مع الناس

علي الطنطاوي

علي الطنطاوي مع الناس طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزيع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الثامنة 2011 دار المنارة للنشر والتوزيع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

مقدمة الطبعة الثالثة بخط المؤلف رحمه الله هذه طبعة جديدة من كتابي «مع الناس»؛ الحمد لله على أنْ أعان عليها ووفق إليها، وأسأل الله أن ينفع بها القُرّاء، وألاّ يحرمني أنا وناشرَ الكتاب من الثواب. علي الطنطاوي مكة المكرمة 12 ربيع الأول 1409

أحسن كما أحسن الله إليك

أحسن كما أحسن الله إليك أذيعت سنة 1956 نظرت البارحة فإذا الغرفة دافئة والنار موقدة، وأنا على أريكة مريحة، أفكر في موضوع أكتب فيه، والمصباح إلى جانبي، والهاتف قريب مني، والأولاد يكتبون، وأمهم تعالج صوفاً تحيكه، وقد أكلنا وشربنا، والرادّ (الراديو) يهمس بصوت خافت، وكل شيء هادئ، وليس ما أشكو منه أو أطلب زيادة عليه. فقلت: «الحمد لله»، أخرجتها من قرارة قلبي. ثم فكرت فرأيت أن «الحمد» ليس كلمة تقال باللسان ولو رددها اللسان ألف مرة، ولكن الحمد على النعم أن تُفيض منها على المحتاج إليها. حمد الغني أن يعطي الفقراء، وحمد القوي أن يُسعد الضعفاء، وحمد الصحيح أن يعاون المرضى، وحمد الحاكم أن يعدل في المحكومين، فهل أكون حامداً الله على هذه النعم إذا كنت أنا وأولادي في شبع ودفء وجاري وأولاده في الجوع والبرد؟ وإذا كان جاري لم يسألني أفلا يجب عليّ أنا أن أسأل عنه؟ وسألتني زوجتي: فيمَ تفكر؟ فأخبرتها. قالت: صحيح، ولكن لا يكفي العبادَ إلا من خلقهم،

ولو أردتَ أن تكفي جيرانك من الفقراء لأفقرت نفسك قبل أن تغنيهم. قلت: لو كنت غنياً لما استطعت أن أغنيهم، فكيف وأنا رجل مستور، يرزقني الله رزق الطير، تغدو خِماصاً وترجع بِطاناً؟ لا. لا أريد أن أغني الفقراء، بل أريد أن أقول إن المسائل نسبية، وأنا بالنسبة إلى أرباب الآلاف المؤلفة فقير، ولكني بالنسبة إلى العامل الذي يعيل عشرة وما له إلا أجرته غني من الأغنياء، وهذا العامل غنيّ بالنسبة إلى الأرملة المفردة التي لا مورد لها ولا مال في يدها، ورَبُّ الآلاف فقير بالنسبة لصاحب الملايين؛ فليس في الدنيا فقير ولا غني فقراً مطلقاً وغِنىً مطلقاً، وليس فيها صغير ولا كبير، ومَن شَكّ فإني أسأله أصعب سؤال يمكن أن يوجَّه إلى إنسان، أسأله عن العصفور: هل هو صغير أم كبير؟ فإن قال صغير. قلت: أقصد نسبته إلى النملة. وإن قال: هو كبير. قلت: أقصد نسبته إلى الفيل. فالعصفور كبير جداً مع النملة، وصغير جداً مع الفيل. وأنا غني جداً مع الأرملة المفردة الفقيرة التي فقدت المال والعائل، وإن كنت فقيراً جداً مع فلان وفلان من ملوك المال. * * * تقولون: إن الطنطاوي يتفلسف اليوم. لا؛ ما أتفلسف ولكن أحب أن أقول لكم -يا أيها السامعون ويا أيها السامعات- إن كل واحد منكم وواحدة يستطيع أن يجد من هو أفقر منه فيعطيه. إذا

لم يكن عندك -يا سيدتي- إلا خمسة أرغفة وصحن «مجدَّرة» (¬1) تستطيعين أن تعطي رغيفاً لمن ليس له شيء. والذي بقي عنده بعد عشائه ثلاثة صحون من الفاصوليا والرز وشيء من الفاكهة والحلو يستطيع أن يعطي منها قليلاً لصاحبة الأرغفة والمجدّرة. والذي ليس عنده إلا أربعة ثياب مرقعة يعطي ثوباً لمن ليس له شيء، والذي عنده بذلة صالحة لم تخرق ولم ترقع ولكنه ملّ منها، وعنده ثلاث جدد من دونها، يستطيع أن يعطيها لصاحب الثياب المرقعة. ورُبّ ثوب هو في نظرك قديم وعتيق بال، لو أعطيته لغيرك لرآه ثوب العيد ولاتخذه لباس الزينة، وهو يفرح به مثل فرحك أنت لو أن صاحب الملايين ملّ سيارته الشفرولية طراز سنة 1953 - بعدما اشترى كاديلاك طراز 1956 - فأعطاك تلك السيارة. ومهما كان المرء فقيراً فإنه يستطيع أن يعطي شيئاً لمن هو أفقر منه. إن أصغر موظف لا يتجاوز راتبه مئة وخمسين ليرة، لا يشعر بالحاجة ولا يمسه الفقر إذا تصدق بليرة واحدة على من ليس له شيء، وصاحب الراتب الذي يبلغ أربعمئة ليرة لا يضره أن يدفع منها خمس ليرات ويقول: "هذه لله". والذي يربح عشرة آلاف من التجارة في الشهر يستطيع أن يتصدق بمئتين منها في كل شهر. ولا تظنوا أن ما تعطونه يذهب بالمجان. لا والله، إنكم تقبضون الثمن أضعافاً؛ تقبضونه في الدنيا قبل الآخرة. ولقد ¬

_ (¬1) طعام من البُرغُل (وهو القمح المَجْروش) مع العدس.

جربت ذلك بنفسي. أنا أعمل وأكسب وأنفق على أهلي من أكثر من ثلاثين سنة، وليس لي من أبواب الخير والعبادة إلا أني أبذل في سبيل الله إذا كان في يدي مال، ولم أدخر في عمري شيئاً، وكانت زوجتي تقول لي دائماً: "يا رجل، وفر واتخذ لبناتك داراً على الأقل"، فأقول: "خليها على الله". أتدرون ماذا كان؟ لقد حسب الله لي ما أنفقته في سبيله وادّخره لي في «بنك» الحسنات الذي يعطي أرباحاً سنوية قدرها سبعون ألفاً في المئة. نعم! {كَمَثَلِ حَبّةٍ أنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِئَةُ حَبّة} وهناك زيادات تبلغ ضعف الربح {واللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يشاءُ}، فأرسل الله صديقاً لي سيداً كريماً من أعيان دمشق (¬1) فأقرضني ثمن الدار وأرسل أصدقاء آخرين من المتفضلين (¬2) فبنوا الدار حتى كملت وأنا -والله- لا أعرف من أمرها إلا ما يعرفه المارّة عليها من الطريق، ثم أعان الله برزق حلال لم يكن محتسَباً فوفيت ديونها جميعاً. ومَن شاء ذكرت له التفاصيل وسميت له الأسماء. وما وقعت والله في ضيق قط إلا فرّجه الله عني، ولا احتجت لشيء إلا جاءني، وكلما زاد عندي شيء وأحببت أن أحفظه وضعته في هذا «البنك». فهل في الدنيا عاقل يعامل «بنك» المخلوق الذي يعطي 5% ربحاً حراماً وربما أفلس أو احترق أو طيرته قنبلة، ويترك ¬

_ (¬1) هو الأستاذ السيد سعيد حمزة، نقيب الأشراف. (¬2) الإخوان الكرام الشيخ عبد القادر العاني والسيد سهيل الخياط والسيد فخري الحسني.

«بنك» الخالق الذي يعطي في كل مئة ربحاً قدره سبعون ألفاً؟ وهو «مؤمَّن عليه» عند رب العالمين فلا يفلس ولا يحترق ولا يأكل أموال الناس. فلا تحسبوا أن الذي تعطونه يذهب هدراً، إن الله يخلفه في الدنيا قبل الآخرة. وأنا لا أحب أن أسوق لكم الأمثلة، فإن كل واحد منكم يحفظ مما رأى أو سمع كثيراً منها. إنما أسوق لكم مثلاً واحداً: قصة الشيخ سليم المسوتي رحمه الله. وقد كان شيخ أبي، وكان -على فقره- لا يرد سائلاً قط، ولطالما لبس الجبة أو «الفروة» فلقي بردان يرتجف فنزعها فدفعها إليه وعاد إلى البيت بالإزار، وطالما أخذ السفرة من أمام عياله فأعطاها السائل. وكان يوماً في رمضان وقد وُضعت المائدة انتظاراً للمدفع، فجاء سائل يقسم أنه وعياله بلا طعام، فابتغى الشيخ غفلة من امرأته وفتح له فأعطاه الطعام كله! فلما رأت ذلك امرأتُه وَلْولَتْ عليه وصاحت وأقسمت أنها لا تقعد عنده، وهو ساكت. فلم تمر نصف ساعة حتى قُرع الباب وجاء من يحمل الأطباق فيها ألوان الطعام والحلوى والفاكهة، فسألوا: ما الخبر؟ وإذا الخبر أن سعيد باشا شموين كان قد دعا بعض الكبار فاعتذروا، فغضب وحلف ألاّ يأكل أحد من الطعام وأمر بحمله كله إلى دار الشيخ سليم المسوتي. قال: أرأيت يا امرأة؟ وقصة المرأة التي كان ولدها مسافراً، وكانت قد قعدت يوماً تأكل وليس أمامها إلا لقمة إدام وقطعة خبز، فجاء سائل فمنعت عن فمها وأعطته وباتت جائعة، فلما جاء الولد من سفره جعل يحدّثها بما رأى. قال: ومن أعجب ما مر بي أنه لحقني أسد

في الطريق، وكنت وحدي فهربت منه، فوثب عليّ وما شعرت إلا وقد صرت في فمه، وإذا برجل عليه ثياب بيض يظهر أمامي فيخلّصني منه ويقول: "لقمة بلقمة"، ولم أفهم مراده. فسألَتْه عن وقت هذا الحادث وإذا هو في اليوم الذي تصدقت فيه على الفقير، نزعت اللقمة من فمها لتتصدق بها فنزع الله ولدها من فم الأسد. والصدقة تدفع البلاء ويشفي بها الله المريض ويمنع بها الله الأذى، وهذه أشياء مجربة، وقد وردت فيها الآثار. والذي يؤمن بأن لهذا الكون إلهاً هو يتصرف فيه وبيده العطاء والمنع، وهو الذي يشفي وهو يسلّم، يعلم أن هذا صحيح، والملحد ما لنا معه كلام. والنساء أقرب إلى الإيمان وإلى العطف، وإن كانت المرأة -بطبعها- أشد بخلاً بالمال من الرجل. وأنا أخاطب السيدات وأرجو ألاّ يذهب هذا الكلام صرخة في واد مقفر، وأن يكون له أثره، وأن تنظر كل واحدة من السامعات الفاضلات ما الذي تستطيع أن تستغني عنه من ثيابها القديمة أو ثياب أولادها، ومما ترميه ولا تحتاج إليه من فرش بيتها، ومما يفيض عنها من الطعام والشراب، فتفتش عن أسرة فقيرة يكون هذا لها فرحة الشهر. ولا تعطي عطاء الكبر والترفع، فإن الابتسامة في وجه الفقير (مع الفرنك تعطيه له) خير من ليرة تدفعها إليه وأنت شامخ الأنف متكبر مترفع. ولقد رأيت بنتي الصغيرة بنان -من سنين- تحمل صحنين لتعطيهما الحارس في رمضان، قلت: تعالي يا بنت،

هاتي صينية وملعقة وشوكة وكأس ماء نظيفاً وقدميها إليه هكذا. إنك لم تخسري شيئاً، الطعام هو الطعام، ولكن إذا قدمت إليه الصحن والرغيف كسرت نفسه وأشعرته أنه كالسائل (الشحاد)، أما إذا قدمتِه في الصينية مع الكأس والملعقة والشوكة والمملحة يَنجَبِر خاطره ويحس كأنه ضيف عزيز. ومن أبواب الصدقة ما لا ينتبه له أكثر الناس مع أنه هيّن. من ذلك التساهل مع البياع الذي يدور على الأبواب يبيع الخضر أو الفاكهة أو البصل، فتأتي المرأة تناقشه وتساومه على الفرنك وتظهر «شطارتها» كلها، مع أنها قد تكون من عائلة تملك مئة ألف وهذا المسكين لا تساوي بضاعته التي يدور نهاره ليبيعها، لا تساوي كلها عشر ليرات ولا يربح منها إلا ليرتين! فيا أيها النساء أسألكن بالله، تساهلن مع هؤلاء البيّاعين وأعطوهم ما يطلبون، وإذا خسرت الواحدة منكن ليرة فلتحسبها صدقة؛ إنها أفضل من الصدقة التي تُعطى للشحاد. ومن أبواب الصدقة أن تفكر معلمة المدرسة حينما تكلف البنات شراء ملابس الرياضة مثلاً، أو تصر على شراء الدفاتر الغالية والكماليات التي لا ضرورة لها من أدوات المدرسة، أن تفكر أن من التلميذات من لا يحصل أبوها أكثر من ثمن الخبز وأجرة البيت، وأن شراء ملابس الرياضة أو الدفاتر العريضة أو «الأطلس» أو علبة الألوان نراه نحن هيناً ولكنه عنده كبير، والمسائل -كما قلت- نسبية، ولو كُلِّفت المعلمة دفع ألف ليرة لنادت بالويل والثبور، مع أن التاجر الكبير يقول: "وما ألف ليرة؟ سهلة"! سهلة عليه وصعبة عليها. كذلك الخمس الليرات أو

العشر، سهلة على المعلمة ولكنها صعبة على كثير من الآباء. والخلاصة يا سادة: إن مَن أحب أن يُسخّر الله له مَن هو أقوى منه وأغنى فليُعِنْ من هو أضعف منه وأفقر، وليضع كلٌّ منا نفسه في موضع الآخر، وليحبّ لأخيه ما يحب لنفسه. إن النعم إنما تُحفَظ وتدوم وتزداد بالشكر، وإن الشكر لا يكون باللسان وحده. ولو أمسك الإنسان سبحة (¬1) وقال ألف مرة: «الحمد لله»، وهو يضن بماله إن كان غنياً، ويبخل بجاهه إن كان وجيهاً، ويظلم بسلطانه إن كان ذا سلطان لا يكون حامداً لله، وإنما يكون مرائياً أو كذّاباً. فاحمدوا الله على نعمه حمداً فعلياً، وأحسنوا كما تحبون أن يحسن الله إليكم، واعلموا أن ما أدعوكم إليه اليوم هو من أسباب النصر على العدو ومن جملة الاستعداد له؛ فهو جهاد بالمال، والجهاد بالمال أخو الجهاد بالنفس. ورحم الله مَن سمع المواعظ فعمل بها ولم يجعلها تدخل من أذن لتخرج من الأخرى. * * * ¬

_ (¬1) وما عرف سلفنا الصالح هذه السّبحة.

حديث عن دمشق

حديث عن دمشق نشرت سنة 1947 (وقد أمضيت تلك السنة في مصر). دخلت مخزناً (في القاهرة) أشتري منه شيئاً، فسمع لهجتي الشاميةَ شيخٌ هِمٌّ (¬1) كان هناك، أبيض الشعر كأن رأسه ولحيته الثَّغَامَة (¬2)، فالتفت إليّ وقال: أنت من دمشق؟ قلت: نعم. فسطع على وجهه نور وبرق في عينيه بريق، وبدت على جبينه ظلال ذكريات حلوة مرّتْ في رأسه، وأخذ بيدي هاشّاً لي باشّاً بوجهي، فأقعدني معه وقال لي: أهلاً بك، أهلاً وسهلاً، تَشرّفنا يا ولدي، فتعال. تعال حدثني عن دمشق، فقد طال عنها ابتعادي وزاد إليها اشتياقي. حدّثني عن سهلها وجبلها، عن غوطتها وربوتها، عن «الميزان» (¬3). ألا يزال ¬

_ (¬1) الهِمُّ (بكسر الهاء) هو الشيخ الكبير الفاني (مجاهد). (¬2) وهي شجرة بيضاء الثمر والزّهر تنبت في أعالي الجبال، وإذا يبست اشتدّ بياضها (مجاهد). (¬3) كان «الميزان» متنزَّه أهل دمشق، وهو حيث يقوم اليومَ مستشفى المواساة. تجدون وصفاً له في «الذكريات»: 2/ 70، 248 (مجاهد).

الميزان مثابة الطهر، ومعبد الجمال، وجنة الدنيا؟ ألا يزال السُّراة والتجار يصلّون الصبح كل يوم ويخرجون إليه، يقضون فيه حق النفس بالتأمل كما قضوا في المساجد حق الله بالصلاة، فيجمع الله لهم الجنتين ويعطيهم نعيم الدارين؟ ألا يزال زاخراً بحِلَق الأحباب وجماعات الصحاب، عاكفين على «سَمَاوَرات» الشاي الأخضر، يشرفون على «قنوات» و «باناس» (¬1) وهما يَخطُران على العَدْوة الدنيا متعانقَين متخاصرَين فعل الحبيبين في غفلة الرقيب، يمشيان حالمَين خلال الورد والفل والياسمين كزوجين في شهر العسل، يظهران حيناً ثم تشوقهما الخلوة فيلقيان عليهما حجاباً من زهر المشمش والدراقن والرمان، وعلى العَدوة القصوى زوجان آخران حبيبان، يمضيان يتناجيان ويتخالسان القبل: «يزيد» و «تورا» (¬2)؟ وبردى! ألا يزال يدب في قرارة الوادي على عصاه، ينظر باسماً إلى بنيه ثم يلوي عن مشهدهم بصره وينطلق في طريقه لا يبالي. عاف الحب وملّ الغرام، وعلّمته تجارب العمر أن كل ما في هذه الحياة باطل إلا ذكر الله والعمل للآخرة، كله لعب ولهو ومتاع زائل. وقاسيون، الجَدّ العبقريّ الذي عاش عشرة ملايين سنة وما انفك شابّاً، وشاخ ابن أخيه بردى ولم يشخ، ألا يزال قاسيون قاعداً قَعدة ملك جبار، قد رفع رأسه ومدّ ذراعين له من الصخر فأحاط بهما دمشق وغوطتها من الربوة إلى برزة، ووطأ لها ركبته فنامت المدينة عليها كما تنام الحبيبة إن أضناها النعاس على ركبة الحبيب، واحتمت الصالحية بصدره كما يحتمي الطفل ¬

_ (¬1) ويدعوه الناس «بانياس»، وهو من فروع بردى السبعة. (¬2) من فروع بردى السبعة.

الوليد بصدر الأم الرؤوم؟ والشمس! ألا تزال الشمس تضحك لبردى وأبنائه، وتستحم أنوارها في مائه، وتسبح أشعتها في سمائه؟ وصدر الباز ومصطبة الإمبراطور والصوفانية والشاذِروان؟ حدثني عنها ... حدِّثْ عن دمشق، ألا يزال الناس يعيشون في دمشق للخير والجمال؟ ألا يزال التجار يخرجون من صلاة العصر فيغلقون دكاكينهم ويمضون إلى بيوتهم، إلى أولادهم وأهليهم. ثم يتعشون المغرب ويؤمّون المساجد، فإذا صليت العشاء خرجوا، فمنهم من عاد إلى داره ومنهم من ذهب إلى الدرس ومنهم من مشى إلى «الدَّوْر» ... قل لي: ألا يزال «الدَّوْر» يجمع الإخوان المتآلفين والأحبة المتصافين، يسمرون في كل ليلة في منزل واحد منهم ينشدون الأشعار ويسوقون النوادر، ويروون المضحكات ويطالعون الكتب ويتجاذبون الحديث، ويأكلون ألوان الحلويات ويشربون الشاي، ثم ينصرفون إلى دورهم وقد استمتعوا أوفى ما يكون الاستمتاع وسرّوا أكثر ما يكون السرور، وما غشوا قهوة ولا أمّوا ملهى، ولا جالسوا غريباً ولا أتوا محرماً، ولا أنفقوا في غير وجهه مالاً؟ ألا تزال منازل المشايخ في «زقاق النقيب» و «حمام أسامة» (¬1) و «القيمرية» معاهدَ إرشاد، ومدارس علم، ودارات ملوك؟ قل لي! من بقي من تلك الأسر العلمية: آل حمزة وآل عابدين ¬

_ (¬1) عامة أهل الشام يسمّونه «حمام سامه» بالإمالة وخاصتهم يظنونه «حمام سامي».

والطنطاوي والعطار والخاني والطيبي والشطي والأسطواني والكزبري والعمادي والمحاسني والمنيني والخطيب؟ ألا يزال فيها العلماء الأعلام أم تنكّب الخلف طريقَ السلف واستبدلوا الدنيا بالدين، والمال بالعلم، والمنصب بالتقوى؟ والعلماء، ألا يزالون أعزة بالدين، يُعرضون عن الملوك فيسعى إلى أبوابهم الملوك، ويزهدون في الدنيا فتقبل عليهم الدنيا، ويهربون من الولايات والمناصب فتلحقهم المناصب والولايات؟ ألا يزال الناس يعكفون في دمشق على العلم لا يريدون به إلا الله والدار الآخرة، يثنون لذلك ركَبهم ويحيون ليلهم ويكدون نهارهم، ويقنعون في أيام الطلب بما سد الرمق، وحمل الجنب، وستر العورة، لا يسألون عما غاب من ذلك أو حضر، قد فكروا في غيره وأقبلوا على سواه، فكان العلم أملهم وكانت المطالعة شغلهم وكان ثواب الله مبتغاهم، قد صغرت الدنيا في أعينهم حتى إنهم لم يروها ليتكالبوا عليها ويذلوا من أجلها، و «يضربوا» عن التعلم إن لم يصلوا إليها؟ ألا تزال هذه المدارس عامرة، يجيئها الطالب فينام في غرفها ويستمع من مشايخها ويأكل من أوقافها، ويجعلها دنياه لا دنيا له وراء جدرانها: العمرية والمرادية والنورية والبادْرائية والقلبقجية ودار الحديث وجامع التوبة وباب المُصَلَّى والدقّاق ومدرسة الخياطين وأمثالها؟ ألا تزال زاخرة بالطلاب عامرة بالعلم عاملة للإصلاح؟ ومنازل دمشق! ألا تزال تلك المنازلَ الواسعة الصحون، ذات الظل والماء، والبرك والنوافير، والأشجار والزهور، والدواوين والمجالس، والصيانة والستر، فهي من خارجها

حواصل تبن ومن داخلها جنات عدن، وهي مصيف ومشتى، وهي مسكن وملهى، وهي دار وبستان؟ ألا تزال في دمشق الأسرة كلها تعيش في المنزل الواحد: الجد والأب والأعمام والأولاد ونساؤهم وأولادهم، ثم لا تجد خلافاً ولا شقاقاً ولا دسّاً ولا كيداً؛ الصغير يوقّر الكبير ويطيعه، والكبير يرحم الصغير ويحبه، وكلٌّ يُؤْثر على نفسه ولا يحب لغيره إلا ما يحب لها؟ ألا تزال المرأة لبيتها ولزوجها، لا تقيس الطرقات ولا تقصد الأسواق ولا تعتاد منازل الخياطات؟ إن احتاجت شيئاً اشتراه لها بعلها، وإن أرادت زيارة أهلها ذهب معها، وإن اشترت ثوباً خاطته بنفسها، والحجاب سابغ، والشهوات مقموعة، والزواج شامل؛ لا يبلغ الولد عشرين إلا وله ولد، ولا تصل البنت إلى الثامنة عشرة إلا ولها ولدان؟ والبوّابات! هل زالت البوابات التي كانت تُغلق كل ليلة بعد العشاء وتسد الطرقات في وجوه لصوص الأموال والأعراض فلا تُفتح إلا لقاصد بيته أو ذاهب في حاجة مشروعة؟ والأحياء! ألا يزال في كل حيّ عقلاؤه وسادته، يسعون لخيره ويعينون عاجزه ويسعدون فقيره، ويأخذون من فضل مال الغني ما يسدّ خلة المحتاج، وإذا رأى أحدهم غريباً في الحي سأله من هو وما يكون، فلا يدخل الحي إلا رجل شريف. وإن وجد امرأة متبرجة نصحها وزجرها وبحث عن وليها ليحميها. وإن علم بأن داراً تُرتكب فيها فاحشة عقد مجلساً فدعا المؤجر

والمستأجر وكانت المحاكمة التي لا تؤدي إلا إلى منع الفاحشة في غير ظلم ولا عدوان؛ فكان الحي كله كالأسرة الواحدة، وكان البلد مجموعةَ أسر كلها خيّر فاضل نبيل؟ ألا يزال الناس في وئام وسلام فلا نزاع ولا خصام، يعرف كلٌّ منهم حقه فلا يطلب إلا أقل منه، ويعرف ما عليه فلا يقصر في أدائه، وإن اختلفوا رجعوا إلى العالِم ورضوا بحكمه؛ لا يعرفون المحكمة إلا إن استحكم الخلاف، وقلما كان يستحكم الخلاف؟ ألا يزال القاضي الشرعي مرجعَ كل خصومة ومصدرَ كل حكم، يحكم في كل قضية بشرع الله، فلا تطويل ولا تأجيل، ولا مراوغين ولا محامين (¬1)؟ ألا يزال كل ما يحتاج إليه الناس يُصنع في دمشق، فلا يأكلون إلا حاصلات بلادهم، ولا يلبسون إلا نسيج أيديهم، ولا يتداوون إلا بعشب أرضهم؛ لا يدفعون أموالهم إلى عدوهم ولا يعينونه بها على أنفسهم؟ ألا يزالون سعداء راضين؟ قد انصرف العالم لعلمه، والتاجر لتجارته، والطالب لدرسه، والمرأة لبيتها؛ لا يشتغل أحد بغير شغله ولا يدخل فيما لا يعنيه، قد تركوا السياسة لنفر منهم أخلصوا لهم فوثقوا بهم، ورأوا أمانتهم فأعطوهم طاعاتهم، ورأوهم لا ¬

_ (¬1) معذرة يا ساداتي المحامين؛ فقد جرتكم القافية ليس إلا ... وحقكم على الشيخ المحدّث لا عليّ أنا!

يسرقون مالهم، ولا يمالئون عدوهم، ولا يضيعون مصالحهم، فلم يَنْفِسوا عليهم زعامتهم ولا ضيقوا عليهم مكانتهم؟ * * * فقلت للشيخ: منذ كم فارقتَ دمشق يا سيدي؟ فتنهد وقال: منذ سنة 1897، فارقتها شاباً ولم أدخلها بعد ذلك أبداً. فرحمت الشيخ أن أفجعه في أحلى ذكرياته وأن أطمس في نفسه أجمل صور حياته، فتلطفت فودعته ولم أقل له شيئاً. وماذا أقول؟ أأقول له: إن أهل الشام قد انصرفوا عن صدر الباز والميزان والصوفانية والشاذروان وأهملوها حتى صارت مزابل لأنهم آثروا عليها العباسية والهافانا وشهرزاد ونادي الصفا؟ وأنهم هجروا منازلهم التي كانت جنّات ليسكنوا -كالإفرنج- في طبقات كأنها سجون أو مغارات، وأن أبناء العلماء الأتقياء، صاروا من الفسّاق الجُهلاء، وأن مدارس العلم هُدمت أو سُرقت، وأن غرفها احتُلّت لتكون مساكن أو قهوات أو مخادع شهوات، وأن طلبة العلم الديني يطلبونه للمناصب والمراتب والأموال والرواتب، وأن الأسر انصدع شملها وتفرق جمعها، وأن النساء ملأن اليوم الطرقات وأممن المخازن والسينمات وعاشرن الشبّان في المدارس والملهيات، وأن البنات كسدن في البيوت لمّا آثر الشباب اللهو على الزواج والسِّفاح على النكاح، وأن الأحياء غلب

عليها سفهاؤها وضعف عن حكمها عقلاؤها، وأن الناس اختلفوا وتنازعوا وفشا فيهم الغش والخداع، وأن المحاكم هجرت شرع الله وحكمت بقوانين فرنسا، وأن الناس تركوا أشغالهم واشتغلوا بالسياسة، وأن الزعماء طلبوا المال والجاه وآثروا مصالحهم على مصالح الناس، وأن الموظفين غلبت عليهم الرشوات والبراطيل والسرقات، وأننا تركنا مصنوعات بلادنا وكرهنا أزياءها وتعلقنا بأذناب الغربيين وأعطيناهم أموالنا، وأنه قد ارتفع الوِفاق وحل الشقاق، وذهب الرخاء وجاء السخط، فالرجل يختلف أبداً مع زوجته، والأب ينازعه ابنه، والشريك يسرقه شريكه، وليس فينا راضٍ ولا قانعٌ ولا سعيدٌ، ما فينا إلا شاكٍ باكٍ كاره الحياة متمنٍّ الموت؟ ... ثم إننا لم نحسّ أن هذا كله من لعنة هذه المدنية الغربية ومن ثمراتها المرة التي لا يمكن أن تثمر غيرها! ولكن لا؛ فإن في دمشق خيراً كثيراً، لا يعرف خيرها إلا من يعيش في غيرها. إن دمشق التي يصفها الشيخ لم تمت ولا تزال تتردد ذَماؤها، فإما أن تنعشها «رابطة العلماء» ويمدها الإخلاص بالقوة حتى تنقذها، وإما أن يغلب القضاء فيموت المريض تحت يد الطبيب ... ولن تموت دمشق الإسلامية بحول الله أبداً. * * *

رمضان

رمضان نُشرت سنة 1952 لما قعدت أكتب هذا الحديث تقابلت في نفسي صورتان لرمضان: رمضان المزعج الثقيل الذي قدم يحمل الجوع والعطش؛ ترى الطعام أمامك، يدك تصل إليه ونفسك تشتهيه ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويلهب الظمأ جوفك والماء بين يديك ولكنك لا تقدر أن تشربه، وتكون في أمتع نومة فيأتي رمضان فيوقظك لتأكل من جوف الليل وأنت تؤثر لحظة منام على كل ما في الدنيا من طعام، وإن كنت صاحب دخان منعك من دخينتك (سيكارتك) أو نارجيلتك؛ فهو شهر مشقة وتعب وجوع وعطش. ورمضان الحلو الجميل الذي يقوم فيه الناس في هدءات الأسحار وسكنات الليل، حين يرقّ الأفق وتزهر النجوم ويصفو الكون، ويتجلى الله على الوجود يعرض كنوز فضله على الناس ويفتح لهم باب رحمته، يقول جلّ وعلا: «ألا مِن مستغفر فأغفرَ له؟ ألا من سائل فأعطيَه؟»، فيسأل الطالب ويستغفر المذنب، فيُعطى السائل ويُغفر للتائب، وتتصل القلوب بالله فتحسّ بلذة لا تعدل لذاذاتُ الدنيا كلُّها ذرةً واحدة منها. ثم يسمعون صوت

المؤذن يمشي في جنبات الفضاء مشي الشفاء في الأجسام والطرب في القلوب، ينادي: «الصلاة خير من النوم»، فيقومون إلى الصلاة يقفون بين يدَي مصرِّف الأكوان يناجون الرحيم الرحمن، فيسري الإيمان في كل جنان، ويجري التسبيح على كل لسان، وتنزل الرحمة في كل مكان. رمضان الذي ينيب فيه الناس إلى الله ويؤمّون بيوته، فتمتلئ المساجد بالمسلمين، متعبدين أو متعلمين لا متحدثين ولا نائمين، ففي كل بلد من بلاد الإسلام مساجدُ حُفَّلٌ بالعبّاد والعلماء، ليس يخلو مجلس فيها من مصلٍّ أو ذاكر، ولا أسطوانة من تالٍ أو قارئ، ولا عقد من مدرّس أو واعظ، قد ألقوا عن قلوبهم أحمال الإثم والمعصية، والغل والحسد، والشهوات والمطامع، ودخلوا المساجد بقلوب صفَت للعبادة وسمَت إلى الخير، قطعوا أسبابهم من عالم الأرض ليصلوها بعالم السماء، تفرقوا في البلدان واجتمعوا في الإيمان، وحّدتهم هذه القبلة التي يتوجهون كلهم إليها، لا عبادةً لها، فما يعبد المؤمن إلاّ الله، وما الحجر الأسود إلاّ حجر لا يضرّ ولا ينفع، وإنما هو رمز إلى أن المسلمين -مهما تناءت بهم الديار وتباعدت الأقطار- أمة واحدة، دائرة محيطها الأرض كلها ومركزها الكعبة والبيت الحرام. رمضان الذي نجتلي فيه أجمل صفحات الوجود، وما كنا لنجتليها قبل رمضان. لأن الحياة سَفَرٌ في الزمان، يحملنا قطار الأعمار، فإذا قطع بنا أجمل مراحل الطريق: حيث يولد النور، وتصفو الدنيا، ويسكن الكون؛ مرحلة السحر، قطعها بنا ونحن نيام لا نفتح عليها عيوننا ولا نبصر فتونها.

رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم، وصحة الروح، وعظمة النفس، ورضا الله. إن الصيام من سنن الرياضيين، وسلوا كتب الرياضة وسلوا شيخها مكفادن. ولست طبيباً ولكني جربت بنفسي، ورُبّ مجرِّب أعرف بنفسه من طبيب، فأنا أحد من أضنتهم الرثية (الروماتزم) وحصوات الكلى، ولقد راجعت في علاجها ستة وثلاثين طبيباً، إي والله، وأحسبني جرّبت لها كل علاج، فلم أجد لها مثل الصيام. والصيام يصفّي الجسم ويطرح سمومه، وينفي عنه الفضلات ويبعد عنه الأمراض. رمضان الذي تتحقق فيه معاني الإنسانية وتكون المساواة بين الناس، فلا يجوع واحد ويتخم الآخر، بل يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع، غنيّهم وفقيرهم؛ فيحسّ الغني بألم الجوع ليذكره -من بعد- إذا جاءه من يقول له: "أنا جوعان"، ويعرف الفقير قيمة نعمة الله عليه حين يعلم أن الغني يشتهي -على غناه- رغيفاً من الخبز أو كأساً من الماء، ويعلم الجميع حين يجلسون إلى مائدة الإفطار أن الجوع يسوّي بين المطاعم كلها: القوزي والنمّورة، وصحن الفول المدمّس وقطعة الجرادق. وليس الذي يطيّب الطعامَ غلاءُ ثمنه ولا جودة صنعه ولا حسن مائدته، ولكن الجوع الذي يشهّيه والصحة التي تهضمه، وأرخص طعام مع الصحة والجوع ألذّ من موائد الملوك لمن كان مريضاً أو شبعان. ويغدو الناس كأنهم إخوة في أسرة واحدة أو رفاق في مدرسة داخلية، يفطرون جميعاً في لحظة واحدة ويمسكون جميعاً في لحظة واحدة، فتراهم المساء مسرعين إلى بيوتهم أو

قائمين على مشارف دورهم أو على أبواب منازلهم، فإذا سمعوا ضربة المدفع، أو أبصروا ضوء المنارة، أو رنّ في أسماعهم صوت المؤذن، عمّت الفرحة الكبار والصغار، فانطلقت وجوه الكبار، وصاح الصغار بنغمة موزونة: "أذَّنْ أذَّنْ أذَّنْ" وطاروا إلى دورهم كعصافير الروض، يرضى كلٌّ بما قُسم له ويحمد الله عليه، قد راضهم الجوع على أن يتقبلوا كل طعام، فكل طعام هو في أذواقهم -تلك الساعة- أطيب طعام. فإذا فرغوا من طعامهم أمّوا المساجد فقاموا بين يدي ربهم وخالقهم صفاً واحداً، متراصّة أقدامُهم ملتحِمةً أكتافُهم، وجباهُهم جميعاً على الأرض. الغني والفقير، والكبير والصغير، والصعلوك والأمير، يذلّون لله، يضعون له وجوههم عند مواطئ الأقدام، فيعطيهم الله بهذه الذلة له عزّة على الناس كلهم، فتنخفض لهم رؤوس الملوك والجبارين حتى تقع على أقدامهم، ومن ذلّ لله أعزه الله، ومن كان لله عبداً جعله الله في الدنيا سيداً، ومن كان مع الله باتباع شرعه والوقوف عند أمره ونهيه وإتيان فرائضه واجتناب محرّماته كان الله معه بالنصر والتوفيق والغفران. وبذلك ساد أجدادنا الناس، وفتحوا الأرض من مشرقها إلى مغربها، وحازوا المجد من أطرافه، وأقاموا دولة ما عرف التاريخ أنبل منها ولا أفضل، ولا أكرم ولا أعدل. * * * هذه صورة رمضان الحلوة. أفلا تُستحلى معها مرارة الصورة الأخرى؟ إنه دواء فمَن مِن العقلاء لا يحتمل ألم الدواء لما يرجو بعده من لذة الشفاء؟

ها هو ذا رمضان، فإذا أردتم أن تصوموا حقاً فصوموا فيه عن الأحقاد والمآثم والشرور، كفّوا لسانكم فيه عن اللغو وغضّوا فيه أبصاركم عن الحرام، واعلموا أن من الصائمين من ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش؛ ذلك الذي يترك الطعام ويأكل بالغيبة لحوم إخوانه، ويكف عن الشراب ولكنه لا يكف عن الكذب والغش والعدوان على الناس. ولقد سأل الرسولُ صلى الله عليه وسلم أصحابَه: «من المفلس؟»، قالوا: «المفلس فينا من لا مال له ولا درهم»، قال: «المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وحسنات، ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فلا يبقى له شيء» (¬1). وأفظع الذنوب الكذب، الكذب بالقول والكذب بالفعل، بأن تتزيّا بزي الصالحين وتتخذ سمت المتقين وأنت مُراءٍ مخادعٌ تريد أن تأكل الدنيا بالدين. ولقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يسرق المؤمن؟ هل يفعل كذا وكذا من الذنوب؟ فأجاب بأنه ربما وقع ذلك منه فتاب، فسألوه: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون (¬2). ¬

_ (¬1) الحديث عن أبي هريرة، وفيه: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أتدرون ما المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طرح في النار». رواه مسلم وأحمد بألفاظ متقاربة (مجاهد). (¬2) لم يرد هذا الحديث في الكتب الصحيحة، وخرّجه الحافظ العراقي في «الإحياء»، وهو ضعيف (مجاهد).

ولقد بين صلى الله عليه وسلم بأن من غش فليس منا، وهذا قانون من مادة واحدة معناه بلسان اليوم: «يُطرَد من الجنسية الإسلامية من يغشّ» (¬1). ففتشوا في الصائمين: أليس فيهم من يكذب؟ أليس فيهم من يغشّ؟ أليس فيهم من يُخلف الوعد، وإخلاف الوعد ثلث علامات النفاق؟ فكيف يرجو هؤلاء أن يكون لهم ثواب الصائمين وهم قد صاموا عن الطعام الحلال ولم يصوموا عن الحرام؟ إن الدين المعاملة، ومقياس الصلاح الصفراء والبيضاء، الذهب والفضة، المال؛ هذا هو المقياس. ولقد زكّى رجل رجلاً عند عمر فقال له: هل عاملته؟ هل سافرت معه؟ أم لعله غرّك منه إحناء رأسه في الصلاة وتحريك لسانه بالتسبيح (¬2)؟ الدين المعاملة، والمقياس المال. وبعد يا أيها الصائمون، فإن رمضان شهر الحب والوئام، فكونوا فيه أوسع صدراً وأندى لساناً وأبعدَ عن المخاصمة والشرّ، وإذا رأيتم من نسائكم زلة في رمضان فاحتملوها، وإن وجدتم مساءة من إخوانكم فاصبروا عليها، وإن بادأكم أحد بالخصام فلا تقابلوه بمثله، بل ليقل أحدكم: «إني صائم». وإذا جعتم هذا الجوع الاختياري فاذكروا من يتجرع غصص ¬

_ (¬1) الحديث المشهور الذي يرويه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد والدارمي، عن أبي هريرة وأبي الحمراء وابن عمر، وقد ورد بلفظ «من غشّنا» في رواياتٍ وبلفظ «من غش» -مطلقاً- في أخرى (مجاهد). (¬2) الصلاة هي العماد، لكن قد تكون رياء.

الجوع الإجباري، واشكروا على نعمة ربّكم. وليس الشكر أن ترددوا ألف مرة باللسان وحده: «الحمد لله، الحمد لله»، ولكنّ شكرَ الغني البذلُ للفقراء، وشكرَ القوي إسعادُ الضعفاء. وأعطوا من أنفسكم كما تعطون من أموالكم، فرُبّ بسمة مع العطاء تنعش السائل أكثر من العطاء، وكلمة خير لجار تحيي الجار، وبش في وجه ذي الحاجة والاعتذار عنها خير من قضائها مع الترفع عليه عند السؤال والمنّ عليه بعد النوال. فجربوا هذه العطية في رمضان. وخذوا منه الصحة لأجسامكم، والسمو لأرواحكم، والعظمة لنفوسكم، والقوة والنبل، والبذل والفضل، وخذوا منه ذخراً للعام كله، يكن لكم ذخراً. رمضان الذي تَشيع فيه خِلالُ الخير ويعم الحب والوئام، فإذا أردتم أن تصوموا حقاً فصوموا عن الأحقاد، واذكروا ما في أعدائكم من خِلال الخير (¬1) فأحبوهم لأجلها، واغفروا لهم وادفعوا بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينكم وبينه عداوة كأنه ولي حميم. * * * ¬

_ (¬1) وليس يخلو أحدٌ من خَلّة الخير، وليس في الدنيا شر مطلق. حتى الموت، فإنه تمر بنا ساعات نرتجي فيها الموت! حتى إبليس، فإن له مزيّة الثبات والذكاء! وما أمدح إبليس، لعنة الله على إبليس، ولكن أضرب للناس الأمثال.

مزعجات رمضان

مزعجات رمضان نُشرت في «مجلة الإذاعة» سنة 1956 أنا أكتب في الصحف والمجلات من ثلاثين سنة، والكتابة هي حرفتي، ولم أكن -مع ذلك- من المجلّين السابقين في درس «الإنشاء» في المدرسة، وكان بعض إخواننا في «الصف» (ممن صاروا اليوم أبعد الناس عن الكتابة، وإن صاروا من أعلام السياسة أو العلم أو الاقتصاد) يأخذون من علامات النجاح أكثر مما آخُذ. لا لأنهم كانوا يكتبون أحسن مما أكتب؛ بل لأن المدرس كان يحدد لنا الموضوع، وعدد الأسطر، ووجهة التفكير، فلا أستطيع -مع هذه القيود- أن أسير؛ كماء الساقية إن أقمت في وجهه السدود ومنعته أن يجري في مجراه، وقف ثم انقلب من رقراق عذب متحدر إلى بركة آسنة. لذلك كنت أخيب، فلا عجب إذا خبت اليوم وقد جاء محرر «مجلة الإذاعة» يعيد معي قصة مدرّس الإنشاء فيحدد لي الموضوع والأسطر؛ فالموضوع: «تقاليد رمضان الماضي»، والمجال: صفحة أو صفحتان من المجلة. وأنا أعرف رمضان الذي كان يجيء دمشق من أكثر من أربعين سنة، ولا أزال أذكر ملامح وجهه ولون ثيابه، والذي

افتقدته من زمن بعيد فلم أعد أراه. لقد تبدل كما تبدلت أنا، ونحن كل يوم في موت وحياة. لقد مات كما مات فيّ ذلك الطفل الذي كان يذهب إلى المدرسة قبل إعلان الحرب الأولى، وأين ذلك الطفل؟ إنه مضى (كما مضى رمضان) إلى حيث لا يعود الذاهبون، وجاء في مكانه إنسان آخر يحمل اسمه ولكنه ليس إياه، كما يحمل رمضانُ هذا اسمَ رمضان الماضي وليس ذلك الـ «رمضان». أنا أعرفه وأذكر كيف كان يستقبله الشاميون، وأعرف أن للحديث عنه متعة ولذة، ولكني قاعد من ساعتين أحاول أن أحصر ذهني لأكتب عنه فلا أجد في ذهني إلاّ «مزعجات رمضان»، يجول الفكر فيها ثم يقف عليها ويستقر عندها. وقد يكون الفكر كالفرس الجامح، لا يمشي بك حيث تريد أنت بل حيث يريد هو. ولم يبقَ أمامي إلا أحد أمرين: إما أن تعفيني المجلة من المقال، وإما أن أكتب في مزعجات رمضان. ولست أعني بالمزعجات الجوع والعطش واضطراب ميزان اليقظة والمنام، فذلك شيء لا بد منه ولولاه لم يكن لرمضان معنى. وأي معنى يبقى لـ «التدريب العسكري» إذا خلا من المشقة والتعب وبذل الجهد، وصار نوماً متصلاً وأكلاً متصلاً وأكلاً وشرباً واسترخاء؟ ولكني أعني مزعجات الناس. وإذا كان قرّاء المجلة يَعِدُونني بأن يكتموا ما أقول عن مدير الإذاعة لقلت لهم إن شطر هذا الإزعاج من الإذاعة، والشطر من الناس.

إزعاج يستمر من الصباح إلى المساء، ولا ينقطع لحظة واحدة نرجع فيها إلى أنفسنا ونستطيع أن نستجلي فيها طلعة رمضان أو نحس بوجوده. ورمضان أجمل مرحلة في طريق الزمان، يمر فيه ركب الإنسانية على الروض الأنيق فيرى المشهد البارع، ويشم العطر العبق، ويسمع من صدح البلابل وهديل الحمام ما يُرقص من الطرب القلوب. ولكن كيف يرى المشهدَ من يزدحم عليه الناس حتى يسدوا في وجهه منافذ النظر؟ وكيف يشم الأريج من تهب من حوله العواصف؟ وكيف يسمع الصوت الرقيق من تحف به ضجة تزلزل الأرض؟ إنها مائدة حافلة، ولكنكم لا تدعونني أتناول لقمة منها حتى تصدوني عنها. إنه شهر التأمل والعبادة ولذة الروح وأنس القلب، ولكنكم لا تتركون لي ساعة، ساعة واحدة، أستمتع فيها بهدأة التأمل وذهلة الحلم ونشوة المناجاة. وهذا هو الموجز، وهاكم تفصيل الأنباء كما يقول المذيع. * * * أما الإذاعة فإنها لا تسكت من صباح الله الباكر إلى نصف الليل، ولا تستريح ولا تريح، ولا تكف لسانها دقيقة. ولو كانت تذيع ما يعين على الخشوع والعبادة في رمضان وما يذكّر بالله لهان الخطب، ولكنها تذيع الأغاني التي أجمعت كلمة الإنس والجن على استنكار أكثرها. وأنا لا أقول للإذاعة: "لا تغنّي"؛ لأني لا أحب أن أقول كلمة أعلم أنه لن يُستجاب لها، ولكن أقول إن

موسيقا الناس نصفها ألحان معبّرة ونصفها كلام ملحن، وموسيقانا كلها كلام! وإن الكلام في موسيقاهم نصفه للمرأة ونصفه للطبيعة والوطن والحياة، وما عندنا كله للمرأة! وإن ما للمرأة عندهم نصفه من الغزل السامي الاتباعي (الكلاسيك) ونصفه غزل خفيف، وليس عندنا إلا هذا الغزل الخفيف بلفظ عامي فظيع ومعان شنيعة مبتذلة ونغم مسترخٍ متخنث! وهم يجدون كل يوم جديداً ونحن -لعقم القرائح- نردد ونعيد. ولماذا أعمم القول فأكون ظالماً؟ لا؛ ليس كله كذلك! وقد نسمع أغاني تبلغ في جمال لفظها وحسن معناها وتوقيع لحنها ذروة الكمال، ولكنا نسمعها أول مرة فنستجدّها ونستجيدها ونستعيدها، ونسمعها الثانية فنطرب لها ونسر بها، ونسمعها الثالثة فنستملحها، والرابعة فلا نكرهها، والخامسة فنبدأ بالإعراض عنها، والسادسة فنضيق بتكرارها. فلا تزال الإذاعة تعيدها حتى تأتي المرة العاشرة والخامسة عشرة والسادسة والسبعون فتطلع منها أرواحنا. ولو كانت الشهد المصفى أو الفالوذج وأطعمتها إنساناً كل يوم عشر مرات، وحشوت به فمه جائعاً وشبعان، راغباً وكارهاً، لصار لها في فمه طعم العلقم! * * * أما الناس فإزعاجهم أكبر وأنكر. وأنا أستطيع أن أسد الرادّ فلا أسمع ما تذيع الإذاعة، أو آخذ منه ما صفا وأدع ما كدر، ولكن ما أصنع بمَن لا يطرب إلا إن أشرك معه بسماع الأغنية مئة جارة وجار، من أمام ومن خلف وعن اليمين وعن اليسار؟ فكيف ننام، وكيف نشتغل، وكيف نخلص التوجه إلى الله، ومن كل

جهة من حولنا هذه المصائب الثقال، والضجة المروعة، وفريد الأطرش، وهذا الآخر عبد الحليم حافظ؟! فإذا سكت الرادّ في الساعة الثانية عشرة وحاولت أن تنام لم تمر نصف ساعة حتى يجيء «أبو طبلة»، هذه الآفة التي لا دافع لها، المسحّر الذي ضاقت به الصناعات والمهن فلم يجد له صنعة إلا أن يحمل طبلاً ثم يأتي نصف الليل ليقرع به رأسك ويوقظك من منامك. وأعجب العجب أن يعترف المجتمع بهذه الصنعة ويعدّها من الصناعات المقررة، ويوجب عليك أن تقول له: «أشكرك» وأن تدفع له في آخر الشهر أجرته على أنه قد حطم أعصابك وكسر دماغك! وأنا أفهم أن يكون للمسحّر موضع في الماضي، أما اليوم -وفي البلد إذاعة، وفي كل بيت ساعة، وفي كل حي منارة عليها مؤذّن، وفي البلد مدفع يوقظ صوتُه أهلَ المقابر- فليس للمسحّر موضع فينا. فإذا انقضى السحور وأردت أن تنام عادت أختنا الإذاعة إلى «وراك وراك» و «يا بيّاع الورد»، وعاد الجيران إلى تطبيق الجو بهذه الأصوات، وجاء بيّاع الحليب وبيّاع الفول ومصلح البوابير و «الذي عنده خزانات للبيع» و «الذي عنده كنبات للبيع» ... وزلزلت الأرض بأبواق السيارات وصراخ الأولاد! فإن هربت إلى المسجد الأموي لتأخذ منه موعظة أو تسمع درساً رأيت النائمين مصفوفين بالطول وبالعرض، يشخرون ويتنفّسون من كل منفذ ... وحلقات المتحدثين يضحكون

ويمزحون ويغتابون ويكذبون، ووجدت العوام يدرّسون بلا رخصة ولا إذن لأن العلماء غائبون. ولم تجد في المسجد شيئاً مما يجب أن يكون فيه! فإن سرت في الشوارع رأيت المطاعم مفتوحة والمفطرين في كل مكان، وركب أمامك في الترام من يدخّن وينفخ الدخان في وجهك، مع أن القانون والعرف يمنعان التدخين في الترام، والذوق (إن لم نقل الدين) يمنع إعلان الفطر في رمضان في البلد المسلم. فمن أين مع هذه المزعجات، من أين -يا مجلة الإذاعة- أستطيع أن أنفذ إلى الموضوع الذي تريدون مني أن أكتب فيه؟! * * *

أين أرباب الأقلام؟

أين أرباب الأقلام؟ نشرت سنة 1958 زارني شاب فاضل قال إنه من «لَحْج»، ففتشت في زوايا ذهني فلم أجد شيئاً عن لحج هذه. ووجدتني أجهلها جهلاً مطبقاً، لا أعرف شكلها ولا أهلها، ولا أدري كثيراً ولا قليلاً من خبرها. ونظرت فوجدت أن كل ما نعرف عن بلادنا (العربية والإسلامية) هو ما ذكره المصنفون الأولون وما نحفظ من شعر فيها مما قاله الشعراء الأولون، ولولا أن الله يسّر لـ «ياقوت» أن يصف لنا هذه البلاد التي مرّ بأكثرها تاجراً، ويجمع ما قرأ عنها، في كتابه العظيم «معجم البلدان»، ولولا هذه الكتب الأربعة أو الخمسة الأخرى، لجهلنا عن بلادنا كل شيء. فأين الكتب التي ألفها فيها علماؤنا اليوم؟ وأين الشعر الذي قاله فيها شعراؤنا؟ إنه لم يبق في فرنسا -مثلاً- جبل ولا نهر ولا قلعة ولا قصر إلا قال فيه الشعراء ووصفه الكتاب وكتب عنه العلماء. ونحن نعيش في أجمل البلاد، وأحفلها بالماضي الضخم والمجد التليد، وآمال شعب هبّ ينظر إلى الأمام وينشئ المستقبل المجيد، ثم لا نقول فيها شيئاً! هاتوا خبّروني: كم قصيدة قال شعراء الشام في بلودان

والزبداني وعين الصاحب والعين الخضراء، وهذا الوادي الذي هو بيت القصيد في ديوان الوجود والذي لا يدانيه في جماله وسحره واد؟ هل قالوا في ذلك كله وفي جنات لبنان معشار ما قاله شعراؤنا الأولون في سَلع ومنى ونَعمان وذي سَلَم وهاتيك الصحارى المقفرات؟ ونقول إننا في إبّان نهضة أدبية أوفى فيها الأدب العربي على الغاية! * * * وتعالوا أسألكم: ماذا تعرفون عن الكوفة؟ لا أريد الكوفة القديمة التي ملأت أخبارها كتب التاريخ والأدب، بل الكوفة اليوم: أين تقع؟ وماذا بقي منها؟ وما صفتها؟ والبصرة الآن: ما مكانها من البصرة القديمة؟ وأين المِربد؟ بل خبّروني عن دمشق: هل تعرفون حدود دمشق أيام الأمويين؟ هل تعرفون تاريخ امتدادها من بعدُ وتوسعها؟ تقرؤون في كتب الأدب والتاريخ أسماء نجد واليمامة وجبلَي طيء، فهل تعرفون ما حدودها وما أسماؤها الآن؟ وهل تدرون أين جرت معركة القادسية وأين كانت معركة اليرموك؟ وأين «عين جالوت» التي كانت فيها الموقعة الكبرى، وأين ... أين حطين؟ وتحجّون كل سنة، فهل عرفتم أين وُلد الرسول صلوات الله عليه؟ وأين دار الأرقم؟ وأين مكان الرّماة في أحد؟ وأين كانت منازل اليهود التي أُجلوا عنها؟

بل أنا أسألكم أن تمتحنوا أنفسكم فتجيبوا فوراً بلا مراجعة ولا فكر: أين تقع مدينة مراكش، وما بعدها عن فاس؟ وأين مسجد القرويين وأين جامع الزيتونة؟ وهل القيروان على البحر أو على سفح جبل، وما صفتها اليوم؟ هذا ولم أسألكم عن مدن الإسلام في فارس والأفغان والهند وأندونيسيا لأني واثق أنكم لا تعرفون منها إلا أسماءها، وهذه الإحصاءات الميتة التي بقيت في نفوسكم من درس الجغرافيا. وقد سألت عشرات المتعلمين في مصر عن الأُبُلّة التي عدّها ياقوت في متنزهات الدنيا، فما عرف أحد أين هي اليوم. وأعجب من ذلك أن طالباً في كلية الآداب في القاهرة أبوه شامي وهو مولود في مصر؛ سألني مرة: "و «بردى» ده يبقى إيه؟ "! ولو قال: من أين ينبع بردى أو أين يصب؟ لكان لذلك وجه، أما أن يسأل عنه: "يبقى إيه؟ " لا يدري أهو نهر أم جبل أو هو تمثال في متحف أو لون من ألوان الطعام، فشيء لا يكاد يصدَّق! ولم ينفرد إخواننا المصريون (أعني قبل الوحدة) بجهل بلادنا، فنحن -على كثرة ما نقرأ عن مصر في مجلاتها وما نرى من مناظرها في «أفلامها» - لا نعرف غير القاهرة والإسكندرية. ولو سألت جمهرة المتعلمين منا: أين تقع الفيوم من المنصورة؟ وما الدقهلية من الغربية؟ لما دروا. ونحن لا نكاد نعرف عن المغرب دانيه وقاصيه شيئاً. أما سائر بلاد الإسلام فأنا أقر على نفسي أنني لم أكن أعرف عن الهند والملايا وأندونيسيا (قبل أن أذهب إليها) أكثر مما أعرف اليوم عن

الفلبين ونيوزيلندة، حتى تاريخها (وهو فصل كبير خطير ماجد من تاريخ الإسلام) لم نقرأ منه شيئاً وليس في الكتب التي هي تحت أيدينا شيء منه. بل إن كثيرين من الشاميين الذين يقرؤون هذا المقال لا يعرفون بلاد الشام! لست أعني معرفة الشوارع والساحات، بل معرفة العادات والمواضعات. فمَن مِن أهل دمشق يعرف أسلوب الاحتفال بالعرس أو الختان في قرى إدلب -مثلاً- أو عزَاز؟ بل من يعرف من شبابهم كيف كانت طرائق الزواج في دمشق نفسها في القرن الذي مضى؟ فأين مَن وصف هذه العادات وسجلها من الأدباء؟ أين المقالات الوصفية والقصص والقصائد التي قيلت في نضالنا الفرنسيين في هذه المواقف الرائعة التي وقفناها ربع قرن كامل؟ إنه ليس في الدنيا أمة تجهل ديارها ولا تعرف نفسها إلا نحن العرب. إن في كل بقعة من ديارنا معدناً (أي منجماً) هو أثمن من معادن الفحم والنفط: معادن جمال ومجد، وطريف العادات وبارع الحكايات. وفي كل بلد شخصيات لا يصل إلى معرفتها التاريخ إن لم يدلّه عليها قلم الأديب، ونكت ونوادر، وأمثال سوائر، وأغان عبقريات. فلماذا يضيع ذلك كله؟ أما أجدادنا فأشهد أنهم ما قصّروا؛ ولقد وصفوا لنا حال عصرهم ورجال بلدانهم، حتى إنهم دونوا التوافه من أخبارهم والغث من كلامهم، وسجلوا أخبار عبيدهم وإمائهم، وعقلائهم ومجانينهم، وصالحيهم وطالحيهم، وهم (كما يزعم زاعمون منا)

كانوا في عصر تأخر وانحطاط. ونحن في عصر الأدب والفن ... لم نصنع شيئاً. ولو أن أدباءنا عكفوا من أول هذه النهضة على أن يصف كل أديب قريته التي خرج منها وبلدته التي نشأ فيها: ريفها وعمرانها، وشوارعها وميادينها، وآثارها وخلائق أهليها، وعاداتهم في أفراحهم وأتراحهم، وأعراسهم ومآتمهم، وزواجهم وطلاقهم، وجدّهم ولهوهم، وأعيادهم ومواسمهم ... كم كان يجتمع لنا في هذا القرن من الثروة العلمية والأدبية، وكم يَغْنَى تاريخنا ويُفيد أدبُنا؟ وكم من صور الطبيعة، وصفحات التاريخ، وعبقري الشعر وبارع القصص يجتمع لنا؟ وكم من سير الرجال وأحاديث الأبطال، وقصص الحب والجمال، نحفظ من الضياع ونستنقذ من النسيان؟ الأماكن أوعية الحوادث وظروف التاريخ. وما التاريخ إلا زمان ومكان ورجال، وقد مرّ الزمان فلا يعود، وذهب الرجال فلا يرجعون، ولم يبق إلا المكان؛ فهو جسم التاريخ. وإذا نحن رأينا (وأرينا تلاميذَنا) الساحة التي جرت فيها المعركة، والدار التي عاش فيها العظيم، والقلعة التي افتتحها القائد، فقد رجعنا إلى التاريخ وعشنا فيه. وإذا لم نستطع زيارة المكان فلا أقل من أن تكون له اليوم صورة فنرى الصورة، وأن يكون له وصف فنقرأ الوصف. إن من العرب من يعرف من صفة برج إيفل في باريز والجسر المعلق في نيويورك أكثر مما يعرف عن «ملويّة» سُرّ مَن رأى وجسر بغداد، لأنه يرى هذه في السينما كل يوم ويبصر صورتها

في كل كتاب، وتلك لا يعرفها إلا مَن رآها. بل إن من الأدباء من شد الرحال وسافر إلى أوربا فوصف الرَّيْن والبندقية، ولكنه لم يسافر إلى الشام ولا إلى العراق، ولم يصف بردى ولا بندقية العرب. ألا تدرون أن البصرة بندقية العرب؟ وأن فيها إلى جنب كل شارع قناة، فأنت تركب السيارة في الشارع أو الزورق في القناة؟ وأن فيها أماكن لا مسالك فيها إلا أقنية الماء، ولا مركب إليها إلا الزوارق تسير فيها بين غابات النخيل وخمائل الورد حتى تنفذ إلى شط العرب؟ فيا شعراء العربية، ويا أصحاب الأقلام، ويا معلّمي الإنشاء: خلّدوا بالأدب كل دار عاش فيها عظيم، وكل بقعة نشأ فيها مجد، وكل ساحة ولد فيها ظفر، وكل روضة هام فيها شاعر، وكل جبل وكل مصيف وكل مشتى. عودوا إلى الطبيعة فصفوها، لا تقتصروا على وصف ذراها وسفوحها ومساربها وسوحها، بل انفذوا إلى قلبها وروحها. وإن للطبيعة روحاً وللبلدان لساناً؛ إن لهذه الأودية المسحورة من لبنان (التي ضلّت طريقها بين الجبال كعاشق هائم ينشد طيف الحبيب) لَقلباً يبثّ في الدنيا عواطف الجمال والتأمل، ولهذه الجبال المُعْتَمَّة بالثلج (التي تشرف على الدنيا كفيلسوف مفكر يستجلي وجه الحقيقة من بين أشباح الأوهام) لَعقلاً ينثر على الناس حكمة البقاء والعدم ولهذه الأنهار التي تمشي منذ الأزل، إن للنيل ودجلة وبردى لساناً يروي أخبار الماضي ويحدّث أحاديث القرون ويملأ الأسماع (لو وُجدت الأسماع!) شعراً وقصصاً وأدباً خالداً.

