَاشِدٌ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الثّقَفِيّ، عَنْ عَمْرٍو، نَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: فَقُلْت لِيَزِيدَ: فَلَمْ يُوَقّت لَك مَتَى قَدِمَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ؟ قَالَ: لَا، إلّا أَنّهُ قُبَيْلَ الْفَتْحِ، قُلْت: وَإِنّ أَبِي أَخْبَرَنِي أَنّ عَمْرًا، وَخَالِدًا، وَعُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، قَدِمُوا الْمَدِينَةَ لِهِلَالِ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ أبى حية، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ، حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ، فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الحارث بن هشام قال، سمعت أبى
يُحَدّثُ يَقُولُ: قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: لَمّا أَرَادَ اللهُ بِي مِنْ الْخَيْرِ مَا أَرَادَ قَذَفَ فِي قَلْبِي حُبّ الْإِسْلَامِ، وَحَضَرَنِي رُشْدِي، وَقُلْت: قَدْ شَهِدْت هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلّهَا عَلَى مُحَمّدٍ، فَلَيْسَ مَوْطِنٌ أَشْهَدُهُ إلّا أَنْصَرِفُ وَأَنَا أَرَى فِي نَفْسِي أَنّي مُوضَعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَأَنّ مُحَمّدًا سَيَظْهَرُ. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ خَرَجْت فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ بعسفان، فقمت بإزاءه وَتَعَرّضْت لَهُ، فَصَلّى بِأَصْحَابِهِ الظّهْرَ آمِنًا مِنّا، فَهَمَمْنَا [ (1) ] أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِ، ثُمّ لَمْ يَعْزِمْ لَنَا- وَكَانَتْ فِيهِ خِيرَةٌ- فَاطّلَعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنْ الْهُمُومِ فَصَلّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنّي مَوْقِعًا وَقُلْت: الرّجُلُ [ (2) ] مَمْنُوعٌ! وَافْتَرَقْنَا [ (3) ] وَعَدَلَ عَنْ سَنَنِ [ (4) ] خَيْلِنَا وَأَخَذَ ذَاتَ الْيَمِينِ، فَلَمّا صَالَحَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَدَافَعَتْهُ قُرَيْشٌ بِالرّوَاحِ [ (5) ] قُلْت فِي نَفْسِي: أَيّ شَيْءٍ بَقِيَ؟ أَيْنَ الْمَذْهَبُ إلَى النّجَاشِيّ؟ فَقَدْ اتّبَعَ مُحَمّدًا، وَأَصْحَابُهُ آمِنُونَ عِنْدَهُ، فَأَخْرُجُ إلَى هِرَقْلَ؟ فَأَخْرُجُ مِنْ دِينِي إلَى نَصْرَانِيّةٍ أَوْ يَهُودِيّةٍ، فَأُقِيمُ مَعَ عَجَمٍ تَابِعًا، أَوْ أُقِيمُ فِي دَارِي فِيمَنْ بَقِيَ؟ فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ إذْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ، فَتَغَيّبْت فَلَمْ أشهد دخوله،
وَكَانَ أَخِي الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ دَخَلَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ، فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي فَكَتَبَ إلَيّ كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، أَمّا بَعْدُ: فَإِنّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِك عَنْ الْإِسْلَامِ، وَعَقْلُك عَقْلُك! وَمِثْلُ الْإِسْلَامِ جَهِلَهُ أَحَدٌ؟ وَقَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْك فَقَالَ: أَيْنَ خَالِدٌ؟ فَقُلْت: يَأْتِي اللهُ بِهِ. فَقَالَ: مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الْإِسْلَامَ! وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجَدَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ. فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا فَاتَك، فَقَدْ فَاتَتْك مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ. قَالَ: فَلَمّا جَاءَنِي كِتَابُهُ نَشِطْت لِلْخُرُوجِ، وَزَادَنِي رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَسَرّنِي مَقَالَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ خَالِدٌ: وَأَرَى فِي النّوْمِ كَأَنّي فِي بِلَادٍ ضَيّقَةٍ جَدِيبَةٍ، فَخَرَجْت إلَى بَلَدٍ أَخَضَرَ وَاسِعٍ، فَقُلْت إنّ هَذِهِ لَرُؤْيَا. فَلَمّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ قُلْت: لَأَذْكُرَنّهَا لِأَبِي بَكْرٍ. قَالَ: فَذَكَرْتهَا فَقَالَ: هُوَ مَخْرَجُك الّذِي هَدَاك اللهُ لِلْإِسْلَامِ، وَالضّيقِ الّذِي كُنْت فِيهِ مِنْ الشّرْكِ. فَلَمّا أَجَمَعْت الْخُرُوجَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت: مَنْ أُصَاحِبُ إلَى رَسُولِ اللهِ؟ فَلَقِيت صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ فَقُلْت: يَا أَبَا وَهْبٍ، أَمّا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ إنّمَا نَحْنُ أَكَلَةُ رَأْسٍ [ (1) ] ، وَقَدْ ظَهَرَ مُحَمّدٌ عَلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَى مُحَمّدٍ فَاتّبَعْنَاهُ فَإِنّ شَرَفَ مُحَمّدٍ لَنَا شَرَفٌ. فَأَبَى أَشَدّ الْإِبَاءِ وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ غَيْرِي مِنْ قُرَيْشٍ مَا اتّبَعْته أَبَدًا. فَافْتَرَقْنَا وَقُلْت: هَذَا رَجُلٌ مَوْتُورٌ يَطْلُبُ وِتْرًا، قَدْ قُتِلَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ بِبَدْرٍ. فَلَقِيت عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فَقُلْت لَهُ مِثْلَ الّذِي قُلْت لِصَفْوَانَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا
قَالَ صَفْوَانُ، قُلْت: فَاطْوِ مَا ذَكَرْت لَك. قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ وَخَرَجْت إلَى مَنْزِلِي فَأَمَرْت بِرَاحِلَتِي تُخْرَجُ إلَيّ، فَخَرَجْت بِهَا إلَى أَنْ أَلْقَى عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَقُلْت: إنّ هَذَا لِي لَصَدِيقٌ وَلَوْ ذَكَرْت لَهُ مَا أُرِيدُ! ثُمّ ذَكَرْت مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِ فَكَرِهْت أُذَكّرُهُ، ثُمّ قُلْت: وَمَا عَلَيّ وَأَنَا رَاحِلٌ مِنْ سَاعَتِي. فَذَكَرْت لَهُ مَا صَارَ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَقُلْت: إنّمَا نَحْنُ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِي جُحْرٍ، لَوْ صُبّ عَلَيْهِ ذَنُوبٌ [ (1) ] مِنْ مَاءٍ لَخَرَجَ. قَالَ: وَقُلْت لَهُ نَحْوًا مِمّا قُلْت لِصَاحِبَيْهِ، فَأَسْرَعَ الْإِجَابَةَ وَقَالَ: لَقَدْ غَدَوْت الْيَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْدُوَ، وَهَذِهِ رَاحِلَتِي بِفَخّ [ (2) ] مُنَاخَةٌ. قَالَ: فَاتّعَدْت أَنَا وَهُوَ بِيَأْجَجَ، إنْ سَبَقَنِي أَقَامَ وَإِنْ سَبَقْته أَقَمْت عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَدْلَجْنَا سَحَرًا فَلَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ حَتّى الْتَقَيْنَا بِيَأْجَجَ، فَغَدَوْنَا حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى الْهَدّةِ، فَنَجِد عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَا فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ! فَقُلْنَا: وَبِك! قَالَ: أَيْنَ مَسِيرُكُمْ؟ قُلْنَا مَا أَخَرَجَك؟ قَالَ: فَمَا الّذِي أَخَرَجَكُمْ؟ قُلْنَا: الدّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَاتّبَاعُ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَذَلِكَ الّذِي أَقْدَمَنِي. قَالَ: فَاصْطَحَبْنَا جَمِيعًا حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَأَنَخْنَا بِظَاهِرِ [ (3) ] الْحَرّةِ رِكَابَنَا، فَأَخْبَرَ بِنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُرّ بِنَا، فَلَبِسْت مِنْ صَالِحِ ثِيَابِي، ثُمّ عَمِدْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَنِي أَخِي فَقَالَ: اسْرَعْ فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُخْبِرَ بِك فَسُرّ بِقُدُومِك وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ. فَأَسْرَعْت الْمَشْيَ فَطَلَعْت عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ يَتَبَسّمُ إلَيّ حَتّى وَقَفْت عَلَيْهِ، فَسَلّمْت عَلَيْهِ بِالنّبُوّةِ
فَرَدّ عَلَيّ السّلَامَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، فَقُلْت: إنّي أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رَسُولُ اللهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَاك! قَدْ كُنْت أَرَى لَك عَقْلًا رَجَوْت أَلّا يُسَلّمَك إلّا إلَى الْخَيْرِ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ رَأَيْت مَا كُنْت أَشْهَدُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ عَلَيْك مُعَانِدًا عَنْ الْحَقّ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَهَا لِي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: الإسلام يحبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: اللهُمّ اغْفِرْ لِخَالِدٍ كُلّ مَا أَوْضَعَ فِيهِ مِنْ صَدّ عَنْ سَبِيلِك. قَالَ خَالِدٌ: وَتَقَدّمَ عَمْرٌو، وَعُثْمَانُ، فَبَايَعَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قُدُومُنَا فى صفر سنة ثمان، فو الله مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِ أَسْلَمْت يَعْدِلُ بِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا حَزَبَهُ [ (1) ] . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: سَأَلْت عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ زهير الكعبىّ: منى كَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خُزَاعَةَ كِتَابَهُ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنّهُ كَتَبَ لَهُمْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَذَلِكَ أَنّهُ أَسْلَمَ قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بَعْدَ مُقِيمٍ عَلَى شِرْكِهِ، وَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَبْقَ مِنْ خُزَاعَةَ أَحَدٌ إلّا مُسْلِمٌ مُصَدّقٌ بِمُحَمّدٍ، قَدْ أَتَوْا بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ فِيمَنْ حَوْلَهُ قَلِيلٌ، حَتّى قَدِمَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ وَابْنَا هَوْذَةَ وَهَاجَرُوا، فَذَلِكَ حَيْثُ كَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خُزَاعَةَ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى بُدَيْلٍ، وَبِشْرٍ [ (2) ] ، وَسَرَوَاتِ بَنِي عَمْرٍو، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنّي أَحْمَدُ اللهَ إلَيْكُمْ، الله لَا إلَهَ إلّا هُوَ، أَمّا بَعْدُ، فَإِنّي لم آثم بإلّكم، ولم أضع فى
سرية أميرها غالب بن عبد الله بالكديد فى صفر سنة ثمان
جنبكم، وإنّ أكرم تهامة علىّ أسم، وَأَقْرَبُهُمْ [ (1) ] رَحَمًا أَنْتُمْ وَمَنْ تَبِعَكُمْ مِنْ الْمُطّيّبِينَ. فَإِنّي قَدْ أَخَذْت لِمَنْ قَدْ هَاجَرَ مِنْكُمْ مِثْلَ مَا أَخَذْت لِنَفْسِي- وَلَوْ هَاجَرَ بِأَرْضِهِ- غَيْرُ سَاكِنٍ مَكّةَ إلّا مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجّا، وَإِنّي لَمْ أَضَعْ فِيكُمْ إذْ سَالَمْت [ (2) ] ، وَإِنّكُمْ غَيْرُ خَائِفِينَ مِنْ قِبَلِي وَلَا مَحْصُورِينَ. أَمّا بَعْدُ: فَإِنّهُ قَدْ أَسْلَمَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ وَابْنَاهُ، وَتَابَعَا وَهَاجَرَا عَلَى مَنْ تَبِعَهُمَا مِنْ عِكْرِمَةَ، أَخَذْت لِمَنْ تَبِعَنِي مِنْكُمْ مَا آخُذُ لِنَفْسِي، وَإِنّ بَعْضَنَا مِنْ بَعْضٍ أَبَدًا فِي الْحِلّ وَالْحَرَمِ، وَإِنّنِي وَاَللهِ مَا كَذَبْتُكُمْ وَلْيُحِبّكُمْ رَبّكُمْ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ مِثْلَ ذَلِكَ. سَرِيّةُ أَمِيرِهَا غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِالْكَدِيدِ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ الله الجهنىّ، عن جندب ابن مَكِيثٍ الْجُهَنِيّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ اللّيْثِيّ أَحَدَ بَنِي كَلْبِ بْنِ عَوْفٍ، فِي سَرِيّةٍ كُنْت فِيهِمْ [ (3) ] ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ عَلَى بَنِي الْمُلَوّحِ بِالْكَدِيدِ، وَهُمْ مِنْ بَنِي لَيْثٍ. فَخَرَجْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِقُدَيْدٍ لَقِينَا الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ، فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ:
إنّمَا جِئْت أُرِيدُ الْإِسْلَامَ. فَقُلْنَا: لَا يَضُرّك رِبَاطُ لَيْلَةٍ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْإِسْلَامَ، وَإِنْ يَكُنْ غَيْرُ ذَلِكَ نَسْتَوْثِقُ مِنْك. فَشَدَدْنَاهُ وَثَاقًا، وَخَلّفْنَا عَلَيْهِ رَجُلًا مِنّا يُقَالُ لَهُ سُوَيْدُ بْنُ صَخْرٍ، وَقُلْنَا: إنْ نَازَعَك فَاحْتَزْ رَأْسَهُ. ثُمّ سِرْنَا حَتّى أَتَيْنَا الْكَدِيدَ عِنْدَ غُرُوبِ الشمس، فكمنّا ناحية الوادي، فبعثني أصحابى رَبِيئَةٍ [ (1) ] لَهُمْ، فَخَرَجْت فَأَتَيْت تَلّا مُشْرِفًا عَلَى الْحَاضِرِ [ (2) ] يُطْلِعُنِي عَلَيْهِمْ، حَتّى إذَا أَسْنَدْت فِيهِ وعلوت على رأسه انبطحت، فو الله إنّي لَأَنْظُرُ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ خِبَاءٍ لَهُ فَقَالَ [لِامْرَأَتِهِ] : وَاَللهِ إنّي لَأَرَى عَلَى هَذَا التّلّ سَوَادًا مَا رَأَيْته عَلَيْهِ صَدْرَ يَوْمِي هَذَا، فَانْظُرِي إلَى أَوْعِيَتِك لَا تَكُونُ الْكِلَابُ أَخَذْت مِنْهَا شَيْئًا. فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: وَاَللهِ مَا أَفْقِدُ مِنْ أَوْعِيَتِي شَيْئًا. فَقَالَ: نَاوِلِينِي قَوْسِي وَنَبْلِي! فَنَاوَلَتْهُ قَوْسَهُ وَسَهْمَيْنِ مَعَهَا، فأرسل سهما، فو الله مَا أَخْطَأَ بِهِ جَنْبِي، فَانْتَزَعْته فَوَضَعْته وَثَبَتَ مَكَانِي. ثُمّ رَمَانِي الْآخَرَ فَخَالَطَنِي بِهِ أَيْضًا، فَأَخَذْته فَوَضَعْته وَثَبَتَ مَكَانِي. فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاَللهِ لَوْ كَانَ زَائِلَةً [ (3) ] لَتَحَرّكَ بَعْدُ، لَقَدْ خَالَطَهُ سهماي، لا أبا لك! إذا أصبحت فاتبعيهما، لَا تَمْضُغُهُمَا الْكِلَابُ. ثُمّ دَخَلَ خِبَاءَهُ وَرَاحَتْ مَاشِيَةُ الْحَيّ مِنْ إبِلِهِمْ وَأَغْنَامِهِمْ، فَحَلَبُوا وَعَطَنُوا [ (4) ] ، فلمّا اطمأنّوا وهدأوا شَنَنّا عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ، فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَيْنَا الذّرّيّةَ، وَاسْتَقْنَا النّعَمَ وَالشّاءَ فَخَرَجْنَا نَحْدُرُهَا قِبَلَ الْمَدِينَةِ حتى مررنا بابن [ (5) ] البرصاء
سرية كعب بن عمير إلى ذات أطلاح فى شهر ربيع الأول سنة ثمان
فَاحْتَمَلْنَاهُ وَاحْتَمَلْنَا صَاحِبَنَا. وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ فِي قَوْمِهِمْ فَجَاءَنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ، وَنَظَرُوا إلَيْنَا وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الْوَادِي وَهُمْ مُوَجّهُونَ إلَيْنَا، فَجَاءَ اللهُ الْوَادِيَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ بِمَاءٍ مَلَأَ جَنْبَيْهِ، وَاَيْمُ اللهِ مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ سَحَابًا وَلَا مَطَرًا، فَجَاءَ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَجُوزُهُ، فَلَقَدْ رَأَيْتهمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إلَيْنَا وَقَدْ أَسْنَدْنَا فِي الْمُشَلّلِ [ (1) ] وَفُتْنَاهُمْ، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى طَلَبِنَا، فَمَا أَنْسَى رَجَزَ أَمِيرِنَا غَالِبٍ: أَبَى أَبُو الْقَاسِمِ أَنْ تَعَزّ بِي [ (2) ] ... وَذَاكَ قَوْلُ صَادِقٍ لَمْ يَكْذِبْ فِي خَضِلٍ [ (3) ] نَبَاتُهُ مُغْلَوْلِبِ [ (4) ] ... صُفْرٍ أَعَالِيهِ كَلَوْنِ الْمُذْهَبِ ثُمّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عُمَرَ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت مَعَهُمْ وَكُنّا بَضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، شِعَارُنَا: أَمِتْ! أَمِتْ! سَرِيّةُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ إلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيّ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا حَتّى انْتَهَوْا إلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، فَوَجَدُوا جَمْعًا من جمعهم
سرية شجاع بن وهب إلى السى من أرض بنى عامر من ناحية ركبة، فى ربيع الأول سنة ثمان، وسرية إلى خثعم بتبالة
كَثِيرًا، فَدَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَشَقُوهُمْ بِالنّبْلِ. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوهُمْ أَشَدّ الْقِتَالِ حَتّى قَتَلُوا، فَأَفْلَتْ مِنْهُمْ رَجُلٌ جَرِيحٌ فِي الْقَتْلَى، فَلَمّا بَرَدَ عَلَيْهِ اللّيْلُ تَحَامَلَ حَتّى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ بِالْبَعْثِ إلَيْهِمْ، فَبَلَغَهُ أَنّهُمْ قَدْ سَارُوا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَرَكَهُمْ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ، قَالَ: كَانَ كَعْبٌ يَكْمُنُ النّهَارَ وَيَسِيرُ اللّيْلَ حَتّى دَنَا مِنْهُمْ، فَرَآهُ عَيْنٌ لَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِقِلّةِ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءُوا عَلَى الْخُيُولِ فَقَتَلُوهُمْ. سَرِيّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ إلَى السّيّ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ مِنْ نَاحِيَةِ رُكْبَةَ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَسَرِيّةُ إلَى خَثْعَمَ بِتَبَالَةَ [ (1) ] حَدّثَنِي الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا إلَى جَمْعٍ مِنْ هَوَازِنَ بِالسّيّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ، فَكَانَ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ حَتّى صَبّحَهُمْ وَهُمْ غَارّونَ، وَقَدْ أَوْعَزَ إلَى أَصْحَابِهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَلَا يُمْعِنُوا فِي الطّلَبِ، فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرًا وَشَاءَ، فَاسْتَاقُوا ذَلِكَ كُلّهُ حَتّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ [وَاقْتَسَمُوا الْغَنِيمَةَ] [ (2) ] ، وَكَانَتْ سِهَامَهُمْ خمسة عشر بعيرا،
كُلّ رَجُلٍ، وَعَدَلُوا الْبَعِيرَ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ، وَغَابَتْ السّرِيّةُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. قَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: فَحَدّثْت هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ فَقَالَ: كَانُوا قَدْ أَصَابُوا فِي الْحَاضِرِ نِسْوَةً فَاسْتَاقُوهُنّ، وَكَانَتْ فِيهِنّ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ فَقَدِمُوا بِهَا الْمَدِينَةَ. ثُمّ قَدِمَ وَفْدُهُمْ مُسْلِمِينَ، فَلَمّا قَدِمُوا كَلّمُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السّبْيِ، فَكَلَمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعًا وَأَصْحَابَهُ فِي رَدّهِنّ، فَسَلّمُوهُنّ وَرَدّوهُنّ إلَى أَصْحَابِهِنّ. قَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: فَأَخْبَرْت شَيْخًا مِنْ الْأَنْصَارِ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَمّا الْجَارِيَةُ الْوَضِيئَةُ فَكَانَ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ قَدْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ بِثَمَنٍ فَأَصَابَهَا، فَلَمّا قَدِمَ الْوَفْدُ خَيّرَهَا، فَاخْتَارَتْ الْمَقَامَ عِنْدَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ، فَلَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَهِيَ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ. فَقُلْت لَابْنِ أَبِي سَبْرَةَ: مَا سَمِعْت أَحَدًا قَطّ يَذْكُرُ هَذِهِ السّرِيّةَ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: لَيْسَ كُلّ الْعِلْمِ سَمِعْته. قَالَ: أَجَلْ وَاَللهِ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: لَقَدْ حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سَرِيّةً أُخْرَى، قَالَ إسْحَاقُ: حَدّثَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ قُطْبَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ فِي عِشْرِينَ رَجُلًا إلَى حَيّ مِنْ خَثْعَمَ بِنَاحِيَةِ تَبَالَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَسِيرَ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغَذّ السّيْرَ. فَخَرَجُوا عَلَى عَشَرَةِ أَبْعِرَةً يَعْتَقِبُونَهَا، قَدْ غَيّبُوا السّلَاحَ، فَأَخَذُوا عَلَى الْفَتْقِ [ (1) ] حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَطْنِ مَسْحَبٍ [ (2) ] ، فَأَخَذُوا رَجُلًا فَسَأَلُوهُ
غزوة مؤتة
فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ يَصِيحُ بِالْحَاضِرِ، فَقَدّمَهُ قُطْبَةُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ ثُمّ أَقَامُوا حَتّى كَانَ سَاعَةٌ مِنْ اللّيْلِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ طَلِيعَةً فَيَجِدُ حَاضِرَ نَعَمٍ، فِيهِ النّعَمُ وَالشّاءُ، فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ يَدِبّونَ دَبِيبًا يَخَافُونَ الْحَرَسَ، حَتّى انْتَهَوْا إلَى الْحَاضِرِ وَقَدْ نَامُوا وهدأوا، فَكَبّرُوا وَشَنّوا الْغَارَةَ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ رِجَالُ الْحَاضِرِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى كَثُرَتْ الْجِرَاحُ فِي الفريقين. وأصبحوا وَجَاءَ الْخَثْعَمِيّونَ الدّهْمَ [ (1) ] ، فَحَالَ بَيْنَهُمْ سَيْلٌ أَتِيّ، فَمَا قَدَرَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَمْضِي حَتّى أَتَى قُطْبَةُ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرِ، فَأَقْبَلَ بِالنّعَمِ وَالشّاءِ [ (2) ] وَالنّسَاءِ إلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ سِهَامُهُمْ أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَالْبَعِيرُ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ الْخُمُسُ. وَكَانَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ غَزْوَةُ مُؤْتَةَ [ (3) ] حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير [ (4) ] الأزدىّ ثم أحد بنى لَهَبٍ، إلَى مَلِكِ بُصْرَى بِكِتَابٍ، فَلَمّا نَزَلَ مُؤْتَةَ عَرَضَ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسّانِيّ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الشّامَ. قَالَ: لَعَلّك مِنْ رُسُلِ مُحَمّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَأُوثِقَ رِبَاطًا، ثُمّ قَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ صَبْرًا. وَلَمْ يُقْتَلْ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه
وَسَلَّمَ رَسُولٌ غَيْرَهُ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ فَاشْتَدّ عَلَيْهِ، وَنَدَبَ النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَقْتَلِ الْحَارِثِ وَمَنْ قَتَلَهُ، فَأَسْرَعَ النّاسُ وَخَرَجُوا فَعَسْكَرُوا بِالْجَرْفِ، وَلَمْ يُبَيّنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ، فَلَمّا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظّهْرَ جَلَسَ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ، وَجَاءَ النّعْمَانُ بْنُ فُنْحُصٍ [ (1) ] الْيَهُودِيّ، فَوَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: زيد بن حَارِثَةَ أَمِيرُ النّاسِ، فَإِنْ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ رَجُلًا فَلْيَجْعَلُوهُ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ النّعْمَانُ بْنُ فُنْحُصٍ: أَبَا الْقَاسِمِ، إنْ كُنْت نَبِيّا فَسَمّيْت [ (2) ] مِنْ سَمّيْت قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا أُصِيبُوا جَمِيعًا، إنّ الْأَنْبِيَاءَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا اسْتَعْمَلُوا [ (3) ] الرّجُلَ عَلَى الْقَوْمِ ثُمّ قَالُوا إنْ أُصِيبَ فُلَانٌ، فَلَوْ سَمّى مِائَةً أُصِيبُوا جَمِيعًا. ثُمّ جَعَلَ اليهودىّ يقول لزيد ابن حَارِثَةَ: اعْهَدْ، فَلَا تَرْجِعْ إلَى مُحَمّدٍ أَبَدًا إنْ كَانَ نَبِيّا! فَقَالَ زَيْدٌ: فَأَشْهَدُ أَنّهُ نَبِيّ صَادِقٌ بَارّ. فَلَمّا أَجَمَعُوا الْمَسِيرَ وَقَدْ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لَهُمْ اللّوَاءَ وَدَفَعَهُ إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ- لِوَاءٌ أَبْيَضُ- مَشَى النّاسُ إلَى أُمَرَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَدّعُونَهُمْ وَيَدْعُونَ لَهُمْ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُوَدّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَلَمّا سَارُوا مِنْ مُعَسْكَرِهِمْ نَادَى الْمُسْلِمُونَ: دَفَعَ اللهُ عَنْكُمْ، وَرَدّكُمْ صَالِحِينَ غَانِمِينَ. قال ابن رواحة عند ذلك:
لَكِنّنِي أَسْأَلُ الرّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ [ (1) ] فَرْعٍ تَقْذِفُ الزّبَدَا [ (2) ] وَهِيَ أَبْيَاتٌ أَنْشَدَنِيهَا شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ إسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرَقْمَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَبِمَنْ مَعَكُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا. أَوْ قَالَ: اُغْزُوا بِسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللهِ، لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا، وَإِذَا لَقِيت عَدُوّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى ثَلَاثٍ، فَأَيّتُهُنّ مَا أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ، اُدْعُهُمْ إلَى الدّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ، ثُمّ اُدْعُهُمْ إلَى التّحَوّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا فِي الْقِسْمَةِ [ (3) ] شَيْءٌ إلّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِنْ أَنْتَ حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَسْتَنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلَا تَسْتَنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك، فَإِنّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا. وَإِنْ حَاصَرَتْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوك عَلَى أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمّةَ اللهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمّةَ اللهِ وَلَا ذِمّةَ رَسُولِهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمّتَك وَذِمّةَ أَبِيك وذمّة
أَصْحَابِك، فَإِنّكُمْ إنْ تَخْفِرُوا ذِمّتَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ خير لكم من أن تحفروا ذِمّةَ اللهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ. حَدّثَنِي أَبُو صَفْوَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: خَرَجَ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم مشيّعا لأهل مؤتة حتى بَلَغَ ثَنِيّةَ الْوَدَاعِ، فَوَقَفَ وَوَقَفُوا حَوْلَهُ فَقَالَ: اُغْزُوا بِسْمِ اللهِ، فَقَاتِلُوا عَدُوّ اللهِ وَعَدُوّكُمْ بِالشّامِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا رِجَالًا فِي الصّوَامِعِ [ (1) ] مُعْتَزِلِينَ لِلنّاسِ، فَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ، وَسَتَجِدُونَ آخَرِينَ لِلشّيْطَانِ، فِي رُءُوسِهِمْ مَفَاحِصَ [ (2) ] فَاقْلَعُوهَا بِالسّيُوفِ، وَلَا تَقْتُلْنَ امْرَأَةً وَلَا صَغِيرًا مُرْضِعًا وَلَا كَبِيرًا فَانِيًا، لَا تُغْرِقُنّ نَخْلًا وَلَا تَقْطَعْنَ شَجَرًا، وَلَا تَهْدِمُوا بَيْتًا. حَدّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ: لَمّا وَدّعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رَوَاحَةَ قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْنِي بِشَيْءٍ أَحْفَظْهُ عَنْك! قَالَ: إنّك قَادِمٌ غدا بدّا، السّجُودُ بِهِ قَلِيلٌ، فَأَكْثِرْ السّجُودَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: زِدْنِي يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: اُذْكُرْ اللهَ، فَإِنّهُ عَوْنٌ لَك عَلَى مَا تَطْلُبُ. فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ حَتّى إذَا مَضَى ذَاهِبًا رَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبّ الْوِتْرَ! قَالَ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، مَا عَجَزْت فَلَا تَعْجِزَنّ إنْ أَسَأْت عَشْرًا أَنْ تُحْسِنَ وَاحِدَةً. فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: لا أسألك عن شيء بعدها. قال
أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يَقُولُ: كُنْت فِي حِجْرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَلَمْ أَرَ وَالِيَ يَتِيمٍ كَانَ خَيْرًا مِنْهُ، خَرَجْت مَعَهُ فِي وَجْهِهِ إلَى مُؤْتَةَ، وَصَبّ بِي وَصَبَبْت بِهِ [ (1) ] فَكَانَ يُرْدِفُنِي خَلْفَ رَحْلِهِ، فَقَالَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بَيْنَ شُعْبَتَيْ [ (2) ] الرّحْلِ، وَهُوَ يَتَمَثّلُ أَبْيَاتَ شِعْرٍ إذَا بَلّغْتِنِي وَحَمَلْت رَحْلِي ... مَسَافَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ [ (3) ] فَزَادُك أَنْعُمٌ وَخَلَاك ذَمّ [ (4) ] ... وَلَا أَرْجِعْ [ (5) ] إلَى أَهْلِي وَرَائِي وَآبَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِي [ (6) ] ... بِأَرْضِ الشّامِ مُشْتَهَى الثّوَاءِ [ (7) ] هُنَالِكَ لَا أُبَالِي طَلْعَ نَخْلٍ ... وَلَا نَخْلٍ أَسَافِلُهَا رِوَاءِ [ (8) ] فَلَمّا سَمِعْت هَذِهِ الْأَبْيَاتَ بَكَيْت، فَخَفَقَنِي بِيَدِهِ [ (9) ] وَقَالَ: مَا يَضُرّك يَا لُكَعُ أَنْ يَرْزُقَنِي اللهُ الشّهَادَةَ فَأَسْتَرِيحَ مِنْ الدّنْيَا وَنَصَبِهَا وَهُمُومِهَا وَأَحْزَانِهَا وَأَحْدَاثِهَا. وَيَرْجِعُ بَيْنَ شُعْبَتَيْ الرّحْلِ، ثُمّ نَزَلَ نَزْلَةً مِنْ اللّيْلِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَعَاقَبَهُمَا دُعَاءً طَوِيلًا ثُمّ قَالَ لِي: يَا غُلَامُ! فَقُلْت: لَبّيْكَ! قَالَ: هِيَ إنْ شَاءَ اللهُ الشّهَادَةُ. وَمَضَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَسَمِعَ الْعَدُوّ بِمَسِيرِهِمْ عَلَيْهِمْ قبل أن
يَنْتَهُوا إلَى مَقْتَلِ الْحَارِثِ بْن عُمَيْرٍ، فَلَمّا فَصَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَدِينَةِ سَمِعَ الْعَدُوّ بِمَسِيرِهِمْ فَجَمَعُوا الْجَمُوعَ. وَقَامَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ شُرَحْبِيلُ بِالنّاسِ، وَقَدّمَ الطّلَائِعَ أَمَامَهُ، وَقَدْ نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ وَادِيَ الْقُرَى وَأَقَامُوا أَيّامًا، وَبَعَثَ أَخَاهُ سَدُوسَ وَقُتِلَ سَدُوسُ وَخَافَ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو فَتَحَصّنَ، وَبَعَثَ أَخًا لَهُ يُقَالُ لَهُ وَبْرُ بْنُ عَمْرٍو. فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ حَتّى نَزَلُوا أَرْضَ مَعَانٍ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، فَبَلَغَ النّاسُ أَنّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ فِي بَهْرَاءَ وَوَائِلٍ وَبَكْرٍ وَلَخْمٍ وَجُذَامَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَلِيّ يُقَالُ لَهُ مَالِكٌ. فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا لَيْلَتَيْنِ لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ وَقَالُوا: نَكْتُبُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَإِمّا يَرُدّنَا وَإِمّا يَزِيدُنَا رِجَالًا. فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ جَاءَهُمْ ابْنُ رَوَاحَةَ فَشَجّعَهُمْ ثُمّ قَالَ: وَاَللهِ مَا كُنّا نُقَاتِلُ النّاسَ بِكَثْرَةِ عَدَدٍ، وَلَا بِكَثْرَةِ سِلَاحٍ، وَلَا بِكَثْرَةِ خُيُولٍ، إلّا بِهَذَا الدّينِ الّذِي أَكْرَمْنَا اللهُ بِهِ. انْطَلِقُوا! [ (1) ] وَاَللهِ لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلّا فرسان، ويوم أحد فرس وَاحِدٌ، وَإِنّمَا هِيَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إمّا ظُهُورٌ عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَوَعَدَنَا نَبِيّنَا، وَلَيْسَ لِوَعْدِهِ خُلْفٌ، وَإِمّا الشّهَادَةُ فَنَلْحَقُ بِالْإِخْوَانِ نُرَافِقُهُمْ فِي الْجِنَانِ! فَشَجّعَ النّاسَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ. فَحَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هَرِيرَةَ، قَالَ: شَهِدْت مُؤْتَةَ، فَلَمّا رَأَيْنَا الْمُشْرِكِينَ رَأَيْنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ مِنْ الْعَدَدِ وَالسّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَالدّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَالذّهَبِ، فَبَرِقَ بَصَرِي، فَقَالَ لِي ثابت ابن أقرم: يَا أَبَا هَرِيرَةَ، مَا لَك؟ كَأَنّك تَرَى جَمُوعًا كَثِيرَةً. قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: تَشْهَدُنَا بِبَدْرٍ؟ إنّا لم ننصر بالكثرة!
حَدّثَنِي بُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ ابْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، وَابْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، أَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ: لَمّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَكَانَ الْأُمَرَاءُ يَوْمئِذٍ يُقَاتِلُونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، أَخَذَ اللّوَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَقَاتَلَ النّاسَ مَعَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَقُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. قَالَ ابْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، أَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَ يَوْمئِذٍ قَالَ: لَا، مَا قُتِلَ [ (1) ] إلّا طَعْنًا بِالرّمْحِ. ثُمّ أَخَذَهُ جَعْفَرٌ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَرْقَبَهَا [ (2) ] ، ثُمّ قَاتَلَ حَتّى قُتِلَ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الرّومِ فَقَطَعَهُ، نِصْفَيْنِ، فَوَقَعَ أَحَدُ نِصْفَيْهِ فِي كَرْمٍ، فَوُجِدَ فِي نِصْفِهِ ثَلَاثُونَ أَوْ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ جُرْحًا. حَدّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وُجِدَ مِمّا قُتِلَ مِنْ بَدَنِ جَعْفَرٍ مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ ضَرْبَةً بِسَيْفٍ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ. حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: وُجِدَ فِي بَدَنِ جَعْفَرٍ أَكْثَرَ مِنْ سِتّينَ جُرْحًا، وَوُجِدَ بِهِ طَعْنَةٌ قَدْ أَنْفَذَتْهُ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْجَبّارِ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْحَدِيثِ قَالَا: لَمّا الْتَقَى النّاسُ بِمُؤْتَةَ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَكَشَفَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشّامِ، فَهُوَ يَنْظُرُ إلَى مُعْتَرَكِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخَذَ الرّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فجاءه الشيطان فحبّب
إلَيْهِ الْحَيَاةَ وَكَرّهَ إلَيْهِ الْمَوْتَ وَحَبّبَ إلَيْهِ الدّنْيَا! فَقَالَ: الْآنَ حِينَ اُسْتُحْكِمَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تُحَبّبُ إلَيّ الدّنْيَا! فَمَضَى قِدْمًا حَتّى اُسْتُشْهِدَ، فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لَهُ، فَقَدْ دَخَلَ الْجَنّةَ وَهُوَ يَسْعَى! ثُمّ أَخَذَ الرّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَجَاءَهُ الشّيْطَانُ فَمَنّاهُ الْحَيَاةَ وَكَرّهَ إلَيْهِ الْمَوْتَ، وَمَنّاهُ الدّنْيَا فَقَالَ: الْآنَ حِينَ اُسْتُحْكِمَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تُمَنّينِي الدّنْيَا! ثُمّ مَضَى قِدْمًا حَتّى اُسْتُشْهِدَ، فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ، ثُمّ قَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ فَإِنّهُ شَهِيدٌ، دَخَلَ الْجَنّةَ فَهُوَ يَطِيرُ فِي الْجَنّةِ بِجَنَاحَيْنِ مِنْ يَاقُوتٍ حَيْثُ يُشَاءُ مِنْ الْجَنّةِ. ثُمّ أَخَذَ الرّايَةَ بَعْدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَاسْتُشْهِدَ وَدَخَلَ الْجَنّةَ مُعْتَرِضًا. فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْصَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَابَهُ الْجِرَاحُ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا اعْتِرَاضُهُ؟ قَالَ: لَمّا أَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ نَكَلَ، فَعَاتَبَ نَفْسَهُ فَشَجُعَ، فَاسْتُشْهِدَ فَدَخَلَ الْجَنّةَ. فَسُرّيَ عَنْ قَوْمِهِ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيّ، عَنْ أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْت جَعْفَرًا مَلِكًا يَطِيرُ فِي الْجَنّةِ تَدْمَى قَادِمَتَاهُ، وَرَأَيْت زَيْدًا دُونَ ذَلِكَ فَقُلْت: مَا كُنْت أَظُنّ أَنّ زَيْدًا دُونَ جَعْفَرٍ. فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَالَ: إنّ زَيْدًا لَيْسَ بِدُونِ جَعْفَرٍ، وَلَكِنّا فَضّلْنَا جَعْفَرًا لِقَرَابَتِهِ مِنْك. حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الْفَرَسَانِ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ الرّجّالَةِ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ. حَدّثَنِي نَافِعُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَجُلًا مِنْ
بَنِي مُرّةَ كَانَ فِي الْجَيْشِ، قِيلَ لَهُ: إنّ النّاسَ يَقُولُونَ إنّ خَالِدًا انْهَزَمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ: لَا وَاَللهِ مَا كَانَ ذَلِكَ! لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ نَظَرْت إلَى اللّوَاءِ قَدْ سَقَطَ، وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ: فَنَظَرْت إلَى اللّوَاءِ فِي يَدِ خَالِدٍ مُنْهَزِمًا، وَاتّبَعْنَاهُ فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَسْوَأَ هَزِيمَةٍ رَأَيْتهَا قَطّ. فِي كُلّ وَجْهٍ. ثُمّ إنّ الْمُسْلِمِينَ تَرَاجَعُوا. فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ ثابت بن أقرم، فَأَخَذَ اللّوَاءَ وَجَعَلَ يَصِيحُ بِالْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ النّاسُ يَثُوبُونَ إلَيْهِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ وَهُمْ قَلِيلٌ وَهُوَ يَقُولُ: إلَيّ أَيّهَا النّاسُ! فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ. قَالَ: فَنَظَرَ ثَابِتٌ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ: خُذْ اللّوَاءَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ! فَقَالَ: لَا آخُذُهُ، أَنْتَ أَحَقّ بِهِ، أَنْتَ رَجُلٌ لَك سِنّ. وَقَدْ شَهِدْت بَدْرًا. قَالَ ثَابِتٌ: خذه أيّها الرجل! فو الله مَا أَخَذْته إلّا لَك! فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَحَمَلَهُ سَاعَةً، وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ. فَثَبَتَ حَتّى تَكَرْكَرَ [ (1) ] الْمُشْرِكُونَ، وَحَمَلَ بِأَصْحَابِهِ فَفَضّ جَمْعًا مِنْ جَمْعِهِمْ، ثُمّ دَهَمَهُ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَانْحَاشَ الْمُسْلِمُونَ فَانْكَشَفُوا رَاجِعِينَ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ. عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدّثَنِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي حَضَرُوا يَوْمئِذٍ قَالُوا: لَمّا أَخَذَ اللّوَاءَ انْكَشَفَ بِالنّاسِ فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ، وَقُتِلَ الْمُسْلِمُونَ، وَاتّبَعَهُمْ الْمُشْرِكُونَ، فَجَعَلَ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَصِيحُ: يَا قَوْمِ، يُقْتَلُ الرّجُلُ مُقْبِلًا أَحْسَنُ أَنْ يُقْتَلَ مُدْبِرًا! يَصِيحُ بِأَصْحَابِهِ فَمَا يَثُوبُ إلَيْهِ أَحَدٌ، هي الهزيمة، ويتبعون صاحب الراية منهزما.
حَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ مَصْعَبٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: لَمّا أَخَذَ اللّوَاءُ ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ، فَاصْطَلَحَ النّاسُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ ثَابِتٌ: اصْطَلَحْتُمْ عَلَى خَالِدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَانْكَشَفَ بِالنّاسِ. حَدّثَنِي عَطّافُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ مَسَاءً بَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَا، وَقَدْ جَعَلَ مُقَدّمَتَهُ سَاقَتَهُ، وَسَاقَتَهُ مُقَدّمَتَهُ، وَمَيْمَنَتَهُ مَيْسَرَتَهُ، وَمَيْسَرَتَهُ مَيْمَنَتَهُ، فَأَنْكَرُوا مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ رَايَاتِهِمْ وَهَيّأَتْهُمْ وَقَالُوا: قَدْ جَاءَهُمْ مَدَدٌ! فَرُعِبُوا فَانْكَشَفُوا مُنْهَزِمِينَ، فَقُتِلُوا مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا قَوْمٌ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا أَخَذَ خَالِدٌ الرّايَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْآنَ حَمِيَ [ (1) ] الْوَطِيسُ! قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، أَنّ خَالِدًا انْهَزَمَ بِالنّاسِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ: بَلَغَتْ الدّمَاءُ بَيْنَ الْخَيْلِ مَوْضِعَ الْأَشَاعِرِ [ (2) ] مِنْ الْحَافِرِ [ (3) ] ، وَالْوَطِيسُ أَيْضًا ذَاكَ، وَإِذَا حَمِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ الدّابّةِ كَانَ أَشَدّ لِعَدُوّهَا. حَدّثَنِي دَاوُد بْنُ سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْت ثَعْلَبَةَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ يَقُولُ: انْكَشَفَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَوْمئِذٍ حَتّى عُيّرُوا بِالْفِرَارِ، وَتَشَاءَمَ النّاسُ بِهِ. حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَسّانَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالنّاسِ
مُنْهَزِمًا، فَلَمّا سَمِعَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِجَيْشِ مُؤْتَةَ قادمين تقتلوهم بِالْجَرْفِ، فَجَعَلَ النّاسُ يَحْثُونَ فِي وُجُوهِهِمْ التّرَابَ وَيَقُولُونَ: يَا فُرّارُ، أَفَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسُوا بِفُرّارٍ، وَلَكِنّهُمْ كُرّارٌ إنْ شَاءَ اللهُ! حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، يَقُولُ: مَا لَقِيَ جَيْشٌ بُعِثُوا مَعَنَا مَا لَقِيَ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَقِيَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالشّرّ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَنْصَرِفَ إلَى بَيْتِهِ وَأَهْلِهِ، فَيَدُقّ عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَيَأْبَوْنَ أَنْ يَفْتَحُوا لَهُ، يَقُولُونَ: أَلَا تَقَدّمْت مَعَ أَصْحَابِك؟ فَأَمّا مَنْ كَانَ كَبِيرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ اسْتِحْيَاءً حَتّى جَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ رَجُلًا رَجُلًا، يَقُولُ: أَنْتُمْ الْكُرّارُ فِي سَبِيلِ اللهِ! حَدّثَنِي مُصْعِبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كَانَ فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَدَخَلَتْ امْرَأَتُهُ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: مَا لِي لَا أَرَى سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ؟ آشْتَكَى شَيْئًا؟ قَالَتْ امْرَأَتُهُ: لَا وَاَللهِ، وَلَكِنّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، إذَا خَرَجَ صَاحُوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ «يَا فُرّارُ، أَفَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟» . حَتّى قَعَدَ فِي الْبَيْتِ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمّ سَلَمَةَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَلْ، هُمْ الْكُرّارُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلْيَخْرُجْ! فَخَرَج. حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هَرِيرَةَ، قَالَ: كُنّا نَخْرُجُ وَنَسْمَعُ مَا نَكْرَهُ مِنْ النّاسِ، لَقَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ عَمّ لِي كَلَامٌ، فَقَالَ: إلّا فِرَارَك يَوْمَ مُؤْتَةَ! فَمَا دُرِيت أَيّ شَيْءٍ أقول له.
حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أُمّ عِيسَى بْنِ الْحَزّارِ، عَنْ أُمّ جَعْفَرٍ بِنْتِ مُحَمّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ جَدّتِهَا أَسَمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: أَصْبَحْت فِي الْيَوْمِ الّذِي أُصِيبَ فِيهِ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ هَيّأْت أَرْبَعِينَ مِنّا [ (1) ] مِنْ أُدْمٍ [ (2) ] ، وَعَجَنْت عَجِينِي، وَأَخَذْت بَنِيّ فَغَسَلْت وُجُوهَهُمْ وَدَهَنْتهمْ؟ فَدَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أَسَمَاءُ، أَيْنَ بَنُو جَعْفَرٍ؟ فَجِئْت بِهِمْ إلَيْهِ فَضَمّهُمْ وَشَمّهُمْ، ثُمّ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَبَكَى، فَقُلْت: أَيْ رَسُولَ اللهِ، لَعَلّك بَلَغَك عَنْ جَعْفَرٍ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُتِلَ الْيَوْمَ. قَالَتْ: فَقُمْت أَصِيحُ، وَاجْتَمَعَ إلَيّ النّسَاءُ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَا أَسَمَاءُ، لَا تَقُولِي هُجْرًا [ (3) ] وَلَا تَضْرِبِي صَدْرًا! قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى دَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ وَهِيَ تَقُولُ: وا عمّاه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَلَى مِثْلِ جَعْفَرٍ فَلْتَبْكِ الْبَاكِيَةُ! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ شُغِلُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْيَوْمَ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْلَى، قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللهِ ابن جَعْفَرٍ يَقُولُ: أَنَا [ (4) ] أَحْفَظُ حِينَ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمّي فَنَعَى لَهَا أَبِي، فَأَنْظُرُ إلَيْهِ وَهُوَ يَمْسَحُ على رأسى ورأس أخى، وعيناه
تُهَرَاقَانِ الدّمُوعَ حَتّى تَقْطُرَ لِحْيَتُهُ. ثُمّ قَالَ: اللهُمّ، إنّ جَعْفَرًا قَدْ قَدِمَ إلَى أَحْسَنِ الثّوَابِ، فَاخْلُفْهُ فِي ذُرّيّتِهِ بِأَحْسَنِ مَا خَلَفْت أَحَدًا مِنْ عِبَادِك فِي ذُرّيّتِهِ! ثُمّ قَالَ: يَا أَسَمَاءُ، أَلَا أُبَشّرُك؟ قَالَتْ: بَلَى، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي! قَالَ: فَإِنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ جَعَلَ لِجَعْفَرٍ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنّةِ! قَالَتْ: بِأَبِي وَأُمّي يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَعْلَمَ النّاسَ ذَلِكَ! فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ بِيَدِي، يَمْسَحُ بِيَدِهِ رَأْسِي حَتّى رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَجْلَسَنِي أَمَامَهُ عَلَى الدّرَجَةِ السّفْلَى، وَالْحُزْنُ يُعْرَفُ عَلَيْهِ، فَتَكَلّمَ فَقَالَ: إنّ الْمَرْءَ كَثِيرٌ بِأَخِيهِ وَابْنُ عَمّهِ، أَلَا إنّ جَعْفَرًا قَدْ اُسْتُشْهِدَ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنّةِ. ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ وَأَدْخَلَنِي، وَأَمَرَ بِطَعَامٍ فَصُنِعَ لِأَهْلِي، وَأَرْسَلَ إلَى أَخِي فَتَغَدّيْنَا عِنْدَهُ وَاَللهِ غَدَاءٌ طَيّبًا مُبَارَكًا، عَمِدَتْ سَلْمَى خَادِمَتُهُ إلَى شَعِيرٍ فَطَحَنَتْهُ، ثُمّ نَسَفَتْهُ، ثُمّ أَنْضَجَتْهُ وَأَدْمَتْهُ بِزَيْتٍ، وَجَعَلَتْ عَلَيْهِ فُلْفُلًا. فَتَغَدّيْت أَنَا وَأَخِي مَعَهُ فَأَقَمْنَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ فِي بَيْتِهِ، نَدُورُ مَعَهُ كُلّمَا صَارَ فِي إحْدَى بُيُوتِ نِسَائِهِ، ثُمّ رَجَعْنَا إلَى بَيْتِنَا، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم وأنا أساوم بشاة أخى لِي، فَقَالَ: اللهُمّ بَارِكْ فِي صَفْقَتِهِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَمَا بِعْت شَيْئًا وَلَا اشْتَرَيْت إلّا بُورِكَ فِيهِ. حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمّا قَدِمَ نَعْيُ جَعْفَرٍ عَرَفْنَا فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُزْنَ. قَالَتْ: قَدِيمًا مَا ضَرّ النّاسَ التّكَلّفُ [ (1) ] ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ النّسَاءَ قَدْ عَنَيْنَنَا بِمَا يَبْكِينَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَارْجِعْ إلَيْهِنّ فَأَسْكِتْهُنّ، فَإِنْ أبين فاحث فى أفواههنّ
التّرَابَ. فَقُلْت فِي نَفْسِي: أَبْعَدَك اللهُ! مَا تَرَكْت نَفْسَك، وَمَا أَنْتَ بِمُطِيعِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَنَا أَطّلِعُ مِنْ صَيْرِ [ (1) ] الْبَاب فَأَسْمَعُ هَذَا. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أُصِيبَ بِهَا نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ أَمْتِعَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ مِمّا غَنِمُوا خَاتَمًا جَاءَ بِهِ رَجُلٌ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قَتَلْت صَاحِبَهُ يَوْمئِذٍ! فَنَفّلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيّاهُ. وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ: لَقِينَاهُمْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قُضَاعَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَصَافّونَا فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الرّومِ يَسُلّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيُغْرِي بِهِمْ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ، عَلَيْهِ سِلَاحٌ مُذَهّبٌ وَلِجَامٌ مُذَهّبٌ، فَجَعَلْت أَقُولُ فِي نَفْسِي: مِنْ هَذَا؟ وَقَدْ رَافَقَنِي رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ [ (2) ] حِمْيَرَ، فَكَانَ مَعَنَا فِي مَسِيرِنَا ذَلِكَ لَيْسَ مَعَهُ سَيْفٌ، إذْ نَحَرَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ جَزُورًا فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ، وَهَبَهُ لَهُ فَبَسَطَهُ فِي الشّمْسِ وَأَوْتَدَ عَلَى أَطْرَافِهِ أَوْتَادًا، فَلَمّا جَفّ اتّخَذَ مِنْهُ مَقْبِضًا وَجَعَلَهُ دَرَقَةً. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ الْمَدَدِيّ مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الرّومِيّ بِالْمُسْلِمِينَ كَمَنْ لَهُ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَلَمّا مَرّ بِهِ خَرَجَ عَلَيْهِ فَعَرْقَبَ فَرَسُهُ، فَقَعَدَ الْفَرَسُ عَلَى رِجْلَيْهِ وَخَرّ عَنْهُ الْعِلْجُ [ (3) ] ، وَشَدّ عَلَيْهِ فعلاه بسيفه فقتله.
ذكر من استشهد بمؤتة من بنى هاشم وغيرهم
حَدّثَنِي بُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ [ (1) ] ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَضَرْت مُؤْتَةَ، فَبَارَزْت رَجُلًا يَوْمئِذٍ فَأَصَبْته، وَعَلَيْهِ يَوْمئِذٍ بَيْضَةٌ لَهُ فِيهَا يَاقُوتَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ هَمّي إلّا الْيَاقُوتَةُ فَأَخَذْتهَا، فَلَمّا انْكَشَفْنَا وَانْهَزَمْنَا رَجَعْت بِهَا الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْت بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فنفّلنيها فبعتها زمن عمر ابن الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَيْت بِهَا حَدِيقَةَ نَخْلٍ بِبَنِي خَطْمَةَ. ذِكْرُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِمُؤْتَةَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كعب: مَسْعُودُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ. ومن بنى عامر ابن لُؤَيّ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: وَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. وَقُتِلَ من الأنصار، ثم من بنى النّجّار مِنْ بَنِي مَازِنٍ: سُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ. وَمِنْ بَنِي النّجّارِ: الْحَارِثُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ يِسَافِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ. ومن بنى الحارث بن الخزرج: عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَعُبَادَةُ بْنُ قِيسٍ. ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْمَدِينَةِ. غَزْوَةُ ذَاتِ السّلَاسِلِ [ (2) ] حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ ابْنِ رُومَانَ، وَحَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بن حزم، وحدّثنى
عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْهُ طَائِفَةٌ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لِلْحَدِيثِ مِنْ بَعْضٍ، فَجَمَعْت مَا حَدّثُونِي، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمّيْنَ قَدْ حَدّثَنِي أَيْضًا، قَالُوا: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ جَمْعًا مِنْ بَلِيّ وَقُضَاعَةَ قَدْ تَجَمّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوَا إلَى أَطْرَافِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ، وَجَعَلَ مَعَهُ رَايَةً سَوْدَاءَ، وَبَعَثَهُ فِي سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ- فِي ثَلَاثِمِائَةِ- عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمِنْ مَرّ بِهِ مِنْ الْعَرَبِ، وَهِيَ بِلَادُ بَلِيّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْن، وَذَلِكَ أَنّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ ذَا رَحِمٍ بِهِمْ، كَانَتْ أُمّ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ بَلَوِيّةً، فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلّفُهُمْ بِعَمْرٍو. فَسَارَ، وَكَانَ يَكْمُنُ النّهَارَ وَيَسِيرُ اللّيْلَ، وَكَانَتْ مَعَهُ ثَلَاثُونَ فَرَسًا، فَلَمّا دَنَا مِنْ الْقَوْمِ بَلَغَهُ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُمْ عِشَاءً وَهُمْ شَاتُونَ، فَجَمَعَ أَصْحَابُهُ الْحَطْبَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصْطَلُوا- وَهِيَ أَرْضٌ بَارِدَةٌ- فَمَنَعَهُمْ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتّى كَلّمَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ فَغَالَظَهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: أُمِرْت أَنْ تَسْمَعَ لِي وَتُطِيعَ! قَالَ: فَافْعَلْ! وَبَعَثَ رَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ الْجُهَنِيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُهُ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا وَيَسْتَمِدّهُ بِالرّجَالِ، فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَبَعَثَ مَعَهُ سَرَاةَ الْمُهَاجِرِينَ- أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَالْأَنْصَارَ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْحَقَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي مِائَتَيْنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا وَلَا يَخْتَلِفَا. فَسَارُوا حَتّى لَحِقُوا
بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَؤُمّ النّاسَ وَيَتَقَدّمَ عَمْرًا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: إنّمَا قَدِمْت عَلَيّ مَدَدًا لِي، وَلَيْسَ لَك أَنْ تَؤُمّنِي، وَأَنَا الْأَمِيرُ، وَإِنّمَا أَرْسَلَك النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيّ مَدَدًا. فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: كَلّا، بَلْ أَنْتَ أَمِيرُ أَصْحَابِك وَهُوَ أَمِيرُ أَصْحَابِهِ! فَقَالَ عَمْرٌو: لَا، بَلْ أَنْتُمْ مَدَدٌ لَنَا! فَلَمّا رَأَى أَبُو عُبَيْدَةَ الِاخْتِلَافَ- وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، لَيّنَ الشّيمَةِ- قَالَ: لِتَطْمَئِنّ يَا عَمْرُو، وَتَعْلَمَنّ أَنّ آخِرَ مَا عَهِدَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ: «إذَا قَدِمْت عَلَى صَاحِبِك فَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» . وَإِنّك وَاَللهِ إنْ عَصَيْتنِي لَأُطِيعَنّكَ! فَأَطَاعَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَكَانَ عَمْرٌو يُصَلّي بِالنّاسِ. فَآبَ إلَى عَمْرٍو جَمَعَ- فَصَارُوا خَمْسَمِائَةِ- فَسَارَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ حَتّى وَطِئَ بِلَادَ بَلِيّ وَدَوّخَهَا [ (1) ] ، وَكُلّمَا انْتَهَى إلَى مَوْضِعٍ بَلَغَهُ أَنّهُ كَانَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ جَمَعَ فَلَمّا سَمِعُوا بِهِ تَفَرّقُوا، حَتّى انْتَهَى إلَى أَقْصَى بِلَادِ بَلِيّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْن، وَلَقِيَ فِي آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ، فَقَاتَلُوا سَاعَةً وَتَرَامَوْا بِالنّبْلِ، وَرُمِيَ يَوْمئِذٍ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ [ (2) ] بِسَهْمٍ فَأُصِيبَ ذِرَاعُهُ. وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَهَرَبُوا، وَأَعْجَزُوا هَرَبًا فِي الْبِلَادِ وَتَفَرّقُوا، وَدَوّخَ عَمْرٌو مَا هُنَاكَ وَأَقَامَ أَيّامًا لَا يَسْمَعُ لَهُمْ بِجَمْعٍ وَلَا بِمَكَانٍ صَارُوا فِيهِ، وَكَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَ الْخَيْلِ فَيَأْتُونَ بِالشّاءِ وَالنّعَمِ، وَكَانُوا يَنْحَرُونَ وَيَذْبَحُونَ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنْ غَنَائِمُ تُقْسَمُ إلّا مَا ذُكِرَ لَهُ. وَكَانَ رَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ الطّائِيّ يَقُولُ: كُنْت فِيمَنْ نفر مع أبى عبيدة ابن الْجَرّاحِ، وَكُنْت رَجُلًا أُغِيرُ فِي الْجَاهِلِيّةِ عَلَى أموال الناس، فكنت
أَجْمَعُ الْمَاءَ فِي الْبَيْضِ- بَيْضِ النّعَامِ- فَأَجْعَلُهُ فِي أَمَاكِنَ أَعْرِفُهَا، فَإِذَا مَرَرْت بِهَا وَقَدْ ظَمِئْت اسْتَخْرَجْتهَا فَشَرِبْت مِنْهَا. فَلَمّا نَفَرْت فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ قُلْت: وَاَللهِ لَأَخْتَارَنّ لِنَفْسِي صَاحِبًا يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ. فَاخْتَرْت أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ فَصَحِبْته، وَكَانَتْ لَهُ عَبَاءَةٌ فَدَكِيّةٌ [ (1) ] ، فَإِذَا رَكِبَ خَلّهَا [ (2) ] عَلَيْهِ بِخِلَالٍ، وَإِذَا نَزَلْنَا بَسَطَهَا. فَلَمّا قَفَلْنَا قُلْت: يَا أَبَا بَكْرٍ، رَحِمَك اللهُ! عَلّمْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ. قَالَ: قَدْ كُنْت فَاعِلًا وَلَوْ لَمْ تَسْأَلْنِي، لَا تُشْرِكْ بِاَللهِ، وَأَقِمْ الصّلَاةَ، وَآتِ الزّكَاةَ، وَصُمْ رَمَضَانَ، وَحُجّ الْبَيْتَ وَاعْتَمِرْ، وَلَا تَتَأَمّرْ [ (3) ] عَلَى اثْنَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: قُلْت: أَمّا مَا أَمَرْتنِي بِهِ مِنْ الصّلَاةِ وَالصّوْمِ وَالْحَجّ فَأَنَا فَاعِلُهُ، وَأَمّا الْإِمَارَةُ فَإِنّي رَأَيْت النّاسَ لَا يُصِيبُونَ هَذَا الشّرَفَ وَهَذَا الْغِنَى وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ النّاسِ إلّا بِهَا. قَالَ: إنّك اسْتَنْصَحْتنِي فَجَهَدْت لَك نَفْسِي، إنّ النّاسَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ طَوْعًا وَكَرْهًا فَأَجَارَهُمْ [ (4) ] اللهُ مِنْ الظّلْمِ، وَهُمْ عُوّادُ اللهِ وَجِيرَانُ اللهِ، وَفِي أَمَانَتِهِ، فَمَنْ أَخْفَرَ فَإِنّمَا يُخْفِرُ اللهُ فِي جِيرَانِهِ، وَإِنّ شَاةَ أَحَدِكُمْ أَوْ بَعِيرَهُ لِيَذْهَبَ فَيَظِلّ نَاتِئًا [ (5) ] عَضَلَهُ غَضَبًا لِجَارِهِ، وَاَللهُ مِنْ وَرَاءِ جَارِهِ. قَالَ: فَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جِئْته فَقُلْت: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَمْ تَنْهَنِي أَنْ أَتَأَمّرَ عَلَى اثْنَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ! قَالَ: فَمَا لَك تَأَمّرْت عَلَى أُمّةِ مُحَمّدٍ؟ قَالَ: اخْتَلَفَ النّاسُ وَخَشِيت
عَلَيْهِمْ الْهَلَاكَ، وَدَعَوْا إلَيّ فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ بُدّا. قَالَ: وَكَانَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ رَفِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَعَهُمَا فِي رَحْلِهِمَا، فَخَرَجَ عَوْفٌ يَوْمًا فِي الْعَسْكَرِ فَمَرّ بِقَوْمٍ بِأَيْدِيهِمْ جَزُورٌ قَدْ عَجَزُوا عَنْ عَمَلِهَا، فَكَانَ عَوْفٌ عَالِمًا بِالْجُزُرِ فَقَالَ: أتعطونى عَلَيْهَا وَأَقْسِمُهَا بَيْنَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ نُعْطِيك عَشِيرًا مِنْهَا. فَنَحَرَهَا ثُمّ جَزّأَهَا بَيْنَهُمْ، وَأَعْطَوْهُ مِنْهَا جزأ فَأَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ أَصْحَابَهُ، فَطَبَخُوهُ وَأَكَلُوا مِنْهُ. فَلَمّا فَرَغُوا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا اللّحْمُ؟ فَأَخْبَرَهُمَا فَقَالَا: وَاَللهِ مَا أَحْسَنْت حِينَ أَطْعَمْتنَا هَذَا. ثُمّ قَامَا يَتَقَيّآنِ، فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَعَلَ ذَلِكَ الْجَيْشُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لِعَوْفٍ: تَعَجّلْت أَجْرَك! ثُمّ أَتَى أَبَا عُبَيْدَةَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ قَفَلْنَا احْتَلَمَ فِي لَيْلَة بَارِدَةٍ كَأَشَدّ مَا يَكُونُ مِنْ الْبَرْدِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ؟ قَدْ وَاَللهِ احْتَلَمْت، وَإِنْ اغْتَسَلْت مُتّ! فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضّأَ وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَتَيَمّمَ، ثُمّ قَامَ فَصَلّى بِهِمْ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَعَثَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ بَرِيدًا. قَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: فَقَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السّحَرِ وَهُوَ يُصَلّي فِي بَيْتِهِ، فَسَلّمْت عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ؟ قُلْت: عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: صَاحِبُ الْجَزُورِ؟ قُلْت: نَعَمْ. وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئًا، ثُمّ قَالَ: أَخْبِرْنِي! فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ فِي مَسِيرِنَا وَمَا كَانَ بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُطَاوَعَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ! ثُمّ أَخْبَرْته أَنّ عَمْرًا صَلّى بنا وهو
سرية الخبط [ (2) ] أميرها أبو عبيدة
جُنُبٌ وَمَعَهُ مَاءٌ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ غَسَلَ فَرْجَهُ بِمَاءٍ وَتَيَمّمَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا قَدِمَ عَمْرٌو عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اغْتَسَلْت لَمُتّ، لَمْ أَجِد قَطّ بَرْدًا مِثْلَهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. [ (1) ] فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنّهُ قَالَ شَيْئًا سَرِيّةُ الْخَبَطِ [ (2) ] أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي دَاوُد بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمّدٍ الْأَنْصَارِيّ مِنْ وَلَدِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَبَعْضُهُمْ قَدْ زَادَ فِي الْحَدِيثِ، قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ فِي سَرِيّةٍ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، إلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى حَيّ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَصَابَهُمْ جَوْعٌ شَدِيدٌ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالزّادِ فَجَمَعَ حَتّى إذَا كَانُوا لَيَقْتَسِمُونَ التّمْرَةَ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: فَمَا يُغْنِي ثُلُثُ تَمْرَةٍ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدُوا فَقْدَهَا. قَالَ: وَلَمْ تَكُنْ مَعَهُمْ حَمُولَةٌ [ (3) ] ، إنّمَا كَانُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَأَبَاعِرَ يَحْمِلُونَ عَلَيْهَا زَادَهُمْ. فَأَكَلُوا الْخَبَطَ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ذُو مَشْرَةٍ [ (4) ] ، حَتّى إنّ شِدْقَ أَحَدِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مِشْفَر الْبَعِيرِ العضّة، فمكثنا على ذلك حتى قال
قَائِلُهُمْ: لَوْ لَقِينَا عَدُوّا مَا كَانَ بِنَا حَرَكَةٌ إلَيْهِ، لِمَا بِالنّاسِ مِنْ الْجَهْدِ. فَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: مَنْ يَشْتَرِي مِنّي تَمْرًا بجزر، يوفيني الجزر هاهنا وأو فيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول: وا عجباه لِهَذَا الْغُلَامِ، لَا مَالَ لَهُ يُدَانُ فِي مَالِ غَيْرِهِ! فَوَجَدَ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: بِعْنِي جُزُرًا وَأُوَفّيك سِقَةً [ (1) ] مِنْ تَمْرِ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ الْجُهَنِيّ: وَاَللهِ مَا أَعْرِفُك، وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ [ (2) ] . قَالَ الْجُهَنِيّ: مَا أَعَرَفْتنِي بِنَسَبِك! أَمّا إنّ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ خُلّةً، سَيّدُ أَهْلِ يَثْرِبَ. فَابْتَاعَ مِنْهُمْ خَمْسَ جُزُرٍ كُلّ جَزُورٍ بِوَسْقَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، يَشْرِطُ عَلَيْهِ الْبَدَوِيّ، تَمْرٍ ذَخِيرَةٍ مُصَلّبَةٍ [ (3) ] مِنْ تَمْرِ آلِ دُلَيْمٍ. قَالَ: يَقُولُ قَيْسٌ: نَعَمْ. فَقَالَ الْجُهَنِيّ: فَأَشْهِدْ لِي. فَأَشْهَدَ لَهُ نَفَرًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَمَعَهُمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ قَيْسٌ: أَشْهِدْ مَنْ تُحِبّ. فَكَانَ فِيمَنْ أَشْهَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَشْهَدُ! هَذَا يُدَانُ وَلَا مَالَ لَهُ، إنّمَا الْمَالُ لِأَبِيهِ. قَالَ الْجُهَنِيّ: وَاَللهِ، مَا كَانَ سَعْدٌ لِيَخُنّي [ (4) ] بِابْنِهِ فِي سِقَةٍ مِنْ تَمْرٍ! وَأَرَى وَجْهًا حَسَنًا وَفَعَالًا شَرِيفًا. فَكَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَبَيْنَ قَيْسٍ كَلَامٌ حَتّى أَغْلَظَ لَهُ قَيْسٌ الْكَلَامَ، وَأَخَذَ قَيْسٌ الْجُزُرَ فَنَحَرَهَا لَهُمْ فِي مَوَاطِنَ ثَلَاثَةٍ، كُلّ يَوْمِ جَزُورًا، فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الرّابِعُ نَهَاهُ أَمِيرُهُ وَقَالَ: تُرِيدُ أَنْ تُخْفِرَ [ (5) ] ذِمّتَك وَلَا مَالَ لَك؟ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ وَمَعَهُ عُمَرُ بن الخطّاب رضى الله عنهم فقال:
عَزَمْت عَلَيْك أَلّا تَنْحَرَ، أَتُرِيدُ أَنْ تُخْفِرَ ذِمّتَك وَلَا مَالَ لَك؟ فَقَالَ قَيْسٌ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، أَتَرَى أَبَا ثَابِتٍ وَهُوَ يَقْضِي دَيْنَ النّاسِ، وَيَحْمِلُ الْكُلّ [ (1) ] ، وَيُطْعِمُ فِي الْمَجَاعَةِ، لَا يَقْضِي سِقَةَ تَمْرٍ لِقَوْمٍ مُجَاهَدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ! فَكَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَلِينَ لَهُ وَيَتْرُكُهُ حَتّى جَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: اعْزِمْ عَلَيْهِ! فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ. فَبَقِيت جَزُورَانِ مَعَهُ حَتّى وَجَدَ الْقَوْمُ الْحُوتَ، فَقَدِمَ بِهِمَا قَيْسٌ الْمَدِينَةَ ظُهْرًا يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَبَلَغَ سَعْدٌ مَا كَانَ أَصَابَ الْقَوْمُ مِنْ الْمَجَاعَةِ فَقَالَ: إنْ يَكُنْ قَيْسٌ كَمَا أَعْرِفُهُ فَسَوْفَ يَنْحَرُ لِلْقَوْمِ. فَلَمّا قَدِمَ قَيْسٌ لَقِيَهُ سَعْدٌ فَقَالَ: مَا صَنَعْت فِي مَجَاعَةِ الْقَوْمِ حَيْثُ أَصَابَهُمْ؟ قَالَ: نَحَرْت. قَالَ: أَصَبْت، انْحَرْ! قَالَ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: نَحَرْت. قَالَ: أَصَبْت! قَالَ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمّ نَحَرْت. قَالَ أَصَبْت، انْحَرْ! قَالَ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: نَهَيْت. قَالَ: وَمَنْ نَهَاك؟ قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ أَمِيرِي. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنّهُ لَا مَالَ لِي وَإِنّمَا الْمَالُ لِأَبِيك، فَقُلْت: أَبِي يَقْضِي عَنْ الْأَبَاعِدِ، وَيَحْمِلُ الْكُلّ [ (1) ] ، وَيُطْعِمُ فِي الْمَجَاعَةِ، وَلَا يَصْنَعُ هَذَا بِي! قَالَ: فَلَك أَرْبَعُ حَوَائِطَ [ (2) ] . قَالَ: وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا. قَالَ: وَأَتَى بِالْكِتَابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَشَهِدَ فِيهِ، وَأَتَى عُمَرُ فَأَبَى أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ- وَأَدْنَى حَائِطٍ مِنْهَا يَجُذّ خَمْسِينَ وَسْقًا. وَقَدِمَ الْبَدَوِيّ مَعَ قَيْسٍ فَأَوْفَاهُ سِقَتَهُ وَحَمّلَهُ وَكَسَاهُ، فَبَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُ قَيْسٍ فَقَالَ: إنّهُ فِي بَيْتِ جُودٍ. حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كيسان، عن جابر بن عبد الله،
سرية خضرة، أميرها أبو قتادة فى شعبان سنة ثمان
فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا مِثْلَ الظّرِبِ [ (1) ] ، فَأَكَلَ الْجَيْشُ مِنْهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَ، ثُمّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرَحَلَتْ، ثُمّ مَرّ تَحْتَهَا فَلَمْ يُصِبْهَا. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَجْلِسُ فِي وَقْبِ [ (2) ] عَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الرّاكِبُ لَيَمُرّ بَيْنَ ضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحِجَازِيّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شُجَاعٍ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ الْأَعْرَابِيّ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: يَا أَبَا ثَابِتٍ! وَاَللهِ، مَا مِثْلُ ابْنِك صَنَعْت وَلَا تَرَكْت بِغَيْرِ مَالٍ، فَابْنُك سَيّدٌ مِنْ سَادَةِ قَوْمِهِ، نَهَانِي الْأَمِيرُ أَنْ أَبِيعَهُ. قُلْت: لِمَ؟ قَالَ: لَا مَالَ لَهُ! فَلَمّا انْتَسَبَ إلَيْك عَرَفْته فَتَقَدّمْت لِمَا عَرَفْت أَنّك تَسْمُو عَلَى مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَجَسِيمِهَا، وَأَنّك غَيْرُ مُذِمّ بِمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ لَدَيْك. قَالَ: فَأَعْطَى ابْنَهُ يَوْمئِذٍ أَمْوَالًا عِظَامًا. سَرِيّةُ خَضِرَةَ، أَمِيرُهَا أَبُو قَتَادَةَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ [ (3) ] الْأَسْلَمِيّ: تزوّجت ابنة سراقة بن حارثة اللّجّارىّ وَكَانَ قُتِلَ بِبَدْرٍ، فَلَمْ أُصِبْ شَيْئًا مِنْ الدّنْيَا كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ مَكَانِهَا، فَأَصْدَقْتهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَسُوقُهُ إلَيْهَا فقلت:
عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ الْمِعْوَلُ. فَجِئْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته، فَقَالَ: كَمْ سُقْت إلَيْهَا! قُلْت: مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمْ تَغْتَرِفُونَهُ مِنْ نَاحِيَةَ بَطِحَانَ [ (1) ] مَا زِدْتُمْ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْنِي فِي صَدَاقِهَا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا وَافَقَتْ عِنْدَنَا شَيْئًا أُعِينُك بِهِ، وَلَكِنّي قَدْ أَجَمَعْت أَنْ أَبَعَثَ أَبَا قَتَادَةَ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا [فِي سَرِيّةٍ] ، فَهَلْ لَك أَنْ تَخْرُجَ فِيهَا؟ فَإِنّي أَرْجُو أَنْ يُغْنِمَك اللهُ مَهْرَ امْرَأَتِك. فَقُلْت: نَعَمْ. فَخَرَجْنَا فَكُنّا سِتّةَ عَشَرَ رَجُلًا بِأَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ أَمِيرُنَا، وَبَعَثَنَا إلَى غَطَفَان نَحْوَ نَجْدٍ فَقَالَ: سِيرُوا اللّيْلَ وَاكْمُنُوا النّهَارَ، وَشُنّوا الْغَارَةَ، وَلَا تَقْتُلُوا النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ. فَخَرَجْنَا حَتّى جِئْنَا نَاحِيَةَ غَطَفَان، فَهَجَمْنَا عَلَى حَاضِرٍ مِنْهُمْ عَظِيمٍ. قَالَ: وَخَطَبَنَا أَبُو قَتَادَةَ وَأَوْصَانَا بِتَقْوَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَأَلّفَ بَيْنَ كُلّ رَجُلَيْنِ وَقَالَ: لَا يُفَارِقُ كُلّ رَجُلٍ زَمِيلَهُ حَتّى يُقْتَلَ أَوْ يَرْجِعَ إلَيّ فَيُخْبِرُنِي خَبَرَهُ، وَلَا يَأْتِنِي رَجُلٌ فَأَسْأَلُ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَقُولُ، لَا عِلْمَ لِي بِهِ! وَإِذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا، وَإِذَا حَمَلْت فَاحْمِلُوا، وَلَا تُمْعِنُوا فِي الطّلَبِ. فَأَحَطْنَا بِالْحَاضِرِ فَسَمِعْت رَجُلًا يَصْرُخُ: يَا خَضِرَةَ! فَتَفَاءَلَتْ وَقُلْت: لَأُصِيبَنّ خَيْرًا وَلَأَجْمَعَنّ إلَيّ امْرَأَتِي! وَقَدْ أَتَيْنَاهُمْ لَيْلًا. قَالَ: فَجَرّدَ أَبُو قَتَادَةَ سَيْفَهُ وَجَرّدْنَا سُيُوفَنَا، وَكَبّرَ وَكَبّرْنَا مَعَهُ، فَشَدَدْنَا عَلَى الْحَاضِرِ فَقَاتَلَ رِجَالٌ، وَإِذَا بِرَجُلٍ طَوِيلٍ قَدْ جَرّدَ سَيْفَهُ صَلْتًا، وَهُوَ يَمْشِي الْقَهْقَرَى وَيَقُولُ: يَا مُسْلِمُ، هَلُمّ إلَى الْجَنّةِ! فَاتّبَعْته ثُمّ قَالَ: إنّ صَاحِبَكُمْ لَذُو مَكِيدَةٍ، وَإِنّ أَمْرَهُ هُوَ الْأَمْرُ. وَهُوَ يَقُولُ: الْجَنّةَ! الْجَنّةَ! يَتَهَكّمُ بِنَا. فَعَرَفْت أَنّهُ مستقبل فخرجت فى أثره، فينادينى صَاحِبِي: لَا تَبْعُدْ، فَقَدْ نَهَانَا أَمِيرُنَا أَنْ نمعن فى الطلب! فأدركته فرميته على
جُرَيْدَاءِ مَتْنِهِ [ (1) ] ، ثُمّ قَالَ: اُدْنُ يَا مُسْلِمُ إلَى الْجَنّةِ! فَرَمَيْته حَتّى قَتَلْته بِنَبْلِي، ثُمّ وَقَعَ مَيّتًا فَأَخَذْت سَيْفَهُ. وَجَعَلَ زَمِيلِي يُنَادِي: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ إنّي وَاَللهِ إنْ ذَهَبْت إلَى أَبِي قَتَادَةَ فَسَأَلَنِي عَنْك أَخْبَرْته. قَالَ: فَلَقِيته قَبْلَ أَبِي قَتَادَةَ فَقُلْت: أَسَأَلَ أَمِيرِي عَنّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَقَدْ تَغَيّظَ عَلَيّ وَعَلَيْك. وَأَخْبَرَنِي أَنّهُمْ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ- وَقَتَلُوا مَنْ أَشْرَفَ لَهُمْ- فَجِئْت أَبَا قَتَادَةَ فَلَامَنِي فَقُلْت: قَتَلْت رَجُلًا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَخْبَرْته بِقَوْلِهِ كُلّهِ. ثُمّ اسْتَقْنَا النّعَمَ، وَحَمَلْنَا النّسَاءَ، وَجُفُونُ السّيُوفِ مُعَلّقَةٌ بِالْأَقْتَابِ [ (2) ] . فَأَصْبَحْت- وَبَعِيرِي مَقْطُورٌ [ (3) ]- بِامْرَأَةٍ كَأَنّهَا ظَبْيٌ، فَجَعَلَتْ تُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ خَلْفَهَا وَتَبْكِي، قُلْت: إلَى أَيّ شَيْءٍ تَنْظُرِينَ؟ قَالَتْ: أَنْظُرُ وَاَللهِ إلَى رَجُلٍ لَئِنْ كَانَ حَيّا لِيَسْتَنْقِذَنَا مِنْكُمْ. فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنّهُ الّذِي قَتَلْته فَقُلْت: قَدْ وَاَللهِ قَتَلْته، وَهَذَا سَيْفُهُ مُعَلّقٌ بِالْقَتَبِ إلَى غِمْدِهِ، فَقَالَتْ: هَذَا وَاَللهِ غِمْدُ سيفه، فشمه [ (4) ] إن كنت صَادِقًا. قَالَ: فَشِمْته فَطَبَقَ [ (5) ] . قَالَ: فَبَكَتْ وَيَئِسَتْ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: فَقَدِمْنَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّعَمِ وَالشّاءِ. فَحَدّثَنِي أَبُو مَوْدُودٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بن أبي حدرد [ (6) ] ، عن أبيه، قال: لَمّا رَجَعْت مِنْ غَزْوَةِ خَضِرَةَ وَقَدْ أَصَبْنَا فيئا، سهم كلّ رجل
شأن غزوة الفتح
اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا، دَخَلْت بِزَوْجَتِي فَرَزَقَنِي اللهُ خَيْرًا. وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: غَابُوا خَمْسَ عَشَرَةَ لَيْلَةً، وَجَاءُوا بِمِائَتِي بَعِيرٍ وَأَلْفِ شَاةٍ، وَسَبَوْا سَبْيًا كَثِيرًا. وَكَانَ الْخُمُسُ مَعْزُولًا، وَكَانَ سُهْمَانُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، يَعْدِلُ الْبَعِيرَ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ. حَدّثَنِي ابْن أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه، قَالَ: أَصَبْنَا فِي وَجْهِنَا أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، فِيهِنّ فَتَاةٌ كَأَنّهَا ظَبْيٌ، مِنْ الْحَدَاثَةِ وَالْحَلَاوَةِ شَيْءٌ عَجَبٌ، وَأَطْفَالٌ مِنْ غِلْمَانٍ وَجِوَارٍ، فَاقْتَسَمُوا السّبْيَ وَصَارَتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ الْوَضِيئَةُ لِأَبِي قَتَادَةَ. فَجَاءَ مَحْمِيَةُ بْنُ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَبَا قَتَادَةَ قَدْ أَصَابَ فِي وَجْهِهِ هَذَا جَارِيَةً وَضِيئَةً، وَقَدْ كُنْت وَعَدْتنِي جَارِيَةً مِنْ أَوّلِ فَيْءٍ يَفِيءُ اللهُ عَلَيْك. قَالَ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَبِي قَتَادَةَ فَقَالَ: مَا جَارِيَةٌ صَارَتْ فِي سَهْمِك؟ قَالَ: جَارِيَةٌ مِنْ السّبْيِ هِيَ أَوْضَأُ ذَلِكَ السّبْيِ، أَخَذْتهَا لِنَفْسِي بَعْدَ أَنْ أَخْرَجْنَا الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ. قَالَ: هَبْهَا لِي. فَقَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَهَا إلَى مَحْمِيَةَ بْنِ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ. شَأْنُ غَزْوَةِ الْفَتْحِ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، ومحمد بن يحيى بن سهل،
وَابْنُ أَبِي حَثْمَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ، وَنَجِيحٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَحِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ حَدِيثِ الْفَتْحِ بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هَؤُلَاءِ قَدْ حَدّثَنِي أَيْضًا، فَكَتَبْت كُلّ مَا سَمِعْت مِنْهُمْ، قَالُوا: كَانَتْ خُزَاعَةُ فِي الْجَاهِلِيّةِ قَدْ أَصَابُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ أَخَذُوا مَالَهُ، فَمَرّ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ عَلَى بَنِي الدّيلِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلُوهُ، فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَمَرّ بَنُو الْأَسْوَدِ بْنُ رِزْنٍ- ذُؤَيْبٌ، وَسَلْمَى، وَكُلْثُومٌ- عَلَى خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَة عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ. وَكَانَ قَوْمُ الْأَسْوَدِ يُؤَدّونَ فِي الْجَاهِلِيّةِ دِيَتَيْنِ بِفَضْلِهِمْ فِي بَنِي بَكْرٍ، فَتَجَاوَزُوا وَكَفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ أَجْلِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، إلّا أَنّهُ قَدْ دَخَلَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَأَمْسَكُوا، فَلَمّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ دَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِهِ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ حُلَفَاءَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارِفًا، وَلَقَدْ جَاءَتْهُ يَوْمئِذٍ خُزَاعَةُ بِكِتَابٍ عَبْدَ الْمُطّلِبِ فَقَرَأَهُ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهُوَ «بِاسْمِك اللهُمّ، هَذَا حِلْفُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ لِخُزَاعَةَ، إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ سَرَاتُهُمْ وَأَهْلُ الرّأْيِ، غَائِبُهُمْ مُقِرّ بِمَا قَضَى عَلَيْهِ شَاهِدُهُمْ. إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ عُهُودَ اللهِ وَعُقُودَهُ، مَا لَا يَنْسَى [ (1) ] أَبَدًا، وَلَا يَأْتِي بِلَدّ [ (2) ] ، الْيَدُ واحدة والنصر واحد، ما أشرف ثَبِيرٌ، وَثَبَتَ حِرَاءٌ، وَمَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً [ (3) ] ، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلّا
تَجَدّدًا أَبَدًا أَبَدًا، الدّهْرَ سَرْمَدًا» . فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ: مَا أَعْرِفُنِي بِحِلْفِكُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَسْلَمْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْحِلْفِ! فَكُلّ حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إلّا شِدّةً، وَلَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ. وَجَاءَتْهُ أَسْلَمُ وَهُوَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ [ (1) ] ، جَاءَ بِهِمْ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ أَسْلَمُ وَهَذِهِ مَحَالّهَا، وَقَدْ هَاجَرَ إلَيْك مَنْ هَاجَرَ مِنْهَا وَبَقِيَ قَوْمٌ مِنْهُمْ فِي مَوَاشِيهِمْ وَمَعَاشِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ. وَدَعَا الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ: «هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ لِأَسْلَمَ، لِمَنْ آمِنْ مِنْهُمْ بِاَللهِ، وَشَهِدَ أَنّهُ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنّهُ آمَنَ بِأَمَانِ اللهِ، وَلَهُ ذِمّةُ اللهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ. وَإِنّ أَمَرْنَا وَأَمْرَكُمْ وَاحِدٌ عَلَى مَنْ دَهَمَنَا مِنْ النّاسِ بِظُلْمٍ، الْيَدُ وَاحِدَةٌ وَالنّصْرُ وَاحِدٌ، وَلِأَهْلِ بَادِيَتِهِمْ مِثْلُ مَا لِأَهْلِ قَرَارِهِمْ، وَهُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كَانُوا» . وَكَتَبَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نِعْمَ الرّجُلُ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ لِقَوْمِهِ، عَظِيمُ الْبَرَكَةِ عَلَيْهِمْ، مَرَرْنَا بِهِ لَيْلَةً، مَرَرْنَا وَنَحْنُ مُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ أَسْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الرّجُلُ بُرَيْدَة لِقَوْمِهِ وَغَيْرِ قَوْمِهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، إنّ خَيْرَ الْقَوْمِ مَنْ كَانَ مُدَافِعًا عَنْ قَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِنّ الْإِثْمَ لَا خَيْرَ [فِيهِ] . حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ مِحْجَنِ بْنِ وَهْبٍ [ (2) ] ، قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا كَانَ بَيْنَ خُزَاعَةَ وَبَيْنَ كِنَانَةَ أَنّ أَنَسَ بْنَ زُنَيْمٍ الدّيلِيّ هَجَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَهُ غُلَامٌ مِنْ خُزَاعَةَ فوقع به فشجّه، فخرج
إلَى قَوْمِهِ فَأَرَاهُمْ شَجّتَهُ فَثَارَ الشّرّ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ، وَمَا تَطْلُبُ بَنُو بَكْرٍ مِنْ خُزَاعَةَ مِنْ دِمَائِهَا. فَلَمّا دَخَلَ شَعْبَانُ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ تَكَلّمَتْ بَنُو نُفَاثَةَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ- وَاعْتَزَلَتْ بَنُو مُدْلِجٍ فَلَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ- أَنْ يُعِينُوا بِالرّجَالِ وَالسّلَاحِ عَلَى عَدُوّهِمْ مِنْ خُزَاعَةَ، وَذَكَرُوهُمْ الْقَتْلَى الّذِينَ أَصَابَتْ خُزَاعَةَ لهم، وضربوهم بِأَرْحَامِهِمْ، وَأَخْبَرُوهُمْ بِدُخُولِهِمْ مَعَهُمْ فِي عَقْدِهِمْ وَعَهْدِهِمْ، وَذَهَابِ خُزَاعَةَ إلَى مُحَمّدٍ فِي عَقْدِهِ وَعَهْدِهِ، فَوَجَدُوا الْقَوْمَ إلَى ذَلِكَ سِرَاعًا إلّا أَبَا سُفْيَانَ، لَمْ يُشَاوِرْ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ، وَيُقَالُ: إنّهُمْ ذَاكِرُوهُ فَأَبَى عَلَيْهِمْ. وَجَعَلَتْ بَنُو نُفَاثَةَ وَبَكْرٌ يَقُولُونَ: إنّمَا نَحْنُ! فَأَعَانُوهُمْ بِالسّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَالرّجَالِ وَدَسّوا ذَلِكَ سِرّا لِئَلّا تَحْذَرُ خُزَاعَةُ، [فَهُمْ] آمِنُونَ غَارّونَ بِحَالِ الْمُوَادَعَةِ وَمَا حَجَزَ الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمْ. ثُمّ اتّعَدَتْ قُرَيْشٌ الْوَتِيرَ مَوْضِعًا بِمَنْ مَعَهَا، فَوَافَوْا لِلْمِيعَادِ، فِيهِمْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ كِبَارِهِمْ مُتَنَكّرُونَ مُنْتَقِبُونَ، صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَأَجْلَبُوا مَعَهُمْ أَرِقّاءَهُمْ، ورأس بنى بكر نوفل بن معاوية الدّيلىّ، فَبَيّتُوا خُزَاعَةُ لَيْلًا وَهُمْ غَارّونَ آمِنُونَ مِنْ عَدُوّهِمْ، وَلَوْ كَانُوا يَخَافُونَ هَذَا لَكَانُوا عَلَى حَذَرٍ وَعُدّةٍ، فَلَمْ يَزَالُوا يَقْتُلُونَهُمْ حَتّى انْتَهَوْا بِهِمْ إلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، فَقَالُوا: يَا نَوْفَلُ، إلَهَك، إلَهَك! قَدْ دَخَلْت الْحَرَمَ! قَالَ: لَا إلَهَ لِي الْيَوْمَ، يَا بَنِي بَكْرٍ! قَدْ كُنْتُمْ تَسْرِقُونَ الْحَاجّ، أَفَلَا تُدْرِكُونَ ثَأْرَكُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ؟ لَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ يَأْتِي امْرَأَتَهُ حَتّى يَسْتَأْذِنّي، لَا يُؤَخّرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْيَوْمَ بَعْدَ يَوْمِهِ هَذَا مِنْ ثَأْرِهِ. فَلَمّا انْتَهَتْ خُزَاعَةُ إلَى الْحَرَمِ، دَخَلَتْ دَارَ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَدَارَ رَافِعٍ الْخُزاعِيّيْنِ وَانْتَهَوْا بِهِمْ فِي عَمَايَةَ الصّبْحَ، وَدَخَلَتْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ فِي مَنَازِلِهِمْ وَهُمْ
يَظُنّونَ أَلَا يَعْرِفُوا، وَأَلّا يَبْلُغَ هَذَا مُحَمّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، قَالَ: قَتَلُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَحَضَرُوا خُزَاعَةَ فِي دَارِ رَافِعٍ وَبُدَيْلٍ، وَأَصْبَحَتْ خُزَاعَة مُقَتّلِينَ عَلَى بَابِ بُدَيْلٍ- وَرَافِعٌ مَوْلًى لِخُزَاعَةَ. وَتَنَحّتْ [ (1) ] قُرَيْشٌ وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَعَرَفُوا أَنّ هَذَا الّذِي صَنَعُوا نَقْضٌ لِلْمُدّةِ وَالْعَهْدِ الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: وَجَاءَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ إلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَإِلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، فَلَامُوهُمْ فِيمَا صَنَعُوا مِنْ عَوْنِهِمْ بَنِي بَكْرٍ، وَأَنّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ مُدّةً، وَهَذَا نَقْضٌ لَهَا. وَانْصَرَفَ ذَلِكَ الْقَوْمُ وَدَسّوا إلَى نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ الّذِي وَلّى كَلَامَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت الّذِي صَنَعْنَا بِك وَأَصْحَابِك وَمَا قَتَلْت مِنْ الْقَوْمِ، وَأَنْتَ قَدْ حَضَرْتهمْ تُرِيدُ قَتْلَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَهَذَا مَا لَا نُطَاوِعُك عَلَيْهِ فَاتْرُكْهُمْ لَنَا. قَالَ: نَعَمْ. فَتَرَكَهُمْ فَخَرَجُوا. فَقَالَ ابْنُ قَيْسٍ الرّقَيّات يَذْكُرُ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو: خَالَطَ [ (2) ] أَخْوَالَهُ خُزَاعَةَ لَمّا ... كَثَرَتْهُمْ [ (3) ] بِمَكّةَ الْأَحْيَاءُ وَقَالَ فِي ذَلِكَ ابْنُ لُعْطٍ الدّيلِيّ [ (3) ] : أَلَا هَلْ أَتَى قُصْوَى [ (4) ] الْعَشِيرَةِ أَنّنَا ... رددنا بنى كعب بأفوق [ (5) ] ناصل
حَبَسْنَاهُمْ فِي دَارَة الْعَبْدِ رَافِعٍ ... وَعِنْدَ بُدَيْلٍ مَحْبِسًا غَيْرَ طَائِلِ حَبَسْنَاهُمْ حَتّى إذَا طَالَ يَوْمُهُمْ ... نَفَخْنَا لَهُمْ مِنْ كُلّ شِعْبٍ بِوَابِلِ [ (1) ] ذَبَحْنَاهُمْ ذَبَحَ التّيُوسِ كَأَنّنَا ... أُسُودٌ تَبَارَى فِيهِمْ بِالْقَوَاصِلِ [ (2) ] قَالَ: وَمَشَى الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَا: هَذَا أَمْرٌ لَا بُدّ لَهُ مِنْ أَنْ يُصْلَحَ، وَاَللهِ لَئِنْ لَمْ يُصْلَحْ هَذَا الْأَمْرُ لَا يَرُوعُكُمْ إلّا مُحَمّدٌ فِي أَصْحَابِهِ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ رَأَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ رُؤْيَا كَرِهَتْهَا وَأَفْظَعَتْهَا وَخِفْت مِنْ شَرّهَا. فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: رَأَتْ دَمًا أَقْبَلَ مِنْ الْحَجُونِ يَسِيلُ حَتّى وَقَفَ بِالْخَنْدَمَةِ [ (3) ] مَلِيّا، ثُمّ كَانَ ذَلِكَ الدّمُ لَمْ يَكُنْ. فَكَرِهَ الْقَوْمُ هَذَا، وَقَالُوا: هَذَا شَرّ. فَحَدّثَنِي مُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَى مِنْ الشّرّ قَالَ: هَذَا وَاَللهِ أَمْرٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ أَغِبْ عَنْهُ، لَا حُمِلَ هَذَا إلّا عَلَيّ، وَلَا وَاَللهِ مَا شُووِرْت وَلَا هُوِيت حَيْثُ بَلَغَنِي! وَاَللهِ لَيَغْزُونَا مُحَمّدٌ إنْ صَدَقَنِي ظَنّي وَهُوَ صَادِقِي، وَمَا لِي بُدّ أَنْ آتِيَ مُحَمّدًا فَأُكَلّمَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْهُدْنَةِ وَيُجَدّدُ الْعَهْدَ قَبْل أَنْ يَبْلُغَهُ هَذَا الْأَمْرُ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ وَاَللهِ أَصَبْت الرّأْيَ! وَنَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مَا صَنَعَتْ مِنْ عَوْنِ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ، وَعَرَفُوا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ [ (4) ] يَدْعُهُمْ حَتّى يَغْزُوَهُمْ. فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ، وَخَرَجَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ عَلَى رَاحِلَتَيْنِ، فَأَسْرَعَ السّيْرَ وَهُوَ يَرَى أَنّهُ أوّل
مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَدْ سَمِعْنَا وَجْهًا مِنْ أَمْرِ خُزَاعَةَ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ النّاسَ قَبْلَنَا وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ، وَمُخْرِجُهُ الّذِي رُدّ إلَيْهِ ثِقَةٌ مُقْنِعٌ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يُعْرَفُ لَهُ وَجْهًا! إلّا أَنّ النّاسَ قَبْلَنَا يَنْفُونَهُ وَيَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ، وَذَكَرْته لَابْنِ جَعْفَرٍ وَمُحَمّدِ بْنِ صَالِحٍ وَلِأَبِي مَعْشَرٍ وَغَيْرِهِمْ مِمّنْ لَهُ عِلْمَ بِالسّرِيّةِ فَكُلّهُمْ يُنْكِرُهُ وَلَا يَأْتِي لَهُ بِوَجْهٍ. وَكَانَ أَوّلَ الْحَدِيثِ، أَنّهُ حَدّثَنِي الثّقَةُ عِنْدِي، أَنّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، يُخْبِرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنّهُ لَمّا قَدِمَ رَكِبَ خُزَاعَةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ تُهْمَتُكُمْ وَظِنّتُكُمْ؟ قَالُوا: بَنُو بَكْرٍ. قَالَ: كُلّهَا؟ قَالُوا: لَا، وَلَكِنْ تُهْمَتُنَا بَنُو نُفَاثَةَ قَصْرَةً، وَرَأْسُ الْقَوْمِ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النّفَاثِيّ. قَالَ: هَذَا بَطْنٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَأَنَا بَاعِثٌ إلَى أَهْلِ مَكّةَ فَسَائِلُهُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَمُخَيّرُهُمْ فِي خِصَالٍ. فَبَعَثَ إلَيْهِمْ ضَمْرَةَ يُخَيّرُهُمْ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثِ خِلَالٍ، بَيْنَ أَنْ يَدُوا خُزَاعَةَ أَوْ يبرأوا [مِنْ] حَلِفِ نُفَاثَةَ، أَوْ يَنْبِذُ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. فَأَتَاهُمْ ضَمْرَةُ رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَبّرَهُمْ بِاَلّذِي أَرْسَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخَيّرُهُمْ بَيْنَ [أن] يدوا قتلى خزاعة، أو يبرأوا [مِنْ] حِلْفِ نُفَاثَةَ، أَوْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. فَقَالَ قُرَطَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو الْأَعْجَمِيّ: أَمّا أَنْ نَدِيَ قَتْلَى خُزَاعَةَ، فَإِنّ نُفَاثَةَ قَوْمٌ فِيهِمْ عُرَامٌ [ (1) ] فَلَا نَدِيهِمْ حَتّى لَا يَبْقَى لَنَا سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ [ (2) ] ، وَأَمّا أَنْ نَبْرَأَ مِنْ حِلْفِ نُفَاثَةَ فَإِنّهُ لَيْسَ قَبِيلَةً فى العرب تحجّ
هَذَا الْبَيْتَ أَشَدّ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْبَيْتِ مِنْ نُفَاثَةَ، وَهُمْ حَلْفَاؤُنَا فَلَا نَبْرَأُ مِنْ حِلْفِهِمْ، مَا بَقِيَ لَنَا سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ [ (1) ] ، وَلَكِنّا نَنْبِذُ إلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ. فَرَجَعَ ضَمْرَةُ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك مِنْ قَوْلِهِمْ، فَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ تَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَدّدَ الْعَهْدَ، وَنَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى رَدّ الرّسُولِ بِمَا رَدّوهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَكُلّ أَصْحَابِنَا أَنْكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ. وَقَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَنْقَابِ [ (2) ] وَعَمّى عَلَيْهِمْ الْأَخْبَارَ حَتّى دَخَلَهَا فُجَاءَةً- حَتّى ذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِحِزَامِ بْنِ هِشَامٍ الْكَعْبِيّ فَقَالَ: لَمْ يُضَيّعْ الّذِي حَدّثَك شَيْئًا، وَلَكِنّ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَقُولُ لَك- نَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى عَوْنِ نُفَاثَةَ وَقَالُوا: مُحَمّدٌ غَازِينَا! قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ- وَهُوَ عِنْدَهُمْ يَوْمئِذٍ كَافِرٌ مُرْتَدّ- إنّ عِنْدِي رَأْيًا، أَنّ مُحَمّدًا لَيْسَ يَغْزُوكُمْ حَتّى يُعْذِرُ إلَيْكُمْ وَيُخَيّرُكُمْ فِي خِصَالٍ كُلّهَا أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ مِنْ غَزْوِهِ. قَالُوا: مَا هِيَ؟ قَالَ: يرسل أن ادوا قتلى خزاعة وهم ثلاثة وعشرون قتيلا، أو تبرأوا مِنْ حِلْفِ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بَيْنَنَا- بَنُو نُفَاثَةَ- أَوْ نَنْبِذُ إلَيْكُمْ الْحَرْبَ [ (3) ] ، فَمَا عِنْدَكُمْ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ؟ قَالَ الْقَوْمُ: آخِرُ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي السّرْحِ! وَقَدْ كَانَ بِهِ عَالِمًا. فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا خُصْلَةٌ أَيْسَرَ عَلَيْنَا مِنْ التّبَرّؤِ مِنْ حِلْفِ بَنِي نفاثة. قال شيبة ابن عُثْمَانَ الْعَبْدَرِيّ: حَفِظَتْ أَخْوَالُك وَغَضِبَتْ لَهُمْ! قَالَ سُهَيْلٌ: وَأَبُو قُرَيْشٍ لَمْ تَلِدْهُ خُزَاعَةُ. قَالَ شَيْبَةُ: لَا، وَلَكِنّا نَدِي قَتْلَى خُزَاعَةَ، فَهُوَ أهون
عَلَيْنَا. فَقَالَ قُرَطَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو: لَا وَاَللهِ، لَا يُودُونَ [ (1) ] وَلَا نَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ نُفَاثَةَ، ابْنُ الْغَوْثِ [ (2) ] بِنَا وَأَعْمِدَةٌ لِشِدّتِنَا، وَلَكِنْ نَنْبِذُ إلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ! وَمَا الرّأْيُ لَنَا إلّا جَحْدُ هَذَا الْأَمْرِ، أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ دَخَلَتْ فِي نَقْضِ عَهْدٍ وَقَطْعِ مُدّةٍ، فَإِنْ قَطَعَهُ قَوْمٌ بِغَيْرِ هَوًى مِنّا وَلَا مَشُورَةٍ فَمَا عَلَيْنَا. قَالُوا: هَذَا الرّأْيُ، لَا رَأْيَ غَيْرُهُ، الْجَحْدُ لِكُلّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ! [قَالَ] : وَإِنّي لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ أَوَامِرِ فِيهِ، وَأَنَا فِي ذَلِكَ صَادِقٌ، لَقَدْ كَرِهْت مَا صَنَعْتُمْ وَعَرَفْت أَنْ سَيَكُونُ لَهُ يَوْمُ عَمَاسٍ [ (3) ] . قَالَتْ قُرَيْشٌ لِأَبِي سُفْيَانَ: وَاخْرُجْ أَنْتَ بِذَلِكَ! حَتّى خَرَجَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَذَكَرْت حَدِيثَ حِزَامٍ لَابْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَقَالُوا: هَذَا وَجْهُهُ! وَكَتَبَهُ مِنّي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ: قَدْ حِرْت فِي أَمْرِ خُزَاعَةَ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَرَى قُرَيْشًا تَجْتَرِئُ [ (4) ] عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَقَدْ أَفْنَاهُمْ السّيْفُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: خَيْرٌ أَوْ شَرّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: خَيْر! فَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ الْكَعْبِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَخَرَجَ عمرو
ابن سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا مِنْ خُزَاعَة يَسْتَنْصِرُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْبِرُونَهُ بِاَلّذِي أَصَابَهُمْ وَمَا ظَاهَرَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ- فَأَعَانُوهُمْ [ (1) ] بِالرّجَالِ وَالسّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَحَضَرَ ذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فِي رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِمْ مُتَنَكّرِينَ، فَقَتَلُوا بِأَيْدِيهِمْ- وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي أَصْحَابِهِ، وَرَأْسُ خُزَاعَةَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ، وَقَامَ يُنْشِدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَمَعَ مِنْهُ فَقَالَ: اللهُمّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا [ (2) ] وَأَبِيك الْأَتْلَدَا [ (3) ] قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا ... ثُمّتْ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُؤَكّدَا فَانْصُرْ هَدَاك اللهُ نَصْرًا أَعْتَدَا [ (4) ] ... وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرّدَا ... فِي فَيْلَقٍ [ (5) ] كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا قُرْمٌ [ (6) ] لَقُرْمٌ مِنْ قُرُومٍ أَصْيَدَا ... هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدَا [ (7) ] نَتْلُو الْقُرْآنَ رُكّعًا وَسُجّدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت أَدْعُو أَحَدَا وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا فَلَمّا فَرَغَ الرّكْبُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَنَسَ بْنَ زُنَيْمٍ الدّيلِيّ قَدْ هَجَاك. فَهَدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ، فبلغ أنس بن زنيم، فقدم
على رسول الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَذِرًا مِمّا بَلَغَهُ، فَقَالَ: أَأَنْت الّذِي تُهْدَى مَعَدّ بِأَمْرِهِ ... بَلْ اللهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَك اشْهَدْ فَمَا حَمَلْت مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرّ وَأَوْفَى ذِمّةً مِنْ مُحَمّدٍ أَحَثّ عَلَى خَيْرٍ وَأَوْسَعَ نَائِلًا ... إذَا رَاحَ يَهْتَزّ اهْتِزَازَ الْمُهَنّدِ [ (1) ] وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ [ (2) ] قَبْلَ اجْتِذَابِهِ ... وَأَعْطَى بِرَأْسِ السّابِقِ [ (3) ] الْمُتَجَرّدِ تَعَلّمْ رَسُولَ اللهِ أَنّك مُدْرِكِي ... وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخَذِ بِالْيَدِ تَعَلّمْ رَسُولَ اللهِ أَنّك قَادِرٌ ... عَلَى كُلّ سَكْنٍ [ (4) ] مِنْ تِهَامٍ وَمُنْجِدِ وَنُبّي رَسُولَ اللهِ أَنّي هَجَوْته ... فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيّ إذْن يَدِي سِوَى أَنّنِي قَدْ قُلْت يَا وَيْحَ فِتْيَةٍ ... أُصِيبُوا بِنَحِسِ يَوْمَ طَلْقٍ [ (5) ] وَأَسْعَدِ أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ ... كِفَاءً فَعَزّتْ عَبْرَتِي وَتَبَلّدِي [ (6) ] ذُؤَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا ... جَمِيعًا فَإِلّا تَدْمَعْ الْعَيْنُ أَكْمَدِ عَلَى أَنّ سَلْمَى لَيْسَ فِيهِمْ كَمِثْلِهِ ... وَإِخْوَتِهِ أَوْ هَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ وَإِنّي لاَ عِرْضًا خَرَقْتُ وَلاَ دَمًا ... هَرَقْتُ فَفَكّرْ عَالِمَ الْحَقّ وَاقْصِدِ أَنْشَدَنِيهَا حِزَامٌ. وَبَلَغَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصِيدَتُهُ وَاعْتِذَارُهُ، وَكَلّمَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْتَ أَوْلَى النّاسِ بِالْعَفْوِ، وَمَنْ مِنّا لَمْ يُعَادِك وَيُؤْذِك، وَنَحْنُ فِي جَاهِلِيّةٍ لا ندري
مَا نَأْخُذُ وَمَا نَدْعُ حَتّى هَدَانَا اللهُ بِك مِنْ الْهَلَكَةِ، وَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ الرّكْبُ وَكَثُرُوا عِنْدَك. فَقَالَ: دَعْ الرّكْبَ، فَإِنّا لَمْ نَجِدْ بِتِهَامَةَ أَحَدًا مِنْ ذِي رَحِمٍ وَلَا بِعِيدِ الرّحِمِ كَانَ أَبَرّ بِنَا مِنْ خُزَاعَةَ. فَأَسْكَتَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فَلَمّا سَكَتَ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عَفَوْت عَنْهُ. قَالَ نَوْفَلٌ: فِدَاك أَبِي وَأُمّي! وحدّثنى عبد الحميد بن جعفر عن عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَجُرّ طَرَفَ رِدَائِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَصَرْت إنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ مِمّا أَنْصُرُ مِنْهُ نَفْسِي! وَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَكَأَنّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَ يَقُولُ: «جَدّدْ الْعَهْدَ وَزِدْ فِي الْهُدْنَةَ» وَهُوَ رَاجِعٌ بِسَخَطِهِ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ سَالِمٍ وَأَصْحَابِهِ: ارْجِعُوا وَتَفَرّقُوا فِي الْأَوْدِيَةِ! وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَدَخَلَ يَغْتَسِلُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَسْمَعَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَصُبّ الْمَاءَ عَلَيْهِ: لَا نَصَرَتْ إنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ! وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَكّةَ وَهُوَ مُتَخَوّفٌ الّذِي صَنَعَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ وَأَصْحَابُهُ أَنْ يَكُونُوا جَاءُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الْقَوْمُ لَمّا أَتَوْا الْأَبْوَاءَ رَاجِعِينَ تَفَرّقُوا، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى السّاحِلِ تُعَارِضُ الطّرِيقَ، وَلَزِمَ بُدَيْلُ بْنُ أُمّ أَصْرَمَ فِي نَفِيرٍ مَعَهُ الطّرِيقَ، فَلَقِيَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَأَشْفَقَ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يَكُونَ بُدَيْلٌ جَاءَ مُحَمّدًا، بَلْ كَانَ الْيَقِينُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: أَخْبِرُونِي عَنْ يَثْرِبَ، مُنْذُ كم
عَهْدُكُمْ بِهَا؟ فَقَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا بِهَا. فَعَرَفَ أَنّهُمْ كَتَمُوهُ، فَقَالَ: أَمَا مَعَكُمْ مِنْ تَمْرِ يَثْرِبَ شَيْءٌ تُطْعِمُونَاهُ؟ فَإِنّ لِتَمْرِ يَثْرِبَ فَضْلًا عَلَى تَمْرِ تِهَامَةَ. قَالُوا: لَا. قَالَ: ثُمّ أَبَتْ نَفْسُهُ أَنْ تُقِرّهُ [ (1) ] حَتّى قَالَ: يَا بُدَيْلُ، هَلْ جِئْت مُحَمّدًا؟ قَالَ: لَا! مَا فَعَلْت، وَلَكِنّي سِرْت فِي بِلَادِ كَعْبٍ وخزاعة مِنْ هَذَا السّاحِلِ فِي قَتِيلٍ كَانَ بَيْنَهُمْ، فَأَصْلَحْت بَيْنَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: إنّك وَاَللهِ- مَا عَلِمْت- بَرّ وَاصِلٌ. ثُمّ قَايَلَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ حَتّى رَاحَ بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ، ثُمّ جَاءَ مَنْزِلَهُمْ فَفَتّ أَبْعَارَ أَبَاعِرِهِمْ فَوَجَدَ فِيهَا نَوًى، وَوَجَدَ [ (2) ] فِي مَنْزِلِهِمْ نَوًى مِنْ تَمْرِ عَجْوَةٍ كَأَنّهَا أَلْسِنَةُ الطّيْرِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَحْلِفُ بِاَللهِ لَقَدْ جَاءَ الْقَوْمُ مُحَمّدًا! وَكَانَ الْقَوْمُ لَمّا كَانَتْ الْوَقْعَةُ خَرَجُوا مِنْ صُبْحِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَسَارُوا إلَى حَيْثُ لَقِيَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ ثَلَاثًا. وَكَانَتْ بَنُو بَكْرٍ قَدْ حَبَسَتْ خُزَاعَةَ فِي دَارِ بُدَيْلٍ وَرَافِعٍ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ لَمْ يُكَلّمُوا فِيهِمْ، وَائْتَمَرَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يَخْرُجَ أَبُو سُفْيَانَ، فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ ثُمّ خَرَجَ، فَهَذَا خَمْسٌ بَعْدَ مَقْتَلِ خُزَاعَةَ. وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّي كُنْت غَائِبًا فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَاشْدُدْ الْعَهْدَ وَزِدْنَا فِي الْمُدّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَدَثٌ؟ قَالَ: مَعَاذَ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَحْنُ عَلَى مُدّتِنَا وَصُلْحِنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، لَا نُغِيرُ وَلَا نُبَدّلُ. ثُمّ قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمّ حبيبة، فَلَمّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَتْهُ دُونَهُ، فَقَالَ: أَرَغِبْت بِهَذَا الْفِرَاشِ عَنّي أَوْ بِي عَنْهُ؟ قالت:
بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ امْرُؤٌ نَجَسٌ مُشْرِكٌ! قَالَ: يَا بُنَيّةُ، لَقَدْ أَصَابَك بِعِلْمِك شَرّ! قَالَتْ: هَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ يَا أَبَت سَيّدُ قُرَيْشٍ وَكَبِيرُهَا، كَيْفَ يَسْقُطُ عَنْك الدّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ تَعْبُدُ حَجَرًا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ؟ قَالَ: يَا عَجَبَاه، وَهَذَا مِنْك أَيْضًا؟ أَأَتْرُكُ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَائِي وَأَتّبِعُ دِينَ مُحَمّدٍ؟ ثُمّ قَامَ مِنْ عِنْدِهَا فَلَقِيَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَكَلّمَهُ وَقَالَ: تُكَلّمُ مُحَمّدًا وَتُجِيرُ أَنْتَ بَيْنَ النّاسِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم لقى عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَكَلّمَهُ بِمِثْلِ مَا كَلّمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللهِ، لَوْ وَجَدْت الذّرّ [ (1) ] تُقَاتِلُكُمْ لَأَعَنْتهَا عَلَيْكُمْ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: جُزِيَتْ مِنْ ذِي رَحِمٍ شَرّا. ثُمّ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: إنّهُ لَيْسَ فِي الْقَوْمِ أَحَدٌ أَقْرَبُ بِي رَحِمًا مِنْك، فَزِدْ فِي الْهُدْنَةِ وَجَدّدْ الْعَهْدَ، فَإِنّ صَاحِبَك لَنْ [ (2) ] يَرُدّهُ عَلَيْك أَبَدًا، وَاَللهِ مَا رَأَيْت رَجُلًا قَطّ أَكْثَرَ إكْرَامًا لِصَاحِبٍ مِنْ مُحَمّدٍ لِأَصْحَابِهِ! قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ على فَاطِمَةُ بِنْتُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلّمَهَا فَقَالَ: أَجِيرِي بَيْنَ النّاسِ! فَقَالَتْ: إنّمَا أَنَا امْرَأَةٌ. قَالَ: إنّ جِوَارَك جَائِزٌ، قَدْ أَجَارَتْ أُخْتُك أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرّبِيعِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ مُحَمّدٌ. قَالَتْ فَاطِمَةُ: ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَأَبَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مُرِي أَحَدَ بَنِيك يُجِيرُ بَيْنَ الناس!
