معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام

علاء الدين الطرابلسي

خطبة الكتاب

[خِطْبَة الْكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي أَبْدَعَ الْمَوْجُودَاتِ بِقُدْرَتِهِ، وَصَنَعَ أَنْوَاعَ الْمَخْلُوقَاتِ بِعَظَمَتِهِ، وَمَيَّزَ كُلًّا مِنْ الْعَالَمِينَ بِطَبِيعَتِهِ، أَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَهَبَ مِنْ نُورِهِ الْقُدْسِيِّ، وَأَجْزَلَ مِنْ إشْرَاقِ الضِّيَاءِ الْحِسِّيِّ، وَأَوْدَعَ مِصْبَاحَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فِي مِشْكَاةِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَكَمَّلَهَا بِالزُّجَاجَةِ الشَّرِيفَةِ الْبَالِغَةِ الَّتِي يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ، وَجَعَلَهَا نُورًا عَلَى نُورٍ كَأَنَّهَا الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ، مُتَوَقِّدَةً مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ عُلْوِيَّةٍ، لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ. وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خَيْرِ بَرِيَّتِهِ وَأَتَمِّهِمْ كَمَالًا، وَأَعْظَمِهِمْ إشْرَاقًا وَجَلَالًا، مُحَمَّدٍ الْمُؤَيَّدِ بِالرُّوحِ الْأَمِينِ، وَعَلَى مَنْ ارْتَضَى مِنْ أَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ. (أَمَّا بَعْدُ) : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِينَهُ الْقَوِيمَ، وَهَدَى بِهِ مَنْ شَاءَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَسَّسَ شَرْعَهُ الْمُطَهِّرَ عَلَى أَحْسَنِ الطَّرَائِقِ وَأَجْمَلِ الْقَوَاعِدِ، وَشَيَّدَهُ بِالتَّقْوَى وَالْعَدْلِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَأَيَّدَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُوضِحَةِ لِلْحَقِّ وَأَسْبَابِهِ، الْمُرْشِدَةِ إلَى إيصَالِ الْحَقِّ لِأَرْبَابِهِ، وَحَمَاهُ بِالسِّيَاسَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى سُنَنِ الْحَقِّ وَصَوَابِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115] فَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ: الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، تَمَّتْ دَلَائِلُهُ وَحُجَجُهُ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَأَحْكَامُهُ وَبِشَارَتُهُ وَنِذَارَتُهُ وَأَمْثَالُهُ، وَقَالَ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الْآيَةَ. وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ الْقَضَاءِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ قَدْرًا وَأَعَزِّهَا مَكَانًا وَأَشْرَفِهَا ذِكْرًا، لِأَنَّهُ مَقَامٌ عَلِيٌّ وَمَنْصِبٌ نَبَوِيٌّ، بِهِ الدِّمَاءُ تُعْصَمُ وَتُسْفَحُ، وَالْأَبْضَاعُ تَحْرُمُ وَتُنْكَحُ، وَالْأَمْوَالُ يَثْبُتُ مِلْكُهَا وَيُسْلَبُ، وَالْمُعَامَلَاتُ يُعْلَمُ مَا يَجُوزُ مِنْهَا وَيَحْرُمُ وَيُكْرَهُ وَيُنْدَبُ، وَكَانَتْ طُرُقُ الْعِلْمِ بِهِ خَفِيَّةَ الْمَشَارِبِ مَخُوفَةَ الْعَوَاقِبِ، وَالْحُجَجُ الَّتِي تُفْصَلُ بِهَا الْأَحْكَامُ مَهَامِهُ يَحَارُ فِيهَا الْقَطَا، وَتَقْصُرُ فِيهَا الْخُطَا، كَانَ الِاعْتِنَاءُ بِتَقْرِيرِ أُصُولِهِ وَتَحْرِيرِ فُصُولِهِ مِنْ أَجَلِّ مَا صُرِفَتْ لَهُ الْعِنَايَةُ، وَحُمِدَتْ عُقْبَاهُ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَلَيْسَ عِلْمُ الْقَضَاءِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ. قَالَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ: وَلَمْ يَكُنْ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْلَمُ بِالْقَضَاءِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانَ قَاضِيًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْقَضَاءِ مِنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَأَخَذَ ذَلِكَ أَبَانُ مِنْ أَبِيهِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ: قَوْله تَعَالَى {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] فَأَثْنَى عَلَى دَاوُد بِاجْتِهَادِهِ فِي الْحُكْمِ، وَأَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بِاجْتِهَادِهِ وَفَهْمِهِ وَجْهَ الصَّوَابِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] قَالَ: هُوَ عِلْمُ الْقَضَاءِ، وَلَا غَرَابَةَ فِي امْتِيَازِ عِلْمِ الْقَضَاءِ عَنْ فِقْهِ فُرُوعِ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ يَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامٍ

تَجْرِي مَجْرَى الْكُلِّيَّاتِ بِأَحْكَامِ الْوَقَائِعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَغَالِبُ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ لَمْ يُجْرُوا لَهَا فِي دِيوَانِ الْفِقْهِ ذِكْرًا، وَلَا أَحَاطَ بِهَا الْفَقِيهُ خَبَرًا، وَعَلَيْهَا مَدَارُ الْأَحْكَامِ، وَالْجَاهِلُ بِهَا يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ فِي الظَّلَامِ، فَمَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا يُلْجَأُ إلَيْهِ وَيُعَوِّلُ النَّاسُ فِي مَسَائِلِهِمْ عَلَيْهِ وَجَدَ ذَلِكَ حَقًّا، وَأَلْفَاهُ ظَاهِرًا وَصِدْقًا، وَلِذَلِكَ أَلَّفَ أَصْحَابُنَا كُتُبَ الْوَثَائِقِ، وَذَكَرُوا فِيهَا أُصُولَ هَذَا الْعِلْمِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ، وَلَمْ أَزَلْ بَاحِثًا عَنْ أَسْرَارِ الْعَوَالِمِ وَحَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ، وَمُنْعِمًا أَحْكَامَ النَّظَرِ فِي الْحُدُودِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَاتِ، وَصَارِفًا قُوَايَ الْعَقْلِيَّةَ نَحْوَ الْمَدَارِكِ الْحَقِيقِيَّةِ، غَيْرَ مُقَلِّدٍ إلَّا الْمَعْقُولَاتِ الْيَقِينِيَّةَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَأْلِيفٍ أُغْنَى فِيهِ بِاسْتِيعَابِ الْكَشْفِ عَنْ غَوَامِضِ هَذَا الْفَنِّ وَدَقَائِقِهِ، وَتَمْهِيدِ أُصُولِهِ وَبَيَانِ حَقَائِقِهِ، فَرَأَيْت نَظْمَ مُهِمَّاتِهِ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ مِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَتَتِمُّ الْفَائِدَةُ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَجَرَّدْته عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ إلَّا مَا لَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ لِتَعَلُّقِهِ بِأَبْوَابِ هَذَا الْكِتَابِ إيثَارًا لِلِاقْتِصَادِ، وَاسْتِغْنَاءً بِمَا أَلَّفُوهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِهَذَا التَّأْلِيفِ ذِكْرُ قَوَاعِدِ هَذَا الْعِلْمِ وَبَيَانُ مَا تُفْصَلُ بِهِ الْأَقْضِيَةُ مِنْ الْحِجَاجِ، وَأَحْكَامِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ. وَسَمَّيْتُهُ: (مُعِينَ الْحُكَّامِ، فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ الْأَحْكَامِ) وَرَتَّبْته عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْعِلْمِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: فِيمَا تُفْصَلُ بِهِ الْأَقْضِيَةُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فِي أَحْكَامِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يَشْتَمِلُ عَلَى أَبْوَابٍ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْقَضَاءِ وَمَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. الْبَابُ الثَّانِي: فِي فَضْلِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْقِيَامِ فِيهَا بِالْعَدْلِ وَحُكْمِ السَّعْيِ فِي طَلَبِ الْقَضَاءِ وَمَا يَجِبُ مِنْ ذَلِكَ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَحْرُمُ. الْبَابُ الثَّالِثُ: فِيمَا يُسْتَفَادُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ مِنْ النَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ، وَمَا لَيْسَ لَهُ النَّظَرُ فِيهِ، وَذِكْرِ مَرَاتِبِ الْوِلَايَاتِ. الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَاتُ وَتَعْلِيقِ الْقَضَاءِ بِالشَّرْطِ. الْبَابُ الْخَامِسُ: فِي أَرْكَانِ الْقَضَاءِ، وَهِيَ سِتَّةٌ: الْقَاضِي، وَالْمَقْضِيُّ بِهِ، وَالْمَقْضِيُّ لَهُ، وَالْمَقْضِيُّ فِيهِ، وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ، وَكَيْفِيَّةُ الْقَضَاءِ. الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ. الْأَوَّلُ: فِي شُرُوطِ صِحَّةِ الْوِلَايَةِ وَمَا يُوجِبُ الْعَزْلَ وَمَا هُوَ شَرْطُ كَمَالٍ. الثَّانِي: فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِلْقَاضِي فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ. الثَّالِثُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْكَنِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ. الرَّابِعُ: فِي سِيرَتِهِ فِي الْأَحْكَامِ. الْخَامِسُ: فِيمَا يَبْتَدِئُ بِالنَّظَرِ فِيهِ. السَّادِسُ: فِي سِيرَتِهِ مَعَ الْخُصُومِ. السَّابِعُ: فِي اسْتِخْلَافِ الْقَاضِي. الثَّامِنُ: فِي التَّحْكِيمِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَقْضِيُّ بِهِ، وَفِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُقَلِّدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالرِّوَايَاتِ، وَبَيَانُ مَا لَا يُنْقَضُ فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَنَقْضِ الْقَاضِي أَحْكَامَ نَفْسِهِ، وَنَقْضِهِ أَحْكَامَ غَيْرِهِ. وَبَيَانُ مَا لَا يُفِيدُ مِنْ أَحْكَامِ الْقَاضِي، وَبَيَانُ مَا لَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَفْعَالِهِ إذَا عُزِلَ أَوْ مَاتَ، وَحُكْمِ الْكَشْفِ عَنْ الْقُضَاةِ، وَجَمْعِ السُّلْطَانِ الْفُقَهَاءَ لِلنَّظَرِ فِي حُكْمِ الْقَاضِي، وَالنَّظَرِ فِي قِيَامِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ يُرِيدُ فَسْخَ الْحُكْمِ عَنْهُ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَقْضِيُّ لَهُ. الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَقْضِيُّ فِيهِ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا الْقَاضِي، وَمَا لَيْسَ لَهُ النَّظَرُ فِيهِ، وَحُكْمُ الشَّيْءِ الْمُتَدَاعَى فِيهِ يَكُونُ خَارِجَ الْمِصْرِ. الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنْوَاعٌ: الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِمْ، وَالْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ الَّذِي يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَحِيلَةُ إثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي أَمْوَالِ الْغَائِبِ. الرُّكْنُ السَّادِسُ:

فِي كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ وَفِيهِ فُصُولٌ أَوَّلُهَا: فِي تَقْرِيرَاتِ الْحُكَّامِ عَلَى الْوَقَائِعِ وَمَا هُوَ مِنْهَا حُكْمٌ وَمَا لَيْسَ بِحُكْمٍ. وَثَانِيهَا: فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ الَّتِي هِيَ حُكْمٌ لَا يَجُوزُ تَعَقُّبُهَا، وَاَلَّتِي لَيْسَتْ بِحُكْمٍ وَيَجُوزُ تَعَقُّبُهَا. وَثَالِثُهَا: فِي بَيَانِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا لَا تَضَمُّنًا. وَرَابِعُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا عَادَةُ الْحُكَّامِ فِي التَّسْجِيلَاتِ فِي قَوْلِهِمْ (يُسَجَّلُ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ) ، وَقَوْلِهِمْ (يُسَجَّلُ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ) ، وَبَيَانُ الْفُرُوقِ الَّتِي بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، وَبَيَانُ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ، وَقَوْلِهِمْ (يُسَجَّلُ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمَضْمُونِهِ) ، وَقَوْلِهِمْ (يُسَجَّلُ بِالْحُكْمِ بِثُبُوتِهِ) ، وَقَوْلِ الْحَاكِمِ (ثَبَتَ عِنْدِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِكَذَا وَكَذَا أَوْ ثَبَتَ عِنْدِي الْإِقْرَارُ) ، وَقَوْلِهِمْ (يُسَجَّلُ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ) ، وَقَوْلِهِمْ (يُسَجَّلُ بِثُبُوتِهِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ) ، وَقَوْلِهِمْ (يُسَجَّلُ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِهِ) ، وَبَيَانُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ هَذِهِ التَّسْجِيلَاتِ. وَخَامِسُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ. وَسَادِسُهَا: فِي تَنْفِيذِ الْقَاضِي حُكْمَ نَفْسِهِ وَتَنْفِيذِ حُكْمِ غَيْرِهِ وَمَا يَمْتَنِعُ تَنْفِيذُهُ. وَسَابِعُهَا: مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَبَيَانُ انْقِسَامِ الْحُكْمِ إلَى كَوْنِهِ تَارَةً يَكُونُ خَبَرًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَتَارَةً لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. وَثَامِنُهَا: ذِكْرُ تَنْبِيهَاتٍ فِي التَّسْجِيلِ وَمَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّسْجِيلِ بِهِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَبِّهَ عَلَيْهِ فِي الْإِسْجَالِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فِي ذِكْرِ الدَّعَاوَى وَأَقْسَامِهَا، وَفِيهِ فُصُولٌ. الْأَوَّلُ: فِي الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وَشُرُوطِهَا، وَكَيْفِيَّةِ تَصْحِيحِ الدَّعْوَى. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي تَقْسِيمِ الدَّعَاوَى إلَى سَبْعَةٍ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى لَهُمْ، وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ مِنْ بَيِّنَاتِهِمْ وَمَا لَا يُسْمَعُ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ. الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَحْكَامٍ تَتَوَقَّفُ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى إثْبَاتِ فُصُولٍ. الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ عَلَى الدَّعْوَى. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فِي حُكْمِ الْجَوَابِ عَنْ الدَّعْوَى وَأَقْسَامِهِ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: فِي ذِكْرِ الْيَمِينِ وَصِفَتِهَا وَالتَّغْلِيظِ فِيهَا، وَفِيمَنْ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَمَنْ لَا تَتَوَجَّهُ، وَمَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ. الْقِسْمُ السَّادِسُ: فِي ذِكْرِ الْبَيِّنَاتِ، وَفِيهِ فُصُولٌ. الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِ حَقِيقَةِ الْبَيِّنَةِ وَمَوْضِعِهَا شَرْعًا. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَقْسَامِ مُسْتَنَدِ عِلْمِ الشَّاهِدِ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي حَدِّ الشَّهَادَةِ وَحُكْمِهَا وَحِكْمَتِهَا وَمَا تَجِبُ فِيهِ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي صِفَاتِ الشَّاهِدِ وَذِكْرِ مَوَانِعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلشُّهُودِ أَنْ يَنْتَبِهُوا لَهُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا وَمَا يَحْتَرِزُونَ مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَالْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِكَاتِبِ الْوَثَائِقِ. الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَنَبَّهُ لَهُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَاتِ عِنْدَهُ، وَفِي الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ فِي التَّسْجِيلَاتِ. الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي صِفَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَمَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ وَمَا لَا يُجْزِئُ مِنْ الْأَلْفَاظِ. وَبِتَمَامِ هَذِهِ الْفُصُولِ انْتَهَى الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْكِتَابِ وَهُوَ قِسْمُ الْمُقَدِّمَاتِ. الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ فِي ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْبَيِّنَاتِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِمَّا تُفْصَلُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَهِيَ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ بَابًا. الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي الْقَضَاءِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ. الْبَابُ الثَّانِي: فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُمَا. الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ. الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ التَّامَّةِ مَعَ يَمِينِ الْقَضَاءِ وَيُسَمَّى يَمِينَ الِاسْتِبْرَاءِ. الْبَابُ الْخَامِسُ: فِي الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي بَعْدَ فَصْلِ الْقَضَاءِ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. الْبَابُ السَّادِسُ: فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ رَجُلٍ بِانْفِرَادِهِ. الْبَابُ السَّابِعُ: فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ بِانْفِرَادِهَا. الْبَابُ الثَّامِنُ: فِي الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، وَبَيَانُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا إجَابَةُ دَعْوَةِ الْحَاكِمِ وَمَا لَا تَجِبُ

فِيهِ الْإِجَابَةُ. الْبَابُ التَّاسِعُ: فِي الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى ذِي الْيَدِ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ، وَفِي تَارِيخِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ. الْبَابُ الْعَاشِرُ: فِي الْقَضَاءِ بِالتَّحَالُفِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ. الْبَابُ الْحَادِيَ عَشَرَ: فِي الْقَضَاءِ بِأَيْمَانِ اللِّعَانِ. الْبَابُ الثَّانِيَ عَشَرَ: فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَقِّ. الْبَابُ الثَّالِثَ عَشَرَ. فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ. الْبَابُ الرَّابِعَ عَشَرَ: فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ. الْبَابُ الْخَامِسَ عَشَرَ: فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. الْبَابُ السَّادِسَ عَشَرَ: فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْأَبْدَادِ. الْبَابُ السَّابِعَ عَشَرَ: فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِغْفَالِ. الْبَابُ الثَّامِنَ عَشَرَ: فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ. الْبَابُ التَّاسِعَ عَشَرَ: فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ النَّفْيِ. الْبَابُ الْعِشْرُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي تُوجِبُ حُكْمًا وَلَا تُوجِبُ الْحَقَّ الْمُدَّعَى بِهِ. الْبَابُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ الْمَجْهُولَةِ وَالنَّاقِصَةِ الَّتِي يُتِمُّهَا غَيْرُهُمْ. الْبَابُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ لِلضَّرُورَةِ. الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي. الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِمُشَافَهَةِ الْقَاضِي لِلْقَاضِي. الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِعِلْمِ الْقَاضِي وَنُفُوذِ قَوْلِهِ. الْبَابُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِالصُّلْحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ. الْبَابُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ. الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. الْبَابُ الثَّلَاثُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِالتَّنَاقُضِ فِي الدَّعْوَى، وَفِي دَعْوَى الدَّفْعِ وَالتَّنَاقُضِ فِي النَّسَبِ. الْبَابُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ. الْبَابُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِقِيَامِ بَعْضِ أَهْلِ الْحَقِّ عَنْ الْبَعْضِ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ. الْبَابُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِمَا تُسْمَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِلَا دَعْوَى. الْبَابُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْقَضَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْعَقَارِ وَدَعْوَاهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. الْبَابُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِالْإِشَارَةِ وَالنَّسَبِ وَالتَّعْرِيفِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ. الْبَابُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِأَحْكَامِ الشُّيُوعِ وَمَسَائِلِهِ. الْبَابُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِدَعْوَى الْوَقْفِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. الْبَابُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْقَضَاءِ فِيمَنْ كَتَبَ شَهَادَتَهُ فِي صَكٍّ ثُمَّ ادَّعَاهُ أَوْ شَهِدَ بِهِ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ، وَبَيَانِ تَنَاقُضِ الشَّاهِدِ فِي شَهَادَتِهِ وَغَلَطِهِ وَرُجُوعِهِ. الْبَابُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَالْغَرُورِ. الْبَابُ الْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِبَيْعِ الْوَفَاءِ وَأَحْكَامِهِ وَشَرَائِطِهِ وَأَقْسَامِهِ. الْبَابُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِدَعْوَى النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَدَعْوَى الْجِهَازِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. الْبَابُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِمُوجَبِ الْخُلْعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِمُوجَبِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ وَأَحْكَامِهَا فِي النِّكَاحِ. الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِالْخِيَارَاتِ. الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَضَاءِ فِيمَا يَبْطُلُ مِنْ الْعُقُودِ بِالشَّرْطِ وَمَا لَا يَبْطُلُ، وَمَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَإِضَافَتُهُ وَمَا لَا يَصِحُّ. الْبَابُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِأَنْوَاعِ الضَّمَانَاتِ الْوَاجِبَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا، وَتَضْمِينِ الْأَمِينِ وَبَرَاءَةِ الضَّمِينِ. الْبَابُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِأَحْكَامِ السُّكُوتِ. الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِمَا يُمْنَعُ عَنْهُ وَفِيمَا لَا يُمْنَعُ، وَفِيمَا يَحِلُّ فِعْلُهُ وَفِيمَا لَا يَحِلُّ. الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ. الْبَابُ الْخَمْسُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِكَلِمَاتِ الْكُفْرِ. الْبَابُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: فِي الْقَضَاءِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَالْأَمَارَاتِ وَحُكْمِ الْفِرَاسَةِ، وَالدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ سَلَفَ الْأُمَّةِ.

القسم الأول من الكتاب

[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْكِتَابِ] [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْقَضَاءِ وَمَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ] حَقِيقَةِ الْقَضَاءِ وَمَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَحَقِيقَةُ الْقَضَاءِ: الْإِخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ " قَضَى الْقَاضِي " أَيْ: أَلْزَمَ الْحَقَّ أَهْلَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14] أَيْ أَلْزَمْنَاهُ وَحَكَمْنَا بِهِ عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] أَيْ أَلْزِمْ بِمَا شِئْت وَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك. وَفِي الْمَدْخَلِ: الْقَضَاءُ: مَعْنَاهُ الدُّخُولُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْخَلْقِ لِيُؤَدِّيَ فِيهِمْ أَوَامِرَهُ وَأَحْكَامَهُ بِوَاسِطَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: حَقِيقَةُ الْحُكْمِ إنْشَاءُ إلْزَامٍ أَوْ إطْلَاقٍ. فَالْإِلْزَامُ: كَمَا إذَا حَكَمَ بِلُزُومِ الصَّدَاقِ أَوْ النَّفَقَةِ أَوْ الشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْحُكْمُ بِالْإِلْزَامِ هُوَ الْحُكْمُ. وَأَمَّا إلْزَامُ الْحِسِّ مِنْ التَّرْسِيمِ وَالْحَبْسِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ أَيْضًا بِعَدَمِ الْإِلْزَامِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ مَا حُكِمَ بِهِ هُوَ عَدَمُ الْإِلْزَامِ وَأَنَّ الْوَاقِعَةَ يَتَعَيَّنُ فِيهَا الْإِبَاحَةُ وَعَدَمُ الْحَجْرِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِطْلَاقِ: فَكَمَا إذَا رُفِعَتْ لِلْحَاكِمِ أَرْضٌ زَالَ الْإِحْيَاءُ عَنْهَا فَحَكَمَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ فَإِنَّهَا تَبْقَى مُبَاحَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ إذَا حُكِمَ بِأَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ طَلْقٌ لَيْسَتْ وَقْفًا عَلَى مَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَالْحَاكِمُ الشَّافِعِيُّ يَرَى الطَّلْقَ دُونَ الْوَقْفِ فَإِنَّهَا تَبْقَى مُبَاحَةً، وَكَذَلِكَ الصَّيْدُ وَالنَّحْلُ وَالْحَمَامُ الْبَرِّيُّ إذَا حِيزَ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْحَائِزِ صَارَ مِلْكًا لِلْحَائِزِ الثَّانِي. فَهَذِهِ الصُّورَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا كُلُّهَا إطْلَاقَاتٌ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهَا إلْزَامُ الْمِلْكِ عُدِمَ الِاخْتِصَاصُ، لَكِنْ هَذَا بِطَرِيقِ اللُّزُومِ. وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَقْصُودِ الْأَوَّلِ بِالذَّاتِ لَا فِي اللُّزُومِ، كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ مِنْ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُهُ النَّهْيُ عَنْ الضِّدِّ وَتَحْرِيمُهُ. فَالْكَلَامُ فِي الْحَقَائِقِ إنَّمَا يَقَعُ فِيهَا هُوَ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى لَا فِيمَا بَعْدَهَا. قَالَ غَيْرُهُ: وَالْحُكْمُ فِيمَا دُونَهُ بِمَعْنَى الْمَنْعِ، وَمِنْهُ حَكَمْتُ السَّفِيهَ: إذَا أَخَذْت عَلَى يَدِهِ وَمَنَعْته مِنْ التَّصَرُّفِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَاكِمُ حَاكِمًا لِمَنْعِهِ الظَّالِمَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ حَكَمَ الْحَاكِمُ: أَيْ وَضَعَ الْحَقَّ فِي أَهْلِهِ وَمَنَعَ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِهِ. وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْحَكَمَةُ الَّتِي فِي لِجَامِ الْفَرَسِ؛ لِأَنَّهَا تَرُدُّ الْفَرَسَ عَنْ الْمَعَاطِبِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: حَكَمَ وَأَحْكَمَ بِمَعْنَى مَنَعَ. وَالْحُكْمُ فِي اللُّغَةِ: الْقَضَاءُ أَيْضًا، فَحَقِيقَتُهُمَا مُتَقَارِبَةٌ. وَأَمَّا حُكْمُهُ: فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى أَحَدٍ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ عِوَضٌ وَقَدْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ وَأَمَّا حِكْمَتُهُ: فَرَفْعُ التَّهَارُجِ وَرَدُّ النَّوَائِبِ وَقَمْعُ الظَّالِمِ وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ وَقَطْعُ الْخُصُومَاتِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. [الْبَابُ الثَّانِي فِي فَضْلِ الْقَضَاءِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْقِيَامِ فِيهِ بِالْعَدْلِ] فَضْلِ الْقَضَاءِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْقِيَامِ فِيهِ بِالْعَدْلِ وَبَيَانِ مَحِلِّ التَّحْذِيرِ مِنْهُ وَحُكْمِ السَّعْيِ فِيهِ. اعْلَمْ: أَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤَلِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ بَالَغُوا فِي التَّرْهِيبِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ الدُّخُولِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَشَدَّدُوا فِي كَرَاهِيَةِ السَّعْيِ فِيهَا وَرَغَّبُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالنُّفُورِ وَالْهَرَبِ مِنْهَا، حَتَّى تَقَرَّرَ فِي أَذْهَانِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّلَحَاءِ أَنَّ مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ سَهُلَ عَلَيْهِ دِينُهُ وَأَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ وَرَغِبَ عَمَّا هُوَ الْأَفْضَلُ وَسَاءَ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ، وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ. وَالْوَاجِبُ تَعْظِيمُ هَذَا الْمَنْصِبِ

وَمَعْرِفَةُ مَكَانَتِهِ مِنْ الدِّينِ، فَبِهِ بُعِثَ الرُّسُلُ، وَبِالْقِيَامِ بِهِ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَجَعَلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ النِّعَمِ الَّتِي يُبَاحُ الْحَسَدُ عَلَيْهَا. فَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا» . وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَنْ السَّابِقُونَ إلَى ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَإِذَا حَكَمُوا لِلْمُسْلِمِينَ حَكَمُوا كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ.» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ» الْحَدِيثُ، فَبَدَأَ بِالْإِمَامِ الْعَادِلِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ، كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً. وَمُرَادُهُ أَنَّهُ إذَا قَضَى يَوْمًا بِالْحَقِّ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَكَذَلِكَ كَانَ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْأَجْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] فَأَيُّ شَيْءٍ أَشْرَفُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ: أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ، فَإِنَّمَا هِيَ فِي قُضَاةِ الْجَوْرِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَفِي هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ جَاءَ الْوَعِيدُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» فَقَدْ أَوْرَدَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي مَعْرِضِ التَّحْذِيرِ مِنْ الْقَضَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْقَضَاءِ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ، وَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَهُ مُجَاهِدٌ لِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ مَنْ قَضَى بِالْحَقِّ إذْ جَعَلَهُ ذَبِيحَ الْحَقِّ امْتِحَانًا لِتَعْظُمَ لَهُ الْمَثُوبَةُ امْتِنَانًا. فَالْقَاضِي لَمَّا اسْتَسْلَمَ لِحُكْمِ اللَّهِ وَصَبَرَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ فِي خُصُومَاتِهِمْ فَلَمْ يَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ حَتَّى قَادَهُمْ إلَى أَمْرِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ الْعَدْلِ " وَكَفَّهُمْ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى وَالْعِنَادِ جُعِلَ ذَبِيحَ الْحَقِّ لِلَّهِ وَبَلَغَ بِهِ حَالَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ الْجَنَّةُ. وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَمَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْقَضَاءَ فَنِعْمَ الذَّابِحُ وَنِعْمَ الْمَذْبُوحُونَ. فَالتَّحْذِيرُ الْوَارِدُ مِنْ الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ عَنْ الظُّلْمِ لَا عَنْ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْجَوْرَ فِي الْأَحْكَامِ وَاتِّبَاعَ الْهَوَى فِيهِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ وَأَبْغَضَ النَّاسِ إلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ رَجُلٌ وَلَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمْ» وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، قَاضٍ عَمِلَ بِالْحَقِّ فِي قَضَائِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ عَلِمَ الْحَقَّ فَجَارَ مُتَعَدِّيًا فَذَلِكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاسْتَحْيَا أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ» فَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْجَائِرِ وَالْجَاهِلِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ. وَأَمَّا مَنْ اجْتَهَدَ فِي الْحَقِّ عَلَى عِلْمٍ فَأَخْطَأَ فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» وَبِمِثْلِ ذَلِكَ نَطَقَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] فَأَثْنَى عَلَى دَاوُد بِاجْتِهَادِهِ، وَأَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بِإِصَابَتِهِ وَجْهَ الْحُكْمِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] فَيَجِبُ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي خُطَّةِ الْقَضَاءِ بَذْلُ الْجَهْدِ فِي الْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ: الْقَضَاءُ مِحْنَةٌ، وَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَقَدْ اُبْتُلِيَ بِعَظِيمٍ؛ لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، إذْ التَّخَلُّصُ عَلَى مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ عَسِيرٌ وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

«مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ " فَقَدْ ذُبِحَ بِالسِّكِّينِ " وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: مَثَلُ الْقَاضِي الْعَالِمِ كَالسَّابِحِ فِي الْبَحْرِ، فَكَمْ عَسَى أَنْ يَسْبَحَ حَتَّى يَغْرَقَ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَشِعَارُ الْمُتَّقِينَ " الْبُعْدُ عَنْ هَذَا وَالْهَرَبُ مِنْهُ " وَقَدْ رَكِبَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشَاقَّ فِي التَّبَاعُدِ عَنْ هَذَا وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى. وَانْظُرْ إلَى قَضِيَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُ وَصَبْرِهِ عَلَى الْإِيذَاءِ حَتَّى تَخَلَّصَ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَقَدْ هَرَبَ أَبُو قِلَابَةَ إلَى مِصْرَ لَمَّا طُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَلَقِيَهُ أَيُّوبُ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَقَالَ لَهُ: لَوْ ثَبَتّ لَنِلْت أَجْرًا عَظِيمًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو قِلَابَةَ: الْغَرِيقُ فِي الْبَحْرِ إلَى مَتَى يَسْبَحُ. وَكَلَامُ أَبِي قِلَابَةَ هَذَا وَمَنْ تَقَدَّمَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ فِي نَفْسِهِ الضَّعْفَ وَعَدَمَ الِاسْتِقْلَالِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَالنَّاسُ لَا يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا خَيْرَ فِيمَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِشَيْءٍ لَا يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْعُلَمَاءُ، فَهَرَبُ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَنْ الْقَضَاءِ وَاجِبٌ وَطَلَبُهُ سَلَامَةَ نَفْسِهِ أَمْرٌ لَازِمٌ. وَاعْلَمْ: أَنَّ طَلَبَ الْقَضَاءِ وَالْحِرْصَ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَتَكُونُ حَسْرَةً وَنَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَتْ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَ الْفَاطِمَةُ» فَمَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَأَرَادَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ فِيهِ الْهَلَاكُ، وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَامْتُحِنَ بِهِ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ وَلَا اسْتَعَانَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّك إنْ تُؤْتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ تُعَنْ عَلَيْهَا، وَإِنْ تُؤْتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ تُوكَلُ إلَيْهَا» . وَأَمَّا تَحْصِيلُ الْقَضَاءِ بِالرِّشْوَةِ: قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَنْ أَخَذَ الْقَضَاءَ بِرِشْوَةٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا، وَلَوْ قَضَى لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَبِهِ يُفْتِي الْإِمَامُ لَوْ قُلِّدَ بِرِشْوَةٍ أَخَذَهَا هُوَ أَوْ قَوْمٌ عَالِمًا بِهِ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ كَقَضَائِهِ بِرِشْوَةٍ. وَقَالَ فِي النَّوَازِلِ: مَنْ أَخَذَ الْقَضَاءَ بِرِشْوَةٍ أَوْ بِشُفَعَاءَ فَهُوَ كَمُحَكَّمٍ، لَوْ رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ يُمْضِيهِ لَوْ وَافَقَ رَأْيَهُ وَإِلَّا أَبْطَلَهُ، مَنْ أَخَذَ بِرِشْوَةٍ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِلَا حَاجَةٍ إلَى نَقْضِهِ، وَمَنْ أَخَذَ بِشُفَعَاءَ فَهُوَ كَمَنْ تَقَلَّدَهُ بِحَقِّ الْقَاضِي لَوْ ارْتَشَى وَحَكَمَ نَفَذَ حُكْمُهُ فِيمَا لَمْ يَرْتَشِ لَا فِيمَا ارْتَشَى. مِنْ الْمُحِيطِ قَالَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ: نَفَذَ فِيهِمَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: بَطَلَ فِيهِمَا وَبِالْأَوَّلِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ. وَلَوْ ارْتَشَى وَلَدُهُ أَوْ بَعْضُ أَعْوَانِهِ فَلَوْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ فَهُوَ كَارْتِشَائِهِ، فَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ، وَلَوْ كَانَ بِلَا عِلْمِهِ نَفَذَ حُكْمُهُ وَعَلَى الْمُرْتَشِي رَدُّ مَا قَبَضَ. وَلَوْ ارْتَشَى فَقَضَى، أَوْ قَضَى ثُمَّ ارْتَشَى أَوْ ارْتَشَى ابْنُهُ أَوْ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِابْنِهِ. وَلَوْ ارْتَشَى فَبَعَثَ إلَى الشَّافِعِيِّ أَوْ إلَى آخَرَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُ الثَّانِي إذْ الْأَوَّلُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَمَّا ارْتَشَى وَلَوْ كَتَبَ إلَى الثَّانِي لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَأَخَذَ أَجْرَ الْكِتَابَةِ نَفَذَ حُكْمُ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا جَاءَ كِتَابُ الْخَلِيفَةِ إلَى عَامِلِهِ بِخُرَاسَانَ أَنْ اجْمَعْ الْفُقَهَاءَ وَسَلْ عَنْ قَاضِيهمْ إنْ لَمْ يَرْضَوْا بِهِ فَاعْزِلْهُ فَفَعَلَ فَلَمْ يَرْضَوْا بِهِ فَأَخَذَ الرِّشْوَةَ فَلَمْ يَعْزِلْهُ فَهُوَ عَلَى قَضَائِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَا يَنْعَزِلُ مَا لَمْ يُعْزَلْ، وَلَمْ يُعْزَلْ. وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اجْمَعْ الْفُقَهَاءَ، فَمَنْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَرَضُوا بِهِ فَوَلِّهِ الْقَضَاءَ، فَوَلَّى غَيْرَ مَنْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِالرِّشْوَةِ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا؛ لِأَنَّهُ وَلَّاهُ بِغَيْرِ أَمْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّوْلِيَةِ، مِنْ شَرْحِ التَّجْرِيدِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْ تَلَامِذَةِ ابْنِ شُرَيْحٍ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي: مَنْ يَقْبَلُ الْقَضَاءَ بَغْيًا لَهُ وَأَعْطَى عَلَيْهِ رِشْوَةً فَوِلَايَتُهُ بَاطِلَةٌ وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ بِحَقٍّ. قَالَ: وَإِنْ أَعْطَى رِشْوَةً عَلَى عَزْلِ قَاضٍ لِيُوَلَّى هُوَ مَكَانَهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ أَعْطَاهَا عَلَى عَزْلِهِ دُونَ وِلَايَةٍ فَعُزِلَ الْأَوَّلُ بِرِشْوَةٍ ثُمَّ اُسْتُقْضِيَ هُوَ مَكَانَهُ بِغَيْرِ رِشْوَةٍ نُظِرَ فِي الْمَعْزُولِ،

فصل طلب القضاء

فَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَإِعْطَاءُ الرِّشْوَةِ عَلَى عَزْلِهِ حَرَامٌ وَالْمَعْزُولُ بَاقٍ عَلَى وِلَايَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ عَزَلَهُ قَدْ تَابَ بِرَدِّ الرِّشْوَةِ قَبْلَ عَزْلِهِ. وَقَضَاءُ الْمُسْتَخْلَفِ أَيْضًا بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلَفُ أَيْضًا قَدْ تَابَ قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَيَصِحُّ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْزُولُ جَائِرًا لَمْ يَبْطُلْ قَضَاءُ الْمُسْتَخْلَفِ انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْدُمَ عَلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ إلَّا مَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ وَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ أَوْ أَجْبَرَهُ الْإِمَامُ الْعَدْلُ عَلَى ذَلِكَ، فَلِلْإِمَامِ الْعَدْلِ إجْبَارُهُ إذَا كَانَ صَالِحًا، وَلَهُ هُوَ أَنْ يَهْرَبَ وَيَمْتَنِعَ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، كَذَلِكَ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ سِوَاهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ الِامْتِنَاعُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ لِتَعَيُّنِ الْقِيَامِ بِهَذَا الْفَرْضِ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَرَادَ اسْتِصْلَاحَهُمْ وَدُعَاءَهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّعْيِ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ تُذَلُّ لَهُ الرِّقَابُ، وَتَخْضَعُ لَهُ الْجَبَابِرَةُ وَلَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ بَابِهِ، فَلِهَذَا طَلَبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ دُونَ الْإِمَارَةِ وَالْوَزَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَاتِ. لَا يُقَالُ: إنَّهُ طَلَبَ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى الِاجْتِمَاعِ بِأَخِيهِ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَهُ أَشْرَفُ مِنْ هَذَا وَأَكْمَلُ، وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ حَاصِلًا فَعَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ، أَعْنِي: أَنَّ إخْوَتَهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الْمِيرَةِ وَطَلَبِ الْقُوتِ مِنْ عِنْدِهِ " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ". [فَصْلٌ طَلَبُ الْقَضَاءِ] (فَصْلٌ) : وَطَلَبُ الْقَضَاءِ يَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ، وَمُبَاحٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَمَكْرُوهٌ، وَحَرَامٌ. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ، وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ قَاضٍ أَوْ يَكُونُ وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ وِلَايَتُهُ، أَوْ لَيْسَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ غَيْرُهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ إنْ لَمْ يَلِ الْقَضَاءَ وَلِيَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ وِلَايَتُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِيَدِ مَنْ لَا يَحِلُّ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى عَزْلِهِ إلَّا بِتَصَدِّي هَذَا إلَى الْوِلَايَةِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِذَلِكَ وَالسَّعْيُ فِيهِ إذَا قَصَدَ بِطَلَبِهِ حِفْظَ الْحُقُوقِ وَجَرَيَانَ الْأَحْكَامِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ فِي تَحْصِيلِهِ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا وَلَهُ عِيَالٌ، فَيَجُوزُ لَهُ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ لِيَسُدَّ خَلَّتَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَقْصِدُ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ عَنْ نَفْسِهِ فَيُبَاحُ لَهُ أَيْضًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إذَا كَانَ هُنَاكَ عَالِمٌ خَفِيَ عِلْمُهُ عَنْ النَّاسِ فَأَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُشْهِرَهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ لِيُعَلِّمَ الْجَاهِلَ وَيُفْتِيَ الْمُسْتَرْشِدَ، أَوْ كَانَ هُوَ خَامِلُ الذِّكْرِ لَا يَعْرِفُهُ الْإِمَامُ وَلَا النَّاسُ فَأَرَادَ السَّعْيَ فِي الْقَضَاءِ لِيُعْرَفَ مَوْضِعُ عِلْمِهِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ وَالدُّخُولُ فِيهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ أَنْهَضُ بِهِ وَأَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ آخَرَ تَوَلَّاهُ وَهُوَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ التَّوْلِيَةَ وَلَكِنْ مُقَصِّرٌ عَنْ هَذَا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ سَعْيُهُ فِي طَلَبِ الْقَضَاءِ لِتَحْصِيلِ الْجَاهِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّاسِ فَهَذَا يُكْرَهُ لَهُ السَّعْيُ، وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ يَحْرُمُ كَانَ وَجْهُهُ ظَاهِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وَيُكْرَهُ أَيْضًا إنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَانَ مَشْهُورًا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ وَعِلْمَهُ بِالْقَضَاءِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَسْعَى فِي طَلَبِ الْقَضَاءِ وَهُوَ جَاهِلٌ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، أَوْ يَسْعَى فِيهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ، أَوْ كَانَ قَصْدُهُ بِالْوِلَايَةِ الِانْتِقَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ أَوْ قَبُولَ الرِّشْوَةِ مِنْ الْخُصُومِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ، فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي الْقَضَاءُ.

الباب الثالث في ولاية القضاء

[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ] وَمَا يُسْتَفَادُ بِهَا مِنْ النَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ، وَمَا لَيْسَ لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِيهِ، وَمَرَاتِبِ الْوِلَايَةِ الَّتِي تُفِيدُ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا أَمَّا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ فَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالذَّخِيرَةِ: هَذِهِ الْوِلَايَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْحُكْمِ لَا يَنْدَرِجُ فِيهَا غَيْرُهُ. وَقَالَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَيْسَ لِلْقَاضِي السِّيَاسَةُ الْعَامَّةُ لَا سِيَّمَا الْحَاكِمُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّنْفِيذِ كَالْحَاكِمِ الضَّعِيفِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُلُوكِ الْجَبَابِرَةِ، فَهُوَ يُنْشِئُ الْإِلْزَامَ عَلَى الْمَلِكِ الْعَظِيمِ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ تَنْفِيذُهُ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، بَلْ الْحَاكِمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَاكِمٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْإِنْشَاءُ، وَأَمَّا قُوَّةُ التَّنْفِيذِ: فَأَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ حَاكِمًا، فَقَدْ يُفَوَّضُ إلَيْهِ التَّنْفِيذُ، وَقَدْ لَا يَنْدَرِجُ فِي وِلَايَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ وَتَفْرِيقُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَتَرْتِيبُ الْجُيُوشِ وَقِتَالُ الْبُغَاةِ وَتَوْزِيعُ الْإِقْطَاعَاتِ وَإِقْطَاعُ الْمَعَادِنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِ إمَامِ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ انْتَهَى. وَاعْلَمْ: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَنْقُولُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ إقَامَةَ الْحُدُودِ إذْ هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهُ لِلْخُلَفَاءِ وَالْقُضَاةِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ: أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ: الْفَيْءُ، وَالْجُمُعَةُ، وَالْحُدُودُ، وَالصَّدَقَاتُ. نَعَمْ الْقَتْلُ لَا يَكُونُ لِكُلِّ الْقُضَاةِ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ لَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ، بَلْ وَلَا لِكُلِّ وَالٍ لِمَا تُؤَدِّي إلَيْهِ الْمُسَارَعَةُ إلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالتَّهَارُجِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ نَهَى الْوُلَاةَ عَنْ الْقَتْلِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ أَحْكَامٌ مِنْ فِسْقِ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَجِبُ التَّحَوُّطُ لَهَا بِقَصْرِهَا عَلَى بَعْضِ الْوُلَاةِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ السِّيَاسَةَ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مَدْخَلٌ: فَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ خُطَّةَ الْقَضَاءِ أَعْظَمُ الْخُطَطِ قَدْرًا، وَإِنَّ إلَيْهِ الْمَرْجِعَ فِي الْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ بِلَا تَحْدِيدٍ، وَإِنَّ عَلَى الْقَاضِي مَدَارَ الْأَحْكَامِ وَإِلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالتَّدْمِيَاتِ، وَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبَاشِرُ كُلَّ الْأُمُورِ إلَّا أُمُورًا خَاصَّةً وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ النَّظَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ السِّيَاسَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَاعْلَمْ: أَنَّ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عُمُومَ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصَهَا وَمَا يَسْتَفِيدُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلَايَةِ يُتَلَقَّى مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، فَقَدْ يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَفِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْحَرْبِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ قَاصِرًا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَطْ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فِي كُلِّ قُطْرٍ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَاقْتَضَاهُ الْعُرْفُ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. [فَصْلٌ نُوَّابُ الْقُضَاةِ] (فَصْلٌ) : أَمَّا نُوَّابُ الْقُضَاةِ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مُطْلَقًا فَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هُمْ مُسَاوُونَ لِلْقُضَاةِ الْأُصُولِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَلَا فَرْقٍ إلَّا كَثْرَةَ الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَثْرَةِ الْأَقْطَارِ وَقِلَّتِهَا، وَإِنَّ الْأَصْلَ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ الْفَرْعَ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، وَهَذَا فَرْقٌ لَا يَزِيدُ فِي مَعْنَى الْوِلَايَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إنْ كَانَ فِي النَّائِبِ الْمُسْتَخْلَفِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِلَّا فَالْمَنْقُولُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا اسْتَخْلَفَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَلِلْمُسْتَخْلَفِ التَّسْجِيلُ، وَإِلَّا فَيَرْفَعُ إلَى الْقَاضِي مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّهِ، إذْ لِلْقَاضِي أَنْ يُبِيحَ لِمَنْ قَدَّمَهُ النَّظَرَ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْغِيَابِ وَالتَّسْجِيلِ فِي سَائِرِ الْحُكُومَاتِ، وَلَهُ أَنْ يَحْجُرَ

فصل ولاية الحسبة

عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَيَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَآهُ بِاجْتِهَادِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ ذَلِكَ الْعَالِمِ عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لِنَائِبِهِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَلَّدَهُ عَنْ الْإِمَامِ. [فَصْلٌ وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ: فَهِيَ تَقْصُرُ عَنْ الْقَضَاءِ فِي إنْشَاءِ كُلِّ الْأَحْكَامِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي الرَّوَاشِنِ الْخَارِجَةِ بَيْنَ الدُّورِ وَبِنَاءِ الْمَصَاطِبِ فِي الطُّرُقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحِسْبَةِ، وَلَيْسَ لَهُ إنْشَاءُ الْأَحْكَامِ وَلَا تَنْفِيذُهَا فِي عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَلَا لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي عُيُوبِ الدُّورِ وَشَبَهِهَا إلَّا أَنْ يُجْعَلَ لَهُ ذَلِكَ فِي مَنْشُورِهِ وَيَزِيدُ الْمُحْتَسِبُ عَلَى الْقَاضِي بِكَوْنِهِ يَتَعَرَّضُ لِلتَّفَحُّصِ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ وَإِنْ لَمْ تُنْهَ إلَيْهِ. وَأَمَّا الْقَاضِي فَلَا يَحْكُمُ إلَّا فِيمَا رُفِعَ إلَيْهِ، وَمَوْضِعُ الْحِسْبَةِ الرَّهْبَةُ، وَمَوْضِعُ الْقَضَاءِ النَّصَفَةُ. [فَصْلٌ الْوِلَايَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ الْقَضَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْوِلَايَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ الْقَضَاءِ كَمُتَوَلِّي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فِي الْأَنْكِحَةِ فَقَطْ، وَالْمُتَوَلِّي النَّظَرَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَيْتَامِ فَقَطْ، فَيُفَوَّضُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ النَّقْضُ وَالْإِبْرَامُ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنْ الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهَذِهِ الْوِلَايَةُ شُعْبَةٌ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيمَا فُوِّضَ إلَيْهِ، وَلَا يَنْفُذُ لَهُ حُكْمٌ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. [فَصْلٌ وِلَايَةُ التَّحْكِيمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وِلَايَةُ التَّحْكِيمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ: فَهِيَ وِلَايَةٌ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ آحَادِ النَّاسِ، وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ الْقَضَاءِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَمْوَالِ دُونَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ. [فَصْلٌ وِلَايَةُ السُّعَاةِ وَجُبَاةِ الصَّدَقَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وِلَايَةُ السُّعَاةِ وَجُبَاةِ الصَّدَقَةِ: فَلَهُمْ إنْشَاءُ الْحُكْمِ فِي الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ خَاصَّةً، فَإِنْ حَكَمُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَنْفُذْ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ. [فَصْلٌ وِلَايَةُ الْخَرْصِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وِلَايَةُ الْخَرْصِ: فَلَيْسَ لِمُتَوَلِّيهَا إنْشَاءُ حُكْمٍ، وَلَيْسَ لَهُ حَرْزُ مَقَادِيرِ الثِّمَارِ وَكَمْ يَكُونُ مِقْدَارُهَا إذَا يَبِسَتْ، وَفِعْلُهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا لَوْ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ هَلْ يَرْجِعُ إلَى مَا تَبَيَّنَ أَوْ هُوَ حُكْمٌ مَضَى، وَهَذَا عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ. [فَصْلٌ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ: فَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ الْقَضَاءِ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ فَيَنْفُذُ حُكْمُهُمَا فِيمَا فُوِّضَ إلَيْهِمَا مِنْ أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَحِلِّهِ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْمُحَكَّمِينَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُحَكَّمِينَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: فَهِيَ وِلَايَةٌ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ آحَادِ النَّاسِ يَنْفُذُ حُكْمُهُمَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَزَاءِ فَقَطْ. [فَصْلٌ الْوِلَايَةُ عَلَى صَرْفِ النَّفَقَاتِ وَالْفُرُوضِ الْمُقَدَّرَةِ لِمُسْتَحِقِّيهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْوِلَايَةُ عَلَى صَرْفِ النَّفَقَاتِ وَالْفُرُوضِ الْمُقَدَّرَةِ لِمُسْتَحِقِّيهَا وَإِيصَالِ الزَّكَاةِ لِأَصْنَافِهَا وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَإِيصَالِ مَالِ الْغَنَائِمِ إلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَنْفِيذٌ فَقَطْ فَأَهْلُوهَا كَالْقُضَاةِ فِي التَّنْفِيذِ لَا فِي الْإِنْشَاءِ. [فَصْلٌ وِلَايَةُ الْقَاسِمِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْقَاضِي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وِلَايَةُ الْقَاسِمِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْقَاضِي وَالْكَاتِبِ وَالتُّرْجُمَانِ وَالْمُقَدَّمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُنْشِئُوا حُكْمًا وَلَا يُنَفِّذُوا شَيْئًا. [فَصْلٌ الْوِلَايَةُ الَّتِي يَنْدَرِجُ الْقَضَاءُ فِي ضِمْنِهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْوِلَايَةُ الَّتِي يَنْدَرِجُ الْقَضَاءُ فِي ضِمْنِهَا فَهِيَ أَنْوَاعٌ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى، وَأَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَكَذَلِكَ أَهْلِيَّةُ السِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي تَنَاوُلِ ذَلِكَ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْوَزَارَةُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ التَّفْوِيضُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ لِلْوَزِيرِ، وَيَخْتَصُّ الْإِمَامُ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: لَا يَعْقِدُ الْوَزِيرُ وِلَايَةَ الْعَهْدِ وَيَعْقِدُهَا الْإِمَامُ لِمَنْ يُرِيدُ، فَيَكُونُ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا يَسْتَعْفِي مِنْ الْوِلَايَةِ وَلِلْإِمَامِ الِاسْتِعْفَاءُ مِنْ الْإِمَامَةِ. وَلَا يَعْزِلُ مَنْ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ،

الباب الرابع في الألفاظ التي تنعقد بها الولاية

وَيُسَمَّى هَذَا الْوَزِيرُ وَزِيرَ تَفْوِيضٍ، وَهَذَا مَعَ وُجُودِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ وَإِلَّا فَهُوَ جَاهِلٌ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ. وَأَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ وَوَزِيرُ الِاسْتِشَارَةِ فَلَيْسَ لَهُمَا أَهْلِيَّةُ الْحُكْمِ، وَوَزِيرُ التَّنْفِيذِ هُوَ الَّذِي إذَا حَكَمَ الْإِمَامُ بِشَيْءٍ نَفَّذَهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْإِمَارَةُ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: كَالْمُلُوكِ مَعَ الْخُلَفَاءِ فِي الْإِمَارَاتِ عَلَى بَعْضِ الْأَقَالِيمِ فَهَذِهِ صَرِيحَةٌ فِي إفَادَةِ أَهْلِيَّةِ الْقُضَاةِ إذَا صَادَفَتْ الْوِلَايَةُ أَهْلَهَا وَمَحِلَّهَا مِنْ الْعِلْمِ، وَتَشْمَلُ أَهْلِيَّةَ السِّيَاسَةِ وَتَدْبِيرِ الْجُيُوشِ وَقَسْمِ الْغَنَائِمِ وَأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ مُؤَمَّرًا لَكِنَّهُ لَمْ تُفَوَّضْ إلَيْهِ الْحُكُومَةُ مَعَ الْإِمْرَةِ، وَإِنْ فُوِّضَتْ إلَيْهِ الْحُكُومَةُ مَضَى حُكْمُهُ وَحُكْمُ مُقَدِّمِيهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْإِمَارَةُ الْخَاصَّةُ عَلَى تَدْبِيرِ الْجُيُوشِ وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ دُونَ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وِلَايَةُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، وَلَهُ مِنْ النَّظَرِ مَا لِلْقُضَاةِ، وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُمْ مَجَالًا يَزِيدُ بِشَرْطِ الْعِلْمِ. [الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَةُ] وَمَا يُشْتَرَطُ فِي تَمَامِ الْوِلَايَةِ، وَمَا يُشْتَرَطُ فِي تَمَامِ الْوِلَايَةِ، وَمَا تَفْسُدُ الْوِلَايَةُ بِاشْتِرَاطِهِ، اعْلَمْ: أَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَةُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ فَالصَّرِيحُ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ، وَهِيَ: وَلَّيْتُك، وَقَلَّدْتُك، وَاسْتَخْلَفْتُك، وَاسْتَنَبْتُكَ. وَالْكِنَايَةُ ثَمَانِيَةُ أَلْفَاظٍ، وَهِيَ: اعْتَمَدْتُ عَلَيْك، وَعَوَّلْت عَلَيْك، وَرَدَدْت إلَيْك، وَجَعَلْت إلَيْك، وَفَوَّضْت إلَيْك، وَوَكَّلْت إلَيْك، وَاسْتَنَدْت إلَيْك وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَعَهِدْت إلَيْك. وَتَحْتَاجُ الْكِنَايَةُ إلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَنْفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالَ مِثْلُ: اُحْكُمْ فِيمَا اعْتَمَدْت عَلَيْك فِيهِ، وَشِبْهُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ السُّلْطَانُ لَوْ قَلَّدَ رَجُلًا قَضَاءً فَرَدَّهُ] (فَصْلٌ) : السُّلْطَانُ لَوْ قَلَّدَ رَجُلًا قَضَاءً فَرَدَّهُ هَلْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ بَعْدَهُ؟ إنْ قَلَّدَهُ مُشَافَهَةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ بَعْدَ رَدِّهِ، وَلَوْ قَلَّدَهُ مُغَايَبَةً فَلَوْ بَعَثَ إلَيْهِ مَنْشُورَهُ أَوْ رَسُولَهُ فَرَدَّهُ فَلَهُ قَبُولُهُ بَعْدَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ السُّلْطَانُ بِرَدِّهِ كَوَكِيلٍ أَوْ مُوصًى لَهُ بِرِسَالَةٍ، فَلَوْ رَدَّا فَلَهُمَا قَبُولُهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُوَكِّلُ وَالْمُوصِي. الْقَاضِي قَالَ: عَزَلْت نَفْسِي أَوْ أَخْرَجْت نَفْسِي عَنْ الْقَضَاءِ أَوْ كَتَبَ بِهِ إلَى السُّلْطَانِ يَنْعَزِلُ إذَا عَلِمَ لَا قَبْلَهُ كَوَكِيلٍ وَقِيلَ لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ. [فَصْلٌ تَعْلِيقُ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ، وَكَذَا يَجُوزُ إضَافَتُهُمَا إلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَذَا يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْقَضَاءِ بِزَمَانٍ بِأَنْ قَالَ: أَنْتَ قَاضِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ هَذَا الشَّهْرَ أَوْ هَذَا الْيَوْمَ، وَيَصِيرُ قَاضِيًا بِقَدْرِهِ، وَكَذَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِمَكَانٍ، حَتَّى لَوْ قَيَّدَ الْقَاضِي إنَابَةَ نَائِبِهِ بِمَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ يَتَقَيَّدُ بِهِ، وَيَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ سَمَاعِ بَعْضِ الْخُصُومَاتِ أَوْ سَمَاعِ خُصُومَةِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلَا يَصِيرُ قَاضِيًا فِي الْمُسْتَثْنَى. وَلَوْ قَالَ: لَا تَسْمَعْ خُصُومَةَ فُلَانٍ حَتَّى أَرْجِعَ مِنْ سَفَرِي، لَمْ يَجُزْ لَهُ سَمَاعُهُ حَتَّى يَرْجِعَ، مِنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ. [الْبَابُ الْخَامِسُ فِي أَرْكَانِ الْقَضَاءِ] [الْفَصْل الْأَوَّلُ: فِي الْأَوْصَافِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي صِحَّةِ وِلَايَةِ الْقَاضِي] وَهِيَ سِتَّةٌ: الْقَاضِي، وَالْمَقْضِيُّ بِهِ وَالْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ، وَكَيْفِيَّةُ الْقَضَاءِ. الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي شُرُوطِ الْقَضَاءِ، وَآدَابِ الْقَاضِي وَاسْتِخْلَافِهِ، وَذِكْرِ التَّحْكِيمِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ: الْأَوَّلُ: فِي الْأَوْصَافِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي صِحَّةِ وِلَايَةِ الْقَاضِي وَمَا هُوَ غَيْرُ شَرْطٍ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ تَوْلِيَةَ أَحَدٍ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَلَا يُحَابِي، وَلَا يَقْصِدُ بِالتَّوْلِيَةِ إلَّا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ أَمِيرٍ أَمَّرَ أَمِيرًا أَوْ اسْتَقْضَى قَاضِيًا مُحَابَاةً إلَّا

فصل: في الأحكام اللازمة للقاضي في سيرته

كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ، وَإِنْ أَمَّرَهُ أَوْ اسْتَقْضَاهُ نَصِيحَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ شَرِيكَهُ فِيمَا عَمِلَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا عَمِلَ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَلْيَخْتَرْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي اسْتِخْلَافِهِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَهْلُ الْقَضَاءِ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ قَاضِيًا إلَى الْيَمَنِ «بِمَ تَقْضِي يَا مُعَاذُ» الْحَدِيثُ. وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ مَمْدُودَةٌ وَالنُّصُوصَ مَعْدُودَةٌ، فَلَا يَجِدُ الْقَاضِي فِي كُلِّ حَادِثَةٍ نَصًّا يَفْصِلُ بِهِ الْخُصُومَةَ فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَعْنَى مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالِاجْتِهَادِ، وَالْعَدَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْأَهْلِيَّةِ، بَلْ هِيَ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ حَتَّى إنَّ الْفَاسِقَ يُصْبِحُ قَاضِيًا، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَدْلًا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ قَاضِيًا، وَهُوَ رِوَايَةُ الْخَصَّافِ حَتَّى إنَّ الْفَاسِقَ لَوْ تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ يَصِيرُ قَاضِيًا، وَلَوْ قَضَى يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ صَلَحَ شَاهِدًا عِنْدَنَا يَصْلُحُ قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يُبْتَنَى عَلَى الشَّهَادَةِ، مِنْ الْمُحِيطِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَجُمْهُورُ الْمُقَلِّدِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا تَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَبِيرَ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا مُصْحَفُهُمْ مَذْهَبُ إمَامِهِمْ. وَقَدْ أَطَالَ النَّاسُ الْكَلَامَ فِي صِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَكْبِرٍ عَنْ مَشُورَةِ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرِعًا ذَكِيًّا فَطِنًا، مُتَأَنِّيًا غَيْرَ عَجُولٍ، نَزِهًا عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، عَاقِلًا مَرْضِيَّ الْأَحْوَالِ، مَوْثُوقًا بِاحْتِيَاطِهِ فِي نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ فِي دِينِهِ وَفِيمَا جَمُلَ مِنْ أَمْرِهِ وَمَنْ وَلِيَ النَّظَرَ لَهُمْ، غَيْرَ مَخْدُوعٍ، وَقُورًا مَهِيبًا، عَبُوسًا مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، حَاكِمًا بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ، لَا يَطَّلِعُ النَّاسُ مِنْهُ عَلَى عَوْرَةٍ، وَلَا يَخْشَى فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا فِقْهَ عِنْدَهُ، أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَا حَدِيثَ عِنْدَهُ، عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْآثَارِ، وَتَوَجُّهِ الْفِقْهِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحُكْمُ. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ رَاقَبَ اللَّهَ تَعَالَى فَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَخْوَفَ فِي نَفْسِهِ مِنْ النَّاسِ وَهَبَهُ اللَّهُ السَّلَامَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا كَثِيرَ التَّحَرُّزِ مِنْ الْحِيَلِ، وَمَا يَتِمُّ مِثْلُهُ عَلَى الْعَقْلِ النَّاقِصِ أَوْ الْمُتَهَاوِنِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالشُّرُوطِ عَارِفًا بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَاخْتِلَافِ مَعَانِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْعِبَارَاتِ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ فِي الدَّعَاوَى وَالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ كِتَابَ الشُّرُوطِ هُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ حُقُوقَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالشَّهَادَةُ تُسْمَعُ بِمَا فِيهِ، فَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ أَوْ لَا يَصِحُّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِلْمٌ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبِمَحِلِّهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْفِطْنَةِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْفِرَاسَةِ وَتَعْطِيلِ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالْأَيْمَانِ، وَقَدْ فَسَدَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ وَاسْتَحَالَ الْحَالُ. [فَصْل: فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِلْقَاضِي فِي سِيرَتِهِ] الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِلْقَاضِي فِي سِيرَتِهِ، وَالْآدَابِ الَّتِي لَا يَسَعُهُ تَرْكُهَا. وَمَا جَرَى عَمَلُ الْحُكَّامِ بِالْأَخْذِ بِهِ. وَنَبْدَأُ بِرِسَالَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَعْرُوفَةِ بِرِسَالَةِ الْقَضَاءِ وَمَعَانِي الْأَحْكَامِ، وَعَلَيْهَا احْتِذَاءُ قُضَاةِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَصَدَّرُوا بِهَا كُتُبَهُمْ، وَهَذِهِ الرِّسَالَةُ أَصْلٌ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ فُصُولِ الْقَضَاءِ، وَهِيَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: سَلَامٌ عَلَيْك، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إذَا

فصل فيما يلزم القاضي في خاصة نفسه

أُدْلِيَ إلَيْك وَأَنْفِذْ إذَا تَبَيَّنَ لَك، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ. سَوِّ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِك وَمَجْلِسِك وَعَدْلِك، حَتَّى لَا يَيْأَسَ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِك، وَلَا يَطْمَعَ الشَّرِيفُ فِي حَيْفِك، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، لَا يَمْنَعُك قَضَاءٌ قَضَيْته بِالْأَمْسِ ثُمَّ رَاجَعْت فِيهِ نَفْسَك وَهُدِيت فِيهِ رُشْدَك أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ وَمُرَاجَعَتَهُ خَيْرٌ مِنْ الْبَاطِلِ وَالتَّمَادِي فِيهِ، وَالْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِك مِمَّا لَا يَبْلُغُك فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، اعْرَفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْكَالَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْمِدْ إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى، اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً أَجَلًا يَنْتَهِي إلَيْهِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْت بِحَقِّهِ، وَإِلَّا وَجَّهْت عَلَيْهِ الْقَضَاءَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ طَعِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ وَرَدَّ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ، وَإِيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ لِلْخُصُومِ عِنْدَ الْخُصُومَاتِ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ الَّتِي يُوجِبُ اللَّهُ بِهَا الْأَجْرَ وَيُحْسِنُ بِهَا الذُّخْرَ، فَإِنَّهُ مَنْ يُصْلِحُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ يَكْفِيهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ شَانَهُ اللَّهُ، فَمَا ظَنُّك بِثَوَابِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَالسَّلَامُ. [فَصْلٌ فِيمَا يَلْزَمُ الْقَاضِي فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ] (فَصْلٌ) : فِيمَا يَلْزَمُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ " وَاعْلَمْ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَنْ يُعَالِجَ نَفْسَهُ عَلَى آدَابِ الشَّرْعِ وَحِفْظِ الْمُرُوءَةِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَيَتَوَقَّى مَا يَشِينُهُ فِي دِينِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَعَقْلِهِ، أَوْ يَحُطُّهُ فِي مَنْصِبِهِ وَهِمَّتِهِ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ لَأَنْ يُنْظَرَ إلَيْهِ وَيُقْتَدَى بِهِ، وَلَيْسَ يَسَعُهُ فِي ذَلِكَ مَا يَسَعُ غَيْرَهُ، فَالْعُيُونُ إلَيْهِ مَصْرُوفَةٌ، وَنُفُوسُ الْخَاصَّةِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَوْقُوفَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ بَعْدَ الْحُصُولِ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ سَوَاءً وَصَلَ إلَيْهِ بِرَغْبَتِهِ فِيهِ وَطَرَحَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، أَوْ اُمْتُحِنَ بِهِ وَعُرِضَ عَلَيْهِ، أَنْ يَزْهَدَ فِي طَلَبِ الْحَظِّ الْأَخْلَصِ وَالسَّنَنِ الْأَصْلَحِ، فَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْقَارِ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَنْصِبَ، أَوْ زُهْدِهِ فِي أَهْلِ عَصْرِهِ وَيَأْسِهِ مِنْ اسْتِصْلَاحِهِمْ وَاسْتِبْعَادِ مَا يَرْجُو مِنْ عِلَاجِ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِهِ أَيْضًا لِمَا يَرَاهُ مِنْ عُمُومِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْخَيْرِ. فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَسْعَ فِي اسْتِصْلَاحِ أَهْلِ عَصْرِهِ فَقَدْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ وَأَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ وَيَئِسَ مِنْ تَدَارُكِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالرَّحْمَةِ، فَيُلْجِئُهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَمْشِيَ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ أَهْلُ زَمَانِهِ وَلَا يُبَالِي بِأَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ فِيهِ لِاعْتِقَادِهِ فَسَادَ الْحَالِ، وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ مُصِيبَةِ الْقَضَاءِ وَأَدْهَى مِنْ كُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْ الْبَلَاءِ، فَلْيَأْخُذْ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهِدَةِ وَيَسْعَى فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَيَطْلُبُهُ وَيَسْتَصْلِحُ النَّاسَ بِالرَّهْبَةِ وَالرَّغْبَةِ، وَيَشُدُّ عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ يَجْعَلُ لَهُ فِي وِلَايَتِهِ وَجَمِيعِ أُمُورِهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَلَا يَجْعَلُ حَظَّهُ مِنْ الْوِلَايَةِ الْمُبَاهَاةَ بِالرِّيَاسَةِ وَإِنْفَاذَ الْأَوَامِرِ وَالتَّلَذُّذَ بِالْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ فَيَكُونُ مِمَّنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] وَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَكُونَ جَمِيلَ الْهَيْئَةِ ظَاهِرَ الْأُبَّهَةِ وَقُورَ الْمِشْيَةِ وَالْجِلْسَةِ حَسَنَ النُّطْقِ وَالصَّمْتِ مُحْتَرِزًا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْفُضُولِ وَمَا لَا حَاجَةَ بِهِ، كَأَنَّمَا يَعُدُّ حُرُوفَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَدًّا، فَإِنَّ كَلَامَهُ مَحْفُوظٌ وَزَلَلَهُ فِي ذَلِكَ مَلْحُوظٌ، وَلْيُقْلِلْ عِنْدَ كَلَامِهِ الْإِشَارَةَ بِيَدِهِ وَالِالْتِفَاتَ بِوَجْهِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْمُتَكَلِّفِينَ وَصُنْعِ غَيْرِ الْمُتَأَدِّبِينَ، وَلْيَكُنْ ضَحِكُهُ تَبَسُّمًا، وَنَظَرُهُ فِرَاسَةً وَتَوَسُّمًا، وَإِطْرَاقُهُ تَفَهُّمًا، وَلْيَلْزَمْ مِنْ السَّمْتِ الْحَسَنِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مَا يَحْفَظُ بِهِ مُرُوءَتَهُ، فَتَمِيلَ الْهِمَمُ إلَيْهِ، وَيَكْبُرَ فِي نُفُوسِ الْخُصُومِ مِنْ الْجُرْأَةِ عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ يُظْهِرُهُ وَلَا إعْجَابٍ يَسْتَشْعِرُهُ، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ فِي الدِّينِ، وَعَيْبٌ فِي أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ. [فَصْلٌ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ أُمُورٌ] (فَصْلٌ) : وَيَلْزَمُ الْقَاضِيَ أُمُورٌ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إذَا كَانَ لَا يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛

لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْإِهْدَاءَ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ حَتَّى يَمِيلَ إلَيْهِ مَتَى وَقَعَتْ الْخُصُومَةُ، وَإِذَا قَبِلَ الْهَدِيَّةَ مَاذَا يَصْنَعُ؟ قَالُوا: يَرُدُّ عَلَى الْمُهْدِي إنْ أَمْكَنَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّدُّ عَلَى صَاحِبِهِ يَضَعُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَإِنْ كَانَ يُهْدَى إلَيْهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَإِنْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْبَلَ، نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُومَةٌ فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْهَدِيَّةُ مِثْلَ تِلْكَ أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّهُ يَقْبَلُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ آكِلًا بِقَضَائِهِ؛ لِأَنَّ سَابِقَةَ الْمُهَادَاةِ دَلَّتْ عَلَى الْإِهْدَاءِ لِلتَّوَدُّدِ وَالتَّحَبُّبِ لَا لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ يَرُدُّ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا زَادَ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ لِيَمِيلَ إلَيْهِ مَتَى وَقَعَتْ الْخُصُومَةُ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، مِنْ الْمُحِيطِ قُلْت: وَالْأَصْوَبُ فِي زَمَانِنَا عَدَمُ الْقَبُولِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْهَدِيَّةُ تُورِثُ إدْلَالَ الْمُهْدِي وَإِغْضَاءَ الْمُهْدَى إلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرُ الْقَاضِي وَدُخُولُ الْفَسَادِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ إنَّ الْهَدِيَّةَ تُطْفِئُ نُورَ الْحِكْمَةِ. قَالَ رَبِيعَةُ: " إيَّاكَ وَالْهَدِيَّةَ فَإِنَّهَا ذَرِيعَةُ الرِّشْوَةِ «وَكَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ» وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعْصُومٌ مِمَّا يُتَّقَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا. وَلَمَّا رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَدِيَّةَ قِيلَ لَهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقْبَلُهَا. فَقَالَ: كَانَتْ لَهُ هَدِيَّةً وَلَنَا رِشْوَةً لِأَنَّهُ كَانَ يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ لِنُبُوَّتِهِ لَا لِوِلَايَتِهِ، وَنَحْنُ يُتَقَرَّبُ إلَيْنَا لِلْوِلَايَةِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ السُّحْتُ بِالْهَدِيَّةِ وَالْقَتْلُ بِالْمَوْعِظَةِ، يُقْتَلُ الْبَرِيءُ لِيَتَّعِظَ بِهِ الْعَامَّةُ» . وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ: " لَا تُسَارَّ وَلَا تُضَارَّ، وَلَا تَبِعْ وَلَا تَشْتَرِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ " وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ، وَيَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيُجِيبُ الدَّعْوَةَ وَلَكِنَّهُ لَا يُطِيلُ مُكْثَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ مِنْ الْخُصُومَاتِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ الْآخَرَ يَتَّهِمُهُ وَيُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ كَالْعُرْسِ وَالْخِتَانِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ، الْعَشَرَةُ وَمَا دُونَهَا خَاصَّةٌ وَمَا فَوْقَهَا عَامَّةٌ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ مَا اُتُّخِذَتْ لِأَجْلِ الْقَاضِي بَلْ اُتُّخِذَتْ لِأَجْلِ الْعَامَّةِ وَلَا يَصِيرُ الْقَاضِي آكِلًا بِقَضَائِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ التَّنَزُّهُ عَنْ طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْ مَاعُونٍ أَوْ دَابَّةٍ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ إلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ إلَّا الَّذِي وَلَّاهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ دُونَهُ رَعِيَّةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ بِطَانَةَ السُّوءِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْقُضَاةِ إنَّمَا يَأْتِي عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ بُلِيَ بِذَلِكَ عَرَفَهُ وَمِنْهَا أَنْ يَخْتَارَ لَهُ كَاتِبًا يَكْتُبُ لَهُ، وَيَكْتُبُ مَا يَقَعُ فِي مَجْلِسِهِ بَيْنَ الْخُصُومِ. وَلَا يَجْعَلُ كَاتِبَ الْحُكْمِ صَبِيًّا وَلَا عَبْدًا وَلَا مُدَبَّرًا وَلَا مُكَاتَبًا وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَا ذِمِّيًّا وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي أَوْصَافِهِ أَرْبَعَةً وَهِيَ: الْعَدَالَةُ، وَالْعَقْلُ، وَالرَّأْيُ، وَالْعِفَّةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الْكِتَابَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يَكُونَ كَاتِبُهُ عَدْلًا فَقِيهًا يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَنْظُرُ هُوَ فِيهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، وَيَقْعُدُ حَيْثُ يُرَى مَا يَكْتُبُ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ وَالتَّخْلِيطِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُخْدَعُ بِالرِّشْوَةِ فَيَزِيدُ أَوْ يُنْقِصُ فِيمَا يَكْتُبُ فَيُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حُقُوقِ النَّاسِ. وَيَكْتُبُ مَا جَرَى فِي مَجْلِسِهِ مِنْ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ وَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا جَرَى قَبْلَ الْقَضَاءِ فَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْمُرَاجَعَةِ إلَيْهِ، فَيَكْتُبُ بِحَضْرَةِ الْخَصْمَيْنِ لِكَيْ لَا يُتَّهَمَ بِتَغْرِيرٍ، وَيَقْرَأُ مَا كَتَبَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ أَخْبَرَاهُ بِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهِ الْقَاضِي فَإِنْ كَانَ كَمَا جَرَى وَقَّعَ بِخَطِّهِ أَسْفَلَ الْكِتَابِ شَهِدَا عِنْدِي بِذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مُتَرْجِمًا، وَإِذَا اخْتَصَمَ إلَيْهِ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَفْهَمُ عَنْهُ فَلْيُتَرْجِمْ عَنْهُ ثِقَةٌ

مُسْلِمٌ مَأْمُونٌ، وَالِاثْنَانِ أَحَبُّ إلَيْنَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ فَكَذَلِكَ الْعَدْلُ، وَرَسُولُ الْقَاضِي إلَى الْعَدْلِ الْوَاحِدِ يَكْفِي عِنْدَهُمَا. " مِنْ الْمُحِيطِ ". وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَبْطِنَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالنَّزَاهَةِ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى مَا هُوَ بِسَبِيلِهِ وَيَقْوَى بِهِمْ عَلَى التَّوَصُّلِ عَلَى مَا يَنْوِيهِ، وَيُخَفِّفُوا عَنْهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ فِيهِ مِنْ النَّظَرِ فِي الْوَصَايَا وَالْأَحْبَاسِ وَالْقِسْمَةِ وَأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْوَانُهُ فِي زِيِّ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْمَرْءِ بِصَاحِبِهِ وَغُلَامِهِ، وَيَأْمُرَهُمْ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، فَلَا بُدَّ لِلْقَاضِي مِنْ أَعْوَانٍ يَكُونُونَ حَوْلَهُ لِيَزْجُرُوا مَنْ يَنْبَغِي زَجْرُهُ مِنْ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَفِّفَ مِنْهُمْ مَا اسْتَطَاعَ. وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنْكِرُ عَلَى الْقُضَاةِ اتِّخَاذَ الْأَعْوَانِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْقَضَاءَ وَشَوَّشَ عَلَيْهِ مَا يَقَعُ مِنْ النَّاسِ عِنْدَهُ قَالَ: لَا بُدَّ لِلسُّلْطَانِ مِنْ وَزَعَةٍ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ الْأَعْوَانِ أَصْلًا كَانَ أَحْسَنَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا يَكُونُ الْعَوِينُ إلَّا ثِقَةً مَأْمُونًا، لِأَنَّهُ قَدْ يُطْلِعُ الْخُصُومَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ، وَقَدْ يُرْشَى عَلَى الْمَنْعِ وَالْإِذْنِ، وَقَدْ يُخَافُ مِنْهُ عَلَى النِّسْوَانِ إذَا احْتَجْنَ إلَى خِصَامٍ، فَكُلُّ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ الْقَاضِي عَلَى قَضَائِهِ وَمَشُورَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا ثِقَةً مَأْمُونًا. (فَصْلٌ) : وَأَرْزَاقُ الْأَعْوَانِ الَّذِينَ يُوَجِّهُهُمْ فِي مَصَالِحِ النَّاسِ وَرَفْعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ يَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَالْحُكْمِ فِي أَرْزَاقِ الْقُضَاةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ شَيْئًا فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا كَانَ لَهُمْ رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ شَيْءٍ عَلَى الْقَضَايَا الَّتِي يُبْعَثُونَ فِيهَا كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْقُضَاةِ أَخْذُ شَيْءٍ، فَإِنْ لَمْ يُصْرَفْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَقَّعَ الْقَاضِي لِلطَّالِبِ طَابَعًا يُرْفَعُ بِهِ الْخَصْمُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يُرْفَعْ وَاضْطُرَّ إلَى الْأَعْوَانِ فَلْيَجْعَلْ الْقَاضِي لَهُمْ شَيْئًا مِنْ رِزْقِهِ إذَا أَمْكَنَهُ وَقَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ وَالْمُسْتَأْجَرُ عَلَى النُّهُوضِ فِي إحْضَارِ الْمَطْلُوبِ وَرَفْعِهِ فَيَتَّفِقُ مَعَ الْعَوِينِ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ لَدَدُ الْمَطْلُوبِ بِالطَّالِبِ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ الْحُضُورِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُ، فَإِنَّ أُجْرَةَ الْعَوِينِ الَّذِي يُحْضِرُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ الْعَوِينُ وَالْمُدَّعِي عَلَى شَيْءٍ وَأَحْضَرَهُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُنْيَةِ " أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَجْلِسِ الَّذِي نَصَّبَهُ الْقَاضِي لِإِجْلَاسِ النَّاسِ وَإِقْعَادِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُدَّعِي شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُ بِإِقْعَادِ الشُّهُودِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ الْعَدْلِيَّيْنِ الدَّانِقَيْنِ مِنْ الدَّرَاهِمِ الرَّائِجَةِ فِي زَمَانِنَا، وَلِلْوُكَلَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا مِمَّنْ يَعْمَلُونَ لَهُ مِنْ الْمُدَّعِينَ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لَا يَأْخُذُوا لِكُلِّ مَجْلِسٍ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمَيْنِ، وَالرَّجَّالَةُ يَأْخُذُونَ أُجُورَهُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُونَ لَهُ وَهُمْ الْمُدَّعُونَ، لَكِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ فِي الْمِصْرِ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ إلَى دِرْهَمٍ، وَإِذَا خَرَجُوا إلَى الرَّسَاتِيقِ لَا يَأْخُذُونَ بِكُلِّ فَرْسَخٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةٍ، هَكَذَا وَضَعَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَتْقِيَاءُ الْكِبَارُ وَهِيَ أُجُورُ أَمْثَالِهِمْ. قَالَ فِي شَرْحِ السَّرَخْسِيِّ لِأَدَبِ الْقَاضِي: الْقَاضِي إذَا بَعَثَ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِعَلَامَةٍ فَعُرِضَتْ عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَبْعَثُ إلَيْهِ ثَانِيًا وَيَكُونُ مُؤْنَةُ الرَّجَّالَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ عَلَى الْمُدَّعِي شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ التَّرْجُمَانِيُّ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ مُؤْنَةَ الرَّجَّالَةِ عَلَى الْمُدَّعِي فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا امْتَنَعَ فَعَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَائِنُ هَذَا اسْتِحْسَانٌ مَالَ إلَيْهِ لِلزَّجْرِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُدَّعِي فِي الْحَالَيْنِ لِحُصُولِ النَّفْعِ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبِيحَ لِلنَّاسِ الرُّكُوبَ مَعَهُ إلَّا فِي حَاجَةٍ أَوْ رَفْعِ مَظْلِمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَرْكَبَ لِيَنْظُرَ إلَى شَيْءٍ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فِيمَا قَدْ تُشُوجِرَ فِيهِ عِنْدَهُ وَاخْتَلَطَ فِيهِ الْأَمْرُ وَطَالَتْ فِيهِ الْخُصُومَةُ

فصل فيما يتعلق بمجلس القاضي ومسكنه

وَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِمُعَايَنَتِهِ، وَقَدْ يَكْثُرُ هَذَا فِي بَابِ دَعْوَى الضَّرَرِ. وَقَدْ رَكِبَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي أَمْرٍ لِيَنْظُرَ فِيهِ فَذُكِرَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَحَكَمَ فِيهِ، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْثِرَ الدِّخَالَ عَلَيْهِ وَالرِّكَابَ مَعَهُ وَلَا مَنْ بِحَضْرَتِهِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ كَانَتْ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ أَمَانَةٍ وَنَصِيحَةٍ وَفَضْلٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ كَبُرَتْ نَفْسُهُ وَعَظُمَ عِنْدَهُ سُلْطَانُهُ. وَيَكْفِي الْقَاضِيَ فِي مَعْرِفَتِهِ قُبْحَ حَالِ الرَّجُلِ أَنْ يَصْحَبَهُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا دَفْعِ مَظْلِمَةٍ وَلَا خُصُومَةٍ، وَحَقٌّ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَلْزَمُونَ ذَلِكَ لِاسْتِئْكَالِ أَمْوَالِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ يُرُونَ النَّاسَ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ الْقَاضِي مَنْزِلَةً وَلِهَذَا قَالُوا: مَنْ تَرَدَّدَ إلَى الْقَاضِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ فَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَجْلِسُ فِي دِهْلِيزِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَأْكَلَةً لِلنَّاسِ وَحِيلَةً عَلَيْهِمْ، وَلَا يُبِيحُ مَجْلِسَهُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَيَّنَ فِيهِ لِمُجَالَسَتِهِ أَوْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ خُلُقِ الْمُسْتَأْكِلِينَ، وَإِنَّمَا يُجَالِسُهُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُدُولُ الَّذِينَ يَحْتَاجُ إلَى فِقْهِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَرَى أَنَّ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً مِثْلَ أَنْ يَدْعُوَ شَخْصًا مُعَيَّنًا لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّجْرِيحِ وَالشَّهَادَةِ وَالْكَشْفِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْغِيَ بِأُذُنِهِ لِلنَّاسِ فِي النَّاسِ فَيَفْتَحُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ شَرًّا عَظِيمًا، وَتَفْسُدُ عَقِيدَتُهُ فِي أَهْلِ الْفَضْلِ الْبُرَآءِ مِمَّا قِيلَ فِيهِمْ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يُخْبِرُهُ بِمَا يَقُولُ النَّاسُ فِي أَحْكَامِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسِيرَتِهِ وَشُهُودِهِ، فَإِذَا أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ فَحَصَ عَنْهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قُوَّةً عَلَى أَمْرِهِ. [فَصْل فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي وَمَسْكَنِهِ] الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَجْلِسِهِ وَمَسْكَنِهِ وَذَلِكَ أُمُورٌ مِنْهَا: أَنْ يَجْلِسَ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي وَأَسْهَلُ لِلنَّاسِ لِلدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَأَجْدَرُ أَنْ لَا يُحْجَبَ عَنْهُ أَحَدٌ وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَالنَّجَاسَةُ فِي اعْتِقَادِهِ لَا عَلَى ظَاهِرِ بَدَنِهِ فَلَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالْحَائِضُ مُسْلِمَةٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَحْتَرِزُ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَتُخْبِرُ أَنَّهَا حَائِضٌ، فَإِذَا أَخْبَرَتْ الْقَاضِيَ لَا يُكَلِّفُهَا دُخُولَ الْمَسْجِدِ، لَكِنْ يَخْرُجُ إلَيْهَا أَوْ يَأْتِي إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَيَنْظُرُ فِي خُصُومَتِهَا، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ الْخُصُومَةُ فِي الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إحْضَارُهَا فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ يَخْرُجُ الْقَاضِي لِسَمَاعِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْإِشَارَةِ إلَيْهَا، فَكَذَا هَذَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) : يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ؛ لِأَنَّ فِي الْخُصُومِ الْغُرَبَاءَ وَأَهْلَ الْبَلْدَةِ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَشْهَرُ الْمَوَاضِعِ وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي بَيْتِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ، وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَيُجْلِسَ مَعَهُ مَنْ كَانَ يَجْلِسُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَلَسَ وَحْدَهُ تَتَمَكَّنُ فِيهِ تُهْمَةُ الْمِيلِ. وَإِذَا دَخَلَ الْقَاضِي الْمَسْجِدَ هَلْ يُسَلِّمُ عَلَى النَّاسِ؟ قِيلَ إنْ سَلَّمَ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ تَرَكَ وَسِعَهُ لِتَبْقَى الْهَيْبَةُ وَتَكْثُرَ الْحِشْمَةُ، وَبِهَذَا جَرَى الرَّسْمُ أَنَّ الْوُلَاةَ وَالْأُمَرَاءَ إذَا دَخَلُوا لَا يُسَلِّمُونَ لِتَبْقَى الْهَيْبَةُ وَتَكْثُرَ الْحِشْمَةُ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْخَصَّافُ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ وَلَا يَسَعُهُ التَّرْكُ، وَهَكَذَا الْوَالِي وَالْأَمِيرُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَا يَسَعُهُ تَرْكُ السُّنَّةِ لِلْعَمَلِ فَأَمَّا إذَا جَلَسَ نَاحِيَةً مِنْ الْمَسْجِدِ لِلْفَصْلِ وَالْحُكْمِ لَا يُسَلِّمُ عَلَى الْخُصُومِ وَلَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ " اُنْظُرْ الْمُحِيطَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَسْكَنُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَسْطَ الْبَلَدِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الْقَصْدُ إلَيْهِ.

فصل في سيرة القاضي في الأحكام

وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَجْلِسَ عَلَى حَالِ تَشْوِيشٍ مِنْ جُوعٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ هَمٍّ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ يَسْرُعُ مَعَ الْجُوعِ، وَالْفَهْمُ يَنْطَفِئُ مَعَ الشِّبَعِ، وَالْقَلْبُ يَشْتَغِلُ مَعَ الْهَمِّ، فَمَهْمَا عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَجْلِسْ لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ عَرَضَ فِي الْمَجْلِسِ انْصَرَفَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْرِعَ الْقِيَامَ تَشَاغُلًا بِمَا يُرِيدُ أَنْ يُؤْثِرَ مِنْ حَوَائِجِهِ، فَإِنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُومَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَقْضِي مَاشِيًا؛ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ رَأْيَهُ وَيُخِلُّ فَهْمَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ مُتَرَبِّعًا فِي مَجْلِسِ الْأَحْكَامِ، وَلَا بَأْسَ مُتَّكِئًا؛ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ يُزِيدُ فِي الْفَهْمِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَتَضَاحَكُ فِي مَجْلِسِهِ، وَيَلْزَمُ الْعُبُوسَ مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ، وَيَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَتَشَاغَلُ بِالْحَدِيثِ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ إذَا أَرَادَ بِذَلِكَ اجْتِمَاعَ نَفْسِهِ وَإِذَا وَجَدَ الْفَتْرَةَ فَلْيَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَدْخُلْ بَيْتَهُ أَوْ يَدْفَعْ النَّاسَ عَنْهُ. مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُكْثِرُ مِنْ الْقَضَاءِ جِدًّا حَتَّى يَأْخُذَهُ النُّعَاسُ وَالضَّجَرُ، فَإِنَّهُ إذَا عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ أَحْدَثَ مَا لَا يَصْلُحُ، وَيَجْلِسُ طَرَفَيْ النَّهَارِ مَا اسْتَطَاعَ. [فَصْل فِي سِيرَة الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ] الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي سِيرَتِهِ فِي الْأَحْكَامِ وَيَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ أُمُورٌ قَالَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي حَتَّى لَا يَشُكَّ أَنْ قَدْ فَهِمَ فَإِمَّا أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ قَدْ فَهِمَ وَيَخَافَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ فَهِمَ لِمَا يَجِدُ مِنْ الْحَيْرَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ يَجِدُ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْقَضِيَّةَ إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً فَيَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهَا فِي الْبَاطِنِ وَيَسْتَعِينُ بِذَلِكَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ. وَمِنْهَا: لَا يُفْتِي الْقَاضِي فِي مَسَائِلِ الْخُصُومَاتِ لِأَهْلِ بَلَدِهِ لِئَلَّا يَحْتَرِزَ الْخَصْمُ بِبَاطِلٍ وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَلَا بَأْسَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَقْضِي الْقَاضِي إلَّا بِحَضْرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَشُورَتِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِنَبِيِّهِ {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَغْنِيًا عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ سُنَّةً لِلْحُكَّامِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إلَّا أَنْ يَخَافَ الْمَضَرَّةَ فِي جُلُوسِهِمْ وَيَشْتَغِلَ قَلْبُهُ بِهِمْ وَبِالْحَذَرِ مِنْهُمْ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي فَهْمِهِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَجْلِسُوا إلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي مَجْلِسِهِ مَنْ يُشْغِلُهُ عَنْ النَّظَرِ كَانُوا أَهْلَ فِقْهٍ أَوْ غَيْرَهُمْ، وَلَكِنْ إذَا ارْتَفَعَ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ شَاوَرَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا أُشْكِلَ عَلَى الْقَاضِي أَمْرٌ تَرَكَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِالصُّلْحِ. وَقَالُوا: قَدْ يُشْكَلُ عَلَى الْقَاضِي كَلَامُ الْخَصْمَيْنِ، وَهَذَا مَانِعٌ لَهُ مِنْ التَّصَوُّرِ فَيَأْمُرُهُمَا بِالْإِعَادَةِ حَتَّى يَفْهَمَ عَنْهُمَا، وَقَدْ يَفْهَمُ عَنْهُمَا وَيُشْكَلُ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحُكْمِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: " وَإِذَا أُشْكِلَ عَلَى الْقَاضِي أَمْرٌ تَرَكَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْحُكْمِ بِاتِّفَاقٍ "، ثُمَّ لِلْقَاضِي حِينَئِذٍ أَنْ يُرْشِدَهُمَا لِلصُّلْحِ. قَالُوا: وَالْأَقْرَبُ إنْ كَانَ هُنَاكَ قَاضٍ غَيْرَهُ صَرَفَهُمَا إلَيْهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يُشْكَلَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلْدَةِ غَيْرُهُ أَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ إنْ كَانَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الصُّلْحُ. وَإِذَا أُشْكِلَ عَلَى الْقَاضِي وَجْهُ الْحَقِّ أَمَرَهُمْ بِالصُّلْحِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ فَلَا يَعْدِلُ إلَى الصُّلْحِ وَلْيَقْطَعْ بِهِ، فَإِنْ خَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ أَقَامَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ. وَقَدْ أَقَامَ بَعْضُ قُضَاةِ الْعَدْلِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ

فصل فيما يبتدئ القاضي بالنظر فيه

رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي جِيرَانِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَقَالَ: اُسْتُرَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا وَلَا تُطْلِعَانِي عَلَى سِرِّكُمَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: رُدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ الضَّغَائِنَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ بِالصُّلْحِ إذَا تَقَارَبَ الْحُجَّتَانِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ تَكُونُ الدَّعْوَى فِي أُمُورٍ دَرَسَتْ وَتَقَادَمَتْ وَتَشَابَهَتْ. وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ مَوْضِعُ الظَّالِمِ مِنْ الْمَظْلُومِ لَمْ يَسَعْهُ مِنْ اللَّهِ إلَّا فَصْلُ الْقَضَاءِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا طَالَ الْخِصَامُ فِي أَمْرٍ وَكَثُرَ التَّشْغِيبُ فِيهِ فَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُمَزِّقَ كُتُبَهُمْ إذَا رَجَا بِذَلِكَ تَقَارُبَ أَمْرِهِمْ، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَهَذَا إذَا حَكَمَ الْقَاضِي لِرَجُلَيْنِ بِقَضَاءَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَقُومَانِ عِنْدَ قَاضٍ غَيْرِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَاضِي فِي الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ أَنَّهُ لَهُ. قَالَ: فَحَائِزُهُ مِنْهُمَا أَوْلَى بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَائِزُ قَدْ حُكِمَ لَهُ بِهِ أَوَّلًا وَفِي قَضِيَّةِ الثَّانِي مَا يَنْسَخُ ذَلِكَ، فَتُرَدُّ قَضِيَّةُ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَحُزْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَوْ لَمْ يُعْلَمْ الْأَوَّلُ مِنْ الْآخِرِ، فَأَعْدَلُهُمَا بَيِّنَةً، فَإِنْ تَكَافَأَتَا وَالْقَضِيَّتَانِ مُؤَرَّخَتَانِ فَأُولَاهُمَا أَوْلَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الثَّانِيَةِ مَا يَنْسَخُهَا، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُؤَرَّخَةً دُونَ الْأُخْرَى فَالْمُؤَرَّخَةُ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَارِيخٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأُشْكِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْحَاكِمِ وَرَأَى أَنْ يَقْطَعَ الْقَضِيَّتَيْنِ وَيَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ فَعَلَ، وَهَذَا إذَا كَانَتَا جَمِيعًا صَوَابًا، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا خَطَأً فَلَا إشْكَالَ فِي رَدِّ مَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ خَطَأً. [فَصْل فِيمَا يَبْتَدِئُ الْقَاضِي بِالنَّظَرِ فِيهِ] الْفَصْلُ الْخَامِسُ: " فِيمَا يَبْتَدِئُ بِالنَّظَرِ فِيهِ " وَيَلْزَمُهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْكَشْفُ عَنْ الشُّهُودِ وَالْمُوَثَّقِينَ فَيَعْرِفُ حَالَ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ مِنْهُمْ وَيَفْحَصُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ عَدْلًا أَثْبَتَهُ، وَمَنْ فِيهِ جُرْحَةٌ أَسْقَطَهُ وَأَرَاحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَذِيَّتِهِ. وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ غَيْرَ الْمَرْضِيِّ يَنْتَصِبُ لِلنَّاسِ فَإِنَّهَا خَدِيعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَوَصْمَةٌ فِي شَعَائِرِ الدِّينِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَرِّحَ بِعَزْلِ هَؤُلَاءِ، وَيُسَجِّلَ عَلَى شَاهِدِ الزُّورِ كِتَابًا مُخَلَّدًا. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَشْفُ عَنْ الْمَحْبُوسِينَ فَيَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ وَفِي مُدَّةِ إقَامَتِهِمْ فِي الْحَبْسِ، فَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ طَالَتْ إقَامَتُهُ فَتَكُونُ إقَامَتُهُ فِي الْحَبْسِ ظُلْمًا لَهُ. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْأَوْصِيَاءِ وَأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ، وَيَأْمُرُ مَنْ يُنَادِي عَنْ إذْنِهِ إنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَى كُلِّ يَتِيمٍ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَعَلَى كُلِّ سَفِيهٍ مُسْتَوْجِبِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَلْيَرْفَعْ أَمْرَهُمَا إلَيْنَا نُوَلِّ عَلَيْهِ وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمَا بَعْدَ النِّدَاءِ فَهُوَ مَرْدُودٌ. [فَصْل فِي سِيرَةِ الْقَاضِي مَعَ الْخُصُومِ] الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي سِيرَتِهِ مَعَ الْخُصُومِ وَيَنْبَغِي لَهُ أُمُورٌ. مِنْهَا: أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ إلَيْهِمَا وَالتَّكَلُّمِ مَعَهُمَا مَا لَمْ يَلِدَّ أَحَدُهُمَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسُوءَ نَظَرُهُ إلَيْهِ تَأْدِيبًا لَهُ وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ اللَّدَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ فَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَحُضُّهُمَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُحَاكَمَةِ عَلَى التَّوَدُّدِ وَالْوَقَارِ، وَيُسَكِّنُ جَأْشَ الْمُضْطَرِبِ مِنْهُمَا، وَيُؤَمِّنُ رَوْعَ الْخَائِفِ وَالْحَصْرِ فِي الْكَلَامِ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَيُقْعِدُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ضَعِيفَيْنِ كَانَا أَوْ قَوِيَّيْنِ، أَوْ ضَعِيفٌ مَعَ قَوِيٍّ، وَلَا يُقَرِّبُ أَحَدَهُمَا إلَيْهِ، وَلَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ دُونَ خَصْمِهِ، وَلَا يَمِيلُ إلَى أَحَدِهِمَا بِالسَّلَامِ فَيَخُصُّهُ بِهِ وَلَا بِالتَّرْحِيبِ، وَلَا يَرْفَعُ مَجْلِسَهُ، وَلَا يَسْأَلُ أَحَدَهُمَا عَنْ حَالِهِ وَلَا عَنْ خَبَرِهِ، وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمَا فِي مَجْلِسِهِمَا ذَلِكَ، وَلَا يُسَارُّهُمَا جَمِيعًا وَلَا أَحَدَهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجَرِّئُهُمَا عَلَيْهِ وَيُطْمِعُهُمَا فِيهِ، وَمَا جَرَّ إلَى التَّهَاوُنِ بِحُدُودِ اللَّهِ فَمَمْنُوعٌ. وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ

أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَهُوَ الطَّالِبُ فَلَا يَحْكُمُ لَهُ وَلَا يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَتَسَاوَيَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى بِالْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَطْلُوبَ قَالَ الْقَاضِي لِلْمُسْلِمِ: إمَّا أَنْ تُسَاوِيَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَإِلَّا نَظَرْت لَهُ وَسَمِعْت مِنْهُ وَلَمْ أَلْتَفِتْ إلَيْك وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْك، فَإِنْ فَعَلَ نَظَرَ لَهُ. وَقِيلَ لَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجْلِسِ» وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ أَشْيَاخِي تَمْيِيزَ رُتْبَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُسَاوَى بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي الْمَجْلِسِ. وَذُكِرَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَاصَمَ يَهُودِيًّا عِنْدَ الْقَاضِي شُرَيْحٍ، فَجَلَسَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ وَجَلَسَ شُرَيْحٌ وَالذِّمِّيُّ دُونَهُ، وَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ مُسَاوَاتِهِمْ فِي الْمَجْلِسِ لَجَلَسْت مَعَهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَرَى أَنْ يَجْلِسَا جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَتَقَدَّمُهُ الْمُسْلِمُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ لَا فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ وَلَا فِي خَلْوَتِهِ وَلَا وَحْدَهُ وَلَا فِي جَمَاعَةٍ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ خَاصًّا حَتَّى تَنْقَضِيَ خُصُومَتُهُمَا إلَّا أَنْ يَجْلِسَ خَارِجًا فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يَجْلِسُ النَّاسُ مَعَهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ قَضَائِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فِيهِ إنْ شَاءَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيِّفَ أَحَدَهُمَا أَوْ يَخْلُوَ مَعَهُ أَوْ يَقِفَ مَعَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيْهِ سُوءَ الظَّنِّ بِهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ اللَّدَدُ مِنْ الْخَصْمِ الْغَائِبِ أَوْ لَا يَعْرِفَ وَجْهَ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُلَقِّنُ أَحَدَهُمَا حُجَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَعَانَ أَحَدَهُمَا يُضْعِفُ الْآخَرَ فَيَعْجِزُ عَنْ الْإِدْلَاءِ بِحُجَّتِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْخُصُومِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَأَنْ يُقَدِّمَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمَضْرُورِينَ وَمَنْ لَهُ مُهِمٌّ يَخْشَى فَوَاتَهُ، فَإِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ مَنْ يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ وُصُولِهِمْ وَيَدْعُو الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ " اُنْظُرْ التَّجْرِيدَ ". قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يَبْدَأُ بِالْأَسْبَقِ فَالْأَسْبَقِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الْأَوَّلَ يُقَدَّمُ فِي خِصَامِهِ مَعَ وَاحِدٍ فَقَطْ لَا فِي سَائِرِ مَطَالِبِهِ مَعَ خُصُومِهِ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ سَبَقَ بِخَصْمَيْنِ سَائِرَ الْمُتَخَاصِمِينَ فَفَرَغَ مِنْ طَلَبِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَ الْآخَرَ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَطُولُ وَلَا يَضُرُّ بِالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ خَاصَمَ الْأَوَّلَ وَطَالَ خِصَامُهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَقِّ الَّذِينَ بَعْدَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ وَرُبَّمَا كَانَ خِصَامُ الِاثْنَيْنِ كَخِصَامِ وَاحِدٍ تَطُولُ مَعَهُ مُخَاصَمَتُهُ. وَمِنْهَا: إذَا قَرَّرَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى مَا يَدَّعِيه أَلْزَمَهُ الْجَوَابَ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجَوَابِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: إذَا شَتَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ زَجَرَهُ، فَإِذَا أَسْرَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: " لَهُ يَا ظَالِمُ يَا فَاجِرُ وَنَحْوِ ذَلِكَ " زَجَرَهُ عَنْهُ، وَيَضْرِبُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ظَنَّهُ مِنْ ذِي مُرُوءَةٍ فَيَنْهَاهُ. وَمِنْهَا: إذَا قَالَ الْخَصْمُ لِلشَّاهِدِ " شَهِدْت عَلَيَّ بِالزُّورِ " وَقَصَدَ أَذَاهُ نَكَّلَ بِقَدْرِ حَالِهِمَا، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا عَنِيَ أَنَّ الَّذِي شَهِدْت عَلَيَّ بَاطِلٌ لَمْ يُعَاقَبْ يَعْنِي: أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ أَدَّى الدَّيْنَ الْمَشْهُودَ بِهِ عَلَيْهِ مَثَلًا وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى الْأَدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يُؤَدَّبُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ إذَا أَسَاءَ عَلَى الشُّهُودِ وَأَهْلِ الْفَتْوَى أَوْ عَرَضَ لَهُمْ بِمَا يُؤْذِيهِمْ أَدَبًا مُوجِعًا. وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْمُرَ الْخَصْمَيْنِ إذَا جَاءَ الشُّهُودُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِالسُّكُوتِ، وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَا لِلشُّهُودِ بِتَوْبِيخٍ وَلَا بِعَيْبٍ فَإِنْ فَعَلَا ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ أَحَدُهُمَا بَعْدَ النَّهْيِ أُدِّبَ بِحَسَبِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ. وَمِنْهَا: إذَا نَهَى الْحَاكِمُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَنْ الْكَلَامِ وَلَمْ يَفْعَلْ وَأَتَى بِالْحُجَجِ لِيَخْلِطَ عَلَى صَاحِبِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَيُكْثِرَ مُعَارَضَتَهُ فِي كَلَامِهِ، أَمَرَ الْقَاضِي بِأَدَبِهِ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَمْنَعَ ذَاتَ الْجَمَالِ وَالْمَنْطِقِ الرَّخِيمِ أَنْ تُبَاشِرَ الْخُصُومَةَ وَيَأْمُرَهَا أَنْ تُوَكِّلَ وَكِيلًا. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةُ: إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى امْرَأَةٍ شَابَّةٍ لَهَا جَمَالٌ وَيَخَافُ عَلَيْهَا إنْ تَكَلَّمَتْ أَنْ يُؤَدِّيَ سَمَاعُ كَلَامِهَا إلَى الشَّغَفِ بِهَا فَإِنَّهَا تُؤْمَرُ بِأَنْ تُوَكِّلَ، وَلَا يَكُونُ مِنْ حَقِّ الْخَصْمِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهَا وَهِيَ بِدَارِهَا تُخَاطِبُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرِهَا مَنْ بَعَثَهُ الْقَاضِي إلَيْهَا مِمَّنْ يُؤْمَنُ فِي دِينِهِ فَعَلَ. وَمِنْهَا: أَنْ يُجِيبَ الْغَرِيمَ إذَا سَأَلَهُ رَفْعَ غَرِيمِهِ إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ بَعِيدًا لَمْ يُؤْمَرْ بِرَفْعِهِ حَتَّى يَتَرَجَّحَ جَانِبُهُ وَلَوْ بِإِخْبَارِ شَاهِدٍ. وَمِنْهَا: إذَا لَمَزَهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِمَا يَكْرَهُ فَقَالَ لَهُ ظَلَمْتنِي وَأَرَادَ أَذَاهُ فَلْيُعَزِّرْهُ إنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَالْعُقُوبَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَمْثَلُ مِنْ الْعُقُوبَةِ، وَهَذَا فِي اللَّمْزِ وَأَمَّا إذَا صَرَّحَ بِالْإِسَاءَةِ عَلَى الْقَاضِي فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ يَجِبُ تَأْدِيبُ الْقَائِلِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا أَدْلَى بِهِ الْخَصْمَانِ يَسْأَلُهُمَا، وَهُوَ شَأْنُ حُكَّامِ الْعَدْلِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْخَصَّافُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَكَتَ عَنْهُمَا حَتَّى يَنْطِقَ أَحَدُهُمَا وَيَسْتَدْعِيَ مِنْ الْقَاضِي الْجَوَابَ، وَإِنْ شَاءَ سَأَلَهُمَا جَمِيعًا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فَقَالَ: مَالَكُمَا أَوْ مَا حَاجَتُكُمَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ، " كَذَا فِي الْمُحِيطِ ". وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ لَا يَسْأَلُ الْخَصْمَيْنِ إذَا دَخَلَا عَلَيْهِ مَنْ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا، بَلْ يَسْكُتُ حَتَّى يَبْدَأَ أَحَدُهُمَا بِالْكَلَامِ، وَلَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِسُؤَالٍ، فَإِنَّ سُؤَالَ أَحَدِهِمَا يُشْعِرُ بِعِنَايَةِ الْقَاضِي بِهِ وَقَبُولِهِ عَلَيْهِ دُونَ خَصْمِهِ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ بَيْنَهُمَا فِي مَدْخَلِهِمَا إلَيْهِ فَلَا يَأْذَنُ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَفِي مَخْرَجِهِمَا عَنْهُ فَلَا يَصْرِفُ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَفِي لَحْظِهِ وَقَبُولِهِ بِوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا، وَفِي كَلَامِهِ لَهُمَا. وَقَدْ نَزَلَ ضَيْفٌ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَخُوصِمَ عِنْدَهُ، فَأَمَرَ ضَيْفَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ مِنْ مَنْزِلِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَبْدَؤُهُمَا بِالسُّؤَالِ فَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: لَسْت مُدَّعِيًا أَقَامَهُمَا حَتَّى يَأْتِيَ أَحَدُهُمَا بِخَصْمِهِ فَيَكُونُ هُوَ الطَّالِبَ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِيمَنْ هُوَ الْمُدَّعِي نُظِرَ إلَى الْجَالِبِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ أَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَعَا صَاحِبَهُ إلَى الْحَاكِمِ أَمَرَهُمَا بِالِانْصِرَافِ، فَمَنْ أَبَى إلَّا الْمُحَاكَمَةَ فَهُوَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ تَنَازَعَا مَعًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا. وَمِنْهَا: أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَ إلَّا بِإِذْنِ الْمُدَّعِي، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَحْلِيفَهُ مِنْ الْقَاضِي. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى آخَرَ بِثَلَاثِينَ دِينَارًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَاسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَقَالَ الطَّالِبُ: لَمْ آذَنْ فِي هَذَا الْيَمِينِ وَلَمْ أَرْضَ بِهَا. وَلَا بُدَّ أَنْ تُعَادَ الْيَمِينُ، فَأَمَرَ الْقَاضِي غُلَامَهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ الْمَطْلُوبِ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثِينَ دِينَارًا كَرَاهَةَ أَنْ يُكَلِّفَهُ إعَادَةَ الْيَمِينِ الَّتِي قُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا، وَإِذَا اسْتَحْلَفَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْمَحْلُوفِ لَهُ أَوْ وَكِيلِهِ. وَمِنْهَا إذَا ذَكَرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ كَلَّفَ الْخَصْمَ الْجَوَابَ عَنْهَا مَكَانَهُ إنْ فَهِمَهَا وَأَحَاطَ بِهَا عِلْمًا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا إشْكَالٌ أَوْ طُولٌ أُمْهِلَ بِحِسَابِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: إذَا أَقَرَّ الْخَصْمُ كَتَبَ إقْرَارَهُ وَالتَّارِيخَ فِي رُقْعَةٍ وَأَمَرَ الْمُقِرَّ بِالْخُرُوجِ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يُرَاقِبَ أَحْوَالَ الْخُصُومِ عِنْدَ الْأَدَاءِ بِالْحُجَجِ وَدَعْوَى الْحُقُوقِ، فَإِنْ تَوَسَّمَ فِي أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ أَبْطَنُ شُبْهَةً أَوْ اتَّهَمَهُ بِدَعْوَى الْبَاطِلِ إلَّا أَنَّ حُجَّتَهُ فِي الظَّاهِرِ مُتَّجِهَةٌ وَكِتَابَ الْحَقِّ الَّذِي بِيَدِهِ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ دَعْوَاهُ فَلْيَتَلَطَّفْ الْقَاضِي فِي الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا تَوَهَّمَ فِيهِ، فَإِنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ كَثُرَتْ مُخَادَعَتُهُمْ وَاتُّهِمَتْ أَمَانَتُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ مَا يَقْدَحُ فِي دَعْوَاهُ فَحَسَنٌ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ بِالْمَوْعِظَةِ إنْ

رَأَى لِذَلِكَ وَجْهًا، وَيُخَوِّفُهُ اللَّهَ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) ، وَيُذَكِّرُهُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] فَإِنْ أَنَابَ وَإِلَّا أَمْضَى الْحُكْمَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنْ تَزَايَدَتْ عِنْدَهُ بِسَبَبِ الْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ شُبْهَةٌ فَلْيَقِفْ وَيُوَالِي الْكَشْفَ وَيُرَدِّدْهُ الْأَيَّامَ وَنَحْوَهَا، وَلَا يَعْجَلُ فِي الْحُكْمِ مَعَ قُوَّةِ الشُّبْهَةِ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى أَوْ تَنْتَفِي عَنْهُ الشُّبْهَةُ. وَمِنْهَا: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي مَوْعِظَةُ الْخَصْمَيْنِ وَتَعْرِيفُهُمَا بِأَنَّ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ فَإِنَّهُ خَائِضٌ فِي سَخَطِ اللَّهِ، وَمَنْ حَلَفَ لِيَقْتَطِعَ مَالَ أَخِيهِ بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَيَعِظُ الشُّهُودَ أَيْضًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ: إنَّمَا يَقْضِي عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ أَنْتُمَا بِشَهَادَتِكُمَا، وَإِنِّي مُتَوَقٍّ بِكُمَا مِنْ النَّارِ، فَاتَّقِيَا اللَّهَ وَالنَّارَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَهِّلَ إذْنَ الْبَيِّنَاتِ وَلَا يُمَطِّلُهُمْ فَيَتَفَرَّقُوا فَيَعْسُرُ جَمْعُهُمْ، وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى ضَجَرِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَيَتْرُكُ حَقَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بِالْمُصَالَحَةِ عَنْهُ لِمَا يُدْرِكُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَشْيَاخِي: وَلِهَذَا رَأَيْت بَعْضَ الْقُضَاةِ يَأْمُرُ أَوَّلَ جُلُوسِهِ بِإِدْخَالِ الْبَيِّنَةِ وَيَسْمَعُ مِنْهَا قَالَ: وَقَدْ قَالَ لِي مَنْ حَضَرَنِي مِمَّنْ عُنِيَ بِالْعِلْمِ: كَانَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِمَّنْ اُمْتُحِنَ بِالْخُصُومَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: نَقْلُ الْجِبَالِ عِنْدَهُ أَيْسَرُ مِنْ نَقْلِ الْبَيِّنَةِ: يَعْنِي إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا حَضَرُوا آنَسَهُمْ وَقَرَّبَهُمْ وَبَسَطَهُمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً قَيَّدَهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً سَأَلَهُمْ عَنْ بَقِيَّتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُجْمَلَةً سَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ عَامِلَةٍ أَعْرَضَ عَنْهَا إعْرَاضًا جَمِيلًا، وَأَعْلَمَ الْمُدَّعِيَ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى فِي الْأَشْيَاءِ التَّافِهَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي لَا يَتَشَاحُّ الْعُقَلَاءُ فِيهَا كَقِشْرِ سِمْسِمَةٍ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إذَا حَضَرَ عِنْدَهُ الْخَصْمَانِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِيَ عَنْ دَعْوَاهُ وَيَفْهَمُهَا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى لَا يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقٌّ أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ شَيْءٍ وَأَمَرَهُمَا بِالْخُرُوجِ عَنْهُ، وَإِنْ نَقَصَ مِنْ دَعْوَاهُ مَا فِيهِ بَيَانُ مَطْلَبِهِ أَمَرَهُ بِتَمَامِهِ، إنْ أَتَى بِإِشْكَالٍ أَمَرَهُ بِبَيَانِهِ، فَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى سَأَلَ الْمَطْلُوبَ عَنْهَا، فَإِنْ أَقَرَّ أَوْ أَنْكَرَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَبْهَمَ جَوَابَهُ أَمَرَهُ بِتَفْسِيرِهِ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْإِشْكَالُ عَنْهُ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ عَنْهُمَا إنْ كَانَ فِيهِ طُولٌ وَالْتِبَاسٌ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا قَرِيبًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَقْيِيدِهِ، وَلَا يَدَعُ الْحُكَّامُ أَحَدَ الْخُصُومِ بِذَلِكَ. قَالَ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ: " فَإِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ صَحِيحَةً لَا يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَوَابِهَا فِي الْقِيَاسِ حَتَّى يَسْأَلَ الْمُدَّعِيَ مِنْهُ ذَلِكَ لِكَيْ لَا يَكُونَ تَهْيِيجًا لِلْخُصُومَةِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَسْأَلُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَيْبَةَ الْمَجْلِسِ تَمْنَعُهُ، وَيُكَلَّفُ بِالْجَوَابِ بِلَا أَوْ نَعَمْ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ لَمَّا وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَهُوَ مِمَّنْ عَاصَرَ الشَّافِعِيَّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - "، قَصَدَهُ أَخَوَانِ كَانَا مِمَّنْ يَتَوَكَّلَانِ فِي أَبْوَابِ الْقُضَاةِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، فَقَالَ الْقَاضِي لِلْآخَرِ: أَجِبْهُ فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: وَمَنْ أَذِنَ لَك أَنْ تَسْتَدْعِيَ مِنِّي الْجَوَابَ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي: لَمْ آذَنْ لَك فِي ذَلِكَ، فَوَجَمَ الْقَاضِي، فَقَالَ لَهُ: إنَّا أَرَدْنَا نُعْلِمُك مَكَانَنَا مِنْ الْعِلْمِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهَذِهِ مُنَاقَشَةٌ لَيْسَ تَحْتَهَا كَبِيرُ فَائِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ جِهَةِ الْعَوَائِدِ وَشَوَاهِدِ الْحَالِ أَنَّ إحْضَارَ الْخَصْمِ وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ تُغْنِيه عَنْ النُّطْقِ بِسُؤَالِ الْقَاضِي. وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي اسْتِعْلَامُ مَا عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ إذْنٍ مِنْ الْمُدَّعِي، لَكِنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَقُومُ مَقَامَ سُؤَالِ الْقَاضِي، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرْته عَنْ التَّجْرِيدِ، وَأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْمُدَّعِي لِلْقَاضِي سَلْهُ لِي الْجَوَابَ اكْتِفَاءً بِشَاهِدِ الْحَالِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ الْمُدَّعِي وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ.