وإن لبدر واليرموك والقادسية وجبل طارق وعين جالوت لشعراً في الفخر يُخرس الشعراء وبياناً يسجد له البلغاء. إن أرضنا المقدسة من فلسطين ما فتئت تتلو على الدنيا سور المجد وآيات النبل، وتقصّ أروع قصة عن البطولة الخيّرة وعتها أذن الزمان وكنا نحن أبطالها: قصة أجنادين وحطين وجبل النار، قصة المرّات الثلاث التي انتصرت فيها فلسطين (¬1)، قصة «قلب الأسد» لما ذاق حَرّ النَّبْل وأحسّ حُرّ النُّبْل فانقلب خائفاً منا مُكْبراً لنا، والقديس لويس لما أقمنا له من دار ابن لقمان معبداً ومن «الطواشي» صبيح سادناً، وقصة الشعب الذي لم يُخلق إلا ليكون سيداً. إن في كل بقعة من ديار العروبة منبع شعر وأدب وفن وبيان، ولكن أين الروّاد؟ أين اليوم أدباء العربية وشعراؤها يستنطقون الديار ويروون عنها أحاديث من نور ومن نار؟ وأين يعيشون؟ ما لهم عين ترى، ولا أذن تسمع، ولا قلب يحسُّ، ولا لسان ينطق؟ وإلا فأين القصص التي تصور البلاد وعاداتها؟ وأين الصحف التي تروي تاريخها؟ وأين القصائد التي تتغنى بجمالها وأمجادها؟ أين هم (وهذا يومهم) يشحذون العزائم ويوقظون الهمم، ويقولون القول ¬

_ (¬1) حين أصدرت دار المنارة طبعة جديدة من هذا الكتاب في أوائل عام 1409 أضاف الشيخ -رحمه الله- في هذا الموضع الحاشية التالية: "وستقص عمّا قريب -بإذن الله- قصة النصر على اليهود وعلى مَن هم وراء اليهود، واسترداد فلسطين، وقد يبدأ الفصل الأخير منها بهذه «الانتفاضة» التي أوشكت أن تُكمل السنة والتي انبعثت من المساجد" (مجاهد).

العربي المُعجز الذي يجعل من الإنسان ذي اللحم والدم دبّابة تَقْحَم الجبل، وطيّارة تنطح النجم، وملَكاً يسمو عن الدنايا بجناحين من خير وطهر ويُثبت للقريب والبعيد وللأجيال والذراري أن بلادنا أجمل البلاد وأهلها أكرم الأهل وماضيها أجلُّ المواضي، وأن المستقبل لها؟ وأين معلّمو الإنشاء يفتحون على هذا الجمال الأبصار، ويلفتون إلى هذا المجد القلوب، ويصنعون للشعب العربي شعراءه وكتابه؟ * * *

نحن المذنبون

نحن المذنبون نشرت سنة 1945 اهتزت الأرض لمَا كرَثَ (¬1) دمشق، وزُلزلت الدنيا لما أصابها، وانبرت أقلام بواتر تناصرها في محنتها، وازدلفت إليها الوفود تمسح جراحها وتلعن جَرّاحها، ولم تبق في المشرق والمغرب صحيفة لم تتلُ أخبارها وتصف حريقها ودمارها، وأنا في فراشي قد ملكتني الحُمّى فلم أشارك قومي في جهاد ولم أبذل لهم (وطالما كنت باذلاً) قلمي هذا الضعيف ولساني. كنت أطل من شبّاكي على دمشق (وداري -كما يعلم من يعلم من القراء- تعلو عن دمشق ضاربة في الجبل مئتي متر) فأرى مساقط القنابل وأشاهد مواقع القذائف، وأبصر النار تأكل بلدي ¬

_ (¬1) هذا الفعل قليلٌ استعمالُه، غير أن الاسم منه معروف، وهو «الكارثة». نقول: «كَرَثَه» الأمر: إذا اشتد عليه وبلغ منه المشقة، ومثله أَكْرَثَه (كلاهما بالتعدية)، أما اللازم منه: «اكترَثَ للأمر» فمعناه حزن لأجله، وبالنفي: «ما أكتَرِثُ للأمر»: ما أبالي به ولا أهتم له. ويبدو أن الكارثة المقصودة هنا هي العدوان الفرنسي الكبير على دمشق في أيار من تلك السنة، وتجدون عنه تفصيلاً في الحلقة 134 من «الذكريات» (الطبعة الجديدة: 5/ 107 - 115) (مجاهد).

الحبيب والرصاص يحصد حصداً قومي، فأحس في أعصابي فوق الحمى حميات، ولكني لا أقدر على شيء. ولم أقرأ في هذه البرهة الطويلة مجلة ولا أبصرت «رسالة»، ولا رأيت ممن وفد على دمشق من الإخوان الكرام أحداً، ولا حضرت (وقد دُعيت) لتكريمهم احتفالاً؛ قد قيدني المرض بفراشي فلا أستطيع له براحاً ... وهذي أول ساعة أقدر فيها على القلم وأتمكن من زمامه، رأيت فرضاً عليّ فيها فرض الاعتراف والوفاء أن أكتب للرسالة (¬1). جلست لأكتب في محنة دمشق، فرأيتها قد سارت بحديثها الركبان وامتلأت بها الآذان ومشت على كل لسان، فكدت أدع القلم، ثم قلت لنفسي: لئن تأخرت اليوم فلقد كنت يوماً سَبّاقاً، يوم هوت تحت السنابك باريس وقام كتّابٌ (منّا!) يبكونها، وما يبكون إلا لَذّات لهم فيها مُحرَّمة فقدوها ومَفَاسق خسروها. وكنا وكان سيف فرنسا العادية مسلولاً علينا، فكتبت في الرسالة (368) في 23 تموز (يوليو) 1940 كلمة قصيرة ولكنها كسِنان الرمح لا يضره مع مضائه قِصَره، صغيرة ولكنها كالقنبلة إذا تفجرت دمرت. ولقد شرّقت شظاياها وغرّبت فأصابت -فيمن أصابت- مستشار المعارف الفرنسي، حملها إليه بعض (الأذناب ...) ممن تبدل اليوم لأن الدهر تبدّلَ ودار؛ فدعاني وكان بيني وبينه كلام لو أنا نشرته خفت ألاّ يصدقه من لا يعرف قائله من القراء. لا أقول ذلك فخراً ولكن ليعلم الناس أنّا -بني الشام- ما ذللنا قط ولا ¬

_ (¬1) أي لمجلة «الرسالة»، وفيها نُشر هذا المقال (مجاهد).

خنعنا، ولا أخافتنا فرنسا يوم كانت فرنسا وكان لها في الأرض سلطان وبين الأعزة الأقوياء مكان. * * * ولئن فاتني الكلام في «حادثة الشام» فما فاتني أن أكتب «على هامشها»، وإن لديّ صوراً وإن في يدي عِبَراً، إذا وفق الله وواليت نشرها في الرسالة اجتمع منها كتاب (¬1). ولست أعيد ما قاله الكتّاب ولا أحب أن أعرّف المعروف، ولقد فرغ الناس من الحكم على فرنسا ومدنيتها، وخرست ألسن كانت تسبّح بحمدها وتمجّد حضارتها، وما تحمد منها -أقسم بالله- إلا مطارح الهوى الفاجر ومسارح الفن الداعر! وجفت أقلام كانت في أرضنا «جيشاً خامساً»، وما حديث الجيش الخامس ببعيد ... فلم يبق إلا أن نسوق صوراً لا يراها إلا القريب المشاهِد وعِبَراً لا يتنبّه لها إلا الرقيب المفكّر، وأن ننذر قومنا يوماً أشد وخطباً أعمّ إذا لم يقطعوا أسبابه ولم يُغلقوا بابه. وإن أول ما ينبغي أن نخرج به من هذا الذي كان أن نعلم أن الله عادل لا يصيب قوماً إلا بما قدّمت أيديهم. وإن من بديع صنعه لهذه الأمة أن يبعث لها هذه الشدائد تنبيهاً من غفلتها كلما غفلت وتوقظها إذا نامت، وإن من أسرار هذه العربية أن الابتلاء هو الامتحان، وأن الله يمتحننا ليرى: أنفوز في الامتحان أم نكون من الخاسرين؟ فتعالوا يا إخواننا نحاسب أنفسنا وننظر من أين أُتينا؟ ¬

_ (¬1) ولعل بعض هذه الصور والعبر هي التي جاء منها -من بعد- كتاب: «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها» (مجاهد).

أما أنا فلقد فكرت فرأيت أن الذنب ذنبنا، ما هو بذنب الفرنسيين، وأنك إن عانقت الحية فلدغتك فما تُلام الحية بل تكون أنت الملوم. إن الفرنسيين قد جرَوا على سنتهم واستجابوا لطبيعتهم، ففاض إناؤهم بالذي فيه، وما فيه إلا الطيش والخرق والغرور والتبجح، وعشرٌ أُخَر من هذه الصفات، ولقد بلوناهم ربعَ قرن فما رأينا من حضارتهم إلا العدوان على الأطفال والنساء والعجائز الكبار، ولقد طالما تبدّلت علينا الوجوه ولكن السنّةَ السنّةُ والطبعَ الطبعُ؛ كلٌّ في الحماقة سواء! ولكنا -مع ذلك- واليناهم وقد نهانا الله عن موالاتهم، وقلّدناهم وقد منعَنا دينُنا من تقليدهم، وتركنا بياننا لرطانتهم، وفضائلنا لأزيائهم، وشريعتنا لقوانينهم، ومساجدنا لملاهيهم، والقادسيةَ لأوسترلتز، وعمرَ لنابليون، ومكةَ لباريس! نحن أعطيناهم هذا السلاح الذي قاتلونا به: جاؤونا بالخمور تهري أمعاءنا وتمزق أكبادنا، فشربناها ودفعنا الثمن. وجاؤوا بالكتالوجات فيها الأزياء العارية التي تُذهب فضيلتنا وتُفسد شبابنا وبناتنا، فعملنا بها وتركنا لها قرآننا ودفعنا الثمن. وجاؤونا بالأرتستات يخربن بيوتنا ويمرضن جسومنا ويسممن أرواحنا، فهبطنا على أقدامهن ودفعنا الثمن. وجاؤونا بكل بلية فيها الأذى وفيها الهلاك، فدفعنا الثمن، فأخذوه فجعلوا منه دبابات وطيارات ثم أتوا فقالوا: هذا لجيشكم السوري (¬1)، أليس جيشكم؟ قلنا: بلى، وهل في ذلك شك؟ قالوا: هاتوا ثمنه. فدفعناه مرة ثانية، فقاتلونا بسلاح شريناه نحن ودفعنا ثمنه مرتين! ¬

_ (¬1) لم يكن هذا الجيش يومئذ لنا.

نحن أعطيناهم الجنود الذين حاربونا بهم: أبناءنا؛ قلنا لهم: خذوهم وخذوا بناتنا فعلموهم في مدارسكم، ونشّئوهم على مبادئكم، واستعمروا عقولهم كيف شئتم؛ فجعلوا من أبنائنا عدواً لنا. يا أيها القراء في مشارق الأرض ومغاربها، اعلموا أن الذي ضرب الشام بالمدافع (بإذن أوليفا روجه وأمره) إنما هو رجل شامي ومسلم وابن شيخ واسمه علاء الدين الإمام! * * * فهل استيقظنا؟ إذا لم توقظنا هذه المدافع المدويّة، إن لم ينبهنا لذع النار، فما والله يوقظنا شيء. هل علمتنّ -يا آنساتي ويا سيداتي الآن- أن هذا (الكتالوج) إنما هو «ديناميت» إن احتفظتنّ به في دوركن دمر الدور وأهلها؟ وأنكن حين تكشفن عن شيء من مواطن الفتنة في أجسامكن إنما تكشفن للعدو قلعة من قلاع الوطن، لأن كشفها يفسد أخلاق الشباب فتذهب رجولتهم، ويفقدهم روح الكفاح، ويشغلهم عن الحرب بالحب؟ وأن هذا الأحمر على خدودكن وشفاهكن إنما هو دم الشهداء، لولاه ولولا أشباهه ما تمكن العدو منا، وما كان ليغلبنا لولا أن أضاع علينا أخلاق صحرائنا، وشغلنا عنها بكن، وشغلكن بهذا الأحمر عن كل واجب عليكن؟ هل علمتم -أيها الآباء- أن من يضع ابنه في مدرسة عدوه إنما يخون وطنه ودينه وربه؟ وهل سمعتم -أيها القراء- اللعنة التي أطلقها في الشام خطباءٌ على المنابر وأئمةٌ في المحاريب، فتجاوبت بصداها الأودية والشعاب:

ملعونٌ كل من ينسى ما صنع بنا الفرنسيون. ملعونٌ كل من يحب فرنسياً أو يتزوج بعد اليوم فرنسية أو يشتري بضاعة فرنسية. ملعون من يُدخل ابنه أو بنته مدرسة فرنسية. ملعون كل شركسي أكل خبزنا وحاربَنا. ملعون كل سوري أعان على بلده عدواً. ملعون علاء الدين الإمام، لعنة مجلجلة صارخة مستمرة متجددة، متنقلة في البطون، ماشية في الذراري، لعنة الأم التي فجعها الفرنسيون بوحيدها، واليتيم الذي أفقدوه أباه، والزوجة التي أيّموها بعد زوجها، والأسرة التي قتلوا ربها وخربوا دارها، والتاجر الذي أحرقوا دكانه وسرقوا متاعه ... لعنة مغموسة بالدم، مغسولة بالنار. * * *

كل شيء للناس!

كل شيء للناس! نشرت سنة 1959 من عادتي أني لا أركب إن استطعت المشي، ولا أمشي في الظل إن قدرت أن أمشي في الشمس، سواء علي في ذلك شمس لبنان في تشرين وشمس الهند في تموز. وكان النهار أمس صائفاً حاراً، فحللت هذا الرباط عن عنقي وطويته ووضعته في جيبي (¬1) فمرّ بي صديق أحبه وأحترمه، ولكني أنكر عليه أنه يتمسك بالعادات أكثر من تمسك العابد بالدين، ويحرص على رضا الناس أشد من حرص الزاهد على رضا الله. فلم يكد يفرغ من السلام حتى أقبل عليّ صارم الوجه بادي الاهتمام فقال: وكيف تصنع هذا؟ فارتعبت وقلت: وماذا صنعت؟ وجعلت أذكر: هل أحدثت في الإسلام حدثاً؟ أو آويت محدثاً أو جنيت جناية؟ فلما لم أذكر قلت: وضّح يا أخي وقل لي ما الذي بلغك عني، فلعل الذي بلّغك فاسق أو كاذب. ¬

_ (¬1) الجيب في اللغة فتحة القميص، ولكني استعملتها بالمعنى المشهور الذي يفهمه القراء.

قال: ما بلّغني أحد ولكني أرى بعيني. وأشار إليّ. قلت: وما ذاك؟ قال: العقدة (الكرافات). كيف تمشي بلا عقدة؟ هذا لا يليق بمستشار (¬1). ماذا يقول عنك الناس؟ فتركت الحوار وقعدت أفكر ... فإذا نحن نعمل كل شيء للناس. نخنق أنفسنا بهذه العقد التي نضعها في أعناقنا كالأرسان ونتكلف منها في حر الصيف ما لا يُطاق من أجل الناس! والنساء يتخذن هذه الأحذية الفظيعة ذوات الكعوب العالية مع أن المشي بها أصعب من المشي على الحبل. ومَن لم يصدّق من الرجال فليمشِ مئة خطوة على رؤوس أصابع قدميه! وهي -فوق ذلك- تُصلّب عضلات الساق وتشوّه جمالها، وما للبسها معنى وليس فيها جمال، ولكن هكذا يريد الناس! ورأيت مرة امرأة واقفة في الترام والمقاعد خالية، وكلما دعوها لتجلس أبت، ثم تبين لي أنها تلبس إزاراً (خرّاطة أو جونيلا) ضيقاً عجيباً لا تستطيع معه المشي إلا كمشي المقيّد بالحديد، ولا تستطيع صعود درجة الترام إلا بكشف رجليها وإخراجهما منها، فلذلك لا تستطيع القعود. تتساءلون: لماذا تعذّب نفسها هذا العذاب؟ من أجل الناس! ¬

_ (¬1) وكنت -يومئذ- مستشاراً في محكمة النقض.

ومن الشبان من يصفف شعر رأسه تصفيفاً فنياً يشتغل به نصف ساعة، ويبقى النهار كله خائفاً أن تهب نسمة هواء أو أن تقترب منه يد طائشة في الترام فتفسد هندسته. وربما أدركته الحكة فاحتمل ألمها طول النهار ولم يستطع أن يمد أصبعه فيحكه، لماذا؟ لأجل الناس! وكل خير هو للناس! المرأة ظرفها ولطفها للناس. تقابل ضيوفها وصديقاتها بالوجه المشرق والفم الباسم والجَرْس الناعم والأدب البالغ، وزوجها ليس له إلا التجهم والنظر الشزر واللفظ الجافي. وكذلك يصنع الزوج! وزينتها للناس، إذا خرجت تزيّنت للغرباء وتعطرت وارتدت أجمل أثوابها، وزوجها لا تلقاه إلا منفوشة الشعر كالحة الوجه، تسبقها روائح السمن والبصل والثوم. وكذلك يصنع الزوج! والمائدة المرتَّبة في غرفة الطعام للناس؛ فإذا جاء الناس صُفَّت الأطباق والصحون ونُضِدت الأوراد والزهور، وإن لم يكن أحد كان الأكل في المطبخ. وغرفة النوم ذات الأسرّة المرتبة والأغطية المطرزة ليراها الناس، وأصحابها ينامون في غرفة أخرى فيها أسرّة من حديد ولحف بلا ملاحف! نتعب أنفسنا ونقيد أعناقنا وأرجلنا للناس، وكل خير عندنا للناس. وإن أردنا أن نزوج البنت لم ننظر إلى مصلحتها ومصلحة زوجها ولم نفكر في إسعاد حياته وحياتها، ولكن فكّرنا في أيام العرس وحدها وسعينا لإرضاء الناس فقط. لا نسأل (إلا قليلاً) عن أخلاق الرجل وطباعه، بل نسأل عن

المهر الذي يدفعه لنقول للناس: "مهر بنتنا عشرة آلاف"، وعن الجهاز ليراه الناس فيقولوا: "ما شاء الله، والله جهاز عظيم"، وعن حفلة العرس، نتسابق لإرضاء الشيطان بإضاعة الأموال في هذا وأمثاله. ثوب العرس الذي لا يُلبَس إلا ليلة واحدة فقط يكلف مئتَي ليرة على الأقل، وقد يصل إلى ألفين. وعلب الملبَّس ثمن الواحدة ليرة على الأقل، وقد تصل إلى العشرين. وفيم كل ذلك؟ لفائدة العروس؟ لا والله. للثواب والجنة؟ لا والله. لكسب المال؟ لا والله. فلِمَ إذن؟ للناس! والناس -بعد ذلك- لا يرضون؛ لأنك مهما أنفقت فإن في الناس من ينفق أكثر منك، فيقولون: "ما هذه الحفلة؟ وما هذه العلب؟ علب فلان كان ثمنها أكثر وحفلة فلانة كانت أكبر". والمآتم مثل الأفراح؛ كلها تسابقٌ إلى إضاعة المال. ويا ليت الأمر يقتصر على أصحاب العرس أو عائلة الميت. لا؛ ولكن كل زواج وكل وفاة فيها نكبة ثلاثين أسرة. يكون الزوج المسكين قد أعد مشروع موازنة الشهر، وسهر الليالي وضرب الأخماس بالأسداس حتى استطاع أن يسدد حاجة الأسرة براتبه الذي لا يتجاوز ثلاثمئة ليرة في الشهر؛ يشد لحافه ليغطي كتفيه فيكشف عن رجليه، فإذا ستر رجليه انحسر عن كتفيه! وبينما هو في ذلك إذ خطر على بال عمة امرأة خال زوجته أن تموت فجأة (¬1)، فتجيء الزوجة تطلب حالاً وبلا تأخر وبالسرعة الكلية (على لغة المبايعات الرسمية) أربعين ليرة ثمن ¬

_ (¬1) والمحيي المميت هو الله.

ثوب أسود للعصرية. فيقول: "اسمعي يا امرأة، إن موازنتنا لا تتحمل". فتبكي وتعول وتقول: وكيف أذهب إلى عصرية الفقيدة العزيزة المرحومة المأسوف على شبابها عمة زوج خالي بلا ثوب أسود، وماذا يقول عني الناس؟ قد تكون هذه العزيزة المأسوف على شبابها بنت تسع وسبعين سنة فقط، وقد تكون منقطعة عن زيارتها من ست سنين، ولكن الحكاية حكاية: ماذا يقول الناس؟ وإذا وُلد مولود لزوجة ابن صديق رئيسك أو معلمك فيجب أن تقتطع من مرتبك الذي لا يكفي ثمن خبزك لتقدم لها الهدية اللائقة كما يقدم أمثالك، وإلا فماذا يقول عنك الناس؟ وإذا كنت مشغولاً بإعداد درسك في المدرسة، أو حساب عملائك في المتجر، أو تمريض بنتك المشرفة على الموت، وإذا كان لديك شغل الذهب وجاءك -فجأة بلا موعد- أحد العاطلين المعطّلين الفارغين ليقطع الوقت باللَّتّ والعَجن (¬1) معك، فلا تقل له: "أنا مشغول". إياك، وإلا فأنت أعلم بما يقوله عنك الناس! وإذا كان جارك أو عديلك غنياً يملك الملايين وكنت أنت مستوراً ليس لك إلا راتبك، واشترى لبيته ثُريّا بألف ليرة وبرّادة وغسّالة وعصّارة كهربائية وفرناً على الغاز وسجادة طولها ثمانية أمتار وعرضها خمسة، فاذهب حالاً فاشترِ مثلها ولو سرقت ونهبت وقطعت الطريق، وإلا أوقعت نفسك في أفواه الناس! ¬

_ (¬1) اللت والعجن من العامي الفصيح.

وإذا أقامت زوجة التاجر الفلاني أو الوارث العلاّني وليمة، دعت إليها امرأتك وقدمت فيها لحم الطواويس وألسنة الشحارير، والحلويات المصنوعة في روما الواردة بالطيارة الخاصة، فيجب أن تعد زوجتك مثل ذلك وإلا تكلم عنها الناس! * * * والخلاصة أنه يجب أن يكون قيامك وقعودك وأكلك ولبسك وفرش بيتك ونفقات يومك كما يريد الناس أن تكون، ولو اختنقتَ حساً ومعنى، ولو نُكبت في سعادتك وفي مالك، ولو احترق نَفَسُك، وإلا انتقدك الناس! الناس، دائماً الناس! فيا أيها الناس، متى نعيش لأنفسنا؟ ومتى نستطيع أن نقف عند حد الشرع وحد العقل؟ ومتى يخرج فينا العقلاء الأقوياء الذين يكسرون هذه القيود؟ أمّا أنا فوالله ما أبالي هذا كله، ولكن أعظ من شاء أن يتعظ: أن يتبع دينه أولاً فلا يأتي محرماً، ثم يتبع العقل، ثم يعمل ما يراه خيراً ويمدّ رجليه على قدر لحافه وينفق النفقة الضرورية ويترك التبذير ولو كان أغنى الأغنياء. ولا تخشوا قول الناس ما دمتم لم ترتكبوا محرماً ولا ممنوعاً شرعاً. وهل عند الناس إلا أن يقولوا؟! لقد قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم (وهو خاتم الأنبياء): مجنون، وقالوا: ساحر، وقالوا: كذّاب. فليقولوا عنكم ما شاؤوا، ولا تبالوا بسخط الناس إن كنتم قد أرضيتم الله. * * *

لا تؤجل

لا تؤجِّلْ أذيعت سنة 1956 أنا الآن في ورطة؛ يدي تعدّ حقائب السفر، ورجلي في الركاب، وعليّ أن أكتب هذا الحديث وأن أعدّ المحاضرات التي دُعيت لإلقائها في الكويت، والموضوعات تتزاحم في رأسي وتتضارب وتتراكض حتى لأحسّ بها تضرب أصداغي، وكلما شرعت في موضوع ورد عليّ طرف من الموضوع الآخر، حتى تداخلني اليأس، فكدت ألقي القلم وأعترف بالهزيمة. ثم قلت لنفسي: لقد فشلت، ولكن لماذا لا أفكر في أسباب الفشل فأجعل منها موضوع الحديث؟ لقد فشلت لسببين: الأول أني حمّلت نفسي فوق ما أطيق، فأنا أعمل في المحكمة، وأكتب في أكثر من مجلة، وأذيع في الإذاعة، وأعدّ محاضرات. ولو اقتصرت على ما أستطيع حمله وأداءه على وجهه لنجحت. والثاني: أن من طبعي التأجيل والتسويف؛ فأنا لا أزال أؤجل عمل اليوم إلى غدٍ، وأتشاغل عنه وأسوّف فيه حتى لا يبقى للمحاضرة أو الحديث إلا ساعات معدودة، فأركض ركض

الأرنب. وكان خيراً لي وأهون عليّ لو مشيت من أول الوقت ولو مشي السلحفاة. ولكن هل أنا وحدي الذي يحمّل نفسه فوق طاقتها؟ وهل أنا وحدي المبتلى بالتأجيل؟ أما يعدك الخياط أن يسلمك البذلة في نصف رمضان، فلا يزال يسوّف حتى تأتي ليلة العيد والبذلة (¬1) لم تصل إليك؟ أليس السبب أن الخيّاط يُلزم نفسه بعشرين بذلة وهو لا يقدر على أكثر من عشر؟ أوَليس الحذّاء والبنّاء وأصحاب الأعمال كلها مثل الخياط، كلهم يحمل أكثر مما يطيق فيعجز عنه؟ والتأجيل ... أليس التسويف والتأجيل مرضنا جميعاً، بل هو -على التحقيق- رأس أمراضنا الاجتماعية وعلة عللنا؟ كل أب يعرف طريقة لتربية ولده خيراً من طريقته، وكل تاجر يجد أسلوباً لتوسيع تجارته أحسن من أسلوبه، وكل رجل يعرف الطريق لتحسين صحته وإصلاح سيرته في بيته مع أهله وزوجته، ولكن كل واحد من هؤلاء يؤجل الابتداء بهذا الإصلاح يوماً بعد يوم حتى تمر السنون الطويلة وهو لم يفعل شيئاً. كل مدخّن يقول لنفسه: "سأترك التدخين"، ولكنه يؤجل تنفيذ هذه الإرادة من يوم إلى يوم، فتمضي السنوات وهو لا يزال ¬

_ (¬1) «البذلة» في الأصل ثياب التبذل، ولكني أكتب هذه الفصول للعامة فآثرت ما يفهون.

كما كان. وكل مسرف مبذّر يعزم أن يقتصد ويزن نفقاته بميزان العقل، ولكنه يؤجل التنفيذ. وكل فاسق تدركه لحظات يسمع فيها آية أو موعظة، فيرقّ قلبه وتسمو نفسه ويعزم على التوبة ولكنه يؤجل، يقول: "سأتوب إذا جاء رمضان وأرجع إلى الله وأكون من الصالحين"، فإذا جاء رمضان قال: "سأحج وأتوب في الحج"، فإذا ذهب وقت الحج قال: "أنا الآن شاب وسأتوب إذا بلغت أواخر العمر". ويمضي العمر وهو لم يتب ولم يصلح. * * * ونحن لا ينقصنا العلم، بل ينقصنا الشروع في العمل بما نعلم. لا، لا ينقصنا العلم، إن كل واحد منا يعلم أن الكذب شر والصدق خير، وكل واحد منا يعلم أن للوالدين حقوقاً وأن صلة الرحم من الواجبات وأن الغش والظلم والعدوان من أسباب غضب الله، ولكنا لا نعمل بهذا الذي نعلمه. ولقد كان أبي - رحمه الله- كلما أيقظني لصلاة الصبح يقول لي: "لا تتراخَ، اقفز قفزاً". فأتراخى وأتكاسل، ثم أتناوم فلا أرد، أو أردّ ولا أقوم، حتى يمل فيدعني. وأنا أعض أصابعي الآن ندماً لأني لم أسمع هذه الوصية: «اقفز قفزاً». ولو أني سمعتها وعملت بها، أو لو أنه أجبرني عليها، لتغيرت حياتي ولما فشلت في إعداد هذا الحديث، ولكنت في دنياي وفي ديني خيراً مما أنا عليه اليوم. وأنا -إلى الآن- كلما أردت أن أقوم في الصباح أحسّ هذه الكلمة، كلمة أبي تدوي في أذني: "اقفز قفزاً، قم إلى

الصلاة فالصلاة خير من النوم". ثم أسمع صوت الشيطان يقول لي: "نم دقيقة أخرى، فالوقت فسيح، والفراش دافئ والجو بارد". ولا أزال بين داعي الواجب وداعي اللذة، أفكر في ثواب الصلاة فأتحفز للقيام، وأتصوّر لذة المنام وبرد الماء فأسترخي وأتقلب من جنب إلى جنب. ولا تزال نفسي بينهما كنوّاس الساعة (الرقاص)، بين: «قم»، «نم». «قم»، «نم». «قم»، «نم» ... حتى تدركني رحمة الله فأقفز، أو تطلع الشمس وتفوت الصلاة وأقوم وقد مضى الوقت ودنا العمل، فآكل طعامي لقمة بالطول ولقمة بالعرض، ولقمة تعترض في صدري فأغصّ بها، وألبس جورباً على الوجه وجورباً على القفا، وأعقد العقدة مائلة وأزرّر زر القميص الأول في العروة الثانية، وأنسى -من عجلتي- الساعة أو النظارات، وأهرول في الطريق؛ فأسيء هضمي، وأُتعب معدتي، وأُضحك الناسَ عليّ. وكل ذلك لأني أطعت الشيطان -لعنه الله- فلم أقفز قفزاً إلى صلاة الصبح. وأنا أقرأ كل يوم مهما أقللت ومهما كنت مشغولاً أكثر من مئتَي صفحة (¬1)، أكثرها مما لا يفيد علماً ولا يعلّم أدباً ولا يقوّم خلقاً، وأدع عشرات من الكتب الجدية النافعة، مع أني ما اشتريتها إلا لأقرأها. قد صففتها أمامي، ولكني كلما هممت بالشروع فيها أجدها كثيرة فأؤجلها إلى غد، ويأتي الغد فأحذفها إلى ما بعده. وتمضي السنون وما قرأت منها شيئاً، والسبب مرض ¬

_ (¬1) قال الشيخ رحمه الله في حاشية أضافها هنا إلى الطبعة الجديدة من الكتاب التي أصدرتها دار المنارة عام 1409: "وأنا على ذلك منذ سبعين سنة إلى الآن" (مجاهد).

التأجيل والتردد (¬1). هذا المرض الذي طالما أضاع علينا أموالاً ومكاسب، وخيرات ومنافع، وأفقدنا الدنيا والدين، وهو مرض الجماعات منا والحكومات. كلما جاء الصيف شكا الناس من فساد الطرق وسوء السيارات، وقلة الماء، وغلاء البيوت والمآكل، ووضعت الخطط للإصلاح ونهم بأن نشرع بها فيكون الصيف قد ولّى، فنؤجل ونسوّف حتى يجيء صيف جديد. ولما كنت في بغداد سنة 1936 فاض نهر دجلة فيضاناً مخيفاً مرعباً صدع قلوب الناس وكاد يغرق بغداد كلها. ونادى منادي الخطر، وحشدوا الناس من الشوارع لإقامة السدود (¬2)، فلما ذهب الخطر جاء التسويف وبقي الأمر كما كان إلى الآن. ¬

_ (¬1) ما أرى جدي كتب ما كتب في هذه الفقرة والتي قبلها إلا ليجعل من نفسه مثلاً، فيشجّع الناس على تلافي هذا العيب الذي ينبه إليه وينهى عنه: التأجيل والتسويف. ولئن كان هذا الطبع غالباً عليه (كما يشير في مطلع المقال) فما كان يصل به أبداً لدرجةِ صَرْفه عن واجب أو شَغْله عن فريضة. فما عرفته قط -مثلاً- ينام عن صلاة الفجر، لا في عافية ولا مرض ولا في حل ولا سفر، ولا هو كان يوماً من الزاهدين في الكتب النافعة الكبيرة التي يذكرها هنا، بل هو قد قرأ أمّات الكتب وأطول المراجع مذ كان شاباً يافعاً في أول حياته. ولهذا الإيجاز تفصيل أرجو أن أقدّمه للقارئ يوماً في غير هذا المكان إن شاء الله (مجاهد). (¬2) نشرتُ وصف ذلك في «الرسالة».

وكل مشروع من المشروعات الكبرى في بلاد هذا الشرق كلها: إما أن ينام على فراش التخدير بـ «مورفين» التسويف والتأجيل، وإما أن يجيء مرتجَلاً مشوَّهاً كجنين ولد قبل الأوان. إنّا لا نؤدي واجباً في موعده، حتى صارت كلمة «الوعد الشرقي» رمزاً - مع الأسف- للوعد الذي لا يوثَق به ولا يُطمَأَنّ إليه، وكلما أوغلت في الشرق رأيت ذلك أظهر وأوضح، فلا تقام في باكستان حفلة في موعدها ولا يأتي ضيف إلا متأخراً ساعة، مع أنه لو جاز لكل أمة في الدنيا أن تهمل المواعيد وتتراخى فيها لما جاز ذلك للمسلمين، لأن دينهم يقوم على مواعيد مضبوطة ضبط الدقائق والثواني؛ فالذي يصلي قبل موعد الصلاة بخمس دقائق لا تصح صلاته، والذي يفطر قبل أذان المغرب بخمس دقائق لا يصح صومه، والذي يصل عرفة بعد انتهاء وقت الوقوف بخمس دقائق لا يصح حجّه. وكل ذلك لتعليمنا ضبط المواعيد. وإلا فماذا يضر الصائم في الصيف إن صام أربع عشرة ساعة إلا خمس دقائق؟ ألا يصوم في الشتاء اثنتي عشرة ساعة؟ المراد أن نتعود النظام والضبط في أعمالنا كلها، وألاّ نصاب بطاعون التأجيل والتسويف وإخلاف المواعيد. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». فإخلاف الوعد والإخلال به ثلث النفاق! والإسلام لا يعرف هذه الوعود المائعة، الوعود الشامية العتيقة: «قبل الظهر»، «بين الصلاتين»، «بعد المغرب»،

بل يعرف الوعد المضبوط ضبط الساعة، ضبط أوقات الصلاة وأوقات الإمساك والإفطار. * * * يا أيها السامعون والسامعات: إن الذي لا يقفز إلى الفريسة تفلت منه، ومن لا يغتنم الفرصة في وقتها لا يجدها، ومن لا يضرب الحديد حامياً لا يستطيع أن يضربه إذا برد، والذي يؤجّل ما يجب عليه لا يقدر أن يؤديه كاملاً. فيا أيها المدخن: إذا عزمت حقاً أن تترك الدخان فابدأ من الآن، ألقِ الدخينة من يدك ولا تؤجل تركه دقيقة واحدة، لأن الدقيقة تجر دقيقة والساعة تجر ساعة فلا تتركه أبداً. ويا أيها التلميذ الذي يريد أن يستعد للامتحان: ابدأ من الآن، ولا تقل سأبدأ غداً، لأن الغد إذا جاء صار حاضراً وأعقبه غد جديد، فلا ترى إلا الامتحان قد صار أمامك وأنت لم تصنع شيئاً. ويا أيتها المرأة التي تريد أن تصلح نفسها، وتضع عقلها في رأسها فتهتم بأمر زوجها وأولادها لا بالأزياء والاستقبالات وبالكلام الفارغ: اشرعي من الآن. ويا من يعلم أن بعد الدنيا آخرة، وأن بعد الحياة موتاً، وأن لا بد من وقفة للحساب ومشية على الصراط وليس -بعدُ- إلا الجنة أو النار: تب من الآن ولا تؤجل التوبة إلى غد، فإنك لا تدري ما

هو مقدَّر عليك في غد. وليكتب كل واحد منكم هذه الحكمة في لوحة كبيرة: «لا تؤجل عمل اليوم إلى غد»، وليعلقها في صدر مجلسه، ولينظر فيها صباحه ومساءه، وليعمل بها، فهي دستور النجاح وأساس الفلاح: «لا تؤجل عمل اليوم إلى غد». * * *

الحب والزواج

الحبّ والزواج جوابي على سؤال «الأيام» نُشرت سنة 1959 تطلع علينا «الأيام» كل يوم باستفتاء أو سؤال تحرّك به ما جمد من العقول وتوقد به ما خمد من القرائح، تدفع الكتّاب إلى إعمال العقل وإجراء القلم، فيستمتع القراء بثمرات عقولهم وحصاد أقلامهم. وكان من آخر ما طلعت علينا به السؤال عن الزواج: هل يمكن أن يُبنى على الحب وحده؟ وعن سن الزواج: متى يحسن بالرجل أن يتزوج؟ وبدت طلائع الأجوبة، فكان منها ما هو عجب من العجب. وأنا لا أحبّ أن أجادل أحداً ولا أن أردّ على أحد، وإنما أدلي بالرأي الذي أراه، فمن كان يثق بي واتّبع رأيي فَبِها وَنِعِمّت، ومن خالفني وعصاني فلست مسؤولاً عنه ولا أنا عليه بوكيل. وقبل الجواب على السؤال الأول، أحبّ أن أفهم ما هو هذا الحب الذي تسألون عنه؟ إن الله خَلَق في الإنسان غريزتين؛ غريزة لبقاء ذاته، وغريزة

لبقاء نوعه. فبالأولى يسوقه لَذْعُ الجوع إلى ابتغاء الطعام ليدفع بالشبع الموت عن نفسه، وبالثانية يسوقه وَقْدُ الشهوة إلى الاقتراب من الأنثى ليمنع بالنسل الانقراض عن جنسه. وقد يكون الطعام بين يديك في المطعم وثمنه في جيبك، تفكر فيه فتراه أمامك، ويكون الجنس الآخر في مِلْكك، ويكون حلالاً لك قِيدَ (¬1) طلبك، فلا تشغل بتصوّره ذهنك ولا تُكدّ بانتظاره أعصابك. وقد يكون الجوع موجوداً والطعام مفقوداً، فأنت كلما قاسيت مرارة الجوع ازدادت في تصورك حلاوة الطعام، فإذا طال الأمد صار لك (كما يقول علماء النفس) فكرةً ثابتة، فأنت لا تفكّر إلاّ فيه ولا تحن إلاّ إليه. وتكون الرغبة الجنسية موجودة والجنس الآخر مفقوداً، فيكون عندك من التفكير فيه مثل تفكير الجائع في الطعام. وهذا هو الذي نسميه الحب، وهو أشدّ من تفكير الجائع بالطعام، لأنه حين يطلبه لا يفكّر في لونه ولا في جنسه، والجائع الجنسي قد تستقر رغبته في امرأة بعينها تنحصر دنياه كلها فيها. إنه يطلب أن ينظر إليها ويحدثها، فهل ترونه يكتفي إن رآها بالنظر؟ هل تظنون أنه إن حدثها قنع بالحديث (¬2)؟ إنه كالجائع، فهل يكفي الجائع أن يرى الطعام ويشمه وينظم في وصفه الأشعار ويصوغ القوافي؟ ¬

_ (¬1) انطقها كما تنطق «عيد». و «قِيدَ» يدك و «قَادَ» يدك كلتاهما بمعنى واحد؛ أي على قدر مد يدك (مجاهد). (¬2) انظر تفصيل القول في «الحب» في كتابي «صور وخواطر».

لا يا أولادي، لا والله العظيم؛ إنه لا يريد جمالها لعينه ولا حديثها لأذنه، ولكنه يريد قفلها لمفتاحه (¬1). إنها غريزة النوع لا يرويها إلاّ ما يتمّ به النسل. وما الحب (مهما زخرفه الشعراء وزوّقه الأدباء) إلاّ رغبة في الاتصال الجنسي لم تجد طريقها. إن الحبّ العذري الشريف حديث خرافة لا تروج سوقه إلاّ على المجانين والشباب. هذه حقيقة من أنكرها وجد الردّ عليه في نفسه، إن في كل نفس الدليل على أنها حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، فهل يصلح الحب وحده أساساً للزواج؟ إن الحبّ جوع نفسي، فهل يستطيع الجوعان أن يحكم على جودة الطعام؟ ألا يزيّن له جوعه المجدّرة حتى يحسّ لها تحت لسانه طعم الخروف المحشي؟ فإذا زالت لذعة الجوع عادت المجدّرة مجدّرة، وتبيّن أنها لم تكن خروفاً إلاّ في أوهام الجوع. كذلك المحبّ؛ إنه يسبغ من حبّه على المحبوب ثوباً براقاً يراه به أجمل الناس. فإذا تزوجها لهذا الثوب الذي يغريه بها، ثم زال عنها لمّا زال الحب، لم يبقَ بينهما زواج، لأنه ما تزوج بها ولكن تزوّج الثوب الذي أسبغه خياله عليها. وما دام الحب في حقيقته اشتهاء للقاء الجنسي، فلا بدّ أن يزول إن زالت هذه الشهوة، ولا بدّ أن يعقل المجنون فتعود ليلى في نظره امرأة كسائر النساء فلا تبقى له فيها رغبة، كما تذهب رغبة الجائع في الطعام إذا ملأ معدته منه. إنه رباط مؤقت ينقطع من الملامسة الأولى (وأنتم ¬

_ (¬1) وأنتم تفهمون ما هي الحكاية!

تفهمون ما معنى الملامسة!) والزواج صلة دائمة تحتاج إلى رباط دائم يقوى بالملامسة ويشتدّ، ولا يزداد على الأيام إلاّ قوّة وإحكاماً. وأنا من مدمني النظر في آداب الأمم كلها، ولا أحصي القصص التي قرأتها لكبار الأدباء في موضوع الزواج الذي يُبنى على الحب، ونهايتها كلها الشقاق والفراق. ولا تغتروا بأمثال آلام فرتر ورفائيل وماجدولين وبول وفرجيني وكرازييلا وجوسلان والأجنحة المتكسّرة، فهذه كلها صور لمرحلة الرغبة التي تكلّمت عنها، ولو تزوّج كل واحد من أبطالها بالتي يعشقها زواج حب فقط لكانت خاتمة القصة الطلاق! لا؛ لا يصحّ أن يُبنى الزواج على الحبّ وحده إلاّ إن صحّ أن تُبنى العمارة الضخمة على أساس من الملح في مجرى الماء! إنما يُبنى الزواج على التوافق في التفكير والسلوك والوضع الاجتماعي والحالة المالية، وبعد هذا كله تأتي العاطفة، فينظر إليها وتنظر إليه، أي ينظر إلى وجهها وكفّيها فقط بحضور وليّها أو أحد محارمها، لا كما أفتى ذلك الشيخ الخبّاص (¬1) الباقوري. فإن ألقى الله في قلب كل منهما الميل إلى الآخر صار هذا الميل مع الزواج حباً هادئاً مستمراً، وإن أحسّا نفرة أو عزوفاً أغنى الله كلاًّ منهما عن الآخر. هذا جوابي على السؤال الأول. (أما جواب السؤال الثاني ¬

_ (¬1) الخبّاص: أي الخلاّط، كلاهما من العامي الفصيح.

فقد طال المقال وضاق عنه المجال؛ فأمهلوني في الكلام عليه إلى الإثنين القادم إن شاء الله) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) السطران الأخيران (بين الأقواس) لم يظهرا في الطبعات السابقة من الكتاب، وقد أحببت أن أثبتهما هنا لارتباط هذه المقالة بالتي تليها. وهما منقولان من آخر المقالة الأصلية التي صدرت في جريدة «الأيام» يوم الإثنين 29/ 6/1959، وكانت واحدة من مجموعة مقالات دأب الشيخ -رحمه الله- على إصدارها في «الأيام» في تلك السنة والتي تلتها تحت عنوان «كل يوم إثنين مقالة» (مجاهد).

السن المناسبة للزواج

السنّ المناسبة للزواج (¬1) نُشرت سنة 1959 أما الإجابة على السؤال الآخر، فإن كان يكفي فيه أن ينطق المسؤول بأول عدد يخطر على باله، لا يُطالَب بدليل ولا بتعليل، قال قائل: «ثلاثين» وآخر: «أربعين». وإن كان يجب في الجواب أن يكون موافقاً لفطرةِ الله التي فطر عليها النفوس وطبيعةِ الكون التي طبع عليها الأشياء، فلا بدّ لي -قبل الإجابة- من تقديم هذه المقدمة. قد قلت لكم إن الله وضع في نفس الإنسان غريزتين: غريزة حفظ الذات التي تدفع إلى الأكل، وغريزة حفظ النوع التي يكون بها النسل، وما يصحّ في إحداها يصحّ في الأخرى. فخبّروني متى ¬

_ (¬1) هذه المقالة تتمة للتي سبقتها (الحب والزواج)، فينبغي أن تجيء بعدها في ترتيب الكتاب. وكذا كان الأمر في طبعات الكتاب الأولى، لكن تغييراً وقع في ترتيب المقالات في الطبعات اللاحقة (أحسب أن الذي صنعه هو جدي رحمه الله) فجاءت المقالة الأولى في أوله (التاسعة بين مقالاته) وأُقصيت تتمتها هذه إلى آخره، فصارت الرابعة والثلاثين، وصار بينهما أربع وعشرون مقالة! فاجتهدت أنا هنا فأعدت ترتيب المقالات بحيث يتصل جزء الحديث الأول بجزئه التالي (مجاهد).

يأكل الإنسان أخبركم متى يتزوّج. متى يأكل؟ تقولون: عندما يجوع. فليتزوّج إذن عندما «يشتهي»؛ أي عندما يبلغ مبلغ الرجال، أعني في الثامنة عشرة من العمر. تقولون: وإذا لم يجد أسباب الزواج مجتمعة له وهو في هذه السنّ، فماذا يصنع؟ فأقول: يصنع ما يصنعه الجائع الذي لا يجد الطعام، يصبّر نفسه حتى يجد الطعام. تقولون: فإن لم يستطع الجائع أن ينتظر، ورأى الطعام أمامه فسرقه وأكله وارتكب في سبيله الجرائم، فماذا نصنع نحن؟ فأقول: إن على المجتمع أن يمهّد لكل جائع سبيل الوصول إلى الطعام لئلاّ يسرق أو يجرم، فإن منعه من الأكل مانع اضطراري وخيف منه السرقة وجب أن يحفظ الناس أموالهم منه. فهو -من جهة- محق لأن المجتمع حرمه الطعام وهو حقّ له، وهو -من جهة- مبطل لأنه أخذ ما ليس له. وهذا هو القول في الزواج: الوقت الطبيعي للزواج هو وقت البلوغ، ولكن الشابّ يكون في هذه السنّ في المدرسة، لا مورد له ولا مال في يده، ويستمر في الدراسة إلى سن خمس وعشرين على الأقل. أي أن الظروف الاجتماعية التي اصطلح الناس عليها جاءت مُصادِمة ومُناقِضة

لطبائع النفوس وحقائق الأشياء. فماذا نصنع؟ ماذا يصنع الشاب وهو مضطر أن يمضي هذه السنين العشر بلا زواج، مع أن هذه السنين العشر هي أشدّ سني العمر شدّة في الشهوة وإحساساً بها؟ إن الله وضع بين جنبيه ناراً متّقدة إن لم يطفئها بالزواج أحرقت بالألم نفسه أو أحرقت بالزنا بيوت الناس، وها هنا تستقر المشكلة، وهذا ما يجب أن يكون فيه البحث. وإن من أسهل السهل على من يكتب هذا الموضوع أن يستلقي على كرسيّه، ويأخذ نفساً عميقاً من دخينته، ويقول ببطء وتمهُّل: إن رأيي أنّ سن الزواج المناسبة هي الثلاثون ... هذا رأيك، ولكن هذا لا يحلّ المشكلة. إن الكلام بالمجان، والحاكم الذي ينطق بحكم الإعدام لا يكلّفه ذلك من التعب إلاّ أن يفتح فمه ويحرّك لسانه، ولكن المصيبة إنما تقع على رأس المحكوم عليه. والمحكوم عليه هنا هو الشاب ... والشابّة أيضاً. وإذا كانت طبيعة الشاب وغريزة نفسه توقظ في نفسه الجوع الجنسي في سن الخامسة عشرة، وأخونا المفكر المحترم يحكم عليه بألاّ يتزوّج إلاّ في سن الثلاثين، فماذا يعمل في هذه الخمس عشرة سنة؟ لا سيما وأن هذا المجتمع الذي يمنعه من الزواج فيها، لا يترك وسيلة لزيادة هذه النار اشتعالاً في نفسه إلاّ عمد إليها، وكلما نسي المسكين هذه الشهوة ذكّرناه بها: بالصور العارية،

والأفلام الخليعة، والعورات البادية، والاختلاط المتفشي. إنْ مشى في الطريق وجد المغريات، وإن دخل الكليّة وجد المغريات، وهو يجد المغريات في كل مكان، ونحن نوجب عليه أن يحمل ذلك العبء خمس عشرة سنة، ونقول له بعد ذلك: انصرف إلى دروسك وإلى مطالعاتك، وإياك أن تفكر في الفاحشة أو تقترب منها! أُقسم بالله إن من يُحكَم عليه بالسجن خمس عشرة سنة ليس أشدّ حالاً من الشاب الذي تكلّفه بهذا كله! فما العمل؟ العمل أن نعود إلى الطبيعة ونتبع حكم الفطرة؛ فإنه لا يستطيع بشرٌ أن يحارب فطرة الناس وطبيعة الأشياء. وأن نرجع إلى عادة أجدادنا فنزوّج الشاب في الثامنة عشرة والبنت في السادسة عشرة، فإن لم يمكن فلا أقلّ من أن نربّي أولادنا على خوف الله وعلى متانة الخُلُق، وأن ننظف مجتمعنا من كل ما يذكّر الشاب (الذي اضطررناه إلى العزوبة الجَبرية) بما نسي من شهوته، وأن نمنع منعاً باتاً كل ما يغريه بالمعصية ويسوقه إليها، وأن يحمي الآباء بناتهم من أن يسرق أحدٌ أعراضهنّ كما يحمون أموالهم من اللصوص أن تمتد أيديهم إليها. هذا هو الجواب، وأنا واثق أن كل من يقرؤه سيقول إنه صحيح، ولكن لن يعمل به أحد، مع الأسف! * * *

طريق السعادة

طريق السعادة أُذيعت سنة 1958 ورد عليّ في بريد هذا الأسبوع كتاب من أخ من أوساط الموظفين، كتب إليّ ثائراً فائراً، يذم الدهر ويشكو الزمان لأن مرتبه وهو الذكي العالِم المستقيم (كما يقول عن نفسه) لا يبلغ ربع ما يناله زميل له ليس له ربع ذكائه ولا علمه، وكلما طالَبَ منعوه ما هو حق له وحرموه منه، فكان تحكّم بشر مثله في رزقه أشدَّ عليه من ضيق الرزق ... إلى آخر ما قال. ولقد مرّ بي -أنا- مثل هذه المحنة، حين خطبت أيام الحكم العسكري في الشام، من بضع سنوات، تلك الخطبة التي حملها المذياع من منبر مسجد الجامعة السورية إلى آفاق الأرض (¬1)، فأغضبت عليّ الحكومة حتى نال مني الحاكمون في منصبي وفي رزقي. وقعدت عشيةً مَغيظاً محنقاً، لا لنقص المرتب وضياع ¬

_ (¬1) أحسب أن الخطبة المقصودة هي تلك التي ألقاها الشيخ -رحمه الله- بمناسبة «رقصة السماح» التي أقيمت في دمشق سنة 1951. راجع الحلقة 136 في الجزء الخامس من «الذكريات» (مجاهد).