قَالَتْ: إنّهُمَا صَبِيَانِ، وَلَيْسَ مِثْلُهُمَا يُجِيرُ. فَلَمّا أَبَت عَلَيْهِ أَتَى عَلِيّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، أَجِرْ بَيْنَ النّاسِ وَكَلّمْ مُحَمّدًا يُزِيدُ فِي الْمُدّةِ! قَالَ علي وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ! إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَزَمَ أَلَا يفعل، وليس أحد يستطيع أن نكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شَيْءٍ يَكْرَهُهُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَمَا الرّأْيُ؟ يَسّرْ لِي أَمْرِي [ (1) ] ، فَإِنّهُ قَدْ ضَاقَ عَلَيّ، فَمَرّ لِي بِأَمْرٍ تَرَى أَنّهُ نَافِعِي! فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: مَا أَجِدُ لَك شَيْئًا [أَمْثَلَ] مِنْ أَنْ تَقُومَ فَتُجِيرُ بَيْنَ النّاسِ، فَإِنّك سَيّدُ كِنَانَةَ. قَالَ: تَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنّي شَيْئًا؟ قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَا أَظُنّ ذَلِكَ وَاَللهِ، وَلَكِنّي لَا أَجِدُ لَك غَيْرَهُ. فَقَامَ بَيْنَ ظَهْرَيْ النّاسِ فَصَاحَ: أَلَا أَنّي قَدْ أَجَرْت بَيْنَ النّاسِ، وَلَا أَظُنّ مُحَمّدًا يَخْفِرُنِي! ثُمّ دَخَلَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، مَا أَظُنّ أَنْ تَرُدّ جِوَارِي! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَابِتٍ، قَدْ عَرَفْت الّذِي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَك، وَأَنّي قَدْ كُنْت لَك فِي حَرَمِنَا جَارًا، وَكُنْت لِي بِيَثْرِبَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَنْتَ سَيّدُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ [ (2) ] ، فأجر بين الناس ورد فِي الْمُدّةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ: خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى أَنّهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ تَقُولُ ذلك يا أبا سفيان!
يُقَالُ: لَمّا صَاحَ لَمْ يَقْرَبْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَانْطَلَقَ إلَى مَكّةَ، وَكَانَ قَدْ حُبِسَ وَطَالَتْ غَيْبَتُهُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اتّهَمَتْهُ حِينَ أَبْطَأَ أَشَدّ التّهْمَةِ وَقَالُوا: وَاَللهِ إنّا نَرَاهُ قَدْ صَبَأَ، وَاتّبَعَ مُحَمّدًا سِرّا وَكَتَمَ إسْلَامَهُ. فَلَمّا دَخَلَ عَلَى هِنْدٍ لَيْلًا قَالَتْ: لَقَدْ حُبِسْت حَتّى اتّهَمَك قَوْمُك، فَإِنْ كُنْت مَعَ طُولِ الْإِقَامَةِ جِئْتهمْ بِنُجْحٍ فَأَنْتَ الرّجُلُ! ثُمّ دَنَا مِنْهَا فَجَلَسَ مَجْلِسَ الرّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: مَا صَنَعْت؟ فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ: لَمْ أَجِدْ إلّا مَا قَالَ لِي عَلِيّ. فَضَرَبَتْ بِرِجْلَيْهَا فِي صَدْرِهِ، وَقَالَتْ: قُبّحْت مِنْ رَسُولِ قَوْمٍ! حَدّثَنِي عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، قال: فلما أصبح خلق رَأْسَهُ عِنْدَ الصّنَمَيْنِ، إِسَافَ وَنَائِلَةَ، وَذَبَحَ لَهُمَا، وَجَعَلَ يَمْسَحُ بِالدّمِ رُءُوسَهُمَا، وَيَقُولُ: لَا أُفَارِقُ عِبَادَتَكُمَا حَتّى أَمُوتَ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أَبِي! أَبْرَأُ لِقُرَيْشٍ مِمّا اتّهَمُوهُ. وَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَقَالَتْ لَه قُرَيْشٌ: مَا وَرَاءَك؟ هَلْ جِئْتنَا بِكِتَابٍ مِنْ مُحَمّدٍ، أَوْ زِيَادَةٍ فِي مُدّةٍ؟ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَغْزُونَا! فَقَالَ: وَاَللهِ لَقَدْ أَبَى عَلَيّ، وَلَقَدْ كَلّمْت عِلْيَةَ أَصْحَابِهِ فَمَا قَدَرْت عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمْ، إلّا أَنّهُمْ يَرْمُونَنِي بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، إلّا أَنّ عَلِيّا قَدْ قَالَ لَمّا ضَاقَتْ بِي الْأُمُورُ: أَنْتَ سَيّدُ كِنَانَةَ، فَأَجِرْ بَيْنَ النّاسِ! فَنَادَيْت بِالْجِوَارِ ثُمّ دَخَلْت عَلَى مُحَمّدٍ فَقُلْت: إنّي قَدْ أَجَرْت بَيْنَ النّاسِ، وَمَا أَظُنّ أَنْ تَرُدّ جِوَارِي. فَقَالَ مُحَمّدٌ: أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! لَمْ يَزِدْنِي عَلَى ذَلِكَ. قَالُوا: مَا زَادَ عَلَى أَنْ تَلْعَبَ بِك تَلَعّبًا! قَالَ: وَاَللهِ مَا وَجَدْت غَيْرَ ذَلِكَ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ، قَالَ: لَمّا وَلّى أَبُو سُفْيَانَ رَاجِعًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ: جَهّزِينَا وَأَخْفِي أَمْرَك! وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ خُذْ عَلَى قُرَيْشٍ الْأَخْبَارَ وَالْعُيُونَ حَتّى نَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً. وَيُقَالُ قَالَ: اللهُمّ خُذْ عَلَى قُرَيْشٍ أَبْصَارَهُمْ فَلَا يَرَوْنِي إلّا بَغْتَةً، وَلَا يَسْمَعُونَ بِي إلّا فَجْأَة. قَالُوا: وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَنْقَابِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَطُوفُ عَلَى الْأَنْقَابِ قَيّمًا بِهِمْ فَيَقُولُ: لَا تَدْعُوا أَحَدًا يَمُرّ بِكُمْ تُنْكِرُونَهُ إلّا رَدَدْتُمُوهُ- وَكَانَتْ الْأَنْقَابُ مُسْلِمَةً- إلّا مَنْ سَلَكَ إلَى مَكّةَ فَإِنّهُ يَتَحَفّظُ بِهِ وَيَسْأَلُ عَنْهُ، أَوْ نَاحِيَةِ مَكّةَ. قَالُوا: فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تُجَهّزُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَعْمَلُ قَمْحًا سَوِيقًا وَدَقِيقًا وَتَمْرًا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْر فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَهَمّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَزْوٍ؟ قَالَتْ: مَا أَدْرِي. قَالَ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ هَمّ بِسَفَرٍ فَآذِنِينَا نَتَهَيّأْ لَهُ. قَالَتْ: مَا أَدْرِي، لَعَلّهُ يُرِيدُ بَنِي سُلَيْمٍ، لَعَلّهُ يُرِيدُ ثَقِيفًا، لَعَلّهُ يُرِيدُ هَوَازِنَ! فَاسْتَعْجَمَتْ عَلَيْهِ حَتّى دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَدْت سَفَرًا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ. قَالَ: أَفَأَتَجَهّزُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَيْنَ تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: قُرَيْشًا، وَأَخْفِ ذَلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ! وَأَمَرَ رسول الله [بالجهاز] ، قال: أو ليس بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُدّةٌ؟ قَالَ: إنّهُمْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، فَأَنَا غَازِيهِمْ. وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: اطْوِ مَا ذَكَرْت لَك! فَظَانّ يَظُنّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الشّامَ، وَظَانّ يَظُنّ ثَقِيفًا، وَظَانّ يَظُنّ هَوَازِنَ. وَبَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيّ فِي ثَمَانِيّةِ نَفَرٍ إلَى بَطْنِ إِضَمَ [ (1) ] لِيَظُنّ ظَانّ أَنّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجّهَ إلَى تِلْكَ النّاحِيَةِ، وَلِأَنْ تَذْهَبَ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَطْنِ إِضَمَ، أَمِيرُنَا أَبُو قَتَادَةَ فِي تِلْكَ السّرِيّةِ وَفِيهَا مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ اللّيْثِيّ وَأَنَا فِيهِمْ، فَبَيْنَا نَحْنُ بِبَعْضِ وَادِي إِضَمَ إذْ مَرّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيّ فَسَلّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيّةِ الْإِسْلَامِ فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ فَقَتَلَهُ، وَسَلَبَهُ بَعِيرًا لَهُ وَمَتَاعًا وَوَطْبًا [ (1) ] مِنْ لَبَنٍ كَانَ مَعَهُ، فَلَمّا لَحِقَنَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ... [ (2) ] الْآيَةَ. فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ وَلَمْ يَلْقَوْا جَمْعًا حَتّى انْتَهَوْا [ (3) ] إلَى ذِي خُشُبٍ [ (4) ] فَبَلَغَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجّهَ إلَى مَكّةَ، فَأَخَذُوا عَلَى بِين حَتّى لَحِقُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّقْيَا. حَدّثَنِي الْمُنْذِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: لَمّا أَجَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسِيرَ إلَى قُرَيْشٍ، وَعَلِمَ بِذَلِكَ النّاسُ، كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِاَلّذِي أَجَمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْطَى الْكِتَابَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تُوَصّلَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا ثُمّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، فَخَرَجَتْ. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عليّا والزّبير
فَقَالَ: أَدْرِكَا امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبٌ كِتَابًا يُحَذّرُ قُرَيْشًا فَخَرَجَا فَأَدْرَكَاهَا بِالْخُلَيْفَةِ، فَاسْتَنْزَلَاهَا فَالْتَمَسَاهُ فِي رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَا لَهَا: إنّا نَحْلِفُ بِاَللهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كَذَبْنَا وَلَتُخْرِجِنّ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنّكِ! فَلَمّا رَأَتْ مِنْهُمَا الْجِدّ قَالَتْ: أَعْرِضَا عَنّي! فَأَعْرَضَا عَنْهَا، فَحَلّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا فَاسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِمَا، فَجَاءَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبًا فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي لَمُؤْمِنٌ بِاَللهِ وَرَسُولِهِ، مَا غَيّرْت وَلَا بَدّلْت! ولكنى كنت امرءا لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ أَصْلٌ وَلَا عَشِيرَةٌ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَهْلٌ وَوَلَدٌ فَصَانَعَتْهُمْ. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قَاتَلَك اللهُ! تَرَى رَسُولَ اللهِ يَأْخُذُ بِالْأَنْقَابِ وَتَكْتُبُ الْكُتُبَ إلَى قُرَيْشٍ تُحَذّرُهُمْ؟ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنّهُ قَدْ نَافَقَ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيك يَا عُمَرُ؟ لَعَلّ اللهَ قَدْ اطّلع يوم بدر على أَهْلِ بَدْرٍ. فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ! وَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي حَاطِبٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ... [ (1) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ حَاطِبٌ إلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ: صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ: «إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ أَذّنَ فِي النّاسِ بِالْغَزْوِ، وَلَا أَرَاهُ يُرِيدُ غَيْرَكُمْ، وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَكُمْ يَدٌ بِكِتَابِي إلَيْكُمْ» . وَدَفَعَ الْكِتَابَ إلى امرأة من مزينة من أهل العرج [ (2) ] يقال لَهَا كَنُودٌ، وَجَعَلَ لَهَا دِينَارًا عَلَى أَنْ تبلّغ الكتاب، وقال:
أَخْفِيهِ مَا اسْتَطَعْت، وَلَا تَمُرّي عَلَى الطّرِيقِ فإنّ عليها محرسا. فَسَلَكَتْ عَلَى غَيْرِ نَقْبٍ، عَنْ يَسَارِ الْمَحَجّةِ فِي الْفُلُوقِ [ (1) ] ، حَتّى لَقِيَتْ الطّرِيقَ بِالْعَقِيقِ. حَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرحمن بن عمرو بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: هِيَ سَارَةُ، جَعَلَ لَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ. قَالُوا: فَلَمّا أَبَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَزْوَ، أَرْسَلَ إلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَإِلَى مَنْ حَوْلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُ لَهُمْ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَحْضُرْ رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَبَعَثَ رَسُولًا فِي كُلّ نَاحِيَةٍ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْلَمَ، وَغِفَارَ، وَمُزَيْنَةَ، وَجُهَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ. وَبَعَثَ إلَى بَنِي سُلَيْمٍ، فَأَمّا بَنُو سُلَيْمٍ فَلَقِيَتْهُ بِقُدَيْدٍ، وَأَمّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَخَرَجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَمَاءَ بْنَ حَارِثَةَ، وَهِنْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَى أَسْلَمَ يَقُولَانِ لَهُمْ: إنّ رَسُولَ اللهِ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَحْضُرُوا رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُنْدُبًا وَرَافِعًا ابْنَيْ مَكِيثٍ إلَى جُهَيْنَةَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيمَاءَ بْنَ رَحْضَةَ وَأَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ إلَى بَنِي الْحُصَيْنِ إلَى بَنِي غِفَارٍ وَضَمْرَةَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَشْجَعَ مَعْقِلَ بْنَ سِنَانٍ، وَنُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَبَعَثَ إلَى مُزَيْنَةَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو الْمُزَنِيّ، وَبَعَثَ إلَى بَنِي سُلَيْمٍ الْحَجّاجَ بن علاط السّلمىّ، ثم البهزى [ (2) ] ،
وَعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، وَبَعَثَ إلَى بَنِي كَعْبٍ بَنِي عَمْرَةَ بِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ وَبُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ، فَلَقِيَهُ بَنُو كَعْبٍ بِقُدَيْدٍ وَخَرَجَ مَعَهُ من بنى كعب مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَعَسْكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَعَقَدَ الْأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ، فَكَانَ فِي الْمُهَاجِرِينَ ثَلَاثُ رَايَاتٍ- رَايَةٌ مَعَ الزّبَيْرِ، وَرَايَةٌ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَرَايَةٌ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ. وَكَانَ فِي الْأَوْسِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَايَةٌ مَعَ أَبِي نَائِلَةَ، وَفِي بَنِي ظَفَرَ رَايَةٌ مَعَ قَتَادَةَ بْنِ النّعْمَانِ، وَفِي بَنِي حَارِثَةَ رَايَةٌ مَعَ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، وَفِي بَنِي مُعَاوِيَةَ رَايَةٌ مَعَ جَبْرِ بْنِ عَتِيكٍ، وَفِي بَنِي خَطْمَةَ رَايَةٌ مَعَ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَفِي بَنِي أُمَيّةَ رَايَةٌ مَعَ مُبَيّضٍ- قَالَ ابْنُ حَيّوَيْهِ: «نُبَيْضٌ» فِي كِتَابِ أَبِي حَيّةَ، فَتَرَكْته أَنَا عَلَى مَا هُنَاكَ «مُبَيّضٌ» . وَفِي بَنِي سَاعِدَةَ رَايَةٌ مَعَ أَبِي أَسِيدٍ السّاعِدِيّ، وَفِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ رَايَةٌ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، وفى بنى سلمة راية مع قطبة ابن عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَفِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ رَايَةٌ مَعَ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، وَفِي بَنِي مَازِنٍ رَايَةٌ مَعَ سَلِيطِ بْنِ قَيْسٍ، وَفِي بَنِي دِينَارٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا [] [ (1) ] . وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ سَبْعَمِائَةِ، وَمَعَهُمْ مِنْ الْخَيْلِ ثَلَاثُمِائَةِ فَرَسٍ، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، مَعَهُمْ مِنْ الْخَيْلِ خَمْسَمِائَةِ، وَكَانَتْ مُزَيْنَةُ أَلْفًا، فِيهَا مِنْ الْخَيْلِ مِائَةُ فَرَسٍ وَمِائَةُ دِرْعٍ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءٌ مَعَ النّعْمَانِ بْنِ مُقَرّنٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، وَلِوَاءٌ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو. وَكَانَتْ أَسْلَمُ أَرْبَعَمِائَةِ، فِيهَا ثَلَاثُونَ فَرَسًا، وَلِوَاءَانِ يَحْمِلُ أَحَدَهُمَا بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ وَالْآخَرُ نَاجِيَةُ بْنُ الْأَعْجَمِ. وَكَانَتْ جُهَيْنَةُ ثَمَانَمِائَةِ، مَعَهَا مِنْ الْخَيْلِ خَمْسُونَ فَرَسًا، فِيهَا أَرْبَعَةُ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ ابْنِ مَكِيثٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ أَبِي زُرْعَةَ، وَلِوَاءٌ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَدْرٍ. وَكَانَتْ بَنُو كعب
ابْنِ عَمْرٍو خَمْسَمِائَةٍ، فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءٌ مع بسر بْنِ سُفْيَانَ، وَلِوَاءٌ مَعَ ابْنِ شُرَيْحٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ، وَلَمْ يَكُنْ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، لَقِيَهُ قَوْمُهُ بِقُدَيْدٍ. قَالَ: حَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: لَمْ يَعْقِدْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ حَتّى انْتَهَى إلَى قُدَيْدٍ، ثُمّ جَعَلَ رَايَاتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ: كَانَتْ رَايَةُ أَشْجَعَ مَعَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَمَا حَلّ عُقْدَةً حَتّى انْتَهَى إلَى الصّلْصُلِ [ (1) ] . وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ وَقَادُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ، وَكَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ. وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَامَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، فِي مِائَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمّا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْدَاءِ- قَالَ: فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: وَحَدّثَنِي دَاوُد بْنُ خَالِدٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا- قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَأَرَى السّحَابَ تَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ أَحَبّ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يُفْطِرَ فَلْيُفْطِرْ! وَصَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَحَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ سُمَيّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي بكر ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ رَجُلٍ رَأَى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
بِالْعَرْجِ يَصُبّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ مِنْ الْعَطَشِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمّا كُنّا بِالْكَدِيدِ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَاءً مِنْ مَاءٍ فِي يَدِهِ حَتّى رَآهُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمّ أَفْطَرَ تِلْكَ السّاعَةَ. وَبَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ قَوْمًا صَامُوا فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ! وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّكُمْ مُصَبّحُو عَدُوّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ! قَالَ ذَلِك بِمَرّ الظّهْرَانِ. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَرْجَ، وَالنّاسُ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ تَوَجّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلَى قُرَيْشٍ، أَوْ إلَى هَوَازِنَ، أَوْ إلَى ثَقِيفٍ! فَهُمْ يُحِبّونَ أَنْ يَعْلَمُوا، فَجَلَسَ فِي أَصْحَابِهِ بِالْعَرْجِ وَهُوَ يَتَحَدّثُ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: آتِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْلَمُ لَكُمْ عِلْمَ وَجْهِهِ. فَجَاءَ كَعْبُ فَبَرَكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمّ قَالَ [ (1) ] : قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمّ أَجْمَمْنَا [ (2) ] السّيُوفَا نُسَائِلُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ ... قَوَاطِعُهُنّ دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا فَلَسْت لِحَاضِرِ إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنْهَا أُلُوفَا فَنَنْتَزِعُ الْخِيَامَ بِبَطْنِ وَجّ [ (3) ] ... وَنَتْرُك دُورَهُمْ مِنْهُمْ خُلُوفَا أَنْشَدَنِيهَا أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. فَجَعَلَ النّاسُ يَقُولُونَ: وَاَللهِ مَا بَيّنَ لَك رَسُولُ اللهِ شَيْئًا، مَا نَدْرِي بِمَنْ يُبْدَى، بِقُرَيْشٍ أَوْ ثَقِيفٍ أو هوازن.
قَالَ: حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدَيْدٍ قِيلَ: هَلْ لَك فِي بِيضِ النّسَاءِ وَأَدَمِ الْإِبِلِ؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اللهَ تَعَالَى حَرّمَهَا عَلَيّ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَوَكَزَهُمْ فِي لَبّاتِ [ (1) ] الْإِبِلِ. قَالَ: حَدّثَنِي الزّبَيْرُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ قَالَ: إنّ اللهَ حَرّمَهُمْ عَلَيّ بِبِرّ الْوَالِدِ وَوَكَزَهُمْ فِي لَبّاتِ [ (2) ] الْإِبِلِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي قُرّانُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَارِيّ، قَالَ: كَانَ عُيَيْنَةُ فِي أَهْلِهِ بِنَجْدٍ فَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ وَجْهًا، وَقَدْ تَجَمّعَتْ الْعَرَبُ إلَيْهِ، فَخَرَجَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَيَجِدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ قَبْلَهُ بِيَوْمَيْنِ، فَسَلَكَ عَنْ رُكُوبِهِ فَسَبَقَ إلَى الْعَرْجِ، فَوَجَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ، فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَرْجَ أَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَنِي خُرُوجُك وَمَنْ يَجْتَمِعُ إلَيْك فَأَقْبَلْت سَرِيعًا وَلَمْ أَشْعُرْ فَأَجْمَعُ قَوْمِي فَيَكُونُ لنا جلبة كثيرة، ولست أرى هيأة حَرْبٍ، لَا أَرَى أَلْوِيَةً وَلَا رَايَاتٍ! فَالْعُمْرَةَ تريد؟ فلا أرى هيأة الْإِحْرَامِ! فَأَيْنَ وَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: حَيْثُ يَشَاءُ اللهُ. وَذَهَبَ وَسَارَ مَعَهُ، وَوَجَدَ الأقرع بن حابس بالسّقيا،
قَدْ وَافَاهَا فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فساروا معه، فلمّا نزل قديد عَقَدَ الْأَلْوِيَةَ وَجَعَلَ الرّايَاتِ. فَلَمّا رَأَى عُيَيْنَةُ الْقَبَائِلَ تَأْخُذُ الرّايَاتِ وَالْأَلْوِيَةَ عَضّ عَلَى أَنَامِلِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَامَ تَنْدَمُ؟ قَالَ: عَلَى قَوْمِي أَلّا يَكُونُوا نَفَرُوا مَعَ مُحَمّدٍ، فَأَيْنَ يُرِيدُ مُحَمّدٌ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: حَيْثُ يَشَاءُ اللهُ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مَكّةَ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قَالَ: لَمّا سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَرْجِ، فَكَانَ فِيمَا بَيْنَ الْعَرْجِ وَالطّلُوبِ [ (1) ] ، نَظَرَ إلَى كَلْبَةٍ تَهِرّ عَلَى أَوْلَادِهَا وَهُمْ حَوْلَهَا يَرْضَعُونَهَا، فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ أَنْ يَقُومَ حِذَاءَهَا، لَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ مِنْ الْجَيْشِ وَلِأَوْلَادِهَا. قَالَ: حَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: لَمّا رَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَرْجِ تَقَدّمَتْ أَمَامَهُ جَرِيدَةٌ [ (2) ] مِنْ خَيْلٍ طَلِيعَةٍ، تَكُونُ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمّا كَانَتْ بَيْنَ الْعَرْجِ وَالطّلُوبِ أَتَوْا بِعَيْنٍ مِنْ هَوَازِنَ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَاهُ حِينَ طَلَعْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَتَغَيّبَ عَنّا فِي وَهْدَةٍ [ (3) ] ، ثُمّ جَاءَ فَأَوْفَى عَلَى نَشَزٍ فَقَعَدَ عَلَيْهِ، فَرَكَضْنَا إلَيْهِ فَأَرَادَ يَهْرُبَ مِنّا، وَإِذَا بَعِيرُهُ قَدْ عَقَلَهُ أَسْفَلَ مِنْ النّشَزِ وَهُوَ يُغَيّبُهُ، فَقُلْنَا: مِمّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ. فَقُلْنَا: هُمْ أَهْلُ هَذَا الْبَلَدِ. فَقُلْنَا: مِنْ أَيّ بَنِي غِفَارٍ أَنْتَ؟ فَعَيِيَ [ (4) ] وَلَمْ
يُنْفِذْ لَنَا نَسَبًا، فَازْدَدْنَا بِهِ رِيبَةً وَأَسَأْنَا بَهْ الظّنّ، فَقُلْنَا: فَأَيْنَ أَهْلُك؟ قَالَ: قَرِيبًا! وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى نَاحِيَةٍ. قُلْنَا: عَلَى أَيّ مَاءٍ، وَمَنْ مَعَك هُنَالِكَ؟ فَلَمْ يُنْفِذْ لَنَا شَيْئًا، فَلَمّا رَأَيْنَا مَا خَلَطَ قُلْنَا: لَتُصْدِقَنّا أَوْ لَنَضْرِبَنّ عُنُقَك! قَالَ: فَإِنْ صَدَقْتُكُمْ يَنْفَعُنِي ذَلِكَ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنّي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ مِنْ بَنِي نَضْرٍ، بَعَثَتْنِي هَوَازِنُ عَيْنًا. وَقَالُوا: ائْتِ الْمَدِينَةَ حَتّى تَلْقَى مُحَمّدًا فَتَسْتَخْبِرَ لَنَا مَا يُرِيدُ فِي أَمْرِ حُلَفَائِهِ، أَيَبْعَثُ إلَى قُرَيْشٍ بَعْثًا أَوْ يَغْزُوهُمْ بِنَفْسِهِ، وَلَا نَرَاهُ إلّا يَسْتَغْوِرَهُمْ، فَإِنْ خَرَجَ سَائِرًا أَوْ بَعَثَ بَعْثًا فَسِرْ مَعَهُ حَتّى تَنْتَهِيَ إلَى بَطْنِ سَرِفَ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُنَا أَوّلًا فَيَسْلُكُ [ (1) ] فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتّى يَخْرُجَ إلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ قُرَيْشًا فَسَيَلْزَمُ الطّرِيقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَيْنَ هَوَازِنُ؟ قَالَ: تَرَكْتهمْ بِبَقْعَاءَ وَقَدْ جَمَعُوا الْجُمُوعَ، وَأَجْلَبُوا فِي الْعَرَبِ، وَبَعَثُوا إلَى ثَقِيفٍ فَأَجَابَتْهُمْ، فَتَرَكَتْ ثَقِيفًا عَلَى سَاقٍ قَدْ جَمَعُوا الْجُمُوعَ، وَبَعَثُوا إلَى الْجُرَشِ [ (2) ] فِي عَمَلِ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقِ، وَهُمْ سَائِرُونَ إلَى جَمْعِ هَوَازِنَ فَيَكُونُونَ جَمْعًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِلَى مَنْ جَعَلُوا أَمْرَهُمْ؟ قَالَ: إلَى فَتَاهُمْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكُلّ هَوَازِنَ قَدْ أَجَابَ إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ مَالِكٌ؟ قَالَ: قَدْ أَبْطَأَ مِنْ بَنِي عَامِرٍ أَهْلُ الْجِدّ وَالْجَلْدِ. قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: كَعْبٌ وَكِلَابٌ. قَالَ: مَا فَعَلَتْ هِلَالٌ؟ قَالَ: مَا أَقَلّ مِنْ ضَوَى [ (3) ] إلَيْهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ مَرَرْت بِقَوْمِك أَمْسِ بِمَكّةَ وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَرَأَيْتهمْ سَاخِطِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ، وَهُمْ خَائِفُونَ وجلون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، مَا أَرَاهُ إلّا صَدَقَنِي! قَالَ الرّجُلُ: فَلَيَنْفَعَنّي ذَلِكَ؟ فَأَمَرَ بِهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَحْبِسَهُ، وَخَافُوا أَنْ يَتَقَدّمَ وَيُحَذّرَ النّاسَ، فَلَمّا نَزَلَ الْعَسْكَرُ مَرّ الظّهْرَانِ أَفْلَتَ الرّجُلُ، فَطَلَبَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَهُ عِنْدَ الْأَرَاكِ [ (1) ] ، وَقَالَ: لَوْلَا وُلّيت عَهْدًا لَك لَضَرَبْت عُنُقَك. وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بَهْ يُحْبَسُ حَتّى يَدْخُلَ مَكّةَ، فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ وَفَتَحَهَا أُتِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، ثُمّ خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى هَوَازِنَ فَقُتِلَ بَأَوْطَاسٍ [ (2) ] . قَالَ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قَمَادِينَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ [كَانَ] أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَخَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْهُ حَلِيمَةُ أَيّامًا، وَكَانَ يَأْلَفُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ لَهُ تِرْبًا، فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَاهُ عَدَاوَةً لَمْ يُعَادِ أَحَدٌ قَطّ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ الشّعْبَ، وَهَجَا رَسُولَ اللهِ، وَهَجَا أَصْحَابَهُ، وَهَجَا حَسّانَ فَقَالَ: أَلَا مُبَلّغٌ حَسّانَ عَنّي رِسَالَةً ... فَخِلْتُك مِنْ شَرّ الرّجَالِ الصّعَالِكِ أَبُوك أَبُو سُوءٍ وَخَالُك مِثْلُهُ ... فَلَسْت بِخَيْرٍ مِنْ أَبِيك وَخَالِك فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِحَسّانَ: اُهْجُهُ! قَالَ: لَا أَفْعَلُ حَتّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ آذَنُ لَك فِي ابْنِ عَمّي أَخِي أَبِي؟ قَالَ: أَسُلّك مِنْهُ كَمَا تُسَلّ الشّعْرَةُ مِنْ العجين.
فَقَالَ حَسّانُ شِعْرًا، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُذَاكِرَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ، فَذَاكَرَهُ. قَالَ: فَمَكَثَ أَبُو سُفْيَانَ عِشْرِينَ سَنَةً [ (1) ] عَدُوّا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ وَيَهْجُونَهُ، وَلَا يَتَخَلّفُ عَنْ مَوْضِعٍ تَسِيرُ فِيهِ قُرَيْشٌ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ إنّ اللهَ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقُلْت: مَنْ أَصْحَبُ وَمَعَ مَنْ أَكُونُ؟ قَدْ ضَرَبَ الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ [ (2) ] ! فَجِئْت زَوْجَتِي وَوَلَدِي، فَقُلْت: تَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ فَقَدْ أَظَلّ قُدُومُ مُحَمّدٍ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: قَدْ آنَ لَك تُبْصِرَ أَنّ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ قَدْ تَبِعَتْ مُحَمّدًا وَأَنْتَ مُوضِعٌ فِي عَدَاوَتِهِ، وَكُنْت أَوْلَى النّاسِ بِنَصْرِهِ! فَقُلْت لِغُلَامِي مَذْكُورٍ: عَجّلْ بِأَبْعِرَةٍ وَفَرَسٍ. قَالَ: ثُمّ سِرْنَا حَتّى نَزَلْنَا الْأَبْوَاءَ، وَقَدْ نَزَلَتْ مُقَدّمَتُهُ الْأَبْوَاءَ، فَتَنَكّرْت وَخِفْت أَنْ أُقْتَلَ، وَكَانَ قَدْ هَدَرَ دَمِي، فَخَرَجْت، وأجد ابني جعفر عَلَى قَدَمِي نَحْوًا مِنْ مِيلٍ، فِي الْغَدَاةِ الّتِي صَبّحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْأَبْوَاءَ، فَأَقْبَلَ النّاسُ رَسَلًا رَسَلًا [ (3) ] ، فَتَنَحّيْت فَرَقًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمّا طَلَعَ مَرْكَبُهُ تَصَدّيْت لَهُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَلَمّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنّي أَعْرَضَ عَنّي بِوَجْهِهِ إلَى النّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَتَحَوّلْت إلَى نَاحِيَةِ وَجْهِهِ الْأُخْرَى، وَأَعْرَضَ عَنّي مِرَارًا، فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، وَقُلْت: أَنَا مَقْتُولٌ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إلَيْهِ. وَأَتَذَكّرُ بِرّهُ وَرَحْمَتَهُ وَقَرَابَتِي فَيُمْسِكُ ذَلِكَ مِنّي، وَقَدْ كُنْت لَا أَشُكّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ سَيَفْرَحُونَ بِإِسْلَامِي فَرَحًا شَدِيدًا، لِقَرَابَتِي [ (4) ] [مِنْ] رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ إعْرَاضَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم عنّى
أَعْرَضُوا عَنّي جَمِيعًا، فَلَقِيَنِي ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ معرضا، ونظرت إلى عمر ويغرى بى رجلا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَلَزّ [ (1) ] بِي رَجُلٌ يَقُولُ: يَا عَدُوّ اللهِ، أَنْتَ الّذِي كُنْت تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُؤْذِي أَصْحَابَهُ قَدْ بَلَغْت مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فِي عَدَاوَتِهِ! فَرَدَدْت بَعْضَ الرّدّ عَنْ نَفْسِي، فَاسْتَطَالَ عَلِيّ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ حَتّى جَعَلَنِي فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ [ (2) ] مِنْ النّاسِ يُسَرّونَ بِمَا يَفْعَلُ بِي. قَالَ: فَدَخَلْت عَلَى عَمّي الْعَبّاسِ فَقُلْت: يَا عَبّاسُ، قَدْ كُنْت أَرْجُو أَنْ سَيَفْرَحُ رَسُولُ اللهِ بِإِسْلَامِي لِقَرَابَتِي وَشَرَفِي، وَقَدْ كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ رَأَيْت، فَكَلّمَهُ لِيَرْضَى عَنّي! قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَا أُكَلّمُهُ كَلِمَةً فِيك أَبَدًا بَعْدَ الّذِي رَأَيْت مِنْهُ إلّا أَنْ أَرَى وَجْهًا، إنّي أُجِلّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهَابُهُ. فَقُلْت: يَا عَمّي إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ قَالَ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: فَلَقِيت عَلِيّا رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ فَكَلّمْته فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، فَرَجَعْت إلَى الْعَبّاسِ فَقُلْت: يَا عَمّ فَكُفّ عَنّي الرّجُلَ الّذِي يَشْتُمُنِي. قَالَ: صِفْهُ لِي. فَقُلْت: هُوَ رَجُلٌ آدَمُ [ (3) ] شَدِيدُ الْأُدْمَةِ، قَصِيرٌ، دَحْدَاحٌ [ (4) ] ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ شَجّةٌ. قَالَ: ذَاكَ نُعْمَانُ بْنُ الْحَارِثِ النّجّارِيّ. فَأَرْسَلَ إلَيْهِ، فَقَالَ: يَا نُعْمَانُ، إنّ أَبَا سُفْيَانَ ابْنُ عَمّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ أَخِي، وَإِنْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاخِطًا فَسَيَرْضَى، فَكُفّ عَنْهُ، فَبَعْدَ لَأْيٍ مَا كَفّ. وَقَالَ: لَا أَعْرِضُ عَنْهُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَخَرَجْت فَجَلَسْت عَلَى بَابِ منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتّى خَرَجَ إلَى الْجُحْفَةِ، وَهُوَ لَا يُكَلّمُنِي ولا أحد من المسلمين.
وَجَعَلْت لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إلّا أَنَا عَلَى بَابِهِ وَمَعِي ابْنِي جَعْفَرٌ قَائِمٌ، فَلَا يَرَانِي إلّا أَعْرَضَ عَنّي، فَخَرَجْت عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حَتّى شَهِدْت مَعَهُ فَتْحَ مَكّةَ وَأَنَا عَلَى حِيلَةٍ تُلَازِمُهُ حَتّى هَبَطَ مِنْ أَذَاخِرَ [ (1) ] حَتّى نَزَلَ الْأَبْطَحَ [ (2) ] ، فَدَنَوْت مِنْ بَابِ قُبّتِهِ فَنَظَرَ إلَيّ نَظَرًا هُوَ أَلْيَنُ مِنْ ذَلِكَ النّظَرِ الْأَوّلِ، قَدْ رَجَوْت أَنْ يَتَبَسّمَ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ نِسَاءُ بَنِي الْمُطّلِبِ، وَدَخَلَتْ مَعَهُنّ زَوْجَتِي فَرَقّقَتْهُ عَلَيّ. وَخَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ لَا أُفَارِقُهُ عَلَى حَالٍ حَتّى خَرَجَ إلَى هَوَازِنَ، فَخَرَجْت مَعَهُ، وَقَدْ جَمَعَتْ الْعَرَبُ جَمْعًا لَمْ يُجْمَعْ مِثْلُهُ قَطّ، وَخَرَجُوا بِالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ وَالْمَاشِيَةِ، فَلَمّا لَقِيتهمْ قُلْت: الْيَوْمَ يُرَى أَثَرِي إنْ شَاءَ اللهُ، وَلَمّا لَقِيتهمْ حَمَلُوا الْحَمَلَةَ [ (3) ] الّتِي ذَكَرَ اللهُ: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [ (4) ] . وَثَبَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بَغْلَتِهِ الشّهْبَاءِ وَجَرّدَ سَيْفَهُ، فَأَقْتَحِمُ عَنْ فَرَسِي وَبِيَدِي السّيْفُ صَلْتًا، قَدْ كُسِرَتْ جَفْنُهُ، وَاَللهُ أَعْلَمُ أَنّي أُرِيدُ الْمَوْتَ دُونَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيّ، فَأَخَذَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بِلِجَامِ الْبَغْلَةِ، فَأَخَذْت بِالْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَذَهَبْت أَكْشِفُ الْمِغْفَرَ، فَقَالَ الْعَبّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخُوك وَابْنُ عَمّك أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ! فَارْضَ عَنْهُ، أَيْ رَسُولَ اللهِ! قَالَ: قَدْ فَعَلْت، فَغَفَرَ اللهُ كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا! فَأُقَبّلُ رِجْلَهُ فِي الرّكَابِ، ثُمّ الْتَفَتَ إلَيّ فَقَالَ: أَخِي لَعَمْرِي! ثُمّ أَمَرَ الْعَبّاسَ فَقَالَ: نَادِ يَا أَصْحَابَ الْبَقَرَةِ [ (5) ] ! يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ [ (6) ] يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار
يَا لَلْخَزْرَجِ! فَأَجَابُوا: لَبّيْكَ دَاعِيَ اللهِ! وَكَرّوا كَرّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، قَدْ حَطّمُوا الْجُفُونَ، وَشَرَعُوا الرماح، وخفضوا عوالي الأمنّة، وَأَرْقَلُوا إرْقَالَ الْفُحُولِ، فَرَأَيْتنِي وَإِنّي لَأَخَافُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُرُوعَ رِمَاحِهِمْ حَتّى أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَقَدّمْ فَضَارِبْ الْقَوْمَ! فَحَمَلْت حَمَلَةً أَزَلْتهمْ عَنْ مَوْضِعِهِمْ، وَتَبِعَنِي- رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدُمًا فِي نُحُورِ الْقَوْمِ، مَا نَالُوا مَا تَقَدّمَ، فَمَا قَامَتْ لَهُمْ قَائِمَةٌ حَتّى طَرَدْتهمْ قَدْرَ فَرْسَخٍ، وَتَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الطّلَبِ، فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى وَجْهٍ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي وَجْهٍ، وَبَعَثَ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ إلَى عَسْكَرٍ بَأَوْطَاسٍ فَقُتِلَ، وَقَتَلَ أَبُو مُوسَى قَاتِلَهُ [ (1) ] . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَدْ سَمِعْت فِي إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَجْهًا آخَرَ، قَالَ: لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بِنِيقِ الْعُقَابِ [ (2) ] ، فَطَلَبْنَا الدّخُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى يُدْخِلَهُمَا عَلَيْهِ، فَكَلّمَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتُهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِهْرُك وَابْنُ عَمّتِك وَابْنُ عَمّك وَأَخُوك مِنْ الرّضَاعَةِ! وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِهِمَا مُسْلِمَيْنِ، لَا يَكُونَانِ أَشْقَى النّاسِ بِك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمّا أَخِي فَالْقَائِلُ لِي بِمَكّةَ مَا قَالَ، لَنْ يُؤْمِنَ لِي حَتّى أَرْقَى فِي السّمَاءَ! وَذَلِك قَوْلُ اللهِ عَزّ وَجَلّ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ... [ (3) ] إلى آخر الآية. فقالت:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّمَا هُوَ مِنْ قَوْمِك مَا هُوَ، وَقَدْ تَكَلّمَ وَكُلّ قُرَيْشٍ قَدْ تَكَلّمَ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ عَفَوْت عَمّنْ هُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْهُ، وَابْنُ عَمّك وَقَرَابَتُهُ بِك، وَأَنْتَ أَحَقّ النّاسِ عَفْوًا عَنْ جُرْمِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الّذِي هَتَكَ عِرْضِي، فَلَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا! فَلَمّا خَرَجَ إلَيْهِمَا الْخَبَرُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ: وَاَللهِ، لَيَقْبَلَنّي أَوْ لَأَخَذْت بِيَدِ ابْنِي هَذَا فَلَأَذْهَبَن فِي الْأَرْضِ حَتّى أَهْلَكَ عَطَشًا وَجُوعًا، وَأَنْتَ أَحْلَمُ النّاسِ وَأَكْرَمُ النّاسِ مَعَ رَحِمِي بِك. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقَالَتُهُ فَرّقَ لَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُمَيّةَ: إنّمَا جِئْت لِأُصَدّقَك، وَلِي مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لِي وَالصّهْرِ بِك. وَجَعَلَتْ أُمّ سَلَمَةَ تُكَلّمُهُ فِيهِمَا، فَرّقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا فَأَذِنَ لَهُمَا وَدَخَلَا، فَأَسْلَمَا وَكَانَا جَمِيعًا حَسَنَى الْإِسْلَامِ، قُتِلَ عَبْدُ اللهِ ابن أَبِي أُمَيّةَ بِالطّائِفِ، وَمَاتَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بِالْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ لَمْ يُغْمَصْ [ (1) ] . عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ أَهْدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ يَوْمَ نِيقِ الْعُقَابِ: أَنْتَ الّذِي تَقُولُ: «طَرَدْتنِي كُلّ مُطْرَدٍ؟» [ (2) ] بَلْ اللهُ طَرَدَك كُلّ مُطْرَدٍ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا قَوْلٌ قُلْته بِجَهَالَةٍ وَأَنْتَ أَوْلَى النّاسِ بِالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ. وَأَمّا قَوْلُهُ: «وَأَدّعِي وَإِنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمّدٍ» [ (3) ] فَإِنّهُ هَرَبَ وَقَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرّومِ، فَقَالَ: مِمّنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ ابن الْحَارِثِ ابْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. قَالَ قَيْصَرُ: أَنْتَ ابْنُ عَمّ مُحَمّدٍ إنْ كُنْت صَادِقًا، مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ؟ قَالَ: قلت: نعم، أنا ابن
عَمّهِ. فَقُلْت: لَا أَرَانِي عِنْدَ مَلِكِ الرّومِ وَقَدْ هَرَبْت مِنْ الْإِسْلَامِ، لَا أَعْرِفُ إلّا بِمُحَمّدٍ! فَدَخَلَنِي الْإِسْلَامُ وَعَرَفْت أَنّ مَا كُنْت فِيهِ بَاطِلٌ مِنْ الشّرْكِ، وَلَكِنّا كُنّا مَعَ قَوْمٍ أَهْلِ عُقُولٍ بَاسِقَةٍ [ (1) ] ، وَأَرَى فَاضِلَ النّاسِ يَعِيشُ فِي عُقُولِهِمْ وَرَأْيِهِمْ، فَسَلَكُوا فَجّا فَسَلَكْنَاهُ. وَلَمّا جَعَلَ أَهْلُ الشّرَفِ وَالسّنّ يَقْتَحِمُونَ عَنْ مُحَمّدٍ، وَيَنْصُرُونَ آلِهَتَهُمْ، وَيَغْضَبُونَ لِآبَائِهِمْ، فَاتّبَعْنَاهُمْ. وَلَقِيَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ بِالسّقْيَا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْعَبّاسُ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتّى رَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَنْزِلُ مَعَهُ فِي كُلّ مَنْزِلٍ حَتّى دَخَلَ مَكّةَ. وَلَمّا كَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي نَزَلَ فِيهَا بِالْجُحْفَةِ، رَأَى أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمّا دَنَوْا مِنْ مَكّةَ، خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ كَلْبَةٌ تَهِرّ، فَلَمّا دَنَوْا مِنْهَا اسْتَلْقَتْ عَلَى ظَهْرِهَا، وَإِذَا أَطْبَاؤُهَا [ (2) ] تَشْخَبُ لَبَنًا. فَذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَهَبَ كَلْبُهُمْ [ (3) ] وَأَقْبَلَ دَرّهُمْ! سَائِلُوكُمْ بِأَرْحَامِكُمْ، وَأَنْتُمْ لَاقُونَ بَعْضَهُمْ، فَإِنْ لَقِيتُمْ أَبَا سُفْيَانَ [ (4) ] فَلَا تَقْتُلُوهُ. وَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدَيْدًا لَقِيَتْهُ سُلَيْمٌ، وَذَلِكَ أَنّهُمْ نَفَرُوا مِنْ بِلَادِهِمْ فَلَقَوْهُ، وَهُمْ تِسْعُمِائَةٍ عَلَى الْخُيُولِ جَمِيعًا، مَعَ كُلّ رَجُلٍ رُمْحُهُ وَسِلَاحُهُ، وَقَدِمَ مَعَهُمْ الرّسُولَانِ اللّذَانِ كَانَ أرسلهما رسول الله صلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، فَذَكَرَا أَنّهُمْ أَسْرَعُوا إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نَزَلَا عَلَيْهِمْ، وَحَشَدُوا- وَيُقَالُ إنّهُمْ أَلْفٌ- فَقَالَتْ سُلَيْمٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّك تُقْصِينَا وَتَسْتَغِشّنَا وَنَحْنُ أَخْوَالُك- أُمّ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرّةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ فَالِحِ بْنِ ذَكْوَانَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ- فَقَدِمْنَا يَا رَسُولَ اللهِ حَتّى تَنْظُرَ كَيْفَ بَلَاؤُنَا، فَإِنّا صُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ صُدُقٌ عِنْدَ اللّقَاءِ، فُرْسَانٌ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ. قَالَ: وَمَعَهُمْ لِوَاءَانِ وَخَمْسُ رَايَاتٍ، وَالرّايَاتُ سُودٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سِيرُوا! فَجَعَلَهُمْ مُقَدّمَتَهُ، وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مُقَدّمَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لَقِيَتْهُ بَنُو سُلَيْمٍ بِقُدَيْدٍ، حَتّى نَزَلُوا مَرّ الظّهْرَانِ وَبَنُو سُلَيْمٍ مَعَهُ. قَالَ: حَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَتْ بَنُو سُلَيْمٍ تِسْعَمِائَةٍ عَلَى الْخُيُولِ، وَالْقَنَا وَالدّرُوعِ الظّاهِرَةِ، قَدْ طَوَوْا أَلْوِيَتَهُمْ وَرَايَاتِهِمْ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ لِوَاءٌ وَلَا رَايَةٌ مَعْقُودَةٌ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اعْقِدْ لَنَا وَضَعْ رَايَتَنَا حَيْثُ رَأَيْت. فَقَالَ: يَحْمِلُ رَايَتَكُمْ الْيَوْمَ مَنْ كَانَ يَحْمِلُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ! مَا فَعَلَ فَتًى كَانَ قَدِمَ مَعَ وَفْدِكُمْ عَلَيّ، حَسَنُ الْوَجْهِ، جَيّدُ اللّسَانِ؟ قَالُوا: تُوُفّيَ [ (1) ] حَدِيثًا. قَالَ: حَدّثَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ فَرّوخٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ بْنِ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ، قَالَ: قَالَ عَبّاسٌ: لَقِيته وَهُوَ يَسِيرُ حَتّى هَبَطَ مِنْ الْمُشَلّلِ فِي آلَةِ الْحَرْبِ، وَالْحَدِيدُ ظَاهِرٌ عَلَيْنَا، وَالْخَيْلُ تُنَازِعُنَا الْأَعِنّةَ، فَصَفَفْنَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَى جَنْبِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَنَادَى عُيَيْنَةُ مَنْ خَلْفَهُ فَقَالَ: أَنَا عُيَيْنَةُ [ (2) ] ! هَذِهِ بَنُو سُلَيْمٍ، قد حضرت بما ترى من العدّة
وَالْعَدَدِ وَالسّلَاحِ: وَإِنّهُمْ لَأَحْلَاسُ [ (1) ] الْخَيْلِ، وَرِجَالُ الْحَرْبِ، وَرُعَاةُ الْحَدَقِ [ (2) ] . فَقَالَ الْعَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَقْصِرْ أَيّهَا الرّجُلُ! وَاَللهِ إنّك لَتَعْلَمُ لَنَحْنُ أَفْرَسُ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، وَأَطْعَنُ بِالْقَنَا، وَأَضْرَبُ بِالْمَشْرَفِيّةِ [ (3) ] مِنْك وَمِنْ قَوْمِك. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: كَذَبْت وَلَؤُمْت [ (4) ] ! لَنَحْنُ أَوْلَى بِمَا ذَكَرْت مِنْك، قَدْ عَرَفَتْهُ لَنَا الْعَرَبُ قَاطِبَةً. فَأَوْمَأَ إلَيْهِمَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ حَتّى سَكَتَا. وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ بِمَرّ الظّهْرَانِ، وَلَمْ يَبْلُغْ قُرَيْشًا حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْ مَسِيرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، فَقَدْ اغْتَمّوا وَهُمْ يَخَافُونَ يَغْزُوَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّ الظّهْرَانِ عِشَاءً، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُوقِدُوا النّيرَانَ، فَأَوْقَدُوا عَشَرَةَ آلَافِ نَارٍ، فَأَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ بَعْثَةَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَتَحَسّبُ الْأَخْبَارَ، وَقَالُوا: إنْ لَقِيت مُحَمّدًا فَخُذْ لَنَا مِنْهُ جِوَارًا إلّا أَنْ تَرَى رِقّةً مِنْ أَصْحَابِهِ فَآذِنْهُ [ (5) ] بِالْحَرْبِ. فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَلَقِيَا بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ فَاسْتَتْبَعَاهُ فَخَرَجَ مَعَهُمَا، فَلَمّا بَلَغُوا الْأَرَاكَ مِنْ مَرّ الظّهْرَانِ رَأَوْا الْأَبْنِيَةَ وَالْعَسْكَرَ وَالنّيرَانَ، وَسَمِعُوا صَهِيلَ الْخَيْلِ وَرُغَاءَ الْإِبِلِ، فَأَفْزَعَهُمْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ بَنُو كَعْبٍ حَاشَتْهَا [ (6) ] الْحَرْبُ! فَقَالَ بُدَيْلٌ: هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي كَعْبٍ! قَالُوا: فَتَنَجّعَتْ [ (7) ] هَوَازِنُ عَلَى أَرْضِنَا! وَاَللهِ مَا نَعْرِفُ هَذَا! إنّ هَذَا الْعَسْكَرَ مِثْلُ حَاجّ النّاسِ!
قَالُوا: وَقَدْ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَرَسِ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ. وَقَدْ رَكِبَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدّلْدُلَ، عَسَى أَنْ يُصِيبَ رَسُولًا إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَاخِلٌ عَلَيْهِمْ مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَسَمِعَ صَوْتَ أبى سفيان فقال: أبا حنظلة! فقال أَبُو سُفْيَانَ: يَا لَبّيْكَ، أَبُو الْفَضْلِ! قَالَ الْعَبّاسُ: نَعَمْ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَمَا وَرَاءَك؟ قَالَ الْعَبّاسُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَسْلِمْ، ثَكِلَتْك أُمّك وَعَشِيرَتُك! ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ فَقَالَ: أَسْلِمَا، فَإِنّي لَكُمَا جَارٌ حَتّى تَنْتَهُوا إلَى رَسُولِ اللهِ، فَإِنّي أَخْشَى أَنْ تَقْتَطِعُوا دُونَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! قَالُوا: فَنَحْنُ مَعَك. قَالَ: فَخَرَجَ بِهِمْ الْعَبّاسُ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبُو سُفْيَانَ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، قَدْ أَجَرْتهمْ وَهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَدْخِلْهُمْ. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَمَكَثُوا عِنْدَهُ عَامّةَ اللّيْلِ يَسْتَخْبِرُهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّي رَسُولُ اللهِ! فَأَمّا حَكِيمٌ وَبُدَيْلٌ فَشَهِدَا، وَأَمّا أَبُو سُفْيَانَ فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، فَلَمّا قَالَ «وَأَنّي رَسُولُ اللهِ» قَالَ: وَاَللهِ يَا مُحَمّدُ، إنّ فِي النّفْسِ مِنْ هَذَا لَشَيْئًا يَسِيرًا بَعْدُ، فَأَرْجِئْهَا. ثُمّ قَالَ لِلْعَبّاسِ: قَدْ أَجَرْنَاهُمْ، اذْهَبْ بِهِمْ إلَى مَنْزِلِك. فَلَمّا أَذّنَ الصّبْحُ أَذّنَ الْعَسْكَرُ كُلّهُمْ، فَفَزِعَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ أَذَانِهِمْ وَقَالَ: مَا يَصْنَعُونَ؟ قَالَ الْعَبّاسُ: فَقُلْت: الصّلَاةُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَمْ يُصَلّونَ فِي الْيَوْمِ وَاللّيْلَةِ؟ قَالَ: الْعَبّاسُ: يُصَلّونَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَثِيرٌ وَاَللهِ! قَالَ: ثُمّ
رَآهُمْ يَبْتَدِرُونَ وُضُوءَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْت يَا أَبَا الْفَضْلِ مُلْكًا هَكَذَا قَطّ، لَا مُلْكَ كِسْرَى، وَلَا مُلْكَ بَنِي الْأَصْفَرِ! فَقَالَ الْعَبّاسُ: وَيْحَك، آمِنْ! قَالَ: أَدْخِلْنِي عَلَيْهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ! فَأَدْخَلَهُ الْعَبّاسُ عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ اسْتَنْصَرْت إلَهِي وَاسْتَنْصَرْت إلَهَك، فَلَا وَاَللهِ مَا لَقِيتُك مِنْ مَرّةٍ إلّا ظَفِرْت عَلَيّ، فَلَوْ كَانَ إلَهِي مُحِقّا وَإِلَهُك مُبْطِلًا غَلَبْتُك! فَتَشَهّدَ أَبُو سُفْيَانَ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ. ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مُحَمّدُ، جِئْت بِأَوْبَاشِ [ (1) ] النّاسِ، مَنْ يَعْرِفُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُ، إلَى عَشِيرَتِك وَأَصْلِك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ أَظْلَمُ وَأَفْجَرُ، غَدَرْتُمْ بِعَهْدِ الْحُدَيْبِيَةِ وَظَاهَرْتُمْ عَلَى بَنِي كَعْبٍ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي حَرَمِ اللهِ وَأَمْنِهِ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَحَيّكُمْ [ (2) ] يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ كُنْت جَعَلْت حِدّتَك وَمَكِيدَتَك بِهَوَازِنَ، فَهُمْ أَبْعَدُ رَحِمًا وَأَشَدّ لَك عَدَاوَةً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي لَأَرْجُو مِنْ رَبّي أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ لِي كُلّهُ بِفَتْحِ مَكّةَ، وَإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ بِهَا، وَهَزِيمَةِ هَوَازِنَ! وَأَنْ يُغْنِمَنِي اللهُ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ، فَإِنّي رَاغِبٌ إلَى اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ! قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: سَمِعْت يَعْقُوبَ بْنَ عُتْبَةَ يُخْبِرُ عَنْ عِكْرِمَةَ، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بمرّ الظّهران، قَالَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ: وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ! وَاَللهِ لَئِنْ دَخَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْوَةً إنّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ آخِرَ الدّهْرِ. قَالَ: فَأَخَذْت بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشّهْبَاءَ فَرَكِبْتهَا، وَقُلْت: أَلْتَمِسُ إنْسَانًا أَبْعَثُهُ إلَى قُرَيْشٍ، فَيَلْقَوْنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عليهم عنوة. قال: فو الله إنى لفى الأراك أبتغى
إنْسَانًا إذْ سَمِعْت كَلَامًا يَقُولُ: وَاَللهِ إنْ رَأَيْت كَاللّيْلَةِ مِنْ [ (1) ] النّيرَانِ. قَالَ: يَقُولُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: هَذِهِ وَاَللهِ خُزَاعَةُ حَاشَتْهَا الْحَرْبُ! قال أبو سفيان: خُزَاعَةُ أَقَلّ وَأَذَلّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانُهُمْ وَعَسْكَرُهُمْ. قَالَ: وَإِذَا بِأَبِي سُفْيَانَ فَقُلْت: أَبَا حَنْظَلَةَ! فَقَالَ: يَا لَبّيْكَ، أَبَا الْفَضْلِ- وعرف صوتي- مالك، فِدَاك أَبِي وَأُمّي؟ فَقُلْت: وَيْلَك، هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ. فَقَالَ: بِأَبِي وَأُمّي! مَا تَأْمُرُنِي، هَلْ مِنْ حِيلَةٍ؟ قُلْت: نَعَمْ، تَرْكَبُ عَجُزَ هَذِهِ الْبَغْلَةِ فَأَذْهَبُ بِك إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنّهُ وَاَللهِ إنْ ظُفِرَ بِك دُونَ رَسُولِ اللهِ، لَتُقْتَلَن. قَالَ أَبُو سفيان: وَأَنَا وَاَللهِ أَرَى ذَلِكَ. قَالَ: وَرَجَعَ بُدَيْلٌ وَحَكِيمٌ، ثُمّ رَكِبَ خَلْفِي، ثُمّ وَجّهْت بِهِ، كُلّمَا مَرَرْت بِنَارِ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَإِذَا رَأَوْنِي قَالُوا: عَمّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ، حَتّى مَرَرْت بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَلَمّا رَآنِي قَامَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: الْعَبّاسُ. قَالَ: فَذَهَبَ يَنْظُرُ، فَرَأَى أبا سفيان خَلْفِي فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ، عَدُوّ اللهِ! الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمْكَنَ مِنْك بِلَا عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ! ثُمّ خَرَجَ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدّ، وَرَكَضَتْ الْبَغْلَةُ حَتّى اجْتَمَعْنَا جَمِيعًا عَلَى بَابِ قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَدَخَلْت عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى إثْرِي، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ عَدُوّ اللهِ، قَدْ أَمْكَنَ اللهُ مِنْهُ بِلَا عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ، فَدَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ. قَالَ: قُلْت. يَا رَسُولَ، اللهِ إنّي قَدْ أَجَرْته! قَالَ: ثُمّ الْتَزَمْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: وَاَللهِ لَا يُنَاجِيهِ اللّيْلَةَ أَحَدٌ غَيْرِي- أَوْ دُونِي. فَلَمّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِيهِ قُلْت: مَهْلًا يَا عُمَرُ! فَإِنّهُ لَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْت هَذَا، وَلَكِنّهُ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. فَقَالَ عُمَرُ: مَهْلًا، يَا أبا الفضل! فو الله لإسلامك كان
أَحَبّ إلَيّ مِنْ إسْلَامِ رَجُلٍ مِنْ آلِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ بِهِ، فَقَدْ أَجَرْته لَك فَلِيَبِتْ عِنْدَك حَتّى تَغْدُو بِهِ عَلَيْنَا إذَا أَصْبَحْت. فَلَمّا أَصْبَحْت غَدَوْت بِهِ، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَيْحَك، يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ؟ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَك وَأَعْظَمَ عَفْوَك! قَدْ كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي أَنّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللهِ إلَهٌ لَقَدْ أَغْنَى عَنّي شَيْئًا بَعْدُ. قَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، مَا أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أمّا هذه، فو الله إنّ فِي النّفْسِ مِنْهَا لَشَيْئًا بَعْدُ. فَقَالَ الْعَبّاسُ: فَقُلْت: وَيْحَك، اشْهَدْ أَنْ لَا إلَهَ إلا الله! واشهد أن محمدا عبده ورسوله قَبْلُ- وَاَللهِ- أَنْ تُقْتَلَ! فَقَالَ: فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ الْعَبّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّك عَرَفْت أَبَا سُفْيَانَ وَحُبّهُ الشّرَفَ وَالْفَخْرَ، اجْعَلْ لَهُ شَيْئًا! قَالَ: نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبّاسِ بَعْدَ مَا خَرَجَ: احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي إلَى خَطْمِ [ (1) ] الْجَبَلِ حَتّى تَمُرّ بِهِ جُنُودُ اللهِ فَيَرَاهَا. قَالَ الْعَبّاسُ: فَعَدَلْت بِهِ فِي مَضِيقِ الْوَادِي إلَى خَطْمِ الْجَبَلِ، فَلَمّا حبست أبا سفيان قَالَ: غَدْرًا بَنِي هَاشِمٍ؟ فَقَالَ الْعَبّاسُ: إنّ أَهْلَ النّبُوّةِ لَا يَغْدِرُونَ، وَلَكِنْ لِي إلَيْك حَاجَةٌ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَهَلّا بَدَأْت بِهَا أَوّلًا! فَقُلْت: إنّ لِي إلَيْك حَاجَةً فَكَانَ أَفْرَخَ لِرَوْعِي. قَالَ الْعَبّاسُ: لَمْ أَكُنْ أَرَاك تَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ. وَعَبّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَمَرّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى قَادَتِهَا وَالْكَتَائِبُ عَلَى رَايَاتِهَا، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي بَنِي سُلَيْمٍ، وَهُمْ أَلْفٌ، فِيهِمْ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ، وَلِوَاءٌ يَحْمِلُهُ خُفَافُ [ (1) ] بْنُ نُدْبَةَ، وَرَايَةٌ يحملها [الحجّاج بن علاط] [ (2) ] . قال أَبُو سُفْيَانَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ الْعَبّاسُ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ: الْغُلَامُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمّا حَاذَى خَالِدٌ الْعَبّاسَ، وَإِلَى جَنْبِهِ أَبُو سُفْيَانَ، كَبّرَ ثَلَاثًا، ثُمّ مَضَوْا. ثُمّ مَرّ عَلَى إثْرِهِ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ فِي خَمْسِمِائَةٍ- مِنْهُمْ مُهَاجِرُونَ وَأَفْنَاءُ [ (3) ] الْعَرَبِ- وَمَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ، فَلَمّا حَاذَى أَبَا سُفْيَانَ كَبّرَ ثَلَاثًا وَكَبّرَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. قال: ابن أختك؟ قال: نعم. ومرّ بنو غفار فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، يَحْمِلُ رَايَتَهُمْ أَبُو ذَرّ الْغِفَارِيّ- وَيُقَالُ إيمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ- فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلَاثًا. قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قال: بنو غفار. قال: ما لي وَلِبَنِي غِفَارٍ! ثُمّ مَضَتْ أَسْلَمُ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ، فيها لواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب، والآخر ناجية بْنُ الْأَعْجَمِ، فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلَاثًا. قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: أَسْلَمُ. قَالَ: يَا أَبَا الفضل، ما لي وَلِأَسْلَمَ! مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مَرّةٌ قَطّ. قَالَ الْعَبّاسُ: هُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ. ثُمّ مَرّتْ بَنُو عَمْرِو بْنُ كَعْبٍ فِي خَمْسِمِائَةٍ، يَحْمِلُ رَايَتَهُمْ بُسْرُ [ (4) ] بْنُ سُفْيَانَ. قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: بَنُو كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو. قَالَ: نَعَمْ، هَؤُلَاءِ حُلَفَاءُ مُحَمّدٍ! فَلَمّا حاذوه
كَبّرُوا ثَلَاثًا. ثُمّ مَرّتْ مُزَيْنَةُ فِي أَلْفٍ، فِيهَا ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ وَفِيهَا مِائَةُ فَرَسٍ، يَحْمِلُ أَلْوِيَتَهَا النّعْمَانُ بْنُ مُقَرّنٍ، وَبِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: مُزَيْنَةُ. قَالَ: يَا أبا الفضل ما لي وَلِمُزَيْنَةَ! قَدْ جَاءَتْنِي تُقَعْقِعُ مِنْ شَوَاهِقِهَا [ (1) ] . ثُمّ مَرّتْ جُهَيْنَةُ فِي ثَمَانِمِائَةٍ مَعَ قَادَتِهَا، فِيهَا أَرْبَعَةُ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءٌ مَعَ أَبِي رَوْعَةَ مَعْبَدَ بْنِ خَالِدٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ عبد الله بن بدر [ (2) ] . قال: فلمّا حاذره كَبّرُوا ثَلَاثًا. ثُمّ مَرّتْ كِنَانَةُ، بَنُو لَيْثٍ، وَضَمْرَةُ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ فِي مِائَتَيْنِ، يَحْمِلُ لِوَاءَهُمْ أَبُو وَاقِدٍ اللّيْثِيّ، فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلَاثًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: بَنُو بَكْرٍ. قَالَ: نَعَمْ، أَهْلُ شُؤْمٍ وَاَللهِ! الّذِينَ غَزَانَا مُحَمّدٌ بِسَبَبِهِمْ، أَمَا وَاَللهِ مَا شُووِرْت فِيهِ وَلَا عَلِمْته، وَلَقَدْ كُنْت لَهُ كَارِهًا حَيْثُ بلغني، ولكنه أمر حُمّ! قَالَ الْعَبّاسُ: قَدْ خَارَ اللهُ لَك فِي غَزْوِ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ كَافّةً. قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي عَمْرَةَ بْنِ حَمَاسٍ قَالَ: مَرّتْ بَنُو لَيْثٍ وَحْدَهَا، وَهُمْ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، يَحْمِلُ لِوَاءَهَا الصّعْبُ بْنُ جَثّامَةَ، فَلَمّا مَرّ كَبّرُوا ثَلَاثًا فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: بَنُو لَيْثٍ. ثُمّ مَرّتْ أَشْجَعُ- وَهُمْ آخر من مرّ وهم ثلاثمائة، مَعَهُمْ لِوَاءَانِ، لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا أَشَدّ الْعَرَبِ عَلَى مُحَمّدٍ. فَقَالَ الْعَبّاسُ: أَدْخَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَزّ وَجَلّ! فَسَكَتَ ثُمّ قَالَ: مَا مَضَى بَعْدُ مُحَمّدٌ! قَالَ العبّاس: لم يمض
بَعْدُ، لَوْ رَأَيْت الْكَتِيبَةَ الّتِي فِيهَا مُحَمّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْت الْحَدِيدَ وَالْخَيْلَ وَالرّجَالَ، وَمَا لَيْسَ لِأَحَدِ بِهِ طَاقَةٌ، قَالَ: أَظُنّ وَاَللهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ، وَمَنْ لَهُ بِهَؤُلَاءِ طَاقَةٌ؟ فَلَمّا طَلَعَتْ كَتِيبَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَضْرَاءُ طَلَعَ سَوَادٌ وَغَبَرَةٌ مِنْ سَنَابِكِ الْخَيْلِ، وَجَعَلَ النّاسُ يَمُرّونَ، كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ: مَا مَرّ مُحَمّدٌ! فَيَقُولُ الْعَبّاسُ: لَا حَتّى مَرّ يَسِيرُ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وهو يحدّثهما، فقال الْعَبّاسُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فِيهَا الرّايَاتُ وَالْأَلْوِيَةُ، مَعَ كُلّ بَطْنٍ مِنْ الْأَنْصَارِ رَايَةٌ وَلِوَاءٌ، فِي الْحَدِيدِ لَا يُرَى مِنْهُمْ إلّا الْحَدَقُ، وَلِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيهَا زَجَلٌ- وَعَلَيْهِ الْحَدِيدُ- بِصَوْتِ عَالٍ وَهُوَ يُزْعِجُهَا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، مَنْ هَذَا المتكلّم؟ قال: عمر ابن الْخَطّابِ. قَالَ: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ بَنِي عَدِيّ بَعْدُ- وَاَللهِ- قِلّةٍ وَذِلّةٍ! فَقَالَ الْعَبّاسُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، إنّ اللهَ يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ [ (1) ] بِمَا يَشَاءُ، وَإِنّ عُمَرَ مِمّنْ رَفَعَهُ الْإِسْلَامُ. وَيُقَالُ: كَانَ فِي الْكَتِيبَةِ أَلْفُ دَارِعٍ. وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَايَتَهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَهُوَ أَمَامَ الْكَتِيبَةِ، فَلَمّا مَرّ سَعْدٌ بِرَايَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَى: يَا أَبَا سُفْيَانَ! الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ! الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ! الْيَوْمَ أَذَلّ اللهُ قُرَيْشًا! فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى إذَا حَاذَى أَبَا سُفْيَانَ نَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُمِرْت بِقَتْلِ قَوْمِك؟ زَعَمَ سَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ مَرّ بِنَا قَالَ «يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ! الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ! الْيَوْمَ أَذَلّ اللهُ قُرَيْشًا!» وَإِنّي أَنْشُدُك اللهَ فِي قَوْمِك، فَأَنْتَ أَبَرّ النّاسِ، وَأَرْحَمُ النّاسِ، وَأَوْصَلُ النّاسِ. قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بن
عَوْفٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَأْمَنُ سَعْدًا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ! الْيَوْمَ أَعَزّ اللهُ فِيهِ قُرَيْشًا! قَالَ: وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إنى سَعْدٍ فَعَزَلَهُ، وَجَعَلَ اللّوَاءَ إلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ اللّوَاءَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ سَعْدٍ حِينَ صَارَ لِابْنِهِ. فَأَبَى سَعْدٌ أَنْ يُسَلّمَ اللّوَاءَ إلّا بِأَمَارَةِ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِمَامَتِهِ، فَعَرَفَهَا سَعْدٌ فَدَفَعَ اللّوَاءَ إلَى ابْنِهِ قَيْسٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ أَهْلِهِ، قَالُوا: دَخَلَ وَاَللهِ سَعْدٌ بِلِوَائِهِ حَتّى غَرَزَهُ بِالْحَجُونِ. وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ الْفِهْرِيّ: وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَلِيّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخَذَ اللّوَاءَ، فَذَهَبَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِهَا حَتّى دَخَلَ بِهَا مَكّةَ فَغَرَزَهَا عِنْدَ الرّكْنِ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذِهِ الْكَتِيبَةِ قَطّ، وَلَا خَبّرَنِيهِ مُخَبّرٌ! سُبْحَانَ اللهِ، مَا لِأَحَدِ بِهَذِهِ طَاقَةٌ وَلَا يَدَانِ! ثُمّ قَالَ: لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْغَدَاةَ عَظِيمًا! قَالَ، قُلْت: وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ، لَيْسَ بِمُلْكِ وَلَكِنّهَا نُبُوّةٌ. قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَاعِدَةَ، قَالَ: قَالَ لَهُ الْعَبّاسُ: فَانْجُ وَيْحَك فَأَدْرِكْ قَوْمَك قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فَتَقَدّمَ النّاسُ كُلّهُمْ حَتّى دَخَلَ مِنْ كَدَاءٍ [ (1) ] وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ! حَتّى انْتَهَى إلَى هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ، فَأَخَذَتْ بِرَأْسِهِ فَقَالَتْ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: هَذَا مُحَمّدٌ فِي عَشَرَةِ آلاف عليهم الحديد، وقد
جَعَلَ لِي: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ طَرَحَ السّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ. قَالَتْ: قَبّحَك اللهُ رَسُولَ قَوْمٍ. قَالَ: وَجَعَلَ يَصْرُخُ بِمَكّةَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَيْحَكُمْ! إنّهُ قَدْ جَاءَ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ! هَذَا مُحَمّدٌ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ عَلَيْهِمْ الْحَدِيدُ، فَأَسْلِمُوا! قَالُوا: قَبّحَك اللهُ وَافِدَ قَوْمٍ! وَجَعَلَتْ هِنْدُ تَقُولُ: اُقْتُلُوا وَافِدَكُمْ هَذَا، قَبّحَك اللهُ وَافِدَ قَوْمٍ. قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: وَيْلَكُمْ، لَا تَغُرّنكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ! رَأَيْت مَا لَمْ تَرَوْا! رَأَيْت الرّجَالَ وَالْكُرَاعَ وَالسّلَاحَ، فَلَا لِأَحَدِ بِهَذَا طَاقَةٌ! قَالُوا: وَانْتَهَى الْمُسْلِمُونَ إلَى ذِي طُوًى، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتّى تَلَاحَقَ النّاسُ. وَقَدْ كَانَ صَفْوَانُ بْنُ أميّة، وعكرمة ابن أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ دَعَوْا إلَى قِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَوَى إلَيْهِمْ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَهُذَيْلٍ، وَتَلَبّسُوا السّلَاحَ، وَيُقْسِمُونَ بِاَللهِ لَا يَدْخُلُهَا مُحَمّدٌ عَنْوَةً أَبَدًا. فَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الدّيلِ يُقَالُ لَهُ: حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ الدّيلِيّ، لَمّا سَمِعَ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم جَلَسَ يُصْلِحُ سِلَاحَهُ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَنْ تُعِدّ هَذَا؟ قَالَ: لِمُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنّي أَرْجُو أَنْ أَخْدُمَك مِنْهُمْ خَادِمًا فَإِنّك إلَيْهِ مُحْتَاجَةٌ. قَالَتْ: وَيْحَك، لَا تَفْعَلْ وَلَا تُقَاتِلْ مُحَمّدًا! وَاَللهِ لَيَضِلّن هَذَا عَنْك لَوْ رَأَيْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ: سَتَرَيْنَ. قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، مُعْتَجِرًا بِشُقّةِ بُرْدٍ [ (1) ] حِبَرَةٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبّادِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَرَايَتُهُ سَوْدَاءُ، وَلِوَاؤُهُ أَسْوَدُ، حَتّى وَقَفَ بِذِي طُوًى وَتَوَسّطَ النّاسَ وَإِنّ عُثْنُونَهُ [ (1) ] لَيَمَسّ وَاسِطَةَ الرّحْلِ أَوْ يَقْرُبُ مِنْهُ، تَوَاضُعًا لِلّهِ تَعَالَى حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ فَتْحِ اللهِ وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمّ قَالَ: الْعَيْشُ عَيْشُ الْآخِرَةُ! قَالَ: وَجَعَلَتْ الْخَيْلُ تَمْعَجُ [ (2) ] بِذِي طُوًى فِي كُلّ وَجْهٍ، ثُمّ ثَابَتْ وَسَكَنَتْ حَيْثُ تَوَسّطَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: وَصَعِدَ أَبُو قُحَافَةَ يَوْمَئِذٍ بِصُغْرَى بَنَاتِهِ، قُرَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي قُحَافَةَ، تَقُودُهُ حَتّى ظَهَرَتْ بِهِ إلَى أَبِي قُبَيْسٍ- وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ- فَلَمّا أَشْرَفَتْ بِهِ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ قَالَ: يَا بُنَيّةُ، مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى رَجُلًا يَسْعَى بَيْنَ ذَلِكَ السّوَادِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا. قَالَ: ذَلِكَ الْوَازِعُ [ (3) ] يَا بُنَيّةُ، اُنْظُرِي مَا تَرَيْنَ! قَالَتْ: تَفَرّقَ السّوَادُ. قَالَ: قَدْ تَفَرّقَتْ الْجُيُوشُ! الْبَيْتَ! الْبَيْتَ! قَالَتْ: فَنَزَلْت بِهِ. قَالَ: فَجَعَلَتْ الْجَارِيَةُ تَرْعَبُ لِمَا تَرَى، فَيَقُولُ: يَا بُنَيّةُ، لا تخافي! فو الله إنّ أَخَاك عَتِيقًا [ (4) ] لَآثُرُ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ عِنْدَ مُحَمّدٍ. قَالَ: وَعَلَيْهَا طَوْقٌ مِنْ فِضّةٍ، فَاخْتَلَسَهُ بَعْضُ مَنْ دَخَلَ. قَالُوا: فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنْشُدُ بِاَللهِ طَوْقَ أُخْتِي! ثَلَاثَ مَرّاتٍ. ثُمّ قَالَ: يَا أُخَيّةُ احْتَسِبِي طَوْقَك، فَإِنّ الْأَمَانَةَ فِي النّاسِ قَلِيلٌ.
قَالُوا: ثُمّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ؟ فَقَالَ [ (1) ] : عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النّقْعَ مِنْ كَتِفَيْ كَدَاءِ ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن الْعَوّامِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ كُدًى [ (2) ] ، وَأَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ اللّيطِ [ (3) ] ، وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ كَدَاءٍ، وَالرّايَةُ مَعَ ابْنِهِ قَيْسٍ، وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ مِنْ أَذَاخِرَ. وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقِتَالِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ سِتّةِ نَفَرٍ وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَهَبّارِ بْنِ الأسود، وعبد الله ابن سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ اللّيْثِيّ، وَالْحُوَيْرِثِ بْنِ نُقَيْذٍ [ (4) ] ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ هِلَالِ بْنِ خَطَلٍ الْأَدْرَمِيّ، وَهِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسَارَةَ مَوْلَاةَ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ، وَقَيْنَتَيْنِ لِأَبِي خَطَلٍ: قُرَيْنَا وَقُرَيْبَةَ، وَيُقَالُ: فَرْتَنَا وَأَرْنَبَةَ. فَكُلّ الْجُنُودِ دَخَلَ فَلَمْ يَلْقَ جَمْعًا، فَلَمّا دَخَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَجَدَ جَمْعًا مِنْ قُرَيْشٍ وَأَحَابِيشِهَا [ (5) ] قَدْ جَمَعُوا لَهُ، فِيهِمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَمَنَعُوهُ الدّخُولَ، وَشَهَرُوا السّلَاحَ، وَرَمَوْا بِالنّبْلِ، وَقَالُوا: لَا تَدْخُلُهَا عَنْوَةً أَبَدًا! فَصَاحَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي أَصْحَابِهِ وَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، وأربعة من
هُذَيْلٍ، وَانْهَزَمُوا أَقْبَحَ الِانْهِزَامِ حَتّى قُتِلُوا بِالْحَزْوَرَةِ [ (1) ] وَهُمْ مُوَلّونَ فِي كُلّ وَجْهٍ. وَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَوْقَ رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَاتّبَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَصِيحَانِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، عَلَامَ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ؟ مَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ وَضَعَ السّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ. فَجَعَلَ النّاسُ يَقْتَحِمُونَ الدّورَ، وَيُغَلّقُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَطْرَحُونَ السّلَاحَ فِي الطّرُقِ حَتّى يَأْخُذَهَا الْمُسْلِمُونَ. وَلَمّا ظَهَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَنِيّةِ أَذَاخِرَ نَظَرَ إلَى الْبَارِقَةِ [ (2) ] فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْبَارِقَةُ، أَلَمْ أَنْهَ عَنْ الْقِتَالِ؟ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قُوتِلَ، وَلَوْ لَمْ يُقَاتَلْ مَا قَاتَلَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَضَى اللهُ خَيْرًا! قَالَ: وَجَعَلَ يَتَمَثّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ خَارِجَةَ بْنَ خُوَيْلِدٍ الْكَعْبِيّ، أَنْشَدَنِيهَا [] [ (3) ] عَنْ أَبِيهِ: إذَا مَا رَسُولُ اللهِ فِينَا رَأَيْتنَا ... كَلُجّةِ بَحْرٍ نَالَ فِيهَا سَرِيرُهَا إذَا مَا ارْتَدَيْنَا الْفَارِسِيّةَ فَوْقَهَا ... رُدَيْنِيّةٌ [ (4) ] يَهْدِي الْأَصَمّ خَرِيرُهَا [ (5) ] [] [ (6) ] وَإِنّ مُحَمّدًا لَهَا نَاصِرٌ ... عَزّتْ وَعَزّ نَصِيرُهَا وَأَقْبَلَ ابْنُ خَطَلٍ جَائِيًا مِنْ مَكّةَ، مُدَجّجًا فِي الْحَدِيدِ، عَلَى فَرَسٍ ذَنُوبٍ [ (7) ] ، بِيَدِهِ قَنَاةٌ. وَبَنَاتُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَدْ ذُكِرَ لَهُنّ أَنّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَخَلَ، فَخَرَجْنَ قَدْ نَشَرْنَ رُءُوسَهُنّ، يَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ وُجُوهَ الْخَيْلِ، فَضَرَبَهُنّ ابْنُ خَطَلٍ جَائِيًا مِنْ أَعْلَى مَكّةَ فَقَالَ لَهُنّ: أَمَا وَاَللهِ لَا يَدْخُلُهَا حَتّى تَرَيْنَ ضَرْبًا كَأَفْوَاهِ الْمَزَادِ [ (1) ] ! ثُمّ خَرَجَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْخَنْدَمَةِ، فَرَأَى خَيْلَ الْمُسْلِمِينَ وَرَأَى الْقِتَالَ، وَدَخَلَهُ الرّعْبُ حَتّى مَا يَسْتَمْسِكُ مِنْ الرّعْدَةِ، حَتّى انْتَهَى إلَى الْكَعْبَةِ فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَطَرَحَ سِلَاحَهُ، فَأَتَى الْبَيْتَ فَدَخَلَ بَيْنَ أَسْتَارِهِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَخَذَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ دِرْعَهُ، وَصَفَفَهُ [ (2) ] ، وَمِغْفَرَهُ، وَبَيْضَتَهُ، وَسَيْفَهُ، وَأَدْرَكَ فَرَسَهُ غَائِرًا فَأَدْرَكَهُ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ، وَلَحِقَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجُونِ. قَالُوا: وَأَقْبَلَ حِمَاسُ بْنُ خَالِدٍ مُنْهَزِمًا حَتّى أَتَى بَيْتَهُ، فَدَقّهُ فَفَتَحَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ فَدَخَلَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ رُوحُهُ، فَقَالَتْ: أَيْنَ الْخَادِمُ الّذِي وَعَدْتنِي؟ مَا زِلْت مُنْتَظِرَتُك مُنْذُ الْيَوْمِ تُسَخّرُ بِهِ! قَالَ: دَعِي عَنْك، أَغْلِقِي بَابِي! فَإِنّهُ مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ! قَالَتْ: وَيْحَك! أَلَمْ أَنْهَك عَنْ قِتَالِ مُحَمّدٍ؟ وَقُلْت لَك: «مَا رَأَيْته يُقَاتِلُكُمْ مِنْ مَرّةٍ إلّا ظَهَرَ عَلَيْكُمْ» ، وَمَا بَابُنَا؟ قَالَ: إنّهُ لَا يُفْتَحُ عَلَى أَحَدٍ بَابُهُ. ثُمّ قَالَ- أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ: وَأَنْتَ لَوْ شَهِدْتنَا بِالْخَنْدَمَهْ ... إذْ فَرّ صَفْوَانُ وَفَرّ عِكْرَمَهْ وَأَبُو يَزِيدَ [ (3) ] كَالْعَجُوزِ الْمُؤْتِمَهْ [ (4) ] ... لَمْ تَنْطِقِي فى اللّوم أدنى كلمه
وَضَرَبَتْنَا [ (1) ] بِالسّيُوفِ الْمِسْلِمَهْ ... لَهُمْ زَئِيرٌ [ (2) ] خَلْفَنَا وَغَمْغَمَهْ [ (3) ] قَالَ: وَأَقْبَلَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتّى انْتَهَى بِهِمْ إلَى الْحَجُونِ، فَغَرّزَ الرّايَةَ عِنْدَ مَنْزِلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أحد إلّا رجلان من أصحابه، أخطئا طَرِيقَهُ فَسَلَكَا غَيْرَهَا فَقُتِلَا، كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الفهرىّ، فقام عليه خالد الأشعر وَهُوَ جَدّ حِزَامِ بْنِ خَالِدٍ حَتّى قُتِلَ، وَكَانَ الّذِي قَتَلَ خَالِدًا ابْنُ أَبِي الْجِذْعِ الْجُمَحِيّ. قَالَ: فَحَدّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ بَشِيرٍ مَوْلَى الْمَازِنِيّينَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنْت مِمّنْ لَزِمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلْت مَعَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَذَاخِرَ، فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَى أَذَاخِرَ نَظَرَ إلَى بُيُوتِ مَكّةَ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَنَظَرَ إلَى مَوْضِعِ قُبّتِهِ فَقَالَ: هَذَا مَنْزِلُنَا يَا جَابِرُ، حَيْثُ تَقَاسَمَتْ عَلَيْنَا قُرَيْشٌ فِي كُفْرِهَا. قَالَ جَابِرٌ: فَذَكَرْت حَدِيثًا كُنْت أَسْمَعُهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ: «مَنْزِلُنَا غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ إذَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا مَكّةَ فِي الْخَيْفِ [ (4) ] حِينَ تَقَاسَمُوا عَلَيّ الْكُفْر» . وَكُنّا بِالْأَبْطَحِ وِجَاهَ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ حُصِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هَاشِمٍ ثَلَاثَ سِنِينَ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: كَانَ أبو رافع
قَدْ ضَرَبَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبّةً بِالْحَجُونِ مِنْ أَدَمٍ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى انْتَهَى إلى القبّة، ومعه أم سلمة وميمونة. قَالَ: حَدّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: قِيلَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تَنْزِلُ مَنْزِلَك مِنْ الشّعْبِ؟ قَالَ: فَهَلْ ترك لنا عقيل [ (1) ] منزلا؟ وكان عُقَيْلٌ قَدْ بَاعَ مَنْزِلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْزِلَ إخْوَتِهِ مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ بِمَكّةَ. فَقِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَانْزِلْ فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكّةَ فِي غَيْرِ مَنَازِلِك! فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لَا أَدْخُلُ الْبُيُوتَ. فَلَمْ يَزَلْ مُضْطَرِبًا بِالْحَجُونِ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتًا، وَكَانَ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ مِنْ الْحَجُونِ. قَالَ: وَحَدّثَنَا ابْنُ خَدِيجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: لَمّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَدْخُلْ بُيُوتَ مَكّةَ، فَاضْطَرَبَ بِالْأَبْطَحِ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ، وَعَامَ الْفَتْحِ، وَفِي حَجّتِهِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ [ (2) ] قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَرِبًا بِالْحَجُونِ فِي الْفَتْحِ، وَيَأْتِي لِكُلّ صَلَاةٍ. قَالُوا: وَكَانَتْ أُمّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ تَحْتَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ دَخَلَ عَلَيْهَا حَمَوَانِ لَهَا- عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيّ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ- فَاسْتَجَارَا بِهَا وَقَالَا: نَحْنُ فِي جِوَارِك! فَقَالَتْ: نَعَمْ، أَنْتُمَا فِي جِوَارِي. قَالَتْ أُمّ هَانِئٍ: فَهُمَا عِنْدِي إذْ دَخَلَ عَلِيّ فَارِسًا، مُدَجّجًا فِي الْحَدِيدِ، وَلَا أَعْرِفُهُ، فَقُلْت لَهُ: أَنَا بِنْتُ عَمّ رسول الله صلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: فَكَفّ عَنّي وَأَسْفَرَ عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَقُلْت: أَخِي! فَاعْتَنَقْته وَسَلّمْت عَلَيْهِ، وَنَظَرَ إلَيْهِمَا فَشَهَرَ السّيْفَ عَلَيْهِمَا. قُلْت: أَخِي مِنْ بَيْنِ النّاسِ يَصْنَعُ بِي هَذَا! قَالَتْ: وَأَلْقَيْت عَلَيْهِمَا ثَوْبًا، وَقَالَ: تُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ؟ وَحُلْت دُونَهُمَا فَقُلْت: وَاَللهِ لَتَبْدَأَن بِي قَبْلَهُمَا! قَالَتْ: فَخَرَجَ وَلَمْ يَكَدْ، فَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَيْتًا، وَقُلْت: لَا تَخَافَا! قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانئ، قَالَتْ: فَذَهَبْت إلَى خِبَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ فَلَمْ أَجِدْهُ، وَوَجَدْت فِيهِ فَاطِمَةَ فَقُلْت: مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمّي عَلِيّ؟ أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَتَفَلّتَ عَلَيْهِمَا لِيَقْتُلَهُمَا! قَالَتْ: فَكَانَتْ أَشَدّ عَلَيّ مِنْ زَوْجِهَا وَقَالَتْ: تُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَتْ: إلَى أَنْ طَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ رَهْجَةُ [ (1) ] الْغُبَارِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِفَاخِتَةَ [ (2) ] أُمّ هَانِئٍ! وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَقُلْت: مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمّي عَلِيّ؟ مَا كِدْت أَنْفَلِتُ مِنْهُ أَجَرْت حَمْوَيْنِ لِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَتَفَلّتَ عَلَيْهِمَا لِيَقْتُلَهُمَا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ ذَاكَ، قَدْ أَمّنّا مَنْ أَمّنْت، وَأَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت. ثُمّ أَمَرَ فَاطِمَةَ فَسَكَبَتْ لَهُ غُسْلًا فَاغْتَسَلَ، ثُمّ صَلّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُلْتَحِفًا بِهِ، وَذَلِكَ ضُحًى فِي فَتْحِ مَكّةَ. قَالُوا: قَالَتْ: فَرَجَعْت إلَيْهِمَا فَأَخْبَرْتهمَا وَقُلْت لَهُمَا: إنْ شِئْتُمَا فَأَقِيمَا وَإِنْ شِئْتُمَا فَارْجِعَا إلَى مَنَازِلِكُمَا. قَالَتْ: فَأَقَامَا عِنْدِي يَوْمَيْنِ فِي مَنْزِلِي، ثُمّ انْصَرَفَا إلَى مَنَازِلِهِمَا. قَالَتْ: فَكُنْت أَكُونُ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِبَائِهِ بِالْأَبْطَحِ حَتّى خَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ. قَالَتْ: فَأَتَى آت إلى رسول الله صلّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الحارث بن هشام وابن أَبِي رَبِيعَةَ جَالِسَانِ فِي نَادِيهِمَا مُتَفَضّلَانِ [ (1) ] فِي الْمُلَاءِ الْمُزَعْفَرِ [ (2) ] . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا سَبِيلَ إلَيْهِمَا، قَدْ أَمّنّاهُمَا! قَالَ: وَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِهِ سَاعَةً مِنْ النّهَارِ وَاطْمَأَنّ وَاغْتَسَلَ، ثُمّ دَعَا بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَأُدْنِيَتْ إلَى بَابِ قُبّتِهِ، وَدَعَا لِلُبْسِ السّلَاحِ، وَالْمِغْفَرُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَدْ صَفّ لَهُ النّاسُ، فَرَكِبَ بِرَاحِلَتِهِ وَالْخَيْلُ تَمْعَجُ بَيْنَ الْخَنْدَمَةِ إلَى الْحَجُونِ، وَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر رضى الله عنه إلَى جَنْبِهِ يَسِيرُ يُحَادِثُهُ، فَمَرّ بِبَنَاتِ أَبِي أُحَيْحَةَ بِالْبَطْحَاءِ حِذَاءَ مَنْزِلِ أَبِي أُحَيْحَةَ وَقَدْ نَشَرْنَ رُءُوسَهُنّ، يَلْطِمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِالْخُمُرِ، فَنَظَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أَبِي بَكْرٍ فَتَبَسّمَ، وَذَكَرَ بَيْتَ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ (3) ] . تَظِلّ جِيَادُنَا مُتَمَطّرَاتٍ [ (4) ] ... يُلَطّمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ وَلَمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى الْكَعْبَةِ فَرَآهَا، وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، تَقَدّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَاسْتَلَمَ الرّكْنَ بِمِحْجَنِهِ، وَكَبّرَ فَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ لِتَكْبِيرِهِ، فَرَجَعُوا التّكْبِيرَ حَتّى ارْتَجّتْ مَكّةُ تَكْبِيرًا حَتّى جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ إلَيْهِمْ: اُسْكُتُوا! وَالْمُشْرِكُونَ فَوْقَ الْجِبَالِ يَنْظُرُونَ. ثُمّ طَافَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، آخِذٌ بِزِمَامِهَا
مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ، وَسِتّونَ صَنَمًا مُرَصّصَةٌ بِالرّصَاصِ وَكَانَ هُبَلُ أَعْظَمُهَا، وَهُوَ وِجَاهَ الْكَعْبَةِ عَلَى بَابِهَا، وَإِسَافُ وَنَائِلَةُ حَيْثُ يَنْحَرُونَ وَيَذْبَحُونَ الذّبَائِحَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّمَا مَرّ بِصَنَمِ مِنْهَا يُشِيرُ بِقَضِيبِ فِي يَدِهِ [وَيَقُولُ] : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [ (1) ] . فَيَقَعُ الصّنَمُ لِوَجْهِهِ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قَالَ: مَا يَزِيدُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشِيرَ بِالْقَضِيبِ إلَى الصّنَمِ فَيَقَعُ لِوَجْهِهِ، فَطَافَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ الْأَسْوَدَ بِمِحْجَنِهِ فِي كُلّ طَوَافٍ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ سَبْعِهِ نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، وَجَاءَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَضْلَةَ فَأَخْرَجَ رَاحِلَتَهُ، ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَقَامِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لَاصِقٌ بِالْكَعْبَةِ، وَالدّرْعُ عَلَيْهِ وَالْمِغْفَرُ، وَعِمَامَتُهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ انْصَرَفَ إلَى زَمْزَمَ فَاطّلَعَ فِيهَا، وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَ بَنُو عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَنَزَعْت مِنْهَا دَلْوًا. فَنَزَعَ لَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ. وَيُقَالُ: الّذِي نَزَعَ الدّلْوَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. وَأَمَرَ بِهُبَلَ فَكُسِرَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ. فَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، قَدْ كُسِرَ هُبَلُ! أَمَا إنّك قَدْ كُنْت مِنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي غُرُورٍ، حِينَ تَزْعُمُ أَنّهُ قَدْ أَنْعَمَ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: دَعْ هَذَا عَنْك يَا ابْنَ الْعَوّامِ، فَقَدْ أَرَى لَوْ كَانَ مَعَ إلَهِ مُحَمّدٍ غَيْرُهُ لَكَانَ غَيْرَ مَا كَانَ! قَالُوا: ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم فجلس ناحية من
الْمَسْجِدِ وَالنّاسُ حَوْلَهُ، ثُمّ أَرْسَل بِلَالًا إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ يَأْتِيه بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، فَجَاءَ بِلَالٌ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُك أَنْ تَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ. قَالَ عُثْمَانُ: نَعَمْ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ إلَى أُمّهِ وَهِيَ بِنْتُ شَيْبَةَ، وَرَجَعَ بِلَالٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ قَالَ نَعَمْ، ثُمّ جَلَسَ بِلَالٌ مَعَ النّاسِ. فَقَالَ عُثْمَانُ لِأُمّهِ، وَالْمِفْتَاحُ يَوْمَئِذٍ عِنْدَهَا: يَا أُمّهُ، أَعْطِنِي الْمِفْتَاحَ فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَرْسَلَ إلَيّ وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ بِهِ إلَيْهِ. فَقَالَتْ أُمّهُ: أُعِيذُك بِاَللهِ أَنْ تَكُونَ الّذِي تَذْهَبُ مَأْثُرَةُ [ (1) ] قومه على يديه. قال: فو الله لَتَدْفَعَنهُ إلَيّ أَوْ لَيَأْتِيَنك غَيْرِي فَيَأْخُذُهُ مِنْك. فَأَدْخَلَتْهُ فِي حُجْزَتِهَا [ (2) ] وَقَالَتْ: أَيّ رَجُلٍ يُدْخِلُ يده هاهنا؟ فبيناهم عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يُكَلّمُهَا إذْ سَمِعَتْ صَوْتَ أبى بكر وَعُمَرَ فِي الدّارِ، وَعُمَرُ رَافِعٌ صَوْتَهُ حِينَ رَأَى إبْطَاءَ عُثْمَانَ: يَا عُثْمَانُ، اُخْرُجْ إلَيّ! فَقَالَتْ أُمّهُ: يَا بُنَيّ، خُذْ الْمِفْتَاحَ فَأَنْ تَأْخُذَهُ أَنْتَ أَحَبّ [إلَيّ] مِنْ [أَنْ] يَأْخُذَهُ تَيْمٌ وَعَدِيّ. قَالَ: فَأَخَذَهُ عُثْمَانُ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاوَلَهُ إيّاهُ، فَلَمّا نَاوَلَهُ بَسَطَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ يَدَهُ فَقَالَ: يَا نَبِيّ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ وَالسّقَايَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُعْطِيكُمْ مَا تَرْزَءُونَ فِيهِ، وَلَا أُعْطِيكُمْ مَا تَرْزَءُونَ [ (3) ] مِنْهُ. وَقَدْ سَمِعْت أَيْضًا فِي قَبْضِ الْمِفْتَاحِ بِوَجْهِ آخَرَ. قال: حدثني إسمعيل بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابن عمر،
قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى بَعِيرٍ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. وَأُسَامَةُ رَدِيفُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ بِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَلَمّا بَلَغَ رَأْسَ الثّنِيّةِ أَرْسَلَ عُثْمَانَ فَجَاءَهُ بِالْمِفْتَاحِ فَاسْتَقْبَلَهُ بِهِ. قَالُوا: وَكَانَ عُثْمَانُ قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد وعمرو ابن الْعَاصِ مُسْلِمًا قَبْلَ الْفَتْحِ، فَخَرَجَ مَعَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَهَذَا أَثْبَتُ الْوُجُوهِ. وَقَالُوا: إنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ بَعَثَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الْبَطْحَاءِ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ [ (1) ] ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَقَدّمَ فَيَفْتَحَ الْبَيْتَ، فَلَا يَدَعُ فِيهِ صُورَةً إلّا مَحَاهَا، وَلَا تِمْثَالًا، إلّا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ. فَلَمّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ رَأَى صُورَةَ إبْرَاهِيمَ شَيْخًا كَبِيرًا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ. وَيُقَالُ: أَمَرَهُ أَلّا يَدَعَ صُورَةً إلّا مَحَاهَا، فَتَرَك عُمَرُ صُورَةَ إبْرَاهِيمَ، فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى صُورَةَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، أَلَمْ آمُرْك أَلّا تَدَعَ فِيهَا صُورَةً إلّا مَحَوْتهَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: كَانَتْ صُورَةُ إبْرَاهِيمَ. قَالَ: فَامْحُهَا. فَكَانَ الزّهْرِيّ يَقُولُ: لَمّا دَخَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهَا، وَرَأَى صُورَةَ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، قَالَ: قَاتَلَهُمْ اللهُ، جَعَلُوهُ شَيْخًا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ! ثُمّ رَأَى صُورَةَ مَرْيَمَ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا ثُمّ قَالَ: امْسَحُوا مَا فِيهَا مِنْ الصّوَرِ إلّا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ. قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ فَرَأَى فِيهَا صُوَرًا، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ فِي الدّلْوِ بِمَاءِ، فَيَبُلّ الثّوْبَ وَيَضْرِبَ بِهِ الصّوَرَ، وَيَقُولُ: قَاتَلَ اللهُ قوما يصوّرون ما لا يخلقون!