فصل في استخلاف القاضي

وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا ادَّعَى غَرِيمُهُ فَلَمْ يُجِبْهُ أَدَّبَهُ وَجَرَحَهُ إنْ كَانَ عَدْلًا، فَإِنْ تَغَيَّبَ شَدَّدَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي الطَّلَبِ، وَأُجْرَةُ الرَّسُولِ عَلَى الطَّالِبِ، فَإِنْ تَغَيَّبَ الْمَطْلُوبُ وَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ فَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُمْ الْأَوَّلُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ اسْتَهَانَ بِدَعْوَةِ الْحَاكِمِ وَلَمْ يُجِبْ ضُرِبَ تَأْدِيبًا. [فَصْل فِي اسْتِخْلَافِ الْقَاضِي] الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي اسْتِخْلَافِ الْقَاضِي وَإِذَا نَهَى الْإِمَامُ الْقَاضِيَ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ اسْتَخْلَفَ عَلَى مُقْتَضَى الْإِذْنِ. وَلَا يَسْتَخْلِفُ الْقَاضِي إذَا مَرِضَ أَوْ سَافَرَ إلَّا بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ؛ لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ إنَّمَا فَوَّضَ التَّصَرُّفَ إلَيْهِ بِرَأْيِهِ لَا بِرَأْيِ غَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إلَّا بِإِذْنِهِ، كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إلَّا بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ، وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ إذَا أَمَرَ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ خَلِيفَةً يَحْكُمُ فَأَمَرَ رَجُلًا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ جَازَ. فَإِنْ قَضَى خَلِيفَتُهُ وَلَمْ يَكُنْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أَجَازَ الْقَاضِي قَضَاءَهُ فَأَنْفَذَهُ نَفَذَ قَضَاؤُهُ. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ بِالتَّصَرُّفِ وَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ الثَّانِي جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجَازَهُ فَقَدْ حَصَرَ هَذَا التَّصَرُّفَ رَأْيَ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَأَنَّ الْأَوَّلَ تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ اسْتَخْلَفَ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَقَضَى الْخَلِيفَةُ فَأَجَازَهُ الْقَاضِي لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجَازَ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ، فَالْقَضَاءُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً اُسْتُقْضِيَتْ فَحَكَمَتْ بِأَشْيَاءَ جَازَ حُكْمُهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ اعْتِبَارًا لِلْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ. (فَصْلٌ) : وَلَوْ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ رَجُلًا يَسْمَعُ مِنْ الْخُصُومِ وَيُثْبِتُوا عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ وَيَكْتُبَ الْإِقْرَارَ وَلَا يَقْطَعَ حُكْمًا فَأَمَرَ الْقَاضِي رَجُلًا يَقُومُ بِذَلِكَ لَا يُجَاوَزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَوْ أَمَرَ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةَ وَيَكْتُبَ الْإِقْرَارَ وَلَا يَحْكُمَ بَلْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْخَلِيفَةِ حَتَّى يَقْضِيَ بِهِ الْخَلِيفَةُ كَانَ صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْخَلِيفَةِ، فَإِذَا رَفَعَ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يُعِيدُوا الشَّهَادَةَ بِحَضْرَةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ، فَإِنْ صَحَّتْ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ قَضَى بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ، وَهَذَا فَصْلٌ قَدْ غَفَلَ النَّاسُ عَنْهُ، فَإِنَّ نَائِبَ الْقَاضِي يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ وَيَكْتُبُ الْإِقْرَارَ وَيَبْعَثُ إلَى الْقَاضِي وَالْقَاضِي يَقْضِي بِذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُكَلِّفَهُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ لَا يَسْتَفِيدُ وِلَايَةَ الْحُكْمِ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ، فَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ كَيْفَ يَسْتَفِيدُ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ يَحْضُرُ الْمُقِرُّ وَالْمُقَرُّ لَهُ حَتَّى يُقِرَّ عِنْدَهُ بِالْحَقِّ ثُمَّ يَحْكُمَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ شَهِدُوا عِنْدَ خَلِيفَتِهِ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي ثُمَّ مَاتُوا أَوْ غَابُوا فَأَعْلَمَهُ خَلِيفَتُهُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عِنْدَهُ عَلَى كَذَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ عِنْدَ خَلِيفَتِهِ ثُمَّ جَحَدَ فَأَخْبَرَهُ خَلِيفَتُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ لِهَذَا بِكَذَا وَكَذَا لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ وَالْإِقْرَارَ لَمْ يَسْتَفِدْ وِلَايَةَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ كَانَ أَوْلَى إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَ خَلِيفَتِهِ غَيْرُهُ عَلَى إقْرَارِهِ فَيَقْبَلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَةِ " مِنْ الْمُحِيطِ ". (مَسْأَلَةٌ) : وَلَا يُشْتَرَطُ فِي نَائِبِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ بِصِفَاتِ الْقُضَاةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إلَّا إذَا كَانَ مُسْتَخْلَفًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهَا، وَإِنْ اُسْتُخْلِفَ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ مِثْلِ سَمَاعِ الشَّهَادَةِ وَالنَّقْلِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إلَّا مَعْرِفَتُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ خَاصَّةً. [فَصْل فِي التَّحْكِيمِ] الْفَصْلُ الثَّامِنُ {فِي التَّحْكِيمِ} وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ إذَا حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا وَارْتَضَيَاهُ لَأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

فصل فيما يصح فيه التحكيم وما لا يصح

وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلِأَنَّا مَتَى لَمْ نُجِزْ التَّحْكِيمَ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الْحُضُورُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَجَوَّزْنَا التَّحْكِيمَ لِلْحَاجَةِ. (فَصْلٌ) : فِيمَنْ يَصْلُحُ حَكَمًا وَمَنْ لَا يَصْلُحُ حَكَمًا وَكُلُّ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي أَمْرٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَكَمًا فِيهِ وَمَنْ لَا فَلَا، وَالْمَرْأَةُ تَصْلُحُ حَكَمًا، وَالصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْأَعْمَى لَا يَصْلُحُ حَكَمًا؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ فِي حَقِّ الْمُحَكَّمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي، وَكُلُّ مَنْ صَلَحَ شَاهِدًا صَلَحَ قَاضِيًا وَمَنْ لَا فَلَا ثُمَّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ فِي حَالَتَيْنِ: حَالَةِ التَّحْكِيمِ، وَوَقْتِ الْحُكْمِ، حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَقْتَ التَّحْكِيمِ ثُمَّ صَارَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَقْتَ الْحُكْمِ لَا يَصِيرُ حَكَمًا بِأَنْ حَكَّمَا عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ صَبِيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ أُعْتِقَ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ ثُمَّ حُكِّمَ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إذَا كَانَ شَاهِدًا وَقْتَ التَّحْكِيمِ وَلَمْ يَبْقَ شَاهِدًا وَقْتَ الْحُكْمِ لَا يَبْقَى حَكَمًا؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ فِي حَقِّهِمَا بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي، وَفِي الْقَاضِي يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَكَذَا هَذَا. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ مُعَلَّقًا بِالْخَطْبِ وَلَا مُضَافًا إلَى الْمُسْتَقْبَلِ، بِأَنْ قَالَ لِعَبْدٍ أَوْ ذِمِّيٍّ إنْ عَتَقْت أَوْ أَسْلَمْت فَاحْكُمْ بَيْنَنَا، أَوْ قَالَ لِآخَرَ: إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ فَاحْكُمْ. لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ. [فَصْلٌ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ التَّحْكِيمُ وَمَا لَا يَصِحُّ] (فَصْلٌ) : فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ التَّحْكِيمُ وَمَا لَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ التَّحْكِيمُ فِيمَا يَمْلِكَانِ فِعْلَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمَا وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا يَمْلِكَانِ - وَهُوَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى - حَتَّى يَجُوزَ التَّحْكِيمُ فِي الْأَمْوَالِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْقِصَاصِ وَتَضْمِينِ السَّرِقَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ؛ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ تَفْوِيضٌ وَالتَّفْوِيضُ يَصِحُّ بِمَا يَمْلِكُ الْمُفَوِّضُ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا يَمْلِكُ كَالتَّوْكِيلِ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ: وَلَا يَجُوزُ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ، فَكُلُّ مَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالصُّلْحِ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِ، وَمَا لَا فَلَا، وَحَدُّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُمَا بِالصُّلْحِ وَبِعَقْدٍ مَا فَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِمَا. وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ تَفْوِيضٌ وَتَوْلِيَةٌ فِي حَقِّهِمَا وَإِنْ كَانَ صُلْحًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَهُمَا يَمْلِكَانِ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فَيَصِحُّ تَفْوِيضُهُ إلَى غَيْرِهِمَا. (مَسْأَلَةٌ) : وَيَنْفُذُ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ نَحْوِ الْكِنَايَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لَكِنَّ شُيُوخَ الْمَذْهَبِ امْتَنَعُوا عَنْ الْفَتْوَى بِهَذَا لِئَلَّا يَتَجَاسَرَ الْعَوَامُّ فِيهِ. وَلَا يَجُوزُ حُكْمُهُ فِي الدَّمِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَمْ تَرْضَ بِهِ، وَحُكْمُ الْمُحَكَّمِ إنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى مَنْ يَرْضَى بِحُكْمِهِ، وَإِنْ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ، فَإِنَّ الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ خَطَأً فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ حُكْمُهُ بِالدِّيَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ بِالِاعْتِرَافِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُقِرِّ وَكَانَ حُكْمُهُ مُوَافِقًا فَنَفَذَ. [فَصْلٌ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ وَمَا لَا يَصِحُّ] (فَصْلٌ) : فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ وَمَا لَا يَصِحُّ حَكَّمَا رَجُلًا فَأَجَازَ الْقَاضِي حُكُومَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ، ثُمَّ حَكَمَ بِخِلَافِ رَأْيِ الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ تَحْكِيمَهُمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْقَاضِي فَتَكُونُ إجَازَتُهُ بَاطِلَةً. وَكَذَلِكَ إجَازَتُهُ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ إجَازَةُ الْمَعْدُومِ، وَإِذَا بَطَلَتْ إجَازَتُهُ وَقَدْ قَضَى بِخِلَافِ رَأْيِهِ كَانَ لِلْقَاضِي نَقْضُهُ اتَّفَقَا عَلَى حُكْمَيْنِ فَحُكْمُ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ

الركن الثاني من أركان القضاء المقضي به

الْقَضَاءَ: أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، وَهُمَا رَضِيَا بِرَأْيِهِمَا دُونَ رَأْيِ أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِالْقَضَاءِ كَوَكِيلَيْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَكَالْإِمَامِ إذَا فَوَّضَ الْقَضَاءَ إلَى اثْنَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِهِ، فَكَذَا هَذَا. (مَسْأَلَةٌ) : حَكَّمَا رَجُلًا مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَا: لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَنَا، وَقَالَ: حَكَمْت، فَالْحُكْمُ مُصَدَّقٌ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَكَى مَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَإِنْشَاءَهُ، فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ وَجُعِلَ إقْرَارُهُ كَأَنَّهُ إنْشَاءُ الْحُكْمِ، وَلَا يُصَدَّقُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ. [الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْقَضَاء الْمَقْضِيِّ بِهِ] " الْمَقْضِيُّ بِهِ، وَاجْتِهَادُ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ " يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ، وَإِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يَقْضِي بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] الْآيَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَصًّا يَقْضِي بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَالنَّظَرِ مَيَّزَ أَقَاوِيلَهُمْ وَرَجَّحَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ وَنَظَرَ إلَى أَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ وَأَقْرَبِهَا إلَى الصَّوَابِ وَأَحْسَنِهَا عِنْدَهُ وَقَضَى بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ قَوْلٌ وَكَانَ فِيهِ إجْمَاعُ التَّابِعِينَ قَضَى بِهِ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُخَالِفَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ يُرَجِّحُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ وَيَقْضِي بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الِاجْتِهَادِ قَاسَهُ عَلَى مَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ وَتَحَرَّى الصَّوَابَ ثُمَّ قَضَى بِرَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ يَسْتَفْتِي فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذُ بِفَتْوَى الْمُفْتِي وَلَا يَقْضِي بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَا يَسْتَحْيِي مِنْ السُّؤَالِ لِئَلَّا يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ» وَقَدْ تَقَدَّمَ، فَلَوْ قَاسَ مَسْأَلَةً عَلَى مَسْأَلَةٍ فَظَهَرَ خِلَافُهُ يَأْثَمُ إذْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ وَهُوَ مُتَعَدٍّ، فَالْخُصُومَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْقَاضِي. [فَصْلٌ تَفْسِيرِ الِاجْتِهَادِ وَأَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ] (فَصْلٌ) : لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ الِاجْتِهَادِ وَأَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ. . فَالِاجْتِهَادُ: بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْمَقْصُودِ، وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ: قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنُّصُوصِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ هَذَا هُوَ الشَّرْطُ فِي السَّلَفِ لِصَيْرُورَةِ الرَّجُلِ مُجْتَهِدًا، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْفُرُوعِ الَّتِي اسْتَخْرَجَهَا الْمُجْتَهِدُونَ بِرَأْيِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَ هَذَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى اجْتِهَادِ السَّلَفِ كَفُرُوعِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا لِلتَّسْهِيلِ عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ سَمِعَ عَامَّةَ ذَلِكَ وَتَفَقَّهَ فِيهِ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: مَنْ حَفِظَ الْمَبْسُوطَ وَمَذْهَبَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَإِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ هَذَا الْحَدَّ يَصِيرُ مُجْتَهِدًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، ثُمَّ إذَا اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَبَالَغَ فِيهِ هَلْ يَكُونُ مُصِيبًا عَلَى كُلِّ حَالٍ أَوْ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَيْهِ؟ قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ يُخْطِئُ وَقَدْ يُصِيبُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ فِيمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِأَنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ عَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمْ حُقُوقٌ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ يَكُونُ صَوَابًا فِي حَقِّهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ: الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَالِاجْتِهَادُ طَلَبُ ذَلِكَ الْحَقِّ، فَإِنْ وَجَدَهُ يَكُنْ مُصِيبًا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ يَكُنْ مُخْطِئًا ضَرُورَةً وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ

فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ حَلَالٌ وَحَرَامٌ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ مِنْ بَابِ التَّنَاقُضِ، فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الشَّرْعِ عَنْ التَّنَاقُضِ وَالْخَلَلِ مَتَى كَانَ ثَابِتًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ لِمَصْلَحَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَتِلْكَ الْمَصْلَحَةُ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْآخَرِ ظَاهِرًا يَكُونُ تَنَاقُضًا فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا وَعِنْدَ التَّنْصِيصِ بِالنَّقِيضَيْنِ فِي حَقِّ شَخْصَيْنِ يُعْرَفُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ اخْتِلَافُ الْمَصْلَحَةِ. فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ: لَا تَجُوزُ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّ شَخْصٍ آخَرَ مِثْلِهِ فِي الْحَالِ، فَالْمَصْلَحَةُ فِي حَقِّهِ ظَاهِرَةٌ وَلَا عِلْمَ لَنَا بِمَصْلَحَةٍ بَاطِنَةٍ يَكُونُ تَنَاقُضًا مِنْ الشَّرْعِ. ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ فَصْلَيْنِ [أَحَدُهُمَا] إذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي شَيْءٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُخَالِفَهُمْ بِرَأْيِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمْ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ صَاحِبَ حَدِيثٍ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: أَحْفَظُ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ مِنْ الْمَنْسُوخِ، فَإِذَا كَانَ يَحْفَظُ مِنْ الْمَنْسُوخِ هَذَا الْقَدْرَ فَمَا ظَنُّك بِالنَّاسِخِ، وَكَانَ صَاحِبَ فِقْهٍ وَمَعْنًى أَيْضًا. وَمُحَمَّدٌ صَاحِبُ قَرِيحَةٍ يَعْرِفُ أَحْوَالَ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ وَصَاحِبَ فِقْهٍ وَمَعْنًى، وَلِهَذَا قَلَّ رُجُوعُهُ فِي الْمَسَائِلِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْأَحَادِيثِ أَيْضًا. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ مُقَدَّمًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، إلَّا أَنَّهُ قَلَّتْ رِوَايَتُهُ لِمَذْهَبٍ خَاصٍّ لَهُ فِي بَابِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا تَحِلُّ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ إذَا كَانَ يَحْفَظُ الْحَدِيثَ مِنْ حِينَ سَمِعَ إلَى أَنْ يَرْوِيَ. [وَالثَّانِي] إذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: يُؤْخَذُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ التَّابِعِينَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى. وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الشُّيُوخِ: إذَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَفِيهِمَا أَبُو حَنِيفَةَ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي جَانِبٍ وَهُمَا فِي جَانِبٍ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ يَتَخَيَّرُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ يَسْتَفْتِ غَيْرَهُ فَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ. وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لَهُ: الْجَاهِلُ بِالْعِلْمِ إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِقَوْلِ أَحَدٍ أَخَذَ بِقَوْلِهِ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ فَقِيهَانِ كِلَاهُمَا رِضًا يَأْخُذُ عَنْهُمَا، فَإِنْ اخْتَلَفَا عَلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهُمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ أَصْوَبُهُمَا وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ فُقَهَاءَ وَاتَّفَقَ اثْنَانِ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى قَوْلِ الثَّالِثِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَتَّفِقْ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ اجْتَهَدَ هُوَ وَرَأْيُهُ فِيمَا أَفْتُوهُ فِيهِ، فَأَيُّهُمْ كَانَ أَصْوَبَ عِنْدَهُ قَوْلًا عَمِلَ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ النَّاطِفِيُّ: هَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَفْتَى عَالِمٌ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَفْتَى عَالِمٌ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَأَفْتَى عَالِمٌ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ أَوْ بِقَوْلِ زُفَرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلَا بِقَوْلِ مَالِكٍ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ الْقَاضِي إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ شَاوَرَهُمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] وَالْقَاضِي لَا يَكُونُ أَفْطَنَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَكَانَ رَأْيُهُ كَرَأْيِهِمْ فَصَلَ الْحُكْمَ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا نَظَرَ إلَى أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ مِنْ الْحَقِّ وَأَمْضَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُعْتَبَرُ السِّنُّ وَلَا كَثْرَةُ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ وَالْوَاحِدَ قَدْ يُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ فِي حَادِثَةٍ مَا لَا يُوَفَّقُ الْأَكْبَرُ وَالْجَمَاعَةُ. إمَّا لِكَثْرَةِ فِطْنَتِهِ وَحِفْظِهِ أَوْ لِجَوْدَةِ خَاطِرِهِ وَذَكَاءِ فَهْمِهِ - أَلَا يُرَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُشَاوِرُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ يَقُولُ لَهُ: غُصْ يَا غَوَّاصُ، وَكَانَ إذَا أَصَابَ يَقُولُ لَهُ: " شَنْشَنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخَزَمَ "، وَهَذَا مَثَلٌ تَذْكُرُهُ الْعَرَبُ لِمَنْ يُشْبِهُ أَبَاهُ، وَكَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِهِ، وَعُمَرُ أَكْبَرُ سِنًّا، فَإِذَا اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ الْبَلَدِ عَلَى شَيْءٍ وَكَانَ رَأْيُهُ خِلَافَ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْجَلَ بِالْحُكْمِ حَتَّى يَكْتُبَ فِيهِ إلَى غَيْرِهِمْ وَيُشَاوِرَهُمْ

فصل المقلد والمفتي يأخذ بقول ينسب إلى إمامه

ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى أَحْسَنِ ذَلِكَ فَيَعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَشُورَةَ بِالْكِتَابِ مِنْ الْغَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشُورَةِ بِالْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ، فَإِنْ وَافَقَ رَأْيَهُ رَأْيُهُمْ يَقْضِي بِهِ، وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَهُ رَأْيُهُمْ قَضَى بِرَأْيِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ رَأْيَهُ أَصْوَبُ عِنْدَهُ وَرَأْيَ غَيْرِهِ لَيْسَ بِصَوَابٍ فَيَقْضِي بِمَا عِنْدَهُ لَا بِمَا عِنْدَ غَيْرِهِ. فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الْقَاضِي شَيْءٌ فَشَاوَرَ فِيهِ فَقِيهًا يَنْظُرُ فِيهِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ فَيَأْخُذَ بِقَوْلِ الْمُفْتِي، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَرَأْيُهُ خِلَافُ رَأْيِ هَذَا الْفَقِيهِ يَقْضِي بِرَأْيِهِ؛ لِأَنَّ رَأْيَهُ صَوَابٌ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ أُمِرَ بِالْمَشُورَةِ فِي الِابْتِدَاءِ رَجَاءَ أَنْ يَنْضَمَّ رَأْيُ غَيْرِهِ إلَى رَأْيِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ فَلَا يَدَعْ رَأْيَهُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ، فَإِنْ قَضَى بِرَأْيِهِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ قَضَى بِرَأْيِ الْفَقِيهِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا: لَا يَنْفُذُ حَتَّى كَانَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَنْقُضَ قَضَاءَهُ " اُنْظُرْ الْمُحِيطَ. [فَصْلٌ الْمُقَلِّدِ وَالْمُفْتِي يَأْخُذُ بِقَوْلٍ يُنْسَبُ إلَى إمَامِهِ] (فَصْلٌ) : قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَتْ فَتْوَاهُ نَقْلًا لِمَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا اعْتَمَدَ فِي نَقْلِهِ عَلَى الْكُتُبِ أَنْ يَعْتَمِدَ إلَّا عَلَى كِتَابٍ مَوْثُوقٍ بِصِحَّتِهِ، وَجَازَ ذَلِكَ، كَمَا جَازَ اعْتِمَادُ الرَّاوِي عَلَى كِتَابِهِ، وَاعْتِمَادُ الْمُسْتَفْتِي عَلَى مَا يَكْتُبُهُ الْمُفْتِي وَيَحْصُلُ لَهُ الثِّقَةُ بِمَا يَجِدُهُ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهَا بِأَنْ يَرَاهُ كَلَامًا مُنْتَظِمًا وَهُوَ خَبِيرٌ فَطِنٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مَوَاقِعُ الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّغْيِيرِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَثِقْ بِصِحَّتِهِ نُظِرَ، فَإِنْ وَجَدَهُ مُوَافِقًا لِأُصُولِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَهْلٌ لِيُخَرِّجَ مِثْلُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ لَوْ لَمْ يَجِدْهُ مَنْقُولًا فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْكِيَهُ عَنْ إمَامِهِ فَلَا يَقُولُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ مَثَلًا كَذَا، وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ كَذَا وَكَذَا، وَلْيَقُلْ: وَجَدْت عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ بَلَغَنِي عَنْ الشَّافِعِيِّ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِيُخَرِّجَ مِثْلُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلَفْظٍ جَازِمٍ، فَإِنَّ سَبِيلَ مِثْلِهِ النَّقْلُ الْمَحْضُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يُجَوِّزُ لَهُ مِثْلَ مَا جَازَ لِلْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي غَيْرِ مَقَامِ الْفَتْوَى مُفْصِحًا بِحَالِهِ فِيهِ فَيَقُولُ: وَجَدْته فِي نُسْخَةٍ مِنْ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ أَوْ مِنْ كِتَابِ فُلَانٍ لَا أَعْرِفُ صِحَّتَهَا، أَوْ وَجَدْت عَنْ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ كَذَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتٍ. وَسُئِلَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ الْمُقَلِّدِ وَالْمُفْتِي يَأْخُذُ بِقَوْلٍ يُنْسَبُ إلَى إمَامِهِ وَلَا يَرْوِيهِ هَذَا الْمُفْتِي عَنْ صَاحِبِ مَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا حَفِظَهُ مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ وَهِيَ غَيْرُ مَرْوِيَّةٍ وَلَا مُسْنَدَةٍ إلَى مُؤَلِّفِهَا، فَهَلْ يَسُوغُ لِمَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ الْفُتْيَا أَمْ لَا؟ وَهُوَ سُؤَالٌ طَوِيلٌ فِيهِ مَسَائِلُ عَدِيدَةٌ. فَأَجَابَ عَنْ هَذَا الْفَصْلِ بِأَنْ قَالَ: وَأَمَّا الِاعْتِمَادُ عَلَى كُتُبِ الْفِقْهِ الصَّحِيحَةِ الْمَوْثُوقِ بِهَا فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَصْرِ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ قَدْ حَصَلَتْ بِهَا كَمَا تَحْصُلُ بِالرِّوَايَةِ، وَلِذَلِكَ قَدْ اعْتَمَدَ النَّاسُ عَلَى الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالطِّبِّ وَسَائِرِ الْعُلُومِ لِحُصُولِ الثِّقَةِ بِذَلِكَ وَبُعْدِ التَّدْلِيسِ. وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى الْخَطَإِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى بِالْخَطَإِ مِنْهُمْ، وَلَوْلَا جَوَازُ اعْتِقَادِ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ رَجَعَ الشَّرْعُ إلَى أَقْوَالِ الْأَطِبَّاءِ فِي صُوَرٍ، وَلَيْسَتْ كُتُبُهُمْ فِي الْأَصْلِ إلَّا عَنْ قَوْمٍ كُفَّارٍ، وَلَكِنْ لَمَّا بَعُدَ التَّدْلِيسُ فِيهَا اُعْتُمِدَ عَلَيْهَا كَمَا اُعْتُمِدَ فِي اللُّغَةِ عَلَى أَشْعَارِ كُفَّارٍ مِنْ الْعَرَبِ لِبُعْدِ التَّدْلِيسِ فِيهَا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: قَلَّمَا وَجَدْت التَّزْوِيرَ عَلَى الْمُفْتِي، وَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ حَرَسَ أَمْرَ الدِّينِ فَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَمِثْلُ هَذَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي تَمْيِيزِ الْفَتَاوَى عَنْ الْأَحْكَامِ فَقَالَ: كَانَ الْأَصْلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجُوزَ الْفُتْيَا إلَّا بِمَا يَرْوِيه الْعَدْلُ عَنْ الْعَدْلِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ الْمُفْتِي حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُفْتِي كَمَا تَصِحُّ الْأَحَادِيثُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِدِينِ اللَّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ غَيْرُ ذَلِكَ،

فصل ما ينقض فيه قضاء القاضي

غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ تَوَسَّعُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ فَصَارُوا يُفْتُونَ مِنْ كُتُبٍ يُطَالِعُونَهَا مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ، وَهُوَ خَطَرٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ وَخُرُوجٌ عَنْ الْقَوَاعِدِ، غَيْرَ أَنَّ الْكُتُبَ الْمَشْهُورَةَ لِأَجْلِ شُهْرَتِهَا بَعُدَتْ بُعْدًا شَدِيدًا عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّزْوِيرِ فَاعْتَمَدَ النَّاسُ عَلَيْهَا اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا أُهْمِلَتْ رِوَايَةُ كُتُبِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ الْعُدُولِ بِنَاءً عَلَى بُعْدِهَا عَنْ التَّحْرِيفِ وَإِنْ كَانَتْ اللُّغَةُ هِيَ أَسَاسُ الشَّرْعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِهْمَالُ ذَلِكَ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالتَّصْرِيفِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يُعَضِّدُ أَهْلَ الْعَصْرِ فِي إهْمَالِ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ بِجَامِعِ بُعْدِ الْجَمِيعِ عَنْ التَّحْرِيفِ، وَعَلَى هَذَا تَحْرُمُ الْفُتْيَا مِنْ الْكُتُبِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي لَمْ تُشْتَهَرْ حَتَّى تَتَظَافَرَ عَلَيْهَا الْخَوَاطِرُ وَيُعْلَمَ صِحَّةُ مَا فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْكُتُبُ الْحَدِيثَةُ التَّصْنِيفِ إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ عَزْوُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَنْقُولِ إلَى الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ، وَكَذَلِكَ حَوَاشِي الْكُتُبِ يَحْرُمُ الْفُتْيَا بِهَا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا وَالْوُثُوقِ بِهَا انْتَهَى وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ الْحَوَاشِي غَرِيبَةَ النَّقْلِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَا فِيهَا مَوْجُودًا فِي الْأُمَّهَاتِ أَوْ مَنْسُوبًا إلَى مَحِلِّهِ وَهِيَ بِخَطِّ مَنْ يُوثَقُ بِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ التَّصَانِيفِ، وَلَمْ تَزَلْ الْعُلَمَاءُ يَنْقُلُونَ مَا عَلَى حَوَاشِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ الْمَوْثُوقِ بِعِلْمِهِمْ الْمَعْرُوفَةِ خُطُوطُهُمْ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ لِبُرْهَانِ الدِّينِ صَاحِبُ الْمُحِيطِ، وَبُرْهَانِ الدِّينِ السَّمَرْقَنْدِيِّ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِ إذَا وَجَدُوا حَاشِيَةً يَعْرِفُونَ كَاتِبَهَا نَقَلُوا ذَلِكَ عَنْهُ وَنَسَبُوهَا إلَيْهِ وَأَدْخَلُوا ذَلِكَ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ وَأَمَّا حَيْثُ يُجْهَلُ الْكَاتِبُ وَيَكُونُ النَّقْلُ غَرِيبًا فَلَا شَكَّ فِيمَا قَالَهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ مَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي] (فَصْلٌ) : وَيُلْحَقُ بِهَذَا الرُّكْنِ بَيَانُ مَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يَسْتَقِرُّ فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ وَيُنْقَضُ، وَذَلِكَ إذَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقَوَاعِدِ أَوْ النَّصِّ الْجَلِيِّ أَوْ الْقِيَاسِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ لِلْأَخِ دُونَ الْجَدِّ فَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا: الْمَالُ كُلُّهُ لِلْجَدِّ، أَوْ يُقَاسِمُ الْأَخَ، أَمَّا حِرْمَانُ الْجَدِّ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَمَتَى حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَخَ يُدْلِي بِالْبُنُوَّةِ وَالْجَدُّ يُدْلِي بِالْأُبُوَّةِ، وَالْبُنُوَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُبُوَّةِ نَقَضْنَا هَذَا الْحُكْمَ وَإِنْ كَانَ مُفْتِيًا لَمْ يُقَلِّدْهُ. وَمِثَالُ مُخَالَفَةِ الْقَوَاعِدِ الْمَسْأَلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ مَتَى حَكَمَ حَاكِمٌ بِتَقْرِيرِ النِّكَاحِ فِيمَنْ قَالَ: إنْ وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتَ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ أَقَلَّ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ لُزُومُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَإِذَا مَاتَتْ أَوْ مَاتَ وَحَكَمَ حَاكِمٌ بِالتَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا نَقَضْنَا حُكْمَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ؛ لِأَنَّ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ صِحَّةُ اجْتِمَاعِ الشَّرْطِ مَعَ الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّ حِكْمَتَهُ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ مَشْرُوطِهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْعِ شَرْطًا، فَلِذَلِكَ يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي وَقَعَ التَّمْثِيلُ بِهَا وَالْمَوْضِعَانِ الْآخَرَانِ وَاضِحَانِ لَا يُحْتَاجُ إلَى تَمْثِيلٍ فِيهَا. (تَنْبِيهٌ) : مَعْنَى قَوْلِ الْعُلَمَاءِ إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُنْقَضُ إذَا خَالَفَ الْقَوَاعِدَ أَوْ الْقِيَاسَ أَوْ النَّصَّ، فَالْمُرَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَيْهَا، أَمَّا إذَا كَانَ لَهَا مُعَارِضٌ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ إذَا كَانَ وَفْقَ مُعَارِضِهَا الرَّاجِحِ إجْمَاعًا كَالْقَضَاءِ بِصِحَّةِ عَقْدِ الْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالسَّلَمِ وَالْحَوَالَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ وَالنُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ. [فَصْلٌ نَقْض الْقَاضِي أَحْكَامَ نَفْسِهِ] (فَصْلٌ) : فِي نَقْضِ الْقَاضِي أَحْكَامَ نَفْسِهِ وَلَهُ ذَلِكَ إذَا ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَ قَوْلُ قَائِلٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا قَضَى بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ وَقَدْ نَسِيَهُ. فَأَمَّا مَتَى حَكَمَ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ حَالَ ذِكْرِ مَذْهَبِهِ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ. أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي رَأْيٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ فَقَضَى بِرَأْيِ غَيْرِهِ ثُمَّ ظَهَرَ لِلْقَاضِي رَأْيٌ بِخِلَافِ مَا قَضَى هَلْ يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ رَأْيَهُ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْقَضَاءَ

فصل نقض القاضي أحكام غيره

عَلَيْهِ كَالنَّصِّ، وَلَوْ قَضَى بِرَأْيِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ، فَكَذَا هَذَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُنْقَضُ " اُنْظُرْ الْمُحِيطَ ". [فَصْلٌ نَقْض الْقَاضِي أَحْكَامَ غَيْرِهِ] (فَصْلٌ) : فِي نَقْضِ الْقَاضِي أَحْكَامَ غَيْرِهِ وَنَظَرُهُ فِي أَحْكَامِ غَيْرِهِ مُخْتَلِفٌ. فَأَمَّا الْعَالِمُ الْعَدْلُ فَلَا يَتَعَرَّضُ لِأَحْكَامِهِ بِوَجْهٍ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ: عَلَى الْقَاضِي أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِقَضِيَّةٍ أَمْضَاهَا الْأَوَّلُ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّجْوِيزِ لَهَا إنْ عَرَضَ فِيهَا عَارِضٌ بِوَجْهِ خُصُومَةٍ فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْكَشْفِ لَهَا وَالتَّعْقِيبِ فَلَا وَإِنْ سَأَلَهُ الْخَصْمُ ذَلِكَ، وَهَذَا فِيمَا جَهِلَ مِنْ أَحْكَامِهِ هَلْ وَافَقَ الْحَقَّ أَوْ خَالَفَهُ، فَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي نُفِيَ عَنْهُ الْكَشْفُ وَالتَّعْقِيبُ، إلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ خَطَأٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَيَرُدُّهُ وَيَفْسَخُهُ عَنْ الْمَحْكُومِ بِهِ عَلَيْهِ. وَقَدْ يَذْكُرُ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ الْوَجْهَ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ حُكْمَهُ فَيُوجَدُ مُخَالِفًا لِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَيُوجِبُ فَسْخَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهَا عُلِمَتْ بِقَصْدِهِ بِغَيْرِ مَا وَقَعَ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ وَقَعَ مِنْهُ سَهْوًا أَوْ غَلَطًا فَيَنْقُضُهُ مَنْ بَعْدَهُ كَمَا يَنْقُضُهُ هُوَ. وَأَمَّا الْقَاضِي الْعَدْلُ الْجَاهِلُ: فَإِنَّ أَقْضِيَتَهُ تُكْشَفُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا صَوَابًا أُمْضِيَ، وَمَا كَانَ خَطَأً بَيِّنًا لَمْ يُخْتَلَفْ فِي رَدِّهِ. وَأَمَّا الْقَاضِي الْجَائِرُ فِي أَحْكَامِهِ: إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ وَكَانَ غَيْرَ عَدْلٍ فِي حَالِهِ وَسِيرَتِهِ عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا ظَهَرَ جَوْرُهُ أَوْ خَفِيَ فَيُنْقَضُ مِنْهَا مَا تَبَيَّنَ فِيهِ جَوْرُهُ أَوْ اُسْتُرِيبَ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ وَيَعْمَلْ فِيهِ بِالْكَشْفِ كَمَا يَصْنَعُ بِأَقْضِيَةِ الْجَاهِلِ، إلَّا أَنْ يُعْرَفَ الْقَاضِي فِيهِ بِالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ فِي أَحْكَامِهِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا فَتُرَدُّ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا مَا عُرِفَ بِالْجَوْرِ فِيهَا أَوْ جُهِلَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَقْضِيَةِ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: فَإِنْ قَامَ عِنْدَهُ قَائِمٌ وَقَالَ: هَذَا الْكِتَابُ الْقَاضِي قَدْ حَكَمَ فِيهِ بِجَوْرٍ بَيِّنٍ قَالَ: أَرَى أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ حَكَمَ بِجَوْرٍ وَوَجَدَهُ فِي الْقَضَاءِ مُفْسِدًا مِثْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مِثْلَ أَنْ يُبْطِلَ الْمَهْرَ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ أَوْ بِعَدَمِ تَأْجِيلِ الْعِنِّينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَأَرَى أَنْ يَفْسَخَهُ. وَأَمَّا إنْ وَجَدَ الْقَضَاءَ بِمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ الْجَوْرُ وَلَا الْخَطَأُ الصِّرَاحُ مِثْلَ أَنْ يَجِدَ فِيهِ شَهِدَتْ عِنْدِي بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَقَبِلْتهَا وَرَأَيْتُ أَنَّ الْحَقَّ لِفُلَانٍ فَقَضَيْتُ لَهُ بِمَا تَبَيَّنَ لِي، فَلَا أَرَى لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُحْمَلُ الْقَضَاءُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ الْجَوْرُ، وَفِي التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ ضَرَرٌ بِالنَّاسِ وَوَهَنٌ لِلْقُضَاةِ. قَالَ: فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَخْلُو مِنْ أَعْدَاءٍ يَرْمُونَهُ بِالْجَوْرِ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَامُوا يُرِيدُونَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ بِنَقْضِ أَحْكَامِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. قُلْت: وَمَا قَالَهُ بَيِّنٌ إلَّا قَوْلَهُ " شَهِدَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَقَبِلْتهَا، فَفِيهِ نَظَرٌ. فَقَدْ يُقْبَلُ غَيْرُ الْعُدُولِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فَإِنْ صَرَّحَ بِأَسْمَاءِ الشُّهُودِ وَهُمْ عُدُولٌ وَبَيَّنَ وَجْهَ الْحُكْمِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْسَخَ، وَأَمَّا مَعَ الْإِجْمَالِ فَلَا. [فَصْلٌ فِيمَا لَا يَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِ الْقَاضِي] (فَصْلٌ) : فِيمَا لَا يَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِ الْقَاضِي وَيُنْقَضُ إذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ وَفِيمَا يَنْفُذُ ثَمَانِيَةُ مَوَاضِعَ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ أَنْ يَرُدَّ حُكْمَ قَاضٍ قَبْلَهُ: عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُعْسِرٌ فَبَاعَ السَّاكِتُ نَصِيبَهُ فَقَضَى قَاضٍ بِجَوَازِهِ، فَإِذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ حَنَفِيٍّ أَبْطَلَهُ. رَجُلٌ لَهُ حَقٌّ عَلَى إنْسَانٍ لَمْ يُطَالِبْهُ بِهِ سِنِينَ فَقَضَى قَاضٍ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ بِتَأْخِيرِهِ الْمُطَالَبَةَ، فَرَفَعَ قَضَاءَهُ إلَى حَنَفِيٍّ أَبْطَلَهُ. امْرَأَةٌ عَفَتْ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَأَبْطَلَ الْقَاضِي عَفْوَهَا وَقَضَى بِالْقَوَدِ لِوَرَثَتِهَا مِنْ الرِّجَالِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عَفْوَ لِلنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ يُبْطِلُهُ. امْرَأَةٌ أَقَرَّتْ بِدَيْنٍ وَأَوْصَتْ بِوَصِيَّةٍ وَأَعْتَقَتْ عَبْدَهَا بِغَيْرِ رِضَا زَوْجِهَا فَأَبْطَلَ الْقَاضِي تَصَرُّفَهَا، فَإِذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ أَبْطَلَهُ. امْرَأَةٌ قَبَضَتْ نِصْفَ صَدَاقِهَا وَتَجَهَّزَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَقَضَى قَاضٍ لَهَا

فصل كان القضاء مجتهدا فيه عند البعض وعند البعض لا

بِنِصْفِ جِهَازِهَا أَبْطَلَهُ قَاضٍ آخَرُ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ. قَاضٍ قَضَى بِشَاهِدٍ عَلَى خَطِّ أَبِيهِ أَوْ بِبُطْلَانِ الْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ أَوْ بِعَدَمِ تَأْجِيلِ الْعِنِّينِ أَوْ بِبُطْلَانِ مَا زَادَ الزَّوْجُ عَلَى مَهْرِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلِلْحَنَفِيِّ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَهُ " مِنْ شَرْحِ التَّجْرِيدِ ". وَمِمَّا يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي: ذَكَرَ فِي خِزَانَةِ الْفِقْهِ اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ فِيهَا تَنْفِيذُ قَضَاءِ قَاضٍ قَبْلَهُ لِمُصَادَفَتِهِ مَحِلًّا مُجْتَهَدًا فِيهِ: رَجُلٌ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَلَوْ رُفِعَ الْأَمْرُ إلَى قَاضٍ شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ فَقَضَى بِالْحِلِّ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ حَنَفِيٍّ نَفَّذَهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ صَادَفَ فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ وَقَضَاءُ الشَّافِعِيِّ الْمَذْهَبِ إذَا قَضَى بِبُطْلَانِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ فَرُفِعَ إلَى قَاضٍ حَنَفِيٍّ نَفَّذَهُ. وَكَذَا فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ إذَا قَضَى شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ بِكَوْنِهَا رَجْعِيَّةً فَرُفِعَ إلَى قَاضٍ حَنَفِيِّ الْمَذْهَبِ نَفَّذَهُ. وَكَذَا فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَالسَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ وَرَدِّ الْمَنْكُوحَةِ بِالْعَيْبِ أَوْ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ بِالْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْقَتْلِ بِالْقَسَامَةِ وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ بِمَا ذَكَرْنَا. وَذَكَرَ ظَهِيرُ السُّنَّةِ وَالدِّينِ الْحَسَنُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْخُجَنْدِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ: إذَا رُفِعَ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَالْقَتْلُ بِالْقَسَامَةِ إلَى قَاضٍ آخَرَ لَا يُنَفِّذُهُ، وَخِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ لَا يُعْتَبَرُ، لِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فِي صُورَةِ الْقَسَامَةِ، فَإِنَّ قَوْلَ مَالِكٍ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِجَوَازِ مُتْعَةِ النِّسَاءِ: فَإِنْ قَالَ: أَتَمَتَّعُ بِك شَهْرًا بِكَذَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُهُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعَتْ عَلَى بُطْلَانِهَا، وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ. وَإِنْ قَالَ تَزَوَّجْتُك شَهْرًا، فَعِنْدَ زُفَرَ يَلْغُو التَّأْقِيتُ وَيَجُوزُ النِّكَاحَ، فَكَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ، فَإِذَا قَضَى بِهِ نَفَذَ. [فَصْلٌ كَانَ الْقَضَاءُ مُجْتَهَدًا فِيهِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا] (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ مُجْتَهَدًا فِيهِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَغَيْرَ مُجْتَهَدٍ فِيهِ عِنْدَ الْبَعْضِ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى اتِّصَالِ قَضَاءِ قَاضٍ آخَرَ بِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ إذَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَى بُطْلَانِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهَدًا فِيهِ مُطْلَقًا فَبَقِيَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى قَضَاءٍ آخَرَ بِهِ. وَذُكِرَ فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ: الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ مُجْتَهَدٌ فِيهِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُجْتَهَدٍ فِيهِ عِنْدَ الْبَعْضِ. وَكَذَا الْحُكْمُ بِالثُّبُوتِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ لَا يُنَفَّذُ عِنْدَنَا إلَّا بَعْدَ اتِّصَالِ قَاضٍ آخَرَ بِهِ. [فَصْلٌ فِيمَا يُحِلُّهُ قَضَاءُ الْقَاضِي وَمَا لَا يُحِلُّهُ] (فَصْلٌ) : شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَائِنًا بِزُورٍ. فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ آخَرُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَحَلَّ لِلزَّوْجِ الثَّانِي وَطْؤُهَا سَوَاءً كَانَ جَاهِلًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ أَوْ عَالِمًا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ: إنْ كَانَ جَاهِلًا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الظَّاهِرَ وَلَيْسَ يُكَلَّفُ بِمَا فِي الْبَاطِنِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَمَةً ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ مَالِكَهَا وَقَدْ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي لَا يُوصَفُ وَطْؤُهَا بِكَوْنِهِ حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَحِلُّ وَأَمَّا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا فِي الظَّاهِرِ وَيَحِلُّ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحِلُّ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُ، خِلَافًا لَهُمَا وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ أَمَتَهُ هَذِهِ ابْنَتُهُ بِزُورٍ فَأَعْتَقَهَا الْقَاضِي وَجَعَلَهَا ابْنَتَهُ فَإِنَّهَا ابْنَتُهُ. وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَتَسْتَنْفِقُ مِنْهُ وَتَرِثُهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ جَعَلَهَا بِنْتًا لَهُ، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْبِنْتِيَّةِ، وَهَلْ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَأْكُلَ مِيرَاثَهُ؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحِلُّ، وَعِنْدَهُمَا لَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالنَّسَبِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُ خِلَافًا

فصل فيما لا يعتبر من أفعال القاضي إذا عزل أو مات

لَهُمَا. مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: قَضَاءُ الْقَاضِي بِالنَّسَبِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا بِالْإِجْمَاعِ، وَنَصَّ الْخَصَّافُ عَلَى أَنَّهُ يَنْفُذُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةَ زُورٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ لَا يَحِلُّ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ وَطْؤُهَا إنْ كَانَتْ جَارِيَةً، وَلَا لُبْسُهُ إنْ كَانَ ثَوْبًا، وَلَا أَكْلُهُ إنْ كَانَ طَعَامًا، وَيَحِلُّ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْقَضَاءَ إلَّا بِسَبَبٍ، وَلَيْسَ تَعْيِينُ بَعْضِ الْأَسْبَابِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ لَهُ بِخِلَافِ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْ زُورٍ أَنَّ فُلَانًا بَاعَهُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْفُذُ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى يَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي غَشَيَانُهَا، وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ الْوَطْءُ. وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُدَّعِي وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ وَقَامَتْ بَيِّنَةُ الزُّورِ عِنْدَهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَعِنْدَهُمَا إنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ يَحِلُّ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ وَكَانَ يَطْلُبُ حُجَّتَهُ فَلَا يَحِلُّ. وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةَ زُورٍ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وُهِبَ مِنْهُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَقَبَضَهَا مِنْهُ وَهِيَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا عِنْدَهُمَا، وَهَلْ يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؟ رِوَايَتَانِ، " كَذَا فِي الْمُحِيطِ ". [فَصْلٌ فِيمَا لَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَفْعَالِ الْقَاضِي إذَا عُزِلَ أَوْ مَاتَ] (فَصْلٌ) : فِيمَا لَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَفْعَالِ الْقَاضِي إذَا عُزِلَ أَوْ مَاتَ وَمَا يُعْتَبَرُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَعْزُولِ إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الَّذِي بِيَدِهِ بِأَنَّ الْمَعْزُولَ سَلَّمَهُ إلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ مَلَكَهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَحُكِمَ لَهُ بِهِ ظَاهِرًا، فَكَذَا إذَا أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا سَلَّمَهُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ عُزِلَ وَقَالَ: كُنْت قَضَيْت لِفُلَانٍ بِقِصَاصٍ أَوْ حَقٍّ وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ حَتَّى يَشْهَدَ اثْنَانِ سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ حَكَى أَمْرًا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: قَاضٍ عُزِلَ فَقَالَ لِرَجُلٍ: أَخَذْتُ مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدَفَعْتهَا إلَى هَذَا قَضَيْتُ بِهَا لَهُ عَلَيْك، فَقَالَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ: لَا بَلْ أَخَذْتَهُ ظُلْمًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآخِذِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ صَدَّقَهُ فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ حَالَةَ الْقَضَاءِ، وَقَوْلُ الْقَاضِي فِي حَالِ قَضَائِهِ حُجَّةٌ وَدَفْعُهُ صَحِيحٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ: أَخَذْته قَبْلَ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ إبْطَالِ الضَّمَانِ عَنْ غَيْرِهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: قَضَيْتُ بِقَطْعِ يَدِك فِي حَقٍّ أَوْ أَمَرْت بِقَطْعِ يَدِك بِحَقٍّ مِنْ الْإِيضَاحِ. [فَصْلٌ الْكَشْف عَنْ الْقُضَاةِ] (فَصْلٌ) : فِي الْكَشْفِ عَنْ الْقُضَاةِ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ قُضَاتِهِ فَإِنَّهُمْ قِوَامُ أَمْرِهِ وَرَأْسُ سُلْطَانِهِ، وَكَذَلِكَ قَاضِي الْقُضَاةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ قُضَاتَهُ وَنُوَّابَهُ فَيَتَصَفَّحُ أَقْضِيَتَهُمْ وَيُرَاعِي أُمُورَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ فِي النَّاسِ. وَعَلَى الْإِمَامِ وَالْقَاضِي الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُضَاةِ أَنْ يَسْأَلَ الثِّقَاتِ عَنْهُمْ وَيَسْأَلَ قَوْمًا صَالِحِينَ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُخْدَعُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَوِي الْأَغْرَاضِ يُلْقِي فِي قُلُوبِ الصَّالِحِينَ شَيْئًا لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى ذَمِّ الصُّلَحَاءِ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ عِنْدَهُمْ وَسُؤَالِهِمْ عَنْهُ، وَإِذَا ظَهَرَتْ التَّشْكِيَةُ بِهِمْ وَلَمْ يَعْرِفْ أَحْوَالَهُمْ سَأَلَ عَنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانُوا عَلَى طَرِيقِ اسْتِقَامَةٍ أَبْقَاهُمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ عَزَلَهُمْ. وَاخْتُلِفَ فِي عَزْلِ مَنْ اُشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بِظَاهِرِ الشَّكْوَى. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ عَلَيْهِ عَزْلُ مَنْ عُرِفَ بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا إذَا اُشْتُكِيَ بِهِ وَإِنْ وَجَدَ مِنْهُ عِوَضًا، فَإِنَّ ذَلِكَ فَسَادٌ لِلنَّاسِ عَلَى قُضَاتِهِمْ،

فصل عزل القاضي نفسه

فَإِنْ كَانَ الْمَشْكُوُّ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ فَلْيَعْزِلْهُ إذَا وَجَدَ مِنْهُ بَدَلًا وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الشَّكِيَّةُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بَدَلًا كَشَفَ عَنْ حَالِهِ. وَوَجْهُ الْكَشْفِ أَنْ يَبْعَثَ إلَى رِجَالٍ يُوثَقُ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَيَسْأَلُهُمْ عَنْهُ سِرًّا، فَإِنْ صَدَّقُوا مَا قِيلَ فِيهِ مِنْ الشِّكَايَةِ عَزَلَهُ وَنَظَرَ فِي أَقْضِيَتِهِ، فَمَا وَافَقَ الْحَقَّ أَمْضَاهُ، وَمَا خَالَفَهُ فَسَخَهُ، وَإِنْ قَالَ الَّذِينَ سُئِلُوا عَنْهُ: مَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا أَبْقَاهُ، وَنَظَرَ فِي أَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ، فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ مَضَى، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَدَّهُ وَحَمَلَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ جَوْرًا. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَكِّنَ النَّاسَ مِنْ خُصُومَةِ قُضَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فَيُسْتَهَانُ بِذَلِكَ وَيُؤْذَى وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فَاجِرًا وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِمَّنْ شَكَاهُ فَيُبْطِلُ حَقَّهُ وَيَتَسَلَّطُ ذَلِكَ الْقَاضِي عَلَى النَّاسِ. [فَصْلٌ عَزْلُ الْقَاضِي نَفْسَهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عَزْلُ الْقَاضِي نَفْسَهُ اخْتِيَارًا لَا عَجْزًا وَلَا لِعُذْرٍ فَالظَّاهِرُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَقِيلَ: لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي بِعَزْلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْعَامَّةِ، وَحَقُّ الْعَامَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَضَائِهِ، فَلَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : أَرْبَعُ خِصَالٍ لَوْ حَلَّتْ بِالْقَاضِي يَنْعَزِلُ: ذَهَابُ الْبَصَرِ، وَالسَّمْعِ، وَالْعَقْلِ، وَالرِّدَّةُ " مِنْ الْخُلَاصَةِ ". [فَصْلٌ فِي جَمْعِ الْفُقَهَاءِ لِلنَّظَرِ فِي حُكْمِ الْقَاضِي] (فَصْلٌ) : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَإِذَا اُشْتُكِيَ عَلَى الْقَاضِي فِي قَضِيَّةٍ حَكَمَ بِهَا وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْأَمِيرِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَأْمُونًا فِي أَحْكَامِهِ عَدْلًا فِي أَحْوَالِهِ بَصِيرًا بِقَضَائِهِ فَأَرَى أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ الْأَمِيرُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقْبَلُ شَكْوَى مَنْ اشْتَكَاهُ، وَلَا يَجْلِسُ الْفُقَهَاءُ لِلنَّظَرِ فِي قَضَائِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْخَطَأِ إنْ فَعَلَهُ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ إنْ تَابَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مُتَّهَمًا فِي أَحْكَامِهِ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ فِي حَالِهِ أَوْ جَاهِلًا بِقَضَائِهِ فَلْيَعْزِلْهُ وَيُوَلِّ غَيْرَهُ. قَالَ: وَلَوْ جَهِلَ الْأَمِيرُ فَأَجْلَسَ فُقَهَاءَ بَلَدِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ وَجَهِلُوهُمْ أَيْضًا أَوْ أُكْرِهُوا عَلَى النَّظَرِ فَنَظَرُوا فَرَأَوْا فَسْخَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَسَخَهُ السُّلْطَانُ أَوْ رَدَّ قَضِيَّتَهُ إلَى مَا رَأَى الْفُقَهَاءُ، وَأَرَى لِمَنْ نَظَرَ فِي هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَوْ كَانَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَوْ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ الْمَاضُونَ فَأَخَذَ بِبَعْضِ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ مَاضٍ، وَالْفَسْخُ الَّذِي تَكَلَّفَهُ الْأَمِيرُ وَالْفُقَهَاءُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ خَطَأً بَيِّنًا أَمْضَى فَسْخَهُ وَأَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْأَمِيرُ وَالْفُقَهَاءُ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ خَطَأً بَيِّنًا أَوْ لَعَلَّهُ قَدْ عُرِفَ مِنْ الْقَاضِي بَعْضُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْقُضَاةِ وَلَكِنَّ الْأَمِيرَ لَمْ يَعْزِلْهُ وَأَرَادَ النَّظَرَ فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِلْفُقَهَاءِ النَّظَرُ فِيهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ حُكْمَهُ خَطَأٌ بَيِّنٌ فَلْيَرُدَّهُ. قَالَ: وَإِنْ اخْتَلَفُوا عَلَى الْأَمِيرِ فَرَأَى بَعْضُهُمْ رَأْيًا، وَرَأَى بَعْضُهُمْ رَأْيًا غَيْرَهُ لَمْ يَمِلْ مَعَ أَكْثَرِهِمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمَا رَآهُ صَوَابًا قَضَى بِهِ وَأَنْفَذَهُ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْمُشَاوِرُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ فَصَلَ فِي الْحُكُومَةِ بَعْدُ فَصْلًا فَلَمَّا أَجْلَسَ مَعَهُ غَيْرَهُ لِلنَّظَرِ فِيهَا قَالَ: قَدْ حَكَمْتُ، لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ وَحْدَهَا قَدْ لَزِمَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عُزِلَ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ كُنْت حَكَمْت لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي الْمُشْتَكَى فِي غَيْرِ بَلَدِ الْأَمِيرِ الَّذِي هُوَ بِهِ وَحَيْثُ يَكُونُ قَاضِي الْقُضَاةِ، فَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَعْرُوفًا مَشْهُورًا بِالْعَدْلِ فِي أَحْكَامِهِ وَالصَّلَاحِ فِي أَحْوَالِهِ أَقَرَّهُ وَلَمْ يَقْبَلْ عَلَيْهِ شَكْوَى وَلَمْ يَكْتُبْ بِأَنْ يُجْلِسَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلَا يَفْعَلُ هَذَا بِأَحَدٍ مِنْ قُضَاتِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَكِيَ مِنْهُ اسْتِبْدَادًا بِرَأْيٍ أَوْ تَرْكِ رَأْيِ مَنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ أَنْ يُشَاوِرَ فِي أُمُورِهِ وَأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَ لَهُ أَحَدًا أَوْ يُجْلِسَ مَعَهُ أَحَدًا. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَاضِي غَيْرَ مَشْهُورٍ

فصل قيام المحكوم عليه بطلب فسخ الحكم عنه

بِالْعَدْلِ وَالرِّضَا وَتَظَاهَرَتْ الشَّكِيَّةُ عَلَيْهِ كَتَبَ إلَى رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ ذَلِكَ الْقَاضِي فَأَقَرَّ بِهِمْ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْهُ وَالْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَا يَجِبُ أَمْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ عَزَلَهُ. وَإِنْ كَتَبَ الْأَمِيرُ إلَى نَاسٍ يَأْمُرُهُمْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ فَفَعَلُوا فَاخْتَلَفَ رَأْيُهُمْ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ كَتَبَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَالْأُمَنَاءِ أَنْ يَرْفَعُوا إلَيْهِ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ هُوَ مُنَفِّذَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ فَذَلِكَ لَهُ. وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِمْ أَنْ يَنْظُرُوا مَعَهُ ثُمَّ يَجْتَهِدُوا وَيَحْكُمُ بِأَفْضَلِ مَا يَرَاهُ مَعَهُمْ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِاَلَّذِي رَآهُ مَعَ بَعْضِ مَنْ جَلَسَ مَعَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لَازِمًا لِمَنْ حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ مَنْ أُمِرَ بِالنَّظَرِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ مِثْلَ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسُوا مَعَهُ وَقَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ لَمْ أَرَ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ عَلَى مِثْلِ مَا اُشْتُكِيَ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَكْتُبُ بِذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَرَأْيِ الْقَوْمِ إلَى الْأَمِينِ، فَيَكُونُ هُوَ الْآمِرَ بِاَلَّذِي يَرَاهُ أَوْ الْحُكْمُ فِيهِ دُونَهُمْ. [فَصْلٌ قِيَام الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِطَلَبِ فَسْخِ الْحُكْمِ عَنْهُ] (فَصْلٌ) : فِي قِيَامِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِطَلَبِ فَسْخِ الْحُكْمِ عَنْهُ وَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: إنْ كَانَ قِيَامُهُ عَلَى الْقَاضِي الْعَالِمِ الْعَدْلِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ. الثَّانِي: إنْ كَانَ لِمَا اتَّصَفَ بِهِ الْقَاضِي مِنْ جَهْلٍ أَوْ جَوْرٍ أَوْ نِسْبَةِ الْمُدَّعِي إلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ. الثَّالِثُ: إنْ كَانَ قِيَامُهُ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبَوَيْنِ وَجَبَ الْفَسْخُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَأْتِيَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ بَعْدَ اسْتِحْلَافِ خَصْمِهِ فَتَقُومُ الْبَيِّنَةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ دَعْوَى الْمُدَّعِي فَفِيهَا خِلَافٌ، فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ تُقْبَلُ وَيُنْقَضُ مَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلًا، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ مِنْ كِتَابِ النُّتَفِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَسَنِ. الْخَامِسُ: أَنْ يُنْسَبَ الْقَاضِي إلَى التَّقْصِيرِ فِي الْكَشْفِ عَنْ الشُّهُودِ وَيَأْتِيَ بِمَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَثْبَتَ تَقَدُّمَ جَرْحِهِ تَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ بِفِسْقٍ نُقِضَ، وَكَذَا إنْ أَثْبَتَ عَدَاوَةً تَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ فِي رِوَايَةٍ، وَإِنْ أَثْبَتَ أَنَّ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ عَبْدٌ أَوْ ذِمِّيٌّ اُنْتُقِضَ وَلَزِمَ الْمَقْضِيَّ لَهُ بِالْمَالِ رَدُّهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَاهِدٍ آخَرَ. السَّادِسُ: أَنْ يُنْكِرَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْخِصَامَ عِنْدَ الْقَاضِي. وَقَالَ الْقَاضِي: كُنْتَ خَاصَمْت عِنْدِي وَأَعْذَرْت إلَيْك فَلَمْ تَأْتِ بِحُجَّةٍ وَحَكَمْتُ عَلَيْك، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي إنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى وِلَايَتِهِ لَمْ يَنْعَزِلْ. السَّابِعُ: أَنْ تُنْكِرَ الْبَيِّنَةُ أَنْ تَكُونَ شَهِدَتْ عِنْدَ الْقَاضِي وَادَّعَى الْقَاضِي أَنَّهُمْ شَهِدُوا عِنْدَهُ، وَلَوْ نَازَعَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَطَعَنَ فِي حُكْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ فِي حُكْمِهِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَظْهَرَ فِي السِّجِلِّ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ وَأَنْسَابَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ حَكَمْتُ بَعْدَ مَا شَهِدَ عِنْدِي شُهُودٌ عُدُولٌ فَقَبِلْتهمْ " اُنْظُرْ الْمُحِيطَ " فِي بَابِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي. الثَّامِنُ: أَنْ يَقُولَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ: كُنْتُ أَغْفَلْت حُجَّةَ كَذَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَمْ يُنْقَضْ الْحُكْمُ. التَّاسِعُ: إذَا قَامَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَادَّعَى أَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا حَكَمَ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهَا بِمَا هُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ نُقِضَ، وَإِنْ حَكَمَ فِيهَا بِمَا هِيَ قَابِلَةٌ لَهُ مِنْ الْخِلَافِ لَمْ يُنْقَضْ. الْعَاشِرُ: إذَا قَامَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَادَّعَى أَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى عَلَيْهِ بِقَوْلٍ مَهْجُورٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى عَلَيْهِ فِي مَحِلٍّ فِيهِ قَوْلٌ مَهْجُورٌ لَا يَنْفُذُ وَيُنْقَضُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَهْجُورَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ فِي مُقَابَلَةِ الْجُمْهُورِ، وَقَوْلُهُ يَكُونُ خِلَافًا لَا اخْتِلَافًا، فَمَنْ قَضَى بِقَوْلِهِ كَانَ قَاضِيًا فِي مَحِلِّ الْخِلَافِ وَالْقَضَاءُ يَنْفُذُ فِي مَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ لَا فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَكَانَ بَاطِلًا، مِثَالُهُ: إذَا كَانَ الْقَوَدُ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَعَفَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْقَوَدِ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ قَاضٍ وَقَضَى بِالْقَوَدِ لِلرَّجُلِ وَقَالَ: لَا عَفْوَ لِلنِّسَاءِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: إذَا ادَّعَى الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَنَّ الشُّهُودَ قَدْ رَجَعُوا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَضْ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِقَوْلِ عُدُولٍ، وَدَعْوَى الشُّهُودِ بَعْدَ ذَلِكَ الْكَذِبِ اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ فَسَقَةٌ وَالْفَاسِقُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. الثَّانِيَ عَشَرَ: لَوْ ادَّعَى بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَقْضِيَّ

الركن الثالث المقضي له

لَهُ قَدْ كَانَ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الْمَحْدُودَ مِلْكُ عَمْرٍو فَلَيْسَ هَذَا بِدَفْعٍ صَحِيحٍ مَا لَمْ يَدَّعِ تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ عَمْرٍو، وَلَكِنْ لَيْسَ لِلْمُفْتِي أَنْ يَزِيدَ فِي الْجَوَابِ عَلَى قَوْلِهِ لَيْسَ هَذَا بِدَفْعٍ صَحِيحٍ، " مِنْ الْقُنْيَةِ ". [الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْمَقْضِيُّ لَهُ] وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لِلْمُقَلِّدِ أَوْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ - أَلَا يُرَى أَنَّ عَلِيًّا قَلَّدَ شُرَيْحًا وَخَاصَمَ عِنْدَهُ؛ وَلِأَنَّ الْمُقَلَّدَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْمُقَلِّدِ بَلْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : كَذَا لَوْ قَضَى لِوَلَدِ الْإِمَامِ الَّذِي وَلَّاهُ أَوْ لِوَالِدِهِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْقَضَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا يَصِحُّ شَاهِدًا لِهَؤُلَاءِ فَلَا يَصِحُّ قَاضِيًا لَهُمْ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِمْ جَازَ فَكَذَا الْقَضَاءُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْقَضَاءِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ الْمُفْتِي يُفْتِي لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي الْهَرَبُ مِنْ هَذَا مَتَى قَدَرَ. (مَسْأَلَةٌ) : وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ لِمَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَأَوْلَادِهِمَا، وَكَذَا لَوْ قَضَى لِامْرَأَتِهِ وَأُمِّهَا وَإِنْ كَانَتَا قَدْ مَاتَتَا لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ لَهُمَا إذَا كَانَتْ امْرَأَتُهُ تَرِثُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ لَهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَجُزْ، فَكَذَا إذَا قَضَى لَهُمَا، وَإِنْ قَضَى لِامْرَأَةِ ابْنِهِ أَوْ لِزَوْجِ ابْنَتِهِ وَالْمَقْضِيُّ لَهُ حَيٌّ جَازَ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا لَمْ يَجُزْ إذَا كَانَ الِابْنُ أَوْ الْبِنْتُ يَرِثَانِ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُحِيطِ. [فَصْلٌ تَوَكُّلُ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاضِي لَهُ] (فَصْلٌ) : تَوَكُّلُ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاضِي لَهُ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ لِلْوَكِيلِ، وَجَازَ عَلَى الْوَكِيلِ كَمَا لَوْ كَانَ أَصِيلًا لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَلَوْ كَانَ ابْنُ الْقَاضِي وَصِيَّ يَتِيمٍ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ لَهُ فِي أَمْرِ الْيَتِيمِ، إذْ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ لِلْيَتِيمِ حَقُّ الْقَبْضِ يَثْبُتُ لِلْوَصِيِّ فَيَصِيرُ كَحُكْمِهِ لِابْنِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : أَوْصَى لِلْقَاضِي بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ وَصِيٌّ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ بِشَيْءٍ لِذَلِكَ الْمَيِّتِ إذْ لَهُ نَصِيبٌ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ لِلْمَيِّتِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ ابْنَ الْقَاضِي أَوْ امْرَأَتَهُ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ فِيمَا يَدَّعِي لِلْمَيِّتِ، وَكَذَا لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لِلْقَاضِي إذْ يُمَهِّدُ بِحُكْمِهِ مَحِلَّ حَقِّهِ. وَلَوْ وَكَّلَتْ امْرَأَةُ الْقَاضِي وَكِيلًا بِخُصُومَةٍ ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ وَمَضَتْ الْعِدَّةُ فَحَكَمَ لِوَكِيلِهَا جَازَ، وَكَذَا وَكِيلُ مُكَاتَبِهِ إذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتَ الْحُكْمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَ التُّهْمَةَ فِيهِ جُمْلَةً. [الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْمَقْضِيُّ فِيهِ وَهُوَ جَمِيعُ الْحُقُوقِ] اعْلَمْ: أَنَّ خُطَّةَ الْقَضَاءِ أَعْظَمُ الْخُطَطِ قَدْرًا وَأَجَلُّهَا خَطَرًا، وَعَلَى الْقَاضِي مَدَارُ الْأَحْكَامِ وَإِلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَمِيعِ الْقَضَايَا مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِلَا تَحْدِيدٍ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي قَبْضِ الْخَرَاجِ. وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ سَهْلٍ: يَخْتَصُّ الْقَاضِي بِوُجُوهٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنْ الْحُكَّامِ، وَذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَحْبَاسِ وَالْعَقْدِ وَالتَّرْشِيدِ وَالتَّحْجِيرِ وَالتَّقْسِيمِ وَالْمَوَارِيثِ وَالنَّظَرِ لِلْأَيْتَامِ وَالنَّظَرِ فِي أَمْوَالِ الْغَائِبِ وَالنَّظَرِ فِي الْأَنْسَابِ وَالْجِرَاحَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَالْإِثْبَاتِ وَالتَّسْجِيلِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا يَجِبُ لِلْقَاضِي أَنْ يَرْفَعَ مِنْ عِنْدِهِ نُظَرَاءَ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ كَمَا يَرْفَعُ غَيْرُهُ مِنْ الْحُكَّامِ إلَيْهِ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا لَا تُرْفَعُ إلَّا إلَيْهِ وَلَا تَكُونُ إلَّا فِي دِيوَانِهِ، وَإِذَا ضَيَّعَ الْقَاضِي ذَلِكَ كَانَتْ مِنْهُ هُجْنَةٌ. قَالَ بَعْضُ أَشْيَاخِ أَشْيَاخِي: هَذَا الَّذِي أَدْرَكْت النَّاسَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكَّامِ الْقُضَاةَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِهِمْ النَّظَرُ فِيهَا.

الركن الخامس المقضي عليه

فَصْلٌ) : وَأَمَّا غَيْرُ الْقَاضِي فَمَقْصُورٌ عَلَى مَا قَدِمَ عَلَيْهِ (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ فِيهِ خَارِجَ الْبَلَدِ كَيْفَ يَحْكُمُ وَالْمِصْرُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؟ ، فَطَرِيقُهُ أَنْ يُنَصِّبَ وَاحِدًا مِنْ أَعْوَانِهِ فَيَسْمَعَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةَ وَيَقْضِي هُنَاكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُمْضِي حُكْمَهُ. [الرُّكْنُ الْخَامِسُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ] وَهُوَ كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، إمَّا بِإِقْرَارِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَيَمِينِ الِاسْتِبْرَاءِ إنْ كَانَ الْحَقُّ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ عَلَى غَائِبٍ، وَإِمَّا بِلَدَدِهِ وَتَغَيُّبِهِ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَلَدَدِهِ عَنْ الْجَوَابِ عَلَى طَبَقِ الدَّعْوَى وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، كُلُّ مَسْأَلَةٍ فِي مَحِلِّهَا. (فَصْلٌ) : وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعٌ: مِنْهُمْ الْحَاضِرُ الْمَالِكُ أَمْرَهُ، وَمِنْهُمْ الْغَائِبُ، وَمِنْهُمْ الصَّغِيرُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ السَّفِيهُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ الْوَرَثَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَمِنْهُمْ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فَأَمَّا الْحَاضِرُ الْمَالِكُ أَمْرَهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سِيرَةِ الْقَاضِي مَعَ الْخُصُومِ أَكْثَرُ أَحْكَامِهِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهَا فِي الْجَوَابِ وَالنُّكُولِ وَالْبَيِّنَةِ. وَأَمَّا الْغَائِبُ: فَقَدْ ذَكَرْت الدَّعْوَى عَلَيْهِ فِي فَصْلِ الدَّعَاوَى وَذِكْرِ أَنْوَاعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا الصَّغِيرُ وَالسَّفِيهُ وَالْوَرَثَةُ: فَهُمْ مَذْكُورُونَ فِي الدَّعَاوَى فِي أَنْوَاعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ. (فَصْلٌ) : وَلَا يَحْكُمُ عَلَى عَدُوِّهِ كَمَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ. (مَسْأَلَةٌ) : وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا تَظَالَمُوا وَتَرَافَعُوا إلَيْهِ وَرَضُوا بِحُكْمِهِ، وَلْيَحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] قَالَ بَعْضُهُمْ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَإِنْ لَمْ تَرْضَ أَسَاقِفَتُهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنَّمَا لِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي التَّظَالُمِ، مِثْلَ أَنْ يَمْنَعَ وَارِثٌ وَارِثًا حَقَّهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إذَا رَضِيَ الْمُتَظَالِمَانِ بِذَلِكَ وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالزِّنَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. [الرُّكْنُ السَّادِسُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ] وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ وَاصْطِلَاحِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ، وَفِيهِ فُصُولٌ. الْأَوَّلُ: فِي تَقْرِيرَاتِ الْحُكَّامِ عَلَى الْوَقَائِعِ وَمَا هُوَ حُكْمٌ وَمَا لَيْسَ بِحُكْمٍ. الثَّانِي: فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ الَّتِي هِيَ حُكْمٌ لَا يَجُوزُ نَقْضُهَا، وَاَلَّتِي لَيْسَتْ بِحُكْمٍ وَيَجُوزُ نَقْضُهَا. الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى حُكْمٍ وَمَا لَا تَفْتَقِرُ وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَبَيَانِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا أَوْ تَضَمُّنًا. الرَّابِعُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا عَادَةُ الْحُكَّامِ فِي التَّسْجِيلَاتِ وَبَيَانُ أَحْكَامِهَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا. الْخَامِسُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ. السَّادِسُ: فِي مَعْنَى تَنْفِيذِ الْقَاضِي حُكْمَ نَفْسِهِ وَمَعْنَى تَنْفِيذِهِ حُكْمَ غَيْرِهِ. السَّابِعُ: فِي بَيَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْحُكْمِ الثَّانِي: فِي تَنْبِيهَاتٍ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ التَّنَبُّهُ لَهَا فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّسْجِيلَاتِ وَمَا يَمْتَنِعُ الْإِشْهَادُ بِهِ. [الْأَوَّلُ: فِي تَقْرِيرَاتِ الْحَاكِمِ مَا رُفِعَ إلَيْهِ] اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَلْزَمُ تَقْرِيرَ الْحَاكِمِ عَلَى الْوَاقِعَةِ حُكِمَ بِالْوَاقِعِ فِيهَا أَمْ لَا؟ ، كَمَا لَوْ رُفِعَ إلَيْهِ: امْرَأَةٌ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا وَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى حَنَفِيٍّ فَأَقَرَّهُ وَأَجَازَهُ ثُمَّ عُزِلَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَسْخُهُ وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ بِهِ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فَلَا يَتَعَرَّضُهُ قَاضٍ آخَرُ. وَقَالَ أُنَاسٌ خَارِجَ الْمَذْهَبِ: لَيْسَ بِحُكْمٍ وَلِغَيْرِهِ فَسْخُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ رُفِعَ لَهُ فَقَالَ لَا أُجِيزُ

فصل: تصرفات الحكام التي تستلزم الحكم

النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ، فَهَذَا فَتْوَى، وَلِغَيْرِهِ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِمَا يَرَاهُ، وَكَذَا إذَا قَالَ: لَا أُجِيزُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ فَهُوَ فَتْوَى اتِّفَاقًا. (فَرْعٌ) : وَإِنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ عَلَى الْمِلْكِ أَوْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى حَاكِمٍ فَأَقَرَّ النِّكَاحَ عَلَى حَالِهِ أَوْ أَقَرَّ الْمَمْلُوكَ رَقِيقًا ثُمَّ رُفِعَ إلَى غَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى الْقَتْلِ فَرُفِعَ لِمَنْ لَا يَرَى الْقَسَامَةَ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا فَلِغَيْرِهِ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الْأَوَّلِ عَنْ الْحُكْمِ لَيْسَ بِحُكْمٍ. (فَرْعٌ) : فَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ: لَا أَسْمَعُ بَيِّنَتَك؛ لِأَنَّك حَلَفْت قَبْلَهَا مَعَ قُدْرَتِك عَلَى إحْضَارِهَا، أَوْ قَالَ: لَا أَرَى الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ قَالَ: لَا أَحْكُمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، أَوْ لَا أُحَلِّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا يَمِينُ تُهْمَةٍ وَمَذْهَبِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَرَكَهُ، وَمِمَّا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُهُ: لَا أَدْرِي لَك حَقًّا فِي هَذَا لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَطَلَبِ الْحُكْمِ " سَلِّمْ الْمَحْدُودَ إلَى الْمُدَّعِي " لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ حُكْمٌ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ إلْزَامٌ وَحُكْمٌ. وَنَصَّ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي لَيْسَ بِحُكْمٍ إذْ قَالَ فِيهَا قَوْلَهُ " ده " لَيْسَ بِحُكْمٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: حُكْمُ كردم، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى فَقِيرٍ وَاحْتَاجَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ فَأَعْطَاهُ الْقَاضِي شَيْئًا مِنْ الْوَقْفِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَضَاءً مِنْ الْقَاضِي، لَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَتْوَى، حَتَّى لَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَهُ ذَلِكَ بِأَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ جَمِيعَ الْغَلَّةِ. أَمَّا لَوْ قَالَ: حَكَمْت بِأَنَّهُ لَا يُعْطِي غَيْرَ قَرَابَتِهِ نَفَذَ حُكْمُهُ، إذْ فِعْلُ الْقَاضِي لَيْسَ بِحُكْمٍ، " مِنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ ". [فَصْل: تَصَرُّفَات الْحُكَّامِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ] الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ وَمَا لَا تَسْتَلْزِمُ، وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ حُكْمُ الْحَاكِمِ فِيهَا بِمَا بَاشَرَ حُكْمَهُ، وَمَا لَا يَتَنَاوَلُ عَوَارِضَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَبَيَانِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْحُكْمَ وَلَيْسَتْ بِحُكْمٍ. اعْلَمْ: أَنَّ فِعْلَ الْحَاكِمِ فِي الْوَاقِعَةِ قَدْ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ وَقَدْ يَعْرَى عَنْ الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ. فَالْأَوَّلُ: كُلُّ مَا حُكِمَ فِيهِ بِالصِّحَّةِ أَوْ الْمُوجَبِ وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ: قَدْ حَكَمْتُ بِصِحَّةِ بَيْعِ الْعَبْدِ الَّذِي أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ إذَا كَانَ مَذْهَبُهُ ذَلِكَ فَالْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمُطَابَقَةِ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ بِالِالْتِزَامِ عَلَى الْحُكْمِ بِإِبْطَالِ الْعِتْقِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ بُطْلَانُ الْعِتْقِ. (فَرْعٌ) : وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ الْحَاكِمُ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، فَإِنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْبَيْعِ حُكْمٌ بِبُطْلَانِ الْعِتْقِ. (فَرْعٌ) : وَكَذَلِكَ إقْدَامُ الْحَاكِمِ عَلَى تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ زَوَاجًا يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ، فَإِنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِفَسْخِ نِكَاحِهَا الْمُتَقَدِّمِ، يُرِيدُ أَنَّ الْحَاكِمَ زَوَّجَهَا قَبْلَ دُخُولِ الْأَوَّلِ بِهَا. (فَرْعٌ) : وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَاكِمِ مِلْكَ الْمَدِينِ فَإِنَّ حُكْمَهُ يَنْقُلُ الْمِلْكَ عَنْهُ وَخُرُوجُهُ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَمْلَاكِ وَفَسْخَ الْعُقُودِ لَا شَكَّ أَنَّهُ حُكْمٌ. وَالثَّانِي: كَسَمَاعِ الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ وَسَمَاعِ الشُّهُودِ وَتَزْوِيجِ يَتِيمَةٍ تَحْتَ حِجْرِهِ أَوْ بَيْعِ سِلْعَةٍ لَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَلًّا فِي بَعْضِ شُرُوطِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الثَّانِي فَلَهُ فَسْخُهُ. فَرْعٌ مِنْهُ: اعْلَمْ: أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا حَكَمَ بِفَسْخِ نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفَسْخِ وَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِيهَا اجْتِهَادِيٌّ: أَيْ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ جَلِيٌّ يَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ حُكْمَ

فصل المواضع التي تصرفات الحكام فيها ليست بحكم

الْحَاكِمِ لَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ الْفَسْخَ. وَأَمَّا مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْعَوَارِضِ فَذَلِكَ الْقَاضِي بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا كَالْمُفْتِي، وَكَذَلِكَ لَوْ حَدَثَتْ قَضِيَّةٌ أُخْرَى مِثْلُ الْقَضِيَّةِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا بِالْفَسْخِ فِي وِلَايَةِ ذَلِكَ الْقَاضِي وَلَمْ تُرْفَعْ إلَيْهِ أَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهَا حَتَّى عُزِلَ أَوْ مَاتَ فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى إنْشَاءِ نَظَرٍ آخَرَ مِنْ الْقَاضِي الْأَوَّلِ أَوْ مِنْ الْقَاضِي الثَّانِي، وَلَا يَكُونُ الْقَاضِي الْأَوَّلُ مُتَنَاوِلًا إلَّا لِمَا بَاشَرَهُ بِالْحُكْمِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْجُزْئِيَّاتِ دُونَ الْكُلِّيَّاتِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا يَنْظُرُ الْقَاضِي فِيهِ يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ. وَالْبَيِّنَةُ إنَّمَا تَشْهَدُ بِمَا رَأَتْهُ أَوْ شَافَهَتْهُ وَذَلِكَ أَمْرٌ جُزْئِيٌّ، هَذَا هُوَ غَالِبُ مَا تَشْهَدُ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَتُحْكَمُ الْقُضَاةُ بِهِ. (فَرْعٌ) : إذَا ثَبَتَ مَا قَرَّرْنَاهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَسَخَ نِكَاحًا بَيْنَ زَوْجَيْنِ بِسَبَبِ أَنَّ أَحَدَهُمَا رَضَعَ أُمَّ الْآخَرِ وَهُوَ كَبِيرٌ فَالْفَسْخُ ثَابِتٌ لَا يَنْقُضُهُ أَحَدٌ، وَلَكِنَّهُ إنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ فَرُفِعَ أَمْرُهُمَا إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ وَلِيَ بَعْدَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ الْفَسْخُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُبِيحَهَا لَهُ إنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ إرْضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، وَكَذَا لَوْ رُفِعَ إلَيْهِ نَفْسُهُ وَتَغَيَّرَ اجْتِهَادَهُ فَلَهُ أَنْ يُبِيحَهَا لَهُ. (فَرْعٌ) : وَكَذَا مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَرُفِعَ أَمْرُهُمَا إلَى قَاضٍ آخَرَ لَا يَرَى تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُبِيحَهَا لَهُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمَرْأَتَيْنِ فِي هَذَا الْفَرْعِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ حُكْمُ امْرَأَتَيْنِ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ. (فَرْعٌ) : وَكَذَلِكَ لَوْ جَمَعَ رَجُلٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ أَوْ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ مَالِكِيٍّ فَحَكَمَ بِالْفَسْخِ عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ لِرَأْيٍ رَآهُ أَوْ لِتَقْلِيدِهِ الْقَائِلِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ ثُمَّ تَزَوَّجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ بِعَيْنِهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْفَاسِدِ الَّذِي حَكَمَ الْقَاضِي بِفَسْخِهِ بَيْنَهُمَا فَرُفِعَ أَمْرُهُمَا إلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ أَوْ إلَى قَاضٍ غَيْرِهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لَا يَتَنَاوَلُ فَسَادَ هَذَا الْفِعْلِ الثَّانِي، بَلْ إذَا أَدَّى نَظَرُ الْقَاضِي الثَّانِي إلَى خِلَافِ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْأَوَّلِ إمَّا مِنْ إمْضَاءِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ مُطْلَقًا كَمَا لَوْ كَانَ حَنَفِيًّا. مِثَالُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ عَبْدًا صَحَّ النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ عِنْدَهُ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى لِلْبُضْعِ مَا يَجُوزُ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى ذَلِكَ الْبَاقِي عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ. [فَصْلٌ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَصَرُّفَاتُ الْحُكَّامِ فِيهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ] (فَصْلٌ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَصَرُّفَاتُ الْحُكَّامِ فِيهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ الْحُكَّامِ تَغْيِيرُهَا وَالنَّظَرُ فِيهَا عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ. وَقَدْ الْتَبَسَ أَمْرُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ وَغَيْرُهُ يَجُوزُ نَقْضُهُ وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْ جُمْلَةِ مَا ذَكَرُوهُ عِشْرِينَ نَوْعًا وَهِيَ عَامَّةُ تَصَرُّفَاتِهِمْ فَيَسْلَمُ فِيهَا مِنْ الْغَلَطِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْعُقُودُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْغَائِبِينَ وَالْمَجَانِينِ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى مَنْ بَلَغَ مِنْ الْأَيْتَامِ وَعَلَى مَنْ هُوَ تَحْتَ الْحَجْرِ مِنْ النِّسَاءِ وَمَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى أَمْلَاكِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَيْسَتْ حُكْمًا وَلِغَيْرِهِمْ النَّظَرُ فِيهَا. فَإِنْ وَجَدَهَا بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ أَوْ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ أَوْ وَجَدَ الْمَرْأَةَ مَعَ غَيْرِ كُفْءٍ فَلَهُ نَقْلُ ذَلِكَ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا تَكُونُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فِي هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ حُكْمًا فِي نَفْسِهَا أَلْبَتَّةَ. نَعَمْ قَدْ تَكُونُ حُكْمًا فِي غَيْرِهَا بِأَنْ تَتَوَقَّفَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ عَلَى إبْطَالِ تَصَرُّفَاتٍ مُتَقَدِّمَةٍ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْ الْحَاكِمِ الْآنَ كَتَزْوِيجِهَا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِ هَذَا الزَّوْجِ وَالْحَاكِمُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، أَوْ بِيعَتْ الْعَيْنُ مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ أَنْ بِيعَتْ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَالْحَاكِمُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْأَخِيرَةِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ يَقْتَضِي فَسْخَ تِلْكَ الْعُقُودِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. النَّوْعُ الثَّانِي: إثْبَاتُ الصِّفَاتِ فِي الذَّوَاتِ نَحْوُ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ عِنْدَ حَاكِمٍ أَوْ الْجَرْحِ أَوْ أَهْلِيَّةِ الْإِمَامَةِ لِلصَّلَاةِ

أَوْ أَهْلِيَّةِ الْحَضَانَةِ أَوْ أَهْلِيَّةِ الْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَجَمِيعُ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ مِمَّا هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ لَيْسَ حُكْمًا، وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَقْبَلَ ذَلِكَ، وَيُعْتَقَدُ فِسْقُهُ إنْ ثَبَتَ سَبَبُهُ عِنْدَهُ، وَيُقْبَلُ ذَلِكَ الْمَجْرُوحُ إنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَتُهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذِهِ الصِّفَاتِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: ثُبُوتُ أَسْبَابِ الْمُطَالَبَاتِ، نَحْوُ ثُبُوتِ مِقْدَارِ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ وَإِثْبَاتِ الدُّيُونِ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَإِثْبَاتِ النَّفَقَاتِ لِلْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ وَإِثْبَاتِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ وَنَحْوِهِ. فَإِنَّ إثْبَاتَ الْحَاكِمِ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَيْسَ حُكْمًا، وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يُغَيِّرَ مِقْدَارَ تِلْكَ الْأُجْرَةِ وَتِلْكَ النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمُطَالَبَةِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: إثْبَاتُ الْحِجَاجِ الْمُوجِبَةِ لِثُبُوتِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْقَاقِ، نَحْوُ كَوْنِ الْحَاكِمِ يَثْبُتُ عِنْدَهُ التَّحْلِيفُ مِمَّنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْحَلْفُ وَثُبُوتُ إقَامَةِ الْبَيِّنَاتِ مِمَّنْ أَقَامَهَا، وَثُبُوتُ الْإِقْرَارَاتِ مِنْ الْخُصُومِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ حِجَاجٌ تُوجِبُ ثُبُوتَ أَسْبَابٍ مُوجِبَةٍ لِاسْتِحْقَاقِ مُسَبَّبَاتِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْحَاكِمِ أَثْبَتَهَا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا، بَلْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ فَيُبْطِلُ أَوْ لَا يُبْطِلُ، بَلْ إذَا اطَّلَعَ فِيهَا عَلَى خَلَلٍ تَعَقَّبَهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْإِثْبَاتُ السَّابِقُ مَانِعًا مِنْ تَعَقُّبِ الْخَلَلِ فِي تِلْكَ الْحِجَاجِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: إثْبَاتُ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ نَحْوُ الزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ وُجُوبُ الْفِطْرِ أَوْ فِعْلُ النُّسُكِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَجَمِيعُ إثْبَاتِ ذَلِكَ لَيْسَ بِحُكْمٍ بَلْ هُوَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ، وَلِلْحَنَفِيِّ أَنْ لَا يَصُومَ فِي رَمَضَانَ إذَا أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ بِوَاحِدٍ وَلَمْ يَكُنْ غَيْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ سَبَبٍ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ سَبَبًا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُرَتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمًا. النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ الْفَتَاوَى فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ تَحْرِيمِ الْأَبْضَاعِ وَإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ وَطَهَارَةِ الْمِيَاهِ وَنَجَاسَةِ الْأَعْيَانِ، فَلَيْسَ هَذَا بِحُكْمٍ بَلْ لِمَا يُعْتَقَدُ ذَلِكَ أَنْ يُفْتِيَ بِخِلَافِ مَا أَفْتَى بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرُوا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ مُنْكَرًا أَوْ مَعْرُوفًا، فَلِمَنْ لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ إلَّا أَنْ يَدْعُوَهُ الْإِمَامُ لِلْإِنْكَارِ وَتَكُونُ مُخَالَفَتُهُ شِقَاقًا فَتَجِبُ الطَّاعَةُ لِذَلِكَ. وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَلَا يُسَاعِدُهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ نَحْوَ خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَخْشَى فِتْنَةً نَهَى الشَّرْعُ عَنْ الْمُسَامَحَةِ فِيهَا. النَّوْعُ السَّابِعُ: تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْحُكَّامِ فِيمَا تَقَدَّمَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمُنَفِّذِ بِأَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ فُلَانٍ مِنْ الْحُكَّامِ كَذَا، فَهَذَا لَيْسَ بِحُكْمٍ مِنْ الْمُنَفِّذِ أَلْبَتَّةَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ فُلَانًا حَكَمَ بِكَذَا فَلَيْسَ حُكْمًا مِنْ هَذَا الْمُثْبِتِ، بَلْ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْفَاسِدَ وَالْحَرَامَ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ تَأْدِيبُ ذَلِكَ الْحَاكِمِ أَوْ عَزْلُهُ. (تَنْبِيهٌ) : كُلُّ تَسْجِيلٍ يَتَضَمَّنُ إرْجَاءَ الْحُجَّةِ لِغَائِبٍ أَوْ لِصَغِيرٍ أَوْ حَاضِرٍ بَعْدَ بَيِّنَتِهِ فَلِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَتَعَقَّبَهُ بِمَا يَجِبُ بِخِلَافِ التَّسْجِيلَاتِ الْمُطْلَقَةِ. النَّوْعُ الثَّامِنُ: تَصَرُّفَاتُ الْحُكَّامِ بِتَعَاطِي أَسْبَابِ الِاسْتِخْلَاصِ وَوُصُولِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحَقِّيهَا مِنْ الْحَبْسِ وَالْإِطْلَاقِ وَأَخْذِ الْكُفَلَاءِ الْأَمْلِيَاءِ وَأَخْذِ الرُّهُونِ لِذَوِي الْحُقُوقِ وَتَقْدِيرِ مُدَّةِ الْحَبْسِ بِالشُّهُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كَيْفَمَا تَقَلَّبَتْ لَيْسَتْ حُكْمًا لَازِمًا، وَلِغَيْرِ الْأَوَّلِ تَغْيِيرُ ذَلِكَ وَإِبْطَالُهُ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَا تَقْتَضِيه الْمَصْلَحَةُ شَرْعًا.