المنصب، بل غضباً لحريتي وكرامتي، وأنَفَة من أن يتحكم فيّ إنسان مثلي ويُملّك التصرف في عملي وفي رزقي. وأظلم عليّ الليل وأنا مستغرق ذاهل، أداري من نفسي غضبة أخشى أن تتفجّر تفجّر القنبلة ... وكان في غرفتي شعبة من الرادّ، فسمعت القارئ يقرأ حتى بلغ قوله تعالى: {نَحنُ قَسَمْنا بينهم معيشتَهم في الحياةِ الدُّنيا}، فتنبّهت إليها كأني ما سمعتها قطّ، وكأنما نزل بها جبريل الساعة على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأحسست أنها جاءت برداً على كبدي وسلاماً، فسكت عني الغضب وامَّحَتْ عن عيني الغشاوة، ورأيت حقيقة القدر رأي العين. وقلت: يا رب، إن كنت أنت الذي قدّر وقسم وأنت الذي أعطى ومنع فأنا راضٍ بما قسمت لي. * * * أسمعت؟ أسمعت يا أخي؟ هو الذي قسّم المعاش، هو الذي قدّر الأرزاق، وما يملك هؤلاء الناس عطاء ولا منعاً. ما الناس إلاّ وسائط، فهل تغضب على محاسب الدائرة في أول الشهر إذا أعطاك مئة وأعطى الرئيس مئتين؟ وما ذنبه حتى تغضب عليه؟ أهو الذي وضع المِلاكات وحدّد الرواتب، أم هو منفذ لما قُرّر من قبل وأُمضي؟ هذا هو مَثَلك ومثل من تظن أنهم أعطوك أو منعوك وأنهم قدّموا غيرك وأخّروك؛ إن هم إلاّ محاسِبون، أما الذي قرر جداول الأرزاق من الأزل وحدّد مقاديرها فهو الله رب العالمين، فما كان لك فسوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك. أتستطيع أن تنال ليرة من راتب زميلك مهما كنت قوياً

وكان ضعيفاً؟ ولو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوك لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو أجمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف. فإذا لم يكن لك كل ما تريد، فلماذا لا تريد كل ما يكون فتستريح وتريح؟ وهذه هي نعمة الإيمان بالقدَر. وليس معنى الإيمان أن تستلقي على ظهرك وتنتظر أن ينزل عليك رزقك من السقف، فإن السماء (كما قال عمر) لا تمطر ذهباً ولا فضة، بل أن تجِدّ وتسعى وتعمل للدنيا كأنك تعيش فيها أبداً، وأن تجمع المال من كل وجه حلال، وأن تضرب في آفاق الأرض وتأخذ بأسباب الرزق ولا تدّخر جهداً هو في طاقة البشر لا تبذله للغنى. فإن لم تصل -بعد ذلك كله- إلى ما طلبت فلا يدفعك اليأس إلى الانتحار ولا يُسْلمك الغم إلى المرض، بل تعزَّ وارْضَ، وقل: لقد عملت ما عليّ ولكن الله لم يكتب لي النجاح، وأنا راضٍ بقضاء الله. هذه هي حقيقة الإيمان في دين الإسلام، ليست تسييباً وكسلاً كما يظنها العوام وأشباه العوام. وأنت تعرف قصة الرجل الذي ترك ناقته على باب المسجد ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج لم يجدها فرجع فقال: يا رسول الله، ناقتي! تركتها وتوكلت على الله فضلّت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيِّدْها وتوكل على الله» (¬1). ¬

_ (¬1) من الحديث الذي رواه الترمذي عن أنس؛ قال رجل: يا رسول الله، أعقلُها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل» (مجاهد).

هذا هو الإيمان. إن الله جعل الكسب مَنوطاً بالعمل، والنبات مقروناً بالحرث والزرع، والشفاء موقوفاً على الطب والعلاج. فمن قعد وطلب الربح لم يربح، ومن أراد الحصاد ولم يزرع لم يحصد، ومن طلب الشفاء ولم يتداوَ لم يُشْفَ. والله لا يُبَدّل قوانين الكون وسنن الوجود إرضاء لكسول أو خَمول. فاعمل وادأب، وخذ وطالب، ولا تسكت عن حقك ولا تقصّر في ابتغائه، ولكن لا تدع اليأس يدخل عليك والحقد الأسود يأكل قلبك، ولا تقل: ما لفلان وفلان؟ فلقد كنت يوماً مثلك؛ أجد من هم دوني ومن كانوا تلاميذي قد حازوا الجاه والمال وبلغوا أعلى المناصب فأتألم، ثم قلت لنفسي: "يا نفس ويحك، ومن أعطاك العهد على أن تكوني أبداً فوق الناس، أوَليس خيراً لك يا نفس أن أدخل على وزير أو كبير فيجلّني ويراني مثله، من أن أدخل على من يستصغرني ويراني دونه، أوَلست في خير؟ أوَلا أتقلّب في النعم؟ وبرئت من مرض الحسد فاسترحت، وصرت أنظر إلى نعم الله عليّ فأراني لا أستحق بعضها. وهأنذا اليوم لا أشكو شيئاً وأعبّ السعادة، والله، عبّاً. وليس في الدنيا أحدٌ لا يجد من هو أفضل منه في شيء ومن هو أقلّ منه في أشياء. إن كنت فقيراً ففي الناس من هو أفقر منك، وإن كنت مريضاً أو معذَّباً ففيهم من هو أشدّ منك مرضاً وأكثر تعذيباً، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك؟ إن كنت تعرف مَن نال من المال والجاه ما لم تنله أنت وهو دونك ذكاء ومعرفة وخُلقاً، فلمَ لا تذكر مَن أنت دونه

أو مثله في ذلك كله وهو لم ينل بعض ما نلت؟ وفلسفة الرزق أدقّ من أن تُدرَك وأبعد من أن تنال. وانظر إلى الناس ترَ منهم الغوّاصين الذين جعل الله خبزهم وخبز عيالهم في قرارات البحار فلا يصلون إليه حتى ينزلوا إلى أعماق الماء، والطيارين الذين وضع خبزهم فوق السحاب فلا يبلغونه حتى يصعدوا إلى أعالي الفضاء، ومَن كان خبزه مخبوءاً في الصخر الأصمّ فلا يناله إلاّ بتكسير الصخر، ومَن رزقه في مجاري المياه الوسخة أو المناجم العميقة التي لا ترى وجه الشمس ولا بياض النهار، ومَن يأخذه بيده أو برجله أو بلسانه أو بعقله، ومَن لا يصل إلى الخبز إلاّ ببذل روحه وتعريض مهجته للهلاك، كلاعب (السِّرْك) الذي يترصّده الموت في كل مكان، فإن لم يدركه ساقطاً على رأسه أدركه وهو بين أنياب الأسد أو تحت أرجل الفيل! فاحمد الله أن جعل رزقك على مكتبك، تصل إليه وأنت قاعد على كرسيّك، لم يجعله في رؤوس الجبال، ولا في أعماق البحار، ولا في مواجهة الأسد والنمر. وهذه المزايا التي تقول إن الله أعطاكها: مَزيّة الفهم والجِدّ والدأب والاستقامة والأمانة، أليست نِعَماً تستحق أن تحمد الله عليها؟ أوَترضى أن تزداد مالاً وأن تكون عيياً غبياً، أو جاهلاً أو خاملاً، أو لصاً أو مجرماً؟ فلا تأسف إذا أُعطيت هذه النعم كلها وحُرمت المال الوفير، بل ائسَفْ إن حُرِمتَها وأُعطيتَ أموال قارون. وهل السعادة -يا أخي- بالمال؟ ما المال إن لم تُشرَ به

متعة عيش، أو لذة نفس، أو مكرمةٌ يبقى ذكرها، أو صالحةٌ ينفع أجرها؟ المال وسيلة، فإن لم يُتوسَّل به إلى نعيم الدنيا أو سعادة الآخرة كان ورقاً مصوَّراً أو معدناً برّاقاً. كالذي زعموا أنه كان له دعوتان مستجابتان، فدعا ربه أن يجعل كل شيء تمسّه يده ذهباً، فأعطيها فكاد يطير عقله من الفرح، وانطلق يلمس كل ما يجد فيحوّله ذهباً، حتى جاع فأخذ الصحن ليأكل فصار ما فيه من الطعام ذهباً، وعطش فحمل الكأس ليشرب فصار ما فيها من الماء ذهباً، فقعد جوعان عطشان، فأقبلت ابنته تواسيه، فعانقها، فصارت تمثالاً من الذهب. فدعا ربه الدعوة الثانية: أن يعيد كل شيء كما كان، لأنه أدرك أن الرغيف للجائع والكأس للعطشان والبنت للأب خيرٌ من ملء الأرض ذهباً. وأنت تستطيع بمُرَتّبك القليل -إن أحسنت التصرف فيه واستشعرت الرضا به- أن تكون أسعد ممن له الآلاف المؤلفة من الليرات. وأنا أعرف رجالاً يدخل على الواحد منهم في يومه ما لا يدخل عليّ في السنة والسنتين من المال، وأنا أعيش عيشاً أرفه وأرغد مما يعيشون: لا آكل أطيب مما يأكلون ولا ألبس أفضل مما يلبسون ولا أُمتِّع نفسي أكثر مما يتمتعون، ولكن أرضى أكثر مما يرضون. ولي بعد ذلك لذائذ هم محرومون منها: لذة المطالعة أمام المدفأة في ليالي الشتاء، ولذة التفكير الحالم في الفراش قبل النوم، ولذة المناظرة في مجالس العلم والأدب، ولذة المحاضرة في النوادي والإذاعات. وهم يحتاجون إليّ؛ يسألونني فأعلمهم ويجيئون إليّ فأحكم بينهم، وأنا لا أحتاج إلى واحد منهم لأنهم

إنما يَفْضُلونني بالمال، وأنا لا أطمع في أموالهم ولا أرضى أن آخذ منهم. وأنا إن أردت القناعة والرضا وجدت من المال ما يكفيني، وإن لم أقنع ولم أرضَ لم تكفني أموال الدنيا. وما يصنع بالمال مَن يدخل عليه في شهره العشرة الآلاف، والعشرون والخمسون، من كبار التجّار والموسرين؟ أيمكن أن يلبس الرجل عشر بذلات معاً؟ أو أن يأكل عشرين رغيفاً في غداء؟ أو ينام على خمسة أسرة في وقت واحد؟ إلاّ أن يكون الإنفاق في السرف والترف والفسوق والعصيان، وهذا شيء ليس له حدود، ويمكن أن ينفق المرء في ليلة واحدة على الخمر والعهر ما جمعه في عشر سنين ... ويمكن أن يشعل دخينته (سيكارته) بورقة أمّ مئة ليرة، ولكن هذه كلها أفعال السفهاء المجانين، ونحن نتكلّم عن العقلاء من الناس. ولقد بقيت مرة وحدي في المحكمة الشرعية القديمة، فقعدت أمام البحرة (¬1) وأردت أن تمتلئ حتى يفيض الماء من جوانبها، ففتحت «السّباع» كلها، فتدفق الماء ولكنها لم تمتلئ، فعجبت وقمت أفتش فوجدت «الهارب» الكبير مفتوحاً، فسددته ففاض الماء. فعلمت أنه ليس العبرة بفتح «السبع» ولكن بسدّ «الهارب»؛ العبرة بتقليل المصروف لا بتكثير الوارد. فلا تَاسَ على نفسك ¬

_ (¬1) البحرات: البِرَك التي تكون في بيوت الشام القديمة، فيصب الماء إليها من تماثيل من النحاس على هيئة السّباع، لذلك يسمى مصب الماء «السبع» ومجراه «الهارب».

إن قلّ مرتبك وارضَ فإن الرضا هو السعادة، يفتش عنها الناس ويبحث عنها الفلاسفة ويهيم بها الأدباء، وهي تحت أيديهم، كالذي يفتش عن نظّاراته في كل مكان ويسأل عنها في الدار كل إنسان، والنظارات على عينيه! السعادة بالرضا والإيمان. * * * واعلم -بعدُ- أن كل حال إلى زوال، فلا يفرحْ غني حتى يطغى ويبطر ولا ييأسْ فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم ولا يدوم غنى، وكم من رجال نشؤوا على فرش الحرير وشربوا بكؤوس الذهب، وورثوا كنوز المال، وأذلوا أعناق الرجال وتعبّدوا الأحرار، فما ماتوا حتى اشتهوا فراشاً من صوف يقي الجنب عَضَّ الأرض ورغيفاً من خبز يحمي البطن من قرص الجوع. وآخرون قاسوا المِحَن والبلايا وذاقوا الألم والحرمان وطووا الليالي بلا طعام، فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم وتكاثرت الخيرات، وصاروا من سُراة الناس. وهل في الدنيا غني لم يكن -يوماً- أو لم يكن أبوه أو جدّه فقيراً؟ وكم في الدنيا من فقير صار أو صار ولده أو حفيده ربّ الملايين! فلا ييأس أحد؛ فربما صار ابنُ فرّاش المحكمة رئيسَها وصار ابنُ الرئيس فرّاشها، وغدا ولد صاحب الأرض فلاحاً يشتغل بطعام يومه. وإنما هي الأيام يداولها الله بين الناس، ككرة الملعب: ما تكون بيدك إلاّ ريثما تنتقل إلى غيرك. والعمر كله ماضٍ، فهل يبقى لك المال إن ذهبت الحياة؟

وسيسوّي الموت بين الأحياء جميعاً: الغني والفقير في نظر الدود سواء، والمالك والأجير، والصعلوك والأمير، والكبير والصغير؛ كلهم يصير إلى البلى والانحلال، ثم يلقى السعادة الدائمة أو الشقاء الخالد. قم في المقبرة تَلْقَ قبراً يشمخ بأنفه كِبراً على القبور، يُزْهى بالرخام المجزَّع المنقوش (¬1) ويضحك بالزهر والورد، وآخر متعثراً بالطين يئن تحت أقدام السائرين، وقبراً ثالثاً قد مات كما مات من فيه فعاد القبر تراباً في الأرض ... تتفاوت المظاهر ولكن اتحدت البواطن، فما فيها كلها إلاّ رمم بالية وعظام نخرة، لا تختلف رمة عن رمة ولا عظام عن عظام، ولا تميز جمجمة الملك من جمجمة الصعلوك ولا ساق القاضي الذي حكم من ساق المجرم الذي حُكِمَ، وما ردَّ قبرٌ الحياةَ على ميت ولو كان قبر الإمبراطورة شاهجهان (¬2). ما يبقى للميت إلاّ الذكر في الدنيا والعمل للآخرة. وما الذكر -إن حققت- وما الشهرة إلاّ خدعة كبرى ليس وراءها شيء، سراب. والعمل الصالح هو وحده الباقي. * * * ¬

_ (¬1) أعاد الشيخ رحمه الله نشر هذه المقالة في سلسلة «صور وخواطر» التي نشرها في جريدة «الشرق الأوسط» سنة 1988، وفي هذا الموضع من المقالة أضاف حاشية قال فيها: "مع أن بناء القبور وتعليتها لا يجوز في دين الإسلام" (مجاهد). (¬2) تاج محل، أجمل بناء شيد على ظهر هذه الأرض.

لصوص الوقت

لصوص الوقت أذيعت من دمشق سنة 1952 لي عادة قبيحة هي أن أسير في عملي على قاعدة «لا تؤخر إلى الغد ما تستطيع عمله بعد غد»؛ فأنا أرجئ كتابة مقالاتي وأحاديثي إلى اللحظة الأخيرة، ثم أجمع ذهني وأسرع في كتابتها. أي أني على طريقة الأرنب لا على طريقة السلحفاة. وقد قال أناتول فرانس: «ليقل لافونتين ما شاء، فإن الأرنب تسبق السلحفاة دائماً». فلما كلفتني محطة الشرق الأدنى بهذا الحديث أخّرته، حتى إذا لم يبقَ على موعد تسجيله إلاّ ساعتان ومدةُ السفر إلى بيروت اعتكفت في غرفتي وبدأت أفكر في الموضوع، فلا أعتمد موضوعاً. وإني لفي تفكيري، وإذا بباب الغرفة يُفتح بلا إنذار ولا إعذار ولا استئذان، وإذا بشابين غريبين عني لا أعرفهما يدخلان عليّ دخول ألمانيا على بلجيكا في الحرب الماضية، أما أحدهما فله رأس كبير كرأس دب هائل، قد نفش شعره من فوق ومن الجانبين حتى كأنه ديك حبش (¬1) قد خرج من معركة ... ووضع ¬

_ (¬1) ويسمى الديك الرومي.

فوق فمه شاربين لا شرقيين ولا غربيين، يمتدان فوق الشفتين كأنهما حاجبا فتاة، ثم ينزلان على جانبي الفم كذنَب الفأر، وقد منحه الله أكبر قسط من الغِلاظة (بكسر الغين) (¬1) والعياذ بالله ... أما الآخر فقد حَفَّ جانبَي رأسه وعند صدغيه كأن قد لحستهما قطة وهو نائم، وأطال شعره من فوق ... على طريقة العم سام. وقعدا. وخرجت أسأل في الدار مَن أدخل عليّ هذا البلاء، فإذا هي ابنتي الصغيرة سمعت قرع الباب ففتحته، ورأت الضيوف فأدركتها نوبة مبكرة من حُمّى الكرم الشرقي الذي لا يرد ضيفاً أبداً، فأدخلتهما وأشارت بأصبعها الصغيرة إلى غرفتي، فهبطا عليّ كموت الفجأة! وسلّما فرددت رداً ضعيفاً فاتراً، وسألتهما بشيء من الجفاء عن الخدمة التي أستطيع أن أؤديها لهما. وهذا معناه في البلاغة الجديدة: "انصرفا فلست مستعداً لأن أؤدي لكما خدمة". فانطلق الغليظ ذو الشعر المنفوش وأخذ يتكلم متحذلقاً متفيهقاً متفاصحاً بصوت يخرج نصفه من أنفه ونصفه من بطنه، والباقي (إن كان بقي شيء) يبلع بعضه ويجترّ بعضاً ... وجعل يدور ويقدم المقدمات من قبل الطوفان، وأنا أتصبّر وأكاد أنشقُّ من الغيظ وأحس أن كل عصب من أعصابي يُسحب كوتر العود ثم يُطلَق ... ¬

_ (¬1) هذه الكلمة من عامية أهل الشام، لكنهم يلفظونها بفتح الغين. وقد كان من عادة الشيخ أن يشير إلى مثلها في حواشي كتبه على أنها من العامي الفصيح، لكنه اكتفى هنا بضبطها بين قوسين في متن النص. في المعجم: "رجل فيه غِلاظَة: فيه شدة وقسوة" (مجاهد).

وكلما وقف عند جملة ابتسم ابتسامة تقطع الرزق وتأمّل نفسه معجباً كعجوز متصابية أمام مرآتها تقول: ما أجملني! فإذا أخونا المحترم يريد أن يؤلف فرقة مسرحية، ولم يَرَ في الأدباء من هو أحقّ مني بشرف تأليف الرواية الأولى لها. قلت: وكم مدة التمثيل؟ قال: نصف ساعة فقط. قلت: تدفعون مئتي ليرة؟ ولا أطيل على القراء وصف ما كان، ويستطيعون أن يتصوروا النتيجة بسهولة، إلاّ أن ما لا يستطيعون تصوره هو أن الأخ قال لي وهو خارج: بَسْ آسف. إنّا لم نكلفك شيئاً، إنها لا تكلفك إلاّ ساعة من وقتك. * * * لا تكلفني شيئاً إلا ساعة من وقتي! هذا هو الموضوع الذي كنت أفتّش عليه، لقد وجدته. الموضوع هو سرقة الوقت، والوقت هو العمر، وهو أعزّ شيء على الإنسان. ولولا الوقت ما كسب مال، ولا حصل علم، ولا نال أحد دنيا ولا ضمن أخرى، فهل في السرقات أفظع وأعظم من سرقة أوقات الناس؟ ومن منا لا يشكو منها ولا يتألم؟ ثم لا يستطيع أن يدفع ذلك، ولا يستطيع أن يشكو أمره إلى القاضي، لأن القانون جعل سرقة خمس ليرات جريمة يعاقَب فاعلها وترك من يسرق الوقت الذي يساوي ألف ليرة لا يعاقبه ولا يعاتبه.

فماذا أصنع وكيف أفرّ من هؤلاء الذين يسرقون وقتي؟ آتي المحكمة منذ الصباح لأدقق في دعاوى اليوم فيدخل عليّ صديق ثقيل، لا يمنعه إغلاق الباب ولا بكور الوقت، فأحاول صرفه بالحسنى فأحادثه حتى أظن أني قد قمت بحقه وأنه قد سكت فأنصرف إلى عملي، فلا أكاد أجمع ذهني وأقبل على أوراقي حتى يفتح فمه ويلقي الجوهرة: "كيف الصحة؟ " ... "الله يحفظكم، الحمد لله. بس الشغل كثير، كل يوم نحو أربعين دعوى كما ترى، فأنا آتي باكراً لأدققها". وأقول في نفسي إنه لو كان حيواناً لفهم الآن. وأرجع لعملي مطمئناً، فلا تمضي مدة حتى يلقي جوهرة أخرى: "قضايا الطلاق كثيرة مو هيك؟ " (¬1)، فأجيب بما تيسر، ويسكت. فأعود إلى عملي، فلا أكاد أستغرق فيه حتى ينطق المحترم فيقول: "يمكن القضاء مزعج؟ "، فأنفزرُ (¬2) وأنفجر وأنسى كل آداب الاجتماع وأصرخ فيه: "بل أنت والله المزعج، مانك شايف شغل جاي تتسلى على حسابي؟! ". ويذهب يحدّث الناس بأني غليظ شرس، مغرور بالوظيفة، قليل التهذيب. ويشيع فيّ مقالة السوء. فماذا أصنع أيها القارئ الكريم؟ وأكون ماشياً في الطريق مستعجلاً مسرعاً إلى موعد لا بدّ منه وقد قدّرت أن أصل على الدقيقة، فيطلع عليّ غليظ كأنه مارد ¬

_ (¬1) «مو هيك؟» من عامية الشام، ومعناها: «أليس كذلك؟» (مجاهد). (¬2) في موضع غير هذا نبّه الشيخ إلى أن هذه الكلمة من العامي الفصيح؛ انظر الحاشية في ص 194 من كتاب «مقالات في كلمات» (مجاهد).

انشقت عنه الأرض، ويمدّ إليّ ليصافحني يداً كمجرفة الخبّاز التي يجرف بها الخبز من بيت النار، ويمضي ليحدّثني حديثاً لا ينفعني ولا ينفعه، وإنما هو كلام فارغ امتلأت به نفسه فلم يجد أحمقَ يصبّه في أذنه لينفّس عن نفسه إلاّ أنا ... أو يناديني من بُعد ثلاثين متراً: "أستاذ ... " فأتصامم وأسرع كأني ما سمعت، فيصرخ "يا أستاذ طنطاوي"، ويتطوع ثلاثة على الأقل من المارين والواقفين فيعاونونه عليّ وينادون: "يا أستاذ طنطاوي"، فيصير الأستاذ الطنطاوي لا «عَلَماً في رأسه نار» بل شعلة مدخَّنة على عصا لها صوت، فهي تشغل السمع والبصر والشم، والحمد لله على الشهرة! وأقف أنتظر هذا الرجل الذي يناديني كأن له عليّ دَيْناً حان سداده، أو كأني مجرم فارٌّ وهو شرطي أمين، أو كأن عنده بشارة لي بأن قريباً لي لا أعرفه من أسلافي في طنطا مات وأورثني عشرة آلاف جنيه ... ويصل فيقول: يا أستاذ وينك؟ والله مشتاق إليك، كيفك؟ كيف حالك؟ فماذا -يا ناس- ماذا أعمل له؟ أضربه؟ أسبّه؟ أتركه وأمشي؟ أخشى أن يقول الناس: «غير مهذَّب»، فأُضطر إلى محاسنته وملاطفته وأن أدعه يقول لي: "مشتاق" فأقول: "أنا بالأكثر"، وكلانا كاذب! والذي يفيق من الصبح يظن أن الناس كلهم مثله فيطرق عليّ الباب من الساعة السادسة، فأقوم من الفراش مذعوراً، وإذا بالزائر من لطفه يقول: "ما بدّي أعطلك، بننزل سوا". كأن الإنسان يقفز عادة من سريره إلى باب الزقاق، ولا يدري -حفظه الله- أنه يعمل أشياء، ويغسل، ويأكل ويلبس، فأضطر أن أدع هذا كله

وأن أقعد لأونسه وأسليه وأسمع ثرثرته! وآخر يسهر يظن أن الناس كلهم مثله، فيطرق عليّ الباب الساعة العاشرة ليلاً، فأدع نومي لأقعد معه إلى نصف الليل أحادثه وأصغي إلى هذيانه، وأوقظ ربة الدار التي تعبت طول النهار لتترك راحتها ونومها وتعمل له القهوة والشاي، وربما زاد معه اللطف ورفع الكلفة فطلب العشاء! وثالث يدهمني وأنا خارج من الدار إلى عملي أو موعدي ويُرجعني لأقعد معه! فمتى يا ناس، يا أيها المستمعون والمستمعات، نعرف قيمة الوقت؟ ومتى نعلم أن من يسرق من آخر ساعة من وقته يكون كأنه سرق ديناراً من جيبه؟ ومتى نتأدب بآداب القرآن ونذكر قوله تعالى: {لا تَدْخُلوا بيوتاً غيرَ بُيوتِكُمْ حتّى تَسْتَانِسوا} أي: تستأذنوا، وقوله: {وإنْ قيلَ لكُمُ ارْجِعوا فارْجِعوا ...}. آسَفُ أن الإفرنج حفظوا آداب ديننا هذه ونحن نسيناها! * * *

الوظيفة والموظفون

الوظيفة والموظّفون (¬1) نشرت سنة 1935 اعلَمْ -أعزّك الله- أن الوظيفة ليست غُلاًّ في العنق، ولا قيداً في الرجل، وليست مقايَضَة أو مُبادَلة آخُذُ فيها الوظيفة (¬2) باليمين لأعطي الضمير بالشمال، ولو أنها كانت كذلك لعزفتُ عنها واجتويتها ونفضت يدي منها، ولآثرت أن أبيع خزانة كتبي كَرّة أخرى أو أقضي وأسرتي جوعاً على أن آكل خبزي مغموساً بدم الضمير، وعلى أن أكفر بالفضيلة وأومن بالمصلحة، فأزن كلّ شيء في الدنيا بميزانٍ صنجاتُه (¬3) الدنانير وأبصر كلّ ما في الكون من ثقب القرش (¬4)، وأفكر -إذ أفكر- بعقلي الذي في كيس نقودي لا بعقلي الذي في رأسي، فأختزل المنطق كله في ¬

_ (¬1) لهذه المقالة قصة تجدونها في «ذكريات علي الطنطاوي»، في الحلقتين الثالثة والثمانين والخامسة والثمانين (في الجزء الثالث) (مجاهد). (¬2) الوظيفة هي الراتب، والتوظيف تعيين الوظيفة، وإذا نحن أطلقنا الوظيفة على العمل نفسه فإنما نتبع في ذلك العرف السائد. (¬3) جمع صَنجة، وهي (بالسين والصاد: سَنْجة وصَنْجة): ما يوزَن به كالأوقية والرطل (مجاهد). (¬4) كان قرشنا يومئذ مثقوباً من وسطه.

قضية واحدة، هي الأولى والأخرى، وهي الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي الكتاب المعجِز الذي لا يُفرّط فيه من شيء ولا يعجزه شيء، فيكون المنطق كله هذه القضية: «تحصيل المال واجب»، وفي هذا الأمر تحصيل مال، فهذا الأمر واجب! وضَعْ مكان «هذا الأمر» ما تشاء من أفعال اللؤم والخسّة، والكذب والنُّذولة، والضّعة والفُسُولة، تنتظِم القضية وتستقِم، وتصح وتطَّرد، ولا يبقَ في الدنيا رديء ولا فاسد منكَر ما دام معه المال. لا يا سيدي! لست أسألك هذه الطريق التي لا أزال أحذّر منها مَن لم يسلكها وأصرف عنها سالكيها. وإن كان السّالكوها هم الكثرة من موظفينا وعلمائنا ومن كل ذي وظيفة أو صاحب صلة بالحكومة، حتى إن الرجل من هؤلاء ليأتي الأمر يعترف أنه مؤذٍ للأمة، منافٍ للفضيلة، مناقضٌ للشرف، فيحتجّ له بأن مصلحته تقتضيه ومعيشته تستلزمه، وأنه رجل (عاوز يعيش ...)، ولا يعيش من لا يساير وينافق ويَذِلّ ويَتزلّف. لا يدري الجاهل أن المعيشة على الصَّعْتَر مع الشرف خير من حياة النعيم والترف من غير فضيلة ولا شرف! * * * ومن أنبأك -أعزّك الله (¬1) - أن الموظف لا يحق له أن يفكر إلاّ بعقل رؤسائه ولا يرى إلاّ بعين أمرائه، فلا يُحِقّ من الآراء ما أبطلوا ولا يقبل ما ردّوا ولا يوقّر ما سفّهوا، ولا يرى ما استقبحوا ¬

_ (¬1) هذه المقالة رد على أحد وزراء المعارف، وكنت موظفاً في وزارته.

حسَناً ولا ما كتموا ظاهراً، ولا ما صغّروا كبيراً ولا ما عظّموا حقيراً؟ أوَلو كان رؤساؤه مخطئين؟ أوَلو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟ ومَن ذا حظر عليه ما أبيح للناس، ومنعه ما مُنحوا من حرية التفكير وحرية الرأي وحرية القول؟ ولماذا يشتهي من الطعام ما يعافه رئيسه، ويستحسن من أبيات الشعر وأصوات الغناء ما يستهجنه ويستثقله، ولا يكون عليه في ذلك من حرج، ثم لا يتخذ له من الآراء غير رأيه ومن المذاهب غير مذهبه؟ ولماذا لا ينشر هذا الرأي ويؤيد هذا المذهب، ما دام لا يأتي محرَّماً في الشرع ولا ممنوعاً في القانون؟ والوظيفة -يا سيدي- عَقْدٌ بين الدولة والموظف (¬1)، على أن يعمل عملاً بعينه، على جُعْلٍ بذاته. فهل يعمل الأجير في الدُّكان، والعامل في المصنع، والنّادل في الفندق، والخادم في البيت، وكلُّ مأجورٍ من الناس في عمل جلّ أو قلّ، علا أو سَفُلَ، فإذا أكمل عمله وجوّده استحق الأجر، وانطلق حراً في وقته يقضيه على ما أَحَبّ، حراً في ماله ينفقه على ما شاء، حراً في رأيه ينحو به النحو الذي أراد ويسوقه المساق الذي اختار ... ثم لا يكون الموظف حراً أبداً ولا يملك من أمر نفسه شيئاً؟ وماذا عليّ وأنا مدرّس -إذا أنا أعدَدْتُ درسي وألقيته، وقرأت وظائف تلاميذي وصحّحتها، وفعلت كل ما يوجب ¬

_ (¬1) لست أعني بالعقد الاجتماعي نظرية روسو المعروفة، فذاك شيء قد سقط اليوم من قائمة العلوم ودخل في سجل التاريخ.

عليّ القانون أن أفعل، وزدت على الواجبِ النوافلَ- أن أؤلّف وأكتب، وأنقد الأخلاق والكتب والعادات، وأساهم في الجهاد الإصلاحي، وأحمل القسط الذي أطيقه من أثقال الأمة؟ ومن ذا يحمله إذا لم أحمله أنا وأمثالي من الموظفين والمتعلمين؟ وكيف تتقدم الأمة وتسير في طريقها إلى غايتها إذا لم تجد بين أبنائها من يحمل أثقالها؟ فهل يريد سيدي -أعزّه الله- أن أمحو مَلَكة الكتابة من رأسي، وأطمس نور البصيرة من قلبي، وأسدل على عيني حجاباً حتى لا أرى فأسرّ فأشكر أو أبتئس فأنقد، وأهجر الكتب حتى لا أقرأ فيفتح علي الكتاب طريقاً إلى مقالة، وأتعزّل الناس حتى لا أسمع حديثاً فأكتب عن هذا الحديث، أو قصة فأدوّن هذه القصة وأدلّ على مكان العبرة منها وموطن العظة فيها؟ فهل يريد سيدي أن أذهب إلى غار في الجبل فأحبس نفسي فيه كيلا أكتب فأزعج معاليه؟ وهل توجِب الوظيفة على صاحبها أن يكون عبداً لرؤسائه، مسخَّراً لأغراضهم ساعياً في مصالحهم، ولو كانت الطريقُ إلى إرضائهم طريقاً ملتوية معوجّة لا يسلكها رجل يعرف ما هي الفضيلة ويدري ما هو الشرف؟ وهل توجب الوظيفة على الموظف أن يكون مبتوراً من جسم الأمة، فلا يشعر بشعورها ولا يألم لألمها، ولا يحسّ أنه منها ولا يشاركها في شيء من عواطفها، في حين أن المفروض في الموظف أنه من أرقى أبناء الأمة فكراً وأوسعهم اطلاعاً وأشدّهم شعوراً بـ «الواجب العام»؟

وهل يأخذ الموظفون رواتبهم من صندوق الأمة ليناموا آمنين إذا هي خافت، ويضحكوا فرحين إذا هي تألمت، وينعموا فارهين إذا هي شقيت، ويأكلوا مسرفين إذا هي جاعت؟ كلا! كلا يا سيدي؛ فالموظف من الأمة وإلى الأمة. وليس في البلد شعب وموظفون، ولكنّ فيه شعباً واحداً يشعر بشعور واحد، ويصدر عن مبدأ واحد ويسعى إلى غاية واحدة. ولأن تعرف أنت هذه الحقيقة فتعمل بها أولى من أن أنزل أنا عند رأيك وأخضع لإرادتك فيما يؤذي الحقيقة وينافيها. كلا! لقد انقضى ذلك العهد الذي كان الموظف فيه مسؤولاً أمام رئيسه، وأصبحنا اليوم وكلنا مسؤولون أمام الأمة والتاريخ (¬1). وليس هذا الراتب منحة منك حتى تمنّ به عليّ، ولكن راتبك أنت منحة من الأمة (التي أنا من أبنائها) تمنّ هي به عليك. * * * وبعد؛ أفليس مما يجب على قادة الفكر وأرباب الأقلام، أن يعرّفوا الناس حقيقة الوظيفة والموظفين، وحق الأمة عليهم وأمل الأمة فيهم؟ أوَليس يجب عليهم معالجة هذه النواحي من أخلاقنا، وبسط الكلام فيها، وتحذير السالمين منها، ومداواة المصابين فيها؟ * * * ¬

_ (¬1) "وقبل ذلك وبعده أمام الله". (هذه الزيادة بقلم الشيخ رحمه الله، أضافها حين أعاد نشر المقالة في «الذكريات»: 3/ 229) (مجاهد).

الوعد الشرقي

الوعد الشرقي نشرت سنة 1952 كنت أمس وراء مكتبي فسمعت صوتاً هائلاً له رنين وصدى، كأنه صوت رجل ينادي من قعر البئر أو يصرخ في الحمام، يقول: السلام عليكم. فرفعت رأسي فإذا أمام وجهي بطن الرجل، وكأنه بطن فرس ضخم من أفراس البحر، أما رأسه فكان في نصف المسافة بيني وبين السقف، ومدّ إليّ يداً كالمخباط يصافحني، ثم عمد إلى أكبر مقعد في الغرفة فحاول أن يُدخل نفسه فيه فلم يستطع فلبث واقفاً، وعرض حاجته وهي دعوتي إلى اجتماع للمصالحة بين أخوين من إخواننا. ولم يكن من عادتي إجابة مثل هذه الدعوة، وهممت بالرفض لولا أني قست بعيني طول الرجل وعرضه، وعمقه وارتفاعه، فآثرت السلامة ووعدته. قال: أين نلتقي؟ فخفت أن أدلّه على الدار فيدخل فلا أستطيع إخراجه، فقلت له: هنا، الساعة الثالثة بالضبط. قال: نعم. وولى ذاهباً وكأنه عمارة تمشي!

وجئت في الموعد، فوجدت المحكمة مغلقة، وقد نسيت أن أحمل المفتاح فوقفت على الباب والناس ينظرون إليّ، فمن عرفني أقبل يسألني فأضطر لأن أشرح له القصة، ومن كان لا يعرفني حسبني أحد أرباب الدعاوى فقال: "ما فيها أحد، سكّرت المحكمة"، فلا أرد عليه، وأنا واقف أتململ من الضجر، أرفع رجلاً وأضع أخرى، وأُقبل مرة وأُدبر مرة، أنظر من هنا ومن هناك، فكلما رأيت من بعيد شيئاً كبيراً أحسبه صاحبي، فإذا اقترب رأيت جملاً عليه حطب أو حماراً فوقه تبن، أو تاجراً من تجار الحرب الذين انتفخوا من كثرة ما أكلوا من أموال الناس ... حتى مضت نصف ساعة، وأحسست النار تمشي في عروقي غضباً منه ومن نفسي أن لنت له ولطفت به. وذهبت إلى الدار وأنا مصدوع الرأس مهيج الأعصاب، فألقيت بنفسي على الفراش. فلم أكد أستقر لحظة حتى سمعت رجة ظننت معها أن قد زلزلت الأرض بنا أو تفجرت من حولنا قنبلة، وإذا أنا بصاحبي الضخم، قد فتحت له الخادم فراعها أن رأت فيه فيلاً يمشي على رجلين، فأدخلته عليّ بلا استئذان وولّت هاربة تحدّث مَن في الدار حديث هذه الهولة المرعبة. ونفخ الرجل من التعب كأنه قاطرة قديمة من قاطرات القرن التاسع عشر التي لا تزال تمشي بين دمشق وبيروت، وألقى بنفسه على طرف السرير، فطقطق من تحته الحديد وانحنى. وأخرج منديلاً كأنه ملحفة، ومسح به هذه الكرة المركَّبة بين كتفيه وقال: هيك يا سيدنا؟ ما بتنتظر شوية؟ شو صار؟ حَمَّل الحج؟ سارت الباخرة؟ الإنسان مسيَّر لا مخيَّر، والغائب عذره

معه، والكريم مسامح. وعدنا وعد شرقي. وعد شرقي؟ أليس عجيباً أن صار اسم «الوعد الشرقي» عَلَماً على الوعود الكاذبة، واسم «الوعد الغربي» عَلَماً على الوعد الصادق؟ من علّم الغربيين هذه الفضائل إلا نحن؟ من أين قَبَسوا هذه الأنوار التي سطعت بها حضارتهم؟ ألم يأخذوها منا؟ من هنا أيام الحروب الصليبية، ومن هناك، من الأندلس، بعد ذلك. وهل في الدنيا دين إلا هذا الدين «الشرقي» يجعل للعبادات موعداً لا تصح العبادة إلا فيه، وإن أخلفه المتعبّد دقيقة واحدة بطلت العبادة؟ إن الصوم شُرع لتقوية البدن وإذاقة الغني مرارة الجوع حتى يشفق على الفقير الجائع، وكل ذلك يتحقق في صوم اثنتي عشرة ساعة واثنتي عشرة ساعة إلا خمس دقائق، فلماذا يبطل الصوم إن أفطر الصائم قبل المغرب بخمس دقائق؟ أليس لتعليمه الدقة والضبط والوفاء بالوعد؟ ولماذا تبطل الصلاة إن صليت قبل الوقت بخمس دقائق؟ والحج؟ لماذا يبطل الحج إن وصل الحاج إلى عرفات بعد يوم الوقفة، أليس لأن الحاج قد أخلف الموعد؟ أوَلم يجعل الإسلام إخلاف الوعد من علامات النفاق، وجعل المخلف ثلث منافق؟ فكيف نرى -بعد هذا كله- كثيرين من المسلمين لا يكادون يفون بموعد، ولا يبالون بمن يخالف لهم وعداً أو يتأخر عنه، حتى صار التقيد بالوعد والتدقيق فيه والحرص عليه نادرة يتحدث بها الناس، ويعجبون بصاحبها ويعجبون منه، وحتى صارت وعودنا مضطربة مترددة لا تعرف الضبط ولا التحديد؟

يقول لك الرجل: «الموعد صباحاً». صباحاً؟ في أي ساعة من الصباح؟ في السادسة؟ في السابعة؟ في الثامنة؟ إنك مضطر إلى الانتظار هذه الساعات كلها. «الوعد بين الصلاتين»، وبين الصلاتين أكثر من ساعتين! «الوعد بعد العشاء»! أهذه مواعيد؟! هذه مهازل وسخريات، لقوم لا عمل لهم ولا قيمة لأوقاتِهم، ولا مبالاة لهم بكراماتهم! هذه مواعيدنا في ولائمنا وحفلاتنا، وفي اجتماعاتنا الفردية والعامة. دُعيت مرة إلى وليمة عند صديق لي قد حدد لها ساعة معينة هي الساعة الأولى من بعد الظهر، فوصلت مع الموعد فوجدت المدعوين موجودين إلا واحداً له عند صاحب الدار منزلة. وتحدثنا وحلت ساعة الغداء، وتوقعنا أن يدعونا المضيف إلى المائدة فلم يفعل، وجعل يشاغلنا بتافه الحديث ورائحةُ الطعام من شواء وقلاء وحلواء تملأ آنافنا، وتصل إلى معدنا الخاوية فتوقد فيها ناراً، حتى إذا اشتد بي الجوع قلت: هل عدلت عن الوليمة؟ فضحك ضحكة باردة وخالها نكتة، فقلت: يا أخي، جاء في الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ونحن جماعة وهي واحدة، وهي قطة ونحن بشر! فتغافل وتشاغل، ثم صرّح فقال: حتى يجيء فلان. قلت: إذا كان فلان قد أخلف الموعد، أفنُعاقَب نحن بإخلافه؟ وهل يكون ذنبنا أنّا كنا غير مُخْلفين؟

والحفلات مثل الولائم. يُكتب في البطاقة أنها تبدأ في الساعة الرابعة، وتبدأ في نصف الخامسة. وأعمالنا كلها على هذا النمط؛ ركبت مرة الطيارة من مطار ألماظة في مصر فتأخرت عن القيام نصف ساعة انتظارَ راكب موصى به من أحد أصحاب المعالي. ولما ثرنا معشر الركاب وصخبنا طار بنا، فلم يسر والله ربع ساعة حتى عاد فهبط، فارتعنا وفزعنا وحسبنا أن قد جرى شيء، وإذا العودة من أجل الراكب المدلل صديق صاحب المعالي، وقد تأخر لأنه لم يحب أن يسافر حتى يدخل الحمام ويستريح بعد الخروج كيلا يلفحه (اسم الله عليه) الهواء البارد! وكنت يومئذ عائداً من رحلة رسمية، فلما وصلت إلى مطار المزّة وجدت أكثر من مئتي إنسان بينهم مندوب وزير العدل ينتظرون في الشمس منذ ساعة كاملة. والسيارات مثل الطيّارات، والدكاكين والدواوين، والمقاهي والملاهي؛ كل ذلك يقوم على تبديل المواعيد وإخلافها، حتى لم يبق لشيء موعدٌ معروف. فيا أيها القراء خبّروني، سألتكم بالله: أي طبقة من الناس تفي بالموعد وتحرص عليه وتصدق فيه وتدقق في إنجازه؟ الموظفون؟ المشايخ؟ الأطباء؟ الخيّاطون والحذّاؤون؟ سائقو السيارات؟ مَن؟ مَن يا أيها القراء؟ يكون لك عند الموظف حاجة لا يحتمل قضاؤها خمس دقائق، فتجيئه وهو يشرب القهوة أو يقرأ الجريدة، أو يشغل نفسه بما لا طائل تحته، فيصعِّد فيك بصره ويصوبه ويقوّمك بعينه، فإن أنت لم تملأها ولم تدفعه إلى مساعدتك رغبة فيك أو رهبة

منك قال لك: ارجع غداً. فترجع غداً، فيرجئك إلى ما بعد غد ... لا أعني موظفاً بعينه ولا عهداً بذاته، بل أصف داءً قديماً سرى فينا واستشرى، ودخل وتغلغل. ويكون لك موعد مع الشيخ، فيجيئك بعد نصف ساعة ويعتذر لك، فيكون لاعتذاره متن وشرح وحاشية، فيضيع عليك في محاضرة الاعتذار نصف ساعة أخرى. وإن دعوته الساعة الثانية جاء في الثالثة. وإن كان مدرّساً لم يأت درسه إلا متأخراً. والطبيب يعلن أن العيادة في الساعة الثامنة ولا يخرج من داره إلى العاشرة، وتجيئه في الموعد فتجده قد وعد خمسة من المرضى مثل موعدك، واختلى بضيف يحدثه حديث السياسة والجو والكلام الفارغ وتركهم على مثل الجمر أو على رؤوس الإبر، ينتظرون فرج الله، حتى يملّوا فيلعنوا الساعة التي وقفوا فيها على باب الطبيب، ويذهبون يفضّلون آلام المرض على آلام الانتظار، ويؤثرون الموت العاجل المفاجئ على هذا الموت البطيء المضني. أما الخياطون والخطاطون، والحذاؤون والبناؤون، وأرباب السيارات وعامة أصحاب الصناعات، فإني أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنهم من أكذب خلق الله وأخلفهم لوعد! الكذب لهم دين، والخلف عادة، ولطالما لقيت منهم ولقوا مني. وما خطت قميصاً ولا حلة، ولا صنعت حذاء، ولا سافرت في سيارة عامة سفرة، ولا بعثت ثوباً إلى مصبغة لكيه أو غسله أو تنظيفه، إلا كووا أعصابي بفعلهم وشويتهم بلساني. وإن كان أكثرهم لا يبالي ولو

هجاه الحُطيئة أو جرير أو دعبل الخزاعي، بل إنهم ليفخرون بهذه البراعة في إخلاف المواعيد والتلاعب بالناس، ويعدونها مهارة وحذقاً! فمتى يجيء اليوم الذي نتكلم فيه كلام الشرف، ونعد وعد الصدق، وتقوم حياتنا فيه على التواصي بالحق؟ لا يعد فيه المرشح وعداً إلا وفى به بعد أن يبلغ مقاعد البرلمان، ولا يقول الموظف لصاحب الحاجة: "إني سأقضيها لك" إلا إذا كان عازماً على قضائها، ولا الصانع بإنجاز العمل إلا إذا كان قادراً على إنجازه، والموظفون يأتون من أول وقت الدوام ويذهبون من آخره، والأطباء لا يفارقون المكان ساعات العيادة، والخياط لا يتعهد بخياطة عشرة أثواب إن كان لا يستطيع أن يخيط إلا تسعاً، وتمحى من قاموسنا هذه الأكاذيب. تقول لأجير الحلاق: "أين معلمك؟ "، فيقول: "إنه هنا، سيحضر بعد دقيقة". ويكون نائماً في الدار لا يحضر إلا بعد ساعتين. ويقول لك الموظف: "من فضلك لحظة واحدة"، فتصير لحظته ساعة! ومتى تقوم حياتنا على ضبط المواعيد وتحديدها تحديداً صادقاً دقيقاً، فلا يتأخر موعد افتتاح المدارس من يوم إلى يوم ويتكرر ذلك كل سنة، ولا يُرجَأ موعد اجتماع الدول العربية في الجامعة من شهر إلى شهر، ولا تعاد في تاريخنا مأساة فلسطين التي لم يكن سببها إلا إهمال ضبط المواعيد وإخلافها؟ ولو أنّا حددنا بالضبط موعد القتال وموعد الهدنة، وجئنا (أعني الدول العربية) على موعد واتفاق، لكان لنا في تاريخ فلسطين صفحة غير التي سيقرؤها الناس غداً عنا.

إن إخلاف الموعد الصغير هو الذي جرّ إلى إخلاف هذا الموعد الكبير. فلنأخذ مما كان درساً؛ فإن المصيبة إذا أفادت كانت نعمة. ومتى صلحت أخلاقنا، وعاد لجوهرنا العربي صفاؤه وطهره، وغسلت عنه الأدران، استعدنا فلسطين وأعدنا ملك الجدود. فابدؤوا بإصلاح الأخلاق، فإنها أول الطريق. * * *

شغلوا الطلاب في عطلة الصيف

شغِّلوا الطلاّب في عطلة الصّيف نشرت سنة 1959 قرأت في عدد قديم من مجلة «المختار» مقالة لكاتب أميركي، تحدث فيها عن لجان الشباب وما تقوم به في أميركا من الأعمال الجسام. من ذلك أن حي الأعمال في مدينة أوشكوش قد اشتدت فيه ضوضاء السير وضجة السيارات حتى لم يعد يستطيع سكانه العمل، وكادت هذه الضجة المستمرة تحطم أعصابهم وألحوا على الحكومة أن تجد لهم مخلصاً من هذا البلاء. ففكر رئيس شرطة السير في المدينة، فلم يجد إلا سبيلاً واحداً للخلاص، هو أن يلجأ إلى لجنة الشباب في المدينة. فأثار حماستهم ورغّبهم وقال لهم: "هذه فرصة لكم لخدمة مدينتكم". فقبلوا، وكلّفت اللجنة مئتين من أعضائها ممن تتراوح أعمارهم بين ثلاث عشرة سنة وسبع عشرة سنة، فوقفوا على أطراف الطرق ثلاثة أيام يسألون كل سائق سيارة رأيه ويتفهمون أسلوبه في القيادة وعادته في وقف السيارة والانتظار بها، وقدّموا المعلومات التي جمعوها إلى رئيس الشرطة فاستطاع أن يضع -بعد معرفتها- نظاماً جديداً للسير مستمَدّاً من الواقع قاطعاً أسباب الشكوى، ووفروا على الحكومة 28 ألف دولار.

وفي مدينة ماديسون اجتمع أكثر من ستمئة طالب من طلبة المدارس الثانوية نقلتهم عربات النقل في السابعة صباحاً إلى منافذ الأزقة والحارات، فولجوها سيراً على أقدامهم يجمعون منها ومن حدائق المنازل وأفنيتها ومن الساحات والملاعب ما فيها من النفايات والأوساخ، فاستحيى الناس وأسرعوا لمعاونتهم، فنظفت المدينة وصارت أرضها كالمرآة المجلوة. وفي مدينة أوكلير طلب مدير التعليم الخاص إلى لجنة شباب المدينة مساعدته في توصيل عدد من أطفال المدارس الخاصة إلى منازلهم، وقبلت اللجنة، وأرسلت أعضاءها يستلمون الأطفال من المدرسة ويضعون كلاً منهم في السيارة التي توصله إلى منزله. ومن ذلك أن لجنة الشباب في راين لاندر أنشأت مكتباً للعمل، فوجد أن الفنادق والمنتزهات في هذه المدينة التي تُقصَد في العطلات والمواسم تحتاج إلى عمّال فتأتي بهم من المدن الأخرى، فسعت لإحلال شباب المدينة في هذه الأعمال، واستطاعت تشغيل مئات منهم مدة العطلة بعمل شريف وبأجور جيدة. وفي المقالة أمثلة أخرى. * * * وقد رجعت بي الأيام -لمّا قرأت هذه المقالة- ثلاثين سنة، إلى سنة 1929 وسنة 1930 وقد عدت من مصر (¬1) أحدّث إخواني ¬

_ (¬1) أظن أني كنت أول طالب من سوريا أطلب التعليم العالي في مصر.

عن لجان الطلبة فيها وما تقوم به من أعمال كبار في ميادين الجهاد الوطني. وألفت أنا ونفر من أخواننا (¬1) لجانَ الطلبة في المدارس الثانوية ثم في الجامعة، ثم ألفت لجنة مركزية للطلاب وكنت عضواً فيها، ثم تشرفت أن كنت يوماً رئيسها، وكنت من محرري جريدة «الأيام» يوم كانت جريدةَ الكتلة الوطنية وكان رئيس تحريرها الأستاذ عارف النكدي، وكان للجنة المركزية بهو خاص في دار «الأيام». ويشهد أقطاب الحركة الوطنية في ذلك العهد ما صنعت لجنة الطلبة، وحسبها أنها هي التي أبطلت انتخابات 20 كانون المزورة سنة 1930، وهي التي كانت تعد الإضراب العام في المدينة، وهي التي كانت القوة المنفذة لمقررات شيوخ الوطنية وقادة الجهاد. واستمرت على ذلك إلى أن وُقّعت المعاهدة سنة 1936. ذكرت هذا كله لمّا قرأت المقالة، وقلت في نفسي: لقد انقضى عهد النضال السلبي وحررت البلاد من الانتداب وتمت (والحمد لله) نعمة الاستقلال، فلم يبقَ مجال لمثل تلك الأعمال، فلماذا لا نسخّر هذه القوى الهائلة، قوى الطلاب والشباب، للأعمال الإنشائية النافعة التي تشير إلى أمثلة منها هذه المقالة التي قرأتها في المختار؟ لم يكن في دمشق في أيامنا إلا ثانوية رسمية واحدة هي «مكتب عنبر» وفيها ثلاثمئة طالب فقط، وكان طلاب الجامعة لا يزيدون -فيما أقدّر- على أربعمئة أو خمسمئة، وقد قمنا بهذه ¬

_ (¬1) منهم الدكتور صبري القباني والأستاذ مدحت البيطار.

الأعمال، فماذا يصنع اليوم طلاب دمشق وفيها عشر ثانويات رسمية وفي الجامعة آلاف وآلاف؟ إن العمل ليس عيباً. وفي أميركا يشتغل الطلاب، حتى الأغنياء منهم، في العطلة الصيفية بالخدمة في المطاعم والعمل في المصانع. فلماذا يبقى شبابنا مدة العطل (وهي ربع السنة أو ثلثها) بلا عمل فيتعوّدوا الكسل والبطالة، أو يقرؤوا روايات أرسين لوبين، أو يروا الأفلام الخبيثة، أو يتطيّبوا ويتعطروا ويتبختروا في عشيات الصيف في بوّابة الصالحية وحول البرلمان يراقبون المارّين والمارّات، أو يشتغلوا بالحزبيات والعصبيات؟ ولماذا نقتبس من الغرب الضار ولا نقتبس النافع؟ لماذا لا نوسّع النشاط المدرسي فنؤلّف لجاناً للشباب تبدأ في كل مدرسة ثم يكون منها اتحاد أوسع، ثم تجمع هذه «الاتحادات» حتى يكون في كل بلد لجنة مركزية واحدة للشباب تعلّمهم التعاون والجِد وحمل المسؤوليات، وتقوي أجسامهم بالرياضة وعقولهم بالمحاضرات وأرواحهم بالسلوك الخلقي القويم، وتشارك في الأعمال العامة النافعة؟ تصوّروا لو أن طلاب دمشق (¬1) -مثلاً- خرجوا في مواكب إلى أطراف الغوطة حيث الأرض الفضاء، فأخذ كل واحد منهم غرسة فغرسها هناك وأمضوا يوماً في لعب وتسلية ونشاط وصحة، لأقاموا في يوم واحد بستاناً للأمة فيه عشرة آلاف غرسة، يتولونه أبداً بالرعاية. ¬

_ (¬1) انتبهوا، فأنا أقول الطلاب فقط لا الطالبات.