قَالُوا: وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَعْبَةِ فَغُلّقَتْ عَلَيْهِ، وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَمَكَثَ فِيهَا مَا شَاءَ اللهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتّةِ أَعْمِدَةٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَأَلْت بِلَالًا كَيْفَ صَنَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَثَلَاثَةً وَرَاءَهُ، ثُمّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمِفْتَاحُ فِي يَدِهِ، وَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يذبّ الناس على الْبَابِ حَتّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ مَنْصُورٍ الْحَجَبِيّ، عَنْ أُمّهِ صَفِيّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ بَرّةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ [ (1) ] ، قَالَتْ: أَنَا أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم حِينَ خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ، فَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ وَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ [ (2) ] الْبَابِ، فَأَشْرَفَ عَلَى النّاسِ وَبِيَدِهِ الْمِفْتَاحُ، ثُمّ جَعَلَهُ فِي كُمّهِ. قَالُوا: فَلَمّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النّاسِ، وَقَدْ لِيطَ بِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَهُمْ جُلُوسٌ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ! مَاذَا تَقُولُونَ وَمَاذَا تَظُنّونَ؟ قَالُوا: نَقُولُ خَيْرًا وَنَظُنّ خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، وَقَدْ قَدَرْت! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ (3) ] . أَلَا إنّ كُلّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيّةِ، أو دم،
أَوْ مَالٍ، أَوْ مَأْثُرَةٍ، فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِي هَاتَيْنِ إلّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ، أَلَا وَفِي قَتِيلِ الْعَصَا وَالسّوْطِ الْخَطَأِ شِبْهُ الْعَمْدِ، الدّيَةُ مُغَلّظَةٌ مِائَةُ نَاقَةٍ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. إنّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَكَبّرَهَا بِآبَائِهَا، كُلّكُمْ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. أَلَا إنّ اللهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ، لَمْ تَحِلّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلّ لِأَحَدٍ كَائِنٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلّ لِي إلّا سَاعَةً مِنْ النّهَارِ- يُقَصّرُهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ هَكَذَا- لَا يُنَفّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ [ (1) ] عِضَاهُهَا، وَلَا تَحِلّ لُقَطَتُهَا إلّا لِمُنْشِدٍ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا [ (2) ] . فَقَالَ الْعَبّاسُ، وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا: إلّا الْإِذْخِرَ [ (3) ] يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنّهُ لَا بُدّ مِنْهُ، إنّهُ لِلْقَبْرِ وَطَهُورُ الْبُيُوتِ. قَالَ: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، ثُمّ قَالَ: إلّا الْإِذْخِرَ فَإِنّهُ حَلَالٌ. وَلَا وَصِيّةَ لِوَارِثٍ، وَإِنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ [ (4) ] ، وَلَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُعْطِي مِنْ مَالِهَا إلّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَالْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُونَ إخْوَةٌ، وَالْمُسْلِمُونَ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَرُدّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَيَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَمُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ [ (5) ] وَمَيْسَرَتُهُمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ. وَلَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ [ (6) ] ، وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ
الْمُسْلِمِينَ إلّا فِي بُيُوتِهِمْ وَبِأَفْنِيَتِهِمْ، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَالْبَيّنَةُ عَلَى مَنْ ادّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَلَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ ثَلَاثٍ إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصّبْحِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ، يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَعَنْ لُبْسَتَيْنِ! لَا يَحْتَبِ [ (1) ] أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِعَوْرَتِهِ إلَى السّمَاءِ، وَلَا يَشْتَمِلُ الصّمّاءَ [ (2) ] ، وَلَا إخَالُكُمْ إلّا وَقَدْ عَرَفْتُمُوهَا. قَالَ: ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ الْمِفْتَاحُ، فَتَنَحّى نَاحِيَةَ الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ السّقَايَةَ مِنْ الْعَبّاسِ وَقَبَضَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، فَلَمّا جَلَسَ قَالَ: اُدْعُوا إلَيّ عثمان! فدعى له عثمان بن طَلْحَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُثْمَانَ يَوْمًا، وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَمَعَ عُثْمَانَ الْمِفْتَاحُ، فَقَالَ: لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت! فَقَالَ عُثْمَانُ: لَقَدْ هَلَكَتْ إذًا قُرَيْشٌ وَذَلّتْ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عمرت
وَعَزّتْ يَوْمَئِذٍ. فَلَمّا دَعَانِي بَعْدَ أَخْذِهِ الْمِفْتَاحَ ذَكَرْت قَوْلَةَ مَا كَانَ قَالَ، فَأَقْبَلْت فَاسْتَقْبَلْته بِبِشْرٍ وَاسْتَقْبَلَنِي بِبِشْرٍ، ثُمّ قَالَ: خُذُوهَا يَا بَنِي أَبِي طَلْحَةَ تَالِدَةً خَالِدَةً، لَا يَنْزِعُهَا إلّا ظَالِمٌ، يَا عُثْمَانُ، إنّ اللهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ، فَكُلُوا بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ عُثْمَانُ: فَلَمّا وُلِيَتْ نَادَانِي فَرَجَعَتْ إلَيْهِ، فَقَالَ: أَلَمْ يَكُنْ الّذِي قُلْت لَك؟ قَالَ: فَذَكَرْت قَوْلَهُ لِي بِمَكّةَ فَقُلْت: بَلَى، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ! فَأَعْطَاهُ الْمِفْتَاحَ، وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعٌ بِثَوْبِهِ، وَقَالَ: أَعِينُوهُ! وَقَالَ: قُمْ عَلَى الْبَابِ وَكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّقَايَةَ إلَى الْعَبّاسِ، فَكَانَ الْعَبّاسُ يَلِيهَا دُونَ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَوَلَدُهُ بَعْدَهُمْ. فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ الْحَنَفِيّةِ كَلّمَ فِيهَا ابْنَ عَبّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَا لَك وَلَهَا؟ نَحْنُ أَوْلَى بِهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوك كَلّمَ فِيهَا فَأَقَمْت الْبَيّنَةَ، طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ، وَعَامِرَ بْنَ ربيعة، وأزهر بن عبد عَوْفٍ، وَمَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، أَنّ الْعَبّاسَ كَانَ يَلِيهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَأَبُوك فِي نَادِيَتِهِ [ (1) ] بِعُرَنَةَ [ (2) ] فِي إبِلِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا الْعَبّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَعَرَفَ ذَلِكَ مَنْ حَضَرَ، فَكَانَتْ بِيَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ بَعْدَ أَبِيهِ، لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهَا مُنَازِعٌ، وَلَا يَتَكَلّمُ فِيهَا مُتَكَلّمٌ. وَكَانَ لِلْعَبّاسِ مَالٌ بِالطّائِفِ، كَرْمٌ كَانَ يَحْمِلُ زَبِيبَهُ إلَيْهَا فَيُنْبَذُ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ، ثُمّ كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمّ كَانَ عَلِيّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ. قَالَ: وَجَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم فقال:
لِمَ قَاتَلْت وَقَدْ نَهَيْت عَنْ الْقِتَالِ؟ فَقَالَ: هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ بَدَءُونَا بِالْقِتَالِ، وَرَشَقُونَا بِالنّبْلِ، وَوَضَعُوا فِينَا السّلَاحَ، وَقَدْ كَفَفْت مَا اسْتَطَعْت، وَدَعَوْتهمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَأَبَوْا، حَتّى إذَا لَمْ أَجِدْ بُدّا قَاتَلْتهمْ، فَظَفّرَنَا اللهُ عَلَيْهِمْ وَهَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَضَى اللهُ خَيْرًا! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، كُفّوا السّلَاحَ، إلّا خُزَاعَةَ عَنْ بَنِي بَكْرٍ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ. فَخَبّطُوهُمْ [ (1) ] سَاعَةً، وَهِيَ السّاعَةُ الّتِي أُحِلّتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَحِلّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْ خُزَاعَةَ أَحَدٌ. قَالَ أَبُو الْيَسَر: فَدَخَلْنَا مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنْ اللّيطِ، فَكَانُوا هُمْ الّذِينَ بَدَءُونَا بِالْقِتَالِ وَأَبَوْا أَنْ يَدْعُونَا نَدْخُلَ [ (2) ] ، وَكَلّمَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَأَعْذَرَ إلَيْهِمْ، فَأَبَوْا. قَالَ خَالِدٌ: احْمِلُوا عَلَيْهِمْ! فَحَمَلْنَا فَمَا قَامُوا لَنَا فُوَاقَ [ (3) ] نَاقَةٍ حَتّى هَرَبُوا، وَنَهَانَا عَنْ الطّلَبِ. قَالَ أَبُو الْيَسَرِ: فَجَعَلْت أَحْذِمُ [ (4) ] بِسَيْفِي، وَهَوَيْت إلَى رَجُلٍ فَضَرَبْته فَاعْتَزَلَ إلَى خُزَاعَةَ، فَسَقَطَ فِي يَدِي فَجَعَلْت أَسْأَلُ عَنْهُ، فَقِيلَ لِي: إنّهُ مِنْ الْحَيَا- أَخُو خُزَاعَةَ. فَحَمِدْت اللهَ أَلّا أَقْتُلَ أَحَدًا مِنْ خُزَاعَةَ. قَالُوا: وَأَقَامَ أَبُو أَحَمْدَ عَبْدُ اللهِ بن جحش على باب المسجد على
جَمَلٍ لَهُ حِينَ فَرَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُطْبَتِهِ، وَهُوَ يَصِيحُ: أَنْشُدُ بِاَللهِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ حِلْفِي، وَأَنْشُدُ بِاَللهِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ دَارِي [ (1) ] ! قَالَ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ابن عَفّانَ، فَسَارَ عُثْمَانُ بِشَيْءِ، فَذَهَبَ عُثْمَانُ إلَى أَبِي أَحْمَدَ فَسَارَهُ، فَنَزَلَ أَبُو أَحْمَدَ عَنْ بَعِيرِهِ وَجَلَسَ مَعَ الْقَوْمِ، فَمَا سَمِعَ أَبُو أَحْمَدَ ذَاكَرَهَا حَتّى لَقِيَ اللهُ، فَقِيلَ لِعُثْمَانِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا قَالَ لَك رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَنْ تَقُولَهُ لِأَبِي أَحْمَدَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَذْكُرْهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَأَذْكُرُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ؟ وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ قَدْ حَالَفَ إلى حرب ابن أُمَيّةَ، وَكَانَ الْمُطّلِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ قَدْ دَعَاهُ إلَى أَنْ يُحَالِفَهُ وَقَالَ: دَمِي دُونَ دَمِك وَمَالِي دُونَ مَالِك! وَحَالَفَ حَرْبَ بْنِ أُمَيّةَ فَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ: أَبَنِي أُمَيّةَ كَيْفَ أَخْذُلُ فِيكُمْ ... وَأَنَا ابْنُكُمْ وَحَلِيفُكُمْ فِي الْعَشْرِ وَلَقَدْ دَعَانِي غَيْرُكُمْ فَأَبَيْته ... وَخَبّأْتُكُمْ لِنَوَائِبِ الدّهْرِ وَكَانُوا يَتَحَالَفُونَ فِي الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحَجّةِ قِيَامًا، يَتَمَاسَحُونَ كَمَا يَتَمَاسَحُ [ (2) ] الْبَيّعَانِ [ (3) ] ، وَكَانُوا يَتَوَاعَدُونَ قَبْلَ الْعَشْرِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ بَاعَ دَارَهُ مِنْ ابْنِ عَلْقَمَةَ الْعَامِرِيّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَ لَهُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَنَجّمَ [ (4) ] عَلَيْهِ ما فضل.
قَالَ: فَحَدّثَنِي أَهْلُ أَبِي أَحْمَدَ أَنّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: لَك بِهَا دَارٌ فِي الْجَنّةِ. وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ فِي بَيْعِ دَارِهِ لِأَبِي سُفْيَانَ، أَنْشَدَنِيهَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْجَحْشِيّ: أَقَطَعْت عَقْدَك بَيْنَنَا ... وَالْحَادِثَاتُ إلَى نَدَامَهْ أَلَا ذَكَرْت لَيَالِيَ الْ ... عَشْرِ الّتِي فِيهَا الْقِيَامَهْ عَقْدِي وَعَقْدُك قَائِمٌ ... لَا عَوْقَ [ (1) ] فِيهِ وَلَا أَثَامَهْ دَارُ ابن عمّك بعتها ... تشرى بها عَنْك الْغَرَامَهْ اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ... طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ وَلَقَدْ جَرَيْت [ (2) ] إلَى الْعُقُو ... قِ وَأَسْوَأُ الْخُلُقِ الرّغَامَهْ قَدْ كُنْت آوِي فِي ذُرَى ... فِيهِ الْمَقَامَةُ وَالسّلَامَهْ مَا كَانَ عَقْدُك مثل عق ... د ابْنِ عَمْرِو لِابْنِ مَامَهْ [ (3) ] قَالُوا: وَكَانَ إسَافُ وَنَائِلَةُ رَجُلًا وَامْرَأَةً، الرّجُلُ إسَافُ بْنُ عَمْرٍو [ (4) ] وَالْمَرْأَةُ نَائِلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ [ (5) ] مِنْ جُرْهُمٍ، فَزَنَيَا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ، فَاِتّخَذَتْهُمَا قُرَيْش يعبدونهما، وكانوا يذبحون عندهما ويلحقون رُءُوسَهُمْ إذَا نَسَكُوا، فَخَرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا امْرَأَةٌ شَمْطَاءُ سَوْدَاءُ تَخْمُشُ وَجْهَهَا، عُرْيَانَةٌ، نَاشِرَةُ الشّعْرِ، تَدْعُو بِالْوَيْلِ. فَقِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: تِلْكَ نَائِلَةُ يَئِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ فِي بِلَادِكُمْ أَبَدًا. وَيُقَالُ إنّ إبْلِيسَ رَنّ ثَلَاثَ رَنّاتٍ، رَنّةً حِينَ
لُعِنَ فَتَغَيّرَتْ صُورَتُهُ عَنْ صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَرَنّةً حين رأى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ يُصَلّي قَائِمًا بِمَكّةَ، وَرَنّةً حِينَ افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ. فَاجْتَمَعَتْ ذُرّيّتُهُ، فَقَالَ إبْلِيسُ: ايئَسُوا أَنْ تَرُدّوا أُمّةَ مُحَمّدٍ عَلَى الشّرْكِ بَعْدَ يَوْمِهِمْ هَذَا، وَلَكِنْ اُفْشُوَا فِيهِمْ النّوْحَ وَالشّعْرَ. وَكَانَ أَوّلَ مَنْ نَصَبَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ إبْرَاهِيمُ، وَجِبْرِيلُ يُرِيهِ، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ إسْمَاعِيلُ فَجَدّدَهَا، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ قُصَيّ فَجَدّدَهَا، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تَمِيمَ بْنَ أَسَدٍ الْخُزَاعِيّ فَجَدّدَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَبَعَثَ أَرْبَعَةً مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَبْدُونَ فِي بِوَادِيهَا، مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَأَبُو هُودٍ سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيّ. ثُمّ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فَبَعَثَ هَؤُلَاءِ النّفَرَ، ثُمّ كَانَ مُعَاوِيَةُ عَامَ حَجّ فَبَعَثَ هَؤُلَاءِ النّفَرَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ: لَمّا حَجّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَرْسَلَ إلَى أَكْبَرِ شَيْخٍ يَعْلَمُهُ يَوْمَئِذٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَشَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَشَيْخٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، ثُمّ أَمَرَهُمْ بِتَجْدِيدِهِ، وَكُلّ وَادٍ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ يَسِيلُ فِي الْحِلّ وَلَا يَسِيلُ وَادٍ مِنْ الْحِلّ فِي الْحَرَمِ إلّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عِنْدَ التّنْعِيمِ. وَكَانَ يُقَالُ: وَلَا يُنَفّرُ صَيْدُهَا. قَالَ: لَا يَخْرُج مِنْ الظّلّ إلَى الشّمْسِ، وَيُقَال: لَا يُذْعَرُ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَغْشَاهُ الْحَمَامُ عَلَى رَحْلِهِ، وَثِيَابِهِ، وَطَعَامِهِ، مَا يُطْرَدُ، وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُرَخّصُ أَنْ يُكَشْكَشَ [ (1) ] . وَقَوْلُهُ: لَا تَحِلّ لُقَطَةٌ ضَالّتَهَا إلّا لِمُنْشِدِ، يَقُولُ: لَا يَأْكُلُهَا كَمَا يَأْكُلُ اللّقَطَةَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْبُلْدَانِ. قَالُوا: خَرَجَ غَزِيّ [ (2) ] مِنْ هُذَيْلٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَفِيهِمْ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَدْلَعِ يُرِيدُونَ حَيّ أَحْمَرَ بَأْسًا، وَكَانَ أَحْمَرَ بَأْسًا رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ شُجَاعًا لَا يُرَامُ، وَكَانَ لَا يَنَامُ فِي حَيّهِ، إنّمَا يَنَامُ خَارِجًا مِنْ حَاضِرِهِ، وَكَانَ إذَا نَامَ غَطّ غَطِيطًا مُنْكَرًا لَا يَخْفَى مَكَانُهُ، وَكَانَ الْحَاضِرُ إذَا أَتَاهُمْ فَزِعَ صَرَخُوا بِأَحْمَرَ بَأْسًا فَيَثُوبُ مِثْلَ الْأَسَدِ. فَلَمّا جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْغُزّيّ مِنْ هُذَيْلٍ قَالَ لَهُمْ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَدْلَعِ: إنْ كَانَ أَحْمَرُ بَأْسًا فِي الْحَاضِرِ فَلَيْسَ إلَيْهِمْ سَبِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ غَطِيطٌ لَا يَخْفَى، فَدَعُونِي أَتَسَمّعُ. فَتَسَمّعَ الْحِسّ فَسَمِعَهُ، فَأَمّهُ حَتّى وَجَدَهُ نَائِمًا فَقَتَلَهُ، وَوَضَعَ السّيْفَ فِي صَدْرِهِ ثُمّ اتّكَأَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمّ حَمَلُوا عَلَى الْحَيّ، فَصَاحَ الْحَيّ: يَا أَحْمَرُ بَأْسًا! فَلَا شَيْءَ، لَا أَحْمَرُ بَأْسًا قَدْ قُتِلَ. فَنَالُوا مِنْ الْحَاضِرِ حَاجَتَهُمْ ثُمّ انْصَرَفُوا، فَتَشَاغَلَ النّاسُ بِالْإِسْلَامِ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ بِيَوْمِ دَخَلَ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَدْلَعِ مَعَهُ يَرْتَادُ وَيَنْظُرُ- وَالنّاسُ آمِنُونَ- فَرَآهُ جُنْدُبُ بْنُ الْأَعْجَمِ الْأَسْلَمِيّ، فَقَالَ: جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَدْلَعِ، قَاتَلَ أَحْمَرُ بَأْسًا! فَقَالَ: نَعَمْ. فَخَرَجَ جُنْدُبُ يَسْتَجِيشُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَ خِرَاشَ بْنِ أُمَيّةَ الْكَعْبِيّ، فَأَخْبَرَهُ، فَاشْتَمَلَ خِرَاشٌ عَلَى السّيْفِ ثُمّ أَقْبَلَ إلَيْهِ، وَالنّاسُ حَوْلَهُ وَهُوَ يُحَدّثُهُمْ عَنْ قَتْلِ أَحْمَرَ بأسا، فبيناهم مجتمعون عليه
إذْ أَقْبَلَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ مُشْتَمِلًا عَلَى السيف، فقال: هكذا عن [ (1) ] الرجل! فو الله مَا ظَنّ النّاسُ إلّا أَنّهُ يُفَرّجُ عَنْهُ النّاسُ لِيَنْصَرِفُوا عَنْهُ، فَانْفَرَجُوا [ (2) ] عَنْهُ، فَلَمّا انْفَرَجَ النّاسُ عَنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ بِالسّيْفِ فَطَعَنَهُ بِهِ فِي بَطْنِهِ، وَابْنُ الْأَدْلَعِ مُسْتَنِدٌ إلَى جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ مَكّةَ، فَجَعَلَتْ حِشْوَتُهُ تَسَايَلَ مِنْ بَطْنِهِ، وَإِنّ عَيْنَيْهِ لَتَبْرُقَانِ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ فَعَلْتُمُوهَا يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ! فَوَقَعَ الرّجُلُ فَمَاتَ، فَسَمِعَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بِقَتْلِهِ، فَقَامَ خَطِيبًا- وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ بَعْدَ الظّهْرِ- فَقَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّ اللهَ قَدْ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَيَوْمَ خَلَقَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَوَضَعَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ، فَهِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنِ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا، لَمْ تَحِلّ لِأَحَدِ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلّ لِأَحَدِ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلّ لِي إلّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمّ رَجَعْت كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ قَاتَلَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إنّ اللهَ قَدْ أَحَلّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلّهَا لَكُمْ! يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ، فَقَدْ وَاَللهِ كَثُرَ [الْقَتْلُ] [ (3) ] إنْ نَفَعَ، وَقَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ، وَاَللهِ لَأَدِيَنه! فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَتِيلِهِمْ، وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ.
فَدَخَلَ أَبُو شُرَيْحٍ [عَلَى] عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بن العاص، وهو يريد قتال ابْنِ الزّبَيْرِ، فَحَدّثَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ: إنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ يُبَلّغَ الشّاهِدُ الْغَائِبَ، وَكُنْت شَاهِدًا وَكُنْت غَائِبًا، وَقَدْ أَدّيْت إلَيْك مَا كَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: انْصَرِفْ أَيّهَا الشّيْخُ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْك، إنّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ظَالِمٍ وَلَا خَالِعِ طَاعَةٍ، وَلَا سَافِكِ دَمٍ. فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: قَدْ أَدّيْت إلَيْك مَا كَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ، فَأَنْتَ وَشَأْنُك! قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُ أَخْبَرَ ابْنَ عُمَرَ مَا قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَحِمَ اللهُ أَبَا شُرَيْحٍ! قَدْ قَضَى الّذِي عَلَيْهِ، قَدْ عَلِمْت أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تَكَلّمَ يَوْمَئِذٍ فِي خُزَاعَةَ حِينَ قَتَلُوا الْهُذَلِيّ بِأَمْرِ لَا أَحْفَظُهُ، إلّا أَنّي سَمِعْت الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَأَدّيهِ» [ (1) ] . قَالَ: حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ [ (2) ] بِنْتِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: قتله خراش بعد ما نَهَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقَتْلِ، فَقَالَ: لَوْ كُنْت قَاتِلًا مُؤْمِنًا بِكَافِرِ لَقَتَلْت خِرَاشًا بِالْهُذَلِيّ. ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُزَاعَةَ يُخْرِجُونَ دِيَتَهُ، فَكَانَتْ خُزَاعَةُ أَخْرَجَتْ دِيَتَهُ. قَالَ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى غَنَمٍ عُفْرٍ [ (3) ] جَاءَتْ بها بنو مدلج فى العقل، وكانوا يعاقلونها فى
الْجَاهِلِيّةِ ثُمّ شَدّهُ الْإِسْلَامُ، وَكَانَ أَوّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي كَعْبٍ، فَأَعْطَوْا الْقَتِيلَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. قَالُوا: وَجَاءَتْ الظّهْرُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذّنَ بِالظّهْرِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ يَوْمَئِذٍ، وَقُرَيْشٌ فَوْقَ رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَقَدْ فَرّ وُجُوهُهُمْ [ (1) ] وَتَغَيّبُوا خَوْفًا أَنْ يُقَتّلُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ أُومِنَ. فَلَمّا أَذّنَ بِلَالٌ وَرَفَعَ صَوْتَهُ كَأَشَدّ مَا يَكُونُ، فَلَمّا بَلَغَ «أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ» ، تَقُولُ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ: قَدْ لَعَمْرِي رَفَعَ لَك ذِكْرَك! أَمّا الصّلَاةُ فَسَنُصَلّي، وَاَللهِ لَا نُحِبّ مَنْ قَتَلَ الْأَحِبّةَ أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ جَاءَ أَبِي الّذِي جَاءَ مُحَمّدًا مِنْ النّبُوّةِ فَرَدّهَا وَلَمْ يُرِدْ خِلَافَ قَوْمِهِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أُسَيْدٍ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَكْرَمَ أَبِي فَلَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْيَوْمَ! وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: وا ثكلاه! لَيْتَنِي مُتّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ، أَسْمَعُ بِلَالًا يَنْهَقُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ! وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ: هَذَا وَاَللهِ الْحَدَثُ الْعَظِيمُ أَنْ يَصِيحَ عَبْدُ بَنِي جُمَحَ عَلَى بَنِيّةِ أَبِي طَلْحَةَ. قَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: إنْ كَانَ هَذَا سَخَطَ اللهِ فَسَيُغَيّرُهُ، وَإِنْ كَانَ رِضَاءَ اللهِ فَسَيُقِرّهُ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَمّا أَنَا فَلَا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ قُلْت شَيْئًا لَأَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الحصاء! فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ. قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: وَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ وَظَهَرَ، انْقَحَمْت [ (2) ] بيتي
وَأَغْلَقْت عَلَيّ بَابِي، وَأَرْسَلْت إلَى ابْنِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سُهَيْلٍ أَنْ اُطْلُبْ لِي جِوَارًا مِنْ مُحَمّدٍ، وَإِنّي لَا آمَنُ أَنْ أُقْتَلَ. وَجَعَلْت أَتَذّكّرُ أَثَرِي عِنْدَ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ أَسْوَأَ أَثَرًا مِنّي، وَإِنّي لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِمَا لَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ، وَكُنْت الّذِي كَاتَبْته، مَعَ حُضُورِي بَدْرًا وَأُحُدًا، وَكُلّمَا تَحَرّكَتْ قُرَيْشٌ كُنْت فِيهَا. فَذَهَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُؤَمّنُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللهِ، فَلْيَظْهَرْ! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَنْ لَقِيَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَلَا يَشُدّ النّظَرَ إلَيْهِ، فَلْيَخْرُجْ، فَلَعَمْرِي إنّ سُهَيْلًا لَهُ عَقْلٌ وَشَرَفٌ، وَمَا مِثْلُ سُهَيْلٍ جَهِلَ الْإِسْلَامَ، وَلَقَدْ رَأَى مَا كَانَ يُوضَعُ فِيهِ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَافِعِ! فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ إلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: كَانَ وَاَللهِ بَرّا، صَغِيرًا وَكَبِيرًا! فَكَانَ سُهَيْلٌ يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ، وَخَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ حَتّى أَسْلَمَ بِالْجِعِرّانَةِ. وَهَرَبَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ- وهو يومئذ زوج أمّ هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ- هُوَ وَابْنُ الزّبَعْرَى جَمِيعًا حَتّى انْتَهَى إلَى نَجْرَانَ، فَلَمْ يَأْمَنّا مِنْ الْخَوْفِ حَتّى دَخَلَا حِصْنَ نَجْرَانَ، فَقِيلَ لَهُمَا: مَا وَرَاءَكُمَا؟ قَالَا: أَمّا قُرَيْشٌ فَقَدْ قُتِلَتْ، وَدَخَلَ مُحَمّدٌ مَكّةَ، وَنَحْنُ وَاَللهِ نَرَى أَنّ مُحَمّدًا سَائِرٌ إلَى حِصْنِكُمْ هَذَا! فَجَعَلَتْ بَلْحَارِثٍ وَكَعْبٌ يُصْلِحُونَ مَا رَثّ مِنْ حِصْنِهِمْ، وَجَمَعُوا مَاشِيَتَهُمْ، فَأَرْسَلَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَبْيَاتًا يُرِيدُ بِهَا ابْنَ الزّبَعْرَى، أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ: لَا تَعْدَمْنَ [ (1) ] رَجُلًا أَحَلّك بُغْضُهُ ... نَجْرَانَ فِي عيش أحذّ [ (2) ] لئيم
بَلِيَتْ قَنَاتُك فِي الْحُرُوبِ فَأُلْقِيَتْ ... خَمّانَةً خَوْفَاءَ [ (1) ] ذَاتَ وُصُومِ [ (2) ] غَضِبَ الْإِلَهُ عَلَى الزّبَعْرَى وَابْنِهِ ... وَعَذَابُ سُوءٍ فِي الْحَيَاةِ مُقِيمِ فَلَمّا جَاءَ ابْنَ الزّبَعْرَى شِعْرُ حَسّانَ تَهَيّأَ لِلْخُرُوجِ، فَقَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا ابْنَ عَمّ؟ قَالَ: أَرَدْت وَاَللهِ مُحَمّدًا. قَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَتْبَعَهُ؟ قَالَ: إيِ وَاَللهِ! قَالَ: يَقُولُ هُبَيْرَةُ: يَا لَيْتَ أَنّي رَافَقْت غَيْرَك! وَاَللهِ، مَا ظَنَنْت أَنّك تَتْبَعُ مُحَمّدًا أَبَدًا! قَالَ ابْنُ الزّبَعْرَى: هُوَ ذَاكَ، فَعَلَى أَيّ شيء نقيم مع بنى الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَأَتْرُكُ ابْنَ عَمّي وَخَيْرَ النّاسِ وَأَبَرّهُمْ [ (3) ] ، وَمَعَ قَوْمِي وَدَارِي. فَانْحَدَرَ ابْنُ الزّبَعْرَى حَتّى جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَلَمّا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَيْهِ قَالَ: هَذَا ابْنُ الزّبَعْرَى، وَمَعَهُ وَجْهٌ فِيهِ نُورُ الْإِسْلَامِ. فَلَمّا وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: السّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَيْ رَسُولِ اللهِ! شَهِدْت أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّك عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ، لَقَدْ عَادَيْتُك وَأَجْلَبْت عَلَيْك، وَرَكِبْت الْفَرَسَ وَالْبَعِيرَ، وَمَشَيْت عَلَى قَدَمِي فِي عَدَاوَتِك، ثُمّ هَرَبْت مِنْك إلَى نَجْرَانَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَلّا أَقْرَبَ الْإِسْلَامَ أَبَدًا، ثُمّ أَرَادَ بِي اللهُ عَزّ وَجَلّ مِنْهُ بِخَيْرِ، فَأَلْقَاهُ فِي قَلْبِي وَحَبّبَهُ إلَيّ، وَذَكَرْت مَا كُنْت فِيهِ مِنْ الضّلَالَةِ، وَاتّبَاعِ مَا لَا يَنْفَعُ ذَا عَقْلٍ، مِنْ حَجَرٍ يُعْبَدُ وَيُذْبَحُ لَهُ، لَا يَدْرِي مَنْ عَبَدَهُ وَمَنْ لَا يَعْبُدُهُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَاك لِلْإِسْلَامِ، إنّ الْإِسْلَامَ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ! وَأَقَامَ هُبَيْرَةُ بِنَجْرَانَ، وَأَسْلَمَتْ أُمّ هَانِئٍ، فَقَالَ هُبَيْرَةُ حِينَ بلغه إسلامها يوم الفتح.
أَشَاقَتْك هِنْدٌ أَمْ نَآك [ (1) ] سُؤَالُهَا ... كَذَاك النّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا [ (2) ] وَقَدْ أَرّقَتْ [ (3) ] فِي رَأْسِ حِصْنٍ مُمَنّعٍ ... بِنَجْرَانَ يَسْرِي بَعْدَ لَيْلٍ [ (4) ] خَيَالُهَا وَإِنّي مِنْ قَوْمٍ إذَا جَدّ جِدّهُمْ ... عَلَى أَيّ حَالٍ أَصْبَحَ الْيَوْمَ حَالُهَا وَإِنّي لَحَامٍ مِنْ وَرَاءِ عَشِيرَتِي ... إذَا كَرِهَتْ نَحْوَ الْعَوَالِي فَحَالُهَا [ (5) ] وَإِنّ كَلَامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ ... لَكَالنّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا وَإِنْ كُنْت قَدْ تَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ ... وَقَطّعَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا فَكُونِي عَلَى أَعْلَى سَحِيقٍ بِهَضْبَةِ [ (6) ] ... مُلَمْلَمَةٍ [ (7) ] حَمْرَاءَ يَبِسَ تِلَالُهَا أَقَامَ بِنَجْرَانَ حَتّى مَاتَ مُشْرِكًا. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكّة هَرَبَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى حَتّى انْتَهَى إلَى حَائِطِ عَوْفٍ فَدَخَلَ هُنَاكَ، وَخَرَجَ أَبُو ذَرّ لِحَاجَتِهِ وَكَانَ دَاخِلَهُ، فَلَمّا رَآهُ هَرَبَ حُوَيْطِبٌ فَنَادَاهُ أَبُو ذَرّ: تَعَالَ، أَنْتَ آمِنٌ! فَرَجَعَ إلَيْهِ فَسَلّمَ عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: أَنْتَ آمِنٌ، فَإِنْ شِئْت أَدْخَلْتُك عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ شِئْت فَاذْهَبْ إلَى مَنْزِلِك. قَالَ: وَهَلْ لِي سَبِيلٌ إلَى مَنْزِلِي؟ أُلْقَى فَأُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إلَى مَنْزِلِي، أَوْ يَدْخُلَ عَلَيّ مَنْزِلِي فَأُقْتَلَ. قَالَ: فَأَنَا أَبْلُغُ معك
منزلك. فبلغ معه منزله، تم جَعَلَ يُنَادِي عَلَى بَابِهِ: إنّ حُوَيْطِبًا آمِنٌ، فَلَا يُهْجَمُ عَلَيْهِ! ثُمّ انْصَرَفَ أَبُو ذَرّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَوَ لَيْسَ قَدْ أَمّنّا كُلّ النّاسِ إلّا مَنْ أَمَرْت بِقَتْلِهِ؟ قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ مَوْلَى الزّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، وَأَسْلَمَتْ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَسْلَمَتْ امْرَأَةُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، الْبَغُومُ بِنْتُ الْمُعَذّلِ، مِنْ كِنَانَةَ، وَأَسْلَمَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَسْلَمَتْ هِنْدُ بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فِي عَشْرِ نسوة من قريش، فأتين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِالْأَبْطَحِ، فَبَايَعْنَهُ فَدَخَلْنَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ زَوْجَتُهُ وَابْنَتُهُ فَاطِمَةُ، وَنِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَتَكَلّمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَظْهَرَ الدّينَ [الّذِي] اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ، لِتَمَسّنِي رَحْمَتُك [ (1) ] يَا مُحَمّدُ، إنّي امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ بِاَللهِ مُصَدّقَةٌ. ثُمّ كَشَفَتْ عَنْ نِقَابِهَا فَقَالَتْ: هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِك. فَقَالَتْ: وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبّ إلَيّ أَنْ يَذِلّوا مِنْ [أَهْلِ] خِبَائِك، وَلَقَدْ أَصْبَحْت وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبّ إلَيّ أَنْ يَعِزّوا مِنْ [أَهْلِ] خِبَائِك. فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: وزيادة أيضا! ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَلَيْهِنّ الْقُرْآنَ وَبَايَعَهُنّ، فَقَالَتْ هِنْدٌ مِنْ بَيْنِهِنّ: يَا رَسُولَ اللهِ، نُمَاسِحُك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَا أُصَافِحُ
النّسَاءَ، إنّ قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ مِثْلُ قَوْلِي لِامْرَأَةِ وَاحِدَة. وَيُقَالُ: وَضَعَ عَلَى يَدِهِ ثَوْبًا ثُمّ مَسَحْنَ عَلَى يَدِهِ يَوْمَئِذٍ. وَيُقَالُ: كَانَ يُؤْتَى بِقَدَحِ مِنْ مَاءٍ، فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِيهِ ثُمّ يَدْفَعُهُ إلَيْهِنّ فَيُدْخِلْنَ أَيْدِيَهُنّ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُهَا عِنْدَنَا: «إنّي لَا أُصَافِحُ النّسَاءَ» . ثُمّ قَالَتْ أُمّ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ هَرَبَ عِكْرِمَةُ مِنْك إلَى الْيَمَنِ، وَخَافَ أَنْ تَقْتُلَهُ فَأَمّنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ آمِنٌ. فَخَرَجَتْ أُمّ حَكِيمٍ فِي طَلَبِهِ وَمَعَهَا غُلَامٌ لَهَا رُومِيّ، فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَجَعَلَتْ تُمَنّيهِ حَتّى قَدِمَتْ عَلَى حَيّ مِنْ عَكّ [ (1) ] ، فَاسْتَغَاثَتْهُمْ عَلَيْهِ فَأَوْثَقُوهُ رِبَاطًا، وَأَدْرَكَتْ عِكْرِمَةَ وَقَدْ انْتَهَى إلَى سَاحِلٍ مِنْ سَوَاحِلِ تِهَامَةَ فَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَجَعَلَ نُوَتِي السّفِينَةَ يَقُولُ له: أخلص! قال: أَيّ شَيْءٍ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: مَا هَرَبْت إلّا مِنْ هَذَا. فَجَاءَتْ أُمّ حَكِيمٍ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ، فَجَعَلَتْ تُلِحّ إلَيْهِ وَتَقُولُ: يَا ابْنَ عَمّ، جِئْتُك مِنْ عِنْدِ أَوْصَلِ النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ وَخَيْرِ النّاسِ، لَا تُهْلِكْ نَفْسَك. فَوَقَفَ لَهَا حَتّى أَدْرَكَتْهُ فَقَالَتْ: إنّي قَدْ اسْتَأْمَنْت لَك مُحَمّدًا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: أَنْتِ فَعَلْت؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَنَا كَلّمْته فَأَمّنَك. فَرَجَعَ مَعَهَا وَقَالَ: مَا لَقِيت مِنْ غُلَامِك الرّومِيّ؟ فَخَبّرَتْهُ خَبَرَهُ فَقَتَلَهُ عِكْرِمَةُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يُسْلِمْ. فَلَمّا دَنَا مِنْ مَكّةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: يَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلَا تَسُبّوا أَبَاهُ [ (2) ] ، فَإِنّ سَبّ الْمَيّتِ يُؤْذِي الْحَيّ وَلَا يَبْلُغُ الْمَيّت. قَالَ: وَجَعَلَ عِكْرِمَةُ يَطْلُبُ امْرَأَتَهُ يُجَامِعَهَا، فَتَأْبَى عَلَيْهِ وَتَقُولُ: إنّك كَافِرٌ وَأَنَا مُسْلِمَةٌ. فَيَقُولُ: إنّ أَمْرًا مَنَعَك مِنّي لَأَمْرٌ كَبِيرٌ. فَلَمّا رَأَى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم
عِكْرِمَةَ وَثَبَ إلَيْهِ- وَمَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءٌ- فَرَحًا بِعِكْرِمَةَ، ثُمّ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَزَوْجَتُهُ مُنْتَقِبَةٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ إنّ هَذِهِ أَخْبَرَتْنِي أَنّك أَمّنْتنِي. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فَأَنْتَ آمِنٌ! فَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَإِلَى مَا تَدْعُو يَا مُحَمّدُ؟ قَالَ: أَدْعُوك إلَى أَنْ تَشْهَدَ أن لا إله إلا الله وأني رسول اللهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزّكَاةَ- وَتَفْعَلَ، وَتَفْعَلَ، حَتّى عَدّ خِصَالَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاَللهِ مَا دَعَوْت إلّا إلَى الْحَقّ وَأَمْرٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ، قَدْ كُنْت وَاَللهِ فِينَا قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَ إلَى مَا دَعَوْت إلَيْهِ وَأَنْتَ أَصْدَقُنَا حَدِيثًا وَأَبَرّنَا بِرّا. ثُمّ قَالَ عِكْرِمَةُ: فَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَسُرّ بِذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلّمْنِي خَيْرَ شَيْءٍ أَقُولُهُ. قَالَ: تَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَقُولُ: أُشْهِدُ اللهَ وَأُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ أَنّي مُسْلِمٌ مُهَاجِرٌ مُجَاهِدٌ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسْأَلُنِي الْيَوْمَ شَيْئًا أُعْطِيهِ أَحَدًا إلّا أَعْطَيْتُكَهُ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَإِنّي أَسْأَلُك أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِي كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَيْتُكَهَا، أَوْ مَسِيرٍ وَضَعْت فِيهِ، أَوْ مَقَامٍ لَقِيتُك فِيهِ، أَوْ كَلَامٍ قُلْته فِي وَجْهِك أَوْ وَأَنْتَ غَائِبٌ عَنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ اغْفِرْ لَهُ كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، وَكُلّ مَسِيرٍ سَارَ فِيهِ إلَى مَوْضِعٍ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمَسِيرِ إطْفَاءَ نُورِك، فَاغْفِرْ لَهُ مَا نَالَ مِنّي مِنْ عِرْضٍ، فِي وَجْهِي أَوْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ! فَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَضِيت يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمّ قَالَ عِكْرِمَةُ: أَمَا وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أَدَعُ نَفَقَةً كُنْت أُنْفِقُهَا فِي صَدّ [عَنْ] سَبِيلِ اللهِ إلّا أَنْفَقْت ضِعْفَهَا فِي سَبِيلِ
اللهِ، وَلَا قِتَالًا [ (1) ] كُنْت أُقَاتِلُ فِي صَدّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إلّا أَبْلَيْت ضِعْفَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ. ثُمّ اجْتَهَدَ فِي الْقِتَالِ حَتّى قُتِلَ شَهِيدًا، فَرَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَتَهُ بِذَلِكَ النّكَاحِ الْأَوّلِ. وَأَمّا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، فَهَرَبَ حَتّى أَتَى الشّعَيْبَةَ [ (2) ] ، وَجَعَلَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ يَسَارٍ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ: وَيْحَك، اُنْظُرْ مَنْ تَرَى! قَالَ: هَذَا عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ. قَالَ صَفْوَانُ: مَا أَصْنَعُ بِعُمَيْرِ؟ وَاَللهِ مَا جَاءَ إلّا يُرِيدُ قَتْلِي، قَدْ ظَاهَرَ مُحَمّدًا عَلَيّ. فَلَحِقَهُ فَقَالَ: يَا عُمَيْرُ، مَا كَفَاك مَا صَنَعْت بِي؟ حَمّلْتنِي دَيْنَك وَعِيَالَك، ثُمّ جِئْت تُرِيدُ قَتْلِي! قَالَ: أَبَا وَهْبٍ، جُعِلْت فِدَاك! جِئْتُك مِنْ عِنْدِ أَبَرّ النّاسِ وَأَوْصَلِ النّاسِ. وَقَدْ كَانَ عُمَيْرٌ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَيّدُ قَوْمِي خَرَجَ هَارِبًا لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَخَافَ أَلّا تُؤَمّنَهُ، فَأَمّنْهُ فداك أبي وأمي! فقال رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَمّنْته. فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِ، فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمّنَك. فَقَالَ صَفْوَانُ: لَا وَاَللهِ، لَا أَرْجِعُ مَعَك حَتّى تَأْتِيَنِي بِعَلَامَةِ أَعْرِفُهَا. فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْت صَفْوَانَ هَارِبًا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ فَأَخْبَرْته بِمَا أَمّنْته: فَقَالَ: لَا أَرْجِعُ حَتّى تَأْتِيَ بِعَلَامَةِ أَعْرِفُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ عِمَامَتِي. قَالَ: فَرَجَعَ عُمَيْرٌ إلَيْهِ بِهَا، وَهُوَ الْبُرْدُ الّذِي دَخَلَ فِيهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مُعْتَجِرًا [ (3) ] بِهِ، بُرْدَ حِبَرَةٍ [ (4) ] . فَخَرَجَ عُمَيْرٌ فِي طلبه الثانية،
حَتّى جَاءَ بِالْبُرْدِ فَقَالَ: أَبَا وَهْبٍ، جِئْتُك مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النّاسِ، وَأَوْصَلِ النّاسِ، وَأَبَرّ النّاسِ، وَأَحْلَمِ النّاسِ، مَجْدُهُ مَجْدُك، وَعِزّهُ عِزّك، وَمُلْكُهُ مُلْكُك، ابْنُ أُمّك وَأَبِيك، أُذَكّرُك اللهَ فِي نَفْسِك. قَالَ لَهُ: أَخَافُ أَنْ أُقْتَلَ. قَالَ: قَدْ دَعَاك إلَى أَنْ تَدْخُلَ فِي الإسلام، فإن رَضِيت وَإِلّا سَيّرَك شَهْرَيْنِ، فَهُوَ أَوْفَى النّاسِ وَأَبَرّهُمْ [ (1) ] ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْك بِبُرْدِهِ الّذِي دَخَلَ بِهِ مُعْتَجِرًا، تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخْرَجَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ هُوَ! فَرَجَعَ صَفْوَانُ حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلّي بِالْمُسْلِمِينَ الْعَصْرَ فِي الْمَسْجِدِ، فَوَقَفَا، فَقَالَ صَفْوَانُ: كَمْ تُصَلّونَ فِي الْيَوْمِ وَاللّيْلَةِ؟ قَالَ: خَمْسَ صَلَوَاتٍ. قَالَ: يُصَلّي بِهِمْ مُحَمّدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمّا سَلّمَ صَاحَ صَفْوَانُ: يَا مُحَمّدُ، إنّ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ جَاءَنِي بِبُرْدِك، وَزَعَمَ أَنّك دَعَوْتنِي إلَى الْقُدُومِ عَلَيْك، فَإِنْ رَضِيت أَمْرًا وَإِلّا سَيّرْتنِي شَهْرَيْنِ. قَالَ: انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ. قَالَ: لَا وَاَللهِ، حَتّى تُبَيّنَ لِي. قَالَ: بَلْ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فَنَزَلَ صَفْوَانُ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ هَوَازِنَ، وَخَرَجَ مَعَهُ صَفْوَانُ وَهُوَ كَافِرٌ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِ يَسْتَعِيرُهُ سِلَاحَهُ، فَأَعَارَهُ سِلَاحَهُ، مِائَةَ دِرْعٍ بِأَدَاتِهَا، فَقَالَ: طَوْعًا أَوْ كَرْهًا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَارِيَةً مُؤَدّاةً. فَأَعَارَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمَلَهَا إلَى حُنَيْنٍ، فَشَهِدَ حُنَيْنًا [ (2) ] وَالطّائِفَ ثُمّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي الْغَنَائِمِ يَنْظُرُ إلَيْهَا، وَمَعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، جَعَلَ صَفْوَانُ يَنْظُرُ إلَى شِعْبٍ مُلِئَ نَعَمًا وَشَاءً وَرِعَاءً، فَأَدَامَ إلَيْهِ النّظَرَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمُقُهُ فَقَالَ: أبا وهب، يعجبك هذا الشّعب؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هُوَ لَك وَمَا فِيهِ. فَقَالَ صَفْوَانُ عِنْدَ ذَلِكَ: مَا طَابَتْ نَفْسُ أَحَدٍ بِمِثْلِ هَذَا إلّا نَفْسُ نَبِيّ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ! وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ. قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ قَبْلَ نِسَائِهِمْ، ثُمّ قَدِمُوا عَلَى نِسَائِهِمْ فِي الْعِدّةِ، فَرَدّهُنّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ النّكَاحِ. وَأَسْلَمَتْ امْرَأَةُ صَفْوَانَ وَامْرَأَةُ عِكْرِمَةَ قَبْلَ أَزْوَاجِهِمَا، ثُمّ أَسْلَمَا فَرَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنّ إسْلَامَهُمْ كَانَ فِي عِدّتِهِمْ. قَالُوا: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ، فَرُبّمَا أَمْلَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَيُكْتَبُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، فَيَقْرَأُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: كَذَلِكَ اللهُ، وَيُقِرّهُ. وَافْتُتِنَ وَقَالَ: مَا يَدْرِي مُحَمّدٌ مَا يَقُولُ! إنّي لَأَكْتُبُ لَهُ مَا شِئْت، هَذَا الّذِي كَتَبْت يُوحَى إلَيّ كَمَا يُوحَى إلَى مُحَمّدٍ. وَخَرَجَ هَارِبًا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ مُرْتَدّا، فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ جَاءَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرّضَاعَةِ، فَقَالَ: يَا أَخِي، إنّي وَاَللهِ اخْتَرْتُك فَاحْتَبِسْنِي هَاهُنَا، وَاذْهَبْ إلَى مُحَمّدٍ فَكَلّمْهُ فِي، فَإِنّ مُحَمّدًا إنْ رَآنِي ضَرَبَ الّذِي فِيهِ عَيْنَايَ، إنّ جُرْمِي أَعْظَمُ الْجُرْمِ، وَقَدْ جِئْت تَائِبًا. فَقَالَ: بَلْ اذْهَبْ مَعِي. قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَاَللهِ لَئِنْ رَآنِي لَيَضْرِبَن عُنُقِي وَلَا يُنَاظِرُنِي، قَدْ أَهْدَرَ دَمِي، وَأَصْحَابُهُ يُطْلِبُونَنِي فِي كُلّ مَوْضِعٍ. فَقَالَ عُثْمَانُ: انْطَلِقْ معى،
فَلَا يَقْتُلُك إنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يُرَعْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا بِعُثْمَانَ، أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَاقِفَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ عُثْمَانُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أُمّهُ كَانَتْ تَحْمِلُنِي وَتُمْشِيهِ، وَتُرْضِعُنِي وَتَقْطَعُهُ، وَكَانَتْ تُلْطِفُنِي وَتَتْرُكُهُ، فَهَبْهُ لِي. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ عُثْمَانُ كُلّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ اسْتَقْبَلَهُ فَيُعِيدُ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ، فَإِنّمَا أَعْرَضَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ إرَادَةَ أَنْ يَقُومَ رَجُلٌ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، لِأَنّهُ لَمْ يُؤَمّنْهُ، فَلَمّا رَأَى أَلّا يُقْدَمَ أَحَدٌ، وَعُثْمَانُ قَدْ أَكَبّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبّلُ رَأْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُبَايِعُهُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. ثُمّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ يَقُومَ رَجُلٌ مِنْكُمْ إلَى هَذَا الْكَلْبِ فَيَقْتُلَهُ؟ أَوْ قَالَ: «الْفَاسِقِ» . فَقَالَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ: أَلَا أَوْمَأْت إلَيّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فو الذي بَعَثَك بِالْحَقّ إنّي لَأَتّبِعُ طَرَفَك مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ رَجَاءَ أَنْ تُشِيرَ إلَيّ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. وَيُقَالُ: قَالَ هَذَا أَبُو الْيُسْرِ، وَيُقَالُ: عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَا أَقْتُلُ بِالْإِشَارَةِ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: إنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يومئذ: إنّ النبىّ لَا تَكُونُ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ [ (1) ] . فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَفِرّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلّمَا رَآهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِأَبِي [أَنْتَ] وَأُمّي، لَوْ تَرَى ابْنَ أُمّ عَبْدِ اللهِ يَفِرّ مِنْك كُلّمَا رَآك! فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَوَ لَمْ أُبَايِعْهُ وَأُؤَمّنْهُ؟ قَالَ: بَلَى أَيْ رَسُولَ اللهِ! وَلَكِنّهُ يَتَذَكّرُ عَظِيمَ جرمه
فِي الْإِسْلَامِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ» . فَرَجَعَ عُثْمَانُ إلَى ابْنِ أَبِي سَرْحٍ فَأَخْبَرَهُ، فَكَانَ يَأْتِي فَيُسَلّمُ عَلَى النّبِيّ مَعَ النّاسِ. وَأَمّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ [ (1) ] مِنْ وَلَدِ قُصَيّ، فَإِنّهُ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدَرَ دَمَهُ، فَبَيْنَا هُوَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ قَدْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَقِيلَ هُوَ فِي الْبَادِيَةِ. فَأُخْبِرَ الْحُوَيْرِثُ أَنّهُ يُطْلَبُ، وَتَنَحّى عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ بَابِهِ، فَخَرَجَ الْحُوَيْرِثُ يُرِيدُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ بَيْتٍ إلَى بَيْتٍ آخَرَ، فَتَلَقّاهُ عَلِيّ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَأَمّا هَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كُلّمَا بَعَثَ سَرِيّةً أَمَرَهَا بِهَبّارِ إنْ أُخِذَ أَنْ يُحْرَقَ بِالنّارِ. ثُمّ قَالَ: إنّمَا يُعَذّبُ بِالنّارِ رَبّ النّارِ، اقْطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ إنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ، ثُمّ اُقْتُلُوهُ. فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ جُرْمُهُ أَنّهُ عَسّ بِابْنَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ وَضَرَبَ ظَهْرَهَا بِالرّمْحِ- وَكَانَتْ حُبْلَى- حَتّى سَقَطَتْ، فَأَهْدَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ بِالْمَدِينَةِ فِي أَصْحَابِهِ إذْ طَلَعَ هَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ لَسِنًا، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ! سُبّ مَنْ سَبّك، إنّي قَدْ جِئْت مُقِرّا بِالْإِسْلَامِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَتْ سَلْمَى مَوْلَاةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: لَا أَنْعَمَ اللهُ بِك عَيْنًا! أَنْتَ الّذِي فَعَلْت وَفَعَلْت. فقال: إنّ الإسلام محا ذلك. ونهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سَبّهِ وَالتّعْرِيضِ لَهُ. قَالَ: حَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: كُنْت جَالِسًا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ فِي مَسْجِدِهِ، مُنْصَرَفَهُ مِنْ الْجِعِرّانَةِ، فَطَلَعَ هَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ مِنْ بَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نَظَرَ الْقَوْمُ إلَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هبّار ابن الْأَسْوَدِ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ رَأَيْته. فَأَرَادَ بَعْضُ الْقَوْمِ الْقِيَامَ إلَيْهِ، فَأَشَارَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اجْلِسْ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ هَبّارٌ فَقَالَ: السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّك رَسُولُ اللهِ، وَلَقَدْ هَرَبْت مِنْك فِي الْبِلَادِ وَأَرَدْت اللّحُوقَ [ (1) ] بِالْأَعَاجِمِ، ثُمّ ذَكَرْت عَائِدَتَك وَفَضْلَك وَبِرّك وَصَفْحَك عَمّنْ جَهِلَ عَلَيْك، وَكُنّا يَا رَسُولَ اللهِ أَهْلَ شِرْكٍ، فَهَدَانَا اللهُ عَزّ وَجَلّ بِك، وَأَنْقَذَنَا بِك مِنْ الْهَلَكَةِ، فَاصْفَحْ عَنْ جَهْلِي وَعَمّا كَانَ يَبْلُغُك عَنّي، فَإِنّي مُقِرّ بِسُوءِ فِعْلِي، مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ عَفَوْت عَنْك، وَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ بِك حَيْثُ هَدَاك لِلْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ. قَالَ: حَدّثَنِي وَاقِدُ بْنُ أَبِي يَاسِرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قال: قال الزّبير ابن الْعَوّامِ: مَا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَبّارًا قَطّ إلّا تَغَيّظَ عَلَيْهِ، وَلَا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيّةً قَطّ إلّا قَالَ: إنْ ظَفِرْتُمْ بِهَبّارٍ فَاقْطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمّ اضْرِبُوا عُنُقَهُ. وَاَللهِ لَقَدْ كُنْت أَطْلُبُهُ وَأَسْأَلُ عَنْهُ، وَاَللهُ يَعْلَمُ لَوْ ظَفِرْت بِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لقتلته. ثم اطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عِنْدَهُ جَالِسٌ، فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: سُبّ
يَا مُحَمّدُ مَنْ سَبّك وَأُوذِيَ مَنْ آذَاكَ، فَقَدْ كُنْت مُوضِعًا فِي سَبّك وَأَذَاك، وَكُنْت مَخْذُولًا، وَقَدْ نَصَرَنِي اللهُ وَهَدَانِي لِلْإِسْلَامِ. قَالَ الزّبَيْرُ: فَجَعَلْت أَنْظُرُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنّهُ لَيُطَأْطِئُ رَأْسَهُ اسْتِحْيَاءً [ (1) ] مِمّا يَعْتَذِرُ هَبّارٌ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَدْ عَفَوْت عَنْك، الْإِسْلَامُ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ. وَكَانَ لَسِنًا، وَكَانَ يَسُبّ حَتّى يَبْلُغَ مِنْهُ، فَلَا يَنْتَصِفُ مِنْ أَحَدٍ. فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلْمُهُ وَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَذَى، فَقَالَ: هَبّارٌ، سُبّ مَنْ سَبّك! قَالُوا: وَأَمّا ابْنُ خَطَلٍ، فَإِنّهُ خَرَجَ حَتّى دَخَلَ بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيّ يَقُولُ: فِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [ (2) ] ، أَخْرَجْت عَبْدَ اللهِ بْنَ خَطَلٍ وَهُوَ مُعَلّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَضَرَبْت عُنُقَهُ بَيْنَ الرّكْنِ وَالْمَقَامِ. وَيُقَالُ: قَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيّ، وَيُقَالُ: عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَيُقَالُ: شَرِيكُ بْنُ عَبَدَةَ الْعَجْلَانِيّ، وَأَثْبَتَهُ عِنْدَنَا أَبُو بَرْزَةَ. وَكَانَ جُرْمُهُ أَنّهُ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعِيًا، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ، فَكَانَ يَصْنَعُ طَعَامَهُ وَيَخْدُمُهُ، فَنَزَلَا فِي مَجْمَعٍ فَأَمَرَهُ يَصْنَعُ لَهُ طَعَامًا، وَنَامَ نِصْفَ النّهَارِ، فَاسْتَيْقَظَ وَالْخُزَاعِيّ نَائِمٌ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا، فَاغْتَاظَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَهُ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ حَتّى قَتَلَهُ، فَلَمّا قَتَلَهُ قَالَ: وَاَللهِ لَيَقْتُلَنّي مُحَمّدٌ بِهِ إنْ جِئْته. فَارْتَدّ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَسَاقَ مَا أَخَذَ مِنْ الصّدَقَةِ وَهَرَبَ إلَى مَكّةَ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ مَكّةَ: مَا رَدّك إلَيْنَا؟ قَالَ: لَمْ
أَجِدْ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمْ. فَأَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ، وَكَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ، إحْدَاهُمَا فَرْتَنَا، وَالْأُخْرَى أَرْنَبُ، وَكَانَتَا فَاسِقَتَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ الشّعْرَ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُهُمَا تُغَنّيَانِ بِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ وَعَلَى قَيْنَتَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَتُغَنّي الْقَيْنَتَانِ بِذَلِكَ الْهِجَاءِ. وَكَانَتْ سارة مولاة عمرو ابن هَاشِمٍ مُغَنّيَةً نَوّاحَةً بِمَكّةَ، فَيُلْقَى عَلَيْهَا هِجَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُغَنّي بِهِ، وَكَانَتْ قَدْ قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْلُبُ أَنْ يَصِلَهَا وَشَكَتْ الْحَاجَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ لَك فِي غِنَائِك وَنِيَاحِك مَا يُغْنِيك! فَقَالَتْ: يَا مُحَمّدُ، إنّ قُرَيْشًا مُنْذُ قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ تَرَكُوا سَمَاعَ الْغِنَاءِ. فَوَصَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْقَرَ لَهَا بَعِيرًا طَعَامًا، فَرَجَعَتْ إلَى قُرَيْشٍ وَهِيَ عَلَى دِينِهَا، فَأَمَرَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ أَنْ تُقْتَلَ فَقُتِلَتْ يَوْمَئِذٍ. وَأَمّا الْقَيْنَتَانِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمَا، فَقُتِلَتْ إحْدَاهُمَا، أَرْنَبُ أَوْ فَرْتَنَا، وَأَمّا فَرْتَنَا فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا حَتّى آمَنَتْ، وَعَاشَتْ حَتّى كُسِرَ ضِلَعٌ مِنْ أَضْلَاعِهَا زَمَنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَمَاتَتْ مِنْهُ، فَقَضَى فِيهَا عُثْمَانُ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، سِتّةَ آلَافٍ دِيَتُهَا، وَأَلْفَيْنِ تَغْلِيظًا لِلْجُرْمِ. قَالُوا: وَأَمّا مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ فَإِنّهُ كَانَ مَعَ أَخْوَالِهِ بَنِي سَهْمٍ- كَانَتْ أُمّهُ سَهْمِيّةً- فَاصْطَبَحَ الْخَمْرَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي نَدَامَى لَهُ، فَأَتَى نُمَيْلَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ اللّيْثِيّ، وَعَلِمَ بِمَكَانِهِ، فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَهُوَ ثَمِلٌ، يَتَمَثّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُ: دَعِينِي أَصْطَبِحْ يَا بَكْرُ إنّي ... رَأَيْت الْمَوْتَ نَقّبَ عَنْ هِشَامِ [ (1) ] وَنَقّبَ عَنْ أَبِيك أَبِي يَزِيدٍ ... أَخِي الْقَيْنَاتِ والشّرب الكرام
بِهِمْ أَرْسَتْ رَوَاسٍ مِنْ ثَبِيرٍ ... وَمِنْ ثَوْرٍ [ (1) ] وَلَمْ تَصْمَمْ صَمَامِ [ (2) ] تُغَنّينِي الْحَمَامُ كَأَنّ رَهْطِي ... خُزَاعَةُ أَوْ أُنَاسٌ مِنْ جُذَامِ فَضَرَبَهُ بِالسّيْفِ حَتّى بَرّدَهُ. وَيُقَالُ: خَرَجَ وَهُوَ ثَمِلٌ فِيمَا بَيْن الصّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَرَآهُ الْمُسْلِمُونَ فَهَبّتُوهُ [ (3) ] بِأَسْيَافِهِمْ حَتّى قَتَلُوهُ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ [ (4) ] : لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْزَى نُمَيْلَةَ رَهْطُهُ ... وَفُجّعَ إخْوَانُ السّنَاءِ [ (5) ] بِمِقْيَسِ فَلِلّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْلَ مِقْيَسٍ ... إذَا النّفَسَاءُ أَصْبَحَتْ لَمْ تُخَرّسْ [ (6) ] وَكَانَ جُرْمُهُ أَنّ أَخَاهُ هَاشِمُ بْنُ صُبَابَةَ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ المريسيع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ خَطَأً وَلَا يَدْرِي، فَظَنّ أَنّهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فقدم مقيس بن صبابة، فقضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالدّيَةِ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَخَذَهَا وَأَسْلَمَ ثُمّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ الْعُمَرِيّ فَقَتَلَهُ، وَهَرَبَ مُرْتَدّا كَافِرًا يَقُولُ شِعْرًا. وَيُقَالُ: قَتَلَهُ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ فِي رَهْجِ [ (7) ] الْعَدُوّ، فَخَرَجَ يَطْلُبُهُمْ فَرَجَعَ وَلَقِيَهُ أَوْسٌ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلَهُ، فَقَضَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بديته على رهط عبادة ابن الصامت- وهذا أثبت القولين- فقال:
شَفَى النّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... تُضَرّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ [ (1) ] ثَأَرْت بِهِ فِهْرًا وَحَمّلْت عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النّجّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ لت بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْت ثُؤْرَتِي ... وَكُنْت إلَى الْأَوْثَانِ أَوّلَ رَاجِعٍ فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ. قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عبد الله بن أبي فروة، عن أبي [بْنِ] كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ إلَى قُرَيْشٍ إلَى مَكّةَ قَالُوا: مَا رَدّك إلَيْنَا وَقَدْ اتّبَعْت مُحَمّدًا؟ قَالَ: فَانْطَلَقَ إلَى الصّنَمَيْنِ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: لَمْ أَجِدْ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمْ وَلَا أَقْدَمَ. ثُمّ أَخْبَرَهُمْ كَيْفَ صَنَعَ وَكَيْفَ قَتَلَ قَاتِلَ أَخِيهِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ الْهُذَلِيّ، قَالَ: لَمّا قُتِلَ النّفَرُ الّذِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمْ سَمِعَ النّوْحَ عَلَيْهِمْ بِمَكّةَ، وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب فَقَالَ: فِدَاك أَبِي وَأُمّي، الْبَقِيّةُ [ (2) ] فِي قَوْمِك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تُقْتَلُ قُرَيْشٌ صَبْرًا بَعْدَ الْيَوْمِ! يَعْنِي عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ فِرَاسٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْبَرْصَاءِ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تُغْزَى قُرَيْشٌ بَعْدَ الْيَوْمِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ! يَعْنِي عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بقتل وحشىّ
مَعَ النّفَرِ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَحَدٍ أَحْرَصَ مِنْهُمْ عَلَى وَحْشِيّ. وَهَرَبَ وَحْشِيّ إلَى الطّائِفِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مُقِيمًا حَتّى قَدِمَ فِي وَفْدِ الطّائِفِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ: وَحْشِيّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اجْلِسْ، حَدّثْنِي كَيْفَ قَتَلْت حَمْزَةَ. فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيّبْ عَنّي وَجْهَك! قَالَ: فَكُنْت إذَا رَأَيْته تَوَارَيْت عَنْهُ. ثُمّ خَرَجَ النّاسُ إلَى مُسَيْلِمَةَ [ (1) ] ، فَدَفَعْت إلَى مُسَيْلِمَةَ فَزَرَقْته [ (2) ] بِالْحَرْبَةِ، وَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَرَبّك أَعْلَمُ أَيّنَا قَتَلَهُ. قَالَ: وَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فاستسلف من عبد الله ابن أَبِي رَبِيعَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ، فَلَمّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ هَوَازِنَ وَغَنّمَهُ أَمْوَالَهَا رَدّهَا وَقَالَ: إنّمَا جَزَاءُ السّلَفِ الْحَمْدُ وَالْأَدَاءُ. وَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَك فِي مَالِك وَوَلَدِك! قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ الْهُذَلِيّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ الْهُذَلِيّ، قَالَ: اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ من قريش: من صفوان ابن أُمَيّةَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقْرَضَهُ، وَاسْتَقْرَضَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَقْرَضَ مِنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَكَانَتْ ثَلَاثِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الضّعْفِ. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ- كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَتْحِ، أَنّهُ قَسَمَ فِيهِمْ دَرَاهِمَ، فَيُصِيبُ الرّجُلُ خَمْسِينَ درهما
أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَالِ بَعَثَ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ. قَالَ: وَحَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ الْكَلْبِيّ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ المطلّب ابن أَبِي وَدَاعَةَ، قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، وَعَطِشَ فَاسْتَسْقَى. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدَنَا شَرَابٌ مِنْ هَذَا الزّبِيبِ، أَفَلَا أَسْقِيك مِنْهُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَبَعَثَ الرّجُلُ إلَى بَيْتِهِ فَأَتَى بِقَدَحٍ عَظِيمٍ، فَأَدْنَاهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِيهِ، فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا شَدِيدَةً فَكَرِهَهُ فَرَدّهُ. قَالَ: وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءِ، ثُمّ دَعَا بِهِ. قَالَ: وَأُتِيَ بِمَاءِ مِنْ زَمْزَمَ فَصَبّهُ عَلَيْهِ حَتّى رَأَيْت الْمَاءَ يَفِيضُ مِنْ جَانِبِهِ، وَشَرِبَ مِنْهُ حَاجَتَهُ، ثُمّ نَاوَلَهُ الّذِي عَنْ يَمِينِهِ وَقَالَ: مَنْ أَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ رَيْبٌ فَلْيَكْسِرْهُ بِالْمَاءِ. قَالَ: حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَسْلَمَ، وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زيد ابن أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي وَعْلَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: أَهْدَى صَدِيقٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم من ثقيف رواية خَمْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا عَلِمْت أَنّ اللهَ تَعَالَى حَرّمَهَا؟ فَسَارّ الرّجُلُ غُلَامَهُ: اذْهَبْ بِهَا إلَى الْحَزْوَرَةِ فَبِعْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ أَمَرْته؟ قَالَ: بِبَيْعِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الّذِي حَرّمَ شُرْبَهَا حَرّمَ بَيْعَهَا! فَبَلَغَنِي أَنّهَا فُرّغَتْ فِي الْبَطْحَاءِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ، وَثَمَنِ الْخِنْزِيرِ، وَثَمَنِ الْمَيْتَةِ، وَثَمَنِ الْأَصْنَامِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ [ (1) ] . قَالَ: وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ: مَا تَرَى فِي شُحُومِ الْمَيْتَةِ يُدْهَنُ بِهَا السّقَاءُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ! حَرّمَ عَلَيْهِمْ الشّحُومَ فَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا ثَمَنَهَا. قَالَ: وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ! حَرّمَ عَلَيْهِمْ الشّحْمَ فَبَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَه. قَالَ: وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ الرّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَرّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتْعَةَ النّسَاءِ يَوْمَئِذٍ. قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ أبى سلمة ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَمْرَاءِ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِالْحَزْوَرَةِ: وَاَللهِ إنّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبّ أَرْضِ اللهِ إلَيّ، وَلَوْلَا أَنّي أُخْرِجْت مِنْك مَا خَرَجْت! قَالَ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ وَقَالَ: لَوْلَا أَنّ أَهْلَك أَخَرَجُونِي مَا خَرَجْت. قَالَ: وَحَدّثَنِي شَيْخٌ مِنْ خُزَاعَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ، وَكَانَ يَهُودِيّا، فَسَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ، فَعَرَفَ الّذِي ذُكِرَ فِي ذَلِكَ، فَاطْمَأَنّ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، فَلَمّا ارْتَدّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عَنْ إسْلَامِهِ رَجَعَ إلَى مَكّةَ فَأَخْبَرَ أَهْلَهُ بِإِسْلَامِهِ، وَكَانَ الْعَبْدُ يَكْتُمُ
إسْلَامَهُ مِنْ أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَعَذّبُوهُ أَشَدّ الْعَذَابِ حَتّى قَالَ لَهُمْ الّذِي يُرِيدُونَ، فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ جَاءَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ مَا لَقِيَ فِي سَبَبِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ: فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَنَهُ فَاشْتَرَى نَفْسَهُ فَعَتَقَ، وَاسْتَغْنَى وَنَكَحَ امْرَأَةً لَهَا شَرَفٌ. قَالَ: حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: إنّي نَذَرْت أَنْ أُصَلّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ إنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْك مَكّةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَاهُنَا أَفْضَلُ. فَرَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَصَلَاةٌ هَاهُنَا أَفَضْلُ مِنْ أَلْفٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْبُلْدَانِ! وَقَالَتْ مَيْمُونَةُ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي جَعَلْت عَلَى نَفْسِي، إنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْك مَكّةَ، أَنْ أُصَلّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْدِرِينَ عَلَى ذلك، يحو بَيْنَك وَبَيْنَهُ الرّومُ. فَقَالَتْ: آتِي بِخَفِيرٍ يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ. فَقَالَ: لَا تَقْدِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ ابْعَثِي بِزَيْتٍ يُسْتَصْبَحُ [ (1) ] لَك بِهِ فِيهِ، فَكَأَنّك أَتَيْته. فَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تَبْعَثُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلّ سَنَةٍ بِمَالٍ يُشْتَرَى بِهِ زَيْتٌ يُسْتَصْبَحُ بِهِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتّى مَاتَتْ فَأَوْصَتْ بِذَلِكَ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالَا: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ جَلَسَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي مجلس فيه جماعة، منهم سعد بن
عُبَادَةَ، فَمَرّ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: قَدْ كَانَ يُذْكَرُ لَنَا مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ حُسْنٌ وَجَمَالٌ [ (1) ] ، مَا رَأَيْنَا هُنّ كَذَلِكَ! قَالَ: فَغَضِبَ عَبْدُ الرّحْمَنِ حَتّى كَادَ أَنْ يَقَعَ بِسَعْدٍ وَأَغْلَظَ عَلَيْهِ، فَفَرّ مِنْهُ سَعْدٌ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَاذَا لَقِيت مِنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وماله؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ. قَالَ: فَغَضِبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى كَانَ وَجْهُهُ لَيُتَوَقّدُ، ثُمّ قَالَ: رَأَيْتهنّ وَقَدْ أُصِبْنَ بِآبَائِهِنّ وَأَبْنَائِهِنّ وَإِخْوَانِهِنّ وَأَزْوَاجِهِنّ، خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ! أَحْنَاهُ [ (2) ] عَلَى وَلَدٍ، وَأَبْذَلُهُ لِزَوْجٍ بِمَا مَلَكَتْ يَدٌ! وَكَانَ أَبُو الطّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ يَقُولُ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ، فَمَا أَنْسَى شِدّةَ بَيَاضِهِ وَسَوَادَ شَعْرِهِ، وَإِنّ مِنْ الرّجَالِ لَمَنْ هُوَ أَطْوَلُ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ [هُوَ] أَقْصَرُ مِنْهُ، يَمْشِي وَيَمْشُونَ حَوْلَهُ. قَالَ: فَقُلْت لِأُمّي: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ: رَسُولُ اللهِ. قِيلَ لَهُ: مَا ثِيَابُهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبّادٍ، قَالَ: دَخَلْنَا بَعْدَ فَتْحِهَا بِأَيّامٍ نَنْظُرُ وَنَرْتَادُ وَأَنَا مَعَ أَبِي، فَنَظَرْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَاعَةَ رَأَيْته عَرَفْته وَذَكَرْت رُؤْيَتِي إيّاهُ بِذِي الْمَجَازِ، وَأَبُو لَهَبٍ يَتْبَعُ أَثَرَهُ يَوْمَئِذٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا حِلْفَ فى الإسلام، ولن
يَزِيدَ حِلْفَ الْجَاهِلِيّةِ الْإِسْلَامُ إلّا شِدّةً. وَكَانَتْ أُمّ هَانِئٍ تُحَدّثُ تَقُولُ: مَا رَأَيْت أَحَدًا كَانَ أَحْسَنَ ثَغْرًا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا رَأَيْت بَطْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا ذَكَرْت الْقَرَاطِيسَ [ (1) ] الْمُثْنِيَةَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ- تَعْنِي عُكَنَهُ [ (2) ]- وَقَدْ رَأَيْته دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ قَدْ ضَفّرَ رَأْسَهُ بِضَفَائِرَ [ (3) ] أَرْبَعٍ. قَالَ: وَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أُمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: ضَفّرْت [ (4) ] رَأْسَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَرْبَعَ ضَفَائِرَ، فَلَمْ يُحِلّهُ حَتّى فَتَحَ مَكّةَ وَمُقَامُهُ بِمَكّةَ، حَتّى حِينَ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى حُنَيْنٍ حَلّهُ وَغَسَلْت رَأْسَهُ بِسِدْر. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ الْهُذَلِيّ، قَالَ: لَمّا أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ أَرْسَلَتْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَدِيّةٍ- وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ- مَعَ مَوْلَاةٍ لَهَا، بِجَدْيَيْنِ مَرْضُوفَيْنِ [ (5) ] وَقَدّ [ (6) ] . فَانْتَهَتْ الْجَارِيَةُ إلَى خَيْمَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلّمَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ، فَأَذِنَ لَهَا فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَيْنَ نِسَائِهِ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ وَمَيْمُونَةَ، وَنِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَقَالَتْ: إنّ مَوْلَاتِي أَرْسَلَتْ إلَيْك بِهَذِهِ الْهَدِيّةِ، وَهِيَ مُعْتَذِرَةٌ إلَيْك وَتَقُولُ: إنّ غَنَمَنَا الْيَوْمَ قَلِيلَةُ الْوَالِدَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَارَكَ اللهُ لَكُمْ فِي غَنَمِكُمْ، وأكثر
وَالِدَتَهَا! فَرَجَعَتْ الْمَوْلَاةُ إلَى هِنْدٍ فَأَخْبَرَتْهَا بِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُرّتْ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ الْمَوْلَاةُ تَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ كَثْرَةِ غَنَمِنَا وَوَالِدَتِنَا مَا لَمْ نَكُنْ نَرَى قَبْلُ وَلَا قَرِيبًا، فَتَقُولُ هِنْدٌ: هَذَا دُعَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَتُهُ، فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ! ثُمّ تَقُولُ: لَقَدْ كُنْت أَرَى فِي النّوْمِ أَنّي فِي الشّمْسِ أَبَدًا قَائِمَةً، وَالظّلّ مِنّي قَرِيبٌ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَمّا دَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنّا رَأَيْت كَأَنّي دَخَلْت الظّلّ. قَالَ أَبُو حُصَيْنٍ: وَقَدِمَتْ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ- إمّا خَالَةٌ أَوْ عَمّةٌ- بِنَحْيٍ [ (1) ] مَمْلُوءٍ سَمْنًا وَجِرَابٍ أَقِطٍ [ (2) ] ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْأَبْطَحِ، فَلَمّا دَخَلَتْ انْتَسَبَتْ لَهُ، فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهَا إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَتْ وَصَدّقَتْ، ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبُولِ هَدِيّتِهَا، وَجَعَلَ يُسَائِلُهَا عَنْ حَلِيمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنّهَا تُوُفّيَتْ فِي الزّمَانِ. قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ سَأَلَهَا: مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ؟ فَقَالَتْ: أَخَوَاك وَأُخْتَاك، وَهُمْ وَاَللهِ مُحْتَاجُونَ إلَى بِرّك وَصِلَتِك، وَلَقَدْ كَانَ لَهُمْ مَوْئِلٌ [ (3) ] فَذَهَبَ. وَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ أَهْلُك؟ فَقَالَتْ: بِذَنَبِ أَوْطَاسٍ. فَأَمَرَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِسْوَةٍ، وَأَعْطَاهَا جَمَلًا ظَعِينَةً [ (4) ] ، وَأَعْطَاهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: نِعْمَ وَاَللهِ الْمَكْفُولُ كُنْت صَغِيرًا، وَنِعْمَ الْمَرْءُ كُنْت كَبِيرًا، عَظِيمَ الْبَرَكَةِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْهُذَلِيّ، قال:
لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ بَثّ السّرَايَا، فَبَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى الْعُزّى، وَبَعَثَ إلَى ذِي الْكَفّيْنِ- صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ- الطّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدّوْسِيّ، فَجَعَلَ يُحَرّقُهُ بِالنّارِ وَيَقُولُ: يَا ذَا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من مِيلَادِكَا أَنَا حَشَشْت النّارَ فِي فُؤَادِكَا وَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ إلَى مَنَاةَ بِالْمُشَلّلِ فَهَدَمَهُ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى صَنَمِ هُذَيْلٍ- سُوَاعٍ- فَهَدَمَهُ، فَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ: انْتَهَيْت إلَيْهِ وَعِنْدَهُ السّادِنُ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ فَقُلْت: هدم سواع. فقال: مالك وَلَهُ؟ فَقُلْت: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! قَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى هَدْمِهِ. قُلْت: لِمَ؟ قَالَ: يَمْتَنِعُ. قَالَ عَمْرٌو: حَتّى الْآنَ أَنْتَ فِي الْبَاطِلِ! وَيْحَك هَلْ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ؟ قَالَ عَمْرٌو: فَدَنَوْت إلَيْهِ فَكَسَرْته، وَأَمَرْت أَصْحَابِي فَهَدَمُوا بَيْتَ خِزَانَتِهِ، وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا شَيْئًا، ثُمّ قَالَ لِلسّادِنِ: كَيْفَ رَأَيْت؟ قَالَ: أَسْلَمْت لِلّهِ. ثُمّ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ فَلَا يَدَعَن فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إلّا كَسَرَهُ. قَالَ: فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَكْسِرُونَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ، وَكَانَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ أَسْلَمَ لَا يَسْمَعُ بِصَنَمٍ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ قُرَيْشٍ إلّا مَشَى إلَيْهِ حَتّى يَكْسِرَهُ، وَكَانَ أَبُو تِجْرَاةَ يَعْمَلُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَيَبِيعُهَا. قَالَ سَعْدُ بْنُ عَمْرٍو: أَخْبَرَنِي أَنّهُ كَانَ يَرَاهُ يَعْمَلُهَا وَيَبِيعُهَا. وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِمَكّةَ إلّا وَفِي بَيْتِهِ صَنَمٌ. قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ بَعْضِ آلِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ نَادَى
منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ فَلَا يَتْرُكَن فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إلّا كَسَرَهُ أَوْ حَرَقَهُ، وَثَمَنُهُ حَرَامٌ. قَالَ جُبَيْرٌ: وَقَدْ كُنْت أَرَى قَبْلَ ذَلِكَ الْأَصْنَامَ يُطَافُ بِهَا مَكّةَ، فَيَشْتَرِيهَا أَهْلُ الْبَدْوِ فَيَخْرُجُونَ بِهَا إلَى بُيُوتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلّا وَفِي بَيْتِهِ صَنَمٌ، إذَا دَخَلَ مَسَحَهُ وَإِذَا خَرَجَ مَسَحَهُ تَبَرّكًا بِهِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، قَالَ: لَمّا أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ جَعَلَتْ تَضْرِبُ صَنَمًا فِي بَيْتِهَا بِالْقَدُومِ، فِلْذَةً فِلْذَةً، وَهِيَ تَقُولُ: كُنّا مِنْك فِي غُرُورٍ! قَالَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: حَدّثَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ لَيْلَةً، يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ. *** تم بعون الله تعالى الجزء الثاني من مغازي الواقدي، ويليه الجزء الثالث وأوله «شأن هدم العزّى» .
الجزء الثالث
الجزء الثالث شَأْنُ هَدْمِ العُزَّى قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الْهُذَلِيّ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَبَثّ السَّرايا فِي كُلّ وَجْهٍ. أَمَرَهُمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَخَرَجَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ فى مائتين قبل يلملم [ (1) ] ، وخرج خالد ابن سعيد بن العاص فى ثلاثمائة، قَبْلَ عُرَنَةَ. وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى العزَّى يَهْدِمُهَا، فَخَرَجَ خَالِدٌ فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا مِنْ أَصْحَابِهِ حَتّى انْتَهَى إلَيْهَا وَهَدَمَهَا. ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَدَمْت؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْت شَيْئًا مَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنّك لَمْ تَهْدِمْهَا، فَارْجِعْ إلَيْهَا فَاهْدِمْهَا. فَرَجَعَ خَالِدٌ وَهُوَ مُتَغَيّظٌ، فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهَا جَرّدَ سَيْفَهُ، فَخَرَجَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، عُرْيَانَةٌ، نَاشِرَةُ الرّأْسِ. فَجَعَلَ السّادِنُ يَصِيحُ بِهَا. قَالَ خَالِدٌ: وَأَخَذَنِي اقْشِعْرَارٌ فِي ظَهْرِي، فَجَعَلَ يَصِيحُ: أَيَا عزَّ شُدّي [ (2) ] شدَّة لَا تكذِّبى ... عَلَى خَالِدٍ [ (3) ] أَلْقِي الْقِنَاعَ وشمِّرى أَيَا عزَّ إنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا ... فَبُوئِي [ (4) ] بِذَنْبٍ عَاجِلٍ أَوْ تنصَّرى
قَالَ: وَأَقْبَلَ خَالِدٌ بِالسّيْفِ إلَيْهَا وَهُوَ يَقُولُ: يَا عزَّ كُفْرَانَك لَا سُبْحَانَك [ (1) ] ... إنّي وَجَدْت [ (2) ] الله قد أهانك قال: فضربها بالسيف فجزَّ لها [ (3) ] باثنين، ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلَّم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، تِلْكَ العزَّى وَقَدْ يَئِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ بِبِلَادِكُمْ أَبَدًا. ثُمّ قَالَ خَالِدٌ: أَيْ رَسُولَ اللهِ، الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَكْرَمَنَا وَأَنْقَذَنَا مِنْ الْهَلَكَةِ! إنّي كُنْت أَرَى أَبِي يَأْتِي إلَى العزَّى بِحِتْرِهِ [ (4) ] ، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَيَذْبَحُهَا للعزَّى، وَيُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمّ يَنْصَرِفُ إلَيْنَا مَسْرُورًا، فَنَظَرْت إلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أَبِي، وَذَلِكَ الرّأْيُ الّذِي كَانَ يُعَاشُ فِي فَضْلِهِ، كَيْفَ خُدِعَ حَتّى صَارَ يَذْبَحُ لِحَجَرٍ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَعُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هَذَا الْأَمْرَ إلَى اللهِ، فَمَنْ يسَّره لِلْهُدَى تَيَسّرَ، وَمَنْ يَسّرَهُ لِلضّلَالَةِ كَانَ فِيهَا. وَكَانَ هَدْمُهَا لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَكَانَ سَادِنُهَا أَفْلَحَ بْنَ نَضْرٍ الشّيْبَانِيّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَزِينٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: فَلَا تَحْزَنْ، فَأَنَا أَقُومُ عَلَيْهَا بَعْدَك. فَجَعَلَ كُلّ مَنْ لَقِيَ قَالَ: إنْ تَظْهَرَ العزَّى كُنْت قَدْ اتَّخذت يَدًا عِنْدَهَا بِقِيَامِي عَلَيْهَا، وَإِنْ يَظْهَرَ مُحَمّدٌ عَلَى العزَّى- وَلَا أَرَاهُ يَظْهَرُ- فَابْنُ أَخِي! فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [ (5) ] ، ويقال إنه قال هذا فى اللَّات. وقال حسّان بن ثابت....
باب ذكر من قتل من المسلمين يوم الفتح
بَابُ ذِكْرِ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الفتح رجلان أخطئا الطّرِيقَ، كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ، وَخَالِدٌ الْأَشْعَرُ، مِنْ بَنِي كَعْبٍ. وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ صَبْرًا بِالسّيْفِ ابْنُ خَطَلٍ، قَتَلَهُ أَبُو بَرْزَةَ، وَالْحُوَيْرِثُ ابن نُقَيْذٍ [ (1) ] ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، قَتَلَهُ نُمَيْلَةُ. وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالْخَنْدَمَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قَتِيلًا. غَزْوَةُ بَنِي جَذِيمَةَ قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ هَدْمِ العزَّى إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مُقِيمٌ بمكَّة، بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم إلَى بَنِي جَذِيمَةَ، وَبَعَثَهُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا فَخَرَجَ فى المسلمين من المهاجرين والأنصار وبنى سليم، فكانوا ثلاثمائة وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فَانْتَهَى إلَيْهِمْ بِأَسْفَلَ مكَّة، فَقِيلَ لِبَنِي جَذِيمَةَ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ. قَالُوا: وَنَحْنُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، قَدْ صلَّينا وَصَدّقْنَا بِمُحَمّدٍ، وَبَنَيْنَا الْمَسَاجِدَ وأذَّنَّا فِيهَا. فَانْتَهَى إلَيْهِمْ خَالِدٌ فَقَالَ: الْإِسْلَامُ! قَالُوا: نَحْنُ مُسْلِمُونَ! قَالَ: فَمَا بَالُ السّلَاحِ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا: إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ عَدَاوَةً، فَخِفْنَا أَنْ تَكُونُوا هُمْ، فَأَخَذْنَا السّلَاحَ لِأَنْ نَدْفَعَ عَنْ أَنْفُسِنَا مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ. قَالَ: فضعوا السلاح! فقال لهم رجل
مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ جَحْدَمُ: يَا بَنِي جَذِيمَةَ، إنّهُ وَاَللهِ خَالِدٌ! وَمَا يَطْلُبُ مُحَمّدٌ مِنْ أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُقِرّ بِالْإِسْلَامِ، وَنَحْنُ مُقِرّونَ بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ خَالِدٌ لَا يُرِيدُ بِنَا مَا يُرَادُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِنّهُ مَا يَقْدِرُ مَعَ السّلَاحِ إلّا الْإِسَارَ، ثُمّ بَعْدَ الْإِسَارِ السّيْفُ! قَالُوا: نذكِّرك اللهَ، تَسُومَنَا. فَأَبَى يُلْقِي [ (1) ] سَيْفَهُ حَتّى كلَّموه جَمِيعًا فَأَلْقَى سَيْفَهُ وَقَالُوا: إنّا مُسْلِمُونَ وَالنّاسُ قَدْ أَسْلَمُوا، وَفَتَحَ مُحَمّدٌ مَكّةَ، فَمَا نَخَافُ مِنْ خَالِدٍ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاَللهِ لَيَأْخُذَنكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ مِنْ الْأَحْقَادِ الْقَدِيمَةِ. فَوَضَعَ الْقَوْمُ السّلَاحَ، ثُمّ قَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: اسْتَأْسِرُوا! فَقَالَ جَحْدَمٌ: يَا قَوْمُ، مَا يُرِيدُ مِنْ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ يَسْتَأْسِرُونَ! إنّمَا يُرِيدُ مَا يُرِيدُ، فَقَدْ خَالَفْتُمُونِي وَعَصَيْتُمْ أَمْرِي، وَهُوَ وَاَللهِ السّيْفُ. فَاسْتَأْسَرَ الْقَوْمُ، فَأُمِرَ بَعْضُهُمْ يَكْتِفُ بَعْضًا، فَلَمّا كُتِفُوا دَفَعَ إلَى كُلّ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الرّجُلَ وَالرّجُلَيْنِ، وَبَاتُوا فِي وَثَاقٍ، فَكَانُوا إذَا جَاءَ وَقْتُ الصّلَاةِ يُكَلّمُونَ الْمُسْلِمِينَ فَيُصَلّونَ ثُمّ يَرْبِطُونَ. فَلَمّا كَانَ فِي السّحَرِ، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا نُرِيدُ بِأَسْرِهِمْ، نَذْهَبُ بِهِمْ إلَى النّبِيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم. وَقَائِلٌ يَقُولُ: نَنْظُرُ هَلْ يَسْمَعُونَ أَوْ يُطِيعُونَ، وَنَبْلُوهُمْ وَنُخْبِرُهُمْ. وَالنّاسُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، فَلَمّا كَانَ فِي السَّحر نَادَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فليذافِّه- والمذافَّة: الْإِجْهَازُ عَلَيْهِ بِالسّيْفِ. فَأَمّا بَنُو سُلَيْمٍ فَقَتَلُوا كُلّ مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أُسَارَاهُمْ. قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَكَانَ فِي يَدِي أَسِيرٌ، فَأَرْسَلْته وَقُلْت: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت! وَكَانَ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أُسَارَى فأرسلوهم.
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَأَرْسَلْت أَسِيرِي، وَمَا أُحِبّ أَنّي قَتَلْته وَأَنّ لِي مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسٌ أَوْ غَرَبَتْ، وَأَرْسَلَ قَوْمِي مَعِي مِنْ الْأَنْصَارِ أَسْرَاهُمْ. قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمّا نَادَى خَالِدٌ «مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فليذافِّه» أَرْسَلْت أَسِيرِي. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَشِيرٍ الْمَازِنِيّ يَقُولُ: كَانَ مَعِي أَسِيرٌ مِنْهُمْ. قَالَ: فَلَمّا نَادَى خَالِدٌ «مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فليذافِّه» أَخْرَجْت سَيْفِي لِأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ لِي الْأَسِيرُ: يَا أَخَا الْأَنْصَارِ، إنَّ هَذَا لَا يَفُوتُك، اُنْظُرْ إلَى قَوْمِك! قَالَ: فَنَظَرْت فَإِذَا الْأَنْصَارُ طُرّا قَدْ أَرْسَلُوا أُسَارَاهُمْ. قَالَ: قُلْت: انْطَلِقْ حَيْثُ شِئْت! فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ رَحِمًا مِنْكُمْ قَدْ قَتَلُونَا! بَنُو سُلَيْمٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: لَمّا نَادَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي الْأَسْرَى يُذَافّونَ، وَثَبَتَ بَنُو سُلَيْمٍ عَلَى أَسْرَاهُمْ فَذَافّوهُمْ- وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أَسْرَاهُمْ- غَضِبَ خَالِدٌ عَلَى مَنْ أَرْسَلَ مِنْ الْأَنْصَارِ، فكلَّمه يَوْمَئِذٍ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ وَقَالَ: اتَّق اللهَ يَا خَالِدُ، وَاَللهِ مَا كُنّا لِنَقْتُلَ قَوْمًا مُسْلِمِينَ! قَالَ: وَمَا يُدْرِيك؟ قَالَ: نَسْمَعُ إقْرَارَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ بِسَاحَتِهِمْ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرحمن ابن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه، قَالَ: إنّا فِي الْجَيْشِ وَقَدْ كُتّفَتْ بَنُو جَذِيمَةَ، أُمِرَ بَعْضُهُمْ فَكَتَفَ بَعْضًا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَسْرَى: يَا فَتًى!
فَقُلْت: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ برمَّتى [ (1) ] هَذِهِ فمقدِّمى إلَى النُّسيَّات، ثُمّ رَادّي فَفَاعِلٍ بِي مَا فُعِلَ بِأَصْحَابِي؟ قَالَ: قَدْ سَأَلْت يَسِيرًا. قَالَ: وَأَخَذْت برمَّته فَانْتَهَيْت بِهِ إلَى النِّسوة. فَلَمّا انْتَهَى إليهنَّ كلَّم امْرَأَةً منهنَّ بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ. قَالَ: ثُمّ رَجَعْت بِهِ حَتّى رَدَدْته فِي الْأَسْرَى، فَقَامَ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَيُقَالُ: إنَّ فَتًى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ أَدْرَكَهُ الْجَيْشُ عَشِيّةً، فَنَادَى فِي الْقَوْمِ فكفَّ عَنْهُ، وَكَانَ الّذِينَ يَطْلُبُونَهُ [ (2) ] بَنُو سُلَيْمٍ، وَكَانُوا عَلَيْهِ مُتَغَيّظِينَ فِي حُرُوبٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ بِبَرْزَةَ [ (3) ] وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ بَنُو جَذِيمَةَ قَدْ أَصَابُوهُمْ بِبَرْزَةَ وَهُمْ مَوْتُورُونَ يُرِيدُونَ الْقَوَدَ مِنْهُمْ. فَشَجُعُوا عَلَيْهِ، فَلَمّا لَمْ يَرَ إلّا أَنّهُمْ يَقْتُلُونَهُ شَدّ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا، ثُمّ شَدّ عَلَيْهِمْ ثَانِيَةً فَقَتَلَ مِنْهُمْ آخَرُ، ثُمّ جَاءَ الظّلَامُ فَحَالَ بَيْنَهُمْ، وَوَجَدَ الْفَتَى فُرْجَةً، حَتّى إذَا كَانَ الْغَدَاةُ جَاءَ وَقَدْ قَتَلَ مِنْ الْقَوْمِ رَجُلَيْنِ، وَالنّسَاءُ وَالذّرّيّةُ فِي يَدِ خَالِدٍ، فَاسْتَأْمَنَ فَعَرَضَ فَرَسَهُ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْهِ قَالُوا، هَذَا الّذِي صَنَعَ بِالْأَمْسِ مَا صَنَعَ، فَنَاوَشُوهُ عامَّة النّهَارِ ثُمّ أَعْجَزَهُمْ وَكَرّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَنْزِلَ، عَلَى أَنْ تُعْطُونِي عهدا وميثاقا لتصنعنّ بى مَا تَصْنَعُونَ بِالظّعُنِ، إنْ استحييتموهن اسْتَحْيَيْت وَإِنْ قتلتموهنَّ قَتَلْت؟ قَالُوا: لَك ذَلِكَ. فَنَزَلَ بِعَهْدِ اللهِ وَمِيثَاقِهِ، فَلَمّا نَزَلَ قَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: هَذَا صَاحِبُنَا الّذِي فَعَلَ بِالْأَمْسِ مَا فَعَلَ. قَالُوا: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْأَسْرَى مِنْ الرّجَالِ، فَإِنْ قَتَلَهُ خَالِدٌ فَهُوَ إمَامٌ وَنَحْنُ لَهُ تَبَعٌ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ كَأَحَدِهِمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنّمَا جَعَلْنَا لَهُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ يكون مع الظّعن، وأنتم تعلمون
أنَّ خَالِدًا لَا يَقْتُلُ الظّعُنَ، إمّا يقسمهنَّ وَإِمّا يَعْفُو عنهنَّ. قَالَ الْفَتَى: فَإِذَا فَعَلْتُمْ بِي مَا فَعَلْتُمْ، فَانْطَلِقُوا بِي إلَى نسيَّات هُنَاكَ، ثُمّ اصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ. قَالَ: فَفَعَلُوا، وَهُوَ مَكْتُوفٌ برمَّة، حَتّى وَقَفَ عَلَى امْرَأَةٍ منهنَّ، فَأَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: أَسْلِمِي حُبَيْشٌ عَلَى نَفَدِ الْعَيْشِ [ (1) ] ! لَا ذَنْبَ لِي! قَدْ قُلْت شِعْرًا: أَثِيبِي [ (2) ] بودِّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ [ (3) ] النَّوى ... وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ أَلَمْ يَكُ حَقّا أَنْ ينوَّل عَاشِقٌ ... تكلَّف إدْلَاجَ [ (4) ] السُّرى وَالْوَدَائِقِ [ (5) ] أَلَمْ أَكُ قَدْ طَالَبْتُكُمْ فَلَقِيتُكُمْ ... بِحَلْيَةَ [ (6) ] أَوْ أَدْرَكْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ [ (7) ] فَإِنّي لَا ضَيّعْت سرَّ أَمَانَةٍ ... وَلَا رَاقٍ عَيْنِي بَعْدَك الْيَوْمَ رَائِقُ سِوَى أنَّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... لَنَا عَنْك إلّا أَنْ يَكُونَ التّوَاثُقُ أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ قُسَيْطٍ وَابْنُ أَبِي الزِّناد. قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حُرّةَ، عَنْ الوليد، عَنْ الْوَلِيدِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيّ، قَالَ: أَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ أَنْ ضربت عنقه. يقول:
ثُمّ وَضَعَتْ فَاهَا عَلَى فِيهِ فَالْتَقَمَتْهُ، فَلَمْ تَزَلْ تُقَبّلُهُ حَتّى مَاتَتْ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَابَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى خَالِدٍ مَا صَنَعَ، قَالَ: يَا خَالِدُ، أَخَذْت بِأَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ! قَتَلْتهمْ بِعَمّك الْفَاكِهِ، قَاتَلَك اللهُ! قَالَ: وَأَعَانَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ عَلَى خَالِدٍ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَخَذْتهمْ بِقَتْلِ أَبِيك! فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: كَذَبْت وَاَللهِ، لَقَدْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِي بِيَدِي وَأَشْهَدْت عَلَى قَتْلِهِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ. ثُمّ الْتَفَتَ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: أَنْشُدُك اللهَ، هَلْ عَلِمْت أَنّي قَتَلْت قَاتِلَ أَبِي؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: اللهُمّ، نَعَمْ. ثُمّ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: وَيْحَك يَا خَالِدُ، وَلَوْ لَمْ أَقْتُلْ قَاتِلَ أَبِي كُنْت تَقْتُلُ قَوْمًا مُسْلِمِينَ بِأَبِي فِي الْجَاهِلِيّةِ؟ قَالَ خَالِدٌ: وَمَنْ أَخْبَرَك أَنّهُمْ أَسْلَمُوا؟ فَقَالَ: أَهْلُ السّرِيّةِ كُلّهُمْ يُخْبِرُونَنَا أَنّك وَجَدْتهمْ قَدْ بَنَوْا الْمَسَاجِدَ وَأَقَرّوا بِالْإِسْلَامِ، ثُمّ حَمَلْتهمْ عَلَى السّيْفِ. قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَأَغَرْت بِأَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: كَذَبْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَغَالَظَ عَبْدُ الرّحْمَنِ، وَأَعْرَضَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن خَالِدٍ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَبَلَغَهُ مَا صَنَعَ بِعَبْدِ الرّحْمَنِ فَقَالَ: يَا خَالِدُ، ذَرُوا لِي أَصْحَابِي! مَتَى يُنْكَ أَنْفُ الْمَرْءِ يُنْكَ! لَوْ كَانَ أُحُدٌ ذَهَبًا تُنْفِقُهُ قِيرَاطًا قِيرَاطًا فِي سَبِيلِ اللهِ لَمْ تُدْرِكْ غَدْوَةً أَوْ رَوْحَةً مِنْ غَدَوَاتِ أَوْ رَوْحَاتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ! قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِخَالِدٍ: وَيْحَك يَا خَالِدُ، أَخَذْت بَنِي جَذِيمَةَ بِاَلّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ! أَوَ لَيْسَ الْإِسْلَامُ قَدْ مَحَا مَا كَانَ قَبْلَهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ، وَاَللهِ، مَا أَخَذْتهمْ إلّا بِالْحَقّ! أَغَرْت عَلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ
وامتنعوا، فلم يكن لى بدّ- إذا امْتَنَعُوا- مِنْ قِتَالِهِمْ، فَأَسَرْتهمْ ثُمّ حَمَلْتهمْ عَلَى السّيْفِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَيّ رَجُلٍ تَعْلَمُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ؟ قَالَ: أَعْلَمُهُ وَاَللهِ رَجُلًا صَالِحًا. قَالَ: فَهُوَ أَخْبَرَنِي غَيْرَ الّذِي أَخْبَرْتنِي، وَكَانَ مَعَك فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ. قَالَ خَالِدٌ: فَإِنّي أَسَتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ. قَالَ: فَانْكَسَرَ عَنْهُ عُمَرُ، وَقَالَ: وَيْحَك، ايتِ رَسُولَ اللهِ يَسْتَغْفِرْ لَك! قَالَ: حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْن أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَهْلِهِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ، قَالَ: لَمّا نَادَى خَالِدٌ فِي السّحَرِ «مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيُذَافّهِ» أَرْسَلْت أَسِيرِي وَقُلْت لِخَالِدٍ: اتَّق اللهَ، فَإِنّك مَيّتٌ! وَإِنّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ! قَالَ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، إنّهُ لَا عِلْمَ لَك بِهَؤُلَاءِ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَإِنّمَا يكلِّمني خَالِدٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ التِّرة عَلَيْهِمْ. قَالُوا: فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الوليد رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه، وهو يقول: اللهُمّ، إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِد! وَقَدِمَ خَالِدٌ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاتِبٌ. قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَخَالِدٍ كَلَامٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ، فَمَشَى خَالِدٌ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ إلَى عَبْدِ الرّحْمَنِ، فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ حَتّى رَضِيَ عَنْهُ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا أَبَا مُحَمّدٍ! قَالُوا: وَدَخَلَ عَمّارٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ حَمَشَ قَوْمًا [ (1) ] قَدْ صَلّوْا وَأَسْلَمُوا. ثُمّ وَقَعَ بِخَالِدٍ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ، عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالِدٌ جَالِسٌ لَا يَتَكَلّمُ، فَلَمّا قَامَ عَمّارٌ وَقَعَ بِهِ خَالِدٌ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ يَا خَالِدُ! لَا تَقَعْ بِأَبِي اليقظان، فإنه
مَنْ يُعَادِهِ يُعَادِهِ اللهُ، وَمَنْ يُبْغِضْهُ يُبْغِضْهُ اللهُ، وَمَنْ يسفِّهه يُسَفّهْهُ اللهُ. قَالُوا: فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ اسْتَقْرَضَ مَالًا بِمَكّةَ، وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ فَأَعْطَاهُ مَالًا، فَقَالَ: انْطَلِقْ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ واجعل يأمر الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمَيْك، فَدِ [ (1) ] لَهُمْ مَا أَصَابَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَخَرَجَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِذَلِكَ الْمَالِ حَتّى جَاءَهُمْ، فَوَدَى لَهُمْ مَا أَصَابَ خَالِدٌ، وَدَفَعَ إلَيْهِمْ مَالَهُمْ، وَبَقِيَ لَهُمْ بَقِيّةُ الْمَالِ، فَبَعَثَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ أَبَا رَافِعٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَزِيدَهُ، فَزَادَهُ مَالًا، فَوَدَى لَهُمْ كُلّ مَا أَصَابَ، حَتّى إنّهُ لَيَدِي لَهُمْ مِيلَغَةَ [ (2) ] الْكَلْبِ، حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ يَطْلُبُونَهُ بَقِيَ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ. فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَذِهِ الْبَقِيّةُ مِنْ هَذَا الْمَالِ لَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمّا أَصَابَ خَالِدٌ، مِمّا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا تَعْلَمُونَهُ. فَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ. وَيُقَالُ إنّمَا الْمَالُ الّذِي بَعَثَ بِهِ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ اسْتَقْرَضَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، فَبَعَثَ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَلَمّا رَجَعَ عَلِيّ دَخَلَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مَا صَنَعْت يَا عَلِيّ؟ فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ مُسْلِمِينَ، قَدْ بَنَوْا الْمَسَاجِدَ بِسَاحَتِهِمْ، فَوَدَيْت لَهُمْ كُلّ مَنْ قَتَلَ خَالِدٌ حَتّى مِيلَغَةَ الْكِلَابِ، ثُمّ بَقِيَ مَعِي بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ فَقُلْت: هَذَا مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لَا يَعْلَمُهُ وَلَا تَعْلَمُونَهُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَبْت! مَا أَمَرْت خَالِدًا بِالْقَتْلِ، إنّمَا أَمَرْته بِالدّعَاءِ. وَكَانَ رَسُولُ الله صلّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقْبِلُ عَلَى خَالِدٍ، وَيَعْرِضُ عَنْهُ، وَخَالِدٌ يَتَعَرّضُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْلِفُ مَا قَتَلَهُمْ عَلَى تِرَةٍ وَلَا عَدَاوَةٍ. فَلَمّا قَدِمَ عَلِيّ وَوَدَاهُمْ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَالِدٍ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسُبّوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَإِنّمَا هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ، سَلّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ! قَالَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: نِعْمَ عَبْدُ اللهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَخُو الْعَشِيرَةِ، وَسَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ، سَلّهُ عَلَى الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِين! قَالَ: وَحَدّثَنِي يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد يُغِيرَ عَلَى بَنِي كِنَانَةَ، إلّا أَنْ يَسْمَعَ أَذَانًا أَوْ يَعْلَمَ إسْلَامًا، فَخَرَجَ حَتّى انْتَهَى إلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَامْتَنَعُوا أَشَدّ الِامْتِنَاعِ، وَقَاتَلُوا وَتَلَبّسُوا السّلَاحَ، فَانْتَظَرَ بِهِمْ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَا يَسْمَعُ أَذَانًا، ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ، فَادّعَوْا بَعْدُ الْإِسْلَامَ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمَا عَتَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ [عَلَى خَالِدٍ] وَلَقَدْ كَانَ الْمُقَدّمَ حَتّى مَاتَ. وَلَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حُنَيْنٍ عَلَى مُقَدّمَتِهِ، وَإِلَى تَبُوكَ، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُكَيْدِرٍ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، فَسَبَى مَنْ سَبَى ثُمّ صَالَحَهُمْ، ولقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ إلَى نَجْرَانَ أَمِيرًا
وَدَاعِيًا إلَى اللهِ، وَلَقَدْ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ، فَلَمّا حَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ أَعْطَاهُ نَاصِيَتَهُ، فَكَانَتْ فِي مُقَدّمِ قَلَنْسُوَتِهِ، فَكَانَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إلّا هَزَمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَلَقَدْ قَاتَلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَوَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ. فَجَعَلَ يَقُولُ: الْقَلَنْسُوَةُ! الْقَلَنْسُوَةُ! فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا أَبَا سُلَيْمَانَ، عَجَبًا لِطَلَبِك الْقَلَنْسُوَةَ وَأَنْتَ فِي حَوْمَةِ الْقِتَالِ! فَقَالَ: إنّ فِيهَا نَاصِيَةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ أَلْقَ بِهَا أَحَدًا إلّا وَلّى. وَلَقَدْ تُوُفّيَ خَالِدٌ يَوْمَ تُوُفّيَ، وَهُوَ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَبْرُهُ بِحِمْصٍ، فَأَخْبَرَنِي مَنْ غَسّلَهُ وَحَضَرَ مَوْتَهُ، وَنَظَرَ إلَى مَا تَحْتَ ثِيَابِهِ، مَا فِيهِ مَصَحّ، مَا بَيْنَ ضَرْبَةِ بسيف أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةٍ بِسَهْمٍ. وَلَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ الّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لَيْسَ بِذَلِكَ، ثُمّ يَذْكُرُهُ بَعْدُ فَيَتَرَحّمُ عَلَيْهِ وَيَتَنَدّمُ عَلَى مَا كَانَ صَنَعَ فِي أَمْرِهِ، وَيَقُولُ: سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ تَعَالَى! وَلَقَدْ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَبَطَ مِنْ لَفْتٍ [ (1) ] فِي حَجّتِهِ، وَمَعَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ الرّجُلُ: فُلَانٌ. قَالَ: بِئْسَ عَبْدُ اللهِ فُلَانٌ! ثُمّ طَلَعَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ الرّجُلُ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ. فَقَالَ: بِئْسَ عَبْدُ اللهِ فُلَانٌ! ثُمّ طَلَعَ خَالِدُ بْنُ الوليد فقال: من هذا؟ قال: خالد ابن الْوَلِيدِ. قَالَ: نِعْمَ عَبْدُ اللهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ! وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ مبيَّض قَالَ: سَمِعْت خَالِدَ بْنَ إلْيَاسَ يَقُولُ: بَلَغْنَا أَنّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا.