النَّوْعُ التَّاسِعُ: التَّصَرُّفُ فِي أَنْوَاعِ الْحِجَاجِ بِأَنْ يَقُولَ: لَا أَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّك حَلَفْت قَبْلَهَا مَعَ عِلْمِك بِهَا وَقُدْرَتِك عَلَى إحْضَارِهَا، فَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَرَكَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَتْ بِحُكْمٍ. النَّوْعُ الْعَاشِرُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ: تَوْلِيَةُ النُّوَّابِ فِي الْأَحْكَامِ وَنَصْبُ الْكُتَّابِ وَالْقُسَّامِ وَالْمُتَرْجِمِينَ وَالْمُقَوِّمِينَ وَأُمَنَاءِ الْحُكْمِ لِلْأَيْتَامِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّابِ وَالْوَزَعَةِ وَنَصْبُ الْأُمَنَاءِ فِي أَمْوَالِ الْغُيَّابِ وَالْمَجَانِينِ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ نَقْضُ ذَلِكَ وَتَبْدِيلُهُ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْغَرَضِ. النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: إثْبَاتُ الصِّفَاتِ فِي الذَّوَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ كَالتَّرْشِيدِ وَإِزَالَةِ الْحَجْرِ عَنْ الْمُفْلِسِينَ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُبَذِّرِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمٍ يَتَعَذَّرُ نَقْضُهُ، بَلْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، وَمَتَى ظَهَرَ لَهُ وَتَحَقَّقَ عِنْدَهُ ضِدُّ مَا تَحَقَّقَ عِنْدَ الْأَوَّلِ نَقَضَ ذَلِكَ وَحَكَمَ بِضِدِّهِ، فَيُطْلِقُ مَنْ حَجَرَ عَلَيْهِ وَيَحْجُرُ عَلَى مَنْ أَطْلَقَهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ صِفَةٍ لَا إنْشَاءُ حُكْمٍ. النَّوْعُ الثَّانِيَ عَشَرَ: مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْأَئِمَّةِ: الْإِطْلَاقَاتُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَتَقْدِيرُ مَقَادِيرِهَا فِي كُلِّ عَطَاءٍ، وَالْإِطْلَاقَاتُ مِنْ الْفَيْءِ أَوْ الْخُمْسِ فِي الْجِهَادِ، أَوْ الْإِطْلَاقَاتُ مِنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ الَّتِي تَحْتَ يَدِ الْحُكَّامِ عَلَى مَصَالِحِ الْأَيْتَامِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ فِي الْأَرْزَاقِ لِلْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الصَّلَاةِ وَالْقُسَّامِ وَأَرْبَابِ الْبُيُوتِ وَالصُّلَحَاءِ، وَإِطْلَاقَاتُ الْإِقْطَاعَاتِ لِلْأَجْنَادِ وَغَيْرِهِمْ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ حُكْمًا، وَلِغَيْرِهِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ. النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: اتِّخَاذُ الْأَحْمِيَةِ مِنْ الْأَرَاضِي الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ تَرْعَى فِيهَا إبِلُ الصَّدَقَةِ وَغَيْرُهَا كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَهَذَا لَيْسَ حُكْمًا، وَلِغَيْرِهِ بَعْدَهُ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ الْحِمَى وَيَفْعَلَ فِي تِلْكَ الْأَرَاضِي مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ. النَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: تَأْمِيرُ الْأُمَرَاءِ عَلَى الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا لَيْسَ بِحُكْمٍ، فَقَدْ عَزَمَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى رَدِّ جَيْشِ أُسَامَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهَّزَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَنَفَّذَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا ظَهَرَ لَهُ تَنْفِيذُهُ هُوَ الْمَصْلَحَةُ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَهُ عَقِيبَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى اجْتِمَاعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَاهْتِمَامِهِمْ بِالْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا، فَنَفَّذَهُ لِتَعَذُّرِ نَقْضِهِ. النَّوْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ: تَعْيِينُ أَحَدِ الْخِصَالِ فِي عُقُوبَةِ الْمُحَارَبِينَ، وَذَلِكَ التَّعْيِينُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، فَلَوْ رُفِعَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَرَى بِالتَّخْيِيرِ مُطْلَقًا قَبْلَ التَّنْفِيذِ وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ تَعْيِينَ غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ الْأَوَّلُ كَانَ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْأَوَّلِ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا. النَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ تَعْيِينُ مِقْدَارِ التَّعْزِيرَاتِ إذَا رُفِعَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْحَاكِمِ قَبْلَ التَّنْفِيذِ فَرَأَى خِلَافَ ذَلِكَ فَلَهُ تَعْيِينُ مِقْدَارِهِ وَإِبْطَالُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ اجْتِهَادٌ فِي سَبَبٍ هُوَ الْجِنَايَةُ، فَإِذَا ظَهَرَ لِلثَّانِي أَنَّهَا تَقْتَضِي ذَلِكَ حَكَمَ بِمَا يَرَاهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَعْيِينِ الْأَسَارَى لِلرِّقِّ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْأَسَارَى يُقْتَلُونَ فَقَطْ، وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ جَوَازُ الِاسْتِرْقَاقِ أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَهُوَ حُكْمٌ مِنْهُ بِاَلَّذِي اخْتَارَهُ، وَهُوَ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْ الْخِصَالِ الْخَمْسِ الَّتِي يَخْتَارُ فِيهَا الْإِمَامُ مِنْ الْأَسْرِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ وَالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ،

فصل ما يفتقر إلى حكم الحاكم

فَاخْتِيَارُهُ لِخَصْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، بِخِلَافِ مَقَادِيرِ التَّعْزِيرَاتِ لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ فِيهِ أَوْ وَقَعَ مِنْهُ فِعْلٌ، فَالتَّعْزِيرُ بِحَسَبِ عِظَمِهِ وَحَقَارَتِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُهُ لِخَصْلَةٍ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُحَارَبِينَ إنْ وُجِدَ مِنْ الْمُحَارَبِينَ الْقَتْلُ وَعَيَّنَ الْإِمَامُ الْقَتْلَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إنْشَاءَ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ. وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْقَتْلَ فِي مُحَارَبٍ لَمْ يَقْتُلْ، بَلْ عَيَّنَ الْقَتْلَ لِعِظَمِ رَأْيِهِ وَذَهَابِهِ وَأَنَّ قَتْلَهُ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَمْنَعُ قَتْلَ الْمُحَارَبِ إلَّا إذَا قَتَلَ وَلَا يَقْطَعُهُ إلَّا إذَا سَرَقَ، فَتَصِيرُ هَذِهِ كَمَسْأَلَةِ الْأَسْرَى، فَتَتَعَيَّنُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ عُقُوبَةِ الْمُحَارَبِ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُ أَرْضِ الْعَنْوَةِ لِلْبَيْعِ أَوْ الْقَسْمِ أَوْ الْوَقْفِ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ. النَّوْعُ السَّابِعَ عَشَرَ: الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْجُنَاةِ وَرَدْعِ الطُّغَاةِ إذَا لَمْ يُنَفِّذْ هُوَ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ كَتَارِكِ الصَّلَاةِ وَقَتْلِ الزَّنَادِقَةِ، فَإِنَّهُ إذَا عَيَّنَ الْقَتْلَ وَحَكَمَ بِهِ كَانَ هَذَا إنْشَاءَ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ، بِخِلَافِ قِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: عَقْدُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لَيْسَ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، بَلْ جَوَازُهُ عِنْدَ سَبَبِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا هُوَ الْتِزَامٌ لِكِفَايَةِ الشَّرِّ حَالَةَ الضَّعْفِ، فَلِغَيْرِهِ بَعْدَهُ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ السَّبَبُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَيُبْقِيهِ أَوْ لَا فَيَنْقُضُهُ وَيُبْطِلُهُ. النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ: عَقْدُ الْجِزْيَةِ لِلْكُفَّارِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، لَكِنْ لَيْسَ لِكَوْنِهِ حُكْمًا إنْشَائِيًّا كَالْقَضَاءِ بِصِحَّةِ الْعُقُودِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَلْ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ هَذَا الْعَقْدَ مُوجِبًا لِلِاسْتِمْرَارِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي النَّقْضَ كَعَقْدِهِ لِأَهْلِ دِينٍ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، نَحْوِ الزَّنَادِقَةِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَنَحْوِهِمْ. النَّوْعُ الْعِشْرُونَ: تَقْدِيرُ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرَضِينَ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ الْحَرْبِيِّينَ لَيْسَ بِحُكْمٍ، إنَّمَا هُوَ تَرْتِيبُ مَا تَقْتَضِيهِ الْأَسْبَابُ الْحَاضِرَةُ، فَإِنْ ظَهَرَ لِغَيْرِهِ أَنَّ السَّبَبَ عَلَى خِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ كَمَا إذَا بَاعَ مَالَ الْيَتِيمِ بِالْبَخْسِ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ. [فَصْلٌ مَا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ] (فَصْلٌ) : وَمِمَّا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ تَفْلِيسُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْحَجْرِ عَلَى الْمِدْيَانِ الْقَضَاءُ بِإِفْلَاسِهِ أَوَّلًا ثُمَّ الْحَجْرُ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ حَجْرُهُ مِنْ غَيْرِ الْقَضَاءِ بِإِفْلَاسِهِ بِالْإِجْمَاعِ " مِنْ الذَّخِيرَةِ ". وَكَذَلِكَ بَيْعُ مَنْ أَعْتَقَهُ الْمِدْيَانُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ لِتَعَارُضِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِتْقِ وَحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَالِيَّةِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ الْحُدُودُ فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى الْحَاكِمِ وَإِنْ كَانَتْ مَقَادِيرُهَا مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّ تَفْوِيضَهَا لِجَمِيعِ النَّاسِ يُؤَدِّي إلَى الْفِتَنِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْقَتْلِ وَفَسَادِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْعَبْدِ إلَّا بِالْحُكْمِ لِتَعَارُضِ حَقِّ اللَّهِ فِي الْعِتْقِ وَحَقِّ السَّيِّدِ فِي الْمِلْكِ وَحَقِّ الْعَبْدِ فِي تَخْصِيصِ الْكَسْبِ وَقُوَّةِ الْخِلَافِ فِي التَّمْلِيكِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْحُكْمِ وَكَذَلِكَ التَّطْلِيقُ عَلَى الْغَائِبِينَ مِنْ الْمَفْقُودِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ. وَكَذَلِكَ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْمَقَادِيرِ، وَأَسْبَابُ الِاسْتِحْقَاقَاتِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْحَاكِمِ، وَلَوْ فُرِضَتْ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَدَخَلَهُمْ الطَّمَعُ وَأَحَبَّ كُلُّ إنْسَانٍ لِنَفْسِهِ مِنْ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ مَا يَطْلُبُهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْفِتَنِ. وَكَذَلِكَ جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ وَأَخْذُ الْخَرَاجَاتِ مِنْ أَرَاضِي الْعَنْوَةِ لَوْ جُعِلَتْ إلَى الْعَامَّةِ لَفَسَدَ الْحَالُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْحَاكِمِ. وَكَذَلِكَ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى كَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: لَا يَحْتَاجُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ كَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَالْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَتَحْرِيمِ السِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ وَفَاءُ الدُّيُونِ وَرَدُّ الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ وَأَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ، فَالْمُبَادَرَةُ بِهَا مُتَعَيِّنَةٌ، وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ اسْتِقْلَالًا، وَأَمَّا بِطَرِيقِ الْعَرْضِ فَيَدْخُلُهَا حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمٍ أَوْ لَا؟ مِثَالُ ذَلِكَ: فَسْخُ الْبَيْعِ بَعْدَ تَخَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ، وَكَذَلِكَ فَسْخُ النِّكَاحِ بَعْدَ التَّخَالُفِ، فِيهِ الْخِلَافُ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ الْيَتِيمُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِوَصِيٍّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ هَلْ يَكْفِي إطْلَاقُهُ لِلْيَتِيمِ مِنْ الْحَجْرِ دُونَ مُطَالَعَةِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ إطْلَاقُ الْوَصِيِّ لَهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: بِتَمَامِ التَّحَالُفِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ دُونَ حُكْمِ الْحَاكِمِ، نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْمُنْتَقَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِتَمَامِ لِعَانِهِمَا حَتَّى يُفَرِّقَ الْإِمَامُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ. وَكَذَلِكَ الْقَاضِي: هَلْ يَنْعَزِلُ بِمُجَرَّدِ فِسْقِهِ أَوْ لَا حَتَّى يَعْزِلَهُ الْإِمَامُ؟ فِيهِ خِلَافٌ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فِي بَيَانِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا أَوْ تَضَمُّنًا مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ سِرَاجِ الدِّينِ الْبُلْقِينِيِّ، وَبَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، فَالطَّهَارَةُ لَا يَدْخُلُهَا شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَلَا بِالْمُوجَبِ اسْتِقْلَالًا لَكِنْ يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ كَتَعْلِيقِ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ عَلَى طَهَارَةِ مَاءٍ أَوْ نَجَاسَتِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ لِوُجُودِ الصِّفَةِ فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الطَّلَاقِ أَوْ بِمُوجَبِ مَا صَدَرَ مِنْ الْمُعَلِّقِ وَوُجُودِ صِفَتِهِ كَانَ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ بِالطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةُ يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِالتَّضَمُّنِ، مِثْلُ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ بِوُضُوءٍ خَالٍ عَنْ النِّيَّةِ، أَوْ مَعَ وُجُودِ مَسِّ الذَّكَرِ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ الصَّلَاةِ مَعَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ، فَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِعَدَالَةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَالْحَاكِمُ مُعْتَقِدٌ صِحَّةَ ذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ مُتَضَمِّنًا صِحَّةَ وُضُوئِهِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ الصَّلَاةِ الْخَالِيَةِ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ عَنْ الطُّمَأْنِينَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَقَدْ عَجِبْت مِنْ قَاضٍ حَضَرَ عِنْدَ أَمِيرٍ وَوَقَعَ الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِجَامِعٍ بَنَاهُ ذَلِكَ الْأَمِيرُ، فَلَمَّا تَكَلَّمُوا فِي الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي يَحْكُمُ بِصِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ. قُلْت: وَهَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَدْخُلَ ذَلِكَ وَلَا نَحْوُهُ تَحْتَ الْحُكْمِ اسْتِقْلَالًا وَلَا تَضَمُّنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنْ يَدْخُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ تَعْلِيقِ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى صِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ إذَا تَوَجَّهَ إلَى الْمُعَلِّقِ بِمَا الْتَزَمَهُ يَتَضَمَّنُ صِحَّةَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى إلْزَامِ الشَّخْصِ لَا مُطْلَقًا. وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ بِجَوَازٍ إخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ بِصِحَّةِ الْإِخْرَاجِ أَوْ بِمُوجَبِ الْإِخْرَاجِ عِنْدَهُ وَهُوَ سُقُوطُ الْفَرْضِ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْمُوجَبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا مَذْهَبَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَالِكَ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُ سَوَاءً حَكَمَ بِالصِّحَّةِ أَوْ حَكَمَ بِالْمُوجَبِ. وَأَمَّا الصَّوْمُ: فَيَدْخُلُهُ أَيْضًا، وَذَلِكَ إذَا صَامَ الْوَلِيُّ الْوَارِثُ عَنْ الْمَيِّتِ وَطَلَبَ الْوَصِيُّ أَنْ يُخْرَجَ الطَّعَامُ فَامْتَنَعَ الْوَارِثُ مِنْهُ وَتَرَافَعَا إلَى حَاكِمٍ يَرَى صِحَّةَ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ فَحَكَمَ بِصِحَّتِهِ أَوْ بِمُوجَبِهِ فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ حِينَئِذٍ وَلَا أَنْ يُطَالِبَ الْوَارِثَ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْحُكْمِ وَأَمَّا الِاعْتِكَافُ: فَيَدْخُلُهُ الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا وَتَضَمُّنًا. أَمَّا اسْتِقْلَالًا: فَفِي مَسَائِلَ مِنْهَا: مَنْ اعْتَكَفَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَلَهُ مَنْعُهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَكَفَ الْمِدْيَانُ هَرَبًا مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَرَى فِيهِ رَأْيَهُ وَأَمَّا التَّضَمُّنُ: فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَأَمَّا الْحَجُّ: فَإِنَّهُ لَوْ فَسَخَ حَنْبَلِيٌّ حَجَّهُ إلَى الْعُمْرَةِ حَيْثُ يَسُوغُ عِنْدَهُ وَلَهُ زَوْجَةٌ وَلَيْسَ مُعْتَقَدُهَا ذَلِكَ فَامْتَنَعَتْ مِنْ تَمْكِينِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَارْتَفَعَا إلَى حَاكِمٍ حَنْبَلِيٍّ فَحَكَمَ عَلَيْهَا بِصِحَّةِ مَا فَعَلَ زَوْجُهَا الْحَنْبَلِيُّ أَوْ حَكَمَ

فصل الفرق بين ألفاظ الحكم المتداولة في التسجيلات

بِمُوجَبِ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَلَوْ حَكَمَ عَلَيْهَا بِالتَّمْكِينِ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ مَا فَعَلَهُ الزَّوْجُ وَهُوَ نَفْسُ الْمُوجَبِ. وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ: فَهِيَ عِبَادَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا، وَقَدْ يَدْخُلُهَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ فِي التَّعْلِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الصَّيْدُ: فَيَدْخُلُهُ الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا، فَإِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي صَيْدٍ وَتَرَافَعَا إلَى الْحَاكِمِ وَتَصَادَقَا عَلَى فِعْلَيْنِ صَدَرَا مِنْهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ مَثَلًا أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ لِلْأَوَّلِ أَوْ لِلثَّانِي فَحَكَمَ لَهُ بِأَنَّهُ الْمَالِكُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُسْتَقِلًّا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا دَخَلَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْمِلْكَ، وَجَمِيعُ وُجُوهِ الْمِلْكِ يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ. وَأَمَّا الذَّبَائِحُ: فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ مِنْ جِهَةِ التَّقْصِيرِ الْمُقْتَضِي لِلتَّغْرِيمِ. وَكَذَا دَفْعُ الْأُجْرَةِ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ صَاحِبُ الذَّبِيحَةِ الذَّبِيحَةَ لِشَخْصٍ ثُمَّ تَرَافَعَا إلَى حَاكِمٍ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهَا حَرَامٌ لِأَمْرٍ ادَّعَاهُ وَظَهَرَ لِلْحَاكِمِ ذَلِكَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ وَحَكَمَ عَلَى الْبَائِعِ بِرَدِّ الثَّمَنِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنْهُ بِتَحْرِيمِ الذَّبِيحَةِ. وَكَذَا إذَا ثَبَتَ التَّقْصِيرُ فِي الذَّبْحِ وَحَكَمَ بِالْغُرْمِ كَانَ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِحُرْمَةِ الذَّبِيحَةِ وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ: فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا. مِثَالُهُ: إذَا نَزَلَتْ بِرَجُلٍ مَخْمَصَةٌ وَوَجَدَ مَعَ رَجُلٍ طَعَامًا فَامْتَنَعَ مِنْ إطْعَامِهِ وَمِنْ مُسَاوَمَتِهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ فَإِنْ مَاتَ الْجَائِعُ وَجَبَ الْقِصَاصُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ وَإِنْ أَخَذَهُ الْجَائِعُ قَهْرًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَأَمَّا النِّكَاحُ وَتَوَابِعُهُ: فَدُخُولُ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْمُوجَبِ فِيهِمَا وَاضِحٌ. وَكَذَا سَائِرُ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقِسْمَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْحَبْسِ وَالْوَكَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْحُمَالَةِ وَالضَّمَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْمُعَامَلَاتِ كُلِّهَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ، فَلَا نُطَوِّلُ بِالتَّمْثِيلِ. [فَصْلٌ الْفَرْقِ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي التَّسْجِيلَاتِ] (فَصْلٌ) : فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي التَّسْجِيلَاتِ وَهِيَ مَرَاتِبُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَأَعْلَاهَا " لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ أَعْنِي: بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَقْفًا كَانَ أَوْ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهَا. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ فِي حَدِّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ مَنْ لَهُ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ قَابِلٍ لِقَضَائِهِ ثَبَتَ عِنْدَهُ وُجُودُهُ بِشَرَائِطِهِ الْمُمْكِنِ ثُبُوتُهَا أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ عَلَى وَجْهِهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا، فَقَوْلُنَا عَنْ قَضَاءٍ يُخْرِجُ الثُّبُوتَ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ فِي قَوْلٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُنَا " مَنْ لَهُ ذَلِكَ " يَدْخُلُ فِيهِ الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ الَّذِينَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ خَبَرُ الْعَزْلِ، وَحَاكِمُ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا لَمْ يَسْتَحِلَّ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَالْكَافِرُ حَاكِمُ الْكَفَرَةِ وَالْمُحَكَّمُ. وَقَوْلُنَا " قَابِلٌ لِقَضَائِهِ " يَخْرُجُ بِهِ مَا لَا يَقْبَلُ الْقَضَاءَ مِنْ عِبَادَةٍ مُجَرَّدَةٍ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إلْزَامٌ كَالْحُكْمِ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَيَنْجَرُّ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَقْبَلُ الْإِلْزَامَ. وَقَوْلُنَا " ثَبَتَ عِنْدَهُ وُجُودُهُ " يَعُمُّ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَبِالْإِقْرَارِ وَبِعِلْمِ الْقَاضِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ بَعْدَ النُّكُولِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ مَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ " وُجُودُهُ " أَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَوَجَّهُ الْحُكْمُ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُ " بِشَرَائِطِهِ الْمُمْكِنِ ثُبُوتُهَا " يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الشُّرُوطِ لَا يُعْتَبَرُ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ مَثَلًا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَرْهُونِ وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَالْجَانِي جِنَايَةً تُوجِبُ أَرْشًا مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ، وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا هِبَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ أَحَدٌ انْتِفَاءَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَلَا فِي الْحُكْمِ بِمُوجَبِهِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ غَيْرِ الْمَحْصُورِ مُتَعَذَّرٌ. وَإِنَّمَا طَلَبُ ذَلِكَ فِي أَنْ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ سِوَى الْقَائِمِ مِنْ أَجْلِ ظُهُورِ اسْتِحْقَاقِ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَوَانِعُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا، وَاَلَّذِي يُعْتَمَدُ غَالِبًا فِي التَّسْجِيلَاتِ بِالْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فِي الْوَقْفِ

وَنَحْوِهِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ، وَاكْتَفَوْا بِشُهْرَةِ بُلُوغِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ وَرُشْدِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّا نَرَى الْحُكَّامَ فِي عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ يَطْلُبُونَ الشَّهَادَةَ بِخُلُوِّ الزَّوْجَةِ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ مِنْ زَوْجٍ وَعِدَّةٍ وَنَحْوِهَا، فَهَلَّا طَلَبُوا الشَّهَادَةَ عَلَى خُلُوِّ الْبَيْعِ مِنْ رَهْنٍ وَجِنَايَةٍ؟ قُلْنَا: سَبَبُهَا الِاحْتِيَاطُ فِي الْأَبْضَاعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّزْوِيجَ لَوْ وَقَعَ كَانَ مَشْهُورًا غَالِبًا، فَطَلَبُنَا الشَّهَادَةَ بِعَدَمِهِ لِإِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ. وَقَوْلُنَا: إنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ هَذَا هُوَ مَحَطُّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحُكْمِ فَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْحُكْمِ ثُبُوتُ مِلْكِ الْمَالِكِ وَحِيَازَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَصِحَّةِ صِيغَتِهِ فِي مَذْهَبِ الْقَاضِي، يُرِيدُ إنْ كَانَ شَافِعِيًّا، وَصِحَّةُ الصِّيغَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي مَوَانِعَ مَعْدُودَةٍ، فَإِذَا وَقَعَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَصُرِّحَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَعْنِي: مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ أَعْنِي بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَقْفًا كَانَ أَوْ بَيْعًا، فَلَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِهِ بِاجْتِهَادِ مِثْلِهِ إنْ كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا قَرِيبًا لَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ بِنَاؤُهُ عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَعْنِي: " الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ " الْفَسَادُ مِنْ جِهَةِ تَبَيُّنِ عَدَمِ الْمِلْكِ أَوْ شَرْطٍ آخَرَ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا قَصَدَهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْحُكْمِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ نَقَضَهُ ذَلِكَ الْقَاضِي نَفْسُهُ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْخَلَلَ الَّذِي ظَهَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي مَحِلِّ الْحُكْمِ لَا فِي الْحُكْمِ. وَمِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي التَّسْجِيلِ لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: كَثِيرًا مَا يُكْتَبُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي التَّسْجِيلَاتِ، فَيُحْمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي صِحَّتِهِ عَلَى الثُّبُوتِ فَيُرَاجَعُ فِيهِ الْحَاكِمُ وَلَا يَكُونُ صَرِيحًا، فَإِنْ عَسِرَتْ الْمُرَاجَعَةُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ، وَمَعْنَى صِحَّتِهِ كَوْنُهُ بِحَيْثُ تَتَرَتَّبُ آثَارُهُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى حُكْمِ الْقَاضِي بِذَلِكَ إلْزَامُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَإِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ نَفَذَ وَصَارَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْحُكْمِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ وَأَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَصِحَّةِ الصِّيغَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَكُلُّ مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَعَرَفَهُ الْقَاضِي وَحَكَمَ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْخِلَافِ ارْتَفَعَ أَثَرُ ذَلِكَ الْخِلَافِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاقِعَةِ فَهِيَ صِحَّةٌ مُطْلَقَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ مَا ذُكِرَ مِنْ رَفْعِ الْخِلَافِ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْفَسَادُ. وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ: لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ، وَهَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ الَّتِي غَلَبَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَسْتَدْعِي ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ، وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ، وَكَوْنُ تَصَرُّفِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَلِذَلِكَ اُشْتُرِطَ فِيهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ. وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ يَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ وَهُمَا: أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ، وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ، فَيَحْكُمُ بِمُوجَبِهَا وَهُوَ مُقْتَضَاهَا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا وَمُوجَبَهَا ذَلِكَ. وَكَأَنَّهُ حُكْمٌ بِصِحَّةِ تِلْكَ الصِّيغَةِ الصَّادِرَةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَلَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ نَقْضٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ نَقْضُهُ، وَلَا يُنْقَضُ إلَّا أَنْ يُتَبَيَّنَ عَدَمُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ نَقْضُهُ كَنَقْضِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ. (تَنْبِيهٌ) : وَإِنَّمَا جَازَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْسُرُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ. قَالَ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: وَلَمْ نَجِدْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ " وَهِيَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ " فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمَذَاهِبِ إلَّا فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ لِبَيَانِ حَدِّ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ هُوَ قَضَاءُ الْمُتَوَلِّي بِأَمْرٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالْإِلْزَامِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ خَاصًّا أَوْ عَامًّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا، فَذِكْرُ الْقَضَاءِ يَخْرُجُ بِهِ الثُّبُوتُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ عِنْدَ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي. وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا الْمُتَوَلِّي الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ الَّذِينَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي حَدِّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَيَجْرِي فِي قَوْلِهِ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ بِالْإِلْزَامِ إلَى آخِرِهِ: يَعْنِي بِالْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهُ وَهُوَ صُدُورُ الصِّيغَةِ فِي ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ يَتَوَجَّهُ إلَى الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْخَاصِّ لَا مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

وَمِنْ هَا هُنَا يَظْهَرُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ فُرُوقٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ مُنَصَّبٌ إلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ الصَّادِرِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ وَقْفٍ بِمُوجَبِ مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَلَا يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ أَنَّهُ مَالِكٌ مَثَلًا إلَى حِينِ الْبَيْعِ أَوْ الْوَقْفِ وَلَا بَقِيَّةَ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ أَوْ الْوَاقِفِ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِمُوجَبِ مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ سَالِمٍ مِنْ الِاعْتِرَاضِ، وَسَيَأْتِي مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ. الثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ الصَّادِرَ إذَا كَانَ صَحِيحًا بِاتِّفَاقٍ وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي مُوجَبِهِ فَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ عِنْدَ الَّذِي حَكَمَ بِالصِّحَّةِ، وَلَوْ حَكَمَ فِيهِ الْأَوَّلُ بِالْمُوجَبِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الثَّانِي، مِثَالُ ذَلِكَ: التَّدْبِيرُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ. وَمُوجَبُهُ إذَا كَانَ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُنِعَ الْبَيْعُ، فَلَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِصِحَّةِ التَّدْبِيرِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ. وَلَوْ حَكَمَ الْحَنَفِيُّ بِمُوجَبِ التَّدْبِيرِ امْتَنَعَ الْبَيْعُ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى نَقْضَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ، وَهَذَا النَّقْصُ حَرَامٌ لِمُدْرِكٍ آخَرَ. الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ دَعْوَى كَانَ الْمَطْلُوبُ فِيهَا إلْزَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ فَإِنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ فِيهَا بِالْإِلْزَامِ هُوَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ وَلَا يَكُونُ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَكَذَا الْحُكْمُ بِحَبْسِ الْمِدْيَانِ حُكْمٌ بِالْمُوجَبِ وَلَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الزَّانِي بِمُوجَبِ زِنَاهُ وَعَلَى السَّارِقِ بِمُوجَبِ سَرِقَتِهِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ وَلَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، وَنَحْوُهُ الْحَبْسُ، إلَّا إذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَطُلِبَ فِيهِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ بِطَرِيقِهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِالصِّحَّةِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ، وَالْحَالُ مَا ذَكَرْنَا مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْحَبْسِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهَذَا ضَابِطٌ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَكُونُ بِالصِّحَّةِ عِنْدَ الْمُوَافِقِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ الَّذِي يُجِيزُ التَّنْفِيذَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَكُونُ حُكْمًا بِالْإِلْزَامِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَيَكُونُ حُكْمًا بِالْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَحْكُومِ فِيهِ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الْمُوَافِقِ وَلَا يَجُوزُ مِنْ الْمُخَالِفِ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ بِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الثَّانِي، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمُخَالِفِ. (تَنْبِيهٌ) : قَوْلُهُ " لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ " مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ التَّنْفِيذَ عِنْدَهُ لَيْسَ هُوَ إنْشَاءَ حُكْمٍ إلَّا أَنْ يُنْشِئَ فِيهِ حُكْمًا، وَسَيَأْتِي مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ. السَّادِسُ: لَوْ تَرَافَعَ مُتَبَايِعَانِ إلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ وَتَنَازَعَا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي التَّحَالُفَ فَحَكَمَ بِتَحَالُفِهِمَا كَانَ مِنْهُ حُكْمًا بِالْإِلْزَامِ لَا بِصِحَّةِ التَّحَالُفِ، وَالتَّحَالُفُ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ، وَكَذَا كُلُّ يَمِينٍ وَإِلْزَامٍ فِيمَا لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْإِلْزَامِ وَهُوَ مُوجَبُ الْحُجَّةِ الْقَائِمَةِ وَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ. السَّابِعُ: لَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِ الْبَيْعِ بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ. وَلَكِنْ يَكُونُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي حُكْمًا لَهُ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ حُصُولُ الْمِلْكِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِيمَا يَفُوتُ بِهِ الْبَيْعُ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ عَرَفَ الْحَاكِمُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَحُصُولَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي أَوْ فَسَادَ الْبَيْعِ وَفَاتَ الْمَبِيعُ بِيَدِهِ وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِالْمِلْكِ أَوْ بِمُوجَبِ مَا جَرَى فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ: أَعْنِي بِالْمُوجَبِ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِالصِّحَّةِ أَعْنِي: صِحَّةَ الْبَيْعِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْأَصْلِ قَبْضًا صَحِيحًا.

الثَّامِنُ: يُتَصَوَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ صُوَرِ الْقَبْضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَبْضٍ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ، كَمَا إذَا أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَكِيلَ مَا اشْتَرَاهُ مَكِيلًا فَفَعَلَ، فَإِنَّ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ: فَلَوْ اشْتَرَى قَمْحًا مَثَلًا وَشَرَطَ فِيهِ الْكَيْلَ وَكَانَ الْبَائِعُ قَدْ اشْتَرَاهُ مَكِيلًا وَهُوَ فِي مِكْيَالِ الْبَائِعِ فَهَلْ يُغْنِي ذَلِكَ عَنْ التَّجْدِيدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. رَجَّحَ جَمْعٌ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ، وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ وَالْمُحِيطِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُ ذَلِكَ ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ فِي السَّلَمَ الثَّانِيَ. فَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَارْتَفَعَتْ قَضِيَّةٌ مِنْ هَاتَيْنِ أَعْنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا لِحَاكِمٍ شَافِعِيٍّ مَثَلًا فَحَكَمَ بِصِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْقَبْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ، وَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ بِطَرِيقِهِ صَحَّ، وَلَوْ حَكَمَ بِمُوجَبِ الْقَبْضِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ قَالَ: إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْحَاكِمُ عَقِيدَتَهُ فِي الْقَبْضِ وَيَقُولَ: حَكَمْت بِمُوجَبِ الْقَبْضِ فِي ذَلِكَ عَلَى مُوجَبِ مُعْتَقَدِي، فَلَوْ كَانَ مُعْتَقَدُ الْحَاكِمِ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَمُعْتَقَدُهُ أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِهِ عَقْدُ الْبَيْعِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ كَانَ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْقَبْضِ حِينَئِذٍ مُقْتَضَاهُ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ بِهَذَا الْقَبْضِ. التَّاسِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَتَضَمَّنُ أَشْيَاءَ لَا يَتَضَمَّنُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ. فَمِنْهَا: الْحُكْمُ بِإِلْزَامِهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إذَا صَدَرَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحَنَفِيَّ وَالْمَالِكِيَّ إذَا حَكَمَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ أَعْنِي بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْبَيْعِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ إثْبَاتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَلَا فَسْخَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يُجَامِعُ ذَلِكَ. فَأَمَّا لَوْ حَكَمَ الْحَنَفِيُّ أَوْ الْمَالِكِيُّ بِمُوجَبِ الْبَيْعِ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْحَاكِمِ الشَّافِعِيِّ تَمْكِينُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مِنْ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُنْظَرْ إلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُضَاةِ يَنْفِي خِيَارَ الْمَجْلِسِ، فَإِذَا نَظَرْنَا إلَى ذَلِكَ فَذَاكَ لِمُدْرِكٍ آخَرَ. وَمِنْهَا: الْقَرْضُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ إذَا وَجَدَ مُقْتَضِيَهَا، وَيَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فَيُنْظَرُ فِيهِ حِينَئِذٍ إلَى عَقِيدَةِ الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ بِالْمُوجَبِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُقْرِضُ فِيمَا أَقْرَضَهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْقَرْضِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى الْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ قَاضٍ حَنَفِيٍّ أَوْ شَافِعِيٍّ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرَى الرُّجُوعَ فِيهِ إذْ هُوَ قَرْضٌ صَحِيحٌ وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَلَا يُنَافِي الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ الْقِيَامُ بِالرُّجُوعِ فِي الْقَرْضِ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْمُوجَبِ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ امْتَنَعَ عَلَى الْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ الْمُقْرَضَةِ الْبَاقِيَةِ عِنْدَ الْمُقْرَضِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْقَرْضِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ. وَمِنْهَا: الرَّهْنُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ لَا يَمْنَعُ الْمُخَالِفَ فِي الْآثَارِ مِنْ الْعَمَلِ بِآثَارِهِ عَلَى عَقِيدَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُنَاقِضُ شَيْئًا مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِنْ صَدَرَ فِيهِ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَاهُ نُظِرَ إلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مُوجَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ الْإِلْزَامُ امْتَنَعَ عَلَى الْمُخَالِفِ الْعَمَلُ بِمَا يُخَالِفُ عَقِيدَةَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ. وَمِثَالُهُ: لَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ أَوْ حَنَفِيٌّ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ وَحَصَلَ فِيهِ إعَادَتُهُ إلَى الرَّهْنِ بِعَارِيَّةٍ بَعْدَ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا لِمَنْ يَرَى فَسْخَ الرَّهْنِ بِالْعَوْدِ إلَى الرَّاهِنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يُعِيدَهُ اخْتِيَارًا وَيَفُوتُ الْحَقُّ فِيهِ بِإِعْتَاقِ الرَّاهِنِ مَثَلًا وَقِيَامِ الْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ وَإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّاهِنِ فِي الْوَطْءِ أَنْ يَفْسَخَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ لَيْسَ مُنَافِيًا لِلْفَسْخِ بِمَا ذُكِرَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ أَوْ شَافِعِيٌّ بِمُوجَبِ الرَّهْنِ عِنْدَهُ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَاهُ

فصل ما يجتمع فيه الحكم بالصحة والحكم بالموجب

فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ أَنْ يَفْسَخَهُ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّ مُوجَبَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيِّ دَوَامُ الْحَقِّ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ مَعَ الْعَوْدِ، فَالْحُكْمُ بِالْفَسْخِ لِأَجْلِ الْعَوْدِ الْمَذْكُورِ مُنَافٍ لِحُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِهِ عِنْدَهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. فَهَذِهِ الْفُرُوقُ التِّسْعَةُ مَعَ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَاشِرُ يَحْصُلُ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ. [فَصْلٌ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ] (فَصْلٌ) : فِي بَيَانِ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ وَذَلِكَ فِي أُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا صَدَرَ فِي مَحَالِّ الِاجْتِهَادِ الَّتِي يُنْقَضُ الْحُكْمُ فِيهَا، وَإِنَّمَا اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ لِتَضَمُّنِ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ، إمَّا عَامًّا عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ، أَوْ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَكَمَا لَا يُرَدُّ النَّقْضُ عَلَى الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ لَا يُرَدُّ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهَا إذَا أَجَزْنَاهُ. فَأَمَّا إذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ قَدْ وَقَعَ مُخْتَلًّا، وَالْحُكْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ غَيْرُ الْحُكْمِ بِأَمْرٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَيَسُوغُ لِمَنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِذَلِكَ أَنْ يَنْقُضَهُ إلَّا إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ قَبْلَهُ بِصِحَّةِ الْحُكْمِ الصَّادِرِ بِالْمُوجَبِ وَكَانَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى تَسْوِيغَ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُنْقَضُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا رُفِعَ لِلْقَاضِي كِتَابُ حُكْمٍ يَسُوغُ تَنْفِيذُهُ عِنْدَهُ نَفَّذَهُ قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاكِمِ فِيهِ أَوْ بَعُدَتْ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَوْ بِالْمُوجَبِ، بِخِلَافِ كِتَابِ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَامِعِ الْبَيِّنَةِ بِحَيْثُ تُقْبَلُ فِي مِثْلِهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَهُوَ مَسَافَةُ السَّفَرِ، كَذَا قَيَّدَهُ الْكَرْخِيُّ فِي التَّجْرِيدِ، وَغَيْرُهُ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَجَازَ إمْضَاءَ ذَلِكَ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَعْنِي: اشْتِرَاطَ الْمَسَافَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيَانٍ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَمِنْهَا: تَغْرِيمُ الشُّهُودِ الرَّاجِعِينَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ أَوْ بِالْمُوجَبِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا التَّغْرِيمُ. (تَنْبِيهٌ) : إذَا كَانَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مُسْتَوْفِيًا لِمَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ كَانَ أَقْوَى لِوُجُودِ الْإِلْزَامِ فِيهِ وَتَضَمُّنِهِ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ. (فَصْلٌ) : قَدْ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ: مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ بِأَنَّ هَذَا وَقْفٌ وَذَكَرُوا الْمَصْرِفَ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ فَحَكَمَ الْقَاضِي بِمُوجَبِ شَهَادَتِهِمْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ وَاعْلَمْ: أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَأَنَّهُ الَّذِي جَرَى بِهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ بِخِلَافِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا فِي الْقِسْمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِأَيْدِي جَمَاعَةٍ أَرْضٌ أَوْ غَيْرُهَا فَجَاءُوا إلَى الْحَاكِمِ وَطَلَبُوا مِنْهُ الْقِسْمَةَ وَلَمْ يُثْبِتُوا أَنَّهَا مِلْكُهُمْ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ لَا يُجِيبَهُمْ وَيَقُولَ لَهُمْ: إنْ شِئْتُمْ فَاقْسِمُوا بَيْنَ أَنْفُسِكُمْ أَوْ يَقْسِمَ بَيْنَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ، وَإِنْ شِئْتُمْ قَسْمِي فَأَقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى أُصُولِ حُقُوقِكُمْ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنِّي إنْ قَسَمْت بَيْنَكُمْ بِلَا بَيِّنَةٍ وَجِئْتُمْ بِشُهُودٍ يَشْهَدُونَ أَنِّي قَسَمْت بَيْنَكُمْ هَذِهِ الدَّارَ إلَى قَاضٍ غَيْرِي كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لَأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنِّي لَكُمْ وَلَعَلَّهَا لِغَيْرِكُمْ لَيْسَ لَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا يَقْسِمُ الْحَاكِمُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. قَالَ: وَقِيلَ يَقْسِمُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ وَيُشْهِدُ أَنَّهُ قَسَمَ عَلَى إقْرَارِهِمْ. (تَنْبِيهٌ) : وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْمُوجَبِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الشُّرُوطَ الْمَطْلُوبَةَ فِي الْحُكْمِ

فصل في الحكم بمضمونه

بِالصِّحَّةِ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَحْضَرَ كِتَابَ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ أَثْبَتَ صُدُورَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُ إلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ وَلَا بِمُوجَبِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ قَدْ يَأْتِي مَثَلًا بِشُهُودٍ يَشْهَدُونَ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ أَنَّ الْحَاكِمَ الْأَوَّلَ حَكَمَ بِمُوجَبِ هَذَا الْوَقْفِ فَيَجْعَلُهُ الْحَاكِمُ الثَّانِي حُكْمًا مِنْ الْأَوَّلِ بِنَفَاذِ الْوَقْفِ وَلَعَلَّهُ لِغَيْرِ الْوَاقِفِ فَعَلَى هَذَا لَا يُجِيبُهُ إلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُونَ بِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ الْوَقْفِ. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَيَزِيدُونَ الْحِيَازَةَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مَبْسُوطٌ فِي مَحَلِّهِ وَمَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ فَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِرَاضُ الْوَارِدُ عَلَى الْفَرْقِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفُرُوقِ الْعَشَرَةِ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ الْحَاكِمِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْ صُدُورِ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ أَوْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِ الشُّهُودِ: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا وَقْفٌ أَوْ هَذَا مَبِيعٌ مِنْ فُلَانٍ، أَوْ هَذِهِ مَنْكُوحَةُ فُلَانٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِمُوجَبِ شَهَادَتِهِمْ وَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ، فَلْيَعْرِفْ الْفَقِيهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ وَلْيَقِسْ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّسْجِيلِ " لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ " - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. (تَنْبِيهٌ) : وَلَمْ أَقِفْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ، وَظَاهِرُ قَوَاعِدِهِمْ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ مَا ذَكَرْتُهُ قَبْلُ وَاسْتَبْعَدَهُ فَقَالَ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ الْمِلْكُ وَالْحِيَازَةُ، يُرِيدُ إلَى حِينِ صُدُورِ الْوَقْفِ. قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ وَفِيهِ تَعْطِيلٌ لِلْحُقُوقِ، وَالْيَدُ يُكْتَفَى بِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ. [فَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِمَضْمُونِهِ] (فَصْلٌ) : فِي الْحُكْمِ بِمَضْمُونِهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ اسْتِطْرَادًا فِي كَلَامِهِ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ فَقَالَ: وَقَدْ عَرَضَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ بَحْثٌ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ وَشُغِفَ بِهِ جَمَاعَةُ مِمَّنْ لَقِينَاهُمْ وَعَاصَرْنَاهُمْ وَبَحَثْنَا مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابنَا، وَهُوَ أَنَّ الْمُوجَبَ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ مُبْهَمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصِّحَّةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهَا. وَحُكْمُ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَيَّنَ، فَإِذَا لَمْ يُعَيَّنْ فَلَا يَصِحُّ، وَلَا يُرْفَعُ الْخِلَافُ مِنْ قَاضٍ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ. مِثَالُ ذَلِكَ، وَهَبَ شَيْئًا يُقْسَمُ لِرَجُلَيْنِ فَقَبَضَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، يَجُوزُ. فَلَوْ رُفِعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ حَنَفِيٍّ وَحَكَمَ فِيهِ بِالْمُوجَبِ فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ مَا أَرَادَ فَلَا يَصِحُّ وَلَا يُرْفَعُ الْخِلَافُ وَلَا يُمْنَعُ الْحُكْمُ مِنْ قَاضٍ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ، وَنَقَضُوا بِهَذَا أَوْقَافًا كَثِيرَةً وَأَحْكَامًا كَثِيرَةً، وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالَ إلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُكْتَبُ عَلَى ظُهُورِ الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ وَهُوَ صَحُّ وَوَرَدَ هَذَا الْكِتَابُ عَلَيَّ فَقَبِلْته قَبُولَ مِثْلِهِ وَأَلْزَمْت الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ لَيْسَ بِحُكْمٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ تَصْحِيحُ الْكِتَابِ وَإِثْبَاتُ الْحُجَّةِ. قَالَ: وَاَلَّذِي وَقَعْت عَلَيْهِ فِي كِتَابِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَلْزَمْت الْعَمَلَ بِمَضْمُونِهِ لَا بِمُوجَبِهِ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فَنَقُولُ: إذَا أَعَدْنَا الضَّمِيرَ عَلَى الْكِتَابِ صَحَّ مَا قَالَاهُ؛ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْكِتَابِ وَمُوجَبَهُ مَعْنَاهُمَا صُدُورُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ إنْشَاءٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِزُورٍ، فَلِذَلِكَ صَوَّبَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إذَا أُرِيدَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ اُحْتُمِلَ أَنَّهَا مُرَادُ الْحَاكِمِ، أَمَّا إذَا حَكَمَ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ أَوْ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ مُوجَبُهُ إلَّا كَوْنَهُ وَقْفًا وَكَوْنَ الْمُقَرِّ بِهِ لَازِمًا. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: مُوجَبُهُ يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ اللَّفْظَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ حُكْمَهُ، وَاللَّفْظُ الْفَاسِدُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ لَفْظٌ يَحْتَمِلُ مُوجَبَيْنِ، فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُبَيِّنَ فِي حُكْمِهِ مَا أَرَادَهُ كَمَا ذَكَرْته فِي مِثَالِ الْهِبَةِ لِرَجُلَيْنِ، وَإِبْهَامُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ إلَّا أَنْ يَخْشَى مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ يُرِيدُ فَيَكْتُبُ لَهُ لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ أَوْ مَضْمُونِهِ. وَمُرَادُهُ إعَادَةُ الضَّمِيرِ فِي مُوجَبِهِ وَمَضْمُونِهِ عَلَى الْكِتَابِ

كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَفْعَلُ ذَلِكَ مُوَافَقَةً لَهُ، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ مُرَادِهِ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا يُحْمَلُ حُكْمُ الْقَاضِي إلَّا عَلَى الْبَيَانِ الْوَاضِحِ، وَمَتَى حَصَلَ التَّرَدُّدُ فِي مُوجَبِ اللَّفْظِ مِثْلِ الْهِبَةِ هَلْ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ مِنْهَا يَكْفِي فِي اللُّزُومِ وَنَقْلِ الْمِلْكِ أَوْ لَا يَكْفِي حَتَّى يَكُونَ الْوَاهِبُ صَحِيحًا جَائِزًا، وَمِثْلِ التَّبَرُّعِ فِي زَمَنِ الطَّاعُونِ هَلْ يَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: حَكَمْت بِمُوجَبِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا الْحُكْمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يُرْجَعُ إلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي فَيُحْتَمَلُ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُبَيِّنُ مَقْصُودَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَكَلَامُنَا إذَا حَكَمَ بِمُوجَبِ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إقْرَارٍ وَنَحْوِهَا فَهُوَ حُكْمٌ عَلَى الْعَاقِدِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ وَعَلَى الْمُقِرِّ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ، وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ آخَرَ نَقْضُهُ لِاقْتِضَاءِ مَذْهَبِهِ بُطْلَانَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَقْضُ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ. وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ أَنْ يُحْكَمَ بِالثُّبُوتِ وَحَقِيقَتُهُ حُكْمٌ بِتَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ وَسَمَاعِهَا وَفَائِدَتُهُ عَدَمُ احْتِيَاجِ حَاكِمٍ آخَرَ إلَى النَّظَرِ فِيهَا وَجَوَازُ التَّنْفِيذِ فِي الْبَلَدِ، فَإِنَّ فِي تَنْفِيذِ الثُّبُوتِ فِي الْبَلَدِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِهِ بِحُكْمٍ خِلَافًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِذَا صَرَّحَ بِالْحُكْمِ كَمَا ذَكَرْنَا جَازَ التَّنْفِيذُ، فَهُمَا فَائِدَتَانِ. قَالَ: وَقَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَعَمَدَ إلَى أَوْقَافٍ وَقَفَهَا وَاقِفُونَ وَاسْتَمَرَّتْ فِي أَيْدِيهِمْ يَصْرِفُونَهَا عَلَى حُكْمِ الْوَقْفِ، ثُمَّ بِأَيْدِي نُظَّارِهَا كَذَلِكَ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَأَبْطَلَهَا وَرَدَّهَا إلَى مِلْكِ وَرَثَةِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى الْيَدِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى حُكْمِ الْوَقْفِ وَلَا إلَى سُكُوتِ الْوَارِثِينَ وَوَارِثِيهِمْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْجَوَازِ إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ وَامْتِنَاعُ الدَّعْوَى مَعْرُوفٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْضَرَ هَاهُنَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَوْقَافُ قَدْ ثَبَتَتْ عِنْدَ حَاكِمٍ وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ حَكَمْت بِصِحَّتِهِ فَتَعَلَّقَ فِي إبْطَالِهَا بِعَدَمِ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَرُبَّمَا اُقْتُرِنَ بِذَلِكَ الثُّبُوتِ حُكْمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ حَكَمْت بِصِحَّتِهِ فَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِبْطَالِ إلَّا حُكْمُ حَاكِمٍ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ. وَأَنَا أَذْكُرَ هَاهُنَا قَاعِدَةً فَأَقُولُ: الْقَاضِي الْمُعْتَبَرُ حُكْمُهُ تَارَةً يَقْتَصِرُ عَلَى الثُّبُوتِ وَتَارَةً يُضِيفُ إلَيْهِ حُكْمًا أَوْ يَذْكُرُ الْحُكْمَ مُجَرَّدًا، وَمِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَهُ ثُبُوتٌ. فَالْحَالَةُ الْأُولَى وَهِيَ أَنْ يَقْتَصِرَ فَتَارَةً يُضِيفُ الثُّبُوتَ إلَى السَّبَبِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْحُكْمُ، وَتَارَةً يُضِيفُ الثُّبُوتَ إلَى الْحُكْمِ نَفْسِهِ فَهُمَا قِسْمَانِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُضِيفَهُ إلَى السَّبَبِ كَإِثْبَاتِ جَرَيَانِ عَقْدِ الْوَقْفِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ النِّكَاحِ وَنَحْوِهَا هَذَا غَالِبُ مَا يَقَعُ مِنْ الثُّبُوتِ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَاضِي: ثَبَتَ عِنْدِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الْعُقُودِ أَوْ ثَبَتَ عِنْدِي الْإِقْرَارُ بِهَا أَوْ بِالدَّيْنِ مَثَلًا، فَالْبَيِّنَةُ وَالْإِقْرَارُ لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ لِلْحُكْمِ بَلْ لِإِثْبَاتِهِ يَعْنِي: أَنَّهُمَا سَبَبَانِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ لَا لِلْحُكْمِ. فَحَقِيقَةُ ثُبُوتِ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ تَزْكِيَتُهَا وَقَبُولُهَا، وَقَدْ تَرَدَّدَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ أَوْ لَيْسَ بِحُكْمٍ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ حُكْمٌ، وَلَا يُتَّجَهُ فِي مَعْنَى كَوْنِهِ حُكْمًا إلَّا أَنَّهُ حُكْمٌ بِتَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ وَقَبُولِهَا وَجَرَيَانِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَأَمَّا صِحَّتُهُ أَوْ الْإِلْزَامُ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ الْإِلْزَامُ. وَذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ وَقَالَ: هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الثُّبُوتَ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُثْبِتَ بَاطِلًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ قَدْ يُثْبِتُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي كَوْنِهِ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا، وَقَدْ يُثْبِتُ الشَّيْءَ الْبَاطِلَ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إنَّهُ قَدْ يُثْبِتُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ لِيَنْظُرَ غَيْرُهُ فِيهِ، أَمَّا إثْبَاتُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ لَا لِقَصْدِ الْإِبْطَالِ وَلَا لِيَنْظُرَ غَيْرُهُ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَالْحَقُّ الصَّحِيحُ أَنَّ الثُّبُوتَ لَيْسَ حُكْمًا بِالثَّابِتِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا بِثُبُوتِهِ: يَعْنِي بِجَرَيَانِ الْعَقْدِ وَصُدُورِهِ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ. وَقَدْ يَقَعُ فِي أَلْفَاظِ الْحُكَّامِ لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمَا قَامَتْ بِهِ

الْبَيِّنَةُ، فَمَا إنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً فَهُوَ كَقَوْلِهِ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً وَهُوَ الظَّاهِرُ فَهُوَ كَإِثْبَاتِ جَرَيَانِ الْعُقُودِ الْمَشْهُودِ بِهَا وَجَعْلِ الثُّبُوتِ حُكْمًا فِيمَا إذَا كَانَ الثَّابِتُ هُوَ الْعُقُودُ أَقْوَى مِنْهُ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّابِتُ قِيَامَ الْبَيِّنَة، وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ " ثَبَتَ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ "، وَقَدْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُضِيفَ الثُّبُوتَ إلَى الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ " ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ أَوْ مِلْكُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ زَوْجَةُ فُلَانٍ، فَهَذَا مِثْلُ الْحُكْمِ فَلَا يُمْكِنُ التَّعَرُّضُ لِنَقْضِهِ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ جَرَيَانُ عَقْدٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ " ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ زَوْجَةُ فُلَانٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ "، فَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ أَوْ لَا، وَيَقْوَى جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ حُكْمٌ امْتَنَعَ عَلَى حَاكِمٍ آخَرَ إبْطَالُهُ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لَمْ يَمْتَنِعْ. وَمَنْ يَقُولُ بِنَقْضِ حُكْمِ الْقَاضِي بِلَا وَلِيٍّ لَمْ يَمْتَنِعْ عِنْدَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ الْقَاضِي بِبَيَانِ السَّبَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ " ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهَا زَوْجَتُهُ " وَعَلِمَ بِبَيِّنَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُسْتَنَدَهُ تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ صَعْبٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ جَاءَ وَلِيُّهَا فَجُدِّدَ الْعَقْدُ بِحُضُورِهِ فِي غَيْبَةِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالثُّبُوتِ الْمُطْلَقِ وَبِتَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا بَعِيدًا. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْتَرِنَ بِالثُّبُوتِ حُكْمٌ، وَأَلْفَاظُ الْحُكْمِ مُتَعَدِّدَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَا بَقِيَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَحِينَئِذٍ لَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِهِ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، فَمَتَى كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا قَرِيبًا لَا يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَمْ يَكُنْ بَنَاهُ عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ لَمْ يُنْقَضْ بِحَالٍ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ فِي ذَلِكَ إذَا صَرَّحَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ هَذَا فِيمَا إذَا حَكَمَ بِالصِّحَّةِ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْمُوجَبِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ " لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ " فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثُّبُوتِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحُكْمِ بِالثُّبُوتِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثَّابِتِ عِنْدَهُ فَهُوَ مَاضٍ وَلَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ مِنْ إيجَابٍ أَوْ مَنْعٍ أَوْ إطْلَاقٍ، فَإِذَا قَالَ حَكَمْت بِأَنَّ هَذَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ أَوْ وَقَفَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَمَعْنَاهُ حَكَمْت بِأَنَّهُ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدِي فَيُرْجَعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ بِالْحُكْمِ بِالثُّبُوتِ، وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ " لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِهِ "، وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي سِجِلَّاتِ الْحَاكِمِ لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ، وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهُوَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهَا. وَمِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ غَيْرَ الْفَائِدَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى الْحُكْمِ بِالثُّبُوتِ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَمْتَنِعُ عَلَى حَاكِمٍ آخَرَ نَقْضُهُ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ إنْشَاءً كَانَ أَوْ إقْرَارًا أَوْ لَا يَمْتَنِعُ النَّقْضُ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَطْلَقَ الْبَيْعَ أَوْ نَحْوَهُ أَوْ ذَكَرَ صِيغَتَهُ أَوْ شُرُوطَهُ وَكَيْفَ وَقَعَ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْكُتُبِ فَيَمْتَنِعُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ، وَالْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ تُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْت بِقَوْلِي " لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ " احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يُنْقَضَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْعَاقِدِ أَوْ لِعَدَمِ شَرْطِ مَحَلِّهِ حَيْثُ لَا يُطْلَقُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّصَرُّفِ الْمَعْهُودِ كَمَا فِي الْوَاقِعِ فِي الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ إذَا قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي الْبَيْعُ أَوْ الْوَقْفُ وَنَحْوُهُمَا فَإِنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا قَالَ: لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ فَالْمُرَادُ التَّصَرُّفُ الْمَشْرُوحُ فِي الْكِتَابِ فَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُهُ فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَيْسَ لِلْقَاضِي إثْبَاتُهُ إلَّا إذَا قَصَدَ إبْطَالَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ كَوْنُهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَلِمَنْ يَرَى صِحَّتَهُ أَنْ يُثْبِتَهُ وَيَحْكُمَ بِثُبُوتِهِ وَبِصِحَّتِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ فَلَا يُنْقَضُ وَإِنْ ثَبَتَ ثُبُوتًا مُجَرَّدًا فَلِغَيْرِهِ نَقْضُهُ فِي رِوَايَةٍ، وَكَذَا إنْ حَكَمَ بِالثُّبُوتِ فَلَيْسَ لِمَنْ يَرَى فَسَادَهُ أَنْ يُثْبِتَهُ إلَّا لِغَرَضِ إبْطَالِهِ أَوْ يَنْظُرَ غَيْرُهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ شُهُودُ الْكِتَابِ فَأَثْبَتَهُ الْمَالِكِيُّ بِالْخَطِّ لِيَنْظُرَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ. قَالَ: وَإِذَا رَأَيْنَا حَاكِمًا أَثْبَتَهُ أَوْ حَكَمَ بِثُبُوتِهِ وَلَمْ نَعْلَمْ قَصْدَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ حُكْمُهُ.

فصل الفرق بين الثبوت والحكم

[فَصْلٌ الْفَرْق بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ] فَصْلٌ) : فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالثُّبُوتِ إنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ وَهَلْ الثُّبُوتُ حُكْمٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ فَهَلْ هُوَ عَيْنُ الْحُكْمِ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ ظَاهِرًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الثُّبُوتِ أَمْ لَا؟ جَوَابُهُ: أَنَّ الثُّبُوتَ هُوَ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى ثُبُوتِ السَّبَبِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ السَّيِّدَ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ، أَوْ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ أَوْ بِصَدَاقٍ فَاسِدٍ، أَوْ أَنَّ الشَّرِيكَ بَاعَ حِصَّتَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ، أَوْ أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ حَتَّى تَرِثَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ ثُبُوتِ أَسْبَابِ الْحُكْمِ، فَإِنْ بَقِيَتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ رِيبَةٌ أَوْ لَمْ تَبْقَ وَلَكِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الْخَصْمَ هَلْ لَهُ مَطْعَنٌ أَوْ مُعَارِضٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ ثُبُوتًا وَلَا حُكْمًا لِوُجُودِ الرِّيبَةِ أَوْ لِعَدَمِ الْأَعْذَارِ، وَإِنْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى سَبَبِ الْحُكْمِ أَوْ انْتَفَتْ الرِّيبَةُ وَحَصَلَتْ الشُّرُوطُ فَهَذَا هُوَ الثُّبُوتُ فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ حُكْمٌ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ يُرِيدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الثُّبُوتِ. قَالَ بُرْهَانُ الدِّينِ صَاحِبُ الْمُحِيطِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ حَكَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَقَوْلَهُ ثَبَتَ عِنْدِي يَكْفِي وَكَذَا إذَا قَالَ ظَهَرَ عِنْدِي أَوْ صَحَّ عِنْدِي أَوْ عَلِمْت فَهَذَا كُلُّهُ حُكْمٌ هُوَ الْمُخْتَارُ. وَفِي الْكُبْرَى: لَوْ قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ لِهَذَا عَلَى هَذَا كَذَا. قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا يَكُونُ حُكْمًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ الْعَامِرِيُّ صَاحِبُ الْهَادِي وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحُلْوَانِيُّ بِأَنَّهُ حُكْمٌ وَالْفَتْوَى عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَذُكِرَ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ قَوْلُهُ " ثَبَتَ عِنْدِي حُكْمٌ لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوَبِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْبَيِّنَةِ يُخَالِفُ الْحُكْمَ بِالْإِقْرَارِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْقَوْلُ الشَّاذُّ يَرَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ مُغَايِرَةٌ لِحَقِيقَةِ الثُّبُوتِ، وَمَعَ تَغَايُرِ الْحَقَائِقِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِحُصُولِ أَحَدِ الْمُتَغَايِرَيْنِ عِنْدَ حُصُولِ الْآخَرِ، إلَّا أَنْ يَجْزِمَ بِالْمُلَازَمَةِ، وَاللُّزُومُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ حُصُولِ الْآخَرِ غَيْبَةُ مَا عَلِمْنَا بِهَا فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يَحْصُلَ الْيَقِينُ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ حَكَمَ هَذَا فِي الصُّوَرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا الَّتِي حَكَمَ الْحَاكِمُ فِيهَا بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ. وَأَمَّا الصُّوَرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا كَثُبُوتِ الْقِيمَةِ فِي الْإِتْلَافِ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَثُبُوتِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ فِي الذِّمَّةِ وَعَقْدِ الْقِرَاضِ وَثُبُوتِ السَّرِقَةِ لِلْقَطْعِ فَالثُّبُوتُ الْكَامِلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ جَمِيعِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ إنْشَاءَ حُكْمٍ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، بَلْ أَحْكَامُ هَذِهِ الصُّوَرِ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ إجْمَاعًا، وَوَظِيفَةُ الْحُكَّامِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ إنَّمَا هُوَ التَّنْفِيذُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَعْنَاهُ. وَأَمَّا فِيمَا عَدَا التَّنْفِيذَ: فَالْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي فِيهِ سَوَاءٌ، لَيْسَ هَا هُنَا حُكْمٌ اسْتَنَابَ صَاحِبُ الشَّرْعِ فِيهِ الْحَاكِمَ أَصْلًا أَلْبَتَّةَ، بَلْ هَذِهِ أَحْكَامٌ تَتْبَعُ أَسْبَابَهَا كَانَ ثَمَّ حَاكِمٌ أَمْ لَا، نَعَمْ الَّذِي يَقِفُ عَلَى الْحَاكِمِ التَّنْفِيذُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ فِي الدَّيْنِ وَشَبَهِهِ، فَلَوْ دَفَعَ الْمُتْلِفُ الْقِيمَةَ وَالْمَدِينُ الدَّيْنَ وَسَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ اُسْتُغْنِيَ عَنْ مُنَفِّذٍ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الْحَاكِمِ فِي الصُّوَرِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ تَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ وَتَحْرِيرِ أَسْبَابٍ، كَفَسْخِ الْأَنْكِحَةِ إذَا كَانَ تَفْوِيضُهَا لِلنَّاسِ يُؤَدِّي إلَى التَّهَارُجِ وَالْقِتَالِ كَالْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ، مَعَ أَنَّ التَّعَازِيرَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ فِي تَقْدِيرِ التَّعْزِيرِ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ وَالْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَظَهَرَ أَنَّ الثُّبُوتَ غَيْرُ الْحُكْمِ قَطْعًا، وَقَدْ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ وَقَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ، وَقَدْ تَكُونُ الصُّورَةُ قَابِلَةً لِاسْتِلْزَامِ الْحُكْمِ وَقَدْ لَا تَكُونُ قَابِلَةً كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي صُوَرِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ خَطَأٌ قَطْعًا، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَتَأْوِيلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنًى صَحِيحٍ، وَهُوَ بَيِّنٌ لِمَنْ أَنْصَفَ. فَائِدَةٌ: اُخْتُلِفَ فِي الْحُكْمِ وَالثُّبُوتِ هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ الثُّبُوتُ غَيْرُ الْحُكْمِ؟ وَالْعَجَبُ أَنَّ الثُّبُوتَ

فصل في معنى تنفيذ الحكم

يُوجَدُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمَوَاطِنِ الَّتِي لَا حُكْمَ فِيهَا بِالضَّرُورَةِ إجْمَاعًا، فَيَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ هِلَالُ رَمَضَانَ وَهِلَالُ شَوَّالٍ، وَتَثْبُتُ طَهَارَةُ الْمَاءِ وَنَجَاسَتُهُ، وَيَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ التَّحْرِيمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وَيَثْبُتُ التَّحْلِيلُ بِسَبَبِ الْعَقْدِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ. وَإِذَا وُجِدَ الثُّبُوتُ بِدُونِ الْحُكْمِ كَانَ أَعَمَّ مِنْ الْحُكْمِ، وَالْأَعَمُّ مِنْ الشَّيْءِ غَيْرُهُ بِالضَّرُورَةِ. ثُمَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ الثُّبُوتِ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ الْحُجَّةِ كَالْبَيِّنَةِ وَغَيْرِهَا السَّالِمَةِ عَنْ الْمَطَاعِنِ، فَمَتَى وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُوجَدُ الْحُكْمُ بِدُونِ الثُّبُوتِ أَيْضًا كَالْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ كَإِعْطَاءِ أَمِيرِ الْجَيْشِ الْأَمَانَ لِلْعَدُوِّ، وَكَذَلِكَ فِي قَسْمِ الْجَيْشِ بَيْنَ أَهْلِهِ يَجْتَهِدُ وَيُفَضِّلُ أَهْلَ الْحَاجَةِ، وَكَذَا عَقْدُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَتَقْدِيرُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ، وَقَدْ أَفْرَدْتُ لِذَلِكَ بَابًا سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ -. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ ثُبُوتُ الْحُجَّةِ مُغَايِرَةٌ لِلْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ الْإِنْشَائِيِّ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي التَّعْرِيفِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ فَثَبَتَ كَوْنُهُمَا غَيْرَيْنِ بِالضَّرُورَةِ، وَأَنَّ الثُّبُوتَ هُوَ نُهُوضُ الْحُجَّةِ، وَالْحُكْمُ إنْشَاءُ كَلَامٍ فِي النَّفْسِ هُوَ إلْزَامٌ أَوْ إطْلَاقٌ. [فَصْلٌ فِي مَعْنَى تَنْفِيذِ الْحُكْمِ] وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَنْفِيذُ حُكْمِ نَفْسِهِ وَتَنْفِيذُ حُكْمِ غَيْرِهِ فَالْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ الْإِلْزَامُ بِالْحَبْسِ وَأَخْذُ الْمَالِ بِيَدِ الْقُوَّةِ وَدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ وَتَخْلِيصُ سَائِرِ الْحُقُوقِ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَى مَنْ يَجُوزُ لَهُ إيقَاعُهُ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالتَّنْفِيذُ غَيْرُ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ، فَالثُّبُوتُ هُوَ الرُّتْبَةُ الْأُولَى. وَالْحُكْمُ هُوَ الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ. وَالتَّنْفِيذُ هُوَ الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ، وَلَيْسَ كُلُّ الْحُكَّامِ لَهُمْ قُوَّةُ التَّنْفِيذِ لَا سِيَّمَا الْحَاكِمُ الضَّعِيفُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ، فَهُوَ يُنْشِئُ الْإِلْزَامَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ تَنْفِيذُهُ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَالْحَاكِمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَاكِمٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْإِنْشَاءُ، وَأَمَّا قُوَّةُ التَّنْفِيذِ فَأَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ حَاكِمًا - أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُحَكَّمَ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ التَّنْفِيذِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الرُّتْبَةِ السَّادِسَةِ مِنْ رُتَبِ الْوِلَايَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: تَنْفِيذُهُ حُكْمَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ فِيمَا تَقَدَّمَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ: وَثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ فُلَانٍ مِنْ الْحُكَّامِ كَذَا، فَهَذَا لَيْسَ بِحُكْمٍ مِنْ الْمُنَفِّذِ أَلْبَتَّةَ، وَكَذَا إذَا قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ فُلَانًا حَكَمَ بِكَذَا وَكَذَا، فَلَيْسَ حُكْمًا مِنْ هَذَا الْمُثْبِتِ، بَلْ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْفَاسِدَ قَدْ يَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ مُوجَبُ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي النَّوْعِ السَّابِعِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي التَّنْفِيذِ حُكْمٌ أَلْبَتَّةَ وَلَا فِي الْإِثْبَاتِ أَنَّ فُلَانًا حَكَمَ مُسَاعَدَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ السَّابِقِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِكَثْرَةِ الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْحُكَّامِ، فَهَذَا كُلُّهُ كَحُكْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ الثَّانِي: حَكَمْتُ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْأَوَّلُ وَأَلْزَمْتُ بِمُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ. (تَنْبِيهٌ) : هَذَا حُكْمُ مَا إذَا كَانَ الْحَاكِمُ الْأَوَّلُ وَالْمُنَفِّذُ الثَّانِي مَذْهَبُهُمَا وَاحِدٌ أَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ خَارِجَ الْمَذْهَبِ: إذَا وَرَدَ عَلَى حَاكِمٍ حُكْمٌ بِأَحَدِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ وَالْقَاضِي الْوَارِدُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ اعْتِقَادُهُ مَذْهَبٌ آخَرُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَنْفِيذُ هَذَا الْحُكْمِ وَإِلْزَامُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِدَفْعِ الْمَالِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ الْقَاضِي. أَوْ إلْزَامُ الزَّوْجَةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ وَتَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنْهَا مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ هُوَ خِلَافُ مَا نَفَذَ بِهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ؟ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقِفُ عَنْ تَنْفِيذِهِ وَإِبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَفَّذَهُ وَأَلْزَمَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ

فصل فيما يدل على الحكم

أَلْزَمَهُ مَا لَا يَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ عِنْدَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُنَفِّذُهُ وَيُلْزِمُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ مَا تَضَمُّنُهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ تَوْقِيفَهُ عَنْ إنْفَاذِهِ كَإِبْطَالِهِ، وَقَدْ قُلْنَا: إنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ نَقْضِ الْأَحْكَامِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَمْ أَجِدْهُ لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ] (فَصْلٌ) : فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ اعْلَمْ: أَنَّهُ كَمَا يَدُلُّ الْقَوْلُ عَلَى الْحُكْمِ فِي قَوْلِ الْحَاكِمِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي حَكَمْت بِكَذَا. فَكَذَا الْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ أَيْضًا، وَذَلِكَ إذَا كَتَبَ الْحَاكِمُ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ: إنِّي قَدْ حَكَمْتُ بِكَذَا فَهَذِهِ الْكِتَابَةُ تَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي. وَكَذَلِكَ لَوْ سُئِلَ هَلْ حَكَمْتَ بِكَذَا فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ وَيُفْهِمُ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ الْحُكْمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَضْمُونِهِ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْحُكْمِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ أَمْرٌ نَفْسَانِيٌّ لَا لِسَانِيٌّ؛ لِأَنَّهُ تَارَةً يُخْبِرُ عَنْهُ بِالْقَوْلِ وَتَارَةً بِالْفِعْلِ وَتَارَةً بِالْإِشَارَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ قَوْلِهِ وَكِتَابَتِهِ وَإِشَارَتِهِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأُمُورُ دَالَّةٌ عَلَى الْحُكْمِ كَسَائِرِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ وَغَيْرِهِمَا. (فَصْلٌ) : وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ أَمْرٌ قَائِمٌ بِالنَّفْسِ لَا بِاللِّسَانِ أَنَّهُ قَدْ يَقْتَرِنُ إنْشَاءُ الْحُكْمِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَيُوَافِقُ إنْشَاءُ الْحُكْمِ وَقْتَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ. وَقَدْ يَفْتَرِقَانِ سِنِينَ كَثِيرَةً بِأَنْ يَحْكُمَ فِي شَيْءٍ وَلَا يُشْهِدُ بِالْحُكْمِ عَلَى نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي نَفْسِهِ وَقَائِمًا بِذَاتِهِ مِنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ لَا اللِّسَانِيِّ. وَاعْلَمْ: أَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يَكُونُ خَبَرًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَتَارَةً يَكُونُ إنْشَاءً لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ حَكَمْتُ بِكَذَا فِي الصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِحَسَبِ مَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ مِنْ حَالِهِ. وَالثَّانِي مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِكَذَا، أَوْ إنِّي أَلْزَمْتُ فُلَانًا بِكَذَا، فَهُوَ إنْشَاءٌ لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ الطَّلَبِ مِنْ الشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِكَذَا، وَإِنَّمَا يُوصَفُ هَذَا بِالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي بَيَانِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ] : فِي بَيَانِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اعْلَمْ: أَنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ يَدُورُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ مُشْكِلٌ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي حُكْمِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَنَّ عَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ إذَا أَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ إذَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَةِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ وَالْمُدَّعِي وَالْمُنْكِرِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: الدَّعْوَى إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَضْعًا، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ مَعَ مِسَاسِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ شَرْعًا. وَالْمُدَّعِي وَضْعًا مَنْ يُضِيفُ الشَّيْءَ إلَى نَفْسِهِ مَعَ مِسَاسِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: صَاحِبُ الْيَدِ مُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْخَارِجُ مُدَّعٍ لَمَّا كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ ظَاهِرًا بِدَلَالَةِ يَدِ التَّصَرُّفِ جَعَلْنَاهُ مُنْكِرًا، وَالْخَارِجُ لَمَّا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا جَعَلْنَاهُ مُدَّعِيًا شَرْعِيًّا وَجَعَلْنَا الْبَيِّنَةَ بَيِّنَتَهُ بِالنَّصِّ. وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ إذَا تَرَكَ الدَّعْوَى يُتْرَكُ: يَعْنِي تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِتَرْكِهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ إذَا تَرَكَ الدَّعْوَى لَمْ يُتْرَكْ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: الْمُدَّعِي مَنْ إذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ إذَا تَرَكَهَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَرُومُ إثْبَاتَ أَمْرٍ خَفِيٍّ يُرِيدُ بِهِ إزَالَةَ أَمْرٍ جَلِيٍّ، وَذَكَرَ فِي التُّحْفَةِ: الْمُدَّعِي مَنْ يَلْتَمِسُ إثْبَاتَ مِلْكٍ أَوْ حَقٍّ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَنْفِيهِ وَيُدَافِعُهُ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الْحَدَّيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ الْفَقِيهُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تَعْرِضُ، بَلْ هَا هُنَا مَا هُوَ آكَدُ وَاعْتِبَارُهُ أَنْفَعُ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَإِنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي مُقْتَضَى النَّظَرِ، وَلَا

القسم الثالث في ذكر الدعاوى وأقسامها

تَرَدُّدَ فِي ذَلِكَ وَلَا إشْكَالَ إذَا لَمْ يُعَارِضْ الْحَالُ الْحَالَ، وَلَكِنْ قَدْ يَعْتَرِضُ حَالَانِ، اسْتِصْحَابُ أَحَدِهِمَا يُضَادُّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ الْآخَرِ، فَهَاهُنَا يَقَعُ الْإِشْكَالُ فَيَخْتَلِفُ أَهْلُ النَّظَرِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي تَمْيِيزِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَفْتَقِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى تَرْجِيحِ الْحَالَةِ الَّتِي اسْتَصْحَبَهَا. مِثَالُهُ: رَجُلٌ قَبَضَ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ، فَلَمَّا طَالَبَهُ بِهَا دَافِعُهَا زَعَمَ أَنَّهُ إنَّمَا قَبَضَهَا عَنْ سَلَفٍ كَانَ أَسْلَفَهُ لِدَافِعِهَا. وَقَالَ دَافِعُهَا: بَلْ أَنَا أَسْلَفْتُك إيَّاهَا وَمَا كُنْتُ أَنْتَ أَسْلَفْتَنِي شَيْئًا قَطُّ، فَإِنْ اعْتَبَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ لَوْ سَكَتَ لَتُرِكَ لِسُكُوتِهِ وَجَدْنَا هَا هُنَا الدَّافِعَ هُوَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ لَتُرِكَ وَسُكُوتُهُ، وَالْقَابِضُ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الطَّالِبِ مَا تُرِكَ وَسُكُوتُهُ، وَإِنْ بَنَيْنَا عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ وَهُوَ دَعْوَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ أَوْ الْخَفِيِّ فَإِنَّا إنْ اسْتَصْحَبْنَا كَوْنَ الدَّافِعِ بَرِيءَ الذِّمَّةِ مِنْ سَلَفِ هَذَا الْقَابِضِ صَدَّقْنَا الدَّافِعَ وَجَعَلْنَاهُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّلَفُ الَّذِي الْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْقَابِضِ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَمَا يَعْرِضُ الْإِشْكَالُ إلَّا عِنْدَ تَصَادُمِ مُقْتَضَى الْأَحْوَالِ فَيُفْتَقَرُ إلَى تَرْجِيحِ اسْتِصْحَابِ أَحَدِ الْحَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَقَدْ ذَكَرَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ: وُلِّيتُ الْقَضَاءَ وَعِنْدِي أَنِّي لَا أَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يُتَخَاصَمُ إلَيَّ فِيهِ، فَأَوَّلُ مَا ارْتَفَعَ إلَيَّ خَصْمَانِ أَشْكَلَ عَلَيَّ أَمْرُهُمَا مَنْ الْمُدَّعِي وَمَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قُلْت: وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الَّذِي نَبَّهْنَا عَلَيْهِ. [الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي ذِكْرِ الدَّعَاوَى وَأَقْسَامِهَا] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ الدَّعَاوَى الصَّحِيحَةِ وَشُرُوطِهَا] : وَفِيهِ فُصُولٌ: وَكَيْفِيَّةِ تَصْحِيحِ الدَّعْوَى. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي تَقْسِيمِ الدَّعَاوَى. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى لَهُمْ، وَمَا يُسْمَعُ مِنْ بَيِّنَاتِهِمْ وَمَا لَا يُسْمَعُ مِنْهَا. الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي بَيَانِ مَا يَتَوَقَّفُ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِهِ عَلَى إثْبَاتِ أُمُورٍ. الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ فِي الدَّعْوَى وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وَالدَّعْوَى تَتَنَوَّعُ إلَى صَحِيحَةٍ وَفَاسِدَةٍ، وَالْقَاضِي إنَّمَا يَسْمَعُ الصَّحِيحَةَ دُونَ الْفَاسِدَةِ، وَفَسَادُ الدَّعْوَى إمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مُلْزِمَةً شَيْئًا عَلَى الْخَصْمِ أَوْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مَجْهُولًا فِي نَفْسِهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إلَّا فِي الْوَصِيَّةِ. فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ يُجِيزُونَ دَعْوَى الْمَجْهُولِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ ادَّعَى حَقًّا مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ إقْرَارٍ فَإِنَّهُمَا يَصِحَّانِ بِالْمَجْهُولِ وَتَصِحُّ دَعْوَى الْإِبْرَاءِ مِنْ الْمَجْهُولِ بِلَا خِلَافٍ، فَلَوْ قَالَ لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ قَدْرَ حَقِّهِ امْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى: وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الطَّالِبَ لَوْ أَيْقَنَ بِعِمَارَةِ ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ بِشَيْءٍ وَجَهِلَ مَبْلَغَهُ وَأَرَادَ مِنْ خَصْمِهِ أَنْ يُجَاوِبَهُ عَنْ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَذَكَرَ الْمَبْلَغَ أَوْ الْجِنْسَ لَزِمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابُ. أَمَّا لَوْ قَالَ: لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ فَضْلَةِ حِسَابٍ لَا أَعْلَمُ قَدْرَهُ وَقَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَنَّهُمَا تَحَاسَبَا وَبَقِيَتْ لَهُ عِنْدَهُ بَقِيَّةٌ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِقَدْرِهَا فَدَعْوَاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَسْمُوعَةٌ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي هَذِهِ الدَّارِ أَوْ الْأَرْضِ وَقَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا لَا يَعْلَمُونَ قَدْرَهُ فَهِيَ دَعْوَى مَسْمُوعَةٌ. ثُمَّ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ أَنْ يَدَّعِيَ شَيْئًا مَعْلُومًا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ دَعْوَى تُلْزِمُ الْخَصْمَ أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا كَوْنَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الدَّعْوَى لَا يُمْكِنُ مَعَ جَهَالَتِهِ، وَإِعْلَامُهُ إنْ كَانَ عَقَارًا بِذِكْرِ حُدُودِهِ وَمَوْضِعِهِ، وَسَيَأْتِي فِي فَصْلِ تَصْحِيحِ الدَّعْوَى. وَإِنَّمَا شَرَطْنَا كَوْنَ الْخَصْمِ حَاضِرًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ وَلِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا كَوْنَ الدَّعْوَى تَلْزَمُهُ حَتَّى إنَّ مَنْ

فصل في تصحيح الدعوى

ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ فُلَانٍ وَأَنْكَرَ فُلَانٌ لَا تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ يُمْكِنُ عَزْلُهُ فِي الْحَالِ فَلَا تُفِيدُ الدَّعْوَى فَائِدَتَهَا. وَمِثْلُهُ: لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ هِبَةً وَقُلْنَا إنَّ الْهِبَةَ لَا تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ وَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ عَنْهَا مَا لَمْ تُقْبَضْ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْ هَذَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ وَقَالَ رَجَعْتُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مُطَالَبَتُهُ بِشَيْءٍ وَلَا فَائِدَةَ فِي إلْزَامِهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إذَا رَجَعَ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْوَصَايَا الَّتِي لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا. وَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي يَرَى أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، فَإِنَّ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْجَوَابُ عَنْهُ حَتَّى يُضِيفَ إلَيْهِ مَا يَلْزَمُ الْمَطْلُوبَ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ، فَيَقُولُ فِي هَذِهِ الْهِبَةِ يَلْزَمُ تَسْلِيمُهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ يُضِيفُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْفَسْخُ بَعْدَ الْعَقْدِ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَهَذَا عِنْدِي إنَّمَا يَتَّجِهُ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ لِأَصْلِ الشَّيْءِ لَا يَحِلُّ مَحَلَّ الرُّجُوعِ وَعَلَى أَنَّ مَا فِيهِ الْخِيَارُ بَيْنَ إمْضَائِهِ أَوْ رَدِّهِ مَحْلُولٌ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِرَفْعِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْخِيَارِ، فَإِذَا بُنِيَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا اتَّجَهَ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ سَمَاعِ الدَّعْوَى: أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ أَوْ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ. مِثَالُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ: أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِدَيْنٍ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَعُدِّلَتْ الْبَيِّنَةُ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ لِلْقَاضِي: اسْتَحْلِفْ لِي الطَّالِبَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَ شُهُودِهِ مَجْرُوحِينَ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، هَلْ تَجِبُ فِيهِ الْيَمِينُ أَوْ لَا تَجِبُ؟ فَمَنْ لَمْ يُوجِبْهَا اعْتَلَّ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الدَّعْوَى أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِاسْتِحْقَاقِ أَمْرٍ يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَا هُنَا لَا يُطْلَبُ مِنْ الْقَاضِي اسْتِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ الَّذِي شَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِحَقِّهِ. وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّعِي إذَا طَلَبَ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَطْلُوبُ: كُنْت اسْتَحْلَفْتنِي فَاحْلِفْ لِي أَنَّك لَمْ تَسْتَحْلِفْنِي، فَمَنْ ذَهَبَ إلَى اسْتِحْلَافِهِ رَأَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى لَوْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا تَنْفَعُ الْمُدَّعِي بِإِقْرَارِهِ، فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَحْلِفَ مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً وَعُدِّلَتْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِفِسْقِهِمْ وَلَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ إذَا قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَا أَعْلَمُ بِعِلْمِك بِفِسْقِ شُهُودِك، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ احْلِفْ لِي أَنَّك لَمْ تَسْتَحْلِفْنِي عَلَى هَذَا الْحَقِّ فِيمَا مَضَى، فَالْقَاضِي يُحَلِّفُهُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا لَوْ أَقَرَّ الْمُدَّعِي لَزِمَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَهُ يَمِينًا ثَانِيَةً، وَلِذَا مَضَى الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبْذُلُ لَهُ الْخَطَّ حَتَّى لَا يَحْلِفَ مَرَّةً أُخْرَى " اُنْظُرْ الْمُحِيطَ ". وَقَاعِدَةُ الْمَذْهَبِ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ دَعْوَى إذَا أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا تَنْفَعُ الْمُدَّعِيَ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُقِرَّ وَأَنْكَرَ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى الْجُمْلَةِ مَا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ أَصْلًا عَنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْقَاضِيَ بِالْيَمِينِ أَنَّهُ مَا جَارَ عَلَيْهِ، أَوْ يَطْلُبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَمِينَ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا فِي شَهَادَاتِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَخْتَلِفُ فِي سُقُوطِ الدَّعْوَى وَكَوْنِهَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَحُطَّ مَنْزِلَةَ الْقَاضِي أَوْ الشُّهُودِ إلَّا وَادَّعَى مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَيَّ الْوُقُوفِ عَنْ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا تَحْلِيفُ الشُّهُودِ: فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي قِسْمِ السِّيَاسَةِ. [فَصْلٌ فِي تَصْحِيحِ الدَّعْوَى] (فَصْلٌ) : وَالْمُدَّعَى بِهِ أَنْوَاعٌ فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مَكِيلًا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ جِنْسِهِ بِأَنَّهُ حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ، وَيَذْكُرُ مَعَ ذَلِكَ نَوْعَهُ أَنَّهَا سَقِيَّةٌ أَوْ بَرِّيَّةٌ وَرَبِيعِيَّةٌ، وَيَذْكُرُ مَعَ ذَلِكَ صِفَتَهَا كَالْحِنْطَةِ الْبَيْضَاءِ وَالْحَمْرَاءِ، وَيَذْكُرُ أَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ، وَيَذْكُرُ قَدْرَهَا بِالْكَيْلِ بِأَنَّهَا كَذَا قَفِيزًا بِقَفِيزٍ كَذَا؛ لِأَنَّ الْقُفْزَانَ تَتَفَاوَتُ فِي ذَاتِهَا، وَيَذْكُرُ سَبَبَ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الدَّيْنِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ سَبَبُهُ السَّلَمَ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ لِيَنْفَعَ التَّحَرُّزُ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْعٍ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ

قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَهُوَ بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَتَصْحِيحُ الدَّعْوَى أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَدَّعِيَ وَيَذْكُرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ أَوْ التَّعَدِّي أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْعَارِيَّةِ أَوْ الرَّهْنِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ بَعْضُ الْقُضَاةِ: فَإِذَا نَقَصَ الْمُدَّعِي مِنْ دَعْوَاهُ مَا فِيهِ بَيَانُ مَطْلَبِهِ أَمَرَهُ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ أَتَى بِإِشْكَالٍ أَمَرَهُ بِبَيَانِهِ، فَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمَطْلُوبَ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ نَقْلُهَا كَالرَّحَى وَنَحْوِهَا حَضَرَ الْحَاكِمُ عِنْدَهَا أَوْ بَعَثَ أَمِينًا وَفِي الْمُجْتَبِي قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي مَسْأَلَةِ سَرِقَةِ الْبَقَرَةِ: لَوْ اُخْتُلِفَ فِي لَوْنِهَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إحْضَارَ الْمَنْقُولِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى، وَلَوْ شَرَطَ لَأُحْضِرَتْ وَلَمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ ثُمَّ قَالَ: وَالنَّاسُ عَنْهَا غَافِلُونَ، وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً ذَكَرَ الْمُدَّعِي قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، إذْ رُبَّمَا تُوجَدُ أَعْيَانٌ كَثِيرَةٌ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَلَا يَكُونُ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا بِهِ، وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ مَثَلًا: قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مِنْ الْفِضَّةِ الْجَيِّدَةِ أَوْ كَذَا دِينَارًا مِنْ الذَّهَبِ الرُّكْنِيِّ تَصِيرُ قِيمَتُهُ مَعْلُومَةً بِهَذَا الْوَصْفِ، كَذَا قِيلَ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَالْقِيمَةُ شَيْءٌ تُعْرَفُ الْعَيْنُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ. وَقَالَ قَاضِي خَانَ وَصَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: لَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ غَائِبَةً وَادَّعَى أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ، إنْ بَيَّنَ الْمُدَّعِي قِيمَتَهُ وَصِفَتَهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْقِيمَةَ وَقَالَ غَصَبَ مِنِّي عَيْنَ كَذَا وَلَا أَدْرِي أَنَّهُ هَالِكٌ أَوْ قَائِمٌ وَلَا أَدْرِي كَمْ كَانَتْ قِيمَتُهُ. ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ مَالِهِ، فَلَوْ كُلِّفَ بَيَانَ الْقِيمَةِ لَتَضَرَّرَ بِهِ. وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ قِيمَتِهِ. وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفًا فِيهَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُكَلِّفَ الْمُدَّعِيَ بَيَانَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا كَلَّفَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ذِكْرُ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ فِي التَّالِفَةِ آكَدُ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ فَيُبَيِّنُ قَدْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إلَى ذِكْرِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ، بَلْ يَذْكُرُ أَنَّهُ تَرَتَّبَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ سَلَمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي دَارٍ أَوْ عَقَارٍ مِنْ الْأَرَاضِي فَيُبَيِّنُ مَوْضِعَهَا مِنْ الْبَلَدِ وَالْمَحِلَّةِ ثُمَّ السِّكَّةِ، فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْكُورَةِ ثُمَّ الْمَحَلَّةِ اخْتِيَارًا لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَعَمِّ ثُمَّ بِالْأَخَصِّ. وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِالْأَخَصِّ ثُمَّ بِالْأَعَمِّ، فَيَقُولُ: دَارُ كَذَا فِي سِكَّةِ كَذَا فِي الْمَحَلَّةِ فِي كُورَةِ كَذَا، وَقَاسَهُ عَلَى النَّسَبِ حَيْثُ يُقَالُ: فُلَانٌ ثُمَّ يُقَالُ ابْنُ فُلَانٍ، ثُمَّ يُذْكَرُ الْجَدُّ، فَيَبْدَأُ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ فَيَتَرَقَّى إلَى الْأَبْعَدِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَحْسَنُ وَالْعَامُّ يُعْرَفُ بِالْخَاصِّ لَا بِالْعَكْسِ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ تَحْدِيدِ الدَّارِ وَالْعَقَارِ، فَلَوْ ذَكَرَ حَدَّيْنِ لَا يَكْفِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ كَفَاهُ وَيُجْعَلُ الْحَدُّ الرَّابِعُ بِإِزَاءِ الْحَدِّ الثَّالِثِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى مَبْدَأِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي دُخْنٍ أَوْ ذُرَةٍ ذَكَرَ أَنَّهُ دُخْنٌ أَحْمَرُ نَقِيٌّ أَوْسَطُ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ خَرِيفِيٌّ أَوْ رَبِيعِيٌّ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي السَّلَمِ فَيَذْكُرُ بَيَانَ شَرَائِطِهِ مِنْ أَعْلَامِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ، وَيَذْكُرُ نَوْعَهُ وَصِفَتَهُ وَقَدْرَهُ بِالْوَزْنِ لَوْ كَانَ وَزْنِيًّا، وَانْتِقَادُهُ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ قَالَ بِسَبَبِ سَلَمٍ صَحِيحٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ شَرَائِطَهُ أَفْتَى شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأُوزْجَنْدِيّ بِصِحَّةِ الدَّعْوَى، وَغَيْرُهُ لَمْ يُفْتُوا بِصِحَّتِهَا إذْ لِلسَّلَمِ شَرَائِطُ كَثِيرَةٌ وَلَا يَقِفُ عَلَيْهَا إلَّا الْخَوَاصُّ. وَفِي دَعْوَى الْبَيْعِ: لَوْ قَالَ بِسَبَبِ بَيْعٍ صَحِيحٍ تَصِحُّ الدَّعْوَى وِفَاقًا، وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ سَبَبٍ لَهُ شَرَائِطُ كَثِيرَةٌ لَا بُدَّ مِنْ عَدِّهَا لِصِحَّةِ الدَّعْوَى عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَلَا يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرَائِطُ كَثِيرَةٌ لَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ " بِسَبَبِ كَذَا صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي قِنٍّ تُرْكِيٍّ ادَّعَاهُ وَبَيَّنَ صِفَاتِهِ وَطَلَبَ إحْضَارَهُ لِيُبَرْهِنَ فَأَحْضَرَ قِنًّا خَالَفَ بَعْضُ صِفَاتِهِ بَعْضَ مَا وَصَفَهُ فَقَالَ الْمُدَّعِي: هَذَا مِلْكِي وَبَرْهَنَ يُقْبَلُ. قَالُوا: وَهَذَا الْجَوَابُ يَسْتَقِيمُ فِيمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مِلْكُهُ فَقَالَ: هَذَا مِلْكِي وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ ادَّعَاهُ ابْتِدَاءً. فَأَمَّا لَوْ قَالَ: هَذَا

هُوَ الْقِنُّ الَّذِي ادَّعَيْته أَوَّلًا، لَا تُسْمَعُ لِلتَّنَاقُضِ، كَذَا فِي كِتَابِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحْدُودٍ ذَكَرَ حُدُودَهُ، فَإِنْ أَصَابَ وَقَالَ فِي تَعْرِيفِهِ: وَفِيهِ أَشْجَارٌ. وَكَانَ خَالِيًا عَنْ الْأَشْجَارِ لَا تَبْطُلُ الدَّعْوَى وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَشْجَارِ حِيطَانٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى ذِكْرِ الشَّجَرِ. وَلَوْ قَالَ فِي تَعْرِيفِهِ: لَيْسَ فِيهِ شَجَرٌ وَلَا حَائِطٌ. فَإِذَا فِيهِ أَشْجَارٌ عَظِيمَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهَا بَعْدَ الدَّعْوَى بَطَلَتْ دَعْوَاهُ، قَالَهُ قَاضِي خَانَ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْوَدِيعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ بَلَدِ الْإِيدَاعِ سَوَاءً كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ أَوْ لَا. وَفِي دَعْوَى الْغَصْبِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْغَصْبِ وَفِي غَصْبِ غَيْرِ الْمِثْلِيِّ وَإِهْلَاكِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ غَصْبِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ غَصْبِهِ أَوْ يَوْمَ إهْلَاكِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهَا قِيمَتُهُ: أَيْ الثَّمَنُ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي دَنَانِيرَ بِسَبَبِ إهْلَاكِ الْأَعْيَانِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ قِيمَتَهَا فِي مَوْضِعِ الْإِهْلَاكِ، وَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْأَعْيَانِ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مِثْلِيٌّ وَمِنْهَا مَا هُوَ قِيَمِيٌّ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْبُرِّ وَادَّعَاهَا بِوَزْنٍ قِيلَ: يَصِحُّ. وَقِيلَ: لَا وَفِي الذُّرَةِ وَالْمِلْحِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، أَمَّا الْأَشْيَاءُ السِّتَّةُ فَالْمِقْدَارُ هُوَ الْكَيْلُ فِي الْأَرْبَعَةِ مِنْهَا وَهُوَ بُرٌّ وَشَعِيرٌ وَتَمْرٌ وَمِلْحٌ، وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمِقْدَارُ هُوَ الْوَزْنُ. وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي وَزْنٍ بَيَّنَ جِنْسَهُ بِأَنَّهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ، فَلَوْ كَانَ مَضْرُوبًا يَقُولُ: كَذَا دِينَارًا، وَيَذْكُرُ نَوْعَهُ بُخَارِيُّ الضَّرْبِ أَوْ نَيْسَابُورِيُّ الضَّرْبِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ صِفَتَهُ جَيِّدًا أَوْ رَدِيئًا أَوْ وَسَطًا، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ لَا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ. وَعِنْدَ ذِكْرِ الْبُخَارِيِّ وَالنَّيْسَابُورِيّ لَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ كَوْنِهِ أَحْمَرَ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَوْدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَذَكَرَ النَّسَفِيُّ: لَوْ ذَكَرَ أَحْمَرَ خَالِصًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَيِّدَ كَفَاهُ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْعِنَبِ وَادَّعَى نَوْعَيْنِ مِنْ الْعِنَبِ بِأَنْ ادَّعَى أَلْفًا مِنْ الْعِنَبِ الْفُلَانِيِّ والورخميني الْحُلْوِ الْوَسَطِ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: مِنْ الْفُلَانِيِّ كَذَا وَمِنْ الورخميني كَذَا، إذْ بِدُونِهِ لَا يَدْرِي الْقَاضِي بِأَيِّ قَدْرٍ يَقْضِي مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْعِنَبِ أَيْضًا وَادَّعَى كَذَا كَذَا عِنَبًا طَائِفِيًّا لَمْ يَجُزْ مَا لَمْ يَقُلْ: أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ وَكَذَا فِي الْعِنَبِ الْحِرْمَازِيِّ لَمْ يَجُزْ مَا لَمْ يَقُلْ أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الدِّيبَاجِ وَالْجَوْهَرِ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْوَزْنِ، فَقَدْ قَالَ أَهْلُ النَّظَرِ بِالْجَوَاهِرِ: إنَّ الْجَوْهَرَيْنِ الْمُتَّفِقَيْنِ صُورَةً لَوْ تَفَاوَتَا وَزْنًا تَتَفَاوَتُ قِيمَتُهُمَا، إذْ لَا يَقِلُّ وَلَا يَتَّسِعُ ثُقْبُهُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ وَزْنِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا. وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي طَاحُونَةٍ وَحْدَهَا وَذَكَرَ أَدَوَاتِهَا الْقَائِمَةَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الْأَدَوَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّتَهَا فَقَدْ قِيلَ: لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى، وَقِيلَ: تَصِحُّ إذَا ذَكَرَ جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَدَوَاتِ الْقَائِمَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ يَكْفِي حُضُورُ وَصِيِّهِ أَوْ الْوَارِثِ الْوَاحِدِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ كُلِّ وَرَثَتِهِ فَلَوْ كَانَ وَصِيًّا يَقُولُ: إنَّهُ أَوْصَى إلَى هَذَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ الَّتِي فِي يَدِهِ. وَلَوْ ادَّعَى الدَّيْنَ بِسَبَبِ الْوِرَاثَةِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ عَنْ مَجْمَعِ النَّوَازِلِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَمْوَالِ بِسَبَبِ الْإِقْرَارِ وَادَّعَى أَنَّهُ لَهُ لَمَّا أَقَرَّ بِهِ ذُو الْيَدِ أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ دَرَاهِمَ وَقَالَ لِمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِهَا أَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: إنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ لِي أَوْ أَقَرَّ أَنَّ لِي عَلَيْهِ كَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ قِيلَ: تَصِحُّ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَقِيلَ: لَا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِقْرَارِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ كَاذِبًا لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَقَدْ أَضَافَ الِاسْتِحْقَاقَ إلَى مَا لَا يَصْلُحُ. وَكَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ تَصِحُّ دَعْوَى الْإِقْرَارِ مِنْ طُرُقِ الدَّفْعِ، حَتَّى لَوْ بَرْهَنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا مِلْكُ الْمُدَّعِي، قِيلَ: لَا يُقْبَلُ، وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ. وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذَا مِلْكِي وَهَكَذَا أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَوْ قَالَ: لِي عَلَيْهِ كَذَا وَهَكَذَا أَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ، إذْ لَمْ يَجْعَلْ الْإِقْرَارَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَوْ أَنْكَرَ هَلْ يَحْلِفُ عَلَى إقْرَارِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي طَلَبِ إرْثٍ

فصل الأصل في دعوى النسب

فَادَّعَى أَنَّهُ عَمُّ الْمَيِّتِ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ عَمُّهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ لِأُمِّهِ، وَيُشْتَرَطُ قَوْلُهُ هُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، وَلَا بُدَّ لِشُهُودِهِ أَنْ يَنْسِبُوا الْمَيِّتَ وَوَارِثَهُ حَتَّى يَلْتَقِيَا إلَى أَبٍ وَاحِدٍ وَيَقُولُوا هُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ. وَكَذَا فِي الْأَخِ وَالْجَدِّ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ جَدُّ الْمَيِّتِ أَبُو أَبِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا هُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَلَوْ شَهِدُوا بِهِ أَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ لِأَبِيهِ وَوَارِثِهِ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ جَازَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ الْأَسْمَاءِ، قَالَهُ قَاضِي خَانَ. وَقَالَ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ: ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ عَمِّ الْمَيِّتِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَذْكُرَ نِسْبَةَ الْأَبِ وَالْأُمِّ إلَى الْجَدِّ لِيَصِيرَ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ انْتِسَابَهُ إلَى الْجَدِّ يَصِيرُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ انْتِسَابَهُ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ الْقَاضِي فَيُشْتَرَطُ الْبَيَانُ لِيَعْلَمَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. وَلَوْ شَهِدُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ لَا تُقْبَلُ لِعَدَمِ التَّعْرِيفِ وَقِيلَ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مَرَّةً فِي الْكِتَابِ بَرْهَنَ أَنَّهُ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ تُقْبَلُ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ ذِكْرُ الْجَدِّ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْأَخِ: لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ اسْمِ الْجَدِّ وَغَيْرِهِ أَمَّا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ. [فَصْلٌ الْأَصْلُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ] (فَصْلٌ) : الْأَصْلُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ أَنْ يُنْظَرَ إلَى النَّسَبِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ بِاعْتِرَافِهِمَا كَأُبُوَّةٍ وَبُنُوَّةٍ وَوَلَاءٍ وَزَوْجِيَّةٍ فَالْمُدَّعِي خَصْمٌ لَوْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ سَوَاءً ادَّعَى لِنَفْسِهِ حَقًّا أَوْ لَمْ يَدَّعِ وَلَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ بِاعْتِرَافِهِمَا كَأُخُوَّةٍ فَهُوَ خَصْمٌ لَوْ ادَّعَى حَقًّا مَعَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا، كَذَا فِي الْجَامِعِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ: ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهُ لَا تُسْمَعُ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ حَقًّا مِنْ إرْثٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ حَقِّ تَرْبِيَةٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ فِي اللَّقِيطِ وَمَا أَشْبَهَهُ، إلَّا فِي الزَّوْجَيْنِ وَالْأَبَوَيْنِ وَالْوَلَدِ وَوَلَاءِ الْعِتْقِ وَالْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ فِيهِ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ لِحَقِّ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى رَجُلٍ وَقَالَ لِي عَلَى هَذَا أَحْمَدَ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ كَذَا دِرْهَمًا وَهُوَ هَذَا فَشَهِدَ شُهُودُهُ أَنَّ هَذَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ وَلَهُ عَلَيْهِ كَذَا يَثْبُتُ الْمَالُ لَا النَّسَبُ، إذْ الْمُدَّعِي وَشُهُودُهُ لَيْسُوا بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ الْمَالُ لِوُجُودِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ، كَذَا وَقَعَ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ. ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ دِينَارًا وَأَنَّهُ مَاتَ وَأَنْتَ وَارِثُهُ وَابْنُهُ وَاسْمُ أَبِيك كَذَا وَاسْمُ جَدِّك كَذَا وَبَرْهَنَ يُقْبَلُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا كَذَلِكَ. [فَصْل فِي تَقْسِيمِ الدَّعَاوَى] الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي تَقْسِيمِ الدَّعَاوَى الدَّعَاوَى سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ: مِنْهَا مَا لَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَلَا يُلْزِمُ الْمُدَّعِي بِسَبَبِ مَا ادَّعَاهُ شَيْئًا. وَمِنْهَا مَا لَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَيُؤَدِّبُ الْمُدَّعِيَ بِسَبَبِ مَا ادَّعَاهُ وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُ الْحَاكِمُ الدَّعْوَى بِهِ وَيُمَكِّنُ الْمُدَّعِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَاهُ، وَلَا يُلْزِمُ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ. وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَلَا يُلْزِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابَ عَنْهَا إلَّا بِشَرْطٍ وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَيُمَكِّنُ الْمُدَّعِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِمَا ادَّعَاهُ وَلَا يَحْكُمُ لَهُ بِمُوجَبِ مَا شُهِدَ لَهُ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ. وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَيُمَكِّنُ الْمُدَّعِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ وَيُلْزِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَلَا يُمَكِّنُ الْمُدَّعِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَاهُ وَيَغْرَمُ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. النَّوْعُ الثَّانِي: الدَّعَاوَى عَلَى أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي أَحْكَامِ السِّيَاسَةِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ قَرِيبًا. النَّوْعُ الرَّابِعُ: دَعْوَى الرَّجُلِ الدَّارَ أَوْ الْعَقَارَ عَلَى مَنْ هُوَ حَائِزٌ لِذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْجَوَابُ إلَّا بِشُرُوطٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا. النَّوْعُ الْخَامِسُ: مَا ذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ فِي امْرَأَةٍ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا

فصل تقسيم المدعى عليهم

ثَلَاثًا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ، فَالْقَاضِي لَا يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ وَلَا يُخْرِجُهَا مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِ، لَكِنْ يَجْعَلُ مَعَهَا امْرَأَةً ثِقَةً مَأْمُونَةً تَحْفَظُهَا وَتَمْنَعُ زَوْجَهَا مِنْهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ شُهُودِهَا. وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ لَوْ وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ الْعَيْنِ، لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِي قَوْلِهِمْ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الَّذِي وَكَّلَهُ، لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ فِي إثْبَاتِ الشِّرَاءِ وَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ، فَإِذَا سُمِعَتْ فَلَا يُحْكَمُ لَهُ وَيُتَوَقَّفُ، فِيهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ. وَمِنْهَا مَا إذَا ادَّعَى الرَّجُلُ الْإِصَابَةَ وَادَّعَتْ الزَّوْجَةُ عَدَمَهَا، فَشَهِدَتْ النِّسَاءُ أَنَّهَا بِكْرٌ يُؤَجَّلُ كَمَا فِي الْعِنِّينِ وَيُفَرَّقُ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ؛ إذْ الْبَكَارَةُ أَصْلٌ. وَمِنْهَا شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّ شَرِيكَهُ الْغَائِبَ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ، يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاضِرِ وَلَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ حَتَّى يَقْدُمَ الْغَائِبُ فَتُعَادُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمُحِيطِ. النَّوْعُ السَّادِسُ: ظَاهِرُ التَّصَوُّرِ. النَّوْعُ السَّابِعُ: كَمَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِوَدِيعَةٍ فَجَحَدَهَا أَصْلًا فَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِهَا فَادَّعَى أَنَّهُ رَدَّهَا وَأَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَلَهَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْفِقْهِ. [فَصْل تَقْسِيم الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ] الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: دَعْوَى عَلَى الْحَاضِرِ الْمَالِكِ لِأَمْرِهِ، وَدَعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَدَعْوَى عَلَى الْغَائِبِ وَدَعْوَى فِي مَالِ الْيَتِيمِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الدَّعْوَى عَلَى الْحَاضِرِ الرَّشِيدِ، وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ. لَوْ اُدُّعِيَ عَلَى صَبِيٍّ حُجِرَ عَلَيْهِ وَلَهُ وَصِيٌّ حَاضِرٌ لَا يُشْتَرَطُ إحْضَارُ الصَّبِيِّ، وَلَوْ وَجَبَ الدَّيْنُ بِمُبَاشَرَةِ هَذَا الْوَصِيِّ لَا يُشْتَرَطُ إحْضَارُ الصَّبِيِّ، وَلَوْ وَجَبَ لَا بِمُبَاشَرَتِهِ كَإِتْلَافٍ وَنَحْوِهِ يُشْتَرَطُ إحْضَارُهُ. (مَسْأَلَةٌ) : اُدُّعِيَ عَلَى صَبِيٍّ حُجِرَ عَلَيْهِ مَالًا بِإِهْلَاكٍ أَوْ غَصْبٍ لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِهِ وَيَحْتَاجُ الشُّهُودُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ، لَكِنْ يَحْضُرُ مَعَهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ لِيُؤَدِّيَ عَنْهُ مَا يَثْبُتُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ وَطَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يُنَصَّبَ لَهُ وَصِيٌّ، يُنَصِّبُ لَهُ الْقَاضِي وَصِيًّا لَكِنْ يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الصَّبِيِّ لِنَصْبِ الْوَصِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: حَضْرَةُ الصَّبِيِّ عِنْدَ الدَّعْوَى شَرْطٌ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مُدَّعِيًا أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْأَطْفَالِ الرُّضَّعِ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ، لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الصَّبِيِّ لِنَصْبِ الْوَصِيِّ بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَالِمًا بِوُجُودِ الصَّبِيِّ، وَأَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فِي وِلَايَتِهِ. قَالَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَتُهُ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ حَضْرَتُهُ عِنْدَ الدَّعْوَى. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَهِدَا عَلَى قِنٍّ مَأْذُونٍ بِغَصْبٍ أَوْ بِإِتْلَافِ وَدِيعَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِهِ بِهِ، أَوْ شَهِدَا بِبَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ شِرَاءٍ، وَمَوْلَاهُ غَائِبٌ، يُقْبَلُ. وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْمَأْذُونِ مَحْجُورًا وَالْبَاقِي بِحَالِهِ يُقْبَلُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَوْلَى، وَكَذَا فِي إتْلَافِ أَمَانَةٍ يُقْضَى عَلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى عَلَى الْقِنِّ لَا عَلَى مَوْلَاهُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَفِي الْإِقْرَارِ: لَا يُقْضَى عَلَى مَوْلَاهُ حَضَرَ أَوْ غَابَ. وَفِي الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ: الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ لَوْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ وَصِيِّهِ. وَكَذَا قِنٌّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ مَوْلَاهُ؛ إذْ يَدُ الْقِنِّ مُعْتَبَرَةٌ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فِي الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: غَائِبٌ عَنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ أَوْ غَائِبٌ عَنْ الْبَلَدِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْحِيَلِ: الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ

حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ أَوْ غَائِبًا عَنْ الْبَلَدِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى غَائِبٍ شَيْئًا لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ عَنْهُ وَكِيلًا. وَلَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِلَا خَصْمٍ عَنْهُ فَفِي نَفَاذِ حُكْمِهِ رِوَايَتَانِ مِنْ فَتَاوَى ظَهِيرِ الدِّينِ وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: وَالْفَتْوَى عَلَى نَفَاذِهِ. قَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ لِلْغَائِبِ بِلَا خَصْمٍ كَمَا لَا يَحْكُمُ عَلَى الْغَائِبِ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ هَذَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا وَأَنْفَذَ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمْ، جَازَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيَسِرِ: قَوْلُهُ " وَأَنْفَذَ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمْ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ لَا يَنْفُذُ مَا لَمْ يُخَاصِمْ وَيَقْضِي فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ إذْ التَّوْكِيلُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ وَمَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْقَلَانِسِيِّ: لِلْقَاضِي وِلَايَةُ بَيْعِ مَالِ الْغَائِبِ، وَفِيهِ لَوْ كَانَ الْمَدْيُونُ غَائِبًا لَا يَبِيعُ الْقَاضِي عُرُوضَهُ بِدَيْنِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَبِيعُهَا. وَأَمَّا الْعَقَارُ فَلَا يَبِيعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا قَوْلُهُمَا فِي الظَّاهِرِ. وَعَنْهُمَا أَنَّ لَهُ بَيْعَهُ بِعُرُوضِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْعُ عُرُوضِهِ فِي نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ، وَفِي الْعَقَارِ عَنْهُمَا رِوَايَتَانِ، اُنْظُرْ جَامِعَ الْفُصُولَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : الْقَاضِي يُنَصِّبُ عَلَى الْغَائِبِ وَكِيلًا وَيَقْبِضُ مِنْ الْمَدِينِ فَيَبْرَأُ، وَبِهِ يُفْتَى، كَذَا فِي الْمُحِيطِ. وَفِيهِ: الْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَائِبِ وَعَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُخْصَمَ عَنْهُ حَاضِرًا، إمَّا قَصْدِيٌّ وَهُوَ بِتَوْكِيلِ الْغَائِبِ إيَّاهُ، وَإِمَّا حُكْمِيٌّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يُدَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ لَا مَحَالَةَ، أَوْ شَرْطًا لَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ الْبَزْدَوِيُّ وَشَمْسُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ، وَعِنْدَ عَامَّتِهِمْ تُشْتَرَطُ السَّبَبِيَّةُ فَقَطْ. قَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ: يَجُوزُ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا تَوْكِيلُ الْحَاضِرِ. وَالثَّانِي كَوْنُ الْمُدَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَمَا يُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يُدَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ لَا مَحَالَةَ. وَالثَّالِثُ كَوْنُ الْمُدَّعَى شَيْئَيْنِ بَيْنَهُمَا سَبَبِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا مَرَّ. فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ يُحْكَمُ عَلَى الْغَائِبِ، سَوَّى خُوَاهَرْ زَادَهْ بَيْنَ الشَّيْءِ وَالشَّيْئَيْنِ، فَشَرْطُ السَّبَبِيَّةِ لِانْتِصَابِ الْحَاضِرِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فِي الْفَصْلَيْنِ. وَذَكَرَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ أَنَّ السَّبَبِيَّةَ تُشْتَرَطُ فِيمَا لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ الْأَشْبَهُ وَالْأَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ هَذَا فِي السَّبَبِيَّةِ لَا مَحَالَةَ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى شَيْئَيْنِ وَمَا يَدَّعِيه عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيه عَلَى الْحَاضِرِ، يُحْكَمُ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ لَا الْغَائِبِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ يُحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا يَنْتَصِبُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ خَصْمًا عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَنْفَكُّ الْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ ضَرُورَةً، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا يَنْفَكُّ فَيُعْمَلُ بِالْحَقِيقَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمَا شَيْئَيْنِ وَالْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ سَبَبٌ لِمَا يَدَّعِيه عَلَى الْحَاضِرِ بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَى فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي فَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا: إذَا ادَّعَى دَارًا أَنَّهُ شَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَقَالَ ذُو الْيَدِ: هُوَ لِي. فَبَرْهَنَ الْمُدَّعِي، يُحْكَمُ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ؛ إذْ الْمُدَّعَى شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الدَّارُ، وَالْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ وَهُوَ الشِّرَاءُ مِنْهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ؛ إذْ الشِّرَاءُ مِنْ الْمَالِكِ سَبَبٌ لَا مَحَالَةَ، كَذَا فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ. قَالَ عِمَادُ الدِّينِ: وَهُنَا أُعْجُوبَةٌ، ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: لَوْ صَدَّقَهُ ذُو الْيَدِ فِي ذَلِكَ، فَالْقَاضِي لَا يَأْمُرُ ذَا الْيَدِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُدَّعِي؛ لِئَلَّا يُحْكَمَ عَلَى الْغَائِبِ بِالشِّرَاءِ بِإِقْرَارِهِ، وَهِيَ عَجِيبَةٌ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ طَالَبَ الدَّائِنُ كَفِيلَهُ بِدَيْنِهِ فَبَرْهَنَ الْكَفِيلُ عَلَى أَدَاءِ الْمَدِينِ الْغَائِبِ يُقْبَلُ وَيَنْتَصِبُ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْ الْمَدِينِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الدَّائِنِ إلَّا بِهَذَا، فَكَذَا يُقَالُ هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مِنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا طَلَبَ مِنْهُ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِالْمُدَّعَى وَوَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ وَطَلَبَ أَنْ يُعْطِيَهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ، أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُعْطِيَهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَفْسِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إلَى أَنْ

فصل إثبات الدين على الغائب

يُنْقَضَ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَابَ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنَصِّبُ وَكِيلًا عَنْهُ فَيَقْضِي عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَابَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ حَيْثُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يُنْفَى كَوْنُهُ حُجَّةً عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْقَضَاءِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى إيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ. مِنْ شَرْحِ التَّجْرِيدِ. [فَصْلٌ إثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ] (فَصْلٌ) : فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ. وَطَرِيقُهُ أَنْ يَكْفُلَ بِكُلِّ مَالِهِ عَلَى الْغَائِبِ، وَيُخَيَّرُ الْمُدَّعِي فِي الْمَجْلِسِ فَيَدَّعِي الْمُدَّعِي عَلَى الْكَفِيلِ مَالًا مُقَدَّرًا بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ الْمُطْلَقَةِ فَيُقِرُّ الْكَفِيلُ بِالْكَفَالَةِ وَيُنْكِرُ دَيْنَهُ فَيُبَرْهِنُ الْمُدَّعِي بِدَيْنِهِ عَلَى الْغَائِبِ فَيَحْكُمُ الْقَاضِي عَلَى الْكَفِيلِ بِمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِكَفَالَتِهِ. ثُمَّ يُبْرِئُ الْمُدَّعِي الْكَفِيلَ فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ عَلَى الْغَائِبِ لِانْتِصَابِ الْكَفِيلِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُلِّ مَالِهِ عَلَى الْغَائِبِ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَكُنْ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ كَذَا، وَهَذَا الْحَاضِرُ كَفِيلٌ بِهِ فَبَرْهَنَ فَحَكَمَ الْقَاضِي عَلَى الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ إلَّا إذَا ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِأَمْرِ الْغَائِبِ. أَمَّا لَوْ كَفَلَ بِكُلِّ مَالِهِ فَالْحُكْمُ عَلَى الْكَفِيلِ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ حُكْمٌ عَلَى الْغَائِبِ، سَوَاءٌ ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِأَمْرِهِ أَوْ لَا. مِنْ الذَّخِيرَةِ وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الدَّعْوَى عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي مَالِ الْمَيِّتِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ وَفَاتِهِ وَعَدَدِ وَرَثَتِهِ فَإِنْ أَقَرَّ الْوَارِثُ الرَّشِيدُ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ غَيْرُهُ لَمْ يُفْتَقَرْ إلَى ثُبُوتِهَا. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ يَكْفِي حَضْرَةُ الْوَاحِدِ. مِنْ الذَّخِيرَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : امْرَأَةٌ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ مَهْرِهَا وَذَلِكَ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَبَانَا تَزَوَّجَهَا وَلَا نَدْرِي مَا مَهْرُهَا. وَحَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُونَ مَهْرَهَا، قَالَ: إنِّي أَجْعَلُ لَهَا أَقَلَّ الصَّدَاقِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَيَقَّنٌ فِيهِ وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا. (فَرْعٌ) : لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا فَمَاتَ الْمُشْتَرِي وَالْعَبْدُ، وَادَّعَى الْبَائِعُ الثَّمَنَ عَلَى وَرَثَتِهِ فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ: مَا نَدْرِي مَا ثَمَنُهُ. وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا ثَمَنُهُ، قَالَ: حَبَسَهُمْ الْقَاضِي حَتَّى يُقِرُّوا بِشَيْءٍ وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَالِ وَيَدَعُهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ حَتَّى يُبَيِّنُوا مَا عَلَى أَبِيهِمْ مِنْ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَقَرَّ أَنَّ لِرَجُلٍ عَلَى أَبِيهِ دَيْنًا، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ مَا هُوَ. فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ وَأَلَّا يَحُلْ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَرِكَةِ أَبِيهِ، فَكَذَا هَذَا الْكُلُّ مِنْ الْمُحِيطِ. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَمَا يُسْمَعُ مِنْ بَيِّنَاتِهِمْ] فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَمَا يُسْمَعُ مِنْ بَيِّنَاتِهِمْ وَمَا لَا يُسْمَعُ مِنْهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِمُوَكِّلِهِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرِيدُوا إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِأَبِيهِ أَوْ لِقَرِيبِهِ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِمَنْ هُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِنَفْسِهِ،. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةَ يُمَكَّنُ مُدَّعِيهَا مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّتِهَا، وَقَدْ يُمْنَعُ مِنْ إقَامَتِهَا فِي وُجُوهٍ. مِنْهَا: إذَا اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعِي الْمَطْلُوبَ مَعَ الْعِلْمِ بِبَيِّنَتِهِ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي. وَطَلَبَ مِنْ الْقَاضِي تَحْلِيفَ خَصْمِهِ فَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ. لَا يُسْمَعُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. مِنْ. الْحَوَاشِي. وَمِنْهَا: لَوْ أَنْكَرَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ قَبْضَ الثَّمَنِ فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَقَالَ: تَلِفَ. أَوْ: رَدَدْتُهُ. لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ

كَذَّبَهَا. اُنْظُرْ الْقِنْيَةَ. . وَمَا حُكِيَ عَنْ الْمُحِيطِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ إذَا كَذَّبَ شُهُودَهُ فِي بَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ انْتَقَضَ الْقَضَاءُ فَكَذَا هَذَا. وَمِنْهَا: لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا وَبَيَّنَ نَوْعَهُ وَصِفَتَهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ فُلَانٌ آخَرُ هَذَا الْمَالَ الْمُسَمَّى وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ، لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إبْطَالًا لِلدَّعْوَى مِنْ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ. وَمِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ قَالَ: لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مَحْدُودًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ ثُمَّ مَاتَ ادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَحْدُودَ مِلْكًا مُطْلَقًا، لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَالْوَارِثُ قَامَ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ، مِنْ الْمَنِيَّةِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ يُرِيدُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِمُوَكِّلِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى رَجُلٌ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ وَأَرَادَ إثْبَاتَهُ، لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بَيِّنَةٌ عَلَى الْغَائِبِ وَلَمْ يَنْتَصِبْ عَنْهُ خَصْمٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَسْمَعَ شَهَادَتَهُ لِيَكْتُبَ إلَى قَاضٍ آخَرَ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي لَيْسَ بِقَضَاءٍ بَلْ هُوَ نَقْلٌ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حُضُورِ الْخَصْمِ، فَإِنْ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ بِغَيْرِ خَصْمٍ جَازَ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الْخَصْمِ شَرْطٌ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَنَا. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ أَحْضَرَ رَجُلًا وَادَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا لِمُوَكِّلِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ وَالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ قُبِلَتْ وَيُقْضَى بِالْوَكَالَةِ وَيَكُونُ الْقَضَاءُ قَضَاءً عَلَيْهِ وَعَلَى كَافَّةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا بِسَبَبِ الْوَكَالَةِ فَكَانَ إثْبَاتُ السَّبَبِ عَلَيْهِ إثْبَاتًا عَلَى الْكَافَّةِ، حَتَّى لَوْ أَحْضَرَ آخَرَ وَادَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا لَا يُكَلَّفُ بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ. (فَرْعٌ) : رَجُلٌ جَاءَ إلَى الْقَاضِي وَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَكَّلْتُ هَذَا الرَّجُلَ بِطَلَبِ كُلِّ حَقٍّ لِي. وَالْقَاضِي يَعْرِفُ الْمُوَكَّلَ، جَازَ. وَإِنْ غَابَ وَالْقَاضِي لَا يَعْرِفُهُ فَجَاءَ الرَّجُلُ بِخَصْمٍ سَأَلَهُ الْقَاضِي أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُوَكَّلَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ كَانَتْ صَحِيحَةً بِالْمُعَايَنَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْوَكَالَةِ بِجَهَالَةِ الْمُوَكَّلِ، فَإِذًا زَالَتْ الْجَهَالَةُ بِالْبَيِّنَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ ادَّعَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ وَكِيلُ فُلَانٍ النَّصْرَانِيِّ فِي حُقُوقِهِ وَأَحْضَرَ مُسْلِمًا يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا وَهُوَ يُنْكِرُ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا شَهَادَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَإِنْ أَحْضَرَ نَصْرَانِيًّا وَادَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا قُضِيَ بِالْوَكَالَةِ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ. مِنْ الْمُحِيطِ وَمِنْ شَرْحِ التَّجْرِيدِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَإِذَا وَكَّلَتْ الْمَرْأَةُ رَجُلًا عَلَى عَقْدِ نِكَاحِهَا مِنْ رَجُلٍ فَعَقَدَهُ ثُمَّ قَامَ عَلَى الزَّوْجِ يَطْلُبُهُ بِالْحَالِّ مِنْ صَدَاقِهَا فَطَلَبَ مُخَاصَمَتَهُ فِي ذَلِكَ وَأَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ وَكِيلُهَا فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ عَلَى التَّوْكِيلِ فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَسْتَلْزِمُ قَبْضَ الصَّدَاقِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ لِصِحَّةِ مَا ادَّعَاهُ لِأَبِيهِ أَوْ لِقَرِيبِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَدَّمَهُ إلَى الْقَاضِي وَقَالَ: إنَّ لِأَبِي عَلَى هَذَا أَلْفًا وَأَبِي غَائِبٌ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَتَوَارَى هَذَا. فَجَعَلَهُ الْقَاضِي وَكِيلًا لِأَبِيهِ وَقَبِلَ بَيِّنَةَ الِابْنِ عَلَى الْمَالِ وَحَكَمَ بِهِ، فَرَفَعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَإِنَّ الثَّانِي لَا يُجِيزُ حُكْمَ الْأَوَّلِ؛ إذْ بَيِّنَةُ الِابْنِ لَمْ تَقُمْ بِحَقٍّ عَلَى الْغَائِبِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ. وَإِنَّمَا قَامَتْ لِغَائِبٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَفْقُودِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْعَلُ ابْنَ الْمَفْقُودِ وَكِيلًا فِي طَلَبِ حُقُوقِهِ؛ إذْ الْمَفْقُودُ كَمَيِّتٍ وَلِلْقَاضِي نَوْعُ وِلَايَةٍ فِي مَالِهِ. قَالَهُ قَاضِي خَانْ وَكَذَلِكَ الْأَخُ يَقُومُ لِأَخِيهِ، وَالْجَارُ يَقُومُ لِجَارِهِ فَلَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ إلَّا بِوَكَالَةٍ.