وتصوروا لو أخذ كل طالب من بيته رغيفين أو ثوباً قديماً، وخرجت مواكبهم فدارت على حارات الفقراء ومخيمات اللاجئين، فوزعوها وقضوا يوماً بينهم في مواساة ومشاركة لهم في حياتهم. كم يكون أثر ذلك في نفوسهم وفي نفوس هؤلاء المساكين؟ والحكومة تحتاج إلى مشروعات كثيرة، تحتاج إلى آلاف من الشباب أيام الإحصاء العام، وفي النوازل والنكبات، فلو كان هنا لجان للطلاب واستعانت بهم على ما تريد من الخير لحققت في يوم واحد وبلا نفقات ما لا يمكن تحقيقه في المدة الطويلة وبالنفقات الكثيرة، عدا عمّا في ذلك من تعويد الطلاب حياة العمل والتعاون وإبعادهم عن مواطن الزلل والضعف والبطالة. ولكل لجنة من هذه اللجان في أميركا مستشارون من الرجال الكبار يختارهم الشباب بأنفسهم، وهؤلاء المستشارون يَعلمون بأن مهمتهم هي العمل مع الشباب لا الأمر والنهي فيهم، ومنهج هذه اللجان يوصي المستشار بأن يعرض نصحه في الاجتماع بصراحة فإذا لم توافق اللجنة عليه فلا داعي للأسف ولا للغضب. لقد كانت لجنتنا المركزية (قبل ست وعشرين سنة) تمثّل طلاب دمشق جميعاً، وكانوا يمشون وراءها صفاً واحداً وينفّذون قراراتها. فتصوروا ماذا يكون من الخير للشباب وللأمة لو أن الحكومة وضعت نظاماً على نحو النظام المتبع في أميركا والبلاد الأخرى للجان الشباب وأقامت لها إدارة تشرف عليها. إذن لوجهتها وجهة الخير وصرفتها عن العبث واللهو والبطالة والشغب

والحزبيات، ثم شغلتها بالأعمال النافعة التي لا يحصيها العد، وكان لها مخيمات في الصيف وكان لها نواد في الشتاء، وكان عملها المساهمة في كل مشروع عام، وتهيئة عمل في الصيف لمن يحب أن يعمل من الشباب فيساعد بما يحصله نفسه وأهله كما يصنع الطلاب في أميركا. والشرط الأول والأخير في هذا كله أن يكون هذا العمل لله وحده، لا يُستغَلّ لمصلحة حزب ولا هيئة ولا مذهب ولا جماعة، وأن يقوم على صحة الأجساد بالرياضة وتنمية العقول بالمحاضرات وتصفية الأرواح بالعبادة والذكر وبث روح التعاون وتعويد الشباب حمل التبعات، وأن تحبب إليهم الحياة الاستقلالية لا الحياة الاتكالية، وأن يعلموا أن العمل ليس عيباً ولو كان كنس الشوارع، ولكن العيب أن يكون الشاب من أهل البطالة أو يكون من أهل الفسوق وأن يكون كلاً على أبويه وهو يستطيع أن يشتغل، وأن يقتصر على الشباب فقط فلا يكون وسيلة للاختلاط ولا يكون باباً للفساد. * * *

مشكلة الزواج

مشكلة الزواج أذيعت سنة 1958 في البلد اليوم مشكلة من أعقد المشكلات الاجتماعية وأعمقها أثراً في حياة الأمة؛ هي مشكلة الزواج. وتتلخص هذه المشكلة في كلمة واحدة هي أن فينا آلافاً مؤلفة من البنات في سن الزواج لا يجدن الخاطب، وآلافاً مؤلفة من الشباب لا يجدون البنات، أو لا يريدون الزواج. ولتدركوا خطر هذه المشكلة وامتدادها، خذوا ورقة وقلماً واكتبوا أسماء الأسر التي تشتمل على البنات الكاسدات، والأسر التي تشتمل على الشباب العزّاب، تروا أن في محيط كل واحد منكم -أيها السامعون- عشرات من هؤلاء ومن أولئك. وبحثي اليوم في أسباب هذه المشكلة ونتائجها وفي طرق حلها. أما نتائجها فهذا الفساد الأخلاقي الذي يشكو منه كل بلد من بلدان هذا الشرق الإسلامي. وأنا لا أستطيع أن أصرّح لأني لا أتحدّث إلى جماعة أراهم أمامي أعرف أذواقهم وميولهم، ولا أتكلم في مجلس محصور ولكن أتكلم في هذا المذياع الذي

يحمل الكلام إلى آفاق الأرض، ولا أدري مَن يستمع إليّ، ولعل فيهم البنت والشاب ومَن لا يحسن التصريح أمامه بهذه الأشياء؛ لذلك أكتفي بأن أقول بأن الله ما حرّم شيئاً إلا أحلّ مكانه شيئاً يغني عنه: حرّم الربا وأحلّ البيع، وحرّم الزنا وأحلّ الزواج، فمن سُدّ في وجهه طريق الحلال لم يجد للوصول إلى هذه الحاجة الطبيعية إلا سلوك طريق الحرام. لذلك كانت النتيحة الحتمية لقلة الزواج هي كثرة الفساد، ولعلي أتحدث عن الفساد الخلقي حديثاً مستقلاً مفصلاً، وأقرر من الآن أنه لا يمكن القضاء على هذا الفساد إلا بتسهيل الزواج. أما أسباب مشكلة الزواج، فأولها نظام التعليم: إن هذا النظام يعارض فطرة الله ويخالف طبائع النفوس وحقائق الأشياء. وبيان ذلك أن الله وضع غريزة الجنس في نفس الشاب والشابة وقدّر لظهورها سن الخامسة عشرة أو نحوها، فإذا بلغها الولد أو البنت تنبه في نفسه ما كان غافلاً وتيقظ ما كان نائماً، ونظام التعليم يوجب أن يبقى الشاب والشابة في المدارس إلى الخامسة والعشرين؛ يدخل المدرسة ابن سبع سنين، ويبقى اثنتي عشرة سنة في الابتدائية والثانوية فهذه تسع عشرة سنة، ويبقى في الجامعة من أربع سنين إلى سبع سنين، فيصير عمره من ثلاث وعشرين إلى ست وعشرين، فإذا ذهب بعد ذلك ليجيء بالدكتوراة من أوربا أو أميركا وغاب لذلك ثلاث سنين أخرى على الأقل صار ابن ثلاثين سنة أو نحوها. فكيف يمضي هذه السنوات العشر أو الخمس عشرة التي هي أشد سني العمر ثورة وشهوة وضراماً في الأعصاب، لا سيما

وهو يعيش في جو مملوء بالمغريات الجنسية، وإذا سافر إلى بلاد الغرب رأى ما هو أشد إغراء؟ وليس البحث الآن في المسألة الجنسية لأسأل ماذا يصنع في هذه المدة، بل البحث في الزواج، فكيف يمكن أن يتزوج؟ لا سيما وأنه مضطر -بحكم هذا النظام- أن يبقى بلا كسب ولا مورد ويبقى عالة على أبيه حتى يبلغ الثلاثين، ويبقى بعد ذلك بضع سنين أخرى بطبيعة الحال كي يجمع تكاليف الزواج، فيصير عمره خمساً وثلاثين. ومن المشاهَد أن كثيراً من الذين يبقون بلا زواج إلى هذه السن لا يتزوجون أبداً، لأن الدافع إلى الزواج يضعف بعدها ونار الغريزة تخمد، والشباب يكون قد ولى. فالسبب الأول -في رأيي- هو نظام التعليم. وقد كان من المعروف في دمشق من نصف قرن، لمّا كان أكثر الناس يشتغلون بالتجارة ولا يعرفون هذا التعليم الجامعي، أن الشاب إذا صار في العشرين صارت له دكان، وصار صاحب مورد ورب تجارة، وصار زوجاً وأباً وصاحب أسرة، وأن البنت إذا بلغت الرابعة عشرة تتزوج. * * * والسبب الثاني: هذه العادات الشنيعة في الزواج، العادات التي تخرّب بيت الأب وبيت الخاطب معاً، وليس فيها -كما قلت في الحديث الماضي- نفع لأحد، إنما هي للتفاخر أمام الناس وللتكاثر والتسابق إلى التبذير والسرف، من المباراة في زيادة المهور وشراء الجهاز الفخم الذي يشتمل على أشياء أكثرها

لا حاجة إليه ولا لزوم له، ولقد دخلت غرفاً في أفخم الدور كُدِّست فيها التحف والتماثيل والمطرّزات واللوحات بلا ذوق ولا ترتيب، حتى صارت كأنها مخزن مفروشات لا غرفة استقبال، مع أن الأجانب الذين نقلدهم في حياتنا لا يضعون في أبهاء الاستقبال إلا الشيء الضروري، وإذا عمدوا إلى الزينة والترف علقوا لوحة لها قيمة فنية وأقاموا تحفة واحدة أثرية أو تذكارية، لا ترى لديهم إطاراً ضخماً غالياً فيه صورة سخيفة حمقاء، ولا ترى هذه المجموعات من الأطباق الصينية وعلب الزينة وقناني الطيب التي لا تُفتح ولا تُستعمل، وهم يفضّلون الأناقة والذوق على الثمن المادي للأشياء. وهذه السلسلة من الحفلات، حفلة الخطبة ولبس الخاتم، وحفلة العقد، وربما سبقتها حفلة التلبيسة، وحفلة العرس، والسبعة الأيام وحفلة التعارف ... وكل حفلة تكلف المئات وتجمع أنماطاً من الناس ليس بينهم تفاهم ولا توادّ، وربما لم يكن بينهم تعارف سابق. وهذه الحفلات للرجال ضجة وصخب وفوضى أو صمت وتكلف وحديث خافت، وللنساء حفلات عرض أزياء، كل واحدة تعرض ثوبها وتنتقد ملابس الأخريات! وهذه الحفلات مع ما يتبعها من الهدايا المقررة المتعارف عليها، التي يتفق أحياناً على نوعها وثمنها، تكلف الخاطب أكثر من المهر، وتكلف الأب هي والجهاز مثل ما تكلف الخاطب، وتكون نكبة على كل رجل تدعى زوجته أو ابنته إليها لأنه يضطر إلى شراء الملابس الجديدة ودفع ثمنها مما خصصه لخبز عياله أو ثمن ملابس أولاده.

ولما كنت في جزيرة جاوة (في أندونيسيا) رأيت أكثر الشباب متزوجين. فسألت عن طريقة الزواج فإذا هي أسهل وأقرب الطرق، فكنت أتذكّر صعوبة الزواج في بلادنا وهذه العراقيل التي أقيمت في طريقه، حتى صار الاتصال المحرَّم أسهل بمئة مرة من الزواج الحلال (أقول هذا وأنا في خجل وأسف) وصار الآباء يتغافلون عن هذا المنكر ويمهّدون له -حيث لا يشعرون- بإهمالهم التربية الدينية والخلقية، ويعارضون الزواج ويلقون أمام طالبه الأشواك. * * * والسبب الثالث أن أكثر الأزواج تركوا الشرع ولم يقفوا عند حدوده؛ فلم يعرف الزوج الواجب عليه لزوجته ولم يقم به، ولم تعرف الواجب عليها لزوجها ولم تقم به، فدخل -بذلك- الخلاف إلى أكثر البيوت، وصارت حياة المتزوجين جحيماً لا يطاق، وتتالت الدعاوى في المحاكم وفشا الطلاق. ورأى هذا الشبابُ العزاب وسمعوا أخباره فزادهم ذلك كراهة للزواج وانصرافاً عنه. والسبب الرابع الفساد الخلقي، والفساد الخلقي الذي هو نتيجة لقلة الزواج صار سبباً من أسباب هذه القلة، وصارت مسألة الدور الذي أبطله المناطقة وجوّزه الشعراء، فقال أحدهم: مسألةُ الدَّوْر أتَتْ ... بَيني وبين مَنْ أُحِبْ لولا مشيبي ما جَفا ... لولا جَفاهُ لم أَشِبْ الشاب الذي لا يتزوج وهو يجد الدافع إلى الزواج يسلك

طريق الفساد، وسهولةُ طريق الفساد تصرفه عن الزواج. وما له وللزواج ونفقاته ومشكلاته؟ وما له وللخلافات الزوجية وهو يقدر أن يوصل نفسه إلى كل ما تشتهيه بغير ذلك كله؟ وهنا أعود فأقرر أن بين مشكلة الزواج ومشكلة البغاء السري والعلني وحدة وامتزاجاً، فلا يمكن علاج إحداهما إلا بعلاج الأخرى. والسبب الخامس هو نتيجة التعريف الذي بدأت به هذا الحديث. أما قلت لكم إن مشكلة الزواج هي وجود آلاف مؤلفة من البنات بلا أزواج ووجود آلاف مؤلفة من الشباب بلا زوجات؟ إن الشباب مختلفون غِنى وفقراً، وثقافة وجهلاً، وتُقى وتساهلاً، وجِدّاً وهَزلاً، وفي كل صنف من هؤلاء مثيله من البنات. ولو أن كل شاب يريد الزواج خطب مَن تُماثله في تفكيره ووضعه الاجتماعي ونظره إلى الحياة لما كان عشر هذا الاختلاف الزوجي الذي نراه الآن، ولا يحتاج ذلك إلا إلى جماعة من المصلحين يدعون إلى الزواج ويرغّبون فيه، ثم يدلون كل خاطب على الأسرة التي تناسبه. ولو وُجد في كل حيّ من أحياء البلد نفرٌ من هؤلاء المصلحين لحل بعض هذه المشكلة. * * * والخلاصة أن في البلد مشكلة زواج، وأن هذه المشكلة مرتبطة بمشكلة الفساد والأخلاق، ولا تُحَلّ إحداهما إلا بحل الأخرى. وأن سببها نظام التعليم أولاً، ثم هذه العادات في المهور والحفلات والهدايا، وهذه التكاليف التي لا تُحتمل، ثم ترك

المتزوجين أحكام الشرع حتى حل الخصام فيهم محل الوئام، ثم فَقْد الوسطاء واختيار الخاطب الفتاة التي لا تناسبه ولا تقاربه، وتفضيله الجمال فيها على الكمال، وتفضيله على الدين فيها المالَ وعلى الخلق والحشمة الإغراءَ والدلال. ولي إلى هذا الموضوع رجعات إن شاء الله تعالى. * * *

أسباب المشكلة

أسباب المشكلة نشرت سنة 1958 أمامي الآن كتابان، أحدهما من شاب موظف والآخر من آنسة شابة. الكتاب الأول يشير إلى مشكلة من أكبر المشكلات الاجتماعية في بلدنا، بل هي أكبرها بلا جدال، والكتاب الثاني يقدم الحلّ لهذه المشكلة. ولو أني أعددت العدة وهيأت الوسيلة ليصلا إليّ في يوم واحد لما وُفّقت إلى ما جاءت به هذه المصادفة العجيبة. وأكرر القول بأن الكتابين أمامي، فلا تظنوا أني أتخيّل، وفيهما الأسماء والعناوين ولكني لن أذكر منها شيئاً. يقول صاحب الكتاب الأول إنه موظف صغير براتب لا يتجاوز مئتي ليرة، وأنه شريف المَحتد حسن الخلق، أحبّ أن يعصم نفسه بالزواج وأن ينشئ له أسرة، فخطب أول مرة فبحثوا عنه وسألوا، فلما لم ينكروا منه خلقاً ولا ديناً قالوا إن راتبه قليل. فخطب مرة ثانية وأفهمهم أن راتبه قليل، قالوا: "وما الراتب؟ هل هي بيعة يُبحث فيها عن الثمن؟ نحن لا نهتم بالمال". ففرح وقال: "هنا حَطَّ بنا الجَمّال (¬1) ". وكاد ينتهي الأمر لولا أنهم قالوا إنه قبيح الصورة، مع أنه جميل (هو الذي يشهد لنفسه بالجمال لا أنا، ¬

_ (¬1) هذا التعبير من العامي الفصيح.

وأنا لم أره ولا أعرف وجهه). فخطب مرة ثالثة وقال لهم: "لا نريد مشاكل، والشرط في الحقل ولا الخصومة في البيدر (¬1). أنا موظف صغير مرتبي مئتا ليرة سورية فقط، وشكلي كما ترون". قالوا: "قبلنا بشكلك وراتبك، ونحن نرحب بك، ولكنا لا نكتم عنك أن أخت البنت تزوجت بأربعة آلاف، ونحن لا نستطيع أن ننقص مهرها عن مهر أختها". فلما سمع بالأربعة الآلاف قال: "السلام عليكم". وخطب الرابعة، وقال لهم: "إن مرتبي كذا، وشكلي كذا، وأنا لا أدفع أكثر من ألف ليرة مهراً". قالوا: "أهلاً وسهلاً، قبلنا". وبعد مفاوضات ومحادثات لا آخر لها قالوا: "لا بد من أن تترك أهلك وتستأجر داراً وتفرش غرفة نوم". فحسب ذلك فوجده أثقل من ذلك المهر فولّى هارباً. وخطب الخامسة، ووضح كلّ شيء وقبلوا بكل شيء، وقُرئت الفاتحة، واجتمع بالمخطوبة، وأعد المال، وعُملت معاملة الزواج، ولكنهم رفضوا في اللحظة الأخيرة إذ تبين أن أم الشاب من النوع «البلدي»، لا تعرف شرائط الحفلات ولا قواعد الزيارات، وأنها شوهدت متلبسة بجريمة فظيعة، إذ استعملت في وليمة الخطبة شوكة اللحم في أكل البطيخ، وشربت الشوربة بصوت مسموع، وقشرت التفاحة وهي تمسكها بيدها! ونسي صاحب الكتاب ذنباً آخر لهذه الأم «البلدية»، هي أنها كلما أكلت حركت ذقنها! لذلك ترك التفكير بالزواج وكره النساء، حتى صار سوداوياً ¬

_ (¬1) وهذا أيضاً.

موسوساً. وهو يختم كلامه بشتائم حارة منتقاة للبنات وآباء البنات (وأنا منهم مع الأسف) ولهذا المجتمع كله. * * * أما الكتاب الثاني فتقول صاحبته إنها إحدى ثلاث أخوات شابات يعشن في كنف أخيهن، وهو لا يقصر في الإنفاق عليهن، ولكنه كلما جاء خاطب ردّه وتمحّل له الحيل؛ فهذا ضيّق ذات اليد وهو يخاف أن يضيّق على أخته، وهذا جاهل ليس كفواً له وهو العالم الجليل (أي في رأي نفسه)، وهذا من أسرة مجهولة، وهذا مقطوع ليس له أحد فهو يخشى إذا كان خلاف ألا يجد من أهله من يكلمه في أمره، وهذا كثير الأهل له أم وأخت وامرأة أخ، فهو يخشى أن يظلمن أخته ... وإذا جاء خاطب لم يجد له علّة أغلى عليه المهر وأرهقه بالتكاليف. وهي تستشير وتستجير، وتخاف أن يشيع ذلك عنها فلا يُقبل الخُطّاب إليها وتبقى عانساً طول عمرها. * * * هذان هما الكتابان يا أيها السامعون، وهذه هي المشكلة الكبرى في حياتنا الاجتماعية: بنات شابات يملأن البيوت ينتظرن الزواج، وشباب عزاب يجوبون الطرقات يطلبون الزواج. ولكن بين الفريقين سداً منيعاً، يمنعهما من الاتصال الحلال فقط، أما في الحرام فليس بين الفريقين حجاب! وهذا السد هو الآباء، عفواً، لست أعني الآباء جميعاً، بل الذين لم يدركوا إلى الآن أن في الدنيا اليوم وباءً فتّاكاً يدمر الأخلاق ويبدّد الأعراض، وأنه لا

دواء له ولا منجى منه إلا بالزواج، وأن كل من يمنع الزواج أو يضع في طريقه العراقيل أو لا يسهّله وهو قادر على تسهيله يكون عاملاً على زيادة هذا الوباء ونشره، وأن الخطر فيه على الجنسين ولكن الخطر على البنات أشدّ، لأن الشاب يجني جنايته ويمضي والبنت هي التي تحمل عواقبها، ولأن المجتمع يغفر للشاب ويقول: "ولد أثم وتاب" ولكنه لا يغفر للمرأة أبداً ولا يقبل لها توبة، وأن والد البنت لو عقل لسعى هو في زواجها. لا؛ لا يعرضها على الناس ولا يرمي بها إلى أول طالب لها، بل يتبع سبيل الشرع وطريق العقل، فينظر إلى دين الخاطب وإلى خلقه، فإن رضي دينه وخلقه نظر إلى وضع أسرته وعادات أهله وتفكيرهم، فإن كان هو وأسرته موافقين للبنت وأسرتها، متقاربَين في الغنى والفقر وفي العادات وفي الوسط، وكان يستطيع أن يعيّشها كما كانت تعيش في بيت أبيها (¬1)، فليقبل به. أما المهر فلا بدّ منه، ولكن ليكن معتدلاً لا يرهق الخاطب ولا يضيع حق البنت. فإن كان الخاطب صالحاً وليس في يده مال حاضر (كأكثر الشباب) فليكن المهر مؤجَّلاً، فإن وفّقَ الله وعاشا بسلام لم يضره كثرته مع تأجيله. المهر شيء لازم، أما الشيء الذي ليس بلازم ولا مطلوب، والذي يمنع الزواج حقاً ويصعّبه ويعرقل مسيره، فهو هذه العادات السيئة المتّبَعة في الزواج. وهذه العادات إنما يُسأَل عنها ويحمل تبعتها النساء. وأنا أقول بالعناية بكل ما ينفع الزوجين في حياتهما، ¬

_ (¬1) وهذا هو الشرط الأول.

أما الذي لا يفيد الزوجين ولا تدوم منفعته إلا سبعة أيام فهذا الذي لا أقول به. إن هذه العادات تكلف أكثر من المهر، تكلف الخاطب وتكلف الأب وربما كان فيها خراب البيتين. وحفلة العقد لا بد منها، وهي من السنة، ولكن المصيبة أولاً في الثياب؛ أنا أحضر بالبذلة التي ألبسها عشرين حفلة وأبقى عليها خمس سنين، أما الأم فلا تحضر حفلة البنت الثانية بالبذلة التي حضرت بها حفلة البنت الأولى، يا عيب الشؤم! كيف يراها الناس بها مرتين؟! والأخت كذلك، والعمة وبنت العم، وأخت سلفة امرأة العم، وحماة خالة السلفة ... كل واحدة تكلّف زوجها ثمن ثوب جديد لهذه الحفلة! أي أن الحفلة الواحدة تفسد موازنة أربعين أسرة، وربما أدت إلى خلاف يدمر حياتها الزوجية. هذه واحدة، والثانية في طاقات الأزهار. أعرف حفلة عرس كانت في دمشق بلغ ثمن ما أحضر فيها من زهر ألفَي ليرة. ألفي ليرة حقيقة! أتدرون ماذا كان مصيرها؟ لم يتسع لها المكان فركم بعضها فوق بعض، فاستؤجر لها بعد يومين طُنْبُر (¬1) ليحملها إلى المزبلة. ألفا ليرة ألقيت على المزبلة وفي البلد ألفا أسرة تتمنى الليرة! والثالثة: عُلَب الملبَّس، وثمن الواحدة منها لا يقل عن خمسة وسبعين قرشاً وقد يصل إلى خمس ليرات، وملؤها يكلف نصف ليرة، فاحسبوا كم يكون ثمن هذه العلب لحفلة متوسطة فيها مئة مدعو أو مدعوة. ¬

_ (¬1) عربة نقل صغيرة يجرّها حيوان (بغل أو حمار).

هذا في حفلات الأوساط من أمثالنا، ولم أذكر الحفلات التي تكون في النوادي والفنادق والتي تشتمل على المئات من المدعوّين ويكون فيها من التبذير والمعاصي وإضاعة الأموال ما لا يدري به إلا الله. ولا يقتصر الأمر على هذه الحفلة، فإن وراءها حفلة العرس والهدايا التي يشترط تقديمها إلى العروس و «النقوط»، وهي بلاء آخر: يكون عندك الفرح فيهدى إليك أشياء لا تحتاج إليها ولا تنتفع بها، وقد تتكرر الهدايا فيجيئك عشر ثريات وليس في دارك إلا أربع غرف، وإن بعتَها عيّروك ببيعها، فلا تدري ماذا تصنع بها. ثم يطالبونك بوفاء هذا الدين فجأة. تكون قد وضعت موازنتك وحسبت وجمعت واستعملت الجبر والهندسة وحساب اللوغارتمات حتى أوشكت أن تعدل النفقات بالواردات، فتفاجَأ بطلب مئة ليرة ثمن هدية لفلان الذي زوج بنته. فتقول: إذا كان في دار فلان الفرح بزواج بنته، فهل يلزم من ذلك أن يكون في داري الحزن لاختلال موازنتي؟ فتقول المرأة: وهل نسيت إذ أهدى إلى ابنتك الزهرية الثمينة المصنوعة من الفخار الصيني؟ تقول: وهل طلبت أن يهدى إلى بنتي زهرية ثمينة مصنوعة من الفخار الصيني؟ وما الذي استفدته أنا منها؟ وقد وضعت في دار بنتي لا في داري، ولو وُضعت في داري فما فائدتها إلا رجفة القلب من الخوف الدائم عليها أن تصطدم بها الخادم ويرميها الولد فتنكسر؟!

فتقول: لا بد من ذلك، عيب! وما تزال تلح عليك وتثقب بذلك أذنيك حتى تستسلم وترفع الراية البيضاء، وتقول: خذوا اشتروا هدايا للناس بثمن خبز العيال وعلى العقل السلام. هذه العادات التي يدافع عنها أمهات البنات، والحماقة التي تشتمل عليها رؤوس بعض الآباء، هي سبب المشكلة. ولو أننا استطعنا الاستغناء عن الحفلات الكبيرة وقصرنا الأمر على الأقربين من الأهل، وألغينا الكماليات التي لا نفع لها، ومنها غطاء السرير (طقم التخت) الذي لا يستعمل إلا خمس مرات من العمر وثمن الرخيص منه يزيد عن مئة ليرة، أما الغالي فأعوذ بالله من ثمنه. ولو عقلنا أكثر لاستغنينا عن ثوب العرس الذي لا يُلبَس إلا أياماً ثم يعلق في الخزانة كما يعلق الهيكل العظمي في خزائن كلية الطب، لماذا ننفق المئات وربما أنفقنا الألوف ثمن هذا الثوب إذا كان لا يُلبس إلا أياماً؟ لماذا لا نستأجره أو نستعيره؟ أنا أرى أن ننظر في هذه النفقات، فما كان منها ضرورياً للعروسين مفيداً لهما في حياتهما الزوجية وكانا يقدران على دفع ثمنه قبلنا به، وما كان الغرض منه مجرد إعجاب الناس (كثوب الزفاف وغطاء السرير وطاقات الزهر وعلب الملبس) أبَيْناه. إن كل واحد منا يحب أن يثني الناس عليه ولكن دفع ألف ليرة لسماع كلمة إعجاب، كلمة «ما شاء الله، والله شيء حلو» حماقة، إن قيمتها أقل من ذلك بكثير.

وبعد، فإن فيما كتب الشاب في الكتاب الأول مبالغة. ولو أنه خطب من أمثاله، من ناس يعرفهم من قبل الخطبة ويعرفونه، لما ردّوه ولما اعترضوا على ماله ولا على شكله ولا على أبيه وأمه. ولو أن التي كتبت إليّ الكتاب الثاني راجعت القاضي لمّا جاءها الخاطب الصالح، وتيقن القاضي من صلاحه ومن تعنّت الولي، لزوّجها على رغم أنف أخيها. * * * يا أيها السامعون، إنه لا يُصلح ما نشكو من الفساد إلا تسهيل الزواج. وأنا أرى أن من يسعى في زواج ويعمل على إتمامه يكون ساعياً في خير وبرّ، عاملاً لمكرمة وفضيلة، ويكون قائماً بطاعة الله وخدمة الوطن. فيا مَن عنده بنات: لا تردّوا الخاطب الصالح إذا جاءكم ولا ترهقوه بالمطالب. ويا أيها الشباب: عجلوا بالزواج، فإنكم لا تطيعون الله بعد إتيان الفرائض وترك المحرمات بأفضل من الزواج، تصونون به أخلاقكم وتحفظون به دينكم. ويا عقلاء البلد، ويا دعاة الإصلاح، ويا أرباب الأقلام، ويا أصحاب المنابر: اجعلوا الزواج من أول ما تعملون له وتسعون لتيسيره. والله يوفقكم ويجزل ثوابكم. * * *

إبراهيم بك هنانو قال لي!

إبراهيم بك هنانو قال لي! (¬1) نشرت سنة 1946 هذا إنذار، أستحلف كل قارئ من قرّاء الرسالة في الشام أن يحدّث به وينشره ثم يحفظه ... فإنه سيجيء يوم تضطره أحداثه أن يعود إليه فيقول: "يا ليته قد نفعنا هذا الإنذار، يا ليتنا ... " ويومئذ لا تنفع شيئاً «ليت»؛ إنها لا ترد ما ذهب ولا ترجع ما فات! وهذا إعذار إلى الله، ثم إلى كُتّاب التاريخ، لئلا يقولوا إنها لم ترتفع في دمشق صيحة إنكار لهذا المنكر ولم يعلُ فيها صوت ناطق بحق ... وإن كتّابها وأدباءها حضروا مولد سنّةٍ من «ألْعَن» سنن إبليس فلم يقتلوها وليدة ضعيفة، وتركوها تكبر وتنمو حتى صارت طاعوناً جارفاً، حتى غدت ناراً آكلة، حتى استحالت داهية دَهْياء أيسر ما فيها الخسف والمسخ والهلاك ... ونعوذ بالله من تذكير لا ينفع وإنذار لا يفيد. ¬

_ (¬1) نشر جدي هذه المقالة رداً على ما كان في احتفالات الجلاء من عدوان على الدين والأخلاق، وقد أثارت في الشام ضجة وكانت لها آثار. انظر تفصيلات ذلك كله في الحلقة 148 من «الذكريات»، 5/ 304 وما بعدها من الطبعة الجديدة (مجاهد).

وبعد، فقد حدثني صديق لي فقال: كنت أمس في مجلس، وكنا نتحدث فيما كان «يوم العرض» من «مناظر الكَشّافات، ومنظر الأسيرة، والعروس» حديثَ إنكار وأسف لما كان، ونعجب كيف جاز على رجال هذا العهد الوطني وهم -فيما نرى- أهل الشهامة والمروءة والغيرة على الأعراض. وكان في المجلس الزعيم الجليل عضو مجلس النواب، إبراهيم بك هنانو (¬1)، فرأيته يُعرض عن هذا الحديث ويَصرف عنه، وانقاد له الحاضرون فضربوا في أحاديث أخرى. فلما انفضّ المجلس خرجت معه فعاد إلى يوم العرض وخبره، واختصّني بهذا الحديث وأذِن لي أن أنشره. قال رعاه الله: إنك لتعجب كيف تم هذا الخزي وكيف مرّ على رجال هذا العهد الوطني فلم يتنبهوا له، وأنا أخبرك بسرّ ما تعجب منه، وقعت عليه مصادفة ... وذلك أني ذهبت قبل العرض بأيام في حاجة لي إلى منزل «فلان» الفرنسي، ومنزله في الميدان الذي يتقاطع فيه الشارعان الكبيران: شارع يوسف العظمة وشارع كلية الهندسة، فوجدت المنزل كأنه خال والمتاع مرصوص مربوط، فعلَ المتهيّئ للسفر. وكان النور يسطع من شق باب غرفته، فهممت أن أدخل عليه، فسمعت كلاماً وحديثاً. فانتحيت ناحية أنتظر تمام الحديث إذ ليس من الأدب أن أدخل على متحدثَيْن، فسقط إليّ كلام لا يستطيع المرء أن يغلق أذنيه عن مثله. ولم يكن استراق السمع من عادتي، غير أني وقفت، وقد أدركت أن «فلاناً» هذا يتحدث مع «رجل ...» أعرفه من ¬

_ (¬1) توفي رحمه الله سنة 1935، قبل نشر هذه المقالة بإحدى عشرة سنة!

أذناب القوم ومن أعوانهم وممن رُفعوا إلى المناصب العالية. وكانا يتشاكيان الفراق ويتحدثان وكأنهما يتباكيان. وربّ كلمات يقطر منها الدمع، ورب حروف هي قلوب تتفطر! ويتذاكران الأيام الماضية وكيف دارت الأيام. وكان من حديث صاحبنا الشامي الذي سمعته مترجماً إلى لغة القلم ولسان الأدب قوله (والخطاب للفرنسيين): لئن كُتب عليكم أن تذهبوا فإنكم ستعودون عاجلاً ثم لا تذهبون أبداً. على أني سأنتقم لكم، وسأعدّ وحدي العدّة لعودتكم. سأصنع في ليالٍ ما لم تصنعوه أنتم في ربع قرن وتسعة أشهر ... سأريكم قوتي. وليست القوة أن تسوق على عدوّك العسكرَ اللّجب والمدافع والدبابات تضرب بها قلعته، ولكن القوة أن تأتيه باسماً مصافحاً فتحتال عليه حتى يفتح لك قلعته بيده، فإذا أنت قد امتلكتها بلا حرب ولا ضرب. إني سأدسّ لهم دسيسة في عيد الجلاء؛ لا أصبر والله حتى ينتهي العيد. إنها فرصة إن لم أغتنمها لم أكد أجد مثلها. وأنا أعْرَفُ بأهل بلدي، وإن لم يكن دينهم من ديني؛ إنهم لا يؤتَون بالقوة ولا تنفع فيهم. وقد جربتم ورأيتم، فما قتلتم منهم مبغضاً لكم إلاّ وُلد عشرة هم أبغض منه لكم، وما هدمتم داراً من دورهم إلاّ هدمتم معها ركناً من «انتدابكم» عليهم، ولا أشعلتم النار في حيّ لهم إلاّ كانت هذه النار حماسة في قلوبهم عليكم ونار ثورة تتعبكم. ولا يؤخَذون بالشُّبَه تُلقى عليهم في دينهم، ولا بالثقافة التي تحمل الإلحاد والكفر تحت عناوين العلم والفنّ. وما جئتموهم بكتاب هو في زعمكم هدم لدينهم إلاّ أثرتم عليكم مشايخهم وجمعياتهم، فهبّوا يدافعون، فإذا أنتم قد قوّيتم بعملكم إيمانهم في صدورهم. وما يُنالون بالقوانين التي تبطل

قرآنهم، وقد علمتم حينما جربتم أن تأتوا بالظهير البربري مهذّباً ملطفاً لابساً ثوب «قانون الطوائف» ماذا جرى عليكم إذ أبطلتموه بأيديكم ... ولا بالأموال التي تشترون بها ضمائر زعمائهم وقادتهم: لأن من هذه الضمائر ما هو كالوقف (عندهم) لا يُباع ولا يُشرى ولا يوهب ... ولا بإرهاب الزعماء وحبسهم، وهذا هو الرجل الذي ضربه سنة 1936 رجالُكم بعصيّهم صار هو رئيس الجمهورية التي تخرجون منها غداً ... فقال له «فلان» الفرنسي: ومن أين تأتيهم أنت؟ وهل تقدر على ما عجزت عنه فرنسا؟ قال: نعم؛ ولو كنتم قد سمعتم مني ما عجزتم. إنّي آتيهم من الباب الذي لا يستطيع أن يراه أحد مفتوحاً إلاّ ولجه، إني أحاربهم بغرائزهم فأجعلهم يهدمون بيوتهم بأيديهم، وأثير عليهم نساءهم وأثيرهم على نسائهم، وألقي الضعف والخُلف فيهم، فأفسد عليهم رجولتهم وأخرّب أُسَرَهم، وأجعل رجالهم أخشاباً قد شغلت كل خشبة بهواها ولذتها ... إني آتيهم من باب «الغريزة الجنسية» الذي لم تدخل منه أمة إلاّ دخلت جهنم التي تحرقها، ولا تخرج منها -من بعدُ- أبداً. قال الفرنسي: أما أدخلناهم نحن من هذا الباب؟ أما قلنا لهم: إن تعريض أجسام الشباب والشابات للهواء والشمس صحة لهم وقوة. فأبوا وقالوا: كلا، إنه تعريص (بالصاد)؟ أما قلنا لهم: إن هذا الحجاب همجية ووحشية، وإن التقدم والمدنية بالسفور؟ أما أنشأنا لذلك جمعيات؟ أما فتحت هذه الجمعيات مدارس؟ أما صنعت هذه المدارس أكثر مما صنعت الفرنسيسكان؟ إننا لم نصل

بعد ذلك كله إلى شيء. قال الآخر: إن الصبر عند الصدمة الأولى، فإذا استطعت أن أضرب ضربة واحدة ضمنت النجاح، وإني سآتيهم عن طريق الوطنية؛ سأقول: إنه يوم عيد الوطن، عيد الجلاء، عيد الرجال والنساء ... * * * قال إبراهيم بك: ثم دخل داخلٌ فتنحيت عن مكاني، فلم أسمع شيئاً بعد ذلك. فلما حضرت العرض، ورأيت الذي كان، عرفت من أين جاء البلاء. على أن هذا الرجل وأشباهه لم يصنعوا ما صنعوا حباً بفرنسا ولا إخلاصاً لها. إن قلوبهم أضيق من أن تتسع لإخلاص حتى ولو لفرنسا ... ولكن حباً بأنفسهم وحرصاً على لذتهم. إنهم يكادون يُجَنّون إذ يجدون سوريا لا تزال نساؤها مستترات متحجبات، ولا يفتؤون يسّاءلون أنْ: كيف السبيل إلى هتك الحجاب؟ لماذا لا تكون كفرنسا حيث لا تُستر عورة ولا يُحجب جمال ولا يُمنع من لذة طالبُها؟ لقد احتجّوا بالصحة وأن الحجاب ضعف ومرض، فكذّبهم كون المتحجبات أصح أجساماً وأقوى وأبعد عن المرض، وأن من السافرات مصابات بالزهري والسيَلان. واحتجوا بالتمدن وأن الحجاب رجعية وتوحش، فلم يصدقهم أحد. فجاؤوا هذه المرة فأخذونا على حين غرة وغفلة، وأفادهم أن كان الناس في الفرحة الكبرى، في عيد الجلاء، فقالوا للناس: "إنه يوم فرح، فلتشارك المدارس فيه الأمة. ليُظهر

الطلاب والطالبات سرورهم ويعلنوا عاطفتهم". ثم ذهبوا فأعدوا هذه «المناظر» التي كانت يوم العرض كبقعة النجس في ثوب العروس الأبيض! ألا مَن كان يظن أنّ مثل هذا يكون في دمشق ولا تزلزل الأرض زلزالها؟ من كان يظن أن الآباء ينسون نخوتهم؟ وهؤلاء النفر من رجال التعليم، وهم الأمناء على الطالبات، يضيعون أمانتهم ويحولون الأمر عن وجهته؟ فبعد أن كان للعزة الوطنية وللمجد وللنبل صار للشهوة واللذة والغريزة الجنسية! لقد جعلته هذه المشاهد «مَرقصاً»! كل ذلك تقليداً للأجنبي الذي نحتفل اليوم بجلائه عنا، الأجنبي الذي هُزم في الحرب ووطئته نعال أعدائه، وقد كان له جيش لُجّي يزيد في عَدده عن جيش أعدائه، وقد كان له خط ماجينو، وأمة تعد أربعين مليوناً، ومستعمرات ... فلم يُغنِ عنه جيشه ولا حصونه ولا عدده لمّا أضاع الأخلاق وفرّط بالعفاف. لا، لا تقولوا: "إنه يوم العيد يجوز فيه ما لا يجوز في غيره"، فإن المرأة التي تسقط يوم العيد كالتي تزلّ يوم المأتم، والناس يزدرون المرأة «الساقطة» من غير أن يسألوا متى كان سقوطها! ألا مَن كان له قلب فليتفطّر اليوم أسفاً على الحياء. مَن كانت له عين فلتبكِ اليوم دماً على الأخلاق. مَن كان له عقل فليفكر بعقله، فما بالفجور يكون عزُّ الوطن وضمان الاستقلال، ولكن بالأخلاق تُحفظ الأمجاد وتسمو الأوطان.

فإذا كنتم تحسبون أن إطلاق الغرائز من قيد الدين والخلق، والعورات من أسر الحجاب والستر، من ضرورات التقدم ولوازم الحضارة، وتركتم كل إنسان وشهوته وهواه، فإنكم لا تحمدون مغبّة ما تفعلون، وإنكم ستندمون (ولاتَ ساعة مَنْدَم) إذا ادْلَهمّت المصائب غداً وتتالت الأحداث، وتلفتُّم تفتشون عن حُماة الوطن وذادة الحمى فلم تجدوا إلاّ شباباً رخواً ضعيفاً لا يصلح إلاّ للرقص والغناء والحبّ. فاللهَ اللهَ، والأمةَ والمستقبلَ! إننا خرجنا من هذا الجهاد بعزائم تزيح الراسيات وهمم تحمل الجبال، فلا تضيّعوا هذه العزائم، لا تُذهبوا هذه الهمم، ولا تناموا عن حماية استقلالكم، فمن نام عن غنمه أكلتها الذئاب! إن هذا الجلاء نعمة من نعم الله، فتلقُّوها بالشكر والطاعة واحفظوها بالجدّ والأخلاق، فبالشكر تدوم النعم، وبالإخلاص تبقى الأمم، وبالمعاصي تبيد وتهلك. إن أجدادنا كانوا يحتفلون بالنصر بحمد الله وطاعته فيقودهم الاحتفال إلى نصر جديد، وكذلك تفعل الأمم الحيّة اليوم. أما سمعتم بحفلات تتويج ملك الإنكليز؟ لقد كان نصفها في الكنيسة، فلماذا يكون احتفالنا بالجلاء اختلاطاً وتكشفاً وغناء ورقصاً واستهتاراً، كأننا لم ينزل علينا كتابٌ ولم يُبعث فينا نبيّ ولم يكمل لنا دِين؟ إني أخاف -والله- أن يكون الأجنبي قد أجلى جيوشه عنا وترك فينا قنابل تتفجّر كل يوم، فتدمّر علينا أخلاقنا وأوطاننا واستقلالنا! إن كل عورة مكشوفة وفسوق ظاهر قنبلة أشدّ فتكاً من قنابل البارود، ولا يخفى ضررها إلاّ على أحمق.

يا أيها الناس: لقد جلت جيوش العدو عن أرضكم فأَجْلوا عن بيوتكم عاداتهم، وعن رؤوسكم شُبُهاتهم، وعن مدارسكم مناهجَهم، وعن شوارعكم حاناتهم ومراقصهم، وعن محاكمكم قوانينَهم، وعن أجسام بناتكم وأولادكم ثيابَهم الكاشفة الفاضحة وأزياءهم. وذلك هو الجلاء الحق، وذلك هو العيد الأكبر. * * * هذا ما قاله لصديقي الزعيمُ إبراهيم بك هنانو عضوُ مجلس النواب السوري، أنقله بنصّه، والعهدة على هذا الصديق (¬1). * * * ¬

_ (¬1) صاغ جدي -رحمه الله- هذا المقال وكأنه حديث منقول عن إبراهيم هنانو. وهذا الرجل لا يبدو معروفاً لأكثر الناس رغم أنه واحد من كبار المجاهدين في التاريخ السوري الحديث؛ قاتل الفرنسيين بعد هزيمة الجيش السوري في ميسلون وجمع حوله الجموع، وألّف حكومة وطنية في شمال سوريا استمرت عشرين شهراً خاض فيها سبعاً وعشرين معركة مع الفرنسيين ظفر فيها جميعاً، واتسع نفوذه ولُقِّب باسم «المتوكل على الله»، ثم اعتقله الإنكليز في فلسطين وسلموه إلى الفرنسيين الذين حاكموه محاكمة شغلت سوريا شهوراً وانتهت باعتبار ثورته «سياسية مشروعة»، وأطلق سراحه فانصرف إلى العمل السياسي، واجتمعت عليه سوريا كلها إلى أن توفي في حلب بداء السل سنة 1935 (قبل الجلاء بإحدى عشرة سنة) (مجاهد).

من حديث المزعجات

من حديث المزعجات أذيعت سنة 1958 الكلام اليوم في حديث المزعجات. وأنا أحب قبل أن أبدأ الحديث أن أخبركم بسر من أسرار المهنة، هو أن الحديث العلمي الذي أتعب في إعداده وأنفق فيه الساعات الطويلة لا يلقى من التشجيع والرضا عُشرَ ما يلقاه حديثٌ كحديث اليوم الذي أكتبه في ساعة واحدة بلا كد ولا تعب، فهل معنى هذا أن أكثر السامعين والسامعات من غير العلماء والمثقفين أم أن الناس (حتى العلماء منهم والمثقفين) لا ينتظرون من الإذاعة إلا أمثال هذه الأحاديث السهلة القريبة؟ ولكن ما لي وما لهذا الكلام، وأنا الرابح على كل حال؟ * * * إن أزعج المزعجات وأشنع المصائب هذا الرادّ (الراديو). أفليس عجيباً أن أذيع فيه وأتكلم عنه؟ هذا الرادّ الذي حطم أعصابي وأطار صوابي، والذي اخترعه مخترعه ليؤذي به الأدباء وأهل الفكر، فكلما استغرقوا في أفكارهم أو طاروا في آفاق خيالهم أو نسوا الدنيا وما فيها في غمرة التأمل أو في ذهلة

الإلهام، قرع آذانهم صوت الرادّ من بيت الجيران بأغنية رقيقة أو موسيقا صاخبة، أو حديث أشد إزعاجاً وغلاظة من حديثي هذا، فطارت الأفكار وامّحت صور الخيال وانقطع الإلهام. ولكن لا. إني أظلم المخترع، فإنه ما اخترع الراد لهؤلاء الجاهلين المزعجين الذين لا يطربون إلاّ إن أسمعوا معهم مئة دار، لا يدرون حينما يمدون إصبعهم الواحدة فيحركون هذا المفتاح حركة طفيفة كم أطاروا النوم من رأس مريض يقاسي الآلام ويرجو لحظة منام، وكم ضيعوا على العلماء والأدباء من ثمرات العقول وصور الجمال، وكم شغلوا تلميذاً عن امتحانه، وكم جرحوا من قلوب المحزونين! وأنا لا أكره أن يستمتع كل امرئ بحريته فيسمع ما شاء من الأغاني المباحة ويطرب ما طاب له الطرب، ولكن ما ذنبي أنا؟ ولماذا يسلبني حريتي فيُسمعني ما يشاء هو لا ما أشاء أنا؟ لماذا يطربني على رغم أنفي، ومَن أدراه أني أطرب للذي يطرب له هو، وأن الأغنية التي يحبها هو لا أكرهها أنا والتي تلذّه لا تسوؤني؟ ولماذا يزعج دائرة قطرها مئة متر وفيها خمسمئة إنسان؟ لقد صرت أكره الرادّ وكل ما يأتي به، ولقد أفسد ذوقي وذهب بالحسّ الفني من نفسي! كنا إذا سمعنا الأغنية الحلوة طربنا لها وصفّقت لها قلوبنا، فما زالت بنا الإذاعات حتى كرّهت إلينا كل أغنية حلوة لأنها تعيدها مرة ثانية، وثالثة، وعاشرة، وتعيدها المرة التاسعة والتسعين، فلا يبقى منها إلاّ ما يبقى من البرتقالة عصرتَ ماءها. وخذ ألذّ أكلة تحبها، إنْ فرضوها عليك شهراً كاملاً لا تأكل غيرها الصباح والظهر والمساء وعشر مرات

خلال ذلك، فإنك تكرهها وتشتهي أن تستبدل بها خبزاً وبصلاً. ولو كان سهماً واحداً لاتّقيته، ولكن جارك هذا يحب السهر فهو يفتح الراد على مصراعيه فلا يزال يجلجل ويولول إلى نصف الليل، وذاك يحب البكور فهو يقوم فيفتح الراد على مصراعيه من قبل طلوع الشمس! هذا واحد. الثاني: هذه السيارات؛ إن سرت في الشارع حملتَ روحك على كفك ووضعت الموت بين عينيك، إذ تراها أمامك ووراءك وعن يمينك وعن شمالك، كأن الجميع يتسابقون إلى امتلاك مناجم الذهب، فما فيهم إلاّ مسرع كالمجنون يجوز بك كأنه راكب على أجنحة شيطان فلا تستطيع أن تراه، وإن كان الليل أعمت العيون بهذه المصابيح فلا ندري أين المفرّ؟ وإن هربتَ إلى دارك لحقتك أصواتها التي توقظ الموتى وتميت الأحياء، وتنزل على رأس النائم كأنها ضربة مطرقة من حديد. وما أدري لماذا يركّبون لها هذه الزمّارات الشنيعة التي يبلغ صوتها مسيرة كيل (كيلومتر) وهذه المصابيح التي يصل ضوؤها إلى بعد عشرين كيلاً؟ والثالث: هو الهاتف الآلي؛ يرنّ الساعة الثانية من الصباح فتقوم من نومك مرتاعاً فزعاً تحسب أن قد حل خطب بقريبك أو حبيبك، وتتعثر وأنت ماش بعيون أغلقها النعاس، وتصطدم بالمنضدة فتصاب ركبتك أو تكسر الآنية الثمينة التي ترتبط بذكرى عزيزة عليك، حتى إذا وصلت إلى سماعة الهاتف قال لك: "آلو،

ملهى السريانا؟ "! أو تفتح عليك امرأة ملهوفة وأنت مسرع في الصباح إلى عملك، فترجوك أن تدعو لها جارتك فلانة لأمر ضروري لا يحتمل التأجيل، وقد يكون بينك وبينها خمسون متراً، فإذا أحضرتَها وحملت في ذلك المشقة والتأخير، إذا بها تريد أن تسألها عن «ثوبها» الأحمر عند أي خياطة خيّطته، وعن استقبال مديحة خانم أو الست ماري في أي يوم من الشهر! والرابع: الصديق الفارغ الوقت من العمل، الفارغ الرأس من الفكر، يحب أن يمضي ساعتين من وقته فيفتّش في قائمة أصحابه فلا يجد غيرك. وتكون صباحاً مستعجلاً إلى عملك تريد أن تلبس وتأكل وتنظر في حاجات الدار، وإن كنت ممن يعمل بعقله أو كان عندك دعوى يجب أن تدرسها قبل أن تذهب، أو مقالة ينبغي أن تتمها، أو بقية من الأشغال الشاقة (أعني تصحيح وظائف التلاميذ ...) وبينما أنت في هذه الغمرة غارقاً في لجتها إلى أذنيك إذا بالباب يُقرع، وإذا أنت بهذا الصديق المحترم. ويدخل وتضطر أن تقعد أمامه، لا تقعد على الكرسي بل على النار المتوقدة، تنظر في ساعتك ... وهو لا يبالي، ويكون بينكما هذا الحوار: "إي وشلون الصحة؟ "، "الحمد لله". "والله الجوّ اليوم طيب"، "طيب، الحمد لله". "سمعت أن ملك مراكش ألقى خطبة العرش، إنها أخبار طيبة". "نعم، أخبار طيبة". "هل قرأت قصيدة الصافي النجفي في وصف الطاووس؟ " ... فتتململ وتتحرك في مقعدك وتقوم وتقعد، فتدركه نوبة من اللطف المفاجئ فيقول لك بعد أن تَمضي عليه ساعة وربع في هذا العَلْك: "شوف أخي، أنا لست غريباً. خذ حريتك ... لا تهتم

بي، بَسْ أعطني كتاباً أقرأ فيه واشتغل شغلك"! والخامس: هذا الذي يكون في مجلس فيه سبعة أو ثمانية من الناس فيستلم وحده الحديث من بابه إلى محرابه، لا يدع لأحد فرجة بين جملتين يمد منها لسانه بكلمة ولا يبالي أملَّ الحاضرون أم تعبوا أم طلعت أرواحهم من حديثه البارد الذي يكون له أول ولا يكون له آخر، كأن القوم قد دُعوا إلى محاضرة. على أن المحاضرة لها موضوع معروف ومدة معينة، وهذه محاضرة ليس لها مدة ولا موضوع. وأفظع من ذلك أن يكون هذا الحديث في مدح نفسه وتقريظها، وأفظع منه أن يكون كذباً لا أصل له! والسادس: الذي يدخل عليك في مكتبتك أو محكمتك، يريد أن يسألك عن قضية أو يستخبرك عن دعوى، فلا يعمد إلى الموضوع مباشرة بل يسرد لك مقدمة تمتد خمس دقائق عن أدبك ومنزلتك وتشرّفه بلقائك، ثم يبدأ القصة من قبل الطوفان، ويسرد عليك منشأ الخلاف ويقف وسط الحديث ليقول: وكان حاضراً يومئذٍ جماعة منهم هذا ... الذي كان عَطّاراً في سوق الجمعة، ما اسمه؟ اللهم صلِّ على النبي، عجيب كيف نسيت؟ اسمه على رأس لساني، يلبس عمامة بيضاء، ما اسمه يا ربّي؟ ابن أخيه موظف في مؤسسة الكهرباء، وقد جاءنا من أيام وأصلح لنا الساعة ... ويبقى عشر دقائق وهو في هذا اللتّ والعَجْن، وأنت تنتظر الفرج، والمراجعون ينتظرون على الباب. والسابع: الذي يقفك في الطريق وأنت مستعجل تسير إلى

موعد ضروري، إلى درس في الجامعة أو محاكمة أو دعوة أو اجتماع. فيقول لك: "يا أستاذ ... يا أستاذ". فتتلفت، فيسلم هاشاً باشاً كأنه صاحبك من عشرين سنة وكأنه يهم بتقبيلك، وتقف أنت جامداً لأنك لا تعرفه ولم ترَ طلعته البهية قبل اليوم. فيقول لك معاتباً: "شو ما عرفتني؟ "، فتقول: "لا". فيقول: "الله! احزر يا أستاذ، تذكر". وبعد أن يسائلك دقائق، يأخذ هيئة الجد ويقول: "أحب أن أعرض عليك مسألة آخذ رأيك فيها، أنا تزوجت كما تعلم بنت فلان وكان المهر ... "، ويمضي يسرد قصة تستغرق نصف ساعة، يضيع فيها الدرس والمحاكمة والدعوة والاجتماع! والثامن: المرأة النظيفة المدبّرة ربّة البيت المثالية، التي لا يخطر على بالها تنظيف السجاد وجمع ست بنات لضربها بالعصي إلاّ على السطح قبل أن تطلع الشمس، فلا تحس وأنت نائم بعد الصلاة إلاّ ست عصي قد نزلت خَبْطاً على رأسك في أوركسترا همجية وحشية توقظ الأموات فضلاً عن النائمين. ومثلها الرجل النظيف المهذَّب الذي لا يستطيع أن يتحمل الوسخ في فمه ولا في أذنه، ولا أن ينتظر حتى ينفرد بنفسه، فلا تزال إصبعه تدور في أنفه وفي أذنه وهو في المجلس الحافل، ينكش أسنانه بعوده، وربما فعل أشنع من ذلك فنكشها بظفره ثم مسحه بالمقعد، أو أخذ جريدة أو ورقة وطواها ونظّف أسنانه بطرفها! والتاسع: الذي يدخل عليك فلا يجد على مكتبك ورقة إلاّ مدّ إليها يده فرآها، ولا كتاباً إلاّ فتحه، ولا جريدة إلاّ سحبها ونشرها ونظر فيها.

والعاشر: الذي يركب الترام فيضطجع على المقعد اضطجاعاً ويضع رجلاً فوق رجل. ولقد كنت مرة في مصر مع صديق لي من مشايخ الأزهر، معروف بالنكتة الحاضرة والروح الخفيفة، فركبنا التّرام، وكان الذي أمام الشيخ رومياً ضخم الجثة ثقيلاً، قد وضع رجلاً على رجل ومدّها حتى صار يمس بطرف حذائه جبة الشيخ، فنبهه الشيخ بلطف، فقال له: "أنا خرّ (أي حر)، إذا أنت ما بيعجبك أنت بياخذ تاكسي". فما كان من الشيخ إلاّ أن مدّ رجليه الاثنتين فوضعهما في حضنه. فقال: "إيه ده؟ إيه ده؟! "، فقال: أنت خر، أنا خرّين! وسقط الركاب من الضحك. * * *

في الفندق

في الفندق نُشرت سنة 1959 أكتب هذه الكلمات في فندق كبير في مصر لا أحب أن أسميه، لأني لا أريد الحديث عنه بالذات إنما أريد الكلام عن الفنادق كلها. يمر الناس عليه فيرون اسمه على بابه تضيء حروفه، ترقص عليها الأنوار، ويلمحون أبهاءه الواسعة وأضواءه الظاهرة، ويرون خدمه بباهي الثياب وفخم الهيئات، فيحسبون أن فيه النعيم المقيم، ويتمنون أن ينزلوا فيه ليلة في العمر ليذوقوا لذة العيش ويعرفوا ما بهجة الحياة، وأنا النازل فيه لا أتمنى إلاّ أن أخرج منه وأعود إلى بيتي. إن الإنسان لا يعرف قيمة النعم إلاّ إذا فقدها. ولقد عرفت الآن ما قيمة حياة الأسرة؛ إن قعدة بلدية على «طرّاحتي» وأولادي أمامي وكتابي في يدي أمتع من كل ما في الدنيا من فنادق. وما حياة الفنادق؟ لقد عشت فيها مرة تسعة أشهر تِباعاً، كنت أنزل خلالها في أفخمها وأعظمها، ولقد خبرتها وعرفتها فلذلك كرهتها وعفتها.

تكون لك الغرفة فيها كل ما يمتع ويريح: السرير اللين، والفراش الناعم، والحمام النظيف، والماء الحار للغسل، والماء المثلج للشرب، والهاتف والجرس والرادّ، والتدفئة في الشتاء والتبريد في الصيف، ولكنك تحسّ -مع ذلك- أنك غريب وأنك مفرد، إذا أغلقت عليك بابك لم تشعر أن معك من يعنيه أمرك ويشغله شأنك، وإذا خُدمت فإنما تُخدَم لمالك، وكل شيء في الفندق بالمال، لا تستطيع أن تخطو خطوتين إلاّ إن دفعت قرشين. إن نزلت من السيارة أسرع الفرّاش يفتح لك الباب ووقف في طريقك لا يزيح إلاّ بالقرشين، وإن ولجت الباب وجدت أمامك فرّاشاً آخر فدفعت له قرشين آخرين، وفي المصعد فرّاش ثالث وضريبة ثالثة، ورابع وخامس وتاسع وعاشر ... حتى إنك إذا دخلت دورة المياه وجدت فرّاشاً يفتح لك باب بيت الخلاء ويقول لك: "تفضل يا بيه"! ويقف، وتقف أنت لا تدري كيف تصرفه. لا يدري أنه ما سمي هذا المكان بيت الخلاء (ولا مؤاخذة) إلاّ لأنك تخلو فيه بنفسك وتكون فيه وحدك، فهل يظن هذا الأحمق والذي أرسله ليلحقك إلى هذا المكان أن المرحاض «صالون استقبال»؟! والفنادق الكبار -فوق هذا كله- هي البقعة الوحيدة التي تجوز فيها السرقة وتُرتكب علناً! فالطعام الذي ثمنه عشرة يأخذون منك فيه خمسين. وأنا أدرك فرق السرير عن السرير والغرفة عن الغرفة، وأنه إذا كانت الغرفة في الفندق الصغير بعشرين قرشاً صاغاً فلتكن هنا بجنيهين، بزيادة عشرة أضعاف، لا بأس. ولكن ما الفرق بين البيضة المسلوقة التي تباع في السوق والبيضة التي

تقدم في الفندق الكبير؟ ولماذا يكون ثمنها في السوق قرشاً وهنا خمسة قروش؟ ولماذا يكون ثمن قنينة الكوكا كولا في الفندق بثلاثة أضعاف ثمنها في السوق؟ إذا أنا أخذتها في القهوة وزادوا عليّ الثمن أفهمُ أن الفرق أجرة القعود في القهوة، ولكن لا أفهم لماذا يُزاد عليّ ثمنها وأنا آخذها في مكان دفعت أجرة إقامتي فيه مضاعفة! وهل يُعقل أن يكون عشاء الواحد بسبعين قرشاً مصرياً، إذا ضُمّ إليها ما يلحقها في العادة من ضميمة الخدمة والنُّحْلان (البقشيش) صار العشاء بجنيه للشخص الواحد، في البلد الذي يبدأ فيه راتب القاضي بخمسة عشر جنيهاً؟! هذا وما يُقدَّم في هذا العشاء لا يزيد ثمن مثله في السوق على خمسة عشر قرشاً. فماذا أسمي ذلك إذا لم أُسَمِّه سرقة؟ هذا وأنا لم أنزل في «شبرد» ولا في «هلتون» حيث تكلف كل ليلة ثمانية جنيهات، وثمانية جنيهات هو المبلغ الذي يعيش به أكثر من نصف عائلات مصر شهراً كاملاً. وما طعام الفنادق الكبار؟ أعوذ بالله من هذا الطعام. قد يزعم زاعم أنه طيب أو أنه صحي، ولكنه لا يستطيع أن يقول إنه طعام عربي ولا إنه معدّ للعرب ولا إنه طُبخ على أذواقهم؛ إنما هو ذوق الإنكليز وأسلوبهم فرضوه علينا. ولقد أكلت في أكبر الفنادق في مصر ولبنان والعراق وباكستان والهند وسيام والملايا وأندونيسيا فلم أجد (كما أني

لم أجد في فنادق أوربا الغربية، وقد نزلتها) (¬1) إلاّ طعام الإنكليز وأسلوب الإنكليز لا سيما في الفطور؛ الفطور الذي يقدم في البلاد الحارة، بل سنغافورة وهي على خط الاستواء تماماً، هو الذي يقدَّم في صوفر التي تَعْتمُّ جبالها بالثلج! فمتى نتحرر من «هذا» الاستعمار الاجتماعي و «ذلك» الاستعمار العقلي كما تحررنا من الاستعمار السياسي والعسكري؟ ومتى نعتز بعاداتنا ونتمسك بها كما يتمسكون هم بعاداتهم؟ ومتى تكون فنادقنا لنا تعدّ الطعام الذي نألفه ونشتهيه أو يكون لنا فيها -على الأقل- نصيب؟ إن من ينزل واحداً من هذه الفنادق الكبار في مصر أو دمشق أو بغداد أو جدة أو الرياض لا يحسّ أنه في بغداد ولا في دمشق ولا في مصر ولا جدة ولا الرياض، بل يظن أنه في إنكلترا أو فرنسا. كل شيء فيها أجنبي أجنبي؛ حتى اللغة ... إن اللغة التي يتخاطب بها موظفوها والتي يقدّمون لك بها قائمة الحساب ليست اللغة العربية لغة البلد. ونحن نتظرّف أو نتلطّف أو نذل ونتصاغر، لست أدري ماذا أقول، فنخاطبهم بهذه اللغة الفرنسية أو الإنكليزية ونحن في بلدنا، ونحن نملك أشرف لغة وأجود لغة وأوسع لغة وأغنى لغة بالبيان وهي لغة العرب. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين أضافه جدي -رحمه الله- إلى الطبعات الجديدة من الكتاب؛ إذ لم يكن قد زار أوربا بعدُ لما صدرت الطبعة الأولى منه ولا حين صدرت المقالة (وقد صدرت في جريدة «الأيام» في السابع والعشرين من نيسان سنة 1959) (مجاهد).