غزوة حنين
غَزْوَةُ حُنَيْنٍ حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَعَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ السّعْدِيّ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، وَبُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنَا بِطَائِفَةٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ حَدّثَنَا مِمّنْ لَمْ أُسَمّ، أَهْلُ ثِقَةٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنَا بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ مَا قَدْ حَدّثُونِي بِهِ. قَالُوا: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ مَشَتْ أَشْرَافُ هَوَازِنَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَثَقِيفٌ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَحَشَدُوا وَبَغَوْا وَأَظْهَرُوا أَنْ قَالُوا: وَاَللهِ مَا لَاقَى مُحَمّدٌ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فَسِيرُوا إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَيْكُمْ. فَأَجْمَعَتْ هَوَازِنُ أَمْرَهَا وَجَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ [ (1) ] وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً- وَكَانَ سَيّدًا فِيهَا، وَكَانَ مُسَبّلًا [ (2) ] ، يَفْعَلُ فِي مَالِهِ وَيُحْمَدُ. فَاجْتَمَعَتْ هَوَازِنُ كُلّهَا، وَكَانَ فِي ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهَا يَوْمَئِذٍ: قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْأَحْلَافِ، هُوَ [الّذِي] قَادَهَا، وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ- وَيُقَالُ الْأَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ- وَهُوَ الّذِي قَادَهَا مُوَالِيًا [ (3) ] ثَقِيفًا، فَأَوْعَبَتْ كُلّهَا مَعَ هَوَازِنَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الْمَسِيرَ إلَى مُحَمّدٍ، فَوَجَدَ ثَقِيفًا إلَى ذَلِكَ سِرَاعًا، فَقَالُوا: قَدْ كُنّا نَهُمّ بالمسير إليه، ونكره أن
يَسِيرَ إلَيْنَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ سَارَ إلَيْنَا لَوَجَدَ حِصْنًا حَصِينًا نُقَاتِلُ دُونَهُ، وَطَعَامًا كَثِيرًا، حَتّى نُصِيبَهُ أَوْ يَنْصَرِفَ، وَلَكِنّا لَا نُرِيدُ ذَلِكَ، وَنَسِيرُ مَعَكُمْ وَنَكُونُ يَدًا وَاحِدَةً. فَخَرَجُوا مَعَهُمْ. قَالَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ لَبَنِيهِ، وَهُمْ عَشَرَةٌ: إنّي أُرِيدُ أَمْرًا كَائِنَةً لَهُ أُمُورٌ، لَا يَشْهَدُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إلّا عَلَى فَرَسِهِ. فَشَهِدَهَا عَشَرَةٌ مِنْ وَلَدِهِ عَلَى عَشَرَةِ أَفْرَاسٍ، فَلَمّا انْهَزَمُوا بَأَوْطَاسٍ هَرَبُوا، فَدَخَلُوا حِصْنَ الطّائِفِ فَغَلّقُوهُ. وَقَالَ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يالَيْل: يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ، إنّكُمْ تَخْرُجُونَ مِنْ حِصْنِكُمْ وَتَسِيرُونَ إلَى رَجُلٍ لَا تَدْرُونَ أَيَكُونُ لَكُمْ أَمْ عَلَيْكُمْ، فَمُرُوا بِحِصْنِكُمْ أَنْ يُرَمّ مَا رَثّ مِنْهُ، فَإِنّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلّكُمْ تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ. فَأَمَرُوا بِهِ أَنْ يُصْلَحَ، وَخَلّفُوا عَلَى مَرَمّتِهِ رَجُلًا وَسَارُوا، وَشَهِدَهَا نَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ لَيْسُوا بِكَثِيرٍ، مَا يَبْلُغُونَ مِائَةً، وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ، وَلَقَدْ كَانَتْ كِلَابٌ قَرِيبَةً، فَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: لِمَ تَرَكَتْهَا كِلَابٌ فَلَمْ تَحْضُرْهَا؟ فَقَالَ: أَمَا وَاَللهِ إنْ كَانَتْ لَقَرِيبَةٌ، وَلَكِنّ ابْنَ أَبِي الْبَرَاءِ مَشَى فَنَهَاهَا عَنْ الْحُضُورِ فَأَطَاعَتْهُ، وَقَالَ: وَاَللهِ، لَوْ نَأَوْا مُحَمّدًا [ (1) ] مِنْ بَيْنِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَظَهَرَ عَلَيْهِ [ (2) ] . وَنَصَرَهَا دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ فِي بَنِي جُشَمٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إلّا التّيَمّنُ بِهِ وَمَعْرِفَتُهُ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ يَوْمَئِذٍ. وَجِمَاعُ النّاسِ، ثَقِيفٌ وَغَيْرُهَا مِنْ هَوَازِنَ، إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ، فَلَمّا أَجْمَعَ مَالِكٌ الْمَسِيرَ بِالنّاسِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النّاسَ فَجَاءُوا مَعَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ حَتّى نَزَلُوا بَأَوْطَاسٍ، وَاجْتَمَعَ النّاسُ بِهِ فَعَسْكَرُوا وَأَقَامُوا بِهِ، وجعلت الأمداد
تَأْتِيهِمْ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ. وَدُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ يَوْمَئِذٍ فِي شِجَارٍ [ (1) ] يُقَادُ بِهِ عَلَى بَعِيرٍ، فَمَكَثَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمّا نَزَلَ الشّيْخُ لَمَسّ الأرض بيده، فقال: بأىّ واد أنتم؟ بَأَوْطَاسٍ. قَالَ: نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ! لَا حَزْنٌ ضَرِسٌ [ (2) ] ، وَلَا سَهْلٌ دَهْسٌ [ (3) ] ! مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَثُغَاءَ الشّاءِ، وَخُوَارَ الْبَقَرِ، وَبُكَاءَ الصّغِيرِ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكٌ مِنْ النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. قَالَ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَمَعَكُمْ مِنْ بَنِي كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ أَحَدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمَعَكُمْ مِنْ بَنِي كعب بن ربيعة أحد؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ أَحَدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ دُرَيْدٌ: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقْتُمُوهُمْ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ شَرَفًا مَا تَخَلّفُوا عَنْهُ، فَأَطِيعُونِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَارْجِعُوا وَافْعَلُوا مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ! فَأَبَوْا عَلَيْهِ. قَالَ: فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَعَوْفُ بن عامر. قال: ذلك الْجَذَعَانِ [ (4) ] مِنْ عَامِرٍ، لَا يَضُرّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ! ثُمّ قَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ قَالُوا: هَذَا مَالِكٌ. فَدَعَا لَهُ فَقَالَ: يَا مَالِكٌ، إنّك تُقَاتِلُ رَجُلًا كَرِيمًا، وَقَدْ أَصْبَحْت رَئِيسَ قَوْمِك، وَإِنّ هذا اليوم كائن لِمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ! يَا مَالِكُ، مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَخُوَارَ الْبَقَرِ، وَبُكَاءَ الصّغِيرِ، وَثُغَاءَ الشّاءِ؟ قَالَ مَالِكٌ: سُقْت مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. قَالَ دُرَيْدٌ: وَلِمَ؟ قَالَ مَالِكٌ: أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ وَنِسَاءَهُ حتى
يُقَاتِلَ عَنْهُمْ [ (1) ] . قَالَ: فَأَنْقَضَ [ (2) ] بِيَدِهِ، ثُمّ قَالَ: رَاعِي ضَأْنٍ، مَا لَهُ وَلِلْحَرْبِ؟ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَكُمْ لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك فُضِحْت فِي أَهْلِك وَمَالِك! ثُمّ قَالَ: مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ؟ قَالُوا: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. قَالَ: غَابَ الْجَدّ وَالْحَدّ، وَلَوْ كَانَ يَوْمُ رِفْعَةٍ وَعَلَاءٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ. يَا مَالِكُ، إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ بَيْضَةِ [ (3) ] هَوَازِنَ إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا، فَإِذَا صَنَعْت مَا صَنَعْت فَلَا تَعْصِنِي فِي هَذِهِ الْخُطّةِ، ارْفَعْهُمْ إلَى مُمْتَنِعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ وَعِزّهِمْ، ثُمّ الْقَ الْقَوْمَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ [ (4) ] لَك لَحِقَ بِك مِنْ وَرَاءَك، وَكَانَ أَهْلُك لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك أَلْفَاك ذَلِكَ وَقَدْ أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَك. فَغَضِبَ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ: وَاَللهِ لَا أَفْعَلُ، وَلَا أُغَيّرُ أَمْرًا صَنَعْته، إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبُرَ عِلْمُك، وَحَدَثَ بَعْدَك مَنْ هُوَ أَبْصَرُ بِالْحَرْبِ مِنْك! قَالَ دُرَيْدٌ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَاَللهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ! هَذَا فَاضِحُكُمْ فِي عَوْرَتِكُمْ وَمُمَكّنٌ مِنْكُمْ عَدُوّكُمْ، وَلَاحِقٌ بِحِصْنِ ثَقِيفٍ وَتَارِكُكُمْ، فَانْصَرِفُوا وَاتْرُكُوهُ! فَسَلّ مَالِكٌ سَيْفَهُ، ثُمّ نَكّسَهُ [ (5) ] ، ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَاَللهِ لَتُطِيعُنّنِي أَوْ لَأَتّكِئَن عَلَى السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي! وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ وَرَأْيٌ، فَمَشَى بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: وَاَللهِ، لَئِنْ عَصَيْنَا مَالِكًا، وَهُوَ شَابّ، لَيَقْتُلَن نَفْسَهُ وَنَبْقَى
مَعَ دُرَيْدٍ، شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا قِتَالَ فِيهِ. ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةً. وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ مَعَ مَالِكٍ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ دُرَيْدٌ وَأَنّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ، قَالَ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ أَغِبْ عَنْهُ: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ وَكَانَ دُرَيْدٌ قَدْ ذُكِرَ بِالْفُرُوسِيّةِ وَالشّجَاعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ سَيّدَ بَنِي جُشَمٍ وَأَوْسَطَهُمْ نَسَبًا، وَلَكِنّ السّنّ أَدْرَكَتْهُ حَتّى فَنِيَ فَنَاءً- وَهُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ. قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ (1) ] قَالُوا: وَكَانَ فَتْحُ مَكّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ. فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ غَدَا يَوْمَ السّبْتِ لِسِتّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكّةَ عَتّابَ بْنِ أُسَيْدٍ يُصَلّي بِهِمْ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُعَلّمُهُمْ السّنَنَ وَالْفِقْهَ. قَالُوا: وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَلْفَيْنِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ، فَلَمّا فَصَلَ [ (2) ] قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَوْ لَقِينَا بَنِي شَيْبَانَ مَا بَالَيْنَا [ (3) ] ، وَلَا يَغْلِبُنَا الْيَوْمَ أَحَدٌ مِنْ قِلّةٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [ (4) ] الآية
قَالَ: حَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا نَغْلِبُ الْيَوْمَ مِنْ قِلّةٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ.. الْآيَةَ. قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عبد الله ابن عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الْأَصْحَابِ أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الحيوش أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَا تُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلّةٍ- كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَثِيرٌ، مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ اسْتَعَارَ مِنْهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِأَدّاتِهَا كَامِلَةً، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَارِيَةً مُؤَدّاةً! وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَانَ: اكْفِنَا حَمْلَهَا. فَحَمَلَهَا صَفْوَانُ عَلَى إبِلِهِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى أَوْطَاسٍ، فَدَفَعَهَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدّيلِيّ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللّيْثِيّ- وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ، وَكَانَتْ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ [ (1) ] ، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ يُعَلّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، يَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا. قَالَ: فَرَأَيْنَا يَوْمًا، وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، شجرة عظيمة خضراء، فسترتنا [ (2) ]
مِنْ جَانِبِ الطّرِيقِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُ أَكْبَرُ! اللهُ أَكْبَرُ! قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [ (1) ] إنّهَا لِلسّنَنِ، سَنَنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَتْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ شَجَرَةً عَظِيمَةً، أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ يَذْبَحُونَ بِهَا وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا، وَكَانَ مَنْ حَجّ مِنْهُمْ وَضَعَ رِدَاءَهُ عِنْدَهَا، وَيَدْخُلُ بِغَيْرِ رِدَاءٍ تَعْظِيمًا لَهَا، فَلَمّا مَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ قَالَ لَهُ رَهْطٌ. مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ. اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَكَبّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم ثلاثا، وقال: هكذا فَعَلَ قَوْمُ مُوسَى بِمُوسَى. قَالَ: قَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ: لَمّا كُنّا دُونَ أَوْطَاسٍ نَزَلْنَا تَحْتَ شَجَرَةٍ وَنَظَرْنَا إلَى شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَهَا، وَعَلّقَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ وَقَوْسَهُ. قَالَ: وَكُنْت مِنْ أَقْرَبِ أَصْحَابِهِ إلَيْهِ. قَالَ: فَمَا أَفْزَعَنِي إلّا صَوْتُهُ: يَا أَبَا بُرْدَةَ! فَقُلْت: لَبّيْكَ! فَأَقْبَلَتْ سَرِيعًا، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ هَذَا الرّجُلَ جَاءَ وَأَنَا نَائِمٌ، فَسَلّ سَيْفِي ثُمّ قَامَ بِهِ عَلَى رَأْسِي فَفَزِعْت بِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمّدُ، مَنْ يُؤَمّنُك مِنّي الْيَوْمَ؟ قُلْت: اللهُ! قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَوَثَبْت إلَى سيفي فسللته، فقال
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِمْ [ (1) ] سَيْفَك! قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ عَدُوّ اللهِ، فَإِنّ هَذَا مِنْ عُيُونِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: فَقَالَ لِي: اُسْكُتْ يَا أَبَا بُرْدَةَ. قَالَ: فَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا وَلَا عَاقَبَهُ. قَالَ: فَجَعَلْت أَصِيحُ بِهِ فِي الْعَسْكَرِ لِيَشْهَدَهُ النّاسُ فَيَقْتُلُهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمّا أَنَا فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَفّنِي عَنْ قَتْلِهِ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قول: اُلْهُ عَنْ الرّجُلِ يَا أَبَا بُرْدَةَ! قَالَ: فَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا بُرْدَةَ، إنّ اللهَ مَانِعِي وَحَافِظِي حَتّى يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ. قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ مَسَاءَ لَيْلَةِ الثّلَاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ. وَبَعَثَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ رِجَالًا مِنْ هَوَازِنَ يَنْظُرُونَ إلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ- ثَلَاثَةَ نَفَرٍ- وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرّقُوا فِي الْعَسْكَرِ، فَرَجَعُوا إلَيْهِ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ وَيْلَكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالًا بيضا على خيل بلق، فو الله مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى! وَقَالُوا لَهُ: مَا نُقَاتِلُ أَهْلَ الْأَرْضِ، إنْ نُقَاتِلْ [إلّا] أَهْلَ السّمَوَاتِ- وَإِنّ أَفْئِدَةَ عُيُونِهِ تَخْفُقُ- وَإِنْ أَطَعْتنَا رَجَعْت بِقَوْمِك، فَإِنّ النّاسَ إنْ رَأَوْا مِثْلَ مَا رَأَيْنَا أَصَابَهُمْ مِثْلَ الّذِي أَصَابَنَا. قَالَ: أُفّ لَكُمْ! بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ أَجْبَنُ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. فَحَبَسَهُمْ عِنْدَهُ فَرَقًا أَنْ يَشِيعَ ذَلِكَ الرّعْبُ فِي الْعَسْكَرِ، وَقَالَ: دِلّونِي عَلَى رَجُلٍ شُجَاعٍ. فَأَجْمِعُوا لَهُ عَلَى رَجُلٍ، فَخَرَجَ، ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِ وَقَدْ أَصَابَهُ نَحْوَ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: مَا رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيضا على
خيل بلق، ما يطاق النظر إليهم، فو الله تَمَاسَكْت أَنْ أَصَابَنِي مَا تَرَى! فَلَمْ يُثْنِهِ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ. قَالُوا: وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ [ (1) ] الْأَسْلَمِيّ فَقَالَ: انْطَلِقْ فَادْخُلْ فِي النّاسِ حَتّى تَأْتِيَ بِخَبَرِ مِنْهُمْ، وَمَا يَقُولُ مَالِكٌ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ فَطَافَ فِي عَسْكَرِهِمْ، ثُمّ انْتَهَى إلَى ابْنِ عَوْفٍ فَيَجِدُ عِنْدَهُ رُؤَسَاءُ هَوَازِنَ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إنّ مُحَمّدًا لَمْ يُقَاتِلْ قَطّ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرّةِ، وَإِنّمَا كَانَ يَلْقَى قوما أَغْمَارًا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَيُنْصَرُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ فِي السّحَرِ فَصَفّوا مَوَاشِيَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ مِنْ وَرَائِكُمْ، ثُمّ صُفّوا صُفُوفَكُمْ، ثُمّ تَكُونُ الْحَمَلَةُ مِنْكُمْ، وَاكْسِرُوا جُفُونَ [ (2) ] سُيُوفِكُمْ فَتَلْقَوْنَهُ بِعِشْرِينَ أَلْفِ سَيْفٍ مَكْسُورِ الْجَفْنِ [ (3) ] ، وَاحْمِلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَاعْلَمُوا أَنّ الْغَلَبَةَ لِمَنْ حَمَلَ أَوّلًا! فَلَمّا وَعَى ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَ بِكُلّ مَا سَمِعَ، فَدَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ: كَذَبَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: لَئِنْ كَذّبْتنِي لَرُبّمَا كَذّبَتْ بِالْحَقّ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْمَعْ [ (4) ] مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ! قَالَ: صَدَقَ، كُنْت ضالّا فهداك الله! قالوا: وَكَانَ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيّةِ الْأَنْصَارِيّ يَقُولُ: سِرْنَا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ، فَأَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى أَتَاهُ رَجُلٌ فقال:
يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ تَقَطّعُوا مِنْ وَرَائِك! فَنَزَلَ فَصَلّى الْعَصْرَ، وَأَوَى إلَيْهِ النّاسَ فَأَمَرَهُمْ فَنَزَلُوا، وَجَاءَهُ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي انْطَلَقْت [مِنْ] بَيْنِ أَيْدِيكُمْ عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهَا [ (1) ] بِظُعُنِهَا وَنِسَائِهَا وَنَعَمِهَا فِي وَادِي حُنَيْنٍ. فَتَبَسّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا فَارِسٌ يَحْرُسُنَا اللّيْلَةَ؟ إذْ أَقْبَلَ أُنَيْسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ عَلَى فَرَسِهِ، فَقَالَ: أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: انْطَلِقْ حَتّى تَقِفَ عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَلَا تَنْزِلَن إلّا مُصَلّيًا أَوْ قَاضِي حَاجَةٍ، وَلَا تَغُرّن مَنْ خَلْفَك! قَالَ: وَبِتْنَا حَتّى أَضَاءَ الْفَجْرُ، وَحَضَرْنَا الصّلَاةَ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَأَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ اللّيْلَةَ؟ قُلْنَا: لَا وَاَللهِ! فَأُقِيمَتْ الصّلَاةُ فَصَلّى بِنَا، فَلَمّا سَلّمَ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ خِلَالَ الشّجَرِ، فَقَالَ: أَبْشِرُوا، قَدْ جَاءَ فَارِسُكُمْ! وَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي وَقَفْت عَلَى الْجَبَلِ كَمَا أَمَرْتنِي، فَلَمْ أَنْزِلْ عَنْ فَرَسِي إلّا مُصَلّيًا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ حَتّى أَصْبَحْت، فَلَمْ أُحِسّ أَحَدًا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْطَلِقْ فَانْزِلْ عَنْ فَرَسِك، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا. فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا أَلّا يَعْمَلَ بَعْدَ هَذَا عَمَلًا؟ قَالُوا، وَخَرَجَ رِجَالٌ مِنْ مَكّةَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ (2) ]- عَلَى غَيْرِ دِينٍ- ركبانا ومشاة، ينظرون لمن تكون
الدّائِرَةُ فَيُصِيبُونَ مِنْ الْغَنَائِمِ، وَلَا يَكْرَهُونَ أَنْ تكون الصّدمة [ (1) ] لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابِهِ. وَخَرَج أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي أَثَرِ الْعَسْكَرِ، كُلّمَا مَرّ بِتُرْسٍ سَاقِطٍ. أَوْ رُمْحٍ أَوْ مَتَاعٍ مِنْ مَتَاعِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَهُ، وَالْأَزْلَامُ فِي كِنَانَتِهِ، حَتّى أَوْقَرَ [ (2) ] جَمَلَهُ. وَخَرَجَ صَفْوَانُ وَلَمْ يُسْلِمْ، وَهُوَ فِي الْمُدّةِ الّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاضْطَرَبَ خَلْفَ النّاسِ، وَمَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ. وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ. وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدّائِرَةُ. وَاضْطَرَبُوا خَلْفَ النّاسِ وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ، فَمَرّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَبْشِرْ أَبَا وَهْبٍ! هُزِمَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ! فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: إنّ رَبّا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ رَبّ مِنْ هَوَازِنَ إن كنت مربوبا. قالوا: وَلَمّا كَانَ مِنْ اللّيْلِ عَمَدَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ إلَى أَصْحَابِهِ فَعَبّأَهُمْ فِي وَادِي حُنَيْنٍ- وَهُوَ وَادٍ أَجْوَفَ، ذُو شِعَابٍ وَمَضَايِقَ- وَفَرّقَ النّاسُ فِيهِ، وَأَوْعَزَ إلَى النّاسِ أَنْ يَحْمِلُوا عَلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ حَمْلَةً وَاحِدَةً. وَعَبَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَصَفّهُمْ صُفُوفًا فِي السّحَرِ، وَوَضَعَ الْأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ فِي أَهْلِهَا، مَعَ الْمُهَاجِرِينَ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَفِي الْأَنْصَارِ رَايَاتٌ، مَعَ الْخَزْرَجِ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ- وَيُقَالُ لِوَاءُ الْخَزْرَجِ الْأَكْبَرُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ- وَلِوَاءُ الْأَوْسِ مَعَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَفِي كُلّ بَطْنٍ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ لِوَاءٌ أَوْ رَايَةٌ. وَفِي بنى عبد الأشهل راية يحملها
أَبُو نَائِلَةَ، وَفِي بَنِي حَارِثَةَ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، وَفِي ظَفَرٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ. وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا جَبْرُ بْنُ عَتِيكٍ فِي بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ فِي بَنِي وَاقِفٍ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. وَرَايَةُ يَحْمِلُهَا أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ فِي بَنِي سَاعِدَةَ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو سَلِيطٍ فِي بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَنِي مَازِنٍ. وَكَانَتْ رَايَاتُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الْجَاهِلِيّةِ خُضْرٌ وَحُمْرٌ، فَلَمّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَقَرّوهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ رَايَاتُ الْمُهَاجِرِينَ سُودٌ وَالْأَلْوِيَةُ بِيضٌ. وَكَانَ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي أَسْلَمَ رَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا مَعَ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ، وَالْأُخْرَى مَعَ جُنْدُبِ بْنِ الْأَعْجَمِ. وَكَانَ فِي بَنِي غِفَارٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو ذَرّ، وَمَعَ بَنِي ضَمْرَةَ، وَلَيْثٍ، وَسَعْدِ بْنِ لَيْثٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو وَاقِدٍ اللّيْثِيّ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ. وَكَانَ مَعَ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو رَايَتَانِ يَحْمِلُ إحْدَاهُمَا بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى أَبُو شُرَيْحٍ. وَكَانَ فِي بَنِي مُزَيْنَةَ ثَلَاثُ رَايَاتٍ، رَايَةٌ يَحْمِلُهَا بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ، راية يَحْمِلُهَا النّعْمَانُ بْنُ مُقْرِنٍ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. وَكَانَ فِي جُهَيْنَةَ أَرْبَعُ رَايَاتٍ، رَايَةٌ مَعَ رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ، وَرَايَةٌ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، وَرَايَةٌ مَعَ أَبِي زُرْعَةَ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، وَرَايَةٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ صَخْرٍ. وَكَانَتْ فِي بَنِي أَشْجَعَ رَايَتَانِ، وَاحِدَةٌ مَعَ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْأُخْرَى مَعَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ. وَكَانَتْ فِي بَنِي سُلَيْمٍ ثَلَاثُ رَايَاتٍ، رَايَةٌ مَعَ الْعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَرَايَةٌ مَعَ خِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ، وَرَايَةٌ مَعَ الْحَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ [ (1) ] . وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
قَدْ قَدِمَ سُلَيْمًا مِنْ يَوْمِ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ فَجَعَلَهُمْ مُقَدّمَةَ الْخَيْلِ، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى مُقَدّمَتِهِ حَتّى وَرَدَ الْجِعِرّانَةِ. قَالُوا: وَانْحَدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، وَقَدْ مَضَتْ مُقَدّمَتُهُ وَهُوَ عَلَى تَعْبِئَةٍ فِي وَادِي حُنَيْنٍ، فَانْحَدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْحِدَارًا- وَهُوَ وَادٍ حُدُورٌ [ (1) ]- وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بغلته البيضاء دلدل، ولبس درعين والمغفر وَالْبَيْضَةَ، وَاسْتَقْبَلَ الصّفُوفَ، وَطَافَ عَلَيْهَا بَعْضَهَا خَلْفَ بَعْضٍ يَنْحَدِرُونَ فِي الْوَادِي، فَحَضّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَبَشّرَهُمْ بِالْفَتْحِ إنْ صَدَقُوا وَصَبَرُوا، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ يَنْحَدِرُونَ فِي غَلَسِ [ (2) ] الصّبْحِ. فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا انْتَهَيْنَا إلَى وَادِي حُنَيْنٍ- وَهُوَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ لَهُ مَضَايِقُ وَشِعَابٌ- فَاسْتَقْبَلْنَا مِنْ هَوَازِنَ شَيْءٌ، لَا وَاَللهِ مَا رَأَيْت مِثْلَهُ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ قَطّ مِنْ السّوَادِ وَالْكَثْرَةِ! قَدْ سَاقُوا نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ ثُمّ صَفّوا صُفُوفًا، فَجَعَلُوا النّسَاءَ فَوْقَ الْإِبِلِ وَرَاءَ صُفُوفِ الرّجَالِ، ثُمّ جَاءُوا بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَجَعَلُوهَا وَرَاءَ ذَلِكَ، لِئَلّا يَفِرّوا بِزَعْمِهِمْ. فَلَمّا رَأَيْنَا ذَلِكَ السّوَادَ حَسِبْنَاهُ رِجَالًا كُلّهُمْ، فَلَمّا تَحَدّرْنَا فِي الْوَادِي، فَبَيْنَا نَحْنُ فِيهِ غَلَسَ الصّبْحُ، إنْ شَعَرْنَا إلّا بِالْكَتَائِبِ قَدْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا مِنْ مَضِيقِ الْوَادِي وَشِعْبِهِ فَحَمَلُوا حَمَلَةً وَاحِدَةً، فَانْكَشَفَ أَوّلُ الْخَيْلِ- خَيْلِ سُلَيْمٍ- مُوَلّيَةً فَوَلّوْا، وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ مَكّةَ وَتَبِعَهُمْ النّاسُ مُنْهَزِمِينَ، مَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَسَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَالنّاسُ مُنْهَزِمُونَ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أنصار الله وأنصار
رَسُولِهِ! أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَابِرٌ! قَالَ: ثم تقدم بحربته أمام الناس، فو الّذى بَعَثَهُ بِالْحَقّ، مَا ضَرَبْنَا بِسَيْفٍ وَلَا طَعَنّا بِرُمْحٍ حَتّى هَزَمَهُمْ اللهُ، ثُمّ رَجَعَ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى العسكر وأمر أَنْ يُقْتَلَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَجَعَلَتْ هَوَازِنُ تُوَلّي وَثَابَ مَنْ انْهَزَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَوَلّى الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ، فَلَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ إلّا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ آخِذًا بِثَفَرِ [ (1) ] بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم لا يألوا مَا أَسْرَعَ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: فَأَتَيْته حَتّى أَخَذْت بِحَكَمَةِ [ (2) ] بَغْلَتِهِ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ شبهاء، فَشَجَرْتهَا [ (3) ] بِالْحَكَمَةِ، وَكُنْت رَجُلًا صَيّتًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى مِنْ النّاسِ مَا رَأَى، لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ: يَا عَبّاسُ، اُصْرُخْ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ [ (4) ] ! فَنَادَيْت: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ! قَالَ: فَأَقْبَلُوا كَأَنّهُمْ الْإِبِلُ إذَا حَنَتْ إلَى أَوْلَادِهَا، يَقُولُونَ: يَا لبّيك! يا لبّيك! فيذهب الرجل
مِنْهُمْ فَيُثْنِي بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيُقَدّمُهَا فِي عُنُقِهِ، وَيَأْخُذُ تُرْسَهُ وَسَيْفَهُ ثُمّ يَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ فَيُخَلّي سَبِيلَهُ فِي النّاسِ، وَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذَا ثَابَ إلَيْهِ النّاسُ اجْتَمَعُوا، فَكَانَتْ الدّعْوَةُ أَوّلًا: يَا لَلْأَنْصَارِ! ثُمّ قُصِرَتْ الدّعْوَةُ فَنَادَوْا: يَا لَلْخَزْرَجِ! قَالَ: وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ اللّقَاءِ، صُدُقًا عِنْدَ الْحَرْبِ. قَالَ: فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُتَطَاوَلِ فِي رَكَائِبِهِ، فَنَظَرَ إلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ: الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ! ثُمّ أَخَذَ بِيَدِهِ مِنْ الْحَصَى فَرَمَاهُمْ، ثُمّ قال: انهزموا، ورب الكعبة! فو الله مَا زِلْت أَرَى أَمْرَهُمْ مُدْبِرًا، وَحَدّهُمْ كَلِيلًا حَتّى هَزَمَهُمْ اللهُ، وَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ. وَيُقَالُ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ. وَيُقَالُ: إنّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ لِلْعَبّاسِ: نَادِ «يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ!» فَرَجَعَتْ الْأَنْصَارُ وَهُمْ يَقُولُونَ: الْكَرّةُ بَعْدَ الْفَرّةِ. قَالَ: فَعَطَفُوا عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، قَدْ شَرَعُوا الرّمَاحَ حَتّى إنّي لَأَخَافُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِمَاحَهُمْ أَشَدّ مِنْ خَوْفِي رِمَاحَ الْمُشْرِكِينَ، يَؤُمّونَ الصّفُوفَ وَيَقُولُونَ: يَا لَبّيْكَ! يَا لَبّيْكَ! فَلَمّا اخْتَلَطُوا وَاجْتَلَدُوا [ (1) ] ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى بَغْلَتِهِ فِي رَكَائِبِهِ، يَقُولُ: اللهُمّ، إنّي أَسَلُكَ [ (2) ] وَعْدَك، لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا. ثُمّ قَالَ لِلْعَبّاسِ: نَاوِلْنِي حَصَيَاتٍ! فَنَاوَلَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمّ قَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ! وَرَمَى بِهَا وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ: انْهَزِمُوا، وَرَبّ الْكَعْبَةِ! قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عن عاصم بن عمرو بن
قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا انْكَشَفَ النّاسُ وَاَللهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وُجِدَ الْأَسْرَى عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَتّفِينَ. قَالَ: وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ، وَكَانَ مِمّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: ابْنُ أُمّك يَا رَسُولَ اللهِ. وَيُقَالُ إنّهُ قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَخُوك- فِدَاك أَبِي وَأُمّي- أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ أَخِي، نَاوِلْنِي حَصًى مِنْ الْأَرْضِ! فَنَاوَلْته فَرَمَى بِهَا فِي أَعْيُنِهِمْ كُلّهِمْ، وَانْهَزَمُوا. قَالُوا: فَلَمّا انْكَشَفَ النّاسُ انْحَازَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى دَابّتِهِ لَمْ يَنْزِلْ، إلّا أَنّهُ قَدْ جرد سيفه وطرح غمد وَبَقِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، الْعَبّاسُ، وَعَلِيّ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبّاسٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بن الحارث، وربيعة ابن الْحَارِثِ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ الْخَزْرَجِيّ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ عَلَيْهِمْ السّلَامُ. وَيُقَالُ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا انْكَشَفَ النّاسُ، قَالَ لِحَارِثَةَ بْنِ النّعْمَانِ: يَا حَارِثَةُ، كَمْ تَرَى الّذِينَ ثَبَتُوا؟ قَالَ: فَلَمّا الْتَفَتَ وَرَائِي تَحَرّجًا [ (1) ] ، فَنَظَرْت عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَحَزَرْتُهُمْ مِائَةً، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، هُمْ مِائَةٌ! حَتّى كَانَ يَوْمٌ مَرَرْت عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُنَاجِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَال
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ. فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَذَا أَحَدُ الْمِائَةِ الصّابِرَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ، لَوْ سَلّمَ لَرَدَدْت عَلَيْهِ السّلَامَ. فَأَخْبَرَهُ [ (1) ] النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا كُنْت أَظُنّهُ إلّا دِحْيَةَ الْكَلْبِيّ وَاقِفٌ مَعَك. وَكَانَ دُعَاءُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حِينَ انْكَشَفَ النّاسُ عَنْهُ وَلَمْ يَبْقَ إلّا الْمِائَةُ الصّابِرَةُ: اللهُمّ، لَك الْحَمْدُ، وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ! قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: لَقَدْ لُقّنْت [ (2) ] الْكَلِمَاتِ الّتِي لَقّنَ اللهُ مُوسَى يَوْمَ فَلَقَ الْبَحْرَ أَمَامَهُ وَفِرْعَوْنُ خَلْفَهُ. قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: إنّ حَارِثَةَ بْنَ النّعْمَانِ مَرّ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُنَاجِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهُمَا قَائِمَانِ، فَسَلّمَ عَلَيْهِمَا حَارِثَةُ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْت الرّجُلَ؟ قَالَ حَارِثَةُ: نَعَمْ، وَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَقَدْ رَدّ عَلَيْك السّلَامَ. وَيُقَالُ: إنّ الْمِائَةَ الصّابِرَةَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَسَبْعَةٌ وَسِتّونَ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَالْعَبّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ، الْعَبّاسُ آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ، وَأَبُو سُفْيَانَ عَنْ يَمِينِهِ، وَحَفّ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُحَدّثُ قَالَ: مَرّ جِبْرِيلُ، وَحَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ؟ فَقَالَ: حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ. فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَذَا أَحَدُ الثّمَانِينَ الصّابِرَةِ، وَقَدْ تَكَفّلَ اللهُ لَهُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ عِيَالِهِمْ فِي الْجَنّةِ. وَكَانَ ابْنُ عبّاس
يَقُولُ: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ الّذِينَ تَكَفّلَ اللهُ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ عِيَالِهِمْ فِي الْجَنّةِ. قَالُوا: وَكَانَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَقُول: وَاَللهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ، مَا وَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنّهُ وَقَفَ وَاسْتَنْصَرَ، ثُمّ نَزَلَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ نَصْرَهُ، وَكُبِتَ عَدُوّهُ، وَأَفْلَحَ حُجّتُهُ. قَالُوا: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ النّاسِ، إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ، قَدْ أَكْثَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْقَتْلَ، فَيَصْمُدُ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَعَرْقَبَ جَمَلَهُ، فَسَمِعَ خَرْخَرَةَ [ (1) ] جَمَلِهِ وَاكْتَسَعَ الْجَمَلُ، وَيَشُدّ عَلِيّ وَأَبُو دُجَانَةَ عَلَيْهِ، فَيَقْطَعُ عَلِيّ يَدَهُ الْيُمْنَى، وَيَقْطَعُ أَبُو دُجَانَةَ يَدَهُ الْأُخْرَى، وَأَقْبَلَا يَضْرِبَانِهِ بِسَيْفَيْهِمَا جَمِيعًا حَتّى تَثَلّمَ سَيْفَاهُمَا، فَكَفّ أَحَدُهُمَا وَأَجْهَزَ الْآخَرُ عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: امْضِ، لَا تُعَرّجْ عَلَى سَلَبِهِ! فَمَضَيَا يَضْرِبَانِ أَمَامَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْتَرِضُ لَهُمَا فَارِسٌ مِنْ هَوَازِنَ بِيَدِهِ رَايَةٌ حَمْرَاءُ، فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا يَدَ الْفَرَسِ وَوَقَعَ لِوَجْهِهِ، ثُمّ ضَرَبَاهُ بِأَسْيَافِهِمَا فَمَضَيَا عَلَى سَلَبِهِ. وَيَمُرّ أَبُو طَلْحَة فَسَلَبَ الْأَوّلَ وَمَرّ بِالْآخَرِ فَسَلَبَهُ. وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وَعَلِيّ، وَأَبُو دُجَانَةَ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ يُقَاتِلُونَ بَيْن يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: حَدّثَنِي سُلَيْمَان بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، قَالَ: قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ: لَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ وَالنّاسُ مُنْهَزِمُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَأَنَا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فِي يَدِي سَيْفٌ لِي صَارِمٌ، وَأُمّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خَنْجَرٌ قَدْ حَزَمَتْهُ عَلَى وَسَطِهَا- وَهِيَ يَوْمَئِذٍ حَامِلٌ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ- وَأُمّ سليط، وأمّ الحارث. قالوا:
فَجَعَلَتْ تُسِلّهُ [ (1) ] وَتَصِيحُ بِالْأَنْصَارِ: أَيّةُ عَادَةٍ هَذِهِ [ (2) ] ! مَا لَكُمْ وَلِلْفِرَارِ! قَالَتْ: وَأَنْظُرُ إلَى رَجُلٍ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ، مَعَهُ لِوَاءٌ، يُوضِعُ جَمَلَهُ فِي أَثَرِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَعْتَرِضُ لَهُ فَأَضْرِبُ عُرْقُوبَ الْجَمَلِ، وَكَانَ جَمَلًا مُشْرِفًا [ (3) ] ، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ، وَأَشُدّ عَلَيْهِ، فَلَمْ أَزَلْ أَضْرِبُهُ حَتّى أَثْبَتّه، وَأَخَذْت سَيْفًا لَهُ وَتَرَكْت الْجَمَلَ يُخَرْخِرُ، يَتَصَفّقُ [ (4) ] ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ مُصْلِتٌ السّيْفَ بِيَدِهِ، قَدْ طَرَحَ غِمْدَهُ، يُنَادِي: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ! قَالَ: وَكَرّ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا بنى عبد الرحمن! با بَنِي عُبَيْدِ اللهِ! يَا خَيْلَ اللهِ! وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سَمّى خَيْلَهُ خَيْلَ اللهِ، وَجَعَلَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَجَعَلَ شِعَارَ الْأَوْسِ بَنِي عُبَيْدِ اللهِ. فَكَرّتْ الْأَنْصَارُ، وَوَقَفَتْ هَوَازِنُ حَلْبَ ناقة فتوح [ (5) ] ، ثم كانت إيّاها، فو الله مَا رَأَيْت هَزِيمَةً كَانَتْ مِثْلَهَا، ذَهَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، فَرَجَعَ ابْنَايَ إلَيّ- حَبِيبٌ وَعَبْدُ الله ابناي زَيْدٍ- بِأُسَارَى مُكَتّفِينَ، فَأَقُومُ إلَيْهِمْ مِنْ الْغَيْظِ، فَأَضْرِبُ عُنُقَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَجَعَلَ النّاسُ يَأْتُونَ بِالْأُسَارَى، فَرَأَيْت فِي بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ ثَلَاثِينَ أَسِيرًا. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ بَلَغَ أَقْصَى هَزِيمَتِهِمْ مَكّةَ، ثُمّ كَرّوا بَعْدُ وَتَرَاجَعُوا، فَأَسْهَمَ لَهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا. فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: إنّ أُمّ سُلَيْمٍ، أُمّي ابْنَةَ مِلْحَانَ جَعَلَتْ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْت هَؤُلَاءِ الّذِينَ أَسْلَمُوك وَفَرّوا عنك وخذلوك! لا تعف
عَنْهُمْ إذَا أَمْكَنَك اللهُ مِنْهُمْ، فَاقْتُلْهُمْ كَمَا تَقْتُلُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ! فَقَالَ: يَا أُمّ سُلَيْمٍ، قَدْ كَفَى اللهُ! عَافِيَةُ اللهِ أَوْسَعُ! وَمَعَهَا يَوْمَئِذٍ جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ قَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَغْلِبَهَا، فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي خِزَامَتِهِ مَعَ الْخِطَامِ، وَهِيَ شَادّةٌ وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا، وَمَعَهَا خَنْجَرٌ فِي يَدِهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو طَلْحَةَ: مَا هَذَا مَعَك يَا أُمّ سُلَيْمٍ؟ قَالَتْ: خَنْجَرٌ أَخَذْته مَعِي، إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعَجْته [ (1) ] بِهِ. قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: مَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا تَقُولُ أُمّ سُلَيْمٍ؟ وَكَانَتْ أُمّ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيّةُ أَخَذَتْ بِخِطَامِ جَمَلِ أَبِي الْحَارِثِ زَوْجِهَا، وَكَانَ جَمَلُهُ يُسَمّى الْمِجْسَارَ، فَقَالَتْ: يَا حَارِ، تترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! فأخذت بخطام الجمل، يُرِيدُ أَنْ يَلْحَقَ بِأُلّافِهِ [ (2) ] ، وَالنّاسُ يُوَلّونَ مُنْهَزِمِينَ، وَهِيَ لَا تُفَارِقُهُ. فَقَالَتْ أُمّ الْحَارِثِ: فَمَرّ بى عمر ابن الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ أُمّ الْحَارِثِ: يَا عُمَرُ. مَا هَذَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَمْرُ اللهِ. وَجَعَلَتْ أُمّ الْحَارِثِ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ جَاوَزَ بَعِيرِي فَأَقْتُلُهُ، وَاَللهِ إنْ رَأَيْت كَالْيَوْمِ مَا صَنَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ بِنَا! تَعْنِي بَنِي سُلَيْمٍ وَأَهْلَ مَكّةَ الّذِينَ انْهَزَمُوا بِالنّاسِ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ: حَدّثَنِي محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة أَنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَصِيحُ يَوْمَئِذٍ بِالْخَزْرَجِ: يَا لَلْخَزْرَجِ! يَا لَلْخَزْرَجِ! وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: يَا لَلْأَوْسِ! ثَلَاثًا. فَثَابُوا وَاَللهِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ كَأَنّهُمْ النّحْلُ تَأْوِي إلَى يَعْسُوبِهَا [ (3) ] . قَالَ: فحنق المسلمون عليهم فقتلوهم حتى
أَسْرَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي قَتْلِ الذّرّيّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مَا بَالُ أَقْوَامٍ ذَهَبَ بِهِمْ الْقَتْلُ حَتّى بَلَغَ الذّرّيّةَ! أَلَا لَا تُقْتَلُ الذّرّيّةُ! ثَلَاثًا. قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ إنّمَا هُمْ أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلَيْسَ خِيَارُكُمْ أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ؟ كُلّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوّدَانِهَا أَوْ يُنَصّرَانِهَا. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَلِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: لَمّا تَرَاءَيْنَا نَحْنُ وَالْقَوْمُ رَأَيْنَا سَوَادًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ قَطّ كَثْرَةً، وَإِنّمَا ذَلِكَ السّوَادُ نَعَمٌ، فَحَمَلُوا النّسَاءَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَقْبَلَ مِثْلَ الظّلّةِ السّوْدَاءِ مِنْ السّمَاءِ حَتّى أَظَلّتْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ وَسَدّتْ الْأُفُقَ، فَنَظَرْت فَإِذَا وَادِي حُنَيْنٍ يَسِيلُ بِالنّمْلِ، نَمْلٍ أَسْوَدَ مَبْثُوثٍ، لَمْ أَشُكّ أَنّهُ نَصْرٌ أَيّدَنَا اللهُ بِهِ، فَهَزَمَهُمْ اللهُ عَزّ وَجَلّ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ شُيُوخٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالُوا: رَأَيْنَا يَوْمَئِذٍ كَالْبُجُدِ [ (1) ] السّودِ هَوَتْ مِنْ السّمَاءِ رُكَامًا [ (2) ] ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا نَمْلٌ مَبْثُوثٌ، فَإِنْ كُنّا لَنَنْفُضُهُ عَنْ ثِيَابِنَا، فَكَانَ نَصْرٌ أَيّدَنَا اللهُ بِهِ. وَكَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حُمْرًا قَدْ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، وَكَانَ الرّعْبُ الّذِي قَذَفَ اللهُ فِي قُلُوبِ المشركين يوم حنين [كوقع الحصى
فِي الطّسْتِ] [ (1) ] . فَكَانَ سُوَيْدُ بْنُ عَامِرٍ السّوَائِيّ يُحَدّثُ، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ يَوْمَئِذٍ فَسُئِلَ عَنْ الرّعْبِ، فَكَانَ يَأْخُذُ الْحَصَاةَ فَيَرْمِي بِهَا فِي الطّسْتِ فَيَطِنّ، فَقَالَ: إنْ كُنّا نَجِدُ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ يَقُولُ: حَدّثَنِي عِدّةٌ مِنْ قَوْمِي شَهِدُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ يَقُولُونَ: لَقَدْ رَمَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْكَفّ مِنْ الْحَصَيَاتِ، فَمَا مِنّا أَحَدٌ إلّا يَشْكُو الْقَذَى فِي عَيْنَيْهِ، وَلَقَدْ كُنّا نَجِدُ فِي صُدُورِنَا خَفَقَانًا كَوَقْعِ الْحَصَى فِي الطّسَاسِ، مَا يَهْدَأُ ذَلِكَ الْخَفَقَانُ عَنّا، وَلَقَدْ رَأَيْنَا يَوْمَئِذٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ حُمْرٌ قَدْ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَتَائِبَ كَتَائِبَ [ (2) ] مَا يُلِيقُونَ [ (3) ] شَيْئًا، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُقَاتِلَهُمْ [ (4) ] مِنْ الرّعْبِ مِنْهُمْ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْعَبْسِيّ، عَمّنْ أَخْبَرَهُ، عَنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدّثَنِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِنَا حَضَرُوا يَوْمَئِذٍ قَالُوا: كَمَنّا لَهُمْ فِي الْمَضَايِقِ وَالشّعَابِ، ثُمّ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ حَمَلَةً رَكِبْنَا أَكْتَافَهُمْ حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى صَاحِبِ بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، وَحَوْلَهُ رِجَالٌ بِيضٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ، فَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ، ارْجِعُوا! فَانْهَزَمْنَا، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَنَا وَكَانَتْ إيّاهَا، وَجَعَلْنَا نَلْتَفِتُ وَرَاءَنَا نَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَكِدُونَنَا [ (5) ] ، فتفرقّت
جَمَاعَتُنَا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَجَعَلَتْ الرّعْدَةُ تَسْحَقُنَا حَتّى لَحِقْنَا بِعَلْيَاءِ بِلَادِنَا، فَإِنْ كَانَ لَيُحْكَى عَنّا الْكَلَامُ مَا كُنّا نَدْرِي بِهِ، مِمّا كَانَ بِنَا مِنْ الرّعْبِ، فَقَذَفَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قُلُوبِنَا. وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مِنْ ثَقِيفٍ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إلَى شَجَرَةٍ وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمّهِ مِنْ الْأَحْلَافِ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ إلّا رَجُلَانِ، مِنْ بَنِي غِيَرَةَ [ (1) ] ، وَهْبٌ وَاللّجْلَاجُ [ (2) ] . وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ اللّجْلَاجِ: قُتِلَ الْيَوْمَ سَيّدُ شُبّانِ ثَقِيفٍ، إلّا مَا كَانَ مِنْ ابْنِ هُنَيْدَةَ. وَكَانَتْ رَايَةُ بَنِي مَالِكٍ مَعَ ذِي الْخِمَارِ، فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ تَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَيُسْتَحْصَى الْقَتْلَى [ (3) ] مِنْ ثَقِيفٍ بِبَنِي مَالِكٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ تَحْتَ رَايَتِهِمْ، فِيهِمْ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَاتَلَ بِهَا مَلِيّا، وَجَعَلَ يَحُثّ ثَقِيفًا وَهَوَازِنَ عَلَى الْقِتَالِ حَتّى قُتِلَ، وَكَانَ اللّجْلَاجُ رَجُلًا مِنْ بَنِي كُنّةَ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِأَخِي بَنِي كُنّةَ: هَذَا سَيّدُ شُبّانِ كُنّةَ إلّا ابْنَ هُنَيْدَةَ- الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بن يعمر بن إياس ابن أَوْسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ. وَكَانَتْ كُنّةُ امْرَأَةً مِنْ غَامِدٍ يَمَانِيّةً قَدْ وُلِدَتْ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَكَانَتْ أَمَةً، فَأَعْتَقَ الْحَارِثُ كُلّ مَمْلُوكٍ مِنْ بَنِي كُنّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ: أَيَسُرّك أَنّ أَهْلَ بَيْتِ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ مَكَانَ كُنّةَ؟ فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، لوددت أنّ ذلك
كَذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: لَيْتَ أُمّي كُنّةُ وَأَنّ الله رزقني مِنْ بِرّهَا مَا رَزَقَك. وَكَانَ أَبَرّ النّاسِ بِأُمّهِ، مَا كَانَتْ تَأْكُلُ طَعَامًا إلّا مِنْ يَدِهِ، وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهَا إلّا هُوَ، وَلَا يُسَرّحُ [ (1) ] رَأْسَهَا إلّا هُوَ. قَالُوا: وَهَرَبَتْ ثَقِيفٌ، فَقَالَ شُيُوخٌ مِنْهُمْ- أَسْلَمُوا بَعْدُ، كَانُوا قَدْ حَضَرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ- قَالُوا: مَا زَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِنَا فِيمَا نَرَى، وَنَحْنُ مُوَلّونَ حَتّى إنّ الرّجُلَ مِنّا لَيَدْخُلُ حِصْنَ الطّائِفِ وَإِنّهُ لَيَظُنّ أَنّهُ عَلَى أَثَرِهِ، مِنْ رُعْبِ الْهَزِيمَةِ. وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ يُحَدّثُ قَالَ: لَمّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْت رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، مُسْلِمًا وَمُشْرِكًا، قَدْ عَلَاهُ الْمُشْرِكُ، فَاسْتَدَرْت لَهُ حَتّى أَتَيْته مِنْ وَرَائِهِ فَضَرَبْته عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيّ فَضَمّنِي ضَمّةً وَجَدْت مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، وَكَادَ أَنْ يَقْتُلَنِي لَوْلَا أَنّ الدّمَ نَزَفَهُ، فَسَقَطَ وَذَفّفْتُ عَلَيْهِ وَمَضَيْت وَتَرَكْت عَلَيْهِ سَلَبَهُ، فَلَحِقْت عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَقُلْت: مَا بَالُ النّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللهِ. ثُمّ إنّ النّاسَ رَجَعُوا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ. قَالَ: فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمّ جَلَسْت، ثُمّ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمّ جَلَسْت، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَشَهِدَ لِي، ثُمّ لَقِيت الْأَسْوَدَ بْنَ الْخُزَاعِيّ فَشَهِدَ لِي، وَإِذَا صَاحِبِي الّذِي أَخَذَ السّلَبَ لَا يُنْكِرُ أَنّي قَتَلْته- وَقَدْ قَصَصْت عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصّةَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَاهَا اللهِ إذا [ (2) ] ،
لَا تَعْمِدْ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، يُعْطِيك سَلَبَهُ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ، فَأَعْطِهِ إيّاهُ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَأَعْطَانِيهِ، فَقَالَ لِي حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَتَبِيعُ السّلَاحَ؟ فَبِعْته مِنْهُ بِسَبْعِ أَوَاقٍ، فَأَتَيْت الْمَدِينَةَ فَاشْتَرَيْت بِهِ مَخْرَفًا [ (1) ] فِي بَنِي سَلِمَةَ يُقَالُ لَهُ الرّدَيْنِيّ، فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ لِي نِلْته فِي الْإِسْلَامِ، فَلَمْ نَزَلْ نَعِيشُ مِنْهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَكَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَدْ تَعَاهَدَ هُوَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ حِينَ وُجّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ- وَكَانَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ قُتِلَ يَوْمَ بَدْر، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ- فَكَانَا تَعَاهَدَا إنْ رَأَيَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِرَةً أَنْ يَكُونَا عَلَيْهِ، وَهُمَا خَلْفَهُ. قَالَ شَيْبَةُ: فَأَدْخَلَ اللهُ الْإِيمَانَ قُلُوبَنَا. قَالَ شَيْبَةُ: لَقَدْ هَمَمْت بِقَتْلِهِ، فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي فَلَمْ أُطِقْ ذَلِكَ، وَعَلِمْت أَنّهُ قَدْ مُنِعَ مِنّي. وَيُقَالُ: قَالَ: غَشِيَتْنِي ظُلْمَةٌ حَتّى لَا أُبْصِرُ، فَعَرَفْت أَنّهُ مُمْتَنِعٌ مِنّي وَأَيْقَنْت بِالْإِسْلَامِ. وَقَدْ سَمِعْت فِي قِصّةِ شَيْبَةَ وَجْهًا آخَرَ، كَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ يَقُولُ: لَمّا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا مَكّةَ فَظَفِرَ بِهَا وَخَرَجَ إلَى هَوَازِنَ، قُلْت: أَخْرُجُ لَعَلّي أُدْرِكُ ثَأْرِي! وَذَكَرْت قَتْلَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ، وَعَمّي قَتَلَهُ عَلِيّ. قَالَ: فَلَمّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ جِئْته عَنْ يَمِينِهِ، فَإِذَا الْعَبّاسُ قَائِمٌ، عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَالْفِضّةِ يَنْكَشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ [ (2) ] ، فَقُلْت: عَمّهُ لَنْ يَخْذُلَهُ! قَالَ: ثُمّ جِئْته عَنْ يَسَارِهِ فَإِذَا بِأَبِي سُفْيَانَ ابن عمّه، فقلت:
ابْنُ عَمّهِ لَنْ يَخْذُلَهُ! فَجِئْته مِنْ خَلْفِهِ فَلَمْ يَبْقَ إلّا أُسَوّرُهُ [ (1) ] بِالسّيْفِ إذْ رُفِعَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ شُوَاظٌ [ (2) ] مِنْ نَارٍ كَأَنّهُ بَرْقٌ، وَخِفْت أَنْ يَمْحَشَنِي [ (3) ] وَوَضَعْت يَدَيّ عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْت الْقَهْقَرَى، وَالْتَفَتَ إلَيّ فَقَالَ: يَا شَيْبَ، اُدْنُ مِنّي! فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: اللهُمّ، أَذْهِبْ عَنْهُ الشّيْطَانَ! قَالَ: فَرَفَعْت إلَيْهِ رَأْسِي وَهُوَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي وَقَلْبِي، ثُمّ قَالَ: يَا شَيْبَ، قَاتِلْ الْكُفّارَ! فَقَالَ: فَتَقَدّمْت بَيْنَ يَدَيْهِ أُحِبّ وَاَللهِ أَقِيهِ بِنَفْسِي وَبِكُلّ شَيْءٍ، فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ، وَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لله الذي أراد بك خيرا ممّا أراد. ثُمّ حَدّثَنِي بِمَا هَمَمْت بِهِ. فَلَمّا كَانَتْ الْهَزِيمَةُ حَيْثُ كَانَتْ، وَالدّائِرَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَتَكَلّمُوا بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالضّغْنِ وَالْغِشّ، قال أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ! قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَقِيتٍ: أَمَا وَاَللهِ، لَوْلَا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينهى عن فتلك لَقَتَلْتُك! وَقَالَ: صَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ [ (4) ] ، وَهُوَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ أَخُو صَفْوَانَ لِأُمّهِ، أَسْوَدُ مِنْ سُودَانِ مَكّةَ، أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ! فَقَالَ صَفْوَانُ: اُسْكُتْ، فَضّ اللهُ فَاك! لَأَنْ يَرُبّنِي رَبّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَبّ مِنْ هَوَازِنَ. قَالَ: وَقَالَ سهيل بن عمرو: لا يجتبرها [ (5) ] محمّد
وَأَصْحَابُهُ! قَالَ: يَقُولُ لَهُ عِكْرِمَةُ: هَذَا لَيْسَ بِقَوْلٍ، وَإِنّمَا الْأَمْرُ بِيَدِ اللهِ، وَلَيْسَ إلَى مُحَمّدٍ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ! إنْ أُدِيلَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَإِنّ لَهُ الْعَاقِبَةَ غَدًا. قَالَ: يَقُول سُهَيْلٌ: إنّ عَهْدَك بِخِلَافِهِ لَحَدِيثٌ! قَالَ: يَا أَبَا يَزِيدَ، إنّا كُنّا وَاَللهِ نُوضِعُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَعُقُولُنَا عُقُولُنَا، نَعْبُدُ الْحَجَرَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرّ! قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: حَضَرَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِأَفْرَاسٍ وَعَبِيدٍ وَمَوَالٍ، فَقُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مَعَهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيّ أَغْرَلُ [ (1) ] ، فَبَيْنَا طَلْحَةُ يَسْلُبُ الْقَتْلَى مِنْ ثَقِيفٍ إذْ مَرّ بِهِ فَوَجَدَهُ أَغْرَلَ، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَحْلِفُ بِاَللهِ أَنّ ثَقِيفًا غُرْلٌ مَا تَخْتَتِنُ [ (2) ] ! قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: وَسَمِعْتهَا وَخَشِيت أَنْ يَذْهَبَ عَلَيْنَا مِنْ الْعَرَبِ، فَقُلْت: لَا تَفْعَلْ، فِدَاك أَبِي وَأُمّي، إنّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيّ! ثُمّ جَعَلْت أَكْشِفُ لَهُ عَنْ قَتْلَى ثَقِيفٍ، فَأَقُولُ: أَلَا تَرَاهُمْ مُخْتَتَنِينَ؟ وَيُقَالُ: إنّ الْعَبْدَ كَانَ لِذِي الْخِمَارِ وَكَانَ نَصْرَانِيّا أَزْرَقَ، فَقُتِلَ مَعَ سَيّدِهِ يومئذ. وكان أبو طلحة الْخِمَارِ وَكَانَ نَصْرَانِيّا أَزْرَقَ، فَقُتِلَ مَعَ سَيّدِهِ يَوْمَئِذٍ. وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَسْلُبُ الْقَتْلَى، فَجَرّدَهُ فَإِذَا هُوَ أَغْرَلُ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لِلْأَنْصَارِ فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ، فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاَللهِ مَا تَخْتَتِنُ ثَقِيفٌ! وَسَمِعَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ. قَالَ: فَقَالَ: أُرِيك يَا أَبَا طَلْحَةَ! فَجَرّدَ لَهُ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: هَذَا سَيّدُ ثَقِيفٍ! ثُمّ أَتَى إلَى ذِي الْخِمَارِ سَيّدِ الْعَبْدِ، فَإِذَا هُوَ مَخْتُونٌ. قَالَ الْمُغِيرَةُ: وَجَاءَنِي أَمْرٌ قَطَعَنِي، وَخَشِيت أَنْ تَسِيرَ عَلَيْنَا فِي الْعَرَبِ، حَتّى أَبْصَرَ القوام وعرفوا أنه عبد الهم نَصْرَانِيّ. وَكَانَ الّذِي قَتَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، فَبَلَغَ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يَرْحَمُ اللهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيّةَ! وَأَبْعَدَ اللهُ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَإِنّهُ كَانَ يُبْغِضُ قُرَيْشًا! قَالَ: وَكَانَ دُعَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بِرَحْمَةِ اللهِ، فَبَلَغَهُ فَقَالَ: إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَرْزُقَنِي اللهُ الشّهَادَةَ فِي وَجْهِي هَذَا! فَقُتِلَ فِي حِصَارِ الطّائِفِ. وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَوْلَا ابْنُ جَثّامَةَ الْأَصْغَرُ لَفُضِحَتْ الْخَيْلُ الْيَوْمَ. وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: إنّ مَاءَ حُنَيْنٍ لَنَا فَخَلّوهْ ... إنْ تَشْرَبُوا مِنْهُ فَلَنْ تَعْلُوهْ هَذَا رَسُولُ اللهِ لَنْ يَعْلُوهْ أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ جَعْفَرٍ. [وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ... ] [ (1) ] غَلَبَتْ خَيْلُ اللهِ خَيْلَ اللّاتِ ... وَاَللهُ أَحَقّ بِالثّبَاتِ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ قَدّمَ سُلَيْمًا فِي مُقَدّمَتِهِ، عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ وَالنّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: امْرَأَةٌ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ سلّم رَجُلًا يُدْرِكُ خَالِدًا فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا [ (2) ] . وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً أُخْرَى فَسَأَلَ عَنْهَا فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا قَتَلْتهَا يَا رَسُولَ اللهِ، أَرْدَفْتهَا وَرَائِي فَأَرَادَتْ قَتْلِي فَقَتَلْتهَا. فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدُفِنَتْ. قالوا: لمّا هزم الله تعالى هوازن اتّبَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، فَنَادَتْ بَنُو سُلَيْمٍ بَيْنَهَا: ارْفَعُوا عَنْ بَنِي أُمّكُمْ الْقَتْلَ! فَرَفَعُوا الرّمَاحَ وَكَفّوا عَنْ الْقَتْلِ- وَأُمّ سُلَيْمٍ، بُكْمَةُ ابْنَةُ مُرّةَ أُخْتُ تَمِيمِ بْنِ مُرّةَ- فَلَمّا رَأَى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الّذِي صَنَعُوا قَالَ: اللهُمّ، عَلَيْك بِبَنِي بُكْمَةَ- وَلَا يَشْعُرُونَ أَنّ لَهُمْ أُمّا اسْمُهَا بُكْمَةُ- أَمّا فِي قَوْمِي فَوَضَعُوا السّلَاحَ وَضْعًا، وَأَمّا عَنْ قَوْمِهِمْ فَرَفَعُوا رَفْعًا! وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِ الْقَوْمِ، ثُمّ قَالَ لِخَيْلِهِ: إنْ قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ فَلَا يُفْلِتَنّ مِنْكُمْ! وَقَدْ كَانَ أَحْدَثَ حَدَثًا عَظِيمًا، وَكَانَ مِنْ بَنِي سَعْدٍ، وَكَانَ قَدْ أَتَاهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، فَأَخَذَهُ بِجَادٌ فَقَطّعَهُ عُضْوًا عُضْوًا ثُمّ حَرّقَهُ بِالنّارِ، فَكَانَ قَدْ عُرِفَ جُرْمُهُ فَهَرَبَ. فَأَخَذَتْهُ الْخَيْلُ، فَضَمّوهُ إلَى الشّيْمَاءِ [ (1) ] بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أُخْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ، فَعَنّفُوا عَلَيْهَا فِي السّيَاقِ، فَجَعَلَتْ الشّيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَقُولُ: إنّي وَاَللهِ أُخْتُ صَاحِبِكُمْ! وَلَا يُصَدّقُوهَا، وَأَخَذَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَكَانُوا أَشَدّ النّاسِ عَلَى هَوَازِنَ، حَتّى أَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا مُحَمّدُ، إنّي أُخْتُك! قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ فَأَرَتْهُ عَضّةً [وَقَالَتْ] : عَضَضْتَنِيهَا وَأَنَا مُتَوَرّكَتُك [ (2) ] بِوَادِي السّرَرِ [ (3) ] ، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ بِرِعَائِهِمْ، أَبُوك أَبِي وَأُمّك أُمّي، قَدْ نَازَعْتُك الثّدْيَ، وَتَذَكّرْ يَا رَسُولَ اللهِ ... [ (4) ] فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَلَامَةَ، فَوَثَبَ قَائِمًا فَبَسَطَ رِدَاءَهُ، ثُمّ قَالَ: اجْلِسِي عَلَيْهِ! وَرَحّبَ بِهَا، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، وَسَأَلَهَا عَنْ أُمّهِ وَأَبِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَوْتِهِمَا فِي الزّمَانِ. ثُمّ قَالَ: إنْ أَحْبَبْت فَأَقِيمِي عِنْدَنَا مُحَبّةً مُكَرّمَةً، وَإِنْ أحببت أن ترجعى
إلَى قَوْمِك وَصِلَتِك رَجَعْت إلَى قَوْمِك. قَالَتْ: أَرْجِعُ إلَى قَوْمِي. وَأَسْلَمَتْ فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ وَجَارِيَةً، أَحَدُهُمْ يُقَالُ لَهُ: مَكْحُولٌ، فَزَوّجُوهُ الْجَارِيَةَ. قَالَ عَبْدُ الصّمَدِ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنّهُ أَدْرَكَ نَسْلَهَا فِي بَنِي سَعْدٍ، وَرَجَعَتْ الشّيْمَاءُ إلَى مَنْزِلِهَا وَكَلّمَهَا النّسْوَةُ فِي بِجَادٍ، فَرَجَعَتْ إلَيْهِ فَكَلّمَتْهُ أَنّهُ يَهَبُهُ لَهَا وَيَعْفُو عَنْهُ. فَفَعَلَ ثُمّ أَمَرَ لَهَا بِبَعِيرٍ أَوْ بَعِيرَيْنِ، وَسَأَلَهَا: مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ؟ فَأَخْبَرَتْهُ بِأُخْتِهَا وَأَخِيهَا وَبِعَمّهَا أَبِي بُرْقَانَ، وَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْمٍ سَأَلَهَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعِي إلَى الْجِعِرّانَةِ تَكُونِينَ مَعَ قَوْمِك، فَإِنّي أَمْضِي إلى الطائف فرجعت إلى الجعرّانة، وأناها رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعِرّانَةِ فَأَعْطَاهَا نَعَمًا وَشَاءً لَهَا، وَلِمَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهَا. قَالُوا: وَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَتَوْا الطّائِفَ، وَعَسْكَرَ عَسْكَرٌ بِأَوْطَاسٍ، وَتَوَجّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجّهَ [إلَى] نَخْلَةَ إلّا بَنُو عَنَزَةَ مِنْ ثَقِيفٍ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا تَتْبَعُ مَنْ سَلَكَ نَخْلَةَ، وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثّنَايَا وَيُدْرِكُ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ سَمّالِ [ (1) ] بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ امْرَأَةٌ، وَذَلِكَ أَنّهُ كان فى شجار [ (2) ] له،
فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ فَأَنَاخَ بِهِ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، فَإِذَا هُوَ دُرَيْدٌ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ. قَالَ الْفَتَى: مَا أُرِيدُ إلَى غَيْرِهِ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ دِينِهِ. قَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ السّلَمِيّ. قَالَ: فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا. قَالَ دُرَيْدٌ: بِئْسَ مَا سَلّحَتْك أُمّك! خُذْ سَيْفِي مِنْ وَرَاءِ الرّحْلِ فِي الشّجَارِ فَاضْرِبْ بِهِ وَارْفَعْ عَنْ الطعام واخفض عن الدّماغ، فإن كُنْت كَذَلِكَ أَقْتُلُ الرّجَالَ، ثُمّ إذَا أَتَيْت أُمّك فَأَخْبِرْهَا أَنّك قَتَلْت دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ، فَرَبّ يَوْمٍ قَدْ مَنَعْت [ (1) ] فِيهِ نِسَاءَك! زَعَمَتْ بَنُو سُلَيْمٍ أَنّ رَبِيعَةَ لَمّا ضَرَبَهُ تَكَشّفَ لِلْمَوْتِ عِجَانُهُ [ (2) ] ، وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلَ الْقَرَاطِيسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ. فَلَمّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إلَى أُمّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إيّاهُ فَقَالَتْ: وَاَللهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمّهَاتٍ لَك ثَلَاثًا فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَزّ نَاصِيَةَ أَبِيك. قَالَ الْفَتَى: لَمْ أَشْعُرْ. قَالُوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجّهَ إلَى أَوْطَاسٍ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، فَكَانَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، فَكَانَ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ عَسْكَرُوا بِأَوْطَاسٍ عَسْكَرًا عَظِيمًا، تَفَرّقَ مِنْهُمْ مَنْ تَفَرّقَ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَأُسِرَ مَنْ أُسِرَ، فَانْتَهَيْنَا إلَى عَسْكَرِهِمْ فَإِذَا هُمْ مُمْتَنِعُونَ [ (3) ] ، فَبَرَزَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ أَبُو عَامِرٍ، فَقَالَ: اللهُمّ اشْهَدْ! فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ حَتّى قَتَلَ تِسْعَةً كَذَلِكَ، فَلَمّا كَانَ التّاسِعُ بَرَزَ لَهُ رَجُلٌ مُعْلِمٌ يَنْحُبُ [ (4) ] لِلْقِتَالِ، وَبَرَزَ لَهُ أَبُو عَامِرٍ فَقَتَلَهُ، فَلَمّا كَانَ الْعَاشِرُ بَرَزَ رَجُلٌ مُعْلِمٌ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ، فَقَالَ أَبُو عامر: اللهمّ
اشْهَدْ! قَالَ: يَقُولُ الرّجُلُ: اللهُمّ لَا تَشْهَدْ! فَضَرَبَ أَبَا عَامِرٍ فَأَثْبَتَهُ، فَاحْتَمَلْنَاهُ وَبِهِ رَمَقٌ، وَاسْتَخْلَفَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَأَخْبَرَ أَبُو عَامِرٍ أَبَا مُوسَى أَنّ قَاتِلَهُ صَاحِبُ الْعِمَامَةِ الصّفْرَاءِ. قَالُوا: وَأَوْصَى أَبُو عَامِرٍ إلَى أَبِي مُوسَى، وَدَفَعَ إلَيْهِ الرّايَةَ وَقَالَ: ادْفَعْ فَرَسِي وَسِلَاحِي لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَاتَلَهُمْ أَبُو مُوسَى حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ، وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِي عَامِرٍ، وَجَاءَ بِسِلَاحِهِ وَتَرِكَتِهِ وَفَرَسِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إنّ أَبَا عَامِرٍ أَمَرَنِي بِذَلِكَ، وَقَالَ: قُلْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ لِي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ قَالَ: اللهُمّ اغْفِرْ لِأَبِي عَامِرٍ، وَاجْعَلْهُ مِنْ أَعْلَى أُمّتِي فِي الْجَنّةِ! وَأَمَرَ بِتَرِكَةِ أَبِي عَامِرٍ فَدُفِعَتْ إلَى ابْنِهِ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أَعْلَمُ أَنّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لِأَبِي عَامِرٍ، قُتِلَ شَهِيدًا، فَادْعُ اللهَ لِي. فَقَالَ: اللهُمّ اغْفِرْ لِأَبِي مُوسَى، وَاجْعَلْهُ فِي أَعْلَى أُمّتِي! فَيَرَوْنَ أَنّ ذَلِكَ وَقَعَ يَوْمَ الْحَكَمَيْنِ. قَالُوا: وَاسْتَحَرّ الْقَتْلُ فِي بَنِي نَصْرٍ، ثُمّ فِي بَنِي رِبَابٍ [ (1) ] ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسٍ- وَكَانَ مُسْلِمًا- يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتْ بَنُو رِبَابٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، اُجْبُرْ مُصِيبَتَهُم! وَوَقَفَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عَلَى ثَنِيّةٍ مِنْ الثّنَايَا مَعَهُ فُرْسَانٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ. قِفُوا حَتّى يَمْضِيَ ضُعَفَاؤُكُمْ تَلْتَمّ أُخْرَاكُمْ. وَقَالَ: اُنْظُرُوا مَاذَا تَرَوْنَ. قَالُوا: نَرَى قَوْمًا عَلَى خُيُولِهِمْ وَاضِعِينَ رِمَاحَهُمْ عَلَى آذَانِ خُيُولِهِمْ. قَالَ: أُولَئِكَ إخْوَانُكُمْ بَنُو سُلَيْمٍ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ بَأْسٌ، انظروا ماذا ترون. قالوا:
نَرَى رِجَالًا أَكْفَالًا [ (1) ] ، قَدْ وَضَعُوا رِمَاحَهُمْ عَلَى أَكْفَالِ [ (2) ] خُيُولِهِمْ. قَالَ: تِلْكَ الْخَزْرَجُ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ بَأْسٌ، وَهُمْ سَالِكُونَ طَرِيقَ إخْوَانِهِمْ. قَالَ: اُنْظُرُوا مَاذَا تَرَوْنَ. قَالُوا: نَرَى أَقْوَامًا كَأَنّهُمْ الْأَصْنَامُ عَلَى الْخَيْلِ. قَالَ: تِلْكَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكُمْ! فَلَمّا غَشِيَتْهُ الْخَيْلُ نَزَلَ عن فرسه مَخَافَةَ أَنْ يُؤْسَرَ، ثُمّ طَفِقَ يَلُوذُ بِالشّجَرِ حَتّى سَلَكَ فِي يَسُومَ، جَبَلٌ بِأَعْلَى نَخْلَةَ، فَأَعْجَزَهُمْ هَارِبًا. وَيُقَالُ: قَالَ: مَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى رَجُلًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ مُعْلِمًا بِعِصَابَةٍ صَفْرَاءَ، يَخْبِطُ بِرِجْلَيْهِ فِي الْأَرْضِ، وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ. قَالَ: ذَلِكَ ابْنُ صَفِيّةَ، الزّبَيْر، وَاَيْمُ اللهِ لَيُزِيلَنّكُمْ عَنْ مَكَانِكُمْ! فَلَمّا بَصُرَ بِهِمْ الزّبَيْرُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتّى أَهْبَطَهُمْ مِنْ الثّنِيّةِ، وَهَرَبَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فَتَحَصّنَ فِي قَصْرٍ بِلِيّةَ [ (3) ] . وَيُقَالُ: دَخَلَ حِصْنَ ثَقِيفٍ. وَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ رَجُلًا كَانَ بِحُنَيْنٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى اشْتَدّ بِهِ الْجِرَاحُ. فَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ! فَارْتَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ، فَلَمّا اشْتَدّ بِهِ الْجِرَاحُ أَخَذَ مِشْقَصًا [ (4) ] مِنْ كِنَانَتِهِ فَانْتَحَرَ بِهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا أَنْ يُنَادِيَ: أَلَا لَا دَخَلَ الْجَنّةَ إلّا مُؤْمِنٌ، وَأَنّ اللهَ يُؤَيّدُ الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِر. قَالُوا: وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَنَائِمِ تجمع، ونادى مناديه:
مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَغُلّ! وَجَعَلَ النّاسُ غَنَائِمَهُمْ فِي مَوْضِعٍ حَتّى اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا. وَكَانَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَسَيْفُهُ مُتَلَطّخٌ دَمًا، فَقَالَتْ: إنّي قَدْ عَلِمْت أَنّك قَدْ قَاتَلْت الْمُشْرِكِينَ، فَمَاذَا أَصَبْت مِنْ غَنَائِمِهِمْ؟ قَالَ: هَذِهِ الْإِبْرَةَ تَخِيطِينَ بِهَا ثِيَابَك، فَدَفَعَهَا إلَيْهَا، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. فَسَمِعَ مُنَادِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ الْمَغْنَمِ فَلْيَرُدّهُ. فَرَجَعَ عَقِيلٌ فَقَالَ: وَاَللهِ مَا أَرَى إبْرَتَك إلّا قَدْ ذَهَبَتْ. فَأَلْقَاهَا فِي الْغَنَائِمِ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، أَنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ زَيْدٍ الْمَازِنِيّ أَخَذَ يَوْمَئِذٍ قَوْسًا فَرَمَى عَلَيْهَا الْمُشْرِكِينَ، ثُمّ رَدّهَا فِي الْمَغْنَمِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُبّةِ [ (1) ] شَعْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اضْرِبْ بِهَذِهِ! أَيْ دَعْهَا [ (2) ] لِي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَك. وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْحَبْلُ وَجَدْته حَيْثُ انْهَزَمَ الْعَدُوّ فَأَشُدّ بِهِ عَلَى رَحْلِي؟ قَالَ: نَصِيبِي مِنْهُ لَك، وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِأَنْصِبَاءِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَحَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عن عبد الله ابن الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى النّاسَ عَامَ حُنَيْنٍ فِي قَبَائِلِهِمْ يَدْعُو لَهُمْ، وَأَنّهُ نَزَلَ قَبِيلَةً مِنْ الْقَبَائِلِ وَجَدُوا فِي بَرْذَعَةِ [ (3) ] . رَجُلٍ مِنْهُمْ عِقْدًا مِنْ جَزَعٍ غُلُولًا، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم
فَكَبّرَ عَلَيْهِمْ كَمَا يُكَبّرُ عَلَى الْمَيّتِ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِي رَحْلِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ غُلُولًا فَبَكّتَهُ وَلَامَهُ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَلَمْ يَخْرِقْ رَحْلَهُ. قَالُوا: وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ سَبَايَا يَوْمَئِذٍ، فَكَانُوا يَكْرَهُونَ يَقَعُوا عَلَيْهِنّ وَلَهُنّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [ (1) ] . وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: لَا تُوطَأُ حَامِلٌ مِنْ السّبْيِ حَتّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتّى تَحِيضَ حَيْضَةً. وَسَأَلُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَنْ الْعَزْلِ، فَقَالَ: لَيْسَ من كلّ الماء يكون الْوَلَدِ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ. قَالُوا: وَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ يَوْمًا بِحُنَيْنٍ، ثُمّ تَنَحّى إلَى شَجَرَةٍ فَجَلَسَ إلَيْهَا. فَقَامَ إليه عيينة بن حص بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ يَطْلُبُ بِدَمِ عَامِرِ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيّ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ قُرَيْشٍ- وَمَعَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، يَدْفَعُ عَنْ مُحَلّمِ بْنِ جَثّامَةَ لِمَكَانِهِ مِنْ خِنْدِفَ، فَاخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُيَيْنَةُ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا وَاَللهِ لَا أَدَعُهُ حَتّى أُدْخِلَ عَلَى نِسَائِهِ مِنْ الْحَرْبِ وَالْحَزَنِ مَا أَدْخَلَ عَلَى نِسَائِي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَأْخُذُ الدّيَةَ؟ وَيَأْبَى عُيَيْنَةُ، فَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَكَثُرَ اللّغَطُ إلَى أَنْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ مُكَيْتَلٌ، قَصِيرٌ، مُجْتَمِعٌ، عَلَيْهِ شِكّةٌ [ (2) ] كَامِلَةٌ، ودرقة فى يده، فقال: يا رسول
اللهِ، إنّي لَمْ أَجِدْ لِمَا فَعَلَ هَذَا شَبَهًا فِي غُرّةِ [ (1) ] الْإِسْلَامِ إلّا غَنَمًا وَرَدَتْ فَرُمِيَتْ أُولَاهَا، فَنَفَرَتْ أُخْرَاهَا [ (2) ] ، فَاسْنُنْ الْيَوْمَ وَغَيّرْ غَدًا [ (3) ] فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ: تَقْبَلُونَ الدّيَةَ خَمْسِينَ فِي فَوْرِنَا هَذَا وَخَمْسِينَ إذَا رَجَعْنَا الْمَدِينَةَ! فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْمِ حَتّى قَبِلُوهَا. وَمُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ الْقَاتِلُ فِي طَرَفِ النّاسِ، فَلَمْ يَزَالُوا يَرَوْنَهُ وَيَقُولُونَ: ايتِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ لَك. فَقَامَ مُحَلّمٌ فَقَامَ رَجُلٌ طَوِيلٌ، آدَمُ [ (4) ] ، مُحْمَرّ بِالْحِنّاءِ، عَلَيْهِ حُلّةٌ، قَدْ كَانَ تَهَيّأَ فِيهَا لِلْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ، حَتّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ كَانَ مِنْ الْأَمْرِ الّذِي بَلَغَكُمْ، فَإِنّي أَتُوبُ إلَى اللهِ تَعَالَى فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اسْمُك؟ قَالَ: أَنَا مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ. قَالَ: قَتَلْته بِسِلَاحِك فِي غُرّةِ الْإِسْلَامِ! اللهُمّ، لَا تَغْفِرْ لِمُحَلّمٍ! بِصَوْتٍ عَالٍ يَتَفَقّدُ بِهِ النّاسَ. قَالَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ كَانَ الّذِي بَلَغَك، وَإِنّي أَتُوبُ إلَى اللهِ تَعَالَى فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَعَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ عَالٍ يَتَفَقّدُ بِهِ النّاسَ: اللهُمّ، لَا تَغْفِرْ لِمُحَلّمٍ! حَتّى كَانَتْ الثّالِثَةُ. قَالَ: فَعَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَقَالَتِهِ. ثُمّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ! فَقَامَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلقّى دمعه بفضل ردائه. وكان ضمرة
السّلَمِيّ يُحَدّثُ وَكَانَ قَدْ حَضَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، قَالَ: كُنّا نَتَحَدّثُ فِيمَا بَيْنَنَا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِاسْتِغْفَارٍ لَهُ، وَلَكِنّهُ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَ قَدْرَ الدّمِ عِنْدَ اللهِ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ، قَالَ: لَمّا مَاتَ مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ دَفَنَهُ قَوْمُهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، ثُمّ دَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، ثُمّ دَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَطَرَحُوهُ بَيْنَ صَخْرَتَيْنِ فَأَكَلَتْهُ السّبَاعُ. قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الوليد، عن لقمان ابن عَامِرٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ جَبَلَةَ، قَالَ: لَمّا حَضَرَ مُحَلّمَ بْنَ جَثّامَةَ الْمَوْتُ أَتَاهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ، فَقَالَ: يَا مُحَلّمُ، إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَرْجِعَ إلَيْنَا فَتُخْبِرَنَا بِمَا رَأَيْتُمْ وَلَقِيتُمْ. قَالَ: فَأَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَامٍ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتُمْ يَا مُحَلّمُ؟ قَالَ: نَحْنُ بِخَيْرٍ، وَجَدْنَا رَبّا رَحِيمًا غَفَرَ لَنَا. قَالَ عَوْفٌ: أَكُلّكُمْ؟ قَالَ: كُلّنَا غَيْرَ الْأَحْرَاضِ. قَالَ: وَمَا الْأَحْرَاضُ؟ قَالَ: الّذِينَ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ [ (1) ] . وَاَللهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ اسْتَنْفَقَهُ اللهُ لِي إلّا وَقَدْ وُفّيت أَجْرَهُ، حَتّى إنّ قِطّةً لِأَهْلِي هَلَكَتْ فَلَقَدْ أُعْطِيت أَجْرَهَا. قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْت: وَاَللهِ إنّ تَصْدِيقَ رُؤْيَايَ أَنْ أَنْطَلِقَ إلَى أَهْلِ مُحَلّمٍ فَأَسْأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْقِطّةِ. فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: عَوْفٌ يَسْتَأْذِنُ! فَأَذِنُوا، فَلَمّا دَخَلَ قَالُوا [ (2) ] : وَاَللهِ، مَا كُنْت لَنَا بِزَوّارٍ! قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ بِخَيْرٍ، وَهَذِهِ بِنْتُ أَخِيك أَمْسَتْ وَلَيْسَ بِهَا بَأْسٌ، وَهِيَ هَذِهِ! لِمَا بِهَا، وَلَقَدْ فَارَقَنَا أَبُوهَا اللّيْلَةَ. قَالَ: قُلْت: هَلْ هَلَكَتْ لَكُمْ قِطّةٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ. [قَالَ:] فَهَلْ حَسَسْتُمُوهَا
تسمية من استشهد بحنين
يا عوف؟ قال: لقد أُنْبِئْت نَبَأَهَا فَاحْتَسِبُوهَا. قَالَ: حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ، قَالَ: رَأَيْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ يَتَخَلّلُ الرّجَالَ يَسْأَلُ عَنْ مَنْزِلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَنَا مَعَهُ، فَأُتِيَ يَوْمَئِذٍ بِشَابّ فَأَمَرَ مَنْ عِنْدَهُ فَضَرَبُوهُ بِمَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ وَحَثَا عَلَيْهِ التّرَابَ. تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِحُنَيْنٍ أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ ابْنُ أُمّ أَيْمَنَ، وَهُوَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَمَوَالِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ سُرَاقَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَرُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لُوذَانَ [ (1) ] ، وَأَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ أُصِيبَ بِأَوْطَاسٍ، فَجَمِيعُ مَنْ قُتِلَ أَرْبَعَةٌ. شَأْنُ غَزْوَةِ الطّائِفِ قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَابْنُ مَوْهَبٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، وَعَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ السّعْدِيّ، وَمُحَمّدُ بْنُ عبد الله، عن الزّهْرِيّ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِمّنْ لَمْ يُسَمّ، أَهْلُ ثِقَاتٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَقَدْ كَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِي بِهِ. قَالُوا: لَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم حنينا وأراد المسير إلى
الطّائِفِ، بَعَثَ الطّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو إلَى ذِي الْكَفّيْنِ- صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ [ (1) ]- يَهْدِمُهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَمِدّ قَوْمَهُ وَيُوَافِيَهُ بِالطّائِفِ. فَقَالَ الطّفَيْلُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي. قَالَ: أَفْشِ السّلَامَ، وَابْذُلْ الطّعَامَ، وَاسْتَحْيِ مِنْ اللهِ كَمَا يَسْتَحْيِي الرّجُلُ ذُو الْهَيْئَةِ مِنْ أَهْلِهِ. إذَا أَسَأْت فَأَحْسِنْ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ [ (2) ] . قَالَ: فَخَرَجَ الطّفَيْلُ سَرِيعًا إلَى قَوْمِهِ، فَهَدَمَ ذَا الْكَفّيْنِ، وَجَعَلَ يَحْشُو النّارَ فِي جَوْفِهِ وَيَقُولُ: يَا ذَا الْكَفّيْنِ لَسْت مِنْ عُبّادِكَا ... مِيلَادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلَادِكَا أَنَا حَشَوْت [ (3) ] النّارَ فِي فُؤَادِكَا وَأَسْرَعَ مَعَهُ قَوْمُهُ، انْحَدَرَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَوَافَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطّائِفِ بَعْدَ مُقَامِهِ بِأَرْبَعَةِ أَيّامٍ، فَقَدِمَ بِدَبّابَةٍ وَمَنْجَنِيقٍ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ، مَنْ يَحْمِلُ رَايَتَكُمْ؟ قَالَ الطّفَيْلُ: مَنْ كَانَ يَحْمِلُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ. قَالَ: أَصَبْتُمْ! وَهُوَ النّعْمَانُ بْنُ الزّرَافَةِ اللهْبِيّ [ (4) ] . وَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد مِنْ حُنَيْنٍ عَلَى مُقَدّمَتِهِ، وَأَخَذَ مَنْ يَسْلُكُ بِهِ مِنْ الْأَدِلّاءِ إلَى الطّائِفِ، فَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الطّائِفِ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ [ (5) ] بِالسّبْيِ أَنْ يُوَجّهُوا إلَى الْجِعِرّانَةِ، واستعمل عليهم بديل بن ورقاء الخزاعىّ،
وَأَمَرَ بِالْغَنَائِمِ فَسِيقَتْ إلَى الْجِعِرّانَةِ وَالرّثّةِ. وَمَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطّائِفِ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ رَمّوا [ (1) ] حِصْنَهُمْ، وَدَخَلُوا فِيهِ مُنْهَزِمِينَ مِنْ أَوْطَاسٍ وَأَغْلَقُوهُ عَلَيْهِمْ- وَهُوَ حِصْنٌ عَلَى مَدِينَتِهِمْ لَهُ بَابَانِ- وَصَنَعُوا الصّنَائِعَ لِلْقِتَالِ وَتَهَيّئُوا، وَأَدْخَلُوا حِصْنَهُمْ مَا يُصْلِحُهُمْ لِسَنَةٍ لَوْ حُصِرُوا. وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ بِجُرَشَ يَتَعَلّمَانِ عَمَلَ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقِ، يُرِيدَانِ أَنْ يَنْصِبَاهُ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ، وَكَانَا لَمْ يَحْضُرَا حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطّائِفِ. وَسَارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أَوْطَاسٍ، فَسَلَكَ عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيّةِ [ (2) ] ، ثُمّ عَلَى قَرْنٍ [ (3) ] ، ثُمّ عَلَى الْمُلَيْحِ [ (4) ] ، ثُمّ عَلَى بَحْرَةِ الرّغَاءِ [ (5) ] مِنْ لِيّةَ، فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلّى فِيهِ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَبْنِي بِيَدِهِ مَسْجِدًا بِلِيّةَ، وَأَصْحَابُهُ يَنْقُلُونَ إلَيْهِ الْحِجَارَةَ. وَأُتِيَ يَوْمَئِذٍ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللّيْثِيّ إلَى الْهُذَلِيّينَ فَقَدّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَكَانَ أَوّلَ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ. وَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ بِلِيّةَ، وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ قَصْرًا فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَذَا قَصْرُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ. فَقَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ قَالُوا: هُوَ يَرَاك الآن فى
حِصْنِ ثَقِيفٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ فِي قَصْرِهِ؟ قَالُوا: مَا فِيهِ أَحَدٌ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرّقُوهُ! فَحُرّقَ مِنْ حِينِ الْعَصْرِ إلَى أَنْ غَابَتْ الشّمْسُ. وَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَبْرِ أَبِي أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ عِنْدَ مَالِهِ وَهُوَ قَبْرٌ مُشْرِفٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَعَنَ اللهُ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ، فَإِنّهُ كَانَ مِمّنْ يُحَادّ اللهَ وَرَسُولَهُ! فَقَالَ ابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهُمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللهُ أَبَا قُحَافَةَ، فَإِنّهُ كَانَ لَا يَقْرِي الضّيْفَ وَلَا يَمْنَعُ الضّيْمَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ سَبّ الْأَمْوَاتِ يُؤْذِي الْأَحْيَاءَ، فَإِنْ شِئْتُمْ الْمُشْرِكِينَ فَعُمّوا. ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لِيّةَ فَسَلَكَ طَرِيقًا يُقَالُ لَهَا: الضّيْقَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ هِيَ الْيُسْرَى. ثُمّ خَرَجَ عَلَى نَخِبٍ [ (1) ] حَتّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةِ الصّادِرَةِ عِنْدَ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إمّا أَنْ تَخْرُجَ وَإِمّا أَنْ نُحَرّقَ عَلَيْك حَائِطَك! فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْرَاقِ حَائِطِهِ وَمَا فِيهِ. وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ، فَيَضْرِبُ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ، فَسَاعَةَ حَلّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ جَاءَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا قَدْ دَنَوْنَا مِنْ الْحِصْنِ، فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ سَلّمْنَا، وَإِنْ كَانَ عَنْ الرّأْيِ فَالتّأَخّرُ عَنْ حِصْنِهِمْ. قَالَ: فَأَسْكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ يحدّث يقول: لقد طلع علينا من
نَبْلِهِمْ سَاعَةَ نَزَلْنَا شَيْءٌ اللهُ بِهِ عَلِيمٌ، كَأَنّهُ رِجْلٌ [ (1) ] مِنْ جَرَادٍ- وَتَرّسْنَا لَهُمْ- حَتّى أُصِيبَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِجِرَاحَةٍ، وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُبَابَ فَقَالَ: اُنْظُرْ مَكَانًا مُرْتَفِعًا مُسْتَأْخِرًا عَنْ الْقَوْمِ. فَخَرَجَ الْحُبَابُ حَتّى انْتَهَى إلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِ الطّائِفِ خَارِجٍ مِنْ الْقَرْيَةِ، فَجَاءَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَحَوّلُوا. قَالَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ: إنّي لَأَنْظُرُ إلَى أَبِي مِحْجَنٍ يَرْمِي مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ بِعِشْرَتِهِ [ (2) ] بِمَعَابِلَ [ (3) ] كَأَنّهَا الرّمَاحُ، مَا يَسْقُطُ لَهُ سَهْمٌ. قَالُوا: وَارْتَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَسْجِدِ الطّائِفِ الْيَوْمَ. قَالُوا: وَأَخْرَجُوا امْرَأَةً سَاحِرَةً، فَاسْتَقْبَلَتْ الْجَيْشَ بِعَوْرَتِهَا- وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْفَعُونَ بِذَلِكَ عَنْ حِصْنِهِمْ. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَكَمَةَ، وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ [ (4) ] مِنْ نِسَائِهِ أُمّ سَلَمَةَ، وَزَيْنَبُ، وَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْحِصْنِ، فَخَرَجَ قُدّامَ النّاسِ يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ [ (5) ] بْنِ الْأَسْوَدِ عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ ثَقِيفًا الْأَمَانَ يُرِيدُ يُكَلّمُهُمْ، فَأَعْطَوْهُ الْأَمَانَ، فَلَمّا دَنَا مِنْهُمْ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ فَقَتَلُوهُ. وَخَرَجَ هُذَيْلُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ أَخُو أُمَيّةَ بْنِ أَبِي الصّلْتِ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ، وَلَا يَرَى أَنّ عِنْدَهُ أَحَدًا. وَيُقَالُ: إنّ يَعْقُوبَ بْنَ زَمْعَةَ كَمَنَ لَهُ فَأَسَرَهُ حَتّى أَتَى بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قَاتِلُ أَخِي يَا رسول الله! فسر رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُتِيَ بِهِ إلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب لزوجتيه قبّتين، تم كَانَ يُصَلّي بَيْنَ الْقُبّتَيْنِ حِصَارَ الطّائِفِ كُلّهُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِي حِصَارِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ قَائِلٌ: تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ قَائِلٌ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكُلّ ذَلِكَ وَهُوَ يُصَلّي بَيْن الْقُبّتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ، بَنَى أُمَيّةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى مُصَلّى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ فِيهِ سَارِيَةٌ لَا تَطْلُعُ الشّمْسُ عَلَيْهَا مِنْ الدّهْرِ إلّا يُسْمَعُ لَهَا نَقِيضٌ [ (1) ] أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِرَارٍ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنّ ذَلِكَ تَسْبِيحٌ. فَنَصَبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْجَنِيقَ. قَالَ: وَشَاوَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَى أَنْ تَنْصِبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِهِمْ، فَإِنّا كُنّا بِأَرْضِ فَارِسَ نَنْصِبُ الْمَنْجَنِيقَاتِ عَلَى الْحُصُونِ وَتُنْصَبُ عَلَيْنَا، فَنُصِيبُ مِنْ عَدُوّنَا وَيُصِيبُ مِنّا بِالْمَنْجَنِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَنْجَنِيقُ طَالَ الثّوَاءُ [ (2) ] . فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمِلَ مَنْجَنِيقًا بِيَدِهِ، فَنَصَبَهُ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ. وَيُقَالُ: قَدِمَ بِالْمَنْجَنِيقِ يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ وَدَبّابَتَيْنِ، وَيُقَالُ: الطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَيُقَالُ: خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَدِمَ مِنْ جُرَشَ بِمَنْجَنِيقٍ وَدَبّابَتَيْنِ. وَنَثَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَكَ [ (3) ] شِقّتَيْنِ- حَسَكٌ مِنْ عَيْدَانَ- حَوْلَ حِصْنِهِمْ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ تَحْتَ الدّبّابَةِ، وَهِيَ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ- وَذَلِكَ يَوْمٌ يُقَالُ لَهُ الشّدْخَةُ.
قِيلَ: وَمَا الشّدْخَةُ؟ قَالَ: مَا قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ- دَخَلُوا تَحْتَهَا، ثُمّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الْحِصْنِ لِيَحْفِرُوهُ، فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنّارِ فَحَرَقَتْ الدّبّابَةَ، فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ تَحْتِهَا وَقَدْ أُصِيبَ مِنْهُمْ مَنْ أُصِيبَ، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنّبْلِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ رِجَالٌ. قَالَ: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ أَعْنَابِهِمْ وَتَحْرِيقِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَطَعَ حَبَلَةً [ (1) ] فَلَهُ حَبَلَةٌ فِي الْجَنّةِ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ لِيَعْلَى بْنِ مُرّةَ الثّقَفِيّ: أَقَطْعُ ذَلِكَ أَجْرِي؟ فَفَعَلَ يَعْلَى بْنُ مُرّةَ، ثُمّ جَاءَهُ فَقَالَ يَعْلَى: نَعَمْ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَك النّارُ! فَبَلَغَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عُيَيْنَةُ أَوْلَى بِالنّارِ مِنْ يَعْلَى. وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَقْطَعُونَ قَطْعًا ذَرِيعًا. قَالَ: وَنَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الثّقَفِيّ: وَاَللهِ لَنُقَطّعَنّ أَبَا عِيَالِك. فَقَالَ سُفْيَانُ: إذًا لَا تَذْهَبُونَ بِالْمَاءِ وَالتّرَابِ! فَلَمّا رَأَى الْقَطْعَ نَادَى سُفْيَانُ: يَا مُحَمّدُ، لِمَ تَقْطَعُ أَمْوَالَنَا؟ إمّا أَنْ تَأْخُذَهَا إنْ ظَهَرْت عَلَيْنَا، وَإِمّا أَنْ تَدَعَهَا لِلّهِ وَلِلرّحِمِ كَمَا زَعَمْت! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنّي أَدَعُهَا لِلّهِ وَلِلرّحِمِ [ (2) ] . فَتَرَكَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدّثَ أَبُو وَجْزَةَ السّعْدِيّ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعُ كُلّ رَجُلٍ مِنْ أَعْنَابِهِمْ خَمْسَ حَبَلَاتٍ. فَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ، إنّهُ عُمّ [ (1) ] لَمْ يُؤْكَلْ ثَمَرُهُ. فَأَمَرَ أَنْ يَقْطَعُوا مَا أَكَلُوا ثَمَرَهُ. قَالَ: فَجَعَلُوا يَقْطَعُونَ الْأَوّلَ فَالْأَوّلَ. قَالَ: وَتَقَدّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إلَى ثَقِيفٍ فَقَالَا: أَمّنُوا حَتّى نَتَكَلّمَ. فَأَمّنُوهُمَا، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ قُرَيْشٍ لِيَخْرُجْنَ إلَيْهِمَا- وَهُمْ يَخَافُونَ السّبَاءَ [ (2) ]- مِنْهُمْ ابْنَةُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، كَانَتْ تَحْتَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ، وَالْفِرَاسِيّةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ عمرو بن ثعلبة- كانت عند قارب ابن الْأَسْوَدِ، لَهَا مِنْهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ قَارِبٍ- وَامْرَأَةٌ أُخْرَى. فَلَمّا أَبَيْنَ عَلَيْهِمَا قَالَ لَهُمَا بَنُو الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ: يَا أَبَا سُفْيَانَ وَيَا مُغِيرَةُ، أَلَا نَدُلّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمّا جِئْتُمَا لَهُ! إنّ مَالَ بَنِي الْأَسْوَدِ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا- وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطّائِفِ نَازِلًا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الْعَمْقُ [ (3) ]- لَيْسَ بِالطّائِفِ مَالٌ أَبْعَدُ رِشَاءً، ولا أشدّ مونة مِنْهُ، وَلَا أَبْعَدُ عِمَارَةً- وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ قَطَعَهُ لَمْ يُعَمّرْ أَبَدًا، فَكَلّمَاهُ لِيَأْخُذْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدَعْهُ لِلّهِ وَلِلرّحِمِ، فَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لَا يَجْهَلُ. فَكَلّمَاهُ فَتَرَكَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رَجُلٌ يَقُومُ عَلَى الْحِصْنِ فَيَقُولُ: رُوحُوا رِعَاءَ الشّاءِ! رُوحُوا جَلَابِيبَ مُحَمّدٍ! رُوحُوا عَبِيدَ مُحَمّدٍ! أَتَرَوْنَا نَتَبَاءَسُ عَلَى أَحْبُلٍ [ (4) ] أَصَبْتُمُوهَا مِنْ كُرُومِنَا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهُمّ، رَوّحْ مُرَوّحًا إلَى النّارِ! قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ: فَأَهْوَى لَهُ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ فى نحره، وهوى من الحصن
مَيّتًا. قَالَ: فَرَأَيْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سُرّ بِذَلِكَ. قَالَ: وَجَعَلُوا يَقُولُونَ عَلَى حِصْنِهِمْ: هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالَ [ (1) ] . قَالَ لِعَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَتَدْرِي يَا عَلِيّ مَا هَذَا؟ قَبْرُ أَبِي رِغَالَ: وَهُمْ قَوْمُ ثَمُودَ! قَالُوا: وَكَانَ أَبُو مِحْجَنٍ عَلَى رَأْسِ الْحِصْنِ يَرْمِي بِمَعَابِلَ وَالْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ لِصَاحِبِهِ: إنْ افْتَتَحْنَا الطّائِفَ فَعَلَيْك بِنِسَاءِ بَنِي قَارِبٍ، فَإِنّهُنّ أَجْمَلُ إنْ أَمْسَكْت، وَأَكْثَرُ فِدَاءً إنْ فَادَيْتَ. فَسَمِعَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا أَخَا مُزَيْنَةَ! قَالَ: لَبّيْكَ! قَالَ: ارْمِ ذَلِكَ الرّجُلَ. يَعْنِي أَبَا مِحْجَنٍ، وَإِنّمَا غَارَ الْمُغِيرَةُ حِينَ ذَكَرَ الْمُزَنِيّ النّسَاءَ، وَعَرَفَ أَنّ أَبَا مِحْجَنٍ رَجُلٌ رَامٍ لَا يَسْقُطُ له سهم، فرماه المزنىّ فَلَمْ يَصْنَعْ سَهْمُهُ شَيْئًا، وَفَوّقَ لَهُ أَبُو محجن بمعبلة، فَتَقَعُ فِي نَحْرِهِ فَقَتَلَتْهُ [ (2) ] . قَالَ، يَقُولُ الْمُغِيرَةُ: مَنّى الرّجَالَ بِنِسَاءِ بَنِي قَارِبٍ. قَالَ لَهُ عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، وَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَهُ أَوّلَهُ وَآخِرَهُ: قَاتَلَك اللهُ يَا مُغِيرَةُ! أَنْتَ وَاَللهِ عَرّضْته لِهَذَا، وَإِنْ كَانَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ سَاقَ لَهُ الشّهَادَةَ. أَنْتَ وَاَللهِ مُنَافِقٌ، وَاَللهِ لَوْلَا الْإِسْلَامُ مَا تَرَكْتُك حَتّى أَغْتَالَك! وَجَعَلَ الْمُزَنِيّ يَقُولُ: إنّ مَعَنَا الدّاهِيَةَ وَمَا نَشْعُرُ، وَاَللهِ لَا أُكَلّمُك أَبَدًا! قَالَ: طَلَبَ الْمُغِيرَةُ إلَى الْمُزَنِيّ أَنْ يَكْتُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. قَالَ: لَا وَاَللهِ أَبَدًا! قَالَ: فَبَلَغَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ [ (3) ] فِي عَمَلِ عُمَرَ بِالْكُوفَةِ- فَقَالَ: وَاَللهِ، مَا كَانَ الْمُغِيرَةُ بِأَهْلٍ أَنْ يُوَلّى وَهَذَا فِعْلُهُ! قَالَ: وَرَمَى أَبُو مِحْجَنٍ يَوْمَ الطّائِفِ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِسَهْمٍ، فَدَمِلَ الْجُرْحُ حتى بغى [ (4) ] ،
وَخَرَجَ السّهْمُ مِنْ الْجُرْحِ فَأَمْسَكَهُ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ. وَتُوُفّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَقَدِمَ أَبُو مِحْجَنٍ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْمِشْقَصَ [ (1) ] فَأَخْرَجَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مِحْجَنٍ، هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الْمِشْقَصَ؟ قَالَ: وَكَيْفَ لَا أَعْرِفُهُ وَأَنَا بَرَيْت قَدَحَهُ وَرِيشَتَهُ وَرَصَفَتَهُ، وَرَمَيْت بِهِ ابْنَك؟ فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَكْرَمَهُ عَلَى يَدَيّ وَلَمْ يُهِنّي عَلَى يَدَيْهِ. وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيّمَا عَبْدٍ نَزَلَ مِنْ الْحِصْنِ وَخَرَجَ إلَيْنَا فَهُوَ حُرّ! فَخَرَجَ مِنْ الْحِصْنِ رِجَالٌ، بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا: أَبُو بَكَرَةَ، وَالْمُنْبَعِثُ، وَكَانَ اسْمُهُ الْمُضْطَجِعَ فَسَمّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْبَعِثَ حِينَ أَسْلَمَ، وَكَانَ عَبْدًا لعثمان بن عمّار بن معتّب، والأزرق ابن عُقْبَةَ بْنِ الْأَزْرَقِ، وَكَانَ عَبْدًا لِلْكَلَدَةِ الثّقَفِيّ مِنْ بَنِي مَالِكٍ، ثُمّ صَارَ حَلِيفًا فِي بَنِي أُمَيّةَ فَنَكَحُوا إلَيْهِ وَأَنْكَحُوهُ، وَوَرْدَانُ، عَبْدٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ جَدّ الْفُرَاتِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَرْدَانَ، وَيُحَنّسُ النّبّالُ، وَكَانَ عبدا ليسار ابن مَالِكٍ، فَأَسْلَمَ سَيّدُهُ بَعْدُ، فَرَدّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَلَاءَهُ، - فَهُمْ [أَعْبُدُ] الطّائِفِ- وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ، كَانَ عَبْدًا لِخَرَشَةَ الثّقَفِيّ، وَيَسَارٌ، عَبْدٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ لَمْ يُعْقِبْ، وَأَبُو بَكَرَةَ [ (2) ] نُفَيْعُ بْنُ مَسْرُوحٍ، وَكَانَ لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وَإِنّمَا كُنّيَ بِأَبِي بَكَرَةَ أَنّهُ نَزَلَ فِي بَكَرَةٍ [ (3) ] مِنْ الْحِصْنِ، وَنَافِعٌ أَبُو السّائِبِ، عَبْدٌ لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ، فأسلم غيلان
بَعْدُ، فَرَدّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَلَاءَهُ، وَمَرْزُوقٌ غُلَامٌ لِعُثْمَانَ، لَا عَقِبَ لَهُ. كُلّ هَؤُلَاءِ أَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمُونُهُ [ (1) ] وَيَحْمِلُهُ، فَكَانَ أَبُو بَكَرَةَ إلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وكان الأزرق إلى خالد ابن سَعِيدٍ، وَكَانَ وَرْدَانُ إلَى أَبَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وكان يحنّس النّبّال إلى عثمان ابن عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَسَارُ بْنُ مالك إلى سعد بن عبادة، وإبراهيم ابن جَابِرٍ إلَى أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْرِئُوهُمْ الْقُرْآنَ وَيُعَلّمُوهُمْ السّنَنَ. فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ تَكَلّمَتْ أَشْرَافُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ الْمُعْتَقِينَ، فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ، يَرُدّوهُمْ فِي الرّقّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللهِ، لَا سَبِيلَ إلَيْهِمْ! وَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الطّائِفِ مَشَقّةً شَدِيدَةً، وَاغْتَاظُوا عَلَى غِلْمَانِهِمْ. قَالُوا: وَقَالَ عُيَيْنَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اِيذَنْ لِي حَتّى آتِيَ حِصْنَ الطّائِفِ فَأُكَلّمَهُمْ. فَأَذِنَ لَهُ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: أَدْنُو مِنْكُمْ وَأَنَا آمِنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ. وَعَرَفَهُ أَبُو مِحْجَنٍ فَقَالَ: اُدْنُ. فَدَنَا. فقال: ادخل. فدخل عليهم الحصن، فقال: فداءكم أَبِي وَأُمّي! وَاَللهِ لَقَدْ سَرّنِي مَا رَأَيْت مِنْكُمْ، وَاَللهِ لَوْ أَنّ فِي الْعَرَبِ أَحَدًا غَيْرَكُمْ! وَاَللهِ مَا لَاقَى مُحَمّدٌ مِثْلَكُمْ قَطّ، وَلَقَدْ مَلّ الْمُقَامَ، فَاثْبُتُوا فِي حِصْنِكُمْ، فَإِنّ حِصْنَكُمْ حَصِينٌ، وَسِلَاحَكُمْ كَثِيرٌ، وَمَاءَكُمْ وَاتِنٌ، لَا تَخَافُونَ قَطْعَهُ! قَالَ: فَلَمّا خَرَجَ قَالَتْ ثَقِيفٌ لِأَبِي مِحْجَنٍ: فَإِنّا كَرِهْنَا دُخُولَهُ، وَخَشِينَا أَنْ يُخْبِرَ مُحَمّدًا بِخَلَلٍ إنْ رَآهُ فِينَا أَوْ فِي حِصْنِنَا. قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: أَنَا كُنْت أَعْرَفَ لَهُ، لَيْسَ مِنّا أَحَدٌ أَشَدّ عَلَى مُحَمّدٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ. فَلَمّا رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: مَا قُلْت لَهُمْ؟ قَالَ: قُلْت اُدْخُلُوا
فِي الْإِسْلَامِ، وَاَللهِ لَا يَبْرَحُ مُحَمّدٌ عُقْرَ دَارِكُمْ حَتّى تَنْزِلُوا، فَخُذُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَمَانًا، قَدْ نَزَلَ بِسَاحَةِ أَهْلِ الْحُصُونِ قَبْلَكُمْ، قَيْنُقَاعَ، وَالنّضِيرِ، وَقُرَيْظَةَ، وَخَيْبَرَ أَهْلِ الْحَلْقَةِ وَالْعُدّةِ وَالْآطَامِ. فَخَذّلْتُهُمْ مَا اسْتَطَعْت، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ عَنْهُ، حَتّى إذَا فَرَغَ مِنْ حَدِيثِهِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبْت! قُلْت لَهُمْ كَذَا وَكَذَا! لِلّذِي قَالَ. قَالَ عُيَيْنَةُ: أَسَتَغْفِرُ اللهَ! فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أُقَدّمُهُ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَتَحَدّثُ النّاسُ أَنّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي. وَيُقَالُ: إنّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَغْلَظَ. لَهُ يَوْمَئِذٍ وَقَالَ: وَيْحَك يَا عُيَيْنَةُ! إنّمَا أَنْتَ أَبَدًا تُوضِعُ فِي الْبَاطِلِ، كَمْ لَنَا مِنْك مِنْ يَوْمٍ بَنِي النّضِيرِ، وَقُرَيْظَةَ، وَخَيْبَرَ، تَجْلِبُ عَلَيْنَا وَتُقَاتِلُنَا بِسَيْفِك، ثُمّ أَسْلَمْت كَمَا زَعَمْت فَتُحَرّضُ عَلَيْنَا عَدُوّنَا! قَالَ: أَسَتَغْفِرُ اللهَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَأَتُوبُ إلَيْهِ، لَا أَعُودُ أَبَدًا! قَالُوا: وَكَانَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مَوْلًى لِخَالَتِهِ فَاخِتَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، يُقَالُ لَهُ: مَاتِعٌ، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ: هِيتٌ. وَكَانَ مَاتِعٌ يَكُونُ فِي بُيُوتِهِ، لَا يَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ يَفْطِنُ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النّسَاءِ مِمّا يَفْطِنُ لَهُ الرّجَالُ، وَلَا يرى أنّ له فى ذلك أربعة [ (1) ] ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَيُقَالُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ: إنْ افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطّائِفَ غَدًا فَلَا تُفْلِتَنّ مِنْك بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ، فَإِنّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ [ (2) ] وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، وَإِذَا جَلَسَتْ تَثَنّتْ، وَإِذَا تَكَلّمَتْ تَغَنّتْ، وَإِذَا اضْطَجَعَتْ تَمَنّتْ، وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا مِثْلُ الْإِنَاءِ الْمَكْفُوءِ، مَعَ ثغر كأنّه الأقحوان، كما قال الخطيم:
بَيْنَ شُكُولِ [ (1) ] النّسَاءِ خِلْقَتُهَا ... نَصْبٌ فَلَا جَبْلَةٌ [ (2) ] وَلَا قَضَفُ تَغْتَرِقُ [ (3) ] الطّرْفَ وَهْيَ لَاهِيَةٌ [ (4) ] ... كَأَنّمَا شَفّ وَجْهَهَا نُزُفُ [ (5) ] فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُ فَقَالَ: أَلَا أَرَى هَذَا الْخَبِيثَ يَفْطِنُ لِلْجَمَالِ إذَا خَرَجْت إلَى الْعَقِيقِ! وَالْحَيْلُ لَا يُمْسَكُ [ (6) ] لِمَا أَسْمَعُ! وَقَالَ: لَا يَدْخُلَنّ عَلَى نِسَاءِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ! وَيُقَالُ: قَالَ: لَا يَدْخُلَنّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِكُمْ! وَغَرّبَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحِمَى، فَشَكَيَا الْحَاجَةَ، فَأَذِنَ لَهُمَا أَنْ يَنْزِلَا كُلّ جُمُعَةٍ يَسْأَلَانِ ثُمّ يَرْجِعَانِ إلَى مَكَانِهِمَا، إلَى أَنْ تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَا مَعَ النّاسِ. فَلَمّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْرَجَكُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُدْخِلُكُمَا؟ فَأَخْرَجَهُمَا إلَى مَوْضِعِهِمَا. فَلَمّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَخَلَا مَعَ النّاسِ، فَلَمّا وَلِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْرَجَكُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَأُدْخِلُكُمَا؟ اُخْرُجَا إلَى مَوْضِعِكُمَا! فَأَخْرَجَهُمَا إلَى مَوْضِعِهِمَا، فَلَمّا قُتِلَ عُمَرُ دَخَلَا مع الناس.