الفصل الخامس أحكام يتوقف سماع الدعوى بها على إثبات أمور

النَّوْعُ الرَّابِعُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِمَنْ هُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ. مِثَالُهُ: رَجُلٌ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَلَهُ مَالٌ أَوْ عَقَارٌ وَجَدَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ بِغَيْرِ طَرِيقٍ فَطَلَبَهُ إلَى قَاضٍ وَادَّعَى عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَلِكَ لِوَلَدِهِ أَوْ لِمَحْجُورِهِ، تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ بَرْهَنَ أَنَّ لَهُ وَلِفُلَانٍ الْغَائِبِ عَلَى هَذَا أَلْفًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَحُكِمَ لَهُ بِنِصْفِهِ فَقَدِمَ الْغَائِبُ فَلَا يَأْخُذُ مِنْ الْغَرِيمِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُبَرْهِنَ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَرِيكِهِ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ بِإِقْرَارِهِ بِشَرِكَتِهِ. مِنْ الْمُنْتَقَى. [الْفَصْلُ الْخَامِسُ أَحْكَامٍ يَتَوَقَّفُ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى إثْبَاتِ أُمُورٍ] فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَحْكَامٍ يَتَوَقَّفُ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى إثْبَاتِ أُمُورٍ. . قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْمَرْأَةَ مِنْ النِّكَاحِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: الْبِكْرُ الْيَتِيمَةُ الْبَلَدِيَّةُ إذَا أَرَادَتْ الزَّوَاجَ كَلَّفَهَا إثْبَاتَ يُتْمِهَا وَبَكَارَتِهَا وَبُلُوغِهَا وَخُلُوِّهَا مِنْ زَوْجٍ، وَأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا أَنَّ أَبَاهَا أَوْصَى بِهَا إلَى أَحَدٍ، وَلَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْقُضَاةِ قَدَّمَ عَلَيْهَا مُقَدَّمًا، وَيُثْبِتُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا وَلِيَّ نَسَبٍ لَهَا أَوْ أَنَّ لَهَا وَلِيًّا هُوَ أَحَقُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَتُثْبِتُ كَفَاءَةَ الزَّوْجِ، وَأَنَّ الصَّدَاقَ صَدَاقُ مِثْلِهَا عَلَى مِثْلِهِ، وَأَنَّهَا فَوَّضَتْ لِلْقَاضِي فِي نِكَاحِهَا بِذَلِكَ، وَسَمَاعُهُمْ مِنْهَا حَتْمًا. الثَّانِي: الثَّيِّبُ الْبَلَدِيَّةُ مِنْهَا إذَا طَلَبَتْ الثَّيِّبُ الزَّوَاجَ كَلَّفَهَا أَنْ تُثْبِتَ أَصْلَ الزَّوْجِيَّةِ وَطَلَاقَ الزَّوْجِ لَهَا أَوْ وَفَاتَهُ عَنْهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَخْتَلِفْ زَوْجًا إنْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ طَوْلٌ، وَأَنَّ لَا وَلِيَّ لَهَا، وَأَنَّ لَهَا وَلِيًّا، وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِعَقْدِ نِكَاحِهَا وَتُثْبِتُ الْكَفَاءَةَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَبُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ وَيَأْتِي إلَى حَاكِمٍ لِيُزَوِّجَ ابْنَتَهُ، فَقَدْ كَلَّفَهُ بَعْضُ قُضَاةِ الْعَصْرِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ لَهُ ابْنَةً. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: جَرَتْ عَادَةُ قُضَاةِ الْعَصْرِ بِمَنْعِ الْمَرْأَةِ الْمَبْتُوتَةِ مِنْ رَجْعَةِ مُطَلِّقِهَا حَتَّى يَثْبُتَ دُخُولُ الزَّوْجِ الثَّانِي بِهَا وَأَنَّهُ كَانَ يَبِيتُ عِنْدَهَا. أَمَّا لَوْ قَدِمَتْ امْرَأَةٌ مَبْتُوتَةٌ فَقَالَتْ: قَدْ تَزَوَّجْتُ. فَأَرَادَ الَّذِي طَلَّقَهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ إنَّهَا لَا تُصَدَّقُ. (مَسْأَلَةٌ) : مِنْ الدَّعَاوَى إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ دَيْنًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ الْمَيِّتِ أَوْ مُوَرِّثِهِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُثْبِتَ مَوْتَ مُوَرِّثِهِ وَعِدَّةَ وَرَثَتِهِ؛ لِيَعْلَمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِمَّا يَدَّعِيهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي صِحَّةِ دَعْوَاهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَهُ عُرُوضًا أَوْ نَحْوُهَا لِمُوَرِّثِهِ وَادَّعَى أَنَّهَا صَارَتْ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ فَيَلْزَمُهُ إثْبَاتُ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ وَعِدَّةِ وَرَثَتِهِ وَانْتِقَالِ الْمِيرَاثِ إلَيْهِمْ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الدَّعْوَى. مَسْأَلَةٌ مِنْ بَابِ الْحَجْرِ: إذَا رُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ مَالُ يَتِيمٍ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِضَرُورَتِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِهِ وَحِيَازَتِهِ وَالْحَاجَةِ إلَى الْبَيْعِ وَكَوْنِهِ أَيْسَرَ مَا يُبَاعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي رُفِعَ إلَى الْقَاضِي وَصِيًّا فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ وَصِيَّتِهِ وَإِثْبَاتِ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ يَأْمُرُ بِالْبَيْعِ، وَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ ثُبُوتِ الرَّغَبَاتِ وَالسَّدَادِ فِي الثَّمَنِ. [الْفَصْلُ السَّادِسُ الْوَكَالَةِ فِي الدَّعْوَى] فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ فِي الدَّعْوَى. التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَالْإِقْرَارِ مُطْلَقًا، أَوْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَالْإِقْرَارِ جَمِيعًا، أَوْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ، أَوْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ أَمَّا إذَا وَكَّلَهُ مُطْلَقًا وَأَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ يَصِحُّ، وَفِي غَيْرِهِ لَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ فِيهِمَا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ فِيهِمَا وَأَمَّا إذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَالْإِقْرَارِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِيرُ وَكِيلًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَارِ عِنْدَهُ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْ الْمُوَكِّلِ، وَعِنْدَنَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ صَرِيحًا وَلَا مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْإِقْرَارِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ؛ صِيَانَةً لِعِرْضِهِ وَمَاءِ وَجْهِهِ مِنْ جَرِّهِ إلَى بَابِ الْقَاضِي، وَهَذَا

فصل للموكل أن يعزل وكيله

غَرَضٌ مَطْلُوبٌ فِيمَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِ تَوْكِيلِهِ عِبَارَةً عَنْ التَّوْكِيلِ بِالْإِقْرَارِ مَجَازًا. وَأَمَّا إذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَكَّلْتُكَ بِالْإِنْكَارِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَا يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِقْرَارِ. وَأَمَّا إذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ فَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ. قِيلَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَى مَنْ يَقُومُ بِتَدْبِيرِهِ، وَفِي هَذَا التَّوْكِيلِ تَعْطِيلٌ وَلَيْسَ بِتَفْوِيضٍ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْخَصْمِ إقْرَارٌ أَوْ إنْكَارٌ. فَإِذَا اسْتَثْنَاهُمَا فَلَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ شَيْئًا. وَقِيلَ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَيَصِيرُ وَكِيلًا بِالسُّكُوتِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَتَّى تُسْمَعَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الطَّالِبِ مِنْ الْجَوَابِ يَحْصُلُ بِالسُّكُوتِ وَهُوَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّ السُّكُوتَ مِنْ الْخَصْمِ كَافٍ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ كَالْإِنْكَارِ، وَلِلْوَكِيلِ نَوْعُ فَائِدَةٍ فِي قَصْرِ الْوَكَالَةِ عَلَى هَذَا الْقَيْدِ. (فَرْعٌ) : وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ إذَا أَقَرَّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ جُعِلَ تَوْكِيلًا بِالْجَوَابِ مَجَازًا بِاجْتِهَادٍ، فَتَمَكَّنَتْ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فِي إقْرَارِ الْوَكِيلِ فَيُورِثُ شُبْهَةَ دَرْءِ مَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ فَلِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِالْخُصُومَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْخُصُومَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي الْخُصُومَةِ مِنْ حَاضِرٍ صَحِيحٍ فِي الْمِصْرِ إلَّا بِرِضَا خَصْمِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: تَوْكِيلُهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ وُجِدَ مِنْ الْمُدَّعِي فَالدَّعْوَى خَالِصُ حَقِّهِ وَإِنْ وُجِدَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْإِنْكَارُ خَالِصُ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا. وَقَدْ اسْتَحْسَنَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ بَرْزَةٍ جَازَ لَهَا أَنْ تُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهَا ضَرَرٌ بِالْعَيْبِ بِالْخُرُوجِ وَالْحُضُورِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ وَكَّلَهُ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ حَقِّهِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَقْبِضُهُ يَقْبِضُ عَيْنَ حَقِّهِ، وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ وَكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ حَقِّهِ فَلَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ بَدَلِ حَقِّهِ يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالتَّمَلُّكِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ فَتَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُهُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ حَقِّهِ حُكْمًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. (فَصْلٌ) : وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي شَيْءٍ ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ شَهِدَ لَهُ الْوَكِيلُ قَبْلَ أَنْ يُخَاصِمَ فِي ذَلِكَ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ، وَلَوْ عَزَلَهُ بَعْدَ مَا خَاصَمَ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْفَصْلَيْنِ. وَهَذَا الْخِلَافُ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي التَّجْرِيحِ مِنْ أَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ انْتَصَبَ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْتَصِبْ خَصْمًا حَتَّى عُزِلَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهَا. وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْوَكِيلُ صَارَ خَصْمًا بِالتَّوْكِيلِ، وَلِهَذَا إذَا أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي يَنْفُذُ عِنْدَهُ، وَإِذَا شَهِدَ بَعْدَ الْعَزْلِ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي أَوْ بَعْدَهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ خَصْمًا مَا لَمْ يَتَخَاصَمْ إلَى الْقَاضِي. وَلَوْ خَاصَمَ إلَى الْقَاضِي وَقَدْ وَكَّلَهُ بِكُلِّ حَقٍّ لَهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ فِيمَا كَانَ يَوْمَ التَّوْكِيلِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَصْمًا فِيمَا كَانَ يَوْمَ التَّوْكِيلِ. [فَصْلٌ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ] (فَصْلٌ) : وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ وُكِّلَ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ فَلَا يَكُونُ لَهُ

القسم الرابع الجواب عن الدعوى

أَنْ يُخْرِجَهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلطَّالِبِ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُطَالِبَهُ إلَّا بِرِضَاهُ. مِنْ الْمُحِيطِ وَمِنْ شَرْحِ التَّجْرِيدِ وَمِنْ الْإِيضَاحِ [الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْجَوَابِ عَنْ الدَّعْوَى] فِي حُكْمِ الْجَوَابِ عَنْ الدَّعْوَى. وَإِذَا وَقَعَتْ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ بِشُرُوطِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاسْتَفْرَغَ الْقَاضِي كَلَامَ الْمُدَّعِي وَفَهِمَهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ فِيهِ إشْكَالٌ وَلَا احْتِمَالٌ، أَمَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ، وَهُوَ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إمَّا إقْرَارٌ، أَوْ إنْكَارٌ، أَوْ امْتِنَاعٌ. الْأَوَّلُ: الْإِقْرَارُ. فَإِذَا أَقَرَّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَيِّدَ إقْرَارَهُ، فَإِذَا قَيَّدَهُ تَمَّ الْحُكْمُ، وَصِفَةُ تَقْيِيدِ الْإِقْرَارِ أَنْ يَقُولَ: أَقَرَّ بِمَجْلِسِ الْحَاكِمِ الْعَزِيزِ الْفُلَانِيِّ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِمُنَازَعَةِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ بِأَنَّ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَذَا وَكَذَا وَجَبَ لَهُ مِنْ وَجْهِ كَذَا حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْجَوَابِ: الْإِنْكَارُ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: مَا أَظُنُّ لَهُ عِنْدِي شَيْئًا ثُمَّ إذَا صَرَّحَ بِالْإِنْكَارِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لِلْقَائِمِ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ ، فَإِنْ أَتَى بِهَا وَقَبِلَهَا تَمَّ الْحُكْمُ، وَإِنْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي. يَقُولُ: لَكَ يَمِينُهُ. وَأَصْلُهُ قَضِيَّةُ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ فَإِنَّهُمَا اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمُدَّعِي مِنْهُمَا: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: لَك يَمِينُهُ لَيْسَ لَك غَيْرُ ذَلِكَ» . . وَلَوْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُجِبْ بِلَا أَوْ نَعَمْ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ الْكَلَامِ يَجْعَلُهُ الْقَاضِي مُنْكِرًا حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ تُسْمَعُ، اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ. الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْجَوَابِ: الِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ. مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسْتَحْلَفُ، وَقَالَا: يُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّ كَلَامَيْهِ تَعَارَضَا فَتَسَاقَطَا فَكَانَ سَاكِتًا وَالسُّكُوتُ يَكُونُ نُكُولًا حُكْمِيًّا فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ النُّكُولِ الْحَقِيقِيِّ، كَقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ إذَا لَمْ يَكُنْ السُّكُوتُ عَنْ آفَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ الْكَلَامِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّمَا يُتَوَجَّهُ شَرْعًا عَلَى الْمُنْكِرِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْكِرٍ فَلَا يُمْكِنُ تَحْلِيفُهُ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لَهُ: إمَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ فِي دَعْوَاهُ، وَإِمَّا أَنْ تُصَرِّحَ بِالْإِنْكَارِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى إنْكَارِهِ كَانَ جَانِيًا لِتَرْكِ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فَيُؤَدِّبُهُ الْقَاضِي بِالْحَبْسِ. (مَسْأَلَةٌ) : اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا فَمَاتَ الْمُشْتَرِي وَالْعَبْدُ وَادَّعَى الْبَائِعُ الثَّمَنَ عَلَى وَرَثَتِهِ، فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ مَا نَدْرِي مَا ثَمَنُهُ وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا ثَمَنُهُ، قَالَ: حَبَسَهُمْ الْقَاضِي حَتَّى يُقِرُّوا بِشَيْءٍ وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَالِ وَيَضَعُهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يُبَيِّنُوا مَا عَلَى أَبِيهِمْ مِنْ الثَّمَنِ، مِنْ الْمُحِيطِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. [الْقِسْمُ الْخَامِسُ الْيَمِينِ وَصِفَتِهَا وَالتَّغْلِيظِ فِيهَا] فِي ذِكْرِ الْيَمِينِ وَصِفَتِهَا، وَالتَّغْلِيظِ فِيهَا، وَفِيمَنْ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَمَنْ لَا تَتَوَجَّهُ، وَمَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ، وَحُكْمِ النُّكُولِ، وَبَيَانِ حُكْمِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ. وَمَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَالْقَاضِي يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ وَلَا يُحَلِّفُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَلْعُونٌ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَحَلَّفَ بِهِ» وَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ؛ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَكَانَ التَّغْلِيظُ فِي الْيَمِينِ أَبْلَغَ وَأَكْمَلَ فِي الزَّجْرِ مِنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُجَرَّدِ: إنْ لَمْ يَتَّهِمْهُ الْقَاضِي اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَإِنْ اتَّهَمَهُ يُغَلِّظُ فِي يَمِينِهِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ وَعِنْدَ الْمِنْبَرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. (مَسْأَلَةٌ) : وَيَحْلِفُ النَّصْرَانِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْيَهُودِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ

فصل الاستحلاف على قسمين

التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ يَقُولُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؛ وَالْيَهُودِيُّ يَقُولُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ وَالتَّوْرَاةَ هُوَ اللَّهُ، وَالْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ النَّارِ فَيُغَلِّظُ فِي يَمِينِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَهُ وَهُوَ النَّارُ كَمَا فِي النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ. وَعِنْدَهُمَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَجُوزُ، إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ وَرَدَ نَصٌّ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ صُورِيَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّفَهُ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى» . وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي التَّغْلِيظِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لَيْسَ لِلنَّارِ لَا يَكُونُ وَارِدًا فِي النَّارِ دَلَالَةً. وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ، وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْوَثَنَ وَالصَّنَمَ؛ لِأَنَّ فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ بِالصَّنَمِ تَعْظِيمًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ أُمِرْنَا بِإِهَانَتِهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اتَّخَذَهُ إلَهًا وَلَمْ يُؤْمَرْ بِإِهَانَةِ النَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْهَا أَحَدٌ إلَهًا، وَلِهَذَا جَوَّزَ مُحَمَّدٌ التَّغْلِيظَ بِذِكْرِ النَّارِ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ بِذِكْرِ الصَّنَمِ. (فَرْعٌ) : وَاسْتِحْلَافُ الْأَخْرَسِ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ إنْ كَانَ لِهَذَا هَذَا الْحَقُّ، وَيُشِيرُ الْأَخْرَسُ أَيْ نَعَمْ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْكَ أَلْفٌ فَيُشِيرُ الْأَخْرَسُ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ مِنْ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْعِبَارَةِ مِنْ النَّاطِقِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، فَكَذَا فِي حَقِّ الْحَلِفِ. وَالْقَاضِي لَوْ اسْتَحْلَفَ النَّاطِقَ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ: نَعَمْ. لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ أَحْلِفُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَلِفًا، فَكَذَلِكَ الْأَخْرَسُ. وَلَوْ قَالَ عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمْ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ كَانَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ إنْ كَانَ لِهَذَا عَلَيَّ كَذَا. [فَصْلٌ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى قِسْمَيْنِ] (فَصْلٌ) : ثُمَّ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْآخَرُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُهُ عَلَى الْحَاصِلِ بِالْعَقْدِ بِاَللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَكَ مَا ادَّعَى مِنْ الْحَقِّ وَلَا يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْكَفَالَةُ وَنَحْوُهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُ وَلَا اسْتَأْجَرْتُ وَلَا كَفَلْتُ وَنَحْوَهَا، إلَّا أَنْ يَعْرِضَ الْقَاضِي فَيَقُولُ: كَمْ مِنْ مُشْتَرٍ أَوْ مُسْتَأْجِرٍ يَفْسَخُ الْعَقْدَ؟ فَيُحَلِّفُهُ عَلَى الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى حَسَبِ الدَّعْوَى وَرَفْعِهِ، وَالدَّعْوَى وَقَعَتْ فِي الْعَقْدِ لَا فِي الْحَاصِلِ بِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَهِيَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْحَاصِلِ لَا عَلَى السَّبَبِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ إنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ وَالْمَسْرُوقُ قَائِمًا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ مَا هَذَا الثَّوْبُ لِهَذَا وَلَا عَلَيْكَ تَسْلِيمُهُ وَلَا تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا قِيلَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْقِيمَةِ لَا غَيْرُ. وَقِيلَ يَحْلِفُ عَلَى الثَّوْبِ وَالْقِيمَةِ جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَحْلِفُ عَلَى الْقِيمَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا الْحَقَّ فِي الْقِيمَةِ لَا فِي الْعَيْنِ. وَعِنْدَهُ الْحَقُّ فِي الْعَيْنِ لَا فِي الْقِيمَةِ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ أَوْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهَا، حَتَّى لَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ جَازَ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى حَائِطِهِ خَشَبَةً، أَوْ بَنَى عَلَيْهِ بِنَاءً، أَوْ أَجْرَى عَلَى سَطْحِهِ أَوْ فِي دَارِهِ مِيزَابًا، أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ بَابًا، أَوْ رَمَى تُرَابًا فِي أَرْضِهِ أَوْ مَيْتَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ نَقْلُهُ وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ مَا فَعَلْتَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّحْلِيفِ هَا هُنَا ضَرَرٌ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ رَفْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنْ أَرْضِهِ لَا يَتَضَرَّرُ بِسُقُوطِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّهُ لَوْ أُذِنَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَضَعَ الْخَشَبَةَ عَلَى حَائِطِهِ أَوْ يُلْقِيَ الْمَيْتَةَ فِي أَرْضِهِ كَانَ ذَلِكَ إعَارَةً مِنْهُ، فَمَتَى بَدَا لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِرَفْعِهِ، وَإِنْ بَاعَ مِنْهُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعُ الْحَقِّ وَبَيْعُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ. [فَصْلٌ مَنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَمَنْ لَا يَتَوَجَّهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَمَنْ لَا يَتَوَجَّهُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

فصل فيما لا يستحلف فيه

إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي تَحْلِيفَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُحَلِّفُهُ بِدُونِ طَلَبِهِ، وَلَا يَحْلِفُ الْأَبُ عَلَى تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ مَتَى أَنْكَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ الْبِنْتُ كَبِيرَةً لَا يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْأَبِ فِيمَا يَدَّعِي عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَكَذَا لَا يَمِينَ عَلَى الْوَصِيِّ فِيمَا يَدَّعِي عَلَى مَيِّتٍ مَالًا أَوْ حَقًّا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا كَانَتْ لِرَجَاءِ النُّكُولِ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الْإِقْرَارِ، وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكَانِ الْبَدَلَ وَالْإِقْرَارَ فَلَا يُفِيدُ الِاسْتِحْلَافُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَا يَمِينَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ، وَالنِّيَابَةُ لَا تَجْرِي فِي الِاسْتِحْلَافِ؛ حَتَّى لَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَغَابَ فَادَّعَى الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَى الطَّالِبَ وَأَرَادَ يَمِينَهُ أُمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِتْبَاعِ الطَّالِبِ بِالْيَمِينِ، كَذَا قَالَهُ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ. (فَرْعٌ) : وَيُسْتَحْلَفُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمَحْجُورُ وَالْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِحْلَافِ النُّكُولُ، وَنُكُولُ هَؤُلَاءِ صَحِيحٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ الْمُدَّعِي مِنْ إشْخَاصِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَوْ أَشْخَصْتُهُ إلَى بَابِ الْقَاضِي عَجَزْتُ عَنْ اسْتِخْدَامِهِ فَلَا تَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّي فِي الِاسْتِخْدَامِ، كَمَا أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ مِنْ الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ حَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا؛ كَيْ لَا يَفُوتَ حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ لِلْمَوْلَى فَكَذَا هَذَا. (مَسْأَلَةٌ) : الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ هَلْ يُسْتَحْلَفُ؟ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الِاسْتِحْلَافِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِحْلَافِ النُّكُولُ، وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ، وَكِلَاهُمَا مِنْهُ صَحِيحٌ إنْ كَانَ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِيَمِينِهِ مَغْرَمٌ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَلَا يُبَالِي أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا فَلَا يُفِيدُ تَحْلِيفُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ هَلْ تَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؟ قِيلَ: تَتَوَجَّهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ. وَقِيلَ: لَا تَتَوَجَّهُ، وَاسْتَظْهَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ أَوْ غَائِبٌ وَقَدْ اُدُّعِيَ عَلَى الْمَيِّتِ حَقٌّ يُكَلَّفُ الْبَالِغُ الْحُضُورَ وَيُؤَخَّرُ الصَّغِيرُ حَتَّى يُدْرِكَ وَالْغَائِبُ حَتَّى يَقْدُمَ ثُمَّ يَحْلِفَانِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَحْلِيفُ الصَّغِيرِ وَالْغَائِبِ فَيُؤَخَّرَانِ إلَى أَنْ يُمْكِنَهُمَا التَّحْلِيفُ. [فَصْلٌ فِيمَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْحُدُودِ إلَّا فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ النُّكُولُ، وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أَوْ قَرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ لِحُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَالُ لِدَرْئِهَا، وَيُسْتَحْلَفُ فِي السَّرِقَةِ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي الضَّمَانَ يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْكَ هَذَا الْمَالُ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ، فَإِنْ نَكِلَ يُضَمِّنُهُ الْمَالَ وَلَا يَقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالنُّكُولِ. وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ النِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ وَالْإِيلَاءُ وَالنَّسَبُ وَالرِّقُّ وَالْوَلَاءُ وَالِاسْتِيلَادُ. وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ فِي بَابِ الْمَالِ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً لِكَوْنِهِ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ النَّاكِلَ يَمْتَنِعُ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ عَادَةً فَيَصِيرُ مُعْتَرِفًا بِالْحَقِّ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْكَاذِبَ فِي الْإِنْكَارِ مُقِرٌّ ضَرُورَةً، وَالْإِقْرَارُ يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: إنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى شَرْعِ الِاسْتِحْلَافِ لِفَائِدَةِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ، وَالْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ هَا هُنَا مُتَعَذِّرٌ، وَتَمَامُ الْحُجَجِ فِي الْمُطَوَّلَاتِ. [الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي ذِكْرِ الْبَيِّنَاتِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعْرِيفِ بِحَقِيقَةِ الْبَيِّنَةِ] ، وَفِيهِ مُقَدِّمَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانِيَةِ فُصُولٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعْرِيفِ بِحَقِيقَةِ الْبَيِّنَةِ وَمَوْضِعِهَا شَرْعًا. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَقْسَامِ مُسْتَنَدِ عِلْمِ الشَّاهِدِ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي حَدِّ الشَّهَادَةِ وَحُكْمِهَا وَحِكْمَتِهَا وَمَا تَجِبُ فِيهِ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي صِفَاتِ الشَّاهِدِ وَذِكْرِ مَوَانِعِ الْقَبُولِ. الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلشُّهُودِ التَّنَبُّهُ لَهُ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ، وَمَا يَحْتَرِزُوا مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ،

الفصل الثاني في أقسام مستند علم الشاهد

وَالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكِتَابَةِ الْوَثَائِقِ. الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ. الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِيمَا يُحْدِثُهُ الشَّاهِدُ بَعْدَ شَهَادَتِهِ فَتَبْطُلُ. الْفَصْلُ الثَّامِنُ: فِي صِفَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَاللَّفْظِ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ أَدَاؤُهَا. [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي التَّعْرِيفِ بِحَقِيقَتِهَا وَمَوْضُوعِهَا شَرْعًا] اعْلَمْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَسَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشُّهُودَ بَيِّنَةً؛ لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الْإِشْكَالِ بِشَهَادَتِهِمْ، لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ نَصْرِ الْخُويِيُّ فِي كِتَابِ الْحِسْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: وَلَمْ تَأْتِ الْبَيِّنَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مُرَادًا بِهَا الشُّهُودُ. وَإِنَّمَا أَتَتْ مُرَادًا بِهَا الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ مُفْرَدَةً وَمَجْمُوعَةً، وَلَمَّا كَانَتْ الْبَيِّنَاتُ مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ الْحُقُوقِ الْمَشْهُودِ فِيهَا وَالْمُحْتَاجِ إلَى إقَامَتِهَا وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْسِعَةِ وَالتَّضْيِيقِ وَالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ وَإِمْكَانِ التَّوَثُّقِ وَتَعَذُّرِهِ وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ احْتَجْنَا إلَى ذِكْرِهَا وَعَدَدِ أَنْوَاعِهَا وَتَمْثِيلِ مَسَائِلِهَا. فَأَمَّا؛ أَنْوَاعُهَا فَثَلَاثَةٌ: شَهَادَةُ الْفَرْدِ، وَشَهَادَةُ الْمُثَنَّى وَشَهَادَةُ الْأَرْبَعِ، وَسَيَأْتِي مُفَصَّلًا. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَقْسَامِ مُسْتَنَدِ عِلْمِ الشَّاهِدِ] وَلَا يَصِحُّ لِشَاهِدٍ شَهَادَةٌ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ؛ إذْ لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ إلَّا بِمَا عُلِمَ وَقُطِعَ بِمَعْرِفَتِهِ لَا بِمَا شُكَّ فِيهِ وَلَا بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَعْرِفَتُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا) وَقَدْ يَلْحَقُ الظَّنُّ الْغَالِبُ بِالْيَقِينِ لِلضَّرُورَةِ فِي مَوَاضِعَ يَأْتِي ذِكْرُهَا، كَالشَّهَادَةِ فِي التَّفْلِيسِ وَحَصْرِ الْوَرَثَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ يُدْرَكُ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ. الْأَوَّلُ: الْعَقْلُ بِانْفِرَادِهِ، فَإِنَّهُ يُدْرِكُ بِهِ بَعْضَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ مِثْلَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ، وَيَعْلَمُ بِهِ حَالَ نَفْسِهِ مِنْ صِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ وَإِيمَانِهِ وَكُفْرِهِ، وَتَصِحُّ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. الثَّانِي: الْعَقْلُ مَعَ الْحَوَاسِّ، حَاسَّةِ السَّمْعِ وَحَاسَّةِ الْبَصَرِ وَحَاسَّةِ الشَّمِّ وَحَاسَّةِ الذَّوْقِ وَحَاسَّةِ اللَّمْسِ، فَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ السَّمْعِ الْكَلَامَ، وَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ الْبَصَرِ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْمُبْصَرَاتِ، وَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ الذَّوْقِ جَمِيعَ الطُّعُومِ وَالْمَذُوقَاتِ، وَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ اللَّمْسِ جَمِيعَ الْمَلْمُوسَاتِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا. الثَّالِثُ: حُصُولُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَظُهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَدُعَائِهِ إلَى الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَمَعَالِمِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ الصَّحِيحَةُ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَوِلَايَةِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ اسْتَوْعَبْت ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ. الرَّابِعُ: الْعِلْمُ الْمُدْرَكُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ بِمَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الْحُكَمَاءِ فِي قِدَمِ الْعُيُوبِ وَحُدُوثِهَا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي قِدَمِ الضَّرَرِ وَحُدُوثِهِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى شَهَادَةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّبِيِّينَ عَلَى أُمَمِهِمْ بِالْإِبْلَاغِ، وَشَهَادَةُ الْمُؤْمِنِ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا. وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ مِنْ جِهَاتِ النَّظَرِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي حَدِّ الشَّهَادَةِ وَحُكْمِهَا وَحِكْمَتِهَا وَمَا تَجِبُ فِيهِ] أَمَّا حَدُّ الشَّهَادَةِ فَهُوَ إخْبَارٌ يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ، وَبِقَيْدِ التَّعْيِينِ يُفَارِقُ الرِّوَايَةَ. وَفِي مُجْمَلِ اللُّغَةِ: الشَّهَادَةُ: الْخَبَرُ بِمَا شَهِدَ سُمِّيَ شَهَادَةً؛ لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الْبَيَانُ وَالْإِظْهَارُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى يَظْهَرُ عِنْدَ الْقَاضِي بِالشَّهَادَةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ كَانَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الشَّهَادَةِ لَكِنْ يَظْهَرُ. وَأَمَّا حُكْمُهَا فَلَهُ حَالَتَانِ: حَالَةُ تَحَمُّلٍ، وَحَالَةُ أَدَاءً كَمَا سَنُبَيِّنُ وَيَجِبُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ شَرْطَهَا يَتَنَوَّعُ إلَى شَرْطٍ أَصْلِيٍّ وَشَرْطٍ زَائِدٍ، وَنَعْنِي بِالْأَصْلِيِّ شَرْطَ الْوُجُودِ وَهُوَ صُدُورُ الرُّكْنِ مِنْ الْأَهْلِ مُضَافًا إلَى الْمَحِلِّ لِأَنَّ قِيَامَ ذَاتِ التَّصَرُّفِ بِالْأَصْلِ وَقِيَامَ حُكْمِهِ بِالْمَحِلِّ. فَإِذَا وُجِدَ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ، وَحُكْمُهُ يُوجَدُ بِذَاتِهِ، وَحُكْمُهُ

الفصل الرابع في صفات الشاهد وذكر موانع القبول

حِسِّيًّا كَانَ أَوْ شَرْعِيًّا، لَكِنَّ فِي الْحِسِّيِّ تُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالْمَحَلِّيَّةُ، وَفِي الشَّرْعِيِّ تُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ شَرْعًا، وَكَذَا الْمَحَلِّيَّةُ، وَأَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ تَتَنَوَّعُ إلَى أَهْلِيَّةِ تَحَمُّلِهَا وَأَهْلِيَّةِ أَدَائِهَا، فَأَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ تَثْبُتُ بِالْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، فَإِنَّ أَهْلَ الشَّيْءِ مَنْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّحَمُّلِ تَثْبُتُ بِالْعِلْمِ بِمَا يَتَحَمَّلُهُ عَلَى مَنْ يَتَحَمَّلُهُ وَلِمَنْ يَتَحَمَّلُهُ، وَالْعِلْمُ يَتَرَتَّبُ عَلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالْحَوَاسُّ كَمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ شَرَطَ فِي خِزَانَةِ الْفِقْهِ فِي جَوَازِ تَحَمُّلِهَا مَعْرِفَةَ ثَمَانِيَةٍ: مَعْرِفَةُ الْمُقِرِّ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ مَعْرِفَةُ مَنْ يَتَحَمَّلُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ. وَمَعْرِفَةُ عَقْلِهِ وَرُشْدِهِ وَكَوْنِهِ طَائِعًا فِي إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ بِهِ تَحْصُلُ مَعْرِفَةُ شُرُوطِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ. وَمَعْرِفَةُ قَدْرِ مَا يَجِبُ لِيَصِيرَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا وَمَنْ يَجِبُ لَهُ لِيَصِيرَ الْمَشْهُودُ لَهُ مَعْلُومًا. وَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِالْكِتَابِ يَشْتَرِطُ قِرَاءَةَ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ أَعْجَمِيًّا يُقْرَأُ لَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ، وَعَلَى هَذَا غَيْرُ الْإِقْرَارِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الْكَافِرُ إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ ثُمَّ أَدَّاهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْبُلُوغَ وَالْإِسْلَامَ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ التَّحَمُّلِ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَأَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ تَثْبُتُ بِمَا تَثْبُتُ بِهِ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَبِأُمُورٍ أُخَرَ، وَهُوَ النُّطْقُ وَالْحِفْظُ وَالْيَقَظَةُ؛ لِأَنَّ بِالْحِفْظِ يَبْقَى عِنْدَهُ مَا تَحَمَّلَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ إلَى حِينِ أَدَائِهَا، وَبِالنُّطْقِ يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ وَبِالْيَقَظَةِ لَا يَغْفُلُ عَنْ أَدَاءِ مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ. وَأَمَّا شَرْطُ الزَّائِدِ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَحَلٍّ هُوَ أَلْيَقُ بِهِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَطَرِيقُ التَّحَمُّلِ هُوَ أَنْ يُدْعَى لِيَشْهَدَ وَيُسْتَحْفَظَ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ تَحَمَّلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ حَيْثُ يُفْتَقَرُ إلَى ذَلِكَ وَيُخْشَى تَلَفُ الْحَقِّ بِعَدَمِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ مَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَنْهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ، فَبِالِامْتِنَاعِ عَنْهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ يَلْحَقُهُ الْمَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْعِبَادَةِ، وَمَتَى لَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ لَا يَلْحَقُهُ الْمَأْثَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ: رَجُلٌ لَهُ شُهُودٌ كَثِيرَةٌ، فَدَعَا بَعْضَهُمْ؛ لِيُقِيمَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهُ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَوْ كَانَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الشَّاهِدَ مِمَّنْ تَكُونُ شَهَادَتُهُ أَسْرَعَ قَبُولًا لَا يَسَعُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْأَدَاءِ لِمَا قُلْنَا. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَقُولَانِ: لَا تَشْهَدْ عَلَيْنَا بِمَا تَسْمَعُ مِنَّا، وَلَا تَشْهَدْ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ بِشَيْءٍ يَدُورُ بَيْنَنَا. مَعَ هَذَا لَوْ دَخَلَ وَسَمِعَ مِنْ أَحَدِهِمَا إقْرَارَ الْآخَرِ وَطَلَبَ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْهُ الشَّهَادَةَ. مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ وَقَدْ مَنَعْنَاهُ عَنْ تَحَمُّلِ الْأَمَانَةِ وَعِنْدَ عُلَمَائِنَا يَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ، فَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الشَّهَادَةِ صَارَ كَاتِمًا لِلشَّهَادَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُمَ لِلشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْأَدَاءُ وَهُوَ أَنْ يُدْعَى لِيَشْهَدَ بِمَا عَلِمَهُ وَاسْتَحْفَظَ إيَّاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] ؛ وقَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وَأَمَّا حِكْمَتُهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا صِيَانَةُ الْحُقُوقِ. وَأَمَّا مَا تَجِبُ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْلَيْنِ. الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَيَجْرِي مَجْرَى الْمُبَايَعَةِ الْحُقُوقُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ عَلَى النَّدْبِ. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي صِفَاتِ الشَّاهِدِ وَذِكْرِ مَوَانِعِ الْقَبُولِ] ، [وَفِيهِ فَصْلَانِ] الْأَوَّلُ: فِي فَضْلِ الشَّاهِدِ وَصِفَتِهِ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِفَضْلِ الشَّهَادَةِ وَرَفَعَهَا وَنَسَبَهَا إلَى نَفْسِهِ وَشَرَّفَ بِهَا مَلَائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ وَأَفَاضِلَ

فصل حد العدالة

خَلْقِهِ، فَقَالَ تَعَالَى {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166] وَقَالَ تَعَالَى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] فَجَعَلَ كُلَّ نَبِيٍّ شَهِيدًا عَلَى أُمَّتِهِ؛ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ خَلْقِهِ فِي عَصْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] وَيَكْفِي الشَّهَادَةَ شَرَفًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَفَضَ الْفَاسِقَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرَفَعَ الْعَدْلَ بِقَبُولِهَا مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَقَالَ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمَرْضِيُّ بِقَوْلِهِ {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَعَرَّفَنَا سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ قَوَامُ الْعَالَمِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] قَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِشَارَةُ إلَى مَا يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ النَّاسِ بِالشُّهُودِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ فَهُمْ حُجَّةُ الْإِمَامِ وَبِقَوْلِهِمْ تَنْفُذُ الْأَحْكَامُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «أَكْرِمُوا مَنَازِلَ الشُّهُودِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَخْرِجُ بِهِمْ الْحُقُوقَ وَيَرْفَعُ بِهِمْ الظُّلْمَ» وَاشْتَقَّ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَهُوَ الشَّهِيدُ تَفَضُّلًا وَكَرَمًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلشَّاهِدِ حَالَتَيْنِ: حَالَةُ التَّحَمُّلِ، وَحَالَةُ الْأَدَاءِ، وَأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْأَدَاءِ الْحُرِّيَّةَ وَالْبُلُوغَ وَالْإِسْلَامَ، فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّحَمُّلِ. وَأَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ تَثْبُتُ بِمَا تَثْبُتُ بِهِ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَبِأُمُورٍ أُخَرَ، وَهُوَ النُّطْقُ وَالْحِفْظُ وَالْيَقَظَةُ؛ لِأَنَّ بِالْحِفْظِ يَبْقَى عِنْدَهُ مَا يَتَحَمَّلُهُ مِنْ الشَّهَادَةِ إلَى حِينِ أَدَائِهَا، وَبِالنُّطْقِ يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ؛ وَبِالْيَقَظَةِ لَا يَغْفُلُ عَنْ أَدَاءِ مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ، حَتَّى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ تِسْعَةٍ: الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَالْمَجْنُونِ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ عَقْلِهِمَا، وَالْأَخْرَسِ لِعَدَمِ نُطْقِهِ. وَالْأَعْمَى لِعَدَمِ الْبَصَرِ، وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ أَعْمَى عِنْدَ الْأَدَاءِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْيِيزِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَبِهِ الْفَتْوَى، وَالصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَهُ بِعَدِيمِ الْعَقْلِ فِي حَقِّ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ وَالدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ، وَالشَّهَادَةُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ أَهْلًا شَرْعًا. وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَهُ بِالْعَاجِزِ وَالْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ أَهْلِيَّتَهُ فِي حَقِّ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ أَهْلِيَّتَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَأَلْحَقَهُ بِالْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّهُ جَنَى بِلِسَانِهِ فَعَاقَبَهُ بِقَطْعِ لِسَانِهِ مَعْنًى. وَالْمُغَفَّلِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ: أَرْجُو دُعَاءَهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، وَلِهَذَا إذَا شَهِدَ الصَّبِيُّ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ تُقْبَلُ. وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ تُقْبَلُ. وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا شَهِدَ عَلَى مُسْلِمٍ فَرُدَّتْ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ تُقْبَلُ، وَكَذَا الْأَعْمَى إذَا شَهِدَ فَرُدَّتْ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ مَا أَبْصَرَ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً وَإِنَّمَا حَدَثَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ بَعْدَ زَوَالِ الْعَوَارِضِ. بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ الْفَاسِقُ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ لِفِسْقِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ كَانَ شَهَادَةً؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ عِنْدَنَا، وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا شَهِدَ عَلَى ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ فَرُدَّتْ لِفِسْقِهِ فِي دِينِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ لَهُ شَهَادَةً عَلَى جِنْسِهِ فَكَانَ الْمَرْدُودُ شَهَادَةً. وَكَذَا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ إذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي حَادِثَةٍ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَكَذَا إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ أَعَادَهَا لَا تُقْبَلُ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ أَهْلِيَّةَ شَهَادَتِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ شَهِدَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَيْثُ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ خُصَّ عَنْ هَذَا النَّصِّ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إذَا شَهِدَ لِصَاحِبِهِ فَرُدَّتْ فَأَعَادَهَا بَعْدَ الْإِبَانَةِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ كَانَ شَهَادَةً. [فَصْلٌ حَدُّ الْعَدَالَةِ] (فَصْلٌ) : قَالَ فِي فَتَاوَى صَاعِدٍ: حَدُّ الْعَدَالَةِ أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا عُقَلَاءَ بَالِغِينَ غَيْرَ مُرْتَكِبِينَ كَبِيرَةً وَلَا مُصِرِّينَ عَلَى صَغِيرَةٍ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ كَذِبٌ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: قَالَ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا يَتَعَلَّقُ الْحَدُّ أَوْ الزَّجْرُ بِهِ. وَفِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ: شَرْطُ الْعَدَالَةِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْأُمُورَ الْمُسْتَشْنَعَةَ وَفِيهِ يَقَظَةٌ، وَلَا يَكُونُ

سَاهِيَ الْقَلْبِ. قَالَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا: وَالْعَدَالَةُ هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ تَحُثُّ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ وَالتَّحَاشِي عَنْ الرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهَا الِاعْتِدَالُ فِي الْأَحْوَالِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْأَمَانَةِ عَفِيفًا عَنْ الْمَحَارِمِ مُتَوَقِّيًا عَنْ الْمَآثِمِ بَعِيدًا مِنْ الرَّيْبِ مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ. الثَّانِي: فِي مَوَانِعِ الْقَبُولِ. مَانِعٌ مُطْلَقًا وَمَانِعٌ عَلَى جِهَةٍ: يَعْنِي أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَدَالَةِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَيَتَعَذَّرُ حَصْرُهُ، وَلَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ، فَمِنْهُ كُلُّ وَصْفٍ أَوْ فِعْلٍ مُنَافٍ لِلْعَدَالَةِ أَوْ لِلْمُرُوءَةِ أَوْ لَهُمَا، كَتَعَاطِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرُهَا كَبِيرَةً، وَمِنْهُ أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَ الْقَضَاءِ بِالنُّجُومِ، فَإِذَا ادَّعَاهُ وَاشْتُهِرَ بِهِ وَأَكَلَ الْمَالَ بِهِ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ أَطَالَ الْعُلَمَاءُ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّ الْمُنَجِّمَ إذَا كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُقِرًّا بِأَنَّ النُّجُومَ وَاخْتِلَافَهَا فِي الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ كُلِّهِ، إلَّا أَنَّهُ جَعَلَهَا أَدِلَّةً عَلَى مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَحُكْمُ هَذَا أَنْ يُزْجَرَ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَيُؤَدَّبَ عَلَيْهِ أَبَدًا حَتَّى يَكُفَّ عَنْهُ وَيَرْجِعَ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَيَتُوبَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ يُجْرَحُ بِهَا فَتَسْقُطُ إمَامَتُهُ وَشَهَادَتُهُ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ تَصْدِيقُهُ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65] وَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. وَمِنْهُ شَهَادَةُ الْهَاجِي؛ لِأَنَّ الْهَجْوَ سُخْفٌ وَمَجَانَةٌ. وَمِنْهُ مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَهُوَ فِي الْمِصْرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ مَجَانَةً، وَإِنْ تَرَكَهَا مُتَأَوِّلًا بِأَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ دِينًا فَلَا تَنْخَرِمُ عَدَالَتُهُ. وَمِنْهُ عَصْرُ الْخَمْرِ وَبَيْعُهَا وَكِرَاءُ دَارِهِ مِمَّنْ يَبِيعُهَا. وَمِنْهُ مَنْ لَا يُحْكِمُ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ. وَمِنْهُ مَنْ سَافَرَ وَاحْتَاجَ إلَى التَّيَمُّمِ فَلَمْ يُحْسِنْهُ. وَمِنْهُ مَنْ تَرَكَ مَا اُسْتُفِيدَ وُجُوبُهُ بِالْأَمْرِ الْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ قَضِيَّةَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَتُقْبَلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي. مِنْ شَرْحِ التَّجْرِيدِ. وَمِنْهُ اللَّاعِبُ بِالطُّنْبُورِ وَمَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ وَيُطَيِّرُهُنَّ، وَقِيلَ مَنْ يَبِيعُ الْحَمَامَ وَلَا يُطَيِّرُهُنَّ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ تَطْيِيرَهُ لَا يَخْلُو عَنْ مُطَالَعَةِ عَوْرَاتِ النَّاسِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ. وَمِنْهُ مَنْ اعْتَادَ دُخُولَ الْحَمَّامِ بِلَا مِئْزَرٍ؛ لِأَنَّهُ كَشْفٌ لِلْعَوْرَةِ وَهُوَ حَرَامٌ. وَمِنْهُ شَهَادَةُ الْمُغَنِّي وَالنَّائِحَةِ وَالْقَوَّالِ وَالرَّقَّاصِ وَمَنْ يَخْرِقُ ثَوْبَهُ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ. وَقِيلَ لَا يُفَسَّقُ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ لَعِبٍ. وَمِنْهُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ إذَا تَرَكَ الْخِتَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَمِنْهُ مَنْ أَكَلَ فِي السُّوقِ بَيْنَ أَيْدِي النَّاسِ، ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَمِنْهُ مَنْ مَشَى فِي السُّوقِ فِي سَرَاوِيلَ لَا قَمِيصَ مَعَهُ وَمِنْهُ مَنْ يَبُولُ عَلَى الطَّرِيقِ. وَمِنْهُ مَنْ يُصَارِعُ الْأَحْدَاثَ فِي الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ مُسْتَشْنَعَةٌ: وَعَنْ سَدَّادٍ لَمَّا وَلِيَ الْقَضَاءَ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ مَنْ حَاسَبَ أُمَّهُ فِي النَّفَقَةِ. وَمِنْهُ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَإِنْ فَرَّ الْإِمَامُ مِنْ الزَّحْفِ أَنْ يَفِرَّ مِنْ الْمِثْلَيْنِ وَمِنْهُ جَهْلُ الرَّجُلِ أَحْكَامَ قَصْرِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّفَرِ. وَمِنْهُ قَبُولُ جَوَائِزِ الْعُمَّالِ الْمَضْرُوبِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَكَذَا إدْمَانُ الْأَكْلِ عِنْدَهُمْ، بِخِلَافِ الْفَلْتَةِ وَبِخِلَافِ قَبُولِ جَوَائِزِ الْخُلَفَاءِ مَنْ يَرْضَى مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يَرْضَى، وَقَدْ قَبِلَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلُ الْفَضْلِ. وَمِنْهُ الْعَصَبِيَّةُ وَهُوَ أَنْ يَبْغُضَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا وَمِنْهُ النَّمِيمَةُ. وَمِنْهُ الْخِيَانَةُ وَالرِّشْوَةُ. وَمِنْهُ شَهَادَةُ بَائِعِ الْأَكْفَانِ لَا تُقْبَلُ، قِيلَ هَذَا إذَا تَرَصَّدَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَالطَّاعُونَ، أَمَّا إذَا كَانَ يَبِيعُ الثِّيَابَ هَكَذَا وَيُشْتَرَى مِنْهُ لِلْكَفَنِ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ. مِنْ الْمُحِيطِ. وَمِنْهُ سُكُوتُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ عِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ يَرَاهُمَا يُمْلَكَانِ، وَطَلَاقِ امْرَأَةٍ يَرَى زَوْجَهَا مُقِيمًا مَعَهَا وَلَا يَقُومُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ عُذْرٌ، وَقُدِّرَ سُكُوتُهُ فِي الْحُرْمَةِ الْمُغَلَّظَةِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. اُنْظُرْ الْقِنْيَةَ. وَقَدْ حُكِيَ فِيهَا عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَشَرَفِ الْأَئِمَّةِ الْمَكِّيِّ:

وَرُكْنُ الضَّيَاعِ: لَوْ شَهِدُوا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ لَا تُقْبَلُ إذَا كَانُوا عَالِمِينَ بِعَيْشِهِمْ عَيْشَ الْأَزْوَاجِ، وَإِنْ كَانَ تَأْخِيرُهُمْ لِعُذْرٍ تُقْبَلُ. وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ عَنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ: مَاتَ عَنْ امْرَأَةٍ وَوَرَثَةٍ فَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ كَانَ أَقَرَّ بِحُرْمَتِهَا حَالَ صِحَّتِهِ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ حَالَ حَيَاتِهِ، لَا تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ وَسُكُوتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَقُوا وَشَهَادَةُ الْفَاسِقِ لَا تُقْبَلُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ مَوَانِعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مَا يُمْنَعُ عَلَى جِهَةٍ وَهُوَ رَدُّ الشَّهَادَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَدَالَةِ، وَلَهُ أَسْبَابٌ: الْأَوَّلُ: التَّغَفُّلُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا التَّغَفُّلَ فِي صِفَاتِ الشَّاهِدِ، وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَرِزًا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ التَّحَيُّلُ. وَقَدْ يَكُونُ الْخَبَرُ الْفَاضِلُ ضَعِيفًا لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ وَأَنْ يُلْبَسَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ قَبُولُ شَهَادَتِهِ. السَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَجُرَّ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً أَوْ يَدْفَعَ عَنْهَا مَضَرَّةً، وَأَصْلُهُ أَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ جَرَّتْ مَغْنَمًا أَوْ دَفَعَتْ مَغْرَمًا لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهَا تَمَكَّنَتْ فِيهَا تُهْمَةُ الْكَذِبِ، وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ» مِثَالُ الْجَرِّ: شَهَادَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْآجِرِ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَعِيرِ لِلْمُعِيرِ بِالْمُسْتَعَارِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ مَعْنَى الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِلْكُ الِانْتِفَاعِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُجَرَّدِ: وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ الْأَجِيرِ لِأُسْتَاذِهِ وَالْأُسْتَاذِ لِأَجِيرِهِ. وَمِثَالُ الدَّفْعِ: شَاةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ: اذْبَحْهَا. فَذَبَحَهَا، فَأَقَامَ رَجُلٌ شَاهِدَيْنِ أَحَدَهُمَا الذَّابِحُ أَنَّ ذَا الْيَدِ غَصَبَهَا مِنْهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذَّابِحِ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَغْرَمًا؛ لِأَنَّ الذَّابِحَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِكَوْنِ الْآمِرِ غَاصِبًا وَقْتَ الذَّبْحِ فَمَتَى اخْتَارَ الْمَشْهُودُ لَهُ تَضْمِينَ الذَّابِحِ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْآمِرِ مَتَى جَازَتْ شَهَادَتُهُ فَيَكُونُ دَافِعًا مَغْرَمًا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِكَوْنِ الْآمِرِ غَاصِبًا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ لَكِنَّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ خِيَارَ التَّضْمِينِ يُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَفِي التَّخْيِيرِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ لِلذَّابِحِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَخْتَارُ الْمَشْهُودُ لَهُ تَضْمِينَهُ فَكَانَ دَافِعًا مَغْرَمًا مَعْنًى، مِنْ الْمُحِيطِ. (مَسْأَلَةٌ) : ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَتَلُوا رَجُلًا عَمْدًا، فَشَهِدَ اثْنَانِ لِوَاحِدٍ عَلَى الْوَلِيِّ أَنَّهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا وَهُوَ سُقُوطُ الْقِصَاصِ عَنْهُمَا وَانْقِلَابُهُ مَالًا بِعَفْوِ الْوَلِيِّ عَنْ أَحَدِهِمَا مِنْ الْمُنْتَقَى. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ نَفَرٍ مَالٌ وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلًا لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ قَدْ أَبْرَأَهُمَا مِنْ الْمَالِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ جَائِزٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ بَاطِلٌ. (مَسْأَلَةٌ) : شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّكُمْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ. أَوْ قَالَ أَمْرُهَا فِي أَيْدِيكُمْ فَأَيُّكُمْ طَلَّقَهَا فَهُوَ جَائِزٌ. وَالزَّوْجُ لَمْ يَجْحَدْ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْوَكَالَةِ، فَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْوَكَالَةِ لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيهَا. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا بَعْدَ وَفَاتِهِ وَبِالتَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِدَيْنِهِ، ثُمَّ شَهِدَ الْمُقْضَى لَهُ بِالدَّيْنِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ بِحَقٍّ عَلَى رَجُلٍ كَانَ لِأَبِيهِمْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا وَهُوَ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِهَذَا الْمَالِ. الْكُلُّ مِنْ الْمُحِيطِ. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ أَرْبَعَ بَنِينَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمُوهَا، ثُمَّ جَاءَتْ جَدَّةُ الْمَيِّتِ مَعْرُوفَةً تَطْلُبُ حَقَّهَا فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ أَنَّ التَّرِكَةَ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ التَّرِكَةَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَشَهَادَةُ الِاثْنَيْنِ عَلَى الْأَلْفِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا الزِّيَادَةَ الَّتِي حَصَلَتْ فِي أَيْدِيهِمَا بِشَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ تُهْمَةً فِي دَفْعِ الْمُشَارَكَةِ.

الفصل الخامس فيما ينبغي للشهود أن يتنبهوا له

فَرْعٌ) : وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ الْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتُ ابْنُ الشَّاهِدِ جَازَ وَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْحَيِّ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْحَيِّ نِصْفُهُ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَوْصَى لِهَذَا الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ. احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَوْتَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا فَقَدْ قَصَدَ بِأَنْ يُوصَى لِلْحَيِّ بِنِصْفِ الثُّلُثِ فَلَا يَجُوزُ إيجَابُ جَمِيعِهِ لِلْحَيِّ وَالْمُوصِي لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ جَائِزٌ لِلْمَيِّتِ كَجَوَازِهِ لِلْحَيِّ، فَحَصَلَتْ الشَّهَادَةُ مُوجِبَةً لِلشَّرِكَةِ فَإِذَا لَمْ تَجُزْ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا لَمْ تَجُزْ فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْوَصِيَّةَ مُوجَبَةٌ لِلْحَيِّ، وَالْمَيِّتُ أَدْخَلَهُ مَعَهُ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ، وَالْمَيِّتُ لَا تَثْبُتُ بِهِ مُزَاحَمَةٌ فَوَجَبَ إسْقَاطُ حُكْمِهِ فَبَقِيَ الْحَيُّ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَأُخْتِهِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ بَيْنَهُمَا مُنْتَفِيَةٌ لِظُهُورِ التَّحَاسُدِ وَلِعَدَمِ اتِّصَالِ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمَا، وَتُقْبَلُ لِوَلَدِ الرَّضَاعِ وَلِأُمِّ الْمَرْأَةِ وَأَبِيهَا أَوْ لِوَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا اتِّصَالُ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ، وَالْقَرَائِنُ الْحَامِلَةُ عَلَى الْمَيْلِ وَالْكَذِبِ. وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَبِّ الدَّيْنِ لِمَدِينِهِ إذَا كَانَ مُفْلِسًا. وَنَقَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ عَنْ وَالِدِ صَاحِبِ الْمُحِيطِ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَبِّ الدَّيْنِ لِمَدِينِهِ وَإِنْ كَانَ مُفْلِسًا. وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْعَتَّابِيِّ: رَبُّ الدَّيْنِ إذَا شَهِدَ لِمَدْيُونِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَالٍ لَا تُقْبَلُ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالتَّرِكَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُوصَى لَهُ بِأَلْفٍ مُرْسَلَةٍ أَوْ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ مَحِلُّ وَصِيَّتِهِ أَوْ سَلَامَةُ عَيْنِهِ. (فَرْعٌ) : وَشَهَادَةُ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ جَائِزَةٌ، وَإِنَّمَا تُمْنَعُ إذَا كَانَتْ الصَّدَاقَةُ مُتَنَاهِيَةً حَيْثُ تُثْبِتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَوْطَةِ يَدٍ فِي مَالِ الْآخَرِ، وَتُسَلَّمُ إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَنَاهِيَةً؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ صَاحِبِهِ. مِنْ شَرْحِ التَّجْرِيدِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ إنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا قُبِلَتْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ اُنْظُرْ الْقِنْيَةَ. وَتُقْبَلُ لَهُ، وَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ الْعَدَاوَةُ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ خِصَامٍ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ الدِّينِيَّةِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى إفْرَاطِ الْأَذَى مِنْ الْفَاسِقِ الْمُعَادَى لِفِسْقِهِ لِمَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ وَهَجَرَهُ لِلَّهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا وَرَّثَ الشَّحْنَاءَ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: الْحِرْصُ عَلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا أَوْ قَبُولِهَا. أَمَّا التَّحَمُّلُ فَهِيَ شَهَادَةُ الِاسْتِغْفَالِ، وَأَمَّا الْحِرْصُ عَلَى الْأَدَاءِ فَمِثْلُ أَنْ يَبْدَأَ بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ طَلَبِ صَاحِبِهَا وَهُوَ حَاضِرٌ وَالْحَقُّ مَالِيٌّ فَفِي الْقِنْيَةِ عَنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ تُقْبَلُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ. وَقَالَ الْخَصَّافُ: لَا تُقْبَلُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ صَاحِبُهَا بِهَا إنْ عَلِمَ بِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِهَا وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ فِي حُقُوقِ اللَّهِ فَلَا تَقْدَحُ الْمُبَادَرَةُ. وَأَمَّا الْحِرْصُ عَلَى الْقَبُولِ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى صِحَّةِ شَهَادَتِهِ إذَا أَدَّاهَا، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ دَلِيلُ التَّعَصُّبِ وَشِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى نُفُوذِهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَوَامّ فَإِنَّهُمْ يَتَسَامَحُونَ فِي ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْذَرَ، وَإِمَّا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّعَصُّبِ. وَكَذَا لَوْ خَاصَمَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَصُّبِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِافْتِقَارِهِ إلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ بِصِحَّةِ مَا خَاصَمَ فِيهِ، هَذَا إنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا قُبِلَتْ. مِنْ الْوَاقِعَاتِ، هَذَا إذَا كَانَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ، فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ فِيهِ. [الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِيمَا يَنْبَغِي لِلشُّهُودِ أَنْ يَتَنَبَّهُوا لَهُ] فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ وَالتَّسَاهُلُ اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ وَالتَّحَفُّظُ مِنْ الْغَفْلَةِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْمُسَامَحَةِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا الْعَادَةُ، وَقَدْ شَاهَدْنَا مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِ الشُّهُودِ مِنْ قِلَّةِ الضَّبْطِ وَغَمْصِ الْحَقِّ مَا أَوْرَدَهُمْ ذَلِكَ مَوَارِدَ مُنْكَرَةً، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ اقْتِدَاءً مِنْ بَعْضِهِمْ بِمُسَامَحَةِ بَعْضٍ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ بِاهْتِدَاءٍ وَلَا أَصْلَ بِاقْتِدَاءٍ، وَاعْتِيدَ ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَسَنُشِيرُ مِنْ ذَلِكَ إلَى مَوَاضِعَ، فَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِرْسَالُ فِي تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ

إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ حُصُولِ مَعْرِفَةِ الْعَيْنِ وَالِاسْمِ مَعًا، وَلَا يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ الْعَيْنِ: يَعْنِي أَنْ يُعْرَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَلَا يُعْرَفُ اسْمُهُ وَلَا نَسَبُهُ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلُّ مِنْ وُجُوهٍ؛ إذْ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَخْدَعَهُ فَيُسَمِّي لَهُ بِاسْمِ غَيْرِهِ؛ لِيُوجِبَ عَلَيْهِ حَقًّا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَطُولُ الْمُدَّةُ فَيَنْسَى عَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ فِي غَيْبَتِهِ، وَيَكُونُ قَدْ يُسَمَّى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِاسْمِ ذَلِكَ الْغَائِبِ فَيُقَدِّمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْغَائِبِ وَيَحْكُمُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ وَلَيْسَ هُوَ الْمَشْهُودُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْعَيْنِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ مِمَّا فَسَادُهُ ظَاهِرٌ وَضَرَرُهُ مُتَفَاقِمٌ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ هِيَ الْمَعْرِفَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الِاسْمِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ، مِثْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَزُولُ مَعَهُ الِاشْتِرَاكُ أَوْ يَخِفُّ، وَلَا يَكْفِي مَعْرِفَةُ اسْمِهِ خَاصَّةً دُونَ مَعْرِفَةِ اسْمِ أَبِيهِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي التَّعْرِيفِ وَالِاخْتِصَاصِ. وَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَزِيدَ اسْمَ الْجَدِّ؛ لِأَنَّهُ أَضْبَطُ وَأَبْعَدُ لِمَا يُتَوَقَّى مِنْ اشْتَرَاكِ الْأَسْمَاءِ فِي الْمُسَمَّى وَأَبِيهِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ إنَّمَا يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عَنْهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَذَلِكَ لَوْ عَرَفَ الِاسْمَ دُونَ الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَ يَسْمَعُ بِرَجُلٍ مَشْهُورٍ ثُمَّ يَقِفُ عَلَى عَيْنِهِ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا فُلَانٌ. وَلَمْ يَتَقَرَّرْ عِنْدَهُ تَقْرِيرًا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ فَلَا يَقْدُمُ عَلَى تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِمُجَرَّدِ شُهْرَةِ الِاسْمِ عِنْدَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ غَلَطٌ وَتَدْلِيسٌ، وَالْوَهْمُ فِيهِ مُمْكِنٌ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فِي الِاسْمِ وَالْعَيْنِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمَنْ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ فَلَا يُشْهَدُ إلَّا عَلَى عَيْنِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ اسْمَ غَيْرِهِ عَلَى اسْمِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ أَنْ يَتَرَدَّدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَوْ يُخَالِطَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَلَا يُعَجِّلُ بِالشَّهَادَةِ بِالْمَعْرِفَةِ حَتَّى يَحْصُلَ مِنْ التَّرَدُّدِ وَاشْتِهَارِ عَيْنِهِ وَاسْمِهِ بِمَحْضَرِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ وَتَوَاطُئِهِمْ عَلَيْهِ مَا يُوقِعُ لَدَيْهِ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي لَا يَشُكُّ فِيهَا، وَهَذَا بَابٌ كَبِيرٌ غَلِطَ فِيهِ الْجُمْهُورُ، وَلَا يَشْهَدُ عَلَى مُنْتَقِبَةٍ حَتَّى يَكْشِفَ وَجْهَهَا لِيُعَيِّنَهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ. قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يَصِحُّ عِنْدَ التَّعْرِيفِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ إذَا لَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَجْهُولِ بَاطِلَةٌ. اُنْظُرْ الْمُحِيطَ. وَلَا يُشْهَدُ عَلَى عَيْنِ امْرَأَةٍ زَعَمَتْ أَنَّهَا بِنْتُ زَيْدٍ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَنَّهَا بِنْتُ زَيْدٍ؛ إذْ لَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ. وَلَوْ قَالَ فِي الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي: إنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ التَّمِيمِيَّةُ. لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسِبَانِهَا إلَى فَخِذِهَا وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ وَالْفَخِذُ آخِرُ الْقَبَائِلِ السِّتِّ، كَذَا فِي الصَّحَاحِ، اُنْظُرْ الْهِدَايَةَ فِي هَذَا الْمَحِلِّ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَهُ الرَّجُلَانِ لَا يَعْرِفُ إلَّا أَحَدَهُمَا فَيُشْهِدَهُ أَنِّي قَبَضْتُ مِنْ هَذَا وَيُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يَذْكُرُ اسْمَهُ حَقًّا لِي عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ أَبْرَأْتُهُ أَوْ لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ لِلْمَجْهُولِ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْمُقِرُّ وَيُرِيدُ الْمَشْهُودُ لَهُ تَقْيِيدَ الشَّهَادَةِ فَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ التَّوَقُّفُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ الْمَشْهُودَ لَهُ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ سَأَلَ عَنْ اسْمِهِ وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ بِمَحْضَرِ الْمُقَرِّ لَهُ فَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِ الْمَشْهُودِ لَهُ فِي غَيْبَةِ الْمُقِرِّ أَنَّ اسْمَهُ فُلَانٌ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا سَمَّى لَهُ غَيْرَ نَفْسِهِ مِمَّنْ عَلَيْهِ لِلْمُشْهِدِ الْغَائِبِ حَقٌّ كَبِيرٌ لِيَضَعَهُ أَوْ خِصَامٌ شَدِيدٌ لِيَقْطَعَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ الْغَائِبُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا، فَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ، وَإِقْدَامُ الشَّاهِدِ عَلَى ذَلِكَ أَمْرٌ قَادِحٌ وَغَلَطٌ وَاضِحٌ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُشْهِدَهُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَيُرِيدُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِتَعْرِيفِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُعَرَّفُ عِنْدَهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ، أَوْ لَا يَجُوزُ قَبُولُ غَيْرِهِ قَوْلَهُ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجُرْأَةِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِمَنْ صَحَّ دِينُهُ وَرَاقَبَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَصْرِفَ كُلَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ فِي الشَّهَادَةِ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ مَهْمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ. فَإِنْ اضْطَرَّهُ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَمِيرٌ أَوْ كَانَ لِذَلِكَ وَجْهٌ فَلْيَكُنْ الْمُعَرَّفُ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ يَرْضَى دِينَهُمَا وَيَسْتَجِيزُ شَهَادَتَهُمَا وَيُسَمِّيهَا فَيَكُونُ كَالشَّهَادَةِ

فصل الشاهد إذا جيء إليه بكتاب يشهد فيه

عَلَى الشَّهَادَةِ أَوْ يَتَقَرَّرُ عِنْدَهُ مِنْ تَرَادُفِ التَّعْرِيفِ وَقَرِينَةِ الْحَالِ مَا يَأْمَنُ التَّدْلِيسَ مَعَهُ، كَمَا لَوْ اسْتَظْهَرَ سُؤَالَ مَنْ لَا يُفْهَمُ غَرَضُهُ فِي ذَلِكَ وَلَا حَضَرَ أَوَّلَ الْأَمْرِ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّعْرِيفِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ لَهُ الْكَشْفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَشِبْهِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ فِي حُكْمِ التَّعْرِيفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عُدُولٌ؛ لِأَنَّهُ عِلْمٌ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ بِالضَّرُورَةِ وَلَا بُدَّ لَهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ بِهِ عَلَى وَجْهِ كَذَا وَكَذَا، فَيَذْكُرُ الْمُعَرَّفِينَ إنْ كَانُوا عُدُولًا، وَالْوَجْهَ الَّذِي تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ التَّعْرِيفُ عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُقْبَلُ، وَذَلِكَ ضَلَالٌ مُبِينٌ وَتَدْلِيسٌ عَلَى أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَهْمَلُوهُ مِنْ سُؤَالِ الْمُعْتَدَّةِ إذَا أَرَادَتْ النِّكَاحَ وَمُبَاحَثَتِهَا عَنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِمَا يُفْهَمُ بِهِ أَحْكَامُهَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَتَعْيِينِ الْأَقْرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الْحَيْضَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَيَنْبَغِي الِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَكْتَفِي بِقَوْلِهَا: قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي. عَلَى الْإِجْمَالِ، فَإِنَّ النِّسَاءَ الْيَوْمَ قَدْ جَهِلْنَ ذَلِكَ جَهْلًا كَثِيرًا، بَلْ جَهِلَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ عِلْمٌ وَيَرَى لِنَفْسِهِ حَظًّا وَتَقَدُّمًا، وَقَدْ عَايَنْتُ بَعْضَ الْجَهَلَةِ مِنْ الْمُوَثِّقِينَ يَسْتَغْنِي عَنْ سُؤَالِ الْمَرْأَةِ جُمْلَةً إذَا هُوَ وَجَدَ التَّارِيخَ لِلطَّلَاقِ شَهْرَيْنِ فَصَاعِدًا، وَاِتَّخَذَ الْيَوْمَ هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ الْمُدَّةِ كَثِيرٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ أَصْلًا فِي إكْمَالِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ هَذَا الْغَلَطُ الْقَبِيحُ. [فَصْلٌ الشَّاهِدِ إذَا جِيءَ إلَيْهِ بِكِتَابٍ يَشْهَدُ فِيهِ] (فَصْلٌ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ إذَا جِيءَ إلَيْهِ بِكِتَابٍ يَشْهَدُ فِيهِ أَنْ يَقْرَأَ جَمِيعَ مَا فِيهِ؛ لِيَعْرِفَ الْخَطَأَ إنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الصَّوَابِ وَالصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ فَيَعْرِفُ مَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ وَلْتَكُنْ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ الشَّهَادَةَ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَيْسَ لَهُ بِهِنَّ خِلْطَةٌ، فَلَنْ تَنْضَبِطَ مَعْرِفَةُ الْمَعْرُوفَةِ فَكَيْفَ بِالْمَجْهُولَةِ وَاَلَّتِي لَا يَرَاهَا الشَّاهِدُ فِي عُمُرِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ مُتَخَفِّيَةٌ مُسْتَتِرَةٌ أَوْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ الشَّهَادَةَ عَلَى شَهَادَةِ ذِي جُرْحَةٍ أَوْ مُتَّهَمٍ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا يُقْبَلُ عَنْهُ وَمَا لَا يُقْبَلُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ خَوْفًا مِنْ غَلَطِ الْحُكَّامِ فِيهِ إذَا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ نَقْلَكَ عَنْهُ يُوهِمُ عَدَالَتَهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ مَنْ لَا يُعْلَمُ بِجَرْحٍ وَلَا تَعْدِيلٍ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ التَّحَفُّظُ مِنْ التَّزْوِيرِ عَلَيْهِ فِي الْخَطِّ فَقَدْ هَلَكَ بِذَلِكَ خَلْقٌ عَظِيمٌ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تَنْقَلِبُ بِإِصْلَاحٍ يَسِيرٍ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ تَغْيِيرِهَا نَحْوَ " مُظَفَّرٌ " فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ " مُطَهَّرٌ "، وَنَحْوَ " بَكْرٌ " فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ " بَكِيرٌ "، وَنَحْوَ " صَقْرٌ " فَإِنَّهُ يَجِيءُ " صَفَرٌ " فَيَكُونُ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ " صَفَرُ بْنُ ظَفَرٍ " مَثَلًا فَيَصْلُحُ " ظَفَرُ بْنُ مُطَهَّرٍ "، وَنَحْوَ " حَبِيبٌ " فَإِنَّهُ يَجِيءُ مِنْهُ " حَمْدٌ " وَنَحْوَ " عَائِشَةُ " فَإِنَّهُ يَصْلُحُ " عَاتِكَةُ "، وَيَجِيءُ مِنْهُ أَيْضًا " فَاطِمَةُ "، وَيَجِيءُ مِنْ " زَاذَانَ " " شَاذَانُ "، وَيَجِيءُ مِنْ " يَاقُوتُ " " يَاقُوبُ "، وَيَجِيءُ مِنْ " جَمِيلٌ " " كَمِيلٍ "، وَيَجِيءُ مِنْهُ أَيْضًا " خَلِيلٌ "، وَيَجِيءُ مِنْ " سَارٍ " " يَسَارُ "، وَيَجِيءُ مِنْهُ أَيْضًا " بَكَّارٌ "، وَيَجِيءُ مِنْهُ أَيْضًا " نَصَّارٌ "، وَيَجِيءُ مِنْ " عَبْدِ الْمَجِيدِ " " عَبْدُ الْحَمِيدِ "، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَكْفِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ بِهَذَا. وَقَدْ يَكُونُ آخِرُ السَّطْرِ بَيَاضٌ يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ كَانَ آخِرُهُ " بَكْرٌ " فَيُزَادُ " بَكْرَانِ "، أَوْ يَكُونُ " عُمَرُ " فَيُجْعَلُ " عِمْرَانَ ". وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ أَنْ تَتِمَّ عَلَيْهِ زِيَادَةُ حَرْفٍ مِنْ الْكِتَابِ، فَقَدْ تُغَيِّرُ الْأَلِفُ الْمَعْنَى إذَا زِيدَتْ، مِثَالُهُ أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيَكْتُبَ فِي الْوَثِيقَةِ " أُقِرُّ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ "، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ نِصْفَ الْمَبْلَغِ أَمْكَنَ زِيَادَةُ أَلِفٍ فَصَارَتْ " أَلْفَا دِرْهَمٍ "، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْوَثِيقَةِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَإِذَا زِيدَتْ أَلْفٌ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو صَارَتْ لِزَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو، فَبَطَلَ الدَّيْنُ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ لَمْ يُجْزَمْ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْكِتَابِ دِينَارٌ وَاحِدٌ فَيُجْعَلُ دِينَارًا وَنِصْفَ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَصْلُحُ وَنِصْفَ. وَكَذَا يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يَتَفَقَّدَ حَوَاشِيَ الْكُتُبِ فَقَدْ يَبْقَى مِنْهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْكِتَابِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ.

فصل الشهادة في كتاب فيه ثقب

[فَصْلٌ الشَّهَادَةُ فِي كِتَابٍ فِيهِ ثَقْبٌ] فَصْلٌ) : إذَا شَهِدْتَ فِي كِتَابٍ فِيهِ ثَقْبٌ فَإِنْ كَانَ مِمَّا هُوَ فِي أَصْلِ الْوَرَقِ فَتُنَبِّهُ عَلَى ذَلِكَ فَتَقُولُ: وَفِي سَطْرِ كَذَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ثَقْبٌ قَبْلَهُ كَذَا وَبَعْدَهُ كَذَا، وَكَذَا يَفْعَلُ إذَا كَانَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَلَا تَكْتُبْ: إنَّ فِي الْكِتَابِ قَرْضَ فَأْرٍ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَقَرَضَهُ الْفَأْرُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنْ شَهِدْتَ فِي كِتَابٍ سَلِيمٍ مِنْ الْآثَارِ ثُمَّ وَجَدْتَ فِيهِ أَثَرًا حِينَ الْأَدَاءِ فَإِنْ كَانَتْ مَقَاصِدُ الْكِتَابِ قَدْ سَلِمَتْ أَقَمْتَ الشَّهَادَةَ، وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ فِي مَوْضِعٍ يُحِيلُ مَعْنًى مِنْ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ فَلَا تَشْهَدْ أَصْلًا. وَإِذَا كُنْتَ أَوَّلَ مَنْ تَشْهَدُ فِي كِتَابٍ فَانْظُرْ آخِرَ حَرْفٍ مِنْ الْكِتَابِ فَاكْتُبْ فَمَا يَلِيه بِغَيْرِ فُرْجَةٍ تَتْرُكُهَا بَيْنَ شَهَادَتِكَ وَبَيْنَ آخِرِ حَرْفٍ مِنْ الْكِتَابِ؛ لِئَلَّا يُغَيَّرَ فِي الْكِتَابِ شَيْءٌ وَيُصَدَّرَ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ، فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَا تَسَعُ الشَّهَادَةَ فَسُدَّهَا بِ " حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " أَوْ بِ " الْحَمْدُ لِلَّهِ "، وَانْوِ ذِكْرَ اللَّهِ وَلَا تَضَعْهَا فِي آخِرِ السَّطْرِ بِلَا نِيَّةٍ، فَقَدْ نَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. (فَصْلٌ) : إذَا شَهِدَ قَبْلَكَ شُهُودٌ ثُمَّ جِيءَ إلَيْكَ بِالْكِتَابِ فَتَأَمَّلْ شَهَادَةَ أَوَّلِهِمْ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آخِرِ حَرْفٍ مِنْ الْكِتَابِ فُرْجَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُكْتَبَ فِيهَا شَيْءٌ فَصَحِّحْ أَنْتَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ هَكَذَا " صَحَّ، صَحَّ، صَحَّ " حَتَّى تَشْتَغِلَ تِلْكَ الْفُرْجَةُ. (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُكَ فِي مَسْطُورٍ وَهُوَ مِنْ الْوَرَقِ الدِّمَشْقِيِّ فَتَأَمَّلْهُ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ شَهَادَتَكَ فَإِنَّهُ يُبْشَرُ بَشْرًا خَفِيفًا، وَكَذَلِكَ مَا يُكْتَبُ فِي بَعْضِ الْقَرَاطِيسِ فَإِنَّهُ يُمْحَى بِسُرْعَةٍ وَيُجْعَلُ فِيهِ غَيْرُ مَا مُحِيَ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْحِبْرُ مِدَادًا، وَاحْتَرِزْ مِنْ الْحِبْرِ الَّذِي يَنْفُضُ (فَصْلٌ) : وَتَأَمَّلْ لِعَتِيقِ الْكُتُبِ فَإِنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ حِيلَةً يَجْعَلُونَ بِهَا الْكِتَابَ الطَّرِيَّ كَأَنَّهُ عَتِيقٌ. (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يَتَأَمَّلَ تَارِيخَ الْمَسْطُورِ وَيَنْظُرَ فِي الْعَدَدِ، فَإِنَّ سِتِّينَ تَصِيرُ بِسُرْعَةٍ ثَمَانِينَ، وَتَصِيرُ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةَ: سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَبْطُلُ التَّارِيخُ، وَتَمَيَّزْ الْفَرْقَ بَيْنَ سَبْعَةٍ وَتِسْعَةٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ تُجْعَلُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَالسَّبْعِينَ تَصِيرُ تِسْعِينَ، وَكَذَلِكَ تَأَمَّلْ عَدَدَ الدَّنَانِيرِ وَالدِّرْهَمِ بِحَسَبِ مَا ذَكَرْتُهُ، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ جَعَلَ فِي الْمَسْطُورِ كَذَا وَكَذَا دِينَارًا، نِصْفُهَا كَذَا وَكَذَا، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ رُبْعَهَا كَذَا وَكَذَا. (فَصْلٌ) : وَتَأَمَّلْ أَسْمَاءَ مَنْ فِي الْكِتَابِ وَأَنْسَابَهُمْ وَالْمُشْتَرِيَ وَالضَّامِنَ إذَا كَتَبَ مَا يُعَرِّفُهُمْ مَعْرِفَةً تَامَّةً، وَلَا يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ مُرُورًا فَمَا يَعْرِفُ الشَّاهِدُ اسْمَ نَفْسِهِ أَوْ يَجْهَلُ نَسَبَهُ وَيَنْسَى مَا كُتِبَ فِي الْكِتَابِ فَيُضْطَرُّ عِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ شِرَاءٌ سَأَلْتَ الْبَائِعَ عَمَّا بَاعَهُ هَلْ هُوَ كَامِلٌ أَوْ حِصَّةٌ وَالْمِلْكُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ، وَتَسْأَلُهُ عَنْ الثَّمَنِ. (فَصْلٌ) : إذَا كَتَبَ الشَّاهِدُ فِي شَهَادَتِهِ: أَشْهَدُ عَلَى إقْرَارِ الْمُقِرِّينَ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ. فَذَلِكَ غَفْلَةٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ بِمَا فِيهِ غَيْرُ الْمُسَمِّينَ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِمَا نُسِبَ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ شَهَادَةٌ نَاقِصَةٌ، وَقَوْلُهُ عَلَى إقْرَارِهِمَا إشَارَةٌ إلَى اثْنَيْنِ مُنْكَرَيْنِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُمَا الْمُسَمَّيَانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَنَّهُمَا مَعْرُوفَانِ عِنْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُمَا فَيَجِبُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ عَلَى الْمُسَمَّيْنِ أَوْ الْمَذْكُورَيْنِ؛ لِتَكُونَ شَهَادَةً مُفِيدَةً، فَإِنْ أَتَى بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمَا فَرُبَّمَا كَانَا غَيْرَ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الشَّاهِدِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا طُلِبَ مِنْكَ ذِكْرُ مُعَايَنَةِ قَبْضِ الثَّمَنِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَأَلْزِمْهُمْ بِإِحْضَارِ الثَّمَنِ وَوَزْنِهِ وَنَقْدِهِ وَتَسْلِيمِهِ حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، فَإِذَا صَحَّ لَك ذَلِكَ قُلْتَ لِلْبَائِعِ: هَلْ قُرِئَ عَلَيْكَ هَذَا الْكِتَابُ

وَوَقَفْت عَلَى مَا فِيهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْكَ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ؟ وَهَذَا إذَا كَانَ مُسْتَيْقِظًا يَفْهَمُ مَا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا تُشْهِدُ عَلَيْهِ حَتَّى تُفْهِمَهُ مَقَاصِدَ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَقُولَ لِلْمُشْتَرِي مِثْلَ ذَلِكَ وَتَشْهَدُ عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ تَسَلَّمَ مَا اشْتَرَى، وَإِنْ اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ عَيْبٌ نَبَّهْتُهُ عَلَى ذَلِكَ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا دُعِيتَ إلَى الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ وَكَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى التَّعْرِيفِ وَحَصَلَتْ لَكَ رِيبَةٌ تُرِيدُ زَوَالَهَا فَتَسْأَلُ الْوَلِيَّ عَنْ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَمَا هُوَ مِنْ الزَّوْجَةِ وَمَا اسْمُهَا وَنَسَبُهَا، وَتَنْظُرُ النَّسَبَ بَيْنَهُمَا فِي الْكِتَابِ، وَلَا تَضَعْ شَهَادَتَكَ بِأَنَّهُ وَلِيٌّ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ عِنْدَكَ. (فَصْلٌ) : تَجَنَّبْ أَنْ تَشْهَدَ بِمَوْتِ غَائِبٍ بِتَعْرِيفِ مَنْ عَرَّفَكَ فَقَدْ يَكُونُ بَلَغَهُ ذَلِكَ بَلَاغًا غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِهِ فَتَشْهَدُ بِمَوْتِهِ ثُمَّ يَقْدُمُ فَتَكُونُ فَضِيحَةً، وَتَجَنَّبْ أَنْ تَعْرِفَ صِحَّةَ مَا عَرَّفَكَ بِهِ الْعَوَامُّ وَمَنْ لَا يَضْبِطُ مَا يَقُولُ. (فَصْلٌ) : إذَا سُئِلْتَ عَمَّا لَا تَذْكُرُهُ فَقُلْ: مَا أَذْكُرُ، وَلَا تَقُلْ: مَا كَانَ ذَلِكَ. فَإِنَّكَ قَدْ تَذْكُرُهُ فَتَقُولُ: قَدْ ذَكَرْتُهُ، وَلَوْ قُلْتَ: مَا كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرْتَهُ وَشَهِدْتَ بِهِ كُنْتَ قَدْ خَالَفْتَ مَا كُنْتَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَإِنْ أَمْسَكْتَ عَنْ الشَّهَادَةِ كُنْتَ مَأْثُومًا، فَاضْبِطْ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ. (فَصْلٌ) : تَجَنَّبْ الشَّهَادَةَ عَلَى شَهَادَةِ مَنْ لَمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُ، فَرُبَّمَا جُعِلَتْ شَهَادَتُكَ عَلَى شَهَادَتِهِ تَعْدِيلًا مِنْكَ لَهُ. (فَصْلٌ) : فِي أَحْكَامِ كَاتِبِ الْوَثَائِقِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ الْأَوْصَافِ مَا نَذْكُرُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الْكِتَابَةِ قَلِيلَ اللَّحْنِ، عَالِمًا بِالْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، عَارِفًا بِمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْحِسَابِ وَالْقِسَمِ الشَّرْعِيَّةِ، مُتَحَلِّيًا بِالْأَمَانَةِ سَالِكًا طُرُقَ الدِّيَانَةِ وَالْعَدَالَةِ، دَاخِلًا فِي سِلْكِ الْفُضَلَاءِ مَاشِيًا عَلَى نَهْجِ الْعُلَمَاءِ الْأَجِلَّاءِ، فَهِيَ صِنَاعَةٌ جَلِيلَةٌ شَرِيفَةٌ، وَبِضَاعَةٌ غَالِيَةٌ مُنِيفَةٌ، تَحْتَوِي عَلَى ضَبْطِ أُمُورِ النَّاسِ عَلَى الْقَوَانِين الشَّرْعِيَّةِ، وَحِفْظِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَمُجَالَسَةِ الْمُلُوكِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أُمُورِهِمْ، وَبِغَيْرِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَا يَنَالُ أَحَدٌ ذَلِكَ وَلَا يَسْلُكُ هَذَا الْمَسْلَكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَصِبَ لِكِتَابَةِ الْوَثَائِقِ إلَّا الْعُلَمَاءُ الْعُدُولُ، وَلَا يَكْتُبُ الْكُتُبَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا عَارِفٌ بِهَا عَدْلٌ فِي نَفْسِهِ مَأْمُونٌ عَلَى مَا يَكْتُبُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] وَأَمَّا مَنْ لَا يُحْسِنُ وُجُوهَ الْكِتَابَةِ وَلَا يَقِفُ عَلَى فِقْهِ الْوَثِيقَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ الِانْتِصَابِ لِذَلِكَ؛ لِئَلَّا يُفْسِدَ عَلَى النَّاسِ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْكِتَابَةِ إلَّا أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، فَلَا يَنْبَغِي تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ لَا يَضَعُ اسْمَهُ بِشَهَادَةٍ فَبِمَا يَكْتُبُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَلِّمُ النَّاسَ وُجُوهَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَيُلْهِمُهُمْ تَحْرِيفَ الْمَسَائِلِ لِتَوَجُّهِ الْأَشْهَادِ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي النَّاسُ الْيَوْمَ يَسْتَفْتُونَ فِي نَوَازِلَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَالْمُشَارَكَةِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَنْكِحَةِ الْمَفْسُوخَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ، فَإِذَا صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الدِّيَانَةِ أَتَوْا إلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ فَحَرَّفُوا أَلْفَاظَهَا وَتَحَيَّلُوا لَهَا بِالْعِبَارَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صَرِيحِ الْفَسَادِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَتَمَالَأَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى التَّهَاوُنِ بِحُدُودِ الْإِسْلَامِ وَالْبَاعِثِ فِي طُرُقِ الْحَرَامِ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] . (فَصْلٌ) : وَفِي الْعَالِي الرُّتْبَةِ فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ مُوسَى الْخُويِيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَثِّقِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ قَوَاعِدَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: وَإِذَا كَتَبَ الْمُوَثِّقُ كِتَابًا بَدَأَ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ بِذِكْرِ الْمُقِرِّ وَاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَلَقَبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ ذِكْرَ الْجَدِّ مِنْ تَمَامِ التَّعْرِيفِ، ثُمَّ يَذْكُرُ قَبِيلَتَهُ وَصِنَاعَتَهُ وَسَكَنَهُ وَحِلْيَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا. وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا كَتَبْتَ، وَشُهُودُ هَذَا الْكِتَابِ بِهِ عَارِفُونَ

وَلَهُ مُحَقِّقُونَ وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ فِي اسْمِ الْمُقَرِّ لَهُ ثُمَّ تُؤَرِّخُ مَكْتُوبَهُ بِالْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ. قَالَ: فَإِذَا فَرَغَ الْكَاتِبُ مِنْ كِتَابَتِهِ اسْتَوْعَبَهُ وَقَرَأَهُ وَمَيَّزَ أَلْفَاظَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُمَيِّزَ فِي خَطِّهِ بَيْنَ السَّبْعَةِ وَالتِّسْعَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَتَبَ بَعْدَهَا وَاحِدَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نِصْفَهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَلْفًا كَتَبَ وَاحِدَةً وَذَكَرَ نِصْفَهَا؛ دَفْعًا لِلَّبْسِ، وَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ آلَافٍ زَادَ فِيهَا لَامًا فَيُصَيِّرُهَا الْآلَافَ؛ لِئَلَّا تُصْلَحَ الْخَمْسَةُ فَتَصِيرُ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَيَحْتَرِزُ بِذِكْرِ التَّنْصِيفِ مِمَّا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَالْخَمْسَةِ عَشَرَ تَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَالسَّبْعِينَ وَالتِّسْعِينَ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْكَاتِبُ النِّصْفَ مِنْ الْمَبْلَغِ فَيَنْبَغِي لِلشُّهُودِ أَنْ يَذْكُرُوا الْمَبْلَغَ فِي شَهَادَاتِهِمْ؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ الشَّكُّ لَوْ طَرَأَ فِي الْكِتَابِ تَغْيِيرٌ وَتَبْدِيلٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ وَقَعَ فِي الْكِتَابِ إصْلَاحٌ أَوْ إلْحَاقٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَحَلِّهِ فِي الْكِتَابِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْمِلَ أَسْطُرَ الْمَكْتُوبِ جَمِيعَهَا؛ لِئَلَّا يَلْحَقَ فِي آخِرِ السَّطْرِ مَا يُفْسِدُ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمَكْتُوبِ أَوْ يُفْسِدُهُ كُلَّهُ. فَلَوْ كَانَ فِي آخِرِ سَطْرٍ مَثَلًا وَجَعَلَ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ وَفِي أَوَّلِ السَّطْرِ الَّذِي يَلِيهِ لِزَيْدٍ وَكَانَ فِي آخِرِ السَّطْرِ فُرْجَةٌ أَمْكَنَ أَنْ يَلْحَقَ فِيهَا لِنَفْسِهِ ثُمَّ لِزَيْدٍ فَيَبْطُلُ الْوَقْفُ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ جَائِزًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِنْ اتَّفَقَ فِي آخِرِ السَّطْرِ فُرْجَةٌ لَا تَسَعُ الْكَلِمَةَ الَّتِي يُرِيدُ كِتَابَتِهَا لِطُولِهَا وَكَثْرَةِ حُرُوفِهَا فَإِنَّهُ يَسُدُّ تِلْكَ الْفُرْجَةَ بِتَكْرَارِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي وَقَفَ عَلَيْهَا أَوْ كَتَبَ فِيهَا " صَحَّ " أَوْ " صَادًا مَمْدُودَةً " أَوْ " دَائِرَةً مَفْتُوحَةً " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ بِهِ تِلْكَ الْفُرْجَةَ وَلَا يُمْكِنُ إصْلَاحُهَا بِمَا يُخَالِفُ الْمَكْتُوبَ، وَإِنْ تَرَكَ فُرْجَةً فِي السَّطْرِ الْأَخِيرِ كَتَبَ فِيهَا " حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " أَوْ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " مُسْتَحْضِرًا لِذِكْرِ اللَّهِ نَاوِيًا لَهُ، أَوْ يَأْمُرُ أَوَّلَ شَاهِدٍ يَضَعُ خَطَّهُ فِي الْمَكْتُوبِ أَنْ يَكْتُبَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ. وَإِنْ كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ ذَاتِ أَوْصَالٍ كَتَبَ عَلَامَتَهُ عَلَى كُلِّ وَصْلٍ وَكَتَبَ عَدَدَ الْأَوْصَالِ فِي آخِرِ الْمَكْتُوبِ، وَبَعْضُهُمْ يَكْتُبُ عَدَدَ أَسْطُرِ الْمَكْتُوبِ كَمَا فِي الْكِتَابِ الْحُكْمِيِّ. وَإِنْ كَانَ لِلْمَكْتُوبِ نُسَخٌ ذَكَرَهَا وَذَكَرَ عِدَّتَهَا وَأَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا حَضَرَ عِنْدَ الْمُوَثِّقِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَادَّعَيَا أَنَّهُمَا زَوْجَانِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ وَأَنَّ الْمَكْتُوبَ الَّذِي بَيْنَهُمَا عُدِمَ وَيَقْصِدَانِ تَجْدِيدَ كِتَابِ الصَّدَاقِ، فَإِنْ كَانَا غَرِيبَيْنِ طَارِئَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا، وَإِنْ رَأَى رِيبَةً تَرَكَهُمَا، وَإِنْ كَانَ قُدُومُهَا مَعَ رُفْقَةٍ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمَا زَوْجَانِ فَلْيَكْشِفْ أَمْرَهُمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِانْفِرَادِهِ وَيَمْتَحِنَهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا يُزِيلُ عَنْهُ الرِّيبَةَ، وَإِلَّا دَفَعَهُمَا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَا بَلَدِيَّيْنِ فَلَا يَكْتُبُ لَهُمَا حَتَّى يَصِحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُمَا زَوْجَانِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ بِانْفِرَادِهِ أَوْ مَعَ امْرَأَةٍ وَذَكَرَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَأَنَّهُ يَقْصِدُ طَلَاقَهَا وَلَيْسَ مَعَهَا كِتَابُ نِكَاحٍ يَدُلُّ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَأَرَادَ كِتَابَةَ الطَّلَاقِ فِي وَرَقَةٍ مُجَرَّدَةٍ فَلْيَحْتَرِزْ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَجْعَلُ ذَلِكَ صُورَةً وَلَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ، بَلْ يُرِيدُ بِكِتَابَةِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَحْضُرَ عِنْدَهُ شُهُودُهُ وَيُرَاجِعُهُمَا وَتَكُونُ وَرَقَةُ الطَّلَاقِ تَدْرَأُ عَنْهُ التُّهْمَةَ، فَيَنْبَغِي التَّحَرُّزُ فِي ذَلِكَ. (فَصْلٌ) : وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّاهِدِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ اسْمِهِ وَعَيْنِهِ وَنَسَبِهِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْمُوَثِّقِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَقَدْ يَحْضُرُ إلَى الْمُوَثِّقِ رَجُلٌ يَدَّعِي أَنَّ اسْمَهُ كَذَا وَيَسْأَلُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ مَسْطُورًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِفُلَانٍ فَلَعَلَّ ذَلِكَ قَدْ يُسَمَّى بِاسْمِ غَيْرِهِ، ثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانٍ يُخْرِجُ الْمَكْتُوبَ وَيَدَّعِي بِهِ عَلَى صَاحِبِ الِاسْمِ، وَلَعَلَّ الْكَاتِبَ قَدْ نَسِيَهُ وَمَاتَ الشُّهُودُ وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِالْخَطِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيُحْكَمُ عَلَى ذَلِكَ الْمُدَّعَى بِاسْمِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ إلَّا لِمَنْ عَرَفَ اسْمَهُ وَعَيْنَهُ مَعْرِفَةً تَامَّةً، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ

فصل في أجرة الكاتب

كِتَابٍ مِنْ مُبَايَعَةٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ تَمْلِيكٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ طَلَاقٍ لَا يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الشَّخْصِ: أَنَا فُلَانٌ، وَلَا بِالْحِلْيَةِ عَلَى الشُّهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْحِلْيَةَ تَتَغَيَّرُ وَالنَّاسُ يَتَشَابَهُونَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ ذَكِيًّا فَطِنًا عَارِفًا؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ الضَّرَرُ عَلَى النَّاسِ بِجَهْلِهِ بِالصِّنَاعَةِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَتَبَ الْمُبَايَعَةَ فَلْيُحَدِّدْ الْمَكَانَ وَلْيَذْكُرْ الْجُدْرَانَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ وَالْمُشْتَرَكَةَ وَطُرُقَهُ وَمَدْخَلَهُ وَيَذْكُرُ مَحَلَّهُ مِنْ الْبَلَدِ، وَيَنْبَغِي لِلْكَاتِبِ إذَا سَافَرَ إلَى جِهَةٍ لَا يَعْرِفُ اصْطِلَاحَ أَهْلِهَا أَنْ لَا يَتَصَدَّى لِلْكِتَابَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ سُنَّتَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ وَنَقُودَهُمْ وَمِكْيَالَهُمْ وَأَسْمَاءَ الْأَصْقَاعِ وَالطُّرُقِ وَالشَّوَارِعِ، فَبِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ يَتِمُّ لَهُ الْأَمْرُ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ اسْمَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي ذِمِّيًّا وَالْبَائِعُ مُسْلِمًا. [فَصْلٌ فِي أُجْرَةِ الْكَاتِبِ] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى كَتْبِ الْوَثَائِقِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ. وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] ؛ وَلِأَنَّ مِنْ اُسْتُبِيحَ عَمَلُهُ وَكَدُّ خَاطِرِهِ كُلَّمَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ إنْسَانٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ وَيَسْتَغْرِقُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا غَايَةُ الضَّرَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْأَخْذِ عَلَى الْكِتَابَةِ فَالْأَوْلَى لِمَنْ قَدَرَ وَاسْتَغْنَى التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ وَاحْتِسَابُ عَمَلِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ فَنَقُولُ: وَجْهُ الْإِجَارَةِ أَنْ يُسَمِّيَ الْأُجْرَةَ وَيُعَيِّنَ الْعَمَلَ، فَإِنْ وَافَقَ الْكَاتِبُ الْمَكْتُوبَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَاءَ الْكِتَابُ عَلَى مَا اتَّفَقَ مَعَهُ عَلَيْهِ فَهِيَ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ، وَيَجُوزُ بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مَا لَمْ يَكُنْ الْمَكْتُوبُ لَهُ مُضْطَرًّا إلَى الْكَاتِبِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ؛ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ الْمُسَامَحَةُ، وَلَا يَرْفَعُ عَلَى النَّاسِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّ لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَرُورَتِهِمْ إلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَهِيَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ، أَمَّا إنْ لَمْ يُوَافِقْ الْكَاتِبُ الْمَكْتُوبَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ فَهَاهُنَا نَظَرٌ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَالِبُ كِتَابَاتِ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ الْمُوَثِّقِينَ يَتَعَفَّفُونَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ؛ وَلِئَلَّا يَتَنَزَّلُوا مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ فِي الْمُكَايَسَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَهَذَا غَرَضٌ حَسَنٌ وَمَذْهَبٌ جَمِيلٌ إنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ يَقْنَعُ بِمَا أُعْطِيَ عَلَى عَمَلِهِ بَعْدَ إكْمَالِهِ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مِنْ الْمُشَاحَّةِ حِينَئِذٍ مَا هُوَ أَقْبَحُ حَالًا مِمَّا لَوْ ابْتَدَأَ الْمُشَارَطَةَ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يُسَمَّى إجَارَةً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ مَا يُعَاوَضُ بِهِ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْكَاتِبِ؛ لِأَنَّ عَطَاءَ النَّاسِ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ أَقْدَارِهِمْ وَمَبْلَغِ مُرُوءَتِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْكَاتِبِ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَنْ يُثَابَ عَلَى ذَلِكَ فَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى طَلَبِ الثَّوَابِ مِنْ الْمَكْتُوبِ لَهُ بِحَسَبِ مَا أَدَّتْهُ مُرُوءَتُهُ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُكَارَمَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمُكَايَسَةِ وَالْمُشَاحَّةِ، وَذَلِكَ أَصْلُ هِبَةِ الثَّوَابِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَكْتُوبُ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ لَزِمَهُ الْقَبُولُ، وَإِنْ أَعْطَاهُ أَقَلَّ فَالْكَاتِبُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَبُولِ وَاسْتِرْجَاعِ مَا عَمِلَ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَكْتُوبِ لَهُ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِرْجَاعُ الْكِتَابِ لِكَوْنِهِ تَضَمَّنَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ أَوْ ثَبَتَ فِيهِ حَقٌّ فَيَكُونُ ذَلِكَ قُوتًا وَيُجْبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَمَا يُفْعَلُ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ. [فَصْلٌ لِلْقَاضِي أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى كَتْبِ السِّجِلَّاتِ وَالْمَحَاضِرِ] (فَصْلٌ) : وَلِلْقَاضِي أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى كَتْبِ السِّجِلَّاتِ وَالْمَحَاضِرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْوَثَائِقِ؛ إذْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِيصَالُ الْحَقِّ إلَى أَهْلِهِ لَا الْكَتَبَةِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَطِيبُ لَهُ لَوْ أَخَذَ مَا يَجُوزُ أَخْذُهُ لِغَيْرِهِ. قَالَ فِي الْمُلْتَقَطِ: لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ مَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ، وَمَا قِيلَ فِي كُلِّ أَلْفٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لَا نَقُولُ بِهِ وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْفِقْهِ، وَأَيُّ

فصل في النعوت

مَشَقَّةٍ لِلْكَاتِبِ فِي كَثْرَةِ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا أَجْرُ مِثْلِهِ بِقَدْرِ مَشَقَّتِهِ وَبِقَدْرِ عَمَلِهِ فِي صَنْعَتِهِ أَيْضًا كَحَكَّاكٍ وَثَقَّابٍ مُسْتَأْجَرٍ بِأَجْرٍ كَثِيرٍ فِي مَشَقَّةٍ قَلِيلَةٍ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أُجْرَةُ السِّجِلِّ عَلَى مَنْ تَجِبُ؟ قِيلَ عَلَى الْمُدَّعِي؛ إذْ بِهِ إحْيَاءُ حَقِّهِ فَنَفْعُهُ لَهُ وَقِيلَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ إذْ هُوَ يَأْخُذُ السِّجِلَّ وَقِيلَ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ الْكَاتِبَ. وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ أَحَدٌ وَأَمَرَهُ الْقَاضِي فَعَلَى مَنْ يَأْخُذُ السِّجِلَّ، وَعَلَى هَذَا أُجْرَةُ الصَّكَّاكِ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الصَّكَّ فِي عُرْفِنَا. وَقِيلَ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْطَى الْمُقَرُّ لَهُ أُجْرَةَ الصَّكَّاكِ يَكُونُ الْكَاغَدُ مِلْكَهُ فَيَمْلِكُ حَبْسَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ حَيْثُ قَالَ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ أُخِذَ خَطُّ إقْرَارِهِ فَلَوْ كَانَ بِالْمَالِ يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَالَ، وَكَذَا الْخَطُّ لَوْ كَانَ مِلْكَ الْمُدَّعِي وَلَوْ كَانَ مُنْكِرًا يُبَرْهِنُ عَلَى أَنَّ خَطَّهُ فِي يَدِهِ وَيَأْخُذُهُ جَبْرًا وَيَدَّعِي عَلَيْهِ الْمَالَ بِحُكْمِ الْخَطِّ. وَلَوْ كَانَ لَا بَيِّنَةَ عَلَى الْخَطِّ يُحَلِّفُهُ أَنَّ خَطَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ، فَلَوْ نَكَلَ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهِ ثُمَّ يَدَّعِي الْمَالَ مِنْ الْخَطِّ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا قَضَى دَيْنَهُ فَالْمُقَرُّ لَهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ صَكِّ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ وَالْجَبْرُ عَلَى الْمُسْتَكْتَبِ فِي عُرْفِنَا قَالَهُ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى. [فَصْلٌ فِي النُّعُوتِ] (فَصْلٌ) : وَإِذَا احْتَاجَ الْكَاتِبُ إلَى ذِكْرِ نُعُوتِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مِنْ صِفَاتِهِ أَشْهُرَهَا كَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْعَرَجِ وَالْبَيَاضِ: أَعْنِي الْبَرَصَ وَآثَارَ الْجُدَرِيِّ وَالنَّمَشَ فَيَقُولُ: فِي وَجْهِهِ آثَارُ جُدَرِيٍّ أَوْ نَمَشٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَالٌ ذَكَرْتَهُ وَذَكَرْتَ مَوْضِعَهُ، وَيَذْكُرُ قَطْعَ الْأَنَامِلِ أَوْ عُضْوٍ مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ ظَاهِرٌ فِي الْوَجْهِ وَالْجَسَدِ، وَيَذْكُرُ مَعَ ذَلِكَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَصِنَاعَتَهُ وَقَبِيلَتَهُ وَيُحَلِّيهِ تَحْلِيَةً جَيِّدَةً لَا تُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ، فَإِذَا كَانَ الْمَنْعُوتُ غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ فَهُوَ أَفَوْهٌ وَالْمَرْأَةُ فَوْهَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْفَمُ غَائِرًا فَهُوَ أَفْقَمُ وَالْمَرْأَةُ فَقْمَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْأَنْفُ طَوِيلًا مَعَ نُتُوءٍ فِي وَسَطِهِ فَهُوَ أَقْنَى وَالْمَرْأَةُ قَنْوَاءُ، وَإِنْ كَانَ طَرَفُهُ عَرِيضًا فَهُوَ أَفْطَسُ وَالْمَرْأَةُ فَطْسَاءُ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا مُنْتَصِبًا مُعْتَدِلًا فَهُوَ أَشَمُّ وَالْمَرْأَةُ شَمَّاءُ، وَإِنْ كَانَ قَصِيرًا بَيْنَ الشَّمَمِ وَالْفَطْسِ فَهُوَ أَخْنَسُ وَالْمَرْأَةُ خَنْسَاءُ، وَيُقَالُ فِي قَصِيرَةِ الْأَنْفِ خَلْفَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْخَدُّ مُسْتَطِيلًا فَهُوَ أَسِيلُ الْخَدِّ وَالْمَرْأَةُ أَسِيلَةُ الْخَدِّ. وَإِنْ كَانَ الْعُنُقُ طَوِيلًا فَهُوَ أَغْيَدُ وَالْمَرْأَةُ غَيْدَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْعُنُقُ قَصِيرًا فَهُوَ أَوْقَصُ وَالْمَرْأَةُ وَقْصَاءُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْعَيْنَيْنِ غَوْرٌ فَهُوَ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ وَالْمَرْأَةُ غَائِرَةُ الْعَيْنَيْنِ، وَإِذَا بَرَزَتَا فَهُوَ جَاحِظُ الْعَيْنَيْنِ وَهِيَ جَاحِظَةُ الْعَيْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْكُحْلُ أَسْوَدَ قُلْتَ كَحْلَاءُ وَالرَّجُلُ أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَشْفَارُ الْعَيْنِ كَأَنَّهَا مُنْضَمَّةٌ فَهِيَ دَعْجَاءُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمُقْلَةِ إشَارَةٌ إلَى الِانْتِقَالِ فَهِيَ حَوْرَاءُ، وَإِنْ دَخَلَ بَعْضُ الْمُقْلَةِ فِي الْمَاقِّ مِمَّا يَلِي الْأَنْفَ فَالْعَيْنُ حَوْلَاءُ، وَإِنْ كَانَ بَيَاضُ الْعَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ السَّوَادِ فَهِيَ بَرْجَاءُ وَتُسَمَّى حَوْرَاءَ أَيْضًا. وَالنَّجْلَاءُ: الْعَيْنُ الْوَاسِعَةُ، وَالدَّعْجَاءُ: الَّتِي سَوَادُ عَيْنِهَا أَكْثَرُ مِنْ بَيَاضِهَا، وَالْوَطْفَاءُ: الْمُغْمَضَةُ الْعَيْنَيْنِ. وَالسَّحَرَةُ الْمُخَمَّرَةُ: سَوَادُ الْحَدَقَتَيْنِ، وَالشَّوْسَاءُ: الضَّيِّقَةُ الْعَيْنِ، وَالْأَقْلَحُ وَالْقَلْحَاءُ: مَنْ كَانَ فِي أَسْنَانِهِ صُفْرَةٌ، وَتَقُولُ وَاسِعُ الْجَبْهَةِ أَوْ أَصْلَبُ الْجَبْهَةِ إذَا كَانَتْ مُنْبَسِطَةً بِهَا غُضُونٌ، وَتَقُولُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ أَغَمُّ إذَا نَبَتَ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَنْزَعُ إذَا كَانَ لَهُ نَزْعَتَانِ فِي جَانِبَيْ رَأْسِهِ مِنْ مُقَدَّمِهِ، وَأَصْلَعُ إذَا انْحَسَرَ شَعْرُ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، وَأَقْرَعُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِهِ شَعْرٌ وَالْمَرْأَةُ قَرْعَاءُ، وَتَقُولُ فِي الْحَاجِبَيْنِ مَقْرُونٌ إذَا الْتَقَيَا، وَأَبْلَجُ إذَا انْفَصَلَا، وَتَقُولُ فِي الْأَسْنَانِ أَفْصَمُ لِلْمَكْسُورِ نِصْفُهَا عَرْضًا، وَأَثْرَمُ إذَا سَقَطَ السِّنُّ كُلُّهَا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَسْنَانِ فُرْجَةٌ قُلْتَ مُفَلَّجُ الْأَسْنَانِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِقَّةٌ وَتَحَدُّدٌ قُلْتَ أَشْنَبُ الْأَسْنَانِ وَالْأُنْثَى شَنْبَاءُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ذُو الرُّمَّةِ بِقَوْلِهِ: وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبٌ

وَإِنْ كَانَتْ الْأَسْنَانُ بَارِزَةً قُلْتَ بَارِزُ الْأَسْنَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْنَانُهُ الْعُلْيَا قَدْ دَخَلَتْ وَالسُّفْلَى قَدْ بَرَزَتْ قُلْتَ أَفْقَمُ الْأَسْنَانِ وَالْأُنْثَى فَقْمَاءُ الْأَسْنَانِ، وَإِنْ كَانَ الشَّعْرُ غَيْرَ مُتَجَعِّدٍ وَلَا مُتَكَسِّرٍ فَهُوَ أُسْبَطُ الشَّعْرِ وَالْأُنْثَى سَبْطَاءُ الشَّعْرِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ جُعُودَةٌ قُلْتَ أَجْعَدُ الشَّعْرِ وَالْأُنْثَى جَعْدَاءُ الشَّعْرِ، وَلَا يُقَالُ أَجْعَدُ وَلَا جَعْدَاءُ، وَإِنْ كَانَ يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنْ حُمْرَةٍ سُمِّيَ الشَّعْرُ أَصْهَبَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ حُمْرَةٌ إلَى صُفْرَةٍ قُلْتَ فِي الرَّجُلِ أَشْقَرُ الشَّعْرِ وَالْأُنْثَى شَقْرَاءُ الشَّعْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَجْنَتَيْنِ نُتُوءٌ قُلْتَ فِي الرَّجُلِ نَاتِئُ الْوَجْنَتَيْنِ وَفِي الْمَرْأَةِ وَجْنَاءُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأُذُنِ صِغَرٌ قِيلَ جَمَّاءُ، وَإِنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً قِيلَ مُصَلَّمُ الْأُذُنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الصَّدْرُ قَدْ نَتَأَ وَبَرَزَ فَهُوَ أَزْوَرُ وَالْمَرْأَةُ زَوْرَاءُ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّدْرِ غَوْرٌ وَفِي الصُّلْبِ انْحِنَاءٌ قُلْتَ فِي الذَّكَرِ أَحْنَى وَقُلْتَ فِي الْأُنْثَى بِهَا حَنَا. (فَصْلٌ) : وَالْبُدَاءَةُ بِذِكْرِ السِّنِّ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَنْعُوتِ شَيْبٌ قُلْتَ فِي الذَّكَرِ أَشْمَطُ وَالْأُنْثَى شَمْطَاءُ، وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا كَهْلٌ، وَيُقَالُ شَيْخٌ لِمَنْ غَلَبَهُ الْبَيَاضُ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُوتُ صَغِيرًا قُلْتَ فِيهِ رَضِيعٌ أَوْ فَطِيمٌ أَوْ صَبِيٌّ وَالْأُنْثَى صَبِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ يَتْبَعُهَا صَغِيرٌ أَوْ صَغِيرَةٌ قُلْتَ مُتْبَعًا بِصَبِيٍّ صَغِيرٍ أَوْ بِصَبِيَّةٍ صَغِيرَةٍ لَا بِأَحَدِهِمَا نَعْتٌ لِصَغِيرِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَشْبَارٍ قُلْتَ رُبَاعِيُّ الْقَدِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ خَمْسَةِ أَشْبَارٍ قُلْتُ خُمَاسِيُّ الْقَدِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ سِتَّةِ أَشْبَارٍ قُلْتَ سُدَاسِيُّ الْقَدِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَارَبَ الْبُلُوغَ قُلْتَ مُرَاهِقٌ فِي سِنِّهِ، وَإِنْ كَانَ مُلْتَحِيًا قُلْتَ مُلْتَحٍ، فَإِنْ كَانَتْ لِحْيَتُهُ عَرِيضَةً طَوِيلَةً قُلْتَ مُسَبَّلٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً قُلْتَ كَثُّ اللِّحْيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي عَارِضَيْهِ خِفَّةٌ قُلْتَ خَفِيفُ الْعَارِضَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عَارِضَيْهِ شَيْءٌ قُلْتَ كَوْسَجٌ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُعُ فِي وَجْهِهِ لِحْيَةٌ أَصْلًا قُلْتَ أَطْلَسٌ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا اللَّوْنُ فَقَالَ فِي عَالِي الرُّتْبَةِ فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ تَقُولُ فِي ذَلِكَ أَسْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ أَوْ أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ. وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ: وَإِنْ كَانَ أَبْيَضَ قُلْتَ فِيهِ أَحْمَرُ وَلَا تَقُلْ أَبْيَضُ؛ لِأَنَّ الْأَبْيَضَ هُوَ الْبَرَصُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ، بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ «أُوَيْسٍ الْقَرَنِيُّ إنَّهُ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ» أَيْ بَرَصٌ، فَدَعَا اللَّهَ فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ إلَّا قَدْرَ الدِّرْهَمِ. قَالَ وَالْعَامَّةُ تَجْعَلُ الْأَحْمَرَ دُونَ الْأَسْوَدِ وَفَوْقَ الْأَصْفَرِ وَهُوَ وَهْمٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَائِشَةَ يَا حُمَيْرَاءُ» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بُعِثْتُ إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» وَأَطَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيمَا قَالَهُ فِي الْبَيَاضِ نَظَرٌ لِقَوْلِ الْعَبَّاسِ يَمْدَحُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَغَرُّ أَبْيَضُ قَبَّاصُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَحْمَرِ وَفِي الْأَبْيَضِ أَحْمَرُ وَيُقَالُ فِي بَيَاضِ الْأَبْيَضِ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ أَبْيَضُ نَاصِعٌ، وَفِي تَأْكِيدِ الْأَحْمَرِ قَانِي، وَفِي تَأْكِيدِ الْأَسْوَدِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ أَسْوَدُ حَالِكٌ وَحَانِكٌ بِاللَّامِ وَالنُّونِ، وَتَأْكِيدِ صُفْرَةِ الْأَصْفَرِ بِأَنْ يَقُولَ أَصْفَرُ فَاقِعٌ. (تَنْبِيهٌ) : وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الصَّفْرَاءَ السَّوْدَاءُ وَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَى قَائِلِهِ، وَعُدَّتْ مِنْهُ وَهْلَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] يَدُلُّ عَلَى وَهْمِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ؛ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَسْوَدُ فَاقِعٌ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَصْفَرِ إنَّهُ الْأَسْوَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ سَوَادَهَا مَشُوبٌ بِشَيْءٍ مِنْ صُفْرَةٍ، وَتَقُولُ امْرَأَةٌ حَذْلَاءُ فِي الْمَائِلَةِ الشِّقِّ، وَلَطْعَاءُ فِي مُبْيَضَّةِ الشَّفَتَيْنِ، وَهُوَ مِنْ نُعُوتِ السُّودَانِ، وَلَعْسَاءُ حَمْرَاءُ الشَّفَتَيْنِ، وَالرَّجُلُ أَلْعَسُ وَاللَّمَى رِقَّتُهُمَا تَقُولُ رَجُلٌ أَلْمَى وَامْرَأَةٌ لَمْيَاءُ، وَالْمَتْكَاءُ الَّتِي لَا تَحْبِسُ بَوْلَهَا،

الفصل السادس فيما ينبغي للقاضي أن يتنبه له في أداء الشهادة عنده

وَالضَّهْيَاءُ الَّتِي لَا تَحِيضُ، وَالْمُفْضَاةُ الَّتِي صَارَ مَسْلَكُهَا شَيْئًا وَاحِدًا: أَعْنِي مَسْلَكَ الْبَوْلِ وَمَسْلَكَ الذَّكَرِ، وَالزَّعْرَاءُ الَّتِي لَا شَعْرَ لَهَا فِي سَوْأَتِهَا، وَالْقَرْنَاءُ الْعَظِيمَةُ السَّوْأَةِ الَّتِي يُمْنَعُ بِهَا الْوَاطِئُ مِنْ إصَابَتِهَا. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَالْقَرْنُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَحَلِّ عَظْمٌ شَبِيهٌ بِقَرْنِ الشَّاةِ، وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ هِيَ الْعَفَلَةُ الصَّغِيرَةُ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. وَاخْتُصِمَ إلَى شُرَيْحٍ فِي جَارِيَةٍ بِهَا قَرْنٌ فَقَالَ أَقْعِدُوهَا، فَإِنْ أَصَابَ الْأَرْضَ فَهُوَ عَيْبٌ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ الْأَرْضَ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ. وَالرَّتْقَاءُ الَّتِي لَهَا لَحْمَةٌ تَمْنَعُ الْوَطْءَ مِنْهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الَّتِي لَا يُسْتَطَاعُ جِمَاعُهَا لِارْتِقَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ الرَّتْقِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَتْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] قِيلَ وَهُوَ فِي الْمَرْأَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَحِلُّ الْجِمَاعِ مُنْسَدًّا بِلَحْمٍ وَهَذَا يُمْكِنُ عِلَاجُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُنْسَدًّا بِعَظْمٍ وَلَا يُمْكِنُ عِلَاجُهُ. وَالْعَفْلَاءُ هِيَ الَّتِي أَصَابَهَا الْعَفَلُ، وَالْعَفَلَةُ بِتَحَرُّكِ لَفْظَيْهِمَا وَهُوَ شَيْءٌ يَخْرُجُ مِنْ قُبُلِ النِّسَاءِ وَمِنْ حَيَاءِ النَّاقَةِ شَبِيهٌ بِالْأُدْرَةِ الَّتِي لِلرِّجَالِ. وَيُقَالُ امْرَأَةٌ عَفْلَاءُ، ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَتَبِعَهُمْ الْفُقَهَاءُ، وَالْبَخَرُ نَتْنُ الْفَمِ، وَالْأَتَكُ وَهُوَ ضِيقُ الْعُرْقُوبَيْنِ،. وَالْفَحَجُ اتِّسَاعُ الْعُرْقُوبَيْنِ حَتَّى كَادَ يَخْرُجُ ذَلِكَ مِنْ الْقَدْرِ الْمُعْتَادِ. وَالطَّوِيلُ الْقَامَةِ يُقَالُ فِيهِ شَاطُّ الْقَامَةِ وَشَاطَّةُ الْقَامَةِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ عَشَنَّقٌ، وَإِنْ كَانَ ضِدَّ ذَلِكَ قُلْتَ قَصِيرُ الْقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قُلْتَ حَسَنُ الْقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ قُلْتَ مَرْبُوعُ الْقَامَةِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْمَرْأَةِ مَرْبُوعَةُ الْقَامَةِ وَرَبْعَةُ الْقَامَةِ. وَالْأَكْوَعُ مَنْ اعْوَجَّتْ يَدَاهُ مِنْ قَبْلِ الْكُوعَيْنِ إلَى خَارِجِ الْيَدَيْنِ فَتَقُولُ فِيهِ أَكْوَعُ الْيَدَيْنِ وَالْأُنْثَى كَوْعَاءُ الْيَدَيْنِ، وَالْكُوعَانِ هُمَا أَصْلُ الْيَدَيْنِ فِي أَوَّلِ الزَّنْدَيْنِ، وَالزَّنْدَانِ عَظْمَاتُ الذِّرَاعَيْنِ. وَإِنْ كَانَ فِي أَصَابِعِ يَدَيْهِ تَقَبُّضٌ قُلْتَ مُقَفَّعُ الْيَدَيْنِ وَالْأُنْثَى مُقَفَّعَةُ الْيَدَيْنِ؛ وَإِنْ كَانَ فِي عُقْدَتَيْ الذِّرَاعَيْنِ؛؛ وَإِنْ كَانَ فِي عْقْدَتَيْ إبْهَامِ قَدَمَيْهِ نُتُوءٌ فِي جَانِبِ الْقَدَمَيْنِ مِنْ دَاخِلٍ مَعَ مَيْلٍ فِي الْإِبْهَامِ إلَى الْأَصَابِعِ الَّتِي بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَرَاكُبٍ قُلْتَ فِي الرَّجُلِ أَفْدَعُ وَالْأُنْثَى فَدْعَاءُ. وَإِنْ كَانَ إبْهَامَا قَدَمَيْهِ قَدْ أَقْبَلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبَتِهَا قُلْتَ أَحْنَفُ الرِّجْلَيْنِ وَالْأُنْثَى حَنْفَاءُ. وَإِنْ كَانَ وَسَطُ أَسْفَلِ قَدَمَيْهِ لَا يَلْصَقُ بِالْأَرْضِ إذَا كَانَ فِي وَسَطِ حَاشِيَتَيْ قَدَمَيْهِ مِنْ دَاخِلِهِمَا نَقِيبٌ قُلْتَ أَخْمَصُ الْقَدَمَيْنِ وَالْأُنْثَى خَمْصَاءُ الْقَدَمَيْنِ. وَإِنْ كَانَ أَسْفَلُ الْقَدَمَيْنِ مُعْتَدِلًا لَاصِقًا بِالْأَرْضِ قُلْتَ أَزَجُّ الْقَدَمَيْنِ وَالْأُنْثَى زَجَّاءُ الْقَدَمَيْنِ. [الْفَصْلُ السَّادِسُ فِيمَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ] وَفِيمَا يَحْتَرِزُ مِنْ الْإِشْهَادِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّسْجِيلَاتِ وَغَيْرِهَا (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ عِنْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ الْقَاضِي يَعْرِفُهُ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَمَسْكَنَهُ وَحِلْيَتَهُ وَمَسْجِدَهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ، وَيَجْعَلَ صَحِيفَةَ الشَّهَادَةِ فِي دِيوَانِهِ؛ لِئَلَّا يَسْقُطَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ شَهَادَةٌ فَيَزِيدَ فِيهَا الشَّاهِدُ أَوْ يُنْقِصَ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الشُّهُودُ وَجْهَ الْحَقِّ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ وَلَا فَسَّرُوهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُبَيِّنُوا أَصْلَ الشَّهَادَةِ وَكَيْفَ كَانَتْ، فَيَقُولُونَ أَسْلَفَهُ بِمَحْضَرِنَا أَوْ أَقَرَّ عِنْدَنَا الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ أَسْلَفَهُ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ بَيْعٍ فَسَّرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: بَاعَ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا بِمَحْضَرِنَا أَوْ بِإِقْرَارِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُصَدِّقَةٌ لِلدَّعْوَى. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ الْخَصَّافُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ وَفَسَّرَ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا ثُمَّ شَهِدَ الْآخَرُ فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى مِثْلِ شَهَادَةِ صَاحِبِي لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي حَتَّى يَتَكَلَّمَ الْآخَرُ بِشَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَشْهَدُ

فصل الشهادة في الميراث

عَلَى مِثْلِ شَهَادَتِهِ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهِ أَوْ مِنْ خِلَالِهِ، فَيَضُمُّ الشَّاهِدُ شَيْئًا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ فَيَحْتَرِزُ عَنْ الْوَبَالِ وَلَا يُلْبَسُ عَلَى الْقَاضِي، وَالشَّهَادَةُ حُجَّةُ الْقَضَاءِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِهَا. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ فَصِيحًا يُمْكِنُهُ بَيَانُ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْإِجْمَالُ وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا غَيْرَ فَصِيحٍ يُقْبَلُ مِنْهُ الْإِجْمَالُ بِأَنْ قَالَ الثَّانِي أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ بِهِ هَذَا إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْلَا هَيْبَةُ الْمَجْلِسِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُغَيِّرَ الشَّهَادَةَ بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى شَهَادَتِهِ عَلَى شَهَادَةِ صَاحِبِهِ، وَالْبِنَاءُ يَكُونُ كَالْمَبْنِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ أَحَسَّ الْقَاضِي بِخِيَانَةٍ مِنْ الشُّهُودِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ كَلَّفَ كُلَّ شَاهِدٍ أَنْ يُفَسِّرَ شَهَادَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يُحِسَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْخِيَانَةِ لَا يُكَلِّفُ وَيَحْكُمُ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا اتَّهَمَ الشُّهُودَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَّهِمْ لَا يَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا إذَا قَالَ الثَّانِي أَشْهَدُ بِمِثْلِ مَا شَهِدَ بِهِ الْأَوَّلُ، فَإِنْ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى مِثْلِ شَهَادَةِ الْأَوَّلِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ؛ وَلَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ عَلَى الْحَقِّ؛ لِأَنَّ مِثْلَ قَدْ يَكُونُ صِلَةً؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] أَيْ لَيْسَ هُوَ كَشَيْءٍ. [فَصْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْمِيرَاثِ] لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ شَرَائِطُ. مِنْهَا: أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ لِمُوَرِّثِهِ حَتَّى لَوْ قَالُوا إنَّهُ لِمُوَرِّثِهِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْمَالِكِيَّةِ لِلْمَيِّتِ لِلْحَالِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الِانْتِقَالِ إلَى الْوَارِثِ وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ اتِّفَاقٌ فَتُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مَا إذَا شَهِدَ أَنَّهُ كَانَ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ، أَوْ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتْرُكُهُ مِيرَاثًا لِلْمُدَّعِي مَا بَقِيَ مِلْكًا لَهُ يَوْمَ الْمَوْتِ، أَوْ يَشْهَدُ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَإِنَّهَا يَدُ مِلْكٍ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَيُّ يَدٍ كَانَتْ يَدَ مِلْكٍ أَوْ يَدَ أَمَانَةٍ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ إذَا مَاتَ مُجْهَلًا، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ شَهَادَةً عَلَى الْمِلْكِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَيَثْبُتُ النَّقْلُ إلَى الْوَارِثِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ وَارِثٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَارٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ وَالْإِيدَاعَ إثْبَاتُ الْيَدِ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ إثْبَاتًا لِيَدِ الْمَيِّتِ عِنْدَ الْمَوْتِ التَّنْصِيصُ عَلَى الِانْتِقَالِ إلَى الْوَارِثِ. وَلَوْ شَهِدَ وَالرَّجُلُ حَيٌّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدَيْهِ مُنْذُ أَشْهُرٍ لَمْ تُقْبَلْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ مَا إذَا شَهِدَ أَنَّهُ كَانَ لِأَبِيهِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ تَرَكَهُ مِيرَاثًا لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُقْبَلُ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ: لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لِجَدِّهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَمْ يَقْضِ لَهُ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَارِثُ جَدِّهِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَقْضِي لِلْجَدِّ وَأَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يُصَحِّحُوا وِرَاثَةَ الْجَدِّ. وَمِنْهَا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، يَدْفَعُ الْمَالَ إلَى الْمُدَّعِي وَلَا يُكَلِّفُ الشُّهُودَ أَنْ يَقُولُوا إنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ عَلَى الْبَتَاتِ. وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ بِأَرْضِ كَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَقَالَا: لَا تُقْبَلُ حَتَّى يَشْهَدُوا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ مَاتَ فَأَقَامَ رَجُلٌ شَاهِدَيْنِ أَنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ وَأَنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ وَوَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَوْنُهُ وَارِثًا، فَإِنْ أَقَامَ آخِرُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَوَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَالْمِيرَاثُ لَهُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ابْنٌ وَابْنُ عَمٍّ أَيْضًا. وَلَوْ أَقَامَ الثَّانِي بَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ وَنَسَبَهُ إلَى أَبٍ غَيْرِ الْأَبِ

فصل العلم بالمشهود به

الَّذِي نَسَبَهُ إلَيْهِ الْأَوَّلُ وَوَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ لَمْ تُقْبَلْ، وَلَمْ يُحَوَّلْ النَّسَبُ مِنْ أَبٍ إلَى أَبٍ وَمِنْ فَخِذٍ إلَى فَخِذٍ آخَرَ. [فَصْلٌ الْعِلْمَ بِالْمَشْهُودِ بِهِ] (فَصْلٌ) : قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ أَصْلُهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ الْإِلْزَامُ، وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ، إذَا عَرَفْتَ هَذَا شَهِدَ أَنَّ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ لَا يَعْلَمَانِ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَمْ يُخْبِرْ بِسَبَبٍ يَرِثُ بِهِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْوِرَاثَةِ إلَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِسَبَبٍ مِنْهَا مَعَ الْجَهَالَةِ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ أَوْ مَوْلَاهُ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ وَالْعُمُومَةَ مُخْتَلِفَةٌ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْعُصُوبَةُ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْفَرْضِيَّةُ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ لِأُمٍّ، وَأَحْكَامُهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي الْحَجْبِ، فَلَوْ قَضَى لِهَذَا رُبَّمَا يَأْتِي آخَرُ فَيَدَّعِي الْمِيرَاثَ وَلَا يَدْرِي أَنَّ هَذَا حَاجِبٌ أَوْ مَحْجُوبٌ. [فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ] (فَصْلٌ) : شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى دَارٍ فِي يَدِ زَيْدٍ أَنَّ عَمْرًا اشْتَرَاهَا مِنْهُ يَنْظُرُ إنْ سَمَّيَا الثَّمَنَ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ وَهُوَ الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ وَاخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَلَمْ يَشْهَدَا بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَقْضِيٌّ بِهِ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَجَهَالَةُ الْمَقْضِيِّ بِهِ تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهِ، وَإِنْ شَهِدَا بِقَبْضِ الثَّمَنِ تُقْبَلُ. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَلْفٍ وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ وَالْبَائِعُ يَجْحَدُ الْبَيْعَ كَلَّفَ الِابْنَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَلَا يُكَلَّفُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ مَتَى أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ لِأَبِيهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى ثُبُوتِ الْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ. (مَسْأَلَةٌ) : اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ وَغَابَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَلَا يُدْرَى مَوْضِعُهُ وَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ يَبِيعُ الْقَاضِي الْجَارِيَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَنْقُدُ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ وَيَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ شَرْطَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْبَائِعِ لَا لِلْقَضَاءِ بِالشِّرَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، وَلَكِنْ أَنَّهُ ادَّعَى إيجَابَ حِفْظِ مَالِ الْغَائِبِ عَلَى الْقَاضِي، وَعَلَى الْقَاضِي حِفْظُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُخْشَى عَلَيْهِ الثُّوِيُّ وَالتَّلَفُ فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَلْتَزِمَ هَذَا الْحِفْظَ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ. [فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ] (فَصْلٌ) : الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِدُونِ الْعِلْمِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَشْهُودِ بِهِ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ بِالنَّصِّ وَلَمْ يُوجَدْ؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ تَكُونُ عَدْلًا وَقَدْ تَكُونُ جَوْرًا بِأَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَا يَتَبَيَّنُ الْجَوْرُ مِنْ الْعَدْلِ إلَّا بِالْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَى وَصِيَّةٍ لَمْ يَقْرَأْهُ وَلَمْ يُقْرَأْ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَتَبَ الصَّكَّ أَوْ الْوَصِيَّةَ بِخَطِّهِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ، وَقَدْ عَرَفَ الشَّاهِدُ مَا كَتَبَ يَسَعُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ اشْهَدْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ لَا يَسَعُهُ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الصَّكِّ وَالْإِقْرَارِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ، وَقَدْ يَكُونُ لِيَتَعَلَّمَ كَيْفِيَّةَ الصَّكِّ أَنَّهُ كَيْفَ يُكْتَبُ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا إذَا أَمَرَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ لِلِاسْتِيثَاقِ عَلَى نَفْسِهِ لَا لِلتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ، وَهَذَا إذَا عَرَفَ مَا فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَإِنْ أُشْهِدَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ إلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ اُنْظُرْ الْمُحِيطَ. [فَصْلٌ رَجُلٌ قَالَ إنَّ عَبْدِي حُرٌّ وَهُوَ وَصِيٌّ فَمَاتَ] (فَصْلٌ) : قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: رَجُلٌ قَالَ إنَّ عَبْدِي حُرٌّ وَهُوَ وَصِيٌّ، فَمَاتَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْعِتْقِ وَالْوِصَايَةِ وَشَهِدَ الْمُعْتَقُ وَأَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ لِلشَّاهِدِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَيِّتَ وَصَّى لَهُ بِأَلْفٍ، يَنْظُرُ إنْ شَهِدَ بِتِلْكَ الشَّهَادَتَيْنِ مَعًا عِنْدَ

فصل في الشهادة بالطلاق

الْقَاضِي أَبْطَلَهَا كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يُعْتَقْ وَقْتَ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ حَكَمَ الْقَاضِي بِعِتْقِ الْغُلَامِ ثُمَّ شَهِدَ جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقٌ وَقْتَ الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ. [فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ بِالطَّلَاقِ] (فَصْلٌ) : شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالْآخَرُ بِالْبَائِنِ، تُقْبَلُ عَلَى الرَّجْعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الطَّلَاقِ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ صِفَةٍ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ فَيَصِحُّ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَيَبْطُلُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا. (مَسْأَلَةٌ) : شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِعَيْنِهَا وَقَالَا نَسَيْنَاهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا بِمَا تَحَمَّلَا، وَلَكِنْ قَالَا نَسِينَا وَغَلِطْنَا مَا تَحَمَّلْنَاهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا شَهَادَةً. (مَسْأَلَةٌ) : شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ عَلَى الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ فَاسِقًا لَا يَضَعُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَإِنْ قَالَتْ: الشَّاهِدُ الْآخَرُ غَائِبٌ. لَا يَضَعُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَحْضُرُ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الزَّوْجِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ قَالَتْ: حَاضِرٌ. يَضَعُ اسْتِحْسَانًا. [فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ] (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ فَأَقَامَ الْأَكْبَرُ عَلَى الْأَصْغَرِ بَيِّنَةَ أَنَّهُ قَتَلَ الْأَبَ عَمْدًا وَأَقَامَ الْأَصْغَرُ بَيِّنَةَ أَنَّ أَجْنَبِيًّا قَتَلَهُ عَمْدًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ وَيَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ خَصْمِهِ. وَعِنْدَهُمَا بَيِّنَةُ الِابْنِ أَوْلَى، وَيَقْضِي عَلَى أَخِيهِ بِالْقَوَدِ وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بَاطِلَةٌ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا الْمِيرَاثُ لِلْمُدَّعِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ مِيرَاثِ الْأَصْغَرِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَهُوَ النَّسَبُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ تَرَكَ الْمَقْتُولُ ابْنًا وَأَخًا وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا قَضَى بِبَيِّنَةِ الِابْنِ عَلَى الْأَخِ. وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ وَارِثٌ بِيَقِينٍ وَالْأَخُ لَيْسَ بِوَارِثٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَكَانَ الِابْنُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فَقُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَالْأَخُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فَبَطَلَتْ بَيِّنَتُهُ. [فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعَدَالَةِ] (فَصْلٌ) : لِلْعَدَالَةِ شَرَائِطُ. مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِلْجَمَاعَةِ مُحَافِظًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمُخْلِصَ إنَّمَا يَتَمَيَّزُ مِنْ الْمُنَافِقِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْجَمَاعَاتِ، فَكَذَا الْعَدْلُ مِنْ الْفَاسِقِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِصِحَّةِ الْمُعَامَلَةِ فِي الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْمُعَامَلَةِ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَغُرَّنَّكُمْ طَنْطَنَةَ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ، اُنْظُرُوا إلَى حَالِهِ عِنْدَ دِرْهَمِهِ وَدِينَارِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا لِلْأَمَانَةِ غَيْرَ مُخَوَّنٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الشَّاهِدِ أَمَانَةٌ فَيُسْتَدَلُّ بِأَدَاءِ سَائِرِ الْأَمَانَاتِ عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ عَلَى وَجْهِهَا. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ صَدُوقَ اللِّسَانِ قَلِيلَ اللَّغْوِ وَالْهَذَيَانِ، حَتَّى إذَا اعْتَادَ الْكَذِبَ وَتَعَوَّدَ الْهَذْيَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ فِي الشَّهَادَةِ مَتَى اعْتَادَ الْكَذِبَ فِي الْمَقَالَةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ يَقَعُ فِيهِ أَحْيَانَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الذُّنُوبِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مُعَاقِرًا لِلنَّبِيذِ: يَعْنِي مُدَاوِمًا لَهُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَشْرَبَ مَعَ النَّاسِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَشْرَبُ وَحْدَهُ فِي السِّرِّ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ؛ لِأَنَّ بِهَذَا لَا يَصِيرُ تَارِكًا لِلْمُرُوءَةِ فَلَا يَمِيلُ إلَى الْكَذِبِ مَخَافَةَ ذَهَابِ مَاءِ وَجْهِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَلْعَبَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَلَاهِي، وَهَذَا يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ مُسْتَشْنَعَةً بَيْنَ النَّاسِ كَالْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَشْنَعَةً نَحْوَ الْحِدَاءِ وَضَرْبِ الْقَضِيبِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، إلَّا أَنْ يَتَفَاحَشَ بِأَنْ يَرْقُصُونَ بِهِ فَيَدْخُلُ فِي حَدِّ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ فَحِينَئِذٍ تَسْقُطُ الْعَدَالَةُ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ قَاذِفًا لِلْمُحْصَنَاتِ؛ لِأَنَّ قَاذِفَ الْمُحْصَنَاتِ مَلْعُونٌ بِالنَّصِّ، فَمَنْ كَانَ مَلْعُونًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ؟ مِنْ الْمُحِيطِ. . [فَصْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ الشُّهُودِ] (فَصْلٌ) : التَّزْكِيَةُ نَوْعَانِ: تَزْكِيَةُ السِّرِّ، وَتَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ. أَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فَيَنْبَغِي

فصل العدالة بقول الواحد

لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْ الشُّهُودِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ النَّاسِ وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً وَأَعْظَمُهُمْ دِرَايَةً وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّمْيِيزِ فِطْنَةً فَيُوَلِّيهِ الْمَسْأَلَةَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالتَّفَحُّصِ عَنْ الْعَدَالَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُبَالَغَةُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ ثُمَّ يَكْتُبُ فِي رُقْعَةٍ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ جُمْلَةً بِأَنْسَابِهِمْ وَحِلَّاهُمْ وَقَبَائِلِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ وَمُصَلَّاهُمْ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ فِيهِ الشُّبْهَةُ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَتَّفِقَ فِي تِلْكَ الْمَحَلَّةِ رَجُلَانِ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ، وَيُنَفِّذُ تِلْكَ الرُّقْعَةَ عَلَى يَدٍ أَمِينَةٍ إلَى ذَلِكَ الْمُزَكَّى، وَلَا يُطْلِعُ أَحَدًا عَلَى مَا فِي يَدِ أَمِينِهِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ فَيَخْدَعَ. وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي وَهُوَ عَلَى رَأْسِ خَمْسِينَ فَرْسَخًا مِنْ بَلَدِ الْقَاضِي فَيَبْعَثُ أَمِينًا يُجْعَلُ لِيَسْأَلَ الْعُدُولَ عَنْ الشَّاهِدِ وَالْجَعْلُ عَلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْأَمِينَ عَامِلٌ لَهُ أَلَا يَرَى أَنَّ الصَّحِيفَةَ الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا قَضِيَّتَهُمَا عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْظُرُ الْمُزَكَّى فِي ذَلِكَ وَيَتَعَرَّفُ أَحْوَالَ الشُّهُودِ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَالَهُمْ فَيَسْأَلُ عَنْهُمْ أَهْلَ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَأَهْلِ مَحَلَّاتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جِيرَانِهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ يَسْأَلُ مِنْ أَهْلِ أَسْوَاقِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِحَالِهِمْ، فَإِذَا قَالَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ: هُوَ عَدْلٌ عِنْدِي جَائِزُ الشَّهَادَةِ. كَتَبَ فِي آخِرِ الرُّقْعَةِ أَنَّهُ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ عِنْدِي جَائِزُ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَتَبَ إنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ وَرَدَّ تِلْكَ الرُّقْعَةَ إلَى الْقَاضِي فِي السِّرِّ. [فَصْلٌ الْعَدَالَةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ] (فَصْلٌ) : وَالْعَدَدُ فِي الْمُزَكَّى وَرَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكَّى وَالْمُتَرْجِمِ عَلَى الشَّهَادَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا، وَالْوَاحِدُ يَكْفِي وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: شَرْطٌ حَتَّى لَا تَثْبُتَ الْعَدَالَةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ هُوَ شَهَادَةٌ أَمْ إخْبَارٌ؟ (فَصْلٌ) : وَإِذَا أَتَاهُ كِتَابُ التَّعْدِيلِ وَاحْتَاطَ الْقَاضِي وَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ غَيْرَهُ أَيْضًا يَدْفَعُ إلَيْهِ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ وَلَا يُعْلِمُهُ أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ رُبَّمَا يَعْتَمِدُ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَا يُبَالِغُ فِي الْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَتَى الثَّانِي بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ الْأَوَّلُ أَنْفَذَ ذَلِكَ. [فَصْلٌ تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَيُسْأَلُ الْعَلَانِيَةَ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ، وَهُوَ أَنْ يُحْضِرَ الْقَاضِي الْمُزَكَّى بَعْدَ مَا زَكَّى الشُّهُودَ فِي السِّرِّ أَنْ يُزَكِّيَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي وَيُشِيرُ إلَيْهِمْ فَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ عُدُولٌ عِنْدِي؛ إزَالَةً لِلِالْتِبَاسِ وَاحْتِرَازًا عَنْ التَّبْدِيلِ وَالتَّزْوِيرِ، وَالْيَوْمُ وَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ لِمَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ مِنْ بَلَاءٍ وَفِتْنَةٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ الشَّاهِدُ فَاسِقًا فَلَا يُخْبِرُ مَنْ يَعْرِفُ حَالَ الشَّاهِدِ لِلْمُزَكَّى أَنَّهُ فَاسِقٌ فِي الْعَلَانِيَةِ، إمَّا سَتْرًا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْفَضِيحَةِ أَوْ اتِّقَاءً مِنْ شَرِّهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الضَّغِينَةِ وَالْعَدَاوَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْعَدَدَ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ شَرْطٌ عِنْدَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي، وَتَزْكِيَةُ السِّرِّ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَيُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ بِخِلَافِ السِّرِّ. (فَصْلٌ) : لَوْ قَالَ الْمُزَكَّى لَا أَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْرًا يُقْبَلُ مِنْهُ إذَا كَانَ عَالِمًا وَإِلَّا تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: غَرِيبٌ نَزَلَ بَيْنَ أَظْهُرِ قَوْمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُ إلَّا خَيْرًا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوهُ؛ لِأَنَّ حَالَ الرَّجُلِ فِي الْفِسْقِ وَالْعَدَالَةِ يَتَبَيَّنُ بِمُضِيِّ مُدَّةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ظَاهِرًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ آخِرًا: إذَا مَكَثَ سَنَةً فَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُ إلَّا خَيْرًا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوهُ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَالِ الْإِنْسَانِ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ، وَالْمُدَّةُ الَّتِي تَصْلُحُ لِلتَّجْرِبَةِ السَّنَةُ كَمَا فِي الْعِنِّينِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَيَقُولُ الْمُزَكَّى فِي الشَّاهِدِ الْمَجْرُوحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ فِسْقِهِ هَتْكَ سِتْرِهِ

فصل فيمن يجوز تعديله ومن لا يجوز

عَلَيْهِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالسَّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَا يَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي جَرِّحْ شُهُودَكَ وَلَكِنْ يَقُولُ: زِدْنِي فِي شُهُودِكَ، أَوْ يَقُولُ: لَمْ تُحْمَدْ شُهُودُكَ عِنْدِي؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى السَّتْرِ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا كَانَ الْمَسْئُولُ عَنْ الشُّهُودِ عَرَفَهُ بِعَدَالَةٍ لَا يُمْسِكُ عَنْ الْإِخْبَارِ بِمَا فِيهِ إذَا كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا، وَإِنْ كَانَ جَائِرًا أَوْ جَاهِلًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْسِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَدَّلَهُ رُبَّمَا يَقْضِي بِجَوْرٍ أَوْ جَهْلٍ، وَإِنْ عَرَفَهُ بِفِسْقٍ وَمَجَانَةٍ إنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخْبِرْ الْقَاضِيَ بِمَا فِيهِ أَخْبَرَهُ غَيْرُهُ أَمْسَكَ عَنْ هَتْكِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخْبِرْ هُوَ يَعْدِلُهُ غَيْرُهُ فَيَقْضِي بِهِ الْقَاضِي لَا يَسَعُهُ أَنْ يَمْسِكَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ الْقَاضِيَ بِمَا فِيهِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ ثَبَتَ عَدَالَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْقَاضِي وَقَضَى بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ شَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي فِي حَادِثَةٍ أُخْرَى إنْ كَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا لَا يَشْتَغِلُ بِتَعْدِيلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا يَشْتَغِلُ بِهِ. وَفِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ نَاقِلًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرْبَعَةُ شُهُودٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ: شَاهِدَا رَدِّ الظِّنَّةِ، وَشَاهِدَا تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ، وَشَاهِدَا الْغُرْبَةِ، وَشَاهِدَا الْأَشْخَاصِ بِأَنْ اسْتَعْدَى عَلَى الرَّجُلِ يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَبْعَثَ خَارِجَ الْمِصْرِ وَيَأْتِيَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ اشْتَغَلَ بِتَعْدِيلِ شُهُودِ الْغُرْبَةِ أَوْ الْأَشْخَاصِ لَانْقَطَعَ الْمُسَافِرُ عَنْ الرُّفْقَةِ وَلَهَرَبَ الْخَصْمُ فَلَا يُفِيدُ. وَشَاهِدَيْ رَدِّ الظِّنَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِمَاعَةَ: إذَا سَأَلَهُ عَنْ شَاهِدَيْ رَدِّ الظِّنَّةِ وَالْأَشْخَاصِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا إلْزَامَ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ وَفِيمَا فِيهِ إلْزَامٌ عَلَى الْغَيْرِ لَا بُدَّ مِنْ الْعَدَالَةِ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الْغَرِيبِ وَتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى الْغَيْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِيمَنْ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ وَمَنْ لَا يَجُوزُ] (فَصْلٌ) : قَالَ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَلَا أَقْبَلُ تَعْدِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْسِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا سَمِعَ وَلَا يُحْسِنُ التَّعْدِيلَ، وَيُقْبَلُ تَعْدِيلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِرَحِمِهِ أَرَادَ بِهِ تَعْدِيلَ السِّرِّ؛ لِأَنَّ تَعْدِيلَ السِّرِّ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ، إنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ، وَهَؤُلَاءِ فِي الْإِخْبَارِ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَيُقْبَلُ تَعْدِيلُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَغَيْرِهِ إذَا كَانَتْ امْرَأَةً بَرْزَةً تُخَالِطُ النَّاسَ وَتُعَامِلُهُمْ؛ لِأَنَّ لَهَا خِبْرَةً بِأُمُورِهِمْ، فَيُفِيدُ السُّؤَالُ وَالتَّعْدِيلُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ كَرِوَايَةِ الْإِخْبَارِ وَرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ خُصُوصًا فِي تَعْدِيلِ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ النِّسَاءِ فِي بُيُوتِهِنَّ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا النِّسَاءُ حَقِيقَةً، فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً مُخَدَّرَةً لَا تَبْرُزُ وَلَيْسَ لَهَا خِبْرَةٌ فَلَا يَكُونُ تَعْدِيلُهَا مُعْتَبَرًا. (مَسْأَلَةٌ) : وَتَزْكِيَةُ السِّرِّ مِنْ الْعَبْدِ وَالْأَعْمَى وَالصَّبِيِّ وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ تُقْبَلُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. (مَسْأَلَةٌ) : وَإِذَا عَدَلَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ شُهُودَ الْمُدَّعِي إنْ قَالَ: صَدَقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، أَوْ قَالَ: هُمْ عُدُولٌ فِي شَهَادَتِهِمْ. يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْمَالِ بِإِقْرَارِهِ لَا بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمَالِ، وَإِنْ قَالَ: هُمْ عُدُولٌ. وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْدِيلُ؛ لِأَنَّ مِنْ زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْجُحُودِ ظَالِمٌ وَكَاذِبٌ فَلَا تَصِحُّ تَزْكِيَتُهُ، وَقَالَ فِي كِتَابِ التَّزْكِيَةِ: وَيَجُوزُ تَعْدِيلُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ تَعْدِيلَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ تَعْدِيلِ الْمُزَكَّى، وَإِقْرَارُهُ بِكَوْنِ الشَّاهِدِ عَدْلًا لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ. (مَسْأَلَةٌ) : وَإِذَا عَرَفَ الْقَاضِي أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ بِالْعَدَالَةِ وَلَمْ يَعْرِفْ الْآخَرَ فَزَكَّى أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، هَلْ تُقْبَلُ؟ قِيلَ: تُقْبَلُ، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ.

فصل في الطعن والجرح في الشهود

[فَصْلٌ فِي الطَّعْنِ وَالْجَرْحِ فِي الشُّهُودِ] فَصْلٌ) : قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: عَدَّلَهُ وَاحِدٌ وَجَرَّحَهُ آخَرُ، أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْعَدَالَةَ وَالْجَرْحَ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ فَصَارَا سِيَّيْنِ، وَعِنْدَهُمَا الْجَرْحُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمَا، وَتَرَجَّحَ الْجَرْحُ عَلَى التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ فِي الْجَرْحِ اعْتَمَدَ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الْعِيَانُ وَالْمُشَاهَدَةُ، فَإِنَّ سَبَبَ الْجَرْحِ ارْتِكَابُ الْكَبِيرَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : جَرَّحَهُ وَاحِدٌ وَعَدَّلَهُ اثْنَانِ فَالتَّعْدِيلُ أَوْلَى عَدَّلَهُ جَمَاعَةٌ وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ فَالْجَرْحُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ التَّرْجِيحُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ عَلَى الِاثْنَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الرُّكُوبَ فِي الْبَحْرِ إلَى الْهِنْدِ سَبَبُ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّهُ خَاطَرَ بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ وَسَكَنَ دَارَ الْحَرْبِ وَكَثُرَ سَوَادُهُمْ وَعَدَدُهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ لِيَنَالَ بِذَلِكَ مَالًا وَيَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ غَنِيًّا، فَإِذَا كَانَ لَا يُبَالِي أَنْ يُخَاطِرَ بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا فَيَشْهَدَ بِالزُّورِ، وَكَذَا التِّجَارَةُ فِي قُرَى فَارِسَ فَإِنَّهُمْ يُطْعِمُونَهُمْ الرِّبَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. (فَصْلٌ) : وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَشْرَافِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ يَتَعَصَّبُونَ، وَإِذَا نَابَتْ أَحَدَهُمْ نَائِبَةٌ أَتَى سَيِّدَ قَوْمِهِ فَشَهِدَ لَهُ سَيِّدُ قَوْمِهِ وَشَفَعَ فَلَا يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ بِالزُّورِ. (فَصْلٌ) : لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى جَرْحِ الشُّهُودِ فَإِنْ كَانَ جَرْحًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ كَمَا لَوْ قَالُوا إنَّهُمْ فَسَقُوا، أَوْ اسْتَأْجَرَ الْمُدَّعِي الشُّهُودَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، أَوْ أَقَرَّ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِبَاطِلٍ وَزُورٍ، أَوْ أَقَرُّوا أَنَّ مَا يَدَّعِيه الْمُدَّعِي بِبَاطِلٍ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، فَإِنْ كَانَ جَرْحًا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمْ آكِلُو رِبًا أَوْ شَرَبَةُ خَمْرٍ أَوْ سُرَّاقٌ، أَوْ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي الْقَذْفِ، أَوْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، أَوْ أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّ شُهُودَهُ شَهِدُوا بِزُورٍ، أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُمْ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَالْحُجَجُ تُعْرَفُ فِي الْمُطَوَّلَاتِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الْخَصْمُ: الشَّاهِدَانِ عَبْدَانِ وَقَالَا نَحْنُ حُرَّانِ، إنْ عَرَفَ الْقَاضِي حُرِّيَّتَهُمَا لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا حَتَّى يَأْتِيَا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْأَصْلِ أَحْرَارٌ إلَّا فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا هَذَا؛ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: النَّاسُ أَحْرَارٌ إلَّا فِي أَرْبَعَةٍ: فِي الشَّهَادَةِ، وَالْحُدُودِ، وَالْقَتْلِ، وَالْقِصَاصِ. فَإِنْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحُرِّيَّتِهِمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا. (فَصْلٌ) : ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ لَمْ تَعْدِلْ شُهُودُ الْمُدَّعِي فَسَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَاضِيَ أَنْ يَقْضِيَ بِرَدِّ شَهَادَتِهِمْ حَتَّى لَا يَشْهَدُوا عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِذَلِكَ. وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ بِذَلِكَ ثُمَّ سَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ إلَى هَذَا الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ: إذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ شَاهِدٍ فَقَالَ الْمُدَّعِي أَنَا آتِي بِعَدْلَيْنِ يَعْدِلَانِ شُهُودِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يُقْبَلُ ذَلِكَ. الْكُلُّ مِنْ الْمُحِيطِ. [الْفَصْلُ السَّابِعُ فِيمَا يُحْدِثُهُ الشَّاهِدُ بَعْدَ شَهَادَتِهِ فَتَبْطُلُ] (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَهِدَ وَلَيْسَ بِأَجِيرٍ ثُمَّ صَارَ أَجِيرًا قَبْلَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ، فَإِنْ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْإِجَارَةِ ثُمَّ أَعَادَ الشَّهَادَةَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. (مَسْأَلَةٌ) : فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ: لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ بِحَقٍّ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى لَوْ شَهِدَ لِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي بِهَا إلَّا أَنْ يُعِيدَهَا، فَإِنْ أَعَادَهَا قَضَى بِهَا.

الفصل الثامن صفة أداء الشهادة

[الْفَصْلُ الثَّامِنُ صِفَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ] فِي صِفَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَاللَّفْظِ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ] اعْلَمْ أَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ بِالْخَبَرِ أَلْبَتَّةَ، فَلَوْ قَالَ الشَّاهِدُ لِلْحَاكِمِ: أَنَا أُخْبِرُكَ أَيُّهَا الْقَاضِي بِأَنَّ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دِينَارًا عَنْ يَقِينٍ. فَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْوَعْدِ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَيُّهَا الْقَاضِي بِكَذَا. كَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ مِنْهُ وَلَمْ يَقَعْ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْكَذِبِ لَا يَجُوزُ، فَالْمُسْتَقْبَلُ وَعْدٌ وَالْمَاضِي كَذِبٌ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْفَاعِلِ الْمُقْتَضِي لِلْحَالِ كَقَوْلِهِ: أَنَا مُخْبِرُكَ أَيُّهَا الْقَاضِي بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ اتِّصَافِهِ بِالْخَبَرِ لِلْقَاضِي وَذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَالِ، فَالْخَبَرُ كَيْفَ تَصَرَّفَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ. قَالَ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ: وَأَمَّا شَرْطُهُ الزَّائِدُ فَنَعْنِي بِهِ شَرْطَ الْقَبُولِ وَالْجَوَازِ وَأَنَّهُ أُمُورٌ أَحَدُهُمَا: لَفْظُ أَشْهَدُ؛ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْلَمُ، أَوْ: أَتَيَقَّنُ. لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ يَقُلْ: أَشْهَدُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً مَا لَمْ يَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ وَهُوَ لَفْظُ أَشْهَدُ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ الْمُنَافِقِينَ {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] وَبِهَذَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ أَشْهَدُ يَكُونُ حَالِفًا بِاَللَّهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، كَمَا إذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ، انْتَهَى. وَهَذَا مِنْ شُرُوطِهِ الزَّائِدَةِ الَّتِي وَعَدْنَاكَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا. وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُمَا بِجَرِّ غُنْمٍ أَوْ دَفْعِ غُرْمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَثَالِثُهَا: كَوْنُ الشَّهَادَةِ صِدْقًا عِنْدَ الْقَاضِي بِدَلِيلِهِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ تَقَعَ الشَّهَادَةُ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَهَا دَعْوَى صَحِيحَةٌ. وَسَادِسُهَا: أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى مَعْنًى. وَسَابِعُهَا: أَنْ تَقَعَ لِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ. وَثَامِنُهَا: الِاتِّفَاقُ فِي لَفْظِ الشَّهَادَةِ. وَتَاسِعُهَا: عَدَدُ أَرْبَعَةٍ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا. وَعَاشِرُهَا: الذُّكُورَةُ فِي الْعُقُوبَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلشَّاهِدِ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَشْهَدُ؟ فَقَالَ: حَضَرْتُ عِنْدَ فُلَانٍ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ بِكَذَا، أَوْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا، أَوْ شَهِدْتُ بَيْنَهُمَا بِصُدُورِ الْبَيْعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ، لَا يَكُونُ أَدَاءَ شَهَادَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِمَادُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا مُخْبِرٌ عَنْ أَمْرٍ تَقَدَّمَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا مُنِعَ مِنْ الشَّهَادَةِ بِهِ مِنْ فَسْخٍ أَوْ إقَالَةٍ أَوْ حُدُوثِ رِيبَةٍ لِلشَّاهِدِ تَمْنَعُ الْأَدَاءَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَجْلِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الِاعْتِمَادُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذَا صَدَرَ مِنْ الشَّاهِدِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إنْشَاءِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْوَاقِعَةِ الْمَشْهُودِ بِهَا، وَالْإِنْشَاءُ لَيْسَ بِخَبَرٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ. فَإِذَا قَالَ الشَّاهِدُ: أَشْهَدُ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْقَاضِي. كَانَ إنْشَاءً، وَلَوْ قَالَ: شَهِدْتُ. لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً، وَعَكْسُهُ فِي الْبَيْعِ لَوْ قَالَ: أَبِيعُكَ. لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً لِلْبَيْعِ بَلْ إخْبَارًا لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ بَلْ هُوَ وَعْدٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ. كَانَ إنْشَاءً لِلْبَيْعِ، فَالْإِنْشَاءُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِالْمُضَارِعِ وَفِي الْعُقُودِ بِالْمَاضِي وَفِي الطَّلَاقِ بِالْمَاضِي، وَاسْمِ الْفَاعِلِ نَحْوَ " أَنْتِ طَالِقٌ " وَ " أَنْتَ حُرٌّ " وَلَا يَقَعُ الْإِنْشَاءُ فِي الْبَيْعِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَةِ نَحْوَ " أَنَا شَاهِدٌ عِنْدَكَ بِكَذَا " أَوْ " أَنَا بَائِعك بِكَذَا " فَهَذَا لَيْسَ إنْشَاءً. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الْوَضْعُ الْعُرْفِيُّ، فَمَا وَضَعَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ لِلْإِنْشَاءِ كَانَ إنْشَاءً، وَمَا لَا فَلَا، فَإِنْ اُتُّفِقَ أَنَّ الْعَوَائِدَ تَغَيَّرَتْ وَصَارَ الْمَاضِي مَوْضِعًا لِإِنْشَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْمُضَارِعُ لِإِنْشَاءِ الْعُقُودِ جَازَ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا صَارَ مَوْضِعًا لِلْإِنْشَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْعُرْفِ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ) : وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْرِيقٌ فِي الشَّهَادَةِ بِالْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ وَالشَّهَادَةِ بِالصُّدُورِ، فَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا وَقْفٌ وَهَذَا مَبِيعٌ مِنْ فُلَانٍ، أَوْ هَذِهِ مَنْكُوحَةُ فُلَانٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِمُوجَبِ شَهَادَتِهِمْ وَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ. وَلَوْ قَالُوا: نَشْهَدُ بِصُدُورِ الْوَقْفِ أَوْ بِصُدُورِ الْبَيْعِ. لَمْ يُحْكَمْ بِمُوجَبِ شَهَادَتِهِمْ لِاحْتِمَالِ تَغْيِيرِ تِلْكَ الْعُقُودِ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّ الْوَقْفَ أَوْ صَدَرَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْمَبِيعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ. وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ قَبْلَ هَذَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَمَّلَ ذَلِكَ.

القسم الثاني في أنواع البينات وما يتنزل منزلتها ويجري مجراها

[الْقِسْمُ الثَّانِي فِي أَنْوَاعِ الْبَيِّنَاتِ وَمَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتَهَا وَيَجْرِي مَجْرَاهَا] [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْقَضَاءِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ] وَيَنْحَصِرُ ذَلِكَ فِي أَحَدٍ وَخَمْسِينَ بَابًا الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْقَضَاءِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ. وَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إثْبَاتِ الزِّنَا وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: شَهَادَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ الزِّنَا فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ؛ وقَوْله تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] . الْوَجْهُ الثَّانِي: الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ. وَلَوْ كَانَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ غَيْرِ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا أَوْ جَاحِدًا، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ فَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، وَهَذَا خِلَافٌ لِلْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَكْفِي شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَلَى الْمُقِرِّ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ أَرْبَعٍ عَلَى الْإِقْرَارِ؟ فَهَذَا خِلَافٌ لَسْنَا لَهُ. (فَرْعٌ) : وَالْحَدُّ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِقْرَارِ حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ الْقَاضِي وَلَا يَسْأَلُ فِي الْإِقْرَارِ مَتَى زَنَى وَيَسْأَلُ ذَلِكَ الشُّهُودَ؛ لِأَنَّ التَّقَادُمَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِقْرَارِ وَيُؤَثِّرُ فِي الشَّهَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ فِي الْإِقْرَارِ أَيْضًا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ زَنَى حَالَةَ الصِّبَا. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا مَرَّتَيْنِ وَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ عُدُولٌ بِالزِّنَا ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُحَدُّ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَا يَجُوزُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ فِي الزِّنَا إلَّا أَرْبَعَةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. مِنْ الْمُحِيطِ. (فَرْعٌ) : الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ قَالَ فِي الْأَصْلِ: لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ أَقَلُّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ: مِنْ الْخُلَاصَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : اللِّعَانُ لَا يَكْفِي فِيهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ شَهَادَاتٍ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَاتٌ عِنْدَنَا مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَاهُمْ عَنْ الشُّهَدَاءِ بِقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] وَالْمُسْتَثْنَى يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ثُمَّ قَالَ {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] وَالْبَاءُ لِلْقَسَمِ فَجَعَلْنَا الرُّكْنَ شَهَادَاتٍ مُوكَدَةً بِالْأَيْمَانِ، وَالزَّوْجُ يَصْلُحُ شَاهِدًا فِي إثْبَاتِ الزِّنَا، وَلِهَذَا إذَا شَهِدَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ قَاذِفًا فَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ. (مَسْأَلَةٌ) : الشُّهُودُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ عُقُوبَةَ الزِّنَا أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا دُعِيَ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا فَلَا يَشْهَدُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ أَنَّهَا فُلَانَةُ أَقَلُّهَا أَرْبَعَةٌ، وَقِيلَ ثَلَاثَةٌ خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ. (مَسْأَلَةٌ) : الشَّهَادَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْعُرْفِيَّةِ إذَا تَحَمَّلَهَا بِالتَّسَامُعِ فِي النِّكَاحِ وَالْوَقْفِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ،

الباب الثاني القضاء بشاهدين لا يجزئ غيرهما

وَهُوَ أَنْ يَشِيعَ عَلَى أَلْسِنَةِ قَوْمٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ قَالُوا أَقَلُّهَا أَرْبَعَةٌ وَيَشْهَدُ وَلَا يُفَسِّرُ، فَإِنْ فَسَّرَ فَلَيْسَتْ بِعُرْفِيَّةٍ فَلَا تُقْبَلُ، وَقِيلَ تُقْبَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَابُ الثَّانِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُمَا] فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُمَا. وَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالْعِدَّةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْمُبَارَاةِ وَالْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ وَالْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْبُيُوعِ وَالْإِقَالَةِ وَالْخِيَارَاتِ وَالشَّرِكَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَالْحِرَابَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِحْصَانِ وَقَتْلِ الْعَمْدِ وَالصُّلْحِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مَقْبُولَيْنِ، إلَّا فِي الزِّنَا، فَإِنْ شَهِدَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ أَحْدَثَ حُكْمًا آخَرَ بَيَانُهُ لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ عَلَى الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ فَاسِقًا، لَا يَضَعُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَإِنْ قَالَتْ: الشَّاهِدُ الْآخَرُ غَائِبٌ. لَا يَضَعُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَحْضُرُ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الزَّوْجِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ قَالَتْ: حَاضِرٌ. يَضَعُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي بَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مَقْبُولٌ، وَأَمْرُ الْبُضْعِ يُحْتَاطُ فِيهِ فَيَحُولُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا، وَلَكِنْ لَا تَجِبُ الْحَيْلُولَةُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحِلِّ قَائِمٌ وَهُوَ النِّكَاحُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَحِلْ بَيْنَهُمَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ لَهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهَا إمَّا مُعْتَدَّةٌ أَوْ مَنْكُوحَةٌ فَمَسْكَنُهَا بَيْتُ الزَّوْجِ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الطَّلَاقِ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ وَلَا الْخَلْوَةَ، فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ الْإِتْيَانِ بِآخَرَ هُدِرَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ وَلَوْ كَانَ عَدْلًا. (فَرْعٌ) : ثُمَّ إذَا شَهِدَ فِي بَابِ النِّكَاحِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُقِرَّيْنِ أَشْهَدَا شَاهِدًا آخَرَ وَأُجْبِرَ الْآبِي مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْكِرًا لَمْ يَحْلِفْ الْمَشْهُودُ لَهُ مَعَ الشَّاهِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ إذْ لَوْ نَكَلَ لَا يَقْضِي بِنُكُولِهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ هَا هُنَا مُتَعَذِّرٌ؛ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ النُّكُولَ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مُقِرًّا لَصَارَ إنْكَارُهُ كَذِبًا وَالْكَذِبُ حَرَامٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ النُّكُولَ بَدَلًا؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ وَالْإِبَاحَةَ لَا تَجْرِي فِي الْأَشْيَاءِ الْمَخْصُوصَةِ؛ لِأَنَّ الْأَبْضَاعَ وَالنُّفُوسَ مُحْتَرَمَةٌ لِعَيْنِهَا حَقًّا لِلَّهِ وَلِلْعَبْدِ فَلَا تُبَاحُ بِإِبَاحَةِ الْعَبْدِ، وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ إبْطَالَ شَهَادَةِ الْفَرْدِ وَقُلْنَا بِقَوْلِهِمَا يُسْتَحْلَفُ، فَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى بِنُكُولِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى قَتْلٍ عَجَزَ عَنْ الْآخَرِ أَنْ يَهْدِرَ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ وَتَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْحَلِفِ حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ وَيَحْلِفَ عَلَى الطَّرَفِ، وَيُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي الْقِصَاصِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي النَّفْسِ بِالدِّيَةِ. اُنْظُرْ الْمُحِيطَ وَشَرْحَ التَّجْرِيدِ فِي بَابِ النُّكُولِ عَنْ الْيَمِينِ. (تَنْبِيهٌ) : فَإِنْ أَقَرَّ بِالْحَقِّ الْمَشْهُودِ بِهِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ طُولِ السَّجْنِ أُخِذَ بِإِقْرَارِهِ وَلَمْ يَكُنْ السَّجْنُ فِي حَقِّهِ إكْرَاهًا؛ لِأَنَّهُ سُجِنَ بِحَقٍّ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ ظُلْمًا. [الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ] أَمَّا الْقَضَاءُ فِيمَا يُقْضَى فِيهِ بِشَاهِدَيْنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَأَمَّا شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَمَقْبُولَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا. وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ سَاوَتْ

الباب الرابع في القضاء بالبينة التامة مع يمين القضاء

الرَّجُلَ فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ وَالضَّبْطِ وَالْحِفْظِ وَالْأَدَاءِ لِوُجُودِ آلَةِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْعَقْلُ الْمُمَيِّزُ الْمُدْرِكُ لِلْأَشْيَاءِ وَاللِّسَانُ النَّاطِقُ، فَتُفِيدُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ حُصُولَ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِصِدْقِ الشُّهُودِ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ تَحْصُلُ بِخَبَرِهِنَّ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَعْتَبِرْهَا حُجَّةً؛ لِأَنَّهُنَّ مَنْهِيَّاتٌ عَنْ الْخُرُوجِ وَذَلِكَ سَبَبُ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ. وَسَبَبُ الْفَسَادِ يَجِبُ نَفْيُهُ فَرُوعِيَتْ الذُّكُورَةُ فِي أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّهُ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي شَهَادَتِهِنَّ مِنْ حَيْثُ غَلَبَةِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ، وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَنَّ زَيْدًا نَكَحَ زَيْنَبَ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَضَعَهَا تُقْبَلُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ النِّكَاحَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَتِهِنَّ زِيَادَةَ احْتِمَالٍ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاحْتِجَاجُ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : عِنْدَ زُفَرَ الْإِحْصَانُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ فَلَحِقَ بِهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِلَّةِ مِنْ الْعِلَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الشُّبْهَةِ مَعَ الْحَقِيقَةِ، وَالشُّبْهَةُ فِي الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ. وَعِنْدَنَا يَثْبُتُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مِثْلُ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فِيمَا لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ وَلَا عِلَّةِ عُقُوبَةٍ نَقْلًا وَعَقْلًا، وَالْإِحْصَانُ لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ كَالْحُرِّيَّةِ؛ إذْ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ لَا تَصْلُحُ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ. وَقَوْلُهُ شَرْطٌ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ مَمْنُوعٌ بَيَانُهُ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ مَا يُفْضِي إلَى حُكْمِ الْعِلَّةِ بِوَاسِطَةِ الْإِفْضَاءِ إلَى عِلَّتِهِ، وَالْإِحْصَانُ لَيْسَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْحَدِّ بِوَاسِطَةِ الْإِفْضَاءِ إلَى عِلَّتِهِ وَهُوَ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ نِعْمَةٌ وَالنِّعْمَةُ أَثَرُهَا مِنْ الْمُنْعِمِ مَنْعُ الْكُفْرَانِ وَالزِّنَا كُفْرَانُ فَيَكُونُ الْإِحْصَانُ مَانِعًا، وَمَا يَكُونُ مَانِعًا لَا يَكُونُ مُفْضِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ التَّامَّةِ مَعَ يَمِينِ الْقَضَاءِ] وَيُسَمَّى يَمِينَ الِاسْتِبْرَاءِ. وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي يَدِ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ حَتَّى يَحْلِفَ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا خَرَجَتْ عَنْ يَدِهِ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْفُتْيَا وَالْقَضَاءُ، وَعَلَّلَهُ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاعَهَا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالَاتِ لَا بُدَّ مِنْ الْيَمِينِ. قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ عَلَى شَرْحِ الْهِدَايَةِ مَا نَصُّهُ: أَجْمَعُوا أَنَّ الْمُدَّعِيَ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَاهُ وَلَا أَبْرَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْخَصْمُ قَالَ: وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ النُّكُولِ فَانْظُرْهُ. وَقَالَ فِي التَّجْرِيدِ: وَإِنْ ادَّعَى رَبُّ الدَّيْنِ أَنَّ لَهُ مَالًا بَاطِنًا حَلَّفَهُ الْقَاضِي بَعْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى الْإِفْلَاسِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئًا خَارِجًا عَنْ عِلْمِ الشُّهُودِ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَقَابِلْ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَمِينُ الْقَضَاءِ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى مَنْ يَقُومُ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ عَلَى الْغَائِبِ أَوْ عَلَى الْيَتِيمِ أَوْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ وَلَا يَتِمُّ الْحُكْمُ إلَّا بِهَا. (مَسْأَلَةٌ) : وَيَمِينُ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْبَتِّ أَنَّهُ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ. وَيَمِينُ الْوَرَثَةِ عَلَى الْعِلْمِ أَنَّهُ مَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ

الباب الخامس في القضاء ببينة المدعي بعد فصل القضاء بيمين المدعى عليه

مُوَرِّثِهِمْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَأَنَّ مِلْكَ جَمِيعِهِمْ: يَعْنِي الْوَرَثَةَ بَاقٍ عَلَيْهِ إلَى حِينِ يَمِينِهِمْ، وَهَذِهِ التَّتِمَّةُ فِي الْيَمِينِ تَكُونُ عَلَى الْبَتِّ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا ادَّعَى رَجُلٌ بِدَيْنٍ عَلَى مَيِّتٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ التَّامَّةَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ كِبَارًا وَلَمْ يَدَّعُوا رَفْعَ الدَّيْنِ مِنْ وَارِثِهِمْ وَلَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ لَا يَلْزَمُ رَبَّ الدَّيْنِ يَمِينٌ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ عِبَارَةَ التَّجْرِيدِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانُوا صِغَارًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْيَمِينِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَإِذَا شَهِدَ لِرَجُلٍ شَاهِدَانِ عَلَى دَيْنٍ لِأَبِيهِ حَلَفَ أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ اقْتَضَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مُعَيَّنًا فَاسْتَحَقَّهُ بِشَاهِدَيْنِ حَلَفَ أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْمِلْكِ. (تَنْبِيهٌ) : وَالْيَمِينُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ عِلْمُ ذَلِكَ، وَلَا يَمِينَ عَلَى مَنْ لَا يُظَنُّ بِهِ عِلْمُ ذَلِكَ وَلَا عَلَى صَغِيرٍ، وَمَنْ نَكَلَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ مِنْهُمْ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ حِصَّتُهُ فَقَطْ. (تَنْبِيهٌ) : مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى حَاضِرٍ بِدَيْنٍ فَلَا يَحْلِفُ مَعَ بَيِّنَتِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْحَقِّ وَلَا عَلَى أَنَّهُ مَا قَبَضَ مِنْهُ حَتَّى يَدَّعِيَ الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ أَوْ دَفَعَهُ عَنْهُ دَافِعٌ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَمِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ. إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِلْغَرِيمِ الْمَجْهُولِ الْحَالِ بِأَنَّهُ مُعْدَمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ، وَإِنْ وَجَدَ مَالًا يُؤَدِّي حَقَّهُ عَاجِلًا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا شَهِدَتْ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَعَلَّهُ غَيَّبَ مَالًا، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَدَّعِي عَلَى وَكِيلِ زَوْجِهَا الْغَائِبِ النَّفَقَةَ وَتُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بِإِثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْغَيْبَةِ وَاتِّصَالِهَا وَأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوهُ تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً فَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينِهَا أَنَّهَا لَمْ تُسْقِطْ حَقَّهَا وَلَا أَرْسَلَ لَهَا نَفَقَةً وَلَا أَحَالَهَا عَلَى أَحَدٍ فَاحْتَالَتْ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْقِطِ وَالْمُبْطِلِ، وَضَابِطُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ كُلَّ بَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِظَاهِرٍ فَإِنَّهُ يُسْتَظْهَرُ بِيَمِينِ الطَّالِبِ عَلَى بَاطِنِ الْأَمْرِ. (فَصْلٌ) : يَمِينُ الْقَضَاءِ لَا نَصَّ عَلَى وُجُوبِهَا لِعَدَمِ الدَّعْوَى عَلَى الْحَالِفِ بِمَا يُوجِبُهَا، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ رَأَوْا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ؛ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ؛ وَحِيَاطَةً عَلَيْهِ؛ وَحِفْظًا لِمَالِهِ لِلشَّكِّ فِي بَقَاءِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) : فَإِذَا حَلَفَ مَرَّةً وَتَأَخَّرَ الْقَضَاءُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَحْلِفَ ثَانِيَةً بِالتَّوَهُّمِ الْمُحْتَمَلِ، وَلَا يُشْبِهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا وَادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ قَضَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ وَهَبَهُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي بَعْدَ فَصْلِ الْقَضَاءِ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ] (مَسْأَلَةٌ) : إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي بَعْدَمَا ادَّعَى مَالًا أَوْ حَقًّا مِنْ الْحُقُوقِ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ الْقَاضِي فَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ. تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ اسْتِشْهَادِهِمْ فِي الْإِشْهَادِ وَبَيْنَ مَا قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهُودُهُ ثُمَّ عَلِمَ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا شُهُودَهُ ثُمَّ صَارُوا بِأَنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فَلَا يَكُونُ مُنَاقِضًا. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ قَالَ: كُلُّ شَهَادَةٍ شَهِدَ لِي بِهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ بِهَذَا الْحَقِّ فَلَا حَقَّ لِي فِيهَا. ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا،

الباب السادس في القضاء بقول رجل بانفراده

وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَيْسَ لِي عِنْدَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ شَهَادَةٌ فِيمَا ادَّعَى قَبْلَ هَذَا. أَوْ قَالَ: كُلُّ شَهَادَةٍ يَشْهَدُ بِهَا فُلَانٌ لِي عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ زُورٌ. أَوْ قَالَ الشُّهُودُ: كُلُّ شَهَادَةٍ شَهِدَ بِهَا فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ زُورٌ. ثُمَّ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي تَحْلِيفَ خَصْمِهِ فَحَلَّفَهُ ثُمَّ قَالَ. لِي بَيِّنَةٌ. فَجَمِيعُ مَا مَرَّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُسْمَعُ وَيَقْضِي لَهُ بِهَا إذْ مِنْ حُجَّتِهِمَا أَنْ يَقُولَا: لَمْ نَتَذَكَّرْ حَيْثُ قُلْنَا لَيْسَ لَكَ عِنْدَنَا شَهَادَةٌ ثُمَّ تَذَكَّرْنَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا تُقْبَلُ مُقْتَضَبٌ مِنْ الْحَوَاشِي وَالْمُحِيطِ. . [الْبَابُ السَّادِسُ فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ رَجُلٍ بِانْفِرَادِهِ] (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَكْفِي الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ فِيمَا يَبْتَدِئُ الْحَاكِمُ فِيهِ بِالسُّؤَالِ وَفِيمَا كَانَ عِلْمًا يُؤَدِّيهِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَمَا اخْتَصَمَ فِيهِ مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْعَبْدِ الْمَبِيعِ فَالْحَاكِمُ إذَا تَوَلَّى الْكَشْفَ عَنْ ذَلِكَ فَطَرِيقُهُ أَنْ يُرْسِلَ بِالْعَبْدِ إلَى مَنْ يَرْتَضِيهِ أَوْ يَثِقُ بِبَصَرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِذَلِكَ الْعَيْبِ وَغَوْرِهِ مِثْلَ الشِّقَاقِ وَالطِّحَالِ وَالْبَرَصِ الْمَشْكُوكِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، فَيَأْخُذُ فِيهِ بِالْمُخْبِرِ الْوَاحِدِ وَبِقَوْلِ الطَّبِيبِ النَّبِيلِ، كَذَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. (مَسْأَلَةٌ) : وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ إذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ وَفِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالرِّسَالَةِ، يُرِيدُ بِهِ رَسُولَ الْقَاضِي لِلسُّؤَالِ عَنْ الشُّهُودِ، وَتَرْجَمَةِ الْكَلَامِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْقَاضِي لِسَانَهُ وَتَقْدِيرِ الْأَرْشِ وَتَقْوِيمِ الْمُتْلَفِ وَالسَّلَمِ أَنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ، وَهَذَا مَذْهَبُهُمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالتَّرْجَمَةِ لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: هُمَا عَبْدَانِ. وَقَالَا: نَحْنُ حُرَّانِ. وَكَانَا مَجْهُولَيْنِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا حَتَّى يَأْتِيَا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ أَتَى وَاحِدٌ وَشَهِدَ بِحُرِّيَّتِهِمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا. مِنْ الْمُحِيطِ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ ثِقَةٌ بِإِعْسَارِ الْمَسْجُونِ يُخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ، وَالْخَبَرُ الْفَرْدُ قَدْ يَلْتَحِقُ بِالشَّهَادَةِ مَتَى انْضَمَّتْ إلَيْهِ قَرِينَةٌ لَهَا أَثَرٌ فِي إيجَابِ الصِّدْقِ، وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ. (مَسْأَلَةٌ) : تَثْبُتُ الشُّهْرَةُ بِالْمَوْتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَتَّفِقُ فِي مَوْضِعٍ وَلَا يَحْضُرُهُ إلَّا الْوَاحِدُ، فَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ الشُّهْرَةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ لَضَاعَتْ الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْتِ، فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ يَثْبُتُ الِاشْتِهَارُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الْمَوْتِ حَرَجًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِمُبَاشَرَةِ أَسْبَابِهِ مِنْ الْغُسْلِ وَغَيْرِهِ إلَّا وَاحِدٌ. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً رَضِيعَةً فَغَابَ عَنْهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا أُرْضِعَتْ مِنْ أُمِّ الزَّوْجِ أَوْ أُخْتِهِ، أَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ وَهِيَ مُشْتَهَاةٌ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْبَرَهُ بِسَبْقِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ ثَمَّةَ الزَّوْجُ يُنَازِعُهُ، أَمَّا هَاهُنَا فَيَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا وَالزَّوْجُ لَا يُنَازِعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ بِهِ، فَإِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ صِدْقُهُ وَجَبَ قَبُولُهُ. (فَرْعٌ) : لَوْ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّ امْرَأَتَهُ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ، أَوْ أُخْبِرَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا ارْتَدَّ، هَلْ يَجِبُ الْقَبُولُ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَلَوْ أَخْبَرَهَا إنْسَانٌ أَنَّهُ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا يَحِلُّ لَهَا التَّزْوِيجُ بِزَوْجٍ آخَرَ اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ. (مَسْأَلَةٌ) : سُكُوتُهَا عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ رِضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ عَالِمَةً، وَطَرِيقُ

الباب السابع القضاء بقول امرأة بانفرادها

الْعِلْمِ أَنْ يَبْعَثَ الْوَلِيُّ رَسُولًا وَاحِدًا عَدْلًا أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ فَيُخْبِرَهَا بِذَلِكَ أَوْ يُخْبِرَهَا بِنَفْسِهِ، أَمَّا إذَا أَخْبَرَهَا فُضُولِيٌّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَدَدِ. (مَسْأَلَةٌ) : مَا بَطَنَ مِنْ الْعُيُوبِ فِي حَيَوَانٍ وَقِنٍّ وَأَمَةٍ فَالطَّرِيقُ هُوَ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِ الْبَصَرِ إنْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ عَدْلٌ يَثْبُتُ الْعَيْبُ فِي حَقِّ الْخُصُومَةِ، وَإِنْ شَهِدَ بِهِ عَدْلَانِ وَشَهِدَا أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ يُرَدُّ عَلَيْهِ. قَالَهُ قَاضِي خَانْ. اسْتِدْلَالٌ وَتَنْبِيهٌ: الْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْفَرْدِ حُجَّةً تَامَّةً فِي بَابِ الدِّيَانَاتِ لِرُجْحَانِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ بِاعْتِبَارِ عَقْلِهِ وَدِينِهِ، إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْعَدَدَ شَرْطًا فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ نَصًّا لَا قِيَاسًا، فَبَقِيَ هَذَا عَلَى قَضِيَّةِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ هَاهُنَا مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ؛ كَيْ لَا يَكْثُرَ النَّظَرُ إلَى الْعَوْرَاتِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ؟ قَالَ مَشَايِخُ خُرَاسَانَ: يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ مَحْضَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُوجَبُ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ لَمْ يُشْتَرَطْ لِقَبُولِهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ: وَلَا تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قِيلَ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَأَنْ تُقْبَلَ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْلَى، وَلَا يُقَالُ يَفْسُقُ بِالنَّظَرِ إلَى مَا لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يُشْكِلُ بِمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ رَجُلَانِ تُقْبَلُ، وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ. اُنْظُرْ كِتَابَ الشَّهَادَاتِ مِنْ الْمُحِيطِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ جَمْعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمُفْتِي الْوَاحِدِ إذَا كَانَ عَدْلًا بَالِغًا، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَيَجُوزُ أَنْ تُقَلِّدَ رَسُولَكَ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَتَبَ الْمُفْتِي خَطَّهُ فِي رُقْعَةٍ لِلْمُسْتَفْتِي جَازَ الْعَمَلُ بِخَطِّهِ إذَا كَانَ الرَّسُولُ ثِقَةً. فَإِنْ عَرَفَ الْمُسْتَفْتِي خَطَّهُ وَكَانَ الرَّسُولُ غَيْرَ ثِقَةٍ فَفِيهِ نَظَرٌ. وَوَجْهُ هَذَا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ مَعَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ الْخَوَاتِيمُ تَجُوزُ عَلَى كُتُبِ الْقُضَاةِ حَتَّى أُحْدِثَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي لِأَجْلِ حُدُوثِ التُّهْمَةِ عَلَى خَاتَمِ الْقَاضِي. وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الشَّهَادَةَ عَلَى ذَلِكَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، وَقِيلَ ابْنُ الْمَهْدِيِّ. قَالَهُ بَعْضُهُمْ. (فَرْعٌ) : إذَا أَخْبَرَهُ بِعَدَدِ مَا صَلَّى عَدْلٌ فَهَلْ يَكْتَفِي بِهِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ؟ فِيهِ خِلَافٌ. (فَرْعٌ) : وَالْمُؤَذِّنُ يَكْفِي إخْبَارُهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا عَالِمًا بِالْأَوْقَاتِ مُسْلِمًا ذَكَرًا وَيُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ. [الْبَابُ السَّابِعُ الْقَضَاءِ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ بِانْفِرَادِهَا] فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ بِانْفِرَادِهَا. وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ كَالْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ وَالْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَالسَّقْطِ وَالِاسْتِهْلَالِ وَعُيُوبِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَفِي كُلِّ مَا تَحْتَ ثِيَابِهِنَّ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ وَلَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهَا أُقِيمَ فِيهَا النِّسَاءُ مَقَامَ الرِّجَالِ لِلضَّرُورَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا كَانَا زَوْجَيْنِ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَجَحَدَ وِلَادَتَهَا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ، ثَبَتَ ذَلِكَ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ، حَتَّى لَوْ نَفَاهُ الزَّوْجُ يُلَاعِنُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ، وَاللِّعَانُ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وُجُودُ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِدُونِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَقَالَتْ: وَلَدْتُ. فَأَنْكَرَ فَشَهِدَتْ بِهِ الْقَابِلَةُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا عِنْدَ

الباب الثامن في القضاء بالنكول عن اليمين وعن حضور مجلس الحاكم

أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يُسْتَطَاعُ لِلرِّجَالِ النَّظَرُ إلَيْهِ» ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا قُبِلَتْ عَلَى الْوِلَادَةِ تُقْبَلُ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهَا ادَّعَتْ الْحِنْثَ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ ضَرُورِيَّةٌ فِي الْوِلَادَةِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهَا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ إلَّا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَوْتٌ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَلَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ عَادَةً فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ. (فَصْلٌ) : وَمَا يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَزِيدَ حُرَّةً عَدْلَةً، وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ، فَإِنْ أَخْبَرَتْ أَنَّهُ لَا عَيْبَ بِهِ فَلَا خُصُومَةَ؛ إذْ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْعَيْبِ لِيُخَاصِمَ، وَإِنْ أَخْبَرَتْ بِالْعِلْمِ فَلَا يُرَدُّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا؛ إذْ مُجَرَّدُ قَوْلِهَا لَيْسَ بِمُلْزِمٍ لَكِنْ يَحْلِفُ الْبَائِعُ فَيُرَدُّ لَوْ نَكَلَ وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُرَدُّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُنَّ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَوْلِهَا لَا بَعْدَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى إدْخَالِهَا فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَمُجَرَّدُ قَوْلِهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيهِ. مُقْتَضَبٌ مِنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي إرْسَالِ الْهَدِيَّةِ وَيَجُوزُ قَبُولُهَا وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ بِقَوْلِهَا، وَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَالْهَجْمِ عَلَى الْعِيَالِ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا أَنْكَرَ الزَّوْجُ مَا ادَّعَتْهُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ وَكَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ النِّسَاءُ إلَيْهَا، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النِّسَاءِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَوَجَبَ تَحْلِيفُهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ الثُّيُوبَةَ لَا الْوُصُولَ. وَفِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ تُجْزِئُ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُضَمُّ إلَيْهِ قَوْلُ الرَّجُلِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْأَصْلِ فَلَا يَصِيرُ مُتَوَاتِرًا بِاشْتِرَاطِ هَذَا الْعَدَدِ، كَذَا ذَكَرْتُهُ فِي شَرْحِي لِلْوَقَايَةِ الْمُسَمَّى بِالِاسْتِغْنَاءِ. (مَسْأَلَةٌ) : نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي إهْدَاءِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا لَيْلَةَ الْعُرْسِ. [الْبَابُ الثَّامِنُ فِي الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ] ، وَبَيَانِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا إجَابَةُ دَعْوَةِ الْحَاكِمِ، وَمَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْإِجَابَةُ. (مَسْأَلَةٌ) : يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ إلَى الْمُدَّعِي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ وَلَكِنَّهُ تُرَدُّ الْيَمِينُ إلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ يَأْخُذُ الْمَالَ وَإِلَّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ النُّكُولَ دَلَّ عَلَى رُجْحَانِ الْكَذِبِ فِي إنْكَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَادِقًا فِي إنْكَارِهِ لَأَقْدَمَ عَلَى الْحَلِفِ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَحْلِفْ يَفُوتُ مَالُهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا يُقْضَى بِمُجَرَّدِ النُّكُولِ، وَعِنْدَهُ تُنْقَلُ الْيَمِينُ إلَى الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ غَالِبًا فَيَقْضِي لَهُ بِالْمَالِ، وَهَذَا صَارِفٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ النُّكُولِ لَوْ كَانَ صَادِقًا فِي إنْكَارِهِ؛ لِأَنَّ حُبَّ الْمَالِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيَحْلِفُ صِيَانَةً لِلْمَالِ، فَكَيْفَ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ، فَلَمَّا امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَظَهَرَ كَوْنُهُ مُبْطِلًا وَكَوْنُ الْمُدَّعِي لَا يَخْفَى وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي تَمْكِينُ الْمُدَّعِي مِنْ أَخْذِ الْمَالِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ عَنْهُ.

فصل النكول نوعان

مَسْأَلَةٌ) : وَيَجُوزُ رَدُّ الْيَمِينِ إلَى الْمُدَّعِي عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْيَمِينِ جَائِزٌ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا، فَلَمَّا جَازَ الصُّلْحُ جَازَ أَيْضًا رَدُّ الْيَمِينِ إلَى الْمُدَّعِي عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى: لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ. فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إنْ حَلَفْتَ أَنَّهَا لَكَ عَلَيَّ أَدَّيْتُهَا إلَيْكَ.، فَحَلَفَ وَأَدَّاهَا إلَيْهِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي اشْتَرَطَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ. [فَصْلٌ النُّكُولُ نَوْعَانِ] (فَصْلٌ) : النُّكُولُ نَوْعَانِ: حَقِيقَةً، وَحُكْمًا. أَمَّا حَقِيقَةً، أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَا أَحْلِفُ. فَالْقَاضِي يَقُولُ لَهُ: إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكَ الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ حَلَفْتَ وَإِلَّا قَضَيْتُ عَلَيْكَ بِالْمَالِ. فَيَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: احْلِفْ وَإِلَّا قَضَيْتُ عَلَيْكَ بِالْمَالِ. وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ؛ لِيَكُونَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِي إبْلَاغِ الْعُذْرِ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِنُكُولِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى نَفَذَ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ مُعْتَبَرٌ لِلتَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَقَدْ وُجِدَ دَلِيلُ الْقَضَاءِ، لَكِنَّ الْإِمْهَالَ وَتَرْكَ الِاسْتِعْجَالِ أَوْلَى، فَإِنْ قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى: لَا أَحْلِفُ. ثُمَّ قَالَ فِي الْمَرَّةِ. الثَّانِيَةِ: أَحْلِفُ. ثُمَّ قَالَ فِي الْمَرَّةِ. الثَّالِثَةِ: لَا أَحْلِفُ. قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَحْلِفُ لَمْ يَصِرْ مُوَفِّيًا حَقَّهُ فِي الْيَمِينِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَمْهَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّعِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَا قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَا أَحْلِفُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُهْلَةِ وَأَبَى الْيَمِينَ فَالْقَاضِي يَسْتَقْبِلُ عَلَيْهِ عَرْضَ الْيَمِينِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّ عَرْضَ الْيَمِينِ إنَّمَا يَبْقَى مُعْتَبَرًا إذَا بَقِيَ الِاسْتِحْلَافُ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلْمُدَّعِي، فَفِي الْأَوَّلِ بَقِيَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلْمُدَّعِي فَبَقِيَ عَرْضُ الْيَمِينِ مُعْتَبَرًا، وَفِي الثَّانِي لَمْ يَبْقَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلْمُدَّعِي فِي الْمُهْلَةِ فَلَا يَبْقَى عَرْضُ الْيَمِينِ مُعْتَبَرًا. (فَرْعٌ) : وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنَا أَحْلِفُ يُحَلِّفُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ، وَبَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يُحَلِّفُهُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَثَرَهُ فِي إبْطَالِ كَلَامِ الْمُدَّعِي فَاعْتُبِرَ، وَبَعْدَ الْقَضَاءِ أَثَرَهُ فِي إبْطَالِ الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَصَارَ كَرُجُوعِ الشُّهُودِ قَبْلَ الْقَضَاءِ مُعْتَبَرٌ أَوْ بَعْدَهُ لَا، إلَّا فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ. وَأَمَّا النُّكُولُ حُكْمًا: وَهُوَ أَنْ يَعْرِضَ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَسَكَتَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَلَمْ يُجِبْهُ يَجْعَلُهُ نَاكِلًا؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَيْهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الْخَصْمِ يَجْعَلُهُ الْقَاضِي مُجِيبًا لَهُ، كَذَا هَذَا وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِلِسَانِهِ آفَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ آفَةٌ تَمْنَعُهُ عَنْ الْجَوَابِ، أَوْ بِأُذُنِهِ آفَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ السَّمَاعِ لَا يَجْعَلُ امْتِنَاعَهُ عَنْ الْيَمِينِ نُكُولًا حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَسْمَعْ وَيَقْدِرْ عَلَى الْجَوَابِ لَا يَصِيرُ ظَالِمًا فَلَا يُجْعَلُ نُكُولًا حُكْمًا. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ سَأَلَهُ الْقَاضِي عَنْ دَعْوَاهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْهُ فَالْقَاضِي يَأْمُرُ الْمُدَّعِيَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ حَالِهِ هَلْ بِهِ آفَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ؟ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ وَأَعَادَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَادَّعَى وَهُوَ سَاكِتٌ فَالْقَاضِي يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثًا وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِيمَنْ نَكَلَ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ] (فَصْلٌ) : فِيمَنْ نَكَلَ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور: 48] الْآيَةَ، فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْ دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَيُجَرَّحُ إنْ تَأَخَّرَ. . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ» انْتَهَى. قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ دَعْوَى فَدَعَاهُ إلَى الْقَاضِي فَامْتَنَعَ خَتَمَ لَهُ خَاتَمًا مِنْ طِينٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بَعَثَ مَعَهُ بَعْضَ أَعْوَانِهِ لِيَدْعُوهُ إلَيْهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ وَتَوَارَى عَنْهُ فِي مَنْزِلِهِ سَأَلَ الْخَصْمَ عَنْ دَعْوَاهُ، فَإِنْ ادَّعَى شَيْئًا مَعْلُومًا فَالْقَاضِي يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ نَصْبُ الْوَكِيلِ عَمَّنْ اخْتَفَى فِي بَيْتِهِ بَعْدَ مَا نَادَى أَمِينُ الْقَاضِي عَلَى بَابِ دَارِهِ. اُنْظُرْ فُصُولَ الْأُسْرُوشَنِيِّ وَالْمُحِيطَ وَالْخُلَاصَةَ.

فصل المواضع التي يجب فيها إجابة الحاكم

مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: الْمُشْتَرِي بِخِيَارٍ أَرَادَ الرَّدَّ فَاخْتَفَى الْبَائِعُ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ خَصْمًا عَنْ الْبَائِعِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ قِيلَ يُنَصِّبُ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي. وَقِيلَ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَى وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ كَفِيلًا مَعَ احْتِمَالِ غَيْبَتِهِ فَقَدْ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَنْظُرُ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُنَصِّبْ وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَاضِي الْإِعْذَارَ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ، يُعْذَرُ فِي رِوَايَةٍ فَيَبْعَثُ مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى بَابِ الْبَائِعِ أَنَّ الْقَاضِي يَقُولُ: إنَّ خَصْمَكَ فُلَانًا يُرِيدُ الرَّدَّ عَلَيْكَ، فَإِنْ حَضَرْتَ وَإِلَّا نَقَضْتُ الْبَيْعَ. فَلَا يَنْقُضُهُ الْقَاضِي بِلَا إعْذَارٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَعْذِرُ الْقَاضِي أَيْضًا. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوَافِهِ غَدًا فَدَيْنُهُ عَلَى الْكَفِيلِ فَغَابَ الطَّالِبُ فِي الْغَدِ وَلَمْ يَجِدْهُ الْكَفِيلُ حَتَّى مَضَى الْغَدُ لَزِمَهُ الْمَالُ، وَلَوْ رَفَعَ الْكَفِيلُ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فَنَصَّبَ وَكِيلًا عَنْ الطَّالِبِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بَرِئَ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَوْ فَعَلَ بِهِ قَاضٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الْخَصْمَ تَغَيَّبَ لِذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ. [فَصْلٌ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا إجَابَةُ الْحَاكِمِ] (فَصْلٌ) : فِي بَيَانِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا إجَابَةُ الْحَاكِمِ. ذَكَرَ الْخَصَّافُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اُدُّعِيَ عَلَى رَجُلٍ دَعْوَى وَأَرَادَ عَلَيْهِ دَعْوَى وَهُوَ فِي الْمِصْرِ وَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ أَهُوَ مُحِقٌّ أَمْ مُبْطِلٌ؟ فَإِنَّهُ يُعْدِيهِ عَلَيْهِ وَيَبْعَثُ مَنْ يُحْضِرُهُ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعْدِيَهُ لِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَلَا يَثْبُتُ بِهِ وِلَايَةُ الْأَعْدَاءِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ جَائِزٌ، وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» . وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَرَاشٍ قَدِمَ مَكَّةَ بِإِبِلٍ فَبَاعَهَا مِنْ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَمَطَلَهُ، فَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ، وَإِنِّي بِعْتُ إبِلًا مِنْ أَبِي جَهْلٍ فَمَطَلَنِي وَظَلَمَنِي، فَمَنْ رَجُلٌ يُعْدِينِي عَلَيْهِ وَيَأْخُذُ لِي بِحَقِّي، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ. فَقَالُوا: ذَلِكَ يُعَدِّيكَ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ إلَيْهِ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَامَ مَعَهُ وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي أَثَرِهِمَا رَجُلًا، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً لِمَا قَدْ عَلِمُوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَدَاوَةِ، فَأَتَى الْبَابَ فَضَرَبَهُ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ، فَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ وَمَا فِي وَجْهِهِ رَائِحَةٌ مِنْ الذُّعْرِ أَيْ مِنْ الْخَوْفِ فَقَالَ: أَعْطِ هَذَا حَقَّهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَدَخَلَ فَأَخْرَجَ حَقَّهُ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، فَجَاءَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُمْ وَجَاءَ الرَّجُلُ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا أَخَذَ لِي حَقِّي، فَلَمْ يَتَفَرَّقُوا إلَى أَنْ جَاءَ أَبُو جَهْلٍ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ فَقَالُوا: وَيْلُكَ مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيَّ الْبَابَ فَقَالَ مُحَمَّدٌ فَذَهَبَ فُؤَادِي، فَخَرَجْتُ فَإِذَا مَعَهُ فَحْلٌ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ وَأَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، إنْ كَادَ لَأَكَلَنِي لَوْ امْتَنَعْتُ، فَوَاَللَّهِ مَا مَلَكْتُ حَتَّى أَعْطَيْتُهُ حَقَّهُ.» . فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ جَوَازِ الْإِعْدَاءِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ أَلَا يَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ بِنَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، إلَّا أَنَّ الْيَوْمَ الْقَاضِي لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ الْخُصُومِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْخَصْمُ خَارِجَ الْمِصْرِ قَالُوا: إنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمِصْرِ بِأَنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ ابْتَكَرَ مِنْ أَهْلِهِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَاضِي وَبِحَيْثُ يَبِيتُ فِي مَنْزِلِهِ يُعْدِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ الْمِصْرِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُودَ مِنْ الْمِصْرِ وَيَبِيتَ فِي مَنْزِلِهِ لَا يُعْدِيهِ، ثُمَّ كَيْفَ يَصْنَعُ الْقَاضِي؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قِيلَ يَأْمُرُ الْمُدَّعِيَ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ حَقًّا، وَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ بَلْ لِأَجْلِ الْإِحْضَارِ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُحْضِرَ خَصْمَهُ، فَإِذَا أَحْضَرَهُ أَمَرَ الْمُدَّعِيَ بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا أَعَادَ الْبَيِّنَةَ لِعَادِلَةٍ قَضَى بِهَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ يُحَلِّفُهُ الْقَاضِي، فَإِنْ نَكَلَ أَقَامَهُ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَإِنْ حَلَفَ

فصل امتناع الخصم من الحضور

أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُحْضِرَ خَصْمَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقَضَاءِ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَدْفَعُ خَاتَمَهُ لِإِحْضَارِ الْخَصْمِ إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ. وَيَبْعَثُ مَنْ يُحْضِرُهُ إنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَالْقُضَاةُ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَإِنَّهُمْ يَبْعَثُونَ الرَّاجِلَ فِي الْمِصْرِ وَيَدْفَعُونَ الْعَلَامَةَ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَبَعْضُ الْقُضَاةِ يَخْتَارُونَ فِي الْعَلَامَةِ دَفْعَ الْخَاتَمِ وَبَعْضُهُمْ دَفْعَ الطِّينَةِ وَبَعْضُهُمْ دَفْعَ قِطْعَةِ قِرْطَاسٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْخَصْمَ رُبَّمَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنْ الْمِصْرِ، وَالْمُدَّعِي يَلْحَقُهُ مُؤْنَةُ الرَّاجِلِ وَيُرِيدُ أَنْ يَتَحَمَّلَ تِلْكَ الْمُؤْنَةَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَقُلْنَا بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَبْذُلُ لَهُ عَلَامَةً لِيَذْهَبَ بِهِ فَيُرِيَهُ خَصْمَهُ وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ أَجَابَ الْخَصْمُ وَحَضَرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَإِلَّا بَعَثَ الْقَاضِي إلَيْهِ مَنْ يُحْضِرُهُ. وَمُؤْنَةُ الشَّخْصِ تَقَدَّمَتْ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَمِنْهَا أَنَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ مَسَافَةِ مَا ذَكَرْنَا فَمَا دُونِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ عَلَيْهِ مَصَالِحُ الْأَحْكَامِ وَإِنْصَافُ الْمَظْلُومِينَ مِنْ الظَّالِمِينَ إلَّا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ لَا يُجِبْ. وَمِنْهَا: أَنْ يَدْعُوَهُ الْخَصْمُ إلَى حَقٍّ مُخْتَلَفٍ فِي ثُبُوتِهِ وَخَصْمُهُ يَعْتَقِدُ ثُبُوتَهُ فَتَجِبُ الْإِجَابَةُ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى حَقٍّ، وَإِنْ اعْتَقَدَ عَدَمَ ثُبُوتِهِ لَمْ تَجِبْ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ، وَإِنْ دَعَاهُ الْحَاكِمُ وَجَبَتْ الْإِجَابَةُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَحِلَّ قَابِلٌ لِلْحُكْمِ وَالتَّصَرُّفِ وَالِاجْتِهَادِ وَمِنْهَا: النَّفَقَاتُ فَيَجِبُ الْحُضُورُ فِيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ لِتَقْدِيرِهَا إنْ كَانَتْ لِلْأَقَارِبِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لِلرَّقِيقِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إبَانَةِ الزَّوْجَةِ وَعِتْقِ الرَّقِيقِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ. [فَصْلٌ امْتِنَاعُ الْخَصْمُ مِنْ الْحُضُورِ] (فَصْلٌ) : فَإِذَا امْتَنَعَ الْخَصْمُ مِنْ الْحُضُورِ عَزَّرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ فِيمَا صَنَعَ فَاسْتَوْجَبَ التَّعْزِيرَ فَيُعَزِّرُهُ الْقَاضِي إمَّا بِالضَّرْبِ أَوْ بِالصَّفْعِ أَوْ بِالْحَبْسِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى، أَوْ يَعْبِسُ فِي وَجْهِهِ فَيُعَزِّرُهُ الْقَاضِي عَلَى مَا يَرَاهُ تَعْزِيرًا وَتَأْدِيبًا، وَكَذَلِكَ إذَا سَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ: إنِّي أَحْضُرُ أَوْ لَا أَحْضُرُ. إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي وُقِّتَ لَهُ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ يَكُونُ امْتِنَاعًا عَمَّا دُعِيَ إلَيْهِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الْإِجَابَةُ] (فَصْلٌ) : وَفِيمَا هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْإِجَابَةِ وَعَدَمِهَا فَمِنْهَا: إذَا دَعَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ، أَوْ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ وَلَكِنْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ وَلَا يَذْهَبُ إلَيْهِ. وَمِنْهَا: مَتَى عَلِمَ الْخَصْمُ إعْسَارَ خَصْمِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ وَدَعْوَاهُ إلَى الْحَاكِمِ. وَمِنْهَا: إذَا دَعَاهُ خَصْمُهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِجَوْرٍ لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ، وَتَحْرُمُ الْإِجَابَةُ إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْحُدُودِ وَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمِنْهَا: إذَا كَانَ الْحَقُّ مَوْقُوفًا عَلَى الْحَاكِمِ كَتَأْجِيلِ الْعِنِّينِ فَإِنَّ الزَّوْجَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ، وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا. وَمِنْهَا: الْقِسْمَةُ الْمُتَوَقِّفَةُ عَلَى الْحَاكِمِ فَيَتَخَيَّرُ الْمَطْلُوبُ بَيْنَ تَمْلِيكِ حِصَّتِهِ لِغَرِيمِهِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ، وَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالرَّقِيقِ. (تَنْبِيهٌ) : مَتَى طُولِبَ بِحَقٍّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لِخَصْمِهِ: لَا أَدْفَعُهُ لَكَ إلَّا بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلَ ظُلْمٌ؛ وَالْوُقُوفَ عَلَى الْحُكَّامِ صَعَّبَ مِنْ الْقَوَاعِدِ. [الْبَابُ التَّاسِعُ الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى ذِي الْيَدِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ] فِي الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى ذِي الْيَدِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَفِي تَارِيخِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ. اعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا وَبَرْهَنَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَا مِلْكًا مُطْلَقًا أَوْ إرْثًا أَوْ شِرَاءً. وَكُلُّ قِسْمٍ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي فِي يَدِ ثَالِثٍ، أَوْ فِي يَدِهِمَا، أَوْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا. وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُؤَرِّخَا، أَوْ أَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا، أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ، أَوْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ.

وَجُمْلَةُ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ فَصْلًا. أَمَّا لَوْ ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا وَالْعَيْنُ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا وَبَرْهَنَا يُقْضَى بَيْنَهُمَا؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ، وَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ يُقْضَى لِلْأَسْبَقِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيُقْضَى بِالْمِلْكِ لَهُ ثُمَّ لَا يُقْضَى بَعْدَهُ لِغَيْرِهِ إلَّا إذَا تَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْهُ، وَمَنْ يُنَازِعُهُ لَمْ يَتَلَقَّ الْمِلْكَ مِنْهُ فَلَا يُقْضَى لَهُ. وَلَوْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ وَيُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّ تَوْقِيتَ أَحَدِهِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَقْدَمَ مِنْهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فَجُعِلَ مُقَارَنًا؛ رِعَايَةً لِلِاحْتِمَالَيْنِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْمُؤَرِّخِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَقِينًا، وَمَنْ لَمْ يُؤَرِّخْ يُثْبِتُ لِلْحَالِ يَقِينًا، وَفِي ثُبُوتِهِ فِي وَقْتِ تَارِيخِ صَاحِبِهِ شَكٌّ فَلَا يُعَارِضُهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يُقْضَى لِمَنْ أَطْلَقَ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دَعْوَى الْمِلْكِ مِنْ الْأَصْلِ، وَدَعْوَى الْمُؤَرِّخِ يَقْتَصِرُ عَلَى وَقْتِ التَّارِيخِ، وَلِهَذَا تَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَتُسْتَحَقُّ الزَّوَائِدُ الْمُتَّصِلَةُ وَالْمُنْفَصِلَةُ فَكَانَ الْمُطْلَقُ أَسْبَقَ تَارِيخًا فَكَانَ أَوْلَى، هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ ثَالِثٍ. فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِمَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْيَدِ وَلَمْ تَنْحَطَّ حَالُهُ عَنْ حَالِ الْآخَرِ بِالْيَدِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ أَرَّخَا سَوَاءٌ أَوْ لَمْ يُؤَرِّخَا فَهُوَ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ أَكْثَرُ إثْبَاتًا، وَإِنْ أَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ فَهَؤُلَاءِ سَبَقَهُمَا لِمَا مَرَّ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الْوَقْتِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِجِهَةِ الْمِلْكِ فَاسْتَوَى التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَعَ التَّارِيخِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الدَّفْعِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا ثَبَتَ لِشَخْصٍ فِي وَقْتٍ فَثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْهُ، فَصَارَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِذِكْرِ التَّارِيخِ مُتَضَمِّنَةً دَفْعَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ التَّلَقِّي مِنْ قِبَلِهِ وَبَيِّنَتُهُ عَلَى الدَّفْعِ مَقْبُولَةٌ، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا، فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْضَى لِلْمُؤَرِّخِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ أَقْدَمُ مِنْ الْمُطْلِقِ، كَمَا لَوْ ادَّعَيَا شِرَاءَهُ مِنْ وَاحِدٍ وَأَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ كَانَ الْمُؤَرِّخُ أَوْلَى. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: يُقْضَى لِلْخَارِجِ وَلَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً مَعْنَى الدَّفْعِ، وَهُنَا وَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي مَعْنَى الدَّفْعِ؛ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ التَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ لِجَوَازِ أَنَّ شُهُودَ الْخَارِجِ لَوْ وَقَّتُوا لَكَانَ أَقْدَمَ، فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي تَضَمُّنِهِ مَعْنَى الدَّفْعِ فَلَا يُقْبَلُ مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَإِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِرْثَ مِنْ أَبِيهِ فَلَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا سَوَاءٌ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ، وَإِنْ أَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ فَهُوَ لِأَسْبَقِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا: يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي الْإِرْثِ وَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا قُلْنَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ: لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ فِي الْإِرْثِ فَيُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ سَبَقَ تَارِيخُ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَدَّعِيَانِ الْمِلْكَ لِأَنْفُسِهِمَا ابْتِدَاءً بَلْ لِمُوَرِّثِهِمَا ثُمَّ يَجُرَّانِهِ إلَى أَنْفُسِهِمَا، وَلَا تَارِيخَ لِمِلْكِ الْمُوَرَّثَيْنِ فَصَارَ كَمَا لَوْ حَضَرَ الْمُوَرَّثَانِ وَبَرْهَنَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ حَتَّى لَوْ كَانَ لِمِلْكِ الْمُوَرَّثَيْنِ تَارِيخٌ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا. وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ. وَقِيلَ: يُقْضَى لِلْمُؤَرِّخِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي أَيْدِيهِمَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا سَوَاءٌ، يُقْضَى لِلْخَارِجِ، وَإِنْ أَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ فَهُوَ لِأَسْبَقِهِمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ هُنَا وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ فَهُوَ لِلْخَارِجِ إجْمَاعًا، وَقِيلَ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْمُؤَرِّخِ. وَإِنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا سَوَاءٌ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا

نِصْفَانِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ. وَإِنْ أَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا اتِّفَاقًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعِهِمَا وَلَا تَارِيخَ لِمِلْكِ الْبَائِعَيْنِ فَتَارِيخُهُ لِمِلْكِهِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَصَارَ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا وَبَرْهَنَا عَلَى الْمِلْكِ بِلَا تَارِيخٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا. أَمَّا هُنَا فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لِهَذَا الرَّجُلِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّلَقِّي مِنْهُ، وَهَذَا الرَّجُلُ أَثْبَتَ التَّلَقِّيَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ فَيُقْضَى لَهُ بِهِ ثُمَّ لَا يُقْضَى بِهِ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ إلَّا إذَا تَلَقَّى مِنْهُ وَهُوَ لَا يَتَلَقَّى مِنْهُ. وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ فَهُوَ لِلْمُؤَرِّخِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيُقْضَى بِهِ لَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ تَقَدُّمَ شِرَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَوَقَّتَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَّ خَصْمٌ عَنْ بَائِعِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَتَوْقِيتُ أَحَدِهِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ مِلْكِ بَائِعِهِ، وَلَعَلَّ مِلْكَ الْبَائِعِ الْآخَرِ أَسْبَقُ؛ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بَيْنَهُمَا، وَهُنَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لِبَائِعٍ وَاحِدٍ، فَحَاجَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِ لَا إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ مَنْ وَقَّتَ شُهُودُهُ أَسْبَقَ فَكَانَ هُوَ مِنْ الْمُدَّعِي أَحَقَّ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي أَيْدِيهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا، إلَّا إذَا أَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ لِذِي الْيَدِ، سَوَاءٌ أَرَّخَ أَوْ لَمْ يُؤَرِّخْ، إلَّا إذَا أَرَّخَا وَتَارِيخُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ فَيُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ اُنْظُرْ الْكَافِيَ. وَفِي الذَّخِيرَةِ: يُقْضَى فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ لَا بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عِنْدَنَا لَوْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا أَوْ اسْتَوَيَا فِيهِ. لَوْ كَانَ تَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقَ فَهُوَ أَوْلَى؛ إذْ لِلتَّارِيخِ عِبْرَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ آخِرًا، لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ فِي يَدِ الزَّوْجِ أَنَّهَا لَهَا وَقَالَتْ: قَدْ غَصَبْتَهَا مِنِّي. وَأَقَامَ الزَّوْجُ بَيِّنَةَ: إنَّهَا دَارِي اشْتَرَيْتُهَا مِنْكِ. قِيلَ: يُقْضَى بِهَا لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ وَالْمَرْأَةَ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَكَانَتْ هِيَ خَارِجَةٌ. وَقِيلَ: يُقْضَى بِهَا لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فَيُقْبَلَانِ لِثَبْتِ الْغَصْبِ أَوَّلًا ثُمَّ الشِّرَاءِ آخِرًا مِنْ الْفَتَاوَى. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ كَانَتْ شَاتَانِ إحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ وَالْأُخْرَى بَيْضَاءُ وَهُمَا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ خَارِجٌ بَيِّنَةَ أَنَّ الْبَيْضَاءَ شَاتُهُ وَلَدَتْهَا السَّوْدَاءُ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ السَّوْدَاءَ شَاتُهُ وَلَدَتْهَا الْبَيْضَاءُ فِي مِلْكِهِ، قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالشَّاةِ الَّتِي شَهِدَ شُهُودُهُ أَنَّهَا وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ سِنُّ الشَّاتَيْنِ مُشْكِلًا. مِنْ الْإِيضَاحِ. (مَسْأَلَةٌ) : التَّارِيخُ فِي النِّتَاجِ لَغْوٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَرَّخَا وَهُمَا سَوَاءٌ وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ أَوْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ؛ إذْ الْغَرَضُ مِنْ إثْبَاتِ النِّتَاجِ زِيَادَةُ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى خَصْمِهِ بِتَرَجُّحِ بَيِّنَتِهِ، وَإِثْبَاتُ زِيَادَةِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي النِّتَاجِ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى أَوْلَوِيَّةِ الْمِلْكِ اُنْظُرْ جَامِعَ الْفُصُولَيْنِ. (فَصْلٌ) : وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ دَارًا فِي يَدِ ثَالِثٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا كُلَّ الدَّارِ وَادَّعَى الْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْضَى بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِثَلَاثِ أَرْبَاعِهَا، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ بِالرُّبْعِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُقْسَمُ أَثْلَاثًا بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَتَرْكِ النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ بِحَالِهِ. اُنْظُرْ الْإِيضَاحَ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَهِدَ بِمِلْكِيَّةِ الدَّارِ لِلْمُدَّعِي وَلَمْ يَشْهَدَا أَنَّهَا بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقْبَلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَلَوْ شَهِدَا بِالدَّارِ لِلْمُدَّعِي لَا بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِيَدِ الْمُدَّعِي يُقْبَلُ كِلَاهُمَا؛ إذْ الْحَاجَةُ إلَى الشَّهَادَةِ يَدُهُ لِيَصِيرَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَثْبُتَ كِلَا الْحُكْمَيْنِ بِشَهَادَةِ فَرِيقٍ أَوْ فَرِيقَيْنِ. ثُمَّ إذَا شَهِدَا بِيَدِهِ سَأَلَهُمَا الْقَاضِي عَنْ سَمَاعٍ هَلْ شَهِدَ بِيَدِهِ أَوْ عَنْ مُعَايَنَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا رُبَّمَا سَمِعَا إقْرَارَهُ أَنَّهُ بِيَدِهِ فَظَنَّا أَنَّهُ يُطْلِقُ لَهُمَا الشَّهَادَةَ

الباب العاشر في القضاء بالتحالف من الجهتين

وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ، هَلْ تُثْبِتُ يَدُهُ حُكْمًا؟ فَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمَا عَايَنَا يَدَهُ لَا تُقْبَلُ وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ بَلْ فِي غَيْرِهَا، حَتَّى لَوْ شَهِدَا بِبَيْعٍ وَتَسْلِيمٍ يَسْأَلُهُمَا الْقَاضِي: أَشْهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ عَلَى مُعَايَنَةِ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ. وَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ، وَالشَّهَادَةَ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ بِهِ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ بِمِلْكِ الْبَائِعِ. اُنْظُرْ شَرْحَ ظَهِيرِ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ [الْبَابُ الْعَاشِرُ فِي الْقَضَاءِ بِالتَّحَالُفِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ] فِي الْقَضَاءِ بِالتَّحَالُفِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ. إذَا اخْتَلَفَا الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ أَوْ فِي الثَّمَنِ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ كَمَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ كَمَا ادَّعَى الْبَائِعُ، ثُمَّ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ، وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ كَانَتْ السِّلْعَةُ هَالِكَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ صَارَ بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَتَحَالَفَانِ إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ الْقِيمَةَ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ اخْتَلَفَا بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الثَّمَنَ عَيْنٌ وَهُوَ هَذَا الْعَبْدُ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ، أَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ عَيْنٌ وَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ لَمْ يُنْظَرْ إلَى دَعْوَى الْبَائِعِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى دَعْوَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْعَيْنِ تَحَالَفَا. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ تَحَالَفَا وَقَدْ هَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي يَدِ الْآخَرِ رُدَّ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَتَحَالَفَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ الثَّمَنِ الْهَالِكِ فَيَتَحَالَفَانِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي حِصَّةِ الْهَالِكِ، وَيَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ فِي الْقَائِمِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَحَالَفَانِ فِيهِمَا. (فَرْعٌ) : وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ فَقَالَ الْبَائِعُ: حَالٌّ. وَقَالَ الْآخَرُ: إلَى شَهْرٍ. أَوْ قَالَ: هَذَا إلَى شَهْرٍ. وَقَالَ الْآخَرُ: إلَى شَهْرَيْنِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَقَالَ: أَلْفٌ. وَقَالَتْ: أَلْفَانِ. يَتَحَالَفَانِ وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ ثُمَّ يُحْكَمُ فِيهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَ أَلْفًا وَخَمْسمِائَةٍ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا إذَا قَالَ شَيْئًا مُسْتَنْكَرًا، قِيلَ: الْمُنْكَرُ مَا دُونَ عَشْرَةٍ، وَقِيلَ: مَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا بِعَيْنِهِ فَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَهُوَ مِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي الذَّاتِ، أَلَا يَرَى أَنَّ إزَالَةَ الْبَعْضِ مِنْهُ لَا تُنْقِصُ الْبَاقِيَ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْمُسَمَّى أَوْ صِفَتِهِ أَوْ نَوْعِهِ أَوْ زَرْعِهِ إنْ كَانَ مَزْرُوعًا وَالْمُسَمَّى عَيْنٌ أَوْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ وَهُوَ هَالِكٌ فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْمُسَمَّى فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فَانْقَطَعَ حُكْمُ مَهْرِ الْمِثْلِ بِيَقِينٍ، إلَّا أَنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ وَصْفًا

الباب الحادي عشر في القضاء بأيمان اللعان

أَوْ ضَمَانًا زَائِدًا وَهُوَ يُنْكِرُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ فَاسِدَةٌ عِنْدَهُمَا فِي قَدْرِ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ فَوَجَبَ بِحُكْمِ مَهْرِ الْمِثْلِ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا ادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّهُ رَهَنَ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُرْتَهِنُ بِأَلْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي قَدْرِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ وَهُوَ أَلْفٌ وَالرَّهْنُ يُسَاوِي ذَلِكَ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: ارْتَهَنْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَيَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَقَعَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حَالَ قِيَامِهِ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ التَّحَالُفِ كَانَ كَمَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ زِيَادَةَ ضَمَانِهِ عَلَيْهِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ رَهَنَ سِوَى الَّذِي يَدَّعِيهِ الْآخَرُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ. (فَرْعٌ) : فَإِنْ قَالَ الرَّاهِنُ: هَلَكَ فِي يَدِكَ. وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قَبَضْتَهُ مِنِّي بَعْدَ الرَّهْنِ فَهَلَكَ فِي يَدِكَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى دُخُولِهِ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، وَالْمُرْتَهِنُ يَدَّعِي الْبَرَاءَةَ مِنْ الضَّمَانِ وَالرَّاهِنُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَالْبَيِّنَةُ أَيْضًا بَيِّنَتَهُ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ إبْقَاءَ الدَّيْنِ؛ وَبَيِّنَةَ الْمُرْتَهِنِ تَنْفِيهِ، فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ بِأَلْفَيْنِ وَالشَّفِيعُ بِأَلْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ مَعَهُمَا وَالدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ غَيْرُ مَنْقُودٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَيَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَقَعَ فِي الْبَيْعِ، وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِمَا قَالَهُ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مِنْ الْإِيضَاحِ وَمِنْ الْمُحِيطِ وَمِنْ الْجَامِعِ وَمِنْ التَّجْرِيدِ. . [الْبَابُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِأَيْمَانِ اللِّعَانِ] فِي الْقَضَاءِ بِأَيْمَانِ اللِّعَانِ. حَقِيقَتُهُ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ مُزَكَّاتٍ بِالْأَيْمَانِ مَوْثُوقَةٌ بِاللَّعْنِ وَالْغَضَبِ، وَسُمِّيَتْ أَيْمَانُهَا لِعَانًا؛ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ اللَّعْنِ، وَكَوْنُهَا سَبَبًا فِي بُعْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَصِيغَتُهَا أَنْ يَقُولَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَيَقُولُ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ قَائِمَةً: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَكَاذِبٌ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَتَقُولُ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ هُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا. (مَسْأَلَةٌ) : شَرْطُ اللِّعَانِ قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا صَحِيحًا حَتَّى لَا لِعَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ نِكَاحًا فَاسِدًا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِقَذْفِ الزَّوْجَاتِ وَلَا زَوْجِيَّةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَقِيقَةً، فَلَا يُمْكِنُ شَرْعُهُ حَالَ عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ. . (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ الْتَعَنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلَمْ يُفَرِّقْ حَتَّى عُزِلَ أَوْ مَاتَ فَالْحَاكِمُ الثَّانِي يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسْتَقْبِلُ. (مَسْأَلَةٌ) : فِي اللِّعَانِ يَبْدَأُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَبَدَأَ بِالزَّوْجِ، وَلَوْ الْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا ثُمَّ الزَّوْجُ تُعِيدُ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُعْتَبَرٌ حَتَّى يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. فَإِنْ

الباب الثاني عشر في القضاء بشهادة بعض أصحاب الحق

فَرَّقَ قَبْلَ الْإِعَادَةِ صَحَّ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ أَصْلَ اللِّعَانِ قَدْ وُجِدَ وَفَاتَتْ صِفَتُهُ وَهُوَ التَّرْتِيبُ فَبَقِيَ حُكْمُهُ لِوُجُودِ أَصْلِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَاعَنَهَا بِوَلَدٍ ثُمَّ وَلَدَتْ إلَى سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ بِالطَّلَاقِ حُكْمًا فَصَارَتْ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالطَّلَاقِ حَقِيقَةً إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَى سَنَتَيْنِ يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ فَكَذَا هَذَا. (مَسْأَلَةٌ) : نَفَى حَمْلَ امْرَأَتِهِ لَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيُّ يُلَاعِنُ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْقَذْفِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ لَاعَنَ بَيْنَ هِلَالٍ وَامْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ إنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا صَرِيحًا، فَإِنَّهُ قَالَ: إنِّي وَجَدْتُ رَجُلًا عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي يَخْبُثُ بِهَا، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا صَرِيحًا وَأَنْكَرَ الْوَلَدَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً هُنَا. (مَسْأَلَةٌ) : رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ لَاعَنَ امْرَأَتَهُ بِوَلَدٍ ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ بِوَلَدِهَا ثُمَّ سُبِيَا جَمِيعًا فَاشْتَرَاهُمَا الزَّوْجُ فَالْوَلَدُ حُرٌّ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ وُلِدَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَالنَّسَبُ وَإِنْ انْتَفَى بِاللِّعَانِ لَكِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِإِثْبَاتِ الْعِتْقِ لِوَلَدِ الزِّنَا، وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلَا لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا عَتَقَ الْوَلَدُ صَارَتْ هِيَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقِرُّ بِهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ بَاقٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ إلَّا كَذَّابٌ، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاذِفًا لَهَا وَهِيَ أَمَتُهُ. عَنْ النَّوَادِرِ. (مَسْأَلَةٌ) : امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ الزَّوْجُ فَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَأَلْزَمَهُ أُمَّهُ فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ ادَّعَى الْأَوَّلُ الْوَلَدَ الْمَنْفِيَّ لَزِمَهُ وَيُضْرَبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ الْمُسْتَدْعِي لِثُبُوتِ النَّسَبِ قَائِمٌ وَهُوَ الْفِرَاشُ لِهَذَا الْعُلُوقِ، وَقَدْ امْتَنَعَ لِمَانِعٍ وَهُوَ اللِّعَانُ، وَارْتَفَعَ الْمَانِعُ بِالْإِكْذَابِ فَعَمَلَ النَّسَبُ. مِنْ الْجَامِعِ. (مَسْأَلَةٌ) : أَتَتْ بِتَوْأَمٍ فَأَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الْآخَرَ يَلْزَمُهُ الْوَلَدَانِ وَيُلَاعَنُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِأَحَدِهِمَا إقْرَارٌ بِهِمَا كَوَلَدٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، وَنَفْيُ أَحَدِهِمَا نَفْيُهُمَا فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِمَا ثُمَّ نَفَاهُمَا فَلَزِمَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي النَّفْيِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَيُلَاعَنُ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا حِينَ نَفَى الْوَلَدَ الثَّانِي. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِثَلَاثَةِ أَوْلَادٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، فَأَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِيَ، وَأَقَرَّ بِالثَّالِثِ، يُلَاعَنُ وَهُمْ بَنُوهُ، وَإِنْ نَفَى الْأَوَّلَ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَيَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِثُبُوتِ نَسَبِ بَعْضِ الْحَمْلِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْحَمْلِ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّسَبِ دُونَ الْبَعْضِ، كَمَنْ قَالَ: يَدُهُ مِنِّي أَوْ رِجْلُهُ مِنِّي. كَانَ إقْرَارًا بِثُبُوتِ نَسَبِ بَعْضِ الْمَوْلُودِ مِنْهُ. وَإِنَّمَا وَجَبَ اللِّعَانُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ صَحَّ النَّفْيُ؛ لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ أَثْنَى عَلَيْهَا، وَبِالثَّانِي قَذَفَهَا فَصَارَ قَاذِفًا مُحْصَنَةً فَيَلْزَمُهُ اللِّعَانُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: مَا زَنَيْتِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ. وَأَمَّا إذَا نَفَى الْأَوَّلَ وَأَقَرَّ بِالثَّانِي فَبِالنَّفْيِ الْأَوَّلِ صَارَ قَاذِفًا لَهَا وَبِالْإِقْرَارِ الثَّانِي صَارَ رَاجِعًا وَمُكَذِّبًا نَفْسَهُ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَكَذَا فِي الْوَاحِدِ. . [الْبَابُ الثَّانِي عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَقّ] فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَقِّ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ مُحَمَّدٌ: رَجُلٌ مَاتَ وَأَوْصَى لِفُقَرَاءِ جِيرَانِهِ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ فَقِيرَانِ مِنْ جِيرَانِهِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَقِيرَانِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لَهُمَا وَلَا لِغَيْرِهِمَا. اُنْظُرْ الْفَرْقَ فِي الْمُحِيطِ.