إن هذا شيء لا يُحتمَل! إني كلما سمعت العربي يتكلم في هذه الفنادق بغير العربية مجاراة لمن فيها أُحسّ النار في أعصابي من الغضب للعربية. إنهم يأكلون من خبزنا ويترفعون علينا، وإذا دخل الوطني هذه الفنادق بلباسه الشرقي العربي البلدي أروه الازدراء حتى يخجل بلباسه وهو في بلده. أقول مرة ثانية: إن هذا شيء لا يُحتمَل! لقد رضينا أن تأخذ هذه الفنادق من أموالنا بلا حق وأغمضنا عيوننا وتركناها تسرقنا، أما أن تأخذ من كرامتنا، وتعدو على لغتنا، وتزدري أزياءنا وعاداتنا، فلا. وقد يكون في عاداتنا وأزيائنا ما هو غير صالح وما يحتاج إلى تعديل أو تبديل، ولكنّا نريد أن نبدّله أو نعدّله نحن بأنفسنا برأينا ونظرنا، لا أن يعدّله لنا صبيان الفنادق و «كراسين» الأوتيلات. * * * وبعد، فإن أمانة القلم في أعناقنا -معشر الكُتّاب- توجب علينا أن نقرع به كل باب إصلاح، وهذا باب ما قرعه بقلمه قبل اليوم أحد من الكتّاب. * * *

بين المعلم والتلميذ

بين المعلّم والتلميذ نُشرت سنة 1932 دخل علينا (في العام الماضي) زميلنا الأستاذ «فلان» غرفةَ المعلمين (¬1) وهو مُرْبَدّ الوجه ساخط متذمر يرتجف من الغضب، فألقى الدفتر على المنضدة حنقاً وانتبذ ناحية من الغرفة فقعد فيها، وأمسك برأسه يفكر. فاقتربت منه وجعلت أسأله: ما لك يا?أخي؟ ماذا عراك؟ قل لنا، حدّثنا، لعله خير إن شاء الله. قال: لقد ضاع الحياء وذهبت الأخلاق، ولم يبق في التلاميذ من يستحي أو يخجل؛ ولم يبق فيهم إلاّ كل وقح صفيق الوجه، فلعنة الله على هذه المهنة المرذولة! ¬

_ (¬1) وكنت في تلك الأيام، قبل نحو ستين سنة، معلماً في المدارس الابتدائية، وكذلك كان إخواني: أنور العطار وزكي المحاسني وجميل سلطان وعبد الكريم الكرمي وسليم الزركلي، ومَن هم أصغر سناً منا كأمجد الطرابلسي وناجي الطنطاوي وصلاح الدين المنجّد وعبد?الغني الطنطاوي وشكري فيصل، وقد مضى أكثرهم إلى دار البقاء رحمهم الله. قلت: وهذه الحاشية أضافها الشيخ -رحمه الله- إلى طبعة سنة 1989 من الكتاب (مجاهد).

قلت: وما ذاك يا أخي؟ ألا تحدثني الحديث؟ هل اجترأ عليك بعض الأولاد؟ قال: وأي جراءة! كنت أقرأ عليهم درس التاريخ، فقلت لهم: "إن الفينيقيين أجدادكم (¬1) فيجب أن ... "، فما راعني إلاّ تلميذ منهم خبيث قد انبرى لي فجعل يرد عليّ ويناقشني ويقول: "لا؛ بل إن أجدادنا هم العرب الذين جاؤوا من سفح أبي قبيس وجنبات سلع تحت راية سيد العالم (محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم)، فحملوا إلى هذه البلاد رسالة الله ونشروا فيها نور الإسلام ونفخوا فيها روح الصحراء. ثم لم يقنع هذا الولد الخبيث بجوابي ولم يسكت ولم يَنِ يتكلم ويناقش حتى أخرسته بالقوة. قبّحه الله وقبح مَن لقّنه هذه الآراء! قبحه الله ما أشد وقاحته وأكثر سلاطته! ما جئته بحجّة إلا جاء بثلاث، ولا قلت كلمة إلا قال أربعاً ... قبح الله من لقّنه هذه الآراء! قلت: حسبك تقبيحاً يرحمك الله. إن الذي لقّنه هذه الآراء إنما هو ... أنا! أفلا تراها أرضى للحق ولمصلحة الأمة من آرائك هذه التي جئته بها، والتي جاء بها من قبلك فريق من أعدائنا وخصومنا ففرّقوا كلمتنا وكذبوا على تاريخنا، بفرعونية ابتدعوها في مصر ما أنزل الله بها من سلطان، وفينيقية اخترعوها في الشام، وآشورية سيبتكرونها في العراق، وعفريتية سيأتون بها في ... فيما لست أدري أين؟ كأنما يرضيهم أن ننتسب للشياطين أو للقردة (أجداد دارون وشيعته) ولا ننتسب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فنقرأ تاريخها، ¬

_ (¬1) هذا ما كان في مناهج التاريخ تلك الأيام.

فنملأ الدنيا فخراً بها وعملاً على إحياء مجدها. وعدّ يا أخي عن هذا وأخبرني: لماذا تغضب إذا ناقشك تلميذك، وتخشى أن تعود للحق لأنه جاء على لسان تلميذ وتصر على الباطل لأنه خرج من فيك؟ أليس خيراً لك وأجدر بك وأنت معلم أن تعود إلى الحق وتكافئ صاحبه، وتعلّم التلاميذ أنه لا شيء أحلى من الثبات على الرأي إلاّ الرجوع إلى ما هو خير منه، بدلاً من أن تعلمهم كيف يثبتون على الباطل ويدحضون به الحق؟ - لا، لا. أنا أعدّ هذه الآراء تعدّياً على حرمة المعلمين وتشجيعاً للتلاميذ على مناوأتهم والمشاغبة عليهم. قلت: وأنا أعتبر آراءك هذه تعدياً على حرمة الحق وتشجيعاً للتلاميذ على دوس الحقائق التاريخية والعبث بمصلحة الأمة. وهل تراني أقول للتلاميذ: "قوموا شاغبوا على معلميكم أو أفسدوا الدروس حتى لا تتعلموا شيئاً"؟ لا يا صاحبي، أنا أكثر منك غيرة على سير الدروس وتأمين النظام فيها لأني أعلم أن العلم أمضى سلاح في الحياة، ولكني أقول للتلاميذ: "تحرّوا الحق وقدروه حق قدره، واعلموا أن المعلم أكبر من التلميذ ولكن الحق أكبر من المعلم ومن المدير ومن الوزارة ومن جمعية الأمم" ... وربما ناقشني تلميذي أشد من هذه المناقشة وجَرُؤ عليّ أكثر من هذه الجراءة فأطفئ حدته بسيل من الحجج والبراهين، فيخمد الحق ثورته فلا يلبث أن يقعد معترفاً ويؤوب مستغفراً. وإذا آنست منه وقاحة أو سوء أدب عاقبته على سوء أدبه ووقاحته لا على حواره ومناقشته.

والشرط في ذلك كله التثبت من الحقيقة، والمحافظة على أدب البحث، وقدر المعلم حق قدره، والغيرة على المصلحة، والضنّ بالوقت أن يضيع في الكلام الفارغ. فإذا استكمل التلميذ هذه الشروط وجب عليه (لا سيما تلميذ التجهيز، لا سيما طالب الجامعة) أن يقف عن تلقي ما يعتقد خلافه للحق أو إفساده لمصلحة الأمة، وأن يناقش فيه الأساتذة بأدب، وأن يعلم أن عليه أن يحترم الحق أكثر من احترام الأستاذ، وأن يحب الوطن أكثر من حب المعلم، وأن يخشى تأنيب الوجدان وعقاب الله أكثر من خشية عقاب المدرسة وجزاء الإدارة. ولقد كان أرسطو (المعلم الأول) يقول: «أفلاطون أستاذي، ولكن الحق غايتي. فإذا اختلف أفلاطون والحق فأنا مع الحق». * * *

إلى الطلاب

إلى الطلاّب نُشرت سنة 1959 زرت من أيام صديقاً لي قبيل المغرب، فجاء ولده يسلم عليّ وهو مصفرّ الوجه بادي الضعف، فقلت: خيراً إن شاء الله؟ قال أبوه: ما به من شيء، ولكنه كان نائماً. قلت: وما له ينام غير وقت المنام؟ قال: ليسهر في الليل. إنه يبقى ساهراً كل ليلة إلى الساعة الثانية. قلت: ولِمَ؟ قال: يستعد للامتحان. قلت: أعوذ بالله! هذا أقصر طريق للوصول إلى السقوط في الامتحان. لقد دخلت خلال دراستي الابتدائية والثانوية والعالية امتحانات لا أحصي عددها فما سقطت في واحد منها، بل كنت فيها كلها من المجلين السابقين، وما سهرت من أجلها ساعة، بل كنت أنام أيام الامتحان أكثر مما أنام في غيرها. فعجب الولد، وقال: تنام أكثر؟

قلت: نعم، وهل إلا هذا؟ الامتحان مباراة. أفرأيت رياضياً، ملاكماً أو مصارعاً، يهدّ جسمه ليالي المباراة بالسهر، أم تراه ينام ويأكل ويستريح ليدخل المباراة قوياً نشيطاً؟ إن أول نصيحة أسديها لمن يدخل الامتحان من الطلاب والطالبات أن يحسن الغذاء وأن ينام ثماني ساعات. قال: والوقت؟ قلت: إن الوقت متسع، وإن ساعة واحدة تقرأ فيها وأنت قويّ مستريح تنفعك أكثر من أربع ساعات تقرؤها وأنت نعسان تعبان، تظن أنك حفظت الدرس وأنت لم تحفظه. قال: إن كانت هذه النصيحة الأولى، فما الثانية؟ قلت: أن تعرف نفسك أولاً، ثم تعرف كيف تقرأ؛ فإن من الطلاب من يسمع الدرس من المعلم فينساه فإذا قرأه بنفسه استقر فيها، ومنهم من يقرأ فينسى فإذا سمع بأذنه حفظ. أي أن من الناس من هو «بَصَري» يكاد يذكر في الامتحان صفحة الكتاب ومكان المسألة منها، ومنهم من هو «سَمْعي» يذكر رنة صوت الأستاذ. فإن كنت من أهل البصر فادرس وحدك، وإن كنت من أهل السمع فادرس مع رفيق لك مثلك واجعله يقرأ عليك. قال: وكيف أعرف نفسي؟ قلت: أنا أكتب عشر كلمات لا رابطة فيها (مثل: كتاب، مئذنة، سبعة عشر، هارون الرشيد ...) وأقرؤها عليك مرة واحدة، ثم تكتب أنت ما حفظته منها. وأكتب مثلها وأطلعك عليها لحظة

وتكتب ما حفظته منها. فإن حفظت بالسمع أكثر فأنت سمعي، وإلاّ فأنت بصري. قال: والنصيحة الثالثة؟ قلت: أن تجعل للدراسة برنامجاً تراعي فيه تنويع الدروس، فإذا تعبت من الحساب أو الجبر اشتغلت بعده بالتاريخ أو الأدب، فيكون ذلك كالراحة لك من تعب الأول. وأحسن طريقة وجدتُها للقراءة أن تمرّ أولاً مراً سريعاً على الكتاب كله، ثم تفهم فصلاً فصلاً منه، على أن يكون القلم في يدك إن كنت تقرأ بنفسك، فالجملة المهمة تخط تحتها خطاً بالأحمر، والشرح الذي لا ضرورة له تضرب عليه بخط خفيف، والفقرة الجامعة تشير إليها بسهم. ثم يأتي دور المراجعة، فتأخذ الكتاب معك وتمشي في طريق خال، وتستعرض في ذهنك مسائل الكتاب مسألة مسألة، تتصور أنك في الامتحان وأن هذا السؤال قد وُجِّه إليك، فإذا وجدت أنه حاضر في ذهنك تركته، وإلاّ فتحت الكتاب فنظرت فيه نظرة تقرأ فيها الفقرات والجمل التي قد أشرت إليها فقط فتذكر ما نسيته، وإن وجدت أنك لا تذكر من المسألة شيئاً أعدت قراءة الفصل كله. والرابعة: ألاّ تخاف. والخوف من الامتحان لا يكون من الغباء ولا التقصير ولا الجبن، ولكن الخوف من شيء واحد وهو منشؤه وسببه، ذلك أن بعض الطلاب ينظرون إلى الكتاب الكبير والوقت القصير الباقي، ويريدون أن يحفظوه كله في ساعة فلا

يستطيعون، فيدخل عليهم الخوف من أن يجيء الامتحان وهم لم يكملوا حفظه. ومثلهم مثل الذي يريد أن يمشي على رجليه من المزة إلى المطار ليدرك الطيارة وما معه إلاّ ساعتان، فإن قال لنفسه: كيف أصل؟ أو ركض كالمجانين فتعب حتى وقع، لم يصل أبداً. وإن قسم الوقت والخُطا وقال لنفسه: إن عليّ أن أمشي في الدقيقة مئة خطوة فقط، سار متمهلاً مطمئناً ووصل سالماً. والخامسة: أن بعض الطلاب يقف أمام غرفة الامتحان يعرض في ذهنه مسائل الكتاب كلها، فإذا لم يذكرها اعتقد أنه غير حافظ درسه واضطرب وجزع، مع أنه يستحيل أن يذكر المسائل كلها دفعة واحدة وإن كان يعرفها. كم تعرف من أسماء إخوانك وأصدقائك؟ هل تستطيع أن تسردها كلها سرداً في لحظة واحدة؟ لا، ولكن إذا مر الرجل أمامك أو وُصف لك ذكرتَ اسمه. فغيابها عن ذهنك ليس معناه أنها فُقدت من ذاكرتك. والسادسة: أنك كلما قرأت درساً استرحت بعده أو انصرفت إلى شيء بعيد عنه ليستقر في ذهنك. ومن الطلاب من يقرأ الدرس فإذا فرغ منه عاد إليه، ويكرر ذلك مرات، يحسب أن ذلك خير له مع أن ذلك كمن يأخذ صورة بـ «الفوتوغراف» ثم يأخذها مرة ثانية من غير أن يبدّل اللوحة أو يدير الفلم فتطمس الصورتان. والسابعة: أن عليك أن تستريح ليلة الامتحان، وتدع القراءة وتأخذ قصة خفيفة، أو تزور أهلك أو أصدقاءك، أو تتلهى بشيء

يصرفك عن التفكير في الامتحان. وأن تنام تلك الليلة تسع ساعات أو عشراً إذا استطعت، ولا تخشَ أن تذهب المعلومات من رأسك فإن الذاكرة أمرها عجيب، ولا سيما لمن كان في أوائل الشباب؛ إن ما يُنقَش فيها في الصبا لا يُنسى. وأنا أنسى والله اليوم ماذا تعشّيت أمس ولكني أذكر ما كان قبل أربعين أو خمس وأربعين سنة كأني أراه الآن، وأنت تبصر في الرائي (التلفزيون) فلماً كنت شاهدته من عشر سنين فتذكره، ولو سألتك عنه قبل أن تدخل لما عرفته. والثامنة: أن تعلم أن الامتحان ميزان يصح غالباً وقد يخطئ حيناً، وأن المصحح بشر، يكون مستريحاً يقرأ بإمعان وقد يتعب فلا يدقّق النظر، وأنه ينشط ويملّ ويصيب ويخطئ، وقد يختلف حكمه على الورقة وعلى أخرى مثلها باختلاف حالَي راحته وتعبه ورضاه وسخطه. وقد جربوا مصححاً مرة أعطوه أوراقاً فوضع لها العلامات والدرجات، ثم محوا علاماته وجاؤوه بها مرة ثانية ليصححها فإذا هو يبدل أحكامه عليها وتختلف درجاته في المرتين أكثر من عشرين في المئة. وطلبوا من مصحح مرة أن يكتب هو الجواب الذي يستحق العلامة التامة، ثم أخذوا جوابه فكتبوه بخط آخر وبدلوا فيه قليلاً وعرضوه عليه مع الأوراق فأعطاه علامة دون الوسط! والمصحح ليس في يده ميزان الذهب، وقد يتردد بين الستين من المئة وبين السبعين، وقد يكون في هذه العلامات العشر نجاح التلميذ أو سقوطه. وربما وقعت الورقة في يد مصحح مشدّد فأسقطها ولو وقعت في يد آخر مهوِّن لمشّاها.

فما العمل؟ عليك أن توضح خطك، فإن سوء الخط وخفاءه ربما كان السبب في غضب المصحح أو نقمته، فأساء حكمه على الورقة فأسقطها. وأن تكثر من العناوين، وأن تقطّع الفقرات وتميزها، وأن تجتنب الفضول والاستطراد. وقد يستطرد التلميذ فيذكر أمراً لم يُطلب منه، يريد أن يكشف به عن علمه، فيقع بخطيئة تكشف جهله فتكون سبب سقوطه. هذا الذي عليك، وهذا الواجب في الامتحان وغيره. على المرء أن يسعى ويعمل، ولكن ليس النجاح مَنوطاً دائماً بالسعي والعمل. يمرض اثنان، فيستشيران الطبيب الواحد ويتخذان العلاج الواحد ويكونان في المَشفى في الغرفة الواحدة وتكون معاملتهما واحدة، فيموت هذا ويبرأ هذا. فلِمَ؟ من الله. ويفتح اثنان متجرين، ويأتيان بالبضاعة الواحدة ويتخذان طريقة للبيع واحدة، فيقع هذا على صفقة تجعله من كبار الأغنياء ويبقى ذلك في موضعه، فلِمَ؟ من الله. وأنا لا أقول لأحد أن يترك السعي. السعي مطلوب، وعلى التلميذ أن يقرأ الكتاب كله حتى الحاشية التي لا يهتم غيره بها، إذ ربما كان السؤال في الامتحان منها، وبعد ذلك يتوجه إلى الله فيطلب منه النجاح. وهذه خاتمة النصائح ولكنها أهمها. وأنا أعلم أن من السامعين من يسخر مني إذ أقولها، وهو يستطيع أن يسخر مني

أو أن يقول عني في غيابي ما شاء، ولكنه لا يستطيع أن يثبت بالبرهان أن الذي أدعو إليه باطل. فيا أيها الطالب، إذا أكملت استعدادك وعملت كل ما تقدر عليه، فتوجه إلى الله وقل: يا رب، أنا عملت ما أستطيعه، وهناك أشياء لا أستطيعها أنت وحدك تقدر عليها، فاكتب لي بقدرتك النجاح، ولا تجعل ورقتي تقع في يد مصحح مشدّد لا يتساهل، أو مهمل لا يدقق، أو ساخط أو تعبان لا يحكم بالحق. وانظر قبل ذلك، فإن كنت على معصية في سلوكك وفي عملك فتب منها، وإن كنتِ أيتها الطالبة على معصية في ثيابك ولباسكِ وسيرتكِ وكنت على مخالفة لحكم الشرع فارجعي عنها، وإن كان منكم جميعاً تقصير في حق الله فدَعوا التقصير، وأقيموا الفرائض، واجتنبوا المحرمات، فإن هذا هو طريق النجاح. وليست هذه الوصفة من عندي، ولكنها وصفة (راشتة) وكيع شيخ الشافعي: شكوتُ إلى وَكيعٍ سوءَ حفظي ... فأرشدني إلى ترك المَعاصي وقال بأنّ هذا العلم نورٌ ... ونورُ الله لا يُهدَى لعاصي * * *

الوصايا

الوصايا أُذيعت سنة 1959 من إذاعة دمشق كنت أدقق أمس دعوى وصية، فرجعت بي الذاكرة إلى حادثتين رأيتهما في يوم واحد في المحكمة الشرعية في دمشق لمّا كنت فيها من أكثر من خمس عشرة سنة. الأول طلب تسجيل وصية، قُدِّم باسم امرأة من الموسرات لا تستطيع لكبرها وعجزها أن تجيء إلى المحكمة، فأرسلت الكاتب ليستمع منها ويسجل لها، فعاد يقول إنها تريد أن توصي بثلث مالها، وهذا الثلث يزيد على خمسين ألف ليرة، وقد جعلت مبلغاً ضخماً منه للجنازة والعصرية والصباحية والمواسم، وذلك كله مما لا أصل له في الشرع، فنصحها أن تجعل هذا المبلغ في جهات الخير التي ترضي الله وتنفع الناس فأبت، وهو يسألني رأيي. ولم أكن أذهب قط إلى دار إنسان (وإن كان القانون يجيز ذلك أحياناً)، ولكني لمّا سمعت منه خبر الوصية وضخامة المبلغ رجوتُ أن يوفّقني الله فيحقق على يدي خيراً. فذهبت إليها، فإذا عجوز حمقاء لا تفهم بلسان المنطق ولا تستجيب لصوت الدين، وإذا كل همها أن تصنع شيئاً تكسب به رضا الناس وتنال

به إعجابهم، ولم أستطع بعد الجهد الكثير أن أستخلص منها أكثر من خمسة آلاف رضيت أن توصي بها لبعض الجمعيات الخيرية. ورجعت إلى المحكمة مغيظاً محنقاً، فرأيت الحادث الثاني. جاءتني امرأة تحمل في بطنها ولداً وعلى يدها ولداً وتجرُّ وراءها ولدين، فقالت وهي تبكي إنها غريبة لا تعرف أحداً في دمشق، وليس لها في بلدها إلا أب فقير وعم أفقر منه، لا يقدران على شيء لأنفسهما فضلاً عن أن يقدرا على شيء لها، وقد فرّ منها زوجها فهي لا تعرف له مكاناً، ولا تدري من أين تأكل وتطعم الأولاد، وإذا نفد صبر صاحب الغرفة التي تقيم فيها على إبطائها بالأجرة فطردها لم تعرف أين تنام هي والأولاد. وقد لجأت إليّ لأن الناس قالوا لها: ما لك إلا القاضي. وحار القاضي وترقرقت في عينيه دمعتان، وقلت: يا رب عفوك! تلك ترمي خمسين ألفاً حيث لا ترضي ربها ولا تنفع أحداً، لا تبالي بها ولا تفكر فيها، وهذه تحتاج إلى عشر ليرات فلا تجدها ولا تجد من يدفعها إليها! وبدأت من ذلك اليوم أفكّر في أمر الوصايا. كم يضيع بها من مال يُنفَق في غير وجهه ويوضع في غير محله؟ وكم يُصنَع بهذا المال لو أريد به وجه الله وأُنفق فيما ينفع الناس؟ لقد لبثت قاضياً قريباً من خمس عشرة سنة، وأنا أظن أن الوصايا التي أوصي بها على يدي تجاوزت الملايين، أكثرها رُصد لما لا يقرّه الإسلام:

على الجنازة أولاً، وقد تكلّف الجنازة الآلاف يأخذها من لا يستحقها وتُصرف فيما يخالف الشرع، وما ينفق فيما يخالف الشرع لا يحرم صاحبه الثواب فقط بل يكون معصية منه يستحق عليه العقاب. والجنازة الشرعية هي التي تمشي صامتة لا شيء فيها، فالآس بدعة، والحناء والأكاليل بدعة، والذي يؤذن أو ينشد أمام الجنازة بدعة، وهؤلاء «الكلاليب» الذين يتعلّقون بكل جنازة ويزدحمون على باب الميت تبيّن أن أكثرهم غير محتاج والأَوْلى بأهل الميت أن يطردوهم أو يدعو «جمعية النهضة الإسلامية» ومعها الشرطة لتمسك بهم، فتساعد المحتاج منهم وتعاقب المحتال. وعلى الصباحية ثانياً. والصباحية بدعة، ومن فقهاء الحنفية المتأخرين من استحسنها بشرط أن يكون فيها المواساة المشروعة فقط، أما دعوة من يسمّون أنفسهم «القرّاء» للقراءة فيها فهي ممنوعة من وجوه، أولها: أن قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت جائزة، ولكن الذي يقرأ بالأجرة يجعل القراءة مهنة يؤكد ابن عابدين رحمه الله أنه لا ثواب له يهديه وأن أخذ الأجرة على القراءة لا يجوز أبداً. ثم إن أكثر هؤلاء يقرؤون القرآن بأنغام الغناء، مع أن التغني بالقرآن مشروع بشرط أن يكون مع الخشوع والتدبّر وفهم المعاني والبعد عن التشبّه بالمغنين في أنغامهم. ثم إن على السامع للقرآن أن يستمع وينصت ويتفهم المعاني، والمشاهَد في الصباحيات أن القارئ يقرأ والناس معرضون عنه يستقبلون القادم ويشيعون الذاهب ويدخنون (السكاير) في مجلس القرآن! و «العصرية» التي يعملها النساء ممنوعة شرعاً، نص على ذلك الفقهاء. ومثلها «الخميس» و «الأربعين» و «السنوية»،

كلها ممنوعة شرعاً. ولابن عابدين صاحب الحاشية رسالة في بطلان الوصية بذلك كله اسمها «شفاء العليل في بطلان الوصية بالختمات والتهاليل» عليها تقاريظ فقهاء عصره ومنهم فقيه مصر يومئذ الطحطاوي المشهور. أو تكون الوصية لبناء القبر ورفعه. وأعرف امرأة موسرة أنفقت عشرة آلاف على قبر زوجها جعلته من الرخام المنقوش المزخرف. مع أن بناء القبور بالجص والحجارة ورفعها لا يجوز. وما يفعله بعض الناس من اقتطاع قطعة من المقابر وإقامة مدفن فيها أو بناء جامع على قبر الميت ممنوع من وجوه، أولاً: لأن بناء الجامع على القبر لا يجوز. ثانياً: لأن الأرض ليست لمن يبني عليها بل هي وقف للناس كلهم، والثالث: أنه لو جاز بناء هذه الجوامع ولم تكن الأرض مغصوبة لكان بناؤها هنا إضاعة للمال، وإضاعة المال ممنوعة شرعاً، ذلك لأن مَن يريد الصلاة لا يذهب إلى وسط مقبرة الباب الصغير مثلاً ليصلي، فلا تكون إلاّ مساجد معطَّلة لا تقام فيها جماعة ولا تعمر بعبادة ولا ذكر. وهذا الذي قلته كله صحيح، واسألوا المفتي أو راجعوا حاشية ابن عابدين إن لم تصدّقوا أو جاءكم من يقول لكم غير ذلك. * * * ولمّا كانت في دمشق حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدتها جامعة الدول العربية بإشراف الأمم المتحدة من سنين لبحث التأمين الاجتماعي، كنت في وفد سوريا، ثم انتُخبتُ فيها

أحد الثلاثة الذين سُمّوا للّجنة العليا، لجنة الصياغة، وقد قدمت إليها بحثاً موضوعه الوصايا وأنها مصدر كبير من مصادر التأمين الاجتماعي لو أُحسن استغلالها ووضعت موضعها. ثم لمّا وُضع قانون الأحوال الشخصية المعمول به الآن في البلاد (وكنت أنا الذي أَعدّ مشروعه) وُضعَتْ فيه مادة صريحة باعتبار كل وصية بمعصية أو بأمر ينافي مقصد الشارع باطلة. وكلامي الآن لمن يثق بي من المستمعين، أنصحهم وأُبيّن لهم، فإن سمعوا مني فالحمد لله، وإلاّ فما عليّ إلاّ البلاغ. إن المرء لا يوصي بوصية إلاّ ابتغاء ثواب الله، فيجب عليه أن يعرف ما يرضي الله قبل أن يوصي. وذلك بأن تنظر أولاً: فإن كان لك ذرّية ضعفاء وكان مالك قليلاً لا يكفيهم هم، فالأحسن أن تترك المال لهم ولا تكتبه لزيد أو لعمرو أو لمسجد أو مستشفى وتدَعَ ذريتك يحتاجون الناس. وأنا أعرف رجلاً فقيراً متكسباً من عمله ترك ثلاث زوجات وعشراً من الولد وأوصى بثلث ماله للخير، فجاء الوصي فجرّع الأولاد العلقم وعذّبهم في المحاكم وأخذ المال، فلم يعلم إلاّ الله ماذا صنع به، وأولاد الميت يحتاجون إلى عُشره ليعيشوا به. وإذا كنت موسراً وأحببت أن تجعل من مالك قسطاً للخير فقدّمه بين يديك، يكن ذلك خيراً لك في الدنيا والآخرة. وما تعطيه في حياتك وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر وترجو الغنى (كما جاء في الحديث) أفضل مما توصي به.

وإذا لم تحب أن تنفقه في حياتك وأردت أن توصي به فحسن، الوصية مطلوبة على أن تجعلها في وجوه الخير وفيما هو طاعة وبرّ باتفاق العلماء. فاجعل وصيتك أن يكون التجهيز والتكفين وما إلى ذلك على الوجه الشرعي، وأن تنظر -بعد- فإذا كان في أقربائك محتاج فاكتب له شيئاً معيناً باسمه، والأقرباء أولى بالمعروف، ولا يقبل الله صَدَقة عبد وفي قرابته محاويج. فإذا فرغت من أقربائك فلمن يلوذ بك من جيرانك ولمن له حق عليك، إذا كان فقيراً محتاجاً. فإن فضل شيء فاجعله عند من هو مستحق له. هذا بعد أن توصي بشيء لمن يحجّ عنك إن لم تكن حججت الحجة الواجبة، وما بقي جعلته للفقراء المحتاجين. وقد صار عندنا الآن -بحمد الله- جمعيات للبر والخير أمينة موثوق بها. وقد حدّثتكم عن جمعية النهضة الإسلامية في حماة، وفي دمشق، وفي حمص جمعية البر والخدمات الاجتماعية، وهي مؤسسة من عشر سنين ولها دار للعجزة ولها مستشفى مجاني ولها دار للمكفوفين لتعليمهم وتربيتهم، وقد نقّت حمصاً من السائلين والشحّاذين فلا تلقى فيها اليوم سائلاً. وفي دمشق جمعيات كثيرة لها اتحاد عام تشمل أحياء البلد كلها. وأنا أعلن للملايين التي تسمعني أن هذه الجمعيات موضع ثقة، وهي تعالج المرضى وتسعف الفقراء وتعلّم الطلاّب، وتقوم بكل أنواع البرّ، فمن أراد أن يوصي بشيء للخير فليسلّمه إلى واحدة منها. ورأس الأمر كله في الوصية أن تحرص على حسن اختيار الوصي، وألاّ تغترّ بالزي والكلام بل تعتمد على التجربة والاختبار، لأن في الناس كثيرين يتزيّون بزي الصالحين

المصلحين وهم من المفسدين العاصين، وآخرين يلبسون لباس العلماء العاملين وهم من الجَهَلة الدجّالين الذين يأكلون الدنيا بالدين. يا أيها السامعون: إن أمر الوصايا من الأمور الاجتماعية الخطيرة، وإننا إذا اتبعنا بها سبيل الشرع ووضعنا هذه الأموال في مواضعها ولم ننفق شيئاً منها على البدع الممنوعة شرعاً، لا على الآس والأكاليل ولا على الدعوات والولائم التي يُدعى إليها الأغنياء ويُطرد الفقراء، ولا على الصباحيات والعصريات والختمات والتهاليل، ولا على الخميس والأربعين والسنوية ... كان منها باب عظيم من أبواب الإصلاح. وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً إلى ما فيه رضاه. * * *

نساؤنا ونساء الإفرنج

نساؤنا ونساء الإفرنج نُشرت سنة 1959 جاءني في البريد كتاب من سيدة فاضلة، لم تصرّح باسمها ولكن أسلوبها نمَّ على فضلها وأدبها، شكت فيه أشياء واقترحت أشياء، وكان مما جاء في كلامها قولها: "وانظر إلى ضيق الحياة التي تحياها المرأة العربية وسعة حياة المرأة الغربية، وقيد هذه وحرية تلك". فوقفت عند هذه العبارة وفكرت فيها، وعزمت على أن أكتب إليها لأوضّح لها خطأها فيما ذهبت إليه، ثم ذكرت أني لا أعرف اسمها ولا عنوانها. فقلت: أجعلُ جوابها موضوع هذا المقال. إن ما ظنته هذه السيدة يظنه كثير من السيدات، ولا يعترفن أن ذلك ظن وتخمين بل يرينه يقيناً وفوق اليقين؛ وأصدق جواب على هذا وأخصره لفظاً وأعمقه معنى، ما أجابت به تلك السيدةُ الأميركية الأستاذَ الشيخ بهجة البيطار. حدثني الأستاذ أنه كان يتكلم عن المرأة المسلمة في إحدى محاضراته في أميركا ويذكر أن لها الاستقلال في شؤون المال،

لا ولاية عليها في مالها لزوجها ولا لأبيها، وأنها إن كانت معسرة كُلِّف بنفقتها أبوها أو أخوها، فإن لم يكن لها أب أو أخ فأيُّ واحد من أقربائها الذين يرثونها ولو كان ابن عم عمها، وأن هذه النفقة تستمر إلى أن تتزوج أو يكون لها مال، وأنها إن تزوجت كلف زوجها بنفقتها ولو كانت تملك مليوناً وكان عاملاً لا يملك شيئاً ... إلى غير ذلك مما نعرفه نحن ويجهلونه هم عنا. فقامت سيدة أميركية من الأديبات المشهورات فقالت: "إذا كانت المرأة عندكم كما تقول فخذوني أعيش عندكم ستة أشهر ثم اقتلوني". وعجب من مقالها وسأل عن حالها؛ فشرحت له حالها وحال البنات هناك، فإذا المرأة الأميركية تبدو حرة وهي مقيدة، وتُرى معززة وهي مهانة. إنهم يعظّمونها في التوافه ويحقرونها في جسيمات الأمور. يمسكون بيدها عند النزول من السيارة، ويقدمونها قبلهم عند الدخول للزيارة، وربما قاموا لها في الترام لتقعد أو فسحوا لها في الطريق لتمر، ولكنهم -في مقابلة ذلك- يسيئون إليها إساءات لا تحتمل. إذا بلغت البنت هناك سن الرشد قبض أبوها يده عنها وسد باب داره في وجهها، وقال لها: اذهبي فتكسّبي وكلي، فلا شيء لك عندي بعد اليوم. فتذهب المسكينة تخوض غمرة الحياة وحدها، لا يبالون أعاشت بجدِّها أم بجسدها، ولا يسألون هل أكلت خبزها بيديها أم بثدييها. وليس هذا في أميركا وحدها، بل هو شأن القوم في ديارهم كلها. حدثنا أستاذنا الدكتور يحيى الشماع من ثلاث وثلاثين سنة (إثر عودته من دراسته في باريز) أنه ذهب إلى منزل أسرة دلوه عليها ليستأجر غرفة لديها، فقابل

وهو داخل إلى الدار بنتاً خارجة منها في عينيها أثر الدمع، فسأل أن ما لها؟ قالوا له: هذه بنتنا، ولكنها انفصلت عنا لتعيش وحدها. قال: إنها تبكي. قالوا: لقد جاءت تستأجر غرفة عندنا فلم نؤجرها. قال: ولِمَه؟ قالوا: لأنها دفعت أجرة لها عشرين فرنكاً، وغيرها يدفع ثلاثين! وإذا شككتِ في هذه القصة (ومن حقك الشك فيها؛ لأنها -بالنسبة إليك ولكل عربي- شيء يكاد يدخل في باب المستحيل)، إذا شككت فيها فاسألي الدكتور يؤكد لك أنه رآها وسمعها. ولقد قص علينا إخواننا الذين ذهبوا إلى أوربا وأميركا وخالطوا أهلها كثيراً من أمثالها. لقد ابتُذِلت المرأة هناك وذلت حتى صارت تبذل ما نراه نحن أعزّ شيء عليها، وهو العرض، في سبيل ما نراه أهون شيء علينا، وهو الخبز! أما قرأتِ ما كتبه توفيق الحكيم عن الفتاة التي فرضت نفسها عليه وساكنته في الدار وعاشرته معاشرة الأهل (¬1)، لا تريد من ذلك إلاّ أن تجد سقفاً يكنُّها ومائدة تشبعها، ثم كيف ملّها فطردها؟ إن الفاسق عندنا، الفاسق يا سيدتي، يتبع هو المرأة ويبذل لها الغالي والثمين، لأنه لا يجدها إلاّ بمشقة ولا يصل إليها إلاّ بنصب. ¬

_ (¬1) إذا بُليتم بالمعاصي فاستتروا، وإعلان المعصية معصية أكبر منها، ولكن هؤلاء الكتاب لا يتّقون الله ولا يستحيون من الناس.

استترت المرأة الشرقية فعزّت، وتمنّعت فطُلبت، وعُرضت الغربية فهانت لأن كل شيء معروض مهان. كان الشاعر العربي الأول إذا بدا له من المرأة الكف أو المعصم دار رأسه، وثارت نفسه، وامتلأ بالحب جنانه وانطلق بالشعر لسانه؛ ذلك لأنها كانت مستترة مخبَّأة. أما المرأة الغربية فإن الرجل يرى على الساحل أعلاها وأدناها، فينظر إلى ساقها فلا يثير في نفسه معنى ولا يحرك منه عاطفة ولا يرى فيه حياة. صار ساق المرأة ورِجل الكرسي وخشبة الباب سواء! ومن هنا كسدت عندهم سوق الزواج. الزواج رباط دائم يرتبط به الرجل مختاراً ليصل إلى إرواء هذه الغريزة؛ هذا هو الدافع الأول إلى الزواج. فلماذا يربط نفسه إذا كان يستطيع أن يرويها وهو طليق (¬1)؟ لقد فقدت المرأة الغربية الزوج، ففقدت المعيل، فاقتحمت كل عمل لتعيش؛ فصارت تعمل في المصنع، وتشتغل في الحقل، وتكنس الطريق من الأقذار! وقد خبّرنا من رأى في أوربا البنات موظفات في المراحيض العامة ينظفنها لمن يريد الدخول (¬2) ... ومن النساء من تعمل في صبغ الأحذية تتخذ لها ¬

_ (¬1) ومن أمثالهم: «إذا استطعت شراء اللبن فلِمَ تشتري البقرة كلها؟»، وصار مقلّدوهم من كتّابنا يسخرون بالزواج. هذا توفيق الحكيم لم يكفِهِ أن عاش بلا زواج حتى ألف أفجر قصة قرأتها هي «الرباط المقدس»، جزاه الله شراً وقلّل فينا أمثاله. (¬2) وقد رأيت ذلك سنة 1970 وسنة 1976.

صندوقاً وتبقى اليوم كله على أرصفة الشوارع، ومنهن من تحمل في يدها كتابها تستعد بمطالعته لامتحانها، فإذا وقف عليها رجل مد حذاءه إلى وجهها فانحنت عليه واشتغلت به! هذه هي منزلة المرأة في ديار القوم، على حين أن المرأة الشرقية تبقى دائماً في بيتها، يكد الرجل ويشقى ليطعمها ويكسوها. وإذا بلغت المرأة عندنا سن الزواج طلبها الرجل وتوسل إليها بالعطية الكبيرة: المهر، يدفعه هو إليها فيكون حقاً لها وحدها لا لأبيها ولا أخيها، وليس لأحد التصرف في شيء منه إلاّ بإذنها. والمرأة الغربية تركض هي وراء الرجل، فتسقط خمسين سقطة قبل أن تصل إليه، وربما سقطت سقطة كان فيها ذهابها وهلاكها. ثم إنْ وجدته لم يتزوجها حتى تتوسل هي إليه بالمبلغ الكبير، حتى تدفع هي له المهر، ثم يكون له الإشراف على مالها يشاركها في التصرف فيه. والمرأة عندنا لها وحدها حق التصرف في مالها. تقولين: كان هذا من زمان، وقد كسدت عندنا سوق الزواج وكثرت عندنا العوانس. وهذا صحيح، ولكن لِمَ كان؟ كان لأنّا قلدنا الإفرنج فيما يشكون هم منه ويتمنّون البعد عنه. كان لأن المستعمرين وضعوا في نفوسنا -خلال القرن الماضي الذي كنا فيه نائمين وكنا غافلين- أنهم أرقى منا رقياً وأكثر تقدماً، وأن ما يفعلونه هو الصواب، فقلدناهم في كل شيء. ولكن هل يحتمل طبعنا العربي هذا التقليد كله؟ كان العرب أغْيرَ الناس على الأعراض، حتى إنهم وأدوا

البنات خوف العار. فهل يتمالك العربي نفسه أن يكون في حفلة فيأتي رجل يقول له: "اسمح لي". يسمح له بماذا؟ لا بأن يريه ساعته، ولا بكبريت يشعل له دخينته، بل يسمح له بأن يأخذ منه زوجته يراقصها، ليضم صدرها إلى صدره ويدني وجهها من وجهه وساقها من ساقه! ليس في الدنيا عربي يرضى بهذا، ولا يرضى به مسلم، ولا يكاد يرضى به رجل صادق الرجولة. بل إنه لا يرضى بمثله من الحيوانات إلاّ الخنزير! هذه حال نساء الغرب، فهل نساء الغرب اليوم في خير حتى نبتغي مثل الذي عندهن لنسائنا؟ لقد عرفتم ما قالت المرأة الأميركية للشيخ بهجة البيطار. ولو نطقت كل ألمانية وكل فرنسية لقالت هذا. إنكم تنقمون من شريعتنا أنها تعطي البنات نصف ميراث الرجال، وتعدد الزوجات. فاسألوا نساء أميركا: أما يقبلن أن يأخذن نصف ميراث الرجل وأن يكلَّف الرجل وحده بالإنفاق عليهن؟ سلوا نساء ألمانيا بعد هذه الحرب: أما يتمنين أن يكون لكل عَشر منهن زوج، يعدل بينهن وينفق عليهن؟ وبم تعالَج مشكلة زيادة النساء في ألمانيا وأمثالها إلاّ بهذا؟ إذا كانت الطبيعة التي طبع الله الناس عليها توجب أن يجتمع النوعان، ما من اجتماعهما بد، ولم يكن إلاّ خمسون رجلاً ومئة امرأة، فهل ثمة إلاّ أن يكون لكل امرأتين رجل؟ أوَليست هذه فطرة الله في أنواع الحيوان كلها؟ كم نسبة الذكور إلى الإناث في

النحل وفي الدجاج؟ أوَلا يتخذ الزوج الغربي أربعاً أو أكثر من أربع، ولكن بالحرام؟ أترضون بالثانية خليلة بعقد إبليس ولا ترضون بها حليلة بعقد الله؟! * * * لا يا سيدتي، لا تظني أن نساء الغرب أسعد عيشاً أو أعز أو أكرم، لا والله، ليس في الدنيا أعزّ ولا أكرم من نسائنا. إن الزوج عندنا لامرأته لا لخليلة ولا لصديقة، والمرأة لزوجها لا لعاشق ولا لرفيق، له وحده، لا تتكشف لغيره ولا يطّلع عليها سواه. فهل هذا هو عيبها عند هؤلاء المقلدين؟ هل يريد أحدهم أن تكون امرأته له ولغيره؟ هل يغضب إن تُرك له صحنه ليأكل منه وحده، ولا يرضى حتى يأكل بصحن تقع فيه كل الأيدي؟ أيكون الطهر عيباً والعفاف عاراً، والخير شراً والنور ظلاماً؟ حسبنا تفكيراً برؤوس غيرنا، حسبنا نظراً بعيون عدونا، حسبنا تقليداً كتقليد القرود ولنعد إلى أنفسنا، إلى عربيتنا وإسلامنا، إلى طهرنا وعفافنا. ليصنع نساء الغرب ما شئن وشاء لهن الرجال، فما لنا ولنساء الغرب؟ وليكن نساؤنا كما نريد نحن لهن ويريد الله،

لنكون لهن وحدهن، نقنع بهن ولا ننظر إلى غيرهنّ. ليس في الدنيا نساء خيراً من نسائنا ما تمسكن بحجابهن، وحافظن على آدابهن، وتقيدن بأخلاق العرب وأحكام الإسلام، وأعراف ذلك المجتمع الفاضل الذي أخرج عائشة وأسماء والخنساء وخولة ورابعة ومئات من المربيات الفضليات، والعالمات الأديبات، والأمهات الديّنات الصيّنات اللائي ولدن أولئك الرجال الذين كانوا فرسان الميادين، وكانوا هم فرسان المنابر، وكانوا هم أبطال الفكر، وكانوا هم ملوك المال، وكانوا سادة الدنيا، وكنتن أنتن أمهات أولئك السادة. * * *

صناعة «المشيخة»

صناعة «المَشْيَخَة» نشرت سنة 1959 لقيني أمس اثنان من الأصدقاء، فلامني أحدهما على أني أكشف رأسي وأحلق لحيتي، وقال الآخر مازحاً: دعه، حاجتنا (¬1) من «المشيخة»؛ ابقَ كما أنت يا رجل. فقلت في نفسي: سأجعل جوابهما هذا الفصل. وما ذاك لأني أحب أن أشغل الناس بالحديث عن نفسي، بل لأن هذا الموضوع مما تخوض فيه الألسنة ويدور عليه الجدل ويجب بيان وجه الحق فيه. * * * أما حلق اللحية فلا والله ما أجمع على نفسي بين الفعل السيء والقول السيء، ولا أكتم الحق لأني مخالفه، ولا أكذب على الله ولا على الناس. وأنا أقر على نفسي أني مخطئ في هذا، ولقد حاولت مراراً أن أدع هذا الخطأ ولكن غلبتني شهوة النفس وقوة العادة، وأنا أسأل الله أن يعينني على نفسي حتى أطلقها (¬2)، ¬

_ (¬1) من العامي الفصيح؛ أي أخذنا حاجتنا. (¬2) وقد أعانني، فله الحمد.

فاسألوا الله ذلك لي فإن دعاء المؤمن للمؤمن بظهر الغيب لا يُرَدّ إن شاء الله. وأما كشف الرأس فما فيه كبير أمر، وإن كان الستر أحسن. ولقد كان عامة العلماء في الأندلس على كشف الرأس، وكانت العمامة عندهم للقضاة وأرباب المناصب. ومهما يكن من أمر العمامة التي وردت بذكرها بعض الآثار فما هي بالعمامة التي نعرفها في بلاد الشام، ولا كان عليها أمر السلف. وما كان يعرف السلف زياً خاصاً للعلماء ولا للرؤساء، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس ما اتفق له، لا يلقي لذلك بالاً ولا يوليه اهتماماً؛ لذلك تعدّدت ألوان عمامته وأشكال ثيابه. وما كان يمتاز من أحد من أصحابه بلبسة ولا جلسة، حتى كان الأعرابي يدخل مجلسه، فيقول: أيكم محمد؟ وكان المستقبلون يوم الهجرة يسلمون على أبي بكر يحسبونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مالت الشمس فأصابته فقام أبو بكر يظلله بردائه (¬1) فعرفوه من ثَمّة. وما لهذا كتبت هذا الموضوع، وما أريد أن أدافع عن نفسي وأردّ على الصديق الذي انتقدني، بل لأتكلم في هذه «المشيخة» التي أراد الصديق الذابُّ عني أن يبرئني منها. هذه «المشيخة» التي صارت على ألسنة كثير من الناس نبزاً ينبزون به كل متدين وكل محافظ على السنة، وصارت مداراً للانتقاص وسبباً لرفض كل موعظة والإعراض عن كل نصيحة؛ فإن وعظت غافلاً أو نصحت حائراً قال لك: "عِفْنا (¬2) بلا مشيخة"! وصارت عَلَماً على طبقة ¬

_ (¬1) وما يقوله القوّالون من أنه «المظلَّل بالغمام» ليس بصحيح. (¬2) الكلمة عربية (بمعنى قريب من هذا المعنى).

من الناس تأخذ من الناس ولا تعطيهم، وتستجيب لدعواتهم ولا تدعوهم، وتقول لهم ولا تسمع منهم! وسمة لمن هو غريب عن عاداتهم ومواضعاتهم، صارم في وعظهم، شديد في نصحهم، لا يقبل رداً على كلام ولا جدالاً في رأي، يتكلم بـ «النحوي» ويتأخر عن الموعد ... وما هو من هذه الصفات بسبيل وما القرّاء أعرف به مني. فمن أين جاءت هذه المشيخة التي نفّرت الناس من الدين وأبعدتهم عنه؟ أما الصدر الأول للإسلام فلم يكن يعرفها، وليس في الإسلام رجال هم وحدهم «رجال الدين» وغيرهم «رجال الدنيا»، ولكن في الإسلام علماء وجهلاء. وباب العلم مفتوح، فكل من تعلم أحكام الدين وعمل بما علمه منها كان هو المرجع فيه؛ لذلك صار عكرمة ونافع وأمثالهم من العبيد، صاروا سادة الأحرار وأساتذتهم لمّا علموا وعملوا بما علموه. وإذا عرضت سير العلماء الأولين، الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، لا تجد فيهم من اتخذ لنفسه هذه «المشيخة» ولا عرفها؛ إنها لم تُعرف إلا في قرون الانحطاط، بذور تسرّبت إلينا (إلى الصوفية) من هنا وهناك، ثم رسخت جذورها وبسقت غصونها، ثم قُرّرت قواعدها وجُعلت إحدى الشعائر الصوفية، فأوجبوا على «المريد» الطاعة العمياء لشيخه وأنْ يكون بين يديه كالميت بين يدي الغاسل، وقالوا إن من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان! ومنعوا المريد أن يحضر على غير شيخه أو يستمع منه، وحرّموا عليه أن ينكر عليه ولو رأى منه منكراً ظاهراً أو أن يعصيه ولو أمره

بما يخالف الشرع. وقاسوا ذلك قياساً فاسداً على قصة الخضر وموسى، مع أن الخضر ما عمل إلاّ بوحي {وما فعلتُهُ عن أمري} وأن الشرع حجة على الشيخ وغير الشيخ، والشيخ ليس حجة على الشرع، وإنكار المنكر واجب ولو وقع من الشيخ. كان على الرجل إذا أراد أن يكون من العلماء أن يحمل مشقات الرحلات، ويثني الرُّكَب في المجالس، ويحيي الليالي في المطالعة، وينفق السنين في الطلب ... فهان الأمر حتى اقتصر على عشرة أذرع من الشاش وجُبّة عريضة وسبحة طويلة، ولو لم يكن تحت العمامة إلاّ رأس فارغ من العلم، ولو لم يكن في الجبّة إلاّ جسد يتربّى بالحرام! فلما رأى العوام ذلك، وأبصروا ناساً لهم زي العلماء وأفكار الجهلاء وأعمال السفهاء، ورأوهم يصفُّون الأقدام في المساجد رياء ويحركون الألسنة بالتسبيح ظاهراً، لم يعرفوا أن هؤلاء أدعياء في العلم وأن الإسلام ينكرهم ويأباهم، بل حسبوا أنهم هم العلماء وأنهم هم الصلحاء، واتخذوهم وسيلة إلى الطعن في العلم والصلاح. وإذا أردتم أن تعرفوا مبلغ إيذاء هؤلاء القوم للإسلام فإني أسوق لكم مثلاً واحداً: قصّة رجل يرونه اليوم ركناً من أركان التربية وهو من أركان الضلال، يكره الدين وأهله ويبعد الطلاب ما استطاع عنه وعنهم. كلّمته في هذا من فمي إلى أذنه كلاماً طويلاً في مجلس حافل جمعني به في مصر، فكان من حجته أن شيخاً من هؤلاء المشايخ (ولا أقول العلماء) كان معلمَ الدين في المدرسة الابتدائية التي تعلّم فيها، وكان من وصفه، وكان من حديثه، وكان من سيرته ما نفّره من الدين وكرّهه إليه.

ولم أقرّه على ما قال ولا سكتُّ له، ولكني ازددت يقيناً بيني وبين نفسي بأن من الواجب أن نقضي على هذه الصناعة التي اسمها «المشيخة» (¬1)، وأن نُفهم الناس أن هذه المظاهر لا قيمة لها إن لم يكن معها علم صحيح وتقوى حقيقية، وأنها ليست شرطاً للعلم ولا للتقوى ولا تَلازمَ بينها وبينهما، فرُبّ عالِم ليس بذي عمامة ولا جبّة، ورُبّ جاهل مخادع وهو صاحب عمامة كالبرج وكُمّ جبّة كالخرج. وأن يكون الدعاة إلى الإسلام عالِمين بالإسلام حقاً، بعيدين عن الغلظة في القول وعن الجهل بالدنيا وعلومها وعاداتها، فليس من الضروري أن يكون الداعي إلى الله غريبَ اللهجة مستنكَرَ الهيئة، ولا أن يأكل بأصابعه إن أكل الناس بالملعقة والشوكة، ولا أن يُقعد ضيوفه على الطراريح وفي بيته الكراسي والمقاعد، ولا أن يتشدّق ويمضغ الكلام ويحرص على الإخفاء والإدغام، ولا أن يكلّم الناس من فوق المآذن ... بل أن يستنّ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: يلبس كما يلبس الناس ويأكل كما يأكل الناس، إلاّ أن يكون في ذلك ممنوع في الشرع، وأن يتلطّف بالأمر والنهي، وأن يبدأ بما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم من تصحيح العقيدة وتعلم الفرائض وبيان الكبائر، وأن يخاطب الناس على قدر عقولهم وعلى مقتضى أحوالهم، وألاّ يبدأ بفروع الفروع قبل أن يؤصّل الأصول، فإذا وجد رجلاً يدخل المسجد أو يؤمّ مجلس أهل الدين أول مرة وهو لا يدري ما الإسلام، ورآه يشرب بشماله مثلاً أو يتجرع الكأس أو لا يسمي، لم يحسن به أن يصرخ في وجهه بأنه خالَف السنّة ¬

_ (¬1) قلت المشيخة، لا العلم ولا الصلاح، فانتبهوا لما قلت.

فيخجله في الملأ. وإذا شاهده قد عطس ولم يحمد الله فلا ينبغي أن يقرّعه أو يأمره بالحمد أمراً ينفّره. ولا أريد أن يكون العالم متساهلاً ولا أن يبالغ في الرِّقّة حتى يتخرّق ويتمزق، بل أريد أن يكون الشرع هو الميزان، فما كان له في الشرع رخصة رخصنا فيه، وما كان له حكمان ألزمنا المبتدئ بأخفهما عليه، رفقاً به وإبقاء عليه، وما كان منكَراً ظاهراً لا ترخيص فيه ولا اجتهاد، أنكرناه ولو قالوا عنّا ما قالوا. إنني أكتب لنفي صناعة المشيخة وإفهام الناس أن المسألة ليست بالعمامة والجبة ولكن بالعلم والتقى، وأن علينا -إذا أمرنا بمعروف- أن نجعل أمرنا بالمعروف وأن نستن بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة. وأعوذ بالله أن أقول لأحد: "اكتم الحق ليقول الناس إنك لطيف"، أو "أقْرِر الباطل الذي تراه ليقولوا إنك مهذب"، أو "ساير الناس في طريق الإثم ليقولوا إنك اجتماعي" ... لا، بل الشرعَ الشرعَ؛ ما حرّمه حرّمناه، وما أحلّه أحللناه، وما أمر به فعلناه، وما نهى عنه تركناه. وما أنكرنا هذه الصناعة التي استحدثها الناس وسمّوها «المشيخة» إلاّ لأن الشرع ينكرها والصدر الأول لم يعرفها، وأنها صارت سبباً للتنفير من الدين وباباً قد دخل منه كثير من الأدعياء والمرائين. وما أردت بما قلت إلا مصلحة الإسلام، فإن كنت قد أخطأت في شيء فأسألُ بالله من عرف الخطأ أن يردّه عليّ على صفحات «المسلمون»، وأنا أسامحه من الآن مهما اشتد في المقال. * * *

هذا نذير للناس

هذا نذير للناس أُذيعت سنة 1956 أنا أعلم أن أثقل الكلام الحديث المعاد، وأنا قد تكلمت في هذا الموضوع غير مرّة، ولكني مضطر مع ذلك إلى العودة إليه. والذي اضطرني كتاب حمله إليّ البريد يقص فيه صاحبه (ولست أدري مَن هو، وليس في الكتاب ما يدل عليه) يقص قصة يقطر من سطورها الدمع، ويُشَمّ منها رائحة القلب المحترق. يقول إنه رجل مستور صالح، متمسك بحبال الديانة، مقيم على عهد الفضيلة، وله بنت مشت في طريق الشر خطوة خطوة حتى صحبت الأشرار وهتكت الأستار، فسقطت في حفرة العار. وتلك هي النهاية التي تنتهي إليها كل فتاة تسلك سبيل الغواية والضلال. ويقول إن سبب ذلك كله المدرسة أولاً، والجامعة ثانياً، ويلعن المدارس التي علمت البنات الاختلاط والقعود إلى جنب الرجال، ومبادلتهم الأحاديث، وما يجر إليه الحديث من أضرار، ويلعن المجتمع الذي أفسدهن ... إلى آخر ما جاء في الكتاب. * * *

فكتبت إليه أقول له: أنا أعرف أنك متألم مصاب، ولكن ماذا أصنع لك الآن؟ وهلاّ كتبت إليّ وفي الصدر ذَماء (¬1) يتردد؟ ماذا أعمل الآن بعدما شبّت النار في الدار، وطغى السيل في الليل، واحترق ما احترق أو أودى به الغرق؟ ماذا يصنع الطبيب إن دُعي بعدما مات المريض أو كاد؟ هلاّ دعوتَه والمرض في أوله والأمل في الشفاء قوي؟ لا يا أخي؛ لست أملك لك إلا العزاء وأن أسأل الله لك الصبر على البلاء. على أني إن عجزت عن إسعافك فلست أعجز عن إسعاف غيرك ممّن لم تؤل به -بعد- الحال إلى هذا المآل. ولولا الحياء من أن أكون مع الدهر عليك وأن أزيدك ألماً على ألمك لقلت لك إن الأمر منك أنت، منكَ يا أيها الأب ومنكِ يا أيتها الأم، وإنّ أولى الناس بما سقتَ من اللعنات (لو كان يجوز اللعن) أنتما الاثنان. لو كنت تشرف على بيتك وبنتك، لا يلهيك عنهما العمل ولا اللهو والكسل، ولا السهرات والقهوات، ولو كنتِ أنتِ تشرفين على بيتك وبنتك، لا تشغلك عنهما الخيّاطات والمزينات، والاستقبالات والزيارات، ولو لم تدعي البنت للخادمات والمربيات، لما كان الذي كان. على أني لا أبرّئ المدرسة ولا أنزّه المجتمع؛ فالأب مسؤول، والمعلم مسؤول، والصحفي مسؤول، ومَن بيده الأمر مسؤول. كلهم مسؤول، ولعل آخرهم سؤالاً وأقلهم تبعة البنت ¬

_ (¬1) الذَّماء (بفتح الذال): بقية الروح في الحيوان المذبوح (مجاهد.)