قَالُوا: قَالَ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثّقَفِيّ، وَهُوَ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ: يَا عَبِيدَ مُحَمّدٍ، إنّكُمْ وَاَللهِ مَا لَاقَيْتُمْ أَحَدًا يُحْسِنُ قِتَالَكُمْ غَيْرَنَا، تُقِيمُونَ مَا أَقَمْتُمْ بِشَرّ مَحْبِسٍ، ثُمّ تَنْصَرِفُونَ لَمْ تُدْرِكُوا شَيْئًا مِمّا تُرِيدُونَ، نَحْنُ قَسِيّ وَأَبُونَا قَسَا [ (1) ] ، وَاَللهِ لَا نُسَلّمُ مَا حَيِينَا، وَقَدْ بَنَيْنَا طَائِفًا حَصِينًا! فَنَادَاهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ حَبِيبٍ، وَاَللهِ لَنَقْطَعَنّ عَلَيْك مَعَاشَك حَتّى تَخْرُجَ مِنْ جُحْرِك هَذَا، إنّمَا أَنْتَ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ يُوشِكُ أَنْ يَخْرُجَ. فَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: إنْ قَطَعْتُمْ يَا ابْنَ الْخَطّابِ حَبَلَاتِ عِنَبٍ، فَإِنّ فِي الْمَاءِ وَالتّرَابِ مَا يُعِيدُ ذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَقْدِرُ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ، لَنْ نَبْرَحَ عَنْ بَابِ جُحْرِك حَتّى تَمُوتَ! قَالَ: يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ لَا تَقُلْ هَذَا، فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي فَتْحِ الطّائِفِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَهَلْ قَالَ لَك هَذَا رَسُولُ اللهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَجَاءَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَمْ يُؤْذَنْ لَك يَا رَسُولَ اللهِ فِي فَتْحِهَا؟ قَالَ: لَا. وَجَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّةُ، وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ. أَعْطِنِي إنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْك حُلِيّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ الْخُزَاعِيّ. أَوْ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ- وَكَانَتَا مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ ثَقِيفٍ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِي ثَقِيفٍ يَا خَوْلَةُ؟ قَالَ: فَخَرَجَتْ خَوْلَةُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدّثَتْ خَوْلَةُ مَا حَدّثَتْنِي أَنّك قُلْته؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قُلْته. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَمْ يُؤْذَنْ لَك فِيهِمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَلَا أُؤَذّنُ فى
النّاسِ بِالرّحِيلِ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى. فَأَذّنَ عُمَرُ بِالرّحِيلِ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَتَكَلّمُونَ، يَمْشِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: نَنْصَرِفُ وَلَا نَفْتَحُ الطّائِفَ! لَا نَبْرَحُ حَتّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْنَا، وَاَللهِ إنّهُمْ لَأَذَلّ وَأَقَلّ مَنْ لَاقَيْنَا، قَدْ لَقِينَا جَمْعَ مَكّةَ وَجَمْعَ هَوَازِنَ، فَفَرّقَ اللهُ تِلْكَ الْجَمُوعَ! وَإِنّمَا هَؤُلَاءِ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ، لَوْ حَصَرْنَاهُمْ لَمَاتُوا فِي حِصْنِهِمْ هَذَا! وَكَثُرَ الْقَوْلُ بَيْنَهُمْ وَالِاخْتِلَافُ، فَمَشَوْا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَتَكَلّمُوا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَالْأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ السّمَاءِ. فَكَلّمُوا عُمَرَ فَأَبَى وَقَالَ: قَدْ رَأَيْنَا الْحُدَيْبِيَةَ، وَدَخَلَنِي فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الشّكّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلّا اللهُ، وَرَاجَعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِكَلَامٍ لَيْتَ أَنّي لَمْ أَفْعَلْ، وَأَنّ أَهْلِي وَمَالِي ذَهَبَا! ثُمّ كَانَتْ الْخِيَرَةُ لَنَا مِنْ اللهِ فِيمَا صَنَعَ، فَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ كَانَ خَيْرًا لِلنّاسِ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ- بِلَا سَيْفٍ، دَخَلَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِثْلُ مَنْ كَانَ دَخَلَ- مِنْ يَوْمِ بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِ كُتِبَ الْكِتَابُ. فَاتّهِمُوا الرّأْيَ، وَالْخِيَرَةُ فِيمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَنْ أُرَاجِعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَبَدًا! وَالْأَمْرُ أَمْرُ اللهِ، وَهُوَ يُوحِي إلَى نَبِيّهِ مَا يَشَاءُ! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: إنّي رَأَيْت أَنّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ [ (1) ] مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا، فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَأُهْرَاقَ مَا فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا أَظُنّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ يَوْمَك هَذَا مَا تُرِيدُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ. قَالَ: حَدّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ رِيَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمّا مَضَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ حصارهم استشار
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ فَقَالَ: يَا نَوْفَلُ: ما تقول؟ أوترى [ (1) ] . فَقَالَ نَوْفَلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ، إنْ أَقَمْت عَلَيْهِ أَخَذْته، وَإِنْ تَرَكْته لَمْ يَضُرّك شَيْئًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: وَلَمْ يُؤْذَنْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَتْحِهَا. قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ وَأَذّنَ فِي النّاسِ بِالرّحِيلِ. قَالَ: فَجَعَلَ النّاسُ يَضِجّونَ مِنْ ذَلِكَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ. فَغَدَوْا فَأَصَابَتْ الْمُسْلِمِينَ جِرَاحَاتٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللهُ! فَسُرّوا بِذَلِكَ وَأَذْعَنُوا [ (2) ] ، وَجَعَلُوا يَرْحَلُونَ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ. فَلَمّا اسْتَقَلّ النّاسُ لِوَجْهِهِمْ نَادَى سَعْدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ عَمْرِو ابن عِلَاجٍ الثّقَفِيّ قَالَ: أَلَا إنّ الْحَيّ مُقِيمٌ. قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ وَاَللهِ، مَجَدَةٌ كِرَامٌ! فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: قَاتَلَك اللهُ، تَمْدَحُ قَوْمًا مُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جِئْت تَنْصُرُهُ؟ فَقَالَ: إنّي وَاَللهِ مَا جِئْت مَعَكُمْ أُقَاتِلُ ثَقِيفًا، وَلَكِنْ أَرَدْت أَنْ يَفْتَحَ مُحَمّدٌ الطّائِفَ فَأُصِيبَ جَارِيَةً مِنْ ثَقِيفٍ فَأَطَأهَا لَعَلّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا، فَإِنّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مُبَارَكُونَ. فَأَخْبَرَ عُمَرُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِ، فَتَبَسّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: هَذَا الْحُمْقُ الْمُطَاعُ! وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا: قُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وحده! فلمّا ارتحلوا واستقلّوا قال: قولوا آئبون إنْ شَاءَ اللهُ، عَابِدُونَ، لِرَبّنَا حَامِدُونَ! وَلَمّا ظَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطّائِفِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ عَلَى ثَقِيفٍ. قَالَ: اللهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وائت بهم!
تسمية من استشهد بالطائف
تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِالطّائِفِ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ: سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أُمَيّةَ، وَعُرْفُطَةُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، حَلِيفٌ لَهُمْ. وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ: يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، جَمَحَ بِهِ فَرَسُهُ- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الْجَنَاحُ- إلَى حِصْنِ الطّائِفِ فَقَتَلُوهُ. وَيُقَالُ: قَالَ لَهُمْ: أَمّنُونِي حَتّى أُكَلّمَكُمْ. فَأَمّنُوهُ ثُمّ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ حَتّى قَتَلُوهُ. وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، رُمِيَ بِسَهْمٍ فَلَمْ يَزَلْ مِنْهُ جَرِيحًا، فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، رُمِيَ مِنْ الْحِصْنِ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَنَزِيّ، حَلِيفٌ لَهُمْ. وَمِن بَنِي سَهْمٍ: السّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ. وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بن محارب بن الضّيحان ابن نَاشِبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ: ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ- وَاسْمُ الْجَذَعِ ثَعْلَبَةُ- وَالْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَوْفَلٍ. فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ رجلا.
شأن مسير النبى صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة
شَأْنُ مَسِيرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكّةَ قَالُوا: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطّائِفِ فَأَخَذَ عَلَى دَحْنَا [ (1) ] ثُمّ عَلَى قَرْنِ الْمَنَازِلِ [ (2) ] ، ثُمّ عَلَى نَخْلَةَ حَتّى خَرَجَ إلَى الْجِعِرّانَةِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ وَأَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ إلَى جَنْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ لَهُ غَلِيظَتَانِ، إذْ زَحَمَتْ نَاقَتُهُ نَاقَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقَعُ حَرْفُ نَعْلِهِ عَلَى سَاقِهِ فَأَوْجَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْجَعْتنِي، أَخّرْ رِجْلَك! وَقَرَعَ رِجْلَهُ بِالسّوْطِ. قَالَ: فَأَخَذَنِي مِنْ أَمْرِي مَا تَقَدّمَ وَمَا تَأَخّرَ، وَخَشِيت أَنْ يَنْزِلَ فِيّ الْقُرْآنُ لِعَظِيمِ مَا صَنَعْت، فَلَمّا أَصْبَحْنَا بِالْجِعِرّانَةِ، خَرَجْت أَرْعَى الظّهْرَ وَمَا هُوَ يَوْمِي، فَرَقًا أَنْ يَأْتِيَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُنِي، فَلَمّا رَوّحْت الرّكَابَ سَأَلْت فَقَالُوا: طَلَبَك رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجِئْته وَأَنَا أَتَرَقّبُ فَقَالَ: إنّك أَوْجَعْتنِي بِرِجْلِك فَقَرَعْتُك بِالسّوْطِ، فَخُذْ هَذِهِ الْغَنَمَ عِوَضًا مِنْ ضَرْبَتِي. قَالَ أَبُو رُهْمٍ: فَرِضَاهُ عَنّي كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ يَقُولُ: كُنْت مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرَةٍ وَهُوَ يُحَادِثُنِي، فَجَعَلَتْ نَاقَتِي تَلْصِقُ بِنَاقَتِهِ، وَكَانَتْ نَاقَتِي نَاقَةً شَهْمَةً [ (3) ] ، فَجَعَلْت أُرِيدُ أَنْ أُنَحّيَهَا فَلَا تُطَاوِعُنِي، فَلَصِقَتْ بِنَاقَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُصِيبَتْ رِجْلُهُ فَقَالَ: أَخْ! أوجعتنى! فرفع رجله
مِنْ الْغَرْزِ كَأَنّهَا جُمّارَةً [ (1) ] ، وَدَفَعَ رِجْلِي بِمِحْجَنٍ فى يده. فمكث ساعة لا يتحدّث، فو الله مَا نَزَلْت حَتّى ظَنَنْت أَنْ سَيَنْزِلُ فِيّ عَذَابٌ. قَالَ: فَلَمّا نَزَلْنَا قُلْت لِأَصْحَابِي: إنّي أَرْعَى لَكُمْ! وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَوْمَ رِعْيَتِي، فَلَمّا أَرَحْت الظّهْرَ عَلَيْهِمْ قُلْت: هَلْ جَاءَ أَحَدٌ يَبْغِينِي؟ فَقَالُوا: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَبْغِيك. فَقُلْت فِي نَفْسِي: هِيَ وَاَللهِ هِيَ! قُلْت: مَنْ جَاءَ؟ قَالُوا: رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَكَانَ أَكْرَهَ إلَيّ، وَذَلِكَ أَنّ الْأَنْصَارَ كَانَتْ فِيهِمْ عَلَيْنَا غِلْظَةٌ. قَالَ: ثُمّ جَاءَ بَعْدُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَبْتَغِينِي. قَالَ: فَخَرَجْت خَائِفًا حَتّى وَاجَهْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَبْتَسِمُ فِي وَجْهِي وَقَالَ: أَوْجَعْتُك بِمِحْجَنِي الْبَارِحَةَ. ثُمّ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْقِطْعَةَ مِنْ الْغَنَمِ. قَالَ: فَأَخَذْتهَا فَوَجَدْتهَا ثَمَانِينَ شَاةً ضَائِنَةً [ (2) ] . وَكَانَ أَبُو زُرْعَةَ الْجُهَنِيّ يَقُولُ: لَمّا أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْكَبَ مِنْ قَرْنٍ رَاحِلَتَهُ الْقَصْوَاءَ وَطِئْت لَهُ عَلَى يَدَيْهَا، وَالزّمَامُ فِي يَدِي مَطْوِيّ، فَرَكِبَ عَلَى الرّحْلِ وَنَاوَلْته الزّمَامَ، وَدُرْت مِنْ خَلْفِهِ فَخَلّفَ [ (3) ] النّاقَةَ بِالسّوْطِ، كُلّ ذَلِكَ يُصِيبُنِي، فَالْتَفَتَ إلَيّ فَقَالَ: أَصَابَك السّوْطُ؟ قُلْت: نَعَمْ بِأَبِي وَأُمّي! قَالَ: فَلَمّا نَزَلَ الْجِعِرّانَةَ إذَا رِبْضَةٌ [ (4) ] مِنْ الْغَنَمِ نَاحِيَةً مِنْ الغنائم، فسأل عنها صاحب الغنائم فَخَبّرَهُ عَنْهَا بِشَيْءٍ لَا أَحْفَظُهُ، ثُمّ صَاحَ: أَيْنَ أَبُو زُرْعَةَ؟ قَالَ: قُلْت: هَا أَنَا ذَا! قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْغَنَمَ بِاَلّذِي أَصَابَك مِنْ السّوْطِ أَمْسِ. قَالَ: فَعَدَدْتهَا فَوَجَدْتهَا عِشْرِينَ ومائة رأس. قال: فتأثّلت [ (5) ] بها مالا.
وَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ: لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنْحَدِرٌ مِنْ الطّائِفِ إلَى الْجِعِرّانَةِ فَتَحَصّلْت [ (1) ] ، وَالنّاسُ يَمْضُونَ أَمَامَهُ أَرْسَالًا [ (2) ] ، فَوَقَعْت فِي مِقْنَبٍ [ (3) ] مِنْ خَيْلِ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلُوا يَقْرَعُونِي بِالرّمَاحِ وَيَقُولُونَ: إلَيْك! إلَيْك! مَا أَنْتَ؟ وَأَنْكَرُونِي، حَتّى إذَا دَنَوْت وَعَرَفْت أَنّهُ يَسْمَعُ صَوْتِي أَخَذْت الْكِتَابَ الّذِي كَتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلْته بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِي، ثُمّ رَفَعْت يَدَيّ وَنَادَيْت: أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ، وَهَذَا كِتَابِي! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوْمَ وَفَاءٍ، أَدْنُوهُ! فَأَدْنَيْت مِنْهُ، فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى سَاقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَرْزِهِ كَأَنّهَا جُمّارَةٌ، فَلَمّا انْتَهَيْت إلَيْهِ سَلّمْت، وَسُقْت إلَيْهِ الصّدَقَةَ، فَمَا ذَكَرْت شَيْئًا أَسْأَلُهُ عَنْهُ إلّا أَنّي قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْت الضّالّةَ مِنْ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي وَقَدْ مَلَأْتهَا لِإِبِلِي، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ إنْ أَسْقَيْتهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، فِي كُلّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرّى [ (4) ] أَجْر. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: اعْتَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ مَعَهُ غَنَمٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ هَدِيّةٌ قَدْ أَهْدَيْتهَا لَك، قَالَ: وَمِمّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ. قَالَ: إنّي لَا أَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي مُؤْمِنٌ بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ، قَدْ سُقْت الصّدَقَةَ إلَى بُرَيْدَةَ بن الحصيب
لِمَالِي بِعَيْنِهِ مُصَدّقًا، قَالَ: وَأَقْبَلَ بُرَيْدَةُ فَلَحِقَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا مِنْ قَوْمِي، شَرِيفٌ [ (1) ] يَنْزِلُ بِالصّفَاحِ [ (2) ] . قَالَ: فَمَا أَقْدَمَك إلَى نَخْلَةَ؟ قَالَ: هِيَ أَمْرَعُ [ (3) ] مِنْ الصّفَاحِ الْيَوْمَ. ثُمّ قَالَ: نَحْنُ عَلَى ظَهْرٍ كَمَا تَرَى، فَالْحَقْنَا بِالْجِعِرّانَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ يَعْدُو عِرَاضَ [ (4) ] نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَسُوقُ الْغَنَمَ مَعِي إلَى الْجِعِرّانَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسُقْهَا، وَلَكِنْ تَقْدَمُ عَلَيْنَا الْجِعِرّانَةَ فَنُعْطِيك غَنَمًا أُخْرَى إنْ شَاءَ اللهُ! قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُدْرِكُنِي الصّلَاةُ وَأَنَا فِي عَطَنِ [ (5) ] الْإِبِلِ، أَفَأُصَلّي فِيهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَتُدْرِكُنِي وَأَنَا فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ، أَفَأُصَلّي فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رُبّمَا تَبَاعَدَ مِنّا الْمَاءُ وَمَعَ الرّجُلِ زَوْجَتُهُ فَيَدْنُو مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَتَيَمّمُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَكُونُ فِينَا الْحَائِضُ، قَالَ: تَتَيَمّمُ. قَالَ: فَلَحِقَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعِرّانَةِ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ شَاةٍ. قَالُوا: وَجَعَلَتْ الْأَعْرَابُ فِي طَرِيقِهِ يَسْأَلُونَهُ، وَكَثُرُوا عَلَيْهِ حَتّى اضْطَرّوهُ إلَى سَمُرَةٍ، فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ فَنَزَعَتْهُ عَنْ مِثْلِ شِقّةِ الْقَمَرِ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: أَعْطُونِي رِدَائِي! أَعْطُونِي رِدَائِي! لَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْته بَيْنَكُمْ، ثُمّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا ولا كذّابا!
ثُمّ لَمّا كَانَ عِنْدَ الْقَسْمِ قَالَ: أَدّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ [ (1) ] ، وَإِيّاكُمْ وَالْغُلُولَ فَإِنّهُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ [ (2) ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ! ثُمّ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ بَعِيرٍ فَقَالَ: وَاَللهِ مَا يَحِلّ لِي مِمّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُم. قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ، وَالسّبْيُ وَالْغَنَائِمُ بِهَا مَحْبُوسَةٌ، وَقَدْ اتّخَذَ السّبْيُ حَظَائِرَ [ (3) ] يَسْتَظِلّونَ بِهَا مِنْ الشّمْسِ، فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى تِلْكَ الْحَظَائِرِ سَأَلَ عَنْهَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا سَبْيُ هَوَازِنَ اسْتَظَلّوا مِنْ الشّمْسِ. وَكَانَ السّبْيُ سِتّةَ آلَافٍ، وَكَانَتْ الْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَكَانَتْ الْغَنَمُ لَا يُدْرَى عَدَدُهَا، قَدْ قَالُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَأَقَلّ وَأَكْثَرَ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بُسْرَ [ (4) ] بْنَ سُفْيَانَ الْخُزَاعِيّ يَقْدَمُ مَكّةَ فَيَشْتَرِي لِلسّبْيِ ثِيَابًا يَكْسُوهَا، ثِيَابَ الْمَعْقِدِ [ (5) ] ، فَلَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ [ (6) ] مِنْهُمْ إلّا كَاسِيًا، فَاشْتَرَى بُسْرٌ كُسْوَةً فَكَسَا السّبْيَ كُلّهُمْ، وَاسْتَأْذَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّبْيِ، وَقَدْ كَانَ فَرّقَ مِنْهُ، وَأَعْطَى رِجَالًا، عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنّ قَدْ وَطِئَهَا بِالْمِلْكِ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَهَبَهَا لَهُ بِحُنَيْنٍ فَرَدّهَا إلَى الْجِعِرّانَةِ حَتّى حَاضَتْ فَوَطِئَهَا، وأعطى صفوان ابن أُمَيّةَ أُخْرَى، وَأَعْطَى عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام جارية يقال لها
رَيْطَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ حَيّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ بِنْتُ حَيّانَ بْنِ عَمْرٍو، فَوَطِئَهَا عُثْمَانُ فَكَرِهَتْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِيّ وَطِئَ. وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ جَارِيَةً، فَأَعْطَاهَا عُمَرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، فَبَعَثَ بِهَا ابْنُ عُمَرَ إلَى أَخْوَالِهِ بِمَكّةَ بَنِي جُمَحَ لِيُصْلِحُوا مِنْهَا حَتّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمّ يَأْتِيَهُمْ، وَكَانَتْ جَارِيَةً وَضِيئَةً مُعْجِبَةً. [قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ:] [ (1) ] فَقَدِمْت مَكّةَ فَطُفْت بِالْبَيْتِ، فَخَرَجْت مِنْ الْمَسْجِدِ وَأَنَا أُرِيدُ الْجَارِيَةَ أَنْ أُصِيبَهَا، وَأَرَى النّاسَ يَشْتَدّونَ فَقُلْت: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: رَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَ هَوَازِنَ وَأَبْنَاءَهَا. قَالَ: قُلْت: تِلْكَ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي جُمَحَ، فَاذْهَبُوا فَخُذُوهَا! فَذَهَبُوا فَأَخَذُوهَا. وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ فَلَمْ تُوطَأْ. وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا طَلْحَةُ. وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ جَارِيَةً، وَأَعْطَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن الْعَوّامِ جَارِيَةً، وَهَذَا كُلّهُ بِحُنَيْنٍ. فَلَمّا رَجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْجِعِرّانَةِ أَقَامَ يَتَرَبّصُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَفْدُهُمْ، وَبَدَأَ بِالْأَمْوَالِ فَقَسَمَهَا، وَأَعْطَى الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ أَوّلَ النّاسِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَنِمَ فِضّةً كَثِيرَةً، أَرْبَعَةَ آلَافِ أُوقِيّةٍ، فَجُمِعَتْ الْغَنَائِمُ بَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْفِضّةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَصْبَحْت أَكْثَرَ قُرَيْشٍ مَالًا! فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْ هَذَا الْمَالِ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: يَا بِلَالُ، زِنْ لِأَبِي سُفْيَانَ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً، وأعطوه
مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ابْنِي يَزِيدُ أَعْطِهِ! قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسلّم: زنوا ليزيد أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً، وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ابْنِي مُعَاوِيَةُ، يَا رَسُولَ اللَّه! قَالَ: زِنْ لَهُ يَا بِلَالُ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً، وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّك الْكَرِيمُ، فِدَاك أَبِي وَأُمّي! وَلَقَدْ حَارَبْتُك فَنِعْمَ الْمُحَارَبُ كُنْت، ثُمّ سَالَمْتُك فَنِعْمَ الْمُسَالَمُ أَنْتَ، جَزَاك اللَّه خَيْرًا! وَأَعْطَى فِي بَنِي أَسَدٍ. قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَا: حَدّثَنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحنين مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ سَأَلْته مِائَةً فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ سَأَلْته مِائَةً فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ قَالَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يا حكيم ابن حِزَامٍ، إنّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَاَلّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ السّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ! قَالَ: فَكَانَ حَكِيمٌ يَقُولُ: وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، لَا أَرْزَأُ [ (1) ] أَحَدًا بَعْدَك شَيْئًا! فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَدْعُوهُ إلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى يَأْخُذُهُ، فَيَقُولُ عُمَرُ: أَيّهَا النّاسُ، إنّي أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكِيمٍ أَنّي أَدْعُوهُ إلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَه. قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي الزّناد قال: أخذ حكيم الماءة الْأُولَى ثُمّ تَرَكَ. وَفِي بَنِي عَبْدِ الدّارِ: النّضَيْرُ، وَهُوَ أَخُو النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كلدة،
مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. وَفِي بَنِي زُهْرَةَ: أُسَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. وَأَعْطَى الْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا. وَقَدْ رَأَيْت عَبْدَ اللَّه بْنَ جَعْفَرٍ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ مَخْرَمَةُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِي يَذْكُرُ أَنّهُ أُعْطِيَ شَيْئًا. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ. وَأَعْطَى فِي بَنِي جُمَحَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَيُقَالُ إنّهُ طَافَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَصَفّحُ الْغَنَائِمَ إذْ مَرّ بِشِعْبٍ مِمّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهِ، فِيهِ غَنَمٌ وَإِبِلٌ وَرِعَاؤُهَا مَمْلُوءٌ. فَأَعْجَبَ صَفْوَانَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْجَبَك يَا أَبَا وَهْبٍ هَذَا الشّعْبُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هُوَ لَك وَمَا فِيهِ. فَقَالَ صَفْوَانُ: أَشْهَدُ مَا طَابَتْ بِهَذَا نَفْسُ أَحَدٍ قَطّ إلّا نَبِيّ، وَأَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللَّه! وَأَعْطَى قَيْسَ بْنَ عَدِيّ مِائَةً من الإبل، وأعطى عثمان ابن وَهْبٍ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ. وَفِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ أَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى هِشَامَ بْنَ عُمَرَ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ. وَأَعْطَى فِي الْعَرَبِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التّمِيمِيّ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. وَأَعْطَى الْعَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ أَرْبَعًا مِنْ الْإِبِلِ، فَعَاتَبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِعْرٍ قَالَهُ: كَانَتْ [ (1) ] نِهَابًا تَلَافَيْتهَا ... بِكَرّي على القوم فى الأجرع [ (2) ]
وَحَثّي الْجُنُودَ لِكَيْ يُدْلِجُوا ... إذَا هَجَعَ الْقَوْمُ لَمْ أَهْجَعِ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِي ... دِ [ (1) ] بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ إلّا أَفَائِلَ [ (2) ] أُعْطِيتهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ وَقَدْ كُنْت فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ [ (3) ] ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ وَمَا كَانَ حِصْنٌ [ (4) ] وَلَا حَابِسٌ ... يَفْوَقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَبْيَاتَهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبّاسِ: أَنْتَ الّذِي تَقُولُ «أَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ» ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: بِأَبِي وَأُمّي يَا رَسُولَ اللَّه، لَيْسَ هَكَذَا! قَالَ، قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَالَ عَبّاسٌ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَوَاءٌ، مَا يَضُرّك بَدَأْت بِالْأَقْرَعِ أَمْ عُيَيْنَةَ! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: بِأَبِي أنت وأمّى، ما أنت بشاعر ولا رواية، وَلَا يَنْبَغِي لَك. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْطَعُوا لِسَانَهُ عَنّي. فَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. وَيُقَالُ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ، فَفَزِعَ مِنْهَا أُنَاسٌ، وَقَالُوا: أَمَرَ بِعَبّاسٍ يُمَثّلُ بِهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِيمَا أَعْطَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ النّاسَ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللَّه بْنُ جَعْفَرٍ. عَنْ ابْنِ أبى عون، عن سعد، عن
إبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَا: كَانَتْ الْعَطَايَا فَارِعَةً [ (1) ] مِنْ الْغَنَائِمِ. قَالَ: حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ مِنْ الْخُمُسِ. فَأَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ أَنّهَا مِنْ الْخُمُسِ. قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ: يَا رَسُولَ اللَّه، أَعْطَيْت عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِائَةً وَتَرَكْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضّمْرِيّ! فَقَالَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أما وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ [ (2) ] الْأَرْضِ كُلّهَا مِثْلَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ، وَلَكِنّي تَأَلّفْتهمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلَامِهِ. وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضّةٌ يَقْبِضُهَا لِلنّاسِ عَلَى مَا أَرَاهُ اللَّه، فَأَتَاهُ ذُو الخويصرة التّمِيمِيّ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّه! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَك! فَمَنْ يَعْدِلْ إذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَالَ عُمَرُ: يا رسول اللَّه، إيذن لي أن أضرب عُنُقَهُ! قَالَ: دَعْهُ، إنّ لَهُ أَصْحَابًا! يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنْ الرّمِيّةِ، يَنْظُرُ [الرّامِي] فِي قُذَذِهِ [ (3) ] فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمّ يَنْظُرُ فِي نَصْلِهِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمّ يَنْظُرُ فِي رِصَافِهِ [ (4) ] فَلَا يَرَى شَيْئًا، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدّمَ، يَخْرُجُونَ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، رأيتهم إنّ فيهم رجلا
ذكر وفد هوازن
أَسْوَدَ، إحْدَى يَدَيْهِ [مِثْلُ ثَدْيِ] [ (1) ] الْمَرْأَةِ أَوْ كَبَضْعَةٍ تَدَرْدَر [ (2) ] . فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْت عَلِيّا يُحَدّثُ هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْت رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَئِذٍ وَرَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي تِلْكَ الْعَطَايَا، وَهُوَ يَقُولُ: إنّهَا الْعَطَايَا مَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّه! قُلْت: أَمَا واللَّه لَأُبَلّغَنّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قُلْت. فَجِئْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته، فَتَغَيّرَ لَوْنُهُ حَتّى نَدِمْت عَلَى مَا صَنَعْته، فَوَدِدْت أَنّي لَمْ أُخْبِرْهُ، ثُمّ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّه أَخِي مُوسَى! قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ! وَكَانَ الْمُتَكَلّمُ بِهَذَا مُعَتّبَ بْنَ قُشَيْرٍ الْعَمْرِيّ. ثُمّ أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِإِحْصَاءِ النّاسِ وَالْغَنَائِمِ، ثُمّ فضّلها [ (3) ] عَلَى النّاسِ، فَكَانَتْ سِهَامَهُمْ، لِكُلّ رَجُلٍ أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ أَرْبَعُونَ شَاةً، فَإِنْ كَانَ فَارِسًا أَخَذَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ، أَوْ عِشْرِينَ وَمِائَةَ شَاةٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ. ذِكْرُ وَفْدِ هَوَازِنَ قَالُوا: فَقَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ، وَكَانَ فِي الْوَفْدِ عَمّ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ، قَالَ يَوْمَئِذٍ: يَا رَسُولَ اللَّه، إنّمَا فِي هَذِهِ الْحَظَائِرِ مَنْ كَانَ يَكْفُلُك مِنْ عَمّاتِك وَخَالَاتِك وَحَوَاضِنِك، وَقَدْ حَضَنّاك فى حجورنا،
وَأَرْضَعْنَاك [ (1) ] بِثُدِيّنَا، وَلَقَدْ رَأَيْتُك مُرْضَعًا فَمَا رَأَيْت مُرْضَعًا خَيْرًا مِنْك، وَرَأَيْتُك فَطِيمًا فَمَا رَأَيْت فَطِيمًا خَيْرًا مِنْك، ثُمّ رَأَيْتُك شَابّا فَمَا رَأَيْت شَابّا خَيْرًا مِنْك، وَقَدْ تَكَامَلَتْ فِيك خِلَالُ الْخَيْرِ، وَنَحْنُ مَعَ ذَلِكَ أَهْلُك وَعَشِيرَتُك، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنّ اللَّه عَلَيْك! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ اسْتَأْنَيْت بِكُمْ حَتّى ظَنَنْت أَنّكُمْ لَا تَقْدَمُونَ، وَقَدْ قُسِمَ السّبْيُ، وَجَرَتْ فِيهِمْ السّهْمَانُ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، وَجَاءُوا بِإِسْلَامِ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَكَانَ رَأْسَ الْقَوْمِ وَالْمُتَكَلّمَ أَبُو صُرَدٍ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه إنّا أَهْلُك وَعَشِيرَتُك، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْك. يَا رَسُولَ اللَّه، إنّمَا فِي هَذِهِ الْحَظَائِرِ عَمّاتُك وَخَالَاتُك وَحَوَاضِنُك اللّاتِي كُنّ يَكْفُلْنَك، وَلَوْ أَنّا مَلَحْنَا [ (2) ] لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ وَلِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمّ نَزَلَا مِنّا بِمِثْلِ الّذِي نَزَلْت بِهِ، رَجَوْنَا عَطْفَهُمَا وَعَائِدَتَهُمَا [ (3) ] ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ. وَيُقَالُ: إنّهُ قَالَ يَوْمَئِذٍ- أَبُو صُرَدٍ: إنّمَا فِي هَذِهِ الْحَظَائِرِ أَخَوَاتُك وَعَمّاتُك وَبَنَاتُ عَمّاتِك وَخَالَاتُك وَبَنَاتُ خَالَاتِك، وَأَبْعَدُهُنّ قَرِيبٌ مِنْك. يَا رَسُولَ اللَّه! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، إنّهُنّ حَضَنّك فِي حُجُورِهِنّ، وَأَرْضَعْنَك بِثُدِيّهِنّ، وَتَوَرّكْنَك عَلَى أَوْرَاكِهِنّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ! وَقَالَ: أُمْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّه فِي كَرَمٍ ... فَإِنّك الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدّخِرُ أُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ عَاقَهَا [ (4) ] قدر ... ممزّق شملها فى دهرها غير
أُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْت تَرْضَعُهَا ... إذْ فوك مملوءة من محضها الدّرر [ (1) ] اللآلي إذْ كُنْت طِفْلًا كُنْت تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يَزِينُك [ (2) ] مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ أَلَا تَدَارَكَهَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النّاسِ حَتّى حِينَ يُخْتَبَرُ لَا تَجْعَلَنّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ [ (3) ] ... وَاسْتَبْقِ مِنّا فَإِنّا مَعْشَرٌ زُهُرُ إنّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ قَدُمَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدّخَرُ فَقَالَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أن أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَصْدَقُهُ، وَعِنْدِي مَنْ تَرَوْنَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، خَيّرْتنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَبَيْنَ أَمْوَالِنَا، وَمَا كُنّا نَعْدِلُ بِالْأَحْسَابِ شَيْئًا، فَرُدّ عَلَيْنَا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا! فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمّا مَا لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَأَسْأَلُ لَكُمْ النّاسَ، وَإِذَا صَلّيْت الظّهْرَ بِالنّاسِ فَقُولُوا، إنّا لَنَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّه إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللَّه! فَإِنّي سَأَقُولُ لَكُمْ، مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَسَأَطْلُبُ لَكُمْ إلَى النّاسِ. فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ بِالنّاسِ قَامُوا فَتَكَلّمُوا بِاَلّذِي أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّه إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللَّه! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أما ما كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ. فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: فَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّه! وقالت الْأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّه! قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمّا أَنَا وَبَنُو تميم فلا! وقال عيينة بن حصن:
أَمّا أَنَا وَفَزَارَةُ فَلَا! وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ: أَمّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا! قَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّه! فَقَالَ الْعَبّاسُ: وَهّنْتُمُونِي [ (1) ] ! ثُمّ قَامَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الناس خطيبا فقال: إنّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ جَاءُوا مُسْلِمِينَ، وَقَدْ كُنْت اسْتَأْنَيْت بِهِمْ فَخَيّرْتهمْ بَيْنَ النّسَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالنّسَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنّ شَيْءٌ فَطَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَرُدّهُ فَلْيُرْسِلْ، وَمَنْ أَبَى مِنْكُمْ وَتَمَسّكَ بِحَقّهِ فَلْيَرُدّ عَلَيْهِمْ، وَلْيَكُنْ فَرْضًا عَلَيْنَا سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ مَا يَفِيءُ اللَّه بِهِ عَلَيْنَا! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، رَضِينَا وَسَلّمْنَا! قَالَ: فَمُرُوا عُرَفَاءَكُمْ أَنْ يَدْفَعُوا ذَلِكَ إلَيْنَا حَتّى نَعْلَمَ. فَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَطُوفُ عَلَى الْأَنْصَارِ يَسْأَلُهُمْ: هَلْ سَلّمُوا وَرَضُوا؟ فَخَبّرُوهُ أَنّهُمْ سَلّمُوا وَرَضُوا، وَلَمْ يَتَخَلّفْ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إلَى الْمُهَاجِرِينَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَخَلّفْ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَكَانَ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ يَطُوفُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، ثُمّ جَمَعُوا الْعُرَفَاءَ، وَاجْتَمَعَ الْأُمَنَاءُ الّذِينَ أَرْسَلَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاتّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، تَسْلِيمِهِمْ وَرِضَاهُمْ، وَدَفَعَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ السّبْيِ. فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ الّتِي عِنْدَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَدْ خُيّرَتْ تُقِيمُ أَوْ تَرْجِعُ إلَى قَوْمِهَا، فَاخْتَارَتْ قَوْمَهَا فَرُدّتْ إلَيْهِمْ. وَاَلّتِي عِنْدَ عَلِيّ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ وَابْنِ عُمَرَ، رَجَعْنَ إلَى قَوْمِهِنّ. وَأَمّا الّتِي عِنْدَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ فَاخْتَارَتْ سَعْدًا وَلَهَا مِنْهُ وَلَدٌ. وَكَانَ عُيَيْنَةُ قَدْ خَيّرُوهُ فِي السّبْيِ فَأَخَذَ رَأْسًا مِنْهُمْ، نَظَرَ إلَى عَجُوزٍ كَبِيرَةٍ فَقَالَ: هَذِهِ أُمّ الْحَيّ! لَعَلّهُمْ أَنْ يُغْلُوا بِفِدَائِهَا. فإنّه عسى أن
يَكُونَ لَهَا فِي الْحَيّ نَسَبٌ! فَجَاءَ ابْنُهَا إلَى عُيَيْنَةَ فَقَالَ: هَلْ لَك فِي مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ؟ قَالَ: لَا فَرَجَعَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ سَاعَةً، فَجَعَلَتْ الْعَجُوزُ تَقُولُ لِابْنِهَا: مَا أَرَبُك [ (1) ] فِي نَقْدِ مِائَةِ نَاقَةٍ؟ اُتْرُكْهُ، فَمَا أَسْرَعَ مَا يَتْرُكُنِي بِغَيْرِ فِدَاءٍ! فَلَمّا سَمِعَهَا عُيَيْنَةُ قَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ خُدْعَةً! واللَّه مَا أَنَا مِنْ هَذِهِ إلّا فِي غُرُورٍ وَلَا جَرَمَ، واللَّه لَأُبَاعِدَنّ أَثَرَك مِنّي! قَالَ: ثُمّ مَرّ بِهِ ابْنُهَا فَقَالَ: هَلْ لَك فِي الْعَجُوزِ فِيمَا دَعَوْتنِي إلَيْهِ! قَالَ ابْنُهَا: لَا أَزِيدُك عَلَى خَمْسِينَ. قَالَ عُيَيْنَةُ: لَا أَفْعَلُ. قَالَ: فَلَبِثَ سَاعَةً فَمَرّ بِهِ مَرّةً أُخْرَى وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ. قَالَ عُيَيْنَةُ: هَلْ لَك فِي الْعَجُوزِ فِي الّذِي بَذَلْت لِي؟ قَالَ الْفَتَى: لَا أَزِيدُك عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَرِيضَةً [ (2) ] ، هَذَا الّذِي أَقْوَى عَلَيْهِ. قَالَ عُيَيْنَةُ: واللَّه لَا أَفْعَلُ، بَعْدَ مِائَةِ فَرِيضَةٍ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ! فلمّا تخوّف عيينة أن يتفرّق الناس ويرتحلون جَاءَهُ عُيَيْنَةُ فَقَالَ: هَلْ لَك إلَى مَا دَعَوْتنِي إلَيْهِ؟ قَالَ الْفَتَى: هَلْ لَك إلَى عَشْرِ فَرَائِضَ أُعْطِيكهَا؟ قَالَ عُيَيْنَةُ: واللَّه لَا أَفْعَلُ! فَلَمّا رَحَلَ النّاسُ نَادَاهُ عُيَيْنَةُ: هَلْ لَك إلَى مَا دَعَوْتنِي إلَيْهِ إنْ شِئْت؟ قَالَ الْفَتَى: أَرْسِلْهَا وَأَحْمِلُك. قَالَ: لَا واللَّه، مَا لِي بِحَمْلِك حَاجَةٌ. قَالَ: وَأَقْبَلَ عُيَيْنَةُ عَلَى نَفْسِهِ لَائِمًا لَهَا، وَيَقُولُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ أَمْرًا. قَالَ الْفَتَى: أَنْتَ صَنَعْت هَذَا بِنَفْسِك، عَمَدْت إلَى عَجُوزٍ كَبِيرَةٍ، واللَّه مَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ، وَلَا بَطْنُهَا، بِوَالِدٍ، وَلَا فُوهَا [ (3) ] بِبَارِدٍ، وَلَا صَاحِبُهَا بِوَاجِدٍ [ (4) ] ، فَأَخَذْتهَا مِنْ بَيْنِ مَنْ تَرَى. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: خُذْهَا لَا بَارَكَ اللَّه لَك فِيهَا، وَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا! قال، يقول الفتى:
يَا عُيَيْنَةُ، إنّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَسَا السّبْيَ فَأَخْطَأَهَا مِنْ بَيْنِهِمْ بِالْكُسْوَةِ، فَمَا أَنْتَ كَاسِيهَا ثَوْبًا؟ قَالَ: لَا واللَّه، مَا ذَلِكَ لَهَا عِنْدِي! قَالَ: لَا تَفْعَلْ! فَمَا فَارَقَهُ حَتّى أَخَذَ مِنْهُ شَمْلَ ثَوْبٍ، ثُمّ وَلّى الْفَتَى وَهُوَ يَقُولُ: إنّك لَغَيْرُ بَصِيرٍ بِالْفُرَصِ! وَشَكَا عُيَيْنَةُ إلَى الْأَقْرَعِ مَا لَقِيَ، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إنّك واللَّه مَا أَخَذْتهَا بِكْرًا غَرِيرَةً [ (1) ] ، وَلَا نَصَفًا [ (2) ] وَثِيرَةً [ (3) ] ، وَلَا عَجُوزًا أَصِيلَةً، عَمَدْت إلَى أَحْوَجِ شَيْخٍ فِي هَوَازِنَ فَسَبَيْت امْرَأَتَهُ. قَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ ذاك. وتمسك بَنُو تَمِيمٍ مَعَ الْأَقْرَعِ بِالسّبْيِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاءَ سِتّ فَرَائِضَ، ثَلَاثَ حِقَاقٍ [ (4) ] وَثَلَاثَ جِذَاعٍ [ (5) ] . وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ وَلَاءٌ أَوْ رِقّ لَثَبَتَ الْيَوْمَ، وَلَكِنْ إنّمَا هُوَ إسَارٌ وَفِدْيَةٌ. وَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيّ عَلَى مَقَاسِمِ الْمَغْنَمِ. وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لِلْوَفْدِ: مَا فَعَلَ مَالِكٌ [ (6) ] ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، هَرَبَ فَلَحِقَ بِحِصْنِ الطّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أَخْبِرُوهُ أَنّهُ إنْ كَانَ يَأْتِي مُسْلِمًا رَدَدْت عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَيْته مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أمر
بِحَبْسِ أَهْلِ مَالِكٍ بِمَكّةَ عِنْدَ عَمّتِهِمْ أُمّ عَبْدِ اللَّه بِنْتِ أَبِي أُمَيّةَ. فَقَالَ الْوَفْدُ: يَا رَسُولَ اللَّه، أُولَئِكَ سَادَتُنَا وَأَحِبّتُنَا إلَيْنَا. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إنّمَا أُرِيدُ بِهِمْ الْخَيْر. فَوَقَفَ مَالَ مَالِكٍ فَلَمْ يُجْرِ فِيهِ السّهْمَ، فَلَمّا بَلَغَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ الْخَبَرُ، وَمَا صَنَعَ فِي قَوْمِهِ، وَمَا وَعَدَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنّ أَهْلَهُ وَمَالَهُ مَوْقُوفٌ، وَقَدْ خَافَ مَالِكٌ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال لَهُ مَا قَالَ فَيَحْبِسُونَهُ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَقُدّمَتْ حَتّى وُضِعَتْ بِدَحْنَا [ (1) ] وَأَمَرَ بِفَرَسٍ لَهُ فَأُتِيَ بِهِ لَيْلًا، فَخَرَجَ مِنْ الْحِصْنِ فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ لَيْلًا فَرَكَضَهُ حَتّى أَتَى دَحْنَا، فَرَكِبَ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَحِقَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُدْرِكُهُ قَدْ رَكِبَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ، فَرَدّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ. وَيُقَالُ: لَحِقَهُ بِمَكّةَ، وَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ حَوْلَ الطّائِفِ مِنْ هَوَازِنَ وَفَهْمٍ، فَكَانَ قَدْ ضَوَى إلَيْهِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ مَنْ كَانَ عَلَى الشّرْكِ، وَيُغِيرُ بِهِمْ عَلَى ثَقِيفٍ، يُقَاتِلُهُمْ بِهِمْ، وَلَا يَخْرُجُ لِثَقِيفٍ سَرْحٌ إلّا أَغَارَ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَجَعَ حِينَ رَجَعَ وَقَدْ سَرّحَ النّاسُ مَوَاشِيَهُمْ، وَأَمِنُوا فِيمَا يَرَوْنَ حَيْثُ انْصَرَفَ عَنْهُمْ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فكان لَا يَقْدِرُ عَلَى سَرْحٍ إلّا أَخَذَهُ، وَلَا عَلَى رَجُلٍ إلّا قَتَلَهُ، فَكَانَ قَدْ بَعَثَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُمُسِ مِمّا يُغِيرُ بِهِ، مَرّةً مِائَةَ بَعِيرٍ وَمَرّةً أَلْفَ شَاةٍ، وَلَقَدْ أَغَارَ عَلَى سَرْحٍ لِأَهْلِ الطّائِفِ فَاسْتَاقَ لَهُمْ أَلْفَ شَاةٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ الثّقَفِيّ: تَهَابُ الأعداء جانبنا ... ثمّ تغزونا بنو سلمه
وَأَتَانَا مَالِكٌ بِهِمُ ... نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَالْحُرُمَهْ وَأَتَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا ... وَلَقَدْ كَانُوا أُولِي نَقِمَهْ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ: مَا إنْ رَأَيْت وَلَا سَمِعْت بِمِثْلِهِ ... فِي النّاسِ كُلّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمّدِ أوفى وأعطى للجزيل [ (1) ] إذا اجتدى ... ومتى تشأ يُخْبِرْك عَمّا فِي غَدِ [ (2) ] وَإِذَا الْكَتِيبَةُ عَرّدَتْ [ (3) ] أَنْيَابَهَا ... بِالْمَشْرَفِيّ [ (4) ] وَضَرْبِ كُلّ مُهَنّدِ [ (5) ] فَكَأَنّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ الْهَبَاءَةِ [ (6) ] خَادِرٌ [ (7) ] فِي مَرْصَدِ قَالُوا: لَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتّى كَثُرَتْ الْقَالَةُ [ (8) ] حَتّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قومه، وأمّا حِينَ الْقِتَالِ فَنَحْنُ أَصْحَابُهُ، وَأَمّا حِينَ الْقَسْمِ فَقَوْمُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَوَدِدْنَا أَنّا نَعْلَمُ مِمّنْ كَانَ هذا! إن كان هذا من اللَّه
صَبَرْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْ رَأْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْتَبْنَاهُ. فَبَلَغَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَقُولُ فِيّ قَوْمُك؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: أَمّا حِينَ الْقِتَالِ فَنَحْنُ أَصْحَابُهُ، وَأَمّا حِينَ الْقَسْمِ فَقَوْمُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَوَدِدْنَا أَنّا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هَذَا! إنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ اللهِ صَبَرْنَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْتَبْنَاهُ. فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنَا إلّا كَأَحَدِهِمْ، وَإِنّا لَنُحِبّ أَنْ نَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاجْمَعْ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ الْأَنْصَارِ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ. فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ، فَلَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ جَاءَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ اجْتَمَعَ لَك هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ. فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْغَضَبُ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِاَلّذِي هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ [ (1) ] وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهَدَاكُمْ اللهُ، وَعَالَةً [ (2) ] فَأَغْنَاكُمْ اللهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ! قَالَ: أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللهِ، وَلِرَسُولِ اللهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: أَمَا وَاَللهِ لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ: أَتَيْتنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك، وَمَخْذُولًا [ (3) ] فَنَصَرْنَاك،
وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك [ (1) ] ! وَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي شَيْءٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهِ قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ، أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْت شِعْبَ الْأَنْصَارِ. أَكْتُبُ لَكُمْ بِالْبَحْرَيْنِ كِتَابًا مِنْ بَعْدِي تَكُونُ [ (2) ] لَكُمْ خَاصّةً دُونَ النّاسِ! فَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَنْصَارِ. قَالُوا: وَمَا حَاجَتُنَا بِالدّنْيَا بَعْدَك يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إمّا لَا فَسَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتّى تَلْقَوْا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنّ مَوْعِدَكُمْ الْحَوْضُ، وَهُوَ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَعُمَانَ، وَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النّجُومِ. اللهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ! قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ حَظّا وَقَسْمًا. وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرّقُوا. وَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَقَامَ بِالْجِعِرّانَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَلَمّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا، فَأَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ [ (3) ] الْوَادِي
بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَكَانَ مُصَلّى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ بِالْجِعِرّانَةِ- فَأَمّا هَذَا الْمَسْجِدُ الْأَدْنَى، فَبَنَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَاِتّخَذَ ذَلِكَ الْحَائِطَ عِنْدَهُ- وَلَمْ يَجُزْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَادِيَ إلّا مُحْرِمًا، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبّي حَتّى اسْتَلَمَ الرّكْنَ. وَيُقَالُ: لَمّا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَطَعَ التّلْبِيَةَ، فَلَمّا أَتَى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ عَلَى بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَدَخَلَ وَطَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ [ (1) ] يَرْمُلُ [ (2) ] مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ، ثُمّ خَرَجَ فَطَافَ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَتّى إذَا انْتَهَى إلَى الْمَرْوَةِ فِي الطّوَافِ السّابِعِ حَلَقَ رَأْسَهُ. عِنْدَ الْمَرْوَةِ، حَلَقَهُ أَبُو هِنْدٍ عَبْدُ بَنِي بَيَاضَةَ، وَيُقَالُ حَلَقَهُ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ، وَلَمْ يَسُقْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا هَدْيًا. ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ مِنْ لَيْلَتِهِ فَكَانَ كَبَائِتٍ بِهَا، فَلَمّا رَجَعَ إلَى الْجِعِرّانَةِ خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَسَلَكَ فِي وَادِي الْجِعِرّانَةِ، وَسَلَكَ مَعَهُ حَتّى خَرَجَ عَلَى سَرِفَ، ثُمّ أَخَذَ الطّرِيقَ حَتّى انْتَهَى إلَى مَرّ الظّهْرَانِ. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ، وَخَلّفَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يُعَلّمَانِ النّاسَ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ فِي الدّينِ. وَقَالَ لَهُ: أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسْتَعْمِلُك؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: اسْتَعْمَلْتُك عَلَى أَهْلِ اللهِ، بَلّغْ عَنّي أَرْبَعًا: لَا يَصْلُحُ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا بَيْعٌ وَسَلَفٌ، وَلَا بَيْعٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ، ولا تأكل ربح ما ليس عندك! وأقام لِلنّاسِ الْحَجّ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ تِلْكَ السّنَةَ- وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ- بِغَيْرِ تَأْمِيرٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَجّ، ولكنه أمير مكّة، وحجّ
قدوم عروة بن مسعود
نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى مُدّتِهِمْ، وَيُقَالُ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْحَجّ. وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. قُدُومُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالُوا: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَ حَاصَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطّائِفِ بجرش، يَتَعَلّمُ عَمَلَ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقِ، ثُمّ رَجَعَ إلَى الطّائِفِ بَعْدَ أَنْ وَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَمِلَ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقَ وَالْعَرّادَاتِ [ (1) ] وَأَعَدّ ذَلِكَ حَتّى قَذَفَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامَ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اِيذَنْ لِي فَآتِيَ قَوْمِي فأدعوهم إلى الإسلام، فو الله مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الدّينِ ذَهَبَ عَنْهُ ذَاهِبٌ، فَأَقْدَمُ عَلَى أَصْحَابِي وَقَوْمِي بِخَيْرِ قَادِمٍ، وَمَا قَدِمَ وَافِدٌ قَطّ عَلَى قَوْمِهِ إلّا مَنْ قَدِمَ بِمِثْلِ مَا قَدِمْت بِهِ، وَقَدْ سَبَقْت يَا رَسُولَ اللهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّهُمْ إذًا قَاتِلُوك! قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَأَنَا أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِ أَوْلَادِهِمْ. ثُمّ اسْتَأْذَنَهُ الثّانِيَةَ فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ الْأَوّلَ، وَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم إذًا قَاتِلُوك. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ وَجَدُونِي نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي. وَاسْتَأْذَنَهُ الثّالِثَةَ فَقَالَ: إنْ شِئْت فَاخْرُجْ! فَخَرَجَ إلَى الطّائِفِ فَسَارَ إلَيْهَا خَمْسًا، فَقَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ عِشَاءً فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَأَنْكَرَ قَوْمُهُ دُخُولَهُ مَنْزِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الرّبّةَ [ (2) ] : ثُمّ قَالُوا: السّفَرُ قَدْ حَصَرَهُ [ (3) ] . فجاءوا
مَنْزِلَهُ فَحَيّوْهُ تَحِيّةَ الشّرْكِ، فَكَانَ أَوّلَ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَحِيّةُ الشّرْكِ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَنّةِ. ثُمّ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: يَا قَوْمِ، أَتَتّهِمُونَنِي؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنّي أَوْسَطُكُمْ نَسَبًا، وَأَكْثَرُكُمْ مَالًا، وَأَعَزّكُمْ نَفَرًا؟ فَمَا حَمَلَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ إلّا أَنّي رَأَيْت أَمْرًا لَا يَذْهَبُ عَنْهُ ذَاهِبٌ! فَاقْبَلُوا نُصْحِي، وَلَا تَسْتَعْصُونِي، فو الله مَا قَدِمَ وَافِدٌ عَلَى قَوْمٍ بِأَفْضَلَ مِمّا قَدِمْت بِهِ عَلَيْكُمْ! فَاتّهَمُوهُ، وَاسْتَغَشّوهُ، وَقَالُوا: قَدْ وَاللّاتِ وَقَعَ فِي أَنْفُسِنَا حَيْثُ لَمْ تَقْرَبْ الرّبّةَ، وَلَمْ تَحْلِقْ رَأْسَك عِنْدَهَا أَنّك قَدْ صَبَوْت [ (1) ] ! فَآذَوْهُ، وَنَالُوا مِنْهُ، وَحَلُمَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ يَأْتَمِرُونَ كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِهِ، حَتّى إذا طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْفَى عَلَى غُرْفَةٍ لَهُ فَأَذّنَ بِالصّلَاةِ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ رَهْطِهِ مِنْ الْأَحْلَافِ يُقَالُ لَهُ وَهْبُ بْنُ جَابِرٍ- وَيُقَالُ: رَمَاهُ أَوْسُ بْنُ عَوْفٍ مِنْ بَنِي مَالِكٍ، وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا- وَكَانَ عُرْوَةُ رَجُلًا مِنْ الْأَحْلَافِ، فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ [ (2) ] فَلَمْ يَرْقَأْ دَمُهُ [ (3) ] . وَحُشِدَ قَوْمُهُ فِي السّلَاحِ، وَجُمِعَ الْآخَرُونَ وَتَجَايَشُوا، فَلَمّا رَأَى عُرْوَةُ مَا يَصْنَعُونَ قَالَ: لَا تَقْتَتِلُوا فِيّ، فَإِنّي قَدْ تَصَدّقْت بِدَمِي عَلَى صَاحِبِهِ لِيُصْلِحَ بِذَلِكَ بَيْنَكُمْ، فَهِيَ كَرَامَةُ اللهِ أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا، الشّهَادَةُ سَاقَهَا اللهُ إلَيّ، أَشْهَدُ أَنّ محمّدا رسول الله، خبّرنى عنكم هذا أَنّكُمْ تَقْتُلُونَنِي! ثُمّ قَالَ لِرَهْطِهِ: ادْفِنُونِي مَعَ الشّهَدَاءِ الّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ. قَالَ: فَدَفَنُوهُ مَعَهُمْ. وَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلُهُ فَقَالَ: مَثَلُ عُرْوَةَ مَثَلُ صَاحِبِ يَاسِينَ، دَعَا قَوْمَهُ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ فَقَتَلُوه. وَيُقَالُ: إنّ عُرْوَةَ لَمْ يَقْدَمْ الْمَدِينَةَ. وَإِنّمَا لَحِقَ رَسُولَ اللهِ صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ ثُمّ انْصَرَفَ، وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. فَلَمّا قُتِلَ عُرْوَةُ، قَالَ ابْنُهُ أَبُو مُلَيْحٍ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ أَخِيهِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ لِأَهْلِ الطّائِفِ: لَا نُجَامِعُكُمْ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، وَقَدْ قَتَلْتُمْ عُرْوَةَ. ثُمّ لَحِقَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَلّيَا مَنْ شِئْتُمَا. قَالَا: نَتَوَلّى اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَخَالُكُمَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب، حَالِفَاهُ. فَفَعَلَا، وَنَزَلَا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَقَامَا بِالْمَدِينَةِ حَتّى قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ. قَالُوا: وَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ أَحَدَ بَنِي عِلَاجٍ، وَكَانَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ، وَأَنْكَرِهِمْ [ (1) ] ، وكان مهاجرا لعبد يا ليل بن عمرو، وتمشّى إلى عبد يا ليل ظُهْرًا حَتّى دَخَلَ دَارَهُ، ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِ: إنّ عَمْرًا يَقُولُ: اُخْرُجْ إلَيّ! فَلَمّا جَاءَ الرسول إلى عبد يا ليل قَالَ: وَيْحَك! عَمْرٌو أَرْسَلَك؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهُوَ واقف فى الدار. وكان عبد يا ليل يُحِبّ صُلْحَهُ وَيَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ إلَيْهِ، فَقَالَ عبد يا ليل: إنّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا كُنْت أَظُنّهُ بِعَمْرٍو، وَمَا هُوَ إلّا عَنْ أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ وَكَانَ أَمْرًا سُوءًا، مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ناحية محمّد. فخرج إليه عبد يا ليل، فَلَمّا رَآهُ رَحّبَ بِهِ، فَقَالَ عَمْرٌو: قَدْ نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَتْ مَعَهُ هِجْرَةٌ، إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ مَا قَدْ رَأَيْت، وَقَدْ أَسْلَمَتْ الْعَرَبُ كُلّهَا وَلَيْسَتْ لَكُمْ بِهِمْ طَاقَةٌ، وَإِنّمَا نَحْنُ فِي حِصْنِنَا هذا، ما بقاؤنا فيه وهذه أَطْرَافُنَا تُصَابُ! وَلَا نَأْمَنُ مِنْ أَحَدٍ مِنّا يَخْرُجُ شِبْرًا وَاحِدًا مِنْ حِصْنِنَا هَذَا، فَانْظُرُوا فى أمركم! قال عبد يا ليل: قد والله رأيت
مَا رَأَيْت، فَمَا اسْتَطَعْت أَنْ أَتَقَدّمَ بِاَلّذِي تَقَدّمْت بِهِ، وَإِنّ الْحَزْمَ وَالرّأْيَ الّذِي فِي يَدَيْك. قَالَ: فَائْتَمَرَتْ ثَقِيفٌ بَيْنَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ أَنّهُ لَا يَأْمَنُ لَكُمْ سِرْبٌ [ (1) ] ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلّا اُقْتُطِعَ؟ فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يُرْسِلُوا رَسُولًا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا خَرَجَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم. قال: فابعثوا رأسكم عبد يا ليل. فكلّموا عبد يا ليل بْنَ عَمْرِو بْنِ حَبِيبٍ، وَكَانَ سِنّ [ (2) ] عُرْوَةَ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ، وَخَشِيَ إنْ رَجَعَ إلَى قَوْمِهِ مُسْلِمًا أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إذَا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صُنِعَ بِعُرْوَةَ حَتّى يَبْعَثُوا مَعَهُ رِجَالًا. فَأَجْمَعُوا عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَحْلَافِ وَثَلَاثَةٍ مِنْ بنى مالك، فبعثوا مع عبد يا ليل الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبٍ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتّبٍ، وَهَؤُلَاءِ الْأَحْلَافُ رَهْطُ عُرْوَةَ. وَبَعَثُوا فِي بَنِي مَالِكٍ: عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَأَوْسَ بْنَ عَوْفٍ، وَنُمَيْرَ بْنَ خَرَشَةَ، سِتّةٌ. وَيُقَالُ: إنّ الوفد كانوا بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فِيهِمْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الله. قالوا: فخرج بهم عبد يا ليل وَهُوَ رَأْسُهُمْ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ، وَلَكِنّهُ أَحَبّ إنْ رَجَعُوا أَنْ يُسَهّلَ كُلّ رَجُلٍ رَهْطَهُ، فَلَمّا كَانُوا بِوَادِي قَنَاةَ مِمّا يَلِي دَارَ حُرُضٍ [ (3) ] نَزَلُوا، فَيَجِدُونَ نَشَرًا [ (4) ] مِنْ الْإِبِلِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَوْ سَأَلْنَا صَاحِبَ الْإِبِلِ لِمَنْ الْإِبِلُ، وَخَبّرَنَا مِنْ خَبَرِ مُحَمّدٍ. فَبَعَثُوا عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، فَإِذَا هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَرْعَى فِي نَوْبَتِهِ رِكَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ رِعْيَتُهَا نُوَبًا عَلَى أصحاب رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا رَآهُمْ سَلّمَ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ الرّكَابَ عِنْدَهُمْ، وَخَرَجَ يَشْتَدّ، يُبَشّرُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِهِمْ، حَتّى انْتَهَى إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَيَلْقَى أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ قَوْمِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَقَسَمْت بِاَللهِ عَلَيْك لَا تَسْبِقْنِي إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِهِمْ حَتّى أَكُونَ أَنَا أُخْبِرُهُ- وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذَكَرَهُمْ بِبَعْضِ الذّكْرِ- فَأُبَشّرُهُ بِمَقْدَمِهِمْ. فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ وَالْمُغِيرَةُ عَلَى الْبَابِ، ثُمّ خَرَجَ إلَى الْمُغِيرَةِ فَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَسْرُورٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ قَدِمَ قَوْمِي يُرِيدُونَ الدّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنْ تَشْرُطَ لَهُمْ شُرُوطًا، وَيَكْتُبُونَ كِتَابًا عَلَى مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَبِلَادِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَسْأَلُونَ شَرْطًا وَلَا كِتَابًا أَعْطَيْته أَحَدًا مِنْ النّاسِ إلّا أَعْطَيْتهمْ، فَبَشّرْهُمْ! فَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ رَاجِعًا فَخَبّرَهُمْ مَا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَشّرَهُمْ وَعَلّمَهُمْ كَيْفَ يُحَيّونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلّ مَا أَمَرَهُمْ الْمُغِيرَةُ فَعَلُوا إلّا التّحِيّةَ، فَإِنّهُمْ قَالُوا: أَنْعِمْ صَبَاحًا! وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ فَقَالَ النّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الْأَرْضَ لَا يُنَجّسُهَا شَيْءٌ! وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُنْزِلُ قَوْمِي عَلَيّ، وَأُكْرِمُهُمْ، فَإِنّي حَدِيثُ الْجُرْمِ فِيهِمْ. فَقَالَ: لَا آمَنُك أَنْ تُكْرِمَ قَوْمَك. وَكَانَ جُرْمُ الْمُغِيرَةِ أَنّهُ خَرَجَ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَالِكٍ، فَقَدِمُوا عَلَى الْمُقَوْقَسِ فَحَيّا بَنِي مَالِكٍ وَجَفَاهُ وَهُوَ مِنْ الْأَحْلَافِ، وَكَانَ مَعَهُ رَجُلَانِ الشّرِيدُ وَدَمّونُ، فَلَمّا كَانُوا بِسَبَاقٍ [ (1) ] وَضَعُوا شَرَابًا لَهُمْ فَسَقَاهُمْ المغيرة بيده،
فَجَعَلَ يُخَفّفُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَنْزِعُ [ (1) ] لِبَنِي مَالِكٍ حَتّى ثَمِلُوا وَنَامُوا، فَلَمّا نَامُوا وَثَبَ إلَيْهِمْ لِيَقْتُلَهُمْ، فَشَرَدَ الشّرِيدُ مِنْهُمْ لَيْلَتَئِذٍ، وَفَرِقَ دَمّونُ أَنْ يَكُونَ هَذَا سُكْرًا مِنْهُ فَتَغَيّبَ، فَجَعَلَ يَصِيحُ: يَا دَمّونُ! يَا دَمّونُ! فَلَا دَمّونُ، فَجَعَلَ يَبْكِي، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ بَعْضُهُمْ، فَطَلَعَ دَمّونُ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت؟ قَالَ: تَغَيّبْت حِينَ رَأَيْتُك صَنَعْت بِبَنِي مَالِكٍ مَا صَنَعْت، فَخَشِيت أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَهَابَ عَقْلٍ. قَالَ: إنّمَا صَنَعْت ذَلِكَ بِهِمْ لَمّا حَيّاهُمْ الْمُقَوْقَسُ وَجَفَانِي. ثُمّ أَقْبَلَ بِأَمْوَالِهِمْ حَتّى أَتَى بِهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُخْمُسْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَسْنَا نَغْدِرُ، وَلَا يَنْبَغِي لَنَا الْغَدْرُ! فَأَبَى أَنْ يَخْمُسَ أَمْوَالَهُمْ. وَأَنْزَلَ الْمُغِيرَةُ ثَقِيفًا فِي دَارِهِ بِالْبَقِيعِ، وَهِيَ خُطّةٌ خَطّهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، فَأَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْمَاتٍ ثَلَاثٍ مِنْ جَرِيدٍ فَضُرِبَتْ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانُوا يَسْمَعُونَ الْقِرَاءَةَ بِاللّيْلِ وَتَهَجّدَ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْظُرُونَ إلَى الصّفُوفِ فِي الصّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَيَرْجِعُونَ إلَى مَنْزِلِ الْمُغِيرَةِ فَيُطْعَمُونَ ويتوضّأون، وَيَكُونُونَ فِيهِ مَا أَرَادُوا، وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ إلَى الْمَسْجِدِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْرِي لَهُمْ الضّيَافَةَ فِي دَارِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانُوا [ (2) ] يَسْمَعُونَ خُطْبَةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَسْمَعُونَهُ يَذْكُرُ نَفْسَهُ، فَقَالُوا: أَمَرَنَا بِالتّشَهّدِ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ وَلَا يَشْهَدُ بِهِ فِي خُطْبَتِهِ! فَلَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ قَالَ: أَنَا أَوّلُ
مَنْ شَهِدَ أَنّي رَسُولُ اللهِ! ثُمّ قَامَ [ (1) ] فَخَطَبَ وَشَهِدَ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ فِي خُطْبَتِهِ. فَمَكَثُوا عَلَى هَذَا أَيّامًا يَغْدُونَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّ يَوْمٍ، يُخَلّفُونَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ عَلَى رِحَالِهِمْ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ، فَكَانَ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِ وَنَامُوا بِالْهَاجِرَةِ خَرَجَ فَعَمَدَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الدّينِ وَاسْتَقْرَأَهُ الْقُرْآنَ، وَأَسْلَمَ سِرّا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَاخْتَلَفَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا حَتّى فَقِهَ، وَسَمِعَ الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ مِنْ الْقُرْآنِ سُوَرًا مِنْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نَائِمًا عَمَدَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ وَاسْتَقْرَأَهُ- وَيُقَالُ: إذَا وَجَدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمًا جَاءَ إلَى أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ فَاسْتَقْرَأَهُ- فَبَايَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْوَفْدِ وَقَبْلَ الْقَضِيّةِ، وَكَتَمَ ذَلِكَ عُثْمَانُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وأعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِهِ، وَأَحَبّهُ. فَمَكَثَ الْوَفْدُ أَيّامًا يَخْتَلِفُونَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنّبِيّ يَدْعُوهُمْ إلى الإسلام، فقال له عبد يا ليل: هَلْ أَنْتَ مُقَاضِينَا حَتّى نَرْجِعَ إلَى أَهْلِنَا وَقَوْمِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ إنْ أَنْتُمْ أَقْرَرْتُمْ بِالْإِسْلَامِ قَاضَيْتُكُمْ، وَإِلّا فَلَا قَضِيّةَ وَلَا صُلْحَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ! قال عبد يا ليل: أَرَأَيْت الزّنَا؟ فَإِنّا قَوْمٌ عُزّابٌ بِغَرْبٍ [ (2) ] ، لَا بُدّ لَنَا مِنْهُ، وَلَا يَصْبِرُ أَحَدُنَا عَلَى الْعُزْبَةِ. قَالَ: هُوَ مِمّا حَرّمَ اللهُ عَلَى المسلمين، يقول الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [ (3) ] . قَالَ: أَرَأَيْت الرّبَا؟ قَالَ: الرّبَا حَرَامٌ! قَالَ: فَإِنّ أَمْوَالَنَا كلّها ربا. قال:
لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ (1) ] . قَالَ: أَفَرَأَيْت الْخَمْرَ؟ فَإِنّهَا عَصِيرُ أَعْنَابِنَا، لَا بُدّ لَنَا مِنْهَا. قَالَ: فَإِنّ اللهَ قَدْ حَرّمَهَا! ثُمّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ ... [ (2) ] الْآيَةَ. قَالَ: فَارْتَفَعَ الْقَوْمُ، وَخَلَا بَعْضُهُمْ ببعض، فقال عبد يا ليل: وَيْحَكُمْ! نَرْجِعُ إلَى قَوْمِنَا بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْخِصَالِ الثّلَاثِ! وَاَللهِ، لَا تَصْبِرُ ثَقِيفٌ عَنْ الْخَمْرِ أَبَدًا، وَلَا عَنْ الزّنَا أَبَدًا. قَالَ سُفْيَانُ ابن عَبْدِ اللهِ: أَيّهَا الرّجُلُ، إنْ يُرِدْ اللهُ بِهَا خَيْرًا تَصْبِرْ عَنْهَا! قَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ الّذِينَ مَعَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، فَصَبَرُوا وَتَرَكُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ، مَعَ أَنّا نَخَافُ هَذَا الرّجُلَ، قَدْ أَوْطَأَ الْأَرْضَ غَلَبَةً وَنَحْنُ فِي حِصْنٍ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَالْإِسْلَامُ حَوْلَنَا فَاشٍ، وَاَللهِ لَوْ قَامَ عَلَى حِصْنِنَا شَهْرًا لَمُتْنَا جُوعًا، وَمَا أَرَى إلّا الْإِسْلَامَ، وَأَنَا أَخَافُ يَوْمًا مِثْلَ يَوْمِ مَكّةَ! وَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ هُوَ الّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى كَتَبُوا الْكِتَابَ، كَانَ خَالِدٌ هُوَ الّذِي كَتَبَهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ بِالطّعَامِ، فَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهُ شَيْئًا حَتّى يَأْكُلَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى أَسْلَمُوا. قَالُوا: أَرَأَيْت الرّبّةَ، مَا تَرَى فِيهَا؟ قَالَ: هَدْمَهَا. قَالُوا: هَيْهَاتَ! لَوْ تَعْلَمُ الرّبّةُ أَنّا أَوْضَعْنَا فِي هَدْمِهَا قَتَلَتْ أَهْلَنَا. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَيْحَك يَا عَبْدَ يا ليل! إنّ الرّبّةَ حَجَرٌ لَا يَدْرِي مَنْ عَبَدَهُ ممّن لا يعبده. قال عبد يا ليل: إنّا لَمْ نَأْتِك يَا عُمَرُ! فَأَسْلَمُوا، وَكَمُلَ
الصّلْحُ، وَكَتَبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ. فَلَمّا كَمُلَ الصّلْحُ كَلّمُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ الرّبّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا يَهْدِمُهَا، فَأَبَى. قَالُوا: سَنَتَيْنِ! فَأَبَى. قَالُوا: سَنَةً! فَأَبَى. قَالُوا: شَهْرًا وَاحِدًا! فَأَبَى أَنْ يُوَقّتَ لَهُمْ وَقْتًا. وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِتَرْكِ الرّبّةِ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَالنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُرَوّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا، فَسَأَلُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ هَدْمِهَا. قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أَنَا أَبْعَثُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَهْدِمَانِهَا. وَاسْتَعْفَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْسِرُوا أَصْنَامَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَقَالَ: أَنَا آمُرُ أَصْحَابِي أَنْ يَكْسِرُوهَا. وَسَأَلُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ الصّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيه. فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، أَمّا الصّلَاةُ فَسَنُصَلّي، وَأَمّا الصّيَامُ فَسَنَصُومُ. وَتَعَلّمُوا فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ، وَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصُومُوا مَا بَقِيَ مِنْ الشّهْرِ، وَكَانَ بِلَالٌ يَأْتِيهِمْ بِفِطْرِهِمْ. وَيُخَيّلُ إلَيْهِمْ [أَنّ] الشّمْسَ لَمْ تَغِبْ فَيَقُولُونَ: مَا هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ إلّا اسْتِبَارٌ لَنَا، يَنْظُرُ كَيْفَ إسْلَامُنَا. فَيَقُولُونَ: يَا بِلَالُ، مَا غَابَتْ الشّمْسُ بَعْدُ. فَيَقُولُ بِلَالٌ: مَا جِئْتُكُمْ حَتّى أَفْطَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان الْوَفْدُ يَحْفَظُونَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعْجِيلِ فِطْرِهِ. وَكَانَ بِلَالٌ يَأْتِيهِمْ بِسَحُورِهِمْ، قَالَ: فَأَسْتُرُهُمْ مِنْ الْفَجْرِ [ (1) ] ، فَلَمّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمّرْ عَلَيْنَا رَجُلًا مِنّا يَؤُمّنَا. فَأَمّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ، لِمَا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ عُثْمَانُ: وَكَانَ آخر عهد عهده
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ اتّخِذْ مُؤَذّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا، وَإِذَا أَمَمْت قَوْمًا فَاقْدُرْهُمْ بِأَضْعَفِهِمْ، وَإِذَا صَلّيْت لِنَفْسِك فَأَنْتَ وَذَاكَ. ثُمّ خَرَجَ الْوَفْدُ عَامِدِينَ إلَى الطّائِفِ، فَلَمّا دَنَوْا مِنْ ثَقِيفٍ قال عبد يا ليل: أَنَا أَعْلَمُ النّاسِ بِثَقِيفٍ فَاكْتُمُوهَا الْقَضِيّةَ، وَخَوّفُوهُمْ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، وَأَخْبِرُوهُمْ أَنّ مُحَمّدًا سَأَلَنَا أُمُورًا عَظّمْنَاهَا فَأَبَيْنَاهَا عَلَيْهِ، يَسْأَلُنَا تَحْرِيمَ الزّنَا وَالْخَمْرِ، وَأَنْ نُبْطِلَ أَمْوَالَنَا فِي الرّبَا، وَأَنْ نَهْدِمَ الرّبّةَ. وَخَرَجَتْ ثَقِيفٌ حِينَ دَنَا الْوَفْدُ، فَلَمّا رَآهُمْ الْوَفْدُ سَارُوا الْعَنَقَ [ (1) ] وَقَطّرُوا الْإِبِلَ [ (2) ] ، وَتَغَشّوْا بِثِيَابِهِمْ كَهَيْئَةِ الْقَوْمِ قَدْ حَزِنُوا وَكَرَبُوا، فَلَمْ يَرْجِعُوا بِخَيْرٍ. فَلَمّا رَأَتْ ثَقِيفٌ مَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ حَزِنُوا وَكَرَبُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا جَاءَ وَفْدُكُمْ بِخَيْرٍ! وَدَخَلَ الْوَفْدُ، فَكَانَ أَوّلَ مَا بَدَءُوا بِهِ عَلَى اللّاتِ، فَقَالَ الْقَوْمُ حِينَ نَزَلَ الْوَفْدُ إلَيْهَا [ (3) ] ، وَكَانُوا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، فَدَخَلَ الْقَوْمُ وَهُمْ مُسْلِمُونَ فَنَظَرُوا فِيمَا خَرَجُوا يدرأون بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَالَتْ ثَقِيفٌ: كَأَنّهُمْ [ (4) ] لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهَا عَهْدٌ وَلَا بِرُؤْيَتِهَا! ثُمّ رَجَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى أَهْلِهِ، وَأَتَى رِجَالًا مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ ثَقِيفٍ فَسَأَلُوهُمْ [ (5) ] : مَاذَا رَجَعْتُمْ بِهِ؟ وَقَدْ كَانَ الْوَفْدُ قَدْ اسْتَأْذَنُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنَالُوا مِنْهُ فَرَخّصَ لَهُمْ، فَقَالُوا: جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ فَظّ غَلِيظٍ، يَأْخُذُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ، قَدْ ظَهَرَ بِالسّيْفِ، وَأَدَاخَ [ (6) ] الْعَرَبَ، وَدَانَ لَهُ النّاسُ، وَرُعِبَتْ مِنْهُ بَنُو الْأَصْفَرِ فِي حُصُونِهِمْ، وَالنّاسُ فِيهِ، إمّا رَاغِبٌ فِي دِينِهِ، وإمّا خائف من السيف،
فَعَرَضَ عَلَيْنَا أُمُورًا شَدِيدَةً أَعْظَمْنَاهَا، فَتَرَكْنَاهَا عَلَيْهِ، حَرّمَ عَلَيْنَا الزّنَا، وَالْخَمْرَ، وَالرّبَا، وَأَنْ نَهْدِمَ الرّبّةَ. فَقَالَتْ ثَقِيفٌ: لَا نَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا. فَقَالَ الْوَفْدُ: لَعَمْرِي قَدْ كَرِهْنَا ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَاهُ، ورأينا أنّه لَمْ يُنْصِفْنَا، فَأَصْلِحُوا سِلَاحَكُمْ، وَرُمّوا حِصْنَكُمْ، وَانْصِبُوا الْعَرّادَاتِ عَلَيْهِ وَالْمَنْجَنِيقَ، وَأَدْخِلُوا طَعَامَ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ فِي حِصْنِكُمْ، لَا يُحَاصِرُكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَاحْفِرُوا خَنْدَقًا مِنْ وَرَاءِ حِصْنِكُمْ، وَعَاجِلُوا ذَلِكَ فَإِنّ أَمْرَهُ قَدْ ظَلّ لَا نَأْمَنُهُ. فَمَكَثُوا بِذَلِكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ يُرِيدُونَ الْقِتَالَ، ثُمّ أَدْخَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ فَقَالُوا: مَا لَنَا بِهِ طَاقَةٌ، قَدْ أَدَاخَ الْعَرَبَ كُلّهَا، فَارْجِعُوا إلَيْهِ فَأَعْطُوهُ مَا سَأَلَ وَصَالِحُوهُ، وَاكْتُبُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَيْنَا وَيَبْعَثَ الْجُيُوشَ. فَلَمّا رَأَى الْوَفْدُ أَنْ قَدْ سَلّمُوا بِالْقَضِيّةِ، وَرُعِبُوا مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَاخْتَارُوا الْأَمْنَ عَلَى الْخَوْفِ، قَالَ الْوَفْدُ: فإنّا قَدْ قَاضَيْنَاهُ، وَأَعْطَانَا مَا أَحْبَبْنَاهُ، وَشَرَطَ لَنَا مَا أَرَدْنَا، وَوَجَدْنَاهُ أَتْقَى النّاسِ، وَأَبَرّ النّاسِ، وَأَوْصَلَ النّاسِ، وَأَوْفَى النّاسِ، وَأَصْدَقَ النّاسِ، وَأَرْحَمَ النّاسِ، وَقَدْ تَرَكَنَا مِنْ هَدْمِ الرّبّةِ وَأَبَيْنَا أَنْ نَهْدِمَهَا، وَقَالَ: «أَبْعَثُ مَنْ يَهْدِمُهَا» ، وَهُوَ يَبْعَثُ مَنْ يَهْدِمُهَا. قَالَ: يَقُولُ شَيْخٌ مِنْ ثَقِيفٍ قَدْ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الشّرْكِ بَعْدُ بَقِيّةٌ: فَذَاكَ وَاَللهِ مِصْدَاقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، إنْ قَدَرَ عَلَى هَدْمِهَا فَهُوَ مُحِقّ وَنَحْنُ مُبْطِلُونَ، وَإِنْ امْتَنَعَتْ فَفِي النّفْسِ مِنْ هَذَا بَعْدُ شَيْءٌ! فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْعَاصِ: مَنّتْك نَفْسُك الْبَاطِلَ وَغَرّتْك الْغُرُورَ! وَمَا الرّبّةُ؟ وَمَا تَدْرِي الرّبّةُ مَنْ عَبَدَهَا وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا؟ كَمَا كَانَتْ الْعُزّى مَا تَدْرِي مَنْ عَبَدَهَا وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا، جَاءَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَحْدَهُ فَهَدَمَهَا، وَكَذَلِك إِسَافُ، وَنَائِلَةُ، وَهُبَلُ، وَمَنَاةُ، خَرَجَ إلَيْهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَهَدَمَهَا، وَسُوَاعٌ، خَرَجَ إلَيْهِ رَجُلٌ
وَاحِدٌ فَهَدَمَهُ! فَهَلْ امْتَنَعَ شَيْءٌ مِنْهُمْ؟ قال الثقفي: إن الربة لا تشبه شيئا مما ذكرت. قال عثمان: سترى! وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمّ خَرَجُوا وَقَدْ تَحَكّمَ أَبُو مُلَيْحٍ بْنُ عُرْوَةَ، وَقَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَهُمَا يُرِيدَانِ يَسِيرَانِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْمُغِيرَةِ إلَى هَدْمِ الرّبّةِ، فَقَالَ أَبُو مُلَيْحٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَبِي قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مِائَتَا مِثْقَالِ ذَهَبٍ، فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تَقْضِيَهُ مِنْ حُلِيّ الرّبّةِ فَعَلْت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ. فَقَالَ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَعَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ أَبِي، فَإِنّهُ قَدْ تَرَكَ دَيْنًا مِثْلَ دَيْنِ عُرْوَةَ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الْأَسْوَدَ مَاتَ وَهُوَ كَافِرٌ. فَقَالَ قَارِبٌ: تَصِلُ بِهِ قَرَابَةً، إنّمَا الدّيْنُ عَلَيّ وَأَنَا مَطْلُوبٌ بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذًا أَفْعَلُ. فَقَضَى عَنْ عُرْوَةَ، وَالْأَسْوَدِ، دَيْنَهُمَا مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ. وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ وَأَصْحَابُهُمَا لِهَدْمِ الرّبّةِ، فَلَمّا دَنَوْا مِنْ الطّائِفِ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: تَقَدّمْ فَادْخُلْ لِأَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: بَلْ تَقَدّمْ أَنْتَ عَلَى قَوْمِك! فَتَقَدّمَ الْمُغِيرَةُ، وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَالِهِ ذِي الْهَرْمِ [ (1) ] ، وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا يَهْدِمُونَ الرّبّةَ. فَلَمّا نَزَلُوا بِالطّائِفِ نَزَلُوا عِشَاءً فَبَاتُوا، ثُمّ غَدَوْا عَلَى الرّبّةِ يَهْدِمُونَهَا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِأَصْحَابِهِ الّذِينَ قَدِمُوا مَعَهُ: لَأُضْحِكَنّكُمْ الْيَوْمَ مِنْ ثَقِيفٍ. فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَاسْتَوَى عَلَى رَأْسِ الرّبّةِ وَمَعَهُ الْمِعْوَلُ، وَقَامَ وَقَامَ قَوْمُهُ بَنُو مُعَتّبٍ دُونَهُ، مَعَهُمْ السّلَاحُ مَخَافَةَ أَنْ يُصَابَ كَمَا فُعِلَ بِعَمّهِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ. وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: كَلّا! زَعَمْت تُقَدّمُنِي أَنْتَ إلَى الطّاغِيَةِ، تُرَانِي لَوْ قُمْت أهدمها كانت بنو معتّب تقوم
دُونِي؟ قَالَ الْمُغِيرَةُ: إنّ الْقَوْمَ قَدْ وَاضَعُوهُمْ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَقْدَمَ، فَأَحَبّوا الْأَمْنَ عَلَى الْخَوْفِ. وَقَدْ خَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسّرًا [ (1) ] يَبْكِينَ عَلَى الطّاغِيَةِ، وَالْعَبِيدُ، وَالصّبْيَانُ، وَالرّجَالُ مُنْكَشِفُونَ، وَالْأَبْكَارُ خَرَجْنَ. فَلَمّا ضَرَبَ الْمُغِيرَةُ ضَرْبَةً بِالْمِعْوَلِ سَقَطَ مَغْشِيّا عَلَيْهِ يَرْتَكِضُ، فَصَاحَ أَهْلُ الطّائِفِ صَيْحَةً وَاحِدَةً: كَلّا! زَعَمْتُمْ أَنّ الرّبّةَ لَا تَمْتَنِعُ، بَلَى وَاَللهِ لَتَمْتَنِعَنّ! وَأَقَامَ الْمُغِيرَةُ مَلِيّا وَهُوَ عَلَى حَالِهِ تِلْكَ، ثُمّ اسْتَوَى جَالِسًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ، كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ: مَا مِنْ حَيّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَعْقَلُ مِنْ ثَقِيفٍ، وَمَا مِنْ حَيّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَحْمَقُ مِنْكُمْ! وَيْحَكُمْ، وَمَا اللّاتُ وَالْعُزّى، وَمَا الرّبّةُ؟ حَجَرٌ مِثْلُ هَذَا الْحَجَرِ، لَا يَدْرِي من عبده ومن لم يعبده! ويحكم، أتسع اللّاتُ أَوْ تُبْصِرُ أَوْ تَنْفَعُ أَوْ تَضُرّ؟ ثُمّ هَدَمَهَا وَهَدَمَ النّاسُ مَعَهُ، فَجَعَلَ السّادِنُ يَقُولُ- وَكَانَتْ سَدَنَةَ اللّاتِ مِنْ ثَقِيفٍ بَنُو الْعِجْلَانِ بْنِ عَتّابِ بْنِ مَالِكٍ، وَصَاحِبُهَا مِنْهُمْ عَتّابُ بْنُ مَالِكِ بْنِ كَعْبٍ ثُمّ بَنُوهُ بَعْدَهُ- يَقُولُ: سَتَرَوْنَ إذَا انْتَهَى إلَى أَسَاسِهَا، يَغْضَبُ الْأَسَاسُ غَضَبًا يَخْسِفُ بِهِمْ. فَلَمّا سَمِعَ بِذَلِكَ الْمُغِيرَةُ وَلِيَ حَفْرَ الْأَسَاسِ حَتّى بَلَغَ نِصْفَ قَامَةٍ، وَانْتَهَى إلَى الْغَبْغَبِ خِزَانَتِهَا، وَانْتَزَعُوا حِلْيَتَهَا وَكُسْوَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ طِيبٍ وَمِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضّةٍ. قَالَ: تَقُولُ عَجُوزٌ مِنْهُمْ: أَسْلَمَهَا الرّضّاعُ [ (2) ] ، وَتَرَكُوا الْمِصَاعَ [ (3) ] ! وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمّا وَجَدَ فِيهَا أَبَا مُلَيْحٍ، وَقَارِبًا، وَنَاسًا، وَجَعَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَفِي السّلَاحِ مِنْهَا، ثُمّ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِثَقِيفٍ:
بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم المصدقين
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ النّبِيّ رَسُولِ اللهِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ، إنّ عِضَاهَ وَجّ [ (1) ] وَصَيْدَهُ لَا يُعْضَدُ، وَمَنْ وُجِدَ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُجْلَدُ وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ، فَإِنْ تَعَدّى ذَلِكَ فَإِنّهُ يُؤْخَذُ فَيُبَلّغُ مُحَمّدًا، فَإِنّ هَذَا أَمْرُ النّبِيّ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم. وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِأَمْرِ النّبِيّ الرّسُولِ مُحَمّدِ ابن عَبْدِ اللهِ. فَلَا يَتَعَدّاهُ أَحَدٌ، فَيَظْلِمَ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَهَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَطْعِ عِضَاهِ وَجّ وَعَنْ صَيْدِهِ، وَكَانَ الرّجُلُ يُوجَدُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ. وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَى وَجّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ. بَعْثَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَدّقِينَ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، وَعَبْدِ اللهِ ابن يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَا: لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَقَامَ بَقِيّةَ ذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجّةِ، فَلَمّا رَأَى هِلَالَ الْمُحَرّمِ بَعَثَ الْمُصَدّقِينَ، فَبَعَثَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ إلَى أَسْلَمَ وَغِفَارٍ بِصَدَقَتِهِمْ، وَيُقَالُ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَبَعَثَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ الْأَشْهَلِيّ إلَى سُلَيْمٍ وَمُزَيْنَةَ، وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مَكِيثٍ فِي جُهَيْنَةَ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى فَزَارَةَ، وَبَعَثَ الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ إلَى بَنِي كِلَابٍ، وَبَعَثَ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ الْكَعْبِيّ إلَى بَنِي كَعْبٍ، وَبَعَثَ ابْنَ اللّتْبِيّةِ الْأَزْدِيّ إلَى بَنِي ذُبْيَانَ، وَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ هُذَيْمٍ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ. فَخَرَجَ بُسْرُ بْنُ سفيان على صدقات بن كَعْبٍ. وَيُقَالُ: إنّمَا سَعَى عَلَيْهِمْ نُعَيْمُ بْنُ عبد الله
النّحّامُ الْعَدَوِيّ، فَجَاءَ وَقَدْ حَلّ بِنَوَاحِيهِمْ بَنُو جهيم من بنى تميم، وبنو عمرو ابن جُنْدُبِ بْنِ الْعُتَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، فَهُمْ يَشْرَبُونَ مَعَهُمْ عَلَى غَدِيرٍ لَهُمْ بِذَاتِ الْأَشْطَاطِ [ (1) ] ، وَيُقَالُ: وَجَدَهُمْ عَلَى عُسْفَانَ. ثُمّ أَمَرَ بِجَمْعِ مَوَاشِي خُزَاعَةَ لِيَأْخُذَ مِنْهَا الصّدَقَةَ. قَالَ: فَحَشَرَتْ خُزَاعَةُ الصّدَقَةَ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، فَاسْتَنْكَرَتْ ذَلِكَ بَنُو تَمِيمٍ وَقَالُوا: مَا هَذَا؟ تُؤْخَذُ أَمْوَالُكُمْ مِنْكُمْ بِالْبَاطِلِ [ (2) ] ! وَتَجَيّشُوا، وَتَقَلّدُوا الْقِسِيّ، وَشَهَرُوا السّيُوفَ، فَقَالَ الْخُزَاعِيّونَ: نَحْنُ قَوْمٌ نَدِينُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مِنْ دِينِنَا. قَالَ التّمِيمِيّونَ: وَاَللهِ لَا يَصِلُ إلَى بَعِيرٍ مِنْهَا أَبَدًا! فَلَمّا رَآهُمْ الْمُصَدّقُ هَرَبَ مِنْهُمْ وَانْطَلَقَ مُوَلّيًا وَهُوَ يَخَافُهُمْ، وَالْإِسْلَامُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَعُمّ الْعَرَبَ، قَدْ بَقِيَتْ بَقَايَا مِنْ الْعَرَبِ وَهُمْ يَخَافُونَ السّيْفَ لِمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ وَحُنَيْنٍ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ مُصَدّقِيهِ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَفْوَ مِنْهُمْ وَيَتَوَقّوْا كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، فَقَدِمَ الْمُصَدّقُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّمَا كُنْت فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، فَوَثَبَتْ خُزَاعَةُ عَلَى التّمِيمِيّينَ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَحَالّهِمْ، وَقَالُوا: لَوْلَا قَرَابَتُكُمْ مَا وَصَلْتُمْ إلَى بِلَادِكُمْ، لَيَدْخُلَنّ عَلَيْنَا بَلَاءٌ مِنْ عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَنْفُسِكُمْ حَيْثُ تَعْرِضُونَ لِرُسُلِ [ (3) ] رَسُولِ اللهِ، تَرُدّونَهُمْ عَنْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِنَا. فَخَرَجُوا رَاجِعِينَ إلَى بِلَادِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الّذِينَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا؟ فَانْتَدَبَ أَوّلُ النّاسِ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ، فَقَالَ: أَنَا وَاَللهِ لَهُمْ، أَتْبَعُ آثارهم ولو بلغوا يبرين [ (4) ] حتى
آتِيَك بِهِمْ إنْ شَاءَ اللهُ، فَتَرَى فِيهِمْ رَأْيَك أَوْ يُسْلِمُوا. فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ الْعَرَبِ، لَيْسَ فِيهَا مُهَاجِرٌ وَاحِدٌ وَلَا أَنْصَارِيّ، فَكَانَ يَسِيرُ بِاللّيْلِ وَيَكْمُنُ لَهُمْ بِالنّهَارِ، خَرَجَ عَلَى رَكُوبَةٍ [ (1) ] حَتّى انْتَهَى إلَى الْعَرْجِ، فَوَجَدَ خَبَرَهُمْ أَنّهُمْ قَدْ عَارَضُوا إلَى أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ حَتّى وَجَدَهُمْ قَدْ عَدَلُوا مِنْ السّقْيَا يَؤُمّونَ أَرْضَ بَنِي سُلَيْمٍ فِي صَحْرَاءَ، قَدْ حَلّوا وَسَرّحُوا مَوَاشِيَهُمْ، وَالْبُيُوتُ خُلُوفٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إلّا النّسَاءُ وَنُفَيْرٌ، فَلَمّا رَأَوْا الْجَمْعَ وَلّوْا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَوَجَدُوا فِي الْمَحَلّةِ مِنْ النّسَاءِ إحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ صَبِيّا، فَحَمَلَهُمْ إلَى المدينة، فأمر بهم النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَحُبِسُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ. فَقَدِمَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، الْعُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ، وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُعَيْمُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، ورياح بن الحارث ابن مُجَاشِعٍ [ (2) ] ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ قَبْلَ الظّهْرِ، فَلَمّا دَخَلُوا سَأَلُوا عَنْ سَبْيِهِمْ فَأُخْبِرُوا بِهِمْ فَجَاءُوهُمْ، فَبَكَى الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ، فَرَجَعُوا حَتّى دَخَلُوا الْمَسْجِدَ ثَانِيَةً، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَقَدْ أَذّنَ بِلَالٌ بِالظّهْرِ بِالْأَذَانِ الْأَوّلِ، وَالنّاسُ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَجّلُوا خُرُوجَهُ، فَنَادَوْا: يَا مُحَمّدُ، اُخْرُجْ إلَيْنَا! فَقَامَ إلَيْهِمْ بِلَالٌ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخرج الآن. فاشتهر [ (3) ]
أَهْلُ الْمَسْجِدِ أَصْوَاتَهُمْ فَجَعَلُوا يَخْفِقُونَ [ (1) ] بِأَيْدِيهِمْ، فَخَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بِلَالٌ الصّلَاةَ، وَتَعَلّقُوا بِهِ يُكَلّمُونَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ بِلَالٍ الصّلَاةَ مَلِيّا، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَتَيْنَاك بِخَطِيبِنَا وَشَاعِرِنَا فَاسْمَعْ مِنّا. فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ مَضَى فَصَلّى بِالنّاسِ الظّهْرَ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثم خَرَجَ فَجَلَسَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَقَدِمُوا عَلَيْهِ وقدّموا عطارد ابن حَاجِبِ التّمِيمِيّ فَخَطَبَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا، وَاَلّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَأَعْطَانَا الْأَمْوَالَ نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ، وَجَعَلَنَا أَعَزّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَأَكْثَرَهُمْ مَالًا وَأَكْثَرَهُمْ عَدَدًا، فَمَنْ مِثْلُنَا فى الناس؟ ألسنا برؤوس النّاسِ وَذَوِي فَضْلِهِمْ؟ فَمَنْ يُفَاخِرُ فَلْيَعْدُدْ مِثْلَ مَا عَدَدْنَا! وَلَوْ شِئْنَا لَأَكْثَرْنَا مِنْ الْكَلَامِ، وَلَكِنّا نَسْتَحْيِي مِنْ الْإِكْثَارِ فِيمَا أَعْطَانَا اللهُ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا لِأَنْ يُؤْتَى بِقَوْلٍ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ قَوْلِنَا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: قُمْ فَأَجِبْ خَطِيبَهُمْ! فَقَامَ ثَابِتٌ- وَمَا كَانَ دَرَى مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَمَا هَيّأَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَقُولُ- فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ، قَضَى فِيهَا أَمْرَهُ، وَوَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْمُهُ، فَلَمْ يَكُ شَيْءٌ إلّا مِنْ فَضْلِهِ. ثُمّ كَانَ مِمّا قَدّرَ اللهُ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَاصْطَفَى لَنَا مِنْ خَلْقِهِ رَسُولًا، أَكْرَمَهُمْ نَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ زِيّا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا. أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ، وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَانَ خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَدَعَا إلَى الْإِيمَانِ، فَآمَنَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ، أَصْبَحُ النّاسِ وَجْهًا، وَأَفْضَلُ النّاسِ فِعَالًا. ثُمّ كُنّا أَوّلَ النّاسِ إجَابَةً حِينَ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ، نُقَاتِلُ الناس حتى
يَقُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاَللهِ وَرَسُولِهِ مُنِعَ مِنّا مَالُهُ وَدَمُهُ، وَمَنْ كَفَرَ بِاَللهِ جَاهَدْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ الله لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. ثُمّ جَلَسَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِشَاعِرِنَا. فَأَذِنَ لَهُ، فَأَقَامُوا الزّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ فَقَالَ: نَحْنُ الْمُلُوكُ فَلَا حَيّ يُقَارِبُنَا ... فِينَا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ [ (1) ] وَكَمْ قَسَرْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمُ ... عِنْدَ النّهَابِ وَفَضْلُ الْخَيْرِ يُتّبَعُ وَنَحْنُ نُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مَا أَكَلُوا ... مِنْ السّدِيفِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ الْقَزَعُ [ (2) ] وَنَنْحَرُ الْكُومَ عَبْطًا [ (3) ] فِي أَرُومَتِنَا ... لِلنّازِلِينَ إذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِبْهُمْ يَا حَسّانُ بْنَ ثَابِتٍ! فَقَامَ فَقَالَ: إنّ الذّوَائِبَ [ (4) ] مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ شَرّعُوا سُنّةً لِلنّاسِ تُتّبَعُ يَرْضَى بِهِمْ كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَبِالْأَمْرِ الّذِي شَرَعُوا قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا ضَرّوا عَدُوّهُمُ ... أَوْ حَاوَلُوا النّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا سَجِيّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إنّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرّهَا الْبِدَعُ لَا يَرْقَعُ النّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفّهُمُ ... عِنْدَ الدّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا وَلَا يَضِنّونَ عَنْ جَارٍ بِفَضْلِهِمُ ... وَلَا يَنَالُهُمُ فِي مَطْمَعٍ طَبَعُ [ (5) ] إنْ كَانَ فِي النّاسِ سَبّاقُونَ بَعْدَهُمُ ... فَكُلّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تبع
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللهِ شِيعَتُهُمْ ... إذَا تَفَرّقَتْ الْأَهْوَاءُ وَالشّيَعُ أَعِفّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفّتُهُمْ ... لَا يَطْمَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمُ طَمَعُ كَأَنّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ [ (1) ] ... أُسْدٌ بِبِيشَةَ [ (2) ] فِي أَرْسَاغِهَا [ (3) ] فَدَعُ لَا يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوّهُمُ [ (4) ] ... وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خُورٌ [ (5) ] وَلَا جُزُعُ إذَا نَصَبْنَا [ (6) ] لِحَيّ لَمْ نَدِبّ لَهُمْ ... كَمَا يَدِبّ إلَى الْوَحْشِيّةِ الذّرَعُ [ (7) ] نَسْمُو إذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ... إذَا الزّعَانِفُ [ (8) ] مِنْ أَطْرَافِهَا خَشَعُوا [ (9) ] خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتَى عَفْوًا إذَا غَضِبُوا ... وَلَا يَكُنْ هَمّك الْأَمْرَ الّذِي مَنَعُوا فَإِنّ فِي حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ ... سُمّا غَرِيضًا عَلَيْهِ الصّابُ وَالسّلَعُ [ (10) ] أَهْدَى لَهُمْ مَدْحَهُ قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ ... فِيمَا أَحَبّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ [ (11) ] وَأَنّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمُ ... إنْ جَدّ بِالنّاسِ جِدّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا [ (12) ]
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِمِنْبَرٍ، فَوُضِعَ فِي الْمَسْجِدِ يُنْشِدُ عَلَيْهِ حَسّانُ، وَقَالَ: إنّ اللهَ لَيُؤَيّدُ حَسّانَ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا دَافَعَ عَنْ نَبِيّهِ. وَسُرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَالْمُسْلِمُونَ بِمَقَامِ ثَابِتٍ وَشِعْرِ حَسّانَ. وَخَلَا الْوَفْدُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، فَقَالَ قَائِلٌ: تَعْلَمُنّ وَاَللهِ أَنّ هَذَا الرّجُلَ مُؤَيّدٌ مَصْنُوعٌ لَهُ، وَاَللهِ لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُمْ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، * وَلَهُمْ أَحْلَمُ مِنّا! وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ أَجْهَرِ النّاسِ صَوْتًا. وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيّهِ فِي رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ- التّمِيمِيّينَ- وَيُذْكَرُ أَنّهُمْ نَادَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [ (1) ] إلَى قَوْلِهِ: أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، يَعْنِي تَمِيمًا حِينَ نَادَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ ثَابِتٌ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلّم، فَرَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم السّبْيَ وَالْأَسْرَى. وَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ يَوْمَئِذٍ يَهْجُو قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ، كَانَا جَمِيعًا فِي الْوَفْدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ لَهُمْ بِجَوَائِزَ، وَكَانَ يُجِيزُ الوفد إذا قدموا عَلَيْهِ وَيُفَضّلُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيّةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى، فَلَمّا أَجَازَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ مَنْ لَمْ نُجِزْهُ؟ قَالُوا: غُلَامٌ فِي الرّحْلِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلُوهُ نُجِزْهُ! فَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ: إنّهُ غُلَامٌ لَا شَرَفَ لَهُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنْ كَانَ! فَإِنّهُ وَافِدٌ وَلَهُ حَقّ! فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ شِعْرًا يُرِيدُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ: ظَلِلْت مُفْتَرِشًا هَلْبَاك [ (2) ] تَشْتُمُنِي ... عِنْدَ الرّسُولِ فَلَمْ تَصْدُقْ وَلَمْ تصب
بعثة الوليد بن عقبة إلى بنى المصطلق
إنّا وَسُؤْدَدُنَا [ (1) ] عَوْدٌ وَسُؤْدَدُكُمْ ... مُخَلّفٌ بِمَكَانِ الْعَجْبِ وَالذّنَبِ إنْ تُبْغِضُونَا فَإِنّ الرّومَ أَصْلُكُمُ ... وَالرّومُ لَا تَمْلِكُ الْبَغْضَاءَ لِلْعَرَبِ قَالَ: حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ شَيْخٍ، أَخْبَرَهُ أَنّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي النّجّارِ قَالَتْ: أَنَا أَنْظُرُ إلَى الْوَفْدِ يَوْمَئِذٍ يَأْخُذُونَ جَوَائِزَهُمْ عِنْدَ بِلَالٍ، اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشّ. قَالَتْ: وَقَدْ رَأَيْت غُلَامًا أَعْطَاهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ، أَعْطَى خَمْسَ أَوَاقِيّ. قُلْت: وَمَا النّشّ؟ قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيّةٍ. بَعْثَةُ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَالُوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَبَنَوْا الْمَسَاجِدَ بِسَاحَاتِهِمْ. فَلَمّا خَرَجَ إلَيْهِمْ الْوَلِيدُ وَسَمِعُوا بِهِ قَدْ دَنَا مِنْهُمْ، خَرَجَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ رَجُلًا يَتَلَقّوْنَهُ بِالْجُزُرِ وَالنّعَمِ فَرَحًا بِهِ، وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا يُصَدّقُ بَعِيرًا قَطّ. وَلَا شَاةً، فَلَمّا رَآهُمْ وَلّى رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَقْرَبْهُمْ، فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ لَمّا دَنَا مِنْهُمْ لَقُوهُ. مَعَهُمْ السّلَاحُ يَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصّدَقَةِ، فَهَمّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يَغْزُوهُمْ. وَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَوْمَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ الرّكْبُ الّذِينَ لَقُوا الْوَلِيدَ، فَأَخْبَرُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، سَلْهُ هَلْ نَاطَقَنَا أَوْ كَلّمَنَا؟ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُكَلّمُهُ وَنَعْتَذِرُ، فَأَخَذَهُ الْبُرَحَاءُ فسرّى عنه، ونزل عليه:
باب شأن سرية قطبة بن عامر إلى خثعم فى صفر سنة تسع
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... [ (1) ] الْآيَةَ. فَقَرَأَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَأَخْبَرَنَا بِعُذْرِنَا وَمَا نَزَلَ فِي صَاحِبِنَا، ثُمّ قَالَ: مَنْ تُحِبّونَ أَبْعَثُ إلَيْكُمْ؟ قَالُوا: تَبْعَثُ عَلَيْنَا عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ. فَقَالَ: يَا عَبّادُ سِرْ مَعَهُمْ فَخُذْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ وَتَوَقّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ عَبّادٍ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ وَيُعَلّمُنَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ حَتّى أَنَزَلْنَاهُ فِي وَسَطِ بُيُوتِنَا، فَلَمْ يُضَيّعْ حَقّا وَلَمْ يَعْدُ بِنَا الْحَقّ. وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ عِنْدَنَا عَشْرًا، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاضِيًا. بَابُ شَأْنِ سَرِيّةِ قُطْبَةَ بْنِ عَامِرٍ إلَى خَثْعَمَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ قُطْبَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ فِي عِشْرِينَ رَجُلًا إلَى حَيّ خَثْعَمَ بِنَاحِيَةِ تَبَالَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَسِيرَ اللّيْلَ وَيَكْمُنَ النّهَارَ، وَأَنْ يُغِذّ السّيْرَ، فَخَرَجُوا فِي عَشَرَةِ أَبْعِرَةٍ يَعْتَقِبُونَ عَلَيْهَا، قَدْ غَيّبُوا السّلَاحَ، فَأَخَذُوا عَلَى الْفَتْقِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَطْنِ مَسْحَاءَ [ (2) ] ، فَأَخَذُوا رَجُلًا فَسَأَلُوهُ فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ يَصِيحُ بِالْحَاضِرِ. وَخَبَرُ هَذِهِ السّرِيّةِ داخل فى سريّة شجاع بن وهب.