الباب الثالث عشر في القضاء بالشهادات المختلفة

مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ هِلَالٌ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ: رَجُلٌ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ، فَشَهِدَ رَجُلَانِ مِنْ الْجِيرَانِ أَوْ أَشْهَدَ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُمَا مِنْ أَصْحَابِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهَا. (مَسْأَلَةٌ) : شَهَادَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وَقْفِيَّةِ وَقْفٍ عَلَى مَدْرَسَةِ كَذَا وَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمَدْرَسَةِ تُقْبَلُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْفَتَاوَى: رَجُلٌ وَقَّفَ وَقْفًا عَلَى مَكْتَبٍ فِي قَرْيَةٍ وَعَلَى مُعَلِّمِ ذَلِكَ الْمَكْتَبِ، وَغَصَبَ رَجُلٌ هَذَا الْوَقْفَ فَشَهِدَ بَعْضُ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَنَّ هَذَا وَقْفُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ عَلَى مَكْتَبِ كَذَا، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ الشُّهُودِ أَوْلَادٌ فِي الْمَكْتَبِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ صِبْيَانٌ فِي الْمَكْتَبِ فَكَذَلِكَ هُوَ الْأَصَحُّ. اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ. (مَسْأَلَةٌ) : قَضَى الْقَاضِي بِشَيْءٍ لِلْعَامَّةِ كَالطَّرِيقِ أَوْ الْخَاصَّةِ أَوْ الْمَوْرِدَةِ وَنَحْوِهَا، فَشَهِدَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ مِنْ الْعَامَّةِ عَلَى ذَلِكَ جَازَتْ الشَّهَادَةُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ سَهْمٌ؟ قُلْتُ: هَذَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ سَهْمٌ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ. (فَرْعٌ) : أَهْلُ سِكَّةٍ شَهِدُوا بِشَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ السِّكَّةِ إنْ كَانَتْ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ لَا تُقْبَلُ. وَفِي النَّافِذَةِ إنْ طَلَبَ حَقًّا لِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ. وَإِنْ قَالَ: لَا آخُذُ شَيْئًا، تُقْبَلُ. وَكَذَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَدْرَسَةِ عَلَى هَذَا. فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ. وَقِيلَ إنْ كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً تُقْبَلُ مُطْلَقًا. مِنْ الْخُلَاصَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : ذُكِرَ فِي وَصَايَا الْأَصْلِ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّ لِلِاثْنَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَا الِاثْنَانِ لِلشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي قِسْمَةِ الدَّيْنِ لِمَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا. (فَرْعٌ) : رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ وَشَهِدَ صَاحِبُ الدَّيْنِ لِلشَّاهِدَيْنِ بِدَيْنٍ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ رِوَايَتَانِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ بِوَصِيَّةِ الثُّلُثِ وَشَهِدَ الْآخَرَانِ لَهُمَا بِوَصِيَّةِ الثُّلُثِ أَوْ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا. وَلَوْ شَهِدَ هَذَانِ لِهَذَيْنِ أَنَّهُ وَصَّى لِشَاهِدَيْهِمَا بِهَذِهِ الْأَمَةِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ. وَفِي الْمُجَرَّدِ: إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ، وَفِي الْجِنْسَيْنِ جَائِزَةٌ. (مَسْأَلَةٌ) : رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الشُّهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَيٌّ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ سَرَقَ مِنْ الْمَغْنَمِ فَشَهِدَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْغَزْوِ أَنَّهُ سَرَقَ هَذَا الْمَتَاعَ وَهُوَ نِصَابٌ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْغُرْمِ. وَلَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ رَجُلَانِ مِنْ عُدُولِ الْعَامَّةِ وَالْمَالُ قَائِمٌ بِيَدِ السَّارِقِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّهِ وَأُخِذَ مِنْهُ، وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ دَرَأَ عَنْهُ الْقَطْعَ. [الْبَابُ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ] وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ اعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ، أَوْ فِي السَّبَبِ وَالْجِهَةِ، أَوْ فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ. أَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ فَمِثَالُهُ: شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَتْلِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا

بِالْغَصْبِ أَوْ الْإِتْلَافِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ وَقَعَ فِي الْفِعْلِ فَمَنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا بِالسَّيْفِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالسِّكِّينِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَكَرَّرُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ، أَوْ أَحَدُهُمَا بِالْإِقْرَاضِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ تُقْبَلُ. وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْإِيقَاعِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي الْإِنْشَاءِ: بِعْتُ وَأَقْرَضَتْ. وَفِي الْإِقْرَارِ: كُنْتُ بِعْتُ وَأَقْرَضَتْ. فَلَمْ يَمْنَعْ قَبُولَ الشَّهَادَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِإِنْشَاءِ الْقَذْفِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا؛ لِأَنَّ فِي الْقَذْفِ صِيغَةَ الْإِنْشَاءِ، بِخِلَافِ صِيغَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي الْإِنْشَاءِ: زَنَيْتَ أَوْ يَا زَانٍ. وَفِي الْإِقْرَارِ يَقُولُ: قَذَفْتُهُ. وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَذْفٌ مُبْتَدَأٌ وَالْآخَرَ حِكَايَةٌ عَنْ الْقَذْفِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي السَّبَبِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخَرُ بِالصَّدَقَةِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِعَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ قَبَضَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ قَدْ قَبَضَهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِخَمْسِمِائَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ لَا يُقْبَلُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي حَقِّ الْعَيْنِ الْمِلْكَ بِسَبَبٍ يُخَالِفُ الْمِلْكَ بِغَيْرِ سَبَبٍ، فَإِنَّ الْمِلْكَ بِغَيْرِ سَبَبٍ يَكُونُ ثَابِتًا مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى يُسْتَحَقَّ بِزَوَائِدِهِ الْمُنْفَصِلَةِ وَتَرْجِعَ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْمِلْكُ بِسَبَبٍ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى لَا تُسْتَحَقَّ الزَّوَائِدُ الْمُنْفَصِلَةُ وَلَا تَرْجِعَ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، بَلْ مِلْكًا حَادِثًا فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ لِاخْتِلَافِهِمَا فِيهِ، وَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِغَيْرِ سَبَبٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا بِهِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي الْمَقْبُوضِ فِي الْحَالَيْنِ مِلْكٌ حَادِثٌ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا حَاصِلًا بِأَيِّ سَبَبٍ ثَبَتَ الدَّيْنُ فَلَمْ يَمْنَعْ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَاخْتِلَافِ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ لَهُ فِي السَّبَبِ لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ مِلْكٌ حَادِثٌ فَكَذَا هَذَا. (مَسْأَلَةٌ) : عَنْ أَبِي ذَرٍّ: ادَّعَى دَارًا مِلْكًا مِنْ الْمَيِّتِ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ بِبَيْعِهَا مِنْهُ وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ أَنَّهَا دَارُهُ وَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى عَلَيْهِ وَدِيعَةً عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَعْطَاهُ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ أَمَانَةً وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ وَلَمْ يَقُلْ: أَمَانَةً. لَا تُقْبَلُ، وَعَدَمُ قَبُولِهَا عَلَى جَوَابِ فَتَاوَى النَّسَفِيِّ لَيْسَ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَعْطَى هَذَا الْمُدَّعِيَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُولَا: مِنْ جِهَةِ الدَّيْنِ. فَعَلَى جَوَابِ فَتَاوَى النَّسَفِيِّ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا اُنْظُرْ الْمَنِيَّةَ. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى الْمَدْيُونُ إيفَاءَ الْقَرْضِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَضَاهُ الدَّيْنَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَا تُقْبَلُ. عَنْ فَتَاوَى النَّسَفِيِّ. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى مَالًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ احْتَالَ عَنْ غَرِيمِهِ بِهَذَا الْمَالِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْ غَرِيمِهِ بِهَذَا الْمَالِ يُقْبَلُ. عَنْ بُرْهَانِ الدِّينِ صَاحِبِ الْمُحِيطِ.

مَسْأَلَةٌ) : شَهِدَ أَحَدُهُمَا فِي دَعْوَى الشَّتْمِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا فَاجِرٌ. وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا فَاسِقٌ. لَا تُقْبَلُ. مِنْ الْفَتَاوَى الْبُخَارِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : سَرَقَ بَقَرَةً وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَقَالَا: لَا تُقْبَلُ. عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. وَأَمَّا فِي الْمُتَقَارِبَتَيْنِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الصُّفْرَةِ وَالْآخَرُ عَلَى الْحُمْرَةِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَةَ الْمُشَبَّعَةَ تَضْرِبُ إلَى الْحُمْرَةِ، وَالْحُمْرَةُ إذَا دُقَّتْ تَضْرِبُ إلَى الصُّفْرَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعَوَامّ يُمَيِّزُونَ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا غَبْرَاءُ وَالْآخَرُ أَنَّهَا بَيْضَاءُ تُقْبَلُ بِلَا خِلَافٍ. وَقَالَ فِي شَرْحِ السَّرَخْسِيِّ عَنْ الْكَرْخِيِّ غَيْرَ هَذَا، فَقَالَ: هَذَا فِي لَوْنَيْنِ يَتَشَابَهَانِ كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَشَابَهَا كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. (فَرْعٌ) : لَوْ ادَّعَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ عَلَى رَجُلٍ فَأَنْكَرَ فَشَهِدَ أَحَدُ شَاهِدَيْهِ بِأَلْفَيْنِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ تُقْبَلُ عَلَى أَلْفٍ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَا فِيمَا زَادَ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: اخْتَلَفَا فِيمَا شَهِدَا بِهِ فَلَا تُقْبَلُ: أَيْ أَنَّهُ كَذَلِكَ؛ إذْ لَفْظَةُ أَلْفٍ تُغَايِرُ لَفْظَةَ أَلْفَيْنِ، وَالتَّغَايُرُ فِي اللَّفْظِ دَلِيلُ التَّغَايُرِ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ وُضِعَتْ لِتَعْرِيفِ الْمَعَانِي. (فَرْعٌ) : وَلَوْ شَهِدَا بِالْخُلْعِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الرَّهْنِ أَوْ الصُّلْحِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ وَأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ وُجُودُهُ، إلَّا النِّكَاحَ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ شَاهِدَيْهِ مَكَانًا وَزَمَانًا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ شَهِدَ بِالرَّهْنِ وَمُعَايَنَةِ قَبْضِهِ وَاخْتَلَفَا فِي الْأَيَّامِ وَالْبُلْدَانِ جَازَتْ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالشِّرَاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَجُوزُ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا بِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ أَوْ الْوَاهِبِ أَوْ الْمُتَصَدِّقِ بِالْقَبْضِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ ادَّعَاهُ بِسَبَبٍ كَشِرَاءِ أَوْ إرْثٍ وَنَحْوِهِ وَبَرْهَنَ عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ لَا يُقْبَلُ، وَهَذَا لَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ مَعْرُوفٍ بِأَنْ يَقُولَ شَرَيْته مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ، أَمَّا لَوْ ادَّعَاهُ مِنْ مَجْهُولٍ بِأَنْ يَقُولَ شَرَيْته مِنْ مُحَمَّدٍ أَوْ مِنْ أَحْمَدَ فَبَرْهَنَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِبَائِعِهِ وَهُوَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِمَجْهُولٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الشِّرَاءَ، وَهُنَاكَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، كَذَا هُنَا. وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ وَقَالَ: قِيلَ لَا تُقْبَلُ فِي الْمَجْهُولِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِأَكْثَرَ مِمَّا يَدَّعِيهِ هُوَ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الشِّرَاءَ أَقَرَّ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِسَبَبٍ لَا مُطْلَقًا فَلَا تُقْبَلُ. وَلَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا وَشَهِدَا بِمِلْكٍ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا بِأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَاهُ، أَوْ شَهِدَ بِمِلْكٍ حَادِثٍ فَيَنْبَغِي هُنَا لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ أَنَّهُ يَدَّعِي الْمِلْكَ بِهَذَا السَّبَبِ الَّذِي شَهِدَا بِهِ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَلَوْ قَالَ: أَدَّعِيهِ بِهَذَا السَّبَبِ. تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ وَيُحْكَمُ لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَوْ ذَكَرَ سَبَبًا آخَرَ وَقَالَ: لَا أَدَّعِيهِ بِهَذَا السَّبَبِ. لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى مَهْرَ أُخْتِهِ خَمْسِينَ دِينَارًا نَيْسَابُورِيَّةً وَشَهِدَ شُهُودُهُ بِخَمْسِينَ مَحْمُودِيَّةٍ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْأَقَلِّ. قَالَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَكَذَا عَنْ السَّايَحَانِيِّ، وَعَلَى الْعَكْسِ لَا تُقْبَلُ. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى نِتَاجًا وَشَهِدَ بِسَبَبٍ تُرَدُّ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ ادَّعَى مُطْلَقًا وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمُطْلَقٍ وَالْآخَرُ بِسَبَبٍ قُبِلَتْ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، يُحْكَمُ بِمِلْكٍ حَادِثٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ الزَّوَائِدُ مِنْ الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ إسْمَاعِيلُ الْمُتَكَلِّمُ: ادَّعَى عَلَى آخَرَ دَيْنًا عَلَى مُوَرِّثِهِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لَا تُقْبَلُ

الباب الرابع عشر في القضاء بشهادة السماع

حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُنْيَةِ، وَفِي الْمُحِيطِ خِلَافُهُ. وَأَفْتَى بُرْهَانُ الدِّينِ بِهَذَا الْجَوَابِ مُدَّةً ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَعَلَيْهِ هَذَا الدَّيْنُ، مَذْهَبٌ مَرْجُوعٌ عَنْهُ وَيُنْظَرُ فِي أَوَّلِ الشَّهَادَاتِ مِنْ الْمُحِيطِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَمِنْهَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ رَجُلٍ بِدَيْنٍ وَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ عَلَيَّ الْآنَ. فَقَالَ: لَا أَدْرِي أَهُوَ عَلَيْكَ الْآنَ أَمْ لَا. لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. (فَرْعٌ) : لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عِنْدَ رَجُلَيْنِ ثُمَّ شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ فَشَاهِدَا إقْرَارِهِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ وَلَا يَشْهَدَانِ أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِاتِّفَاقِهِمَا أَنَّهُ لَهُ فِي الْحَالِ مَعْنًى لِمَا مَرَّ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى النِّكَاحِ وَالْإِقْرَارِ. اُنْظُرْ الْمُحِيطَ. (فَرْعٌ) : ادَّعَتْ نِكَاحَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَالْآخَرُ أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَتَهُ تُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَالْآخَرُ أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِإِقْرَارِهِ بِنِكَاحٍ كَانَ شَهَادَةً بِإِقْرَارِهِ بِنِكَاحٍ حَالِيٍّ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ يَبْقَى، فَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا وَشَهِدَ أَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلْمِلْكِ فِي الْحَالِ، أَوْ شَهِدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِمِلْكِهِ فِي الْحَالِ بِأَنْ لَمْ يَقُولَا هُوَ مِلْكُهُ فِي الْحَالِ يُقْبَلُ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ شُهُودَهُ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ؟ وَكَذَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهَا امْرَأَتِي أَوْ مَنْكُوحَتِي وَشَهِدَا أَنَّهُ كَانَ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلْحَالِ تُقْبَلُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا شَهِدَ بِمِلْكٍ فِي الْمَاضِي. أَمَّا لَوْ شَهِدَا بِيَدٍ فِي الْمَاضِي بِأَنْ ادَّعَى دَارًا بِيَدِ رَجُلٍ فَشَهِدَ أَنَّهُ كَانَ بِيَدِ الْمُدَّعِي لَا يُقْبَلُ، وَلَا يُقْضَى بِشَيْءٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِيَدِهِ فِي الْمَاضِي وَقَدْ عَرَفَ الْخُرُوجَ مِنْ يَدِهِ بِيَقِينٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَا بِمِلْكٍ فِي الْمَاضِي، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْبَلُ. وَلَوْ شَهِدَا بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ بِيَدِ الْمُدَّعِي يُقْبَلُ، وَلَوْ ادَّعَى مِلْكًا فِي الْمَاضِي وَشَهِدَا بِهِ فِي الْحَالِ بِأَنْ قَالَ كَانَ هَذَا مِلْكِي وَشَهِدَ أَنَّهُ لَهُ قِيلَ يُقْبَلُ وَقِيلَ لَا وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَشَهِدَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ إسْنَادَ الْمُدَّعِي يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ؛ إذْ لَا فَائِدَةَ لِلْمُدَّعِي فِي الْإِسْنَادِ مَعَ قِيَامِ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ لَوْ أَسْنَدَا مِلْكَهُ إلَى الْمَاضِي؛ لِأَنَّ إسْنَادَهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ فِي الْحَالِ؛ إذْ لَهُمْ فَائِدَةٌ سِوَى النَّفْيِ فِي الْحَالِ وَهِيَ أَنْ يَشْهَدَا بِمَا عَايَنَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِيَقِينٍ وَلَا يَشْهَدَا بِبَقَاءِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْرِفَانِ بَقَاءَهُ إلَّا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَالشَّاهِدُ قَدْ يَحْتَرِزُ عَنْ الشَّهَادَةِ بِمَا ثَبَتَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِعَدَمِ تَيَقُّنِهِ، بِخِلَافِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَعْلَمُ ثُبُوتَ مِلْكِهِ يَقِينًا يَعْلَمُ بَقَاءَهُ يَقِينًا اُنْظُرْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ. [الْبَابُ الرَّابِعَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ] قَالَ بَعْضُهُمْ: شَهَادَةُ السَّمَاعِ لَهَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: تُفِيدُ الْعِلْمَ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّوَاتُرِ، كَالسَّمَاعِ بِأَنَّ مَكَّةَ مَوْجُودَةٌ وَمِصْرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ إذَا حَصَلَتْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِالرُّؤْيَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُفِيدُ الْعِلْمَ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: شَهَادَةُ الِاسْتِفَاضَةِ، وَهِيَ تُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا يَقْرُبُ مِنْ الْقَطْعِ وَتُرْفَعُ عَنْ شَهَادَةِ السَّمَاعِ، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَنَّ عَلِيًّا ابْنُ أَبِي طَالِبٍ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لِذَلِكَ أَصْلًا فَيَجُوزُ

الْإِسْنَادُ إلَيْهَا. وَمِنْهَا: إذَا رُئِيَ الْهِلَالُ رُؤْيَةً مُسْتَفِيضَةً وَرَآهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَشَاعَ أَمْرُهُ فِيهِمْ لَزِمَ الصَّوْمُ أَوْ الْفِطْرُ مَنْ رَآهُ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى شَهَادَةٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلَا تَعْدِيلٍ قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَمِنْهَا: اسْتِفَاضَةُ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَمَا يَسْتَفِيضُ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ الْحَاكِمُ؛ لِاشْتِهَارِ عَدَالَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْأَلُ عَنْهُ؛ لِاشْتِهَارِ جَرَحْتُهُ، وَإِنَّمَا يُكْشَفُ عَمَّنْ أَشْكَلَ. وَقَدْ شَهِدَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ قَاضِي الْمَدِينَةِ أَوْ عَامِلِهَا فَقَالَ: أَمَّا الِاسْمُ فَاسْمُ عَدْلٍ، وَلَكِنْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّكَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ عَدَالَةَ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ شَخْصَهُ لِشُهْرَتِهِ بِالْعَدَالَةِ، بَلْ سَأَلَ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ عَلَى عَيْنِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: شَهَادَةُ السَّمَاعِ وَهِيَ الَّتِي يَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا، فَالشَّهَادَةُ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ تُقْبَلُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ النِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَوْتُ وَالْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يَشْتَهِرُ وَيَسْتَفِيضُ، فَالشُّهْرَةُ وَالِاسْتِفَاضَةُ، أُقِيمَتْ مَقَامَ الْعِيَانِ، وَالْمُشَاهَدَةُ كَالْإِخْبَارِ إذَا اُشْتُهِرَتْ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاعِ مِنْهُ، أَلَا يَرَى أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَنَّ عَلِيًّا ابْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ الشُّهْرَةُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَثْبُتُ بِطَرِيقَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا حَقِيقِيَّةٌ، وَالْأُخْرَى حُكْمِيَّةٌ. أَمَّا الْحَقِيقِيَّةُ بِأَنْ يُخْبِرَهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَتُتَابَعُ الْأَخْبَارُ وَتَشْتَهِرُ. وَأَمَّا الْحُكْمِيَّةُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ وَالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ مِنْ اثْنَيْنِ كَمَا تَثْبُتُ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَا تَثْبُتُ بِلَفْظَةِ الْخَبَرِ، فَقَامَتْ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ مَقَامَ الْخَبَرِ عَنْ جَمَاعَةٍ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فِي إثْبَاتِ الشُّهْرَةِ الِاسْتِفَاضَةَ حُكْمًا وَاعْتِبَارًا، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْهَادِ الَّذِي قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، حَتَّى إذَا لَقِيَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ عَلَى نَسَبِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْهَادِهِ وَعَرَفَا وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ. وَإِنْ أَقَامَ هَذَا الرَّجُلُ شَاهِدَيْنِ عِنْدَهُ شَهِدَا عَلَى نَسَبِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَسَبِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَدَّ قَوْلُهُ فِي شَهَادَتِهِ لَا يُعْتَمَدُ قَوْلُ مَنْ اعْتَمَدَ هَذَا الرَّجُلُ عَلَى قَوْلِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : الْمَوْتُ يَثْبُتُ بِالشُّهْرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَتَّفِقُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْضُرُهُ إلَّا الْوَاحِدُ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ بِالشُّهْرَةِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ لَضَاعَتْ الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْتِ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ يَثْبُتُ الِاشْتِهَارُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الْمَوْتِ حَرَجًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِمُبَاشَرَةِ أَسْبَابِهِ مِنْ الْغُسْلِ وَغَيْرِهِ إلَّا وَاحِدٌ. وَبِالْجُمْلَةِ إذَا شَهِدَ جِنَازَتَهُ أَوْ دَفْنَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ بِمَوْتِهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ عَلَى الْبَتَاتِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ قُيِّدَ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ وَفِي الْمَوْتِ مَسْأَلَةٌ عَجِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعَايِنْ الْمَوْتَ إلَّا وَاحِدٌ وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ مَاذَا يَصْنَعُ؟ قَالُوا: يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَدْلًا مِثْلَهُ، فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَوْتِهِ فَيَشْهَدَ مَعَ ذَلِكَ الشَّاهِدِ فَيَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا. اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ. . (تَنْبِيهٌ) : وَلَوْ جَاءَ خَبَرُ مَوْتِ إنْسَانٍ فَصَنَعُوا مَا يُصْنَعُ عَلَى الْمَيِّتِ لَمْ يَسَعُكَ أَنْ تَشْهَدَ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَصَايِبَ قَدْ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْتِ إمَّا خَطَأً أَوْ غَلَطًا أَوْ حِيلَةً لِقِسْمَةِ الْمَالِ، فَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِخَبَرِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِي الْأَمْلَاكِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا تَحِلُّ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَسَنُورِدُ مَا قَالُوا بِهِ فِي مَذْهَبِهِمْ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةِ رَجُلٍ: سَمِعْتُ مِنْ النَّاسِ أَنَّ زَوْجَكِ فُلَانًا مَاتَ. جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ إنْ كَانَ

الْمُخْبِرُ عَدْلًا، وَلَوْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ أَخْبَرَهَا جَمَاعَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا حَيٌّ إنْ صَدَّقَتْ الْأَوَّلَ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ. هَذَا فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ وَفِي الْمُنْتَقَى: لَمْ يَشْتَرِطْ تَصْدِيقَ الْمَرْأَةِ لَكِنْ شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الْمُخْبِرِ. . (فَرْعٌ) : لَوْ أَخْبَرَهَا وَاحِدٌ بِمَوْتِ الْغَائِبِ وَأَخْبَرَهَا اثْنَانِ بِحَيَاتِهِ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِمَوْتِهِ شَهِدَ أَنَّهُ عَايَنَ مَوْتَهُ أَوْ شَهِدَ جِنَازَتَهُ وَكَانَ عَدْلًا وَسِعَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. هَذَا إذَا لَمْ يُؤَرِّخَا، أَمَّا إذَا أَرَّخَا وَتَارِيخُ شَاهِدَيْ الْحَيَاةِ بَعْدَ تَارِيخِ شَاهِدِ الْمَوْتِ فَشَهَادَةُ شَاهِدَيْ الْحَيَاةِ أَوْلَى اُنْظُرْ فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ. (مَسْأَلَةُ النِّكَاحِ) : إذَا رَأَى الْعُرْسَ أَوْ الزِّفَافَ أَوَأَخْبَرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِأَنَّ هَذِهِ امْرَأَةُ فُلَانٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ عَلَى الْبَتَاتِ، وَلَوْ قَيَّدَهَا لَا تُقْبَلُ. (مَسْأَلَةُ النَّسَبِ) : لَوْ سَمِعَ النَّاسَ يَقُولُونَ هَذَا ابْنُ فُلَانٍ أَوْ أَخُوهُ أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ عَدْلَانِ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ. (مَسْأَلَةُ وِلَايَةِ الْحَاكِمِ) : إذَا سَمِعَ النَّاسَ يَقُولُونَ هَذَا قَاضِي بَلَدِ كَذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَقَعُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّا نَشْهَدُ بِخِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْقُضَاةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَشُرَيْحٍ وَغَيْرِهِ. وَأَنْسَابِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِنْ لَمْ نَشْهَدْ عَقْدَ وِلَايَتِهِمْ وَلَا نَسَبَ أَنْسَابِهِمْ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ تَثْبُتُ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ بِالْإِجْمَاعِ. (فَرْعٌ) : وَكَذَا الْوَلَاءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْوَلَاءِ مَا لَمْ يُعَايِنْ (فَرْعُ الْوَقْفِ) : إذَا اُشْتُهِرَ أَنَّهُ وَقَّفَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ فِي قَوْلٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى اسْتِهْلَاكِ الْأَوْقَافِ الْقَدِيمَةِ. وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ قُرْبَةٌ، وَالْإِخْفَاءُ بِالْقُرَبِ أَكْثَرُ مِنْ الْإِعْلَانِ بِهَا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْلَاكِ. وَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ جَوَازُ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ عَلَى أَصْلِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ انْقِضَاءِ قُرُونٍ، وَأَنَّهُ يُشْتَهَرُ لَكِنْ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ مِنْ الْخُلَاصَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْمَهْرِ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ لِلْأَمْرِ الظَّاهِرِ بِالسَّمَاعِ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى شَهَادَةِ مَنْ حَضَرَهُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِالْمَهْرِ إذَا أَخْبَرُوهُمْ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ عَلَى كَذَا وَكَذَا مِنْ الْمَهْرِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الدُّخُولِ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ اخْتَلَفُوا فِيهِ قِيلَ يَجُوزُ وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَشْتَهِرُ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ النَّسَبِ وَالْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ اُنْظُرْ الْمُحِيطَ وَشَرْحَ التَّجْرِيدِ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَذْهَبِ. وَأَمَّا شُرُوطُ شَهَادَةِ السَّمَاعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَسَبْعَةٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُسْتَخْرَجَ بِهَا مَا فِي يَدِ حَائِزٍ وَإِنَّمَا شَهِدَ بِهَا لِمَنْ كَانَ الشَّيْءُ بِيَدِهِ فَتَصِحُّ حِيَازَتُهُ. الثَّانِي: الزَّمَانُ. الثَّالِثُ: السَّلَامَةُ مِنْ الرَّيْبِ، فَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالسَّمَاعِ وَفِي الْقَبِيلَةِ مِائَةٌ مِنْ أَسْنَانِهِمَا لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمُ ذَلِكَ فَاشِيًا. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْلِفَ الْمَشْهُودُ لَهُ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يُسَمُّوا الْمَسْمُوعَ مِنْهُمْ وَإِلَّا كَانَ نَقْلَ شَهَادَةٍ فَلَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ غَيْرَ عُدُولٍ. الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَيَكْتَفِي بِهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ. الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ السَّمَاعُ فَاشِيًا مِنْ الثِّقَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَمَّا كَوْنُهُ فَاشِيًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ الثِّقَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ. وَأَمَّا مَحِلُّ شَهَادَةِ السَّمَاعِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ أَنَّ الْمَوَاطِنَ الَّتِي شُهِدَ فِيهَا بِالسَّمَاعِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ مَوْطِنًا، وَقَدْ نَظَمَهَا فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:

الباب الخامس عشر في القضاء بالشهادة على الشهادة

أَيَا سَائِلِي عَمَّا يَنْفُذُ حُكْمُهُ ... وَيَثْبُتُ سَمْعًا دُونَ عِلْمٍ بِأَصْلِهِ فَفِي الْعَزْلِ وَالتَّجْرِيحِ وَالْكُفْرِ بَعْدَهُ ... وَفِي سَفَهٍ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ وَفِي الْبَيْعِ وَالْإِحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ ... وَالرَّضَاعِ وَخُلْعٍ وَالنِّكَاحِ وَحِلِّهِ وَفِي قِسْمَةٍ أَوْ نِسْبَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ ... وَمَوْتٍ وَحَمْلٍ وَالْمُضَارِّ بِأَهْلِهِ فَقَدْ كَمُلَتْ عِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدٍ ... تَدُلُّ عَلَى حِفْظِ الْفَقِيهِ وَنُبْلِهِ وَزَادَهَا وَلَدُهُ سِتَّةً نَظَمَهَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: وَمِنْهَا هِبَاتٌ وَالْوَصِيَّةُ فَاعْلَمَنْ ... وَمِلْكٌ قَدِيمٌ قَدْ يُظَنُّ بِمِثْلِهِ وَمِنْهَا وِلَادَاتٌ وَمِنْهَا حِرَابَةٌ ... وَمِنْهَا إبَاقٌ فَلْيُضَمَّ لِشَكْلِهِ أَبِي نَظَمَ الْعِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدٍ ... وَأَتْبَعْتُهَا سِتًّا تَمَامًا لِفِعْلِهِ وَزَادَ ابْنُ هَارُونَ أَرْبَعَةً فَقَالَ: وَفِي الْيُسْرِ وَالْإِعْسَارِ سَمْعٌ مُقَرَّرٌ ... وَفِي الْأَسْرِ يُرْوَى مَنْ يَقُومُ لِنَقْلِهِ أَبُو الْحَسَنِ الْبَلْخِيُّ يُقْسِمُ قَاتِلًا ... وُلَاةَ قَتِيلٍ بِالسَّمَاعِ بِقَتْلِهِ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُهَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ. [الْبَابُ الْخَامِسَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَة] الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يَتَعَلَّقُ النَّظَرُ بِمَعْرِفَةِ جَوَازِ الشَّهَادَةِ وَوَقْتِهَا، وَكَيْفِيَّةِ الْإِشْهَادِ مِنْ الْأَصْلِ، وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْفَرْعِ. أَمَّا جَوَازُهَا ثَابِتٌ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ لِلْفُرُوعِ الْعِلْمُ بِأَصْلِ الْحَقِّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ؛ لِاحْتِمَالِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ. وَأَمَّا وَقْتُهَا فَحَالَةُ الْعَجْزِ عَنْ شَهَادَةِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَجُوزُ حَتَّى يَكُونَ شَاهِدُ الْأَصْلِ مَرِيضًا أَوْ عَلَى مَسِيرَةِ سَفَرٍ؛ لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةً تُمْكِنُ تُهْمَةً، وَأَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا بِجِنْسِهِ مِنْ الشُّهُودِ، فَلَا يَتَحَمَّلُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ وَذَلِكَ بِالْمَرَضِ أَوْ بِالسَّفَرِ، وَأَقَلُّ مُدَّتِهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ شَهَادَةَ الْفَرْعِ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي مَوْضِعٍ لَوْ غَدَا إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيتَ بِأَهْلِهِ إحْيَاءً لِلْحُقُوقِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْإِشْهَادِ مِنْ الْأَصْلِ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِينَ: وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَقُولَ الْأَصْلُ: اشْهَدُوا عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ، أَوْ اشْهَدُوا أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَشَهِدُوا عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ تَوْكِيلٌ وَتَحْمِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ الشَّهَادَةِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ النَّقْلِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّحَمُّلِ، وَالتَّحْمِيلُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْأَمْرِ، وَلِهَذَا لَوْ نَهَى الْأُصُولُ الْفُرُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْأَمْرِ عُمِلَ بِالنَّهْيِ. (فَرْعٌ) : لَوْ قَالَ اشْهَدُوا عَلَى شَهَادَتِي فَسَمِعَهَا رَجُلٌ آخَرُ، لَمْ يَشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِهِ، لِأَنَّ التَّحَمُّلَ شَرْطٌ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْقَاضِي إذَا أَشْهَدَ قَوْمًا عَلَى قَضِيَّةٍ فَسَمِعَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُ وَسِعَ لِلسَّامِعِينَ أَنْ يَشْهَدُوا؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ حُجَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ، فَيَصِحُّ التَّحَمُّلُ مِنْ غَيْرِ تَحْمِيلٍ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ قَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِكَذَا، أَوْ قَالَ أُشْهِدُكُمْ فَاشْهَدُوا، أَوْ فَاشْهَدُوا بِشَهَادَتِي لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَمْ

فصل شهادة الابن على شهادة أبيه

يُوجَدْ التَّحَمُّلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِنَقْلِ شَهَادَتِهِ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَشْهَدُوا عَلَى فُلَانٍ بِأَصْلِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِوُجُوبِ الْحَقِّ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْأَدَاءِ مِنْ الْفُرُوعِ بِأَنْ يَقُولَ الْفَرْعُ عِنْدَ الْحَاكِمِ " شَهِدَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ عَلَى إقْرَارِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ. " (مَسْأَلَةٌ) : لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْ يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ هَذَا وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ آخَرَ. (فَرْعٌ) : لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ بِنَفْسِهِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ الْحَاضِرِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْغَائِبِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ أَدَّى إلَى أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ، نِصْفُ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَرُبْعُ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ مَعَ آخَرَ عَلَى شَهَادَةِ آخَرَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهَا شَطْرُ الْحُجَّةِ. فَبَقِيَ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْغَائِبِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَا يَثْبُتُ شَهَادَةُ الْأَصْلِ الْغَائِبِ. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ النَّاطِفِيُّ فِي وَاقِعَاتِهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْوَقْفِ لَا تَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَجُوزُ لِمَا فِيهَا مِنْ إحْيَاءِ الْوَقْفِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ بِأَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا ضَرَبَ فُلَانًا حَدًّا فِي قَذْفٍ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ لَا عَلَى إيجَابِهِ، لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا أَنَّهُ حَدَّهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ تُقْبَلُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ. (مَسْأَلَةٌ) : ارْتَدَّ شَاهِدَا الْأَصْلِ ثُمَّ أَسْلَمَا فَشَهِدَ الْفَرْعُ لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ بِالرِّدَّةِ بَطَلَ الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ فَيُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ بَطَلَ بِنَهْيِهِ، وَلَوْ بَطَلَ الْأَمْرُ بِنَهْيِهِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ، فَكَذَا هَذَا. (مَسْأَلَةٌ) : شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ فَرَدَّ الْقَاضِي لِتُهْمَةِ الْأُصُولِ، ثُمَّ تَابَ شُهُودُ الْأَصْلِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ وَلَا الْفَرْعِ. لِأَنَّ الْمَرْدُودَ كَانَ شَهَادَةَ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَيُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ شَهِدَ الْأَصْلُ بِنَفْسِهِ فَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ بِتُهْمَةِ الْكَذِبِ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَلَا شَهَادَةُ فَرْعِهِ أَبَدًا، فَكَذَا هَذَا. (مَسْأَلَةٌ) : أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ كَافِرَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أُعْتِقَا جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِنَقْلِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْأَصْلِ قَدْ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ حَالَةَ الْأَمْرِ بِالنَّقْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفُرُوعُ أَهْلًا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ أَهْلًا فِي الثَّانِي فَصَحَّ التَّحَمُّلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ. [فَصْلٌ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى شَهَادَةِ أَبِيهِ] (فَصْلٌ) : ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى: تَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى شَهَادَةِ أَبِيهِ وَعَلَى قَضَائِهِ وَعَلَى كِتَابِهِ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: أَنَّهُ تَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى شَهَادَةِ أَبِيهِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَى قَضَائِهِ. فُرِقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ فِعْلُ أَبِيهِ وَالِابْنُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَالْأَبُ لَوْ شَهِدَ عَلَى الْحَقِّ يُقْبَلُ، فَكَذَا الِابْنُ، وَالْأَبُ لَوْ شَهِدَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ، فَكَذَا الِابْنُ إذَا قَامَ مَقَامَهُ فِي الشَّهَادَةِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي: هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْأَبِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَا دَفْعَ مَغْرَمٍ وَلَا جَلْبَ مَغْنَمٍ.

الباب السادس عشر في القضاء بشهادة الأبداد

[الْبَابُ السَّادِسَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْأَبْدَادِ] الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْأَبْدَادِ. الْأَبْدَادُ بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ وَهُمْ الْمُتَفَرِّقُونَ، وَاحِدُهُمْ بَدُّ مِثْلَ مَدُّ مِنْ التَّبَدُّدِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ بَدَّدَ اللَّهُ شَمْلَ الْعَدُوِّ؛ وَلِأَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا فِي ذَلِكَ مُفْتَرِقِينَ، وَاحِدٌ هُنَا، وَوَاحِدٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَوَاحِدٌ الْيَوْمَ وَوَاحِدٌ غَدًا، وَوَاحِدٌ عَلَى مَعْنًى، وَوَاحِدٌ عَلَى آخَرَ. قَالَ فِي الْوُقَايَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: وَحُضُورُ حُرَّيْنِ مُكَلَّفَيْنِ مُسْلِمَيْنِ سَامِعَيْنِ مَعًا لَفْظَا الزَّوْجَيْنِ لَا عَدَالَتُهُمَا، فَلَا يَصِحُّ إنْ سَمِعَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَلَا لَوْ أَعَادَ النِّكَاحَ وَسَمِعَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ أَوَّلًا لَا الْآخَرَ. [الْبَابُ السَّابِعَ عَشَرَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِغْفَالِ] فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِغْفَالِ. وَصُورَتُهَا: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ حَقٌّ فَيُقِرُّ فِي السِّرِّ وَيَجْحَدُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَعَجَزَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ، فَاحْتَالَ بِأَنْ أَدْخَلَ قَوْمًا مِنْ الْعُدُولِ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ اسْتَحْضَرَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَأَقَرَّ بِذَلِكَ سِرًّا وَخَرَجَ فَسَمِعَهُ الشُّهُودُ، حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عِنْدَ عُلَمَائِنَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ حَصَلَ. وَقِيلَ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَدَلُّسًا وَغُرُورًا، وَلَكِنْ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الشُّهُودُ يَرَوْنَ وَجْهَهُ وَيَعْرِفُونَهُ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ وَجْهَهُ وَلَكِنْ يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا، فَإِنْ شَهِدُوا وَفَسَّرُوا لِلْقَاضِي شَهَادَتَهُمْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، إلَّا إذَا أَحَاطُوا عِلْمًا بِهِ بِأَنْ رَأَوْهُ دَخَلَ بَيْتًا وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْبَيْتِ مَسْلَكٌ آخَرُ، وَسَمِعُوا إقْرَارَهُ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ حَالُهُ تَحِلُّ لَهُمْ الشَّهَادَةُ اُنْظُرْ شَرْحَ التَّجْرِيدِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَلْ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَفِيَ لِيَشْهَدَ عَلَى الْمُقِرِّ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَتَخَوَّفُ أَنْ لَا يُحِيطَ بِالشَّهَادَةِ عِلْمًا مِمَّا كَانَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنْ إنْ تَحَقَّقَ الْإِقْرَارُ كَمَا يَجِبُ فَلْيَشْهَدْ. (تَنْبِيهٌ) : وَحَيْثُ أَجَزْنَا شَهَادَتَهُ فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْحِرْصِ عَلَى التَّحَمُّلِ. (تَنْبِيهٌ) : يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ التَّنَبُّهُ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَخْتَبِئَ لِيَشْهَدَ، هَذَا مِمَّا لَمْ يُنْدَبْ إلَيْهِ وَلَا فُرِضَ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ فَعَلَ مَا لَا يَلِيقُ بِالْفُضَلَاءِ وَلَا يَخْتَارُهُ الْعُقَلَاءُ. [الْبَابُ الثَّامِنَ عَشَرَ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ] فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ. اعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَعْتَبِرْ مُطْلَقَ الظَّنِّ فِي غَالِبِ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ ظُنُونًا مُفِيدَةً مُسْتَفَادَةً مِنْ أَمَارَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا سَبِيلَ فِيهِ إلَى الْقَطْعِ كَالشَّهَادَةِ أَنَّ الْمِدْيَانَ مُعْدَمٌ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَشْهَدُونَ عَلَى عِلْمِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ، فَاسْتُظْهِرَ بِالْيَمِينِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، فَبِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ اسْتَحَقَّ حُكْمَ الْعَدَمِ وَسَقَطَ عَنْهُ الطَّلَبُ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ لِامْرَأَةٍ غَابَ زَوْجُهَا وَتَرَكَهَا بِغَيْرِ نَفَقَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ، فَإِذَا قَامَتْ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَشَهِدَ بِهَا الشُّهُودُ اُسْتُظْهِرَ عَلَيْهَا بِالْيَمِينِ عَلَى صِحَّةِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ لَهَا، فَبِمُقَارَنَةِ الْيَمِينِ لِلشَّهَادَةِ وَجَبَ لَهَا الْحُكْمُ بِذَلِكَ.

الباب التاسع عشر القضاء بشهادة النفي

مَسْأَلَةٌ) : وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى عِدَّةِ الْوَرَثَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَلَا يُكَلَّفُ الشُّهُودُ أَنْ يَقُولُوا أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ عَلَى الْبَتَاتِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَتُهُمْ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا تَصَدَّقَ وَلَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ انْتِقَالَاتِ الْأَمْلَاكِ، وَلَا يَشْهَدُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا فِي عِدَّةِ الْوِرَاثَةِ عَلَى الْبَتِّ، فَلَوْ قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمْ أَصْلًا عَلَى الْبَتِّ، أَوْ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّهُ شَيْءٌ لَمْ يَبِعْهُ وَلَا فَوَّتَهُ كَانَتْ شَهَادَةُ زُورٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْبَتِّ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لِلشَّاهِدِ بِنَفْيِ وَارِثٍ غَيْرِهِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ جَمِيعَ عُمْرِهِ بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِنَفْيِ وَارِثٍ آخَرَ شَهَادَةً بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ فَلَا تُقْبَلُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ إنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالْعِلْمِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّاهِدُ إلَّا مَا هُوَ قَاطِعٌ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ حَالَةُ الْأَدَاءِ دَائِمًا عِنْدَ الشَّاهِدِ الظَّنُّ الضَّعِيفُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ. بَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْمُدْرَكِ عِلْمًا فَقَطْ، فَلَوْ شَهِدَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْ دَفَعَهُ فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِصْحَابِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ، وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ فِي الْمَبِيعِ مَعَ احْتِمَالِ دَفْعِهِ، وَيَشْهَدُ فِي الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ لِوَارِثِهِ مَعَ جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ أَنْ وَرِثَهُ وَشَهِدَ بِالْإِجَارَةِ وَلُزُومِ الْأُجْرَةِ مَعَ جَوَازِ الْإِقَالَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ. وَالْحَاصِلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا وَشَبَهِهَا إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ الضَّعِيفُ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ مَا يَبْقَى فِيهِ الْعِلْمُ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ الصُّوَرِ. فَمِنْ ذَلِكَ النَّسَبُ وَالْوَلَاءُ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ النَّقْلَ فَيَبْقَى الْعِلْمُ عَلَى حَالِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ وُقُوعِ النُّطْقِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَذَلِكَ لَا يُرْفَعُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْفُ إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ، أَمَّا إذَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا فِيهَا الظَّنُّ فَقَطْ، فَإِذَا شَهِدَ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ حَكَمَ بِنَقْضِهِ. [الْبَابُ التَّاسِعَ عَشَرَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ النَّفْيِ] فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ النَّفْيِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: اشْتَهَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنَّ النَّفْيَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ، أَوْ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ النَّاشِئِ عَنْ الْفَحْصِ، وَقَدْ يُعَرَّى عَنْهُمَا. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ اتِّفَاقًا، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَسٌ وَنَحْوُهُ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقْتُلْ عَمْرًا بِالْأَمْسِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ فِي الْبَيْتِ لَمْ يُفَارِقْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي الْبَلَدِ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ صَحِيحَةٌ بِالنَّفْيِ. الثَّانِي: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ: أَعْنِي بِالنَّفْيِ مُسْتَنِدًا إلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ، وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ مِنْهَا التَّفْلِيسُ، فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِيهِ إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ الْغَالِبُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَقْلًا حُصُولُ الْمَالِ لِلْمُفْلِسِ وَهُوَ يَكْتُمُهُ. وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ عَلَى حَصْرِ الْوَرَثَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ هَذَا، فَمُسْتَنَدُ الشَّاهِدِ الظَّنُّ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ وَارِثٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ فَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ مَقْبُولَةٌ. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيَانٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثُ: مَا عَرَى عَنْهُمَا، مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يُوَفِّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ أَوْ مَا بَاعَ سِلْعَتَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا نَفْيٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ الْمُنْضَبِطِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا. (فَرْعٌ) : الشَّهَادَةُ لَوْ قَامَتْ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَفِيهَا نَفْيٌ بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا غُلَامُهُ نَتَجَ عِنْدَهُ، أَوْ هَذِهِ دَابَّتُهُ نَتَجَتْ عِنْدَهُ وَلَمْ يَزَلْ مَالِكًا لَهُ هَلْ تُقْبَلُ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ قَبُولُهُمَا. كَذَا فِي الْفَتَاوَى.

الباب العشرون القضاء بالشهادة التي توجب حكما ولا توجب الحق المدعى به

فَرْعٌ) : شَهِدَا أَنَّهُ أَقْرَضَهُ يَوْمَ كَذَا وَصَنَعَ شَيْئًا فِي مَكَانِ كَذَا، فَبَرْهَنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي مَكَان ذَكَرَهُ الْأَوَّلَانِ وَكَانَ فِي مَكَانِ كَذَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا كَانَ فِي مَكَانِ كَذَا نَفْيُ مَعْنًى، وَلَوْ كَانَ إثْبَاتًا صُورَةً إذْ الْغَرَضُ نَفْيُ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الْأُولَى. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ أَمَّنَ الْإِمَامُ أَهْلَ مَدِينَةٍ فَاخْتَلَطُوا بِأَهْلِ مَدِينَةٍ أُخْرَى وَقَالُوا كُنَّا جَمِيعًا فَشَهِدَ شُهُودٌ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا وَقْتَ الْأَمَانِ فِيهَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لَهُ قَالَهُ فِي الْوَاقِعَاتِ. (فَرْعٌ) : الشَّرْطُ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ كَانَ نَفْيًا، كَمَا لَوْ قَالَ لِقِنِّهِ: إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَبَرْهَنَ الْقِنُّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ يُعْتَقُ. قِيلَ فَعَلَى هَذَا لَوْ جُعِلَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا إنْ ضَرَبَهَا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهَا وَقَالَ ضَرَبْتُهَا بِجِنَايَةٍ وَبَرْهَنَتْ أَنَّهُ ضَرَبَهَا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ بَيِّنَتُهَا وَإِنْ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِقِيَامِهَا عَلَى الشَّرْطِ مِنْ الْمَبْسُوطِ. (مَسْأَلَةٌ) : حَلَفَ إنْ لَمْ تَجِئْ صِهْرَتُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَامْرَأَتُهُ كَذَا، فَشَهِدَا أَنَّهُ حَلَفَ كَذَا وَلَمْ تَجِئْ صِهْرَتُهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَطَلُقَتْ امْرَأَتُهُ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا عَلَى النَّفْيِ صُورَةً عَلَى إثْبَاتِ الطَّلَاقِ حَقِيقَةً. وَالْعِبْرَةُ لِلْمَقَاصِدِ لَا الصُّوَرِ، كَمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَسْلَمَ وَاسْتَثْنَى، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ إثْبَاتِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ فِيهَا نَفْيٌ، إذْ غَرَضُهَا إثْبَاتُ إسْلَامِهِ اُنْظُرْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْأَصْلِ: الْوَارِثُ لَوْ كَانَ يَجِبُ بِغَيْرِهِ كَجَدٍّ وَجَدَّةٍ وَأَخٍ وَأُخْتٍ يُعْطَى شَيْئًا مَا، لَمْ يُبَرْهِنْ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَشْهَدَا أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ وَارِثًا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ إرْثَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ الْكَلَالَةِ وَهِيَ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، فَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ بِنَصٍّ مِنْ الشُّهُودِ، لَا يَرِثُ، وَلَوْ قَالَا: لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ تُقْبَلُ عِنْدَنَا لَا عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْبَابِ. احْتَجَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمَا جَازَا، فَإِذَا لَا طَرِيقَ لَهُمَا إلَى مَعْرِفَةِ نَفْيِ الْوَلَدِ وَلَنَا الْعُرْفُ، فَإِنَّ مُرَادَ النَّاسِ بِهِ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ قُبِلَتْ لِمَا مَرَّ أَنَّهَا تُقْبَلُ عَلَى الشَّرْطِ وَلَوْ كَانَ نَفْيًا، وَهَذَا كَذَلِكَ لِقِيَامِهَا عَلَى شَرْطِ الْإِرْثِ، وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ مَنْ لَا يُحْجَبُ بِأَحَدٍ، فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ وَارِثُهُ وَلَمْ يَقُولَا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، أَوْ لَا نَعْلَمُهُ، يَتَلَوَّمُ الْقَاضِي زَمَانًا رَجَاءَ أَنْ يَحْضُرَ وَارِثٌ آخَرُ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ يَقْضِي لَهُ بِجَمِيعِ الْإِرْثِ، وَلَا يُكْفَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ: يَعْنِي فِيمَا قَالَا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا نَعْلَمُهُ، وَفِيمَا قَالَا نَعْلَمُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَعِنْدَهُمَا يُكْفَلُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَمُدَّةُ التَّلَوُّمِ مُفَوَّضَةٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَقِيلَ حَوْلٌ، وَقِيلَ شَهْرٌ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَأَمَّا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لَوْ أَثْبَتَ الْوِرَاثَةَ بِبَيِّنَةٍ وَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُحْكَمُ لَهُمَا بِأَكْثَرِ النَّصِيبَيْنِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلزَّوْجَةِ الرُّبْعُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحْكَمُ لَهَا بِأَقَلِّ النَّصِيبَيْنِ، لَهُ الرُّبْعُ، وَلَهَا الثُّمْنُ. (فَرْعٌ) : لَوْ شُرِطَ عَلَى الظِّئْرِ الْإِرْضَاعُ بِنَفْسِهَا فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ لَهَا مَعَ يَمِينِهَا اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ بَرْهَنَ أَهْلُ الصَّبِيِّ عَلَى مَا ادَّعَوْا فَلَا أَجْرَ لَهَا. وَتَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَشْهَدَا أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَا بِلَبَنِ نَفْسِهَا. أَمَّا لَوْ اكْتَفَيَا بِقَوْلِهِمَا مَا أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ نَفْسِهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِقِيَامِهَا عَلَى النَّفْيِ مَقْصُودًا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ ثَمَّ دَخَلَ فِي ضِمْنِ الْإِثْبَاتِ، وَلَوْ بَرْهَنَا فَبَيِّنَةُ النَّظَرِ أَوْلَى. اُنْظُرْ الْمُحِيطَ. [الْبَابُ الْعِشْرُونَ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي تُوجِبُ حُكْمًا وَلَا تُوجِبُ الْحَقَّ الْمُدَّعَى بِهِ] فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي تُوجِبُ حُكْمًا وَلَا تُوجِبُ الْحَقَّ الْمُدَّعَى بِهِ (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَهِدَتْ الشُّهُودُ أَنَّهُ سَرَقَ بَعْدَ حِينٍ، ضَمِنَ الْمَالَ، وَلَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ التَّقَادُمَ يُؤَثِّرُ فِي الْقَطْعِ دُونَ الْمَالِ.

الباب الحادي والعشرون القضاء بالشهادة المجهولة والناقصة

مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَدْلٌ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ عَلَى الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَقَالَتْ لِي شَاهِدٌ حَاضِرٌ يَضَعُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ مَقْبُولٌ، وَأَمْرُ الْبُضْعِ يُحْتَاطُ فِيهِ فَيَحُولُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا وَلَكِنْ لَا تَجِبُ الْحَيْلُولَةُ. (مَسْأَلَةٌ) : شَاهِدُ عَدْلٍ وَامْرَأَتَانِ عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْيَمِينَ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ شَاهِدًا بِالطَّلَاقِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ حَلَفَ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِنْ نَكَلَ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ اُدُّعِيَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَجَاءُوا بِثَلَاثَةِ شُهَدَاءَ فَشَهِدُوا، فَهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ إذَا طَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا عِنْدَ عُمَرَ فَقَامَ الرَّابِعُ وَقَالَ: رَأَيْتُ أَقْدَامًا بَادِيَةً وَنَفَسًا عَالِيًا وَأَمْرًا مُنْكَرًا، وَلَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَفْضَحْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَدَّ الثَّلَاثَةَ. (فَرْعٌ) : لَوْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ وَإِنْ كَثُرُوا؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الشَّهَادَةِ فِي بَابِ الزِّنَا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَهَادَةً. وَإِنَّمَا يَنْتَفِي كَوْنُهُ قَذْفًا بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ شَهَادَتِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً مُتَعَذِّرٌ، فَجَعَلَ الشَّهَادَةَ مِنْهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَشَهَادَتِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُوجَدْ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا كَانُوا قُعُودًا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَجَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانُوا خَارِجِينَ مِنْ الْمَسْجِدِ ضُرِبُوا الْحَدَّ. [الْبَابُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ الْمَجْهُولَةِ وَالنَّاقِصَةِ] فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ الْمَجْهُولَةِ وَالنَّاقِصَةِ الَّتِي يُتِمُّهَا غَيْرُهُمْ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَهُ فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ حَلَفَ عَلَيْهِ وَبَرِئَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحْكَمُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا الْحَقُّ حَتَّى يُحْكَمَ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يُعَيِّنُوا شَيْئًا وَلَا حَدُّوهُ فَشَهَادَتُهُمْ مَجْهُولَةٌ لَا يُحْكَمُ بِهَا. وَلَوْ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ لَا نَعْرِفُ عَدَدَهَا فَهِيَ ثَلَاثَةٌ، وَكَذَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّ عَلَيْهِ دُرَيْهِمَاتٍ جُعِلَتْ ثَلَاثَةً ثُمَّ حَلَفَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ قَدْ بَيَّنُوا بِشَهَادَتِهِمْ شَيْئًا مَعْلُومًا وَهِيَ الدَّرَاهِمُ، وَيَحْلِفُ مَعَ شَهَادَتِهِمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. (فَرْعٌ) : لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ فِي وَصِيَّةٍ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ حَقًّا ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يُسَمِّ ذَلِكَ الْحَقَّ كَمْ هُوَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْوَرَثَةِ: كَمْ هُوَ حَقُّ هَذَا؟ إنْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ: كَمْ حَقُّكَ؟ فَإِنْ سَمَّاهُ، حَلَفَ عَلَيْهِ وَأُعْطِيهِ، وَإِنْ قَالَ لَا أَعْرِفُهُ وَهُوَ كَانَ أَحْفَظَ مِنِّي، قِيلَ لِلْوَرَثَةِ: لَا تَصِلُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمِيرَاثِ حَتَّى تَدْفَعُوا إلَى هَذَا حَقَّهُ مِنْهُ أَوْ تُقِرُّوا لَهُ بِمَا شِئْتُمْ، وَيَحْلِفُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ ثَبَتَ لَهُ أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إلَى حَقِّهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْمُحِيطِ: شُهُودُ الدَّارِ لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقْبَلُهَا الْقَاضِي، كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ فِي الْمَحْدُودِ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالْمَحْدُودِ يَقْبَلُ جَمِيعًا. وَكَمَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَلَمْ يَعْرِفُوا الرَّجُلَ بِعَيْنِهِ فَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ يَقْبَلُ جَمِيعًا وَيَجْعَلُ كَمَا لَوْ ثَبَتَ الْأَمْرَانِ بِشَهَادَةِ فَرِيقٍ وَاحِدٍ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي فِي أَيْدِي بَنِي فُلَانٍ وَيَذْكُرُ الْمُدَّعِي حُدُودَهَا الْأَرْبَعَةَ مَلَكَ الْمُدَّعِي

الباب الثاني والعشرون القضاء بشهادة غير العدول للضرورة

بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَكِنَّا لَا نَعْرِفُ حُدُودَهَا وَلَا نَقِفُ عَلَيْهَا، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِحُدُودِ الدَّارِ الْمُدَّعَى بِهَا لَا تُقْبَلُ وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ تُقْبَلُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. اُنْظُرْ الْقِنْيَةَ وَالْخُلَاصَةَ. [الْبَابُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ لِلضَّرُورَةِ] فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْمَعْدُولِ لِلضَّرُورَةِ. حَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ إذَا شَهِدُوا فِي حَقٍّ لِامْرَأَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَدْلٌ، أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْهُمْ وَيَقْضِي بِشَهَادَتِهِمْ. (فَرْعٌ) : وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ الْقُرَى الْبَعِيدَةِ مِنْ الْمُدُنِ عَلَى الثَّلَاثِينَ مِيلًا وَالْأَرْبَعِينَ وَفِيهَا الثَّلَاثُونَ رَجُلًا، وَالْأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَقَلُّ، وَلَيْسَ فِيهِمْ عَدْلٌ مَشْهُورٌ بِعَدَالَةٍ، وَفِيهِمْ مُؤَذِّنُونَ وَأَئِمَّةٌ وَقَوْمٌ مَوْسُومُونَ بِخَيْرٍ غَيْرَ أَنَّ الْقُضَاةَ لَا يَعْرِفُونَهُمْ بِعَدَالَةٍ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَعْرِفُهُمْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ فِي الْأَمْلَاكِ وَالدُّيُونِ وَالْمُهُورِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يُخَالِفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، هَلْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ وَيُقْضَى بِهَا؟ أَوْ يُتْرَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَكَتَبَ فِي الْجَوَابِ لِكُلِّ قَوْمٍ عُدُولُهُمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَاضِي لَهُمْ بِنَفْسِهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ التَّوَسُّمَ فِيهِمْ. (فَرْعٌ) : وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَ كِتَابَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ رَجُلَانِ فَيَشْهَدَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا الْقَاضِي عِنْدَهُ بِخَيْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا بَيِّنًا أَوْ زَكَّى أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُزَكِّ الْآخَرَ أَوْ تَوَسَّمْ فِيهِمَا الصَّلَاحَ وَكَانَ الْخَطُّ وَالْخَتْمُ مَشْهُورَيْنِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ إجَازَةَ مِثْلِ هَذَا لِتَعَذُّرِ الْعُدُولِ، وَلِمَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي صَدْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ إجَازَةِ الْخَوَاتِمِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي بَابِ السِّيَاسَةِ: نَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّا إذَا لَمْ نَجْدِ فِي جِهَةٍ إلَّا غَيْرَ الْعُدُولِ أَقَمْنَا أَصْلَحَهُمْ وَأَقَلَّهُمْ فُجُورًا لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لِئَلَّا تُضَيَّعَ الْمَصَالِحُ. قَالَ: وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يُخَالِفُ فِي هَذَا، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ شَرْطٌ فِي الْإِمْكَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ لِلضَّرُورَةِ لِئَلَّا تُهْدَرَ الْأَمْوَالُ وَتُضَيَّعَ الْحُقُوقُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِذَا كَانَ النَّاسُ فُسَّاقًا إلَّا الْقَلِيلَ النَّادِرَ قُبِلَتْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ مِنْ الْفُسَّاقِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَإِنْ أَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ وَنُفُوذِ أَحْكَامِهِ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى صِحَّةِ كَوْنِ الْفَاسِقِ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ وَوَصِيًّا فِي الْمَالِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْفَاسِقِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَحُكِمَ بِهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ مُطْلَقًا بَلْ يَتَثَبَّتُ فِيهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ فَيَعْمَلُ عَلَى مَا تَبَيَّنَ وَفِسْقُهُ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِرَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مَأْخَذَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْوُثُوقِ بِهِ وَأَنَّهُ يُحَمِّلُهُ قِلَّةَ مُبَالَاتِهِ بِدِينِهِ وَنُقْصَانَ وَقَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ. الثَّانِي هَجْرُهُ عَلَى إعْلَانِهِ بِفِسْقِهِ وَمُجَاهَرَتُهُ بِهِ، فَقَبُولُ شَهَادَتِهِ فِيهَا إبْطَالٌ لِهَذَا الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، فَإِذَا عَلِمَ صِدْقَ لَهْجَتِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَنَّ فِسْقَهُ بِغَيْرِ الْكَذِبِ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ. وَقَدْ اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَادِيًا يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا وَثِقَ بِقَوْلِهِ أَمِنَهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ رَاحِلَتَهُ وَقَبِلَ دَلَالَتَهُ. وَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ: إذَا شَهِدَ الْفَاسِقُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6]

الباب الثالث والعشرون في كتاب القاضي إلى القاضي

الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَدَارَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَرَدِّهَا عَلَى غَلَبَةِ الصِّدْقِ وَعَدَمِهِ قَالَ: وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ الْعَدَالَةَ تَتَبَعَّضُ، فَيَكُونُ الرَّجُلُ عَدْلًا فِي شَيْءٍ فَاسِقًا فِي شَيْءٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ عَدْلٌ فَبِمَا شَهِدَ بِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ فِسْقُهُ فِي غَيْرِهِ، وَأَصْلُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي الْمُحِيطِ وَالْقِنْيَةِ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ يَشْرَبُ سِرًّا وَهُوَ ذُو مُرُوءَةٍ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَتَهُ. [الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي] إذَا تَقَدَّمَ رَجُلٌ إلَى الْقَاضِي فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ بَيِّنَتَهُ عَلَى حَقِّ عَلَى رَجُلٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ؛ لِيَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَالْقَاضِي يَسْمَعُ مِنْ شُهُودِهِ عَلَى حَقِّهِ الَّذِي يُدَّعَى؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَةٌ إلَى هَذَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ وَالشُّهُودِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَانَ فِيهِ حَاجَةٌ مَاسَةٌ إلَى تَجْوِيزِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَجُعِلَتْ حُجَّةً لِمِسَاسِ الْحَاجَةِ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: الْقَاضِي يَكْتُبُ عِنْدَ شَطْرِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ أَقَامَ رَجُلٌ عِنْدَ الْقَاضِي شَاهِدًا وَاحِدًا بِحَقٍّ لَهُ قَبْلَ رَجُلٍ، أَوْ شَهِدَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَوْ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ فَالْقَاضِي يَكْتُبُ لَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي إنَّمَا يَكْتُبُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ تَعَذُّرُ الْجَمْعِ بَيْنَ خَصْمِهِ وَشُهُودِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا إذَا وُجِدَ شَطْرُ الشَّهَادَةِ أَوْ نِصْفُ الشَّطْرِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا يَكُونُ بَعْضُ شُهُودِهِ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَبَعْضُهُمْ فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ فَيَجُوزُ الْكِتَابُ كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ. [فَصْلٌ عَلِمَ الْقَاضِي بِإِقْرَارِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ] (فَصْلٌ) : وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَلِمَ شَيْئًا مِنْ إقْرَارِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ بِحَقٍّ مَا، خَلَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، فَسَأَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِذَلِكَ إلَى قَاضِي بَلَدٍ آخَرَ، وَالْمَطْلُوبُ هُنَاكَ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ. قِيلَ إنْ كَانَ عَلِمَ بِهِ حَالَةَ الْقَضَاءِ يَكْتُبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِهَذَا الْعِلْمِ فَلَأَنْ يُمْكِنَهُ الْكِتَابُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ عَلِمَ قَبْلَ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكْتُبُ كَمَا لَا يَقْضِي، وَعِنْدَهُمَا يَكْتُبُ كَمَا يَقْضِي. وَقِيلَ الْقَاضِي يَكْتُبُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَفَرَّقُوا لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْكِتَابِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ. [فَصْلٌ أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إلَى قَاضٍ آخَرَ] (فَصْلٌ) : وَإِذَا أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَكْتُبُ فِي الْكِتَابِ اسْمَ الْمُدَّعِي وَاسْمَ أَبِيهِ وَاسْمَ جَدِّهِ وَحِلْيَتَهُ وَيَنْسُبُهُ إلَى قَبِيلَتِهِ وَفَخْذِهِ أَوْ صِنَاعَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْعَرَبِ، وَيَكْتُبُ اسْمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَقَعُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ رَجُلَانِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَاسْمَ جَدِّهِ وَتَرَكَ مَا سِوَى ذَلِكَ كَفَاءَةً، وَإِنْ نَسَبَهُ إلَى فَخْذِهِ أَوْ إلَى تِجَارَةٍ أَوْ إلَى صِنَاعَةٍ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي التَّعْرِيفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لَازِمًا. وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ جَدِّهِ أَوْ نَسَبَهُ إلَى قَبِيلَتِهِ، أَوْ إلَى صِنَاعَتِهِ وَتَرَكَ اسْمَ الْجَدِّ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ، وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ، فَإِنْ كَانَ فِي الْفَخْذِ رَجُلَانِ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ وَالتِّجَارَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَمْ يَحْصُلْ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمْ تَنْقَطِعْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةَ أَنَّ فِي الْقَبِيلَةِ رَجُلًا آخَرَ بِهَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ. فَإِنْ كَانَ حَيًّا لَا يُقْضَى؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا يُنْظَرُ، إنْ كَانَ مَيِّتًا قَبْلَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَكِتَابِ الْقَاضِي صَحَّ الْكِتَابُ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِهَذَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ اسْمَ فُلَانٍ مُطْلَقًا، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ، فَكَأَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي الشَّهَادَةِ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْحَيَّ فَتَعَيَّنَ الْحَيُّ

فصل شرائط قبول كتاب القاضي إلي القاضي

مَطْلُوبًا، وَإِنْ كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْكِتَابَةِ ثُمَّ مَاتَ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّعَرُّفَ لَمْ يَقَعْ لَمَّا كَانَا حَيَّيْنِ وَقْتَ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُهُمَا فَيَبْقَى الِاشْتِبَاهُ. (فَرْعٌ) : ثُمَّ إنْ شَاءَ كَتَبَ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَهُ وَأَنْسَابَهُمْ وَحِلَّاهُمْ وَمَوَاضِعَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ شَهِدَ عِنْدِي بِذَلِكَ شُهُودٌ عُدُولٌ قَدْ عَرَفْتَهُمْ وَأَثْبَتَ مَعْرِفَتَهُمْ، كَمَا فِي الْقَاضِي إذَا كَتَبَ السِّجِلَّ إنْ شَاءَ أَظْهَرَ فِيهِ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ وَأَنْسَابَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَخْفَى وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ عُدُولٍ، كَذَا هَذَا. ثُمَّ إذَا كَتَبَ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ كَتَبَ فِيهِ عَدَالَتَهُمْ إنْ عَرَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ، وَإِلَّا سَأَلَ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ الْقَاضِي عَدَالَةَ الشُّهُودِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ مَتَى وَصَلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ يَتَفَحَّصُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي بِحَقٍّ، فَمَتَى ظَهَرَتْ الْعَدَالَةُ حِينَئِذٍ يَقْضِي. (مَسْأَلَةٌ) : وَإِذَا كَتَبَ الْكِتَابَ يَقْرَأُ كِتَابَهُ عَلَى الشُّهُودِ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا فِي الْكِتَابِ لِلشُّهُودِ شَرْطٌ عِنْدَهُمَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَخْتِمُ الْكِتَابَ بِحَضْرَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْتِمْ بِحَضْرَتِهِمْ يُتَوَهَّمُ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ وَيُشْهِدُهُمْ أَنَّ هَذَا كِتَابٌ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْقَاضِي بِبَلَدِ كَذَا وَهَذَا خَاتَمُهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَشْتَبِهَ عَلَى الشُّهُودِ حَالَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ قَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَيَّ الْقَاضِي] (فَصْلٌ) : شَرَائِطُ قَبُولِهِ أَشْيَاءُ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي عِنْدَ عُلَمَائِنَا خِلَافًا لِلشَّعْبِيِّ، بِخِلَافِ كِتَابِ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا جَاءَ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي، وَرَسُولِ الْمُزَكِّي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَقَعُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ لَا بِالتَّزْكِيَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ أَوْ يُخْبِرَهُمْ بِمَا فِيهِ، حَتَّى لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي وَخَاتَمُهُ وَلَمْ يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَلُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتِمَ الْكِتَابَ بِحَضْرَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَخْتُومٍ لَا يُقْبَلُ. وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْبَلُ، وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ لَوْ انْكَسَرَ خَاتَمُ الْقَاضِي الَّذِي عَلَى الْكِتَابِ يَقْبَلُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ النَّاسُ. الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ عُنْوَانٌ بِأَنْ كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي بَلَدِ كَذَا، حَتَّى لَوْ كَتَبَ اسْمَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لَا غَيْرُ، أَوْ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ لَا غَيْرُ، أَوْ كَتَبَ هَذَا مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إلَى مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ لَا يَصِحُّ الْكِتَابُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. وَلَوْ كَتَبَ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إلَى قَاضِي بَلَدِ كَذَا فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَإِلَى كُلِّ مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ كِتَابِي هَذَا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْكِتَابِ اسْمُ الْقَاضِي، الْكَاتِبُ وَالْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، وَاسْمُ أَبِيهِمَا عَلَى عُنْوَانِ الْكِتَابِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكْتُبْ دَاخِلَ الْكِتَابِ الْأَسْمَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى عُنْوَانِهِ لَمْ يَقْبَلْهُ عِنْدَهُمَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ. [فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِالْكِتَابِ] (فَصْلٌ) : وَإِذَا جَاءَ الْقَاضِيَ كِتَابُ قَاضٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الَّذِي جَاءَ بِالْكِتَابِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ ثُمَّ سَأَلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ بَيِّنَةَ أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ سَأَلَهُمْ: هَلْ قَرَأَهُ عَلَيْكُمْ وَخَتَمَهُ بِحَضْرَتِكُمْ؟ فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ قَبِلَهُ، وَلَا يَقْبَلُ الْكِتَابُ إلَّا بِمَحْضَرِ خَصْمِهِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا يَفْتَحُهُ إلَّا بِمَحْضَرِ الْخَصْمِ. وَإِنْ فَتَحَ بِغَيْرِ مَحْضَرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَقَعُ بِالشَّهَادَةِ أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي فُلَانٍ فِيمَا فِيهِ لَا بِالْفَتْحِ، لَكِنَّ الْفَتْحَ سَبَبٌ لِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ يَخْتِمُهُ وَيَكْتُبُ عَلَيْهِ اسْمَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ صَارَ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ السِّجِلَّاتِ وَالْمَحَاضِرِ.

فصل مات القاضي الكاتب أو عزل قبل أن يصل الكتاب

[فَصْلٌ مَاتَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْكِتَابُ] فَصْلٌ) : لَوْ مَاتَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْكِتَابُ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَوْ بَعْدَ الْوُصُولِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَقْضِ بِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي: يَقْضِي بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَلَوْ وَصَلَ إلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قُضِيَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ عَمِيَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ أَوْ فَسَقَ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ صَارَ فِي حَالٍ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ بَعْدَ وُصُولِ الْكِتَابِ إلَيْهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهِ لَا يُنْفِذُهُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْفِذُهُ [فَصْلٌ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي وَفِيمَا لَا يُقْبَلُ] (فَصْلٌ) : فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي وَفِيمَا لَا يُقْبَلُ. لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي لَمَّا قَامَ مَقَامَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ أَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ لَا تُوجَدُ فِي شَهَادَةِ الْأَمْوَالِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ هَلْ أَخَذُوا مِنْ الْأُصُولِ أَمْ لَا؟ فَأَشْبَهَتْ شَهَادَةَ النِّسَاءِ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَكَذَا هَذِهِ. وَكَذَا لَا يُقْبَلُ كِتَابُهُ فِي الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْبَلُ فِي الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي وَالدَّوَابِّ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ. قُلْنَا: الْحَاجَةُ إنَّمَا يَجِبُ دَفْعُهَا إذَا أَمْكَنَ، وَلَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَهَا لَا يَحْصُلُ بِالْوَصْفِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْوَصْفِ يَبْقَى بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ، وَفِيمَا لَا يُضْبَطُ بِالْوَصْفِ يُشْتَرَطُ إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ؛ لِتَقَعَ الشَّهَادَةُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ، وَكَذَا الدَّعْوَى، وَيُقْبَلُ فِيمَا لَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ كَالدُّيُونِ وَالْعَقَارِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ يَتَعَرَّفُ بِذِكْرِ حُدُودِهِ، وَالدَّيْنَ بِذِكْرِ قَدْرِهِ وَوَصْفِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِمَا ظَهَرَ فِي زَمَانِهِ مِنْ خِيَانَةِ الْقُضَاةِ. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ إلَّا الْعَقَارِ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْعَقَارِ وَالدُّيُونِ إذَا كَانَ مِنْ قَاضِي مِصْرَ إلَى قَاضِي رُسْتَاقٍ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ قَاضِي رُسْتَاقٍ أَوْ قَرْيَةٍ إلَى قَاضِي مِصْرٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْقَضَاءِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ يَخْتَصُّ بِهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ مَكَانٌ تُقَامُ فِيهِ الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ. [صُورَةُ الْكِتَابِ فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ] أَنَّهُ إذْ أَقَامَ مَوْلَاهُ بَيِّنَةً عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي مِصْرٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَبْدٌ فَأَبَقَ وَقَدْ أَخَذَهُ فُلَانٌ كَتَبَ لَهُ الْقَاضِي كِتَابًا إلَى قَاضِي الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ الْأَخْذُ، أَنَّهُمْ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ مُبَارَكَ الْهِنْدِيَّ حِلْيَتُهُ كَذَا وَقَامَتُهُ كَذَا مِلْكُهُ، وَأَنَّهُ أَبَقَ مِنْهُ، فَإِذَا وَرَدَ هَذَا الْكِتَابُ عَلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَحْضَرَ الْعَبْدَ مَعَ الَّذِي فِي يَدِهِ ثُمَّ فَكَّ الْكِتَابَ فَنَظَرَ فِي الْغُلَامِ وَالْكِتَابِ، فَإِنْ وَافَقَ حِلْيَةُ الْغُلَامِ مَا فِي الْكِتَابِ خَتَمَ ذَلِكَ وَيَجْعَلُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ مِنْ رَصَاصٍ حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ أَحَدٌ بِدَعْوَى السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا، وَيَقَعُ الْأَمْنُ مِنْ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا وَيَدْفَعُ إلَيْهِ الْعَبْدَ فَيَذْهَبُ إلَى حَاكِمِ مِصْرٍ، فَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ أَنَّهُ عَبْدٌ قُضِيَ بِهِ لَهُ وَكَتَبَ إلَى ذَلِكَ الْحَاكِمِ لِيُبْرِئَ كَفِيلَهُ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي فِي نَسَبِ الِابْنِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَهُمَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَصُورَتُهُ: رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ادَّعَيَا ابْنًا أَوْ بِنْتًا وَقَالَا هُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنَّا وَهُوَ فِي يَدِ فُلَانِ بْنِ فُلَانِ الْفُلَانِيِّ فِي بَلَدِ كَذَا، سَرَقَهُ فُلَانٌ، يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْخُذُ كِتَابًا بِذَلِكَ إلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لَا يَكْتُبُ لَهُمَا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ، وَكَذَا الزَّوْجُ يَدَّعِي عَلَى الْمَرْأَةِ، فَعَلَى هَذَا فَرَّقَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَى لَك النَّسَبَ عَلَى الْأَبِ بِأَنْ قَالَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَبِي، وَهُوَ فِي بَلَدِ كَذَا وَهُوَ يَدْفَعُ نَسَبِي، وَلِي بَيِّنَةٌ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ لِي أَنِّي ابْنُهُ أَوْ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمِّي وَأَنِّي وُلِدْتُ مِنْهُ عَلَى فِرَاشِهِ، فَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ وَسَأَلَ كَاتِبَهُ يُكْتَبُ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ هَذَا مَحِلًّا لِلْفَرْقِ. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ قَالَ لِلْقَاضِي: كَانَ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا وَقَدْ دَفَعَهَا إلَيْهِ أَوْ أَبْرَأَنِي

الباب الرابع والعشرون القضاء بمشافهة القاضي للقاضي

مِنْهَا أَوْ وَهَبَهَا لِي وَهُوَ مِنْ بَلَدِ كَذَا، فَأَخَافُ أَنْ يَصِيرَ إلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ فَيَأْخُذَ لِي بِهَذَا الْمَالِ وَلِي شُهُودٌ هَاهُنَا فَاسْمَعْ مِنْهُمْ وَاكْتُبْ لِي إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مِنْ شُهُودِهِ وَلَا يَكْتُبُ لَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكْتُبُ لَهُ، وَلَوْ قَالَ يَجْحَدُنِي الِاسْتِيفَاءَ وَيُخَاصِمُنِي مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْحَقَّ مِنِّي مَرَّتَيْنِ، وَأَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوَفَاءِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ شُهُودِهِ وَيَكْتُبُ لَهُ. الْكُلُّ مِنْ الْمُحِيطِ وَشَرْحِ التَّجْرِيدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْقَضَاءِ بِمُشَافَهَةِ الْقَاضِي لِلْقَاضِي] فِي الْقَضَاءِ بِمُشَافَهَةِ الْقَاضِي لِلْقَاضِي. رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: فِي مِصْرٍ قَاضِيَانِ، فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْهُ قَاضٍ، فَكَتَبَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ كِتَابًا يَقْبَلُ كِتَابَهُ، وَلَوْ أَتَى أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فَأَخْبَرَهُ بِالْحَادِثَةِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ جُعِلَ كَأَنَّ الْكَاتِبَ خَاطَبَهُ فِي مَوْضِعِ الْقَضَاءِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي كَأَنَّهُ خَاطَبَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ أَنَّ قَاضِيَيْنِ الْتَقَيَا فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا أَوْ فِي مِصْرٍ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِمَا فَقَالَ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا وَكَذَا عَلَى فُلَانٍ فَاعْمَلْ بِهِ، لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْفِذْهُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ أَوْ السَّمَاعَ وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاؤُهُ فَصَارَ كَخِطَابِ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ كَسَمَاعِهِ وَهُوَ غَيْرُ قَاضٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي قَضَائِهِ، بِخِلَافِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ خِطَابَ الْكَاتِبِ إنَّمَا وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاؤُهُ وَيَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاؤُهُ أَيْضًا، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي يُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ لِهَذَا النَّقْلِ حُكْمَ الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا النَّقْلُ إلَّا مِنْ الْقَاضِي، وَوَجَبَ هَذَا النَّقْلُ عَلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ يَكُونُ قَضَاءً، وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ مِنْ الْقَاضِيَيْنِ مِنْ مِصْرٍ وَاحِدٍ. [الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ الْقَضَاءِ بِعِلْمِ الْقَاضِي وَنُفُوذِ قَوْلِهِ] فِي الْقَضَاءِ بِعِلْمِ الْقَاضِي وَنُفُوذِ قَوْلِهِ. الْقَاضِي إذَا عَلِمَ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ سَمَاعِ الْإِقْرَارِ أَوْ مُشَاهَدَةِ الْأَقْوَالِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُقُوقِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ يُسَاوِي الْقَاضِيَ، ثُمَّ غَيْرُ الْقَاضِي إذَا عَلِمَ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْحَدِّ، فَكَذَا الْقَاضِي إلَّا فِي السَّكْرَانِ فَإِنَّهُ إذَا وَجَدَ سَكْرَانَ أَوْ وَجَدَ رَجُلًا بِهِ أَمَارَاتُ السُّكْرِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حَدًّا. وَمِنْ لَطَائِفِ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ قُضَاةِ الْعَدْلِ، قَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَاضِي: وَكُنَّا مَعَهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ فِي مَوْكِبٍ حَافِلٍ مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ، إذْ عَرَضَ لَنَا فَتًى شَابٌّ قَدْ خَرَجَ مِنْ بَعْضِ الْأَزِقَّةِ يَتَمَايَلُ سُكْرًا، فَلَمَّا رَأَى الْقَاضِيَ هَابَهُ وَأَرَادَ الِانْصِرَافَ فَخَانَتْهُ رِجْلَاهُ فَاسْتَنَدَ إلَى الْحَائِطِ وَأَطْرَقَ، فَلَمَّا قَرُبَ الْقَاضِيَ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: أَلَا أَيُّهَا الْقَاضِي الَّذِي عَمَّ عَدْلُهُ ... فَأَضْحَى بِهِ فِي الْعَالَمِينَ فَرِيدَا قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ تِسْعِينَ مَرَّةً ... فَلَمْ أَرَ فِيهِ لِلشَّارِبِينَ حُدُودًا فَإِنْ شِئْت أَنْ تَجْلِدَ فَدُونَكَ مَنْكِبًا ... صَبُورًا عَلَى رِيَبِ الزَّمَانِ جَلِيدَا وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْفُوَ تَكُنْ لَكَ مِنَّةٌ ... تَرُوحُ بِهَا فِي الْعَالَمِينَ حَمِيدَا وَإِنْ كُنْتَ مُخْتَارَ الْحَدِّ فَإِنَّ لِي ... لِسَانًا عَلَى هَجْوِ الزَّمَانِ حَدِيدَا

الباب السادس والعشرون القضاء بالصلح بين الخصمين

فَلَمَّا سَمِعَ الْقَاضِي شِعْرَهُ وَتَبَيَّنَ أَدَبَهُ أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَرَكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ وَمَضَى لِشَأْنِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْأَقْضِيَةِ الْقَاضِي يَقْضِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِعِلْمِهِ بِأَنْ عَلِمَ فِي حَالِ قَضَائِهِ فِي مِصْرِهِ أَنَّ فُلَانًا غَصَبَ مَالَ فُلَانٍ أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ. وَفِي التَّجْرِيدِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْحُدُودِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا مِنْ الْخُلَاصَةِ. وَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ وَالْحُقُوقِ الْمُرَكَّبَةِ نَحْوَ حَدِّ الْقَذْفِ. وَهُنَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ يَقْضِي بِعِلْمِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مَا إذَا عَلِمَ بَعْدَ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ قَاضٍ فِيهِ. وَفِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَهُوَ: مَا إذَا عَلِمَ قَبْلَ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ، أَوْ بَعْدَ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ لَكِنْ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ قَاضٍ فِيهِ، أَوْ عَلِمَ فِي حَالَةِ الْقَضَاءِ ثُمَّ عُزِلَ ثُمَّ أُعِيدَ إلَى الْقَضَاءِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْضِي بِذَلِكَ الْعِلْمِ، وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ يَقْضِي. (فَرْعٌ) : ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ: لَوْ خَرَجَ الْقَاضِي مِنْ الْمِصْرِ لِتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ أَوْ خَرَجَ إلَى ضَيْعَتِهِ فَعَلِمَ بِسَبَبِ الْحَقِّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. قِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُقَلَّدًا عَلَى الْقُرَى لَا يَقْضِي بِذَلِكَ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ مُقَلَّدًا عَلَى الْقُرَى يَقْضِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَالِيَ إذَا قَلَّدَ رَجُلًا قَضَاءَ كُورَةِ كَذَا، لَا يَصِيرُ قَاضِيًا فِي سَوَادِ تِلْكَ الْكُورَةِ مَا لَمْ يُقَلَّدْ قَضَاءَ تِلْكَ الْكُورَةِ وَنَوَاحِيهَا. وَقِيلَ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ مُقَلَّدًا عَلَى الْقُرَى. (مَسْأَلَةٌ) : الْقَاضِي هَلْ يَعْمَلُ بِمَا يَجِدُ فِي دِيوَانِهِ؟ إنْ كَانَ ذَاكِرًا لِتِلْكَ الْحَادِثَةِ يَقْضِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لَا يَقْضِي، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي. وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِمَا يَجِدُ فِي دِيوَانِ قَاضٍ قَبْلَهُ وَإِنْ كَانَ مَخْتُومًا مِنْ الْخُلَاصَةِ (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ دَفَعَ الْقَاضِي مَالَ الْيَتِيمِ إلَى آخَرَ فَجَحَدَهُ قَضَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ. وَلِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إذَا أَعْلَمَهُ حَالَةَ الْقَضَاءِ. وَلَوْ بَاعَ الْقَاضِي مَالًا لِمَيِّتٍ فَعُهْدَتُهُ عَلَى الَّذِي بَاعَ لَهُ. وَلَوْ جَحَدَ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُ أَوْ بَاعَ قَضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ لَمَّا لَمْ تَرْجِعْ عَلَيْهِ صَارَ كَالْمُعِيرِ لِمَالِهِ. مِنْ الْمُحِيطِ. [الْبَابُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ الْقَضَاءِ بِالصُّلْحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ] فِي الْقَضَاءِ بِالصُّلْحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ. الصُّلْحُ مَشْرُوعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] ، وَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» أَيْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى خَمْرٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ أَحَلَّ حَرَامًا، وَكَذَا لَوْ صَالَحَ عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَسْتَخْدِمَهُ فَهَذَا صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا فَكَانَ مَرْدُودًا؛ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ سَبَبٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ وَقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُشَاجَرَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ مَتَى امْتَدَّتْ أَدَّتْ إلَى الْفَسَادِ فَكَانَ الصُّلْحُ دَفْعًا لِسَبَبِ الْفَسَادِ، وَإِطْفَاءً لِثَائِرَةِ الْفِتَنِ وَالْعِنَادِ، وَشَقِيقًا لِسَبَبِ الْإِصْلَاحِ وَالسَّدَادِ، وَهُوَ الْأُلْفَةُ وَالْمُوَافَقَةُ فَكَانَ حَسَنًا مَنْدُوبًا إلَيْهِ شَرْعًا، وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ. وَشَرَائِطُ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا إنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ بِأَنْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَمَتَى كَانَ الْبَدَلُ مَجْهُولًا تَقَعْ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَأَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ الْمُصَالَحُ عَنْهُ حَقًّا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَالًا، كَالْقِصَاصِ مَعْلُومًا كَانَ أَوْ مَجْهُولًا، وَأَنْ لَا يَجُوزَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ، وَحُكْمُهُ وُقُوعُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمُصَالَحِ عَنْهُ

فصل الصلح أنواع ثلاثة

إنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ كَالْمَالِ، وَوُقُوعُ الْبَرَاءَةِ عَنْهُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ كَالْقِصَاصِ، هَذَا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَفِي الصُّلْحِ عَلَى إنْكَارِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلِ وَوُقُوعِ الْبَرَاءَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الدَّعْوَى، سَوَاءٌ كَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَالًا، وَإِذَا خَشَى الْقَاضِي مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ سَوَّاهُ بَيْنَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رُدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ الضَّغَائِنَ. (تَنْبِيهٌ) : وَلَا يَأْمُرُ بِالصُّلْحِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصُّلْحِ لِأَحَدِهَا رَجَاءَ أَنْ لَا يَصْطَلِحَا، إلَّا أَنْ يَرَى لِذَلِكَ وَجْهًا، مِثْلَ أَنْ يَرَى الْحُكْمَ يُوقِعُ فِتْنَةً وَتَهَارَجَا (فَرْعٌ) : قَالَ: وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْدُبَ إلَى الصُّلْحِ إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحُكْمِ، فَإِنْ أَبَيَا أَوْ أَبَى أَحَدُهُمَا لَمْ يُلِحَّ عَلَيْهِمَا إلْحَاحًا يُشْبِهُ الْإِلْجَاءَ، بَلْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالْوَاجِبِ أَوْ يَتْرُكُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ بِالصُّلْحِ إذَا تَقَارَبَتْ الْحُجَّتَانِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ تَكُونُ الدَّعْوَى فِي أُمُورٍ دُرِسَتْ وَتَقَادَمَتْ وَتَشَابَهَتْ، وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي الظَّالِمُ مِنْ الْمَظْلُومِ لَمْ يَسَعْهُ مِنْ اللَّهِ إلَّا فَصْلُ الْقَضَاءِ. [فَصْلٌ الصُّلْحُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ] (فَصْلٌ) : فِي مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِهِ وَفِي الْأَصْلِ: الصُّلْحُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: صُلْحٌ مَعَ الْإِنْكَارِ، وَصُلْحٌ مَعَ الْإِقْرَارِ، وَصُلْحٌ مَعَ السُّكُوتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، لَكِنَّ مَعْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُشَاجَرَةِ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا خُصُومَةٌ وَمُنَازَعَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطٌ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ عَنْ طَوْعٍ وَرَغْبَةٍ، وَفِي الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ لَوْ أَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِالدَّيْنِ بَعْدَ قَبْضِ مَالِ الصُّلْحِ لَيْسَ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَفِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أُجَوِّزُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الصُّلْحِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْخُصُومَةِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ صُلْحَ الْفُضُولِيِّ جَائِزٌ بِأَنْ قَالَ أَجْنَبِيٌّ لِلْمُدَّعِي إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ مَعِي فِي السِّرِّ وَأَنْتَ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاكَ فَصَالِحْنِي عَلَى كَذَا، فَضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ فَصَالَحَهُ صَحَّ. وَصُورَةُ ضَمَانِ الْفُضُولِيِّ بِأَنْ يَقُولَ الْفُضُولِيُّ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْ فُلَانًا مِنْ دَعْوَاكَ عَلَيْهِ عَلَى كَذَا عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ بِهِ، أَوْ عَلَيَّ كَذَا مِنْ مَالِي، أَوْ قَالَ: صَالِحْنِي مِنْ دَعْوَاكَ هَذِهِ عَلَى فُلَانٍ، وَأَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى مَالِهِ نَفَذَ الصُّلْحُ، وَالْبَدَلُ عَلَى الضَّامِنِ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَيَرْجِعُ بِمَا ادَّعَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ بِأَمْرِهِ، وَالْأَمْرُ بِالصُّلْحِ وَالْخُلْعِ أَمْرٌ بِالضَّمَانِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي شَرْحِ الشَّافِي، رَجُلٌ ادَّعَى دَارًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَصَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ تِلْكَ الدَّارِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً فَأَقَامَهَا يَأْخُذُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ. وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ، وَفِي النِّصَابِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنْ الْعَيْنِ لَا يَصِحُّ، وَذَكَرَ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي نُسْخَتِهِ أَنَّ هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ، أَمَّا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، لَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْبَاقِي وَلَا يَأْخُذُهَا، وَقَدْ ذَكَرَ وَجْهَ كِلَا الْقَوْلَيْنِ فِي الْخِزَانَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ: رَجُلٌ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَصَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ صَحَّ الصُّلْحُ وَبَرِيءَ الْأَصِيلُ وَالْكَفِيلُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى. وَفِي الْأَصْلِ الْكَفِيلُ إذَا صَالَحَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يُبْرِئَهُ عَنْهَا لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَالِ فَبَطَلَ وَلَمْ يَبْرَأْ، وَلَوْ أَدَّاهُ يَرْجِعُ فِيهِ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ عَلَى كَذَا فَلِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا قَضَاهُ اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ.

فصل فيما يمنع جواز الصلح وما لا يمنع

مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الْخُجَنْدِيُّ: الصُّلْحُ بَعْدَ الْحَلِفِ لَا يَصِحُّ، وَفِي الْأَسْرَارِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَهَكَذَا فِي نُكَتِ الشِّيرَازِيِّ وَقِيلَ يَصِحُّ. وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَصِحُّ. وَوَجْهُ عَدَمِ الصِّحَّةِ أَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ عَنْ الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْبَدَلَ فَلَا يَصِحُّ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَرَأَيْتُ بِخَطِّ عَلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْحَمَّامِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ادَّعَى عَلَى آخَرَ حَقَّ التَّعْزِيرِ أَوْ حَدَّ الْقَذْفِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَتَوَجَّهَتْ إلَيْهِ الْيَمِينُ فَافْتَدَى يَمِينَهُ بِمَالٍ، قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، فَقِيلَ يَحِلُّ لِلْآخِذِ ذَلِكَ، وَقِيلَ لَا يَحِلُّ قُلْت: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ فِي دَعْوَى حَقِّ التَّعْزِيرِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَلَكِنْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا فَبَقِيَ دَلِيلًا فِي حَقِّ التَّعْزِيرِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ. (تَنْبِيهٌ) : قِيلَ يَسْتَحْلِفُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنْ نَكَلَ قِيلَ يُحَدُّ، وَقِيلَ يُعَزَّرُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ الْأَصَحُّ وَذَكَرَ أَيْضًا: يَجُوزُ افْتِدَاءُ الْيَمِينِ عَنْ دَعْوَى التَّعْزِيرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَكَذَا لَوْ صَالَحَ. (مَسْأَلَةٌ) : عَنْ عَطَاءِ بْنِ حَمْزَةَ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى دَعْوَى فَاسِدَةٍ لَا يَصِحُّ، وَلَا بُدَّ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ مِنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى، وَفَسَادُ الدَّعْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا لِمَعْنًى فِي الْمُدَّعِي، أَوْ فِي الْمُدَّعِي عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ أَصْلًا كَالْمُنَاقَضَةِ فِيهِ وَنَحْوِهَا. وَإِمَّا لِتَرْكِ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ شَيْئًا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَيُعِيدُهَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، كَدَعْوَى الْمَنْقُولِ قَبْلَ إحْضَارِهِ وَدَعْوَى الْعَقَارِ إذَا لَمْ يَذْكُرْ حُدُودَهُ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ إذَا كَانَ فَسَادُ الدَّعْوَى لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَمَّا إذَا كَانَ لِتَرْكِ الْمُدَّعِي شَرْطًا مِنْ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ يَصِحُّ هَكَذَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي شَرْحِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، اُنْظُرْ تَمَامَ ذَلِكَ فِي الْقِنْيَةِ (فَرْعٌ) : ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا فَصَالَحَهُ عَلَى قِطْعَةٍ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ، وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَزِيدَ دِرْهَمًا فِي بَدَلِ الصُّلْحِ لِيَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْبَاقِي أَوْ يَلْحَقَ بِهِ لَفْظُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي، كَذَا فِي حَوَاشِي الْقِنْيَةِ وَفِي الْهِدَايَةِ كَذَلِكَ. وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ لِلْهِدَايَةِ نَاقِلًا مِنْ الذَّخِيرَةِ، أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحِيحٌ هُوَ الْأَصَحُّ. [فَصْلٌ فِيمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ وَمَا لَا يَمْنَعُ] (فَصْلٌ) : فِيمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ وَمَا لَا يَمْنَعُ الصُّلْح عَلَى أَرْبَعَة أَوْجُهٍ: مَعْلُومٌ عَلَى مَعْلُومٍ، وَمَجْهُولٌ عَلَى مَعْلُومٍ وَهُمَا جَائِزَانِ، وَمَجْهُولٌ عَلَى مَجْهُولٍ، وَمَعْلُومٌ عَلَى مَجْهُولٍ وَهُمَا فَاسِدَانِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ: لَوْ ادَّعَى دَيْنًا أَوْ حَقًّا مَعْلُومًا عَلَى إنْسَانٍ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ جَازَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْلُومِ بِالْمَعْلُومِ جَائِزٌ. فَالصُّلْحُ أَجْوَزُ؛ لِأَنَّهُ أَوْسَعُ. وَمِثَالُ الثَّانِي: لَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارِ يَدِ إنْسَانٍ وَلَمْ يُسَمِّ الْحَقَّ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالًا مَعْلُومًا جَازَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ غَيْرُ مُفْضِيَةٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ. وَمِثَالُ الثَّالِثِ لَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارِ إنْسَانٍ فِي يَدِهِ وَلَمْ يُسَمِّ وَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا فِي أَرْضِهِ فَإِنْ اصْطَلَحَا بِأَنْ يَدْفَعَ أَحَدُهُمَا مَالًا إلَى الْآخَرِ لِيَتْرُكَ دَعْوَاهُ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، وَجَهَالَةُ الْبَدَلِ مَانِعَةٌ مِنْهُمَا فَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَتْرُكَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا دَعْوَاهُ جَازَ، وَهَذَا صُلْحٌ وَقَعَ عَنْ مَجْهُولٍ عَلَى مَجْهُولٍ وَجَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ. وَمِثَالُ الرَّابِعِ: وَهُوَ الصُّلْحُ عَنْ مَعْلُومٍ عَلَى مَجْهُولٍ إنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ لَا يَجُوزُ وَإِلَّا فَجَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ. [فَصْلٌ فِيمَا يَنْقُضُ الصُّلْحَ وَمَا لَا يَنْقُضُهُ] (فَصْلٌ) : صَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ فِي دَارٍ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ، أَمَّا إنْ أَعْتَقَهُ الْمَالِكُ أَوْ أَعْتَقَهُ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ أَوْ قَتَلَهُ الْمَالِكُ أَوْ قَتَلَهُ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ أَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَالِكُ عَتَقَ، بِخِلَافِ

الباب السابع والعشرون في القضاء بالإقرار

الْوَارِثِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ صَاحِبُ الْعَبْدِ لَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ فِيمَا لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. وَإِنْ قَتَلَهُ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ تَلْزَمُهُ الْخِدْمَةُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ رَقَبَةً هِيَ مِلْكُ الْغَيْرِ، وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ خَطَأً وَأَخَذَ قِيمَتَهُ لَا يَنْتَقِضُ الصُّلْحُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ عَبْدًا آخَرَ يَخْدُمُهُ سَنَةً، وَإِنْ شَاءَ عَادَ إلَى دَعْوَاهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يَنْتَقِضُ الصُّلْحُ وَعَادَ إلَى دَعْوَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ يَنْتَقِضُ الصُّلْحُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْعَبْدُ وَلَكِنْ مَاتَ أَحَدُ الْمُتَصَالِحَيْنِ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَتَكُونُ الْخِدْمَةُ لِوَرَثَتِهِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ وَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ دَعْوَاهُ. مِنْ الْمُحِيطِ. [الْبَابُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ] فِي الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ. اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ أَقْوَى الْأَحْكَامِ وَأَشَدِّهَا وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَسْتَنِدُ الْقَضَاءُ إلَى ظَنٍّ فَبِأَنْ يَسْتَنِدَ إلَى عِلْمٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْإِقْرَارِ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالْحُكْمَ بِالْبَيِّنَةِ مَظْنُونٌ؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرُ صِدْقٍ، أَوْ يُرَجِّعُ صِدْقَهُ عَلَى كَذِبِهِ لِانْتِفَاءِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَرِيبَةِ الْإِفْكِ، وَحَقِيقَتُهُ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ سَابِقٍ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا عَلَى إخْبَارِهِ. وَرُكْنُهُ قَوْلُهُ: عَلَيَّ لِفُلَانٍ كَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِهِ ظُهُورُ الْحَقِّ وَانْكِشَافُهُ حَتَّى لَا يَصِحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَالْمَالُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مَشْرُوطٌ لِلْفَسْخِ، وَالْإِقْرَارُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ وُجُوبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَهُوَ الدَّيْنُ. وَشَرْطُ جَوَازِهِ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِهِمَا التَّصَرُّفُ أَصْلًا. وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطٌ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْبَعْضِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ بِمَالٍ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقِصَاصِ يَصِحُّ، وَكَذَا كَوْنُ الْمُقَرِّ بِهِ مِمَّا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ شَرْطٌ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ أَوْ حَبَّةً مِنْ حِنْطَةٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ قَالَ: لِي عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، قَالَ: نَعَمْ. يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَعَمْ، جَوَابٌ لِكَلَامِهِ، وَلَوْ قَالَ: لِي عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: اتَّزِنْهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ اُقْعُدْ فَاقْبِضْهَا أَوْ لَمْ تَحِلَّ بَعْدُ، أَوْ قَالَ: غَدًا، أَوْ قَالَ: أَرْسِلْ مَنْ يَتَّزِنْهَا، فَكُلُّهَا إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تَصْلُحُ لِلْبِنَاءِ لَا لِلِابْتِدَاءِ، وَلَوْ قَالَ: اتَّزِنْ، أَوْ انْتَقِدْ، أَوْ خُذْ، أَوْ أَخِّرْ، أَوْ سَوْفَ أُعْطِيكَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَ حَرْفِ الْكِنَايَةِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِابْتِدَاءِ وَلَا لِلْبِنَاءِ فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْمُخَاطَبُ: مَاذَا أَتَّزِنُ أَوْ أَنْتَقِدُ؟ فَيَقُولُ: شَيْئًا آخَرَ. لَوْ قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي أَوْ تَذْكِرَتِي أَوْ حِسَابِي أَوْ بِخَطِّي، أَوْ كَتَبْتُ بِيَدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ شَاهِيَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْوُجُودِ لَا بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ وَجَدَ أَوْ فَعَلَ هَكَذَا، وَالْوُجُودُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجِدُ فِي كِتَابِهِ مَكْتُوبَ غَيْرِهِ وَقَدْ يَكْتُبُ مُمْتَحِنًا لِلْخَطِّ فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْوُجُوبِ. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ فِي نَوَازِلِهِ: لَوْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا وَأَخْرَجَ بِذَلِكَ خَطًّا بِخَطِّ يَدِهِ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ الْمَالِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ خَطُّهُ فَاسْتُكْتِبَ فَكَتَبَ فَكَانَ بَيْنَ الْخَطَّيْنِ مُشَابَهَةٌ ظَاهِرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمَا خَطُّ كَاتِبٍ وَاحِدٍ قَالَ أَئِمَّةُ بُخَارَى: إنَّهُ حُجَّةٌ يُقْضَى بِهَذَا. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَصَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِمَّا لَوْ أَقَرَّ فَقَالَ: هَذَا خَطِّي وَأَنَا كَتَبْتُهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ هَذَا الْمَالُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

فَرْعٌ) : وَفِي الْعُيُونِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلٌ فَأَقَرَّ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُدَّعِي، الْقِيَاسُ أَنْ تُنْزَعَ الدَّارُ مِنْ يَدِهِ وَتُدْفَعَ إلَى الْمُدَّعِي حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُدَّعِي. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: تُتْرَكُ فِي يَدِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، وَكَذَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ إذَا ادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِيفَاءَ، يُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ قِيَاسًا، وَالْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ كَانَ يُفْتِي بِوَجْهِ الْقِيَاسِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَأَئِمَّةُ بَلْخِي. - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا فِي بِادِّكَارِ الْبَاعَةِ: إذَا كَانَ فِيهِ مَكْتُوبًا بِخَطِّ الْبَيَّاعِ فَهِيَ لَازِمَةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْتُبُ فِي بِادِّكَارِهِ إلَّا مَا كَانَ لَهُ عَلَى النَّاسِ. وَمَا لِلنَّاسِ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ الْبَيَّاعُ وَجَدْتُ فِي بِادِّكَارِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ إقْرَارًا، ذَكَرَهُ السَّرَخْسِيُّ. وَخَطُّ الصَّرَّافِ وَالسِّمْسَارِ حُجَّةٌ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ كَانَ الصَّدْرُ بُرْهَانُ الْأَئِمَّةِ يُفْتِي هَكَذَا فِي خَطِّ الصَّرَّافِ أَنَّهُ حُجَّةٌ (فَصْلٌ) : اشْتَرَى جَارِيَةً مُنْتَقِبَةً، فَلَمَّا كَشَفَ وَجْهَهَا قَالَ هِيَ جَارِيَتِي وَادَّعَاهَا لَا يُسْمَعُ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فِي جِرَابٍ فَلَمَّا نَشَرَهُ قَالَ هَذَا ثَوْبِي لَا يُسْمَعُ، وَأَصْلُ هَذَا فِي الزِّيَادَاتِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي الِاسْتِيَامِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيَامَ هَلْ هُوَ إقْرَارٌ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ يَكُونُ إقْرَارًا بِكَوْنِهِ مِلْكَ الْبَائِعِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا، وَالْأَصَحُّ رِوَايَةُ الزِّيَادَاتِ، وَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بَعْدَ الِاسْتِيَامِ، وَالِاسْتِيَامُ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ كَالِاسْتِيَامِ مِنْ الْبَائِعِ، وَالِاسْتِيدَاعُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَالِاسْتِيهَابُ وَالِاسْتِئْجَارُ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ لِذِي الْيَدِ وَسَوَاءٌ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِالْوَكَالَةِ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ أُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ سَاوَمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، خَرَجَ هُوَ مِنْ الْخُصُومَةِ دُونَ الْمُوَكِّلِ. (فَصْلٌ) : عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْ، لَزِمَهُ الْمَالُ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ فِعْلُ الْمُقْرِضِ، وَالْقَبْضُ فِعْلَ الْمُسْتَقْرِضِ فَيُوجَدُ بِدُونِهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ لَا يَتِمُّ بِدُونِ الْقَبْضِ فَأَشْبَهَ أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ وَأَنْكَرَ الْقَبُولَ لَا يُصَدَّقُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ: أَعْطَيْتَنِي أَلْفًا وَأَقْرَضْتَنِي أَوْ أَوْدَعْتَنِي، أَوْ أَسْلَفْتَنِي أَوْ أَسْلَمْتَ إلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضْ لَمْ يُصَدَّقْ إذَا فَصَلَ، وَإِنْ وَصَلَ صُدِّقَ؛ لِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ الْفِعْلِ حَقِيقَةً لَكِنَّ تَمَامَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ فَكَانَ إنْكَارُ الْقَبْضِ اسْتِثْنَاءً لِبَعْضِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ قَالَ: نَقَدْتَنِي أَلْفًا وَلَمْ أَقْبِضْ أَوْ دَفَعَ إلَيَّ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَإِنْ وَصَلَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُصَدَّقُ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ قَالَ: بِعْتَنِي دَارَكَ أَوْ أَجَّرْتَنِي، ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضْ، صُدِّقَ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ أَوْ الْإِجَارَةَ يَتِمُّ بِدُونِ الْقَبْضِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ بِهِمَا إقْرَارًا بِالْقَبْضِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ خَمْرٍ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ: هُوَ مَالُ الْقِمَارِ لَا يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَالُ الْقِمَارِ أَوْ ثَمَنُ الْخَمْرِ يُقْبَلُ وَتَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ، وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ صُدِّقَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. (فَصْلٌ) : وَفِي الْعُيُونِ، رَجُلٌ قَالَ: قَتَلْتُ ابْنَ فُلَانٍ ثُمَّ قَالَ: قَتَلْتُ ابْنَ فُلَانٍ، يَكُونُ هَذَا إقْرَارًا بِقَتْلِ ابْنٍ وَاحِدٍ. وَفِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ لَوْ قَالَ لِآخَرَ: لِمَ قَتَلْتَ فُلَانًا؟ فَقَالَ: كَانَ فِي اللَّوْحِ مَكْتُوبًا هَكَذَا. أَوْ قَتَلْتُ عَدُوِّي، فَهُوَ إقْرَارٌ بِالْقَتْلِ وَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إنْ لَمْ يُقِرَّ بِالْعَمْدِ، وَلَوْ قَالَ الْمَقْدُورُ كَائِنٌ لَا يَكُونُ إقْرَارًا.