التي فسقت والولد الذي فسد. على أننا ننكر الفسوق والفساد على كل حال. لقد وضع الله هذه الغريزة في النفس ورسم لها طريقاً تمشي فيه كما يمشي ماء السيل في مجراه الذي أُعِد له، ووَضَع فيه من السدود ما يمنعه أن يطغى عليه ويخرج عنه كما يخرج النهر -أحياناً- فيغرق الحقل ويهلك الحرث والنسل. أما المجرى الطبيعي فهو الزواج، وأما الطغيان فالبغاء والفساد. فجئنا نحن فخالفنا فطرة الله؛ فسددنا المجرى الطبيعي وأزحنا عنه السدود والحدود وتركناه ينطلق كما يشاء، فيدمر البلاد ويهلك العباد، ورأينا قوماً في أوربا وفي أميركا يصنعون هذا فقلنا إنهم هم المتمدنون وهم أهل الحضارة، فلنصنع صنيعهم ولنمشِ وراءهم. قلنا للشابة: الزواج ممنوع لأن الشباب شُغلوا عنه بالحرام، ولأن الآباء طمعوا بمهور النساء وجعلوا بناتهم تجارة للربح لا باباً للحياة الشريفة العفيفة، ورددنا الخاطب التقي الصالح، وأطلقنا البنت تخرج بادية محاسنها ظاهرة مفاتنها، قد نبذت حجابها وأبدت سحرها وشبابها. وربما طمع الأب بمرتبها إن كانت موظفة فمنع زواجها، يقول: "بنتي وأنا حرٌّ فيها". لا يا أخي؛ لست حراً فيها. إنها ليست شاة ولا بقرة تملكها تستطيع أن تبيعها أو تمسكها، ولكنها بشر مثلك. وإنما جعل الله لك الولاية عليها لمصلحتها ولتصونها وتمنعها من أن تُقدم على ما يؤذيها في دينها ولا ينفعها في دنياها.

فالولاية في الزواج كالكابح في السيارة، يمنعها أن تنهار فتصطدم بالجدار. من هنا؛ مما يصنع بعض الآباء، قلَّ النكاح وكثر السفاح، وكانت الضحية البنت. يجيء الشاب فيغويها، فإذا اشتركا في الإثم ذهب هو خفيفاً نظيفاً وحملت هي وحدها ثمرة الإثم: ثقلاً في بطنها وعاراً على جبينها. يتوب هو فينسى المجتمع حوبته ويقبل توبته، وتتوب هي فلا يقبل لها هذا المجتمع توبة أبداً. ثم إذا أراد هذا الشاب نفسه الزواج أعرض عن تلك الفتاة التي أفسدها هو، مترفعاً عنها، مدّعياً أنه لا يتزوج البنات الفاسدات. فماذا تصنع الفتاة والزواج ممنوع، والسفاح مباح، والرغبة موجودة، والروادع مفقودة؟ تقولون: أنحن منعنا الزواج؟ نعم؛ أنتم منعتموه! لم تمنعوه بالقول، لكن بالفعل. تبدأ «الرغبة الجنسية» في سن خمس عشرة، وتكون أشد ما تكون في هذه العشر السنين، إلى سن خمس وعشرين. فهل يستطيع الشاب أن يتزوج في هذه السن؟ وكيف، ونظام التعليم يبقيه على مقاعد الدرس إلى ما بعدها؟ وإن هو ذهب للتخصص في أوربا أو أميركا امتدت به الدراسة إلى قريب من سن الثلاثين، فماذا يصنع في هذه السنين؟ وإذا هو فكر في الزواج فمن أين له المال؟ ولا يزال -وهو في سن الرجال- من جملة العيال؟ شاب طويل عريض، يلبس أفخم الثياب ولكنه لا يحصل قرشاً! مع أن ابن عشرين كان قديماً

(أعني قبل ستين أو سبعين سنة) صاحب عمل وكسب ومواهب وأباً لأولاد. وإن وجد المال فهل يدعه الآباء يتزوج؟ آباء البنات هم سبب المشكلة؛ يسهّلون للبنت من حيث لا يدرون كل سبيل إلا سبيل الحلال، يخرجونها (في كثير من بلاد المسلمين) متكشفة متزينة ويرخون لها الزمام، فإذا جاء من تُرتضى أخلاقه ويُرضى دينه ويكون من أهل الأمانة لقي منهم ما يلقى الأسير العربي في إسرائيل! أهلكوه بالمطالب الثقال: من المهر الكبير، والتكاليف الباهظة، والحفلات المتكررة، والهدايا العديدة ... حتى يمل فينهزم، أو يصبر فتستنفد هذه العادات كل ريال كان ادّخره لهذا اليوم الأسود، فيدخل بيت الزوجية مفلساً، فيبدأ الخصام من أول يوم. ومتى دخل الخصام بيتاً خرجت السعادة من ذلك البيت. ومن الآباء (في البلاد التي خالفت عن أمر الله فترك نساؤها الحجاب) من يدع ابنته تخرج سافرة حاسرة في فتنتها وزينتها يراها كل من يمشي في الطريق، فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها رسول الله عليه الصلاة والسلام أباها عليه ومنعها منه! ومن ظن أن هذه الرؤية الشرعية عار أو أن فيها عيباً أو عملاً لا يليق فقد قبّح ما استحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفض ما أمر به وظن أنه أغير منه على الشرف والأخلاق، ومن فعل ذلك فربما خرج من دين الإسلام. إن ربنا لم يحرّم علينا شيئاً إلا أحلَّ لنا ما يغني عنه ويسد

مسده ويقوم مقامه؛ حرم الزنا وأباح الزواج، والذي يعمله المتزوج هو الذي يصنعه الزاني، فلماذا نوقد الأنوار في مقدمة الدار عند حفلة الزواج، ونطبع البطاقات وندعو إليها الناس، ومن أراد الفاحشة تسلل إليها في الظلام وابتغى لها الزوايا التي لا يبصره فيها أحد من البشر؟ إنهما كمن يدخل المطعم وماله في جيبه، فيقعد على الكرسي مطمئناً ويطلب قائمة الطعام متمهلاً، فيختار ما يريد، فيأتيه النادل به فيأكله مترسّلاً. واللص الذي يخطف شيئاً من الطعام فيلحقه الناس يصرخون: "حرامي حرامي"، فيلتهم الطعام وهو يعدو، يبتلعه حاراً، وربما اعترض في حلقه وغص فأحس الغصة في صدره ثم لا يهنأ به ولا يكاد يسيغه. فتيسير الزواج هو السد الأول الذي أقامه الشرع في طريق الحرام، فهدمناه لمّا صعّبنا النكاح وسهّلنا السفاح. * * * ومنع الشرع الاختلاط وقال: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما». فجاء ناس منا، ببغاوات خلقها الله على صورة البشر، تقول ما يقال لها وإن لم تدرك معناه وإن لم تعرف مغزاه. قالوا: "ما هذه الرجعية؟ ما هذا الاحتقار للمرأة وسوء الظن بها؟ أتحرم المرأة حريتها؟ أنتم أعداء المرأة ... " وكثير من أمثال هذا الهذيان يردده من لا يدرك أثره ولا يعرف مغزاه. قلنا: "ما نحن والله أعداء المرأة؛ نحن أحباؤها، نحن المدافعون عنها المحافظون عليها، نحن نحميها من عدوان الرجل الفاسق ومن ظلم المجتمع الجائر". فلم يصدقونا، وخدعوا المرأة

حتى ظنت هذا الاختلاط مدنية، وتركوها تنفرد بالرجل وحدها: في عيادة الطبيب حيث تكشف عن بعض جسدها، وفي مخزن التاجر حيث تكلمه ويكلمها وتحسر عن وجهها لترى البضاعة وعن يدها لتمسك بها، وفي المدارس التي جعلناها مختلطة، بدأنا من رياض الأطفال فقلنا: هؤلاء صغار لا يدركون. وهذا حق، ولكن ألا تبقى صورة البنت في ذاكرته حتى يكبر؟ فإذا كبر ألا يكون تذكر أيام الروضة والحديث عنها فاتحة لصلة جديدة بينه وبينها؟ أوَ ليس في رياض الأطفال بنات وصبيان بلغوا وبلغن سن التمييز وبدؤوا يدركون -من كثرة ما يسمعون من الناس وما يرون من المسلسلات والأفلام- شيئاً من معنى الزواج؟ ثم تدرجنا (في كثير من بلاد المسلمين) فجعلنا المدارس الابتدائية مختلطاً فيها البنون والبنات، وفيهن مراهقات أو بالغات. أوَلم نجعل الأصل في الجامعات الاختلاط؟ يقعد الشاب العزب المحروم الذي تنضح كل خلية في جسمه بهذا الميل الذي نسميه «جنسياً» بجنب الفتاة، يمس بكتفه كتفها وبرجله رجلها، وربما كانت سافرة حاسرة تمس وجهَه أو يدَه أطرافُ جدائلها؟ وربما كانت قصيرة الثوب قد ارتفع عن ركبتيها وكشف طرفاً من فخذيها ... ثم نقول له: انتبه لحل مسائل الرياضيات ومعادلات الكيمياء وشرح المعلقات، اجعل ذهنك فيها وانسَ أن إلى جنبك بنتاً تتمناها وتشتهيها! لقد جعلنا هذا الاختلاط هو الأصل في السفر وفي الحضر، وفي المدرسة وفي الملعب، وعلى الشواطئ وفي الجبال، وقلنا: هذه هي المدنية، فانكسر السد الثاني. * * *

وكان السد الثالث خوف الفضيحة، فانقلبت الحال حتى صار الشاب الفاسق يفخر بفسوقه ويسرد حوادث فجوره، بعد أن كان يتوارى ويستتر ويجحد إن سُئل وينكر. وصارت القصص الماجنة مباحة لكل قارئ تصور أفظع الحوادث التي صاروا يسمونها «حوادث الجنس» بريشة المصور أو بقلم الكاتب، يقرؤها الشاب والشابة ويُمدَح كاتبوها على ألسنة أدبائنا ونقّادنا. ولقد قرأت -من قريب- مقالة لأديب كبير في السن وكبير في القدر، يمدح فيها الكاتب الفاسق ألبيرتو موارفيا، والفاسق الآخر الذي هلك من زمن بعيد، أوسكار ويلد، يدفع الشباب إلى قراءة كتبهما. وصارت الأفلام تعرض هذه القصص لمن لا يصل إليها أو لا يحب أن يقرأها. ونسينا أن إعلان الذنب في نظر الإسلام ذنب آخر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم علّم من ابتُلي بالمعاصي منّا أن يستتر بها وأن يكتمها وأن يستغفر الله منها. فانكسر السد الثالث. * * * وكان السد الرابع خوفَ المرض، فجاء الأطباء (أعني بعض الأطباء) ينادون بأعلى أصواتهم: أن لا تخافوا الأمراض يا أيها الفساق، فإن عندنا البنسلين، والاستربتوميسين، والتيرامايسين، والإبليسين (نسبة إلى إبليس!) وكل دواء فيه هذه السين ... فمهما أصابتكم به المحرمات من مرض فنحن نزيله، فأقدموا ولا تخافوا. فأقدموا وما خافوا، فانكسر السد الرابع. * * *

وكان السد الخامس هو خوف الحكومة والهرب من العقاب (لما كانت الحكومات كحكومة المملكة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وكان الحكم بشرع الله) فأخذنا قانون العقوبات من فرنسا، من البلد الذي دمره الانحراف حتى وطِأته نعال الألمان فاتحين ثلاث مرات خلال سبعين سنة، ونصصنا في قوانيننا (انظر قانون العقوبات) على ما يشبه الإباحة للزنا ويمنع الادّعاء على الزاني إلا من قبل الزوج، فإن رضي فلا ادّعاء ولا عقاب! وجعلنا عقوبة الزنا بين الأم والولد، أو بين الأب والبنت (وهي أفظع جريمة يتصورها صاحب شرف وخلق ودين) جعلنا عقوبتها أقل من عقوبة السرقة «الموصوفة» ولو كانت سرقة ألف ريال! وسكتنا، وسكت العلماء والمفتون والنواب والحاكمون، فانكسر السد الخامس. * * * وكان أقوى السدود وأمتنها خوفَ الله وخشيةَ جهنم، فأبعدنا الناشئة عن التربية الدينية وأنسيناهم خشية جهنم وخوف الله، ولم يعد الشاب الجديد يعرف طريق الجامع إلا إذا تنبه يوماً إليه أبوه -وكان مصلياً- فأخذه معه. فانكسر بذلك أمتن السدود. ثم قلنا للمغريات وللمغويات: انطلقي ... فانطلقت. وصارت المرأة تمشي في الطريق على صورة كانت تستحيي -قبل ستين سنة- أن تخرج بها أمام أبيها وعمها في الدار، إي والله العظيم؛ لا

أشهد إلا بما رأيت، مع أن دين الإسلام، بل وكل دين في الدنيا صحيح أو باطل، يحرّم على المرأة كشف الأعضاء التي تثير الفتنة أمام الأجنبي. وقد وجدت مرة على باب كنيسة في القدس (ردّنا إلى ديننا لنردها إلينا) إعلاناً للنساء النصرانيات المصليات يمنع دخولهن الكنيسة إلا بالكم الطويل والوشاح (الإيشارب) الذي يستر الشعر، وعلى أن يكون الوجه خالياً من الأصباغ. وما زالت المرأة تقصر من ثوبها إصبعاً من هنا وإصبعاً من هناك، حتى إذا ما وصلت إلى ساحل البحر لم يبقَ منه شيء! هذه الحال، فهل الذنب ذنب الفتاة وحدها؟ بل هل هو ذنب الشاب وحده، وقد وجد الغريزة قوية في نفسه، والزواج متعذراً أو متعسراً عليه، والسفاح سهلاً ولذيذاً، والمغريات والمغويات من كل جانب؟ فكيف تريدون أن يصبر ويقاوم؟ وكيف تريدون أن ينصرف إلى درسه وإلى كتابه؟ إنها مشكلة ينبغي أن تجتمع على معالجتها الحكومات والشعوب ورجال العلم ورجال القلم والجمعيات النسائية (الجمعيات على التخصيص) تشتغل به بدلاً من اشتغالها بالسخافات والترهات، لأن الخطر في هذا على البنت، والضحية هي البنت، وهذه الجمعيات أَولى بالدفاع عن النساء المظلومات. وإذا فسدت -اليوم- بنت صاحب الكتاب الذي ورد عليّ فجعلني أحدّث هذا الحديث، فالفساد ماشٍ إليّ وإليك، إلى بيتي

وبيتك، إلى بنتي وبنتك. إنها النار تمشي في الديار، إنه السيل يجتاح كل شيء، إنه الطاعون ينتشر في كل مكان. ونحن قاعدون نتفرج، لا نحاول إطفاء النار، بل نحن نلقي البنزين عليها ونأمل أن لا يمسنا الحريق. فكيف لا نحترق ونحن نضع البنزين فوق النار؟ كيف؟ كيف يا أيها العقلاء؟ * * *

هذا هو الدواء

هذا هو الدواء نُشرت سنة 1957 قرأ الناس مقالتي في العدد الثالث من «المسلمون» فكتبوا إليّ يقولون: هذا هو الداء عرفناه، فما الدواء؟ والدواء قريبٌ منا، سهلٌ علينا، ولكن الناس يدَعونه ويذهبون في طلبه أبعد المذاهب؛ فمن ماضٍ إلى أقصى اليسار يرى الإصلاح، كل الإصلاح، في فتح بيوت للبغاء العلني، يحتج لذلك بأن «الكبت» هو الذي يدفع إلى هذه المنكرات التي نراها، وأن البغاء شيء لا يخلو منه زمان ولا مكان، فلأن يكون منظماً وأن يكون بنظر من الحاكمين خير من أن يكون فوضى وأن يكون مستتراً، ولأن فتح هذه البيوت ينقّي البلد وينظفها، كمن يعمد إلى علبة فيجعلها لأقذار داره ولَقَى أهله، كيلا تنتشر هذه الأقذار في الدار وتدخل كل بيت فيها. ومن ذاهب إلى أقصى اليمين لا يرضيه إلاّ أن تعود الفتاة اليوم إلى مثل ما كانت تخرج به جدتها من نصف قرن، إلى الملاءة المزمومة أو الإزار الأبيض، ولا يحسب للواقع ولا للزمان حساباً، ويرى الطفرة في الإصلاح، مع أن الطفرة مستحيلة،

وهذا الفساد ما جاء في يوم واحد حتى يذهب في يوم واحد، بل إن النساء ما فتئن يقصّرن الثياب أصبعاً أصبعاً حتى بلغن بها ما نراه اليوم. وأنا لا أكره الحجاب السابغ، ولكني أحب لمن يتصدر للإصلاح أن يتكلم من الأرض لا من رؤوس المآذن، وأن يرسم الطريق الموصل للإصلاح العملي الممكن لا أن ينظم القصائد الخيالية في تمجيد المثل العليا. أما فتح بيوت الزنا فالجواب عليه من وجوه. أولها: أن الزنا شرٌّ كالقتل والجرح والسرقة، وليس في الدنيا عاقل يراه خيراً، فإذا جاز أن نفتح له بيتاً نبيحه فيه بحجة أنه لا يخلو من الزنا زمان ولا مكان، فلماذا لا نعمد إلى حي من الأحياء أو قرية من القرى فنعلن أن القتل أو الجرح مباح فيها، ما دام القتل والجرح لا يخلو منهما -كذلك- زمان ولا مكان؟ الثاني: أننا لو قلنا بأن الزنا ليس كالقتل، لأنه يتم بالتراضي بين الفاعلين والقتل والجرح لا يكون إلا قسراً، ولو ذهبنا مذهب من يجيز إتيان هذا المنكر وفتحنا هذه البيوت، لكان من حق كل شاب أو كهل أن يدخلها إن شاء، لا سبيل إلى إباحتها لزيد منهم ومنعها على عمرو، وإذن يجب أن نجعل في كل بلدة من البغايا عدداً يكفي ما فيها من رجال. فإذا كان في القاهرة -مثلاً- مليونان ونصف مليون من الناس فإن منهم أربعمئة ألف رجل على الأقل، وليس يكفي هؤلاء إذا أرادوا دخول هذه البيوت أقل من أربعين ألف بغي، فما رأيكم في أن يكون في القاهرة مثلاً أربعون ألف بغي؟ ومن أين نأتي بها إلا أن نخزي أربعين ألف أسرة وأن نجلّلها بالعار، أو أن نستورد من كل أمة ساقطاتها ومومساتها،

يأتين معهن بأمراض أجسادهن وأمراض نفوسهن ويأخذن بها مالنا وشرفنا وديننا؟! الثالث: إننا لو وفقنا في فتح هذه البيوت وجمعنا فيها ما تحتاج إليه من البغايا، لاكتفى الشباب بها عن الزواج وكسدت بنات البيوت وبقين بلا زواج، فماذا نصنع بهن؟ هل ننشئ لهن أديرة تتسع لهن جميعاً ونسوقهن جميعاً إليها ليكنّ راهبات فيها، أم نفتح لهن (أيضاً ...) بيوتاً نضع لهن فيها مومسين من الذكور؟ ولا تستبشعوا هذا الوصف، فليس الذنب ذنب الطبيب الذي يصف المرض الفظيع صادقاً بل الذنب ذنب المرض، وإذا كان الوصف بشعاً فإن الواقع الموصوف أبشع. * * * تقولون: فما العلاج عندك؟ العلاج عندي على مراحل؛ ذلك أن المجتمع يقاسي الآن مثل آلام النوبة المرضية (الكريزة)، فالمرحلة الأولى لوقف النوبة، والثانية لمنع عودتها، والثالثة لإذهاب المرض، والرابعة للوقاية من رجعته بتقوية الجسم وتحصينه. فالمرحلة الأولى في محاربة نوبة الدعارة التي وصفت لكم مظاهرها وأريتكم آثارها، وذلك: أولاً: بتقوية جهاز الشرطة الأخلاقية وتنظيمها وتمكينها من العمل، لأن الشرطي هو أول من يُستجار به إذا كانت الجريمة وأول من يُلتفَت إليه ويُبحَث عنه، فإن كان الشرطي مفقوداً أو

كان غائباً، أو كان مقيداً لا يستطيع أن يصنع شيئاً، لم يبقَ مانعٌ من الجريمة ولا وازع للمجرم. ولقد طالما شكى إليّ رجال الشرطة الأخلاقية، من أنهم يعرفون أرباب الدعارة وبيوتها، ولكنهم لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً لأنه ليس لديهم قانون وازع رادع، وأنهم يقبضون على المرأة الفاسدة فلا يملكون لها شيئاً، إلا أن تكون مريضة فيعالجوها لتبرأ فتعاود الفساد، ويطلقوها تَفسُد وتُفسِد ولكن تحت المراقبة ... أي أننا نمسك اللص فنقول له: لا بأس أن تسرق، ولكن اقعد في مركز معين واسرق بعلمنا ورأينا! وعمل رجال الشرطة الأخلاقية صعب، صعب جداً، لأنهم أمام إغراء بالجمال وإغراء بالمال، ويحتاجون إلى إيمان الصّدّيقين وصبر الشهداء ليقاوموا ويصبروا؛ لذلك يجب أن يُختاروا -ما أمكن- من الكهول المجربين أصحاب الخلق والدين، وأن يُعطَوا تعويضاً ضخماً فوق الراتب. ومهما أخذوا فإنهم الخاسرون لأنهم في موقف امتحان فظيع. وأن يزاد عددهم، وأن يكون في يدهم سلطان يحاربون به الدعارة، ومن ورائهم قضاء لديه قانون صارم يمكنه من عقوبة لصوص الأعراض مثل عقوبة لصوص المال. ومن خان منهم أمانته (بعد التعويض الكبير والرعاية) كان أيسر عقوبة له الطرد من الوظيفة. وهنا نأتي إلى القانون. فإنه لا بد من تعديل قانون العقوبات تعديلاً يرضي الله ويصلح الأمة ويمنع الإجرام، وذلك هو العَقّار الثاني لتوقيف نوبة المرض وتخفيف آلامها.

العقّار الثالث: القضاء على الدعارة السرية التي استفحل شرها وعظم ضررها واستترت بكل لباس، فالبيوت الفاجرة تختفي بين البيوت الفاضلة في الأحياء الكريمة، والبغايا الفاجرات يلبسن ثياب الفنانات (الأرتستات)، والسيارات تحمل في الليل هذا الشر إلى الشوارع البعيدة المظلمة وأطراف البساتين، وفي مخازن التجارة والعيادات والمكاتب خلوات فساد، وربما اتخذت المرأة الفاجرة زي الفتاة الطاهرة فزعمت (أو زعم صاحبها) أنها سكرتيرة أو موظفة أو ممرضة، وما هي إلا بغي. يجب وجوباً لا هوادة فيه ولا تراخيَ أن تُشَنّ حملة كاسحة ماسحة على الدعارة السرية وعلى من يسخّر نفوذه وقوته لحمايتها، ممن يرتادها ويستمتع بلذة الإثم فيها، وأن لا تُقبل فيها وساطة ولا شفاعة ولا يعرض لها تسويف ولا تأخير. وبهذه العقاقير الثلاثة نوقف النوبة (الكريزة). * * * أما منع تكرارها فيكون بالمرحلة الثانية من العلاج. يكون بالقضاء على المغريات والمغويات. وأولها: السينما. والسينما في كل بلاد الناس تراقَب أفلامها ويُمنع الفاجر منها، ولهم أفلام للأطفال وأفلام للمراهقين، ولا يسمحون بأن يرى الصغار والكبار الأفلام كلها على السواء. أما نحن فنسمح للصغير والكبير، وللمراهق والمراهقة، أن يرى هذه الأفلام الخليعة التي تفسد الرجولة وتضيع الأخلاق. وتصوروا ماذا يكون من شاب مَثَله الأعلى وقدوته هذا المهرج التافه

إسماعيل ياسين، أو الآخر المخنث محمد فوزي! فلماذا لا نقلد الإفرنج إلا في الشر؟ لماذا لا نقلدهم في الخير؟ هذه السينما هي رأس الشرور وأسُّ البلايا. والثانية: هذه الروايات وهذه الكتب التي تباع علناً مع الجرائد، لا يراقبها أحد ولا يحاول أحد أن يعرف ماذا فيها، لا وزارة المعارف ولا غير المعارف، ولا المفتي ولا البطرك، مع أن الواجب على رجال الدين وعلى رجال التعليم وعلى أرباب الأقلام أن يشرفوا عليها وأن يحاربوا الشر الكامن فيها. من روايات أرسين لوبين ومن الكتب التي تنشر باسم الثقافة الجنسية أو الروايات المترجَمة، وفيها جميعاً جراثيم الطاعون الذي يذهب بالرجولة والأخلاق والدين. حتى المجلات. إن في هذه المجلات المصورة طامات وبلايا، وما أفسد هذه الأمةَ شيءٌ كما أفسدتها هذه المجلات. والثالث: هذا التكشف، بل هذا العري في الشوارع والأسواق. لقد صار النساء يمشين بثياب لا تكاد تنزل عن الركبتين، والذراعان لا يسترهما شيء إلى الكتف. مع أن الشرع والعقل والمدنية، كل أولئك يدعو إلى فرض لباس الحشمة ومنع التكشف والاختلاط، ولا سيما بين الشبان والشابات. ولو أنا جنّدنا لمحاربة الدعارة آلافاً مؤلفة من الشرطة، ووضعنا لردع الفاسقين أقسى القوانين، لما أفادنا ذلك شيئاً مع

هذه المغريات. إننا ننظف الأرض ولكنا نترك السقف مثقوباً يقطر منه الوَكْف (الدلف) فلا تنظف الأرض أبداً ... نداوي المرض ولكننا نعود فنعطي المريض جراثيم الداء مع الدواء. * * * أما الذي يعالج المرض ويستلُّه من مكمنه ويقطع أسبابه فهو الزواج. وكل ما ذكرت لكم إلى الآن إنما هو علاج طارئ، يقطع النوبات المؤلمة ويمنع تجددها، وهذا هو العلاج الحقيقي. لا تضحكوا وتقولوا: ولكنك قد اعترفت أنت بصعوبة الزواج، فكيف تعود إليه فتصفه؟ أنا الآن طبيب ووظيفتي أن «أشخّص» المرض، وقد شخصته في تلكم المقالة، وأن أصف الدواء، وهأنذا أصفه اليوم؛ عليّ أن أقول إن المرض هو الملاريا مثلاً، ودواؤه الكينين، فإذا أخفى الصيادلة الكينين أو رفعوا ثمنه أو أضربوا وأغلقوا صيدلياتهم في وجوه المرضى فليس يُلام الطبيب، ولكن تُلام الحكومة التي تدعهم يتلاعبون بصحة الناس. ولست أعني الصيادلة ولا الحكومة ولكن هذا مثال. الدواء الزواج، وعلى الحكومة أن تؤلف لجنة من أهل الخبرة والاختصاص لتعمل على درس مشكلة الزواج وتبحث عن طرق تيسيره. وليس ذلك مستحيلاً، وقد أُلِّفت لجنة لذلك مرة، وكنت أعددت لها مشروع قانون «تسهيل الزواج» (لعلّه لا يزال موجوداً بين أوراقي) ويتضمن بعث حملة للترغيب في الزواج

في الصحف وعلى المنابر، وإصلاح عاداته، وتقليل تكاليفه، وتحديد المهور، وزيادة التعويض العائلي، وإلزام كل موظف من المرتبة السادسة فما فوق بالزواج وجعله شرطاً للدخول في الوظيفة، وفرض ضريبة على العزّاب ممن يقدر على الزواج ويمتنع عنه بلا عذر، وتعديل برامج التعليم في المدارس الثانوية للبنات بحيث تخرّج زوجات وأمهات، لا أن تدرس البنت ما يدرسه الشاب نفسه بلا تبديل ولا تغيير ... إلى آخر ما يخطر على البال في هذا الموضوع. وأنا أرى أن تُؤلَّف هذه اللجنة من ممثل واحد عن كل من دائرة الفتوى والأوقاف والمحافظة ووزارة المعارف ووزارة الداخلية ووزارة الصحة والقضاء الشرعي وكلية الطب وكلية الآداب ووزارة المالية، معهم ممثلان للمجلس النيابي وممثلان لرجال الدين المسيحي وممثل للجمعيات النسائية. وعلى من يهتم بأمر بناته وأبنائه وأخلاق البلد وصحته أن يعمل ما استطاع على تحقيق تأليفها. وكل ما نصنعه لإصلاح هذا الفساد الأخلاقي ومحاربة الدعارة باطل في باطل إذا لم يكن معه تيسير الزواج. وإذا أنت وجدت رجلاً جائعاً وأمامه أنواع الأطعمة في واجهات المطاعم، وأردت أن لا يسرق منها، فعليك أن تقدم له بدلاً عنها؛ عليك أن تشبعه. فإذا تركته جائعاً تنهش شهوة الطعام أحشاءه والطعامُ أمامه، وألقيت عليه مئة خطبة وموعظة كان ذلك كله كلاماً فارغاً. واللهُ ما سدّ باباً إلا فتح إلى جنبه باباً، وما حرم شيئاً إلا

أحل في مقابلته شيئاً، حرّم الربا والميسر (¬1) وأحل البيع والتجارة، وحرّم الزنا وأحلّ الزواج، فإذا منع المجتمعُ الحلالَ المشروعَ عمد الشبان والشابات إلى الحرام الممنوع. * * * أما القسم الرابع من العلاج، وهو الذي يقوّي الجسد ويعطي المناعة ويضمن الوقاية من العودة إلى المرض، فهو تربية النشء على خوف الله وعلى الأخلاق الفاضلة وعلى النفور من الرذيلة. وليس المهم أن تدخل الدروس الدينية في الامتحان أو لا تدخل، بل المهم أن نحسن اختيار المعلمين، أعني معلمي الدين، وأن يكونوا من ذوي القلوب ومن المتمسكين بالدين حقاً؛ فإن المدرس الذي يأمر بالخير ويخالفه، والذي يكذّب فعلُه قولَه، والذي يدعو إلى الآخرة وهمه الدنيا، هذا المدرس شرٌّ مركّب. هاتوا المدرّس العالم العامل ذا القلب الحاضر ولا يهمني بعد هل دخل الدين في الامتحانات العامة أم لا. ودليلي أن المدرّس الذي يكون في الجامع ويبلغ من نفوس الناس أعظم المبالغ ويؤثر فيها أعمق الأثر ليس لديه امتحان ولا علامات ولا نجاح ولا سقوط، ومع ذلك فقد صنع هذا كله. ولا يُفهم من كلامي أني لا أرى دخول درس الدين في الامتحان، لا، وأنا أصر على دخوله وعلى زيادة ساعاته، ولكن ¬

_ (¬1) وهو اليانصيب، هو بذاته.

الأصل المعلم لا المنهج ولا الكتاب ولا الامتحان (¬1). وإذا نحن حاربنا الدعارة ومنعنا المغريات وسهّلنا الزواج ولم نجد في النفوس خلقاً وديناً لم يفدنا ذلك كله. ونحن نرى في المتزوجين وممن لهم الأبناء والبنات مَن هم مِن الفسّاق، لم يمنعهم الزواج حين لم يمنعهم الخلق ولا الدين. * * * خوف الله هو الأصل فإن ذهب لم تسدّ مكانه الأخلاق ولا القوانين، لأن القانون يبقى ما بقي الشرطي، فإذا أمنت أن يراك الشرطي لم تبال بالقانون. والأخلاق تبقى ما بقي الناس، فإن لم يرك الناس لم تبال بالأخلاق. هذه هي الحقيقة، فلماذا نكتمها ونفرُّ من الاعتراف بها؟ إن النفوس فُطرت على العمل ابتغاء المنفعة، فمن من الناس يكون جائعاً وليس معه إلا قرش واحد فيضعه في صندوق الصدقات حيث لا يراه أحد ولا يطّلع عليه مخلوق ويبقى بلا طعام؟ ¬

_ (¬1) والواقع أنه ليس عندنا شيء اسمه علم الدين، بل علم التوحيد وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم التجويد وعلم الفقه ... فيجب أن يكون لكل علم الساعات الكافية لتدريس مواده. إنها علوم مختلفة وإن جمعها اسم الدين، كما يجمع الحسابَ والجبرَ والهندسة والمثلثات اسمُ الرياضيات، والكيمياءَ والفيزياء والطبيعي اسمُ الطبيعيات، والنحوَ والصرف والبلاغة اسمُ العربية.

أنا أقول لكم من. المؤمن، المؤمن وحده هو الذي يصنع هذا، ويصنع أكثر منه، لأنه يعتقد أن الله يعطيه بدلاً من هذا القرش أضعافاً مضاعفة ويعوّضه عما حمل من آلام الجوع لذائذ ليس لها حد (¬1). المؤمن الذي يخاف الله هو الذي يفعل الخير دائماً ويمتنع عن الشر دائماً، سواء أكان وحده أم كان مع الناس، لأنه يعلم أن الله معه دائماً ومطّلع عليه في كل وقت، وأن ما يفعل من الخير وما يَدَع من الشر لن يذهب سدى، بل هو سيجد مكافأته عاجلاً أو آجلاً. وإذا ذهب خوف الله من النفوس لم ينفع بعده شيء. لا تنتهي الأنفُسُ عن غيّها ... ما لم يكن منها لها زاجِرُ * * * ¬

_ (¬1) هذه هي فطرة البشر التي فطر الله الناس عليها. وما يروونه عن رابعة وغيرها من المتصوفة من عبادة الله لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته دعوى لا دليل عليها. والله قد وصف الأنبياء بأنهم يَرْجون ويخافون، فما هؤلاء بالنسبة إلى الأنبياء؟

الإذاعات العربية

الإذاعات العربية نشرت سنة 1960 حديث اليوم انتقاد للإذاعة، فهل سمعتم بأحد يتحدث في الإذاعة فينتقد الإذاعة؟ نعم؛ فلقد كانت محطة الشرق الأدنى قديماً تأتي بالأدباء لينتقدوا برامجها، وتدفع إليهم على ذلك الأجر الجزيل، لأنهم يخدمونها بهذا النقد وينفعونها. وإذاعتنا الوطنية أولى بهذه الفضيلة من تلك الإذاعة الإنكليزية. وأنا لا أنتقد القائمين على الإذاعة الآن. لا، وإن أخانا الأمير يحيى الشهابي وإخوانه من أقدم وأقدر المشتغلين بالإذاعة العربية، ولا أنتقد إذاعتنا بالذات، بل هو نقد عام لبرامج الإذاعات العربية كلها. ذلك أنها لا تجد ما تذيعه إلا هذا الغناء، تغني من الصباح إلى الليل بلا استراحة ولا انقطاع. وخبّروني عن هذا الكلام الذي تلحنونه، ما هو؟ أهو شعر عامي؟ أعوذ بالله! أهو زجل رفيع؟ أعوذ بالله مرة ثانية! هل يسجل حالة من حالات النفس؟ هل يعرض وضعاً من

أوضاع المحبين؟ هل يصوّر مجلى من مجالي الطبيعة؟ هل يهزّ سامعه؟ هل يسمو بخياله؟ هل يحرك عاطفته؟ هل هو فن نقبله من أجل الفن؟ هل هو توجيه؟ هل هو للوطن؟ إن أكثر ما نسمع من ألفاظ الأغاني ليس في شيء من ذلك كله، ما هو إلا كلام عامي ساقط لا معنى فيه ولا مبنى، وإن ثقله وغثاثته وبرده وسماجته يفسد حلاوة النغم الحلو، إن كان معه نغم حلو. وأنّى؟ إن أكثر الأنغام اليوم مستكرَه ثقيل. أقول أكثرها، لا كلها، لأن من الإنصاف أن نقرر أن في الأنغام ما هو عذب سائغ مطرب. ولا أدري لماذا لا يغني جماعة هذا الفن الجديد كما يغني الناس؟ لماذا لا ينطلقون بالغناء على سجيتهم؟ إن العلم يكون عالمياً لأن طرق التفكير واحدة في الأمم كلها، أما الفن فلا يمكن أن يكون عالمياً أبداً. إننا يستحيل أن نطرب لأغاني الإفرنج كما يستحيل أن يطربوا لأغانينا، ولكنهم يصرّحون بذلك لقوتهم وشعورهم بأنفسهم وننكر ذلك ونتظاهر بضده لشعورنا بالضعف، هذا الشعور الذي وضعوه في نفوسنا في أوائل هذا القرن والذي حاولنا الآن أن نبرأ منه ونتخلص من بقاياه. فلماذا يقلد جماعة المغنين أوربا في غنائها؟ ويا ليتهم يقلدونها ويأتون بفنها كما هو، فلا يفسدوا الفنّين ويزوغوا عن الطريقتين ويأتوا بشيء لا شرقي ولا غربي ولا شمالي ولا جنوبي!

كنت راكباً في الباص من أيام، فخطر على بال السائق الطرب ففتح الراد (ووضع الرادّ في الحافلات عادة شنيعة لا أدري متى تبطل) فإذا رجل يُخرج صوتاً عجيباً لا يشبه أصوات بني آدم، صوت كأنه صوت مختنق يطلب النجدة ثم يمنعه الماء في فمه أن يفصح أو يبين، أو كأنه صوت امرأة أخذها الطلق، أو كأنه صوت دجاجة علقت بها البيضة فلا تخرج ولا ترجع ... وسألت جاري مدهوشاً: ما هذا؟ قال: هذا فلان (واحد من المغنين المشهورين)، يغني، يقول: آه! فلم أصدق حتى جاء بأربعة شهود من ركاب الباص فشهدوا أن هذا الصوت الغريب هو غناء مغنّ يقول: آه! ونظرت فإذا هذه الـ «آه» قد خرج ربعها فكان على لسانه، وربعها علق في حلقه، ونصفها أصابه الإمساك المزمن فبقي في جوفه فلا يخرج إلا بشربة زيت خروع! فقلت: ولماذا لا يغني كما يغني الناس؟ قالوا: هذا هو الفن الجديد. قلت: لعنة الله على هذا الفن الجديد! أين هذا من آهات صالح عبد الحي وعبده الحمولي؟ أين هذا من غناء الأمس؟ اسمعوا برنامج نشوة الماضي (إن كنتم لا تعرفون تلك الأغاني) ثم انظروا الفرق بين الاثنين. بين ذلك الانطلاق وتلك الحرية وذلك الطبع وبين هذا التكلف وهذه القيود وهذه الحشرجات.

على أني لا أمدح أغاني الماضي، فأكثر كلامها كلام فارغ أو بذيء، ولكن أذكر هنا النغم، فإن لم يكن بدٌّ من الغناء فمثل هذا. وإذا أردتم أن تطعّموا ألحاننا بألحان الإفرنج فاصنعوا كما صنع سيد درويش على الأقل، أما هذا الـ «قرف» الذي نسمعه من ذلك المسخ الذي اسمه عبد الحليم حافظ وأمثاله من عجائب المخلوقات الذين لا نعرفهم رجالاً لهم رجولة الرجال ولا نساء لهم أنوثة النساء ولا ندري ما هم، ما نراهم إلا مخانيث، أما هذا فشيء لا يطاق. أين الملحنون الفحول؟ أليس من العجيب أن نجيء إلى نشيد «الحمد لك والشكر لك» فلا نجد له إلا هذا اللحن المائع، من هذا الحنك المرخي، وهذه الرجولة المزورة، فيمسخ النشيد من نشيد الرجولة الشاكرة الحامدة إلى ... كاد يسبق لساني فأقول الكلمة التي لا يقال هنا غيرها، ثم ذكرت أني أتكلم في الإذاعة وأنه لا يجوز أن يقال فيها ذلك الكلام. وما لنا وللغناء الإفرنجي؟ رأيت مرة فلماً غنائياً يغني فيه رجال ونساء مجتمعين ويصرخون فيه ذلك الصراخ، فما شبهتهم إلا بقطتين وكلبين ربطتها جميعاً، ثم دست على ذنب القط مرة وعلى ذنب الكلب مرة فصرخا معاً، فكان هذا الغناء الإفرنجي. وأنا أعتذر إلى من يدفعه التقليد إلى الغيرة على هذا الغناء، فإن هذا رأيي، وأنا رجل لا أفهم الموسيقى الفرنجية فما أصنع؟ ولقد فتحت الراد مرة (وقلما أفتحه) فسمعت أصوات آلات متنافرة، فقدرت أن الفرقة تصلح آلاتها (تدوزنها) قبل العزف،

وقلت في نفسي: لماذا يذيعون الدوزان؟ فلما انتهوا قال المذيع: قدمنا لكم السمفونية كذا لبتهوفن. حسبتها والله دوزان آلات، وكل السامعين من أهل الشام ما عدا ثلاثمئة وأحد عشر رجلاً في سوريا كلها لا يفهمون منها أكثر مما فهمت! وكنت أناقش أحد المدافعين عن موسيقى الغرب مرة، فقال بأن فهم هذه السمفونيات يحتاج إلى علم خاص. قلت: قاتل الله موسيقى لا تُفهم إلا بعلم خاص، أهذه موسيقى؟ إنها مسألة رياضيات! ووعد بأن يذيع حديثاً موضوعه «كيف نفهم سمفونيات بتهوفن»، وأذاعه وسمعته، وطلبت إليه أن يعد حديثاً آخر موضوعه «كيف نفهم حديث السمفونيات» لأني لم أفهم شيئاً ممّا قاله. ولعلكم تقولون أن الناس كلهم ليسوا مثلك، وفيهم من يعجبه «الأطرش» و «الأخرس»، وتلك التي لها مثل صوت القطة ولا أدري هل اسمها شادية أم شيء آخر. صحيح؛ إن أذواق الناس تختلف. وإذا كان الغناء الدائم يعجب ناساً فإن آخرين ينزعجون منه. إنهم يملّون هذا التكرار. لقد قلت عشرين مرة: إننا نسمع الأغنية الحلوة فنطرب لها، فنسمعها الثانية فنلتذ بها، والثالثة فنستريح إليها، فإذا سمعناها الرابعة والخامسة والحادية والستين بعد المئة طلعت أرواحنا منها. خذ الفقير الذي يرى البقلاوة عند البياع فيشتهيها ويتمنى أن يأكل قطعة منها، فاحبسه في غرفة عشرة أيام

لا تطعمه فيها إلا البقلاوة، فإنه يتمنى أن يتخلص منها إلى الزيت والزعتر. فلماذا لا تجيء الإذاعات بخبراء من علماء النفس فتسألهم عن طاقة الإنسان كم مرة تحتمل ترداد الأغنية الواحدة؟ والطريقة سهلة. تضعون هذا الخبير وحده، وتغنونه أغنية «على العصفورية» كل ساعة مرة، مثل العلاج الذي يعطى منه فنجان كل ساعة، وتنظرون متى يكسر الباب ويخرج رأساً إلى العصفورية (¬1). تقولون: ما العمل؟ يا سادتي، إن الإذاعة جُعِلت لرفع المجتمع إلى حياة أسمى لا لإقراره على حياته التي هو فيها. وليس المطلوب منها اللذة فقط، بل اللذة والفائدة. وهناك فوارق مالية واجتماعية بين الناس يجب أن يعمل على إزالتها أو تقليلها، وهنالك فوارق فكرية وذوقية من المستحيل أن تزول. والإذاعة تستطيع أن تعمل لها برنامجين، كل برنامج على موجة من موجاتها: برنامجاً للخاصة وبرنامجاً للعامة. وإذا كان في ذلك كلفة فقللوا وقت الإذاعة فليس من الضروري أن تشتغل الليل والنهار لا تستريح ولا تريح، ولا تنام ولا تنيم. ثم إن الإنسان يهتم بصحته ودينه وماله وعقله وقلبه، ¬

_ (¬1) كناية عن الجنون؛ إذ «العصفورية» هي الموضع الذي يقوم فيه مستشفى المجانين (وهي في لبنان) (مجاهد).

فلتشمل برامج الإذاعة هذه الأمور كلها. وإذا كان الغناء للقلب فليس معنى هذا أن نغني دائماً. إن الإنسان كما قالوا: حيوان ناطق، وليس حيواناً مغنياً، ما في الحيوانات ما يغني دائماً إلا الصرصور، فهل نحن صراصير؟ وبعد، فلعلي ما آذيت بهذا الحديث إلا من يستحق الإيذاء، ولا تؤاخذوني فإنها شكوى: ولا بُدَّ من شكوى إلى ذي مُروءةٍ ... يواسيكَ أو يُسليك أو يَتوجّعُ * * *

صور دمشقية سوداء من ربع قرن

صور دمشقية سوداء من ربع قرن نشرت سنة 1935 ذهبت أمس إلى المدرسة الأمينية (¬1)، وهي المدرسة الإسلامية التي انحَطَمَتْ على جدرانها ثمانية قرون وهي قائمة، وماتت من حولها ثمانمئة سنة وهي حية، ونشأت دول وانقرضت وبدئت تواريخ وختمت وتبدلت الأرض وتغيرت، وهي ماضية في سبيلها، عاكفة على عملها، قد انقطعت عن الأرض من حولها واتصلت بالسماء من فوقها، فعاشت في سماء العلم والناسُ يعيشون في أرض المادة. ¬

_ (¬1) الأمينية: قبلي باب الزيادة المعروف بباب القوافين من أبواب الجامع الأموي، وهي شرقي المجاهدية جوار قيسارية القواسين بظهر سوق السلاح، وكان به بابها (وبابها اليوم من سوق الحرير) وتعرف هذه المحلة قديماً بحارة العقاب، وهناك دار مسلمة بن عبد الملك، قيل إنها أول مدرسة بنيت بدمشق للشافعية، بناها أتابك العساكر الملقب بأمين الدولة ربيع الإسلام أمين الدين كستكين السفتكي سنة 514. قلت: وجاء ذكرها في ترجمة الغزالي في طبقات السبكي لما زار دمشق، ودرس بها ابن خلكان وغيره، وكان لها شأن بين مدارس دمشق كبير. جدد عمارتها واستخلص بعض ما سرقه منها الجيران وجعلها مدرسة ابتدائية مدة أربعين سنة الشيخُ شريف الخطيب. وقد توفي رحمه الله سنة 1959.

دخلتها فإذا هي صامتة ساكنة، لا يُسمع في أبهائها صوت مدرس بدرس أو دارسين بتلاوة، وإذا في كل فصل من فصولها رهط من التلاميذ، متفرقون في زوايا الفصل لا تنفرج شفاههم عن بسمة السرور ولا تلمع عيونهم ببريق الجذل، وإذا الأستاذ صاحب المدرسة قابع في غرفته يفكر حزيناً وينظر آسفاً، وهو الذي لم يألُ العملَ جهداً، ولم يسئ بالله ظناً، فلما رآني قام إليّ يحدثني عن المدرسة ويعلمني علمها، فإذا المدرسة قد زلزلت في مطلع هذا العام المدرسيّ لأن الناس قد مالوا عن المدارس الإسلامية وزهدوا فيها، وزاغوا إلى المدارس الأجنبية وأقبلوا عليها، وضنّوا على مدارسنا بدينار واحد في العام ليمنحوا تلك ثلاثة أرباع الدينار في الشهر! وأفاض الأستاذ في البيان حتى امتلأت نفسي حَزَناً، فخرجت حزيناً فمررت على «الكاملية» (¬1) فإذا هي في خطب أشدّ ومصيبة أفدح، فجزت بـ «الجوهرية» (¬2) فإذا هي ماتت بعد شيخ الشام، ¬

_ (¬1) هي التنكزية الصغرى، دار قرآن وحديث شرقي حمام نور الدين الشهيد وراء سوق البزورية أنشأها نائب السلطنة تنكز سنة 730. قلت: وسميت الكاملية الهاشمية لأن الأستاذ الشيخ كامل القصاب جدد بناءها وجعلها مدرسة ثانوية فكانت حيناً من أرقى مدارس دمشق. (¬2) الجوهرية شرقي تربة أم الصالح داخل دمشق بحارة بلاطة المعروف اليوم بزقاق المحكمة، أنشأها الصدر نجم الدين بن عباس التميمي الجوهري سنة 676، وكان بعضهم أواخر القرن الماضي قسمها ثلاث دور. قلت: وقد أعادها مدرسةً وجدد بناءها الشيخ عيد السفرجلاني رحمه الله رحمة واسعة. وقد هدمت سنة 1958 وصار مكانُها شارعاً.

الشيخ عيد السفرجلاني، وإذا فيها بنات يقرأن ويصحن ويلعبن، فسلكت على «التجارية» (¬1) فإذا دارها الكبيرة في زقاق الفخر الرازي خلاء قواء وإذا هي قد انقلبت إلى الخيْضَريّة فاتخذت فيها داراً، ورأيت «الجقمقية» (¬2) القاعة التاريخية الجميلة، والمدرسة الأثرية الجليلة فإذا هي قد اتُّخذت داراً. فذهبت وأنا أحسّ الألم يقطع في كبدي والأسى يحزّ في قلبي، ووددت لو أن الله قبضني إليه قبل أن أرى مدارسنا الإسلامية لا تستطيع أن تعيش في البلد الإسلامي ولا تجد من يشد أزرها ويأخذ بيدها. وأممت شارع بغداد، أروّح عن نفسي بخضرة البساتين وجمال الكون وانطلاق الهواء ومنظر الجبل، فما راعني إلا أفواج من الناس قد ازدحمت على باب بناء كبير كأنه قلعة من القلاع أو قصر من القصور، حتى لقد كادت تسد بكثرتها الشارع العريض ... ما راعني إلا الناس على باب «مدرسة اللاييك» يتدافعون ويتزاحمون كأنهم على باب الجنة، فكل يطمع أن يسبق ¬

_ (¬1) مدرسة مستحدثة أسسها طائفة من تجار دمشق، وكانت قبيل الحرب وأوائله أرقى مدرسة ثانوية في دمشق، وكان مديرها والدي الشيخ مصطفى الطنطاوي رحمه الله. (¬2) هي شمال الجامع الأموي، أسسها سنجر الهلالي وولده شمس الدين فانتزعها الملك الناصر حسن سنة 761 وأمر بعمارتها، فبنيت بالحجر الأبلق وجاءت في غاية الحسن، واحترقت في فتنة تيمور فجدد بنيانها سيف الدين جقمق وخص الخانقاه بالصوفية وأضاف إليها مدرسة للأيتام وتربة. وفي هذه المدرسة تخرّج أكثر رجال دمشق المعروفين اليوم على يد الشيخ عيد رحمه الله.

إليها، وكلما فتح الباب لواحد لحظته العيون بالغيظ ورمقته بالحسد. فسألت قوماً أعرفهم ينظرون كما أنظر: ماذا هناك؟ فقالوا: هم المسلمون يريدون أن يسلموا أبناءهم إلى رجال اللاييك ليصبوا في قلوبهم ما يشاؤون من عقائد باطلة في الدين، وعواطف زائفة في الوطنية، وزهادة في اللغة، وكره للتاريخ الإسلامي والقومية العربية، ويدفعون إليهم الأموال الطائلة، وما يشترون بها إلا الكفر لأبنائهم والزيغ والإلحاد، وحبّ الغريب وبغض القريب، وما يشترون إلا أعداء لهم ولأوطانهم يحاربونهم ويغزونهم في أخلاقهم وعقائدهم، وهم قد انحدروا من أصلابهم، وخرجوا من ظهورهم؛ أفرأيت بلاء أشدّ، وخزياً أكبر، من أن يحاربونا بأبنائنا ويأخذوا على ذلك أموالنا؟ فقلت: لا والله! وسرت، أخشى أن يتمزق والله من الألم كبدي، فمررت على «مدرسة الفرير» فإذا الجموع أكثر والازدحام أشدّ، والمسلمون يرجون الخوري ... أن يُنسي أبناءهم القرآن ليحفظهم الإنجيل، ويبغّض إليهم محمداً وأبا بكر وعمر ويحبب إليهم بطرس ولويس ونابليون ... فسرت مسرعاً، لا يطول بي وقوف فتحرقني نار الحزن، وأخذت طريقي إلى مدرستي أسلك إليها شارع البرلمان، فإذا على باب «مدرسة الفرنسيسكان» أمام الكنيسة الفخمة جمهور من المسلمين لا يحصيهم عدّ، يأخذون بأيدي بناتهم ليدخلوهن إليها ... فعدت أدراجي إلى شارع الصالحية فأخذت حافلة (الترامواي) إلى مدرستي في حيّ المهاجرين في لحف جبل قاسيون. ولم يستقر بي في المدرسة مقام حتى أقبل علينا شيخ من

مشايخ المسلمين، على رأسه عمامة بيضاء كأنها برج وحول يده كُمّ كأنه خرج، تتدلى منه سبحة لا يفتأ يعدّ حبّاتها ويلعب بها، وقد يخطئ مرّة فيسبّح عليها، يجرّ بيده ولداً فخذاه مكشوفتان وعلى رأسه كُمّة (¬1)، فقلت له: ما هذا يا شيخ؟ أعورة من أعلى وعورة من أسفل؟ قال: وما ذاك؟ قلت: ألم يكفك أن تكشف عورته، وأنت تذكر الله وتتلو كتابه، وتظهر منه ما أمر الله بستره، حتى تضمّ إلى العورة عورة أخرى تجيء من فوق رأسه، فتلبسه القبعة؟ فقال (ولوى لسانه وتفيهق وتشدّق): ما هي بعورة في مذهبنا. قلت: وما مذهبك يا مولانا؟ قال: مذهب الإمام مالك. قلت: ذاك لمن لا يفرّق بين عورة الملتحي وعورة الأمرد، هذا الذي في مذهب مالك، لا مع مثل ابنك الذي لا تؤمَن معه الفتنة. * * * وتركته وقمت إلى قسم الشهادة الابتدائية أرى التلاميذ، فجعلت أسألهم من هنا وهناك، فقلت: ما شروط الصلاة؟ ومَن يعرفها منكم؟ ¬

_ (¬1) الكمة هي (البيريه)، وهي جنس من القبعات.

قالوا: لا نعرفها؛ درس الديانة ليس من دروس الامتحان فلا نحفظه. قلت: فماذا قرأتم في السنة الماضية؟ قالوا: وماذا نقرأ؟ عندنا ساعة واحدة في الأسبوع. قلت: فلنبحث في التاريخ، من يحدّثنا عن وقعة اليرموك أو القادسيّة؟ قالوا: ما قرأناها. نحدثك عن سيرة نابليون ووقعة واترلو ... هذا ما قرأناه وسنقرؤه في هذا العام ... * * * وبعد، فهذا طرف من الحقيقة، وقليل من كثير من الواقع، نسوقه بلا تعليق. * * *

رسالة

رسالة نُشرت سنة 1959 [هذه رسالة شرعت بها لإرسالها إلى صديق حبيب يدرس في بلاد الغرب، ثم كسلت عن إكمالها فتركتها، فلما قعدت أكتب مقالة هذا العدد أخرجتها فأتممتها، وبعثت بها لتُنْشَر لتعم منها الفائدة ويشمل النفع، وليقرأها هذا الصديق مقالة في المجلة (¬1) إن فاته أن يقرأها رسالة في البريد.] أتذكر مقالتي لك يوم ودّعتك؟ لقد كنت خائفاً عليك من هذه البلاد لأني أخافها -والله- على نفسي، وقد شارفت حدّ الكهولة الأقصى، وقد أعلنت خوفي يوم سفرك، أعادك الله بالسلامة والنجاح. فلما وردت كتبك رأيت فيها لساناً فصيحاً وتفكيراً صحيحاً وكلام رجل مؤمن، فاطمأننت عليك إلى حين. أقول إلى حين لأني أعلم أن المرء كالنبات، يعيش بنفسه وبالأرض التي يمتص غذاءه منها، والماء الذي يطفئ ظمأه به، ¬

_ (¬1) وانظر مقالتي «إلى أخي النازح إلى باريس» نشرت في الرسالة بتاريخ 6 ديسمبر 1937، وهي في كتابي «صور وخواطر».