سرية بنى كلاب أميرها الضحاك بن سفيان الكلابي
سَرِيّةُ بَنِي كِلَابٍ أَمِيرُهَا الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ قَالَ: حَدّثَنِي رَشِيدٌ أَبُو مَوْهُوبٍ الْكِلَابِيّ، عَنْ حَيّانَ بْنِ أَبِي سُلْمَى، وَعَنْبَسَةَ بْنِ أبى سُلْمَى، وَحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا إلَى الْقُرَطَاءِ [ (1) ] ، فِيهِمْ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْكِلَابِيّ، وَالْأَصْيَدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ قُرْطِ بْنِ عَبْدٍ، حَتّى لَقُوهُمْ بِالزّجّ [ (2) ] زَجّ لَاوَةَ، فَدَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا، فَقَاتَلُوهُمْ فَهَزَمُوهُمْ، فَلَحِقَ الْأَصْيَدُ أَبَاهُ سَلَمَةَ بْنَ قُرْطٍ، وَسَلَمَةُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ عَلَى غَدِيرِ زَجّ، فَدَعَا أَبَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ، فَسَبّهُ وَسَبّ دِينَهُ، فَضَرَبَ الْأَصْيَدُ عُرْقُوبَيْ فَرَسِهِ، فَلَمّا وَقَعَ عَلَى عُرْقُوبَيْهِ ارْتَكَزَ سَلَمَةُ عَلَى رُمْحِهِ فِي الْمَاءِ، ثُمّ اسْتَمْسَكَ بِهِ حَتّى جَاءَهُ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ ابْنُهُ. وَهَذِهِ السّرِيّةُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ تِسْعٍ. قَالَ: حَدّثَنِي رَشِيدٌ أَبُو مَوْهُوبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، وَعَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُلْمَى قَالَا: كَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم إلى حارثة بن عمرو ابن قُرَيْطٍ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَخَذُوا صَحِيفَتَهُ فَغَسَلُوهَا وَرَقَعُوا بِهَا اسْتَ دَلْوِهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا. فَقَالَتْ أُمّ حَبِيبِ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ خَالِدِ ابن عَمْرِو بْنِ قُرَيْطِ بْنِ عَبْدِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَخَاصَمَتْهُمْ فِي بَيْتٍ لَهَا فَقَالَتْ: أَيَا ابْنَ سَعِيدٍ لَا تَكُونَنّ ضُحْكَةً ... وَإِيّاكَ وَاسْتَمْرِرْ لَهُمْ بِمَرِيرِ أَيَا ابْنَ سَعِيدٍ إنّمَا الْقَوْمُ مَعْشَرٌ ... عَصَوْا مُنْذُ قَامَ الدّينُ كُلّ أَمِيرِ
شأن سرية أميرها علقمة بن مجزز المدلجى فى ربيع الآخر سنة تسع
إذَا مَا أَتَتْهُمْ آيَةٌ مِنْ مُحَمّدٍ ... مَحَوْهَا بماء البئر فهي عصير [ (1) ] قالوا: فلمّا بِالْكِتَابِ مَا فَعَلُوا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَهُمْ؟ أَذَهَبَ اللهُ بِعُقُولِهِمْ؟ فَهُمْ أَهْلُ رِعْدَةٍ. وَعَجَلَةٍ وَكَلَامٍ مُخْتَلِطٍ، وَأَهْلُ سَفَهٍ! وَكَانَ الّذِي جَاءَهُمْ بِالْكِتَابِ رَجُلٌ من عرينة يقال له: عبد الله ابن عَوْسَجَةَ، لِمُسْتَهَلّ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ تِسْعٍ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: رَأَيْت بَعْضَهُمْ عَيِيّا لَا يُبِينُ الْكَلَامَ. شَأْنُ سَرِيّةٍ أَمِيرُهَا عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزّزٍ الْمُدْلِجِيّ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ قَالَ: حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَا: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ نَاسًا من الحبشة تراءاهم [ (2) ] أَهْلُ الشّعَيْبَةِ- سَاحِلٌ بِنَاحِيَةِ مَكّةَ- فِي مَرَاكِبَ، فَبَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزّزٍ الْمُدْلِجِيّ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ حَتّى انْتَهَى إلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ فَخَاضَ إلَيْهِمْ فَهَرَبُوا مِنْهُ، ثُمّ انْصَرَفَ، فَلَمّا كَانَ بِبَعْضِ الْمَنَازِلِ اسْتَأْذَنَهُ بَعْضُ الْجَيْشِ فِي الِانْصِرَافِ حَيْثُ لَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ حُذَافَةَ السّهْمِيّ- وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ- فَنَزَلْنَا بِبَعْضِ الطّرِيقِ وَأَوْقَدَ الْقَوْمُ نَارًا يَصْطَلُونَ عَلَيْهَا وَيَصْطَنِعُونَ الطّعَامَ، فَقَالَ: عَزَمْت عَلَيْكُمْ أَلّا تَوَاثَبْتُمْ فِي هَذِهِ النّارِ! فَقَامَ بَعْضُ الْقَوْمِ فَتَحَاجَزُوا حَتّى ظَنّ أَنّهُمْ وَاثِبُونَ فِيهَا، فَقَالَ: اجْلِسُوا، إنّمَا كُنْت أَضْحَكُ مَعَكُمْ!
سرية على بن أبى طالب عليه السلام إلى الفلس في ربيع الآخر سنة تسع
فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تُطِيعُوهُ! سَرِيّةُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ إلى الفلس في ربيع الآخر سنة تسع قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي بَكْرِ بن حزم يَقُولُ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَنّاحٍ، وَهُمَا جَالِسَانِ بِالْبَقِيعِ: تَعْرِفُ سَرِيّةَ الْفَلْسِ؟ قَالَ مُوسَى: مَا سَمِعْت بِهَذِهِ السّرِيّةِ. قَالَ: فَضَحِكَ ابْنُ حَزْمٍ ثُمّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ رَجُلٍ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ وَخَمْسِينَ فَرَسًا، وَلَيْسَ فِي السّرِيّةِ إلّا أَنْصَارِيّ، فِيهَا وُجُوهُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَاجْتَنَبُوا الْخَيْلَ وَاعْتَقَبُوا عَلَى الْإِبِلِ حَتّى أَغَارُوا عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ الْعَرَبِ، وَسَأَلَ عَنْ مَحَلّةِ آلِ حَاتِمٍ [ (1) ] ثُمّ نَزَلَ عَلَيْهَا، فَشَنّوا الْغَارَةَ مَعَ الْفَجْرِ، فَسَبَوْا حَتّى ملأوا أَيْدِيَهُمْ مِنْ السّبْيِ وَالنّعَمِ وَالشّاءِ، وَهَدَمُوا الْفَلْسَ وخرّبوه، وكان صنما لطي، ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَذَكَرْت هَذِهِ السّرِيّةَ لِمُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيّ، فَقَالَ: مَا أَرَى ابْنَ حَزْمٍ زَادَ عَلَى أَنْ يَنْقُلَ مِنْ هَذِهِ السّرِيّةِ وَلَمْ يَأْتِك بِهَا. قُلْت: فَأْتِ بِهَا أَنْتَ! فَقَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى الْفَلْسِ لِيَهْدِمَهُ، فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ، لَيْسَ فِيهَا مُهَاجِرٌ وَاحِدٌ، وَمَعَهُمْ خَمْسُونَ فَرَسًا وَظَهْرًا، فَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَجَنّبُوا الْخَيْلَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَاتِ، فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ، مَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ وَلِوَاءٌ أَبْيَضُ، مَعَهُمْ القنا والسّلاح
الظّاهِرُ، وَقَدْ دَفَعَ رَايَتَهُ إلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَلِوَاءَهُ إلَى جَبّارِ بْنِ صَخْرٍ السّلَمِيّ، وَخَرَجَ بِدَلِيلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ: حُرَيْثٌ، فَسَلَكَ بِهِمْ عَلَى طَرِيقِ فَيْدٍ [ (1) ] ، فَلَمّا انْتَهَى بِهِمْ إلَى مَوْضِعٍ قَالَ: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَيّ الّذِي تُرِيدُونَ يَوْمٌ تَامّ [ (2) ] ، وَإِنْ سِرْنَاهُ بِالنّهَارِ وَطِئْنَا أَطْرَافَهُمْ وَرِعَاءَهُمْ، فَأَنْذِرُوا الْحَيّ فَتَفَرّقُوا، فَلَمْ تُصِيبُوا مِنْهُمْ حَاجَتَكُمْ، وَلَكِنْ نُقِيمُ يَوْمَنَا هَذَا فِي مَوْضِعِنَا حَتّى نُمْسِيَ، ثُمّ نَسْرِي لَيْلَتَنَا عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ فَنَجْعَلُهَا غَارَةً حَتّى نُصَبّحَهُمْ فِي عَمَايَةِ الصّبْحِ. قَالُوا: هَذَا الرّأْيُ! فَعَسْكَرُوا وَسَرّحُوا الْإِبِلَ، وَاصْطَنَعُوا، وَبَعَثُوا نَفَرًا مِنْهُمْ يَتَقَصّوْنَ مَا حَوْلَهُمْ، فَبَعَثُوا أَبَا قَتَادَةَ، وَالْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ، وَأَبَا نَائِلَةَ، فَخَرَجُوا عَلَى مُتُونِ خَيْلٍ لَهُمْ يَطُوفُونَ حَوْلَ الْمُعَسْكَرِ، فَأَصَابُوا غُلَامًا أَسْوَدَ فَقَالُوا: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَطْلُبُ بُغْيَتِي. فَأَتَوْا بِهِ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَالَ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: بَاغٍ. قَالَ: فَشُدّوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أنا غلام لرجل من طيّء مِنْ بَنِي نَبْهَانَ، أَمَرُونِي بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالُوا: إنْ رَأَيْت خَيْلَ مُحَمّدٍ فَطِرْ إلَيْنَا فَأَخْبِرْنَا، وَأَنَا لَا أُدْرِكُ أَسْرًا. فَلَمّا رَأَيْتُكُمْ أَرَدْت الذّهَابَ إلَيْهِمْ، ثُمّ قُلْت لَا أَعْجَلُ حَتّى آتِيَ أَصْحَابِي بِخَبَرٍ بَيّنٍ مِنْ عَدَدِكُمْ وَعَدَدِ خَيْلِكُمْ وَرِكَابِكُمْ، وَلَا أَخْشَى مَا أَصَابَنِي، فَلَكَأَنّي كُنْت مُقَيّدًا حَتّى أَخَذَتْنِي طَلَائِعُكُمْ. قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: اُصْدُقْنَا مَا وَرَاءَك! قَالَ: أَوَائِلُ الْحَيّ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ طَرّادَةٍ [ (3) ] ، تُصَبّحُهُمْ الْخَيْلَ وَمَغَارُهَا حِينَ غَدَوْا [ (4) ] . قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ؟ قَالَ جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ: نَرَى أَنْ نَنْطَلِقَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ لَيْلَتَنَا حتى نصبّح
الْقَوْمَ وَهُمْ غَارّونَ فَنُغِيرَ عَلَيْهِمْ، وَنَخْرُجَ بِالْعَبْدِ الْأَسْوَدِ لَيْلًا، وَنُخَلّفَ حُرَيْثًا مَعَ الْعَسْكَرِ حَتّى يَلْحَقُوا إنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ عَلِيّ: هَذَا الرّأْيُ! فَخَرَجُوا بِالْعَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَالْخَيْلُ تَعَادَا، وَهُوَ رِدْفُ بَعْضِهِمْ عُقْبَةً [ (1) ] ، ثُمّ يَنْزِلُ فَيُرْدِفُ آخَرَ عُقْبَةً، وَهُوَ مَكْتُوفٌ، فَلَمّا انْهَارَ اللّيْلُ كَذَبَ الْعَبْدُ وَقَالَ: قَدْ أَخْطَأْت الطّرِيقَ وَتَرَكْتهَا وَرَائِي. قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: فَارْجِعْ إلَى حَيْثُ أَخْطَأْت! فَرَجَعَ مِيلًا أَوْ أَكْثَرَ، ثُمّ قَالَ: أَنَا عَلَى خَطَأٍ. فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّا مِنْك عَلَى خُدْعَةٍ، مَا تُرِيدُ إلّا أَنْ تُثْنِيَنَا عَنْ الْحَيّ، قَدّمُوهُ! لِتَصْدُقْنَا أَوْ لَنَضْرِبَنّ عُنُقَك! قَالَ: فَقُدّمَ وَسُلّ السّيْفُ عَلَى رَأْسِهِ، فَلَمّا رَأَى الشّرّ قَالَ: أَرَأَيْت إنْ صَدَقْتُكُمْ، أَيَنْفَعُنِي؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنّي صَنَعْت مَا رَأَيْتُمْ، إنّهُ أَدْرَكَنِي مَا يُدْرِكُ النّاسَ مِنْ الْحَيَاءِ فَقُلْت: أَقْبَلْت بِالْقَوْمِ أَدُلّهُمْ عَلَى الْحَيّ مِنْ غَيْرِ مِحْنَةٍ وَلَا حَقّ فَآمَنُهُمْ، فَلَمّا رَأَيْت مِنْكُمْ مَا رَأَيْت وَخِفْت أَنْ تقتلوني كان لى عدر، فَأَنَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى الطّرِيقِ. قَالُوا: اُصْدُقْنَا. قَالَ: الْحَيّ مِنْكُمْ قَرِيبٌ. فَخَرَجَ مَعَهُمْ حَتّى انْتَهَى إلَى أَدْنَى الْحَيّ، فَسَمِعُوا نُبَاحَ الْكِلَابِ وَحَرَكَةَ النّعَمِ فِي الْمَرَاحِ وَالشّاءِ، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَصْرَامُ [ (2) ] وَهِيَ [عَلَى] فَرْسَخٍ. فَيَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: فَأَيْنَ آلُ حَاتِمٍ [ (3) ] ؟ قَالَ: هُمْ مُتَوَسّطُو الْأَصْرَامِ. قَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنْ أَفْزَعْنَا الْحَيّ تَصَايَحُوا وَأَفْزَعُوا بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَتَغَيّبَ عَنّا أَحْزَابُهُمْ فِي سَوَادِ اللّيْلِ، وَلَكِنْ نُمْهِلُ الْقَوْمَ حَتّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مُعْتَرِضًا فَقَدْ قَرُبَ طُلُوعُهُ فَنُغِيرُ، فَإِنْ أَنْذَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا أَيْنَ يَأْخُذُونَ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ خَيْلٌ يهربون عليها ونحن
عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ. قَالُوا: الرّأْيُ مَا أَشَرْت بِهِ. قَالَ: فَلَمّا اعْتَرَضُوا الْفَجْرَ أَغَارُوا عَلَيْهَا فَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا وَأَسَرُوا مَنْ أَسَرُوا، وَاسْتَاقُوا الذّرّيّةَ وَالنّسَاءَ، وَجَمَعُوا النّعَمَ وَالشّاءَ، وَلَمْ يَخْفَ عليهم أحد تغيّب فملأوا أيديهم. قال: تقول جارية من الحىّ وهي تَرَى الْعَبْدَ الْأَسْوَدَ- وَكَانَ اسْمُهُ. أَسْلَمَ- وَهُوَ مُوثَقٌ: مَالَهُ هَبِلَ! هَذَا عَمَلُ رَسُولِكُمْ أَسْلَمَ، لَا سَلِمَ، وَهُوَ جَلَبَهُمْ عَلَيْكُمْ، وَدَلّهُمْ عَلَى عَوْرَتِكُمْ! قَالَ: يَقُولُ الْأَسْوَدُ: أَقْصِرِي يَا ابْنَةَ الْأَكَارِمِ، مَا دَلَلْتهمْ حَتّى قُدّمْت لِيُضْرَبَ عُنُقِي! قَالَ: فَعَسْكَرَ الْقَوْمُ، وَعَزَلُوا الْأَسْرَى وَهُمْ نَاحِيَةَ نُفَيْرٍ، وَعَزَلُوا الذّرّيّةَ وَأَصَابُوا مِنْ آلِ حَاتِمٍ [ (1) ] أُخْتَ عَدِيّ وَنُسَيّاتٍ مَعَهَا، فَعَزَلُوهُنّ عَلَى حِدَةٍ، فَقَالَ أَسْلَمُ لِعَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: مَا تَنْتَظِرُ بِإِطْلَاقِي؟ فَقَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ. قَالَ: أَنَا عَلَى دِينِ قَوْمِي هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى، مَا صَنَعُوا صَنَعْت! قَالَ: أَلَا تَرَاهُمْ مُوثَقِينَ، فَنَجْعَلُك مَعَهُمْ فِي رِبَاطِك؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا مَعَ هَؤُلَاءِ مُوثَقًا أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَكُونَ مَعَ غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا، يُصِيبُنِي مَا أَصَابَهُمْ. فَضَحِكَ أَهْلُ السّرِيّةِ مِنْهُ، فَأُوثِقَ وَطُرِحَ مَعَ الْأَسْرَى، وَقَالَ: أَنَا مَعَهُمْ حَتّى تَرَوْنَ مِنْهُمْ مَا أَنْتُمْ رَاءُونَ. فَقَائِلٌ يَقُولُ لَهُ مِنْ الْأَسْرَى: لَا مَرْحَبًا بِك، أَنْتَ جِئْتنَا بِهِمْ! وَقَائِلٌ يَقُول: مَرْحَبًا بِك وَأَهْلًا، مَا كَانَ عَلَيْك أَكْثَرُ مِمّا صَنَعْت! لَوْ أَصَابَنَا الّذِي أَصَابَك لَفَعَلْنَا الّذِي فَعَلْت وَأَشَدّ مِنْهُ، ثُمّ آسَيْت بِنَفْسِك! وَجَاءَ الْعَسْكَرُ وَاجْتَمَعُوا، فَقَرّبُوا الْأَسْرَى فَعَرَضُوا عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ، فَمَنْ أَسْلَمَ تُرِكَ وَمَنْ أَبَى ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، حَتّى أَتَوْا عَلَى الْأَسْوَدِ فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ: وَاَللهِ إنّ الْجَزَعَ مِنْ السّيْفِ لَلُؤْمٌ، وَمَا مِنْ خُلُودٍ! قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ من الحىّ ممّن أسلم: يا عجبا
مِنْك، أَلَا كَانَ هَذَا حَيْثُ أُخِذْت! فَلَمّا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَسُبِيَ مَنْ سُبِيَ مِنّا، وَأَسْلَمَ مِنّا مَنْ أَسْلَمَ رَاغِبًا فِي الْإِسْلَامِ تَقُولُ مَا تَقُولُ! وَيْحَك، أَسْلِمْ وَاتّبِعْ دِينَ مُحَمّدٍ! قَالَ: فَإِنّي أُسْلِمُ وَأَتّبِعُ دِينَ مُحَمّدٍ. فَأَسْلَمَ وَتُرِكَ، وَكَانَ يَعِدُ فَلَا يَفِي حَتّى كَانَتْ الرّدّةُ، فَشَهِدَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْيَمَامَةَ فَأُبْلِيَ بَلَاءً حَسَنًا. قَالَ: وَسَارَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى الْفَلْسِ فَهَدَمَهُ وَخَرّبَهُ، وَوَجَدَ فِي بَيْتِهِ ثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ، رُسُوبَ، وَالْمِخْذَمَ، وَسَيْفًا يُقَالُ لَهُ الْيَمَانِيّ، وَثَلَاثَةَ أَدْرَاعٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ يُلْبِسُونَهُ إيّاهَا. وَجَمَعُوا السّبْيَ، فَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، وَاسْتُعْمِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَتِيكٍ السّلَمِيّ عَلَى الْمَاشِيَةِ وَالرّثّةِ، ثُمّ سَارُوا حَتّى نَزَلُوا رَكَكَ [ (1) ] فَاقْتَسَمُوا السّبْيَ وَالْغَنَائِمَ، وَعَزَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيّا [ (2) ] رَسُوبًا وَالْمِخْذَمَ، ثُمّ صَارَ [ (3) ] لَهُ بَعْدُ السّيْفُ الْآخَرُ، وَعَزَلَ الْخُمُسَ، وَعَزَلَ آلَ حَاتِمٍ [ (4) ] ، فَلَمْ يَقْسِمْهُمْ حَتّى قَدِمَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثْت هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَر الزّهْرِيّ فَقَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي عَوْنٍ قَالَ: كَانَ فِي السّبْيِ أُخْتُ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ لَمْ تُقْسَمْ، فَأُنْزِلَتْ دَارَ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ. وَكَانَ عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ قَدْ هَرَبَ حِينَ سَمِعَ بِحَرَكَةِ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَكَانَ لَهُ عَيْنٌ بِالْمَدِينَةِ فحذّره فخرج إلى الشام،
غزوة تبوك
وَكَانَتْ أُخْتُ عَدِيّ إذَا مَرّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنّ اللهُ عَلَيْك! كُلّ ذَلِكَ يَسْأَلُهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَافِدُك؟ فَتَقُولُ: عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ! فَيَقُولُ: الْفَارّ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ؟ حَتّى يَئِسَتْ. فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الرّابِعِ مَرّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَكَلّمْ فَأَشَارَ إلَيْهَا رَجُلٌ: قُومِي فَكَلّمِيهِ! فَكَلّمَتْهُ فَأَذِنَ لَهَا وَوَصَلَهَا، وَسَأَلَتْ عَنْ الرّجُلِ الّذِي أَشَارَ إلَيْهَا فَقِيلَ: عَلِيّ، وَهُوَ الّذِي سَبَاكُمْ، أَمَا تَعْرِفِينَهُ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاَللهِ، مَا زِلْت مُدْنِيَةً طَرَفَ ثَوْبِي عَلَى وَجْهِي وَطَرَفَ رِدَائِي عَلَى بُرْقُعِي مِنْ يَوْمِ أُسِرْت حَتّى دَخَلْت هَذِهِ الدّارَ، وَلَا رَأَيْت وَجْهَهُ وَلَا وَجْهَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. غَزْوَةُ تَبُوكَ قُرِئَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي حَيّةَ قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُثْمَان بن عبد الرحمن ابن سَعِيدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزّهْرِيّ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ وَرَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أبى قتادة، وعبد الله ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ الْجُمَحِيّ، وَعُمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَأَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ حَدِيثِ تَبُوكَ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ حَدّثَنِي مِمّنْ لَمْ أُسَمّ، ثِقَاتٌ، وَقَدْ كَتَبْت كُلّ مَا قَدْ حَدّثُونِي. قَالُوا: كَانَتْ السّاقِطَةُ- وَهُمْ الْأَنْبَاطُ- يقدمون المدينة بالدّرمك [ (1) ]
وَالزّيْتِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَبَعْدَ أَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامُ، فَإِنّمَا كَانَتْ أَخْبَارُ الشّامِ عِنْد الْمُسْلِمِينَ كُلّ يَوْمٍ، لِكَثْرَةِ مَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَنْبَاطِ، فَقَدِمَتْ قَادِمَةٌ فَذَكَرُوا أَنّ الرّومَ قَدْ جَمَعَتْ جَمُوعًا كَثِيرَةً بِالشّامِ، وَأَنّ هِرَقْلَ قَدْ رَزَقَ أَصْحَابَهُ لِسَنَةٍ، وَأَجْلَبَتْ مَعَهُ لَخْمٌ، وَجُذَامُ، وَغَسّانُ، وَعَامِلَةُ. وَزَحَفُوا وَقَدّمُوا مُقَدّمَاتِهِمْ إلَى الْبَلْقَاءِ وَعَسْكَرُوا بِهَا، وَتَخَلّفَ هِرَقْلُ بِحِمْصٍ. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، إنّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ قِيلَ لَهُمْ فَقَالُوهُ. وَلَمْ يَكُنْ عَدُوّ أَخْوَفَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِمَا عَايَنُوا مِنْهُمْ- إذْ كَانُوا يَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ تُجّارًا- مِنْ الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْكُرَاعِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْزُو غَزْوَةً إلّا وَرّى بِغَيْرِهَا، لِئَلّا تَذْهَبَ الْأَخْبَارُ بِأَنّهُ يُرِيدُ كَذَا وَكَذَا، حَتّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَاسْتَقْبَلَ غُزّى وَعَدَدًا كَثِيرًا، فَجَلّى لِلنّاسِ أَمْرَهُمْ [ (1) ] لِيَتَأَهّبُوا لِذَلِكَ أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، وَأَخْبَرَ بِالْوَجْهِ الّذِي يُرِيدُ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْقَبَائِلِ وَإِلَى مَكّةَ يَسْتَنْفِرُهُمْ إلَى غزوهم، فبعث إلى أسلم بريدة ابن الْحُصَيْبِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْلُغَ الْفُرْعَ. وَبَعَثَ أَبَا رُهْمٍ الْغِفَارِيّ إلَى قَوْمِهِ أَنْ يَطْلُبَهُمْ بِبِلَادِهِمْ، وَخَرَجَ أَبُو وَاقِدٍ اللّيْثِيّ فِي قَوْمِهِ، وَخَرَجَ أَبُو الْجَعْدِ الضّمْرِيّ فِي قَوْمِهِ بِالسّاحِلِ، وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مَكِيثٍ، وَجُنْدُبَ بْنَ مَكِيثٍ فِي جُهَيْنَةَ، وَبَعَثَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ فِي أَشْجَعَ، وَبَعَثَ فِي بَنِي كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَعَمْرَو بْنَ سَالِمٍ، وَبِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ، وَبَعَثَ فِي سُلَيْمٍ عِدّةً، مِنْهُمْ الْعَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ. وَحَضّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم المسلمين
عَلَى الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ، وَرَغّبَهُمْ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالصّدَقَةِ، فَحَمَلُوا صَدَقَاتٍ كَثِيرَةً، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ حَمَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، جَاءَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أَبْقَيْت شَيْئًا؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! وَجَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِنِصْفِ مَالِهِ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَبْقَيْت شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، نِصْفَ مَا جِئْت بِهِ. وَبَلَغَ عُمَرَ مَا جَاءَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا اسْتَبَقْنَا إلَى الْخَيْرِ قطّ إلّا سَبَقَنِي إلَيْهِ. وَحَمَلَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالًا، وَحَمَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالًا، وَحَمَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إلَيْهِ مَالًا، مِائَتَيْ أُوقِيّةٍ، وَحَمَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إلَيْهِ مَالًا، وَحَمَلَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ إليه مالا. وتصدّق عاصم ابن عَدِيّ بِتِسْعِينَ وَسْقًا تَمْرًا. وَجَهّزَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثُلُثَ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَكَانَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ نَفَقَةً، حَتّى كَفَى ذَلِكَ الجيش مؤونتهم، حَتّى إنْ كَانَ لَيُقَالُ: مَا بَقِيَتْ لَهُمْ حَاجَةٌ! حَتّى كَفَاهُمْ شُنُقَ [ (1) ] أَسْقِيَتِهِمْ. فَيُقَالُ: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يَوْمَئِذٍ: مَا يَضُرّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ هَذَا! وَرَغِبَ أَهْلُ الْغِنَى فِي الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ، وَاحْتَسَبُوا فِي ذَلِكَ الْخَيْرَ، وَقَوّوْا أُنَاسٌ دُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُمْ، حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَأْتِي بِالْبَعِيرِ إلَى الرّجُلِ وَالرّجُلَيْنِ فَيَقُولُ: هَذَا الْبَعِيرُ بَيْنَكُمَا تَتَعَاقَبَانِهِ [ (2) ] ، وَيَأْتِي الرّجُلُ بِالنّفَقَةِ فَيُعْطِيهَا بَعْضَ مَنْ يَخْرُجُ، حَتّى إنْ كُنّ النساء ليعنّ بكلّ ما قدرن عليه
قَالَتْ أُمّ سِنَانٍ الْأَسْلَمِيّةُ: لَقَدْ رَأَيْت ثَوْبًا مَبْسُوطًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِيهِ مِسْكٌ [ (1) ] ، وَمَعَاضِدُ [ (2) ] ، وَخَلَاخِلُ [ (3) ] وَأَقْرِطَةٌ وَخَوَاتِيمُ، وَخَدَمَاتٌ، مِمّا يَبْعَثُ بِهِ النّسَاءُ يُعِنّ [ (4) ] بِهِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَهَازِهِمْ. وَالنّاسُ فِي عُسْرَةٍ شَدِيدَةٍ، وَحِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَأُحِبّتْ الظّلَالُ، فَالنّاسُ يُحِبّونَ الْمُقَامَ وَيَكْرَهُونَ الشّخُوصَ عَنْهَا عَلَى الْحَالِ مِنْ الزّمَانِ الّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ بِالِانْكِمَاشِ [ (5) ] وَالْجِدّ، وَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَسْكَرَهُ بِثَنِيّةِ الْوَدَاعِ، وَالنّاسُ كَثِيرٌ لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ، قَدْ رَحَلَ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ إلّا [أَنّهُ] ظَنّ أَنّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ، مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنْ اللهِ عَزّ وَجَلّ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَدّ بْنِ قَيْسٍ: أَبَا وَهْبٍ، هَلْ لَك الْعَامَ تَخْرُجُ مَعَنَا لَعَلّك تَحْتَقِبُ [ (6) ] مِنْ بَنَاتِ الْأَصْفَرِ؟ فَقَالَ الْجَدّ: أوَ تَأْذَنُ لِي ولا تفتنّى؟ فو الله، لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي مَا أَحَدٌ أَشَدّ عُجْبًا بِالنّسَاءِ مِنّي، وَإِنّي لَأَخْشَى إنْ رَأَيْت نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ لَا أَصْبِرُ عَنْهُنّ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قَدْ أَذِنْت لَك! فَجَاءَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْجَدّ- وَكَانَ بَدْرِيّا، وَهُوَ أَخُو مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لِأُمّهِ- فَقَالَ لِأَبِيهِ: لِمَ تَرُدّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته؟ فو الله مَا فِي بَنِي سَلِمَةَ أَكْثَرُ مَالًا مِنْك، وَلَا تَخْرُجُ وَلَا تَحْمِلُ أَحَدًا! قَالَ: يَا بنىّ، ما لى وللخروج
فِي الرّيحِ وَالْحَرّ وَالْعُسْرَةِ إلَى بَنِي الْأَصْفَرِ؟ وَاَللهِ، مَا آمَنُ خَوْفًا مِنْ بَنِي الْأَصْفَرِ وَإِنّي فِي مَنْزِلِي بِخُرْبَى، فَأَذْهَبُ إلَيْهِمْ فَأَغْزُوهُمْ، إنّي وَاَللهِ يَا بُنَيّ عَالِمٌ بِالدّوَائِرِ! فَأَغْلَظَ لَهُ ابْنُهُ، فَقَالَ: لَا وَاَللهِ، وَلَكِنّهُ النّفَاقُ! وَاَللهِ، لَيَنْزِلَنّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فيك قرآن يقرأونه. قَالَ: فَرَفَعَ نَعْلَهُ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَهُ، فَانْصَرَفَ ابْنُهُ وَلَمْ يُكَلّمْهُ. وَجَعَلَ الْخَبِيثُ يُثَبّطُ قَوْمَهُ، وَقَالَ لِجَبّارِ بْنِ صَخْرٍ وَنَفَرٍ مَعَهُ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا بَنِي سَلِمَةَ، لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ: يَقُولُ: لَا تَخْرُجُوا فِي الْحَرّ زَهَادَةً فِي الْجِهَادِ، وَشَكّا فِي الْحَقّ، وَإِرْجَافًا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ: وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ إلَى قَوْلِهِ: جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [ (1) ] . وَفِيهِ نَزَلَتْ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي.. [ (2) ] الْآيَةَ، أَيْ كَأَنّهُ إنّمَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ، إنّمَا تَعَذّرَ بِالْبَاطِلِ، فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ أَكْثَرُ، بِتَخَلّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَتِهِ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ. يَقُول اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يَقُولُ: إنّ جَهَنّمَ لَمِنْ وَرَائِهِ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ ابْنُهُ إلَى أَبِيهِ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَك إنّهُ سَوْفَ يَنْزِلُ فِيك قُرْآنٌ يَقْرَأهُ الْمُسْلِمُونَ؟ قَالَ: يَقُولُ أَبُوهُ: اُسْكُتْ عَنّي يَا لُكَعُ! وَاَللهِ، لَا أَنْفَعُك بِنَافِعَةٍ أَبَدًا! وَاَللهِ لَأَنْتَ أَشَدّ عَلَيّ مِنْ مُحَمّدٍ! قَالَ: وَجَاءَ الْبَكّاءُونَ- وَهُمْ سَبْعَةٌ- يَسْتَحْمِلُونَهُ، وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [ (3) ] الْآيَةَ. وَهُمْ سَبْعَةٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بن عوف: سالم
ابن عُمَيْرٍ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عندنا، ومن بنى واقف هرمىّ ابن عَمْرٍو [ (1) ] ، وَمِنْ بَنِي حَارِثَةَ عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ الّذِي تَصَدّقَ بِعَرْضِهِ [ (2) ] ، وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصّدَقَةِ، فَجَعَلَ النّاسُ يَأْتُونَ بِهَا، فَجَاءَ عُلْبَةُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدِي مَا أَتَصَدّقُ بِهِ وَجَعَلْت عَرْضِي حِلّا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ قَبِلَ اللهُ صَدَقَتَك. وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ أَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ، وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ، وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ، وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ السّلَمِيّ. وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُ مَا سَمِعْنَا. وَيُقَالُ: عَبْدُ اللهِ [بْنُ] مُغَفّلٍ الْمُزَنِيّ، وَعَمْرُو بْنُ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ، وَيُقَالُ: هُمْ بَنُو مُقَرّنٍ، مِنْ مُزَيْنَةَ. وَلَمّا خَرَجَ الْبَكّاءُونَ مِنْ عِنْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أَعْلَمَهُمْ أَنّهُ لَا يَجِدُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ ظَهْرًا، لَقِيَ يَامِينَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ شِبْلِ النّضْرِيّ أَبَا لَيْلَى الْمَازِنِيّ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ مُغَفّل الْمُزَنِيّ، وَهُمَا يَبْكِيَانِ فَقَالَ: وَمَا يَبْكِيكُمَا؟ قَالَا: جِئْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُنْفِقُ بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ، وَنَحْنُ نَكْرَهُ أَنْ تَفُوتَنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا لَهُ، فَارْتَحَلَاهُ، وَزَوّدَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمَا صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، فَخَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَمَلَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رضى الله عنه مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ، وَحَمَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً، بَعْدَ الّذِي كَانَ جَهّزَ مِنْ الْجَيْشِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: لا يخرج معنا إلّا مقو [ (3) ] .
فَخَرَجَ رَجُلٌ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ فَصَرَعَهُ، فَقَالَ النّاسُ: الشّهِيدَ، الشّهِيدَ! فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي: لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ إلّا مُؤْمِنٌ- أَوْ إلّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ- وَلَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ عَاصٍ. وَكَانَ الرّجُلُ طَرَحَهُ بَعِيرُهُ بِالسّوَيْدَاءِ. قَالُوا: وَجَاءَ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَسْتَأْذِنُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ عِلّةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ الّذِينَ اسْتَأْذَنُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ. وَجَاءَ الْمُعَذّرُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ، فَلَمْ يَعْذِرْهُمْ اللهُ عَزّ وَجَلّ. هُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ إيمَاءِ بْنِ رَحْضَةَ، اثْنَانِ وَثَمَانُونَ رَجُلًا. وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ بِعَسْكَرِهِ، فَضَرَبَهُ عَلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ بِحِذَاءِ ذُبَابٍ، مَعَهُ حُلَفَاؤُهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ مِمّنْ اجْتَمَعَ إلَيْهِ، فَكَانَ يُقَالُ: لَيْسَ عَسْكَرُ ابْنِ أُبَيّ بِأَقَلّ الْعَسْكَرَيْنِ. وَأَقَامَ مَا أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْعَسْكَرِ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُصَلّي بِالنّاسِ، فَلَمّا اسْتَمَدّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّفَرُ، وَأَجْمَعَ الْمَسِيرَ، اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سباع ابن عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ- وَيُقَالُ: مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ- لَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ غَزْوَةً غَيْرَ هَذِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَكْثِرُوا مِنْ النّعَالِ، فَإِنّ الرّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا دَامَ مُنْتَعِلًا. فَلَمّا سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَلّفَ ابْنُ أُبَيّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ: يَغْزُو مُحَمّدٌ بَنِي الْأَصْفَرِ، مَعَ جَهْدِ الْحَالِ وَالْحَرّ وَالْبَلَدِ الْبَعِيدِ، إلَى مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ! يَحْسِبُ مُحَمّدٌ أَنّ قِتَالَ بَنِي الْأَصْفَرِ اللّعِبُ؟ وَنَافَقَ مَعَهُ مَنْ [ (1) ] هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ، ثُمّ قَالَ ابْنُ أُبَيّ: وَاَللهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى
أَصْحَابِهِ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ! إرْجَافًا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. فَلَمّا رَحَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ إلَى تَبُوكَ، وَعَقَدَ الْأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ، فَدَفَعَ لِوَاءَهُ الْأَعْظَمَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَايَتُهُ الْعُظْمَى إلَى الزّبَيْرِ، وَدَفَعَ رَايَةَ الْأَوْسِ إلَى أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَلِوَاءَ الْخَزْرَجِ إلَى أَبِي دُجَانَةَ، وَيُقَالُ: إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ. قَالُوا: وَإِذَا عَبْدٌ لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ، لَقِيَهُ عَلَى رَأْسِ ثَنِيّةِ النّورِ، وَالْعَبْدُ مُتَسَلّحٌ. قَالَ الْعَبْدُ: أُقَاتِلُ مَعَك يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أَنْتَ؟ قَالَ: مَمْلُوكٌ لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ سَيّئَةِ الْمَلَكَةِ [ (1) ] قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعْ إلَى سَيّدَتِك، لَا تَقْتُلْ مَعِي فَتَدْخُلَ النّارَ! قَالَ: حَدّثَنِي رِفَاعَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: جَلَسْت مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَذَكَرْنَا غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَذَكَرَ أَنّهُ حَمَلَ لِوَاءَ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ فِي تَبُوكَ فَقُلْت: يَا أَبَا سَعِيدٍ، كَمْ تَرَى كَانَ الْمُسْلِمُونَ؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ أَلْفًا، لَقَدْ كَانَ النّاسُ يَرْحَلُونَ عِنْدَ مَيْلِ الشّمْسِ، فَمَا يَزَالُونَ يَرْحَلُونَ وَالسّاقَةُ مُقِيمُونَ حَتّى يَرْحَلَ الْعَسْكَرُ. فَسَأَلْت بَعْضَ مَنْ كَانَ بِالسّاقَةِ فَقَالَ: مَا يَرْحَلُ آخِرُهُمْ إلّا مَسَاءً، ثم نَرْحَلُ عَلَى أَثَرِهِمْ فَمَا نَنْتَهِي إلَى الْعَسْكَرِ إلّا مُصْبِحِينَ مِنْ كَثْرَةِ النّاسِ. قَالُوا: وَتَخَلّفَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَبْطَأَتْ بِهِمْ النّيّةُ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلّفوا عنه من غير شكّ ولا ارتباب، منهم: كعب بن
مَالِكٍ، وَكَانَ كَعْبٌ يَقُولُ: كَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلّفْت عَنْ تَبُوكَ أَنّي لَمْ أَكُ قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ [ (1) ] تَخَلّفْت عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَاَللهِ، مَا اجْتَمَعَتْ لِي رَاحِلَتَانِ قَطّ حَتّى اجْتَمَعَتَا فِي تِلْكَ الغروة! فَتَجَهّزَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجَهّزَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَجَعَلْت أَعْدُو لِأَتَجَهّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعَ وَلَمْ أَقْضِ حَاجَةً، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ! فَلَمْ أَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتّى شَمّرَ بِالنّاسِ الْجِدّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازِيًا وَالْمُسْلِمُونَ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، فَقُلْت: أَتَجَهّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمّ أَلْحَقُ بِهِمْ. فَغَدَوْت بَعْدَ مَا فَصَلُوا أَتَجَهّزُ، فَرَجَعْت وَلَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا، ثُمّ غَدَوْت فَلَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا، فَلَمْ أَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتّى أَسْرَعُوا، وَتَفَارَطَ [ (2) ] الْغَزْوُ، وَقُلْت: أَرْتَحِلُ فَأُدْرِكُهُمْ، وَيَا لَيْتَنِي فَعَلْت! وَلَمْ أَفْعَلْ، وَجَعَلْت إذَا خَرَجْت فِي النّاسِ فَطُفْت فِيهِمْ يُحْزِنُنِي أَلّا أَرَى إلّا رَجُلًا مَغْمُوصًا [ (3) ] عَلَيْهِ فِي النّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمّنْ عَذَرَ اللهُ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ: مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَمَا قُلْت! وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إلّا خَيْرًا. وَالْقَائِلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَيُقَالُ: الّذِي رَدّ عَلَيْهِ الْمَقَالَةَ أَبُو قَتَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَثْبَتُهُمَا عِنْدَنَا. قَالَ هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ الْوَاقِفِيّ، حِينَ تَخَلّفَ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم
فِي تَبُوكَ: وَاَللهِ مَا تَخَلّفْت شَكّا وَلَا ارْتِيَابًا، وَلَكِنْ كُنْت مُقْوِيًا فِي الْمَالِ. قُلْت: أَشْتَرِي بَعِيرًا. وَلَقِيَنِي مُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ فَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ مُقْوٍ، فَأَبْتَاعُ بَعِيرًا وَأَنْطَلِقُ بِهِ. فَقُلْت: هَذَا صَاحِبٌ أُرَافِقُهُ. فَجَعَلْنَا نَقُولُ: نَغْدُو فَنَشْتَرِي بَعِيرَيْنِ فَنَلْحَقُ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَفُوتُ ذَلِكَ، نَحْنُ قَوْمٌ مُخِفّونَ عَلَى صَدْرِ رَاحِلَتَيْنِ فَغَدًا نَسِيرُ! فَلَمْ نَزَلْ نَدْفَعُ ذَلِكَ وَنُؤَخّرُ الْأَيّامَ حَتّى شَارَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِلَادَ. فَقُلْت: مَا هَذَا بِحِينِ خُرُوجٍ. وَجَعَلْت لَا أَرَى فِي الدّارِ وَلَا فِي غَيْرِهَا إلّا مَعْذُورًا أَوْ مُنَافِقًا مُعْلِنًا، فَأَرْجِعُ مُغْتَمّا بِمَا أَنَا فِيهِ. وَكَانَ أَبُو خَيْثَمَةَ قَدْ تَخَلّفَ مَعَنَا، وكان لا يتّهم فى إسلامه ولا يغمص عَلَيْهِ، فَعَزَمَ لَهُ عَلَى مَا عَزَمَ، وَكَانَ أَبُو خَيْثَمَةَ يُسَمّى عَبْدَ اللهِ بْنَ خَيْثَمَةَ السّالِمِيّ، فَرَجَعَ بَعْدَ أَنْ سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَيّامٍ حَتّى دَخَلَ عَلَى امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي يَوْمٍ حَارّ فَوَجَدَهُمَا فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا، قَدْ رَشّتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا وَبَرّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهِمَا قَامَ عَلَى الْعَرِيشَيْنِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! رَسُولُ اللهِ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخّرَ فِي الضّحّ [ (1) ] وَالرّيحِ وَالْحَرّ، يَحْمِلُ سِلَاحَهُ عَلَى عُنُقِهِ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلَالٍ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيّأٍ وَامْرَأَتَيْنِ حَسْنَاوَيْنِ، مُقِيمٌ فِي مَالِهِ، مَا هَذَا بِالنّصَفِ! ثُمّ قَالَ: وَاَللهِ، لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتّى أَخْرُجَ فَأَلْحَقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَنَاخَ نَاضِحَهُ وَشَدّ عَلَيْهِ قَتَبَهُ وَتَزَوّدَ وارتحل، فجعلت امرأتاه يكلّمانه ولا يكلّمها، حَتّى أَدْرَكَ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ بِوَادِي الْقُرَى يُرِيدُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَحِبَهُ فَتَرَافَقَا، حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ تَبُوكَ قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ: يَا عُمَيْرُ! إنّ لِي ذُنُوبًا وَأَنْتَ لَا ذَنْبَ لَك، فَلَا عَلَيْك أن
تَخَلّفَ عَنّي حَتّى آتِيَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَك. فَفَعَلَ عُمَيْرٌ، فَسَارَ أَبُو خَيْثَمَةَ حَتّى إذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ- قَالَ النّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ الطّرِيقَ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ! فَقَالَ النّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أَبُو خَيْثَمَةَ! فَلَمّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلّمَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْلَى لَك يَا أَبَا خَيْثَمَةَ! ثُمّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْرًا وَدَعَا لَهُ. قَالَ: وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَصَبّحَ ذَا خُشُبٍ فَنَزَلَ تَحْتَ الدّوْمَةِ، وَكَانَ دَلِيلَهُ إلَى تَبُوكَ عَلْقَمَةُ بْنُ الْفَغْوَاءِ الْخُزَاعِيّ. فَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الدّوْمَةِ، فَرَاحَ مِنْهَا مُمْسِيًا حَيْثُ أَبْرَدَ، وَكَانَ فِي حَرّ شَدِيدٍ، وَكَانَ يَجْمَعُ مِنْ يَوْمِ نَزَلَ ذَا خُشُبٍ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي مَنْزِلِهِ، يُؤَخّرُ الظّهْرَ حَتّى يُبْرِدَ، وَيُعَجّلُ الْعَصْرَ، ثُمّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَكُلّ ذَلِكَ فَعَلَهُ حَتّى رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ. وَكَانَتْ مَسَاجِدُهُ فِي سَفَرِهِ إلَى تَبُوكَ مَعْرُوفَةً، صَلّى تَحْتَ دَوْمَةٍ بِذِي خُشُبٍ، وَمَسْجِدِ الْفَيْفَاءِ، وَمَسْجِدٍ بِالْمَرْوَةِ، وَمَسْجِدٍ بِالسّقْيَا، وَمَسْجِدٍ بِوَادِي الْقُرَى، وَمَسْجِدٍ بِالْحِجْرِ، وَمَسْجِدٍ بِذَنَبِ حَوْصَاءَ، وَمَسْجِدٍ بِذِي الْجِيفَةِ، مِنْ صَدْرِ حَوْصَاءَ، وَمَسْجِدٍ بِشِقّ تَارَاءَ [ (1) ] مِمّا يَلِي جَوْبَرَ، وَمَسْجِدٍ بِذَاتِ الْخِطْمِيّ، وَمَسْجِدٍ بِسَمَنَةَ، وَمَسْجِدٍ بِالْأَخْضَرِ، وَمَسْجِدٍ بذات الزّراب [ (2) ] ، ومسجد بالمدران [ (3) ] ، ومسجد بتبوك.
وَلَمّا مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ سَائِرًا، فَجَعَلَ يَتَخَلّفُ عَنْهُ الرّجَالُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَخَلّفَ فُلَانٌ! فَيَقُولُ: دَعُوهُ، فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللهُ مِنْهُ! فَخَرَجَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَثِيرٌ لَمْ يَخْرُجُوا إلّا رَجَاءَ الْغَنِيمَةِ. وَكَانَ أَبُو ذَرّ يَقُولُ: أَبْطَأْت فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ أَجْلِ بَعِيرِي، كَانَ نِضْوًا [ (1) ] أَعْجَفَ، فَقُلْت: أَعْلِفُهُ أَيّامًا ثُمّ أَلْحَقُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَلَفْته أَيّامًا ثُمّ خَرَجْت، فَلَمّا كُنْت بِذِي الْمَرْوَةِ عَجَزَ بى، فتلوّمت عليه يوما فلم أربه حَرَكَةً، فَأَخَذْت مَتَاعِي فَحَمَلْته عَلَى ظَهْرِي، ثُمّ خَرَجْت أَتْبَعُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا فِي حَرّ شَدِيدٍ، وَقَدْ تَقَطّعَ النّاسُ فَلَا أَرَى أَحَدًا يَلْحَقُنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَطَلَعْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ النّهَارِ وَقَدْ بَلَغَ مِنّي الْعَطَشُ، فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الطّرِيقِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ هَذَا الرّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطّرِيقِ وَحْدَهُ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كُنْ أَبَا ذَرّ! فَلَمّا تَأَمّلَنِي الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أَبُو ذَرّ! فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى دَنَوْت مِنْهُ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَبِي ذَرّ! يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ! فَقَالَ: مَا خَلّفَك يَا أَبَا ذَرّ؟ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ بَعِيرِهِ، ثُمّ قَالَ: إنْ كُنْت لَمِنْ أَعَزّ أَهْلِي عَلَيّ تَخَلّفًا، لَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَك يَا أَبَا ذَرّ بِكُلّ خُطْوَةٍ ذَنْبًا إلَى أَنْ بَلَغْتنِي. وَوَضَعَ مَتَاعَهُ عَنْ ظَهْرِهِ ثم اسْتَسْقَى [ (2) ] ، فَأُتِيَ بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَهُ، فَلَمّا أَخْرَجَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى الرّبَذَةِ فَأَصَابَهُ قَدَرُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إلّا امرأته وغلامه،
فَأَوْصَاهُمَا فَقَالَ: اغْسِلَانِي وَكَفّنَانِي، ثُمّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ إذَا أَنَا مُتّ. وَأَقْبَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ الْعِرَاقِ عُمّارًا، فَلَمْ يَرْعَهُمْ إلّا بِالْجِنَازَةِ عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ قَدْ كَادَتْ الْإِبِلُ تَطَؤُهَا، فَسَلّمَ الْقَوْمُ فَقَامَ إلَيْهِمْ غُلَامُهُ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا أَبُو ذَرّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعِينُونِي عَلَيْهِ! فَاسْتَهَلّ ابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ: صَدَقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبو ذَرّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» . ثُمّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَتّى وَارَوْهُ، ثُمّ حَدّثَهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ، وَمَا قَالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَسِيرِهِ إلَى تَبُوكَ. وَكَانَ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ- وَهُوَ كُلْثُومُ بْنُ الْحُصَيْنِ، قَدْ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشّجَرَةِ- فَقَالَ: غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم تبوكا. قَالَ: فَسِرْت ذَاتَ لَيْلَةٍ مَعَهُ، وَنَحْنُ بِالْأَخْضَرِ [ (1) ] ، وَأَنَا قَرِيبٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُلْقِيَ عَلَيّ النّعَاسُ، فَطَفِقْت أَسْتَيْقِظُ وَقَدْ دَنَتْ رَاحِلَتِي مِنْ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُفْزِعُنِي دُنُوّهَا مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ أُصِيبَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَطَفِقْت أَحُوزُ [ (2) ] رَاحِلَتِي حَتّى غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فِي بَعْضِ الطّرِيقِ وَنَحْنُ فِي بَعْضِ اللّيْلِ، فَزَاحَمَتْ رَاحِلَتِي رَاحِلَتَهُ وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ، فَمَا اسْتَيْقَظْت إلّا بِقَوْلِهِ: حَسّ [ (3) ] ! فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَغْفِرْ لِي! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرْ! فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُنِي عَمّنْ تَخَلّفَ مِنْ بَنِي غفار،
فَأُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهُوَ يَسْأَلُنِي مَا فَعَلَ النّفَرُ الْحُمْرُ الطّوَالُ النّطَانِطِ [ (1) ] ؟ فَحَدّثْته بِتَخَلّفِهِمْ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ النّفَرُ السّودُ الْقِصَارُ الْجِعَادُ الْحُلْسُ [ (2) ] ؟ فَقُلْت: وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَعْرِفُ هَؤُلَاءِ. قَالَ: بَلَى، الّذِينَ هُمْ بِشَبَكَةِ شَدَخٍ [ (3) ] . قَالَ: فَتَذَكّرْتهمْ فِي بَنِي غِفَارٍ فَلَا أَذْكُرُهُمْ، ثُمّ ذَكَرْت أَنّهُمْ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ كَانُوا فِينَا وَكَانُوا يَحِلّونَ بِشَبَكَةِ شَدَخٍ، لَهُمْ نَعَمٌ كَثِيرٌ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أُولَئِكَ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ حُلَفَاءُ لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مَنَعَ أَحَدٌ أُولَئِكَ حِينَ تَخَلّفَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إبِلِهِ رَجُلًا نَشِيطًا فِي سَبِيلِ اللهِ مِمّنْ يَخْرُجُ مَعَنَا، فَيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْخَارِجِ! إنْ كَانَ لَمِنْ أَعَزّ أَهْلِي عَلَيّ أَنْ يَتَخَلّفَ عَنّي! الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارُ، وَغِفَارٌ، وَأَسْلَمُ. وَقَالُوا: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي مَسِيرِهِ مَرّ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ الْعَسْكَرِ قَدْ تَرَكَهُ صَاحِبُهُ مِنْ الْعَجَفِ وَالضّعْفِ، فَمَرّ بَهْ مَارّ فَأَقَامَ عَلَيْهِ وَعَلَفَهُ أَيّامًا ثُمّ حَوّلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلُحَ الْبَعِيرُ فَسَافَرَ عَلَيْهِ، فَرَآهُ صَاحِبُهُ الْأَوّلُ، فَاخْتَصَمَا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: من أحيى خُفّا أَوْ كُرَاعًا بِمَهْلَكَةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَهُوَ له. قالوا: وكان الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَمِنْ الْخَيْلِ عَشْرَةُ آلَافٍ فَرَسٌ. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلّ بَطْنٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنْ يَتّخِذُوا لِوَاءً وَرَايَةً، وَالْقَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ فِيهَا الرّايَاتُ وَالْأَلْوِيَةُ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ دَفَعَ رَايَةَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ إلَى عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، فَأَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَأَعْطَاهُ الرّايَةَ. قَالَ عُمَارَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَعَلّك وَجَدْت عَلَيّ [ (1) ] ! قَالَ: لَا وَاَللهِ، وَلَكِنْ قَدّمُوا الْقُرْآنَ، وَكَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ مِنْك، وَالْقُرْآنُ يُقَدّمُ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ مُجَدّعًا [ (2) ] . وَأَمَرَ فِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَنْ يَحْمِلَ رَايَاتِهِمْ أَكْثَرُهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ، وَكَانَ أَبُو زَيْدٍ يَحْمِلُ رَايَةَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَحْمِلُ رَايَةَ بَنِي سَلِمَةَ. وَصَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بِأَصْحَابِهِ فِي سَفَرِهِ وَعَلَيْهِ جُبّةٌ صُوفٌ وَقَدْ أَخَذَ بِعَنَانِ فَرَسِهِ- أَوْ قَالَ: مِقْوَدِ فَرَسِهِ- وَهُوَ يُصَلّي، فَبَالَ الْفَرَسُ فَأَصَابَ الْجُبّةَ فَلَمْ يَغْسِلْهُ وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِهَا وَلُعَابِهَا وَعَرَقِهَا. قَالُوا: وَكَانَ رَهْطٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبُوكَ، مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَالْجُلَاسُ ابن سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ، ومخشي بْنُ حِمْيَرَ مِنْ أَشْجَعَ، حَلِيفٌ لِبَنِي سَلِمَةَ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ. فَقَالَ: تَحْسَبُونَ قِتَالَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ غَيْرِهِمْ؟ وَاَللهِ لَكَأَنّا بِكُمْ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ! إرْجَافًا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا لِي أَرَى قُرّاءَنَا [ (3) ] هَؤُلَاءِ أَوْعَبَنَا [ (4) ] بُطُونًا، وَأَكْذَبَنَا ألسنة، وأجبننا عند اللّقاء؟ وقال الجلاس ابن سُوَيْدٍ، وَكَانَ زَوْجُ أُمّ عُمَيْرٍ، وَكَانَ ابْنُهَا عمير يتيما فى حجره: هؤلاء
سَادَتُنَا وَأَشْرَافُنَا وَأَهْلُ الْفَضْلِ مِنّا! وَاَللهِ، لَئِنْ كَانَ مُحَمّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحَمِيرِ! وَاَللهِ، لَوَدِدْت أَنّي أُقَاضِي عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلّ رَجُلٍ مِنّا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَأَنّا نَنْفَلِتُ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا الْقُرْآنُ بِمَقَالَتِكُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَدْرِكْ الْقَوْمَ فَإِنّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا، فَسَلْهُمْ عَمّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ: بَلَى، قَدْ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا! فَذَهَبَ إلَيْهِمْ عَمّارٌ فَقَالَ لَهُمْ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ. فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَقَدْ أَخَذَ بِحَقَبِ نَاقَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَاهُ تَنْسِفَانِ الْحِجَارَةَ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ! وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [ (1) ] إلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ [ (2) ] . قَالُوا: وَرَدّ عُمَيْرٌ عَلَى الْجُلَاسِ مَا قَالَ- حِينَ قَالَ: لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحَمِيرِ- قَالَ: فَأَنْت شَرّ مِنْ الْحِمَارِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّادِقُ وَأَنْت الْكَاذِبُ. وَجَاءَ الْجُلَاسُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَفَ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ عَلَى نَبِيّهِ فِيهِ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [ (3) ] وَنَزَلَتْ فِيهِ: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.. الْآيَةُ. قَالَ: وَكَانَ لِلْجُلَاسِ دِيَةٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ عَلَى بَعْضِ قَوْمِهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَخَذَهَا لَهُ فَاسْتَغْنَى بِهَا. وَقَالَ مخشي بْنُ حِمْيَرَ: قَدْ وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أبى، فكان الذي عفى عنه
فِي هَذِهِ الْآيَةِ مخشي بْنُ حِمْيَرَ- فَسَمّاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرّحْمَنِ أَوْ عَبْدُ اللهِ- وَسَأَلَ اللهَ عَزّ وَجَلّ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا وَلَا يُعْلَمَ بِمَكَانِهِ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ. وَيُقَالُ فِي الْجُلَاسِ بْنُ سُوَيْدٍ: إنّهُ كَانَ مِمّنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُثَبّطُ النّاسَ عَنْ الْخُرُوجِ، وَكَانَتْ أُمّ عُمَيْرٍ تَحْتَهُ، وَكَانَ عُمَيْرٌ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ وَلَا مَالَ لَهُ، فَكَانَ يَكْفُلُهُ وَيُحْسِنُ إلَيْهِ، فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَللهِ، لَئِنْ كَانَ مُحَمّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحَمِيرِ! فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ: يَا جُلَاسُ، قَدْ كُنْت أَحَبّ النّاسِ إلَيّ، وَأَحْسَنَهُمْ عِنْدِي أَثَرًا، وَأَعَزّهُمْ عَلَيّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ نَكْرَهُهُ، وَاَللهِ، لَقَدْ قُلْت مَقَالَةً لَئِنْ ذَكَرْتهَا لَتَفْضَحَنّكَ، وَلَئِنْ كَتَمْتهَا لَأَهْلِكَنّ، وَإِحْدَاهُمَا [ (1) ] أَهْوَنُ عَلَيّ مِنْ الْأُخْرَى! فَذَكَرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَةَ الْجُلَاسِ، وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أَعْطَى الْجُلَاسَ مَالًا مِنْ الصّدَقَةِ لِحَاجَتِهِ وَكَانَ فَقِيرًا، فَبَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجُلَاسِ فَسَأَلَهُ عَمّا قَالَ عُمَيْرٌ، فَحَلَفَ بالله ما تكلّم به قطّ، وأنّ عمير الكاذب. - وَهُوَ عُمَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ- وَهُوَ حَاضِرٌ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمّ، أَنْزِلْ عَلَى رَسُولِك بَيَانَ مَا تَكَلّمْت بِهِ! فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيّهِ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [ (2) ] إلَى قَوْلِهِ: أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ لِلصّدَقَةِ الّتِي أَعْطَاهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ الْجُلَاسُ: اسْمَعْ! اللهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيّ التّوْبَةَ! وَاَللهِ لَقَدْ قُلْت مَا قَالَ عُمَيْرٌ! وَلَمّا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ وَلَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ خَيْرٍ كَانَ يَصْنَعُهُ إلَى عُمَيْرِ ابن سَعِيدٍ، فَكَانَ ذَلِك مِمّا قَدْ عُرِفَتْ بَهْ تَوْبَتُهُ. قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السّاعِدِيّ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
تَبُوكَ، فَلَمّا جِئْنَا وَادِيَ الْقُرَى مَرَرْنَا عَلَى حَدِيقَةٍ لِامْرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُخْرُصُوهَا [ (1) ] ! فَخَرَصَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَصْنَاهَا مَعَهُ، عَشْرَةَ أَوْسَاقٍ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْفَظِي مَا خَرَجَ مِنْهَا حَتّى نَرْجِعَ إلَيْك. فَلَمّا أَمْسَيْنَا بِالْحِجْرِ قَالَ: إنّهَا سَتَهُبّ اللّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُومَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلّا مَعَ صَاحِبِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيُوثِقْ عِقَالَهُ. قَالَ: فَهَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ إلّا مَعَ صَاحِبِهِ، إلّا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ، وَخَرَجَ الْآخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ. فَأَمّا الّذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَإِنّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمّا الّذِي ذَهَبَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ فَاحْتَمَلَتْهُ الرّيحُ فَطَرَحَتْهُ بجبلي طيّء، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُمَا، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ إلّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ؟ ثُمّ دَعَا الّذِي أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ، وَأَمّا الْآخَرُ الّذِي وَقَعَ بِجَبَلَيْ طيّء فَإِنّ طَيّئًا أَهْدَتْهُ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ. وَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِيَ الْقُرَى أَهْدَى لَهُ بَنُو عُرَيْضٍ الْيَهُودِيّ هَرِيسًا [ (2) ] فَأَكَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطْعَمَهُمْ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ. تَقُولُ امْرَأَةٌ مِنْ الْيَهُودِ: هَذَا الّذِي صَنَعَ بِهِمْ مُحَمّدٌ خَيْرٌ [ (3) ] مِمّا وَرِثُوهُ مِنْ آبَائِهِمْ، لِأَنّ هَذَا لَا يَزَالُ جَارِيًا عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا مَرَرْنَا بالحجر استقى الناس من
بِئْرِهَا وَعَجَنُوا فَنَادَى مُنَادِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا وَلَا تَتَوَضّئُوا مِنْهُ لِلصّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ فاعلفوه الإبل. قال سهل ابن سَعْدٍ: كُنْت أَصْغَرَ أَصْحَابِي وَكُنْت مُقْرِيهمْ [ (1) ] فِي تَبُوكَ، فَلَمّا نَزَلْنَا عَجَنْت لَهُمْ ثُمّ تَحَيّنْت الْعَجِينَ، وَقَدْ ذَهَبْت أَطْلُبُ حَطَبًا، فَإِذَا مُنَادِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أَلّا تَشْرَبُوا مِنْ مَاءِ بِئْرِهِمْ. فَجَعَلَ النّاسُ يَهْرَقُونَ مَا فِي أَسْقِيَتِهَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَجَنّا. قَالَ: أَعْلِفُوهُ الْإِبِلَ! قَالَ سَهْلٌ: فَأَخَذْت مَا عَجَنْت فَعَلَفْت نِضْوَيْنِ، فَهُمَا كَانَا أَضْعَفَ رِكَابِنَا. وَتَحَوّلْنَا إلَى بِئْرِ صَالِحٍ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَجَعَلْنَا نَسْتَقِي مِنْ الْأَسْقِيَةِ وَنَغْسِلُهَا، ثُمّ ارْتَوَيْنَا، فَلَمْ نَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ إلّا مُمْسِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسْأَلُوا نَبِيّكُمْ الْآيَاتِ! هَؤُلَاءِ قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيّهُمْ آيَةً، فَكَانَتْ النّاقَةُ تَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذَا الْفَلْجِ، تَسْقِيهِمْ مِنْ لَبَنِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا مَا شَرِبَتْ مِنْ مَائِهَا، فَعَقَرُوهَا فَأُوعِدُوا ثَلَاثًا، وَكَانَ وَعْدُ اللهِ غَيْرَ مَكْذُوبٍ، فَأَخَذَتْهُمْ الصّيْحَةُ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ تَحْتَ أَدِيمِ السّمَاءِ إلّا هَلَكَ، إلّا رَجُلٌ فِي الْحَرَمِ مَنَعَهُ الْحَرَمُ مِنْ عَذَابِ اللهِ. قَالُوا: يَا نَبِيّ اللهِ، مَنْ هُوَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو رِغَالٍ، أَبُو ثَقِيفٍ. قَالُوا: فَمَا لَهُ بِنَاحِيَةِ مَكّةَ؟ قَالَ: إنّ صَالِحًا بَعَثَهُ مُصَدّقًا، فَانْتَهَى إلَى رَجُلٍ مَعَهُ مِائَةُ شَاةٍ شُصُصٍ [ (2) ] ، وَمَعَهُ شَاةٌ وَالِدٌ، وَمَعَهُ صَبِيّ مَاتَتْ أُمّهُ بِالْأَمْسِ. فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ أَرْسَلَنِي إلَيْك. فَقَالَ: مَرْحَبًا برسول الله وأهلا!
خُذْ! قَالَ: فَأَخَذَ الشّاةَ اللّبُونَ، فَقَالَ: إنّمَا هِيَ أُمّ هَذَا الْغُلَامِ بَعْدَ أُمّهِ، خُذْ مَكَانَهَا عَشْرًا. قَالَ: لَا. قَالَ: عِشْرِينَ. قَالَ: لَا. قَالَ: خَمْسِينَ. قَالَ: لَا. قَالَ: خُذْهَا كُلّهَا إلّا هَذِهِ الشّاةَ. قَالَ: لَا. قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبّ اللّبَنَ فَأَنَا أُحِبّهُ. فَنَثَرَ كِنَانَتَهُ ثُمّ قَالَ: اللهُمّ تَشْهَدْ! ثُمّ فَوّقَ لَهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ: لَا يَسْبِقُ بِهَذَا الْخَبَرِ إلَى نَبِيّ الله أَوّلَ مِنّي! فَجَاءَ صَالِحًا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَرَفَعَ صَالِحٌ يَدَيْهِ مُدّا فَقَالَ: اللهُمّ الْعَنْ أَبَا رِغَالٍ! ثَلَاثًا. وَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذّبِينَ، إلّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فَيُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: رَأَيْت رَجُلًا جَاءَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَاتَمٍ وَجَدَهُ فِي الْحِجْرِ فِي بُيُوتِ الْمُعَذّبِينَ. قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَاسْتَتَرَ بِيَدِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ، وَقَالَ: أَلْقِهِ! فَأَلْقَاهُ فَمَا أَدْرِي أَيْنَ وَقَعَ حَتّى السّاعَةَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ حَاذَاهُمْ: إنّ هَذَا وَادِي النّفْرِ! فَجَعَلُوا يُوضِعُونَ [ (1) ] فِيهِ رِكَابَهُمْ حَتّى خَرَجُوا مِنْهُ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ حَتّى خَلّفَهَا. قَالَ: وَارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا أَصْبَحَ وَلَا مَاءَ مَعَهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا- وَلَا وَاَللهِ مَا أَرَى فِي السّمَاءِ سَحَابًا- فَمَا بَرِحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو حَتّى إنّي لَأَنْظُرُ إلَى السّحَابِ تَأْتَلِفُ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، فَمَا رَامَ مَقَامَهُ حَتّى سَحّتَ عَلَيْنَا
السّمَاءُ بِالرّوَاءِ [ (1) ] ، فَكَأَنّي أَسْمَعُ تَكْبِيرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَطَرِ. ثُمّ كَشَفَ اللهُ السّمَاءَ عَنّا مِنْ سَاعَتِهَا وَإِنْ الْأَرْضُ إلّا غُدُرٌ تَنَاخَسُ [ (2) ] ، فَسُقِيَ النّاسُ وَارْتَوَوْا عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنّي رَسُولُ اللهِ! فَقُلْت لِرَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ: وَيْحَك، أَبَعْدَ هَذَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ: سَحَابَةٌ مَارّةٌ! وَهُوَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ، وَيُقَالُ: زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ. قَالَ: حَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنّهُ قَالَ لَهُ: هَلْ كَانَ النّاسُ يَعْرِفُونَ أَهْلَ النّفَاقِ فِيهِمْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَاَللهِ، إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَعْرِفُهُ مِنْ أَبِيهِ وَأَخِيهِ وَبَنِي عَمّهِ. سَمِعْت جَدّك قَتَادَةَ بْنَ النّعْمَانِ يَقُولُ: تَبِعَنَا فِي دَارِنَا قَوْمٌ مِنّا مُنَافِقُونَ. ثُمّ مِنْ بَعْدُ سَمِعْت زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ فِي بَنِي النّجّارِ: مَنْ لَا بَارَكَ اللهُ فِيهِ! فَيُقَالُ: مَنْ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَيَقُولُ: سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَقَيْسُ بْنُ فِهْرٍ. ثُمّ يَقُولُ زَيْدٌ: لَقَدْ رَأَيْتنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمَاءِ مَا كَانَ دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل اللهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتّى ارْتَوَى النّاسُ، فَقُلْنَا: يَا وَيْحَك، أَبَعْدَ هَذَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ: سَحَابَةٌ مَارّةٌ! وَهُوَ وَاَللهِ رَجُلٌ لَك بِهِ قَرَابَةٌ يَا مَحْمُودُ بْنَ لَبِيدٍ! قَالَ مَحْمُودٌ: قَدْ عَرَفْته! قَالَ: ثُمّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَجّهًا إلَى تَبُوكَ، فَأَصْبَحَ فِي مَنْزِلٍ، فَضَلّتْ نَاقَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَصْوَاءُ، فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا. وَعِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ- عَقَبِيّ بَدْرِيّ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا- وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بْنُ اللّصيت أحد بنى قينقاع
كَانَ يَهُودِيّا فَأَسْلَمَ فَنَافَقَ، وَكَانَ فِيهِ خُبْثُ الْيَهُودِ وَغِشّهُمْ، وَكَانَ مُظَاهِرًا لِأَهْلِ النّفَاقِ، فَقَالَ زَيْدٌ وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ، وَعُمَارَةُ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ مُحَمّدٌ يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السّمَاءِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ مُنَافِقًا يَقُولُ إنّ مُحَمّدًا يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ، وَأَنّهُ يُخْبِرُكُمْ بِأَمْرِ السّمَاءِ وَلَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ! وَإِنّي وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ إلّا مَا عَلّمَنِي اللهُ، وَقَدْ دَلّنِي عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا- الشّعْبُ أَشَارَ لَهُمْ إلَيْهِ- حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فَانْطَلِقُوا حَتّى تَأْتُوا بِهَا. فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِهَا، فَرَجَعَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلَى رَحْلِهِ فَقَالَ: الْعَجَبُ مِنْ شَيْءٍ حَدّثْنَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! إنّهَا عَنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللهُ عَنْهُ! قَالَ كَذَا وَكَذَا- الّذِي قَالَ زَيْدٌ. قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِمّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ، وَلَمْ يَحْضُرْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَيْدٌ وَاَللهِ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ عَلَيْنَا! قَالَ: فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زيد ابن اللّصَيْتِ يَجَأُهُ [ (1) ] فِي عُنُقِهِ وَيَقُولُ: وَاَللهِ، إنّ فِي رَحْلِي لَدَاهِيَةٌ وَمَا أَدْرِي! اُخْرُجْ يَا عدوّ الله من رحلي! وكان الذي أخبره عُمَارَةَ بِمَقَالَةِ زَيْدٍ أَخُوهُ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ، وَكَانَ فِي الرّحْلِ مَعَ رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَاَلّذِي ذَهَبَ فَجَاءَ بِالنّاقَةِ مِنْ الشّعْبِ الْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ الْأَشْهَلِيّ، وَجَدَهَا وَزِمَامُهَا قَدْ تَعَلّقَ فى شجرة، فقال زيد بن اللّصيت: لكأنى لَمْ أُسْلِمْ إلّا الْيَوْمَ! قَدْ كُنْت شَاكّا فِي مُحَمّدٍ، وَقَدْ أَصْبَحْت وَأَنَا فِيهِ ذُو بصيرة، وأشهد أَنّهُ رَسُولُ اللهِ! فَزَعَمَ النّاسُ أَنّهُ تَابَ، وَكَانَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يُنْكِرُ تَوْبَتَهُ وَيَقُولُ: لَمْ يَزَلْ فَسْلًا [ (2) ] حَتّى مَاتَ.
فَلَمّا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْمُشَقّقِ [ (1) ] سَمِعَ حَادِيًا فِي جَوْفِ اللّيْلِ فَقَالَ: أَسْرِعُوا بِنَا نَلْحَقُهُ! وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مِمّنْ الْحَادِي، مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، مِنْ غَيْرِنَا. قَالَ: فَأَدْرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا جَمَاعَةٌ، فَقَالَ: مِمّنْ الْقَوْمُ؟ قالوا: مِنْ مُضَرَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا مِنْ مُضَرَ. فَانْتَسَبَ حَتّى بَلَغَ مُضَرَ. قَالَ الْقَوْمُ: نَحْنُ أَوّلُ مَنْ حَدَا بِالْإِبِلِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى، إنّ أَهْلَ الْجَاهِلِيّةِ كَانَ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَأُغِيرَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ، فَنَدّتْ إبِلُهُ فَأَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يَجْمَعَهَا، فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ! فَضَرَبَ يَدَهُ بِعَصًا، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَقُولُ: وا يداه! وا يداه! وَتُجْتَمَعُ الْإِبِلُ، فَجَعَلَ سَيّدُهُ يَقُولُ: قُلْ هَكَذَا بِالْإِبِلِ! وَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ: أَلَا أُبَشّرُكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! وَهُمْ يَسِيرُونَ عَلَى رَوَاحِلِهِمْ، فَقَالَ: إنّ اللهَ أَعْطَانِي الْكَنْزَيْنِ فَارِسَ وَالرّومَ، وَأَمَدّنِي بِالْمُلُوكِ مُلُوكِ حِمْيَرَ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَيَأْكُلُونَ فَيْءَ الله. وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَقُولُ: كُنّا بَيْنَ الْحِجْرِ وَتَبُوكَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ، وَكَانَ إذَا ذَهَبَ أَبْعَدَ، وَتَبِعْته بِمَاءٍ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَأَسْفَرَ النّاسُ بِصَلَاتِهِمْ- وَهِيَ صَلَاةُ الصّبْحِ- حَتّى خافوا الشمس، فقدّموا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَصَلّى بِهِمْ. فَحَمَلْت مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إدَاوَةً فِيهَا مَاءٌ، فَلَمّا فَرَغَ صَبَبْت عَلَيْهِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ. ثُمّ أَرَادَ أَنْ يَغْسِلَ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمّ الْجُبّةِ- وَعَلَيْهِ جُبّةٌ رُومِيّةٌ- فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ من تحت
الْجُبّةِ فَغَسَلَهُمَا وَمَسَحَ خُفّيْهِ. وَانْتَهَيْنَا إلَى عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَدْ رَكَعَ بِالنّاسِ، فَسَبّحَ النّاسُ بِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ رَأَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كَادُوا أَنْ يَفْتَتِنُوا، فَجَعَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ يُرِيدُ أَنْ يَنْكُصَ وَرَاءَهُ، فَأَشَارَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اُثْبُتْ، فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ عَبْدِ الرّحْمَنِ رَكْعَةً، فَلَمّا سَلّمَ عَبْدُ الرّحْمَنِ تَوَاثَبَ النّاسُ، وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي الرّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ، ثُمّ سَلّمَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، ثُمّ قَالَ: أَحْسَنْتُمْ! إنّهُ لَمْ يُتَوَفّ نَبِيّ حَتّى يَؤُمّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ أُمّتِهِ. وَأَتَاهُ يَوْمَئِذٍ يَعْلَى بْنُ مُنَبّهٍ بِأَجِيرٍ لَهُ، قَدْ نَازَعَ رَجُلًا مِنْ الْعَسْكَرِ، فَعَضّهُ ذَلِكَ الرّجُلُ، فَانْتَزَعَ الْأَجِيرُ يَدَهُ مِنْ فِي العاضّ فانتزع ثنيّته، فلرمه الْمَجْرُوحُ فَبَلَغَ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [قَالَ] : وَقُمْت مَعَ أَجِيرِي لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَأَتَى بِهِمَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَعَضّ أَخَاهُ كَمَا يَعَضّ الْفَحْلُ. فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ مِنْ ثَنِيّتِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنّكُمْ لَنْ تَنَالُوهَا حَتّى يُضْحِيَ النّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتّى آتى. قال معاد بْنُ جَبَلٍ: فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَ إلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلَ الزّلَالِ تَبُضّ [ (1) ] بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، فَسَأَلَهُمَا: هَلْ مَسِسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ قَالَا: نَعَمْ. فَسَبّهُمَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ. ثُمّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتّى اجْتَمَعَ فى شنّ [ (2) ] ، ثم غسل
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَاءَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ فَاسْتَقَى النّاسُ. ثُمّ قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إنْ طَالَتْ بِك حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا! قَالُوا: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ [ (1) ] مِنْ مُزَيْنَةَ، وَكَانَ يَتِيمًا لَا مَالَ لَهُ، قَدْ مَاتَ أَبُوهُ فَلَمْ يُوَرّثْهُ شَيْئًا، وَكَانَ عَمّهُ مَيّلًا [ (2) ] ، فَأَخَذَهُ وَكَفَلَهُ حَتّى كَانَ قَدْ أَيْسَرَ، فَكَانَتْ لَهُ إبِلٌ وَغَنَمٌ وَرَقِيقٌ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ جَعَلَتْ نَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ عَمّهِ، حَتّى مَضَتْ السّنُونَ وَالْمَشَاهِدُ كُلّهَا. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَتْحِ مَكّةَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ لِعَمّهِ: يَا عَمّ، قَدْ انْتَظَرْت إسْلَامَك فَلَا أَرَاك تُرِيدُ مُحَمّدًا، فَائْذَنْ لِي فِي الْإِسْلَامِ! فَقَالَ: وَاَللهِ، لَئِنْ اتّبَعْت مُحَمّدًا لَا أَتْرُكُ بِيَدِك شَيْئًا كُنْت أَعْطَيْتُكَهُ إلّا نَزَعْته مِنْك حَتّى ثَوْبَيْك. فَقَالَ عَبْدُ الْعُزّى، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ اسْمُهُ: وأنا وَاَللهِ مُتّبِعٌ مُحَمّدًا وَمُسْلِمٌ، وَتَارِكٌ عِبَادَةَ الْحَجَرِ وَالْوَثَنِ، وَهَذَا مَا بِيَدِي فَخُذْهُ! فَأَخَذَ كُلّ مَا أَعْطَاهُ، حَتّى جَرّدَهُ مِنْ إزَارِهِ، فَأَتَى أُمّهُ فَقَطَعَتْ بِجَادًا لَهَا بِاثْنَيْنِ فَائْتَزَرَ بِوَاحِدٍ وَارْتَدَى بِالْآخَرِ، ثُمّ أَقْبَلَ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ بِوَرِقَانَ- جَبَلٌ مِنْ حِمَى الْمَدِينَةِ- فَاضْطَجَعَ فِي الْمَسْجِدِ فِي السّحَرِ، ثُمّ صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّبْحَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَصَفّحُ النّاسَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ الصّبْحِ، فَنَظَرَ إلَيْهِ فَأَنْكَرَهُ، فَقَالَ: مَنْ أَنْت؟ فَانْتَسَبَ لَهُ، فَقَالَ: أَنْت عَبْدُ اللهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ! ثُمّ قَالَ: انْزِلْ مِنّي قَرِيبًا. فَكَانَ يَكُونُ فِي أَضْيَافِهِ وَيُعَلّمُهُ القرآن، حتى
قَرَأَ قُرْآنًا كَثِيرًا، وَالنّاسُ يَتَجَهّزُونَ إلَى تَبُوكَ. وَكَانَ رَجُلًا صِيّتَا، فَكَانَ يَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْمَعُ إلَى هَذَا الْأَعْرَابِيّ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ حَتّى قَدْ مَنَعَ النّاسَ الْقِرَاءَةَ؟ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ، يَا عُمَرُ! فَإِنّهُ خَرَجَ مُهَاجِرًا إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَلَمّا خَرَجُوا إلَى تَبُوكَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ لِي بِالشّهَادَةِ. قَالَ: أَبْلِغْنِي لِحَاءَ [ (1) ] سَمُرَةَ. فَأَبْلَغَهُ لِحَاءَ سَمُرَةَ، فَرَبَطَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَضُدِهِ وَقَالَ: اللهُمّ إنّي أُحَرّمُ دَمَهُ عَلَى الْكُفّارِ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ أَرَدْت هَذَا. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّك إذَا خَرَجْت غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَأَخَذَتْك الْحُمّى فَقَتَلَتْك فَأَنْت شَهِيدٌ، وَوَقَصَتْك دَابّتُك فَأَنْت شَهِيدٌ، لَا تُبَالِ [ (2) ] بِأَيّةِ كَانَ. فلمّا نزلوا تبوكا فَأَقَامُوا بِهَا أَيّامًا تُوُفّيَ عَبْدُ اللهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ. فَكَانَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ: حَضَرْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ بِلَالٍ الْمُؤَذّنِ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ عِنْدَ الْقَبْرِ وَاقِفًا بِهَا، وَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَبْرِ، وَإِذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُدْلِيَانِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: أَدْنِيَا إلَيّ أَخَاكُمَا! فَلَمّا هَيّآهُ لِشِقّهِ قَالَ: اللهُمّ إنّي قَدْ أَمْسَيْت عَنْهُ رَاضِيًا فَارْضَ عَنْهُ. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا لَيْتَنِي كُنْت صَاحِبَ اللّحْدِ! وَقَالُوا: أَتَيْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في مسيره وهو مردف سهيل ابن بَيْضَاءَ خَلْفَهُ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا سُهَيْلُ! كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ سُهَيْلٌ: يَا لَبّيْكَ! ثَلَاثَ مَرّاتٍ، حَتّى عَرَفَ النّاسُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُهُمْ، فَانْثَنَى عليه
مَنْ أَمَامَهُ، وَلَحِقَهُ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ النّاسِ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَه إلّا اللهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، حَرّمَهُ اللهُ عَلَى النّار. قَالُوا: وَعَارَضَ النّاسُ فِي مَسِيرِهِمْ حَيّةٌ، ذُكِرَ مِنْ عِظَمِهَا وَخَلْقِهَا، وَانْصَاعَ النّاسُ عَنْهَا. فَأَقْبَلَتْ حَتّى وَاقَفَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ طَوِيلًا، وَالنّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا، ثُمّ الْتَوَتْ حَتّى اعْتَزَلَتْ الطّرِيقَ فَقَامَتْ قَائِمَةً، فَأَقْبَلَ النّاسُ حَتّى لَحِقُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: فَإِنّ هَذَا أَحَدُ الرّهْطِ الثّمَانِيَةِ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ، فَرَأَى عَلَيْهِ مِنْ الْحَقّ- حِينَ أَلَمّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَلَدِهِ- أَنْ يُسَلّمَ عَلَيْهِ، وَهَا هُوَ ذَا يُقْرِئُكُمْ السّلَامَ، فَسَلّمُوا عَلَيْهِ! فَقَالَ النّاسُ جَمِيعًا: وَعَلَيْهِ السّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ! يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِيبُوا [ (1) ] عِبَادَ اللهِ مَنْ كَانُوا. قَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم تبوكا وَأَقَامَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ، وَهِرَقْلُ يَوْمَئِذٍ بِحِمْصَ. وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى تَبُوكَ، حَتّى إذَا كُنّا مِنْهَا عَلَى لَيْلَةٍ اسْتَرْقَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فلم يَسْتَيْقِظُ حَتّى كَانَتْ الشّمْسُ قَيْدَ رُمْحٍ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بِلَالُ، أَلَمْ أَقُلْ لَك اكْلَأْ [ (2) ] لَنَا اللّيْلَ؟ فَقَالَ بِلَالٌ: ذَهَبَ بِيَ النّوْمُ، ذَهَبَ بِيَ الّذِي ذَهَبَ بِك! قَالَ: فَارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمّ صَلّى الْفَجْرَ، ثُمّ هَذّبَ [ (3) ] بَقِيّةَ يَوْمِهِ
وَلَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِتَبُوكَ، فَجَمَعَ النّاسَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ! أَمّا بَعْدُ، فَإِنّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَأَوْثَقَ الْعُرَى كَلِمَةُ التّقْوَى، وَخَيْرَ الْمِلَلِ مِلّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَخَيْرَ السّنَنِ سُنَنُ مُحَمّدٍ، وَأَشْرَفَ الْحَدِيثِ ذِكْرُ اللهِ، وَأَحْسَنَ الْقَصَصِ هَذَا الْقُرْآنُ، وَخَيْرَ الْأُمُورِ عَوَاقِبُهَا، وَشَرّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَحْسَنَ الْهُدَى هُدَى الْأَنْبِيَاءِ، وَأَشْرَفَ الْقَتْلِ قَتْلُ الشّهَدَاءِ، وَأَعْمَى الضّلَالَةِ الضّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى، وَخَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرَ الْهُدَى مَا اُتّبِعَ، وَشَرّ الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ، وَالْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ السّفْلَى، وَمَا قَلّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَشَرّ الْأُمُورِ الْمَعْذِرَةُ حين يحضر للموت، وشرّ الندامة يوم القيامة. ومن الناس ولا يَأْتِي الْجُمُعَةَ إلّا نَزْرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَذْكُرُ اللهَ إلّا هُجْرًا [ (1) ] ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا اللّسَانُ الْكَذُوبُ، وَخَيْرَ الْغِنَى غِنَى النّفْسِ، وَخَيْرَ الزّادِ التّقْوَى، وَرَأْسَ الْحُكْمِ [ (2) ] مَخَافَةُ اللهِ، وَخَيْرَ مَا أُلْقِيَ فِي الْقَلْبِ الْيَقِينُ، وَالِارْتِيَابَ مِنْ الْكُفْرِ، وَالنّيَاحَةَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيّةِ، وَالْغُلُولَ مِنْ جَمْرِ جَهَنّمَ، وَالسّكْرَ كِنّ مِنْ النّارِ، وَالشّعْرَ مِنْ إبْلِيسَ، وَالْخَمْرَ جِمَاعُ الْإِثْمِ، وَالنّسَاءَ حِبَالَةُ الشّيْطَانِ، وَالشّبَابَ شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ، وَشَرّ الْمَكَاسِبِ كَسْبُ الرّبَا، وَشَرّ الْمَأْكَلِ مَالُ الْيَتِيمِ. وَالسّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشّقِيّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمّهِ، وَإِنّمَا يَصِيرُ أَحَدُكُمْ إلَى مَوْضِعِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، وَالْأَمْرَ إلَى آخِرِهِ، وَمِلَاكَ الْعَمَلِ خَوَاتِمُهُ، وَالرّبَا رِبَا الْكَذِبِ. وَكُلّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَسِبَابَ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ، وَقَتْلَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ، وَأَكْلَ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحُرْمَةَ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ. وَمَنْ يَتَأَلّ [ (3) ] عَلَى اللهِ يُكَذّبْهُ، وَمَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ يكظم الغيظ
يَأْجُرْهُ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرّزِيّةِ يُعَوّضْهُ اللهُ، وَمَنْ يَتّبِعْ السّمْعَةَ يُسَمّعْ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُضَاعِفْ اللهُ لَهُ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ يُعَذّبْهُ اللهُ. اللهُمّ اغْفِرْ لِي وَلِأُمّتِي، اللهُمّ اغْفِرْ لِي وَلِأُمّتِي، أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ عَدِيّ يَقُولُ: جِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ فَرَأَيْته عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ يَطُوفُ عَلَى النّاسِ يَقُولُ: أَيّهَا النّاسُ، يَدُ اللهِ فَوْقَ يَدِ الْمُعْطِي، وَيَدُ الْمُعْطِي الْوُسْطَى، وَيَدُ الْمُعْطَى السّفْلَى. أَيّهَا النّاسُ، اقْنَعُوا وَلَوْ بِحِزَمِ الْحَطَبِ! اللهُمّ، هَلْ بَلّغْت؟ ثَلَاثًا. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ لِيَ امْرَأَتَانِ [ (1) ] اقْتَتَلَتَا فَرَمَيْت فَأَصَبْت إحْدَاهُمَا [ (2) ] فَرُمِيَ فِي رَمْيَتِي- يَعْنِي مَاتَتْ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: رُمِيَ فِي جِنَازَتِهِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعْقِلُهَا وَلَا تَرِثُهَا. وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ بِتَبُوكَ، فَنَظَرَ نَحْوَ الْيَمِينِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ يُشِيرُ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: الْإِيمَانُ يَمَانٍ! وَنَظَرَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ: إنّ الْجَفَاءَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدّادِينَ [ (3) ] أَهْلِ الْوَبَرِ مِنْ نَحْوِ الْمَشْرِقِ حَيْثُ يُطْلِعُ الشّيْطَانُ قَرْنَيْهِ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ [بْنِ] هُذَيْمٍ: جِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ بِتَبُوكَ- فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، هُوَ سَابِعُهُمْ- فَوَقَفْت فَسَلّمْت، فَقَالَ: اجْلِسْ! فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَشْهَدُ أَلّا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّك رَسُولُ اللهِ! قَالَ: أَفْلَحَ وَجْهُك! ثُمّ قَالَ: يَا بلال، أطعمنا!
قَالَ: فَبَسَطَ بِلَالٌ نِطْعًا [ (1) ] ، ثُمّ جَعَلَ يُخْرِجُ مِنْ حَمِيتٍ [ (2) ] لَهُ، فَأَخْرَجَ خَرْجَاتٍ بِيَدِهِ مِنْ تَمْرٍ مَعْجُونٍ بِالسّمْنِ وَالْأَقِطِ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا! فَأَكَلْنَا حَتّى شَبِعْنَا فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كُنْت لَآكُلُ هَذَا وَحْدِي! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ [ (3) ] وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ. قَالَ: ثُمّ جِئْته مِنْ الْغَدِ مُتَحَيّنًا لِغَدَائِهِ لِأَزْدَادَ فِي الْإِسْلَامِ يَقِينًا، فَإِذَا عَشْرَةُ نَفَرٍ حوله. قال: فقال به هَاتِ أَطْعِمْنَا يَا بِلَالُ. قَالَ: فَجَعَلَ يُخْرِجُ مِنْ جِرَابِ تَمْرٍ بِكَفّهِ قَبْضَةً قَبْضَةً، فَقَالَ: أَخْرِجْ وَلَا تَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْتَارًا! فجاء بالجراب فنثره. قال: فجزرته مُدّيْنِ. قَالَ: فَوَضَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى التّمْرِ، ثُمّ قَالَ: كُلُوا بِاسْمِ اللهِ! فَأَكَلَ الْقَوْمُ وَأَكَلْت مَعَهُمْ، وَكُنْت صَاحِبَ تَمْرٍ. قَالَ: فَأَكَلْت حَتّى مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا. قَالَ: وَبَقِيَ عَلَى النّطْعِ مِثْلُ الّذِي جَاءَ بِهِ بِلَالٌ، كَأَنّا لَمْ نَأْكُلْ مِنْهُ تَمْرَةً وَاحِدَةً. قَالَ: ثُمّ عُدْت مِنْ الْغَدِ. قَالَ: وَعَادَ نَفَرٌ حَتّى بَاتُوا، فَكَانُوا عَشْرَةً أَوْ يَزِيدُونَ رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: يَا بِلَالُ، أَطْعِمْنَا! فَجَاءَ بِذَلِكَ الْجِرَابِ بِعَيْنِهِ أَعْرِفُهُ فَنَثَرَهُ، وَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يده عليه فَقَالَ: كُلُوا بِاسْمِ اللهِ، فَأَكَلْنَا حَتّى نَهِلْنَا، ثُمّ رَفَعَ مِثْلَ الّذِي صَبّ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيّام. قَالَ: وَكَانَ هِرَقْلُ قَدْ بَعَثَ رَجُلًا مِنْ غَسّانَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْظُرَ إلَى صِفَتِهِ وَإِلَى عَلَامَاتِهِ، إلَى حُمْرَةٍ فِي عَيْنَيْهِ، وَإِلَى خَاتَمِ النّبُوّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَسَأَلَ فَإِذَا هُوَ لَا يَقْبَلُ الصّدَقَةَ، فَوَعَى أَشْيَاءَ مِنْ حَالِ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى هِرَقْلَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَدَعَا قَوْمَهُ إلَى التّصْدِيقِ بِهِ، فَأَبَوْا حَتّى خَافَهُمْ عَلَى مُلْكِهِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يَتَحَرّكْ وَلَمْ يَزْحَفْ. وَكَانَ الّذِي خُبّرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بَعْثَتِهِ أَصْحَابَهُ وَدُنُوّهِ إلَى أَدْنَى الشّامِ- بَاطِلًا، وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَهُمّ بِهِ. وَشَاوَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التّقَدّمِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنْ كُنْت أُمِرْت بِالْمَسِيرِ فَسِرْ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أُمِرْت بِهِ مَا اسْتَشَرْتُكُمْ فِيهِ! قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنّ لِلرّومِ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ دَنَوْت مِنْهُمْ حَيْثُ تَرَى، وَقَدْ أَفْزَعَهُمْ دُنُوّك، فَلَوْ رَجَعْت هَذِهِ السّنَةَ حَتّى تَرَى، أَوْ يُحْدِثَ اللهُ عَزّ وَجَلّ لَك فِي ذَلِكَ أَمْرًا. قَالُوا: وَهَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِتَبُوكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا لِمَوْتِ مُنَافِقٍ عَظِيمِ النّفَاقِ. قَالَ: فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَوَجَدُوا مُنَافِقًا قَدْ مَاتَ عَظِيمَ النّفَاقِ. قَالَ: وَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجُبْنَةٍ بِتَبُوكَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ هَذَا طَعَامٌ تَصْنَعُهُ فَارِسُ، وَإِنّا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَيْتَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضَعُوا فِيهِ السّكّينَ وَاذْكُرُوا اسْمَ الله! قَالَ: وَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ قُضَاعَةَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا، فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْبِطَهُ حِيَالَهُ اسْتِئْنَاسًا بِصَهِيلِهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَفَقَدَ صَهِيلَ الْفَرَسِ فَسَأَلَ عَنْهُ صَاحِبَهُ فَقَالَ: خَصَيْته يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنّ الْخَيْلَ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، اتّخِذُوا مِنْ نَسْلِهَا
وَبَاهُوا بِصَهِيلِهَا الْمُشْرِكِينَ، أَعْرَافُهَا أَدْفَاؤُهَا [ (1) ] ، وَأَذْنَابُهَا مَذَابّهَا. وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنّ الشّهَدَاءَ لَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، لَا يَمُرّونَ بِأَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلّا تَنَحّى عَنْهُمْ، حَتّى إنّهُمْ لَيَمُرّونَ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ خَلِيلِ الرّحْمَنِ فَيَتَنَحّى لَهُمْ حَتّى يَجْلِسُوا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ. يَقُولُ النّاسُ: هَؤُلَاءِ الّذِينَ أُهْرِيقُوا دِمَاءَهُمْ لِرَبّ الْعَالَمِينَ، فَيَكُونُ كَذَلِكَ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ عَزّ وَجَلّ بَيْنَ عِبَادِهِ! قَالُوا: وَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ قَامَ إلَى فَرَسِهِ الظّرِبِ فَعَلّقَ عَلَيْهِ شِعَارَهُ [ (2) ] وَجَعَلَ يَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِرِدَائِهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِرِدَائِك؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَا يُدْرِيك؟ لَعَلّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي بِذَلِكَ، مَعَ أَنّي قَدْ بِتّ اللّيْلَةَ [ (3) ] ، وَإِنّ الْمَلَائِكَةَ لَتُعَاتِبُنِي فِي حَسّ [ (4) ] الْخَيْلِ وَمَسْحِهَا. وقال: أخبرنى خليلي جبريل أَنّهُ يُكْتَبُ لِي بِكُلّ حَسَنَةٍ أَوْفَيْتهَا إيّاهُ حَسَنَةً، وَإِنّ رَبّي عَزّ وَجَلّ يَحُطّ عَنّي بِهَا سَيّئَةً. وَمَا مِنْ امْرِئٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَرْبِطُ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُوفِيَهُ بِعَلِيفِهِ يَلْتَمِسُ بِهِ قُوّتَهُ إلّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلّ حَبّةٍ حَسَنَةً، وَحَطّ عَنْهُ بِكُلّ حَبّةٍ سَيّئَةً! قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَيّ الْخَيْلِ خَيْرٌ؟ قَالَ: أَدْهَمُ [ (5) ] ، أَقْرَحُ، أَرْثَمُ، مُحَجّلُ الثّلُثِ [ (6) ] ، مطلق اليمين، فإن لم
يَكُنْ أَدْهَمَ فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذِهِ الصّفَةِ. قَالَ: وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا فِي الصّوْمِ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ تَبَاعَدَتْ مِنْهُ جَهَنّمُ مَسِيرَةَ مائة سنة كأغذّ السّيْرِ. وَلَقَدْ فُضّلَ نِسَاءُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ فِي الْحُرْمَةِ كَأُمّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْقَاعِدِينَ يُخَالِفُ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ فَيَخُونَهُ فِي أَهْلِهِ إلّا وَقَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: إنّ هَذَا خَانَك فِي أَهْلِك فَخُذْ مِنْ عَمَلِهِ مَا شِئْت، فَمَا ظَنّكُمْ؟ وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ أَوْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُحَدّثُ قَالَ: فَزِعَ النّاسُ بِتَبُوكَ لَيْلَةً، فَخَرَجْت فِي سِلَاحِي حَتّى جَلَسْت إلَى سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ، فَقُلْت: لَأَقْتَدِيَنّ بِهَذَا الرّجُلِ الصّالِحِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ! فَجَلَسْت إلَى جَنْبِهِ قَرِيبًا مِنْ قُبّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا مُغْضَبًا فَقَالَ: أَيّهَا النّاسُ، مَا هَذِهِ الْخِفّةُ؟ مَا هَذَا النّزَقُ؟ أَلَا صَنَعْتُمْ مَا صَنَعَ هَذَانِ الرّجُلَانِ الصّالِحَانِ؟ يَعْنِينِي وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ. قَالُوا: وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى تَبُوكَ وَضَعَ حَجَرًا قِبْلَةَ مَسْجِدِ تَبُوكَ بِيَدِهِ وَمَا يَلِي الْحَجَرَ، ثُمّ صَلّى الظّهْرَ بِالنّاسِ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا هَاهُنَا شَامٌ، وَمَا هَاهُنَا يَمَنٌ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: كُنّا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فَقَامَ يُصَلّي مِنْ اللّيْلِ، وَكَانَ يُكْثِرُ التّهَجّدَ مِنْ اللّيْلِ، وَلَا يَقُومُ إلّا اسْتَاكَ، وَكَانَ إذَا قَامَ يُصَلّي صَلّى بِفِنَاءِ خَيْمَتِهِ، فَيَقُومُ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَحْرُسُونَهُ. فَصَلّى لَيْلَةً مِنْ تِلْكَ اللّيَالِي، فَلَمّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَقَالَ: أُعْطِيت خَمْسًا مَا أُعْطِيَهُنّ أَحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْت إلَى النّاسِ كَافّةً، وَإِنّمَا كَانَ النّبِيّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي
ذكر ما نزل من القرآن فى غزوة تبوك
الصّلَاةُ تَيَمّمْت وَصَلّيْت، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظّمُونَ ذَلِكَ وَلَا يُصَلّونَ إلّا فِي كَنَائِسِهِمْ وَالْبِيَعِ، وَأُحِلّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ آكُلُهَا، وَكَانَ مَنْ كَانَ قَبْلِي يُحَرّمُونَهَا، وَالْخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ، هِيَ مَا هِيَ، هِيَ مَا هِيَ! ثَلَاثًا. قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قِيلَ لِي: سَلْ، فَكُلّ نَبِيّ قَدْ سَأَلَ، فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ. ذِكْرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ.. [ (1) ] الْآيَةُ. قَالُوا: غَزَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرّ شَدِيدٍ وَجَهْدٍ مِنْ النّاسِ، وَحِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَاشْتُهِيَتْ الظّلَالُ، فَأَبْطَأَ النّاسُ فَكَشَفَتْ مِنْهُمْ «بَرَاءَةٌ» مَا كَانَ مَسْتُورًا، وَأَبْدَتْ أَضْغَانَهُمْ وَنِفَاقَ مَنْ نَافَقَ مِنْهُمْ. يَقُولُ: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [ (2) ] إلّا تَخْرُجُوا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ.. [ (3) ] الْآيَةُ. قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجُوا إلَى الْبَدْوِ يُفَقّهُونَ قَوْمَهُمْ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: قَدْ بَقِيَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ فِي الْبَوَادِي. وَقَالُوا: هَلَكَ أَصْحَابُ الْبَوَادِي! فَنَزَلَتْ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [ (4) ] . انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [ (5) ] يقول: نشاطا وغير نشاط، ويقال: الخفاف: الشباب، والثّقال: الكهول،
وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَقُولُ: أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فِي غَزْوِكُمْ، وَجَاهِدُوا، يَقُولُ: قَاتِلُوا، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [ (1) ] عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً يَقُولُ: غَنِيمَةً قَرِيبَةً، وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ يَعْنِي حِينَ خَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى تَبُوكَ جَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ بِالْعُسْرَةِ وَالْمَرَضِ، يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَنّهُمْ أَقْوِيَاءُ أَصِحّاءُ. وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ وَيَأْذَنُ لَهُمْ. قَالَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [ (2) ] حَتّى تَبْلُوَهُمْ بِالسّفَرِ وَتَعْلَمَ مَنْ هُوَ صَادِقٌ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ. لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [ (3) ] وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ فِي تلك الغزوة، وكانت تسمى غزوة العسرة. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [ (4) ] يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ. ثُمّ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ [ (5) ] مِنْ قَبْلِ خُرُوجِك إلَى تَبُوكَ وَظُهُورِ أَمْرِك يَا مُحَمّدُ، وَهُمْ كارِهُونَ لِظُهُورِك وَاتّبَاعِ مَنْ اتّبَعَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [ (6) ] نَزَلَتْ هَذِهِ فِي الجَدّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ أَكْثَرَ بَنِي سَلِمَةَ مَالًا، وَأَعَدّهُمْ عُدّةً فِي الظّهْرِ، وَكَانَ رَجُلًا مُعْجَبًا بِالنّسَاءِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ألا تغزو بني الأصفر؟
عَسَى أَنْ تَحْتَقِبَ مِنْ بَنَاتِ الْأَصْفَرِ. فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْجَبَ بِالنّسَاءِ مِنّي، فَلَا تَفْتِنّي بِهِنّ! يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [ (1) ] لِتَخَلّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [ (2) ] يَقُولُ: غَنِيمَةً وَسَلَامَةً، الّذِينَ تَخَلّفُوا وَاسْتَأْذَنُوك، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ الْبَلَاءُ وَالشّدّةُ، يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ. قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا [ (3) ] يَقُولُ: إلّا مَا كَانَ فِي أُمّ الْكِتَابِ. قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [ (4) ] الْغَنِيمَةَ أَوْ الشّهَادَةَ. قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [ (5) ] كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْ ذِي الطَّوْل يُظهرون النّفَقَةَ إذَا رَآهُمْ النّاسُ لِيَبْلُغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدْرَأُونَ بِذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْقَتْلَ. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ [ (6) ] إلَى قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [ (7) ] يَقُولُ: يَكُونُ عَلَيْهِمْ بَيّنَةً لِأَنّ مَا أَكَلُوا مِنْهَا أَكَلُوهُ عَلَى نِفَاقٍ، وَمَا أَنْفَقُوا فَإِنّمَا هُوَ رِيَاءٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [ (8) ] وَهُمْ الْبَكّاؤُونَ وَهُمْ سَبْعَةٌ، أَبُو لَيْلَى الْمَازِنِيّ، وَسَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْمَازِنِيّ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ الْأَسْلَمِيّ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ الْحَارِثِيّ، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ السّلَمِيّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيّ، وَسَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَمْرِيّ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [ (9) ] يَعْنِي مَعَ النّسَاءِ، الْجَدّ بْنُ قيس. وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ
غزوة أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل فى رجب سنة تسع، وهي على عشرة أميال من المدينة.
الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ [ (1) ] كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْعَرَبِ مِنْهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَقَوْمُهُ مَعَهُ يُرْضُونَ أَصْحَابَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُرُونَهُمْ أَنّهُمْ مَعَهُمْ وَيُرْضُونَ قَوْمَهُمْ. وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [ (2) ] مَن صَلّى الْقِبْلَتَيْنِ. غَزْوَةُ أُكَيْدِرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَهِيَ عَلَى عَشْرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَمُحَمّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَمُعَاذِ بن محمد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة، وإسماعيل ابن إبْرَاهِيمَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَعِمَادُهُ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ. قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد مِنْ تَبُوكَ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَارِسًا إلَى أُكَيْدِرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ- وَكَانَ أُكَيْدِرٌ مِنْ كِنْدَةَ قَدْ مَلَكَهُمْ وَكَانَ نَصْرَانِيّا- فَقَالَ خَالِدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ لِي بِهِ وَسَطَ بِلَادِ كَلْبٍ، وَإِنّمَا أَنَا فِي أُنَاسٍ يَسِيرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ فَتَأْخُذَهُ. قَالَ: فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى إذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ الرّبَابُ بِنْتُ أُنَيْفِ بْنِ عَامِرٍ مِنْ كِنْدَةَ، وَصَعِدَ عَلَى ظَهْرِ الْحِصْنِ مِنْ الْحَرّ، وَقَيْنَتُهُ تُغَنّيهِ، ثُمّ دعا بشراب فشرب. فأقبلت البقر
تَحُكّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْحِصْنِ، فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ الرّبَابُ فَأَشْرَفَتْ عَلَى الْحِصْنِ فَرَأَتْ الْبَقَرَ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ فِي اللّحْمِ! هَلْ رَأَيْت مِثْلَ هَذَا قَطّ؟ قَالَ: لَا! ثُمّ قَالَتْ [ (1) ] : مَنْ يَتْرُكُ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَحَدَ! قَالَ: يَقُولُ أُكَيْدِرٌ: وَاَللهِ، مَا رَأَيْت جَاءَتْنَا لَيْلَةً بَقَرٌ غَيْرَ تِلْكَ اللّيْلَةِ، وَلَقَدْ كُنْت أُضْمِرُ لَهَا الْخَيْلَ إذَا أَرَدْت أَخْذَهَا شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ، ثُمّ أَرْكَبُ بِالرّجَالِ وَبِالْآلَةِ. فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ، وَأَمَرَ بِخَيْلٍ فَأُسْرِجَتْ، وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، مَعَهُ أَخُوهُ حَسّانُ وَمَمْلُوكَانِ، فَخَرَجُوا مِنْ حِصْنِهِمْ بِمَطَارِدِهِمْ [ (2) ] ، فَلَمّا فَصَلُوا مِنْ الْحِصْنِ، وَخَيْلُ خَالِدٍ تَنْظُرُهُمْ لَا يَصْهِلُ مِنْهَا فَرَسٌ وَلَا يَتَحَرّكُ، فَسَاعَةَ فَصَلَ أَخَذَتْهُ الْخَيْلُ، فَاسْتَأْسَرَ أُكَيْدِرٌ وَامْتَنَعَ حَسّانُ، فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ، وَهَرَبَ الْمَمْلُوكَانِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَدَخَلُوا الْحِصْنَ. وَكَانَ عَلَى حَسّانَ قَبَاءُ دِيبَاجٍ مُخَوّصٌ بِالذّهَبِ، فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ فَبَعَثَ بِهِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ حَتّى قَدِمَ عليهم فأخبرهم بأخذهم أكيدر. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: رَأَيْنَا قَبَاءَ حَسّانَ أَخِي أُكَيْدِرٍ حِينَ قَدِمَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَتَلَمّسُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيَتَعَجّبُونَ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: أتعجبون من هذا؟ فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا! وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: إنْ ظَفِرْت بِأُكَيْدِرٍ فَلَا تَقْتُلْهُ وَائْتِ بِهِ إلَيّ، فَإِنّ أَبَى فَاقْتُلُوهُ، فَطَاوَعَهُمْ. فقال بجير بن
بجرة من طيّء، ذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالِدٍ «إنّك تَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَر» وَمَا صَنَعَ الْبَقَرُ تِلْكَ اللّيْلَةَ بِبَابِ الْحِصْنِ تَصْدِيقُ قَوْلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال شِعْرًا: تَبَارَكَ سَائِقُ الْبَقَرَاتِ إنّي ... رَأَيْت اللهَ يُهْدِي كُلّ هَادِ وَمَنْ يَكُ عَانِدًا عَنْ ذِي تَبُوكَ ... فَإِنّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْجِهَادِ وَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لِأُكَيْدِرٍ: هَلْ لَك أَنْ أُجِيرَك مِنْ الْقَتْلِ حَتّى آتِيَ بِك رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ تَفْتَحَ لِي دُومَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَلِكَ لَك. فلمّا صالح خالد أكيدر، وَأُكَيْدِرٌ فِي وَثَاقٍ، انْطَلَقَ بِهِ خَالِدٌ حَتّى أَدْنَاهُ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ وَنَادَى أُكَيْدِرٌ أَهْلَهُ: افْتَحُوا بَابَ الْحِصْنَ! فَرَأَوْا ذَلِكَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ مُضَادٌ [ (1) ] أَخُو أُكَيْدِرٍ، فَقَالَ أُكَيْدِرٌ لِخَالِدٍ: تَعْلَمُ وَاَللهِ لَا يَفْتَحُونَ لِي مَا رَأَوْنِي فِي وَثَاقٍ، فَخَلّ عَنّي فَلَك اللهُ وَالْأَمَانَةُ أَنْ أَفْتَحَ لَك الْحِصْنَ إنْ أَنْت صَالَحْتنِي عَلَى أَهْلِهِ. قَالَ خَالِدٌ: فَإِنّي أُصَالِحُك. فَقَالَ أُكَيْدِرٌ: إنْ شِئْت حَكّمْتُك وَإِنْ شِئْت حَكّمْنِي. قَالَ خَالِدٌ: بَلْ، نَقْبَلُ مِنْك مَا أَعْطَيْت. فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفَيْ بَعِيرٍ، وَثَمَانِمِائَةِ رَأْسٍ [ (2) ] ، وَأَرْبَعِمِائَةِ دِرْعٍ، وَأَرْبَعِمِائَةِ رُمْحٍ، عَلَى أَنْ يَنْطَلِقَ بِهِ وَأَخِيهِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَيَحْكُمَ فِيهِمَا حُكْمَهُ. فَلَمّا قَاضَاهُ خَالِدٌ عَلَى ذَلِكَ خَلّى سَبِيلَهُ فَفُتِحَ الْحِصْنُ، فَدَخَلَهُ خَالِدٌ وَأَوْثَقَ أَخَاهُ مُضَادًا أَخَا أُكَيْدِرٍ، وَأَخَذَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِبِلِ وَالرّقِيقِ وَالسّلَاحِ، ثُمّ خَرَجَ قَافِلًا إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ أُكَيْدِرٌ وَمُضَادٌ. فَلَمّا قَدِمَ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ وَحَقَنَ دمه ودم
أَخِيهِ وَخَلّى سَبِيلَهُمَا. وَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا فِيهِ أَمَانُهُمْ وَمَا صَالَحَهُمْ، وَخَتَمَهُ يَوْمَئِذٍ بِظُفْرِهِ. قَالُوا: وَأَقْبَلَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ اللّيْثِيّ، وَكَانَ يَنْزِلُ نَاحِيَةَ الْمَدِينَةِ، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَصَلّى مَعَهُ الصّبْحَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلّى الصّبْحَ انْصَرَفَ فَيَتَصَفّحُ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ. فَلَمّا دَنَا مِنْ وَاثِلَةَ أَنْكَرَهُ فَقَالَ: مَنْ أَنْت؟ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِك؟ قَالَ: أُبَايِعُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فِيمَا أَطَقْت؟ قَالَ وَاثِلَةُ: نَعَمْ. فَبَايَعَهُ- وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يَتَجَهّزُ إلَى تَبُوكَ- فَخَرَجَ الرّجُلُ إلَى أَهْلِهِ، فَلَقِيَ أَبَاهُ الْأَسْقَعَ فَلَمّا رَأَى حَالَهُ قَالَ: قَدْ فَعَلْتهَا! قَالَ وَاثِلَةُ: نَعَمْ. قَالَ أَبُوهُ: وَاَللهِ لَا أُكَلّمُك أَبَدًا. فَأَتَى عَمّهُ، وَهُوَ مُولِي ظَهْرَهُ الشّمْسَ، فَسَلّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتهَا! قَالَ: نَعَمْ. وَلَامَهُ لَائِمَةً أَيْسَرَ مِنْ لَائِمَةِ أَبِيهِ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَك أَنْ تَسْبِقَنَا بِأَمْرٍ، فَسَمِعْت أُخْتَ وَاثِلَةَ كَلَامَهُ فَخَرَجَتْ إلَيْهِ فَسَلّمَتْ عَلَيْهِ بِتَحِيّةِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ وَاثِلَةُ: أَنّى لَك هَذَا يَا أُخَيّةُ؟ قَالَتْ: سَمِعْت كَلَامَك وَكَلَامَ عَمّك. وَكَانَ وَاثِلَةُ ذَكَرَ الْإِسْلَامَ وَوَصَفَهُ لِعَمّهِ، فَأَعْجَبَ أُخْتَه الْإِسْلَامُ فَأَسْلَمَتْ، فَقَالَ وَاثِلَةُ: لَقَدْ أَرَادَ اللهُ بِك أُخَيّةُ خَيْرًا! جَهّزِي أَخَاك جِهَازَ غَازٍ، فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جُنَاحِ سَفَرٍ. فَأَعْطَتْهُ مُدّا مِنْ دَقِيقٍ فَعَجَنَ الدّقِيقَ فِي الدّلْوِ، وَأَعْطَتْهُ تَمْرًا فَأَخَذَهُ. وَأَقْبَلَ إلَى الْمَدِينَةِ فَوَجَدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَحَمّلَ إلَى تَبُوكَ، وَبَقِيَ عِيرَاتٌ مِنْ النّاسِ وَهُمْ عَلَى الشّخُوصِ [ (1) ]- وَإِنّمَا رَحَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بيومين- فجعل ينادى
بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ: مَنْ يَحْمِلُنِي وَلَهُ سَهْمِي! قَالَ: وَكُنْت رَجُلًا لَا رِجْلَةَ لِي، فَدَعَانِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَنَا أَحْمِلُك عُقْبَةً بِاللّيْلِ وَعُقْبَةً بِالنّهَارِ، وَيَدُك أُسْوَةُ يَدِي وَلِي سَهْمُك! قَالَ وَاثِلَةُ: نَعَمْ. فَقَالَ وَاثِلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ: جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا! لَقَدْ كَانَ يَحْمِلُنِي عُقْبَتَيّ، وَيَزِيدُنِي وَآكُلُ مَعَهُ وَيَرْفَعُ لِي، حَتّى إذَا بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرٍ الْكِنْدِيّ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ خَرَجَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فِي جَيْشِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَخَرَجْت مَعَهُ فَأَصَبْنَا فِيهَا كَثِيرًا، فَقَسَمَهُ خَالِدٌ بَيْنَنَا، فَأَصَابَنِي سِتّ قَلَائِصَ [ (1) ] ، فَأَقْبَلْت أَسُوقُهَا حَتّى جِئْت بِهَا خَيْمَةَ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فَقُلْت: اُخْرُجْ رَحِمَك اللهُ فَانْظُرْ إلَى قَلَائِصِك فَاقْبِضْهَا! فَخَرَجَ إلَيّ وَهُوَ يَتَبَسّمُ وَيَقُولُ: بَارَكَ اللهُ لَك فِيهَا! مَا حَمَلْتُك وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَ مِنْك شَيْئًا. وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَحِمَهُ اللهُ يُحَدّثُ يقول: أسرنا أكيدر فَأَصَابَنِي مِنْ السّلَاحِ دِرْعٌ وَبَيْضَةٌ وَرُمْحٌ، وَأَصَابَنِي عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ. وَكَانَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ المزنىّ يحدّث يقول: أسرنا أكيدر وَأَخَاهُ، فَقَدِمْنَا بِهِمَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُزِلَ يَوْمَئِذٍ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيّ خَالِصٌ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ شَيْءٌ مِنْ الْفَيْءِ، ثُمّ خَمّسَ الْغَنَائِمَ فَكَانَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمْسَ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيّ يَقُولُ: كُنّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَتْ سُهْمَانُنَا خُمْسَ فَرَائِضِ، كُلّ رَجُلٍ مَعَ سِلَاحٍ، يُقَسّمُ عَلَيْنَا دِرْعٌ وَرِمَاحٌ. قَالَ: حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ عَاصِمِ بن عمر بن
قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أبيه، قال: رأيت أكيدر حِينَ قَدِمَ بِهِ خَالِدٌ وَعَلَيْهِ صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ وَعَلَيْهِ الدّيبَاجُ ظَاهِرٌ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ دُومَةَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ لِأُكَيْدِرٍ حِينَ أَجَابَ إلَى الْإِسْلَامِ وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَصْنَامَ، مَعَ خَالِدِ ابن الْوَلِيدِ سَيْفِ اللهِ، فِي دُومَةِ الْجَنْدَلِ وَأَكْنَافِهَا. وَإِنّ لَنَا الضّاحِيَةَ [ (1) ] مِنْ الضّحْلِ، وَالْبُورِ، وَالْمَعَامِي، وَأَغْفَالِ الْأَرْضِ، وَالْحَلْقَةِ، وَالسّلَاحِ، وَالْحَافِرِ، وَالْحِصْنِ، وَلَكُمْ الضّامِنَةُ مِنْ النّخْلِ، وَالْمَعِينُ مِنْ الْمَعْمُورِ بَعْدَ الْخُمُسِ، لَا تُعْدَلُ سَارِحَتُكُمْ وَلَا تُعَدّ فَارِدَتُكُمْ، وَلَا يُحْظَرُ عَلَيْكُمْ النّبَاتُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ عُشْرُ الْبَتَاتِ [ (2) ] ، تُقِيمُونَ الصّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَتُؤْتُونَ الزّكَاةَ لِحَقّهَا. عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَلَكُمْ بِذَلِكَ الصّدْقُ وَالْوَفَاءُ. شَهِدَ اللهُ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُسْلِمِين. قَالَ: الضّحْلُ: الّذِي فِيهِ الْمَاءُ الْقَلِيلُ، وَالْبُورُ: مَا لَيْسَ فِيهِ زَرْعٌ، وَالْمَعَامِي: مَا لَيْسَتْ لَهُ حُدُودٌ مَعْلُومَةٌ، وَأَغْفَالُ الْأَرْضِ: مِيَاهٌ، وَلَا تُعَدّ فَارِدَتُكُمْ: يَقُولُ لَا يُعَدّ مَا يَبْلُغُ أَرْبَعِينَ شَاةً، وَالْحَافِرُ: الْخَيْلُ، وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الظّاهِرُ، وَالضّامِنَةُ مِنْ النّخْلِ: النّبَاتُ مِنْ النّخْلِ الّتِي قَدْ نَبَتَتْ عُرُوقُهَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُحْظَرُ عَلَيْكُمْ النّبَاتُ: وَلَا تُمْنَعُوا أَنْ تَزْرَعُوهُ. قالوا: وَأَهْدَى لَهُ هَدِيّةً فِيهَا كِسْوَةٌ، وَكَتَبَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا آمَنَهُ فِيهِ وَفِيهِ الصّلْحُ، وَآمَنَ أَخَاهُ وَوَضَعَ عَلَيْهِ فِيهِ الْجِزْيَةَ، فَلَمْ يَكُ فِي يَدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمٌ فَخَتَمَهُ بظفره.
وَكَانَتْ دُومَةُ، وَأَيْلَةُ [ (1) ] ، وَتَيْمَاءُ [ (2) ] ، قَدْ خَافُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا رَأَوْا الْعَرَبَ قَدْ أَسْلَمَتْ. وَقَدِمَ يُحَنّةُ بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَلَكَ أَيْلَةَ، وَأَشْفَقُوا أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَعَثَ إلَى أُكَيْدِرٍ. وَأَقْبَلَ مَعَهُ أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ [ (3) ] ، فَأَتَوْهُ فَصَالَحَهُمْ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ، جِزْيَةً مَعْلُومَةً، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، هَذَا أَمَنَةٌ مِنْ اللهِ وَمُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللهِ لِيَحْنَةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، لِسُفُنِهِمْ وَسَائِرِهِمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ، لَهُمْ ذِمّةُ اللهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ، وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشّامِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ. وَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَإِنّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنّهُ طَيّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النّاسِ، وَإِنّهُ لَا يَحِلّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يُرِيدُونَهُ، وَلَا طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرّ أَوْ بَحْرٍ. هَذَا كِتَابُ جُهَيْمِ بْنِ الصّلْتِ وَشُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم. وَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ أَيْلَةَ، ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ كُلّ سَنَةٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ. قَالَ: حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْت يُحَنّةَ بْنَ رُؤْبَةَ يَوْمَ أُتِيَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَهُوَ مَعْقُودُ النّاصِيَةِ، فَلَمّا رَأَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفّرَ [ (4) ] وَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ، فَأَوْمَأَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْفَعْ رَأْسَك! وَصَالَحَهُ يَوْمَئِذٍ، وَكَسَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدًا يُمْنَةً [ (1) ] ، وَأَمَرَ لَهُ بِمَنْزِلٍ عِنْدَ بِلَالٍ. وَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ هَذَا الْكِتَابَ: مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللهِ لِأَهْلِ أَذْرُحَ، أَنّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللهِ وَأَمَانِ مُحَمّدٍ، وَأَنّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ دِينَارٍ فِي كُلّ رَجَبٍ وَافِيَةٍ طَيّبَةٍ، وَاَللهُ كَفِيلٌ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: نَسَخْت كِتَابَ أَذْرُحَ وَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ أَذْرُحَ، أَنّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللهِ وَأَمَانِ مُحَمّدٍ، وَأَنّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ دِينَارٍ فِي كُلّ رَجَبٍ وَافِيَةٍ طَيّبَةٍ، وَاَللهُ كَفِيلٌ عَلَيْهِمْ بِالنّصْحِ وَالْإِحْسَانِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ لَجَأَ [إلَيْهِمْ] [ (2) ] من المسلمين من المخافة والتّعزير إذا خَشَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ آمِنُونَ، حَتّى يُحْدِثَ إلَيْهِمْ مُحَمّدٌ قَبْلَ خُرُوجِه. قَالُوا: وَكَتَبَ لِأَهْلِ مَقْنَا [ (3) ] أَنّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللهِ وَأَمَانِ مُحَمّدٍ، وَأَنّ عَلَيْهِمْ رُبْعَ غُزُولِهِمْ وَرُبْعَ ثِمَارِهِمْ. وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ يَاسِرِ بْنِ نُمَيْرٍ أَحَدَ سَعْدِ اللهِ [ (4) ] ، وَرَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ أَحَدَ بَنِي وَائِلٍ، قَدِمَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبرك، فَأَسْلَمَا وَأَعْطَاهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبْعَ مَقْنَا مِمّا يَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ وَمِنْ الثّمَرِ مِنْ نَخْلِهَا، وَرُبْعَ الْمَغْزِلِ. وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ يَاسِرٍ فَارِسًا، وَكَانَ الْجُذَامِيّ رَاجِلًا، فَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسَ عُبَيْدِ بْنِ يَاسِرٍ مِائَةَ ضَفِيرَةٍ- وَالضّفِيرَةُ: الْحُلّةُ- فَلَمْ يَزَلْ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى بَنِي سَعْدٍ، وَبَنِيّ وَائِلٍ إلَى يَوْمِ النّاسِ هَذَا.
ثُمّ إنّ عُبَيْدَ بْنَ يَاسِرٍ قَدِمَ مَقْنَا وَبِهَا يَهُودِيّةٌ، وَكَانَتْ الْيَهُودِيّةُ تَقُومُ عَلَى فَرَسِهِ، فَأَعْطَاهَا سِتّينَ ضَفِيرَةً مِنْ ضَفَائِرِ فَرَسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَجْرِي عَلَى الْيَهُودِيّةِ حَتّى نُزِعَتْ آخِرَ زَمَانِ بَنِي أُمَيّةَ، فَلَمْ تُرَدّ إلَيْهَا وَلَا إلَى وَلَدِ عُبَيْدٍ. وَكَانَ عُبَيْدٌ قَدْ أَهْدَى لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا عَتِيقًا يُقَالُ لَهُ مُرَاوِحُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَابِقْ! فَأَجْرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَيْلَ بِتَبُوكَ فَسَبَقَ الْفَرَسُ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، فَسَأَلَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْفَرَسَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ سَبْحَةُ؟ فَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ قَدْ شَهِدَ عَلَيْهَا بَدْرًا. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدِي، وَقَدْ كَبِرَتْ وَأَنَا أَضِنّ بِهَا لِلْمَوَاطِنِ الّتِي شَهِدْت عَلَيْهَا، وَقَدْ خَلّفْتهَا لِبُعْدِ هَذَا السّفَرِ وَشِدّةِ الْحَرّ عَلَيْهَا، فَأَرَدْت أُحَمّلُ هَذَا الْفَرَسَ الْمُعْرِقَ عَلَيْهَا فَتَأْتِينِي بِمُهْرٍ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَاكَ إذًا! فَقَبَضَهُ الْمِقْدَادُ، فَخَبِرَ مِنْهُ صِدْقًا، ثُمّ حَمّلَهُ عَلَى سَبْحَةَ فَنَتَجَتْ لَهُ مُهْرًا كَانَ سَابِقًا يُقَالُ لَهُ الذّيّالُ، سَبَقَ فِي عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَابْتَاعَهُ مِنْهُ عُثْمَانُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا. قَالُوا: وَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ يُرِيدُ حَاجَتَهُ، فَرَأَى نَاسًا مُجْتَمِعِينَ فَقَالَ: مَا لَهُمْ؟ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَعِيرٌ لِرَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ الْجُهَنِيّ، نَحَرَهُ فَأَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ، فَخَلّى بَيْنَ النّاسِ وَبَيْنَهُ، فَأَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَرُدّ رَافِعُ مَا أَخَذَ وَمَا أَخَذَهُ النّاسُ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ نُهْبَةٌ لَا تَحِلّ! قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ صَاحِبَهُ أَذِنَ فِي أَخْذِهِ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِنّ أَذِنَ فِي أَخْذِهِ! قَالُوا وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيّ الصّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ظِلّ خِبَاءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ خِدْمَةُ خَادِمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ طَرُوقَةُ [ (1) ] فحل فى سبيل الله.
وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يُحَدّثُ يَقُولُ: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي تَبُوكَ فَقَالَ: اقْطَعُوا قَلَائِدَ الْإِبِلِ مِنْ الْإِبِلِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَالْخَيْلُ؟ قَالَ: لَا تُقَلّدُوهَا [ (1) ] بِالْأَوْتَارِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَلَى حَرَسِهِ بِتَبُوكَ مِنْ يَوْمِ قَدِمَ إلَى أَنْ رَحَلَ مِنْهَا عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ، فَكَانَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ يَطُوفُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الْعَسْكَرِ، فَغَدَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا زِلْنَا نَسْمَعُ صَوْتَ تَكْبِيرٍ مَنْ وَرَائِنَا حَتّى أَصْبَحْنَا، فَوَلّيْت أَحَدَنَا يَطُوفُ عَلَى الْحَرَسِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا فَعَلْت، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خيلنا انتدب [ (2) ] . فقال سلكان ابن سَلَامَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، خَرَجْت فِي عَشْرَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خَيْلِنَا فَكُنّا نَحْرُسُ الْحَرَسَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رَحِمَ اللهُ حَرَسَ الْحَرَسِ فِي سَبِيلِ اللهِ! قَالَ: فَلَكُمْ قِيرَاطٌ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى كُلّ مَنْ حَرَسْتُمْ مِنْ النّاسِ جَمِيعًا أَوْ دَابّةٌ. قَالُوا: وَقَدِمَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ هُذَيْمٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا قَدِمْنَا عَلَيْك وَتَرَكْنَا أَهْلَنَا عَلَى بِئْرٍ لَنَا، قَلِيلٌ مَاؤُهَا، وَهَذَا الْقَيْظُ، وَنَحْنُ نَخَافُ إنْ تَفَرّقْنَا أَنْ نُقْتَطَعَ، لِأَنّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَفْشُ حَوْلَنَا بَعْدُ، فَادْعُ اللهَ لَنَا فِي مَاءِ بِئْرِنَا، وَإِنْ رُوِينَا بِهِ فَلَا قَوْمَ أَعَزّ مِنّا، لَا يَعْبُرُ بِنَا أَحَدٌ مُخَالِفٌ لِدِينِنَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْلِغُونِي حَصَيَاتٍ! فَتَنَاوَلْت ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَدَفَعْتهنّ إلَيْهِ، فَفَرَكَهُنّ بِيَدِهِ
ثُمّ قَالَ: اذْهَبُوا بِهَذِهِ الْحَصَيَاتِ إلَى بِئْرِكُمْ فَاطْرَحُوهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَسَمّوا اللهَ. فَانْصَرَفُوا مِنْ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَجَاشَتْ بِئْرُهُمْ بِالرّوَاءِ [ (1) ] ، وَنَفَوْا مَنْ قَارَبَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَوَطِئُوهُمْ، فَمَا انْصَرَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى أوطأوا مَنْ حَوْلَهُمْ عَلَيْهِ وَدَانُوا بِالْإِسْلَامِ. قَالُوا: وَكَان زيد بن ثابت يحدّث يقول: عزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ، فَكُنّا نَشْتَرِي وَنَبِيعُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَانَا وَلَا يَنْهَانَا. قَالَ: وَكَانَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: أَقَمْنَا بِتَبُوكَ الْمُقَامَ فَأَرْمَلْنَا مِنْ الزّادِ وَقَرَمْنَا [ (2) ] إلَى اللّحْمِ وَنَحْنُ لَا نَجِدُهُ، فَجِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ اللّحْمَ هَاهُنَا، وَقَدْ سَأَلْت أَهْلَ الْبَلَدِ عَنْ الصّيْدِ فَذَكَرُوا لِي صَيْدًا قَرِيبًا- فَأَشَارُوا إلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ- فَأَذْهَبُ فَأَصِيدُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ ذَهَبْت فَاذْهَبْ فِي عِدّةٍ مِنْ أَصْحَابِك، وَكُونُوا عَلَى خَيْلٍ، فَإِنّكُمْ تَتَفَرّقُونَ مِنْ الْعَسْكَرِ. قَالَ: فَانْطَلَقَتْ فِي عَشْرَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ- وَكَانَ صَاحِبَ طَرْدٍ بِالرّمْحِ وَكُنْت رَامِيًا- فَطَلَبْنَا الصّيْدَ فَأَدْرَكْنَا صَيْدًا، فَقَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ خَمْسَةَ أَحْمِرَةٍ [ (3) ] بِالرّمْحِ عَلَى فَرَسِهِ، وَرَمَيْت قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ ظَبْيًا، وَأَخَذَ أَصْحَابُنَا الظّبْيَيْنِ وَالثّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ، وَأَخَذْنَا نَعَامَةً طَرَدْنَاهَا عَلَى خَيْلِنَا. ثُمّ رَجَعْنَا إلَى الْعَسْكَرِ، فَجِئْنَاهُمْ عِشَاءً وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يسأل عنّا: ما
جَاءُوا بَعْدُ؟ فَجِئْنَا إلَيْهِ فَأَلْقَيْنَا ذَلِكَ الصّيْدَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: فَرّقُوهُ فِي أَصْحَابِكُمْ! قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْت مُرْ بِهِ رَجُلًا! قَالَ: فَأَمَرَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ. قَالَ: فَجَعَلْت أُعْطِي الْقَبِيلَةَ بِأَسْرِهَا الْحِمَارَ وَالظّبْيَ، وَأُفَرّقُ ذَلِكَ حَتّى كَانَ الّذِي صَارَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَبْيٌ وَاحِدٌ مَذْبُوحٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَطُبِخَ، فَلَمّا نَضِجَ دَعَا بِهِ- وَعِنْدَهُ أَضْيَافٌ- فَأَكَلُوا. وَنَهَانَا بَعْدَ أَنْ نَعُودَ وَقَالَ: لَا آمَنُ. أَوْ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْكُمْ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ، عَن عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: كُنْت أَلْزَمُ باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ وَالسّفَرِ، فَرَأَيْتنَا [ (1) ] لَيْلَةً وَنَحْنُ بِتَبُوكَ وَذَهَبْنَا لِحَاجَةٍ، فَرَجَعْنَا إلَى مَنْزِلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَعَشّى وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَضْيَافِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ فِي قُبّتِهِ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ، فَلَمّا طَلَعْت عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ كُنْت مُنْذُ اللّيْلَةِ؟ فَأَخْبَرْته، فَطَلَعَ جِعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُغَفّلٍ الْمُزَنِيّ- فَكُنّا ثَلَاثَةً، كُلّنَا جَائِعٌ، إنّمَا نَعِيشُ بِبَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ فَطَلَبَ شَيْئًا نَأْكُلُهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَخَرَجَ إلَيْنَا فَنَادَى بِلَالًا: يَا بِلَالُ، هَلْ مِنْ عَشَاءٍ لِهَؤُلَاءِ النّفَرِ؟ قَالَ: لَا وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، لَقَدْ نَفَضْنَا جُرُبَنَا وَحُمُتَنَا [ (2) ] . قَالَ: اُنْظُرْ، عَسَى أَنْ تَجِدَ شَيْئًا، فَأَخَذَ الْجُرُبَ يَنْفُضُهَا جِرَابًا جِرَابًا، فَتَقَعُ التّمْرَةُ وَالتّمْرَتَانِ، حَتّى رَأَيْت بَيْنَ يَدَيْهِ سَبْعَ تَمَرَاتٍ، ثُمّ دَعَا بِصَحْفَةٍ فَوَضَعَ فِيهَا التّمْرَ، ثُمّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى التّمَرَاتِ وَسَمّى اللهَ وَقَالَ: كُلُوا بسم الله!
فَأَكَلْنَا فَأَحْصَيْت أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ تَمْرَةً أَكَلْتهَا، أَعُدّهَا وَنَوَاهَا فِي يَدِي الْأُخْرَى، وَصَاحِبَايَ يَصْنَعَانِ مَا أَصْنَعُ، وَشَبِعْنَا وَأَكَلَ كُلّ وَاحِدٍ مِنّا خَمْسِينَ تَمْرَةً، وَرَفَعْنَا أَيْدِيَنَا فَإِذَا التّمَرَاتُ السّبْعُ كَمَا هِيَ، فَقَالَ: يَا بِلَالُ، ارْفَعْهَا فِي جِرَابِك، فَإِنّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا أَحَدٌ إلّا نَهِلَ شِبَعًا. قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ حَوْلَ قُبّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ يَتَهَجّدُ مِنْ اللّيْلِ، فَقَامَ تِلْكَ اللّيْلَةَ يُصَلّي، فَلَمّا طَلَعَ الْفَجْرُ رَكَعَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَأَذّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّاسِ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى فِنَاءِ قُبّتِهِ، فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَرَأَ مِنْ «الْمُؤْمِنِينَ» عَشْرًا [ (1) ] ، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ فِي الْغَدَاءِ؟ قَالَ عِرْبَاضٌ: فَجَعَلْت أَقُولُ فِي نَفْسِي: أَيّ غَدَاءٍ؟ فَدَعَا بِلَالٌ بِالتّمْرِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فِي الصّحْفَةِ ثُمّ قَالَ: كُلُوا بِسْمِ اللهِ! فَأَكَلْنَا- وَاَلّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقّ- حَتّى شَبِعْنَا وَإِنّا لَعَشْرَةٌ، ثُمّ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ مِنْهَا شِبَعًا وَإِذَا التّمَرَاتُ كَمَا هِيَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا أَنّي أَسْتَحْيِيَ مِنْ رَبّي لَأَكَلْنَا مِنْ هَذَا التّمْرِ حَتّى نَرِدَ الْمَدِينَةَ عَنْ آخِرِنَا. وَطَلَعَ غُلَيْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التّمَرَاتِ بِيَدِهِ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ، فَوَلّى الْغُلَامُ يَلُوكُهُنّ. فَلَمّا أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَسِيرَ مِنْ تَبُوكَ أَرْمَلَ النّاسُ إرْمَالًا شَدِيدًا، فَشَخَصَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ حَتّى جَاءَ النّاسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُونَهُ [ (2) ] أَنْ يَنْحَرُوا رِكَابَهُمْ فَيَأْكُلُوهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُمْ عَلَى نَحْرِهَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْ نَحْرِهَا، ثُمّ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْمَةٍ لَهُ فَقَالَ: أَذِنْت لِلنّاسِ فِي نَحْرِ حَمُولَتِهِمْ يَأْكُلُونَهَا؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: شكوا إلَيّ مَا بَلَغَ مِنْهُمْ الْجُوعُ فَأَذِنْت لَهُمْ، ينحر الرّفقة البعير والبعيرين، ويتعاقبون
فِيمَا فَضَلَ مِنْ ظَهْرِهِمْ، وَهُمْ قَافِلُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تَفْعَلْ! فَإِنْ يَكُنْ لِلنّاسِ فَضْلٌ مِنْ ظَهْرِهِمْ يَكُنْ خَيْرًا، فَالظّهْرُ الْيَوْمَ رِقَاقٌ [ (1) ] ، وَلَكِنْ اُدْعُ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ثُمّ اجْمَعْهَا فَادْعُ اللهَ فِيهَا بِالْبَرَكَةِ كَمَا فَعَلْت فِي مُنْصَرَفِنَا مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ حَيْثُ أَرْمَلْنَا، فَإِنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ يَسْتَجِيبُ لَك! فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَأْتِ بِهِ! وَأَمَرَ بِالْأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَجَعَلَ الرّجُلُ يَأْتِي بِالْمُدّ الدّقِيقِ وَالسّوِيقِ وَالتّمْرِ، وَالْقَبْضَةِ مِنْ الدّقِيقِ وَالسّوِيقِ وَالتّمْرِ وَالْكِسَرِ. فَيُوضَعُ كُلّ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حِدَةٍ، وَكُلّ ذَلِكَ قَلِيلٌ، فَكَانَ جَمِيعُ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الدّقِيقِ وَالسّوِيقِ وَالتّمْرِ ثَلَاثَةَ أَفْرَاقٍ [ (2) ] حَزْرًا. ثُمّ قَامَ فَتَوَضّأَ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ دَعَا اللهَ عَزّ وَجَلّ أَنْ يُبَارِكَ فِيه. فَكَانَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدّثُونَ جَمِيعًا حَدِيثًا وَاحِدًا، حَضَرُوا ذَلِكَ وَعَايَنُوهُ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حُمَيْدٍ السّاعِدِيّ، وَأَبُو زُرْعَةَ الْجُهَنِيّ مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السّاعِدِيّ، قَالُوا: ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَادَى مُنَادِيهِ: هَلُمّوا إلَى الطّعَامِ، خُذُوا مِنْهُ حَاجَتَكُمْ! وَأَقْبَلَ النّاسُ، فَجَعَلَ كُلّ مَنْ جَاءَ بِوِعَاءٍ مَلَأَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ طَرَحْت يَوْمَئِذٍ كِسْرَةً مِنْ خُبْزٍ وَقَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ، وَلَقَدْ رَأَيْت الْأَنْطَاعَ تَفِيضُ، وَجِئْت بِجِرَابَيْنِ فَمَلَأْت إحْدَاهُمَا سَوِيقًا وَالْآخَرَ خُبْزًا، وَأَخَذْت فِي ثَوْبِي دَقِيقًا، مَا كَفَانَا إلَى الْمَدِينَةِ. فَجَعَلَ النّاسُ يَتَزَوّدُونَ الزّادَ حَتّى نَهِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، حَتّى كَانَ آخِرُ ذَلِكَ أَنْ أُخِذَتْ الْأَنْطَاعُ وَنُثِرَ مَا عَلَيْهَا. فَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وَهُوَ وَاقِفٌ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا
اللهُ، وَأَنّي عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَشْهَدُ أَنّهُ لَا يَقُولُهَا أَحَدٌ مِنْ حَقِيقَةِ قَلْبِهِ إلّا وَقَاهُ اللهُ حَرّ النّارِ. وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَ تَبُوكَ وَوَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي النّاقَةِ- وَكَانَ فِيهِ وَشَلٌ [ (1) ] يَخْرُجُ مِنْهُ فِي أَسْفَلِهِ قَدْرَ مَا يَرْوِي الرّاكِبَيْنِ أَوْ الثّلَاثَةَ- فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سَبَقَنَا إلَى ذَلِكَ الْوَشَلِ فَلَا يَسْتَقِيَنّ مِنْهُ شَيْئًا حَتّى نَأْتِيَ! فَسَبَقَ إلَيْهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ: مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ [ (2) ] ، وَالْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الطّائِيّ، حَلِيفٌ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَزَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أَنْهَكُمْ؟ وَلَعَنَهُمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ، ثُمّ نَزَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْوَشَلِ، ثُمّ مَسَحَهُ بِإِصْبَعِهِ حَتّى اجْتَمَعَ فِي كَفّهِ مِنْهُ مَاءٌ قَلِيلٌ، ثُمّ نَضَحَهُ [ (3) ] ، ثُمّ مَسَحَهُ بِيَدِهِ، ثُمّ دَعَا بِمَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، فَانْخَرَقَ [ (4) ] الْمَاءُ. قال معاذ ابن جَبَلٍ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَمِعْت لَهُ شِدّةً فِي انْحِرَافِهِ مِثْلَ الصّوَاعِقِ! فَشَرِبَ النّاسُ مَا شَاءُوا، وَسَقَوْا مَا شَاءُوا، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَئِنْ بَقِيتُمْ- أَوْ بَقِيَ مِنْكُمْ- لَتَسْمَعُنّ بِهَذَا الْوَادِي وَهُوَ أَخْصَبُ مِمّا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِمّا خَلْفَهُ! قَالَ: وَاسْتَقَى النّاسُ وَشَرِبُوا. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ سلامة ابن وَقّشٍ: قُلْت لِوَدِيعَةَ بْنِ ثَابِتٍ: وَيْلَك، أَبَعْدَ مَا تَرَى شَيْءٌ؟ أَمَا تَعْتَبِرُ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ يُفْعَلُ مِثْلُ هَذَا قَبْلَ هَذَا! ثُمّ سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: حَدّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخُو عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة المازنىّ، عن خلّاد ابن سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نَسِيرُ فِي الْجَيْشِ لَيْلًا، وَهُوَ قَافِلٌ وَأَنَا مَعَهُ، إذْ خَفَقَ خَفْقَةً وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَمَالَ عَلَى شِقّهِ، فَدَنَوْت مِنْهُ فَدَعَمْته [ (1) ] فَانْتَبَهَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْت: أَبُو قَتَادَةَ يَا رَسُولَ اللهِ، خِفْت أَنْ تَسْقُطَ فَدَعَمْتُك. فَقَالَ: حَفِظَك اللهُ كَمَا حَفِظْت رَسُولَ اللهِ! ثُمّ سَارَ غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمّ فَعَلَ مِثْلَهَا، فَدَعَمْته فَانْتَبَهَ فَقَالَ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، هَلْ لَك فِي التّعْرِيسِ [ (2) ] ؟ فَقُلْت: مَا شِئْت يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: اُنْظُرْ مَنْ خَلْفَك! فَنَظَرْت فَإِذَا رَجُلَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، فَقَالَ: اُدْعُهُمْ! فَقُلْت: أَجِيبُوا رَسُولَ اللهِ! فَجَاءُوا فَعَرّسْنَا وَنَحْنُ خَمْسَةٌ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعِي إدَاوَةٌ فِيهَا مَاءٌ وَرَكْوَةٌ [ (3) ] لِي أَشْرَبُ فِيهَا، فَنِمْنَا فَمَا انْتَبَهْنَا إلّا بِحَرّ الشّمْسِ، فَقُلْنَا: إنّا لِلّهِ! فَاتَنَا الصّبْحُ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنَغِيظَنّ الشّيْطَانَ كَمَا أَغَاظَنَا. فَتَوَضّأَ مِنْ مَاءِ الْإِدَاوَةِ فَفَضَلَ فَضْلَةٌ فَقَالَ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، احْتَفِظْ بِمَا فِي الْإِدَاوَةِ وَالرّكْوَةِ فَإِنّ لَهَا شَأْنًا، ثُمّ صَلّى بِنَا الْفَجْرَ بَعْدَ طُلُوعِ الشّمْسِ فَقَرَأَ بِالْمَائِدَةِ، فَلَمّا انْصَرَفَ مِنْ الصّلَاةِ قَالَ: أَمَا إنّهُمْ لَوْ أَطَاعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَرَشَدُوا. وَذَلِك أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَرَادَا أَنْ يَنْزِلَا بِالْجَيْشِ عَلَى الْمَاءِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، فَنَزَلُوا عَلَى غَيْرِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ. فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَحِقَ الْجَيْشَ عِنْدَ زَوَالِ الشّمْسِ وَنَحْنُ مَعَهُ، وَقَدْ كَادَتْ تُقْطَعُ أَعْنَاقُ الرّجَالِ وَالْخَيْلِ عَطَشًا، فَدَعَا رَسُولُ الله صلّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرّكْوَةِ فَأَفْرَغَ مَا فِي الْإِدَاوَةِ فِيهَا، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ عَلَيْهَا فَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. وَأَقْبَلَ النّاسُ فَاسْتَقَوْا، وَفَاضَ الْمَاءُ حَتّى تَرَوّوْا، وَأَرْوَوْا خَيْلَهُمْ وَرِكَابَهُمْ، فَإِنْ كَانَ فِي الْعَسْكَرِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَعِيرٍ- وَيُقَالُ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفِ بَعِيرٍ- وَالنّاسُ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَالْخَيْلُ عَشْرَةُ آلَافٍ. وَذَلِكَ قَوْلُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي قَتَادَةَ: احْتَفِظْ بِالرّكْوَةِ وَالْإِدَاوَةِ! وَكَانَ فِي تَبُوكَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ مُنْحَدِرًا إلَى الْمَدِينَةِ- وَهُوَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ- عَطِشَ الْعَسْكَرُ بَعْدَ الْمَرّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَطَشًا شَدِيدًا حَتّى لَا يُوجَدُ لِلشّفَةِ مَاءٌ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ مُتَلَثّمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَسَى أَنْ تَجِدَ لَنَا مَاءً. فَخَرَجَ- وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ الْحِجْرِ وَتَبُوكَ- فَجَعَلَ يَضْرِبُ فِي كُلّ وَجْهٍ، فَيَجِدُ رَاوِيَةً مِنْ مَاءٍ مَعَ امْرَأَةٍ مِنْ بَلِيّ، وَكَلّمَهَا أُسَيْدٌ فَخَبّرَهَا بِخَبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: هَذَا الْمَاءُ، فَانْطَلِقْ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ! وَقَدْ وَضَعَتْ لَهُمْ الْمَاءَ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطّرِيقِ هُنَيّةٌ، فَلَمّا جَاءَ أُسَيْدٌ بِالْمَاءِ دَعَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ، ثُمّ قَالَ: هَلُمّوا أَسْقِيَتَكُمْ! فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ سِقَاءٌ إلّا ملأوه، ثُمّ دَعَا بِرِكَابِهِمْ وَخُيُولِهِمْ فَسَقَوْهَا حَتّى نَهِلَتْ. وَيُقَالُ: إنّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَ بِهِ أُسَيْدٌ وَصَبّهُ فِي قَعْبٍ عَظِيمٍ مِنْ عِسَاسِ [ (1) ] أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَأَدْخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ يَدَهُ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ رَفَعَ يَدَيْهِ مَدّا، ثُمّ انصرف وإنّ القعب ليفور. فقال رسول
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنّاسِ: زَوّدُوا! فَاتّسَعَ الْمَاءُ، وَانْبَسَطَ النّاسُ حَتّى يُصَفّ عَلَيْهِ الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ، فَأَرْوَوْا، وَإِنّ الْقَعْبَ لَيَجِيشُ بِالرّوَاءِ، ثُمّ رَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبْرِدًا مُتَرَوّيًا مِنْ الْمَاءِ. قَالَ: وَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي سَهْلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: خَرَجَتْ الْخَيْلُ فِي كُلّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَ الْمَاءَ، وَكَانَ أَوّلَ مَنْ طلع به ويخبره صَاحِبُ فَرَسٍ أَشْقَرَ، ثُمّ الثّانِي أَشْقَرُ، ثُمّ الثّالِثُ أَشْقَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، بَارِكْ فِي الشّقْرِ! قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَعْدُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي مُرّةَ مَوْلَى عُقَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الْخَيْلِ الشّقْرُ. قَالُوا: لَمّا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الطّرِيقِ مَكَرَ بِهِ أُنَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَائْتَمَرُوا أَنْ يَطْرَحُوهُ مِنْ عَقَبَةٍ فِي الطّرِيقِ. فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْعَقَبَةَ أَرَادُوا أَنْ يَسْلُكُوهَا مَعَهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُمْ، فَقَالَ لِلنّاسِ: اُسْلُكُوا بَطْنَ الْوَادِي، فَإِنّهُ أَسْهَلُ لَكُمْ وَأَوْسَعُ! فَسَلَكَ النّاسُ بَطْنَ الْوَادِي وَسَلَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ، وَأَمَرَ عَمّارَ بْنَ يَاسِرٍ أَنْ يَأْخُذَ بِزِمَامِ النّاقَةِ يَقُودُهَا، وَأَمَرَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَسُوقُ مِنْ خَلْفِهِ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي الْعَقَبَةِ إذْ سَمِعَ حِسّ الْقَوْمِ قَدْ غَشَوْهُ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَرُدّهُمْ، فَرَجَعَ حُذَيْفَةُ إلَيْهِمْ وَقَدْ رَأَوْا غَضَبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ. وَظَنّ الْقَوْمُ أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُطْلِعَ عَلَى مَكْرِهِمْ، فَانْحَطّوا مِنْ الْعَقَبَةِ مُسْرِعِينَ حَتّى خَالَطُوا النّاسَ، وَأَقْبَلَ حُذَيْفَةُ حَتّى أَتَى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاقَ بِهِ. فَلَمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْعَقَبَةِ نَزَلَ النّاسُ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا حُذَيْفَةُ، هَلْ عَرَفْت أَحَدًا مِنْ الرّكْبِ الّذِينَ رَدَدْتهمْ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَرَفْت رَاحِلَةَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَكَانَ الْقَوْمُ مُتَلَثّمِينَ فَلَمْ أُبْصِرْهُمْ مِنْ أَجْلِ ظُلْمَةِ اللّيْلِ. وَكَانُوا قَدْ أَنْفَرُوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَقَطَ. بَعْضُ مَتَاعِ رَحْلِهِ، فَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيّ يَقُولُ: فَنُوّرَ لِي فِي أَصَابِعِي الْخَمْسِ فَأُضِئْنَ حَتّى كُنّا نَجْمَعُ مَا سَقَطَ مِنْ السّوْطِ وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِمَا، حَتّى مَا بَقِيَ مِنْ الْمَتَاعِ شَيْءٌ إلّا جَمَعْنَاهُ. وَكَانَ لَحِقَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَقَبَةِ. فَلَمّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا مَنَعَك الْبَارِحَةَ مِنْ سُلُوكِ الْوَادِي، فَقَدْ كَانَ أَسْهَلَ مِنْ الْعَقَبَةِ؟ قَالَ: يَا أَبَا يَحْيَى، أَتَدْرِي مَا أَرَادَ الْبَارِحَةَ الْمُنَافِقُونَ وَمَا اهْتَمّوا بِهِ؟ قَالُوا: نَتْبَعُهُ فِي الْعَقَبَةِ، فَإِذَا أَظْلَمَ اللّيْلُ عَلَيْهِ قَطَعُوا أَنْسَاعَ [ (1) ] رَاحِلَتِي وَنَخَسُوهَا حَتّى يَطْرَحُونِي مِنْ رَاحِلَتِي. فَقَالَ أُسَيْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَدْ اجْتَمَعَ النّاسُ وَنَزَلُوا، فَمُرْ كُلّ بَطْنٍ أَنْ يَقْتُلَ الرّجُلَ الّذِي هَمّ بِهَذَا، فَيَكُونُ الرّجُلُ مِنْ عَشِيرَتِهِ هُوَ الّذِي يَقْتُلُهُ، وَإِنْ أَحْبَبْت، وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، فَنَبّئْنِي بِهِمْ، فَلَا تَبْرَحُ حَتّى آتِيَكُمْ بِرُءُوسِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي النّبِيتِ [ (2) ] فَكَفَيْتُكَهُمْ، وَأَمَرْت سَيّدَ الْخَزْرَجِ فَكَفَاك مَنْ فِي نَاحِيَتِهِ، فَإِنّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ يُتْرَكُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ حَتّى مَتَى نُدَاهِنُهُمْ وَقَدْ صَارُوا الْيَوْمَ فِي الْقِلّةِ وَالذّلّةِ، وَضَرَبَ الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ [ (3) ] ! فما
يُسْتَبْقَى مِنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَيْدٍ: إنّي أَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ النّاسُ إنّ مُحَمّدًا لَمّا انْقَضَتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَضَعَ يَدَهُ فِي قَتْلِ أَصْحَابِهِ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِأَصْحَابٍ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلّا اللهُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ! قَالَ: أَلَيْسَ يُظْهِرُونَ أَنّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ! قَالَ: فَقَدْ نُهِيت عَنْ قَتْلِ أُولَئِكَ. قَالَ: حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ رُبَيْحِ [ (1) ] بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْعَقَبَةِ الّذِينَ أَرَادُوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، قَدْ سَمّاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ وَعَمّارٍ رَحِمَهُمَا اللهُ. قَالَ: حَدّثَنِي ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن ابن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَنَازَعَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَرَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ فَاسْتَبّا، فَلَمّا كَادَ الرّجُلُ يَعْلُو عَمّارًا فِي السّبَابِ قَالَ عَمّارٌ: كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟ قَالَ: اللهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ عِلْمِكُمْ بِهِمْ! فَسَكَتَ الرّجُلُ، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ: بَيّنِ لِصَاحِبِك مَا سَأَلَك عَنْهُ! وَإِنّمَا يُرِيدُ عَمّارٌ شَيْئًا قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ، فَكَرِهَ الرّجُلُ أَنْ يُحَدّثَهُ، وَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَى الرّجُلِ فَقَالَ الرّجُلُ: كُنّا نَتَحَدّثُ أَنّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ عَمّارٌ: فَإِنّك إنْ كُنْت مِنْهُمْ فَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا! فَقَالَ الرّجُلُ: مَهْلًا، أَذَكّرَك اللهُ أَنْ تَفْضَحَنِي! فَقَالَ عَمّارٌ: وَاَللهِ مَا سَمّيْت أَحَدًا، وَلَكِنّي أَشْهَدُ أَنّ الْخَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، اثْنَا [ (2) ] عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ الله ولرسوله
فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ (1) ] قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأُوحِيَ إلَيْهِ وَرَاحِلَتُهُ بَارِكَةٌ، فَقَامَتْ رَاحِلَتُهُ تَجُرّ زِمَامَهَا حَتّى لَقِيَهَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَأَخَذَ بِزِمَامِهَا فَاقْتَادَهَا حين رأى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ جَالِسًا، فَأَنَاخَهَا ثُمّ جَلَسَ عِنْدَهَا حَتّى قَامَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا حُذَيْفَةُ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنّي مُسِرّ إلَيْك أَمْرًا فَلَا تَذْكُرَنّهُ، إنّي نُهِيت أَنْ أُصَلّيَ عَلَى فُلَانٍ، وَفُلَانٍ، وَفُلَانٍ - رَهْطٌ عِدّةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ- وَلَا يُعْلِمُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرَهُمْ لِأَحَدٍ غَيْرَ حُذَيْفَةَ. فَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ إذَا مَاتَ رَجُلٌ مِمّنْ يطنّ أَنّهُ مِنْ أُولَئِكَ الرّهْطِ أَخَذَ بِيَدِ حُذَيْفَةَ فَقَادَهُ إلَى الصّلَاةِ عَلَيْهِ فَإِنْ مَشَى مَعَهُ حُذَيْفَةُ صَلّى عَلَيْهِ عُمَرُ، وَإِنْ انْتَزَعَ يَدَهُ وَأَبَى أَنْ يَمْشِيَ انْصَرَفَ مَعَهُ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمْ يُخْبِرْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا إلّا حذيفة، وهم اثنا عشر رجلا ليس فِيهِمْ قُرَشِيّ. وَهَذَا الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدُ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ [ (2) ] ، وَقَدْ كَانَ جَاءَهُ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضّرَارِ، جَاءُوا خَمْسَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ: مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وثعلبة ابن حاطب، وخذام بْنُ خَالِدٍ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ، وَعَبْدُ الله بن نبتل
ابن الْحَارِثِ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا رُسُلُ مَنْ خَلْفَنَا مِنْ أَصْحَابِنَا، إنّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْقِلّةِ وَالْحَاجَةِ، وَاللّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَاللّيْلَةِ الشّاتِيَةِ، وَنَحْنُ نُحِبّ أَنْ تَأْتِيَنَا فَتُصَلّيَ بِنَا فِيهِ! وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهّزُ إلَى تَبُوكَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إنْ شَاءَ اللهُ أَتَيْنَاكُمْ فَصَلّيْنَا بِكُمْ فِيهِ. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي أَوَانٍ رَاجِعًا مِنْ تَبُوكَ أَتَاهُ خَبَرُهُ وَخَبَرُ أَهْلِهِ مِنْ السّمَاءِ، وَكَانُوا إنّمَا بَنَوْهُ، قَالُوا بَيْنَهُمْ: يَأْتِينَا أَبُو [ (1) ] عَامِرٍ فَيَتَحَدّثُ عِنْدَنَا فِيهِ، فَإِنّهُ يَقُولُ: لَا أَسْتَطِيعُ آتِيَ مَسْجِدَ بَنِي عَمْرِو بن عوف، إنما أصحاب رسول الله يلحوننا بِأَبْصَارِهِمْ. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (2) ] يَعْنِي أَبَا عَامِرٍ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاصِمَ بْنَ عَدِيّ الْعَجْلَانِيّ، وَمَالِكَ بْنَ الدّخْشَمِ السّالِمِيّ، فَقَالَ: انْطَلِقَا إلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمَاهُ ثم حرّقاه! فخرجا سريعين على أقدامها حَتّى أَتَيَا مَسْجِدَ بَنِي سَالِمٍ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ الدّخْشَمِ لِعَاصِمِ بْنِ عَدِيّ: أَنْظِرْنِي حِينَ أَخْرُجُ إلَيْك بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي. فَدَخَلَ إلَى أَهْلِهِ فَأَخَذَ سَعَفًا مِنْ النّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ النّارَ. ثُمّ خَرَجَا سَرِيعَيْنِ يَعْدُوَانِ حَتّى انْتَهَيَا إلَيْهِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَهُمْ فِيهِ، وَإِمَامُهُمْ يَوْمَئِذٍ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ [ (3) ] ، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا أَنْسَى تَشَرّفَهُمْ إلَيْنَا كَأَنّ آذَانَهُمْ آذَانُ السّرْحَانِ [ (4) ] . فَأَحْرَقْنَاهُ حَتّى احْتَرَقَ، وَكَانَ الّذِي ثَبَتَ فِيهِ مِنْ بَيْنِهِمْ زَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ بْنِ عَامِرٍ حَتّى احْتَرَقَتْ أَلْيَتُهُ، فَهَدَمْنَاهُ حَتّى وَضَعْنَاهُ بِالْأَرْضِ. وتفرّقوا.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ عَرَضَ عَلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ الْمَسْجِدَ يَتّخِذُهُ دَارًا- وَكَانَ مِنْ دَارِ وَدِيعَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَدَارُ أَبِي عَامِرٍ إلَى جَنْبِهِمَا فَأَحْرَقُوهُمَا مَعَهُ- فَقَالَ: مَا كُنْت لِأَتّخِذَ مَسْجِدًا قَدْ نَزَلَ فِيهِ مَا نَزَلَ دَارًا، وَإِنّ بى عنه لَغِنًى يَا رَسُولَ اللهِ! وَلَكِنْ أَعْطِهِ ثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ فَإِنّهُ لَا مَنْزِلَ لَهُ. فَأَعْطَاهُ ثَابِتًا. وَكَانَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ قَدْ أَعَانَهُمْ فِيهِ بِخَشَبٍ، وَكَانَ غَيْرَ مَغْمُوصٍ [ (1) ] عَلَيْهِ فِي النّفَاقِ، وَلَكِنّهُ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ أُمُورًا تُكْرَهُ لَهُ. فَلَمّا هُدِمَ الْمَسْجِدُ أَخَذَ أَبُو لُبَابَةَ خَشَبَهُ ذَلِكَ فَبَنَى بِهِ مَنْزِلًا، وَكَانَ بَيْتُهُ الّذِي بَنَاهُ إلَى جَنْبِهِ. قَالَ: فَلَمْ يُولَدْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ مَوْلُودٌ قَطّ، وَلَمْ يَقِفْ فِيهِ حَمَامٌ قَطّ، وَلَمْ تَحْضُنْ [ (2) ] فِيهِ دَجَاجَةٌ قَطّ. وَكَانَ الّذِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ الضّرَارِ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا: جَارِيَةُ [ (3) ] بْنُ عَامِرِ بْنِ الْعَطّافِ- وَهُوَ حِمَارُ [ (4) ] الدّارِ- وَابْنُهُ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ [ (3) ] وَهُوَ إمَامُهُمْ، وَابْنُهُ زَيْدُ بن جارية [ (3) ] ، وهو الذي احْتَرَقَتْ أَلْيَتُهُ فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ- وَابْنُهُ يَزِيدُ بْنُ جَارِيَةَ [ (3) ] ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، [وَخِذَامُ بْنُ خَالِدٍ] وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ، وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَعَبّادُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زِمَامٌ خَيْرٌ مِنْ خِذَامٍ، وَسَوْطٌ خَيْرٌ مِنْ بِجَادٍ! وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ نَبْتَلٍ- وَهُوَ الْمُخَبّرُ بِخَبَرِهِ- يَأْتِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْمَعُ حَدِيثَهُ ثم يأتى به المنافقين، فقال جبريل
عَلَيْهِ السّلَامُ: يَا مُحَمّدُ، إنّ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَأْتِيك فَيَسْمَعُ حَدِيثَك، ثُمّ يَذْهَبُ بِهِ إلَى الْمُنَافِقِينَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيّهُمْ هُوَ؟ قَالَ: الرّجُلُ الْأَسْوَدُ ذُو الشّعْرِ الْكَثِيرِ، الْأَحْمَرُ الْعَيْنَيْنِ كَأَنّهُمَا قِدْرَانِ مِنْ صُفْرٍ [ (1) ] ، كَبِدُهُ كَبِدُ حِمَارٍ فَيَنْظُرُ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ. وَكَانَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ يُخْبِرُ يَقُولُ: كنّا نتجهّز إلى تبوك مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فَرَأَيْت عَبْدَ اللهِ بْنَ نَبْتَلٍ، وَثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ قَائِمَيْنِ عَلَى مَسْجِدِ الضّرَارِ، وَهُمَا يُصْلِحَانِ مِيزَابًا قَدْ فَرَغَا مِنْهُ، فَقَالَا: يَا عَاصِمُ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ وَعَدَنَا أَنْ يُصَلّيَ فِيهِ إذَا رَجَعَ. فَقُلْت فِي نَفْسِي: وَاَللهِ، مَا بَنَى هَذَا الْمَسْجِدَ إلّا مُنَافِقٌ مَعْرُوفٌ بِالنّفَاقِ، أَسّسَهُ أَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ، وَأُخْرِجَ مِنْ دَارِ خِذَامِ بْنِ خَالِدٍ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ فِي هَؤُلَاءِ النّفَرِ- وَالْمَسْجِدُ الّذِي بَنَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ يُؤَسّسُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام يؤمّ به البيت- فو الله مَا رَجَعْنَا مِنْ سَفَرِنَا حَتّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذَمّهِ، وَذَمّ أَهْلِهِ الّذِينَ جَمَعُوا فِي بِنَائِهِ وَأَعَانُوا فِيهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً [ (2) ] إلَى قَوْلِهِ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. قَالُوا: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى [ (3) ] ، قَالَ: يَعْنِي مَسْجِدَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ، وَيُقَالُ: عَنَى مَسْجِدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الرّجُلُ مِنْهُمْ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ! وَقِيلَ لِعَاصِمِ بْنِ عَدِيّ: وَلِمَ أَرَادُوا بِنَاءَهُ؟ قَالَ: كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدِنَا، فَإِنّمَا هُمْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَلْتَفِتُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ،
فَيَلْحَظُهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِأَبْصَارِهِمْ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَرَادُوا مَسْجِدًا يَكُونُونَ فِيهِ لَا يَغْشَاهُمْ فِيهِ إلّا مَنْ يُرِيدُونَ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِمْ. فَكَانَ أَبُو عَامِرٍ يَقُولُ: لَا أَقْدِرُ أَنْ أَدْخُلَ مِرْبَدَكُمْ [ (1) ] هَذَا! وَذَاكَ أَنّ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ يَلْحَظُونَنِي وَيَنَالُونَ مِنّي مَا أَكْرَهُ. [قَالُوا:] نَحْنُ نَبْنِي مَسْجِدًا تَتَحَدّثُ فِيهِ عِنْدَنَا. قَالُوا: قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمّا بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي [بَثّي] [ (2) ] فَجَعَلْت أَتَذَكّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدًا؟ وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، حَتّى رُبّمَا ذَكَرْته لِلْخَادِمِ رَجَاءَ أَنْ يَأْتِيَنِي شَيْءٌ أَسْتَرِيحُ إلَيْهِ، فَلَمّا قِيلَ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلّ قَادِمًا، زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْت أَنّي لَا أَنْجُو مِنْهُ إلّا بِالصّدْقِ، فَأَجْمَعْت أَنْ أَصْدُقَهُ. وَصَبّحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فركع فيه ركعتين ثم جالس لِلنّاسِ، فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلّفُونَ فَجَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَأَيْمَانَهُمْ، وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى. وَيُقَالُ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ كَعْبٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ خَرَجَ عَامّةُ الْمُنَافِقِينَ الّذِينَ كَانُوا تَخَلّفُوا عَنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُكَلّمُوا أَحَدًا مِنْهُمْ تَخَلّفَ عَنّا وَلَا تُجَالِسُوهُ حَتّى آذَنَ لَكُمْ. فَلَمْ يُكَلّمُوهُمْ، فَلَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ جَاءَهُ المعذّرون يحلفون له، وأعرض عَنْهُمْ، وَأَعْرَضَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْهُمْ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيُعْرِضُ عَنْ أَبِيهِ وَأَخِيهِ وَعَمّهِ. فَجَعَلُوا يَأْتُونَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ بالحمّى
وَالْأَسْقَامِ، فَيَرْحَمَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقْبَلُ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَأَيْمَانَهُمْ، وَحَلَفُوا فَصَدّقَهُمْ واستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى بالله عَزّ وَجَلّ. قَالُوا: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَجِئْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَلّمْت عَلَيْهِ، فَلَمّا سَلّمْت عَلَيْهِ تَبَسّمَ تَبَسّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمّ قَالَ لِي: تعالى! فَجِئْت أَمْشِي حَتّى جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي: مَا خَلّفَك؟ أَلَمْ تَكُنْ ابْتَعْت ظَهْرَك؟ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ جَلَسْت عِنْدَ غَيْرِك مِنْ أَهْلِ الدّنْيَا لَرَأَيْت أَنّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، لَقَدْ أُعْطِيت جَدَلًا، وَلَكِنْ وَاَللهِ لَقَدْ عَلِمْت لَئِنْ حَدّثْتُك الْيَوْمَ حَدِيثًا كَاذِبًا لِتَرْضَى عَنّي لَيُوشِكَنّ اللهُ عَزّ وَجَلّ أَنْ يَسْخَطَ عَلَيّ، وَلَئِنْ حَدّثْتُك الْيَوْمَ حَدِيثًا صَادِقًا تَجِدُ [ (1) ] عَلَيّ فِيهِ، إنّي لَأَرْجُو عُقْبَى اللهِ فِيهِ. وَلَا وَاَللهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ، وَاَللهِ مَا كُنْت أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْت عَنْك! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد صَدَقْت، فَقُمْ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيك! فَقُمْت وَقَامَ مَعِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَقَالُوا لِي: وَاَللهِ مَا عَلِمْنَاك كُنْت أَذْنَبْت ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا! وَقَدْ عَجَزْت أَلّا تَكُونَ اعْتَذَرْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إلَيْهِ الْمُخَلّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيك ذَنْبَك اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم لك. فو الله مَا زَالُوا بِي يَنُوبُونَنِي حَتّى أَرَدْت أَنْ أَرْجِعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُكَذّبَ نَفْسِي. فَلَقِيت مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا قَتَادَةَ فَقَالَا لِي: لَا تُطِعْ أَصْحَابَك وَأَقِمْ عَلَى الصّدْقِ، فَإِنّ اللهَ سَيَجْعَلُ لَك فرجا مخرجا إنْ شَاءَ اللهُ! فَأَمّا هَؤُلَاءِ الْمُعَذّرُونَ، فَإِنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فَسَيَرْضَى اللهُ ذَلِكَ وَيُعْلِمَهُ نَبِيّهُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَذُمّهُمْ أَقْبَحَ الذّمّ وَيُكَذّبْ حَدِيثَهُمْ. فَقُلْت لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا غَيْرِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مقالتك،
وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَك. قُلْت: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ الْوَاقِفِيّ. فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ فِيهِمَا أُسْوَةٌ وَقُدْوَةٌ، وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِنَا أَيّهَا الثّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبْنَا النّاسَ وَتَغَيّرُوا لَنَا، حَتّى تَنَكّرَتْ لِي نَفْسِي، وَالْأَرْضُ فَمَا هِيَ الْأَرْضُ الّتِي كُنْت أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. فَأَمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا فَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَأَمّا أَنَا فَكُنْت أَشَدّ القوم وأجلدهم، وكنت أخرج وأشهد الصلوات مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ بِالْأَسْوَاقِ، فَلَا يُكَلّمُنِي أَحَدٌ، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصّلَاةِ، فَأُسَلّمَ عَلَيْهِ فَأَقُولَ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدّ السّلَامِ عَلَيّ أَمْ لَا، ثُمّ أُصَلّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقَهُ النّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْت عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إلَيّ، وَإِذَا الْتَفَتّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنّي، حَتّى إذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْت حَتّى تَسَوّرْت حَائِطَ أَبِي قَتَادَةَ- وَهُوَ ابْنُ عَمّي وَأَحَبّ النّاسِ إلَيّ- فسلّمت عليه، فو الله مَا رَدّ عَلَيّ السّلَامَ، فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُك اللهَ! هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبّ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ، فَعُدْت فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُك اللهَ! هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبّ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ، فَعُدْت فَنَشَدْته الثّالِثَةَ فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، فَوَثَبْت فَتَسَوّرْت الْجِدَارَ، ثُمّ غَدَوْت إلَى السّوقِ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِالسّوقِ فَإِذَا نَبَطِيّ مِنْ نَبَطِ الشّامِ مِمّنْ قَدِمَ بِالطّعَامِ يَبِيعُهُ بِالسّوقِ، يَسْأَلُ عَنّي يقول: من يدلني على كعب ابن مَالِكٍ؟ فَجَعَلَ النّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، فَدَفَعَ إلَيّ كِتَابًا مِنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ مَلِكِ غَسّانَ- أَوْ قَالَ [ (1) ] مِنْ جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ- فى سرقة [ (2) ] من حرير،
فَإِذَا فِي كِتَابِهِ: أَمّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنّ صَاحِبَك قَدْ جَفَاك وَلَمْ يَجْعَلْك اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِك [ (1) ] . قَالَ كَعْبٌ: فَقُلْت حِينَ قَرَأْته: وَهَذَا مِنْ الْبَلَاءِ أَيْضًا، قَدْ بَلَغَ مِنّي مَا وَقَعْت فِيهِ أَنْ طَمِعَ فِيّ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ. فَذَهَبْت بِهَا إلَى تَنّورٍ فَسَجّرْتُهُ [ (2) ] بِهَا، وَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ حَتّى إذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ ليلة من الخمسين إذا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ يَأْمُرُك أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَك. فَقُلْت: أُطَلّقُهَا أَمْ مَاذَا؟ قَالَ: بَلْ اعْتَزِلْهَا فَلَا تَقْرَبْهَا. وَكَانَ الرّسُولُ إلَيّ، وَإِلَى هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ، ومرارة بن الرّبيع، خزيمة بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ كَعْبٌ: فَقُلْت لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِك، فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَا هُوَ قَاضٍ. وَأَمّا هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ فَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، فَبَكَى حَتّى إنْ كَانَ يُرَى أَنّهُ هَالِكٌ مِنْ الْبُكَاءِ، وَامْتَنَعَ مِنْ الطّعَامِ، فَإِنْ كَانَ يُوَاصِلُ الْيَوْمَيْنِ ولثلاثة مِنْ الصّوْمِ مَا يَذُوقُ طَعَامًا، إلّا أَنْ يَشْرَبَ الشّرْبَةَ مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِنْ اللّبَنِ، وَيُصَلّيَ اللّيْلَ وَيَجْلِسَ فِي بَيْتِهِ لَا يَخْرُجُ، لِأَنّ أَحَدًا لَا يُكَلّمُهُ، حَتّى إنْ كَانَ الْوِلْدَانُ لَيَهْجُرُونَهُ لِطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ هِلَالَ بْنَ أُمَيّةَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَائِعٌ، لَا خَادِمَ لَهُ، وَأَنَا أَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِي، فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تَدَعَنِي أَنْ أَخْدُمَهُ فَعَلْت. قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا تَدَعِيهِ يَصِلُ إلَيْك. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إلَيّ! وَاَللهِ، مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ يَوْمَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إلَى يَوْمِهِ هَذَا، وَإِنّ لِحْيَتَهُ لَتَقْطُرُ دُمُوعًا اللّيْلَ وَالنّهَارَ، وَلَقَدْ ظَهَرَ الْبَيَاضُ عَلَى عَيْنَيْهِ حَتّى تَخَوّفْت أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهُ. قَالَ كعب: فقال
لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوْ اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَتِك، فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ. فَقُلْت: وَاَللهِ، لَا أَسْتَأْذِنُهُ فِيهَا، مَا يَدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ إذَا اسْتَأْذَنْته، وَأَنَا رَجُلٌ شَابّ، فو الله لَا أَسْتَأْذِنُهُ. ثُمّ لَبِثْنَا بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، وَكَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا، ثُمّ صَلّيْت الصّبْحَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا عَلَى الْحَالِ الّتِي ذكر الله عزّ وجلّ، وقد ضاقت علىّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَضَاقَتْ عَلَيّ نَفْسِي، وَقَدْ كنت ابتنيت خيمة فى ظهر سَلْعٍ فَكُنْت فِيهِ، إذْ سَمِعْت صَارِخًا أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ، يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ، أَبْشِرْ! قَالَ: فَخَرَرْت سَاجِدًا، وَعَرَفْت أَنْ [قَدْ] [ (1) ] جَاءَ الْفَرَجُ. فَآذَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلّى الصّبْحَ. فَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللّيْلِ: يَا أُمّ سَلَمَةَ، قَدْ نَزَلَتْ تَوْبَةُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَرْسَلْت إلَيْهِمْ فَأُبَشّرَهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَمْنَعُونَك النّوْمَ آخِرَ اللّيْلِ، وَلَكِنْ لَا يُرَوْنَ حَتّى يُصْبِحُوا. قَالَ: فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّبْحَ أَخْبَرَ النّاسَ بِمَا تَابَ اللهُ عَلَى هَؤُلَاءِ النّفَرِ: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَمُرَارَةَ بْنِ الرّبِيعِ، وَهِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَوَافَى عَلَى سَلْعٍ فَصَاحَ: قَدْ تَابَ اللهُ عَلَى كَعْبٍ! يُبَشّرُهُ بِذَلِكَ. وَخَرَجَ الزّبَيْرُ عَلَى فَرَسِهِ فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَسَمِعَ صَوْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الزّبَيْرُ. وَخَرَجَ أَبُو الْأَعْوَرِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عمرو بن نفيل إلى هلال يبشّره ببني واقف، فلمّا أخبره
سَجَدَ. قَالَ سَعِيدٌ: فَظَنَنْت أَنّهُ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتّى تَخْرُجَ نَفْسُهُ، وَكَانَ بِالسّرُورِ أَكْثَرَ بُكَاءً مِنْهُ بِالْحُزْنِ حَتّى خِيفَ عَلَيْهِ، وَلَقِيَهُ النّاسُ يُهَنّئُونَهُ، فَمَا اسْتَطَاعَ الْمَشْيَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا نَالَهُ مِنْ الضّعْفِ وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ، حَتّى رَكِبَ حِمَارًا. وَكَانَ الّذِي بَشّرَ مُرَارَةَ بْنَ الرّبِيعِ سِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ أَبُو نَائِلَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقّشٍ، وَوَافَيَا الصّبْحَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثم انطلقا إلى مرار فَأَخْبَرَاهُ، فَأَقْبَلَ مُرَارَةُ حَتّى تَوَافَوْا عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ كَعْبٌ: وَكَانَ الصّوْتُ الّذِي سَمِعْت عَلَى سَلْعٍ أَسْرَعَ مِنْ الْفَارِسِ الّذِي يَرْكُضُ فِي الْوَادِي- وَهُوَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ- وَاَلّذِي صَاحَ عَلَى سَلْعٍ، يَقُولُ كَعْبٌ: كَانَ رَجُلًا [ (1) ] مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ الّذِي بَشّرَنِي. قَالَ: فَلَمّا سَمِعْت صَوْتَهُ نَزَعْت ثَوْبِي فَكَسَوْتهمَا إيّاهُ لِبِشَارَتِهِ، وَاَللهِ مَا أَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَهُمَا! ثُمّ اسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ مِنْ أَبِي قَتَادَةَ فَلَبِسْتهمَا، ثُمّ انْطَلَقْت أَتَيَمّمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَلَقّانِي النّاسُ يُهَنّئُونَنِي بِالتّوْبَةِ يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْك! حَتّى دَخَلْت الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النّاسُ، فَقَامَ إلَيّ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ فَحَيّانِي وَهَنّأَنِي، مَا قَامَ إلَيّ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ- فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمّا سَلّمْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي، وَوَجْهُهُ يَبْرُقُ مِنْ السّرُورِ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرّ [ (2) ] عَلَيْك منذ ولدتك أمّك! ويقال: قال له: تعالى إلَى خَيْرِ يَوْمٍ [مَا] طَلَعَ عَلَيْك شَرْقُهُ قَطّ. قَالَ كَعْبٌ: قُلْت: أَمِنْ عِنْدِك يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ فَقَالَ: من عند الله
عَزّ وَجَلّ! قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سُرّ يَسْتَنِيرُ حَتّى كَأَنّ وَجْهَهُ فِلْقَةُ الْقَمَرِ، وَكَانَ يُعْرَفُ ذَلِكَ منه. فلمّا جلست بيني يَدَيْهِ قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ عَلَيْك [بَعْضَ] [ (1) ] مَالِك، هُوَ خَيْرٌ لَك! قَالَ قُلْت: إنّي مُمْسِكٌ بِسَهْمِي الّذِي بِخَيْبَرَ! قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: لَا! قُلْت: النّصْفُ! قَالَ: لَا! قُلْت: فَالثّلُثُ! قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: إنّي يَا رَسُولَ اللهِ أَحْبِسُ سَهْمِي الّذِي بِخَيْبَرَ. قَالَ كَعْبٌ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ أَنْجَانِي بِالصّدْقِ، فَإِنّ تَوْبَتِي إلَى اللهِ أَلّا أُحَدّثَ إلّا صِدْقًا مَا حَيِيت. قَالَ كَعْبٌ: وَاَللهِ، مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ النّاسِ أَبْلَاهُ اللهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْت لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِمّا أَبْلَانِي، وَاَللهِ مَا تَعَمّدْت مِنْ كِذْبَةٍ مُنْذُ ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيمَا بَقِيَ. وَقَالَ كَعْبٌ: - قَالَ الْوَاقِدِيّ: أَنْشَدَنِيهِ أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ: سُبْحَانَ رَبّي إنْ لَمْ يَعْفُ عَنْ زَلَلِي [ (2) ] ... فَقَدْ خَسِرْت وَتَبّ الْقَوْلُ وَالْعَمَل قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [ (3) ] إلَى قوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. قال كعب: فو اللهِ مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطّ إذْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ كَانَتْ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، ألا أكون كذبته يومئذ،
فَأَهْلِكُ كَمَا هَلَكَ الّذِينَ كَذَبُوهُ. قَالَ اللهُ فِي الّذِينَ كَذَبُوهُ حِينَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيَ شَرّ مَا قَالَ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ [ (1) ] إلَى قَوْلِهِ الْفاسِقِينَ*. قَالَ كَعْبٌ: وَكُنّا خُلّفْنَا أَيّهَا الثّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حَلَفُوا فَعَذَرَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتّى قَضَى اللهُ فِيهِ مَا قَضَى. فَبِذَلِكَ قَالَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [ (2) ] . قَالَ: لَيْسَ عَنْ الْغَزْوَةِ، وَلَكِنْ بِتَخْلِيفِهِ إيّانَا، وَإِرْجَائِهِ أَمْرَنَا عَمّنْ حَلَفَ لَهُ، وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ. قَالَ كَعْبٌ حِينَ بَنَى الْخَيْمَةَ عَلَى سلع، فيما حدّثنى أيّوب من النعمان ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ أَبِي الْقَيْنِ: أَبَعْدَ دُورِ بَنِي الْقَيْنِ [ (3) ] الْكِرَامِ وَمَا ... شَادُوا عَلَى تَبْتِيتِ [ (4) ] الْبَيْتِ مِنْ سَعَفٍ قَالُوا: وَقَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى مَا رَزَقَنَا فِي سَفَرِنَا هَذَا مِنْ أَجْرٍ وَحَسَنَةٍ وَمِنْ بَعْدِنَا شُرَكَاؤُنَا فِيهِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَصَابَكُمْ السّفَرُ وَشِدّةُ السّفَرِ وَمِنْ بَعْدِكُمْ شُرَكَاؤُكُمْ فِيهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ بِالْمَدِينَةِ لَأَقْوَامًا مَا سِرْنَا مِنْ مَسِيرٍ وَلَا هَبَطْنَا وَادِيًا إلّا كَانُوا مَعَنَا، حبسهم المرض، أو ليس اللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [ (1) ] ، فَنَحْنُ غُزَاتُهُمْ وَهُمْ قَعَدَتُنَا. وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَدُعَاؤُهُمْ أَنْفَذُ فِي عَدُوّنَا مِنْ سِلَاحِنَا! وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَبِيعُونَ سِلَاحَهُمْ وَيَقُولُونَ: قَدْ انْقَطَعَ الْجِهَادُ! فَجَعَلَ الْقَوِيّ مِنْهُمْ يَشْتَرِيهَا لِفَضْلِ قُوّتِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمّتِي يُجَاهِدُونَ عَلَى الْحَقّ حَتّى يَخْرُجَ الدّجّالُ! قَالُوا: وَمَرِضَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوّالٍ، وَمَاتَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَكَانَ مَرَضُهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فِيهَا، فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي مَاتَ فِيهِ دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ: فد نَهَيْتُك عَنْ حُبّ الْيَهُودِ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ: أَبْغَضَهُمْ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ فَمَا نَفَعَهُ. ثُمّ قَالَ ابْنُ أُبَيّ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ بِحِينِ عِتَابٍ! هُوَ الْمَوْتُ، فَإِنْ مُتّ فَاحْضُرْ غُسْلِي وَأَعْطِنِي قَمِيصَك أُكَفّنُ فِيهِ. فَأَعْطَاهُ الْأَعْلَى- وَكَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ- فَقَالَ: الّذِي يَلِي جِلْدَك. فَنَزَعَ قَمِيصَهُ الّذِي يَلِي جِلْدَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمّ قَالَ: صَلّ عَلَيّ وَاسْتَغْفِرْ لِي! قَالَ: وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ خِلَافَ هَذَا، يَقُولُ: جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِ ابْنِ أُبَيّ إلَى قَبْرِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَكَشَفَ مِنْ وَجْهِهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَسْنَدَهُ إلَى رُكْبَتَيْهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ- وَكَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ- وَأَلْبَسَهُ الّذِي يَلِي جِلْدَهُ. وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ غُسْلَهُ وَحَضَرَ كَفَنَهُ، ثُمّ حُمِلَ إلَى مَوْضِعِ الجنائز فَتَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلّيَ عَلَيْهِ، فَلَمّا قَامَ وَثَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُصَلّي عَلَى ابْنِ أُبَيّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَيَوْمَ كَذَا كَذَا؟ فَعَدّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ. فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه
وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَخّرْ عَنّي يَا عُمَرُ! فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ قَالَ: إنّي قَدْ خُيّرْت فَاخْتَرْت، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنّي إذَا زِدْت عَلَى السّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ زِدْت عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [ (1) ] . فَيُقَالُ إنّهُ قَالَ: سَأَزِيدُ عَلَى السّبْعِينَ. فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَكُنْ إلّا يَسِيرًا حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ «بَرَاءَةٌ» : وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [ (2) ] . وَيُقَالُ إنّهُ لَمْ تَزَلْ قَدَمَاهُ بَعْدَ دَفْنِهِ حَتّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُنَافِقِينَ، فَكَانَ مَنْ مَاتَ لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ. وَكَانَ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ يُحَدّثُ يَقُولُ: مَا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطَالَ عَلَى جِنَازَةٍ قَطّ مَا أَطَالَ عَلَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ، ثُمّ خَرَجُوا حَتّى انْتَهَوْا إلَى قَبْرِهِ، وَقَدْ حُمِلَ عَلَى سَرِيرٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَوْتَاهُمْ عِنْدَ آلِ نُبَيْطٍ وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: رَأَيْت ابْنَ أُبَيّ عَلَى السّرِيرِ وَإِنّ رجليه لخارجتان مِنْ السّرِيرِ مِنْ طُولِهِ. وَكَانَتْ أُمّ عُمَارَةَ تُحَدّثُ قَالَتْ: شَهِدْنَا مَأْتَمَ ابْنِ أُبَيّ، فَلَمْ تتخلّف امرأة من الأوس والخروج إلّا أَتَتْ ابْنَتُهُ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بن أبىّ، وهي تقول: وا جبلاه! - ما ينهاها أحد ولا يعيّب عليها- وا جبلاه! وَارُكْنَاه! قَالُوا: وَلَقَدْ اُنْتُهِيَ بِهِ إلَى قَبْرِهِ. فَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَقَدْ جَهَدَنَا أَنْ نَدْنُوَ مِنْ سَرِيرِهِ فَمَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ وكانوا قد
أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَهُمْ عَلَى النّفَاقِ [ (1) ] ، مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ وَغَيْرِهِمْ: سَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ، وَسَلَامَةُ بْنُ الْحُمَامِ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، وَرَافِعُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَمَالِكُ بْنُ أَبِي نَوْفَلٍ، وَدَاعِسٌ، وَسُوَيْدٌ. وَكَانُوا أَخَابِثِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا هُمْ الّذِينَ يَعْرِضُونَهُ. وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ لَيْسَ شَيْءٌ أَثْقَلُ عَلَيْهِ وَلَا أَعْظَمُ مِنْ رُؤْيَتِهِمْ، وَكَانَ بِهِ بَطْنٌ، فَكَانَ ابْنُهُ يُغْلِقُ دُونَهُمْ الْبَابَ، فَكَانَ ابْنُ أُبَيّ يَقُولُ: لَا يَلِيَنّي غَيْرُهُمْ. وَيَقُولُ: أَنْتَ وَاَللهِ أَحَبّ إلَيّ مِنْ الْمَاءِ عَلَى الظّمَأِ. وَيَقُولُونَ: لَيْتَ أَنّا نَفْدِيك بِالْأَنْفُسِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْأَمْوَالِ! فَلَمّا وَقَفُوا عَلَى حُفْرَتِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ يَلْحَظُهُمْ، ازْدَحَمُوا عَلَى النّزُولِ فِي حُفْرَتِهِ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ حَتّى أُصِيبَ أَنْفُ دَاعِسٍ، وَجَعَلَ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ يَذُبّهُمْ وَيَقُولُ: اخْفِضُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ! حَتّى أُصِيبَ أَنْفُ دَاعِسٍ فَسَالَ الدّمُ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ فِي حُفْرَتِهِ، فَنُحّيَ وَنَزَلَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ، أَهْلُ فَضْلٍ وَإِسْلَامٍ، وَكَانَ لَمّا رَأَوْا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصّلَاةِ عَلَيْهِ وَحُضُورِهِ، وَمِنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِ. فَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهِ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، وَأَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ حَتّى سُوّيَ عَلَيْهِ، وَإِنّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَكَابِرُ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ يُدَلّونَهُ فِي اللّحْدِ، وَهُمْ قِيَامٌ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَزَعَمَ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَلّيهِ بِيَدَيْهِ إلَيْهِمْ، ثُمّ قَامَ عَلَى الْقَبْرِ حَتّى دُفِنَ، وَعَزّى ابْنَهُ وَانْصَرَفَ. فَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ يَقُولُ: مَا لَقِيَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، إنّهُمْ هُمْ الّذِينَ كَانُوا يَحْثُونَ فِي الْقَبْرِ التّرَابَ وَيَقُولُونَ: يَا لَيْتَ أنّا فديناك بالأنفس
ذكر ما نزل من القرآن فى غزوة تبوك
وكنّا قبلك! وهم يحثوا التراب على رؤوسهم. فَكَانَ الّذِي يَحْسُنُ أَمْرُهُ يَقُولُ: قَوْمٌ أَهْلُ فقر، وَكَانَ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ! ذِكْرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ... [ (1) ] إلَى آخر الآية. قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرّ شَدِيدٍ وَجَهْدٍ مِنْ النّاسِ، وحين طابت [ (2) ] الثمار واشتهبت الظّلَالُ، فَأَبْطَأَ النّاسُ، وَكَشَفَتْ «بَرَاءَةٌ» عَنْهُمْ مَا كَانَ مَسْتُورًا، وَأَبْدَتْ أَضْغَانَهُمْ وَنِفَاقَ مَنْ نَافَقَ مِنْهُمْ. يَقُولُ: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [ (3) ] يَقُولُ: إلّا تَخْرُجُوا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً* يَقُولُ: فِي الْآخِرَةِ، وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً. قيل: يا رسول الله، مَن هولاء الْقَوْمِ؟ مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ... [ (4) ] الْآيَةُ. قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجُوا إلَى الْبَدْوِ يُفَقّهُونَ قَوْمَهُمْ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: قَدْ بَقِيَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ فِي الْبَوَادِي. وَقَالُوا: هَلَكَ أَصْحَابُ الْبَدْوِ. فَنَزَلَتْ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ.. [ (5) ] الْآيَةُ. وَنَزَلَ فِيهِمْ: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ ... [ (6) ] الْآيَةُ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [ (7) ]
يَعْنِي مَنْ [ (1) ] نَافَقَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، ثانِيَ اثْنَيْنِ يَعْنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِذْ هُما فِي الْغارِ حَيْثُ كَانَتْ هِجْرَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ يَقُولُ الطّمَأْنِينَةُ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا يَقُولُ: جَعَلَ مَا جَاءَتْ بِهِ قُرَيْشٌ مِنْ آلِهَتِهِمْ بَاطِلًا، وَمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التّوْحِيدِ هُوَ الظّاهِرَ الْعَالِيَ. انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [ (2) ] يقول نشاطا وغير نشاط، وَيُقَالُ الْخِفَافُ: الشّبَابُ، وَالثّقَالُ: الْكُهُولُ، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَقُولُ: أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فِي غَزْوَتِكُمْ، وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ: قَاتِلُوا. لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً [ (3) ] يَعْنِي غَنِيمَةً قَرِيبَةً، وَسَفَراً قاصِداً يَعْنِي سَفَرًا قَرِيبًا، لَاتَّبَعُوكَ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ سَفَرُ تَبُوكَ عُشْرُونَ لَيْلَةً، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ حِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى تَبُوكَ جَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ بِالْعُسْرَةِ وَالْمَرَضِ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يَعْنِي إنّهُمْ مُقَوّوْنَ [ (4) ] أَصِحّاءُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْذَنُ لَهُمْ وَيَقْبَلُ عُذْرَهُمْ. قَالَ: عَفَا اللَّهُ
عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ [ (1) ] حَتّى تَبْلُوَهُمْ بِالسّفَرِ وَتَعْلَمَ مَنْ هُوَ صَادِقٌ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ، الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فَتَعْلَمَ مَنْ لَهُ قُوّةٌ مِمّنْ لَا قُوّةَ لَهُ، اسْتَأْذَنَك رِجَالٌ لَهُمْ قُوّةٌ. لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [ (2) ] وَوَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَكَانَتْ تسمى غزوة العسرة. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [ (3) ] يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ فِي شَكّهِمْ. وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [ (4) ] يَقُولُ: كَانُوا أَقْوِيَاءَ بِأَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ خُرُوجَهُمْ فَخَذَلَهُمْ، وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ يَعْنِي مَعَ النّسَاءِ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [ (5) ] يَعْنِي ابْنَ أُبَيّ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ نَبْتَلٍ، وَالْجَدّ بْنَ قَيْسٍ، وَكُلّ هَؤُلَاءِ اسْتَأْذَنَ وَرَجَعَ، فَيَقُولُ: لَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا إلّا شَرّا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَقُولُ: يَدْخُلُ الْمُنَافِقُ بَيْنَ الرّاحِلَتَيْنِ فَيَرْفَضّ بِهِمَا، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ هَؤُلَاءِ النّفَرُ، يَقُولُ: لَأَظْهَرُوا النّفَاقَ وَلَقَالُوهُ. وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ يَقُولُ: مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ دُونَهُمْ من يأتيهم بالأخبار وهؤلاء من رؤساهم، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. ثُمّ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ [ (6) ] يقول: من قبل خروجك وتشاوروا فى
كُلّ مَا يُلَبّسُ عَلَيْك وَعَلَى أَصْحَابِك حَتَّى جاءَ الْحَقُّ يَعْنِي ظَهَرَ الْحَقّ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ يَعْنِي أَمْرَك يَا مُحَمّدُ، وَهُمْ كارِهُونَ لِظُهُورِك وَاتّبَاعِ مَنْ اتّبَعَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [ (1) ] نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ بَنِي سَلِمَةَ مَالًا وَأَعَدّ عُدّةً فِي الظّهْرِ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِالنّسَاءِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم: ألا تغزو بني الأصفر؟ عَسَى أَنْ تَحْتَقِبَ مِنْ بَنَاتِ الْأَصْفَرِ! فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنّهُ لَيْسَ رَجُلٌ أَعْجَبَ بِالنّسَاءِ مِنّي، فَلَا تَفْتِنّي بِهِنّ! يَقُولُ عَزّ وَجَلّ: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا يتخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَنِفَاقِهِ، يَقُولُ عَزّ وَجَلّ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِمّنْ هُوَ عَلَى قَوْلِهِ. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ [ (2) ] غَنِيمَةٌ وَسَلَامَةٌ، تَسُؤْهُمْ يَعْنِي الّذِينَ تَخَلّفُوا وَاسْتَأْذَنُوك، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ الْبَلَاءُ وَالشّدّةُ، يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا حَذّرْنَا، مِنْ قَبْلُ يَعْنِي مَنْ اسْتَأْذَنَهُ، ابْنَ أُبَيّ وَغَيْرَهُ، وَالْجَدّ بْنَ قَيْسٍ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى رَأْيِهِمْ، وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ الّتِي أصابتك. يقول اللهِ عَزّ وَجَلّ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا [ (3) ] يَقُولُ: إلّا مَا كَانَ فِي أُمّ الْكِتَابِ، هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِنَبِيّهِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [ (4) ] الْغَنِيمَةَ أَوْ الشّهَادَةَ، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ الْقَارِعَةِ تُصِيبُكُمْ، أَوْ بِأَيْدِينا يُؤْذَنُ لَنَا فِي قَتْلِكُمْ، فَتَرَبَّصُوا يَقُولُ: انْتَظِرُوا بِنَا وَنَنْتَظِرُ بِكُمْ وَعِيدَ الله فيكم.
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ [ (1) ] كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْ ذَوِي الطّوْلِ يُظْهِرُونَ النّفَقَةَ، إذَا رَآهُمْ النّاسُ لِيَبْلُغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْرَأُونَ بِذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْقَتْلَ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [ (2) ] يَقُولُ رِيَاءً: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَظْهَرَ أَنّهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ [ (3) ] أَيْ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ، وَلا أَوْلادُهُمْ الّذِينَ أَعْطَيْنَاهُمْ إيّاهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يَقُولُ: تَكُونُ عَلَيْهِمْ بَيّنَةً لِأَنّ مَا أَكَلُوا مِنْهَا أَكَلُوهُ نِفَاقًا، وَمَا أَنْفَقُوا، فَإِنّمَا هُوَ رِيَاءٌ. يَقُولُ: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ أَنْ يَلْقَوْا رَبّهُمْ عَلَى نِفاقهم. وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [ (4) ] أَيْ رُؤَسَاءَهُمْ وَأَهْلَ الطَّول مِنْهُمْ مِثْلَ ابْنِ أُبَيّ، وَالْجَدّ بْنِ قَيْسٍ وَذَوِيهِ، كَانُوا يَأْتُونَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْلِفُونَ أَنّهُمْ مَعَهُ، وَإِذَا خَرَجُوا نَقَضُوا، يَقُولُ: يَفْرَقُونَ مِنْ أَنْ يُقْتَلُوا لِقِلّتِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [ (5) ] يَقُولُ:، لَوْ وَجَدُوا جَمَاعَةً أَوْ يَقْدِرُونَ عَلَى هَرَبٍ مِنْ دَارِهِمْ إلَى قَوْمٍ يَعِزّونَ فِيهِمْ، لَذَهَبُوا إلَيْهِمْ سُرَاعًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ [ (6) ] نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ حاطب، كان
يَقُولُ: إنّمَا يُعْطِي مُحَمّدٌ الصّدَقَاتِ مَنْ يَشَاءُ! يَتَكَلّمُ بِالنّفَاقِ. فَجَاءَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ فَرَضِيَ، ثُمّ جَاءَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ فَسَخِطَ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [ (1) ] يَقُولُ: لَمْ يَسْخَطُوا إذَا رَدّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَعْطَاهُ قَلِيلًا بِقَدْرِ مَا يَجِدُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ يَقُولُ: حَسْبُ نَبِيّهِ وَقَالَ: إنّ اللهَ سَيَرْزُقُنَا، وَإِذَا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مَالٌ أَعْطَانَا. قَالَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [ (2) ] . وَيُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ سَائِلًا سَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ اللهَ لَمْ يَكِلْهَا إلَى مَلِكٍ مُقَرّبٍ وَلَا نَبِيّ مُرْسَلٍ حَتّى جَزّأَهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ جُزْءٍ مِنْهَا أَعْطَيْتُك، وَإِنْ كُنْت غَنِيّا فَصُدَاعٌ فِي الرّأْسِ وَأَذًى فِي الْبَطْنِ، وَالْفُقَرَاءُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ النّاسَ وَالْمَسَاكِينُ الّذِينَ كَانُوا فِي الصّفّةِ فِي عَهْدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْعامِلِينَ عَلَيْها يُعْطُونَ قَدْرَ عِمَالَتِهِمْ وَنَفَقَتِهِمْ فِي سَفَرِهِمْ، وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِي النّاس الْيَوْمَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أَقْوَامًا، يَتَأَلّفُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِي الرِّقابِ* يَعْنِي المكاتَبين، وَالْغارِمِينَ يَعْنِي الّذِينَ عَلَيْهِمْ الدّيْنُ، يُقْضَى عَنْ الرّجُلِ دَيْنُهُ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يَعْنِي الْمُجَاهِدِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ* الرّجُلُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ فَيُعَانُ وَيُحْمَلُ وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِهِ مُوسِرًا. وَهَذِهِ الصدقات
يُنْظَرُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ فَوُضِعَ ذَلِكَ فِيهِ أَجْزَأَهُ إنْ شَاءَ اللهُ. وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [ (1) ] نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ نَبْتَلٍ. قَالَ، كَانَ يَقُولُ: إنّي لَأَنَالُ مِنْ مُحَمّدٍ مَا أَشَاءُ، ثُمّ آتِي مُحَمّدًا فَأَحْلِفُ لَهُ فَيَقْبَلُ مِنّي. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي أَنّهُ يَقْبَلُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ نَبْتَلٍ، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ*، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ* [ (2) ] حَلِفُهُ لِلنّبِيّ مَا قَالُوا لِيُرْضُوكُمْ يَعْنِي النّبِيّ وَأَصْحَابَ مُحَمّدٍ. ثُمّ يَقُولُ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ أَلّا تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا تَقُولُوا إلّا خَيْرًا. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. [ (3) ] إلَى آخِرِ الآية، يعنى عبد الله ابن نَبْتَلٍ. يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [ (4) ] قَالَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَكَلّمُونَ بِرَدّ الْكِتَابِ وَالْحَقّ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَى النّبِيّ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ خَافُوا أَنْ يَكُونَ فِيمَا قَالُوا أَوْ فِيمَا تَكَلّمُوا. إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ يَعْنِي مَا يَتَكَلّمُونَ بِهِ. كَانَ نَفَرٌ مِنْهُمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ، ومخشي بْنُ حِمْيَرَ الْأَشْجَعِيّ حَلِيفُ بَنِي سَلِمَةَ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، فَقَالَ ثَعْلَبَةُ: أَتَحْسَبُونَ قِتَالَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ غَيْرِهِمْ؟ وَاَللهِ لَكَأَنّهُمْ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الحبال! وقال وديعة: إنّ قرّاءنا [ (5) ]
هَؤُلَاءِ أَوْعَبُنَا [ (1) ] بُطُونًا، وَأَحْدَثُنَا نِسْبَةً، وَأَجْبَنُنَا عِنْدَ اللّقَاءِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَدْرِكْهُمْ فَقَدْ احْتَرَقُوا. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [ (2) ] إلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ [ (3) ] فَاَلّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مخشي بْنُ حِمْيَرَ، وَاَلّذِي قَالَ: «إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَجَاءَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُ إلَيْهِ، فَنَزَلَ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وَاَلّذِي قَالَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ، وَاَلّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مخشي بْنُ حِمْيَرَ، فَتِيبَ عَلَيْهِ فَسَمّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ الرّحْمَنِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا لَا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا. قَالَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ [ (4) ] قَالَ: كَانَ نِسَاءٌ مُنَافِقَاتٌ مَعَ رِجَالٍ. وَقَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بِأَذَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِهِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ عَنْ اتّبَاعِهِ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ لَا يَتَصَدّقُونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ يَقُولُ: تَرَكُوا اللهَ فَتَرَكَهُمْ اللهُ. وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ [ (5) ] يَقُولُ: هي جزاءهم، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ يَعْنِي فِي الدّنْيَا، وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ* فِي الْآخِرَةِ. كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ [ (6) ] يَعْنِي مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ الأمم ممّن كذب الأنبياء واستهزئ بهم، وقد رزقهم
اللهُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَالْأَوْلَادَ، فَذَكَرَ أَنّهُمْ اسْتَمْتَعُوا بخلاقهم، ثم ذكر هولاء الْمُنَافِقِينَ أَنّهُمْ اسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ بِهِ أُولَئِكَ، وَقَالَ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا يَقُولُ: اسْتَهْزَيْتُمْ كما استهزئ أُولَئِكَ، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يَعْنِي الْأُمَمَ الّتِي كَانَتْ قَبْلَهُمْ، وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ. وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [ (1) ] يَقُولُ: يَأْمُرُونَ بِالْإِسْلَامِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْكُفْرِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يَتَصَدّقُونَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ* [ (2) ] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ بِالسّيْفِ، وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ* فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْلُظَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِلِسَانِهِ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ* يَعْنِي الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [ (3) ] وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قَالُوا: نَضَعُ التّاجَ عَلَى رَأْسِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ فَنَتَوَجّهَ إذَا رَجَعْنَا، وَيُقَالُ هُمْ الّذِينَ هَمّوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَقَبَةِ، وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ نَزَلَتْ فِي الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْدٍ، كَانَتْ لَهُ دِيَةٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا لَهُ وَكَانَ مُحْتَاجًا. وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [ (4) ] . فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [ (5) ] إلَى قَوْلِهِ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ [ (6) ] نزلت فى ثعلبة
ابن حَاطِبٍ، وَكَانَ مُحْتَاجًا لَا يَجِدُ مَا يَتَصَدّقُ بِهِ، فَقَالَ: وَاَللهِ لَئِنْ آتَانِي اللهُ مَالًا لَأَتَصَدّقَنّ وَلَأَكُونَنّ مِنْ الصّالِحِينَ. فَأَصَابَ دِيَةً، اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَتَصَدّقْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الصّالِحِينَ. الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ (1) ] قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ الْعَجْلَانِيّ بِصَدَقَةِ ماله، فقال معتّب ابن قُشَيْرٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نَبْتَلٍ: إنّمَا أَرَادَ الرّيَاءَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ، وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ نَزَلَتْ فِي عُلْبَةَ بْنِ زَيْدٍ الْحَارِثِيّ، رَأَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمِيصَ الْبَطْنِ، فَجَاءَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ: أُوجِرَك نَفْسِي أَجُرّ الْجَرِيرَ [ (2) ] عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا تُعْطِينِي فِيهِ خَدِرَةً- الْخَدِرَةُ الّتِي فِيهَا الدّخَانُ. أَوْ يُقَالُ: جَدِيدٌ [ (3) ] وَلَا حَشَفٌ [ (4) ] . قَالَ: نَعَمْ. فَعَمِلَ مَعَهُ إلَى الْعَصْرِ، ثُمّ أَخَذَ التّمْرَ فَجَاءَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ نَبْتَلٍ يَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا وَمَا يَصْنَعُ، مَا كَانَ اللهُ يَصْنَعُ بِهَذَا، أَمَا كَانَ اللهُ غَنِيّا عَنْ هَذَا؟ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.. [ (5) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعِيَ لِيُصَلّيَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنّي إنْ زِدْت عَلَى السّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْت، إنّي خُيّرْت فَاخْتَرْت! فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [ (6) ] إلَى قَوْلِهِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ* [ (7) ] قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْجَدّ بْنِ قيس. يقول الله عزّ وجلّ: فَإِنْ*
رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ [ (1) ] يَعْنِي مِنْ سَفْرَةِ تَبُوكَ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ الّذِينَ كَانُوا اسْتَأْذَنُوهُ لِلْقُعُودِ، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَوّلَ سَفَرِي حِينَ خَرَجْت، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ مَعَ النّسَاءِ. وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.. [ (2) ] الْآيَةُ. قَالَ: لَمّا مَاتَ ابْنُ أُبَيّ وُضِعَ فِي مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلّيَ عَلَيْهِ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، تُصَلّي عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا، وَيَوْمَ كَذَا كَذَا؟ فَقَالَ: يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطّابِ، إنّي خُيّرْت فَاخْتَرْت، فَلَوْ أَنّي أَعْلَمُ أَنّي إنْ زِدْت عَلَى السّبْعِينَ صَلَاةً غُفِرَ لَهُ زِدْت! وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزّ وَجَلّ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [ (3) ] . فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفَنَهُ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ فَلَمْ يَرُمْ مَقَامَهُ حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ... [ (3) ] الْآيَةُ. وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [ (4) ] إلَى قَوْلِهِ بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ* [ (5) ] مَعَ النّسَاءِ، وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ نَزَلَتْ فِي الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مَيّلًا، كَثِيرَ الْمَالِ. وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [ (6) ] يَعْنِي الْمُعْتَذِرُونَ، وَهُمْ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ مِنْ غِفَارٍ، لِيُؤْذَنَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ، يَقُولُ: وَيُعْذَرُوا فِي الْخُرُوجِ، وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقُولُ: قَعَدَ الْمُنَافِقُونَ الّذِينَ تَخَلّفُوا، وَقَالُوا: اجْلِسُوا إن أذن
لَكُمْ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ [ (1) ] أَهْلِ الزّمَانَةِ وَالشّيْخِ الْكَبِيرِ، وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ يَعْنِي الْمُعْسِرَ، حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إذَا كَانُوا هَكَذَا. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [ (2) ] هَؤُلَاءِ الْبَكّاؤُونَ وَهُمْ سَبْعَةٌ: أَبُو لَيْلَى الْمَازِنِيّ، وَسَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الزّرَقِيّ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ عَنَمَةَ السّلَمِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيّ، وَسَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ [ (3) ] . يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [ (4) ] مَعَ النّسَاءِ، يَعْنِي الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ [ (5) ] أَيْ لَنْ نُصَدّقَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ يَعْنِي مَا أَخْبَرَهُ مِنْ قِصّتِهِمْ، وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، إلَى قَوْلِهِ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [ (6) ] يَعْنِي لَا تَلُومُوهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ يَعْنِي اُتْرُكُوهُمْ، إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ
لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ... [ (1) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.. [ (2) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: يَعْنِي الْأَعْرَابَ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً [ (3) ] إلَى قَوْلِهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ [ (4) ] يَعْنِي دُعَاءَ الرّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [ (5) ] يَعْنِي مَنْ صَلّى الْقِبْلَتَيْنِ مِنْهُمْ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ. يَعْنِي مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ. وَفِي الْفَتْحِ يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ [ (6) ] كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْعَرَبِ، مِنْهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَقَوْمُهُ مَعَهُ يُرْضُونَ أَصْحَابَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُرُونَهُمْ أَنّهُمْ مَعَهُمْ وَيُرْضُونَ قَوْمَهُمْ الّذِينَ هُمْ عَلَى الشّرْكِ. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَعْنِي مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ يَقُولُ مَرَدُوا فِي النّفَاقِ، لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ثُمّ أَعْلَمَهُمْ اللهُ عَزّ وَجَلّ نَبِيّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ يَعْنِي الْأَعْرَابَ، يَقُولُ: الْجُوعُ وَعَذَابُ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ يَقُولُ: إلَى النّارِ. وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.. [ (7) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ حِينَ أَشَارَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ أَنّهُ الذّبْحُ. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [ (8) ] يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، صدقات أموالهم يعنى تزكّيهم،
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [ (1) ] يَقُولُ: مَنْ أَقْبَلَ وَتَابَ، وَيَقْبَلُ الصّدَقَاتِ، مَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللهِ. يَقُولُ اللهُ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ.. [ (2) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ.. [ (3) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَعْنِي الثّلَاثَةَ: كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَهِلَالَ بْنَ أُمَيّةَ، وَمُرَارَةَ بْنَ الرّبِيعِ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [4] يَعْنِي أَبَا عَامِرٍ، وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يعنى ان يفرقوا بين عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَيُصَلّي بَعْضُهُمْ فِيهِ، وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَعْنِي أَبَا عَامِرٍ، يَقُولُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا مِنْ الشّامِ فَيَتَحَدّثُ عِنْدَنَا فِيهِ! هُوَ لَا يَدْخُلُ مَسْجِدَ بَنِي عَمْرِو ابن عَوْفٍ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ... إلَى آخِرِ الْآيَةِ. لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [ (5) ] إلَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* يَقُولُ: لَا تُصَلّ فِيهِ وَصَلّ فِي مَسْجِدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَسّسْته بِيَدِي، وَجِبْرِيلُ يَؤُمّ بِنَا الْبَيْتَ. وَأَمّا قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا كَانَ رِجَالٌ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، مِنْهُمْ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ
بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [ (1) ] . يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ [ (2) ] يَقُولُ: شَكّ فِي قُلُوبِهِمْ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ يَقُولُ: إلّا أَنْ يَمُوتُوا. قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ شَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ، عَنْ الْأَعْرَجِ، قَالَ: إنّمَا عَنَى الرّجُلَيْنِ وَلَمْ يَعْنِ الْمَسْجِدَ، أَيْ فِي قَوْلِهِ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [ (3) ] إلَى قَوْلِهِ: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَقُولُ: اشْتَرَى مِنْ الّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِهِ وَيُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِيهِ بِأَنّ لَهُمْ الْجَنّةَ. قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [ (4) ] إلَى قَوْلِهِ: أَصْحابُ الْجَحِيمِ. قَالَ: لَمّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ اسْتَغْفَرَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لَأَسْتَغْفِرَنّ لَك حَتّى أُنْهَى! فَاسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لَمَوْتَاهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يَقُولُ: مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَلَا يَتُوبُونَ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [ (5) ] قَالَ: وَعَدَهُ أَنْ يُسْلِمَ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ لَمّا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ تَبَرّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ. قَالَ: الْأَوّاهُ الدّعَاءُ. قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [ (6) ] يَعْنِي غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ، وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، وَكَانَتْ فِي زَمَنٍ شَدِيدِ الحرّ، مِنْ بَعْدِ ما
كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: أَبِي خَيْثَمَةَ وَمَا حَدّثَ نَفْسَهُ بِالتّخَلّفِ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِدّةِ الْحَرّ وَبُعْدِ الشُّقّة [ (1) ] ، ثُمّ عَزَمَ لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [ (2) ] إلَى قَوْلِهِ: التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* وَهُوَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ. وَأَمّا قَوْلُهُ: الَّذِينَ خُلِّفُوا يَعْنِي مَنْ تَعَذّرَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمّنْ قُبِلَ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ [ (3) ] يعنى غفار، وَأَسْلَمَ، وَجُهَيْنَةَ، وَمُزَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ يَعْنِي عَطَشٌ، وَلا نَصَبٌ يَعْنِي تَعَبٌ، وَلا مَخْمَصَةٌ مجاعة، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً بِلَادَ الْكُفّارِ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ. قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ... [ (4) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ ... [ (5) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَقُولُ: مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ إذَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزوةٍ أَنْ يَنْفِرُوا كلُّهم وَيَتْرُكُوا الْمَدِينَةَ خُلُوفًا بِهَا الذّرَارِيّ، وَلَكِنْ يَنْفِرُ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ طَائِفَةٌ. يَقُولُ: بَعْضُهُمْ لِيَنْظُرُوا كَيْفَ سَيْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُشْرِكِينَ وَيَعُوا مَا سَمِعُوا مِنْهُ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ يعنى يخافون الله.