فصل في الإقرار في الصحة والمرض

فَصْلٌ) : لَوْ قَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ، فَقَالَ: الْحَقُّ أَوْ الْيَقِينُ أَوْ الصِّدْقُ، أَوْ قَالَ: حَقًّا أَوْ يَقِينًا أَوْ صِدْقًا كَانَ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّصْدِيقِ غَالِبًا سَوَاءٌ ذَكَرَهَا بِالرَّفْعِ أَوْ بِالنَّصْبِ، إنْ ذَكَرَهُ مَنْصُوبًا كَانَ تَقْدِيرُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: ادَّعَيْتَ أَوْ قُلْتَ الْحَقَّ، وَإِنْ ذَكَرَهُ مَرْفُوعًا تَقْدِيرُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا قُلْتَهُ أَوْ ادَّعَيْتَهُ الْحَقُّ، وَكَذَا لَوْ كَرَّرَ فَقَالَ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَوْ حَقًّا حَقًّا؛ لِأَنَّ التَّكْرَارَ يُوجِبُ التَّأْكِيدَ، وَلَوْ قَالَ: الْحَقُّ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْحَقُّ مُبْتَدَأٌ؛ وَقَوْلَهُ حَقٌّ خَبَرُهُ كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ عَالِمٌ أَوْ قَائِمٌ، وَالْمَعْرِفَةُ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ خَبَرُهُ نَكِرَةً، وَلَوْ قَالَ: الصَّلَاحَ وَالْبِرَّ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الْبِرَّ الْمُنْفَرِدَ يُسْتَعْمَلُ لِلرَّدِّ غَالِبًا لَا لِلصِّدْقِ: أَيْ عَلَيْك بِالْبِرِّ فَيَكُونُ آمِرًا إيَّاهُ بِالْبِرِّ وَنَهْيًا لَهُ عَنْ الْكَذِبِ. وَلَوْ قَالَ: الْحَقَّ الْبِرُّ أَوْ الْيَقِينُ الْبِرُّ أَوْ الصِّدْقُ الْبِرُّ يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الْبِرَّ الْمَقْرُونَ بِالْحَقِّ وَالصِّدْقِ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّصْدِيقِ. وَلَوْ قَالَ: الْحَقُّ الصَّلَاحُ أَوْ الْبِرُّ الصَّلَاحُ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا. مِنْ الْجَامِعِ وَمِنْ الْخُلَاصَةِ وَمِنْ شَرْحِ التَّجْرِيدِ وَمِنْ الْمُحِيطِ [فَصْلٌ فِي الْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ] (فَصْلٌ) : فِي الْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ. الصَّحِيحُ إذَا أَقَرَّ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ إقْرَارًا مُتَفَرِّقًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَالِهِ حَقُّ أَحَدٍ حَتَّى يُحْجَرَ عَنْ الْإِقْرَارِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ حَيْثُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ وَارِثًا لِلْمُقِرِّ أَوْ أَجْنَبِيًّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ وَاقِعًا فِي الصِّحَّةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا بِتَصْدِيقِهِمْ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْإِقْرَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مُعَامَلَةِ الْأَجَانِبِ حَالَةَ الصِّحَّةِ غَالِبًا. فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَهُمْ بِالدَّيْنِ فِي الْمَرَضِ لَامْتَنَعُوا عَنْ مُعَامَلَتِهِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ لَمْ تَقَعْ مَعَهُمْ غَالِبًا. (فَرْعٌ) : وَمَنْ قَضَى مِنْهُمْ دَيْنَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْبَاقُونَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَالِهِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ لِرَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فَمَا قَضَاهُ لِأَحَدِهِمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَزْدَادُ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، وَالزِّيَادَةَ صِفَةُ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ فَيَحْدُثُ عَلَى الشَّرِكَةِ كَثَمَرَةِ شَجَرَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا خَصَّ بَعْضَ غُرَمَائِهِ بِالْقَضَاءِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَاقِينَ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِوَدِيعَةٍ فَهُمَا دَيْنَانِ، وَلَا تُقَدَّمُ الْوَدِيعَةُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ كَانَ مِلْكُهُ ثَابِتًا ظَاهِرًا بِالْعَيْنِ الَّتِي فِي يَدِهِ فَتَعَلَّقَ بِهَا الدَّيْنُ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِكَوْنِهَا وَدِيعَةً فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَرِيمِ فَصَارَ مُقِرًّا بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِدَيْنٍ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالدَّيْنِ فَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْبِضَاعَةُ وَالْمُضَارَبَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْوَدِيعَةِ سَوَاءٌ، وَلَوْ أَقَرَّ بِوَدِيعَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا فَهِيَ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ [فَصْلٌ فِي إقْرَار الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ] (فَصْلٌ) : فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ. كُلُّ دَيْنٍ وَجَبَ فِي الصِّحَّةِ بَدَلًا عَنْ مَالٍ أَوْ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَائِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ كَمَا وَجَبَ

الباب الثامن والعشرون في القضاء بالعرف والعادة

اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْبَرَاءَةَ بِالْقَبْضِ، وَلِهَذَا إذَا أَحْضَرَهُ أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِ، وَكَذَا كُلُّ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي مَرَضِهِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَأَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ أَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ قُتِلَ عَمْدًا فَصَالَحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَالٍ، وَهَذَا بَذْلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ أَقَرَّ لِزَوْجَتِهِ بِدَيْنٍ مِنْ مَهْرِهَا فِي مَرَضِهِ صُرِفَ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ الْمَرِيضَةُ بِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَهُوَ هَذَا الْأَلْفُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ مَاتَتْ قَسَّمَ الْأَلْفَ بَيْنَ غُرَمَائِهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ صَارَ أَجْنَبِيًّا عَنْهَا فَجَازَ إقْرَارُهَا لَهُ بِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا وَأَقَرَّتْ بِالِاسْتِيفَاءِ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ صَحَّ الْإِقْرَارُ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا لَمَّا انْقَضَتْ صَارَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا عَنْهَا، وَلَوْ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى مَاتَتْ وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا فَأَقَرَّتْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ فَغُرَمَاءُ الصِّحَّةِ أَوْلَى بِذَلِكَ حَتَّى يَسْتَوْفُوا بِالِاسْتِيفَاءِ، وَمِمَّا يُصِيبُهُ مِنْ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ مَاتَتْ وَالنِّكَاحُ بَاقٍ فِي حَقِّ الْإِرْثِ فَصَارَتْ مُقِرَّةً بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الْوَارِثِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا جَعَلَا هَذَا طَرِيقًا لِتَصْحِيحِ الْإِقْرَارِ، وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهَا فِي حَقِّ الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي الْأَقَلِّ، وَلَا يَصِحُّ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ الْإِيضَاحِ وَمِنْ شَرْحِ التَّجْرِيدِ. (فَصْلٌ) : ذَكَرَ فِي خِزَانَةِ الْفِقْهِ خَمْسَةَ أَقَارِيرَ لَا تَجُوزُ مِنْ الْمَرِيضِ: إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِوَارِثِهِ، وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ وَارِثِهِ، وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ مَهْرٍ مَضْمُونٍ عَلَى وَارِثِهِ، وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَوَارِثُهُ كَفِيلٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَمَّا يَنْفَعُ وَارِثَهُ. وَهَذِهِ الْأَقَارِيرُ تَنْفَعُهُ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِهَا إسْقَاطُ الدَّيْنِ وَفِي بَعْضِهَا إبْرَاءٌ عَنْ الْمُطَالَبَةِ، وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ كِتَابَةِ عَبْدٍ كَاتَبَهُ فِي مَرَضِهِ يَجُوزُ مِنْ الثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا، وَاثْنَانِ مِنْ أَقَارِيرِهِ لَا تَجُوزُ فِي الْحَالِ وَتَنْفُذُ فِي الْمَآلِ: أَحَدُهُمَا إقْرَارُهُ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ثُمَّ صَحَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ ثُمَّ مَاتَ. وَالثَّانِي إقْرَارُهُ لِعَبْدِ وَارِثِهِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي تَعْقُبُهُ الصِّحَّةُ كَلَا مَرَضٍ؛ وَلِأَنَّ بِالصِّحَّةِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ مَوْتٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ أَقَارِيرِهِ لَا تَجُوزُ فِي الْحَالِ وَلَا تَنْفُذُ فِي الْمَآلِ إذَا أَقَرَّ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ وَهُوَ عَبْدٌ ثُمَّ مَاتَ الْمُقِرُّ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ وَقَعَ لِابْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ وَارِثُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَقَعَ لِلْأَجْنَبِيِّ. وَالثَّانِي إذَا أَقَرَّ لِابْنِهِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ الْمُقِرُّ. وَالثَّالِثُ إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَتِهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَاتَ. وَالرَّابِعُ إذَا أَقَرَّ لِأَخِيهِ بِدَيْنٍ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ ثُمَّ مَاتَ الْمُقِرُّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَاقِعٌ لِلْوَارِثِ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ حَالَةَ الْإِقْرَارِ لَكِنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ قَائِمٌ وَهِيَ الْبُنُوَّةُ وَالزَّوْجِيَّةُ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ. اُنْظُرْ شَرْحَ التَّجْرِيدِ. [الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ] فِي الْقَضَاءِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] الْآيَةَ. وَالْعَادَةُ غَلَبَةُ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ أَوْ بَعْضِهَا. وَنَقَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ وَنَقْدُ الْبَلَدِ مُخْتَلِفٌ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ، وَلَوْ كَانَ مَعَ اخْتِلَافِ السِّكَكِ، جَرَتْ عَادَةٌ بِالتَّبَايُعِ بِسِكَّةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْهَا لَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا وَقُضِيَ بِدَفْعِ تِلْكَ السِّكَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ

قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ: عِنْدِي وَمَعِي، فَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمَانَاتِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " عِنْدَ " تُسْتَعْمَلُ لِلْمُقَرِّ بِهِ وَ " مَعَ " لِلْمُقَارَنَةِ، وَالْمُقَارَنَةُ هِيَ الْمُقَارَبَةُ، وَالدَّيْنُ لَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ إنْسَانٍ حَقِيقَةً، الْوَدِيعَةُ تَكُونُ قَرِيبَةً مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمَانَاتِ لَا فِي الْإِيجَابَاتِ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا كَانَ الْخُصُّ بَيْنَ الدَّارَيْنِ فَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْقِمْطُ إلَى أَحَدِهِمَا، فَهُوَ لِمَنْ إلَيْهِ الْقِمْطُ فِي قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا تَرَجَّحَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجْعَلُ وَجْهَ الْبِنَاءِ إلَى صَاحِبِ الْعُلُوِّ، وَكَذَلِكَ الطَّاقَاتُ فَتُرَجَّحُ بِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يُعْرَفُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرِّجَالِ، وَمَا يُعْرَفُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلنِّسَاءِ. وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا فَهُوَ لِلرِّجَالِ. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ بَعَثَ إلَى امْرَأَةٍ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى لَهَا أَمْتِعَةً بَعْدَ مَا بَنَى بِهَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: هُوَ مِنْ الْمَهْرِ. وَقَالَتْ: هُوَ هَدِيَّةٌ. ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ، إلَّا فِيمَا يُؤْكَلُ فَالْقَوْلُ لَهَا؛ لِأَنَّ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ بِكَذِبِهِ وَالْعُرْفُ الْجَارِي بِخِلَافِهِ. قَاعِدَةٌ: كُلُّ مَنْ لَهُ عُرْفٌ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى عُرْفِهِ كَقَوْلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى عَادَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ» يُحْمَلُ عَلَى الْحَلِفِ الشَّرْعِيِّ. (فَرْعٌ) : لَوْ قَالَ: أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي. فَإِنَّهَا تَتَخَرَّجُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْحَلِفِ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُعَاصِرَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَأَيُّ شَيْءٍ جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مَلِكِ الْوَقْتِ فِي التَّحْلِيفِ بِهِ فِي بَيْعَتِهِمْ وَاشْتُهِرَ عِنْدَ النَّاسِ بِحَيْثُ صَارَ عُرْفًا وَمَنْقُولًا مُتَبَادِرًا لِلذِّهْنِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ حُمِلَ عَلَى يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ نِيَّتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ: أَمَّا الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا الْمُرَتَّبَةُ عَلَى الْعَوَائِدِ لِلَّذَيْنِ كَانَا حَاصِلَيْنِ حَالَةَ جَزْمِ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، فَهَلْ إذَا تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْعَوَائِدُ وَصَارَتْ تَدُلُّ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلًا فَهَلْ تَبْطُلُ هَذِهِ الْفَتَاوَى فِي الْكُتُبِ وَيُفْتَى بِمَا تَقْتَضِيهِ الْعَوَائِدُ الْمُتَجَدِّدَةُ؟ أَوْ يُقَالُ: نَحْنُ مُقَلِّدُونَ وَمَا لَنَا إحْدَاثُ شَرْعٍ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِنَا لِلِاجْتِهَادِ، فَيُفْتَى بِمَا فِي الْكُتُبِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ إجْرَاءَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي مُدْرَكُهَا الْعَوَائِدُ مَتَى تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْعَوَائِدُ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ وَجَهَالَةً فِي الدِّينِ، بَلْ كُلُّ مَا هُوَ فِي الشَّرِيعَةِ يَتْبَعُ الْعَوَائِدَ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِ عِنْدَ تَغْيِيرِ الْعَادَةِ إلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَجْدِيدًا لِلِاجْتِهَادِ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، بَلْ هَذِهِ قَاعِدَةٌ اجْتَهَدَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا، فَنَحْنُ نَتْبَعُهُمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ اجْتِهَادٍ أَلَا يُرَى أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعَامَلَاتِ إذَا أُطْلِقَ فِيهَا الثَّمَنُ تُحْمَلُ عَلَى غَالِبِ النُّقُودِ، فَإِذَا كَانَتْ الْعَادَةُ نَقْدًا مُعَيَّنًا حَمَلْنَا الْإِطْلَاقَ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْقَلَبَتْ الْعَادَةُ إلَى غَيْرِهِ عَيَّنَّا مَا انْقَلَبَتْ الْعَادَةُ إلَيْهِ وَأَلْغَيْنَا الْأَوَّلَ لِانْتِقَالِ الْعَادَةِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْإِطْلَاقُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَيْمَانِ وَجَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى الْعَوَائِدِ، وَكَذَلِكَ الدَّعَاوَى إذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ ثُمَّ تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ لَمْ يَبْقَ الْقَوْلُ قَوْلَ مُدَّعِيهِ بَلْ انْعَكَسَ الْحَالُ فِيهِ، بَلْ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَغَيُّرُ الْعَادَةِ، بَلْ لَوْ خَرَجْنَا نَحْنُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ عَوَائِدُهُمْ عَلَى خِلَافِ عَادَةِ الْبَلَدِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ أَفْتَيْنَاهُمْ بِعَادَةِ بَلَدِهِمْ وَلَمْ نَعْتَبِرْ عَادَةَ الْبَلَدِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَدِمَ عَلَيْنَا أَحَدٌ مِنْ بَلَدٍ عَادَتُهُ مُضَادَّةٌ لِلْبَلَدِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ لَمْ نُفْتِهِ إلَّا بِعَادَةِ بَلَدِهِ، وَلِهَذَا أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْفِقْهِ فَلَا نُطِيلُ بِجَلْبِهَا.

الباب التاسع والعشرون في القضاء بقول أهل المعرفة

(تَنْبِيهٌ) : قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: وَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ مُسْتَفْتٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمُفْتِي فَلَا يُفْتِيهِ بِمَا عَادَتُهُ يُفْتِي بِهِ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ بَلَدِهِ، وَهَلْ حَدَثَ لَهُ عُرْفٌ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عُرْفِيًّا، فَهَلْ عُرْفُ ذَلِكَ الْبَلَدِ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْبَلَدِ فِي عُرْفِهِ أَمْ لَا؟ وَهَذَا أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ وَاجِبٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَأَنَّ الْعَادَتَيْنِ مَتَى كَانَتَا فِي بَلَدَيْنِ لَيْسَتَا سَوَاءً، فَإِنَّ حُكْمَيْهِمَا لَيْسَا سَوَاءً، إنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ، هَلْ يُقَدَّمُ الْعُرْفُ عَلَى اللُّغَةِ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ. (تَنْبِيهٌ) : وَنَقَلْتُ مِنْ الرِّحْلَةِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَشِيدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ حَلَفَ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ وَحَنِثَ، هَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَوْ وَاحِدَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ عُرْفُ الْحَالِفِ لَا عُرْفُ الْمُفْتِي، فَلَوْ دَخَلَ الْمُفْتِي بَلَدًا لَا يَكُونُ عُرْفُهُمْ فِيهِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِيهِ بِذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعُرْفِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْعُرْفِ لِغَيْرِ الْجَوَابِ، وَهَذَا مِنْ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ مَعْرِفَتُهُ انْتَهَى. وَهَذَا يُعَضِّدُ كَلَامَ الْقَرَافِيُّ. [الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ] فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبَصَرِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ النَّخَّاسِينَ فِي مَعْرِفَةِ عُيُوبِ الرَّقِيقِ مِنْ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ. (فَرْعٌ) : هَلْ يَحْكُمُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ فِيمَا يَشْهَدْنَ فِيهِ مِنْ عُيُوبِ الْإِمَاءِ أَنَّهُ قَدِيمٌ قَبْلَ تَارِيخِ التَّبَايُعِ أَمْ لَا يَسْمَعُ مِنْهُنَّ فِي ذَلِكَ وَيَشْهَدُ فِي ذَلِكَ الْحُكَمَاءُ أَوْ النَّخَّاسُونَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كُنَّ طَبِيبَاتٍ يَسْمَعُ مِنْهُنَّ، وَإِلَّا فَلَا يَشْهَدْنَ بِهِ إلَّا الْحُكَمَاءُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. (تَنْبِيهٌ) : وَطَرِيقُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ قَامَ الْمُشْتَرِي يُرِيدُ رَدَّ الْجَارِيَةِ وَذَكَرَ أَنَّ بِهَا آثَارًا يَجِبُ بِهَا رَدُّهَا، لَمْ يَكُنْ بَيَّنَهَا الْبَائِعُ. وَقَالَ الْبَائِعُ: لَمْ أَعْلَمْ بِهَا عَيْبًا، فَشَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي طَبِيبَانِ أَنَّ الْآثَارَ الَّتِي بِسَاقَيْهَا مِنْ مُرَّةٍ سَوْدَاءَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قُرُوحٍ عَظِيمَةٍ قَدِيمَةٍ كَانَتْ مُنْذُ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا وَأَنَّهُ عَيْبٌ يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ فِي عَمَلِهِمَا، وَشَاوَرَ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْمُفْتِينَ فَلَمْ يَعْتَرِضْ شَهَادَةَ الشُّهُودِ، وَفِي ذَلِكَ مُغْمَرٌ يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ عَنْ الطَّبِيبَيْنِ أَنَّهُمَا شَهِدَا فِي الشِّقَاقِ أَنَّهُ مُرَّةٌ سَوْدَاءُ كَانَتْ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَنَّهُ عَيْبٌ يَجِبُ الرَّدُّ بِهِ فِي عَمَلِهِمَا فَصَارَا هُمَا الْمُفْتِيَانِ بِالرَّدِّ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ الْعَمَلِ، إنَّمَا عَلَيْهِمَا أَنْ يَشْهَدَا بِأَنَّهُ مِنْ دَاءٍ قَدِيمٍ بِهَا قَبْلَ أَمَدِ التَّبَايُعِ ، ثُمَّ يَشْهَدَ أَهْلُ الْبَصَرِ مِنْ تُجَّارِ الرَّقِيقِ وَنَخَّاسِيهِمْ بِأَنَّهُ عَيْبٌ يَحُطُّ مِنْ ثَمَنِهَا كَثِيرًا، ثُمَّ يُفْتِي الْفَقِيهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَوَابِ الرَّدِّ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى هَذَا التَّطْوِيلِ. لَكِنِّي رَأَيْتُ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ كَثُرَ عِنْدَ الْحُكَّامِ لَا يُنْكِرُونَهُ، بَلْ قَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ تَزَلْ الشَّهَادَةُ تُؤَدَّى فِي هَذَا الْمَعْنَى هَكَذَا وَالشُّيُوخُ مُتَوَافِرُونَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ. وَقَدْ رَأَيْتُ جَوَابَ جَاهِلٍ لِلِاعْتِنَاءِ بِالْفُتْيَا، وَقَدْ أَفْتَى فِي قَنَاةٍ ظَهَرَتْ فِي دَارٍ مَبِيعَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ بِئْرِهَا فَقَالَ: يُقَالُ لِلشُّهُودِ: هَلْ يَجِبُ بِذَلِكَ الرَّدُّ؟ فَإِنْ قَالُوا: يَجِبُ. رُدَّتْ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي اسْتَفْتَى هُوَ فِيهِ إذَا كَانَ الشُّهُودُ يُسْأَلُونَ هَلْ يَجِبُ الرَّدُّ أَمْ لَا؟ وَهَذَا نِهَايَةٌ فِي الْغَبَاوَةِ، وَإِذَا فَشَتْ الْجَهَالَةُ فِي النَّاسِ ظُنَّتْ حَقًّا وَحُسِبَتْ سُنَّةً. وَوَقَعَ لِبَعْضِهِمْ أَيْضًا فِي رَجُلٍ قَامَ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى قَوْمٍ مِنْ النَّخَّاسِينَ فِي خَادِمٍ بَاعُوهَا مِنْهُ وَظَهَرَتْ بِهَا عُيُوبٌ، قَالَ الْقَاضِي: فَأَمَرْتُ مَنْ وَثِقْتُ بِهَا مِنْ النِّسَاءِ النَّظَرَ إلَيْهَا فِي تِلْكَ الْعُيُوبِ، فَاسْتَبَانَ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ أَنَّ الْعَيْبَ قَدِيمٌ بِمِثْلِهِ تُرَدُّ فَرُدَّتْ عَلَى النَّخَّاسِينَ. قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: فَقَوْلُ الْقَاضِي

الباب الثلاثون في القضاء بالتناقض

حِكَايَةً عَنْ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ عَيْبٌ قَدِيمٌ بِمِثْلِهِ يُرَدُّ، جَهْلٌ لَا خَفَاءَ بِهِ صَارَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُ شَاهِدَةً وَطَبِيبَةً وَمُفْتِيَةً وَلَيْسَ إلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، إلَّا إنْ كَانَتْ طَبِيبَةً مَاهِرَةً فِي الطِّبِّ فَلْيَسْمَعْ مِنْهَا فِي قِدَمِهِ أَوْ حُدُوثِهِ. وَأَمَّا أَنْ تَقُولَ هِيَ: يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ أَوْ لَا يَجِبُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَيْهَا وَلَا تُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ إذْ ثَبَتَ الْعَيْبُ وَقِدَمُهُ بِشَهَادَةِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِيهِ أَنْ يَسْأَلَ تُجَّارَ الرَّقِيقِ هَلْ هُوَ عَيْبٌ؟ فَإِذَا شَهِدَا بِأَنَّهُ عَيْبٌ يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ كَثِيرًا أَفْتَى الْفَقِيهُ حِينَئِذٍ بِالرَّدِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. [الْبَابُ الثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالتَّنَاقُضِ] فِي الْقَضَاءِ بِالتَّنَاقُضِ وَفِي دَعْوَى الدَّفْعِ وَالتَّنَاقُضِ فِي النَّسَبِ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: التَّنَاقُضُ يَمْنَعُ الدَّعْوَى لِغَيْرِهِ كَمَا يَمْنَعُ لِنَفْسِهِ مَنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِغَيْرِهِ، فَكَمَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ بِوِصَايَةٍ. (مَسْأَلَةٌ) : بَرْهَنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى وَكِيلِ الْخُصُومَةِ أَنَّهُ سَبَقَتْ مِنْهُ مُسَاوَمَةٌ أَوْ اسْتِعَارَةٌ أَوْ اسْتِخْدَامٌ أَوْ نَحْوُهَا، عُزِلَ مِنْ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ عِنْدَ الْقَاضِي لَعَزَلَهُ وَالْمُوَكِّلُ عَلَى حَقِّهِ لَوْ شَرَطَ أَنَّ قَرَارَهُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ. (مَسْأَلَةٌ) : الْكَرْخِيِّ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا أَوْ اسْتَعَارَهُ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ يُقْبَلُ. ذَكَرَ قَاضِي خَانُ مَسْأَلَةَ الِاسْتِعَارَةِ وَقَالَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي تَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ إقْرَارًا بِأَنْ لَا مَلِكَ لِلْمُسْتَعِيرِ وَلَا تَكُونُ إقْرَارًا بِالْمِلْكِ لِلْمُعِيرِ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِأَنْ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ يَمْنَعُ دَعْوَاهُ لِغَيْرِهِ. بَيَانُهُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: مَسْأَلَةُ الِاسْتِعَارَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَبْسُوطَ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ تُسْمَعُ، إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ، إذْ وَكِيلُ الْخُصُومَةِ قَدْ يُضِيفُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ، وَلَوْ ادَّعَى لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ ثُمَّ لِنَفْسِهِ لَا يُسْمَعُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ مِلْكُهُ لَا يُضِيفُهُ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَيُمْكِنُ الْمُنَافَاةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَرْهَنَ أَنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَهُ بِخُصُومَةٍ فِيهِ لَا يُسْمَعُ، إذْ وَكِيلُ الْخُصُومَةِ مِنْ جِهَةِ زَيْدٍ لَا يُضِيفُهُ إلَى غَيْرِهِ فَيُمْكِنُ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الدَّعْوَى عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ: أَقَرَّ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ يُقْبَلُ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ مِلْكُ فُلَانٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ مِلْكَ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. قَالَ عِمَادُ الدِّينِ فِي فُصُولِهِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْبَحْثِ: وَتَلْخِيصُهُ لَوْ قَالَ ذُو الْيَدِ: لَيْسَ هَذَا لِي أَوْ مِلْكِي أَوْ لَا حَقَّ لِي فِيهِ أَوْ مَا كَانَ لِي أَوْ نَحْوُهُ، وَلَا مُنَازِعَ ثُمَّ ادَّعَاهُ أَحَدٌ، فَقَالَ ذُو الْيَدِ: هُوَ لِي، فَالْقَوْلُ لَهُ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ هَذَا لَمْ يُثْبِتْ حَقًّا لِأَحَدٍ، إذْ الْإِقْرَارُ لِلْمَجْهُولِ بَاطِلٌ، وَالتَّنَاقُضُ إنَّمَا يَمْنَعُ إذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقٍّ عَلَى أَحَدٍ، فَلَوْ كَانَ لِذِي الْيَدِ مُنَازِعٌ حِينَ قَوْلِهِ ذَلِكَ فَهُوَ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ فِي رِوَايَةٍ، لَكِنَّ الْقَاضِي يَسْأَلُ ذَا الْيَدِ، أَهُوَ مِلْكُ الْمُدَّعِي؟ فَلَوْ أَقَرَّ بِهِ أَمَرَ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ؛ وَلَوْ أَنْكَرَ يُبَرْهِنُ الْمُدَّعِي وَلَوْ أَقَرَّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ ذِي الْيَدِ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ لِي، أَوْ كَانَ لِي، يَمْنَعُهُ مِنْ الدَّعْوَى بَعْدُ لِلتَّنَاقُضِ وَإِنَّمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَا الْيَدِ عَلَى مَا مَرَّ لِقِيَامِ الْيَدِ. (فَصْلٌ) : قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: مَا لِي فِي يَدِ فُلَانٍ دَارٌ، وَلَا حَقُّ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَى رُسْتَاقٍ وَلَا قَرْيَةٍ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ لَهُ قِبَلَهُ حَقًّا بِالرَّمْيِ فِي قَرْيَةٍ، لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ - قَالَ الْمُدَّعِي: لَا بَيِّنَةَ لِي، ثُمَّ بَرْهَنَ، هَلْ يُقْبَلُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. قَالَ فِي الْمُلْتَقَطِ: يُقْبَلُ لَوْ وَقَّفَ، وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: لَا دَفْعَ لِي ثُمَّ أَتَى بِدَفْعٍ قُبِلَ وَهُوَ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَقِيلَ لَا يَصِحُّ دَفْعُهُ وِفَاقًا، إذْ مَعْنَاهُ لَيْسَ لِي دَعْوَةُ الدَّفْعِ، وَمَنْ قَالَ: لَا دَعْوَى لِي قِبَلَ فُلَانٍ ثُمَّ ادَّعَى، لَا تُسْمَعُ كَذَا هُنَا، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ إذْ الدَّفْعُ يَحْصُلُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الدَّفْعِ لَا بِدَعْوَى الدَّفْعِ، فَقَوْلُهُ: لَا دَفْعَ لِي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا بَيِّنَةَ لِي.

الباب الحادي والثلاثون في القضاء بشهادة العفاص والوكاء

مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: لَوْ قَالَ: لَا دَفْعَ لِي ثُمَّ جَاءَ بِهِ، فَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي، وَحَلَفَ خَصْمُهُ ثُمَّ بَرْهَنَ يُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْعُدَّةِ: الدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إلَّا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَحَدَ الْوَرَثَةِ فَبَرْهَنَ الْوَارِثُ الْآخَرُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَالَ أَنَا مُبْطِلٌ يُسْمَعُ، وَفِيهَا أَيْضًا جَعْلُ أَمْرِ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَصِلْ إلَيْهَا نَفَقَتُهَا فِي وَقْتِ كَذَا، فَهِيَ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا مَتَى شَاءَتْ، فَمَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ فَأَرَادَتْ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فَاخْتَلَفَا فِي وُصُولِ النَّفَقَةِ فِي ذَلِكَ فَبَرْهَنَتْ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ تَصِلْ إلَيْهَا نَفَقَتُهَا، قُبِلَ وَتَنْدَفِعُ دَعْوَاهُ. وَلَوْ بَرْهَنَتْ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهَا نَفَقَتَهَا لَا يُقْبَلُ لِجَوَازِ أَنَّ وَكِيلَهُ دَفَعَ إلَيْهَا. وَقِيلَ يُقْبَلُ فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ وَكِيلِهِ كَدَفْعِهِ - أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّ فُلَانًا حَقَّهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَأَعْطَاهُ، بَرَّ. وَلَوْ بَرْهَنَتْ عَلَى طَلْقَاتٍ ثَلَاثٍ وَبَرْهَنَ الزَّوْجُ أَنَّهَا أَقَرَّتْ بَعْدَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ أَنَّهَا اعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَدَخَلَ بِهَا وَطَلَّقَهَا وَمَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْهُ وَهِيَ امْرَأَتُهُ الْيَوْمَ فَقَدْ قِيلَ هَذَا لَيْسَ بِدَفْعٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ دَفْعٌ. (فَرْعٌ) : الْإِيضَاحُ قَالَ: أَبْرَأَنِي الْمُدَّعِي عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَى، فَيُسْأَلُ الْمُدَّعِي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمَالِ؟ فَلَوْ بَرْهَنَ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي عَلَى الْبَرَاءَةِ، وَإِنْ لَمْ يُبَرْهِنُ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوَّلًا عَلَى دَعْوَاهُ الْمَالَ، فَلَوْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُرِكَ، وَلَوْ نَكَلَ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي عَلَى الْبَرَاءَةِ، وَدَعْوَى الْبَرَاءَةِ إقْرَارٌ بِالْمَالِ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ بَرْهَنَ أَنَّهُ ابْنُ عَمِّ فُلَانٍ الْآخَرِ يُقْبَلُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ لَا فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ، كَعَاقِلَةٍ بَرْهَنُوا أَنَّ الْقَاتِلَ فُلَانٌ لَا وَلِيُّنَا يُقْبَلُ فِي دَفْعِ الدِّيَةِ عَنْهُمْ لَا فِي ثُبُوتِ الْقَتْلِ مِنْ فُلَانٍ. قَالَهُ فِي الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي جَامِعِ الْفَتَاوَى: بَرْهَنَ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ عَمِّ الْمَيِّتِ وَذَكَرَ النَّسَبَ، فَبَرْهَنَ خَصْمُهُ أَنَّ جَدَّ الْمَيِّتِ فُلَانٌ غَيْرَ مَا بَيَّنَهُ الْمُدَّعِي، لَوْ لَمْ يَقْضِ بِالْأَوَّلِ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ لِلتَّعَارُضِ، وَلَوْ قَضَى بِالْأَوَّلِ لَا يَقْضِي بِالثَّانِي كَمَسْأَلَةِ تَطْلِيقِ امْرَأَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِكُوفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَتَحْرِيرُ قِنِّهِ بِمَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : امْرَأَةٌ مُحْتَاجَةٌ خَاصَمَتْ عَمَّهَا لَيَفْرِضَ لَهَا النَّفَقَةَ عَلَيْهَا، فَبَرْهَنَ الْعَمُّ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَخُوهَا وَهُوَ أَوْلَى بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، فَالْقَاضِي يُبْرِئُ الْعَمَّ مِنْ النَّفَقَةِ وَيَقُولُ لَهَا إنْ شِئْت فَرَضْتهَا عَلَى الْأَخِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَثْبَتَ النَّسَبَ مِنْ رَجُلٍ لَا أَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ مِنْ الرَّجُلِ أَنَّ الْآخَرَ أَبُوهُ قَالَهُ فِي الْمُنْتَقَى. (فَرْعٌ) : ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ اسْمَ جَدِّهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا تَبْطُلُ الدَّعْوَى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِجَدِّهِ اسْمَانِ. مِنْ الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى إرْثًا وَقَالَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرِي، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ مَعِي وَارِثًا آخَرَ تُسْمَعُ دَعْوَى الْإِرْثِ، إذْ التَّنَاقُضُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى كُلَّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ ثُمَّ ادَّعَى بَعْضَهُ، فَقَدْ ادَّعَى أَنْقَصَ مِنْ الْأَوَّلِ فَيُسْمَعُ. مِنْ الْوَاقِعَاتِ. [الْبَابُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ] فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ. إذَا جَاءَ إنْسَانٌ وَقَالَ: إنَّ هَذِهِ اللُّقَطَةَ لِي وَسَمَّى عَدَدَهَا وَعِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَهُمَا الْمَشْدُودُ فِيهِ وَبِهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِهِ عِنْدَنَا، وَإِنْ أَصَابَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ؛ وَلِأَنَّ بِهِ لَا يُعْرَفُ أَنَّهَا لَهُ

الباب الثاني والثلاثون في القضاء بقيام بعض أصحاب الحق عن بعض

فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ وَالْأَوْصَافَ تَتَشَابَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يَسْتَحِقُّهَا بِهِ لِمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «اعْرَفْ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ» قُلْنَا: أَمَرَ بِالدَّفْعِ إلَى مَالِكِهَا فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَنَحْنُ لَا نَشْتَرِطُ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ عَلَى سُقُوطِهَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ قِيَامُهَا عَلَى كَوْنِهِ مَالِكَهَا وَهُوَ مُمْكِنٌ. (مَسْأَلَةٌ) : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ إذَا رَفَعَ اللُّقَطَةَ لِيَرُدَّهَا إلَى مَكَانِهَا ثُمَّ وَضَعَهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ إنْ هَلَكَتْ أَوْ اسْتَهْلَكَهَا غَيْرُهُ لَمْ يَضْمَنْ، هَذَا إذَا لَمْ يَبْرَحْ عَنْ مَكَانِهَا، فَإِنْ بَرِحَ عَنْ مَكَانِهَا ضَمِنَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا مَشَى خُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ ثُمَّ أَعَادَهَا إلَى مَكَانِهَا بَرِئَ. وَلَوْ نَزَعَ الْخَاتَمَ مِنْ أُصْبُعِ نَائِمٍ ثُمَّ أَعَادَهُ فِي تِلْكَ النَّوْمَةِ بَرِئَ. اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ. [الْبَابُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِقِيَامِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَقِّ عَنْ بَعْضٍ] . فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ بَرْهَنَ عَلَيْهِ أَنِّي وَفُلَانًا الْغَائِبَ اشْتَرَيْنَا هَذَا مِنْهُ بِكَذَا وَنَقَدْنَا ثَمَنَهُ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَحْكُمُ لِلْحَاضِرِ بِنِصْفِهِ، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ كُلِّفَ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ: بِكُلِّهِ لِلْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ وَيَدْفَعُ إلَى الْحَاضِرِ نِصْفَهُ وَيُودِعُ الْبَاقِيَ عِنْدَ ثِقَةٍ وَلَا يَقْسِمُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ الشِّرَاءَ وَإِلَّا بَطَلَ نَصِيبُهُ فِيهِ وَصَارَ نَصِيبُ الْحَاضِرِ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ. وَذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَبْسُوطِ وَقَالَ: يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ لَا فِي حَقِّ الْغَائِبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا. (مَسْأَلَةٌ) : فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: ذُو الْيَدِ هُوَ لِي وَلِفُلَانٍ بِغَيْرِ إرْثٍ، وَقَالَ الْمُدَّعِي هُوَ لِي وَلِغَائِبٍ غَيْرَ مَنْ سَمَّيْتُهُ بِغَيْرِ إرْثٍ، فَبَرْهَنَ الْمُدَّعِي أَنَّ نِصْفَهُ لِي يُقْضَى لَهُ بِرُبْعِهِ، إذْ النِّصْفُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الْحَاضِرِ هُوَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَبَيْنَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ شَرِيكُهُ نِصْفَانِ. وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: نِصْفُهُ لِمَنْ سَمَّيْتُهُ وَنِصْفُهُ لِي، فَبَرْهَنَ يُقْضَى لَهُ بِالنِّصْفِ. وَلَوْ قَالَ ذُو الْيَدِ: نِصْفُهُ لِفُلَانٍ وَهُوَ دَفَعَهُ إلَيَّ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ، فَقَالَ الْمُدَّعِي: نِصْفُهُ لِمَنْ ذَكَرْتُهُ كَمَا قُلْتُ وَالنِّصْفُ لِآخَرَ، وَبَرْهَنَ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَحْضُرَ فُلَانٌ الْغَائِبُ الدَّافِعُ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِيَدِهِ دَارٌ بَاعَ نِصْفَهُ مِنْ رَجُلٍ غَيْرَ مَقْسُومٍ وَأَشْهَدَ لَهُ بِالْقَبْضِ وَبَاعَ النِّصْفَ الْآخَرَ مِنْ آخَرَ ثُمَّ اسْتَحَقَّ رَجُلٌ نِصْفَ الدَّارِ فَهُوَ خَصْمٌ لِلْمُشْتَرِينَ جَمِيعًا يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفَ مَا بِيَدِهِ، وَبِأَيِّهَا ظَفِرَ فَهُوَ خَصْمٌ يَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا بِيَدِهِ، وَلَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ لَمْ أَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَحِقِّ خُصُومَةً، وَلَوْ بَاعَ نِصْفَهُ مِنْ رَجُلٍ غَيْرَ مَقْسُومٍ وَقَبَضَ الْمُشْتَرِي فَالْمُدَّعِي خَصْمٌ لِلْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ، وَيَأْخُذُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفَ مَا بِيَدِهِ، وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ أَنَا أُسْلِمُ إلَيْك مَا بِيَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ وَهُوَ النِّصْفُ غَيْرَ مَقْسُومٍ جَازَ ذَلِكَ، وَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا لَوْ كَانَ هَذَا فِي كُرَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَبَاعَ مِنْهُمَا كُرًّا وَدَفَعَهُ فَاسْتَحَقَّ رَجُلٌ نِصْفَهُ فَإِنَّهُ خَصْمٌ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ بَاعَ نِصْفَ الدَّارِ غَيْرَ مَقْسُومٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى ادَّعَى النِّصْفَ فَالْخَصْمُ فِيهِ الْبَائِعُ لَا الْمُشْتَرِي. وَيُقْضَى لِلْمُدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ بِنِصْفِ الدَّارِ، وَيُقَالُ لِلْبَائِعِ سَلِّمْ لِلْمُشْتَرِي نِصْفَ الدَّارِ، كَذَا فِي الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: لَهُ دَيْنٌ عَلَيْهِمَا فَبَرْهَنَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ غَائِبٌ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقْضِي بِالْمَالِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَقْضِي بِهِ عَلَيْهِمَا لَوْ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيمَا عَلَيْهِمَا، وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمُحِيطِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقْضِي بِالْمَالِ عَلَيْهِمَا، كَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ.

الباب الثالث والثلاثون في القضاء بما تسمع فيه الشهادة بلا دعوى

فَرْعٌ) : لَوْ كَفَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا عَلَى الْآخَرِ بِأَمْرِهِ يَنْتَصِبُ الْحَاضِرُ خَصْمًا لِلْغَائِبِ، إذْ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْكَفِيلِ عَيْنُ مَا يَثْبُتُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، إذْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، لَا لَوْ كَانَ بِلَا أَمْرِهِ، إذْ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْكَفِيلِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْغَائِبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَائِبِ فَلَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: أَوْ كَانَ الْأَصِيلُ كَفِيلًا عَنْ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبُ كَفِيلًا عَنْهُ فِيهِ نَظَرٌ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ دُونَ الْكَفِيلِ كَمَا قَبْلَ الْكَفَالَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْأَصْلُ عَلَى الْغَائِبِ، وَالْحَاضِرُ كَفِيلٌ عَنْهُ إذْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ لَا الْأَصِيلِ، وَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ وُجُوبُهُ عَلَى الْأَصِيلِ، فَيَنْتَصِبُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ. وَمِنْ جِنْسِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ بَاعَ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ، فَبَرْهَنَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ أَلْفًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ بِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَى الْحَاضِرِ بِأَلْفٍ، نِصْفِهِ أَصَالَةٌ وَنِصْفِهِ كَفَالَةٌ. وَلَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ قَبْلَ أَخْذِ الْأَلْفِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ حَضَرَ إلَّا الْخَمْسَ الْمِائَةِ الْأَصْلِيَّةِ، إذْ الْحُكْمُ عَلَى كَفِيلِهِ حُكْمٌ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ عَلَى الْكَفِيلِ، وَفِيهِ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفٌ، وَكَفِيلٌ بِهِ بِأَمْرِهِ، فَبَرْهَنَ عَلَى الْأَصِيلِ أَنَّ لِي عَلَيْهِ كَذَا وَفُلَانٌ كَفَلَ بِهِ بِأَمْرِكَ، يُقْضَى عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا يَكُونُ هَذَا قَضَاءً عَلَى الْكَفِيلِ، فَلَوْ لَقِيَ الْكَفِيلُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُعِيدَ الْبَيِّنَةَ، وَلَوْ بَرْهَنَ عَلَى الْكَفِيلِ أَوَّلًا بِغَيْبَةِ الْأَصِيلِ وَأَثْبَتَ كَفَالَتَهُ بِأَمْرِهِ ثَبَتَ الْمَالُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْغَائِبِ وَيَنْتَصِبُ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْ الْأَصِيلِ، أَمَّا الْأَصِيلُ فَلَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْكَفِيلِ. مِنْ النَّوَازِلِ. [الْبَابُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِمَا تُسْمَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِلَا دَعْوَى] فِي الْقَضَاءِ بِمَا تُسْمَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِلَا دَعْوَى. الشَّهَادَةُ بِعِتْقِ الْأَمَةِ وَبِالطَّلَاقِ تُقْبَلُ حِسْبَةً بِلَا دَعْوَى، وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَرْأَةِ وَالْأَمَةِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى. قَالَ فِي شُرُوطِ الْحَلْوَانِيِّ: تَحْضُرُ الْمَرْأَةُ لِيُشِيرَ إلَيْهَا. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَبَانَ امْرَأَتَهُ فُلَانَةَ، فَقَالَتْ: لَمْ يُطَلِّقْنِي، وَقَالَ: الزَّوْجُ لَيْسَ اسْمُهَا فُلَانَةَ وَشَهِدَ أَنَّ اسْمَهَا فُلَانَةُ، فَالْقَاضِي يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا. وَيُمَاثِلُهُ عِتْقُ الْأَمَةِ، فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ حَرَّرَهَا وَأَنَّ اسْمَهَا كَذَا، وَقَالَتْ: لَمْ يُحَرِّرْنِي، فَالْقَاضِي يَحْكُمُ بِعِتْقِهَا. وَالشَّهَادَةُ بِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ بِدُونِ الدَّعْوَى تُقْبَلُ بِشَرْطِ حُضُورِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ بِدُونِ الدَّعْوَى فِي الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ. وَالشَّهَادَةُ بِالْوَقْفِ بِدُونِ الدَّعْوَى قِيلَ تُرَدُّ، وَقِيلَ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى كَطَلَاقٍ وَعِتْقِ أَمَةٍ. أَمَّا الشَّهَادَةُ بِعِتْقِ الْقِنِّ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِدُونِ دَعْوَاهُ خِلَافًا لَهُمَا. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ فِي الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ: إنَّ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشَّهَادَةِ بِالْعِتْقِ الْحَاصِلِ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ، أَمَّا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ تُقْبَلُ بِلَا دَعْوَاهُ وِفَاقًا، إذْ الشَّهَادَةُ بِحُرِّيَّةِ الْأَصْلِ شَهَادَةٌ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ، وَالشَّهَادَةُ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ شَهَادَةٌ بِحُرْمَةِ الْفَرْجِ وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ فَتُقْبَلُ حِسْبَةً كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَعِتْقِ الْأَمَةِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الصَّحِيحُ أَنَّ دَعْوَى الْقِنِّ شَرْطٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ أَيْضًا، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ لَا فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَلَا فِي الْعِتْقِ الْعَارِضِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْمُحِيطِ: لَا يَحْلِفُ عَلَى عِتْقِ الْقِنِّ حِسْبَةً بِدُونِ الدَّعْوَى وِفَاقًا. وَفِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَالطَّلَاقِ بِدُونِ الدَّعْوَى قِيلَ يَحْلِفُ وَقِيلَ لَا، فَيُتَأَمَّلُ عِنْدَ الْفَتْوَى. وَشَهَادَةُ رَمَضَانَ بِدُونِ الدَّعْوَى تُقْبَلُ عِنْدَهُمَا،

الباب الرابع والثلاثون القضاء في تحديد العقار ودعواه

وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الدَّعْوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ لَا فِي شَهَادَةِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى يُعْتَبَرُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، كَذَا فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ. [الْبَابُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْقَضَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْعَقَارِ وَدَعْوَاهُ] فِي الْقَضَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْعَقَارِ وَدَعْوَاهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. يُكْتَبُ فِي الْحَدِّ " يَنْتَهِي إلَى كَذَا أَوْ يُلَاصِقُ كَذَا "، وَلَا يُكْتَبُ " وَأَحَدُ حُدُودِهِ كَذَا "، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ كَتَبَ أَحَدَ حُدُودِهِ دَخَلَهُ أَوْ الطَّرِيقَ أَوْ الْمَسْجِدَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلَا تَدْخُلُ الْحُدُودُ فِي الْبَيْعِ إذْ قَصْدُ النَّاسِ إظْهَارُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ، لَكِنَّ أَبُو يُوسُفَ قَالَ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ إذْ الْحُدُودُ فِيهِ تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، فَاخْتَرْنَا " يَنْتَهِي " أَوْ " لَزِيقُ " أَوْ " يُلَاصِقُ " تَحَرُّزًا عَنْ الْخِلَافِ؛ وَلِأَنَّ الدَّارَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَدْخُلُ الْحَدُّ فِي الْبَيْعِ، هِيَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُنْتَهَى إلَيْهِ، فَأَمَّا ذَلِكَ الْمَوْضِعُ الْمُنْتَهَى إلَيْهِ فَقَدْ جُعِلَ حَدًّا وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْحَدُّ فِي الْبَيْعِ، فَالْمُنْتَهِي إلَى الدَّارِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَيْعِ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِنَا: حُدُودُهُ تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وِفَاقًا مِنْ شُرُوطِ الْحَاكِمِ (مَسْأَلَةٌ) : بَعْدَ ذِكْرِ الْحُدُودِ يَقُولُ بِحُدُودِهِ وَحُقُوقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ فَيَتَعَطَّلُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ فَلَا يُفِيدُهُ اسْتِحْقَاقُ الدَّارِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الدَّارَ بِطَرِيقِهِ وَمَسِيلِ مَائِهِ لَوْ كَانَ بَابُ الدَّارِ وَالْمِيزَابُ عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ يَصِيرُ مُدَّعِيًا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ تَمْلِيكَهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَمْ يَجُزْ، إذْ طَرِيقُ الْعَامَّةِ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ قَالَهُ فِي الْأَقْضِيَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَا يَكْتَفِي بِذِكْرِ الْحَدَّيْنِ وَيَكْتَفِي بِثَلَاثَةٍ فَيَجْعَلُ الرَّابِعَ بِإِزَاءِ الثَّالِثِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى مَبْدَأِ الْحَدِّ الْأَوَّلِ، وَالشَّهَادَةُ كَالدَّعْوَى فِيمَا مَرَّ مِنْ الْأَحْكَامِ. قَالَهُ فِي الْمُحِيطِ. (فَرْعٌ) : لَوْ كَانَ الْحَدُّ الرَّابِعُ مِلْكَ رَجُلَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَرْضٌ عَلَى حِدَةٍ فَذَكَرَ فِي الْحَدِّ الرَّابِعِ لَزِيقَ مِلْكِ فُلَانٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْآخَرَ يَصِحُّ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الرَّابِعُ لَزِيقَ أَرْضٍ وَمَسْجِدٍ فَذَكَرَ الْأَرْضَ لَا الْمَسْجِدَ يَجُوزُ. وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْفَصْلَانِ، إذْ جَعَلَ الْحَدَّ الرَّابِعَ كُلَّهُ لَزِيقَ مِلْكِ فُلَانٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ مِلْكَ فُلَانٍ فَدَعْوَاهُ لَمْ تَتَنَاوَلْ هَذِهِ الْحُدُودَ فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ غَلِطَ فِي أَحَدِ الْأَرْبَعَةِ، بِخِلَافِ سُكُوتِهِ عَنْ الرَّابِعِ. قَالَهُ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : شَهِدَا بِحُدُودٍ ثَلَاثَةٍ وَقَالَا لَا نَعْرِفُ الرَّابِعَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا، كَمَا لَوْ غَلِطَ فِي الرَّابِعِ، أَحَدِ حُدُودِهَا، أَوْ كُلُّهَا مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الْمُدَّعِي، هَلْ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْفَاصِلِ؟ قِيلَ لَا يَحْتَاجُ، وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى أَرْضًا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ بَيْتًا أَوْ مَنْزِلًا أَوْ دَارًا فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْفَاصِلِ، وَالْجِدَارُ فَاصِلٌ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْحَدَّ الرَّابِعَ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الْمُدَّعِي يُفْصَلُ وَلَمْ يُذْكَرْ الْفَاصِلُ فِي الْأَرَاضِي أَيْضًا، وَلَوْ ذُكِرَ الْفَاصِلُ وَحُكِمَ بِالْمُدَّعَى، هَلْ يَدْخُلُ الْفَاصِلُ فِي الْحُكْمِ؟ فَفِي فَوَائِدِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بُرْهَانِ الدِّينِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَدْخُلُ، وَكَذَا وَقَعَتْ فِي الْفَتَاوَى: كَتَبَ فِي صَكِّ الشِّرَاءِ: أَحَدُ حُدُودِهِ دَارُ الْبَائِعِ وَالْفَاصِلُ جِدَارٌ رَهْصٌ، فَالْجِدَارُ الْفَاصِلُ لِمَنْ يَكُونُ فِي فَوَائِدِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لِلْمُشْتَرِي، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى أَرْضًا وَذَكَرُوا أَنَّ الْفَاصِلَ شَجَرَةٌ لَا يَكْفِي، إذْ الشَّجَرَةُ لَا تُحِيطُ بِكُلِّ الْمُدَّعَى بِهِ، وَالْفَاصِلُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِكُلِّ الْمُدَّعَى بِهِ حَتَّى يَصِيرَ مَعْلُومًا. (فَرْعٌ) : قَالَ فِي الْمُحِيطِ: لَوْ جُعِلَ الْحَدُّ طَرِيقَ الْعَامَّةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنَّهُ طَرِيقُ الْقَرْيَةِ أَوْ الْبَلْدَةِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْحَدِّ لِإِعْلَامِ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْمَحْدُودُ، وَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ حَيْثُ انْتَهَى إلَى الطَّرِيقِ، وَفِيهِ الطَّرِيقُ يَصْلُحُ حَدًّا، وَلَا

الباب الخامس والثلاثون في القضاء بالإشارة والنسب

حَاجَةَ فِيهِ إلَى بَيَانِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُبَيَّنُ الطَّرِيقُ بِالذِّرَاعِ. وَالنَّهْرُ لَا يَصْلُحُ حَدًّا عِنْدَ الْبَعْضِ، وَكَذَا السُّوَرُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَصْلُحُ حَدًّا. وَالْخَنْدَقُ كَالنَّهْرِ، قَالَ فِي الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سُوَرُ الْمَدِينَةِ وَالنَّهْرُ وَالطَّرِيقُ لَا يَصْلُحُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَرُبَّمَا يَخْرُبُ السُّوَرُ وَلَا يَبْقَى، وَعَسَى يُتْرَكُ السُّلُوكُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ وَإِجْرَاءُ الْمَاءِ فِي هَذَا النَّهْرِ وَعِنْدَهُمَا يَصْلُحُ حَدًّا وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأُوزْجَنْدِيُّ قَوْلَهُمَا. (فَرْعٌ) : بَيَّنَ حُدُودَ الدَّارِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ كَرْمٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ دَارٌ وَشَهِدَا كَذَلِكَ قِيلَ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَلَا الشَّهَادَةُ وَقِيلَ تُسْمَعُ لَوْ بَيَّنَ الْمِصْرَ وَالْمَحَلَّةَ وَالْمَوْضِعَ. وَقِيلَ ذِكْرُ الْمِصْرِ وَالْقَرْيَةِ وَالْمَحَلَّةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ قَالَهُ فِي الذَّخِيرَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : مِنْ الْجَامِعِ الْفَتَاوَى: ادَّعَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ نَحْوَهُ وَبَيَّنَ حُدُودَهُ لَا يَصِحُّ إذْ السُّكْنَى نَقْلٌ فَلَا يُحَدُّ. قَالَ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ: وَإِنْ كَانَ السُّكْنَى نَقْلِيًّا لَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ كَانَ تَعْرِيفُهُ بِمَا بِهِ تُعْرَفُ الْأَرْضُ، إذْ فِي سَائِرِ النَّقْلِيَّاتِ إنَّمَا لَا يُعْرَفُ بِالْحُدُودِ لِإِمْكَانِ إحْضَارِهِ، فَيَسْتَغْنِي بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ عَنْ الْحَدِّ، أَمَّا السُّكْنَى فَنَقْلُهُ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ فِي الْبِنَاءِ تَرْكِيبَ قَرَارٍ فَالْتَحَقَ بِمَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ أَصْلًا. (مَسْأَلَةٌ) : الشَّاهِدُ لَوْ أَخْطَأَ فِي بَعْضِ الْحَدِّ ثُمَّ تَدَارَكَ وَأَعَادَ الشَّهَادَةَ وَأَصَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَوْ أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ، سَوَاءٌ تَدَارَكَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ وَمَعْنَى إمْكَانِ التَّوْفِيقِ أَنْ يَقُولَ: كَانَ صَاحِبُ الْحَدِّ فُلَانًا إلَّا أَنَّهُ بَاعَ دَارِهِ مِنْ فُلَانٍ آخَرَ وَمَا عَلِمْنَا بِهِ، أَوْ يَقُولَ: كَانَ صَاحِبُ الْحَدِّ بِهَذَا الِاسْمِ إلَّا أَنَّهُ سُمِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِهَذَا الِاسْمِ الْآخَرِ وَمَا عَلِمْنَا بِهِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فَافْهَمْ أَصْلَهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ هَذَا إذَا تَرَكَ الشَّاهِدُ أَحَدَ الْحُدُودِ أَوْ غَلِطَ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُدَّعِي أَحَدَ الْحُدُودِ أَوْ غَلِطَ فَحُكْمُهُ كَالشَّاهِدِ جُمْلَةً. قَالَهُ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ. وَفِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ: لَوْ غَلِطَ الشُّهُودُ فِي الْحَدِّ الرَّابِعِ ثُمَّ ذَكَرُوا عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ وَقَالُوا هَذَا هُوَ الشَّهَادَةُ بِالدَّعْوَى الْأُولَى لَا يُقْبَلُ لِلتَّنَاقُضِ. [الْبَابُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْإِشَارَةِ وَالنَّسَبِ] فِي الْقَضَاءِ بِالْإِشَارَةِ وَالنَّسَبِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ. اعْلَمْ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الدَّعْوَى قَطْعًا لِلِاحْتِمَالِ حَتَّى قَالُوا: لَوْ كُتِبَ فِي الْمَحْضَرِ حَضَرَ فُلَانٌ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَأَحْضَرَ مَعَهُ فُلَانًا فَادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَى لَا يُفْتَى بِصِحَّةِ الْمَحْضَرِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَى هَذَا أَحْضَرَهُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِهِ يُوهَمُ أَنَّهُ أَحْضَرَ وَادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَا عِنْدَ ذِكْرِ الْخَصْمَيْنِ فِي أَثْنَاءِ الْمَحْضَرِ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ هَذَا فَيَكْتُبُ الْمُدَّعِي هَذَا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا وَكَذَا لَوْ ذُكِرَ الْخَصْمَانِ فِي الْمَحْضَرِ أَوْ السِّجِلِّ بِاسْمِهِمَا وَأُشِيرَ إلَيْهِمَا بِأَنْ يَكْتُبَ مَثَلًا، وَقَضَيْتُ لِمُحَمَّدٍ هَذَا عَلَى أَحْمَدَ هَذَا لَا يَذْكُرُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلْيَكْتُبْ قَضَيْتُ لِمُحَمَّدٍ هَذَا الْمُدَّعِي عَلَى أَحْمَدَ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِذَا كَتَبَ عِنْدَ ذِكْرِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَأَشَارُوا إلَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ هَذَيْنِ لَا يُفْتَى بِصِحَّتِهِ، إذْ الْإِشَارَةُ الْمُعْتَبَرَةُ هِيَ الْإِشَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَلَعَلَّهُمْ أَشَارُوا إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْمُدَّعِي، وَأَشَارُوا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِشَارَةِ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ. وَعَنْ هَذَا قَالُوا: لَوْ كُتِبَ فِي صَكِّ الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ أَجْر فُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ أَرْضُهُ بَعْدَ مَا جَرَتْ الْمُبَايَعَةُ الصَّحِيحَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَشْجَارِ وَالدَّارِجِينَ الَّتِي فِي هَذِهِ الْأَرْضِ لَا يُفْتَى بِصِحَّةِ الصَّكِّ. وَكَذَا لَوْ كُتِبَ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَكَانٌ بَيْنَهُمَا لَا يُفْتَى بِصِحَّةِ الصَّكِّ لِجَوَازِ أَنَّ

الْأَشْجَارَ كَانَتْ لِلْمُسْتَأْجِرِ بَاعَهَا مِنْ الْمُؤَجِّرِ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَصِحُّ إجَارَةُ الْأَرْضِ، وَهَذِهِ إجَارَةُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَا جَرَتْ الْمُبَايَعَةُ الصَّحِيحَةُ فِي الْأَشْجَارِ بَيْنَهُمَا كَمَا كُتِبَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَبَعْدَ مَا جَرَتْ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَمَا كُتِبَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَعَاقِدَانِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ آجِرُ الْأَرْضِ مِنْهُ بَعْدَمَا بَاعَ الْمُؤَجِّرُ الْأَشْجَارَ مِنْهُ اُنْظُرْ دَقَائِقَ الْإِعْرَابِ وَالْخُلَاصَةَ. (مَسْأَلَةٌ) : بَرْهَنَ أَنَّهُ وَارِثُ فُلَانٍ الْمَيِّتِ لَا يُحْكَمُ بِوِرَاثَتِهِ مَا لَمْ يُبَيِّنُوا سَبَبَ الْوِرَاثَةِ. وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً وَشَهِدُوا أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا أَشْهَدَنَا عَلَى حُكْمِهِ أَنَّ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَقَالُوا: لَا نَدْرِي بِأَيِّ سَبَبٍ حُكِمَ فَالْقَاضِي الثَّانِي يَجْعَلُهُ وَارِثًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ، وَكَذَا فِي السِّجِلِّ وَكِتَابِ الْقَاضِي. وَلَوْ كَتَبَ السِّجِلَّ مُوجَزًا ثَبَتَ عِنْدِي مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الْحَوَادِثُ الشَّرْعِيَّةُ وَالنَّوَازِلُ الْحُكْمِيَّةُ لَا يُفْتَى بِصِحَّةِ السِّجِلِّ مَا لَمْ يُبَيَّنْ الْأَمْرُ عَلَى الْوَجْهِ وَقِيلَ يُفْتَى بِصِحَّتِهِ. قَالُوا: وَكَذَا يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى مُوَافَقَةِ الدَّعْوَى. وَذَكَرَ الْإِمَامُ النَّسَفِيُّ فِي نُسْخَتِهِ حِكَايَةَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ مَعَ قَاضِي غليسية وَرَدَّهُ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ بِهَذَا. وَنُقِلَ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَيْفَ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ وَشَهِدُوا عَلَى مُوَافَقَةِ الدَّعْوَى وَالْمُدَّعِي يَقُولُ الْمُدَّعَى بِهِ مِلْكِي وَالشَّاهِدُ يَقُولُ الْمُدَّعَى بِهِ مِلْكُ الْمُدَّعِي فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ فِي السِّجِلَّاتِ دُونَ الْمَحَاضِرِ؛ لِأَنَّ السِّجِلَّ يَرِدُ مِنْ مِصْرٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ فِي التَّدَارُكِ حَرَجٌ. أَمَّا فِي الْمَحَاضِرِ فَيُمْكِنُ التَّدَارُكُ. مِنْ الْخُلَاصَةِ. قَالُوا: يُكْتَبُ فِي مَحْضَرِ الدَّعْوَى شَهِدُوا عَقِيبَ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَكَذَا يُكْتَبُ عَقِيبَ الْجَوَابِ بِالْإِنْكَارِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَيْ لَا يُظَنَّ أَنَّهُمْ شَهِدُوا قَبْلَ الدَّعْوَى أَوْ عَلَى الْخَصْمِ الْمُقِرِّ إذْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُقِرِّ لَا تُسْمَعُ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مَعْدُودَةٍ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ: لَوْ أُخْبِرَتْ امْرَأَةٌ أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ لَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ لَا يَكْفِي، وَلَوْ عَرَفَهَا رَجُلَانِ وَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وِفَاقًا؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِ الشَّهَادَةِ مِنْ التَّأْكِيدِ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ بِاَللَّهِ مَعْنًى. وَلَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ أَخْبَرَ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ. وَعِنْدَهُمَا لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ أَنَّهَا بِنْتُ فُلَانِ بْنُ فُلَانٍ يَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ، وَيَصِحُّ تَعْرِيفُ مَنْ لَا يَصِحُّ شَاهِدًا لَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهَادَةُ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا وَقِيلَ لَا يَصِحُّ فِيمَا لَهَا. وَاخْتَارَ النَّسَفِيُّ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ لَا شَهَادَةٌ وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، وَفِي الْخَبَرِ الْحَاجَةُ إلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ. كَذَا فِي الْمُحِيطِ. (فَرْعٌ) : ذَكَرَ رَشِيدُ الدِّينِ: وَتَعْرِيفُ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالزَّوْجِ يَجُوزُ، إذْ شَهَادَةُ هَؤُلَاءِ عَلَيْهَا مُعْتَبَرَةٌ فَصَحَّ التَّعْرِيفُ أَيْضًا لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، بِخِلَافِ التَّعْدِيلِ، فَإِنَّ التَّعْدِيلَ شَهَادَةٌ وَالتَّعْرِيفَ لَا. قَالَ فِي الْجَامِعِ فِي الْفَتَاوَى: تَعْرِيفُهَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَعْرِفَتِهَا عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وَهَلْ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُنْتَقِبَةِ؟ بَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: يَصِحُّ عِنْدَ التَّعْرِيفِ، وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي " فَصْلِ مَا يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ " وَعَنْ ابْنِ مُقَاتِلٍ: لَوْ سَمِعَ إقْرَارَ امْرَأَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ وَذَكَرَ نَسَبَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا أَطْلَقَ الْجَوَابَ إطْلَاقًا. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا إلَّا إذَا رَأَى شَخْصَهَا حَالَ إقْرَارِهَا، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إقْرَارِهَا بِشَرْطِ رُؤْيَةِ شَخْصِهَا لَا رُؤْيَةِ وَجْهِهَا. (مَسْأَلَةٌ) : حَسَرَتْ عَنْ وَجْهِهَا وَقَالَتْ: أَنَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَهَبْتُ لِزَوْجِي مَهْرِي فَلَا يَحْتَاجُ

الباب السادس والثلاثون في القضاء بأحكام الشيوع

الشُّهُودُ إلَى شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ مَا دَامَتْ حَيَّةً، إذْ يُمْكِنُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا، فَإِنْ مَاتَتْ فَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ الشُّهُودُ إلَى شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ بِنَسَبِهَا. اُنْظُرْ الْجَامِعَ الصَّغِيرَ. [الْبَابُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِأَحْكَامِ الشُّيُوعِ] فِي الْقَضَاءِ بِأَحْكَامِ الشُّيُوعِ وَمَسَائِلِهِ. اعْلَمْ أَنَّ الشَّائِعَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: شَائِعٌ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَنِصْفِ الدَّارِ وَنِصْفِ الْبَيْتِ الْكَبِيرِ. وَشَائِعٌ لَا يَحْتَمِلُهَا كَنِصْفِ قَنٍّ وَرَحًا وَحِمَارٍ وَثَوْبٍ وَبَيْتٍ صَغِيرٍ. فَفَاصِلٌ بَيْنَهُمَا حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَجْبَرَ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْقِسْمَةِ بِطَلَبِ الْآخَرِ فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ يُجْبِرْ فَهُوَ مِنْ الثَّانِي، إذْ الْجَبْرُ آيَةُ الْقَبُولِ. وَأُمَّهَاتُ مَسَائِلِ الشُّيُوعِ سَبْعٌ: بَيْعُ الشَّائِعِ، وَإِجَارَتُهُ، وَإِعَارَتُهُ، وَرَهْنُهُ، وَهِبَتُهُ، وَصَدَقَتُهُ، وَوَقْعُهُ. أَمَّا بَيْعُهُ فَقِسْمَانِ: يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا، وَكُلُّ قِسْمٍ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَمَّا إنْ بَاعَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ شَرِيكِهِ فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْبَيْعُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ عَلَى صِنْفَيْنِ، أَمَّا إنْ كَانَ لِكُلٍّ لَهُ فَبَاعَ نِصْفَهُ أَوْ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا. اُنْظُرْ التَّجْنِيسَ. (مَسْأَلَةٌ) : نَخْلٌ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ ثَمَرٌ أَوْ أَرْضٌ بَيْنَهُمَا وَفِيهَا زَرْعٌ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا حَظَّهُ مِنْ الْكُلِّ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، إذْ الْمُشْتَرِي لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَطْعِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْبَائِعِ اُنْظُرْ الْوَاقِعَاتِ. (فَرْعٌ) : دَارٌ بَيْنَهُمَا فَبَاعَ أَحَدُهُمَا بِنَاءَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَجُزْ، إذْ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ بَاعَهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ أَوْ بِشَرْطِ الْقَلْعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَجُوزُ إذْ فِيهِ شَرْطُ مَنْفَعَةٍ لِلْمُشْتَرِي سِوَى الْبَيْعِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ إجَارَةٍ فِي بَيْعٍ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلَمْ يَجُزْ لِضَرَرٍ فِيهِ بِشَرِيكِهِ وَكَذَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا فَصَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ هَذَا الْبِنَاءِ أَوْ عَلَى نِصْفِ هَذَا الزَّرْعِ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَجُزْ. (مَسْأَلَةٌ) : بَاعَ بِنَاءً بِلَا أَرْضٍ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَلَوْ أَنَّ بَيْنَهُمَا بِئْرًا وَأَرْضًا بَاعَ أَحَدُهَا حَظَّهُ مِنْ الْبِئْرِ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ طَرِيقٌ فِي الْأَرْضِ جَازَ، لَا لَوْ بَاعَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي طَرِيقٌ فِي الْأَرْضِ ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى. (فَرْعٌ) : لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا حَظَّهُ مِنْ بَيْتٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الدَّارِ فَلِلْآخَرِ إبْطَالُ بَيْعِهِ مِنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ. (فَصْلٌ) : قَالَ فِي الْمُحِيطِ: دَارٌ بَيْنَهُمَا فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ بَيْتٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا شَائِعًا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَضَرُّرِ شَرِيكِهِ فِي تَقْطِيعِهِ نَصِيبَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ بَاعَ نِصْفَ كُلِّ بَيْتٍ مِنْهَا لَمْ يَنْقَطِعْ نَصِيبُ شَرِيكِهِ. قَالَ: وَكَذَا الْأَرْضُ وَإِنْ بَيْنَهُمَا عَشَرَةَ ثِيَابٍ هَرَوِيَّةٍ مِمَّا يُقْسَمُ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ مِنْ رَجُلٍ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَوَّزَهُ، وَكَذَا الْغَنَمُ، وَهَذَا لَا يُشْبِهُ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا وَالدَّارُ سَوَاءً فِي قَوْلِهِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مِنْ كُلِّ شَاةٍ نِصْفَهَا مِنْ رَجُلٍ عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَسْتَطِعْ شَرِيكُهُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ نَصِيبَهُ فِيهَا فَتَضَرَّرَ وَانْقَطَعَ نَصِيبُهُ فَكَيْفَ يَخْتَلِفَانِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْضٌ وَنَخْلٌ وَبَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ نَخْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِأَصْلِهَا مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا مَرَّ. وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الْأَرْضِ وَاسْتَثْنَى نِصْفَ النَّخْلِ بِأَصْلِهِ فَهَذَا مِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَكَذَا لَوْ بَاعَ نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا إلَّا بَيْتًا مُعَيَّنًا مِنْهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَنَا أَرَى كُلَّ هَذَا جَائِزًا أَلَّا أَنْقُضُ بَيْعًا لِقِسْمَةٍ لَا يُدْرَى تَقَعُ

أَمْ لَا، وَلَعَلَّهَا لَوْ وَقَعَتْ لَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ ضَرَرٌ مِنْ هَذَا الْبَيْعِ. وَلَوْ بَاعَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ، فَلَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُشْتَرِي يَعْلَمُ نَصِيبَهُ جَازَ، وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا مُعَيَّنًا لَمْ يَجُزْ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَقَعَ هَذَا فِي نَصِيبِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَمَّا فِي نَصِيبِهِ فَيَجُوزُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ. (مَسْأَلَةٌ) : قِنُّ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَا شَرِيكَيْنِ فِي الْأَشْيَاءِ، وَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِبَيْعِ حَظِّهِ مِنْ الْقِنِّ فَبَاعَ الْمَأْمُورُ نِصْفَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيَّ النِّصْفَيْنِ هُوَ، فَمَاتَ الْقِنُّ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ حَظِّي، صُدِّقَ. مِنْ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ قَاضِي خَانُ: لَهُ دَارٌ فَبَاعَ رَجُلٌ نِصْفَ بِنَائِهَا بِالْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ وَلَوْ بَاعَ سَهْمًا وَاحِدًا شَائِعًا بِحُدُودِ هَذَا السَّهْمِ قَالَ النَّسَفِيُّ: قَالَ مَشَايِخُنَا بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ إذْ يُوهِمُ الْإِفْرَازَ، فَالْمُفْرِزُ يَكُونُ لَهُ الْحُدُودُ، أَمَّا الشَّائِعُ فَلَا وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ. وَأَمَّا إجَارَةُ الْمَشَاعِ فَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَبَيْنَ مَا لَا يَحْتَمِلُهَا، فَجَوَابُ الْكُلِّ وَاحِدٌ عِنْدَهُ. ثُمَّ لَوْ أَجَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ، وَسَوَاءٌ أَجَّرَ كُلَّ نَصِيبِهِ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ بَعْضَهُ. وَلَوْ أَجَّرَ نَصِيبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ، وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ لِرَجُلٍ فَأَجَّرَ نِصْفَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِيلَ لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى لَا يَجِبُ الْأَجْرُ أَصْلًا، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فَأَجَّرَهُ مِنْ اثْنَيْنِ فَإِنْ أَجْمَلَ وَقَالَ أَجَّرْتُ الدَّارَ مِنْكُمَا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ فَصَّلَ بِقَوْلِهِ: نِصْفُهُ مِنْكَ وَنِصْفُهُ مِنْكَ أَوْ نَحْوِهِ كَثُلُثٍ وَرُبْعٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى اخْتِلَافٍ مَرَّ فِيمَا إذَا كَانَ كُلُّهُ بَيْنَهُمَا وَأَجَّرَ أَحَدُهُمَا النِّصْفَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ فِي رِوَايَةٍ لَا فِي رِوَايَةٍ، وَالشُّيُوعُ الطَّارِئُ لَا يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيُفْسِدُهَا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، كَذَا قَالَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ. (فَصْلٌ) : إيدَاعُ الْمَشَاعِ جَائِزٌ، وَقَرْضُ الْمَشَاعِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ اُنْظُرْ الْهِدَايَةَ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْعُيُونِ: مُضَارَبَةُ الْمَشَاعِ لَمْ تَجُزْ، وَهِبَةُ الْمَشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ شَرِيكِهِ يَجُوزُ، وَمِنْ غَيْرِهِ وَفِيمَا يَحْتَمِلُهَا لَمْ يَجُزْ لَا مِنْ شَرِيكِهِ وَلَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَطُرُوِّ الشُّيُوعِ لَا يُفْسِدُ الْهِبَةَ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَوْ وُهِبَ الْكُلَّ مِنْ اثْنَيْنِ فَإِنْ أَجْمَلَ بِأَنْ قَالَ وَهَبْتُهُ مِنْكُمَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ. وَلَوْ فَصَّلَ بِالتَّنْصِيفِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَوْ بِالتَّثْلِيثِ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا عِنْدَهُمَا. (فَصْلٌ) : رَهْنُ الشَّائِعِ لَمْ يَجُزْ مِنْ شَرِيكِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ احْتَمَلَ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا، وَطُرُوُّ الشُّيُوعِ كَقِرَانٍ، وَطُرُّوهُ بِأَنْ بَاعَ الْعَدْلُ بَعْضَ الرَّهْنِ وَقَدْ كَانَ وَكِيلًا بِبَيْعِهِ مُجْتَمِعًا وَمُتَفَرِّقًا بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي أَوْ كَانَ قَلْبًا فَانْكَسَرَ ضَمِنَ نِصْفَهُ فَيَصِيرُ لَهُ فَبَطَلَ الرَّهْنُ. كَذَا عَنْ الْإِيضَاحِ. (فَرْعٌ) : رَهَنَا عَيْنًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ جَازَ، إذْ لَا شُيُوعَ فِي الدَّيْنِ إلَّا إذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا رَهَنْتُكَ بِحَقِّكَ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ كَذَا عَنْ خِزَانَةِ الْفَتْوَى. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: لَمْ يَجُزْ رَهْنُ تَمْرٍ عَلَى نَخِيلٍ وَلَا زَرْعٍ أَوْ نَخْلٍ فِي أَرْضٍ دُونَهَا لِاتِّصَالِ الرَّهْنِ بِغَيْرِهِ خِلْقَةً فَصَارَ كَشُيُوعٍ، وَكَذَا رَهْنُ أَرْضٍ بِلَا نَخْلٍ وَزَرْعٍ أَوْ رَهْنُ نَخْلٍ بِلَا تَمْرٍ لِمَا مَرَّ، فَالْأَصْلُ أَنَّ الرَّهْنَ لَوْ كَانَ مُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لِتَعَذُّرِ قَبْضِهِ وَحْدَهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَهْنَ الْأَرْضِ بِدُونِ الشَّجَرِ جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ اسْمٌ لِلنَّابِتِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءُ الْأَشْجَارِ بِمَوَاضِعِهَا، بِخِلَافِ رَهْنِ دَارٍ دُونَ بِنَاءٍ إذْ الْبِنَاءُ اسْمٌ لِلْمَبْنِيِّ

الباب السابع والثلاثون في القضاء بدعوى الوقف

فَيَصِيرُ رَاهِنًا جَمِيعَ الْأَرْضِ وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِمِلْكِ الرَّاهِنِ. وَلَوْ رَهَنَ النَّخِيلَ بِمَوَاضِعِهَا جَازَ إذْ هَذِهِ تُجَاوِرُهُ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ، وَيَدْخُلُ التَّمْرُ تَبَعًا لِاتِّصَالِهِ فَيَدْخُلُ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، إذْ بَيْعُ النَّخِيلِ بِلَا تَمْرٍ جَائِزٌ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِهِ بِلَا ذِكْرٍ، بِخِلَافِ مَتَاعٍ فِي دَارٍ حَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِي رَهْنِ الدَّارِ بِلَا ذِكْرٍ، إذْ لَا تَبَعِيَّةَ. وَكَذَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالرَّطْبَةُ فِي رَهْنِ الْأَرْضِ لَا فِي بَيْعِهَا لِمَا مَرَّ، وَيَدْخُلُ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فِي رَهْنِ أَرْضٍ وَدَارٍ وَقَرْيَةٍ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ رَهَنَ دَارًا بِمَا فِيهِ جَازَ، فَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ فَلَوْ جَازَ رَهْنُ الْبَاقِي ابْتِدَاءً بَقِيَ رَهْنًا بِحِصَّتِهِ وَإِلَّا بَطَلَ كُلُّهُ. [الْبَابُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِدَعْوَى الْوَقْفِ] فِي الْقَضَاءِ بِدَعْوَى الْوَقْفِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. (مَسْأَلَةٌ) : أَرْضٌ بِيَدِهِ وَأَرْضٌ أُخْرَى بِيَدِ آخَرَ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ هَاتَيْنِ الْأَرْضَيْنِ وَقْفٌ عَلَيْهِ، وَقَّفَهُمَا جَدُّهُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَحْفَادِهِ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا. وَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ غَائِبٌ فَبَرْهَنَ الْمُدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ لَوْ شَهِدَا أَنَّهُمَا مِلْكُ الْوَاقِفِ وَقَّفَهُمَا جَمِيعًا وَقْفًا وَاحِدًا وَذَكَرَ شَرَائِطَ الْوَقْفِ، حُكِمَ عَلَى الْحَاضِرِ بِكَوْنِ الْأَرْضَيْنِ وَقْفًا، إذْ الْحَاضِرُ هُنَا يَصِيرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فَصَارَ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ وَقَّفَ وَقْفَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ يَقْضِي بِمَا فِي يَدِ الْحَاضِرِ فَقَطْ قَالَهُ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ إشْكَالٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بِوَقْفِيَّةٍ بِمَا فِي يَدِ الْحَاضِرِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أُلْحِقَ بِأَحَدِ الْوَرَثَةِ، وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَصِيرُ خَصْمًا عَنْ الْبَقِيَّةِ إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ بِيَدِهِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى عَيْنًا مِنْ التَّرِكَةِ عَلَى وَارِثٍ لَيْسَ الْعَيْنُ بِيَدِهِ لَا تُسْمَعُ وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَحَدُ الْأَرْضَيْنِ بِيَدِ الْغَائِبِ فَكَيْفَ يَقْضِي بِوَقْفِيَّتِهَا عَلَى الْحَاضِرِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: ادَّعَى دَارًا فَقَالَ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَأَنَا قَيِّمُهُمْ صَحَّ إقْرَارُهُ وَيَكُونُ وَقْفًا، فَلَوْ أَرَادَ الْمُدَّعِي تَحْلِيفَهُ لِيَأْخُذَ الدَّارَ لَوْ نَكَلَ لَا يُحَلِّفُهُ وِفَاقًا، إذْ الْعَيْنُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِصَيْرُورَتِهِ وَقْفًا. وَلَوْ أَرَادَ تَحْلِيفَهُ لِيَأْخُذَ الْقِيمَةَ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْحَسَنِ لَا يُحَلِّفُهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَقَارِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُحَلِّفُهُ وَإِنْ نَكَلَ يَأْخُذُ مِنْهُ قِيمَتَهُ وَيُفْتِي بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ كَيْ لَا يَحْتَالَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَنْ نَفْسِهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالدَّارِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي مَسَائِلِ الِاسْتِحْلَافِ وَقْفَهُ فِي صِحَّتِهِ فَمَاتَ وَادَّعَى أَحَدٌ أَنَّهُ لَهُ وَأَقَرَّ بِهِ وَرَثَتُهُ لَا يُبْطِلُ الْوَقْفَ، وَضَمِنُوا قِيمَتَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ أَنْكَرُوا فَلَهُ تَحْلِيفُهُمْ لِأَخْذِ الْقِيمَةِ، أَيْ لَوْ أَرَادَ تَحْلِيفَهُمْ لِيَأْخُذَ الْوَقْفَ فَلَا يَمِينَ لَهُمْ عَلَيْهِ. كَذَا فِي التَّجْنِيسِ. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَيْهِ لَوْ ادَّعَاهُ بِإِذْنِ الْقَاضِي يَصِحُّ وِفَاقًا، وَبِغَيْرِ إذْنِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْغَلَّةِ لَا غَيْرُ، فَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جَمَاعَةً فَادَّعَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ وَقْفٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ، رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَفِيهِ أَنَّ مُسْتَحِقَّ غَلَّةِ الْوَقْفِ لَا يَمْلِكُ دَعْوَى غَلَّةِ الْوَقْفِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمُتَوَلِّي وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ مُعَيَّنٍ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّي بِغَيْرِ إطْلَاقِ الْقَاضِي، إذْ الْحَقُّ لَا يَعْدُوهُ، وَيُفْتِي بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَخْذُ الْغَلَّةِ لَا التَّصَرُّفُ فِي الْغَلَّةِ، وَلَوْ غَصَبَ الْوَقْفَ أَحَدٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ الْخُصُومَةُ بِلَا إذْنِ الْقَاضِي كَذَا عَنْ الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى أَنَّهُ وَقْفٌ وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزْ، إذْ الصُّلْحُ كَبَيْعٍ وَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي بَيْعُهُ

فصل: متول ادعى أنه وقف على كذا ولم يذكر الواقف

وَاسْتِبْدَالُهُ. وَلَوْ دَفَعَ الْمُتَوَلِّي شَيْئًا إلَى ذِي الْيَدِ وَأَخَذَ الدَّارَ لِلْوَقْفِ يَجُوزُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى إثْبَاتِ الْوَقْفِ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ، وَالْفُضُولِيُّ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يَجُوزُ إذْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فَعَلَهُ لِيَأْخُذَ الدَّارَ أَمَّا الْفُضُولِيُّ فَلَوْ فَعَلَهُ مِنْ مَالِهِ لِاسْتِخْلَاصِ الْوَقْفِ فَيَدْفَعُ مَالَهُ وَلَا يَأْخُذُ الدَّارَ. مِنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ. [فَصْلٌ: مُتَوَلٍّ ادَّعَى أَنَّهُ وَقَّفَ عَلَى كَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَاقِفَ] (فَصْلٌ) : مُتَوَلٍّ ادَّعَى أَنَّهُ وَقَّفَ عَلَى كَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَاقِفَ، قِيلَ يُسْمَعُ، وَقِيلَ لَا مَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَاقِفَ عِنْدَهُمْ، إذْ الْوَقْفُ عِنْدَهُمَا حَبْسُ أَصْلِ الْمِلْكِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ لِئَلَّا يَكُونَ إثْبَاتًا لِلْمَجْهُولِ. قَالَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: الشَّهَادَةُ بِالْوَقْفِ بِلَا بَيَانِ وَاقِفٍ تُقْبَلُ وَفِي الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ لَا تُقْبَلُ قَالَ فِي الْعُدَّةِ: يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ لَوْ كَانَ قَدِيمًا وَلَوْ ذَكَرُوا الْوَاقِفَ لَا الْمَصْرِفَ يُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا وَيُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَقْفٌ مَشْهُورٌ قَدِيمٌ لَا يُعْرَفُ وَاقِفُهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ ظَالِمٌ فَادَّعَى الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى كَذَا مَشْهُورٌ، وَشَهِدَا كَذَلِكَ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجُوزُ إذْ الشَّهَادَةُ عَلَى أَصْلِ الْوَقْفِ بِالشُّهْرَةِ تَجُوزُ فِي الْمُخْتَارِ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَأَمَّا عَلَى الشَّرَائِطِ فَلَا، هُوَ الْمُخْتَارُ كَذَا فِي الْفَتَاوَى. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْوَقْفِ، وَكَذَا شَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ بِصَرِيحٍ لَوْ صَرَّحَا بِهِ، إذْ الشَّهَادَةُ رُبَّمَا تَكُونُ سَنَةَ عِشْرِينَ سَنَةً وَتَارِيخُ الْوَقْفِ مِائَةُ سَنَةٍ فَتَيَقَّنَ الْقَاضِي أَنَّهُ شَهِدَ بِسَمَاعٍ فَإِذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ سُكُوتٍ وَإِفْصَاحٍ، بِخِلَافِ سَائِرِ مَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِسَمَاعٍ فَإِنَّهُمَا لَوْ صَرَّحَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِسَمَاعٍ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَا بِوَقْفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا أَوْ عَلَى آبَائِهِ وَإِنْ عَلَوْا لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَجْنَبِيٍّ لَا تُقْبَلُ لَا فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَقَّفَهُ عَلَى زَيْدٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَقَّفَهُ عَلَى عَمْرٍو تُقْبَلُ وَتُصْرَفُ غَلَّتُهُ إلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا اتِّفَاقَا أَنَّهُ وَقْفٌ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي كِتَابِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ: وَقَّفَ نِصْفَهُ أَوْ نَحْوَهُ مَشَاعًا جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ قَالَ وَقَّفْتُ حِصَّتِي مِنْهُ وَلَمْ يُسَمِّهَا قَالَ أَسْتَحْسِنُ أَنْ أُجِيزَهُ لَوْ ثَبَتَ الْوَاقِفُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْوَقْفِ، وَإِلَّا فَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالْوَقْفِ وَبِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَمِنْهُ وَسَمَّيَاهُ تُقْبَلُ وَيُحْكَمُ بِالْوَقْفِ، وَلَوْ شَهِدَا بِإِقْرَارِهِ وَلَمْ يَعْرِفَا حِصَّتَهُ أَخَذَهُ الْقَاضِي، فَإِنْ سَمَّى حِصَّتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا سَمَّاهُ وَيُحْكَمُ بِوَقْفِيَّتِهِ، وَلَوْ مَاتَ الْوَاقِفُ فَوَارِثُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَمَا أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ إلَى أَنْ يُثْبِتَ الزِّيَادَةَ عِنْدَ الْقَاضِي فَيَحْكُمَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْهُ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ وَقَّفَ جَمِيعَ حِصَّتِهِ وَهُوَ الثُّلُثُ فَإِذَا هُوَ أَكْثَرُ يَصِيرُ جَمِيعُ حِصَّتِهِ وَقْفًا، أَلَا يَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: لَوْ قَالَ أَوْصَيْتُ لَهُ بِثُلُثِ مَالِي وَهُوَ أَلْفٌ فَإِذَا هُوَ أَكْثَرُ فَلَهُ الثُّلُثُ كُلُّهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ وَأَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِحِصَّتِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ وَهُوَ الثُّلُثُ فَإِذَا هِيَ النِّصْفُ فَلَهُ نِصْفُهُ، فَكَذَا الْوَقْفُ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ: غَصَبَ وَقْفًا فَنَقَصَ فَمَا أَخَذَ بِنَقْصِهِ يُصْرَفُ إلَى مَرَمَّتِهِ لَا إلَى أَهْلِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الرَّقَبَةِ وَحَقُّهُمْ فِي الْغَلَّةِ لَا فِي الرَّقَبَةِ، وَلَوْ زَادَ غَاصِبُهُ فِيهِ شَيْئًا فَلَوْ كَانَ مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا لَهُ حُكْمُ الْمَالِ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِلَا شَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ مَالًا قَائِمًا كَغَرْسٍ وَبِنَاءٍ أَمَرَ بِقَلْعِهِ إلَّا إذَا أَضَرَّ بِالْوَقْفِ فَيَضْمَنُ الْقَيِّمُ أَوْ الْقَاضِي قِيمَتَهُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ إنْ كَانَتْ، وَإِلَّا يُؤَجِّرُ الْوَقْفَ وَيُعْطِي مِنْ أُجْرَتِهِ كَذَا فِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي النَّوَازِلِ: سُئِلَ النَّسَفِيُّ عَنْ أَرْضِ وَقْفٍ فِيهِ بِنَاءٌ مَمْلُوكٌ، وَكَانَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ قَدْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ بِأَجْرِ مِثْلِهِ يَوْمئِذٍ فَتَبَدَّلَ الْمُتَوَلِّي بَعْدَ زَمَانٍ وَزَادَ أَجْرَ مِثْلِهِ، فَأَبَى مَالِكُ الْبِنَاءِ إلَّا بِالْأُجْرَةِ الْأُولَى وَالْمُتَوَلِّي الْجَدِيدُ لَا يَرْضَى إلَّا بِأَجْرِ الْمِثْلِ الْآنَ، هَلْ لِلْمُتَوَلِّي ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

فصل فيمن يصح الوقف عليه ومن لا يصح

مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: اسْتَأْجَرَ أَرْضَ وَقْفٍ ثَلَاثَ سِنِينَ بِأُجْرَةٍ هِيَ أَجْرُ مِثْلِهَا حَتَّى جَازَتْ الْإِجَارَةُ فَرَخُصَتْ أُجْرَتُهَا لَا تَنْفَسِخُ، وَلَوْ غَلَتْ لَا تَنْفَسِخُ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَتَنْفَسِخُ فِي رِوَايَةٍ وَيُجَدَّدُ الْعَقْدُ، وَإِلَى وَقْتِ الْفَسْخِ لَزِمَهُ الْمُسَمَّى الْأَوَّلُ، ثُمَّ فِيمَا بَعْدَهُ لَوْ رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَوَّلُ بِالزِّيَادَةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ فَسْخُ الْعَقْدِ بِأَنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ فَأَتَى وَقْتُ زِيَادَتِهِ لَزِمَهُ الْمُسَمَّى الْأَوَّلُ، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ يَجِبُ أَجْرُ مِثْلِهَا. وَزِيَادَةُ الْأُجْرَةِ تُعْتَبَرُ لَوْ زَادَتْ عِنْدَ الْكُلِّ، حَتَّى لَوْ زَادَ وَاحِدٌ تَعَنُّتًا لَا تُعْتَبَرُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ (فَرْعٌ) : لَوْ أَجَّرَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ ثُمَّ زَادَ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا تَنْفَسِخُ، وَلَوْ أَجَّرَهُ بِأَقَلَّ وَجَبَ الْأَقَلُّ، فَلَوْ زَادَ آخَرُ فَلِلْمُتَوَلِّي أَنْ يُخْرِجَ الْأَوَّلَ إلَّا أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَوَّلُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ اُنْظُرْ الْجَامِعَ الصَّغِيرَ. وَلَوْ بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ بِإِذْنِ الْمُتَوَلِّي فَلَمَّا مَضَتْ الْمُدَّةُ زَادَ فِي الْأُجْرَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَرَضِيَ صَاحِبُ السُّكْنَى بِالزِّيَادَةِ فَهُوَ أَوْلَى. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ أَرَادَ الْمُتَوَلِّي أَنْ يَشْتَرِيَ ضَيْعَةً بِغَلَّةِ الْوَقْفِ لِتَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى وَجْهِ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ فَقَدْ وُقِّفَتْ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ رِوَايَةٌ فَقِيلَ يُجِيزُهُ الْقَاضِي، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَيَضْمَنُ الْمُتَوَلِّي لَوْ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى الْوَقْفِ شِرَاءُ مَا يَكُونُ فِيهِ عِمَارَةُ الْوَقْفِ وَزِيَادَةٌ لِغَلَّتِهِ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ وَقْفًا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَهُوَ وَقْفٌ آخَرُ لَا مِنْ مَصَالِحِ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ غَلَّتَهُ تُصْرَفُ إلَى عِمَارَةِ نَفْسِهِ وَمَا فَضَلَ يُصْرَفُ إلَى عِمَارَةِ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ اُنْظُرْ شُرُوطَ الْحَاكِمِ. (مَسْأَلَةٌ) : اجْتَمَعَ مِنْ مَالِ الْمَسْجِدِ شَيْءٌ فَقِيلَ لَيْسَ لِلْقَيِّمِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ دَارًا لِلْوَقْفِ، وَلَوْ فَعَلَ وَوَقَّفَ يَكُونُ وَقْفُهُ وَيَضْمَنُ، وَقِيلَ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَبِهِ أَفْتَى مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ. اُنْظُرْ الْقُنْيَةَ. (مَسْأَلَةٌ) : قَيِّمُ الْوَقْفِ لَوْ بَاعَ الْوَقْفَ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَرَأْيِهِ جَازَ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. اُنْظُرْ فَوَائِدَ صَاحِبِ الْمُحِيطِ. (فَرْعٌ) : قَالَ فِي الْعُدَّةِ: الْوَاقِفُ لَوْ افْتَقَرَ إلَى الْوَقْفِ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي حَتَّى يَفْسَخَ الْوَقْفَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسَجَّلًا. وَسُئِلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ عَنْ وَقْفٍ تَعَذَّرَ اسْتِغْلَالُهُ هَلْ لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ آخَرَ مَكَانَهُ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ لَهُ: لَوْ لَمْ يَتَعَطَّلْ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ بِثَمَنِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ: لَا يَبِيعُهُ. وَقِيلَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْوَقْفِ تَعَطَّلَ أَوْ لَا، وَكَذَا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ تَعَطَّلَ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ غَيْرَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلْقَاضِي. وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: بَيْعُ بِنَاءِ الْوَقْفِ جَائِزٌ بَعْدَ الْهَدْمِ لَا قَبْلَهُ، وَكَذَا الشَّجَرُ الْمُثْمِرُ الْمَوْقُوفُ جَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ الشَّجَرُ غَيْرَ مُثْمِرٍ جَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَطْعِ وَبَعْدَهُ. (مَسْأَلَةٌ) : فِي الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ: وَقَّفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ هَلْ يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَيُفْتَى بِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ، كَذَا فِي آخِر مُحَاضِرِ فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ فِي يَدِهِ ضَعِيفَةٌ جَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَى أَنَّهَا وَقْفٌ، وَجَاءَ بِصَكٍّ فِيهِ خُطُوطُ عُدُولٍ وَحُكَّامٍ قَدْ انْقَرَضُوا وَتَفَاوَتُوا وَطَلَبَ مِنْ الْحَاكِمِ الْقَضَاءَ بِهِ، قَالَ: لَا يُعْتَمَدُ عَلَى الْخُطُوطِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَوْحٌ مَضْرُوبٌ عَلَى بَابِ دَارٍ يَنْطِقُ بِالْوَقْفِ لَا يُقْضَى بِهِ مَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَى الْوَقْفِ. مِنْ الْخُلَاصَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهُ. [فَصْلٌ فِيمَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يَصِحُّ] (فَصْلٌ) : فِيمَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يَصِحُّ. وَفِي الْحَاوِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا وَقَّفَ مَالًا لِبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ أَوْ لِإِصْلَاحِ الطُّرُقِ أَوْ لِحَفْرِ الْقُبُورِ أَوْ لِاِتِّخَاذِ

الباب الثامن والثلاثون القضاء فيمن كتب شهادته في صك ثم ادعاه

السِّقَايَاتِ أَوْ لِشِرَاءِ أَكْفَانِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ، وَلِأَجْلِ الْمَسَاجِدِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِهَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَّفَهُ لِأَجْلِ الْمَسَاجِدِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ وَقَّفَ دَارِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ أَوْ عَلَى فُقَرَاءِ قَرْيَةٍ مَعْرُوفَةٍ، إنْ كَانَ الْوَقْفُ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ وَهُمْ لَا يُحْصُونَ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ يُحْصُونَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ لِقَوْمٍ يُحْصُونَ تَجُوزُ حَتَّى إذَا انْقَرَضُوا صَارَ مِيرَاثًا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصُونَ لَا يَجُوزُ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ مُؤَبَّدٌ. وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ: لَوْ قَالَ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ أَوْ عَلَى بَنِي آدَمَ أَوْ عَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْمَسَاكِينِ أَوْ عَلَى الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ، فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ مَسْأَلَةَ الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَالَ: الْغَلَّةُ لِلْمَسَاكِينِ فَلَا تَكُونُ لِلزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ. وَكَذَا لَوْ وَقَّفَ عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى الْفُقَهَاءِ فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ. وَفِي وَقْفِ هِلَالٍ: الْوَقْفُ عَلَى الزَّمْنَى وَالْمُنْقَطِعِينَ صَحِيحٌ، وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ الْوَقْفُ عَلَى الصُّوفِيَّةِ لَا يَجُوزُ وَفِي فَوَائِدِ شَمْسِ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى صُوفِيِّ خَانَهُ لَا يَجُوزُ. وَعَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحُلْوَانِيِّ أَنَّهُ يُفْتِي بِأَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الصُّوفِيَّةِ، وَأَخْرَجَ الْقَاضِي الْأَمَامُ السَّعْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرِّوَايَةَ مِنْ وَقْفِ الْخَصَّافِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الصُّوفِيَّةِ وَالْعُمْيَانِ فَرَجَعُوا إلَى جَوَابِهِ. الْكُلُّ مِنْ الْخُلَاصَةِ. [الْبَابُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ الْقَضَاءِ فِيمَنْ كَتَبَ شَهَادَتَهُ فِي صَكٍّ ثُمَّ ادَّعَاهُ] فِي الْقَضَاءِ فِيمَنْ كَتَبَ شَهَادَتَهُ فِي صَكٍّ ثُمَّ ادَّعَاهُ أَوْ شَهِدَ بِغَيْرِ الْأَوَّلِ، وَبَيَانُ تَنَاقُضِ الشَّاهِدِ فِي شَهَادَتِهِ وَغَلَطِهِ وَرُجُوعِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : أَحَدُ الْوَرَثَةِ لَوْ بَاعَ كَرْمًا مِنْ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَكَتَبَ آخَرُ مِنْ الْوَرَثَةِ شَهِدَ بِذَلِكَ أَوْ شَهِدَ بِمَا فِيهِ فَهُوَ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ لِلْبَائِعِ، فَلَوْ قَالَ بَعْدَهُ: لَمْ أُجِزْ الْبَيْعَ وَلَمْ أَعْرِفْ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ لِلْبَائِعِ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ، كَمَنْ حَرَّرَ أَوْ طَلَّقَ أَوْ أَبْرَأَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الْعَرَبِ، قِيلَ يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَقِيلَ لَا مُطْلَقًا، وَقِيلَ يَصِحُّ فِي تَصَرُّفٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْجَدُّ وَالْهَزْلُ وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ لَا أَعْرِفُ مَعْنَاهُ، وَلَا يَصِحُّ فِي تَصَرُّفٍ لَا يَسْتَوِيَانِ فِيهِ كَبَيْعٍ، فَإِنَّ بَيْعَ الْهَازِلِ لَا يَصِحُّ، وَالْهَازِلُ مَنْ يَتَلَفَّظُ بِعَقْدٍ لَا يَقْصِدُ حُكْمَهُ أَوْ يَتَلَفَّظُ بِكَلِمَةٍ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا، فَلَوْ قَالَ: بِعْتُ، وَيَقُولُ: لَمْ أَقْصِدْ بِهِ الْمِلْكَ، فَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى عَدَمِ التَّمْلِيكِ، إذْ التَّمْلِيكُ إنَّمَا يُوجَدُ بِتَرَاضٍ وَلَمْ يُوجَدْ قَالَ: وَإِذَا كَتَبَ فِي صَكِّ الْبَيْعِ " شَهِدَ بِذَلِكَ " إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا مِلْكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ كواه شديران يُفْتَى بِمَا فِي الصَّكِّ وَالْمَكْتُوبُ فِي الصَّكِّ بَاعَ مَا هُوَ لَهُ وَمِلْكَهُ بَيْعًا صَحِيحًا جَائِزًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَاهِدًا عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ فِيمَا هُوَ جَائِزٌ وَصَحِيحٌ، وَلَوْ كَتَبَ " بِمَشْهَدِي " لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِهِ لِلْبَائِعِ، وَلَوْ كَتَبَ " أَشْهَدُ عَلَيْهِ " أَوْ " أَشْهَدَنِي عَلَيْهِ " فَهُوَ إقْرَارٌ؛ إذْ الْهَاءُ فِي عَلَيْهِ كِنَايَةٌ عَنْ الْبَيْعِ الْجَائِزِ، حَتَّى لَوْ كَتَبَ " أَشْهَدُ أَنِّي لَا غَيْرُ " لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا، وَفِيهِ كَتَبَ فِي صَكٍّ " بِمَشْهَدِي " لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الدَّعْوَى؛ إذْ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَالْإِلْصَاقُ لِلْمَوْجُودِ يَكُونُ. وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: اُكْتُبْ شَهَادَتِي فِي هَذَا الصَّكِّ، فَكَتَبَ الْمَأْمُورُ " شَهِدَ بِذَلِكَ " لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا مِنْ الْآمِرِ بِأَنَّهُ لِلْبَائِعِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: اُكْتُبْ طَلَاقَ امْرَأَتِي، فَكَتَبَ فَهُوَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِطَلَاقِهَا. وَفِيهِ: لَوْ قَالَ لِلصَّكَّاكِ: اُكْتُبْ صَكَّ الْإِجَارَةِ بِاسْمِ فُلَانٍ بِهَذَا الدَّارِ، لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِإِجَارَةٍ؛ إذْ الْعُرْفُ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِكَتْبِ الصُّكُوكِ قَبْلَ الْعَقْدِ. اُنْظُرْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ. . (فَصْلٌ) : ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ: شَرَاهُ فَشَهِدَ رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ وَخَتَمَ فَهُوَ لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ يُرِيدُ إذَا شَهِدَ