والجو الذي يتنفس هواءه، فإذا نقلته إلى أرض غيرها بدلته التربة التي انتقل إليها والجو الذي صار إليه، ما لم يكن من النباتات التي أعطاها الله من القوة والتمكن ما يمنع عنها هذا التغيير والتبديل، وذلك أندر من النادر وأقلّ من القليل. وليس يظهر هذا التبدّل من أول يوم، بل يحتاج إلى الزمن الطويل؛ إنه مرض في النفس شأنه شأن الأمراض كلها، لا بد لها من زمان تفرخ فيه جراثيمها (¬1) وتنمو وتسيطر، فترى الرجل تحسبه صحيحاً وهو سقيم. والمرء أبداً ما بين ماضيه وبين آتيه، يعيش بذكريات الماضي وبآمال المستقبل، فإذا انتقل من مثل دمشق إلى باريز أو برلين مثلاً، ورأى لوناً من الحياة جديداً وانطلاقاً ميسوراً بعد تقيُّدٍ بقيود الدين والخلق، ولهواً ممكناً بعد جِدٍّ، لم يَبْدُ لهذه الحياة الجديدة أثر فيه وهو يعيش فيها، بل ربما تنبّهت في نفسه الذخيرة الدينية فازداد تمسكاً. إنما يبدو ذلك ويظهر ويعمل عمله إذا عاد إلى بلده، فافتقد ذلك الانطلاق وحنّ إليه، وضاق بهذه القيود وثقلت عليه. وقد شاهدنا هذا في ناس من إخواننا عاشوا في باريز مثل عيش الزهاد والعباد، فلما رجعوا إلى دمشق هاموا على وجوههم كالحيوانات، تسوقهم شهواتهم وحدها، لا يهابون حراماً ولا يخافون عاراً ولا يحفِلون بشيء. ولولا أني لا أحب أن أعرض ¬

_ (¬1) الجرثومة في اللغة: الأصل، وجراثيم الأمراض: أصولها، وإطلاقها على «المكروبات» صحيح من باب التجوز.

لأحد من الناس بعينه (ولا يجوز لي أن أعرض لأحد) لسميت لك رجالاً بأسمائهم لتعرفهم. وأنا ما سردت عليك هذه الفلسفة المزعجة إلاّ لتعلم أنك لا تزال تعيش بذخائر الماضي في نفسك وبقايا آداب الصبا، وأن الذي تدّخره في نفسك الآن من ذكريات هو الذي ستحيا به بعد عودتك؛ فانتبه يا أخي، بل يا ولدي، لما ينطبع فيها. واعلم أن لكل رفيق ترافقه، وكل مكان تحله، وكل كتاب تقرؤه، وكل رأي تسمعه، لكلٍّ من ذلك أثر في نفسك، لا تحس به لكنه موجود كالبذرة الصغيرة في الأرض. بذرة زيتون مثلاً، لا يراها أحد ولا يلتفت إليها، ولكنها تصير يوماً شجرة تضطر كل من يمر بها إلى أن يراها. وتبقى مئة سنة على حين يظن من ألقاها أنه نبذها ورماها. لذلك قال ابن عطاء الله السكندري (¬1): «لا تمكّنْ زائغَ القلب من أذنيك، فإنك لا تدري ما يعلق بهما منه». وقد كنت عرضت لهذا المعنى في بعض ما كتبت، ولكني أعيده عليك لأن من المعاني ما لا بدّ فيه من الإعادة ولا يضر به التكرار. ولقد ذهبت إلى مصر وأنا في مثل سنّك. وأين مصر يومئذ (سنة 1928) من باريس اليوم؟ وكنت في مصر مثلاً مضروباً في التشدّد والبعد عن كل ما يحرم أو يشين، وعدت منها وأنا أحسب أني ازددت بسفري إليها إيماناً وتمسكاً، وإذا المرض الذي داخلتني فيها عدواه قد تمكن مني، حتى إني لا أزال إلى اليوم ¬

_ (¬1) في «الحِكَم»، وهو كتاب لا يخلو من ضلالات ولكن هذه كلمة حق فيه.

أعاني أثر هذه الفترة في عواطفي وفي أفكاري. وما ذلك لفساد مصر بل لأنني غدوت فيها طليقاً، ليس في الناس من يعرفني فيراقبني أو أعرفه فأتهيبه. وأنت في بلد فاسد، المحرمات فيها معلنة والمنكرات ظاهرة. وإنّ إلْفَ رؤية الحرام ودوام مشاهدته يهوّن على النفس اقترافه ويُذهب منها هيبته، نعرف ذلك من نسائنا المسلمات؛ كان عهدنا بالواحدة من نسائنا أنها تضطرب وتجزع إن لمحها الأجنبي من فتحة الباب أو شق النافذة، وتسرع فتتوارى، فصارت ترى الرجل فتقابل وجهه بوجهها وتثبت في عينيه عينيها. وكان الرجل إذا رأى الأجنبي ينظر إلى زوجه استكبر ذلك واستنكره، وهاج في نفسه تصوّن المسلم ونخوة العربي، فتراخى الحبل حتى صار الرجل يماشي امرأته في الشارع، ويضاحكها في الطريق، ويرافقها إلى السينما. وصار من العرب المسلمين من يقدم ابنته إلى الأجنبي ليراقصها، يدني صدره من صدرها ويلفّ ذراعه على خصرها ويلامس بساقه ساقها، وصار الأجنبي يأخذ الزوجة في هذه الحفلات الداعرة الفاجرة من زوجها ليرقص معها، فلا تستعصم المرأة ولا تأبى، ولا يغضب الزوج ولا يغار، ولا يعجب الناس ولا ينكرون! بل لقد سرى هذا الداء إلى نساء العلماء الفصحاء، فصرن يكشفن الوجه حيث تُؤمَن الفتنة وحيث تُخشى، فإذا كشفنه لم يتحرجن من مسامرة الأجانب من الأقرباء في السهرة، ومسايرة الأجانب من الأصدقاء في السفرة. يفعلن ذلك أولاً بحضرة الزوج وإذنه، ثم يفعلنه في غيبة الزوج وبلا علمه، ثم يتبع الوجهَ الشعرُ ثم النحر، والكفّ ثم الذراعُ ثم الصدر، ثم يكون هذا الحسور وهذا الفجور.

وهذا كله إنما كان تقليداً للإفرنج؛ نفعله لأنهم يفعلونه، ولأن المستعمرين قد اغتنموا غفلتنا وهجوعنا في مئة السنة (¬1) التي مضت وتأخرنا عنهم في طريق الحضارة المادية، فلم يدخروا جهداً ولم يألوا وسعاً في إشعارنا سبقهم إلى هذه الحضارة وتأخرنا، وعلمهم بهذه العلوم وجهلنا، وقوتهم بهذه الأسلحة وضعفنا، حتى صار تعظيمنا إياهم وهيبتنا لهم حقيقة راسخة في قلوبنا، اعترفنا بها أو أنكرناها. وكان من نتائجها أن تركنا شريعتنا لقوانينهم، وأخلاقنا لعاداتهم، وفضائلنا لرذائلهم. وكان هذا كله تقليداً على السماع ونحن في بلادنا، فكيف إذا رآه الواحد منا بالعيان وهو في بلادهم، وكيف إذا كان الرائي شاباً ملتهب الغريزة متوقد العاطفة، يحمل بين جنبيه نفساً قد حُشيت بالبارود؟ ماذا يصنع الشاب الذي كان في بلاده يفكر في المرأة ليله ونهاره، صورتها أبداً في خياله وحديثها أبداً على لسانه، يثيره مرآها على بعد مئة متر، فصار إلى بلد يرى فيه حيثما تلفّتَ أسراب الحسان المثيرات، كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يكلفه نيلهن إلا أن يشير بيده فيترامين عليه، لا يحجزهن دين ولا يمنعهن عرف ولا يمسكهن حياء، في معشر يرون من المدنية أن تستباح الأعراض ويتسافح الفتيان والفتيات، قد هانت المرأة حتى صار عرضها يبذل في ملء بطنها وستر جسدها، وصارت تُنال بغذاء وكساء. ¬

_ (¬1) هذا هو التركيب الصحيح.

فماذا يصنع الشاب في هذه المحنة؟ وكيف يغفل الآباء عن هذا البلاء؟ لو سمع الأب أن في هذا البلد الذي يبعث إليه بابنه وباءً فتاكاً وأن (احتمال) إصابة ولده به واحد في الألف لما أرسله إليه ولو كان فيه علم الأولين والآخرين، فكيف يرسله إلى بلد (احتمال) إصابته فيه بخلقه، وتفريطه فيه بعفافه، وتهاونه فيه بدينه تسعمئة وتسع وتسعون في الألف؟ لقد حدثني الأستاذ الشيخ مصطفى السباعي عما رآه في أوربا لما ذهب إليها للتداوي (شفاه الله وأتم عليه نعمة العافية) (¬1) فسمعت والله شيئاً أعجب من العجب، وأيقنت أنه لو امتُحن العجوز (¬2) العابد بما يمتحن به شبابنا هناك لخيف عليه والله السقوط. ذلك لأن النفس البشرية مفطورة على ابتغاء اللذة وقصد الراحة وترك العناء، ميالة إلى الانطلاق، ولأن الانحدار إلى المعصية أهون من التسامي إلى الطاعة؛ كالماء أَفْلِتْه يتحدّرْ إلى قرارة الوادي، وأَصْعِده لا يصعد إلا بمضخة، لذلك قلَّ في الناس الطائعون وكَثُرَ العاصون، وكثرت جرائدهم ومجلاتهم وأماكنهم ووسائلهم إلى ما هم فيه. إن الرجل الفاسد يلوّح للشاب الصالح بالجميلات وما يقدّر من اللذة بقربهن، والخمر ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة -كما هو مذكور في أولها- سنة 1959، وتوفي الشيخ السباعي رحمه الله بعد ذلك بخمس سنين (مجاهد). (¬2) كلمة عجوز في اللغة خاصة بالمرأة ولكنا استعملناها تجوزاً.

وما يتوهم من اللذة بشربها، والقمار وما يؤمل من الربح بتعاطيه، ويأخذه إلى المراقص والمشارب وكل مكان لذة فيفسده. فإلى أين -لعمري- يأخذه الرجلُ الصالح ليصلحه، وما الذي يغريه به إلا أن يعده للآخرة الغائبة بدلاً من الدنيا الحاضرة؟ وذلك مطلب عال لا يصعد إليه إلا بجهد دونه جهد السجن والضرب والقتال. لذلك جعل الله هذه المنزلة لمن يؤمن بالغيب وكرر الثناء عليه في القرآن، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن سبعة يظلّهم الله بظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، يوم الحشر للحساب، منهم الشاب الذي نشأ في طاعة الله وقاوم مغريات الشباب، ومنهم رجل دعته امرأة ذات جمال حتى إذا تمكن منها ذكر الله فقام عنها. * * * إن سفر الشاب وحده إلى أوربا خطر مؤكد، ولكن الآباء لا ينتبهون إليه ولا يفكرون فيه. إنهم يربون الولد على العفاف ويحمونه من فتنة النساء، حتى إذا ما ظنوا أنه استقام وصلح، ووطّن نفسه على العفة والتقى، وطوى جوانحه على مثل النار الآكلة من لذع الشهوة، نقلوه إلى بلد كل شيء فيه مباح، الفتن فيه تحف به من كل جانب، وقد زالت الموانع وسقطت الحدود، فليس دون المعصية حد، لا حد الدين في بلد لا يدين بدين الإسلام، ولا حد العار في بلد لا يرى العار عاراً. فهلا فكر الآباء في مصير أولادهم حين يبعثون بهم ليدرسوا في ديار الغرب؟

وبعد، فقد ذهبت -أنت يا أخي- وقُضي الأمر، فاجعل خوف الله بين عينيك، وتصور دائماً ذهاب لذة المعصية وبقاء عقابها، وذهاب ألم الصبر عنها وبقاء الثواب عليه. واسأل الله العون واستمد منه القوة، والسلام عليك ورحمة الله، وأستودع الله دينك وخلقك. * * *

صور من تاريخنا العلمي

صور من تاريخنا العلمي نشرت سنة 1959 هذه صور من تواريخ علمائنا، أبعث بها إليكم وحدها لا أبعث معها بتعليق ولا بيان، ولتحدثكم هي حديثها ولتعلقوا أنتم عليها، ولتذكركم بأشباهها أو بأضدادها من سير من تعرفون، فتكون كالمعيار لهم والمقياس لأخلاقهم، ولتكون كالصنجات في موازين حكمكم عليهم، ترجح بها كفة قوم وتطيش كفة آخرين. ولو أخذت هذه الصور من تواريخ الصدر الأول والقرون الماضية، حيث الدين غضٌّ والزمان مقبل والعلم في شبابه يتوثب من النشاط ويتفجر بالقوة، لرأيتم والله عجباً من العجب، وعندي من ذلك الكثير. ولكني آثرت أن آخذها من الأمس القريب، والعلم في كهولته يمشي مشية العاجز، يتلمس الجدران ويقارب الخطو، لا يستطيع أن يجانب الطريق المسلوكة خشية أن يتعثر أو يضل، لتروا أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة، وأن أمة محمد إلى خير، وأنها لا تزال طائفة منهم على الحق إلى قيام الساعة.

-1 - نحن في صحن الجامع الأزهر في مصر، بعد المغرب، وكان شيخ الأزهر الرجل العظيم بعلمه، العظيم بمنصبه، الشيخ الباجوري (المؤلف المشهور) (¬1) وقد قعد على عادته كل عشية وأقبل العلماء والطلبة يقبلون يده (¬2). وكان الشيخ مصطفى المبلِّط أكبر منه سناً، وكان قد نازعه مشيخة الأزهر وزاحمه عليها ولم يدّخر في سبيل الفوز بها جهداً، فلما صارت للباجوري صار يعظمه ويرعى له حق منصبه، فلما أقبل الناس هذه العشية على الشيخ لتقبيل يده اندس بينهم وقبل يده معهم، فانتبه له الباجوري وعرفه، فوثب قائماً وأمسك بيده وجعل يبكي ويقول: حتى أنت يا شيخ مصطفى؟ لا! لا! فقال الشيخ مصطفى: نعم، حتى أنا. لقد خصك الله بفضل وجب أن نقرّه، وصرت شيخنا فعلينا أن نوقرك. -2 - وهذه صورة أخرى من الأزهر في ساعة الظهيرة، وقد خلا من المدرسين ولم يبقَ فيه إلا طلاب لبثوا قاعدين يتراجعون مسألة من مسائل الدرس، أو ينظرون في كتاب من الكتب، ¬

_ (¬1) تقلد مشيخة الأزهر سنة 1263 هـ إلى أن توفي سنة 1277 (مجاهد). (¬2) تقبيل يد العالم لم يكن يعرفه السلف، ولا بأس به ما لم يطلبه العالم ويحرص عليه ويمد يده لكل من يسلم عليه، يضعها أمام فمه ليقبلها!

أو يحفّون بشيخ من المشايخ يسألونه فيجيبهم، أو يرقبونه من بعيد وهو جالس يعد درساً أو يتلو سورة، ينظرون إليه نظر تجلّة وإكبار، لأن المشايخ كانوا علماء عاملين صادقين مخلصين، فكان الطلاب يرون تعظيمهم من الدين. ودخل شيخُ الأزهر، وكان -يومئذٍ- الشيخ عبد الرحمن الشربيني (¬1) العالم المصنِّف الذي كان من مزاياه أنه لم يتزلّف إلى كبير قط، فقام الطلبة كلهم احتراماً له ووقف المشايخ يحيونه، فحياهم وأراد أن يمضي، فلمح في طرف المسجد شيخاً مسناً في ثياب خشنة مضطجعاً على جنبه، يظنه من لا يعرفه فلاحاً قدم الساعة من بلده فجاء يستريح في المسجد، فوضع شيخ الأزهر حذاءه بعيداً وأقبل يمشي على أطراف أصابعه مترفقاً حتى وصل إليه، فقعد وأخذ يده فقبلها. فانتبه النائم فرآه، فما زاد على أن قال له: إيش زيك (¬2) يا?عبد الرحمن؟ ففرح شيخ الأزهر بهذه التحية فرح من حيّته الملائكة. وكان النائم هو الشيخ الأشموني، العالم المعروف. ¬

_ (¬1) ولي مشيخة الأزهر سنة 1322 هـ، وفي ترجمته أنه كان ورِعاً زاهداً لم يتزلف لكبير (مجاهد). (¬2) ومن هنا جاءت كلمة «إزيّك» المصرية، وكلمة زي أصلها «سيّ» وهو المثيل والشبيه، ومن قولهم «لا سيّما فلان».

-3 - ونحن الآن في قصر حاكم مصر، وقد زاره الشيخ الأمير (المتوفى قبل مئة وخمسين سنة) (¬1) وهو صاحب الحواشي المعروفة في النحو والشروح في فقه المالكية، وكان بينه وبين الشيخ القويسني الذي ولي مشيخة الأزهر بعد ذلك (¬2) خصومة معروفة، فسأله الحاكم عنها (وكان يحب أن يقف على حقيقتها ليوفق بينهما)، فقال الشيخ الأمير: "ليس بيننا إلا الخير، وما أظن الشيخ القويسني حدثك بشيء من هذا". ومدح القويسني وأثنى عليه، ثم خرج فمر على القويسني وخبّره بما دار بينه وبين الحاكم، فقال القويسني: "صدقت، ما قلت له شيئاً". فقال الأمير: هكذا يكون أهل العلم، يسوّون ما بينهم في خاصّتهم، أما مظهرهم فيجب أن يكون قدوة في التآلف والخير إمساكاً على عروة الإسلام وحفظاً لكرامة العلم. -4 - على أنهم لم يكونوا يبتغون الصداقة إلاّ من طريق الحق والصدق والتعاون على الخير، فإن جاءت من طريق الباطل تركوها وأعرضوا عنها، لأن العالم الذي يتزلف ويرائي ويحبّ ¬

_ (¬1) اسمه محمد بن محمد بن أحمد السنباوي، توفي سنة 1232 هـ (1817 م)؛ أزهري مالكي عالم بالعربية، واشتهر بلقب «الأمير» لأن جده كان أميراً بالصعيد، وأصله من المغرب (مجاهد). (¬2) وقد ولي مشيخة الأزهر سنة 1250 هـ (مجاهد).

أن يمدح بما ليس فيه وأن يُذكَر بما لم يعمل يخالف عن سبيل العلماء. أروي لكم قصة وقعتْ في مدرسة القضاء الشرعي في مصر، وكان مديرها يومئذ محمد عاطف بركات. وكان من المحافظين على الصدق والمتمسكين به، وقد خلت وظيفة في المدرسة ورغب فيها أستاذان: شيخ من المشايخ وأستاذ من الأفندية، فلم يحبّ أن يردّ أحداً منهما، وسعى حتى وجد لكل منهما عملاً وأراد أن يسعفهما معاً، ولكن الوزارة قدّمت الشيخ وخصّته بالوظيفة. وجاء يشكر المدير فقال له: إن المسألة ليست في يدي، ولو كان الأمر في يدي ما عيّنتك. -5 - أما صدعهم بالحق وجهرهم به، فإني أروي حادثاً واحداً شاهداً عليه. لمّا توالت الهزائم على مصر في حربها مع الحبشة ووقع الخلف بين قوّادها، قال الخديوي إسماعيل لوزيره شريف باشا: ماذا ترى أن نصنع؟ قال: نجمع العلماء ليقرؤوا صحيح البخاري. كأنّ صحيح البخاري ورد أو تميمة، وكأنّ المهم تحريك اللسان بألفاظه لا حمل القلب والجوارح على العمل بما فيه! فجمع العلماء في الجامع الأزهر وجعلوا يقرؤونه والهزائم تتوالى، فجاء الخديوي بنفسه إلى الأزهر، فصاح بالعلماء وبالشيخ العروسي شيخ الأزهر وقال لهم بلهجة المغيظ المحنق:

إما أن هذا ليس البخاري، أو أنكم لستم العلماء! فوجموا وصمتوا، ولكن عالماً من آخر الصف لم يصمت ولم يَجِمْ (¬1)، بل صاح به: منك يا إسماعيل! فإنا روينا عن النبيصلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتامُرُنّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنّ عن المنكر، أو ليسلّطنّ الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم». فزاد وجوم المشايخ واضطربوا وجزعوا، ووقف الخديوي لحظة لا ينطق ووجهه يتمعّرُ من الغضب، ثم استدار فانصرف ومعه شريف باشا. وأخذ العلماء يؤنبون الشيخ المتكلم (شأنَ الناس مع كل من يصدع بالحق وينادي به، كأن الأصل هو المسايرة والمداراة، وكأن الصراحة خلاف الأصل) ويقولون: ماذا صنعت بنفسك؟ ولماذا عرضتها للتهلكة؟ وهو لا يبالي بهم ولا يرد عليهم. وما كان لمن يقوم بمثل ما قام به أن يبالي بلوم اللائمين. ولم تمرّ ساعة حتى جاء الشرطة يدعونه لمقابلة الخديوي، فقال الناس: قد ذهب! وعدّوه مع الموتى. وحُمِل فأُدخل على الخديوي، فإذا هو وحده ليس معه أحد، فقال له: أَعِدْ عليّ ما قلته. فأعاد عليه. قال: وما الذي صنعناه؟ قال: يا أفندينا! أليس الزنا مباحاً؟ أليس الربا مباحاً؟ أليس؟ أليس؟ ومضى يعدّد المنكرات. قال: وماذا نعمل وقد اقتبسنا مدنية ¬

_ (¬1) من وَجَمَ يَجِمُ، مثل وعد يعد، ووضح يضح.

أوربا وهذه عاداتها؟ قال: فما ذنب العلماء؟ -6 - وكانوا زاهدين في الدنيا؛ لا زهد المغفلين المجاذيب الذين يعيشون في الزوايا المظلمة مثل الخفافيش، يفزعون من ضوء النهار، بل الزهد الحقيقي، زهد الصحابة والتابعين، زهد من يعرف الدنيا ويسعى لها سعيها ولكن الدنيا لا تتملك لبّه ولا يسكن حبُّها قلبَه، ومن يعمل للإصلاح ويشتغل للعلم، ويكون له في نهضة أمته أبرز الأثر، ويكون أكبر همّه رضا الله والنجاة في الآخرة، لا رضا الناس ولا متع الدنيا. ومن زهد في الدنيا لم يعظم أهلها ولم يخضع لهم، وجاهرهم بالحق وبيّنَ لهم حكم الله، وقام فيهم مقام الدليل الهادي لا السائل الطامع. دخل اللورد كرومر جبار مصر وحاكمها يومئذ على الشيخ الأنبابي شيخ الجامع الأزهر، فلم يقم له الشيخ وردّ عليه السلام ومدّ يده فصافحه وهو قاعد، فاستعظم ذلك اللورد، وقال له: ألست تقوم للخديوي؟ قال: نعم. قال: فَلِمَ لَمْ تَقُمْ لي؟ قال: إن الخديوي هو وليّ الأمر منا، واللورد ليس منّا، والله يقول: {أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرّسولَ وأولي الأمْرِ مِنكم}. وهذه هي عزة الإيمان، وهذه هي الوطنية الخالصة. وما كان من اللورد إلاّ أن أكبر فيه هذه الصراحة وصار يعظّمه ويجلّه أكبر الإعظام والإجلال.

-7 - وانظروا إلى موقف الشيخ محمد عبده مع اللورد كرومر: زار الشيخ اللورد مرة، فقابله الناموس (السكرتير)، ولم يعرفه، فقال له: إن اللورد كرومر غائب. فترك بطاقته وعاد، فلم يبتعد خطوات حتى أحسّ اللورد، فبعث الناموس يدعوه ويعتذر إليه، فقال الشيخ: في فرصة أخرى. ولم يَعُدْ. -8 - وأخبار الشيخ طاهر (¬1) في زهده في الدنيا وانصرافه عنها أشهر من أن تُذكر. من ذلك أنه لما قدم مصر واحتاج، جعل يبيع ¬

_ (¬1) وهو الشيخ طاهر الجزائري، رائد النهضة العلمية في بلاد الشام في القرن الماضي. وكان يهوى جمع الكتب منذ كان في السابعة من عمره، فجمع كثيراً من الكتب النادرة والمخطوطات النفيسة حتى صار مرجعاً فيها، وأنشأ دار الكتب الظاهرية في الشام فصارت من أكبر مكتبات الشرق وأحفلها بالمخطوطات، كما أنشأ في القدس المكتبة الخالدية. وهاجر إلى مصر سنة 1324 هـ وأقام بها مدة واحتاج فباع أكثر كتبه. وكان يتقن -مع اللغة العربية- اللغات التركية والفارسية والفرنسية والسريانية والحبشية والعبرانية. له في «الأعلام الشرقية» ترجمة حافلة في آخرها: "كان محباً للعلم والعلماء، كثير الاطلاع، كريم الأخلاق، وكان يرفق بالضعفاء ويحمل على العظماء ويكره الاستعمار كرهاً شديداً ويحب المدنية ويحث على تعلم لغات الغرب" (مجاهد).

من كتبه، وكتبه أعز شيء عليه. وكان قد أنفق في شرائها كل ما تملك يداه، لا سيما المخطوط النادر منها. وكان يرضى أن يبيع الكتاب لدار الكتب المصرية بعشرين ولا يرضى أن يبيعه للمتحف البريطاني بمئة، ليبقى الكتاب في أيدي المسلمين، حتى لم يكد يبقى عنده من الكتب إلاّ القليل. فقال أحمد تيمور باشا للشيخ علي يوسف صاحب المؤيّد (كما يروي خالي الأستاذ محب الدين الخطيب): ألا ترى يا أستاذ أنّ من الواجب على مصر أن تعرف لهذا العالم الجليل قدره فتستفيد من علمه وفضله في دار الكتب مثلاً، وهو اليوم أعلم الناس بالكتب الإسلامية وقد كان هو المؤسس للمكتبة الظاهرية في دمشق؟ فوعده الشيخ علي بالسعي في ذلك. وكانت له منزلة معروفة في المعيّة الخديوية وفي وزارات الحكومة، وكل وزير يتمنى أن تكون له يد عند الشيخ علي يوسف ليقابله بمثلها عند الحاجة. ولكن الشيخ لمّا بلغه الأمر اعتذر بأنه اعتاد المطالعة في الليل إلى الفجر وليس من السهل تغيير عادته وهو في سن الشيخوخة. فسعى له الشيخ علي فرُتّب له معاش من الخديوي، وذهب تيمور باشا يبلغه ذلك، فقال له الشيخ طاهر: كأني كنت معك لما كلّمت الخديوي بشأني، وقلتَ له إنك سمعتني أثني عليه لعنايته بالكتب العربية. ولكن من الذي يضمن لك أني لا أقف منه عكس هذا الموقف إذا صدر منه ما يناقض ذلك العمل؟ الأحسن يا أستاذ ألاّ تعرض نفسك لما قد يَسْوَدُّ به وجهك بسببي، وإني بحمد الله في سعة ولا حاجة بي إلى الرواتب ولا إلى الوظائف، فأرجو أن تعمل لقطع هذا الراتب.

-9 - وروى الأب أنستاس الكرملي أنه رأى عالم العراق الشيخ الألوسي (¬1) يلبس بعد الاحتلال حذاء من أحذية الجند البريطاني، وكانت تُباع رخيصة، فقال له: يا مولاي، أراك تلبس في رجلك ما لم يرد أن يلبسه جند الإنكليز أنفسهم لضخامة هذه الأحذية وشكلها القبيح ولصوتها المزعج عند المشي. قال الشيخ: إني أقنع بما تيسّر. ولم يزِدْ على ذلك. وكان قد وصل إلى حالة من الفقر لا مزيد عليها. فلما عرف ذلك المعتمد الإنكليزي برسي كوكس أهدى إليه ثلاثمئة ليرة ذهبية إنكليزية، وكلّف الكرملي بتقديمها إليه، فرفضها رفضاً قاطعاً وقال: خير لي أن أموت جوعاً من أن آخذ ما لا أتعب في كسبه، لا سيما وهو من عدوّ بلادي. فألحّ عليه إلحاحاً متواصلاً، فقال له: لا تكثر من إلحاحك لئلاّ أطردك من بيتي طرد من لا عودة له إليه. فسعى له هو وجماعة من أصدقائه وتلاميذه، حتى صدر ¬

_ (¬1) أظنه الشيخ محمود شكري الألوسي، صاحب «بلوغ الأرب في أحوال العرب». كان داعياً إلى الإصلاح محارباً للبدع، وكان واسع الاطلاع إماماً في معرفة مقالات أصحاب الملل والنحل سلفياً أثرياً على مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية. وتوفي ببغداد سنة 1924 (مجاهد).

الأمر بتولّيه قضاء بغداد. فلمّا جاؤوه بالتولية قال: إن هذا المقام يستلزم علماً زاخراً وذمة لا غبار عليها ووقوفاً تاماً على الفقه، وأنا لا أجدني مستكملاً هذه الشروط ولا أصلح للقضاء. ورفض. -10 - وحدّث الأستاذ محمود زناتي، وهو من تلاميذ الإمام اللغوي الشيخ سيد المرصفي شارح الكامل (¬1)، أنه دخل عليه يوماً وقد سكن داراً بالية من حيّ قديم. فرآه قد جلس على حصير وسط الغرفة يكتب ويطالع وحوله الكتب، ومن حول الحصير خيط من عسل القصب مرشوش على البلاط يحيط به. فسأله: ما هذا؟ قال: هذا خندقي من هجوم البق! وعلى هذا الحصير شَرَحَ «الكامل»، هذا الشرح العظيم الذي يفاخر به عصرُنا العصورَ الخوالي. -11 - ولما قَدِم الشيخ سليمان النوري الأزهر كان شيخه الشيخ إبراهيم الباجوري، فسأله أن يوصي به مدير الدقهلية. والمدير -في اصطلاح المصريين- هو المحافظ عندنا، فكتب له ورقة ¬

_ (¬1) وضع شرحاً لكتاب «الكامل» للمبرّد سمّاه «رغبة الآمل من كتاب الكامل»، طُبع في ثمانية أجزاء. وتوفي سنة 1931 (مجاهد).

بمساحة إصبعين هذا نصّها: ولدَنا مدير الدقهلية، رافعه من طلبة العلم يجب إكرامه. خادم العلم والفقراء: إبراهيم فرفعت الورقة عن الأسرة كلها ظلم تلك الأيام، وخلّصتهم من السخرة والمعونة ورفعت من شأن الشيخ. هكذا كانت منزلتهم عند الحكّام. وكان الخديوي عبّاس الأول يجيء الأزهر ويحضر درس الشيخ الباجوري، ولا يستطيع التربّع على الأرض لعلّةٍ فيه. فكان الشيخ يأمر بكرسي قش صغير فيُجلَب له من قهوة بلدية أمام باب المزينين، فيجلس عليه الخديوي بين الطَلَبة والمستمعين. وكانت العادة في مصر أيام الاستقبالات الرسمية في الأعياد أن يقف الخديوي فيمرّ به المسلمون فيسلّمون وهم وقوف وينصرفون، إلاّ الأمراء من أُسرة الملك والعلماء فكان يقعد لهم وتقدم لهم القهوة، وكان يجلس للعلماء كل يوم سبت من كل أسبوعين جلسة تسمى «التشريفة الصغرى»، يكلّمهم ويسمع منهم. -12 - وكان الشيخ حسن الطويل أستاذاً في دار العلوم، فزار المدرسةَ يوماً رياض باشا، وكان رئيس الوزراء ووزير المالية، ومعه وزير المعارف علي مبارك باشا. فدخل غرفة الأساتذة، فلمّا

رآه الشيخ حسن قال له: يا باشا، أما آن لكم أن تجعلوني معكم وزيراً؟ فدهش رياض باشا، وقال له: ما هذا يا شيخ حسن؟ قال: ما تسمع يا باشا؟ قال: فأيّ وزارة تريد؟ قال: المالية. قال: لماذا؟ قال: لأستبيح أموالها! فغضب الرئيس وقطع الزيارة وخرج، وقال لمبارك باشا: لا بدّ أن تُخرج هذا الرجل من خدمة الحكومة فوراً. قال علي مبارك باشا: وماذا أصنع مع علماء الأرض وهو عالم عالمي؟ وجاء الشيخ حسن الطويل يوماً ليدخل على الخديوي، فكلّفوه أن ينزع عنه عباءته ويدعها في البهو، فأبى وقال: أقف بها في صلاتي وأقابل بها ربي، ولا أقابل بها الخديوي؟ -13 - وأختم بقصّة الشيخ سعيد الحلبي عالِم الشام في عصره، وقد كان في درسه مادّاً رجله فدخل عليه جبّار الشام إبراهيم باشا، ابن محمد علي صاحب مصر، فلم يتحرّك له ولم يقبض

رجله ولم يبدّل قعدته. وتألّم الباشا ولكنه كتم ألمه، وذهب فبعث إليه بصرّة فيها ألف ليرة ذهبية (وكانت -يومئذٍ- تعدل مليون ريال الآن)، فردّها الشيخ وقال للرسول الذي جاءه بها: قل للباشا إنّ الذي يمدّ رجله لا يمدّ يده! * * *

الطلاب والعطلة

الطلاّب والعطلة أُذيعت سنة 1959 لم تكن في دمشق كلها في أيامنا إلاّ أربع مدارس ابتدائية فقط، فكان أكثر التلاميذ في المدارس الأهلية، فلم يكونوا يعرفون هذه العطلة الصيفية لأن هذه المدارس تفتح أبوابها في الصيف وفي الشتاء. وكان تلاميذ المدارس الأميرية (إلاّ الأقل منهم) يقضون مدة الصيف في هذه المدارس، فإذا كان آخر أيلول (سبتمبر) وفتحت مدارسهم عادوا إليها. ولم يكن يعرف الدمشقيون قضاء الصيف في الجبال، فكانوا يكتفون بالصبحية والمسوية في صدر الباز أو الميزان أو الربوة أو الشاذروان، ومن أراد الاستجمام أمضى أياماً في دمّر أو الهامة، ثم أبعدوا النجعة فصار مجمع الناس في الجديدة والأشرفية وبسّيمة والفيجة، تستأجر الأسرة داراً من دور الفلاّحين أو غرفة من دار تقضي فيها ليالي القمر، وإن أطالت أمضت فيها شهراً. فتبدّلت الحال الآن؛ فصارت المدارس الابتدائية الرسمية عشرات، وازداد الإقبال على الاصطياف، وصار كثير من الناس يقضي الصيف كلّه في الزبداني ومضايا وبلودان، فصار من نتائج الاصطياف وانتشار المدارس الأميرية أن بقي التلاميذ مدة الصيف

بلا مدرسة. وكان من نتائج ذلك أن نشأت مشكلة جديدة، هي مشكلة الأولاد، ماذا تصنعون بهم في الصيف؟ هل تنوون أن تحرموهم حقهم في اللعب والحركة والانطلاق وتكلّفوهم أن يقعدوا طول النهار صامتين جامدين في هذه الطوابق المغلقة، فتكون العطلة سجناً عليهم، وهي ما وُجدت إلاّ لتكون راحة لهم ومتعة لأنفسهم؟ أم أنتم تنوون أن تطلقوهم على هواهم؛ تذهبون إلى أشغالكم وتتركونهم في البيت للأم المسكينة، يقفزون من حولها من الصباح إلى المساء، ويزوغون منها يوسّخون ما نظّفته ويفسدون ما أصلحته، ويكسرون الآنية ويمزّقون الستائر، فتطلع روحها منهم أو تضيق بهم، فتقذف بهم إلى الشارع، يجتمعون فيه بأولاد الجيران فينطّون ويثبون، ويصيحون ويزيّطون، ويتضاربون ويترامون بالحجارة، فيزعجون المريض ويوقظون النائم ويضايقون العباد، وتكون لهم الطرق مدارس شيطانية تعلّمهم كل بذيء من القول وقبيح من الفعل، ثم لا يعودون إلى الدار إلاّ بثياب وسخة وملابس ممزقة، وربما عاد أحدهم إلى بيته محمولاً قد شجّ رأسه حجر، أو كسرت رجله وقعة، أو لطمته دراجة، أو ضربته سيارة، فلا يكون لعب الأولاد في الطريق إلاّ شراً عليهم وعلى الناس؟ فما العمل؟ أما الأولاد الذين يذهبون مع أهليهم إلى المصايف فلا كلام لنا الآن فيهم، وإن كانت لنا عودة -إن شاء الله- إلى الكلام عنهم. بقي الذين لا يصطاف أهلوهم، وهؤلاء هم موضوع المشكلة؛

لأن من يمضي الصيف كلّه في الجبال هم الأقل عدداً والكثرة من الناس تبقى في دمشق، فماذا يصنع هؤلاء؟ لقد كنت كتبت في جريدة الأيام من أسابيع أعالج هذا الأمر من الجهة الجماعية، وبينت ما يصنع القوم في أميركا وفي غيرها من هذا الباب، ولست أعيد هنا ما قلته هناك (¬1)، وإنما أعالج الأمر اليوم من الوجهة الفردية بعد أن عالجته أمس من الوجهة الجماعية. إن علينا أن نجد للتلميذ في العطلة أعمالاً تقوّم خلقه وتزيد ثقافته، أو تقوي جسمه وتحسن صحته، أو تدربه على مواجهة الحياة وتمكنه من اكتساب بعض المال. وقبل أن أفيض في الشرح أبيّن للسامعين أن العمل ليس عيباً، وأن من أبناء الموسرين الكبار في أميركا وغيرها من يعوّده أهله اكتساب المال في الصيف من أي طريق حلال، وأن طلاب الجامعات يشتغلون في المطاعم بغسل الصحون ويعملون في بيع الجرائد ولا يرون في ذلك بأساً، لا عن حاجة للمال، فمِن آبائهم مَن يملك الملايين حقاً، بل لتعويدهم الكسب والاعتماد على النفس. وأنا لا أريد من كل أب أن يبعث بابنه ليشتغل بجلي الصحون أو بيع الجرائد، بل أريد أن يفكر الأب أولاً؛ فإن كان ولده مقصراً في درس من دروسه، أو كان عليه إعادة الامتحان ¬

_ (¬1) مرّ ذلك في هذا الكتاب: مقالة «شغِّلوا الطلاب في عطلة الصيف».

في مادة من المواد، فأول ما يجب عليه هو أن يراجع درسه ويستعد لامتحانه، وإذا حُرم راحة العطلة فبذنبه، ولو لم يسترح وقت الشغل لما اضطر أن يشتغل وقت الراحة، ولعله يعتبر فلا يُخدع بحلاوة الذنب بعدما ذاق مرارة العقوبة. وإن كان الولد ناجحاً وليس عليه امتحان يعيده ولا درس يحضره، كان على أبيه أن يعدّ له -قبل كل شيء- مجلساً من مجالس أهل العلم، أو كتاباً من كتب الأخلاق والدين، ليتعلم من مطالعة الكتاب ومجالسة العالم كيف يكون مؤمناً يخاف الله ويرجو ثوابه، ويحب للناس ما يحب لنفسه، ويبتعد عن الكذب والغش والعقوق وسائر المحرمات. ثم يفتش له عن عمل يشغله؛ فإذا كان الأب مكفِيّ المؤونة ميسور الحال ولم يكن يريد أن يعلم ابنه صناعة أو يعوّده التكسب، علّمه التردد على المكتبة العامة للمطالعة وسأله عما قرأ ومن صاحب، واختار له بإشرافه نادياً رياضياً موثوقاً بأهله والقائمين عليه، فعوده الرياضة وصبّ فيه روحها (¬1). ومن أراد لولده خيراً من ذلك علّمه صناعة من الصناعات؛ كصفِّ الحروف في المطبعة أو الضرب على الآلة الكاتبة أو الميكانيك، أو وَضَعه عند خطّاط أو رسّام يتعلّم منه، على ألاّ يشتغل بذلك نهاره كله بل نصف النهار فقط ويبقى النصف الآخر لراحته. وإن كان الأب تاجراً صحبه معه إلى دكانه فعلمه البيع والشراء وجعل له أجرة على عمله، أو اتخذ له «بَسْطَة» فيها من ¬

_ (¬1) انظر مقالة «حديث في الرياضة» في كتاب «فصول اجتماعية» (مجاهد).

السلع الصغيرة ما يشتغل هو ببيعه ويأخذ هو ربحه، يتصرف فيه على ما يريده. وإن كان الأب زارعاً أخذه معه إلى حقله ورغّبه في حياة الزراعة وكلّفه من الأعمال ما يطيق، وجعل له عليه أجراً. ولو أن المدرسة تصنع ما يصنع القوم في البلاد الأخرى فتسجل أسماء من يريد العمل وتعدّه هي لهم، فتجد لهم بعض الأعمال الهيِّنة وتدفع إليهم أجرها، كأن تجعل من الأولاد الصغار فرقة لتوزيع الخبز صباحاً على بيوت الحيّ، أو توزيع الحليب أو الجرائد على مشتركي الحيّ، أو تشغّلهم بموافقة آبائهم في المتاجر أو المعامل أو المطاعم على أن تُتخذ الأسباب الكافية لسلامة أخلاقهم وحفظ كرامتهم. والتلميذات المُحتاجات يَستطعن أن يعملن في البيوت أعمالاً يكسبن منها مالاً. من ذلك أن أكثر ربّات البيوت تجد المشقة في إعداد الخضر للطبخ أو يضيق عن ذلك وقتها، ولو أن بعض التلميذات اتفقن على أن يجتمعن ساعتين كل يوم في بيت واحدة منهن فيُعددن الخضر للطبخ؛ كأن يأخذن الفاصوليا فيقطعنها وينزعن خيوطها ويغسلنها ويضعنها في أكياس من النايلون كل كيلو بكيس، ويقشرن البطاطا أو الباذنجان، ويحفرن الكوسا أو يُقطّعنه، ويأتي أولاد المدرسة فيوزعوا ذلك على البيوت، يُباع بزيادة خمسين أو ستين في المئة ويتقاسم الأولاد والبنات الربح، ويكنّ قد تعلّمنَ شغل البيت. وهذا أمر واحد خطر على بالي أسوقه على سبيل المثال. وهناك أمور كثيرة يمكن أن تُعمل في الدار ويكون منها مكسب ويكون خدمة للناس؛ كأن يؤخَذ البنّ مثلاً فيُحمَّص ويُطحَن،

وفي كل دار محمصة ومطحنة، ويوضع في أكياس، أو تشتغل البنت بصنع زهور صناعية، أو أنواع من الحلويات والكاتو (أي الفراني (¬1)) والبسكويت أو إعداد المواد التي يُصنع منها الزّعتر ومزجها ووضعها في أكياس، أو ترويب اللبن ووضعه في كؤوس، أو إعداد أنواع المربيات والمعقّدات كمربى المشمش والكباد والنارنج والجانرك والخوخ والسفرجل والتين والجوز واليقطين والجزر، أو خياطة ألبسة «بسيطة» للأطفال، ويتولى الأولاد توزيع ذلك. وأنا أعلم أن هذا الكلام يبدو غريباً ولا يستطيع أكثر الآباء أن يقبله، وأنا كذلك لا أستطيع أن أقبله إذا سمعته من غيري، وهو يبدو غريباً عليّ وأنا أقوله الآن؛ لأن الأخلاق التي نشأنا عليها والتربية التي رُبينا عليها تعد مثل هذا العمل عيباً لا يشتغل به إلاّ المحتاج، وهو حين يشتغل به يستحي منه ويتمنى أن يستغني عنه، مع أن الإفرنج - ولا سيما الأميركان- لا يرون بذلك بأساً. ونحن نقلدهم دائماً في كل شيء ضار، فلماذا لا نقلدهم مرة واحدة في الشيء النافع؟ ¬

_ (¬1) قال الشيخ في غير هذا الموضع: الفَرَانيّ جمع فُرْنِيّة. قلت: وأحسب أن اقتراح «الفُرنيّة» تعريباً لكلمة «الكاتو» مما سبق إليه جدي رحمه الله (كما اقترح «الرادّ» للراديو و «الرائي» للتلفزيون). وهي كلمة مستعمَلة من قديم بمعنى غير هذا، وليس منه ببعيد؛ في «لسان العرب»: "الفُرْنيُّ خبزة مسلَّكة مضمومة الجوانب إلى الوسط، يُسَلَّك بعضها في بعض ثم تُروَّى لبناً وسمناً وسكّراً، واحدته فُرْنِيّة". (مجاهد).

إن القصد ليس المال وحده، بل الاشتغال في العطلة والتعود على العمل والتمرّن على مواجهة الحياة والاعتماد على النفس. وربما قال أحد الآباء: أنا أشغل ولدي أجيراً؟ أعوذ بالله! إنني أعطي ولدي ثلاث ليرات خرجية في اليوم فلماذا أكلّفه أن يشتغل طول النهار ليحصل على نصف ليرة؟ وإني أقول لهذا الأب الغني: إن روكفلر لم يكن يعطي ولده شيئاً إلاّ مقابل عمل، وقد جعل له نصف بنس (أي أقلّ من نصف فرنك) مقابل كل ثغرة في سياج الحديقة يكشف حاجتها إلى الإصلاح، ثم جعل له عن كل ساعة يعملها في إصلاحها سبعة بنسات ونصف. وروكفلر (إن كنت لا تعلم يا أيها الأب الغني) كان يدخل عليه كل دقيقة أكثر من مئتي ليرة، وله أعمال خيرية هائلة منها مؤسسة الصحة التي تنفق كل سنة ما يعادل ثمانية ملايين ليرة سورية، فلم يكن بخيلاً ولا فقيراً وكان يستطيع أن يجعل خرجية ولده ألف ليرة في اليوم ولا يحسّ بدفعها، ولكنه ضيّق عليه فجعل منه رجلاً مثله، وأنت بتدليلك ولدك وبهذه التوسعة عليه تجعله مخنثاً، لا يعرف للمال قيمة ولا يدري سبيل الاعتماد على النفس. ثم إن الليرة الواحدة التي يكسبها الولد بعمله يكون لها من القيمة ويكون له بها من اللذة ما لا تعدله قيمة مئة ليرة يأخذها من أبيه ولا لذتها، وهذا شيء لا يعرف إلاّ بالتجربة. * * *

وبعد، فهل استطعت بهذا الحديث أن أجعلكم تفكرون في هذه المشكلة، مشكلة العطلة الصيفية؟ وهل وُفِّقت إلى إقناعكم بأن تعويد أبنائكم على العمل ليس بعيب بل هو مكرمة وفضيلة؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فأنا سعيد. * * *

في الزواج

في الزواج أُذيعت سنة 1959 زارني من يومين شاب من أقربائنا، يحمل شهادة عالية ويملك مرتباً كبيراً، وهو صحيح الجسم حسن الخلق، قد قارب الثلاثين من عمره ولا يزال عزباً. فقلت له وأنا أحدثه: لماذا لا تتزوج (¬1)؟ قال: لأني وجدت كل المتزوجين من إخواننا يشكون الخلاف الزوجي ويقاسون آلامه ويتجرعون غصصه، ويتمنون لو أنهم ما كانوا قد تزوجوا. فعلمت أن الزواج في هذه الأيام وجع رأس وتعب دماغ، وأنا لا أحب أن أشتري الأوجاع والمتاعب لنفسي وأدفع في ثمنها مالي! قلت: وهل العشرة من إخوانك الذين سألتهم هم الناس؟ وإذا كانوا هم في تعب وعناء كان المتزوجون كلهم كذلك وكان الزواج وجع رأس وتعب دماغ؟ ولماذا سألتهم ولم تسألني أنا؟ إني أعرَف منهم، وإذا كان الرجل الذي يحضر خمسة مجالس ¬

_ (¬1) إذا أكثرت الكلام عن الزواج، فذلك لأن تشجيع الزواج أساس الإصلاح في الأخلاق والعادات.

عائلية ليفصل فيها بين الزوجين المختلفين يعد نفسه خبيراً، فأنا قد حضرت في المحكمة أكثر من ثلاثين ألف جلسة سمعت فيها من الزوج وسمعت من الزوجة، وأنا -فوق ذلك- أشتغل بالتحليل النفسي والدرس الاجتماعي، وإذا أنا يوماً أحلت على التقاعد ولم أشتغل بالمحاماة ولا بالكتابة والتأليف، فإني أفتح مكتباً للدراسات العائلية أقوم فيه بحل المشاكل الزوجية، فأنا خبير فني في الموضوع (¬1)، فاسألني. قال: ألا ترى أن أكثر المتزوجين في خلاف مستمر؟ قلت: أحبّ أولاً أن أحدد معنى الخلاف؛ فإذا كنت تريد (وكان إخوانك الذين سألتهم يريدون) حياة زوجية خالية من كل اختلاف في الرأي بين الزوجين، وأن يكون العمر كله شهراً من شهور العسل وجلسة واحدة من جلسات روميو وجولييت أو قيس وليلى، فهذا لا يكون. وماذا في مجالس الحب إلاّ هذا الكلام الفارغ؟ تقول له: «أحبك»، ويقول لها: «أحبكِ»، ويعيدان هذه الكلمة حتى لا يبقى لها معنى، ثم يملاّن ويسكتان! فهل يمكن أن تكون الحياة كلها أحبكَ وأحبكِ، كما يتوهم الفتيان الصغار؟ ولو أن قيساً تزوج ليلى واقتصر على حديث الحب لوقع الخلاف بينهما من أول الشهر الثاني، ولسمع الجيران خصامهما في الشهر الثالث، ولأقيمت دعوى التفريق في المحكمة الشرعية قبل نهاية السنة! ¬

_ (¬1) أُحِلت على التقاعد سنة 1966، ولكني لم أصنع هذا، بل عكفت على الكتابة والإذاعة والتأليف. وأنا أكتب هذا الكلام سنة 1988.

فلا يمكن أن يكون في الدنيا زوج وزوجة يعيشان هذه الحياة الخيالية العاطفية التي لا تكون إلاّ في القصص. وكل زوجين يختلفان أحياناً، ولا يخلو بيت العالِم من هذا الاختلاف، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَخْلُ بيته - وهو أشرف بيت أقيم على ظهر الأرض- مما يكون بين النساء، وهذا هو القرآن فاقرؤوا «سورة التحريم». والصحابة كانوا يختلفون هم ونساؤهم، ولقد جاء رجل يشكو زوجته إلى عمر، فلما قرع الباب سمع زوجة عمر ترفع صوتها عليه وهو ساكت، وهو عمر العظيم الذي كانت تخافه صناديد الرجال، فولى الرجل منصرفاً، فخرج عمر يناديه، فرجع. قال له عمر: ما لك؟ قال: يا أمير المؤمنين، جئت أشكو إليك سوء خلق زوجتي وأنها تتجرّأ عليّ، فوجدتك مثلي. فضحك عمر وقال: أَحتمِلُها لحقوق لها عليّ. والله عز وجل لم يخلق اثنين على صورة واحدة، حتى التوأمين إذا وقفا معاً وجدت بينهما فروقاً دقيقة، ولم يخلق كذلك اثنين بطباع واحدة. وإذا أراد الزوجان والشريكان والرفيقان ألاّ يختلفا فلا بدّ لأحدهما أن يساير الآخر، وأن يخالف رأي نفسه ليتبع رأيه. وإذا وقف كلٌّ عند رأيه لا يمكن أن يتفقا، وإذا كنتَ أنت على الرصيف الأيمن من الشارع ورفيقُك على الرصيف الأيسر وأردت أن تصافحه لم تستطع، ولا بدّ أن يمشي أحدكما إلى الآخر أو تمشيا معاً حتى تلتقيا في منتصف الطريق (¬1). وكل شركة لا بدّ لها من رئيس، والرجل هو -بلا شك- ¬

_ (¬1) الخالي من السيارات!

رئيس الشركة الزوجية، فيجب أن يكون رأيه هو المقدم، بشرط ألاّ يتدخل في الصغيرة والكبيرة ويدس أنفه في الكنس والطبخ وترتيب الدار، فإن هذا من حق المرأة فهي «وزيرة الداخلية»، وله الإشراف العام كإشراف رئيس الوزراء. فإذا كانت المرأة-مثلاً- وسخة لا تبالي بتنظيف الدار أو تسيء إعداد الطعام نبّهها، وإذا كانت مصابة بجنون النظافة تنسى نفسها بلا طعام وتنسى حق زوجها وحق ولدها لتمسح البلاط وتنظّف الدار، فلا تراها إلاّ راكضة من هنا إلى هناك رأسها يسبق رجليها، كان عليه أن ينبهها. وإن أكثر الرجال لا يهمهم الإمعان في النظافة ولا لمعان البلاط ولا ترتيب المقاعد، بل يهمهم أن يجدوا شريكة لحياتهم توافقهم وتذهب مذاهبهم وتكون على رأيهم. ومن النساء من يزيد معها هذا المرض (مرض النظافة) حتى تترك غرف الدار المفروشة للشياطين لا يستعملها أحد وتقعد في زاوية وتُلزم زوجها أن يقعد فيها، فإذا قعد على المقعد المريح صرخت به: "قم، لقد أفسدته! أما رأيتني أشتغل به من الصباح؟ ". وربما نامت على «الطرّاحة» لتُبقي السرير مرتباً، مع أنه لا يدخل أحد ليراه ولا يوضع في معرض! والمرأة العاقلة هي التي تنظر ما الذي يرضي زوجها فتفعله، وعلى الرجل -كذلك- أن يبتغي مسرتها ورضاها وأَلاّ يغتر بهذه السلطة ويحسب أنه صار كسرى أنوشروان فلا يعرف إلاّ الأمر والنهي، وألاّ يكون ظرفه ولطفه للناس فقط، فإن في الناس من يكون خيره للغرباء وشره للأهل. ولقد كان في دمشق رجل معروف بسرد النادرة وسرعة

البادرة، يحفظ من النكات العجيبة والوقائع الغريبة ما يضحك الثكلى التي فقدت وحيدها، يتسابق الناس إلى دعوته والاجتماع به ويرونه زينة المجالس، إن حَضَر مجلساً لم يتكلم غيره، ولم يتكلم بكلمة إلاّ ضحك لها الحاضرون من قرارات قلوبهم. وهو -مع ذلك- أثقل الناس على أهله، لا يكاد يبتسم في بيته ولا يكاد يكلّم أحداً. إذا دخل الدار دخلت الكآبة وحلّ الوجوم، لأنه لا ينطق ولا يدع أحداً من أهله ينطق في حضوره! وأعرف رجلاً ما يذهب في رحلة أو نزهة إلاّ تولى هو بنفسه خدمة إخوانه كلهم، إن كانوا في مخيّم اشترى لهم اللحم والخضر وأوقد النار وطبخ لهم ووزع عليهم، وإن كانوا في مجلس تولى هو صنع الشاي وخدم بنفسه، وإن احتاج واحد من أصدقائه أو من معارف أصدقائه إلى شيء قام به عنه. وهو -مع ذلك- أكسل الناس في بيته وأشدّهم تحكماً على أهله وتكليفاً لهم، لا يقوم ليملأ لنفسه كأس ماء ولا يسحب لنفسه كرسيّاً ولا يتناول رداء من الخزانة إلاّ أن تكون زوجته أو بنته قائمة بين يديه، تملأ له الكأس وتعدّ له الكرسي وتناوله الرداء! وأعرف رجلاً ليس في الناس أكرم منه على إخوانه، يوليهم الهدايا الثمينة ويمنحهم المنح ولا يمسك عنهم مالاً ولا ينفرد دونهم بشيء، وهو في بيته أبخل البخلاء، يضنّ على أهله بالقليل ويحرمهم ما لا بدّ منه من الضروريات. وأعرف نساء إن كنّ في استقبال أو كنّ بين أيدي الضيوف لا تبدو من إحداهنّ كلمة نابية، ولا تسمع منها لهجة حادة، ولا

تمّحي عن وجهها الابتسامة العذبة، وكلما رأت منهن من قبيح تغاضت عنه واحتملته، حتى يقلن: "ما شاء الله، ما أشدّ تهذيبها وأكرم خلقها وأحلى حديثها"، وإن كانت مع زوجها لم تلقَه إلاّ بالتقطيب والعبوس وبوجه مقلوب كأنه وجه عجوز أكلت ليمونة بقشرها! ثم إن أكثر النساء إذا خرجنَ لزيارة أو جولة، أو تهيأنَ لمقابلة قريبة أو صديقة، استعدت إحداهنّ استعداد عروس لعرسها، فتزينت وتنظفت ولبست أجمل أثوابها وتطيبت بأعطر طيوبها، فإذا لم يكن إلاّ زوجها خرجت عليه من المطبخ منفوشة الشعر كالحة الوجه، تسبقها رائحة السمن والزيت والبصل والثوم! مع أن حق الزوج على زوجته أكبر من حق الغريب. والعقل والدين يوجبان عليها أن تتزيّن (إن تزينت) له هو لا للناس، وأن تلقاه بأحسن أحوالها وتكلمه بأحلى لهجاتها، وأن تدّخِر له ابتسامتها ولطفها وإيناسها. والعقل والمنطق يوجبان عليه هو (إن تكرّم) أن يكون كرمه لأهله لا للناس، وإن عمل أن يعمل لهم، وأن يخدمهم لا أن يدعهم ويخدم الناس، وإن كان خفيف الروح حاضر النكتة سريع البادرة بالخير، أن يكون لأهله الحظ الأوفى من خفته ونكتته، لا أن يخص بذلك الناس وحدهم. فكيف انقلبت الحال، فصار القريب هو المستحق للشرور كلها وصار الغريب هو الذي ينال المحاسن كلها؟ أنا أعرف السبب أيها السامعون والسامعات.