حجة أبى بكر رضى الله عنه سنة تسع
يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ.. [ (1) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [ (2) ] يَعْنِي يَقِينًا وَتَسْلِيمًا، فَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا: زَادَتْنَا يَقِينًا وَتَسْلِيمًا، وَأَمّا الْمُنَافِقُونَ فَزَادَتْهُمْ شَكّا وَرِيبَةً إلَى مَا كَانُوا فِيهِ. وَيُقَالُ إنّهَا فِي الْمُشْرِكِينَ، فَزَادَتْهُمْ شَكّا وَثَبَاتًا عَلَى دِينِهِمْ، وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِمْ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [ (3) ] فَأَمّا مَن جَعَلَهَا فِي الْمُنَافِقِينَ فَيَقُولُ: يَكْذِبُونَ فِي السّنَةِ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ، وَأَمّا مَنْ زَعَمَ أَنّهَا فِي الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ: يُبْتَلَوْنَ بِالْغَزْوِ فِي السّنَةِ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ، ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ يَقُولُ: لَا يُسْلِمُونَ. وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ... [ (4) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ نَبْتَلٍ يَجْلِسُ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ الْمُنَافِقُونَ، فَإِذَا خَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَعْنُونَ الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُ: ثُمَّ انْصَرَفُوا يَعْنِي اسْتَهْزَءُوا فَكَذّبُوا بِالْحَقّ، صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنْهُ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ وَهُوَ يُذَكّرُ نَبِيّهُ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ (5) ] يَقُولُ: مِنْكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ يَقُولُ: مَا أَخْطَأْتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [ (6) ] . حُجّةُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَنَةَ تِسْعٍ قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَابْنُ أبى
سَبْرَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَحَارِثَةُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وكلُّ وَاحِدٍ قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم، قَالُوا: كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ «بَرَاءَةٌ» ، قَدْ عَاهَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَهْدًا، فَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجّ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِشْرِينَ بَدَنَةً، قَلّدَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّعَالَ، وَأَشْعَرَهَا بِيَدِهِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيّ، وَسَاقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَمْسَ بَدَنَاتٍ. وَحَجّ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَأَهْدَى بُدْنًا، وَقَوْمٌ أَهْلُ قُوّةٍ، وَأَهْلُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَسَارَ حَتّى إذَا كَانَ بِالْعَرْجِ فِي السّحَرِ سَمِعَ رُغَاءَ نَاقَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، فَقَالَ: هَذِهِ الْقَصْوَاءُ! فَنَظَرَ فَإِذَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَيْهَا، فَقَالَ: اسْتَعْمَلَك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْحَجّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي أَقْرَأُ «بَرَاءَةٌ» عَلَى النّاسِ، وَأَنْبِذُ إلَى كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُخَالِفَ الْمُشْرِكِينَ، فَيَقِفُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَلَا يَقِفُ بِجَمْعٍ [ (1) ] ، وَلَا يَدْفَعُ مِنْ عَرَفَةَ حَتّى تَغْرُبَ الشّمْسَ، وَيَدْفَعَ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ وَهُوَ مُفْرِدٌ بِالْحَجّ، فَخَطَبَ النّاسَ قَبْلَ التّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بَعْدَ الظّهْرِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ التّرْوِيَةِ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَصَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصّبْحَ بِمِنًى. ثُمّ لَمْ يَرْكَبْ حَتّى طَلَعَتْ الشّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ، فَانْتَهَى إلَى نَمِرَةَ [ (2) ] ، فَنَزَلَ فِي قُبّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ فِيهَا، فَلَمّا زَاغَتْ الشّمْسُ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ بِبَطْنِ عُرَنَةَ، ثُمّ أَنَاخَ فَصَلّى الظّهر والعصر بأذان وإقامتين،
ثم ركب راحلته، فوقف بالهضاب- عَرَفَةُ، وَالْمُصَلّى مِنْ عَرَفَةَ- فَلَمّا أَفْطَرَ الصّائِمُ دَفَعَ، فَكَانَ يَسِيرُ الْعُنُقَ [ (1) ] حَتّى انْتَهَى إلَى جَمْعٍ، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْ النّارِ الّتِي عَلَى قُزَحَ [ (2) ] . فَلَمّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلّى الْفَجْرَ، ثُمّ وَقَفَ، فَلَمّا أَسْفَرَ [ (3) ] دَفَعَ، وَجَعَلَ يَقُولُ فِي وُقُوفِهِ: يَا أَيّهَا النّاسُ، أَسْفِرُوا! يَا أَيّهَا النّاسُ، أَسْفِرُوا! ثُمّ دَفَعَ قَبْلَ الشّمْسِ، فَكَانَ يَسِيرُ الْعُنُقَ حَتّى انْتَهَى إلَى مُحَسّرٍ [ (4) ] فَأَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمّا جَازَ وَادِيَ مُحَسّرٍ عَادَ إلَى مسيره الأوّل، حتى رمى الجمرة راكبا، وسبع حَصَيَاتٍ، ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ، ثُمّ حَلَقَ. وَقَرَأَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانَ اللهِ عَلَيْهِ يَوْمَ النّحْرِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ «بَرَاءَةٌ» ، وَنَبَذَ إلَى كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ. قَالَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: حَضَرْت ذَلِكَ الْيَوْمَ- فَكَانَ يَقُولُ: هُوَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ- فَخَطَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ النّحْرِ بَعْدَ الظّهْرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ خَطَبَ فِي حَجّتِهِ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا، قَبْلَ التّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بِمَكّةَ بَعْدَ الظّهْرِ، وَبِعَرَفَةَ قَبْلَ الظّهْرِ، وَبِمِنًى يَوْمَ النّحْرِ بَعْدَ الظّهْرِ. وَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَرْمِي الْجِمَارَ مَاشِيًا، ذَاهِبًا وَجَائِيًا، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الصّدْرِ [ (5) ]- قَالُوا: رَمَى مَاشِيًا- فَلَمّا جَاوَزَ الْعَقَبَةَ رَكِبَ. وَيُقَالُ: رَمَى يَوْمَئِذٍ رَاكِبًا، فَلَمّا انْتَهَى إلَى الْأَبْطَحِ صَلّى بِهِ الظّهْرَ، وَدَخَلَ مَكّةَ فَصَلّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ قَافِلًا إلى المدينة.
سرية على بن أبى طالب عليه السلام إلى اليمن
سَرِيّةُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى الْيَمَنِ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ، فَأَمَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعَسْكِرَ بِقُبَاءَ، فَعَسْكَرَ بِهَا حَتّى تَتَامّ أَصْحَابُهُ، فَعَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ لِوَاءً، أَخَذَ عِمَامَةً فَلَفّهَا مَثْنِيّةً مُرَبّعَةً فَجَعَلَهَا فِي رَأْسِ الرّمْحِ، ثُمّ دَفَعَهَا إلَيْهِ [ (1) ] وَقَالَ: هَكَذَا اللّوَاءُ! وَعَمّمَهُ عِمَامَةً، ثَلَاثَةَ أَكْوَارٍ، وَجَعَلَ ذِرَاعًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَشِبْرًا مِنْ وَرَائِهِ، ثُمّ قَالَ: هَكَذَا الْعِمّةُ! قَالَ: فَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: لَمّا وَجّهَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: امْضِ وَلَا تَلْتَفِتْ! فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: إذَا نَزَلْت بِسَاحَتِهِمْ فَلَا تُقَاتِلْهُمْ حَتّى يُقَاتِلُوك، فَإِنْ قَاتَلُوك فَلَا تُقَاتِلْهُمْ حَتّى يَقْتُلُوا مِنْكُمْ قَتِيلًا، فَإِنْ قَتَلُوا مِنْكُمْ قَتِيلًا فَلَا تُقَاتِلْهُمْ، تَلَوّمْهُمْ تُرِهِمْ أَنَاةً [ (2) ] ، ثُمّ تَقُولُ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إلَى أَنْ تَقُولُوا لَا إلَهَ إلّا الله؟ فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ فَقُلْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تُصَلّوا؟ فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ فَقُلْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ صَدَقَةً تردُّونها عَلَى فُقَرَائِكُمْ؟ فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ، فَلَا تَبْغِ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَاَللهِ، لَأَنْ يَهْدِي اللهُ عَلَى يَدِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ [ (3) ] لَك مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ! قَالَ: فَخَرَجَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، فَكَانَتْ خَيْلُهُمْ أَوّلَ خَيْلٍ دَخَلَتْ تِلْكَ الْبِلَادَ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى أَدْنَى النّاحِيَةِ التي يريد- وهي أرض مذحج- فرّق
أَصْحَابَهُ، فَأَتَوْا بِنَهْبٍ وَغَنَائِمَ وَسَبْيٍ ونساءٍ وَأَطْفَالٍ وَنَعَمٍ وَشَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَجَعَلَ عَلِيّ عَلَى الْغَنَائِمِ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ، فَجَمَعَ إلَيْهِ مَا أَصَابُوا قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُمْ جَمْعٌ، ثُمّ لَقِيَ جَمْعًا فَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَحَرّضَ بِهِمْ، فَأَبَوْا وَرَمَوْا فِي أَصْحَابِهِ، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إلَى مَسْعُودِ بْنِ سِنَانٍ السّلَمِيّ فَتَقَدّمَ بِهِ، فَبَرَزَ رَجُلٌ مِنْ مَذْحِجَ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ، فَبَرَزَ إلَيْهِ الْأَسْوَدُ بْنُ الْخُزَاعِيّ السّلَمِيّ، فَتَجَاوَلَا سَاعَةً وَهُمَا فَارِسَانِ، فَقَتَلَهُ الْأَسْوَدُ وَأَخَذَ سَلَبَهُ. ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ عَلِيّ بِأَصْحَابِهِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلًا، فَتَفَرّقُوا وَانْهَزَمُوا وَتَرَكُوا لِوَاءَهُمْ قَائِمًا، فَكَفّ عَنْ طَلَبِهِمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَسَارَعُوا وَأَجَابُوا، وَتَقَدّمَ نَفَرٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، وَهَذِهِ صَدَقَاتُنَا فَخُذْ مِنْهَا حَقّ اللهِ! قَالَ: فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَجَمَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ مَا أَصَابَ مِنْ تِلْكَ الْغَنَائِمِ فَجَزّأَهَا خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَقْرَعَ عَلَيْهَا، فَكَتَبَ فِي سَهْمٍ مِنْهَا «لِلّهِ» ، فَخَرَجَ أَوّلُ السّهَامِ سَهْمُ الْخُمْسِ، وَلَمْ يُنْفِلْ أَحَدًا مِنْ النّاسِ شَيْئًا. فَكَانَ مَنْ قَبْلَهُ يُعْطُونَ أَصْحَابَهُمْ- الْحَاضِرَ دُونَ غَيْرِهِمْ- مِنْ الْخُمْسِ. ثُمّ يُخْبِرُ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَرُدّهُ عَلَيْهِمْ، فَطَلَبُوا ذَلِكَ مِنْ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَأَبَى وَقَالَ: الْخُمْسُ أَحْمِلُهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ، وَهَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ، وَنَلْقَاهُ وَيَصْنَعُ فِيهَا مَا أَرَاهُ اللهُ. فَانْصَرَفَ رَاجِعًا، وَحَمَلَ الْخُمْسَ وَسَاقَ مَعَهُ مَا كَانَ سَاقَ، فَلَمّا كَانَ بِالْفُتُقِ [ (1) ] تَعَجّلَ. وَخَلّفَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَالْخُمُسِ أَبَا رَافِعٍ، فَكَانَ فِي الْخُمُسِ ثياب
مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ، أَحْمَالٌ مَعْكُومَةٌ [ (1) ] ، وَنَعَمٌ تُسَاقُ مِمّا غَنِمُوا، وَنَعَمٌ مِنْ صَدَقَةِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ- وَكَانَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ- قَالَ: وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَنْهَانَا أَنْ نَرْكَبَ عَلَى إبِلِ الصّدَقَةِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَكْسُوَهُمْ ثِيَابًا فَكَسَاهُمْ ثَوْبَيْنِ ثَوْبَيْنِ. فَلَمّا كَانُوا بِالسّدْرَةِ دَاخِلِينَ مَكّةَ، خَرَجَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَتَلَقّاهُمْ لِيَقْدَمَ بِهِمْ فَيُنْزِلَهُمْ، فَرَأَى عَلَى أَصْحَابِنَا ثَوْبَيْنِ ثَوْبَيْنِ عَلَى كُلّ رَجُلٍ، فَعَرَفَ الثّيَابَ فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَلّمُونِي فَفَرِقْت مِنْ شِكَايَتِهِمْ، وَظَنَنْت أَنّ هَذَا يَسْهُلُ عَلَيْك، وَقَدْ كَانَ مَنْ كَانَ قَبْلَك يَفْعَلُ هَذَا بِهِمْ. فَقَالَ: رَأَيْت إبَائِي [ (2) ] عَلَيْهِمْ ذَلِكَ! وَقَدْ أَعْطَيْتهمْ، وَقَدْ أَمَرْتُك أَنْ تَحْتَفِظَ بِمَا خَلّفْت، فَتُعْطِيَهُمْ! قَالَ: فَأَبَى عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتّى جَرّدَ بَعْضَهُمْ مِنْ ثَوْبَيْهِ، فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْا، فَدَعَا عَلِيّا فَقَالَ: مَا لِأَصْحَابِك يَشْكُونَك؟ فَقَالَ: مَا أَشْكِيَتُهُمْ [ (3) ] ؟ قَسّمْت عَلَيْهِمْ مَا غَنِمُوا، وَحَبَسْت الْخُمُسَ حَتّى يَقْدَمَ عَلَيْك وَتَرَى رَأْيَك فِيهِ، وَقَدْ كَانَتْ الْأُمَرَاءُ يَفْعَلُونَ أُمُورًا، يُنْفِلُونَ مَنْ أَرَادُوا مِنْ الْخُمُسِ، فَرَأَيْت أَنْ أَحْمِلَهُ إلَيْك لِتَرَى فِيهِ رَأْيَك. فَسَكَتَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي سَالِمٌ مَوْلَى ثَابِتٍ، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمّا [ (4) ] ظَهَرَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى عَدُوّهِ وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، جَمَعَ مَا غَنِمَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ، وَأَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَكَتَبَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ يُخْبِرُهُ أَنّهُ لَقِيَ جَمْعًا مِنْ زُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنّهُ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنّهُمْ إنْ أَسْلَمُوا كَفّ عَنْهُمْ، فَأَبَوْا ذَلِكَ وَقَاتَلَهُمْ. قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: فَرَزَقَنِي اللهُ الظّفَرَ عَلَيْهِمْ حَتّى قُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ. ثُمّ أَجَابُوا إلَى مَا كَانَ عُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَطَاعُوا بِالصّدَقَةِ، وَأَتَى بِشْرٌ مِنْهُمْ لِلدّينِ، وَعَلّمَهُمْ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ. فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَافِيَهُ فِي الْمَوْسِمِ، فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إلَى عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِذَلِكَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ العزيز التّنوخىّ، عن يونس بن ميسرة ابن حُلَيْسٍ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ الْيَمَنَ خَطَبَ بِهِ، وَبَلَغَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قِيَامُهُ بِخُطْبَتِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي حُلّةٍ، مَعَهُ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، حَتّى اسْتَمَعَا لَهُ فَوَاقَفَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ: إنّ مِنْ النّاسِ مَنْ يُبْصِرُ بِاللّيْلِ وَلَا يُبْصِرُ بِالنّهَارِ. قَالَ كَعْبٌ: صَدَقَ! فَقَالَ عَلِيّ: وَفِيهِمْ مَنْ لَا يُبْصِرُ بِاللّيْلِ وَلَا يُبْصِرُ بِالنّهَارِ. فَقَالَ كَعْبٌ: صَدَقَ! فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: وَمَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطّوِيلَةِ. فَقَالَ كَعْبٌ: صَدَقَ! فَقَالَ الْحَبْرُ: وَكَيْفَ تُصَدّقُهُ؟ قَالَ: أَمّا قَوْلُهُ: «مِنْ النّاسِ مَنْ يُبْصِرُ بِاللّيْلِ وَلَا يُبْصِرُ بِالنّهَارِ» فَهُوَ الْمُؤْمِنُ بِالْكِتَابِ الأوّل ولا يومن بِالْكِتَابِ الْآخِرِ. وَأَمّا قَوْلُهُ: «مِنْهُمْ مَنْ لَا يُبْصِرُ بِاللّيْلِ وَلَا يُبْصِرُ بِالنّهَارِ» فَهُوَ الّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْكِتَابِ الْأَوّلِ وَلَا الْآخِرِ. وَأَمّا قَوْلُهُ: «مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطّوِيلَةِ» فَهُوَ مَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ الصّدَقَاتِ. قَالَ: وَهُوَ مَثَلٌ رَأَيْته بَيّنٌ! قَالُوا: وَجَاءَ كَعْبًا سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ حُلّتَهُ، وَمَضَى الْحَبْرُ مُغْضَبًا؟ وَمَثَلَتْ بَيْنَ يَدَيْ كَعْبٍ امْرَأَةٌ تَقُولُ: مَنْ يبادل راحلة براحلة؟ فقال كَعْبٌ: وَزِيَادَةِ حُلّةٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ! فَأَخَذَ كَعْبٌ وَأَعْطَى، وَرَكِبَ الرّاحِلَةَ وَلَبِسَ الْحُلّةَ،
وَأَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى لَحِقَ الْحَبْرَ وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطّوِيلَةِ! قَالَ: فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نِسْطَاسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ الْعَبْسِيّ، قَالَ: قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَمّا قَدِمَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ الْيَمَنَ، لَقِيته فَقُلْت: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ مُحَمّدٍ. فَجَعَلَ يُخْبِرُنِي عَنْهُ، وَجَعَلْت أَتَبَسّمُ فقال: ممّ تتبسّم فقلت: ممّا يوافق ما عِنْدَنَا مِنْ صِفَتِهِ. فَقَالَ [ (1) ] : مَا يُحِلّ وَمَا يُحَرّمُ، فَقُلْت: فَهُوَ عِنْدَنَا كَمَا وَصَفْت! وَصَدّقْت بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْت بِهِ. وَدَعَوْت مَنْ قِبَلَنَا مِنْ أَحْبَارِنَا، وَأَخْرَجْت إلَيْهِمْ سَفَرًا فَقُلْت: هَذَا كَانَ أَبِي يَخْتِمُهُ عَلَيّ وَيَقُولُ: لَا تَفْتَحْهُ حَتّى تَسْمَعَ بِنَبِيّ يَخْرُجُ بِيَثْرِبَ. قَالَ: فَأَقَمْت بِالْيَمَنِ عَلَى إسْلَامِي حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفّيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَدِمْت فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَيَا لَيْتَ أَنّي كُنْت تَقَدّمْت فى الهجرة!
باب ما جاء فيما يؤخذ من الصدقات
بَابٌ مَا جَاءَ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ الصّدَقَاتِ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي حَيّةَ قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ، قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي سَالِمٌ مَوْلَى ثَابِتٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ شِبْلٍ، قَالَ: قَرَأْت كِتَابًا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ فِيهِ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سوائهم مَوَاشِيهمْ مِنْ كُلّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ [ (1) ] فَفِيهَا شَاةٌ إلَى الْمِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ثَلَاثٌ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ شَاةً فَفِي كُلّ مِائَةٍ شَاةٍ شَاةٌ. وَفِي صَدَقَةِ الْإِبِلِ، فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتّا وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتّةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتّا وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا حِقّةٌ إلَى أَنْ تَبْلُغَ إحْدَى وَسِتّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتّا وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ، إلَى أَنْ تَبْلُغَ إحْدَى وَتِسْعِينَ، فَفِيهَا حِقّتَانِ طَرُوقَتَا [ (2) ] الْفَحْلِ، وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا تَيْسٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ [ (3) ] ، إلّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَدّقُ، وَلَا يُفَرّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرّقَيْنِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسّوِيّةِ. فَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلّ خَمْسِينَ حِقّةٌ، وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ، وَفِي كُلّ ثلاثين جذع
أو جذعة، وفى كُلّ أَرْبَعِينَ مُسِنّةٌ. وَفِيمَا سَقَتْ السّمَاءُ أَوْ سُقِيَ بِالْغَيْلِ [ (1) ] الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالْغَرْبِ [ (2) ] نِصْفُ الْعُشْرِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيّةٍ أَوْ نَصْرَانِيّةٍ لَمْ يُفْتَنْ عَنْهَا، وَأُخِذَ مِنْهُ دِينَارٌ عَلَى كُلّ حَالِمٍ، أَوْ عَدْلُهُ مِنْ الْمَعَافِرِيّ [ (3) ] . قَالَ: حَدّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُكَيْدِرِ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ الْمَازِنِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: كُنّا مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِالْيَمَنِ، فَرَأَيْته يَأْخُذُ الْحَبّ مِنْ الْحَبّ، وَالْبَعِيرَ مِنْ الْإِبِلِ، وَالشّاءَ مِنْ الْغَنَمِ، وَالْبَقَرَةَ مِنْ الْبَقَرِ، وَالزّبِيبَ مِنْ الزّبِيبِ، وَكَانَ لَا يُكَلّفُ النّاسَ مَشَقّةً، وَكَانَ يَأْتِيهِمْ فِي أَفْنِيَتِهِمْ [ (4) ] فَيُصَدّقَ مَوَاشِيَهُمْ وَيَأْمُرَ مَنْ يَسْقَبُ بِذَلِكَ، وَكَانَ لَا يُفَرّقُ الْمَاشِيَةَ، كَانَ يَقْعُدُ فَمَا أُتِيَ بِهِ مِنْ شَاةٍ فِيهَا وفاء لَهُ أَخَذَهَا، وَيَأْمُرُ مَنْ يَسْقَبُ بِذَلِكَ وَيَقْسِمُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ- يَسْقَبُ: يَسْعَى عَلَيْهِمْ- يَأْخُذُ الصّدَقَةَ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا، يَعْرِفُهُمْ. قَالَ: حَدّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمّدٍ الْفِهْرِيّ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مَعَ رُسُلِ حِمْيَرَ، وَبَعَثَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَكِيدَةٍ فَعَلِيّ عَلَى النّاسِ، وَإِنْ افْتَرَقْتُمَا فَكُلّ عَلَى حِدَةٍ. قَالَ رَجَاءٌ: وَكَانَ قَدْ قَضَى بِهَا قَضِيّةً، دِيَةُ النّفْسِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ، وَأَلْفَيْ شَاةٍ عَلَى أَهْلِ الْغَنَمِ، مِائَتَيْ جَذَعَةٍ- أَيْ ثُمّ ضَالَعَ [ (5) ] الشّاةَ جَذَعَةً، ثُمّ ثَنِيّةً- وَمِائَتَيْ بَقَرَةٍ نِصْفُهَا تَبِيعٌ وَنِصْفُهَا مَسَانّ. وعلى أهل الحلل ألفى ثوب معافريّة.
قَالُوا: احْتَفَرَ قَوْمٌ بِالْيَمَنِ بِئْرًا، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ سَقَطَ فِيهَا أَسَدٌ، فَأَصْبَحَ النّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَسَقَطَ إنْسَانٌ فِي الْبِئْرِ، فَتَعَلّقَ بِآخَرَ فَتَعَلّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ حَتّى كَانُوا فِي الْبِئْرِ أَرْبَعَةً، فَحَرِبَ [ (1) ] الْأَسَدُ بِهِمْ فَقَتَلَهُمْ، فَأَهْوَى لَهُ رَجُلٌ بِرُمْحِهِ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ النّاسُ: الْأَوّلُ عَلَيْهِ دِيَتُهُمْ فَهُوَ قَتَلَهُمْ. فَأَرَادُوا يُقْبِلُونَ، فَمَرّ بِهِمْ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَالَ: أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ، فَمَنْ رَضِيَ فَهُوَ إلَى قَضَائِهِ، وَمَنْ تَجَاوَزَ إلَى غَيْرِهِ فَلَا حَقّ لَهُ حَتّى يَكُونَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي فِيكُمْ، اجْمَعُوا مَنْ حَضَرَ الْبِئْرَ مِنْ النّاسِ! فَجَمَعُوا كُلّ مَنْ حَضَرَ الْبِئْرَ، ثُمّ قَالَ: رُبُعُ دِيَةٍ، وَثُلُثُ دِيَةٍ، وَنِصْفُ دِيَةٍ، وَدِيَةٌ تَامّةٌ، فَالْأَسْفَلُ رُبُعُ دِيَةٍ، مِنْ أَجْلِ أَنّهُ هَلَكَ مِنْ فَوْقِهِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلثّانِي ثُلُثُ الدّيَةِ، لِأَنّهُ هَلَكَ اثْنَانِ، وَلِلثّالِثِ نِصْفُ الدّيَةِ، مِنْ أَنّهُ هلك فوقه واحد، وللأعلى الدّيَةُ كَامِلَةٌ. فَإِنْ رَضِيتُمْ فَهُوَ بَيْنَكُمْ قَضَاءٌ، وَإِنْ لَمْ تَرْضَوْا فَلَا حَقّ لَكُمْ حَتّى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فَيَقْضِي بَيْنَكُمْ. فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجّتِهِ وَهُمْ عَشْرَةُ نَفَرٍ، فَجَلَسُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَصّوا عَلَيْهِ خَبَرَهُمْ، فَقَالَ: أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ إنْ شَاءَ اللهُ! فَقَامَ أَحَدُ النّفَرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ عَلِيّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا. فَقَالَ: فِيمَ قَضَى بَيْنَكُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى بِهِ، فَقَالَ: هُوَ مَا قَضَى بِهِ. فَقَامَ الْقَوْمُ فَقَالُوا: هَذَا قَضَاءٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ. فَلَزِمَ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْ الْأُسْدِ، أَهِيَ فِي بِلَادِهِمْ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهَا لَكَثِيرَةٌ تُغِيرُ عَلَى مَاشِيَتِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ الْأُسْدِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: فَإِنّهُ غَدَا عَلَى ابْنٍ لِحَوّاءَ فَأَكَلَهُ، فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ حَوّاءُ فَقَالَتْ: وَيْلَك، أَكَلْت ابْنِي! قَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ آكل رزقا ساقه الله إلىّ. فأقبل
آدَمُ فَقَالَ: وَيْلَك، تُخَاطِبُهَا وَقَدْ أَكَلْت ابْنَهَا؟ اخْسَأْ! فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يَمْشِي إلّا مُطَأْطِئًا رَأْسَهُ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ شِئْتُمْ وَظّفْت لَهُ وَظِيفَةً لَا يَعْدُوهَا إلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْته يُجَالِسُكُمْ وَتَحْذَرُونَ مِنْهُ. فَخَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا: وَظّفْ [ (1) ] لَهُ وَظِيفَةً. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَخْشَى أَلّا يَحْمِلَهَا قَوْمُنَا وَلَا يُطِيعُونَ بِهَا، فَنَكُونُ قَدْ قُلْنَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا لَا نَفِي بِهِ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْهُ يُجَالِسُنَا وَنَتَحَذّرُ مِنْهُ. فَقَالَ: فَذَاكَ! فَوَلّى الْقَوْمُ رَاجِعِينَ إلَى قَوْمِهِمْ، فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى قَوْمِهِمْ أَخْبَرُوهُمْ فَقَالُوا: وَاَللهِ مَا هُدِيتُمْ لِرُشْدِكُمْ، لَوْ قَبِلْتُمْ مَا وَظّفَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِنْتُمْ منه. فهيّأوا رَجُلًا يَبْعَثُونَهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ الرّسُولُ. قَالَ: وَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَحَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ مَوْلًى لِآلِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَدِمَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ الْيَمَنِ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ مِمّنْ حَلّ، وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا [ (2) ] وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلِيّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: أَمَرَنِي بِهَذَا أَبِي! قَالَ عَلِيّ، وَهُوَ بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرّشًا [ (3) ] عُلَى فَاطِمَةَ لِلّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلّذِي ذَكَرَتْ عَنْهُ، وَأَخْبَرْته أَنّي أَنْكَرْت ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ «أَبِي أَمَرَنِي بِذَلِكَ» . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْت! مَاذَا قُلْت حِينَ فَرَضْت الْحَجّ؟ قَالَ، قُلْت: اللهُمّ إنّي أُهِلّ بِمَا أهلّ به رسولك! قال:
حجة الوداع
فَإِنّ مَعِي الْهَدْيَ فَلَا تَحِلّ! فَكَانَتْ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الّذِي جَاءَ بِهِ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَاَلّذِي سَاقَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ مِائَةَ بَدَنَةٍ، فَحَلّ النّاسُ وَقَصّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، ثُمّ نَحَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، وَأَشْرَكَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ فِي هَدْيِهِ. حَجّةُ الْوَدَاعِ قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَابْنُ أبى سبرة، وأسامة بن زيد، وموسى ابن مُحَمّدٍ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَبُو حَمْزَةَ عَبْدُ الواحد بن ميمون، وحزام ابن هِشَامٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ مَنْ سَمّيْت قَدْ حَدّثَنَا أَيْضًا، قَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، فَأَقَامَ يُضَحّي بِالْمَدِينَةِ كُلّ عَامٍ، لَا يحلق ولا يقصّره وَيَغْزُو الْمَغَازِيَ، وَلَمْ يَحُجّ حَتّى كَانَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ، فَأَجْمَعَ الْخُرُوجَ وَآذَنَ النّاسَ بِالْحَجّ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلّهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَأْتَمّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْمَلَ بِعَمَلِهِ. وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ، أَوّلُهَا عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، نَحَرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلَقَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتّ، ثُمّ عُمْرَةُ الْقَضِيّةِ سَنَةَ سَبْعٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَأَهْدَى سِتّينَ بَدَنَةً، وَنَحَرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَحَلَقَ، وَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ، قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ: كَمْ حَجّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَدُنْ نُبّئَ إلَى
أَنْ تُوُفّيَ؟ قَالَ: حَجّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْحَارِثُ: فَسَأَلْت أَبَا هَاشِمٍ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُحَمّدِ بْنِ الْحَنَفِيّةِ، قَالَ: حَجّ حَجّةً بِمَكّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَ النّبُوّةِ، وَحَجّتَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: حَجّتَيْنِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَالْأَمْرُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا الّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَلَدِنَا، إنّمَا حَجّ حَجّةً وَاحِدَةً مِنْ الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الْحَجّةُ الّتِي يَقُولُ النّاسُ إنّهَا حَجّةُ الْوَدَاعِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: كُرِهَ أَنْ يُقَالَ حَجّةُ الْوَدَاعِ. فَقِيلَ: حَجّةُ الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ السّبْتِ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، فَصَلّى الظّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَحْرَمَ عِنْدَ صَلَاةِ الظّهْرِ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَهَذَا الثّبْتُ عِنْدَنَا. قَالَ: فَحَدّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ عِنْدَ الظّهْرِ، فَبَاتَ لِأَنْ يَجْتَمِعَ إلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَالْهَدْيُ حَتّى أَحْرَمَ عِنْدَ الظّهْرِ مِنْ الْغَدِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِهِ مُدّهِنًا مُتَرَجّلًا [ (1) ] مُتَجَرّدًا [ (2) ] حَتّى أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زيد، عن أبيه، أنّ رسول
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ فِي ثَوْبَيْنِ صُحَارِيّيْنِ [ (1) ] ، إزَارٍ وَرِدَاءٍ، وَأَبْدَلَهُمَا بِالتّنْعِيمِ بِثَوْبَيْنِ مِنْ جِنْسِهِمَا. قَالُوا: لَمّا اجْتَمَعَ إلَيْهِ نِسَاؤُهُ- وَكَانَ حَجّ بِهِنّ جَمِيعًا فِي حَجّتِهِ فِي الهوداج- وَانْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتِمَاعُ أَصْحَابِهِ وَالْهَدْيِ، دَخَلَ مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ بَعْدَ أَنْ صَلّى الظّهْرَ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ خَرَجَ فَدَعَا بِالْهَدْيِ فَأَشْعَرَهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَقَلّدَ نَعْلَيْنِ. ثُمّ رَكِبَ نَاقَتَهُ، فَلَمّا اسْتَوَى بِالْبَيْدَاءِ أَحْرَمَ. فَقَالَ: فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إِلْيَاسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ: انْتَهَيْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ لَيْلًا، وَمَعَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، فَبِتْنَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْت الْهَدْيَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ أَشْعَرَ هَدْيَهُ وَقَلّدَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ. وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا أَنّهُ لَمْ يَبِتْ. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الْمُجَمّرُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْت رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَمّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشْعِرَ بُدْنَهُ أَتَى بِبَدَنَةٍ فَأَشْعَرَهَا هُوَ بِنَفْسِهِ وَقَلّدَهَا. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: أَشْعَرَهَا وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَسَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ. وَيُقَالُ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بِأَنْ يُشْعِرَ مَا [ (2) ] فَضَلَ مِنْ الْبُدْنِ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْهَدْيِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عن أبيه،
عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: كُنْت عَلَى هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجّتِهِ، وَكَانَ مَعِي فَتَيَانِ مِنْ أَسْلَمَ، كُنّا نَسُوقُهَا سَوْقًا نَبْتَغِي بِهَا الرّعْيَ، وَعَلَيْهَا الْجِلَالُ [ (1) ] ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْت مَا عَطِبَ مِنْهَا، كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: تَنْحَرُهُ وَتُلْقِي قَلَائِدَهُ فِي دَمِهِ، ثُمّ تَضْرِبُ بِهِ صَفْحَتَهُ الْيُمْنَى، ثُمّ لَا تَأْكُلْ مِنْهَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِك. قَالَ: ثُمّ قَدِمْنَا مَكّةَ بَعْدَ يَوْمٍ، ثُمّ رُحْنَا يَوْمَ التّرْوِيَةِ إلَى عَرَفَةَ بِالْهَدْيِ، ثُمّ انْحَدَرْنَا مِنْ عَرَفَةَ حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى جَمْعٍ، ثُمّ انْتَهَيْنَا مِنْ جَمْعٍ إلَى مَنْزِلِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى حَيْثُ ضُرِبَتْ قُبّتُهُ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ سُقْ الْهَدْيَ إلَى الْمَنْحَرِ! فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْحَرُ الْهَدْيَ بِيَدَيْهِ وَأَنَا أُقَدّمُهَا إلَيْهِ تَعْتَبُ فِي الْعَقْل [ (2) ] . قَالُوا: وَمَرّ [ (3) ] النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَك! قَالَ: إنّهَا بَدَنَةٌ! قَالَ: ارْكَبْهَا! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ الْمُشَاةَ أَنْ يَرْكَبُوا عَلَى بُدْنِهِ. قَالُوا: وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقُولُ: طَيّبْت لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْرَامَهُ بِيَدَيّ. وَكَانَتْ تَقُولُ: أَحْرَمْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَطَيّبْت، فَلَمّا كُنّا بِالْقَاحَةِ [ (4) ] سَالَ مِنْ الصّفْرَةِ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ لَوْنَك الْآنَ يَا شُقَيْرَاءُ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلّي بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ رَكْعَتَيْنِ، آمِنًا لَا يَخَافُ إلّا اللهَ تَعَالَى، فَلَمّا قَدِمَ
مَكّةَ صَلّى بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ سَلّمَ، ثُمّ قَالَ: أَتِمّوا صَلَاتَكُمْ يَا أَهْلَ مَكّةَ، فَإِنّا سَفْرٌ! وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِيمَا أَهَلّ بِهِ صَلَّى الله عليه. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي طَوَالَةَ، عَنْ حَبِيبِ بن عبد الرحمن، عن محمود ابن لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ مَعَ حَجّتِهِ عُمْرَةً. قَالَ: وَحَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ، قُلْت: يَا رسول الله، تأمر الناس أن يحلّموا وَلَمْ تَحِلّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك؟ قَالَ: إنّي لَبّدْت رَأْسِي، وَقَلّدْت هَدْيِي، فَلَا أَحِلّ حَتّى أَنْحَرَ هَدْيِي. حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: قَالَا: أَهَلّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ وَسَاقَ الْهَدْيَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: أَفْرَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجّ، فَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ الّذِي أَخَذَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَثَبَتَ عِنْدَهُمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحَدِ بِمَلَلٍ، ثُمّ رَاحَ فَتَعَشّى بِشَرَفِ السّيّالَةِ، وَصَلّى بِالشّرَفِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَصَلّى الصّبْحَ بِعِرْقِ الظّبْيَةِ بَيْنَ الرّوْحَاءِ وَالسّيّالَةِ- وَهُوَ دُونَ الرّوْحَاءِ، فِي الْمَسْجِدِ الّذِي عَنْ يَمِينِ الطّرِيقِ. ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرّوْحَاءَ، فَإِذَا بِحِمَارٍ عَقِيرٍ، فَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا حِمَارٌ عَقِيرٌ. قَالَ: دَعُوهُ حَتّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ. فَجَاءَ النّهْدِيّ وَهُوَ صَاحِبُهُ فَأَهْدَاهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر
فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: صَيْدُ الْبَرّ لَكُمْ حَلَالٌ، إلّا مَا صِدْتُمْ أَوْ صِيدَ لَكُمْ. ثُمّ رَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرّوْحَاءِ فَصَلّى الْعَصْرَ بِالْمُنْصَرَفِ [ (1) ] ، ثُمّ صَلّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَتَعَشّى بِهِ، وَصَلّى الصّبْحَ بِالْأَثَايَةِ [ (2) ] وَأَصْبَحَ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ بِالْعَرْجِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو حَمْزَةَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَصُونٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ: إنّ عِنْدِي بَعِيرًا نَحْمِلُ عَلَيْهِ زَادَنَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَاكَ إذًا! قَالَتْ: فَكَانَتْ زَامِلَةُ [ (3) ] رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وَاحِدَةً، فَأَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَادٍ، دَقِيقٍ وَسَوِيقٍ، فَجَعَلَ عَلَى بَعِيرِ أَبِي بَكْرٍ. وَكَانَ غُلَامُهُ يَرْكَبُ عَلَيْهِ عُقْبَةً، فَلَمّا كَانَ بِالْأَثَايَةِ عَرّسَ الْغُلَامُ وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَقَامَ الْبَعِيرُ يَجُرّ خِطَامَهُ آخِذًا فِي الشّعْبِ، وَقَامَ الْغُلَامُ فَلَزِمَ الطّرِيقَ، يَظُنّ أَنّهُ سَلَكَهَا، وَهُوَ يَنْشُدُهُ فَلَا يَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ. وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبْيَاتٍ بِالْعَرْجِ، فَجَاءَ الْغُلَامُ مُظْهِرًا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَيْنَ بَعِيرُك؟ قَالَ: ضَلّ مِنّي! قَالَ: وَيْحَك، لَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا أَنَا لَهَانَ الْأَمْرُ عَلَيّ، وَلَكِنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ! فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَعَ بِهِ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ، وَكَانَ صَفْوَانُ عَلَى سَاقَةِ النّاسِ، وَأَنَاخَهُ عَلَى بَابِ مَنْزِلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اُنْظُرْ هَلْ تَفْقِدُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِك! فَنَظَرَ فَقَالَ: مَا نَفْقِدُ شَيْئًا إلّا قَعْبًا كنا نشرب
بِهِ، فَقَالَ الْغُلَامُ: هَذَا الْقَعْبُ مَعِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَدّى اللهُ عَنْك الْأَمَانَة! قَالَ: حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا نَزَلَ الْعَرْجَ جَلَسَ بِفِنَاءِ مَنْزِلِهِ، ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَجَلَسَ إلَى جَنْبِهِ، فَجَاءَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَجَلَسَتْ إلَى جَنْبِهِ الْآخَرِ، وَجَاءَتْ أَسْمَاءُ فَجَلَسَتْ إلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ غُلَامُ أَبِي بَكْرٍ مُتَسَرْبِلًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَيْنَ بَعِيرُك؟ قَالَ: أَضَلّنِي. فَقَامَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَضْرِبُهُ وَيَقُولُ: بَعِيرٌ وَاحِدٌ [ (1) ] يَضِلّ مِنْك؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسّمُ وَيَقُولُ: أَلَا تَرَوْنَ إلَى هَذَا الْمُحْرِمِ وَمَا يَصْنَعُ؟ وَمَا يَنْهَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ آلِ نَضْلَةَ الْأَسْلَمِيّ، أَنّهُمْ خُبّرُوا أَنّ زَامِلَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَلّتْ، فَحَمَلُوا جَفْنَةً مِنْ حَيْسٍ فَأَقْبَلُوا بِهَا حَتّى وَضَعُوهَا بَيْنَ يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يَقُولُ: هَلُمّ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَقَدْ جَاءَك اللهُ بِغَدَاءٍ طَيّبٍ! وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَغْتَاظُ عَلَى الْغُلَامِ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَوّنْ عَلَيْك، فَإِنّ الْأَمْرَ لَيْسَ إلَيْك، وَلَا إلَيْنَا مَعَك! قَدْ كَانَ الْغُلَامُ حَرِيصًا أَلّا يَضِلّ بَعِيرُهُ، وَهَذَا خلف ممّا كان معه. فأكل
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ وَأَبُو بَكْرٍ، وَكُلّ مَنْ كَانَ مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شَبِعُوا. قَالَ: وَجَاءَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَابْنُهُ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ بِزَامِلَةٍ تَحْمِلُ زَادًا، يَؤُمّانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يَجِدَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عِنْدَ بَابِ مَنْزِلِهِ قَدْ أَتَى اللهُ بِزَامِلَتِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ بَلَغَنَا أَنّ زَامِلَتَك أَضَلّتْ مَعَ الْغُلَامِ، وَهَذِهِ زَامِلَةٌ مَكَانَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ جَاءَ اللهُ بِزَامِلَتِنَا فَارْجِعَا بزاملتكما بارك الله عليكما! أما يكفيك با أَبَا ثَابِتٍ مَا تَصْنَعُ بِنَا فِي ضِيَافَتِك مُنْذُ نَزَلْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، الْمِنّةُ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَلّذِي تَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِنَا أَحَبّ إلَيْنَا مِنْ الّذِي تَدَعُ. قَالَ: صَدَقْتُمْ يَا أَبَا ثَابِتٍ، أَبْشِرْ فَقَدْ أَفْلَحْت! إنّ الْأَخْلَاقَ بِيَدِ اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَمَنْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَمْنَحَهُ مِنْهَا خُلُقًا صَالِحًا مَنَحَهُ، وَلَقَدْ مَنَحَك اللهُ خُلُقًا صَالِحًا. فَقَالَ سَعْدٌ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ! قَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَهْلَ بَيْتِ سَعْدٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ سَادَتُنَا وَالْمُطْعِمُونَ فِي الْمَحْلِ [ (1) ] مِنّا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا، لَهُمْ [ (2) ] مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، يَقُولُ لَهُ جَمِيلٌ ذِكْرُهُ، قَالَ: وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْيَىْ جَمَلٍ [ (3) ] ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فِي وَسَطِ رَأْسِهِ. قَالَ: حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمّدٌ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزّنَادِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بلال،
عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ، قَالُوا: وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّقْيَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، ثُمّ أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَبْوَاءِ، فَأَهْدَى لَهُ الصّعْبُ بْنُ جَثّامَةَ عَجُزَ حِمَارٍ يَقْطُرُ دَمًا، فَرَدّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إنّا حُرُمٌ. فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ بِالْأَبْوَاءِ لِيَاءً مُقَشّي [ (1) ] أُهْدِيَ لَهُ مِنْ وَدّانَ، ثُمّ قَامَ فَصَلّى وَلَمْ يَتَوَضّأْ، فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الّذِي يَنْظُرُ وَادِيَ الْأَبْوَاءِ، عَلَى يَسَارِك وَأَنْتَ مُوَجّهٌ إلَى مَكّةَ. ثُمّ رَاحَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأبواء فصلّى بتلعتات [ (2) ] الْيَمَنِ، وَكَانَ هُنَاكَ سَمُرَةٌ. كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخْبِرُ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ تَحْتَهَا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَصُبّ الْإِدَاوَةَ تَحْتَهَا إذَا مَرّ بِهَا، يَسْقِيهَا. قَالَ: حَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخْبِرُ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ تَحْتَهَا، وَأَنّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصُبّ الْإِدَاوَةَ تَحْتَهَا فِي أَصْلِ السّمُرَةِ، يُرِيدُ بَقَاءَهَا. قَالَ: فَحَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْمَسْجِدِ الّذِي هُنَاكَ حِينَ يَهْبِطُ مِنْ ثَنِيّةِ أَرَاكٍ [ (3) ] عَلَى الْجُحْفَةِ، وَنَزَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْجُحْفَةَ، ثُمّ رَاحَ مِنْهَا فَصَلّى فِي الْمَسْجِدِ الّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ مُشْرِفًا خَارِجًا مِنْ الْجُحْفَةِ، وَالْمَسْجِدُ الّذِي دُونَ خَمّ عَنْ يَسَارِ الطّرِيقِ، فَكَانَ يَوْمَ السّبْتِ بِقُدَيْدٍ، فَصَلّى فِي الْمَسْجِدِ الْمُشَلّلِ،
وَصَلّى فِي الْمَسْجِدِ الّذِي أَسْفَلَ مِنْ لَفَتٍ. قَالَ: حَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةِ فِي مِحَفّتِهَا [ (1) ] ، وَمَعَهَا ابْنٌ لَهَا صَغِيرٌ، فَأَخَذَتْ بِعَضُدِهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِهَذَا حَجّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَلَك [ (2) ] أَجْرٌ! وَكَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ بِعْسْفَانَ، ثُمّ رَاحَ. فَلَمّا كَانَ بِالْغَمِيمِ اعْتَرَضَ الْمُشَاةَ، فَصُفّوا لَهُ صُفُوفًا فَشَكَوْا إلَيْهِ الْمَشْيَ، فَقَالَ: اسْتَعِينُوا بِالنّسَلَانِ [ (3) ] . فَفَعَلُوهُ فَوَجَدُوا لِذَلِكَ رَاحَةً. وَكَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِمَرّ الظّهْرَانِ، فَلَمْ يَبْرَحْ مِنْهَا حَتّى أَمْسَى، وَغَرَبَتْ لَهُ الشّمْسُ، فَلَمْ يُصَلّ الْمَغْرِبَ حَتّى دَخَلَ مَكّةَ. فَلَمّا انْتَهَى إلَى الثّنِيّتَيْنِ بَاتَ بَيْنَهُمَا، بَيْنَ كُدًى وَكَدَاءٍ، ثُمّ أَصْبَحَ فَاغْتَسَلَ، وَدَخَلَ مَكّةَ نَهَارًا. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكّةَ نَهَارًا مِنْ كُدًى عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلَى الْأَبْطَحِ، حَتّى دَخَلَ مِنْ أَعْلَى مَكّةَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْبَابِ الّذِي يُقَالُ [لَهُ] بَابُ بَنِي شَيْبَةَ. فَلَمّا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَوَقَعَ زِمَامُ نَاقَتِهِ فَأَخَذَهُ بِشِمَالِهِ. قَالُوا: ثُمّ قَالَ حِينَ رَأَى الْبَيْتَ: اللهُمّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَبِرّا! قَالَ: فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَدَأَ بِالطّوَافِ قَبْلَ الصّلَاةِ. قَالُوا: وَلَمّا انْتَهَى إلَى الرّكْنِ اسْتَلَمَهُ وَهُوَ مُضْطَبِعٌ [ (4) ] بِرِدَائِهِ،
وَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، وَاَللهُ أَكْبَرُ! ثُمّ رَمَلَ [ (1) ] ثَلَاثَةً مِنْ الْحَجَرِ. وَكَانَ يَأْمُرُ مَنْ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ، وَاَللهُ أَكْبَرُ! إيمَانًا بِاَللهِ، وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أبيه، عن عبد الله بن السّائِبِ الْمَخْزُومِيّ، أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيمَا بَيْنَ الرّكْنِ الْيَمَانِيّ وَالْأَسْوَدِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [ (2) ] . قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بن عبد الله، عن عبد الله ابن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَمَقْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْتَلِمْ مِنْ الْأَرْكَانِ إلّا الْيَمَانِيّ وَالْأَسْوَدَ، وَمَشَى أَرْبَعَةً. قَالُوا: ثُمّ انْتَهَى إلَى خَلْفِ الْمَقَامِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، يَقْرَأُ فِيهِمَا: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [ (3) ] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [ (4) ] ، ثُمّ عَادَ إلَى الرّكْن فَاسْتَلَمَهُ. وَقَدْ قَالَ لِعُمَرَ: إنّك رَجُلٌ قَوِيّ، إنْ وَجَدْت الرّكْنَ خَالِيًا فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلّا فَلَا تُزَاحِمْ النّاسَ عَلَيْهِ فَتُؤْذِي وَتُؤْذَى. وَقَالَ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: وَكَيْفَ صَنَعْت بِالرّكْنِ يَا أَبَا مُحَمّدٍ؟ قَالَ: اسْتَلَمْت وَتَرَكْت. قَالَ: أَصَبْت! ثُمّ خَرَجَ إلَى الصّفَا مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقَالَ: أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ وَفْدَانَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعَى بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ على راحلته من فوره ذلك.
قَالَ: حَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ حَمّادٍ. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ، وَهُوَ سَاكِنٌ، فَطَافَ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ. قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: طَافَ يَوْمَئِذٍ عَلَى بَغْلَتِهِ. وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ- عَلَى رَاحِلَتِهِ. قَالُوا: فَصَعِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصّفَا، فَكَبّرَ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَقَالَ: لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ! ثُمّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، ثُمّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ، فَلَمّا انْصَبّتْ قَدَمَاهُ فِي الْوَادِي رَمَلَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أُمّهِ، عَنْ بَرّةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ [ (1) ] قَالَتْ: لَمّا انْتَهَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَسْعَى قَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السّعْيَ فَاسْعَوْا! فَسَعَى حَتّى رَأَيْت إزَارَهُ انْكَشَفَ عَنْ فَخِذِهِ. وَقَالُوا: قَالَ فِي الْوَادِي: رَبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَأَنْتَ الْأَعَزّ الْأَكْرَمُ! فَلَمّا انْتَهَى إلَى الْمَرْوَةِ فَعَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الصّفَا، فَبَدَأَ بِالصّفَا وَخَتَمَ بِالْمَرْوَةِ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ اضْطَرَبَ [ (2) ] بِالْأَبْطَحِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي بُرْدٌ أَنّ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي النّضْرِ حَدّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أم هَانِئٍ، قَالَتْ، قُلْت [ (3) ] : يَا رَسُولَ اللهِ، أَلّا تَنْزِلُ فِي بُيُوتِ مَكّةَ؟ فَأَبَى وَاضْطَرَبَ بِالْأَبْطَحِ حتى خرج يوم التروية، ثم رجع
مِنْ مِنًى فَنَزَلَ بِالْأَبْطَحِ حَتّى خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَيْتًا وَلَمْ يُظِلّهُ قَالَ: وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى بَابِهَا خَلَعَ نَعْلَيْهِ، وَدَخَلَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَبِلَالٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ طَوِيلًا ثُمّ فَتَحُوهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكُنْت أَوّلَ النّاسِ سَبَقَ إلَيْهِ، فَسَأَلْت بِلَالًا: أَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ الْمُقَدّمَتَيْنِ- وَكَانَ عَلَى سِتّةِ أَعْمِدَة. فَحَدّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبّرَ فِي نَوَاحِيهِ وَلَمْ يُصَلّ. قَالُوا: وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقُولُ: دخل على رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقُلْت: مَا لَك يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: فَعَلْت الْيَوْمَ أَمْرًا لَيْتَنِي لَمْ أَكُ فَعَلْته! دَخَلْت الْبَيْتَ فَعَسَى الرّجُلُ مِنْ أُمّتِي لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَهُ، فَتَكُونَ فِي نَفْسِهِ حَرَارَةٌ، وَإِنّمَا أُمِرْنَا بِالطّوَافِ وَلَمْ نُؤْمَرْ بِالدّخُولِ. وَكَسَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسَى، قَالَ: سَمِعْت الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَسَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ فِي حَجّتِهِ الْحِبَرَاتِ [ (1) ] . قَالُوا: وَكَانَتْ الْكَعْبَةُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا. قَالُوا: وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ- وَهُوَ يَوْمُ التّرْوِيَةِ، فِيمَا اُجْتُمِعَ لَنَا عَلَيْهِ- وَخَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ التّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بَعْدَ الظّهر بمكّة.
قَالَ: فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَارِثَةَ الظّفَرِيّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيّ الضّمْرِي [ (1) ] ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَبْلَ التّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بَعْدَ الظّهْرِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ عَلَى رَاحِلَتِهِ قَبْلَ الصّلَاةِ، وَالْغَدُ مِنْ يَوْمِ النّحْرِ بِمِنًى بَعْدَ الظّهْرِ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: هَذَا الْأَمْرُ الْمَأْخُوذُ بِهِ الْمَعْرُوفُ. وَيُقَالُ: إنّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَافَقَ يَوْمَ التّرْوِيَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرّكْنِ وَالْمَقَامِ، فَوَعَظَ النّاسَ وَقَالَ: مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنّ يُصَلّيَ الظّهْرَ بِمِنًى فَلْيَفْعَلْ. وَرَكِبَ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ بَعْدَ أَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، فَصَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصّبْحَ بِمِنًى، وَنَزَلَ بِمَوْضِعِ دَارِ الْإِمَارَةِ الْيَوْمَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَبْنِي لَك كَنِيفًا [ (2) ] ؟ فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مِنًى مَنْزِلُ مَنْ سَبَقَ! قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْكَبْ مِنْ مِنًى حَتّى رَأَى الشّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ، ثُمّ رَكِبَ فَانْتَهَى إلَى عَرَفَةَ فَنَزَلَ بِنَمِرَةَ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ بِهَا قُبّةً مِنْ شَعْرٍ. وَيُقَالُ: إنّمَا قَالَ إلَى فَيْءِ صَخْرَةٍ، وَمَيْمُونَةُ زَوْجَتُهُ تَتْبَعُ ظِلّهَا حَتّى رَاحَ، وَأَزْوَاجُهُ فِي قِبَابٍ- أَوْ فِي قُبّةٍ- حَوْلَهُ. فَلَمّا كَانَ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، فَرُحّلَتْ إلَى بَطْنِ الْوَادِي- بَطْنِ عرنة.
قَالُوا: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَشُكّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُجَاوِزُ الْمُزْدَلِفَةَ يَقِفُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، وَهُوَ يَسِيرُ إلَى جَنْبِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، ظَنّ قَوْمُك أَنّك تَقِفُ بِجَمْعٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ كُنْت أَقِفُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ النّبُوّةِ خِلَافًا لَهُمْ! وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ النّبُوّةِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ كُلّهَا تَقِفُ بِجَمْعٍ إلّا شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَإِنّ مُوسَى بْنَ يَعْقُوبَ حَدّثَنِي، عَنْ عَمّهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: كَانَ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ يَقِفُ بِعَرَفَةَ، عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَسْوَدَانِ، وَزِمَامُ بَعِيرِهِ مِنْ شَعْرٍ بَيْنَ غَرْزَيْنِ [ (1) ] أَسْوَدَيْنِ، حَتّى يَقِفَ مَعَ النّاسِ بِعَرَفَةَ ثُمّ يَدْفَعُ بِدَفْعِهِمْ، فَإِنّنَا لَا نَتَكَلّمُ مَعَ النّاسِ- يَعْنِي الْعَرَبَ- كَانَتْ تَقِفُ بِعَرَفَةَ: وَقُرَيْشٌ بِجَمْعٍ تَقُولُ: نَحْنُ أَهْلُ اللهِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ بِبَطْنِ عَرَفَةَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، فَلَمّا كَانَ آخِرُ الْخُطْبَةِ أَذّنَ بِلَالٌ وَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَلَامِهِ، فَلَمّا فَرَغَ بِلَالٌ مِنْ أَذَانِهِ تَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، وَأَقَامَ بِلَالٌ، فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ، ثُمّ أَقَامَ فَصَلّى الْعَصْرَ، جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ. فَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَئِذٍ فِي وَادِي عَرَفَةَ، ثُمّ رَكِبَ. قَالَ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إلَى الناس أن يقفوا- إلى عرفة.
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة قبل الصلاتين
خُطْبَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الصّلَاتَيْنِ وَكَانَ مِنْ خُطْبَتِهِ يَوْمَئِذٍ: أَيّهَا النّاسُ، إنّي وَاَللهِ مَا أَدْرِي لَعَلّي لَا أَلْقَاكُمْ بِمَكَانِي هَذَا بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا! رَحِمَ الله امرءا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، فَرُبّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ! وَاعْلَمُوا أَنّ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا! وَاعْلَمُوا أَنّ الصّدُورَ لَا تُغَلّ [ (1) ] عَلَى ثَلَاثٍ: إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَهْلِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ! أَلّا إنّ كُلّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، وَأَوّلُ دِمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ أَضَعُ دَمَ إيَاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ- كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ- وَرِبَا الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ كُلّهُ، وَأَوّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. اتّقُوا اللهَ فِي النّسَاءِ، فَإِنّمَا أَخَذْتُمُوهُنّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَإِنّ لَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرّحٍ، وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنّ وَكَسَوْتهنّ بِالْمَعْرُوفِ، قَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلّوا بَعْدَهُ إنْ اعْتَصَمْتُمْ به- كتاب الله تبارك وتعالى! وأنتم مسؤولون عَنّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلّغْت وَأَدّيْت وَنَصَحْت! ثُمّ قَالَ، بِإِصْبَعِهِ السّبّابَةِ إلَى السّمَاءِ، يَرْفَعُهَا وَيَكُبّهَا ثَلَاثًا: اللهُمّ، واشهد! قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عمّه الزّهرىّ، عن أبى سلمة ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِالْهِضَابِ مِنْ عَرَفَةَ فَقَالَ: كُلّ عرفة موقف إلّا بطن عرنة،
وَكُلّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ إلّا بَطْنَ مُحَسّرٍ، وَكُلّ مِنًى مَنْحَرٌ إلّا خَلْفَ الْعَقَبَةِ قَالُوا: وَبَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مَنْ هُوَ بِأَقْصَى عَرَفَةَ فَقَالَ: الْزَمُوا مَشَاعِرَكُمْ، فَإِنّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ إبْرَاهِيمَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَن ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: عَرَفَةُ أَوّلُ جَبَلٍ مِمّا يَلِي عُرَنَةَ إلَى جَبَلِ عَرَفَةَ، كُلّهِ مِنْ عَرَفَةَ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَظَرْت إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ مَادّ يَدَيْهِ، يُقْبِلُ بِرَاحَتَيْهِ [ (1) ] عَلَى وَجْهِهِ. وَقَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ أَفَضْلَ دُعَائِي وَدُعَاءَ مَنْ كَانَ قَبْلِي مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: لا إله إلا الله وحده، لا شريك لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ! قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التّوَمَةِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ نَاسًا اخْتَلَفُوا فِي صِيَامِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ. فَقَالَتْ أُمّ الْفَضْلِ: أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ! فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ بِعُسّ [ (2) ] مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ وَهُوَ يَخْطُبُ. قَالُوا: وَوَقَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رَاحِلَتِهِ حَتّى غَرَبَتْ [الشّمْسُ] يَدْعُو. وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ إذَا كَانَتْ الشّمْسُ على رؤوس الجبال كهيئة العمائم على رووس الرّجَالِ. فَظَنّتْ قُرَيْشٌ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْفَعُ كَذَلِكَ، فَأَخّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفْعَهُ حَتّى غَرَبَتْ الشّمْسُ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ دَفْعَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بن
الزّبير، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْته يَسْأَلُ عَنْ سَيْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيّةَ عَرَفَةَ، فَقَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، وَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصّ- وَالنّصّ: فَوْقَ الْعَنَقِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيّهَا النّاسُ، عَلَى رِسْلِكُمْ [ (1) ] ! عَلَيْكُمْ بِالسّكِينَةِ، لِيَكُفّ قَوِيّكُمْ عَنْ ضَعِيفِكُمْ. قَالَ: فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا رَفَعَتْ نَاقَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الدّفْعَتَيْنِ وَاضِعَةً حَتّى رَمَى جَمْرَةً. قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْجُهَنِيّ، عَنْ عُيَيْمِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجُهَنِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى جَمْعٍ، والنار توقد بالمزدلفة وهو يؤمّها حَتّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا. قَالَ: فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَارِجَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا أَبْصَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ النّارَ، قَالَ لِخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: مَتَى كَانَتْ هَذِهِ النّارُ يَا أَبَا يَزِيدَ؟ قَالَ: كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيّةِ، وَضَعَتْهَا قُرَيْشٌ، لَا تَخْرُجُ مِنْ الْحَرَمِ إلَى عَرَفَةَ [إلّا] تَقُولُ: نَحْنُ أَهْلُ اللهِ! وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي أَنّهُمْ كَانُوا يَحُجّونَ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَيَرَوْنَ تِلْكَ النّارَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عن ابن
عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إلَى الشّعْبِ! قَالَ: وَهُوَ شِعْبُ الْإِذْخِرِ يَسَارَ الطّرِيقِ بَيْنَ الْمَأْزِمَيْنِ، وَلَمْ يُصَلّ. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى إثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ شِبْلٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: صَلّاهُمَا [ (1) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ. قَالُوا: وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا مِنْ النّارِ- وَالنّارُ عَلَى قُزَحَ، وَهُوَ الْجَبَلُ، وَهُوَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ- فَلَمّا كَانَ فِي السّحَرِ أَذّنَ لِمَنْ اسْتَأْذَنَهُ مِنْ أَهْلِ الضّعْفِ مِنْ الذّرّيّةِ وَالنّسَاءِ. قَالَ: حَدّثَنِي أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنّ سَوْدَةَ بِنْتَ رَبِيعَةَ اسْتَأْذَنَتْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التّقَدّمِ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ حَطْمَةِ [ (2) ] النّاسِ، وَكَانَتْ امْرَأَةٌ ثَبِطَةً [ (3) ] ، فَأَذِنَ لَهَا وَحَبَسَ نِسَاءَهُ حَتّى دَفَعْنَ بِدَفْعِهِ حِينَ أَصْبَحَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ أَحَبّ إلَيّ مِنْ مَفْرُوجٍ بِهِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمران ابن أَبِي أَنَسٍ، عَنْ أُمّهِ، قَالَتْ: تَقَدّمْت مَعَ سَوْدَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجّتِهِ فَرَمَيْنَا قَبْلَ الْفَجْرِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ابْنِ عبّاس رضى الله
عَنْهُ، أَنّهُ كَانَ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِهِ فَرَمَوْا الْجَمْرَةَ مَعَ الْفَجْر. قَالَ: فَحَدّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمّا بَرَقَ الْفَجْرُ، صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّبْحَ، ثُمّ رَكِبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، ثُمّ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ. وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ لَا يَدْفَعُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرٌ، كَيْمَا نُغِيرْ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ قُرَيْشًا خَالَفَتْ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ! فَدَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ، وَقَالَ: هَذَا الْمَوْقِفُ، وَكُلّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِف! قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: جَمَعَ مِنْ أَقْصَى الْمَأْزِمَيْنِ إلَى الْقَرْنِ الّذِي خَلْفَ وَادِي مُحَسّرٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ ابْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسّرٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو مَرْوَانَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ حَصَى الْعَقَبَةِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ. قَالَ: حَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ نَائِلٍ، قال: سمعت قدامة ابن عَبْدِ اللهِ الْكِلَابِيّ يَقُولُ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ صَهْبَاءَ، لَا ضَرْبَ، وَلَا طَرْدَ، وَلَا إلَيْك إلَيْك [ (1) ] . قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ شخيرة، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنّ النبىّ
حلق شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْطَعْ التّلْبِيَةَ حَتّى رَمَى الْجَمْرَةَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْطَعْ التّلْبِيَةَ حَتّى رَمَى الْجَمْرَةَ. قَالَ: وَلَمّا انْتَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْمَنْحَرِ قَالَ: هَذَا الْمَنْحَرُ، وَكُلّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلّ فِجَاجِ مَكّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ. ثُمّ نَحَرَ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتّينَ بِالْحَرْبَةِ، ثُمّ أَعْطَى رَجُلًا فَنَحَرَ مَا بَقِيَ، ثُمّ أَمَرَ مِنْ كُلّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، مِنْ الْبُدْنِ الّتِي نَحَرَ، فَجُعِلَ فِي قِدْرٍ فَطَبَخَهُ، فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا وَحَسَا مِنْ مَرَقِهَا. قَالَ: فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَصَدّقَ بِجَلَالِ بُدْنِهِ وَجُلُودِهَا وَلُحُومِهَا، وَلَا أُعْطِي مِنْهَا فِي جَزْرِهَا شَيْئًا. حَلْقُ شَعْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: لَمّا نَحَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدْيَ دَعَا الْحَلّاقَ، وَحَضَرَ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطَى الْحَلّاقَ شِقّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ، ثُمّ أَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيّ. وَكَلّمَهُ خَالِدُ ابن الْوَلِيدِ فِي نَاصِيَتِهِ حِينَ حَلَقَ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ، فَكَانَ يَجْعَلُهَا فِي مَقْدَمِ قَلَنْسُوَتِهِ، فَلَا يَلْقَى جَمْعًا إلّا فَضّهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُنْت أَنْظُرُ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَمَا نَلْقَى مِنْهُ فِي أُحُدٍ، وَفِي الْخَنْدَقِ، وَفِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي كُلّ مَوْطِنٍ لَاقَانَا، ثُمّ نَظَرْت إلَيْهِ يَوْمَ النّحْرِ يُقَدّمُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بَدَنَةً، وَهِيَ تَعْتَبُ فِي الْعَقْلِ، ثُمّ نَظَرْت إلَيْهِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ناصيتك! لا
تُؤْثِرُ بِهَا عَلَيّ أَحَدًا، فِدَاك أَبِي وَأُمّي! فَأَنْظُرُ إلَيْهِ أَخَذَ نَاصِيَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنَيْهِ وَفِيهِ. قَالَ: وَسَأَلْت عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: مِنْ أَيْنَ هَذَا الشّعْرُ الّذِي عِنْدَكُنّ؟ قَالَتْ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجّتِهِ فَرّقَ شَعْرَهُ فِي النّاسِ، فَأَصَابَنَا مَا أَصَابَ النّاسَ. فَلَمّا حَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ وَعَارِضَيْهِ، وَقَلّمَ أَظْفَارَهُ، وَأَمَرَ بِشَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَنْ يُدْفَنَا. وَقَصّرَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحَلَقَ آخَرُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَحِمَ اللهُ الْمُحَلّقِينَ! ثَلَاثًا، كُلّ ذَلِكَ يُقَالُ: الْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالْمُقَصّرِينَ! فِي الرّابِعَةِ. قَالُوا: وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطّيبَ بَعْدَ أَنْ حَلَقَ، وَلَبِسَ الْقَمِيصَ، وَجَلَسَ لِلنّاسِ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدّمَ أَوْ أُخّرَ إلّا قَالَ: افْعَلُوهُ وَلَا حَرَجَ! قَالَ: فَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنّ رَجُلًا جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ. فَقَالَ: انْحَرْ وَلَا حَرَجَ! قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَحَرْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ! قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْنَ حُذَافَةَ السّهْمِيّ يُنَادِي فِي النّاسِ: أَيّهَا النّاسُ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّهَا أَيّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرُ الله. قَالَ: فَانْتَهَى الْمُسْلِمُونَ عَنْ صِيَامِهِمْ إلّا مُحْصِرًا [ (1) ] بِالْحَجّ، أَوْ مُتَمَتّعًا إلَى الْحَجّ، فَإِنّ الرّخْصَةَ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَصُومُوا أَيّامَ مِنًى. فَأَفَاضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النّحْرِ، وَيُقَالُ: أَفَاضَ
خطبة النبى صلى الله عليه وسلم يوم النحر
لَيْلًا فِي نِسَائِهِ مَسَاءَ يَوْمِ النّحْرِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَفَاضُوا بِالنّهَارِ، فَأَتَى زَمْزَمَ فَأَمَرَ بِدَلْوٍ فَنُزِعَ لَهُ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَصَبّ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا عَلَيْهَا يَا وَلَدَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَنَزَعْت مِنْهَا. قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: نَزَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلْوًا لِنَفْسِهِ مِنْ زَمْزَمَ. قَالَ عَطَاءٌ: فَكُنْت أَنْتَزِعُهُ لِنَفْسِي، فَلَمّا كَبِرْت وَضَعُفْت كُنْت آمُرُ مَنْ يَنْزِعُهُ لِي. وَكَانَ يَرْمِي الْجِمَارَ حِينَ تَزِيغُ الشّمْسُ قَبْلَ الصّلَاةِ، فَكَانَ إذَا رَمَى الْجَمْرَتَيْنِ عَلَاهُمَا، وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي. وَكَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى أَكْثَرَ مِمّا يَقِفُ عِنْدَ الثّانِيَةِ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ الثّالِثَةِ، فَإِذَا رَمَاهَا انْصَرَفَ. قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رَمَى الْجَمْرَتَيْنِ وَقَفَ عِنْدَهُمَا وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي رَمْيِ الْعَقَبَةِ، فَإِذَا رَمَاهَا انْصَرَفَ. وَرَخّصَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرّعَاءِ أَنْ يَبِيتُوا عَنْ مِنًى، وَمَنْ جَاءَ مِنْهُمْ فَرَمَى بِاللّيْلِ، وَرَخّصَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِي الْبَدّاحِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ، عَنْ أَبِيهِ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَخّصَ لِلرّعَاءِ فِي الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى. قَالُوا: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ [ (1) ] ! وَكَانَ أَزْوَاجُهُ يَرْمِينَ مَعَ اللّيْل. خُطْبَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النّحْرِ قَالَ: فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ،
عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَارِثَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيّ [ (1) ] ، قَالَ: وَحَدّثْنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَا: خَطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الْغَدِ مِنْ يَوْمِ النّحْرِ بَعْدَ الظّهْرِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ. وَزَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْقِصّةِ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيّهَا النّاس، اسْمَعُوا مِنْ قَوْلِي فَاعْقِلُوهُ، فَإِنّي لَا أَدْرِي، لَعَلّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ! أَيّهَا النّاس، أَيّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالَ: فَسَكَتُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا شهر حرام! فأىّ بلد هذا؟ فسكتوا، فَقَالَ: بَلَدٌ حَرَامٌ! ثُمّ قَالَ: أَيّ يَوْمٍ هَذَا؟ فَسَكَتُوا، فَقَالَ: يَوْمٌ حَرَامٌ. ثُمّ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اللهَ قَدْ حَرّمَ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي يَوْمِكُمْ هَذَا، إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلّغْت؟ قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللهُمّ، اشْهَدْ! ثُمّ قَالَ: إنّكُمْ سَوْفَ تَلْقَوْنَ [ (2) ] رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا هَلْ بَلّغْت؟ قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللهُمّ اشْهَدْ، أَلَا وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، أَلَا وَإِنّ كُلّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنّ كُلّ دَمٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوّلُ دِمَاءَكُمْ أَضَعُ، دم إياس بن ربيعة بن الحارث- كان مسترضعا فى بنى سعد ابن لَيْثٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ- أَلَا هَلْ بَلّغْت؟ قَالُوا: اللهُمّ، نَعَمْ! قَالَ: اللهُمّ اشْهَدْ! فَلْيُبْلِغْ الشّاهِدُ الْغَائِبَ! أَلَا إنّ كُلّ مُسْلِمٍ مُحَرّمٌ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ، وَلَا يَحِلّ مَالُ مُسْلِمٍ إلّا مَا أَعْطَى عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ يَثْرِبِيّ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْت إن لقيت غنم
ابْنِ عَمّي، أَجْزُرُ مِنْهَا شَاةً؟ قَالَ: وَعَرَفَنِي فَقَالَ: إنْ لَقِيتهَا نَعْجَةً [ (1) ] تَحْمِلُ شَفْرَةً [ (2) ] وَزِنَادًا [ (3) ] بِخَبْتِ الْجَمِيشِ [ (4) ]- الْجَمِيشُ وَادٍ قَدْ عَرَفَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّاحِلِ كَثِيرُ الْحَطَبِ، وَهُوَ وَادٍ لِبَنِي ضَمْرَةَ، وَهُوَ مَنْزِلُ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيّ [ (5) ] ، وَيُقَالُ: خَبْتُ الْجَمِيشِ مَوْضِعُ صَحْرَاءَ، يُقَالُ جَنْبَ كَدَاءٍ- فَلَا تُهِجْهَا! ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيّهَا النّاسُ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ [ (6) ] . أَلَا وَإِنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنّ عِدّةَ الشّهُورِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجّةِ، وَالْمُحَرّمُ، وَرَجَبٌ الّذِي يُدْعَى شَهْرَ مُضَرٍ، الّذِي بَيْنَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَشَعْبَانَ، وَالشّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَثَلَاثُونَ، أَلَا هَلْ بَلّغْت؟ فَقَالَ النّاسُ: نَعَمْ! فَقَالَ: اللهُمّ اشْهَدْ! ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّ لِلنّسَاءِ عَلَيْكُمْ حَقّا، وَإِنّ لَكُمْ عَلَيْهِنّ حَقّا، فَعَلَيْهِنّ أَلّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا، وَلَا يُدْخِلْنَ بُيُوتَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ إلّا بِإِذْنِكُمْ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَأَنْ تَضْرِبُوهُنّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإِنْ انْتَهَيْنَ وَأَطَعْنَكُمْ فَلَهُنّ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنّمَا النّسَاءُ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ [ (7) ] لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنّ شَيْئًا، وَإِنّمَا أَخَذْتُمُوهُنّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ بكلمة الله، فاتّقوا
اللهَ فِي النّسَاءِ وَاسْتَوْصُوا بِهِنّ خَيْرًا، أَلَا هَلْ بَلّغْت؟ قَالَ النّاسُ: نَعَمْ! قَالَ: اللهُمّ، اشْهَدْ! أَيّهَا النّاسُ، إنّ الشّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمّا تَحْقِرُونَهُ، فَقَدْ رَضِيَ بِهِ. إنّ كُلّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَإِنّمَا الْمُسْلِمُونَ إخْوَةٌ، وَلَا يَحِلّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ دَمُ أَخِيهِ وَلَا مَالُهُ، إلّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، وَإِنّمَا أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النّاسَ حَتّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ. وَلَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ، وَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ. إنّي قَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا لَا تَضِلّونَ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، أَلَا هَلْ بَلّغْت؟ قَالَ النّاسُ: نَعَمْ! قَالَ: اللهُمّ، اشْهَدْ! ثُمّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ. عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سُئِلَ عَطَاءٌ: مَا الضّرْبُ غَيْرُ الْمُبَرّحِ؟ قَالَ: بِالسّوَاكِ وَبِالنّعْلِ. قَالَ عَطَاءٌ: وَسُئِلَ ابْنُ عَبّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [ (1) ] قَالَ: كَلِمَةُ النّكَاحِ. قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيتَ أَحَدٌ لَيَالِيَ مِنًى بِسِوَى مِنًى. قَالَ: حَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ الصّدْرِ [ (2) ] بِالْأَبْطَحِ. قَالَ: حَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ. عَنْ أَبِي رَافِعٍ. قَالَ: مَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَنْزِلَ مَنْزِلًا، جِئْت الْأَبْطَحَ فَضَرَبْت قُبّتَهُ، فَجَاءَ فَنَزَلَ. قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقُولُ: إنّمَا نَزَلَ [ (3) ] بِالْمُحَصّبِ [ (4) ] لِأَنّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ.
قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ صَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ حَاضَتْ! قَالَ: أَحَابِسَتنَا هِيَ؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهَا قَدْ أَفَاضَتْ. قَالَ: فَلَا إذًا! فَلَمّا جَاءَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مِنْ التّنْعِيمِ وَقَضَتْ عُمْرَتَهَا، أَمَرَ بِالرّحِيلِ، وَمَرّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ فَطَافَ فِيهِ قَبْلَ الصّبْحِ، ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ. قَالُوا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّمَا هِيَ ثَلَاثٌ يُقِيمُ بِهَا الْمَهَاجِرَ بَعْدَ الصّدْرِ. وَكَانَ سَائِلٌ سَأَلَهُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكّةَ، فَلَمْ يُرَخّصْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ إلّا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، قَالَ: إنّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ مُكْثٍ وَلَا إقَامَةٍ! قَالَ: فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إِلْيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبى سعيد، عن عبيد ابن جُرَيْجٍ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا وَدّعَ الْبَيْتَ فَكَانَ فِي الشّوْطِ [ (1) ] السّابِعِ خَلْفَ الْبَيْتِ يُمْنَى الْبَابِ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: تَعَوّذَ بَيْنَ الرّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالْبَابِ، وَأَلْصَقَ بَطْنَهُ وَجَبْهَتَهُ بِالْبَيْتِ. قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَفَلَ مِنْ حَجّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوَةٍ، فَوَافَى عَلَى ثَنِيّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ [ (2) ] ، كَبّرَ ثَلَاثًا ثُمّ قَالَ: لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قدير: آئبون، تَائِبُونَ، سَاجِدُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبّنَا حَامِدُونَ! صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ! اللهُمّ، إنّا نعود بك من وعثاء السّفر، وكآبة المنقلب،
عيادة النبى صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبى وقاص بعد حجة الوداع
وسوء المنظر في الأهل والمال! اللهم، بلغنا بَلَاغًا صَالِحًا نَبْلُغُ إلَى خَيْرِ مَغْفِرَةٍ مِنْك وَرِضْوَانٍ [ (1) ] ! قَالُوا: وَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُعَرّسِ [ (2) ] نَهَى أَصْحَابَهُ أَنْ يَطْرُقُوا النّسَاءَ لَيْلًا، فَطَرَقَ رَجُلَانِ أَهْلَهُمَا، فَكِلَاهُمَا وَجَدَ مَا يَكْرَهُ. وَأَنَاخَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ، وَكَانَ إذَا خَرَجَ إلَى الْحَجّ سَلَكَ عَلَى الشّجَرَةِ [ (3) ] ، وَإِذَا رَجَعَ مِنْ مَكّةَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ مِنْ مُعَرّسِ الْأَبْطَحِ. فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُعَرّسِهِ فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَكَانَ فِيهِ عَامّةَ اللّيْلِ، فَقِيلَ لَهُ: إنّك بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِنِسَائِهِ: هَذِهِ الْحَجّةُ، ثُمّ ظُهُورُ الْحُصْرِ [ (4) ] وَكُنّ يَحْجُجْنَ إلّا زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمَعَةَ، قَالَتَا: لَا تُحَرّكُنَا دَابّةٌ بَعْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عِيَادَةُ النّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص بَعْدَ حَجّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمَالِكٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَصَابَنِي، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنْ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إلّا ابْنَةٌ لِي، فَأَتَصَدّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا! قُلْت: فَالشّطْرُ؟ قَالَ: لَا! ثُمّ قَالَ: الثّلُثُ، وَالثّلُثُ كَثِيرٌ! إنّك أَنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يتكفّفون، وإنك لن
تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلّا أُجِرْت بِهَا، حَتّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِك! فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أُخَلّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ فَقَالَ: إنّك إنْ تُخَلّفْ فَتَعْمَلَ صَالِحًا تَزْدَدْ خَيْرًا وَرِفْعَةً، وَلَعَلّك أَنْ تُخَلّفَ حَتّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ أَوْ يُضَرّ بِك آخَرُونَ. اللهُمّ، أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ! لَكِنّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ- يُرْثَى له أن مات بمكّة [ (1) ] . قَالَ: فَحَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ الْأَعْرَجِ، قَالَ: خَلّفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَعْدٍ رَجُلًا وَقَالَ: إنْ مَاتَ سَعْدٌ بِمَكّةَ فَلَا تَدْفِنْهُ بِهَا. قَالَ: فَحَدّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبَى وَقّاصٍ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ الرّجُلُ فِي الْأَرْضِ الّتِي هَاجَرَ مِنْهَا [ (2) ] ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: حَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: مَرِضْت فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيِي فَوَجَدْت بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِيّ، ثُمّ قَالَ: إنك رجل مفؤود- المفؤود وَجَعُ [ (3) ] الْفُؤَادِ- فَائِت الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ أَخَا ثَقِيفٍ، إنّهُ رَجُلٌ يُطَبّبُ، فَمُرْهُ فَلِيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلْيَجَأْهُنّ بِنَوَاهُنّ أَيْ [ (4) ] يدقّهنّ- ثم ليدلّكك [ (5) ] بهنّ.
غزوة أسامة بن زيد مؤتة
غَزْوَةُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مُؤْتَةُ قَالُوا: لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ مَقْتَلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَوَجَدَ عَلَيْهِمْ وَجْدًا شَدِيدًا، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ بِالتّهَيّؤِ لِغَزْوِ الرّومِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِانْكِمَاشِ [ (1) ] فِي غَزْوِهِمْ. فَتَفَرّقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عِنْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مُجِدّونَ فِي الْجِهَادِ، فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَدِ، يَوْمَ الثّلَاثَاءِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ، دَعَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ، سِرْ عَلَى اسْمِ اللهِ وَبَرَكَتِهِ حَتّى تَنْتَهِيَ إلَى مَقْتَلِ أَبِيك، فَأَوْطِئْهُمْ الْخَيْلَ، فَقَدْ وَلّيْتُك عَلَى هَذَا الْجَيْشِ، فَأَغِرْ صَبَاحًا عَلَى أَهْلِ أُبْنَى وَحَرّقْ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرِعْ السّيْرَ تَسْبِقْ الْخَبَرَ، فَإِنْ أَظْفَرَك اللهُ فَأَقْلِلْ اللّبْثَ فِيهِمْ، وَخُذْ مَعَك الْأَدِلّاءَ، وَقَدّمْ الْعُيُونَ أَمَامَك وَالطّلَائِعَ. فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ صَفَرٍ، بُدِيَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصُدّعَ وَحُمّ. فَلَمّا أَصْبَحَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرٍ عَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِهِ لِوَاءً، ثُمّ قَالَ: يَا أُسَامَةُ، اُغْزُ بِسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللهِ، اُغْزُوَا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَمَنّوْا لِقَاءَ الْعَدُوّ، فَإِنّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلّكُمْ تُبْتَلَوْنَ بِهِمْ، وَلَكِنْ قُولُوا: اللهُمّ، اكْفِنَاهُمْ، وَاكْفُفْ بَأْسَهُمْ عَنّا! فَإِنْ لَقُوكُمْ قَدْ أَجْلَبُوا وَصَيّحُوا، فَعَلَيْكُمْ بِالسّكِينَةِ وَالصّمْتِ، وَلَا تَنَازَعُوا وَلَا تَفْشَلُوا فَتَذْهَبَ [ (2) ] ريحكم. وقولوا: اللهم، نحن عبادك وهم
عِبَادُك، نَوَاصِينَا وَنَوَاصِيهمْ بِيَدِك، وَإِنّمَا تَغْلِبُهُمْ أَنْتَ! وَاعْلَمُوا أَنّ الْجَنّةَ تَحْتَ الْبَارِقَةِ. قَالَ: حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ هِشَامِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أُسَامَةُ، شِنّ [ (1) ] الْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ أُبْنَى! قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنّ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا وَأَنْ يُحَرّقَ. قَالُوا: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ: امْضِ عَلَى اسْمِ اللهِ! فَخَرَجَ بِلِوَائِهِ مَعْقُودًا فَدَفَعَهُ إلَى بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيّ، فَخَرَجَ بِهِ إلَى بَيْتِ أُسَامَةَ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ فَعَسْكَرَ بِالْجُرْفِ، وَضَرَبَ عَسْكَرَهُ فِي سِقَايَةِ سُلَيْمَانَ الْيَوْمَ. وَجَعَلَ النّاسُ يَجِدّونَ [ (2) ] بِالْخُرُوجِ إلَى الْعَسْكَرِ، فَيَخْرُجُ مِنْ فَرْغٍ مِنْ حَاجَتِهِ إلَى مُعَسْكَرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ فَهُوَ عَلَى فَرَاغٍ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ إلّا اُنْتُدِبَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نفيل، فى رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عِدّةٍ: قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَسَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ. فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانَ أَشَدّهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلًا عَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: يُسْتَعْمَلُ [ (3) ] هَذَا الْغُلَامُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ؟ فَكَثُرَتْ الْقَالَةُ فِي ذَلِكَ، فَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَرَدّهُ عَلَى مَنْ
تَكَلّمَ بِهِ، وَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَخَرَجَ وَقَدْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةً وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، ثُمّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: أَمّا بَعْدُ، يَا أَيّهَا النّاسُ، فَمَا مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْ بَعْضِكُمْ فِي تَأْمِيرِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ؟ وَاَللهِ، لَئِنْ طَعَنْتُمْ فِي إمَارَتِي أُسَامَةَ لَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إمَارَتِي أَبَاهُ مِنْ قَبْلِهِ، وَاَيْمُ اللهِ، إنْ كَانَ لِلْإِمَارَةِ لَخَلِيقًا [ (1) ] وَإِنّ ابْنَهُ مِنْ بَعْدِهِ لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبّ النّاسِ إلَيّ، وَإِنّ هَذَا لَمِنْ أَحَبّ النّاسِ إلَيّ، وَإِنّهُمَا لَمُخِيلَانِ [ (2) ] لِكُلّ خَيْرٍ، فَاسْتَوْصُوا بِهِ خَيْرًا فَإِنّهُ مِنْ خِيَارِكُمْ! ثُمّ نَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ السّبْتِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ. وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ الّذِينَ يَخْرُجُونَ مَعَ أُسَامَةَ يُوَدّعُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ! وَدَخَلَتْ أُمّ أَيْمَنَ [ (3) ] ، فَقَالَتْ: أَيْ رَسُولُ الله، لَوْ تَرَكْت أُسَامَةَ يُقِيمُ فِي مُعَسْكَرِهِ حَتّى تَتَمَاثَلَ، فَإِنّ أُسَامَةَ إنْ خَرَجَ عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِنَفْسِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ! فَمَضَى النّاسُ إلَى الْمُعَسْكَرِ فَبَاتُوا لَيْلَةَ الْأَحَدِ، وَنَزَلَ أُسَامَةُ يَوْمَ الْأَحَدِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيلٌ مَغْمُورٌ، وَهُوَ الْيَوْمُ الّذِي لَدّوهُ [ (4) ] فِيهِ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَيْنَاهُ تَهْمِلَانِ، وَعِنْدَهُ الْعَبّاسُ وَالنّسَاءُ حَوْلَهُ، فَطَأْطَأَ عَلَيْهِ أسامة فقبّله، ورسول
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَكَلّمُ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ يَدَهُ إلَى السّمَاءِ ثُمّ يَصُبّهَا [ (1) ] عَلَى أُسَامَةَ. قَالَ: فَأَعْرِفُ أَنّهُ كَانَ يَدْعُو لِي. قَالَ أُسَامَةُ: فَرَجَعْت إلَى مُعَسْكَرِي. فَلَمّا أَصْبَحَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ غَدَا مِنْ مُعَسْكَرِهِ وَأَصْبَحَ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفِيقًا، فَجَاءَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ: اُغْدُ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ! فَوَدّعَهُ أُسَامَةُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفِيقٌ مُرِيحٌ [ (2) ] ، وَجَعَلَ نِسَاءَهُ يَتَمَاشَطْنَ سُرُورًا بِرَاحَتِهِ. فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَصْبَحْت مُفِيقًا بِحَمْدِ اللهِ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ ابْنَةِ خَارِجَةَ فَائْذَنْ لِي! فَأَذِنَ لَهُ فَذَهَبَ إلَى السّنْحِ [ (3) ] ، وَرَكِبَ أُسَامَةُ إلَى مُعَسْكَرِهِ، وَصَاحَ فِي النّاسِ أَصْحَابِهِ بِاللّحُوقِ بِالْعَسْكَرِ، فَانْتَهَى إلَى مُعَسْكَرِهِ وَنَزَلَ، وَأَمَرَ النّاسَ بِالرّحِيلِ وَقَدْ مَتَعَ [ (4) ] النّهَارُ. فَبَيْنَا أُسَامَةُ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ مِنْ الْجُرْفِ أَتَاهُ رَسُولُ أُمّ أَيْمَنَ- وَهِيَ أُمّهُ- تُخْبِرُهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُوتُ، فَأَقْبَلَ أُسَامَةُ إلَى الْمَدِينَةِ مَعَهُ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ، فَانْتَهَوْا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يموت، فتوفّى رسول الله حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ. وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الّذِينَ عَسْكَرُوا بِالْجُرْفِ الْمَدِينَةَ، وَدَخَلَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ بِلِوَاءِ أُسَامَةَ مَعْقُودًا حَتّى أَتَى بِهِ بَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَرَزَهُ عِنْدَهُ، فَلَمّا بُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَمَرَ بُرَيْدَةُ أَنْ يَذْهَبَ بِاللّوَاءِ إلَى بَيْتِ أُسَامَةَ وَأَلّا يَحِلّهُ أَبَدًا حَتّى يَغْزُوَهُمْ أُسَامَةُ. قَالَ بُرَيْدَةُ: فَخَرَجْت بِاللّوَاءِ حَتّى انْتَهَيْت بِهِ إلَى بَيْتِ أُسَامَةَ، ثُمّ خَرَجْت بِهِ إلَى الشّامِ مَعْقُودًا مَعَ أُسَامَةَ، ثُمّ رَجَعْت بِهِ إلَى بَيْتِ أُسَامَةَ، فَمَا زَالَ فِي بيت أسامة
حَتّى تُوُفّيَ أُسَامَةُ. فَلَمّا بَلَغَ الْعَرَبَ وَفَاةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدّ مَنْ ارْتَدّ عَنْ الْإِسْلَامِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأُسَامَةَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ: اُنْفُذْ فِي وَجْهِك الّذِي وَجّهَك فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخَذَ النّاسُ بِالْخُرُوجِ وَعَسْكَرُوا فِي مَوْضِعِهِمْ الْأَوّلِ، وَخَرَجَ بُرَيْدَةُ بِاللّوَاءِ حَتّى انْتَهَى إلَى مُعَسْكَرِهِمْ الْأَوّلِ، فَشَقّ عَلَى كِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ، وَدَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسعيد ابن زَيْدٍ، فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، إنّ الْعَرَبَ قَدْ انْتَقَضَتْ عَلَيْك مِنْ كُلّ جَانِبٍ، وَإِنّك لَا تَصْنَعُ بِتَفْرِيقِ هَذَا الْجَيْشِ الْمُنْتَشِرِ شَيْئًا، اجْعَلْهُمْ عِدّةً لِأَهْلِ الرّدّةِ، تَرْمِي بِهِمْ فِي نُحُورِهِمْ! وَأُخْرَى، لَا نَأْمَنُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُغَارَ عَلَيْهَا وَفِيهَا الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ، فَلَوْ اسْتَأْنَيْت لِغَزْوِ الرّومِ حَتّى يَضْرِبَ الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ [ (1) ] ، وَتَعُودَ الرّدّةُ إلَى مَا خَرَجُوا مِنْهُ أَوْ يُفْنِيَهُمْ السّيْفُ، ثُمّ تَبْعَثُ أُسَامَةَ حِينَئِذٍ فَنَحْنُ نَأْمَنُ الرّومَ أَنْ تَزْحَفَ إلَيْنَا! فَلَمّا اسْتَوْعَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْهُمْ كَلَامَهُمْ قَالَ: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَدْ سَمِعْت مَقَالَتَنَا. فَقَالَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ ظَنَنْت أَنّ السّبَاعَ تَأْكُلُنِي بِالْمَدِينَةِ لَأَنْفَذْت هَذَا الْبَعْثَ، وَلَا بَدَأْت بِأَوّلَ مِنْهُ، وَرَسُولُ اللهِ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنْ السّمَاءِ يَقُولُ: أَنْفِذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ! وَلَكِنْ خَصْلَةً، أُكَلّمُ أُسَامَةَ فِي عُمَرَ يَخْلُفُهُ يُقِيمُ عِنْدَنَا، فَإِنّهُ لَا غَنَاءَ بِنَا عَنْهُ. وَاَللهِ، مَا أَدْرِي يَفْعَلُ أُسَامَةُ أَمْ لَا، وَاَللهِ إنْ رَأَى لَا أُكْرِهُهُ! فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ عَزَمَ عَلَى إنْفَاذِ بَعْثِ أُسَامَةَ. وَمَشَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى أُسَامَةَ فِي بَيْتِهِ، وَكَلّمَهُ أَنْ يترك عمر، ففعل
أُسَامَةُ، وَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَذِنْت وَنَفْسَك طَيّبَةٌ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ: نَعَمْ! وَخَرَجَ وَأَمَرَ مُنَادِيَهُ يُنَادِي: عَزْمَةٌ مِنّي أَلّا يَتَخَلّفَ عَنْ أُسَامَةَ مِنْ بَعْثِهِ مَنْ كَانَ اُنْتُدِبَ مَعَهُ فِي حَيَاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لَنْ أُوتَى بِأَحَدٍ أَبْطَأَ عَنْ الْخُرُوجِ مَعَهُ إلّا أَلْحَقْته بِهِ مَاشِيًا. وَأَرْسَلَ إلَى النّفَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ كَانُوا تَكَلّمُوا فِي إمَارَةِ أُسَامَةَ، فَغَلّظَ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَهُمْ بِالْخُرُوجِ، فَلَمْ يَتَخَلّفْ عَنْ الْبَعْثِ إنْسَانٌ وَاحِدٌ. وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُشَيّعُ أُسَامَةَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَلَمّا رَكِبَ أُسَامَةُ مِنْ الْجُرْفِ فِي أَصْحَابِهِ- وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ وَفِيهِمْ أَلْفُ فَرَسٍ- فَسَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى جَنْبِ أُسَامَةَ سَاعَةً، ثُمّ قَالَ: أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَك وَأَمَانَتَك وَخَوَاتِيمَ عَمَلِك، إنّي سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِيك، فَانْفُذْ لِأَمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لَسْت آمُرُك وَلَا أَنْهَاك عَنْهُ، وَإِنّمَا أَنَا مُنْفِذٌ لِأَمْرٍ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَخَرَجَ سَرِيعًا فَوَطِئَ بِلَادًا هَادِئَةً لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ الْإِسْلَامِ- جُهَيْنَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ قُضَاعَةَ- فَلَمّا نَزَلَ وَادِي الْقُرَى قَدِمَ عَيْنًا لَهُ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ حُرَيْثٌ، فَخَرَجَ عَلَى صَدْرِ رَاحِلَتِهِ أَمَامَهُ مُغِذّا [ (1) ] حتى انتهى إلى أبنى، فنظر إلَى مَا هُنَاكَ وَارْتَادَ الطّرِيقَ، ثُمّ رَجَعَ سَرِيعًا حَتّى لَقِيَ أُسَامَةَ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ مِنْ أُبْنَى، فَأَخْبَرَهُ أَنّ النّاسَ غَارُونِ وَلَا جُمُوعَ لَهُمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُسْرِعَ السّيْرَ قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ [ (2) ] الْجُمُوعُ، وَأَنْ يُشِنّهَا غَارَةً. قَالَ: فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ قَالَ: قَالَ بُرَيْدَةُ لِأُسَامَةَ: يَا أَبَا مُحَمّدٍ، إنّي شَهِدْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يوصى
أَبَاك أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ خَيّرَهُمْ، وَإِنْ أَحَبّوا أَنْ يُقِيمُوا فِي دَارِهِمْ وَيَكُونُوا كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَيْءَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا الْغَنِيمَةِ إلّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ تَحَوّلُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ أُسَامَةُ: هَكَذَا وَصِيّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي، وَلَكِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي، وَهُوَ آخِرُ عَهْدِهِ إلَيّ، أَنْ أُسْرِعَ السّيْرَ وَأَسْبِقَ الْأَخْبَارَ، وَأَنْ أَشُنّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ دُعَاءٍ، فَأُحَرّقَ وَأُخَرّبَ. فَقَالَ بُرَيْدَةُ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا انْتَهَى إلَى أُبْنَى فَنَظَرَ إلَيْهَا مَنْظَرَ الْعَيْنِ عَبّأَ أصحابه وقال: اجعلوها غارة ولا تمعنوا فِي الطّلَبِ وَلَا تَفْتَرِقُوا، وَاجْتَمِعُوا وَأَخْفُوا الصّوْتَ، وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَجَرّدُوا سُيُوفَكُمْ وَضَعُوهَا فِيمَنْ أَشْرَفَ لَكُمْ. ثُمّ دَفَعَ عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ، فَمَا نَبَحَ كَلْبٌ وَلَا تَحَرّكَ أَحَدٌ، وَمَا شَعَرُوا إلّا بِالْقَوْمِ قَدْ شَنّوا عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ يُنَادُونَ بِشِعَارِهِمْ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ!. فَقَتَلَ مَنْ أَشْرَفَ لَهُ، وَسَبَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَحَرّقَ فِي طَوَائِفِهِمْ [ (1) ] بِالنّارِ، وَحَرّقَ مَنَازِلَهُمْ وَحَرْثَهُمْ [ (2) ] وَنَخْلَهُمْ، فَصَارَتْ أَعَاصِيرُ مِنْ الدّخَاخِينِ [ (3) ] . وَأَجَالَ الْخَيْلَ فِي عَرَصَاتِهِمْ، وَلَمْ يُمْعِنُوا فِي الطّلَبِ، أَصَابُوا مَا قَرُبَ مِنْهُمْ وَأَقَامُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ فِي تَعْبِئَةِ، مَا أَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ. وَكَانَ أُسَامَةُ خَرَجَ عَلَى فَرَسِ أَبِيهِ الّتِي قُتِلَ عَلَيْهَا أَبُوهُ يَوْمَ مُؤْتَةَ كَانَتْ تُدْعَى سَبْحَةَ، وَقَتَلَ قَاتِلَ أبيه فى الغارة، خبّره به بعض
مَنْ سَبَى، وَأَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَأَخَذَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمّا أَمْسَوْا أَمَرَ النّاسَ بِالرّحِيلِ، وَمَضَى الدّلِيلُ أَمَامَهُ، حُرَيْثٌ الْعُذْرِيّ، فأخذوا الطريق التي جاء مِنْهَا، وَدَانُوا لَيْلَتَهُمْ حَتّى انْتَهَوْا بِأَرْضٍ بَعِيدَةٍ، ثُمّ طَوَى الْبِلَادَ حَتّى انْتَهَى إلَى وَادِي الْقُرَى فِي تِسْعِ لَيَالٍ، ثُمّ قَصَدَ بَعْدُ فِي السّيْرِ فَسَارَ [ (1) ] إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَا أُصِيبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ. فَبَلَغَ ذَلِكَ هِرَقْلَ وَهُوَ بِحِمْصَ، فَدَعَا بَطَارِقَتَهُ فَقَالَ: هَذَا الّذِي حَذّرْتُكُمْ، فَأَبَيْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوهُ مِنّي. قَدْ صَارَتْ الْعَرَبُ تَأْتِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ تُغِيرُ عَلَيْكُمْ، ثُمّ تَخْرُجُ مِنْ سَاعَتِهَا وَلَمْ تُكْلَمْ. قَالَ أَخُوهُ: سَأَقُومُ [ (2) ] فَأَبْعَثُ رَابِطَةً [ (3) ] تَكُونُ بِالْبَلْقَاءِ [ (4) ] . فَبَعَثَ رَابِطَةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا حَتّى قَدِمَتْ الْبُعُوثُ إلَى الشّامِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. قَالُوا: وَاعْتَرَضَ لِأُسَامَةَ فِي مُنْصَرَفِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ كَثْكَثٍ- قَرْيَةٌ هُنَاكَ- قَدْ كَانُوا اعْتَرَضُوا لِأَبِيهِ فِي بَدْأَتِهِ فَأَصَابُوا مِنْ أَطْرَافِهِ، فَنَاهَضَهُمْ أُسَامَةُ بِمَنْ مَعَهُ، وَظَفِرَ بِهِمْ وَحَرّقَ عَلَيْهِمْ، وَسَاقَ نَعَمًا مِنْ نَعَمِهِمْ، وَأَسَرّ مِنْهُمْ أَسِيرَيْنِ فَأَوْثَقَهُمَا، وَهَرَبَ مَنْ بَقِيَ، فَقَدِمَ بِهِمَا الْمَدِينَةَ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمَا. قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ يَحْيَى بْنِ النّضْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ بَعَثَ بَشِيرَهُ مِنْ وَادِي الْقُرَى بِسَلَامَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنّهُمْ قَدْ أَغَارُوا عَلَى الْعَدُوّ فَأَصَابُوهُمْ، فَلَمّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِقُدُومِهِمْ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الْمُهَاجِرِينَ، وَخَرَجَ أَهْلُ المدينة حتى العواتق سرورا بسلامة أسامة
وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَدَخَلَ يَوْمَئِذٍ عَلَى فَرَسِهِ سَبْحَةَ كَأَنّمَا خَرَجَتْ مِنْ ذِي خُشُبٍ، عَلَيْهِ الدّرْعُ، وَاللّوَاءُ أَمَامَهُ يَحْمِلُهُ بُرَيْدَةُ، حَتّى انْتَهَى بِهِ إلَى الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَانْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ مَعَهُ اللّوَاءُ. وَكَانَ مَخْرَجُهُ مِنْ الْجُرْفِ لِهِلَالِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ، فَغَابَ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، عِشْرُونَ فِي بَدْأَتِهِ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ فِي رَجْعَتِهِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَهْلِهِ، قَالَ: تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُسَامَةُ ابْنُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم زوجه وهو ابن خمس عشرة سنة امرأة من طيء، فَفَارَقَهَا وَزَوّجَهُ أُخْرَى. وَوُلِدَ لَهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْلَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بِنَائِهِ بِأَهْلِهِ. قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو الْحُرّ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحُرّ الْوَاقِفِيّ، مِنْ وَلَدِ السّائِبِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حُصَيْفَةَ، أَنّ ابْنًا لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَحِمَهُ اللهُ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ أُمّ سَلَمَةَ، وَهُوَ أَسْوَدُ، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ كَانَ هَذَا جَارِيَةً مَا نَفَقَتْ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى، إنْ شَاءَ اللهُ يُجْعَلْ لَهَا مَسَكَانَ مِنْ وَرِقٍ، وَقُرْطَانِ [ (1) ] ، وَيُجْعَلْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حُلُوقٌ، فَكَأَنّهُ ذَهَبٌ. قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ حَوْطٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: كَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ أَصَابَهُ الْجُدَرِيّ أَوّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ غُلَامٌ، مُخَاطُهُ يَسِيلُ عَلَى فِيهِ، فَتَقْذَرُ بِهِ عَائِشَةُ رضى الله عنها، فدخل
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَفِقَ يَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيُقَبّلُهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا وَاَللهِ، بَعْدَ هَذَا فَلَا أُقْصِيهِ أَبَدًا. عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَازِنِيّ، عَنْ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: سَقَطَ أُسَامَةُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ شَجّةٌ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصّ الدّمَ وَيَبْصُقُهُ. عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يحيى ابن جَعْدَةَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ وَهِيَ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِ أُسَامَةَ شَيْئًا، فَكَأَنّهَا تَأَذّتْ بِهِ، فَاجْتَذَبَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ: لَا أَتَأَذّى بِهِ أَبَدًا. قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها، أنّ مجزّز الْمُدْلِجِيّ نَظَرَ إلَى زَيْدٍ وَأُسَامَةَ، وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ وهما مضطجعان، قد خمّرا رؤوسهما وَأَرْجُلَهُمَا فَقَالَ: إنّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. فَسُرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشَبَهِ أُسَامَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ. عَنْ محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْيَانًا قَطّ إلّا مَرّةً وَاحِدَةً، جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مِنْ غَزْوَةٍ يَسْتَفْتِحُ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَقَامَ عُرْيَانًا يَجُرّ ثَوْبَهُ فَقَبّلَهُ. قَالَ: حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، وَمَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَا: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لَأُمّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ: تَزَوّجِي زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فَإِنّهُ خَيْرٌ لَك.
فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً. صَدَقَ اللهُ الْعَظِيمُ. تَمّ كِتَابُ المغازي بحمد الله ومنّه