السبب هو الإفراط في رفع الكلفة. وأنا أعرف أن الألفة تزيل الكلفة، وأن من العجيب المضحك بلا شك أن يتعامل الزوجان بالرسميات (بالبروتوكول) الذي يكون في وزارة الخارجية، وأن تكون حياتهما كلها على «الأتيكيت». ولست أقصد هذا، ولكن أقصد أن رفع الكلفة بالمرة يؤدي إلى أن يَعرض كل واحد على الآخر ما لديه من عيوب ونقائص، لا يحاول إخفاء شيء منها. مع أن لكل إنسان أشياء لا يحسن أن يظهرها حتى لأقرب الناس إليه، وزيادة القرب حجاب (كما يقول العرب). قَرِّبْ وجهك من رفيقك حتى لا يبقى بينك وبينه إلاّ عرض إصبع فإنه لا يراك، وإنما يرى مكان الأنف جبلاً قائماً في مقدمته مغارتان! وارسم خطين مستقيمين واجعلهما متعرجين وباعدهما تَرَهما متوازيين، فإذا قربتهما حتى التصقا بدت الفجوات بينهما. وكذلك الناس؛ كان لي صديق استمرت صداقتي إياه ثلاثين سنة وأنا لا أرى منه إلاّ خيراً وأجده موافقي في كل شيء، ثم سافرنا واضطررت أن أبيت معه في غرفة واحدة فرأيت منه في حالات أكله وشربه ونومه ووضوئه ما أيقنت معه أن بيننا من الاختلاف أكثر مما بين الليل والنهار. بهذا وبمثله يسعد المتزوجون، ويرغّبون الشباب العزّاب بالزواج. * * *

حديث العيد

حديث العيد أذيعت من دمشق سنة 1946 أرأيتم الجيش يوم العرض؟ حيث يمر الجنود متتابعين متشابهين، مشيتهم واحدة ولبستهم واحدة، لا يمتاز فرد منهم عن فرد، ثم يأتي ضابط أو رئيس يختال في مشيته ويزهى بأوسمته، فينتبه الناس إليه وتنصبّ الأنظار عليه؟ كذلك الأيام يا إخوان. إنها تمر متتابعة متشابهة لا يكاد يختلف يوم منها عن يوم، ثم يأتي العيد فتراه يوماً ليس كالأيام، وترى نهاره أجمل، وتُحس المتعة به أطول، وتُبْصِر شمسه أضوأ، وتجد ليله أهنأ. وما اختلفت في الحقيقة الأيام في ذاتها، ولكن اختلف نظرنا إليها؛ نسينا في العيد متاعبنا فاسترحنا، وأبعدنا عنا آلامنا فهنئنا، وابتسمنا للناس وللحياة فابتسمت لنا الحياة والناس، وقلنا لمن نلقى أطيب القول: «كل عام وأنتم بخير»، فقال لنا أطيب القول: «كل عام وأنتم بخير» (¬1). ¬

_ (¬1) إن لم يكن بدٌّ من هذا التعبير فاحذفوا واو «وأنتم» قولوا: «كلَّ عام أنتم بخير».

كنا كالمسافر يجتاز بالدنيا مسرعاً، فيبصر الدور والمساكن وكل ما على الطريق، لكن لا يستوعبه. فإذا تمهلنا رأينا جمالها واستمتعنا بحسنها. وما الحياة إلاّ سَفَر، وما نحن إلاّ رَكْب الحياة، ولكننا نغمض عيوننا عن جمال الروض وبهاء الينبوع وفتنة الوادي، ولا ننظر إلاّ إلى الغاية ... والغاية المال؛ المال، فنحن أبداً نركض وراء المال، نفيق فنسرع إلى الديوان أو إلى السوق نفتش عن المال، أما النفس فلا نخلو بها، أما الطبيعة فلا ننظر إليها. ثم إنّا نقطع أجمل مراحل الطريق، وهي مرحلة السحر من كل يوم، ونحن نيام. ويوم العيد هو اليوم الذي ننسى فيه المال ساعات معدودات لنفتش عن الجمال، فلذلك كان هذا اليوم عيداً، ولو فعلنا ذلك كل يوم لكانت أيامنا كلها أعياداً. والأعياد إما أن تكون أعياداً للدين، لذكريات دينية تتصل بالعقيدة، وتنبثق عن الإيمان، وتكون ذكراً وعبادةً، يتوجه فيها الناس إلى ربهم، ويقيمون شعائرهم في معابدهم، ويتبعون فيها أوضاعاً وأحوالاً أمَرهم بها دينهم، أو حسبوا أنه أمرهم بها. وأكثر أعياد الناس أو كلها، إنما كانت من الأعياد الدينية، سواء في ذلك الأمة التي تدين دين الحق والأمم التي تدين أديان الباطل. وإما أن تكون أعياداً وطنية، ذكريات أحداث جسام كان لها في حياة الأمة أثر، أو معارك مظفرة، أو أعمال لهذه الأمة باهرة؛ كأعياد الاستقلال وأعياد إقامة الدول. وأعياد للفن والرياضة يحتشد لها الناس ويتبارى فيها أرباب اللَّسَنِ والفصاحة وأصحاب القوة والبراعة. وربما صحب ذلك

بيع وشراء وربح وتجارة، كأعياد الأولمبياد عند اليونان وسوق عكاظ عند العرب. وأعياد رجال عِظام يجتمع الناس لإحياء ذكراهم، وتلاوة سيرهم، وزيارة بقاياهم وآثارهم. ولكل أمة من ذلك أيام غُرٌّ مشهَّرات. وأعياد هي مواسم للطبيعة؛ كأعياد الربيع في كل بلاد الغرب، حيث تلبس المدن حلة من الورد وتعرض فيها مواكب الزهر، قد جمعت في هذه المواكب زهرات الحقول وزهرات البيوت والقصور، وربما فرشوا الشارع كله ببساط من الفل والزنبق والياسمين والنسرين، مُزخرف منقوش (¬1)، ومن ذلك يوم النيروز أيام بني العبّاس، وعيد شم النسيم في مصر، وقد كانت بلدان الشام تعنى في القرن الماضي بمثل هذا العيد، فتبتغي فيه المتع المباحات والمسرات من غير أن تكشف العورات ولا أن تأتي المحرّمات. وأعياد للهو واللعب، كأيام المساخر (الكرنفال). والإفرنج يمزجون هذه الأعياد كلها مزيجاً عجيباً، فلا يخلو عيد الدين كيوم مولد المسيح عليه السلام من أن يبدأ بالكنيسة وينتهي في الملهى، ولا يخلو عيد الوطن من مظاهر الدين، وكل شيء عندهم يدخل فيه الدين؛ حفلات تتويج ملكة الإنكليز تكون في الكنيسة وتتم عن يد الأسقف الأكبر، وحفلة الربيع يباركها ¬

_ (¬1) رأيت ذلك في هولندا وبلجيكا لما زرتها بعد هذا الحديث بربع قرن.

الخوري، وكل شيء لا بدّ له من هذه البركة، حتى إنزال السفينة الجديدة إلى البحر أو حفلة توزيع الشهادات في أوكسفورد. هذه هي أعياد الناس، فما هو مكان عيدنا من هذه الأعياد؟ إن لنا في الإسلام عيدين لا ثالث لهما، وإن لم يكن ما يمنع من الاحتفال بذكريات الهدى والمجد، بيوم الهجرة وبيوم بدر مثلاً، احتفالاً يخلو من البدع والمحرمات ومن تلاوة هذه الأكاذيب التي اشتملت عليها الموالد، على أن لا تُعد أعياداً دينيةً، لأن الدين لم يشرع لنا إلاّ هذين العيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى؛ هذا احتفال ببداية نزول القرآن وإكمال الصيام، وذاك احتفاء باختتام الوحي وإتمام الدين. وأعيادنا لله أولاً، لأنها أعياد عبادة وتبتل وتوجه إلى الله بالشكر والحمد والطلب والرجاء. وهي للوطن (ووطن المسلم كل أرض تعلو فيها كلمة الله وتحكم شريعته) لأنها ذكرى أعظم حادث في تاريخ البشرية كلها: نزول القرآن في ليلة القدر من رمضان، وتمامه في حجة الوداع من ذي الحجة. وإذا كانت الأمم تحتفل بيوم الدستور وتجعله عيداً، فإن يوم الدستور الإلهي الذي أنشأ حضارة تفيأت ظلالَها الأممُ كلها حقيق أن يكون عيداً إنسانياً، يحتفل به كل من استفاد من حضارة القرآن. وهي من أعياد الرجال، لأنها ذكرى أعظم رجل مسّت قدمه ظهر هذه الكرة: محمد صلى الله عليه وسلم؛ محمد الذي جاء بالصيام ليعلّم الأغنياء بهذا الجوع الاختياري أن في الدنيا من يجوع جوعاً

اضطرارياً، ولولا هذا الصيام ما كان يتصور الأغنياء كيف يكون الجوع. الذي قرر المساواة في رمضان حتى صار الغني الذي يملك الملايين يشتهي كِسرة الخبز وقطرة الماء كما يشتهيها الفقير المسكين. والذي قرر المساواة مرة ثانية حين جعل مَن له كنوز الأموال يقف مع السائل الذي لا يجد عشاء ليلة، وهو يلبس لباساً مثل لباسه، ويقف من عرفة موقفاً مثل موقفه، وينام على الأرض في المزدلفة مثل منامه، ويرمي الجمار في منى وسط الزحمة مثل رميه، وهنالك في هذا الموقف الأكبر، الذي لا تعرف البشرية في كل عصورها نظيراً له، وقف محمد صلى الله عليه وسلم يقرر الحرية الشخصية، وحرية الرأي، وحرية المسكن، ويعلن المساواة بين الناس، فلا امتياز لجنس على جنس ولا لون على لون ولا أسرة على أسرة كما يمتاز الناس في أميركا في قرن العشرين وفي جنوب إفريقية! وإنما يتفاضلون بالمزايا الشخصية: بالإيمان والعلم والتقى والأخلاق. لقد قرر ذلك في خطبته التاريخية الخالدة في حجة الوداع، قبل أن تعلنه إنكلترا، وقبل الثورة الفرنسية، وقبل مبادئ ويلسون، وقبل ميثاق الأطلنطي الذي كتبوه على الماء بأكثر من ألف سنة! أعلنه إعلاناً حقيقياً تؤيده وقائع الحياة الإسلامية وأوضاع المجتمع الإسلامي، لا الإعلان الغربي الذي تُكذّبه شواهد الواقع ومظاهر الحياة في ديار الغرب. وهي أعياد بطولة ورياضة. وما الحياة الرياضية إلاّ حياة الصبر والاحتمال وألاّ يزدهي صاحبَها النصرُ ولا تهدّه الهزيمة، وأن يستشعر الأخوّة الرياضية لشركائه في هذا الكفاح؛ وكل ذلك يتحقق على أتمه وأكمله في صيام رمضان وفي شعائر الحج.

وهي أعياد فرحة ومسرة، ولهو شريف، ومتاع حلال. والإسلام ليس دين تزمت ولا يحارب طبيعة النفوس التي طبع الله الناس عليها ولا ينافي الفطرة، ولكنه يمنع ما فيه الضرر. هذه هي المحرّمات، فكل لهو لا محرم فيه مطلوب شرعاً إن كان باعتدال وقصد، وإلى الحد الذي يقوي النفس على الخير ويُنشّطها للقيام بما يجب. * * * بقيت عليّ كلمةٌ واحدة: هي أن حكمة رمضان لا تتم في عيد الفطر إلاّ إذا شاركتم الفقراء في الأكل والشرب كما شاركتموهم في الجوع والعطش، وكنتم معهم في لذة الوجدان كما كنتم معهم في لوعة الحرمان، وأن لا تملؤوا أيدي أولادكم باللُّعَب والسّكاكر وفي أبناء جيرانكم أولاد مثلهم ينظرون إليهم وأيديهم خالية، وأن تعلموا أن مما رميتموه زهداً به من ثياب أولادكم ما يكون ثوب العيد وفرحة العمر لهؤلاء الأولاد، وأن كل غني يجد من هو أغنى منه وكل فقير يلقى من هو أفقر منه. والمسائل نسبية، والعصفور نملة إن قيس بالفيل، ولكنه فيل إن قيس بالنملة. فأعطِ من هو أفقر منك عشر ليرات هي عنده مئة ليرة وعندك ليرة، يبعث لك الله من يعطيك خمسة آلاف وهي لك خمسون ألفاً وهي عنده عشر ليرات. وإذا فرّحت أخاك بعطيتك فرّحك الله بعطية من عنده لا تحتسبها ولا ترتقبها، وثواب الآخرة أكبر. فاختاروا -يا أيها القراء- مما يفضل من ثيابكم، وما يزيد من اللعب والسكاكر والحلويات عن أولادكم، فأرسلوه إلى أولاد الجيران الفقراء. دعوهم يعيشون يوماً واحداً من السنة كما تعيشون

أنتم كل يوم. ولا تعطوا عطاء الكبر والترفّع، إعطاء الصدقة، بل إعطاء الصداقة، ورب بسمة في وجه السائل أو شَدّة على يده أَحَبُّ إليه من المال الذي تضعه في كفه، لأن المال يحيي جسده وحده والمال مع الابتسامة يحيي جسده وروحه. وحينما تخرجون من بيوتكم فتجدون هؤلاء الأطفال الصغار الذين كسوتموهم وأعطيتموهم الحلويات واللعب ينظرون إليكم بعيون تبرق بالشكر والحب ويبسمون لكم بأفواه تشرق بالسعادة والفرح، وتسمعون أمهاتهم يتمنين لكم طول العمر ولأولادكم كمال النِعَم، حينئذٍ تعلمون أن أعظم لذة في الدنيا هي لذة الإحسان. أليس هذا خيراً من أن تجدوا في عيونهم نظرات الحسد وعلى ألسنتهم دعوات الموت والخراب؟ وهنيئاً لكم -بعدُ- قبول صيامكم، وهنيئاً لكم أفراح عيدكم، وكل عام أنتم بخير. * * *

مجنون

مجنون نُشرت سنة 1959 قال لي صديق في مصر يوماً: هل لك في زيارة مجنون؟ قلت: وهل فرغنا من زيارة العقلاء حتى نزور المجانين؟ قال: إنه مجنون عاقل. فضحكت وقلت: هذا قياس فاسد؛ لأنه إن صحّ أن يكون هذا المجنون عاقلاً تكون أنت -أيها العاقل- مجنوناً. قال: دعك من هذه الفلسفة، واذهب معي ترَ رجلاً يندر أن ترى مثله في الرجال. قلت: ما صفته، ما شأنه؟ قال: كهل يعيش هو وزوجه العاقر. كان موظفاً فهبط عليه الغِنى فجأة، مات قريب له موسر وأورثه ماله كله، فاعتزل العمل وعاش متبطلاً. قلت: إن الغنى سبب واضح للجنون. ولكن ما جنونه؟ هل يضرب؟ هل يخنق؟ هل يخوض في حديث طويل مع سائق الأتوبيس فيعرّض أربعين روحاً للخطر؟ هل يعتقد أن ما يكتبه

السباعي وعبد القدوس (¬1) أدب رفيع؟ هل يطرب لأغاني الأطرش وحافظ؟ هل يرتضي شعر الحداثة الذي لا جمال في لفظه ولا في معناه؟ هل يضع أولاده في المدارس الأجنبية؟ هل يؤمن بديمقراطية أميركا التي تشنق الزنجي إن قبّل امرأة بيضاء قد تكون من البغايا؟ قال: إنه على الطريق ... لم يصل بعد إلى هذه الدركة من الجنون. ومشيت معه فأخذني إلى عمارة ضخمة في حيّ الحدائق (جاردن سيتي) فيها مصعد وتدفئة عامة وهواء معدّل، وأدخلني بيتاً فيها، فخماً مفروشاً فرشاً إفرنجياً ما أظنّ أني رأيت آنق منه ولا أحكم وضعاً ولا أحسن ترتيباً. ووجدت الرجل حليق الوجه غربي اللباس، يدخّن السيكار ويرطن بالفرنسية، ووجدته حلو الحديث سريع البادرة حاضر النكتة. وقضينا معه ساعة استمتعنا فيها حقاً. فلما خرجنا قلت لصاحبي: أين جنونه؟ قال: ستراه بعد شهرين. وعاد بعد شهرين وقد نسيت القصة كلها فقال لي: هلمّ لزيارة المجنون. ومشى بي في غير الطريق الذي سرنا فيه أول مرة. وما زال ينتقل بي من الترام إلى السيارة، ويسلك بي من حارة إلى ¬

_ (¬1) يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس (مجاهد).

حارة، حتى صرنا عند الجبل، فأدخلني أزقة ضيقة ومسالك معوجّة حتى وَقَفني على دار قديمة طرق بابها ففُتح، وإذا الرجل ذاته ولكنه في إزار عربي وعباءة رقيقة، وله لحية خفيفة لم تكن له من قبل. ورأيت داراً شرقية قديمة مزخرفة الجدران، خالية من الكهرباء فيها المصابيح المُدلاّة والسّرُج المحلاّة وحمّالات الشموع. ووجدت فرشاً عربياً غير الفرش الأول، البُسُط والنمارق والوسائد والمتكآت، وليس في الدار كلها كرسي واحد ولا نضد. ووجدت الرجل هو الرجل، ولكن مكان السيكار النارجيلة، وبدل الرطانة بالفرنسية الحديث باللهجة البلدية وسَوْق أعرقِ الأمثال في العامية. وكانت جلسة ساعة، فلما خرجنا قلت لصاحبي: ما هذا؟ قال: هذا جنونه؛ إنه لا يطالع ولا يعمل ويخاف الملل، فهو يتنقّل هذا التنقّل المفاجئ ليشعر بلذة التغيّر ومتعة التجدّد، وينفق على هذا جلّ ماله، فهو ينتقل في البلدان. يعيش في القاهرة حيناً وفي الإسكندرية حيناً، وتارة في أوربا وتارة في الريف. وينتقل في الحالات فهو يوماً شرقي ويوماً غربي، وآناً يعيش عيش الفلاحين يلبس لباسهم ويأكل طعامهم ويأوي إلى مساكنهم، وآناً يحيا حياة لورد من لوردات الإنكليز. ولا يفتأ يبدّل ترتيب الغُرف ونوع الأثاث وطريقة الفراش، فإن كان السرير في غرفة النوم إلى اليمين جعله بعد أيام على الشمال، وإن كانت مائدة الطعام بالطول أقامها بالعرض، فإن ملّ الجديد عاد إلى القديم. قلت: هذا والله من كبار العقلاء. إن العادة -كما يقول علماء

النفس- تُضعّف الحس وتبطل الشعور. إن الموسر الذي يركب الكاديلاك كل يوم، وينام على السرير الفخم، ويأكل على المائدة الحافلة، لا يحسّ لذلك كله بعُشر اللذة التي يحس بها الفقير إذا جرّبه مرة. بل إن الغني ليمل الترف ويشتهي لوناً آخر من ألوان الحياة. خبّرني الشيخ عبد الله أبو الشامات أن أحمد باشا الشمعة (الذي كان وجه دمشق في أيامه) جاءه مرة واشتهى عليه أكلة فول مُدمّس مع البصل على أرض الحديقة. وأنت تعرف مائدة أحمد باشا الشمعة. بل تعالَ قل لي أنت: أما مللت وضع غرفة الاستقبال في بيتك وغرفة النوم؟ أما تشعر بلذة إذا بدلت غرفة بغرفة، وأنزلت هذه اللوحة التي علقتها منذ زواجك من قبل ثلاثين سنة وجئت بغيرها؟ إنها قد تكون لوحة فنية جميلة ولكن ثق أنه لم يبقَ من يشعر بجمالها، لا أنت ولا ضيوفك الذين شبعوا منها وعافوها. أما تحس بحياة جديدة إذا تركت هذه الدار التي تسكنها وانتقلت إلى حيّ جديد تشغل نفسك مدة بدراسة أحواله ومعرفة أهله وكشف أسراره وخفاياه؟ إن التبديلَ والتجديدَ حياةٌ، والجمودَ والركودَ موتٌ. وإن علة الحياة الزوجية خاصة هي الاستمرار وفقد الجديد. وأنا أرى أن يأخذ الرجل الموسر أهله وأولاده ليلة أو ليلتين إلى الفندق يبيتون فيه إذا لم يستطع السفر بهم إلى بلد آخر، ليجد في التجدّد ما يبعث في نفسه وفي أنفسهم الشعور بالحياة، وليكون من ذلك مادة للحديث والتذكّر. المهم هو التبديل، وإلا فلماذا نصطاف في الجبال؟ ما الاصطياف؟ إذا كان فعل ذلك الرجل في تبديل المساكن جنوناً

فكل واحد منا يُجَنّ مرة في السنة حين يذهب إلى الجبال ليصطاف فيها. إن له من وسائل الراحة في بيته وفي بلده ما لا يجد مثله في المصيف، ولكنه حب التبديل. والموظف في الزبداني ينتظر يوم العطلة لينزل إلى دمشق، ونحن في دمشق نرقب يوم العطلة لنذهب إلى الزبداني؛ هو يجد المتعة في دمشق ونحن نجد المتعة في الزبداني، وما اختلفت النفوس ولكنه حب التبديل. والكشافة الذين يتركون القطار المريح والسيارة السريعة، ويحملون أحمالهم ويصعدون الجبال ويؤمون المدن والقرى، يدَعون البيوت وينامون في الخيام، يهجرون الأسرّة ويهجعون على الأرض، إنما يريدون التبديل. بل إن الحج نفسه إنما هو -أولاً- عبادة مفروضة وركن من أركان الإسلام، ثم إنه لون من ألوان التبديل في نمط المعيشة؛ إنه معسكر كشفي تدريبي لا بدّ فيه من تحمّل المشاق والصبر على المتاعب، ولو كانت حجة يمكن أن تخلو من تعب لكانت حجتنا التي حججناها سنة 1954، كنا ضيوف الحكومة، النزول في فندق بنك مصر الفخم، والسيارة على الباب، وكل شيء ميَسَّر، وقاسينا مع ذلك من مشاق الزحام في الطواف والسعي والرمي والسهر ليلة منى والامتناع عما يحرم على المحرم ما لا ننساه (¬1)، كأن تلك المشاق من مقاصد الشريعة في الحج ليكون معسكراً تدريبياً إلزامياً. وإن من أسباب التوفيق في الزواج أن يبتكر فيه الزوجان ¬

_ (¬1) لم يبق من هذا الآن إلاّ أقل من القليل.

أسلوباً للتجديد ودفع الحياة النَمَطية المتشابهة. أعرف رجلاً من أرباب النكتة كان يعد لزوجته كل يوم مفاجأة، فهو يتصيد الأخبار ليقصها عليها، ويخترع من النكات العلمية أنواعاً عجيبة تكون في أولها جداً كالجد ثم تكون مادة للضحك والحديث عنها شهراً. جاء هذا الرجل يوماً فوجد زوجه منفردة في الدار تشكو الملل. وكانت امرأة عاميّة فأحبّ أن يشغلها بشيء، فجعل يلوي وجهه ويظهر الألم فارتاعت وسألته: ما لك؟ قال: لا شيء ... لا تهتمي. قالت: ما لك؟ قل لي ممَّ تتألم؟ قال: لا أدري، رجلي كلها، أحسّ كأن النار تمشي فيها. وجعل يفتش ويتحسس رجله كأنه يفتش عن موضع الألم حتى اهتدى إليه فقال: ها هو ذا، إنه هنا في خنصر رجلي، إنها علة مخيفة قرأت عنها. إن خنصر رجلي مغموس في اللحم. ولم تنتبه المسكينة -من خوفها عليه- إلى أن كل خنصر مغموس في اللحم، وانطلقت إلى الهاتف لتدعو الطبيب. فقال: لا، لا، فتشي في الدليل عن طبيب مختص بمرض الخناصر. وأمضى في ذلك نصف ساعة. ثم ضحك فعرفت النكتة وصارت لها مثاراً للضحك ومادة تحدّث بها جاراتها. وأنا لا أطلب من كل زوج أن يمثل مثل هذه الرواية السخيفة، بل أريد من الأزواج أن يعلموا أن من أكبر أسباب الشقاق بين الزوجين هذه الحياة الراكدة التي تمر أيامها متشابهة متماثلة، كل يوم مثل أمسه وشبه غده، وكل شيء فيها لا يتبدّل،

توزيع الغرف ووضع الأثاث وألوان الطعام وأسلوب الأكل. وما أدري ما الذي يمنع أن نأخذ الحكمة من هذا المجنون، فنعمد أبداً إلى التغيير والتبديل الذي تحتمله أموالنا ولا تسوء به أحوالنا؛ فتذهب الزوجة إلى دار أهلها فتقضي فيها أياماً ويبقى الرجل وحيداً يعالج أمره بنفسه، أو يكون ضيفاً معها عند أهلها فيجد من تبدّل الحال ما يجدد نشاطه ويشحذ شعوره، ثم يدعو أهل المرأة ليقضوا عنده أياماً مثلها. أو يأخذ زوجه وأولاده فيأكلوا يوماً في المطعم، أو يحملوا الطعام فيتعشّوا على صخرة في الجبل أو عند ساقية في البستان. ولست أريد هذا بالذات، بل أضرب الأمثال على ما يمكن به دفع الملل وتجديد أسلوب العيش. وما أدري أجئت بشيء معقول أم أنا لا أزال في جو المجنون الذي زرته، فأنا لذلك أتكلّم كلام المجانين! * * *

موضوع إنشاء

موضوع إنشاء نُشرت سنة 1934 احسبوا معي يا قرّائي الأعزاء؛ لأني -كما تعلمون أو كما لا تعلمون- لا أحسن الحساب ولا أعلم أن خمسة وستة ثلاثة عشر إلاّ بعد ساعة كاملة أقضيها في حل هذه المسألة ... وربما خرجت بعد هذا التفكير ومعي فيها قولان: فهي على قول اثنا عشر، وعلى قول هذه الثلاثة عشر المشؤومة، واللهُ أعلم بالصحيح. احسبوا معي يا سادة: مئتان وخمسون ورقة، في كل ورقة خمسة حمير وخمسة أفراس، فكم هو الحاصل؟ لست أدريه على التحقيق، ولكنه -من غير شك- أكثر من ألف حمار وألف فرس! وليست هذه الدواب في إصطبل ولا في خان ولا في مزرعة، ولكنها في ... رأسي ولا مؤاخذة! نعم، في رأسي؛ فقد دعوني إلى لجنة الفحص وجعلوا موضوع الإنشاء حواراً بين حمار وفرس (¬1)، وأرادوني وأرادوا زملائي الكرام على قراءة مئتين وخمسين مقالة في هذا الموضوع ¬

_ (¬1) كان هذا موضوع الإنشاء في امتحان الشهادة الابتدائية تلك السنة. ولا ندري متى ينتهي مدرّسو الإنشاء من هذه الموضوعات «الخنفشارية»!

«الحماري»، فجعلوني أحسّ أنّ في رأسي ألف حمار وألف فرس تتعادى وتترافس وتصهل وتنهق، وتضرب بأرجلها جوانب رأسي وتدخل في أذني وأنفي، وأراها في أحلامي طائرة من حولي تضاحكني وتباسطني بنهيق من نغم الصبا الحماري أو بعناق على الطريقة الحمارية. ولست ألوم في اختيار هذا الموضوع لأنهم أكّدوا لي أن الموظف لا يحقّ له أن يلوم رؤساءه ولو بدا له أن هذا اللوم حق، ولكني أقول إن هذا الموضوع لم يعجبني. ولا يعنيهم أن يعجبني أو لا يعجبني ما دمت -في نظر القانون- لا يمكن أن أفهم شيئاً في هذا الباب لأني معلّم ألف باء تاء ثاء ... في مدرسة زاكية الحورانية! وأقول إنه أضحكني كثيراً وأضحك زملائي أنّ أحد الطلاب كان رقيقاً أكثر من اللازم فجعل الفرس والحمار يتعاتبان عتاباً رقيقاً، ثم يعتذر أحدهما للآخر ويصافحه ويعانقه ويقدّم له «بردوناً» حمارياً ... وأنّ أحد الطلاب كان سمجاً أكثر من اللازم فجعل بين الحمار والفرس حواراً أودع فيه كل ما يعرف من ألفاظ السباب والشتائم البلدية موجهة إلى حضرات الأساتذة الكرام أعضاء اللجنة وحجّته بأن الحمار رفس الفرس فقتله ... وأنّ أحد الطلاب أراد أن يتفاصح فجعل الفرس الأصيلة فرساً «قصيلة» ولها «يدتان» و «رجلتان» و «عينتان»! * * * لا ألوم أحداً، ولكني كتبت لأتنفّس الصعداء بعد هذا العناء الطويل والبلاء المستطيل، ولأهنئ إخواني الطلاب لا بنجاحهم وحملهم الشهادة (فليس هذا بالأمر المهم، وليس يعنيني كثيراً

أن تزيد قائمة المغترين مئة اسم أو مئتين) ولكني أهنئهم بأنهم لا يزالون تلاميذ، لا يعرفون -بعدُ- ما هو عناء الفحص. والتلميذ يوم الفحص يحسب أنه وحده الخائف الحذر، في حين أن هؤلاء التلاميذ الكبار، هؤلاء الفاحصين، أشدّ منه خوفاً وحذراً. هو يخاف من السّقوط، والسقوط أمر تافه ما دام التلميذ قد حفظ دروسه وقام بالواجب عليه، وهم يخافون من الظلم، والظلم أمر خطير لا يستطيع الرجل الشريف أن يُقدِم عليه. والتلميذ يكتب ورقة واحدة، يصبّ فيها ما شاء من هراء وهَذَيان، ثم يذهب إلى بيته فيؤمن ويؤمن أبوه وأمه أنه قد أجاد وأحسن وبذّ الكاتبين، وهم مجبورون على قراءة هذه الأوراق كلها وحشو أدمغتهم بهذا الهراء وهذا الهذيان وفهمه وإدراكه، وتقديره بعلامة من علامات الامتحان. وهو إذا سقط يزعم ويزعم أهله أنه قد ظُلم وأن الفاحصين قد تحاملوا عليه وانتقموا منه، وهم إذا أسقطوا تلميذاً سقطت عليهم اللعنات والشتائم ورُفعت أكفّ العجائز في ظلمة الليل تدعو الله أن ينتقم "ممن كان سبب سقوطك يا ولدي، الله يخرب بيته، الله يعدمه أولاده، الله يبعث له العمى والكساح"! أي أن جزاء هذا الفاحص المسكين، الذي أجهد نفسه وأتعب ضميره وأضاع وقته، أن يخرب بيته فيبقى في الشارع، ويموت أولاده فيغدو منفرداً ثاكلاً حزيناً، ويذهب بصره فلا يعرف عدواً من صديق ولا يعرف أين الطريق، ويصبح مُقعَداً لا يقدر على حِراك ... والغريب أن هذا السخف لم يختص به العجائز، بل تجاوزهم إلى مدير مدرسة بيني وبينه بعض الجفاء وتلاميذه مقصرون جداً

فسقطوا في الفحص، فلم يرَ سبيلاً إلى ستر تقصيرهم وإخفاء عجزهم إلاّ بأن ينسب إليّ الخطأ. وأغرب من هذا أن كثيراً من أصدقائي قد سألوني أن أضمن لهم نجاح طائفة من الطلاب، ولم يروا في هذا بأساً، وغضبوا حين لم ينجح هؤلاء الطلاب ... مع أنني أحقّ بالغضب منهم وأولى أن أثور لكرامتي التي يعبثون بها بهذا الطلب الذي لا يختلف في شيء عن قولهم لي لو قالوا: أنت رجل خائن قد تعوّدت الخيانة، فنرجو أن تخون أمانتك هذه المرة أيضاً من أجل خاطرنا! على أن الذي جرأ الناس على هذه الطلبات وعوّدهم عليها هو إصغاء بعض المعلمين ومن بيدهم أمر الفحص إليها، واستجابتهم لها. ولو رفضوها واستنكروها وغضبوا منها لتراجَع الناس وفهموا أن المعلم ليس لصاً ولا خائناً، ولا يختصّ زيداً بالخير ولا عَمْراً بالشر، ولو اضطرته إلى ذلك الصداقة المتينة أو العداء الأكيد. والخلاصة أني أحمد الله على نجاتي من هذا العناء وعلى عودتي إلى نفسي وهدوئي ومطالعاتي، وأرجو أن تكون هذه آخرَ مرة أُدعى فيها إلى مثل هذا العناء. وأحسب أنهم لن يدْعوني كرّة أخرى، وأحسبني قد أتعبتهم كما أتعبوني. * * * وبعد، فإني أحمد الله على انتهاء هذه المفازة الامتحانية، وأُهنّئ من فاز من الطلاّب، وأرجو لمن سقط نجاحاً قريباً، وليغفر الله لمن ملأ رؤوسنا خيلاً وحميراً. * * *

من عبث التلاميذ

من عبث التلاميذ نُشرت سنة 1934 كنت في الصف وكان موضوع الدرس شيئاً لا نعرف نحن معشر المعلمين، ولا يعرف من هم فوقنا، مدلوله إلاّ بالتقريب؛ ذلك الشيء الذي يحويه ثبت الدروس الرسمية ويُهمل في الواقع، هو ... «المحادثة». وقد زعمتُ مرة أني فهمت موضوع هذا الدرس وافترضت أني مجنون حقيقة (إذ إن كل معلم مجنونٌ مجازاً ولا مؤاخذة ... جنون عبقرية لا جنون مارستان)، ورحت أتحدّث أنا وتلاميذي؛ أسخر منهم ويسخرون مني، وأسألهم ويسألونني. ولِمَ لا؟ أليس الدرس درس محادثة؟ هَلُمّ فلنتحدّث! سألتهم: ماذا يختار كل واحد منهم من المهن إذا هو بلغ مقبل أيامه وصار رجلاً (أعني بحسب الظاهر)؟ وهذا السؤال -على ما فيه من سخف بَيِّن- شائعٌ فينا معشر المعلمين، نلقيه في أوجه التلاميذ كلما لاحت لنا مناسبة أو أخرجنا هذه المناسبة من جيوبنا! فقال واحد منهم: أما أنا فأريد أن أكون مختاراً (أي عمدة). حسن، إن المختارية (العمودية) غاية ما يطمح إليه تلميذ

في قرية، وهذه همة عالية ولا شك. ولكني أحببت (أو أن موقفي اقتضى) أن أسأله: لماذا؟ فارتبك ساعة ثم قال (والعبارات كلها مترجَمة من لغات الأطفال التي لا يفهمها إلاّ نحن إلى اللغة العامة): إن المختار ينال المال بلا تعب ولا مشقة، فليس عليه إلاّ أن يختم بخاتمه كل ما يعرض عليه. - لا؛ ليس كل ما يعرض عليه. قد يعرض عليه أشياء مخالفة للقانون. - نعم يا سيدي، ولكنه يختمها إذا أجزلوا له الأجر. - لا، لا. إن القانون يمنعه. - والله العظيم يختمها. لقد ختم لـ (فلان) بعد أن أخذ منه ورقتين (¬1). - اسكت، لا تذكر أسماء ... أقول لك إن هذا لا يكون وإن ختمه لا يُقبل. - كيف لا يُقبل؟ إن أبي يقول إن الحكومة تقبل ختم المختار في كل شيء وتعد كل ما شهد به حقاً وكل حق لم يشهد به باطلاً. - هذا لا يهمنا ... أنت إذن تريد أن تكون مختاراً. سأعود للكلام معك، وأنت؟ تكلّم. ¬

_ (¬1) أي ليرتين، و «الورقة» هي الليرة في لغة الشام الدارجة (مجاهد).

- أنا أريد أن أكون دَرَكياً (¬1). - وأي شيء يعجبك في الدركي؟ - أعجبني أنه فوق المختار؛ يأمره أمراً ويدعوه إليه متى شاء، وينزل به هو وأصحابه وفرسه وأفراس أصحابه، فيأكلون ويشربون ويقيمون ما طاب لهم المقام، والمختار لا يستطيع أن يعارض في شيء. ثم إن الدركي هو الحاكم المطلق في القرى لا قوة فوق قوته، يحترمه الناس ويقومون له إذا جاز بهم، وإلاّ وجد سبيلاً إلى اتهامهم بتهمة من التهم وتقطيع أرجلهم بالضرب. - إن ضرب المتهمين ممنوع. اسكتوا، لماذا الصياح؟ ليتكلم أحدكم، قل أنت. - إنهم يضربون يا أستاذ، يضربون حتى الأبرياء، أقسم بالله. - لا تقسم. - يضربون، لم يمنعهم أحد. وقد سمعت دركياً يقول: إن هذا المعلم متكبّر، وإن شاء الله سأرميه في ورطة. فأسررتها في نفسي وقلت: خرجتَ عن الموضوع ... يكفي. مَن منكم يريد أن يكون معلّماً؟ معلم ... لا أحد؟ ويحكم، لماذا؟ نعم، قل. ¬

_ (¬1) الدَّرَكي هو الشرطي (سُمّي بذلك لإدراكه الفارّين من المجرمين)، وهي -بهذا المعنى- لفظة مولَّدة، وأكثر شيوعها في سورية ولبنان (مجاهد).

فقال ما معناه: لأن المعلم يُتعب نفسه فلا يعلم بتعبه أحد ولا يجزيه خيراً، ويُقذَف به إلى أنحس القرى ولو كان أحسن معلم (¬1) فلا يحس به أحد ولا يُرثى له، وينظر إليه الناس نظرة ليس فيها من الاحترام ما يكون للجابي أو الدركي. وقد قال أبو فارس إن الجابي يستطيع أن يعزل المعلم. - إن هذا كذب. إن المعلمين أشرفُ الناس وأحسنهم أخلاقاً و ... - دائماً يا سيدي؟ - دائماً، طبعاً. - كيف إذن يكون في «...» معلّم ليس أحسن الناس أخلاقاً، ولكنه ... - اسكت، قليل الأدب. وقُرع الجرس، فانتهى الدرس وانتهت القصة. * * * ¬

_ (¬1) كان من معلمي القرى في تلك الأيام سعيد الأفغاني وأنور العطار وحلمي اللحام وجميل سلطان وأمجد الطرابلسي وعلي الطنطاوي.

إلى لبنان

إلى لبنان (¬1) نُشرت سنة 1937 لقيني الأستاذ عز الدين التنوخي (وكنت قادماً من سفر) فقال لي: هَلُمّ! قلت: إلى أين؟ قال: إلى الجبل، نزور أمير البيان ورجل الإسلام، شكيب أرسلان. قلت: ما أعدل والله بزيارته شيئاً، ولكني آتٍ من سفر ولم أبلغ داري. قال: اطمئن، فإن الدار في محلها لم تَطِرْ، وما عليك أن تراها غداً؟ قلت: صحيح. وسرت معه. ولم أعد أرى السفر شيئاً، لأني أصبحت -في هذه السنين الأواخر- كذلك الذي كان «موكَلاً بفضاء الله ¬

_ (¬1) في الطبعة الجديدة التي أصدرتها دار المنارة من هذا الكتاب سنة 1988 كتب الشيخ يقول: "هذه المقالة كُتبت من أكثر من نصف قرن، يوم كان لبنان لبنان، لم تمسه الحدثان ولم تعبث به يد الزمان. كانت أدباً فصارت تاريخاً، وكانت للمتعة فصارت للعبرة" (مجاهد).

يذرعه»؛ فلا أكاد ألقي عصا التسيار وأحط الرحال من سفر حتى أتهيأ لآخر (¬1)؛ أطوّف ما أطوّف ثم آوي إلى هذه الغرفة الصغيرة، أجلس بين ركام الكتب أحسب ما كسبته من هذا العناء الطويل، فلا أجدني كسبت إلا صورة في الذاكرة أضمها إلى صورة، وذكرى في النفس أقرنها بذكرى، وصفحة في دفتري أضيفها إلى صفحة؛ أسعد بتدوينها وأسرّ ببقائها، وإن كنت لا أدوّن إلا الأقل مما أراه وأشعر به ولا أذكر إلا التافه مما يمر بي، وإن كنت أعلم أن صور الذاكرة إلى امّحاء وذكريات النفس إلى ضياع وقصص الدفتر إلى السكين والنار، لا يزهّدني ذلك فيها ولا يصرفني عنها، لعلمي أن الحياة نفسها ستموت والوجود سيعدم، ولا يبقى في الوجود إلا الموجد. * * * ¬

_ (¬1) ما أعجب الإنسان! نشر جدّي هذه المقالة وهو في الثامنة والعشرين، وقبلها ببضع سنين ارتحل تلك الرحلة الشهيرة إلى الحجاز (وخبرها في كتابه «من نفحات الحرم»)، ثم ذهب إلى العراق مدرّساً سنة 1936 فطوّف في أرجائه؛ من بغداد إلى كركوك في أقصى الشمال إلى البصرة في أقصى الجنوب، ثم انتقل إلى بيروت فأمضى فيها السنة التي صدرت فيها هذه المقالة، ثم عاد إلى دمشق ثم إلى العراق مرة أخرى، ثم قُدِّر له أن يقطع نصف محيط الأرض فيصل إلى أقصى أندونيسيا بعد ذلك بسنوات ... ثم دارت السنون وتغير به الحال حتى صار يستثقل الانتقال من دار في البلد إلى دار، ويرى السفر إلى جدة (وقد استقر به المقام في مكة) سفراً يصرف بالاستعداد له أسبوعاً، وأمضى آخر عشرين سنة من حياته لم يخرج فيها من مكة إلا إلى جدة أو من جدة إلا إلى مكة، رحمه الله (مجاهد).

وكنا خمسة في السيارة: الأستاذ التنوخي، والأستاذ الشيخ بهجة البيطار، والأستاذ الشيخ بهجة الأثري، والشيخ ياسين الرواف، معتمد المملكة السعودية في دمشق سابقاً، وأنا. خرجنا من دمشق مع الغروب. وكان اليوم جمعة، وكانت ليلة قمراء، فسالت الطرق بالدمشقيين -على عادتهم في مثل هذه الليالي- فامتلأت جوانب بردى، والمرجة الخضراء، والربوة، ووادي الشاذروان (أجمل أودية الدنيا وأحلاها) بخير الفتيان وأجمل الفتيات وأحلى الأطفال؛ فلم يكن أمتع للعين ولا أشهى للقلب من ذلك المشهد. فسرنا في هذا العالم الساحر مترفّقين متمهلين، لأننا لا نمشي في طريق وإنما نمشي في بحر من العيون والقلوب والمفاتن جمع كل جميل بارع أخّاذ، حتى بلغنا دمّر: والحور في دمّر أو حول هامتها ... حورٌ كَوَاشفُ عن ساق وولدان (¬1) فوقفنا نمتع الأنظار بحَوْرِها وحُورِها وشموسها وبدورها، وأنت مهما عرفت دمشق لا تزال ترى فيها أبداً جمالاً تجهله ولا تعرفه، ففي كل يوم جمال جديد وفي كل مكان فتنة جديدة؛ فلا تدري أين تقف وماذا تنظر وأياً تفضل: أوادي الشاذروان، أم جنائن الغوطة، أم جبال بلودان، أم عين الخضراء، أم سهول الزبداني، أم العيون التي لا يحصيها عدد؟ ¬

_ (¬1) شوقي.

سقى اللهُ ما تحوي دمشقُ وحيّاها ... فما أطيبَ اللذّاتِ فيها وأهناها نزلنا بها واستوقفَتْنا محاسِنٌ ... يَحِنّ إليها كلُّ قلبٍ ويهواها لبسنا بها عَيشاً رقيقاً رِداؤه ... ونلنا بها من صفوةِ اللهو أعلاها سلامٌ على تلك المعاهد إنها ... مَحَطُّ صَباباتِ النفوس ومثواها رعى الله أياماً تَقَضَّتْ بقُربها ... فما كان أحلاها لديها وأَمْرَاها (¬1) * * * خلّينا الهامة وجُمرايا، بلدة ابن واسانة (¬2)، والوادي كله عن أيماننا، وأسندنا إلى الجبل نستقبل الصحراء إلى ميسلون؛ بلاط شهدائنا، ومشهد أبطالنا، ومبدأ تاريخنا الحديث، ومثوى الأسد الرابض يوسف العظمة، الذي وقف هو وأشبال دمشق العُزّل الأقلاّء في وجه ثاني دولة قوية ظافرة، فما ضعفوا ولا استكانوا ولا جبنوا، وما زالوا يقاتلون ويدافعون عن العرين ثابتين ما ثبتت الروح في أجسامهم حتى أعجزهم أن يعيشوا أشرافاً فماتوا أشرافاً؛ فكان موتهم حياة لهذه الأمة التي حفظت العهد وحملت الأمانة، وكانت قبورهم مناراً أحمر في طريق هذا الشعب المجاهد المستميت الذي لن يقف أو يتباطأ حتى يأخذ «الكل» الذي «أعطى» الآن (¬3) «بعضاً» منه، ولن ينام حتى يرى هذه ¬

_ (¬1) ابن النقّار. (¬2) ولابن واسانة هذا قصيدة طويلة جداً من أعجب الشعر القصصي الواقعي، يصف فيها جماعة دعاهم إلى قريته ففعلوا معه الأفاعيل. وهي قصيدة نادرة مثالُها، على بذاءةٍ فيها وأوصافٍ مكشوفة يُستحيا منها. (¬3) أي سنة 1937.

الصحراء قد آضت جنّات ألفافاً، تحمل الزهر الذي لا يُسقى إلا بالماء الأحمر الملتهب تحمل أزهار الحرية. سيبقى هذا اللحد لتمرّ عليه الأجيال الآتية، الأجيال الحرة العزيزة، فتذكر جهاد أسلافنا وتعرف الثمن الذي دفعوه، ولتعلم أن القوة إن غَلبت الحق حيناً فإن الحق يصنع القوة التي يغلب بها دائماً. سأذكر ما حييت جدار قبر ... بظاهر جلَّق ركب الرمالا (¬1) مقيمٌ ما أقامت ميسلون ... يذكر مصرع الأُسْدِ الشِّبالا تغيّبَ عظمةُ العظَمات فيه ... وأوّلُ سيّدٍ يلقى النِّبالا مشى ومشت فيالِقُ من فرنسا ... تجُرُّ مَطَارِفَ الظَّفَر اختيالا أقام نهارَهُ يَلقى ويُلقى ... فلمّا زالَ قُرصُ الشّمسِ زالا فكُفِّنَ بالصّوارِمِ والعَوالي ... ووُسِّدَ حيثُ جالَ وحيثُ صالا إذا مرّتْ به الأجيالُ تترى ... سمعتَ لها أزيزاً وابتهالا (¬2) * * * ثم أخذت السيارة تصعد بنا في مسالك ملتوية مستديرة تزيغ الأبصار من استدارتها وعلوها، حتى إذا ظننا أننا بلغنا قُنّة الجبل تكشّفت لنا قُنَن (¬3)، فإذا نحن لا نزال في الحضيض. وما فتئنا نعلو ¬

_ (¬1) هذا البيت لم يظهر في الطبعات السابقة من الكتاب، وقد أخذته من كتاب «في بلاد العرب» الذي نُشرت فيه المقالةُ أوّلَ مرة (مجاهد). (¬2) شوقي. (¬3) القُنَن والقِنان: جمع قُنّة، وهي من أي شيء أعلاه (مجاهد).

ونتسلق وندور حتى حاذينا بلودان، درة المصايف الشامية، وبدا لنا فندقها الفخم الذي بنته الحكومة ليملأ الخزانةَ مالاً والجيوبَ ذهباً، فملأ النفوسَ فساداً والأخلاقَ انحطاطاً، لما أنشؤوا فيه من بلايا وطامات زعموها حضارة ورقياً! ثم عدنا نهبط، وهذه سنة الحياة: «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع»، ولا علا رجل إلا هبط، إلا رجلاً علا بعلمه وبأخلاقه ومواهبه، فذاك الذي لا يهبط أبداً بل يزداد رفعة، لأن علمه لن يُنسى وأخلاقَه لن تذهب ومواهبَه لن تضيع، أما من علا على قوائم الكرسي وأعناق الشعب فأَحْرِ به أن يسقط مهما استمر علوُّه وطال بقاؤه. أقول: إننا ما زلنا نهبط حتى انتهينا إلى سهل البقاع الخصب الأفيَح الجميل، الذي يفصل لبناننا «الشرقي» الأجرد المهيب الرهيب، الذي ادّرع المهابة واتّشح بوشاح الخلود، ولاحت عليه سمات الجلال والجد والوقار، ولبنانهم «الغربي» المرح الفرح الأخضر الجميل، الذي اتّزر بالسحر وارتدى رداء الشعر. وكلاهما أخّاذ فاتن، ولكن الأول جليل والثاني جميل، والجنات الخالدات والفراديس الباقيات في دمشق، على سفح لبنان الشرقي ... قال شوقي: نُبِّئْتُ لبنانُ جنّاتُ الخلود وما ... نُبّئتُ أنّ طريقَ الخُلدِ لبنانُ وأنت حين يحتويك لبنان الغربي تحسّ بجماله وروعته، ولكنك تشعر أنك أنت له وأنك جزء منه، ولكنك تحس حين تكون في لبناننا أنه هو لك وأنه جزء منك، وشتان بين ما تكون

أنت في قلبه وما يكون هو في قلبك. وأنت حين تكون في لبنان الغربي تجد يد الإنسان لم تُبقِ من جمال الطبيعة إلا قليلاً، وتجد ما تجد أكثره في المدن الكبرى، ولكنك حين تكون في لبنان الشرقي تجد الطبيعة الحلوة الفاتنة التي لم تبدلها يد الإنسان، وإنما أحاطتها بإطار يحفظها ويظهر جمالها. ثم إن الجبلين كانا جبلاً واحداً صدعته حوادث أرضية (جيولوجية) من زمن قديم، والأمتين فيهما أمة واحدة، ولكنك واجد في هذه المسافة التي لا تتجاوز الساعتين جمهوريتين مختلفتين وعَلَمين متباينين، وحدوداً كحدود ألمانيا وفرنسا. ألقاب مملكة ... وسبحان خالق الهر وخالق الأسد، وخالق كل شيء! * * * وأنخنا رواحلنا (أعني وَقَفنا سيارتنا، ولم يكن معنا رَواحلُ ولا رِحال) في شتورة، عروس السهل، نستريح فيها قليلاً قبل أن نتسلق بالسيارة الجبل الذي لا تبلغ الطير ذراه. وإذا أنت شئت أن تتصور مبلغ ما نعلو فتصور شارعاً طوله قرابة كيلين اثنين، قد وقف على رأسه وكنت أنت فوقه تطل على الدنيا من علٍ! علونا في جبال شَجْراء ضاحكة، نجتاز القرى المتناثرة على السفوح والذرى، ونرى الينابيع تتدفق من أعالي الصخور وتسيل في بطون الأودية حالمة سكرى. وما زلنا في علو ولفّ ودوران حتى بلغنا «ظهر البيدر» حيث صرنا فوق السحاب، لا على المجاز أو المبالغة -كما يقول الشعراء- بل على الحقيقة التي

يشاهدها الناس كلهم؛ فقد كان السحاب يمس الذرى التي تحتنا ويلفح وجوهنا ويحجب عنا السهل والسفوح. وكنا نعلو عليه أحياناً فلا يبلغنا ولا يمسنا، ونراه يمر من تحتنا أشبه شيء بالغبار الأبيض تحمله الريح، حتى درنا تلك الدورة الكبيرة وأشرفنا على وادي «صوفر-حمّانا» العظيم، أوسع أودية لبنان وأجملها، وقد ازدهى بالصنوبر وانتثرت على سفوحه عشرات القرى ولاحت مبانيها العظيمة وقصورها الشُّم. والرّوابي توسّدَتْ راحةَ السّحـ ... ـــبِ ونامت على وشاحٍ مُرقَّقْ والذُّرى البيضُ في العَلاءِ نسورٌ ... حوَّمَتْ تكشِفُ الخَفيَّ المُغَلَّقْ نَشَرتْ في الفضاء أَجْنُحَهَا الزّه ... ــرُ فأسْنَى بها الوجودُ وأشْرَقْ والقُرى غَلْغَلَتْ بأخبِيَةِ الغَيْـ ... ـبِ وضاعت بين الغَمَامِ المُنَمَّقْ واليَنابيعُ ضاحِكاتٌ من الزَّهـ ... ـوِ تَرَامَى فيها السَّنَا وتَألَّقْ وتراءَى البحرُ البَعيدُ كحُلْمٍ ... مُبْهَمٍ راجِفِ الخَيالِ مُلَفَّقْ سرقَتْهُ السّماءُ في الأفُقِ النّائي ... فَمَنْ أبصَرَ الخِضَمّاتِ (¬1) تُسْرَقْ؟ (¬2) * * * تمر على الإنسان ساعات، بل لحظات، ينسى فيها هذا العالَم المادي وهذه الحياة القصيرة الناقصة، ويحس كأنه يعيش بنفسه حياة أكمل وأجمل، تخالط نفسَه مشاعرُ لا عهد له بها ولا يقدر على وصفها، وتغمر قلبَه لذّةٌ لا يعرف أي شيء هي، ¬

_ (¬1) الخِضَمُّ هو البحر الواسع (مجاهد). (¬2) أنور العطار.

فيشعر أنه انتقل إلى عالم سحري جني عجيب، كهذه اللحظات التي تمر علينا في غمرة التأمل النفسي، أو في نشوة الحب، أو حين الاستغراق في العبادة والمناجاة. هذه هي اللحظات التي تمرّ عليك حين تشرف على وادي «صوفر-حمّانا» أو تجلس في الشاغور أو تصعد إلى عين الصحة في فالوغا. لست أريد الدعاية للبنان، وما لبنان في حاجة إلى دعاية، وما في لبنان سرير في فندق أو غرفة في دار إلاّ وقد امتلأت، حتى إننا لم نجد في صوفر (وقد وصلناها ليلاً) مكاناً نبيت فيه، وكلما دخلنا فندقاً خرجنا منه بخفي صاحبنا حنين الإسكاف ... حتى قادنا المطاف إلى فندق لطيف معتزل قاعد في منتصف الطريق بين صوفر وبحمدون، ولم يكن بعده فندق نأوي إليه. فتعلقنا بصاحبه وتوسلنا إليه وأطمعناه حتى رضي أن يعد لنا مكاناً في الردهة (الصالون) فقبلنا، ووُضعت سرر صغار كسرر الجند وطلبة المدارس الداخلية جاء بها من بيته، فحمدنا الله عليها. * * * ولما دخلنا (الأوتيل): عمامتان عاليتان على رأسَي البهجتين، بهجة العراق وبهجة الشام، وعقال نجدي فخم على هامة أمير من أمراء نجد، ونحن الاثنان «المُطربَشان»، الأستاذ عز الدين وأنا، تعلقت بنا الأنظار ودارت حولنا الأبصار، وحفّ بنا شباب يسلمون علينا، فقلنا: وعليكم السلام يا إخواننا. فما راعنا إلا أنهم ضحكوا وضحك الحاضرون، فقلت لأحدهم: من فضلك قل لي، لماذا تضحك؟ هل تجد في هيئتي

ما يضحك يا سيدي؟ فازداد الخبيث ضحكاً، فهممت به فوثب الحاضرون وقالوا: يا للعجب! أتضرب فتاة؟ وإذا هي «فتاة» بثياب الرجال! وفررنا ونحن مستحيون نحاول ألاّ نعيدها كرّة أخرى. ولما خرجت في الليل لمحت في طريقي واحدة من هؤلاء النسوة فحيتني، فقلت لها: مساء الخير يا مدموازيل. فقالت: مادموازيل إيش يا وقح؟ قلت في نفسي: إنها متزوجة، وقد ساءها أن دعوتها بالمدموازيل (الآنسة)، وأسرعت فتداركت الخطأ وقلت: بردون مدام. قالت: مدام في عينك قليل الأدب، بأي حق تمزح معي؟ أنا (فلان) المحامي. قلت: بردون، بردون! ووليت هارباً، فذهبت إلى صاحب (الأوتيل) فرجوته أن يعمل لنا طريقة للتفريق بين الرجل والمرأة، فدُهش مني ووجم لحظة، ثم قدّر أني أمزح فانطلق ضاحكاً. قلت: إني لا أمزح ولكني أقول الجِدّ. وقصصت عليه القصة. قال: وماذا نعمل؟

قلت: لوحات صغيرة مثلاً من النحاس، كالتي توضع على السيارات لبيان رقمها أو على الدراجات ... يُكتب عليها «رجل» أو «امرأة»، تُعلَّق في الصدر تحت الثدي الأيسر، أو تُتّخَذ حلية من الذهب أو الفضة عليها صورة ديك مثلاً ودجاجة، أو ... أو شاة وخروف أو شيء آخر من علامات التذكير والتأنيث ... فراقه اقتراحي وقبله على أنه نكتة، ولكنه لم يفكّر بالعمل به لأنه لم يجد حاجة إلى هذا التفريق ما دام المذهب الجديد يقول بمساواة الجنسين! * * * ولم نُطل الإقامة في صوفر لأننا لم نجد الأمير فعدنا أدراجنا إلى دمشق، نحمد الله على أننا لا نزال نعيش في بلد فيه النساء نساء والرجال رجال (¬1). * * * ¬

_ (¬1) كان هذا سنة 1937، قبل أن «تستجمل» الناقةُ و «تسترجل» المرأة، وتقعد مقعد الرجل من كرسي التدريس في الجامعة ومكتب الوظيفة في الديوان، وستكون غداً هي «النائبة»، ثم تكون «القاضية»! وقبل أن «يستأنِث» الرّجل فلا ينكر منكراً ولا يمنع ممنوعاً!

إلى القرّاء الكرام لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب. مجاهد مأمون ديرانية [email protected]

المحتويات مقدمة الطبعة الثالثة 5 أحسن كما أحسن الله إليك 7 حديث عن دمشق 15 رمضان 23 مزعجات رمضان 31 أين أرباب الأقلام؟ 37 نحن المذنبون 45 كل شيء للناس 51 لا تؤجِّلْ 57 الحبّ والزواج 65 السنّ المناسبة للزواج 71 طريق السعادة 75 لصوص الوقت 85 الوظيفة والموظَّفون 91 الوعد الشرقي 97 شغِّلوا الطلاّب في عطلة الصّيف 105 مشكلة الزواج 111 أسباب المشكلة 119 إبراهيم بك هنانو قال لي 127 من حديث المزعجات 135

في الفندق 143 بين المعلّم والتلميذ 149 إلى الطلاّب 153 الوصايا 161 نساؤنا ونساء الإفرنج 169 صناعة «المَشْيَخَة» 177 هذا نذير للناس 183 هذا هو الدواء 195 الإذاعات العربية 207 صور دمشقية سوداء من ربع قرن 215 رسالة 221 صور من تاريخنا العلمي 229 الطلاّب والعطلة 243 في الزواج 251 حديث العيد 259 مجنون 267 موضوع إنشاء 275 من عبث التلاميذ 279 إلى لبنان 283

§1/1