بِالشِّرَاءِ: أَيْ كَتَبَ الشَّهَادَةَ فِي صَكِّ الشِّرَاءِ وَخَتَمَ عَلَى الصَّكِّ ثُمَّ ادَّعَاهُ صَحَّ دَعْوَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ كِتَابَةُ الشَّهَادَةِ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لِلْبَائِعِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَبِيعُ مَالَ غَيْرِهِ كَمَالِ نَفْسِهِ، فَلَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُ بِبَيْعِهِ إقْرَارًا بِهِ لِلْبَائِعِ، وَالشَّهَادَةُ بِالْبَيْعِ لَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَنَفَاذِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا كَتَبْتُ شَهَادَتِي لَأَرَى أَنَّ فِي هَذَا الْعَقْدِ ضَرَرًا أَمْ لَا، إذْ الْعَقْدُ وَرَدَ عَلَى مِلْكِي، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ رَدَدْتُهُ وَإِلَّا أَجَزْتُهُ، وَلَمَّا أَمْكَنَهُ هَذَا التَّوْفِيقُ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاقِضًا. قَالُوا: لَوْ ذَكَرَ مَا يُوجِبُ صِحَّتَهُ أَوْ نَفَاذَهُ بَاعَ وَهُوَ مِلْكُهُ أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا بَتًّا وَهُوَ كَتَبَ شَهِدَا بِذَلِكَ يُبْطِلُ دَعْوَاهُ وَشَهَادَتَهُ لِغَيْرِهِ، إلَّا إذَا كَتَبَ الشَّهَادَةَ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِهِ فَحِينَئِذٍ لَا تَبْطُلُ دَعْوَاهُ. (فَصْلٌ) : لَوْ بَاعَ دَارِهِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ صَحَّ لَوْ كَانَ بِقِيمَتِهِ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ ابْنِهِ الْبَالِغِ وَكَتَبَ الصَّكَّ وَأَشْهَدَ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَكَتَبَ الصَّكَّ وَأَشْهَدَ الشُّهُودَ الْأَوَّلَ وَقَدْ كَتَبُوا فِي صَكِّ الِابْنِ " شَهِدَ بِذَلِكَ " لَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمَالِكِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ مِنْ الشُّهُودِ بِصِحَّةِ الْمِلْكِ لِلِابْنِ وَلَوْ كَتَبَ فِي الصَّكِّ الْأَوَّلِ " أَقَرَّ الْبَائِعُ بِمَا فِيهِ " صَحَّتْ شَهَادَةُ الثَّانِي لَوْ كَتَبَ فِي الثَّانِي " شَهِدَ بِذَلِكَ "، أَمَّا لَوْ كَتَبَ فِي الصَّكَّيْنِ " أَقَرَّ الْبَائِعُ بِمَا فِيهِ " لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً بِمِلْكٍ لَا لِلِابْنِ وَلَا لِلْأَجْنَبِيِّ. وَفِيهِ: شَرَى دَارًا وَكَتَبَ الشَّاهِدُ فِي الصَّكِّ " شَهِدَ بِذَلِكَ وَالْمَكْتُوبِ فِي الصَّكِّ " بَاعَ بَيْعًا جَائِزًا، ثُمَّ غَيْرُ الْمُشْتَرِي ادَّعَاهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَشَهِدَ هَذَا الشَّاهِدُ لِهَذَا الْمُدَّعِي بِالدَّارِ وَهُوَ مُقِرٌّ أَنِّي كَتَبْتُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَذَا الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ فِي الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ مُتَنَاقِضًا، وَلَوْ لَمْ يَكْتُبْ الشَّهَادَةَ وَلَكِنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْقَاضِي: أَنَا شَاهِدٌ بِأَنَّهُ لِذِي الْيَدِ وَهُوَ الْمُشْتَرِي، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْخَارِجِ. وَلَوْ كَتَبَ فِي الصَّكِّ " بِمَشْهَدِي " تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْمُدَّعِي، وَكَذَا لَوْ كَتَبَ " أَقَرَّ الْبَائِعُ بِذَلِكَ ". وَفِيهِ: ادَّعَاهُ فَقَالَ ذُو الْيَدِ: إمَّا أَنْ تُؤَخِّرَ يَدَهُ أَوْ تَعْجَزَ عَنْ الْبَيِّنَةِ فَحُكِمَ لِلْمُدَّعِي، ثُمَّ ذُو الْيَدِ ادَّعَى شِرَاءً مِنْ ثَالِثٍ وَجَاءَ بِصَكٍّ فِيهِ خَطُّ الْمُدَّعِي شَهِدَ بِذَلِكَ وَكَتَبَ فِيهِ " بَاعَهُ " وَلَمْ يَذْكُرْ بَاتًّا أَوْ جَائِزًا كَانَ ذَاكَ مِنْهُ إجَازَةٌ لِبَيْعِ الثَّالِثِ وَلَوْ كَتَبَ فِيهِ " بَاعَ بَيْعًا جَائِزًا " فَشَهَادَتُهُ إقْرَارٌ بِهِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ جَائِزًا. وَلَوْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ ثُمَّ الْبَائِعُ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُشْتَرِي كَتَبَ فِي صَكِّ شِرَاءِ الثَّانِي " شَهِدَ بِذَلِكَ "، فَلَوْ كَانَ الْمَكْتُوبُ " بَاعَ بَيْعًا جَائِزًا " فَهُوَ إقْرَارٌ بِفَسْخِ الشِّرَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ مِلْكًا لِلْبَائِعِ إلَّا بِالْفَسْخِ وَفِيهِ: مَنْ ادَّعَى مِلْكًا لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَشْهَدَ أَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ شَهِدَ بِمِلْكِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ شَهِدَ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّاهِدُ عِنْدَ الْقَاضِي: إنَّ الْمُدَّعَى بِهِ لَيْسَ هَذَا، ثُمَّ شَهِدَ بَعْدَ الدَّعْوَى أَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ هَذَا لَا تُقْبَلُ لِلتَّنَاقُضِ، وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ مَا لَوْ قَالَ: لَا مِلْكَ لِي، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ مِلْكُهُ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ وَقَفَ الشَّاهِدُ وَقَالَ حِينَ تَحَمَّلْنَا الشَّهَادَةَ كَانَ سِنُّهَا كَذَا وَالْآنَ زَادَ كَذَا فَشَهِدَ بِنَاءً عَلَيْهِ تُقْبَلُ، كَمَا تُقْبَلُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّارِ لِمَا قَالَا حِينَ رَأَيْنَاهَا كَانَ كَذَا فَشَهِدْنَا بِنَاءً عَلَيْهِ الْكُلُّ مِنْ الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْجَامِعِ: شَهِدَ أَنَّهُ أَقْرَضَهُ عَامَ أَوَّلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَحُكِمَ بِهِ، ثُمَّ بَرْهَنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمُدَّعِي أَبْرَأَهُ قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا بِيَوْمٍ فَحُكِمَ بِالْبَرَاءَةِ وَبِرَدِّ الْمَالِ فَلَمْ يَضْمَنَا إذْ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُمَا لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ لِجَوْزِ أَنَّهُمَا عَايَنَا الْقَرْضَ عَامَ أَوَّلٍ، فَشَهِدَا بِهِ وَلَمْ يَعْرِفَا الْبَرَاءَةَ فَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلْحَالِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ لَمْ يَشْهَدَا بِقَرْضٍ وَشَهِدَا أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ضَمِنَا، وَيُخَيَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ضَمِنَ الْمُدَّعِيَ أَوْ الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّقَا عَلَيْهِ إيجَابَ الْمَالِ فِي الْمَآلِ فَظَهَرَ كَذِبُهُمَا بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ لَمْ يُحَقِّقَا الْمَالَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ بَلْ أَخْبَرَا عَنْ شَيْءٍ مَضَى فَلَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُمَا. وَأَوْضَحَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ أَنْكَرَ الْمَالَ وَحَلَفَ ثُمَّ شَهِدَا بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَحْنَثْ لِمَا أَنَّهُ لَمْ يُحَقِّقَا عَلَيْهِ الْإِيجَابَ، وَلَوْ حَقَّقَا فِي الْحَالِ حَنِثَ فَاتَّضَحَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب التاسع والثلاثون في القضاء بالاستحقاق والغرور

[الْبَابُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَالْغُرُورِ] فِي الْقَضَاءِ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَالْغُرُورِ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: الِاسْتِحْقَاقُ نَوْعَانِ: مُبْطِلٌ لِلْمِلْكِ كَعِتْقٍ وَنَحْوِهِ، وَنَاقِلٌ لِلْمِلْكِ كَاسْتِحْقَاقٍ بِالْمِلْكِ، فَالنَّاقِلُ لَا يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَالْمُبْطِلُ يُوجِبُهُ فِي كُلِّ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ إنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهٍ وَجْهُ الِاتِّفَاقِ أَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنْ جِهَتِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِمْ، حَتَّى أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ بَرْهَنَ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَا يُقْبَلُ. وَوَجْهُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ النَّاقِلَ إذَا وَرَدَ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَاعَةِ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ مَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ. وَفِي الْمُبْطِلِ يَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ الرُّجُوعُ عَلَى بَائِعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ: الِاسْتِحْقَاقُ ضَرْبَانِ: قَدِيمٌ وَمِنْ حَقِّهِ الرُّجُوعُ عَلَى بَائِعِهِ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ. وَحَادِثٌ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ عِنْدَ الْمُشْتَرِي؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَمَكَثَ عِنْدَهُ سَنَةً ثُمَّ بَرْهَنَ آخَرُ أَنَّهُ لَهُ مُنْذُ شَهْرٍ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِثَمَنِهِ. وَلَوْ شَرَى ثَوْبًا فَخَاطَهُ قَمِيصًا فَبَرْهَنَ آخَرُ أَنَّ الْقَمِيصَ لَهُ فَالْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِثَمَنِهِ؛ إذْ الْمَبِيعُ لَمْ يُسْتَحَقَّ وَالْمُسْتَحِقُّ لَمْ يَبِعْ؛ إذْ الْمَبِيعُ كِرْبَاسُ وَالْمُسْتَحَقُّ قَمِيصٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا خَاطَهُ قَمِيصًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ أَحَدٌ إلَّا بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْخِيَاطَةِ، إمَّا بِشِرَاءٍ مِمَّنْ خَاطَهُ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ يُوجِبُ تَوَقُّفَ الْعَقْدِ عَلَى الْإِجَازَةِ لَا نَقْضَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ رَشِيدُ الدِّينِ فِي أَنَّ الْبَيْعَ مَتَى يَنْفَسِخُ؟ قِيلَ: إذَا قَبَضَ الْمُسْتَحِقُّ، وَقِيلَ بِنَفْسِ الْحُكْمِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ مَا لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِثَمَنِهِ، فَإِذَا رَجَعَ يَنْفَسِخُ، حَتَّى لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى بَائِعِهِ يَصِحُّ. قَالَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ لَا تَنْفَسِخُ بِالِاسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَرْجِعْ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى بَائِعِهِ بِقَضَاءٍ. أَبُو اللَّيْثِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ مَا لَمْ يَأْخُذْ الْعَيْنَ بِقَضَاءِ دَلِيلِ الْفَسْخِ فَيَنْفَسِخُ حَتَّى لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ بَعْدَهُ. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَنْفَسِخُ مَا لَمْ يُفْسَخْ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَلَوْ اسْتَحَقَّ فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي نَقْضَ الْبَيْعِ بِلَا قَضَاءٍ وَلَا رِضَا الْبَائِعِ لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ عَلَى التَّلَقِّي مِنْ الْمُسْتَحِقِّ ثَابِتٌ، إلَّا إذَا حَكَمَ الْقَاضِي فَيَلْزَمُ الْعَجْزُ فَيَنْفَسِخُ، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ عَلَى بَائِعِهِ لَوْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا لَوْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِنُكُولِهِ أَوْ بِإِقْرَارِ وَكِيلِهِ بِخُصُومِهِ أَوْ بِنُكُولِهِ فَلَا يَرْجِعُ إذْ الْإِقْرَارُ لَيْسَ بِهِ بِحَجَّةٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ. (فَرْعٌ) : لَوْ اسْتَحَقَّ بِشَاهِدَيْنِ وَعَدَّلَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: اسْأَلْ عَنْ الشَّاهِدَيْنِ فَإِنْ عَدَلَا رَجَعَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِثَمَنِهِ عَلَى بَائِعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْدِلَا لَا يُقْضَى عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِتَعْدِيلِهِ إيَّاهُمَا وَلَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ اُنْظُرْ الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةَ. (مَسْأَلَةٌ) : شَرَاهُ فَادَّعَاهُ آخَرُ فَقَبْلَ أَنْ يُثْبِتَ الِاسْتِحْقَاقَ صَالَحَهُ الْمُشْتَرِي وَدَفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا وَأَمْسَكَ الْمَبِيعَ يَصِيرُ هَذَا شِرَاءً لِلْمَبِيعِ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى بَائِعِهِ. مِنْ الْمَبْسُوطِ. (مَسْأَلَةٌ) : دَارٌ بِيَدِهِ ادَّعَى آخَرُ نِصْفَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفٍ فَادَّعَى آخَرُ نِصْفَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ

الباب الأربعون القضاء ببيع الوفاء وأحكامه وشرائطه وأقسامه

نِصْفَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقُولُ بَقِيَ نِصْفِي، وَلَوْ اسْتَحَقَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ رَجَعَ عَلَيْهِمَا بِنِصْفِ مَا أَخَذَ. اُنْظُرْ الْمُنْتَقَى. (مَسْأَلَةٌ) : اسْتَحَقَّ حِمَارًا فَطَلَبَ ثَمَنَهُ مِنْ بَائِعِهِ فَقَالَ الْبَائِعُ لِلْمُسْتَحِقِّ: مِنْ كَمْ مُدَّةٍ غَابَ عَنْكَ هَذَا الْحِمَارُ؟ فَقَالَ مُنْذُ سَنَةٍ، فَبَرْهَنَ الْبَائِعُ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ. مِنْ الْمُحِيطِ. (فَرْعٌ) : قَالَ الْمُسْتَحِقُّ غَابَتْ الدَّابَّةُ عَنِّي مُنْذُ سَنَةٍ فَقَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا لِلْمُسْتَحِقِّ بَرْهَنَ الْبَائِعُ أَنَّهَا مِلْكُهُ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ يُقْضَى بِهَا لِلْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّهُ أَرَّخَ غَيْبَتَهَا لَا الْمِلْكَ، وَالْبَائِعُ أَرَّخَ الْمِلْكَ وَدَعْوَاهُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي لِتَلَقِّيهِ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ادَّعَى مِلْكَ بَائِعِهِ بِتَارِيخِ عَشْرِ سِنِينَ، غَيْرَ أَنَّ التَّارِيخَ لَا يُعْتَبَرُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَيُحْكَمُ لِلْمُسْتَحِقِّ اُنْظُرْ كِتَابَ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ. (فَصْلٌ) : الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ عَلَى وَكِيلِ الْبَيْعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَبِقِيمَةِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ وَلَوْ بَنَى دَارًا ثُمَّ شَرَى أَرْضَهُ فَاسْتَحَقَّ لَمْ يَرْجِعْ بِقِيمَةِ بِنَائِهِ. وَلَوْ شَرَى دَارًا وَحَفَرَ فِيهِ بِئْرًا أَوْ نَقَّى بَالُوعَةً أَوْ رَمَّ مِنْ الدَّارِ شَيْئًا ثُمَّ اسْتَحَقَّ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا؛ إذْ الْحُكْمُ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِقِيمَةٍ لَا بِنَفَقَةٍ، حَتَّى لَوْ كَتَبَ فِي الصَّكِّ فَمَا أَنْفَقَ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَوْ رَمَّ فَعَلَى الْبَائِعِ يَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا وَطَوَاهَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الطَّيِّ لَا بِقِيمَةِ الْحَفْرِ، وَلَوْ شَرَطَا فَسَدَ الْبَيْعُ كَذَا فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ وَاقِعَةٌ) : شَرَى دَارًا فَبَنَى فَاسْتَحَقَّ فَجَمِيعُ مَا فِيهِ مِنْ الْبِنَاءِ يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ إلَّا بِقِيمَةِ بِنَائِهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ إذَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْبِنَاءُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فَلَا يَرْجِعُ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الْكُلَّ لَا يَقْدِرُ الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَ الْبِنَاءَ إلَى الْبَائِعِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ بِنَائِهِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَى الْبَائِعِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ عَرَفَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الدَّارَ لِغَيْرِ الْبَائِعِ وَلَمْ يَدَّعِ الْبَائِعُ وَكَالَتَهُ فَبَنَى فَاسْتَحَقَّ لَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ بَيْعٌ بِأَمْرِهِ وَلَكِنَّ الْبَائِعَ قَالَ أَمَرَنِي بِبَيْعِهِ فَشَرَاهُ فَبَنَى ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ مَالِكُهُ وَأَنْكَرَ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِثَمَنِهِ وَبِقِيمَةِ بِنَائِهِ؛ لِتَحَقُّقِ الْغُرُورِ، كَمَا لَوْ شَرَى أَمَةً مِمَّنْ يَقُولُ أَمَرَنِي مَالِكُهَا بِبَيْعِهَا فَأَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَنْكَرَ مَالِكُهَا الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ فَالْوَلَدُ حُرٌّ بِقِيمَتِهِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ عَلَى بَائِعِهِ، وَالْوَلَدُ وَالْبِنَاءُ يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا فِي الْغُرُورِ. كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ. (مَسْأَلَةٌ) : شَرَى كَرْمًا فَاسْتَحَقَّ أَصْلَ الْكَرْمِ دُونَ الشَّجَرِ وَالْقُضْبَانِ وَالْحِيطَانِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ الْأَشْجَارَ عَلَى الْبَائِعِ وَيَسْتَرِدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرُدَّ يَتَضَرَّرُ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ. كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ. وَقَالَ: وَبِمِثْلِهِ لَوْ شَرَى حِمَارًا مَعَ بَرْذَعَتِهِ فَاسْتَحَقَّ الْحِمَارَ لَا الْبَرْذَعَةَ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ الْبَرْذَعَةَ وَيَرْجِعَ بِكُلِّ ثَمَنِهِ، بَلْ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْحِمَارِ وَحْدَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَوْ أُمِرَ بِقَلْعِ الشَّجَرِ فَيَصِيرُ حَطَبًا وَيَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الِانْتِفَاعُ الَّذِي شَرَاهُ لِأَجْلِهِ وَهَذَا عَيْبٌ فَاحِشٌ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، بِخِلَافِ الْبَرْذَعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ انْتِفَاعٍ شَرَاهَا لِأَجْلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَابُ الْأَرْبَعُونَ الْقَضَاءِ بِبَيْعِ الْوَفَاءِ وَأَحْكَامِهِ وَشَرَائِطِهِ وَأَقْسَامِهِ] فِي الْقَضَاءِ بِبَيْعِ الْوَفَاءِ وَأَحْكَامِهِ وَشَرَائِطِهِ وَأَقْسَامِهِ. اعْلَمْ أَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الْإِقَالَةُ إذَا رَدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ سَمَّاهُ النَّاسُ بَيْعَ الْوَفَاءِ. وَفِي الْمُصَفَّى يُسَمُّونَهُ بَيْعَ الْأَمَانَةِ فَلَهُ حُكْمُ الرَّهْنِ عِنْدَ أَكْثَرِ الشُّيُوخِ، فَلَا يُبَاحُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَبِيعِ بِدُونِ إذْنِ الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ

بِهَلَاكِهِ، وَبَعْضُ النَّاسِ جَعَلَهُ بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْمُكْرَهِ فَيَنْقُضُهُ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ. قَالَ نَجْمُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ: اُتُّفِقَ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى جَوَازِهِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. فِي الْخَانِيَّةِ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ لَا يَكُونُ رَهْنًا، ثُمَّ يُنْظَرُ، إنْ ذَكَرَ الشَّرْطَ فِيهِ يَفْسُدُ، وَإِنْ ذَكَرَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاعَدَةِ وَعَقَدَاهُ خَالِيًا عَنْ الشَّرْطِ يَصِحُّ الْعَقْدَ وَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاعِيدَ قَدْ تَكُونُ لَازِمَةً لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيَانٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ. عَنْ فَتَاوَى النَّسَفِيِّ قَالَ: الْبَيْعُ الَّذِي تَعَارَفَهُ أَهْلُ زَمَانِنَا احْتِيَالًا لِلرِّبَا وَسَمَّوْهُ بَيْعَ الْوَفَاءِ هُوَ رَهْنٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَكَلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَأَتْلَفَ مِنْ شَجَرِهِ، وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ لَوْ بَقِيَ لَا تُضْمَنُ الزِّيَادَةُ وَلِلْبَائِعِ اسْتِرْدَادُهُ إذَا قَضَى دَيْنَهُ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّهْنِ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَإِنْ سَمَّيَاهُ الْبَيْعَ وَلَكِنَّ غَرَضَهُمَا الرَّهْنُ وَالِاسْتِيثَاقُ بِالدَّيْنِ؛ إذْ الْعَاقِدُ يَقُولُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَعْدَ هَذَا الْعَقْدِ رَهَنْتُ مِلْكِي فُلَانًا وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ ارْتَهَنْتُ مِلْكَ فُلَانٍ، وَالْعِبْرَةُ فِي التَّصَرُّفَاتِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ كَفَالَةٌ، وَالْكَفَالَةُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ حَوَالَةٌ، وَهِبَةُ الْحُرَّةِ نَفْسَهَا بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ مَعَ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ نِكَاحٌ، وَالِاسْتِبْضَاعُ الْفَاسِدُ إذَا ضُرِبَ فِيهِ الْأَجَلُ سَلَمَ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ: قُلْتُ لِلْإِمَامِ الْحَسَنِ الْمَاتُرِيدِيِّ: قَدْ فَشَا هَذَا الْبَيْعُ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفَتْوَاكَ أَنَّهُ رَهْنٌ وَأَنَا أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ، فَالصَّوَابُ أَنْ تُجْمِعَ الْأَئِمَّةُ وَتَتَّفِقَ عَلَى هَذَا وَيَظْهَرَ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: الْمُعْتَبَرُ الْيَوْمُ فَتْوَانَا، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَنْ خَالَفَنَا فَلْيُبْرِزْ وَلْيُقِمْ دَلِيلَهُ، وَقِيلَ هُوَ بَيْعٌ جَائِزٌ. وَسُئِلَ عَمَّنْ بَاعَ نِصْفَ كَرْمِهِ مِنْ آخَرَ بَيْعَ وَفَاءٍ وَخَرَجَ هُوَ فِي الصَّيْفِ إلَى كَرْمِهِ بِأَهْلِهِ وَأَخْرَجَ هَذَا الْمُشْتَرِي أَهْلَهُ وَأَدْرَكَتْ الْغَلَّاتُ فَأَخَذَ الْبَائِعُ نِصْفَهَا وَالْمُشْتَرِي نِصْفَهَا، هَلْ لِلْبَائِعِ إذَا تَقَايَلَا الْبَيْعَ وَأَعْطَاهُ ثَمَنَ مَا شَرَاهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا حَمَلَ مِنْ الْغَلَّاتِ؟ قَالَ: لَوْ أَخَذَ بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ لَا لَوْ أَخَذَهُ بِرِضَاهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ هِبَةً مِنْهُ. قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ، فَإِنَّ رَبَّ الْكَرْمِ هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ إلَى كَرْمِهِ فَيُحْتَمَلُ الْأَخْذُ بِرِضَاهُ وَبِغَيْرِ رِضَاهُ، فَأَمَّا لَوْ شَرَى كُلَّهُ وَقَبَضَهُ وَأَخَذَ غَلَّاتِهِ، وَالْأَخْذُ بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَهْنٌ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَأْكُلَ غَلَّةَ الرَّاهِنِ، فَإِذَا أَكَلَهَا ضَمِنَهَا فَأَفْتَيْنَا بِالضَّمَانِ عَلَى الِاتِّفَاقِ لِذَلِكَ. مِنْ مَجْمَعِ النَّوَازِلِ. قَالَ النَّسَفِيُّ: اتَّفَقَ مَشَايِخُ زَمَانِنَا عَلَى صِحَّتِهِ بَيْعًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ؛ لِأَنَّهُمَا تَلَفَّظَا بِلَفْظِ الْبَيْعِ بِلَا ذِكْرِ شَرْطٍ فِيهِ، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَلْفُوظِ أَيْضًا دُونَ الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ مَا جَامَعَهَا صَحَّ الْعَقْدُ. (مَسْأَلَةٌ) : مُسْتَفْتٍ قَالَ لِلنَّسَفِيِّ: بِعْتُ حَانُوتًا بِأَرْبَعِمِائَةٍ طَلَبَ الْمُشْتَرِي إقَالَةَ الْبَيْعِ وَرَدَّ الثَّمَنِ، وَهُوَ يَقُولُ: بِعْتَنِي بَيْعَ الْوَفَاءِ، وَأَنَا أَقُولُ لَهُ: بِعْتُكَ بَاتًّا، فَأَجَابَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُكَ، فَقَالَ السَّائِلُ: لَوْ حَلَّفَنِي عَلَى ذَلِكَ هَلْ يَسَعُنِي أَنْ أَحْلِفَ وَكَانَ نِيَّتِي أَنْ آخُذَ الْحَانُوتَ مِنْهُ وَأَرُدَّ الثَّمَنَ إلَيْهِ بَعْدَ زَمَانٍ، وَكَانَ قَصْدُ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْعُرْفُ لَا أَنِّي لَا أَقْدِرُ الْيَوْمَ عَلَى أَنْ أَنْقُدَ الثَّمَنَ. أَجَابَ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِبْرَةَ لِذَلِكَ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ عِنْدَ الْعَقْدِ سِوَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَك أَنْ تَحْلِفَ أَنَّكَ بِعْتَهُ بَيْعًا بَاتًّا، فَدَلَّ هَذَا أَنْ الْعِبْرَةَ لِلْمَلْفُوظِ وَقَدْ تَلَفَّظَا بِلَفْظِ الْبَيْعِ لَا الرَّهْنِ، فَاعْتِبَارُهُ بَيْعًا أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ بِأَنَّ الْمَبِيعَ إذَا احْتَاجَ إلَى الْعِمَارَةِ فَالْبَائِعُ يُعَمِّرُهُ وَيُؤَدِّي خَرَاجَهُ أَيْضًا. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا لَا جَبْرًا، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ لَا يُجْبَرُ فَكَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ وَيُجْعَلُ الْبَيْعُ بَاتًّا وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ طَلَبِ الثَّمَنِ لَا غَيْرُ، فَإِنْ انْتَقَضَ

الْمَبِيعُ بِأَنْ كَانَ دَارًا فَانْهَدَمَ لَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى رَدِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ كَبَيْعٍ جَدِيدٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ قِنًّا أَوْ دَابَّةً فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَرَطَا التَّلْجِئَةَ فِي الْبَيْعِ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَلَوْ تَوَاضَعَا قَبْلَ الْبَيْعِ ثُمَّ تَبَايَعَا بِلَا ذِكْرِ شَرْطٍ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُمَا تَبَايَعَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، فَكَذَا لَوْ تَوَاضَعَا الْوَفَاءَ قَبْلَ الْبَيْعِ ثُمَّ عَقَدَا بِلَا شَرْطِ الْوَفَاءِ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ، وَلَا عِبْرَةَ لِلْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ مِنْ مُخْتَلَفِ الرِّوَايَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : تَبَايَعَا بِلَا ذِكْرِ شَرْطِ الْوَفَاءِ ثُمَّ شَرَطَاهُ يَكُونُ بَيْعَ الْوَفَاءِ؛ إذْ الشَّرْطُ اللَّاحِقُ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. مِنْ فَوَائِدِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بُرْهَانِ الدِّينِ. (مَسْأَلَةٌ) : الشَّرْطُ الْفَاسِدُ إذَا لَحِقَ بِالْعَقْدِ يَلْتَحِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا عِنْدَهُمَا. عَنْ مُخْتَصَرِ الْخَصَّافِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْإِلْحَاقُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ لِصِحَّةِ الْإِلْحَاقِ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ. مِنْ فَوَائِدِ صَاحِبِ الْمُحِيطِ. (مَسْأَلَةٌ) : بَاعَ كَرْمًا بَيْعًا جَائِزًا فَمَضَى بَعْضُ الْمُدَّةِ وَخَرَجَ الثَّمَرُ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي جَائِزًا بَيْعًا بَاتًّا وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّمَرَ، فَالثَّمَرُ لِلْبَائِعِ لَا لِلْمُشْتَرِي وَلَوْ شَرَاهُ جَائِزًا فَأَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ الْبَائِعُ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ مَثَلًا وَالْمُشْتَرِي جَائِزًا أَجَازَهُ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ فَأُجْرَةُ نِصْفِ الشَّهْرِ لِلْمُشْتَرِي جَائِزًا، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْفَسْخَ إنْ كَانَ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي شِرَاءِ الْوَفَاءِ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ لَيْسَ بِعُذْرٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْبَائِعِ دَيْنٌ، وَهُنَا الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي إجَازَةِ هَذَا الْبَيْعِ فَتَبْقَى الْإِجَارَةُ، وَإِذَا بَقِيَتْ وَالْعَاقِدُ هُوَ الْمُشْتَرِي كَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ، وَعَلَى هَذَا أُجْرَةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي شِرَاءً جَائِزًا. وَلَوْ فَسَخَهُ الْبَائِعُ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ مُدَّةً مُتَعَارَفَةً لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَوْ كَانَتْ مُدَّةً غَيْرَ مُتَعَارَفَةٍ بِأَنْ أَجَّرَ عَشْرَ سِنِينَ لَا تَبْقَى الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا تَنْفَسِخُ يَتَفَاحَشُ الضَّرَرُ، بِخِلَافِ تَعَارُفِ الْمُدَّةِ لِقِلَّةِ الضَّرَرِ. وَلَوْ طَالَبَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِثَمَنِهِ فَدَفَعَ يَجِبُ أَنْ لَا يَنْفَسِخَ الْبَيْعُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ مَا لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ. كَذَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بُرْهَانُ الدِّينِ. (فَرْعٌ) : الْمُؤَجِّرُ بَاعَ الْمُسْتَأْجَرَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ ثُمَّ الْمُشْتَرِي دَفَعَ ثَمَنَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِجِهَةِ مَالِ الْإِجَارَةِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ لَوْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ حَاضِرًا وَإِلَّا، فَلَا؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي الْأَدَاءِ لِيَخْلُصَ مِلْكُهُ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ، وَعِنْدَ حُضُورِهِ لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُؤَجِّرِ لِيَقْضِيَ الْمُؤَجِّرَ مَالَ الْإِجَارَةِ فَيَسْلَمُ لِلْمُشْتَرِي مِلْكُهُ. اُنْظُرْ الذَّخِيرَةَ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْعُدَّةِ: بَاعَهُ بِإِذْنِ مُسْتَأْجِرِهِ فَأَدَّى الْمُشْتَرِي مَالَ الْإِجَارَةِ إلَى مُسْتَأْجِرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُؤَجِّرِ لِيَسْلَمَ لَهُ الْمَبِيعُ، يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِخِلَافِ مُعِيرِ الرَّهْنِ وَلَوْ بَاعَهُ وَفَاءً فَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ بَاتًّا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي بَاتًّا بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ فَأَجَازَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً جَائِزًا الْبَيْعَ الْبَاتَّ لَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْغَاصِبِ لَوْ بَاعَ ثُمَّ أَجَازَ مَالِكُهُ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ. (فَرْعٌ) : الْكَفَالَةُ بِمَالِ الْوَفَاءِ يَصِحُّ مُضَافًا لَا فِي الْحَالِ؛ إذْ الْمَالُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ بَعْدَ الْفَسْخِ لَا فِي الْحَالِ مِنْ فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ. (مَسْأَلَةٌ) : اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا ثُمَّ تَفَاسَخَا وَالزَّرْعُ بَقْلٌ هَلْ تُتْرَكُ الْأَرْضُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ بِأَجْرِ مِثْلِهَا إلَى حَصَادِهِ أَمْ يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ؟ قَالَ: لَا يُتْرَكُ؛ إذْ الْمُسْتَأْجِرُ رَضِيَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فِي الزَّرْعِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفَسْخِ

الباب الحادي والأربعون في القضاء بدعوى النكاح والمهر والنفقة

بِاخْتِيَارِهِ، وَقِيلَ يُتْرَكُ. دَلَّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ صُورَتُهَا: دَفَعَ أَرْضَهُ مُزَارَعَةً فَزَرَعَ فِي آخِرِ السَّنَةِ، لَيْسَ لِرَبِّ الْأَرْضِ قَلْعُهُ فَيُتْرَكُ بِأَجْرِ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ حُكْمًا إلَى حَصَادِهِ؛ صِيَانَةً لِحَقِّ الْمُزَارِعِ، وَقَدْ رَضِيَ الْمُزَارِعُ هُنَا بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فِي الزَّرْعِ حَيْثُ أَخَّرَ الزَّرْعَ إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَمَعَ ذَلِكَ تُرِكَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ. وَفِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا لَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَقَدْ غَرَسَ الْمُسْتَأْجِرُ فِيهِ شَجَرًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُؤْمَرُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِهِ إلَّا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ قِيمَةُ الشَّجَرِ مَقْلُوعًا، بِخِلَافِ الزَّرْعِ فَإِنَّهُ يُتْرَكُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ إلَى الْإِدْرَاكِ؛ إذْ الزَّرْعُ لَهُ نِهَايَةٌ، بِخِلَافِ الْغَرْسِ اُنْظُرْ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ فِي الذَّخِيرَةِ. [الْبَابُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِدَعْوَى النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ] فِي الْقَضَاءِ بِدَعْوَى النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَدَعْوَى الْجِهَازِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: بَرْهَنَ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ تَقُولُ: إنَّ لِي زَوْجًا فِي بَلَدِ كَذَا وَسَمَّتْهُ أَوْ لَا، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ، وَإِقْرَارُهَا لِغَيْرِهِ لَا يُمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي. ادَّعَى نِكَاحَهَا فَأَنْكَرَتْ وَلَكِنْ لَمْ تُقِرَّ لِغَيْرِهِ ثُمَّ أَقَرَّتْ لِهَذَا الْمُدَّعِي يُسْمَعُ إقْرَارُهَا، وَلَوْ أَقَرَّتْ لِآخَرَ ثُمَّ لِهَذَا الْمُدَّعِي لَا يُسْمَعُ إقْرَارُهَا لِهَذَا الْمُدَّعِي وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ أَنْكَرَتْ النِّكَاحَ وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَقَدْ مَاتَ شُهُودُ الْأَوَّلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهَا؛ إذْ الْخُصُومَةُ لِتَحْلِيفٍ يُقْصَدُ بِهِ يَكُونُ إقْرَارًا. وَلَوْ أَقَرَّتْ صَرِيحًا بِنِكَاحِ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَتْ بِالثَّانِي لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهَا، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى إنْ حَلَفَ الثَّانِي عَلَى الْعِلْمِ فَإِنْ نَكَلَ صَارَ مُقِرًّا بِبُطْلَانِ نِكَاحِهِ، فَالْآنَ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ هِيَ فِي نِكَاحِ غَيْرِهِ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي اُسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ، وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ حَلَفَ انْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ فَإِنْ نَكَلَ يَحْلِفُ بَتَاتًا، فَإِنْ نَكَلَتْ فَهِيَ لِلْمُدَّعِي ادَّعَتْ أَنَّهُ نَكَحَهَا فَأَنْكَرَ ثُمَّ أَقَرَّ جَازَ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى فَأَنْكَرَتْ ثُمَّ أَقَرَّتْ، وَلَيْسَ إنْكَارُ الزَّوْجِ النِّكَاحَ كَادِّعَائِهِ الْفَسْخَ. وَتَمَامُهُ فِي الذَّخِيرَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى نِكَاحَهَا فَأَنْكَرَتْ وَأَقَرَّتْ بِهِ لِرَجُلٍ حَاضِرٍ وَصَدَّقَهَا الْمُقَرُّ لَهُ فَإِنْ بَرْهَنَ الْمُدَّعِي يَحْتَاجُ الْمُقَرُّ لَهُ إلَى الْبَيِّنَةِ عَلَى هَذَا الْمُدَّعِي بِحَضْرَةِ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ بَرْهَنَ الْمُقَرُّ لَهُ بَعْدَ مَا بَرْهَنَ الْمُدَّعِي يَتَرَجَّحُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ اُنْظُرْ شُرُوطَ الْحَلْوَانِيِّ. (فَرْعٌ) : وَفِي الْمُحِيطِ: بَرْهَنَا عَلَى النِّكَاحِ فَلَوْ كَانَتْ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ دَخَلَ بِهَا فَهِيَ لَهُ؛ إذْ دُخُولُهُ وَنَقْلُهَا دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ، إلَّا إذَا سَبَقَ تَارِيخُ الْآخِرِ فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ دَلِيلِ السَّبْقِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالسَّبْقِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا وَلَا دَخَلَ بِهَا فَلَوْ وَقَّتَا فَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَوْ لَمْ يُؤَقَّتَا أَوْ وَقَّتَا سَوَاءً، فَمَنْ زُكِّيَتْ بِبَيِّنَةٍ أَوْلَى، وَلَوْ زُكِّيَتَا تُسْأَلُ الْمَرْأَةُ فَلَوْ لَمْ تُقِرَّ لِأَحَدِهِمَا فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا، وَلَوْ أَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا بِالتَّقَدُّمِ فَهِيَ لَهُ، إلَّا إذَا سَبَقَ تَارِيخُ بَيِّنَةِ الْآخَرِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُتَعَذِّرٌ فَسَقَطَا وَبَقِيَ تَصَادُقُ أَحَدِهِمَا مَعَهَا فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا لَوْ تَنَازَعَا حَالَ حَيَاةِ الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهَا فَعَلَى وُجُوهٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِقْرَارُ وَالْيَدُ، فَلَوْ أَرَّخَا فَهِيَ لِمَنْ سَبَقَ تَارِيخُهُ، وَلَوْ لَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا سَوَاءً، فَهِيَ لَهُمَا يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَيَرِثَانِهَا إرْثَ زَوْجٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ حَيَاتِهَا وَمَوْتِهَا أَنَّ الْغَرَضَ فِي حَيَاتِهَا هُوَ الْمَرْأَةُ وَهِيَ لَا تَقْبَلُ الشَّرِكَةَ، وَالْغَرَضُ فِي مَوْتِهَا هُوَ الْإِرْثُ وَهُوَ مَالٌ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ، فَإِنْ وَلَدَتْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا وَيَرِثُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا إرْثَ ابْنٍ كَامِلٍ؛ إذْ الْبُنُوَّةُ لَا تَتَجَزَّأُ جُمْلَةً.

فصل في دعوى الجهاز

فَصْلٌ) : ادَّعَتْ نِكَاحَهُ فِي رَبِيعِ كَذَا وَادَّعَتْ الْمَهْرَ فِي تَرِكَتِهِ وَالْوَرَثَةُ بَرْهَنُوا أَنَّ مُورِثَهُمْ مَاتَ فِي صَفَرٍ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْمَوْتَ، وَالْمَوْتُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ: ادَّعَتْ مَهْرَ الْمِثْلِ ثُمَّ ادَّعَتْ الْمُسَمَّى يُقْبَلُ؛ إذْ الْمُسَمَّى يُتَصَوَّرُ بَعْدَ ثُبُوتِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ بِأَنْ سُمِّيَ بَعْدَ نِكَاحٍ بِلَا تَسْمِيَةٍ، وَلَوْ ادَّعَتْ الْمُسَمَّى ثُمَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يُقْبَلُ. (مَسْأَلَةٌ) : مِنْ النَّوَازِلِ مَاتَ فَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ مَهْرَهَا يُصْرَفُ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَوْ بَنَى بِهَا يُمْنَعُ مِنْهَا قَدْرُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي التَّعْجِيلِ بِهِ، وَالْقَوْلُ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ، وَالْقَوْلُ لِلْمَرْأَةِ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ النِّكَاحَ شَاهِدٌ عَلَى وُجُوبِ كُلِّ الْمَهْرِ، وَالْعُرْفَ شَاهِدٌ عَلَى قَبْضِ بَعْضِ الْمَهْرِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا. وَقِيلَ لَوْ صَرَّحَتْ بِإِنْكَارِ الْقَبْضِ وَقَالَتْ: لَمْ أَقْبِضْ شَيْئًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، إذْ النِّكَاحُ دَلِيلٌ مُحْكَمٌ عَلَى وُجُوبِ كُلِّ الْمَهْرِ، وَالدُّخُولُ وَالْمَوْتُ دَلِيلَانِ مُحْكَمَانِ عَلَى تَقْرِيرِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ، وَالْبِنَاءُ بِهَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُحْكَمٍ عَلَى قَبْضِ بَعْضِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَبْنِي بِهَا قَبْلَ تَعْجِيلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي ظَهِيرُ الدِّينِ أَنَّهَا لَوْ ادَّعَتْ كُلَّ مَهْرِهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ وَبَرْهَنَتْ عَلَى إقْرَارِ الزَّوْجِ بِهِ لَا تُسْمَعُ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تُسَلِّمْ نَفْسَهَا إلَّا بَعْدَ قَبْضِ بَعْضِهِ فَكَذَّبَهَا الظَّاهِرُ. (فَصْلٌ) : تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَطَلَبَتْ النَّفَقَةَ وَهِيَ فِي بَيْتِ الْأَبِ بَعْدُ، فَلَهَا ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُطَالِبْهَا الزَّوْجُ بِالنُّقْلَةِ؛ إذْ النَّفَقَةُ حَقُّهَا وَالنُّقْلَةُ حَقُّ الزَّوْجِ، فَإِذَا لَمْ يُطَالِبْهَا بِالنُّقْلَةِ فَقَدْ تَرَكَ حَقَّهَا وَهُوَ لَا يُبْطِلُ حَقَّهَا وَبِهِ يُفْتَى وَقِيلَ لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا لَمْ تُزَفَّ إلَى زَوْجِهَا، وَلَوْ امْتَنَعَتْ عَنْ الِانْتِقَالِ بِحَقٍّ كَطَلَبِ الْمُعَجَّلِ فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَلَوْ امْتَنَعَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ لِكَوْنِ الْمَهْرِ مُؤَجَّلًا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي صَغِيرَةٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا، وَإِلَّا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تَصِيرَ بِحَالٍ تُطِيقُ الْجِمَاعَ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ أَوْ فِي بَيْتِ الْأَبِ. قَالَ فِي لَطَائِفِ الْإِشَارَاتِ: تَصْلُحُ لِلْجِمَاعِ بِتِسْعٍ، وَفِي الصَّحِيحِ تُعْتَبَرُ الْإِطَاقَةُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ أَبَتْ أَنْ تَتَحَوَّلَ مَعَهُ إلَى مَا يُرِيدُهُ مِنْ الْبُلْدَانِ وَقَدْ أَوْفَاهَا الْمُعَجَّلَ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا مُبْطِلَةٌ فِي هَذَا الْمَنْعِ فَنَشَزَتْ بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يُعْطِهَا الْمَهْرَ أَوَّلًا، وَهَذَا لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَوْ دَخَلَ فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا لَا نَفَقَةَ لَهَا، سَوَاءٌ أَوْفَاهَا الْمَهْرَ أَوْ لَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا لِلْمَهْرِ عِنْدَهُ لَا عِنْدَهُمَا فَكَانَتْ مُحِقَّةً فِي هَذَا لِمَنْعٍ عِنْدَهُ لَا عِنْدَهُمَا. مِنْ تَهْذِيبِ الْقَلَانِسِيِّ، قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ دَخَلَ بِهَا بِرِضَاهَا وَهِيَ بَالِغَةٌ، أَمَّا لَوْ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي مَنْعِ نَفْسِهَا. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: هَذَا فِي زَمَانِهِمْ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا أَوْ فِي مَهْرِهَا أَوَّلًا لِفَسَادِ النَّاسِ، قِيلَ لَهُ: هَلْ يُخْرِجُهَا مِنْ الْبَلَدِ إلَى الْقَرْيَةِ أَوْ الْعَكْسُ؟ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِسَفَرٍ. وَإِخْرَاجُهَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ سَفَرٌ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ. وَفِي التَّجْنِيسِ وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا إذَا أَوْفَاهَا الْمُعَجَّلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] الْآيَةَ، وَقَالَ فِي الْعُدَّةِ: لَيْسَ لَهُ إخْرَاجُهَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَلَوْ أَوْفَاهَا الْمَهْرَ، كَذَا اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ ظَهِيرِ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ. [فَصْلٌ فِي دَعْوَى الْجِهَازِ] (فَصْلٌ) : قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: زَوَّجَ بِنْتَهُ وَجَهَّزَهَا فَمَاتَتْ فَزَعَمَ أَبُوهَا أَنَّ الْجِهَازَ أَعَارَهُ مِنْهَا وَلَمْ يَهَبْهُ فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ وَعَلَى الْأَبِ بَيِّنَةٌ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا جَهَّزَ بِنْتَهُ يَدْفَعُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ، وَالْبَيِّنَةُ الصَّحِيحَةُ فِيهِ أَنْ يُشْهِدَ عِنْدَ التَّسْلِيمِ

إلَى بِنْتِهِ إنِّي أَعْطَيْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِنْتِي عَارِيَّةً، أَوْ يَكْتُبَ نُسْخَةً مَعْلُومَةً وَتَشْهَدَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهَا أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ مِلْكُ وَالِدِي عَارِيَّةً مِنْهُ فِي يَدِي، لَكِنَّ هَذَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ لَا لِلِاحْتِيَاطِ لِجَوَازِ أَنَّهُ شَرَاهَا لَهَا فِي صِغَرِهَا، فَبِهَذَا الْإِقْرَارِ لَا يَصِيرُ لِلْأَبِ دِيَانَةٌ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ ثُمَّ تُبْرِئُهُ بِنْتُهُ عَنْ الثَّمَنِ. وَعَنْ السَّعْدِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ لِلْأَبِ؛ إذْ الْيَدُ اُسْتُفِيدَتْ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ أَعْرَفُ؛ وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تَبَرُّعٌ وَالْهِبَةَ تَبَرُّعٌ، وَالْعَارِيَّةُ أَدْنَاهُمَا فَحُمِلَ عَلَى الْأَدْنَى، قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَالْفَتْوَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعُرْفُ مُسْتَمِرًّا أَنَّ الْأَبَ يَدْفَعُ ذَلِكَ جِهَازًا لَا عَارِيَّةً كَمَا فِي دِيَارِنَا فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ، وَلَوْ كَانَ الْعُرْفُ مُشْتَرَكًا فَالْقَوْلُ لِلْأَبِ. قَالَ فِي الْمُلْتَقَطِ: الْقَوْلُ لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ. قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: إنْ كَانَ الْأَبُ مِنْ الْأَشْرَافِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُجَهِّزُ الْبَنَاتَ بِمِثْلِهِ قُبِلَ قَوْلُهُ. (فَرْعٌ) : كَتَبَ نُسْخَةَ الْجِهَازِ وَأَقَرَّ الْأَبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِلْكُ الْبِنْتِ لَكِنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَرَوْا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ جُمْلَةً وَاحِدًا بَعْد وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِأَنَّهَا مِلْكُهَا. مِنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ. (مَسْأَلَةٌ) : تَزَوَّجَهَا وَبَعَثَ إلَيْهَا بِهَدَايَا وَعَوَّضَتْهُ وَزُفَّتْ إلَيْهِ فَفَارَقَهَا فَقَالَ: مَا بَعَثْتُهُ فَكُلُّهُ عَارِيَّةٌ، فَالْقَوْلُ لَهُ فِي مَتَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ التَّمْلِيكَ وَلَهَا أَخْذُ مَا بَعَثَتْهُ؛ لِأَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّهُ عِوَضٌ لِلْهِبَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هِبَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِوَضًا، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَخْذُ مَا دَفَعَ إيضَاحٌ: لَوْ صَرَّحَتْ حِينَ بَعَثَتْ أَنَّهُ عِوَضٌ فَكَذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ تُصَرِّحْ بِهِ لَكِنَّهَا نَوَتْهُ كَانَ هِبَةً وَبَطَلَتْ نِيَّتُهَا. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ اسْتَهْلَكَتْ مَا بَعَثَهُ الزَّوْجُ إلَيْهَا فَأَنْكَرَ الْهِبَةَ وَحَلَفَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُ التَّضْمِينُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ كَذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَ الزَّوْجُ مَا بَعَثَتْهُ إلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهَا التَّضْمِينُ. اُنْظُرْ فُصُولَ الْأُسْرُوشَنِيِّ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: بَعَثَ إلَى امْرَأَةِ ابْنِهِ ثِيَابًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا عَارِيَّةٌ، صُدِّقَ. (فَرْعٌ) : بَعَثَ الزَّوْجُ إلَى أَهْلِ زَوْجَتِهِ أَشْيَاءَ عِنْدَ زِفَافِهَا مِنْهَا دِيبَاجٌ، فَلَمَّا زُفَّتْ إلَيْهِ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الدِّيبَاجَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لَوْ بُعِثَ إلَيْهَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ مِنْ الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : مَاتَتْ فَاِتَّخَذَتْ وَالِدَتُهَا مَأْتَمًا فَبَعَثَ زَوْجُ الْمَيِّتَةِ بَقَرَةً لِتُذْبَحَ وَتُنْفِقَهَا فَفَعَلَتْ وَطَلَبَ الزَّوْجُ قِيمَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ يَرْجِعْ لَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهَا فَعَلَتْ بِإِذْنِهِ بِلَا شَرْطِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِيهِ فَالْقَوْلُ لِأُمِّ الْمَيِّتَةِ؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ شَرْطَ الضَّمَانِ. قَالَهُ أَبُو اللَّيْثِ. (مَسْأَلَةٌ) : غَرَّهُ فَقَالَ: أُزَوِّجُكَ بِنْتِي وَأُجَهِّزُهَا جِهَازًا عَظِيمًا، فَتَزَوَّجَ وَدَفَعَ الدستيمان إلَى أَبِيهَا ثُمَّ أَبُوهَا لَمْ يُجَهِّزْهَا لَا رِوَايَةَ فِي ذَلِكَ وَأُفْتِي بِأَنَّ الزَّوْجَ يُطَالِبُ أَبَا الْمَرْأَةِ بِالتَّجْهِيزِ، فَإِنْ جَهَّزَ وَإِلَّا يَسْتَرِدُّ مَا زَادَ عَلَى دستيمان مِثْلِهَا، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ الْجِهَازَ بالدستيمان لِكُلِّ دِينَارٍ مِنْ الدستيمان ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ مِنْ الْجِهَازِ أَوْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، فَالزَّوْجُ يُطَالِبُ بِهَذَا الْقَدْرِ وَإِلَّا يَسْتَرِدُّ مَا زَادَ عَلَى دستيمان مِثْلِهَا قَالَهُ فِي فَوَائِدِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ فِي فَتَاوَى ظَهِيرِ الدِّينِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ عَلَى الْمَرْأَةِ، إذْ الْمَالُ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَيْسَ بِغَرَضٍ أَصْلِيٍّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب الثاني والأربعون في القضاء بموجب الخلع

[الْبَابُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِمُوجَبِ الْخُلْعِ] فِي الْقَضَاءِ بِمُوجَبِ الْخُلْعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. الْخُلْعُ طَلَاقٌ بَائِنٌ بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فَسْخٌ حَتَّى لَا يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَوْ قَضَى بِكَوْنِهِ فَسْخًا قِيلَ يَنْفُذُ وَقِيلَ لَا وَقَدْ مَرَّ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: قَالَ لَهَا بِعْتُكِ لَا تَطْلُقُ مَا لَمْ تَقُلْ اشْتَرَيْتُ، وَلَوْ قَالَ خَالَعْتُكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ، وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ مِنْ الْمَهْرِ وِفَاقًا، ثُمَّ الْخُلْعُ قَدْ يَكُونُ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْفَارِسِيَّةِ قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: الْخُلْعُ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ مِنْ جَانِبِهِ يَمِينٌ عَلَى مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ قَبِلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَعَلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً. (مَسْأَلَةٌ) : تَعْلِيقُ الْخُلْعِ بِالشَّرْطِ يَصِحُّ مِنْهُ لَا مِنْهَا، ثُمَّ الْخُلْعُ لَوْ عُلِّقَ بِالشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَقَدْ خَالَعْتُكِ عَلَى كَذَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهَا بَعْدَ دُخُولِ الدَّارِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَقَدْ بِعْتُ طَلَاقَهَا مِنْكِ بِكَذَا، فَالْقَبُولُ إلَيْهَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ، حَتَّى لَوْ قَبِلَتْ بَعْدَ التَّزْوِيجِ أَوْ قَالَتْ: شَرَيْتُ طَلَاقَهَا تَطْلُقُ لَا لَوْ قَبِلَتْ قَبْلَ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ الزَّوْجِ خُلْعٌ بَعْدَ التَّزْوِيجِ فَشَرْطُ الْقَبُولِ بَعْدَهُ وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمَرْأَةِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا عِنْدَهُمَا، وَخِيَارُ الزَّوْجِ لَمْ يَجُزْ وِفَاقًا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهِ يَمِينٌ وَهِيَ لَا تَقْبَلُ الْخِيَارَ، وَمِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ وَهِيَ تَقْبَلُهُ. (فَرْعٌ) : قَالَ فِي فَوَائِدِ نِظَامِ الدِّينِ: خَالَعَهَا وَقَالَتْ: إنْ لَمْ أُرِدْ الْبَدَلَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَكُونُ الْخُلْعُ بَاطِلًا وَلَمْ تُرِدْ فَهَذَا خُلْعٌ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، مَرَّ حُكْمُهُ قَرِيبًا. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَهْرَ فَقَبِلَتْ سَقَطَ الْمَهْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا. مِنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الصُّغْرَى: أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ بِالْمُسَمَّى مِنْ الْمَالِ، هَلْ يُوجِبُ بَرَاءَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْمَهْرِ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ وَبِهِ يُفْتَى، وَلَا يَبْرَأُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وِفَاقًا فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا إلَّا بِالشَّرْطِ، وَكَذَا لَا يَبْرَأُ عَنْ نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَأَجْرِ الرَّضَاعِ. وَالنَّفَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ هَلْ تَسْقُطُ؟ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ بِقَضَاءٍ ثُمَّ خَالَعَهَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ وِفَاقًا. (مَسْأَلَةٌ) : اخْتَلَعَتْ عَلَى كُلِّ حَقٍّ يَجِبُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ قَبْلَ الْخُلْعِ وَبَعْدَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَهْرَ وَنَفَقَةَ الْعِدَّةِ يَكْفِي، وَيَبْرَأُ عَنْ الْمَهْرِ وَنَفَقَةِ الْعِدَّةِ؛ إذْ الْمَهْرُ يَجِبُ قَبْلَ الْخُلْعِ وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ تَجِبُ بَعْدَهُ اُنْظُرْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِمُوجَبِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ] وَأَحْكَامِهَا فِي النِّكَاحِ قَالَ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: الْمُخْتَارُ فِي نِكَاحِ الْفُضُولِيِّ فِي الطَّلَاقِ الْمُضَافِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِإِجَازَتِهِ قَوْلًا لَا فِعْلًا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَلِفُ بِأَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَطَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ تَدْخُلُ فِي نِكَاحِي؛ لِأَنَّ دُخُولَهَا

الباب الرابع والأربعون في القضاء بالخيارات

فِي نِكَاحِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّزْوِيجِ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الْحُكْمِ ذِكْرَ سَبَبِهِ الْمُخْتَصِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُهَا، وَبِتَزْوِيجِ الْفُضُولِيِّ لَا يَصِيرُ مُتَزَوِّجًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ كُلُّ قِنٍّ يَدْخُلُ فِي مِلْكِي فَإِنَّهُ يَحْنَثُ حَقُّ الْفُضُولِيِّ هُنَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَا يَخْتَصُّ بِالشِّرَاءِ بَلْ لَهُ أَسْبَابٌ سِوَاهُ. قَالَ فِي شَرْحِ الْحِيَلِ وَالْبَزْدَوِيِّ وَالْجَامِعِ فِي الْفَتَاوَى: يَحْنَثُ بِنِكَاحِ الْفُضُولِيِّ فِي: يَدْخُلُ فِي نِكَاحِي وَفِي تَصِيرُ حَلَالًا لِي. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ: هُمَا كَقَوْلِهِ: أَتَزَوَّجُهَا فِي الْحُكْمِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْمُحِيطِ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا أَوْ يَتَزَوَّجُهَا غَيْرِي لِأَجْلِي وَأُجِيزُهُ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا وَجْهَ لِجَوَازِهِ. قَالَ فِي الْحَاوِي: فَحِيلَتُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فُضُولِيٌّ بِلَا أَمْرِهِمَا فَيُجِيرُهُ هُوَ فَيَحْنَثُ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَرْأَةِ لَا إلَى جَزَاءٍ لِعَدَمِ الْمِلْكِ ثُمَّ تُجِيزُ الْمَرْأَةُ فَإِجَازَتُهَا لَا تَعْمَلُ فَيُجَدِّدَانِ النِّكَاحَ فَيَجُوزُ؛ إذْ الْيَمِينُ انْعَقَدَ عَلَى تَزْوِيجٍ وَاحِدٍ كَذَا فِي الْمُحِيطِ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا إذَا قَالَ فِي حَلِفِهِ " وَأُجِيزُهُ "، أَمَّا لَوْ لَمْ يَقُلْ " وَأُجِيزُهُ " قَالَ النَّسَفِيُّ بِتَزَوُّجِ الْفُضُولِيِّ لِأَجْلِهِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ إذْ الشَّرْطُ تَزْوِيجُ الْغَيْرِ لَهُ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِطَلَاقِهَا قَبْلَ دُخُولِهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ قَالَ: أَلَا يَرَى أَنَّهُ بَعْدَ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ لَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ، كَذَا هَذَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْإِجَازَةَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَرْدُودًا فَيَعْقِدُ الْفُضُولِيُّ ثَانِيًا لِأَجْلِهِ فَيُجِيزُهُ هُوَ فِعْلًا. قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ فِي فَتَاوَاهُ. وَعِنْدِي لَا حَاجَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إلَى عَقْدِ الْفُضُولِيِّ، بَلْ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ لَا تَطْلُقُ؛ إذْ الْيَمِينُ انْحَلَّتْ بِتَزْوِيجِ الْفُضُولِيِّ لَا إلَى جَزَاءٍ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ أَوْ أَمَرْتُ إنْسَانًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِي فَكَذَا فَأَمَرَهُ بِتَزْوِيجِهَا لَهُ لَمْ تَطْلُقْ؛ إذْ الْيَمِينُ انْحَلَّتْ بِالْأَمْرِ لَا إلَى جَزَاءٍ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: إنْ خَطَبْتُهَا أَوْ تَزَوَّجْتُهَا فَكَذَا فَخَطَبَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا؛ إذْ الْيَمِينُ انْحَلَّتْ بِالْخِطْبَةِ لَا إلَى جَزَاءٍ. (مَسْأَلَةٌ) : زَوَّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ ابْنٍ كَبِيرٍ لِرَجُلٍ بِلَا إذْنِهِ خَاطَبَ عَنْهُ أَبُوهُ فَمَاتَ أَبُو الصَّغِيرَةِ قَبْلَ إجَازَةِ الِابْنِ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الصَّغِيرَةِ كَبِيرَةٌ زَوَّجَهَا بِلَا إذْنِهَا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِمَوْتِ الْأَبِ. اُنْظُرْ الْمُحِيطَ. (مَسْأَلَةٌ) : عَنْ أَبِي يُوسُفَ زَوَّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَائِبٍ فَمَاتَ الْأَبُ ثُمَّ أَجَازَهُ الزَّوْجُ جَازَ فِي قَوْلِهِ، ثُمَّ فَصْلُ الْكَبِيرَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ الْفُضُولِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. مِنْ النَّوَادِرِ. (فَرْعٌ) : زَوَّجَهُ فُضُولِيٌّ بِأَمْرِهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ الْفُضُولِيُّ وَالْمَرْأَةُ جَدَّدَا النِّكَاحَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ بِخَمْسِينَ دِينَارًا يَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي، حَتَّى الزَّوْجُ لَوْ أَجَازَ النِّكَاحَ الْأَوَّلَ لَا تُعْمَلُ إجَازَتُهُ وَلَوْ أَجَازَتْهُ، وَلَوْ أَجَازَ الثَّانِي صَحَّ اُنْظُرْ الذَّخِيرَةَ. [الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْخِيَارَاتِ] فِي الْقَضَاءِ بِالْخِيَارَاتِ. هِيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي تَصَرُّفَاتِ عُقُودٍ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ. وَمِنْهَا: مَا ثَبَتَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا فِيمَا يَحْتَمِلُهُ، أَمَّا الْخِيَارَاتُ الَّتِي لَا تَثْبُتُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَمِنْهَا خِيَارُ الشَّرْطِ إذَا تَزَوَّجَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا يَصِحُّ النِّكَاحُ لَا الشَّرْطُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْطُلُ بِهِ النِّكَاحُ. وَمِنْهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَا يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ لَا فِي الْمَرْأَةِ وَلَا فِي الْمَهْرِ وَمِنْهَا خِيَارُ الْعَيْبِ وَهُوَ حَقُّ الْفَسْخِ بِعَيْبٍ عِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ فَلَا تُرَدُّ الْمَرْأَةُ بِعَيْبٍ مَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَرْأَةَ بِأَحَدِ الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ بِجُنُونٍ، وَجُذَامٍ، وَبَرَصٍ، وَقَرَنٍ، وَرَتْقٍ. فَإِنْ رَدَّهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ كُلُّ الْمَهْرِ، وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَهُ فَلَهَا

كَمَالُ الْمَهْرِ، وَلَا يُرَدُّ الزَّوْجُ بِجُنُونٍ وَجُذَامٍ وَبَرَصٍ عِنْدَ الْحَسَنِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا رَدُّهُ، وَلَا يُرَدُّ الزَّوْجُ بِعُنَّةٍ وَجَبٍّ، وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْإِرْسَالِ بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّفْرِيقِ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَلِذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الْعُنَّةِ وَالْجَبِّ طَلَاقًا بَائِنًا. كَذَا فِي قَاضِي خَانَ. (مَسْأَلَةٌ) : خِيَارُ الْعِتْقِ لِلْمَنْكُوحَةِ إذَا كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَعَتَقَتْ قَبْلَ دُخُولِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهَا حَقُّ الْفَسْخِ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ قِنًّا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا خِيَارَ لَهَا فِي زَوْجٍ حُرٍّ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ الصَّغِيرَةُ أَوْ الْكَبِيرَةُ لَوْ زَوَّجَهَا الْمَوْلَى بِرِضَاهَا فَعَتَقَتْ بِأَدَاءٍ أَوْ تَحْرِيرٍ تَتَخَيَّرُ عِنْدَنَا، وَهَذَا الْخِيَارُ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ يَثْبُتُ لِلْأُنْثَى لَا لِلذَّكَرِ، وَوُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ وَلَا يَبْطُلُ بِسُكُوتٍ. وَيَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، إلَّا إذَا أَبْطَلَتْهُ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً بِأَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا وَبِنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يُفَارَقُ هَذَا الْخِيَارُ وَالْمُخَيَّرَةُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ بِخِيَارِ الْعِتْقِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِتَسْلِيطِ الزَّوْجِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلطَّلَاقِ. اُنْظُرْ قَاضِي خَانَ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْمُحِيطِ: خِيَارُ الْبُلُوغِ كَشُفْعَةٍ، فَإِنَّهَا كَمَا بَلَغَتْ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا كَالشَّفِيعِ وَتُشْهِدَ عَلَى النَّقْضِ لَوْ كَانَ عِنْدَهَا مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِلَّا، تَخْرُجُ إلَى النَّاسِ وَتَخْتَارُ ثَانِيًا، وَلَوْ لَمْ تَخْتَرْ فِي بَيْتِهَا حَتَّى خَرَجَتْ إلَى النَّاسِ بَطَلَ خِيَارُهَا، وَالْإِشْهَادُ لَا يُشْتَرَطُ لِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا لَكِنْ شَرْطٌ لِإِثْبَاتِهِ بِبَيِّنَةٍ لِيَسْقُطَ الْيَمِينُ عَنْهَا، وَتَحْلِيفُهَا عَلَى اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا كَتَحْلِيفِ الشَّفِيعِ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ قَالَتْ لِلْقَاضِي: اخْتَرْتُ نَفْسِي حِينَ بَلَغْتُ، أَوْ حِينَ بَلَغْتُ طَلَبْتُ الْفُرْقَةَ، صُدِّقَتْ مَعَ الْيَمِينِ، وَلَوْ قَالَتْ: بَلَغْتُ أَمْسِ وَطَلَبَتْ الْفُرْقَةَ، لَا يُقْبَلُ وَتَحْتَاجُ إلَى الْبَيِّنَةِ، وَكَذَا الشَّفِيعُ لَوْ قَالَ: طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ حِينَ عَلِمْتُ، فَالْقَوْلُ لَهُ، وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَمْسِ وَطَلَبْتُ، لَا يُقْبَلُ وَيُكَلِّفُهُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ. (فَرْعٌ) : قَالَ فِي الْأَصْلِ: شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الصُّلْحِ كَشَرْطِهِ فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ هُوَ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا مُؤَقَّتًا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ، وَإِنْ شَرَطَ أَكْثَر فَسَدَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لَوْ شَرَطَ أَبَدًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَوْ ذَكَرَا وَقْتًا مَعْلُومًا كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَجُوزُ، وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ فِي فُصُولِ الْفِقْهِ: هُوَ يَصِحُّ فِي ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ: فِي بَيْعٍ، وَإِجَارَةٍ، وَقِسْمَةٍ، وَصُلْحٍ مِنْ مَالٍ بِعَيْنِهِ، وَكِتَابَةٍ، وَخُلْعٍ، وَعِتْقٍ عَلَى مَالٍ لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمَرْأَةِ، وَالْقِنِّ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَوْ شَرَطَ لِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ وِفَاقًا، وَلَوْ شَرَطَ لِلرَّاهِنِ جَازَ لَا لِلْمُرْتَهِنِ إذْ لَهُ نَقْضُ الرَّهْنِ مَتَى شَاءَ بِلَا خِيَارٍ، وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ أَوْ لِلْكَفِيلِ جَازَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بِخِيَارٍ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ كَبَيْعٍ، فَلَوْ فَسَخَ فِي الثَّالِثِ، هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةُ يَوْمَيْنِ؟ أَفْتَى صَاحِبُ الْمُحِيطِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَفَعَ بَطَلَ خِيَارُهُ. (مَسْأَلَةٌ) : بَاعَ بِخِيَارٍ فَوَهَبَ أَوْ رَهَنَ وَسَلَّمَ أَوْ أَجَّرَ أَوْ بَاعَ لَوْ فَعَلَ بِالْمَبِيعِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمِلْكِ كَوَطْءٍ وَقُبْلَةٍ وَنَظَرٍ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي أَوْ لَا، وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ بِلَا شَهْوَةٍ لَا يُبْطِلُهُ، وَكَذَا لَوْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ غَصَبَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَلَا إبْطَالًا لِلْخِيَارِ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ قِنَّهُ بِخِيَارِ يَوْمٍ عَلَى أَنْ يَغُلَّهُ أَوْ يَسْتَخْدِمَهُ جَازَ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ. وَلَوْ بَاعَ كَرْمًا عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ؛ إذْ الْغَلَّةُ وَالْمَنْفَعَةُ لَا يُقَابِلُهُمَا الثَّمَنُ فَلَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا جُزْءًا مِنْ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الثَّمَنِ. بَاعَ دَارًا فِيهِ سَاكِنٌ بِأَجْرٍ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَرَضِيَ بِهِ السَّاكِنُ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي الْأَجْرَ مِنْ السَّاكِنِ بَطَلَ خِيَارُهُ، وَلَوْ شَرَى دَارًا بِخِيَارٍ فَدَامَ عَلَى السُّكْنَى لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ، وَلَوْ ابْتَدَأَ السُّكْنَى بَطَلَ خِيَارُهُ.

الباب الخامس والأربعون في القضاء فيما يبطل من العقود بالشرط

[الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ فِيمَا يَبْطُلُ مِنْ الْعُقُودِ بِالشَّرْطِ] وَمَا لَا يَبْطُلُ، وَمَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَإِضَافَتُهُ وَمَا لَا يَصِحُّ اعْلَمْ أَنَّ تَعْلِيقَ النِّكَاحِ بِشَرْطِ عِلْمٍ لِلْحَالِ يَجُوزُ وَيَكُونُ تَحْقِيقًا كَقَوْلِهِ لِآخَرَ: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُهَا مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ هَذَا، فَكَذَّبَهُ الْخَاطِبُ فَقَالَ: إنْ لَمْ أَكُنْ زَوَّجْتُهَا مِنْ فُلَانٍ فَقَدْ زَوَّجْتُهَا مِنْكَ، وَقَبِلَ الْآخَرُ وَظَهَرَ كَذِبُهُ يَنْعَقِدُ هَذَا؛ إذْ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ كَائِنٍ تَحَقَّقَ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَتْ السَّمَاءُ فَوْقَنَا وَالْأَرْضُ تَحْتَنَا تَطْلُقُ لِلْحَالِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطٍ كَائِنٍ يَصِحُّ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِمَدْيُونِهِ: " مَال بِمِنْ بد " قَالَ: " بِفُلَانِ داده " أَمْ فَقَالَ: " اكرداده بِفُلَانِ ارشده آن توداده است " صَحَّتْ الْبَرَاءَةُ، وَذَكَرَ لَوْ قَالَ لِآخَرَ: إذَا جَاءَ يَلْمَسُوهُنَّ بِعْتُ مِنْكَ هَذَا بِكَذَا لَمْ يَجُزْ؛ وَلَوْ قَالَ: بِعْتُهُ مِنْكَ بِكَذَا إنْ رَضِيَ فُلَانٌ جَازَ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ جَمِيعًا، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُهُ مِنْكَ بِكَذَا إنْ شِئْتَ فَقَالَ: قَبِلْتُ تَمَّ الْبَيْعُ، وَذَكَرَ أَنَّ تَعْلِيقَ الْإِمْهَالِ بِشَرْطٍ كَائِنٍ يَصِحُّ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ وَاجِبًا بِسَبَبِ الْغَرَضِ بِأَنْ قَالَ: " أكراين مَالْ أزان منست يك ماه ترازمان دادم " صَحَّ التَّأْجِيلُ، وَلَوْ قَالَ لِقِنِّهِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ صَحَّ الْإِذْنُ، وَلَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ يَلْمَسُوهُنَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ صَحَّ، لَا لَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ يَلْمَسُوهُنَّ فَقَدْ رَاجَعْتُكِ. وَالْقَاضِي لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ إذَا سَفِهْت، لَمْ يَكُنْ حُكْمًا بِحَجْرِهِ، وَلَوْ قَالَ لِسَفِيهٍ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ إذَا صَلَحْتَ جَازَ. وَلَوْ قَالَ الْمُخَيَّرُ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَقَدْ أَبْطَلْتُ خِيَارِي لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: فِي خِيَارِ الْعَيْبِ إنْ لَمْ أَرُدَّهُ الْيَوْمَ فَقَدْ أَبْطَلْتُ خِيَارَهُ وَلَمْ يَرُدَّهُ الْيَوْمَ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَبْطَلْتُ خِيَارِي غَدًا أَوْ قَالَ: أَبْطَلْتُ خِيَارِي إذَا جَاءَ يَلْمَسُوهُنَّ بَطَلَ خِيَارُهُ. وَتَعْلِيقُ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ مَا أَوْجَبَ الْآخَرَ هَلْ يَصِحُّ؟ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " فروختم جون بِهَا يمن رسد " إنْ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ قَالَ: إنْ أَدَّيْتُ ثَمَنَ هَذَا فَقَدْ بِعْتُ مِنْكَ صَحَّ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا إنْ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ. وَقِيلَ هَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ نَحْوِ إذَا قَدِمَ أَوْ اسْتَحَقَّ زَيْدٌ الْمَبِيعَ فَأَنَا ضَامِنٌ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا مَحْضًا نَحْوَ إنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ أَوْ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ إنْ جَاءَ الْمَطَرُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ لَا الشَّرْطُ، وَمَا جَازَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ كَطَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَحَوَالَةٍ وَكَفَالَةٍ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ. وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الِاعْتِكَافِ وَلَا يَلْزَمُهُ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ بِأَنْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْتَ أَنْتَ فَقَدْ سَلَّمْتُ الشُّفْعَةَ، فَلَوْ اشْتَرَى غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ وَالْإِقَالَةُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكِتَابَةِ بِالشَّرْطِ وَتَبْطُلُ بِفَاسِدِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : جُمْلَةُ مَا يَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى زَمَانٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ: إجَارَةٌ، وَفَسْخُهَا، وَمُزَارَعَةٌ، وَمُعَامَلَةٌ، وَمُضَارَبَةٌ وَوَكَالَةٌ، وَكَفَالَةٌ، وَإِيصَاءٌ، وَوَصِيَّةٌ، وَقَضَاءٌ، وَإِمَارَةٌ، وَطَلَاقٌ، وَعِتْقٌ، وَوَقْفٌ. وَمَا لَا يَصِحُّ إضَافَتُهُ عَشْرَةٌ: بَيْعٌ وَإِجَازَتُهُ، وَفَسْخُهُ، وَقِسْمَةٌ، وَشَرِكَةٌ، وَهِبَةٌ، وَنِكَاحٌ، وَرَجْعَةٌ، وَصُلْحٌ عَنْ مَالٍ، وَإِبْرَاءُ دَيْنٍ. اُنْظُرْ الْعُدَّةَ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْعُدَّةِ: كَفَلَ بِنَفْسِهِ إلَى شَهْرٍ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ بَعْدَ الشَّهْرِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَالتَّوْكِيلُ إلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ هَلْ يَنْتَهِي بِمُضِيِّهَا؟ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب السادس والأربعون في القضاء بأنواع الضمانات الواجبة وكيفيتها

[الْبَابُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِأَنْوَاعِ الضَّمَانَاتِ الْوَاجِبَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا] وَتَضْمِينِ الْأَمِينِ وَبَرَاءَةِ الضَّمِينِ. (مَسْأَلَةٌ) : أَمَرَهُ بِأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ ضَمِنَ الْآخِذُ لَا الْآمِرُ؛ إذْ الْأَمْرُ لَمْ يَصِحَّ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ لَا يَضْمَنُ الْآمِرُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: يَضْمَنُ الْآمِرُ لَوْ كَانَ سُلْطَانًا لَا لَوْ كَانَ غَيْرَهُ؛ إذْ أَمْرُ السُّلْطَانِ كَإِكْرَاهٍ؛ إذْ الْمَأْمُورُ يَعْلَمُ عَادَةً أَنَّهُ يُعَاقِبُهُ لَوْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِ السُّلْطَانِ فَيَضْمَنُ السُّلْطَانُ لَا مَأْمُورُهُ فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى الضَّامِنِ عَلَى غَيْرِهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ مُجَرَّدَ أَمْرِ الْإِمَامِ بِإِكْرَاهٍ لَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ لَا يَخَافُ مِنْهُ لَوْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ. وَفِيهِ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ مُجَرَّدَ أَمْرِهِ إكْرَاهًا وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ لَا يَخَافُ مِنْهُ لَوْ لَمْ يَمْتَثِلْ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ: احْفِرْ لِي فِي هَذَا الْحَائِطِ بَابًا، فَفَعَلَ وَهُوَ لِغَيْرِهِ ضَمِنَ الْحَافِرُ وَرَجَعَ عَلَى آمِرِهِ، وَلَوْ قَالَهُ وَتَرَكَ لَفْظَةَ " لِي " لَمْ يَرْجِعْ، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ سَاكِنًا فِي الدَّارِ وَاسْتَأْجَرَهُ عَلَى الْحَفْرِ رَجَعَ الْحَافِرُ عَلَى آمِرِهِ اُنْظُرْ الْمُنْتَقَى. (فَرْعٌ) : الْجَانِي لَوْ أَمَرَ الْعَوَانَ بِالْأَخْذِ فَفِيهِ نَظَرٌ، بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ضَمِنَ الْآخِذُ لَا الْجَانِي، وَبِاعْتِبَارِ السَّعْيِ ضَمِنَ الْجَانِي. فَتَأَمَّلْ فِيهِ عِنْدَ الْفَتَاوَى، هَكَذَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى. وَقَالَ قَاضِي خَانُ: الْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْآخِذَ ضَمِنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ لَوْ دَفَعَ الْمَأْخُوذَ إلَى آمِرِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ لَا لَوْ تَلِفَ عِنْدَهُ، وَلَوْ أَنْفَقَهُ فِي حَاجَةِ الْآمِرِ فَهُوَ كَمَأْمُورٍ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي حَاجَةِ الْآمِرِ. وَقِيلَ رَجَعَ لَوْ شَرَطَ الرُّجُوعَ. وَقِيلَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُرْجِعُ شَرْطَهُ أَوَّلًا. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْجَانِيَ لَا يَضْمَنُ، وَأَمَّا الْجَانِي لَوْ أَرَى الْأَعْوَانَ بَيْتَ رَبِّ الْمِلْكِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ أَوْ الشَّرِيكُ أَرَى الْعَوَانَ بَيْتَ شَرِيكِهِ حَتَّى أَخَذَ الْمَالَ أَوْ أَخَذَ مِنْ بَيْتِهِ رَهْنًا بِالْمَالِ الْمَطْلُوبِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ وَضَاعَ الرَّهْنُ فَالْجَانِي وَالشَّرِيكُ لَمْ يَضْمَنَا بِلَا شُبْهَةٍ، إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَمْرٌ وَلَا حَمْلٌ، وَدَفْعُ الْعَوَانِ مُمْكِنٌ بِطَرِيقِهِ، وَأَمَّا دَفْعُ السُّلْطَانِ فَلَا يُمْكِنُ. (مَسْأَلَةٌ) : سَعَى إلَى سُلْطَانٍ ظَالِمٍ حَتَّى غَرَّمَ رَجُلًا، فَلَوْ سَعَى بِحَقٍّ نَحْوَ إنْ كَانَ يُؤْذِيهِ وَعَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ لَا يَسَعُهُ أَوْ فَاسِقًا لَا يَمْتَنِعُ بِالْأَمْرِ فَفِي مِثْلِهِ لَا يَضْمَنُ السَّاعِي. كَذَا فِي الْعُدَّةِ قَالَ قَاضِي خَانُ: لَوْ سَعَى إلَيْهِ بِأَنَّ لِفُلَانٍ مَالًا كَثِيرًا، أَوْ وَجَدَهُ، أَوْ أَصَابَ مِيرَاثًا، أَوْ عِنْدَهُ مَالٌ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ، أَوْ أَنَّهُ يُرِيدُ الْفُجُورَ بِأَهْلِي، أَوْ ضَرَبَنِي، أَوْ ظَلَمَنِي فَلَوْ كَانَ السُّلْطَانُ مِمَّنْ يَأْخُذُ الْمَالَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ضَمِنَ لَوْ كَانَ كَاذِبًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ صَادِقًا إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَظَلِّمٍ وَمُحْتَسِبٍ فِي ذَلِكَ. الذَّخِيرَةِ لَمْ يَضْمَنْ الْمَضْرُوبُ لَوْ سَعَى. (فَرْعٌ) : السِّعَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّمَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَذِبٍ يَكُونُ سَبَبًا لِأَخْذِ الْمَالِ مِنْهُ أَوْ لَا يَكُونُ قَصْدُهُ إقَامَةَ الْحِسْبَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ عِنْدَ السُّلْطَانِ إنَّهُ وَجَدَ مَالًا وَقَدْ وَجَدَ الْمَالَ فَهَذَا يُوجِبُ الضَّمَانَ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَالَ بِهَذَا السَّبَبِ اُنْظُرْ الْفَتَاوَى الرَّشِيدِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : ادَّعَى عَلَيْهِ سَرِقَةً وَقَدَّمَهُ إلَى السُّلْطَانِ يَطْلُبُ مِنْهُ ضَرْبُهُ حَتَّى يُقِرَّ فَضَرَبَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَحَبَسَهُ فَخَافَ مِنْ التَّعْذِيبِ وَالضَّرْبِ فَصَعِدَ السَّطْحَ لِيَنْفَلِتَ فَسَقَطَ مِنْ السَّطْحِ فَمَاتَ وَقَدْ غَرِمَ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَظَهَرَتْ السَّرِقَةُ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ، فَلِلْوَرَثَةِ أَخْذُ مُدَّعِي السَّرِقَةِ بِدِيَةِ مُورِثِهِمْ وَبِغَرَامَةٍ أَدَّاهَا إلَى السُّلْطَانِ. اُنْظُرْ فَتَاوَى ظَهِيرِ الدِّينِ. (فَرْعٌ) : لَوْ قَالَ: وَجَدَ كَنْزًا أَوْ لُقَطَةً، فَظَهَرَ كَذِبُهُ ضَمِنَ إلَّا إنْ كَانَ السُّلْطَانُ عَادِلًا لَا يُغَرِّمُ بِمِثْلِ هَذِهِ السِّعَايَاتِ، أَوْ قَدْ يُغَرِّمُ وَقَدْ لَا يُغَرِّمُ بَرِئَ السَّاعِي وَلَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ يَجِيءُ إلَى امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ فَرَفَعَ إلَى السُّلْطَانِ فَغَرَّمَهُ فَظَهَرَ كَذِبُهُ لَمْ يَضْمَنْ السَّاعِي عِنْدَهُمَا، وَضَمِنَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ يُفْتَى لِغَلَبَةِ السُّعَاةِ فِي زَمَانِنَا مِنْ الْعُدَّةِ.

فصل في التسبب والدلالة

مَسْأَلَةٌ) : أَمَرَ قِنًّا بِإِبَاقٍ أَوْ قَالَ لَهُ اُقْتُلْ نَفْسَكَ فَفَعَلَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِإِتْلَافِ مَالِ مَوْلَاهُ فَأَتْلَفَهُ لَمْ يَضْمَنْ الْآمِرُ؛ إذْ بِأَمْرِهِ بِإِبَاقٍ وَقَتْلٍ صَارَ غَاصِبًا إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا بِالْأَمْرِ بِإِتْلَافِ مَالِ مَوْلَاهُ لَمْ يَصِرْ غَاصِبًا لِمَالٍ وَإِنَّمَا صَارَ غَاصِبًا لِقِنِّهِ وَهُوَ لَمْ يَهْلَكْ وَإِنَّمَا الْمُتْلَفُ مَالُ الْمَوْلَى بِفِعْلِ قِنِّهِ. مِنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الصُّغْرَى: اسْتِعْمَالُ قِنِّ الْغَيْرِ كَغَصْبِهِ فَيَضْمَنُ لَوْ هَلَكَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ. وَلَوْ أَوْدَعَ قِنًّا فَبَعَثَهُ الْمُودِعُ فِي حَاجَتِهِ صَارَ غَاصِبًا، وَإِنْ بَيْنَهُمَا قِنٌّ اسْتَخْدَمَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْبَةِ الْآخَرِ فَمَاتَ فِي خِدْمَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَفِي الدَّابَّةِ ضَمِنَ. وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ: وَضَمِنَ الْقِنُّ أَيْضًا. (فَرْعٌ) : قَالَ فِي الْقِنْيَةِ: رَادُّ الْآبِقِ اسْتَعْمَلَهُ فِي حَاجَتِهِ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ أَبَقَ مِنْهُ يَضْمَنُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي فَوَائِدِ صَاحِبِ الْمُحِيطِ قَالَ: إنِّي حُرٌّ فَاسْتَعْمِلْنِي فَاسْتَعْمَلَهُ وَهَلَكَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ قِنٌّ ضَمِنَ، عَلِمَ أَوْ لَا، وَهَذَا لَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي عَمَلِ نَفْسِهِ، أَمَّا لَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي عَمَلِ غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ؛ إذْ لَا يَصِيرُ بِهِ غَاصِبًا كَقَوْلِهِ لِقِنِّ غَيْرِهِ: ارْتَقِ الشَّجَرَةَ وَانْثُرْ الثَّمَرَ لِتَأْكُلَهُ أَنْتَ فَسَقَطَ لَمْ يَضْمَنْ الْآمِرُ، وَلَوْ قَالَ: لِتَأْكُلَهُ أَنْتَ وَأَنَا. أَفْتَى قَاضِي خَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ كُلَّهُ لَوْ اسْتَعْمَلَهُ كُلَّهُ فِي مَنْفَعَتِهِ كَذَا عَلَى حَاشِيَةِ بَعْضِ كُتُبِ الذَّخِيرَةِ. وَفِيهَا: قِنٌّ حَمَلَ كُوزَ مَاءٍ لِيَنْقُلَهُ إلَى بَيْتِ مَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ فَدَفَعَ إلَيْهِ رَجُلٌ كُوزَهُ لِيَحْمِلَ مَاءَهُ مِنْ الْحَوْضِ فَهَلَكَ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مَرَّةً: يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، ثُمَّ مَرَّةً ثَانِيَةً قَالَ: يَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهِ؛ إذْ فِعْلُهُ نَسَخَ فِعْلَ الْمُوَلِّي فَصَارَ غَاصِبًا كُلَّ الْقِنِّ. (فَرْعٌ) : قَالَ فِي التَّجْرِيدِ: اسْتَخْدَمَ قِنَّ غَيْرِهِ بِلَا أَمْرِهِ أَوْ قَادَ دَابَّتَهُ أَوْ سَاقَهَا أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا أَوْ رَكِبَهَا ضَمِنَ، هَلَكَ فِي تِلْكَ الْخِدْمَةِ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: لَوْ رَكِبَهَا ضَمِنَ سَاقَهَا أَوْ لَا، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ إنَّمَا ضَمِنَ لَوْ سَاقَهَا. [فَصْلٌ فِي التَّسَبُّبِ وَالدَّلَالَةِ] (فَصْلٌ) : قَالَ فِي الْفَتَاوَى: لَوْ تَعَلَّقَ بِرَجُلٍ وَخَاصَمَهُ فَسَقَطَ مِنْ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ شَيْءٌ فَضَاعَ ضَمِنَ الْمُتَعَلِّقُ. هَدَمَ بَيْتَ نَفْسِهِ فَانْهَدَمَ بَيْتُ جَارِهِ لَمْ يَضْمَنْ إذْ لَمْ يَتَعَدَّ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ ضَرَبَ رَجُلًا فَسَقَطَ الْمَضْرُوبُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ وَسَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ مَا مَعَهُ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ وَثِيَابٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ. مِنْ غَرِيبِ الرِّوَايَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْقِنْيَةِ: ضَرَبَهُ فَسَقَطَ وَمَاتَ ضَمِنَ مَالَهُ وَثِيَابَهُ إذَا ضَاعَتْ وَفِيهِ: ضَرَبَهُ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْبَرَاحُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ لَا يَضْمَنُ. وَفِيهِ: خَرَقَتْ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ أُذُنَ الْأُخْرَى فِي الْمُشَاجَرَةِ فَسَقَطَ الْقُرْطُ فَضَاعَ لَمْ تَضْمَنْ. (فَرْعٌ) : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: أَلْقَاهُ فِي حَوْضٍ أَوْ نَهْرٍ وَمَعَهُ دَرَاهِمُ فَسَقَطَتْ فِي الْحَوْضِ فَلَوْ سَقَطَتْ عِنْدَ إلْقَائِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ، لَا لَوْ سَقَطَتْ وَقْتَ خُرُوجِهِ عَنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِ مَالِكِهَا. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْفَتَاوَى: خَرَقَ صَكَّ غَيْرِهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَكْتُوبًا، وَكَذَا دَفْتَرُ الْحِسَابِ. هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي خِزَانَةِ الْفِقْهِ. وَفِي فَوَائِدِ ظَهِيرِ الدِّينِ قَالَ لَهُ: اُسْلُكْ هَذِهِ الطَّرِيقَ فَإِنَّهُ آمِنٌ فَسَلَكَ فَأَخَذَهُ اللُّصُوصُ لَا يَضْمَنْ

وَلَوْ قَالَ لَهُ مَخُوفًا: وَإِنْ أَخَذَ مَالَكَ فَأَنَا ضَامِنٌ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، ضَمِنَ، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَغْرُورَ قَضَاءٌ، وَلَوْ قَالَ الطَّحَّانُ لبرار: اجْعَلْ الْبُرَّ فِي الدَّلْوِ، فَجَعَلَهُ فِيهِ فَذَهَبَ مِنْ الثَّقْبِ إلَى الْمَاءِ وَالطَّحَّانُ كَانَ عَالِمًا بِهِ يَضْمَنُ؛ إذْ غَرَّهُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ وَهُوَ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: مَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أَخَذَ مَالَكَ فَأَنَا ضَامِنٌ، مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: مَنْ غَصَبَكَ مِنْ النَّاسِ أَوْ مَنْ بَايَعْتَ مِنْ النَّاسِ فَأَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ، فَهُوَ بَاطِلٌ. (مَسْأَلَةٌ) : دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى دَلَّالٍ لِيَبِيعَهُ فَسَاوَمَهُ رَبُّ حَانُوتٍ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَقَالَ: أَحْضِرْ رَبَّ الثَّوْبِ لِأُعْطِيَهُ الثَّمَنَ فَذَهَبَ وَعَادَ فَلَمْ يَجِدْ الثَّوْبَ فِي الْحَانُوتِ، وَرَبُّ الْحَانُوتِ يَقُولُ: أَنْتَ أَخَذْتَهُ وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَخَذْتُهُ بَلْ تَرَكْتُهُ عِنْدَك، صُدِّقَ الدَّلَّالُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِيرٌ، وَأَمَّا رَبُّ الْحَانُوتِ فَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهُ رَبُّ الْحَانُوتِ لِيَشْتَرِيَهُ بِمَا سَمَّى مِنْ الثَّمَنِ فَقَدْ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ فَلَا يَبْرَأُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى ثَمَنٍ لَمْ يَضْمَنْ؛ إذْ الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ إنَّمَا يَضْمَنُ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى ثَمَنٍ. مِنْ كِتَابِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ لِصَاحِبِ الْمُحِيطِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ عَرَضَهُ الدَّلَّالُ عَلَى رَبِّ دُكَّانٍ وَتَرَكَهُ عِنْدَهُ فَهَرَبَ رَبُّ الدُّكَّانِ فَذَهَبَ لَمْ يَضْمَنْ الدَّلَّالُ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ. قَالَهُ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى. (فَرْعٌ) : قَالَ وَكِيلُ الْبَيْعِ بِعْتُهُ مِنْ رَجُلٍ لَا أَعْرِفُهُ وَسَلَّمْتُهُ وَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ ضَمِنَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقُمْقُمَةِ وَهِيَ: دَفَعَ إلَيْهِ قُمْقُمَةً وَقَالَ لَهُ ادْفَعْهَا إلَى مَنْ يُصْلِحُهَا فَدَفَعَهَا وَلَا يَعْلَمُ إلَى مَنْ دَفَعَ لَمْ يَضْمَنْ، كَمَنْ وَضَعَ الْوَدِيعَةَ فِي بَيْتِهِ وَنَسِيَهَا وَقَدْ هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ. مِنْ فَتَاوَى ظَهِيرِ الدِّينِ. (فَرْعٌ) : وَكَّلَهُ بِبَيْعِ قِنِّهِ وَهُوَ فِي الْمِصْرِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ الْمِصْرِ وَبَاعَهُ ضَمِنَ اسْتِحْسَانًا، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ عَلَى الْآمِرِ لِتَقْيِيدِ الْوَكَالَةِ بِالْمِصْرِ فَخَالَفَ بِإِخْرَاجِهِ ضَمِنَ، وَوَكِيلُ الْبَيْعِ لَوْ خَالَفَ بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ أَوْ دَفَعَ الثَّوْبَ إلَى قَصَّارٍ لِيُقَصِّرَهُ حَتَّى صَارَ ضَامِنًا، فَلَوْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ يَبْرَأُ الْمُودِعُ، وَالْوَكَالَةُ بَاقِيَةٌ فِي بَيْعِهِ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ شَرْحِ الْحِيَلِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْعُدَّةِ: دَفَعَ خُفَّهُ إلَى خَفَّافٍ لِيُصْلِحَهُ وَتَرَكَهُ فِي دُكَّانِهِ لَيْلًا فَسُرِقَ بَرِئَ لَوْ كَانَ فِي الدُّكَّانِ حَافِظٌ وَفِي السُّوقِ حَارِسٌ، وَإِلَّا ضَمِنَ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: كَانَ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ يُفْتِي بِالْبَرَاءَةِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ لَوْ كَانَ الْعُرْفُ أَنْ يَتْرُكُوا الْأَشْيَاءَ فِي الْحَوَانِيتِ بِلَا حَارِسٍ وَلَا حَافِظٍ يَبْرَأُ، لَا لَوْ كَانَ الْعُرْفُ بِخِلَافِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : سُوقِيٌّ قَامَ مِنْ دُكَّانِهِ إلَى صَلَاتِهِ وَفِيهِ الْوَدَائِعُ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضَيِّعٍ؛ إذْ جِيرَانُهُ يَحْفَظُونَهُ، لَيْسَ هَذَا إيدَاعُ الْمُودِعِ إلَى غَيْرِهِ لِيُقَالَ لَيْسَ لِلْمُودِعِ أَنْ يُودِعَ لَكِنْ هَذَا مُودِعٌ لَمْ يُضَيِّعْ. مِنْ فَتَاوَى ظَهِيرِ الدِّينِ. (مَسْأَلَةٌ) : مَاتَ الْمُودِعُ مُجْهِلًا ضَمِنَ، يَعْنِي إذَا مَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ الْوَدِيعَةِ، أَمَّا إذَا عَرَفَهَا الْوَارِثُ وَالْمُودِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْرِفُ فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ، فَلَوْ قَالَ الْوَارِثُ: أَنَا عَلِمْتُهَا، وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ لَوْ فَسَّرَهَا بِأَنْ قَالَ: كَانَتْ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ هَلَكَتْ، صُدِّقَ لِكَوْنِهَا عِنْدَهُ، كَذَا فِي الْعُدَّةِ وَفِي الذَّخِيرَةِ. قَالَ رَبُّهَا: مَاتَ مُجْهِلًا، وَقَالَ وَرَثَةُ الْمُودِعِ: كَانَتْ قَائِمَةً وَمَعْرُوفَةً ثُمَّ هَلَكَتْ بَعْد مَوْتِهِ صُدِّقَ رَبُّهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ إذْ الْوَدِيعَةُ صَارَتْ دَيْنًا فِي الظَّاهِرِ فِي التَّرِكَةِ فَلَا تُصَدَّقُ الْوَرَثَةُ. وَلَوْ قَالَ وَرَثَتُهُ: رَدَّهَا فِي حَيَاتِهِ أَوْ تَلِفَتْ فِي حَيَاتِهِ، لَمْ يُصَدَّقْ بِلَا بَيِّنَةٍ كَمَوْتِهِ مُجْهِلًا فَتَقَرَّرَ الضَّمَانُ، وَلَوْ بَرْهَنُوا أَنَّ الْمُودِعَ قَالَ فِي حَيَاتِهِ: رَدَدْتُهَا، يُقْبَلُ؛ إذْ الثَّابِتُ بِبَيِّنَةٍ كَثَابِتٍ بِعِيَانٍ.

فصل الوديعة لا تودع ولا تعار ولا تؤجر

[فَصْلٌ الْوَدِيعَةُ لَا تُودَعُ وَلَا تُعَارُ وَلَا تُؤَجَّرُ] فَصْلٌ) : الْوَدِيعَةُ لَا تُودَعُ وَلَا تُعَارُ وَلَا تُؤَجَّرُ، وَالْمُسْتَأْجَرُ يُؤَجَّرُ وَيُعَارُ، وَالْعَارِيَّةُ تُعَارُ وَلَا تُؤَجَّرُ. قِيلَ يُودَعُ الْمُسْتَأْجَرُ وَالْعَارِيَّةُ؛ إذْ يَصِحُّ إعَارَتُهَا، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ الْإِيدَاعِ الْمُفْرَدِ؛ إذْ هُوَ الْأَمْرُ بِالْحِفْظِ بِلَا انْتِفَاعٍ فَيَصِحُّ الْإِذْنُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَقِيلَ لَا؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ، وَلَيْسَ لِلْأَمِينِ أَنْ يُسَلِّمَ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ لَا يَدْخُلُ حِرْزَهُ، وَإِنَّمَا جَازَ إعَارَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ وَالْمُؤَجِّرَ لِإِطْلَاقِ الْإِذْنِ بِالِانْتِفَاعِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِذْنِ مَعْدُومٌ فِي الْإِيدَاعِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْحَجْرِ فَلَيْسَ لَهُ الْإِيدَاعُ فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَعَارَ فَقَدْ أَوْدَعَ. قُلْنَا: الْإِيدَاعُ فِيهِ ضِمْنِيٌّ لَا قَصْدِيٌّ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ تَبَعًا مَا يَثْبُتُ قَصْدًا وَيَثْبُتُ تَضْمِينًا مَا يَبْطُلُ تَصْرِيحًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّ بَيْعَ حَمْلِ الْأَمَةِ صَحَّ تَبَعًا لَا وَحْدَهُ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْفِقْهِ. [فَصْلٌ فِي إعَارَةِ الدَّوَابِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا] (فَصْلٌ) : قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ اسْتَعَارَ دَابَّةً أَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيُشَيِّعَ جِنَازَةً، فَلَمَّا نَزَلَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ دَفَعَهَا إلَى رَجُلٍ لِيُصَلِّيَ وَصَارَ الْحِفْظُ بِنَفْسِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُسْتَثْنًى. قَالَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: نَزَلَ عَنْ الدَّابَّةِ فِي الصَّحْرَاءِ وَأَمْسَكَهَا فَانْفَلَتَتْ لَمْ يَضْمَنْ، دَلَّ هَذَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَنْ لَا يُغَيِّبَهَا عَنْ بَصَرِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ: دَفَعَهَا إلَى رَجُلٍ لِيُمْسِكَهَا حَتَّى يُصَلِّيَ ضَمِنَ لَوْ شَرَطَ رُكُوبَ نَفْسِهِ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: نَزَلَ فِي السِّكَّةِ عَنْ دَابَّةٍ إجَارَةً أَوْ إعَارَةً وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ عَنْهَا ضَمِنَ. مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ضَمِنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَإِطْلَاقُ مُحَمَّدٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَبِهِ يُفْتَى. قَالَ فِي شَرْحِ السَّرَخْسِيِّ: لِأَنَّهُ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ ضَيَّعَهَا لَوْ غَيَّبَهَا عَنْ بَصَرِهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ سُرِقَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَقَطَ الْقَطْعُ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ عَقِيبَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: نَزَلَ عَنْهَا فِي صَحْرَاءَ يُصَلِّي فَأَمْسَكَهَا فَانْفَلَتَتْ لَمْ يَضْمَنْ إذْ لَمْ يُضَيِّعْهَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ بَيْتَهُ وَتَرَكَهَا فِي السِّكَّةِ ضَمِنَ رَبَطَهَا أَوْ لَا؛ إذْ غَيَّبَهَا عَنْ بَصَرِهِ، فَلَوْ تَصَوَّرَ أَنْ يَدْخُلَ مَسْجِدًا أَوْ بَيْتًا وَالدَّابَّةُ لَمْ تَغِبْ عَنْ بَصَرِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَبِهِ يُفْتَى. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي كِتَابِ الْخُلَاصَةِ لِلْمُفْتِي: سَلَّمَهَا إلَى رَجُلٍ لِيُسَلِّمَهَا إلَى رَبِّهَا ضَمِنَ قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا لَوْ شَرَطَ الِانْتِفَاعَ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا لَوْ أَطْلَقَ فَلَا ضَمَانَ؛ إذْ الْعَارِيَّةُ تُودَعُ. (مَسْأَلَةٌ) : اسْتَعْمَلَ ثَوْرًا وَفَرَغَ وَلَمْ يَحِلَّ حَبْلَهُ فَذَهَبَ إلَى الْمَرْجِ فَاخْتَنَقَ بِهِ ضَمِنَ. (مَسْأَلَةٌ) : رَبَطَ حِمَارَ الْعَارِيَّةِ بِحَبْلٍ فَاخْتَنَقَ لَمْ يَضْمَنْ. [فَصْلٌ فِي إجَارَةِ الدَّوَابِّ وَوُجُوبِ الضَّمَانِ] (فَصْلٌ) : لِمُسْتَأْجِرِ الدَّابَّةِ أَنْ يُؤَجِّرَ وَيُعِيرَ وَيُودِعَ، اسْتَأْجَرَ حِمَارًا مِنْ كش إلَى بُخَارَى فَعَيِيَ الْحِمَارُ فِي الطَّرِيقِ وَمَالِكُهُ كَانَ بِبُخَارَى فَأَمَرَ الْمُكْتَرِي رَجُلًا لِيُنْفِقَ عَلَى الْحِمَارِ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرًا مَعْلُومًا وَسَمَّى لَهُ الْأَجْرَ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ مَالِكُهُ، فَأَمْسَكَ الْأَجِيرُ الْحِمَارَ أَيَّامًا وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَالُوا: لَوْ اكْتَرَاهُ لِرُكُوبِ نَفْسِهِ ضَمِنَ، وَلَوْ اكْتَرَاهُ وَلَمْ يُسَمِّ الرَّاكِبَ بَرِئَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اكْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَ وَلَا أَنْ يُؤَجِّرَ فَلَيْسَ لَهُ الْإِيدَاعُ أَيْضًا، وَلَوْ لَمْ يُسَمِّ الرَّاكِبُ كَانَ لَهُ الْإِعَارَةُ وَالْإِجَارَةُ فَلَهُ الْإِيدَاعُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْعُدَّةِ: اسْتَأْجَرَ حِمَارًا إلَى بُخَارَى فَعَيِيَ فَتَرَكَهُ فَضَاعَ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ كَانَ مَالِكُ الْحِمَارِ مَعَ الْحِمَارِ وَلَمْ يَكُنْ مَالِكُ الْمَتَاعِ مَعَهُ فَمَرِضَ الْحِمَارُ فِي الطَّرِيقِ فَتَرَكَ الْحِمَارَ وَالْمَتَاعَ لَمْ يَضْمَنْ لِلضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ،

الباب السابع والأربعون في القضاء بأحكام السكوت

وَلَوْ عَمِيَ الْحِمَارُ أَوْ عَجَزَ عَنْ الْمُضِيِّ فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي وَهَلَكَ ثَمَنُهُ فِي الطَّرِيقِ فَلَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَصِلْ إلَى الْحَاكِمِ لِيَأْمُرَهُ بِبَيْعِهِ، يَبْرَأُ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ أَوْ يَسْتَطِيعُ إمْسَاكَهُ أَوْ رَدَّهُ أَعْمَى، ضَمِنَ قِيمَتَهُ. وَاقِعَةُ الْفَتْوَى: اسْتَأْجَرَهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ وَلَهُ آخَرُ فَسَقَطَ حِمَارُهُ فِي الطَّرِيقِ فَاشْتَغَلَ بِهِ فَذَهَبَ الْمُسْتَأْجَرُ وَهَلَكَ، فَلَوْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اتَّبَعَ الْمُسْتَأْجِرَ لَهَلَكَ حِمَارُهُ أَوْ مَتَاعُهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِلَّا ضَمِنَ اسْتِدْلَالًا بِمَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْأَمِينَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ لَوْ كَانَ بِلَا عُذْرٍ، أَمَّا لَوْ كَانَ بِعُذْرٍ فَلَا يَضْمَنُ، حَتَّى أَنَّ الْبَقَرَةَ لَوْ نَدَّتْ مِنْ الْمَسْرَحِ وَتَرَكَ الْأَجِيرُ اتِّبَاعَهَا لِئَلَّا يَضِيعَ الْبَاقِي فَهَلَكَ الَّذِي نَدَّ يَبْرَأُ. وَفِيهِ: لَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ حِمَارَيْنِ فَاشْتَغَلَ بِحَمْلِ أَحَدِهِمَا فَضَاعَ الْآخَرُ لَوْ غَابَ عَنْ بَصَرِهِ ضَمِنَ. قَالَ عِمَادُ الدِّينِ فِي فُصُولِهِ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ فِي مَسْأَلَةِ الْفَتْوَى لَوْ غَابَ عَنْ بَصَرِهِ، فَيَتَأَمَّلُ عِنْدَ الْإِفْتَاءِ [الْبَابُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِأَحْكَامِ السُّكُوتِ] فِي الْقَضَاءِ بِأَحْكَامِ السُّكُوتِ. السُّكُوتُ رِضًا فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا سُكُوتُ الْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِثْمَارِ الْوَلِيِّ قَبْلَ التَّزْوِيجِ وَبَعْدَهُ هَذَا لَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ، حَتَّى لَوْ زَوَّجَ الْجَدُّ مَعَ قِيَامِ الْأَبِ لَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا وَمِنْهَا سُكُوتُهَا عِنْدَ قَبْضِ مَهْرِهَا لَوْ قَبَضَ الْمَهْرَ أَبُوهَا أَوْ مَنْ زَوَّجَهَا فَسَكَتَتْ يَكُونُ إذْنًا بِقَبْضِهِ، إلَّا أَنْ تَقُولَ: لَا تَقْبِضْهُ، فَإِذْنٌ لَمْ يَجُزْ الْقَبْضُ عَلَيْهَا وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ. وَمِنْهَا سُكُوتُ الصَّبِيَّةِ إذَا بَلَغَتْ بِكْرًا يَكُونُ رِضًا وَيَبْطُلُ خِيَارُ بُلُوغِهَا، لَا لَوْ بَلَغَتْ ثَيِّبًا. وَمِنْهَا قَبْضُ هِبَةٍ وَصَدَقَةٍ بِحَضْرَةِ الْمَالِكِ وَهُوَ سَاكِتٌ كَانَ إذْنًا بِقَبْضِهِ. وَمِنْهَا إبْرَاءُ مَدْيُونِهِ فَسَكَتَ يَبْرَأُ وَلَوْ رُدَّ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ. وَمِنْهَا الْإِقْرَارُ يَصِحُّ، وَلَوْ سَكَتَ الْمُقَرُّ لَهُ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ. وَمِنْهَا الْوَكَالَةُ، وَكَّلَهُ بِشَيْءٍ فَسَكَتَ الْوَكِيلُ وَبَاشَرَهُ صَحَّ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ قِنِّهِ فَلَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ فَبَاعَهُ جَازَ وَيَكُونُ قَبُولًا، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ فَسَكَتَ فِي حَيَاتِهِ فَلَمَّا مَاتَ بَاعَ الْوَصِيُّ بَعْضَ التَّرِكَةِ أَوْ تَقَاضَى دَيْنَهُ فَهُوَ قَبُولٌ لِلْوِصَايَةِ. وَمِنْهَا أُسِرَ قِنٌّ لِمُسْلِمٍ فَوَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ وَقُسِمَ، وَمَوْلَاهُ حَاضِرٌ فَسَكَتَ بَطَلَ حَقُّهُ. وَمِنْهَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُخَيَّرًا فَرَأَى الْقِنَّ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ بَطَلَ خِيَارُهُ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ. وَمِنْهَا لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ لِثَمَنِهِ، فَلَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَرَآهُ الْبَائِعُ وَسَكَتَ كَانَ إذْنًا فِي قَبْضِهِ، الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ فِيهِ سَوَاءٌ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ رِضًا بِقَبْضٍ فِي الْفَاسِدِ لَا فِي الصَّحِيحِ فِي رِوَايَةٍ. وَمِنْهَا عِلْمُ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ وَسَكَتَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ. وَمِنْهَا رَأَى قِنَّهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَسَكَتَ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ لَا فِي تِلْكَ الْعَيْنِ، وَهَلْ يَحْنَثُ بِهِ فِي هِبَتِهِ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْذَنُ لَهُ فِيهَا؟ يَحْنَثُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَمِنْهَا بَاعَ الْقِنُّ وَهُوَ حَاضِرٌ عَلِمَ بِهِ وَسَكَتَ، وَفِي رِوَايَةٍ فَانْقَادَ لِلْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ثُمَّ قَالَ أَنَا حُرٌّ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَفِي نَوَادِرِ ابْنُ سِمَاعَةَ: وَسَكَتَ وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ إقْرَارٌ بِرِقِّهِ، وَكَذَا لَوْ رَهَنَهُ أَوْ دَفَعَهُ بِجِنَايَةٍ وَهُوَ سَاكِتٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجَّرَهُ أَوْ عَرَضَهُ لِلْبَيْعِ أَوْ زَوَّجَهُ أَوْ سَاوَمَهُ، فَسُكُوتُهُ هُنَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِرِقِّهِ. وَمِنْهَا السُّكُوتُ قَبْلَ الْبَيْعِ عِنْدَ الْإِخْبَارِ بِالْعَيْبِ رِضًا بِالْعَيْبِ، حَتَّى لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ هَذَا الْعَبْدُ مَعِيبٌ فَسَمِعَهُ وَأَقْدَمَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى شِرَائِهِ فَهُوَ رِضًا بِالْعَيْبِ أَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا لَا لَوْ كَانَ فَاسِقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ رِضًا وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا. وَمِنْهَا بَاعَ عَقَارًا وَامْرَأَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ بَعْضُ أَقَارِبِهِ حَاضِرٌ فَسَكَتَ ثُمَّ ادَّعَاهُ عَلَى الْمُشْتَرِي مَنْ كَانَ حَاضِرًا وَقْتَ الْبَيْعِ، أَفْتَى مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ وَجَعَلَ سُكُوتَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَإِقْرَارِهِ دَلَالَةً قَطْعًا لِلْأَطْمَاعِ الْفَاسِدَةِ، وَأَفْتَى مَشَايِخُ بُخَارَى أَنَّهُ يُسْمَعُ، فَيَنْظُرُ الْمُفْتِي فِي ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ لِاشْتِهَارِ الْمُدَّعِي بِحِيلَةٍ وَتَلْبِيسٍ وَأَفْتَى بِهِ، كَانَ حَسَنًا سَدًّا لِبَابِ التَّزْوِيرِ.

الباب الثامن والأربعون في القضاء بما يمنع عنه وفيما لا يمنع

(مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: الْحَاضِرُ عِنْدَ الْبَيْعِ لَوْ بَعَثَهُ الْبَائِعُ إلَى الْمُشْتَرِي وَتَقَاضَاهُ الثَّمَنَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُجِيزًا لِلْبَيْعِ بِتَقَاضِيهِ، كَذَا فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْ فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: رَأَى غَيْرَهُ يَبِيعُ عَرَضًا أَوْ دَارًا فَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي زَمَانًا، وَهُوَ سَاكِتٌ سَقَطَتْ دَعْوَاهُ. [الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِمَا يُمْنَعُ عَنْهُ وَفِيمَا لَا يُمْنَعُ] وَفِيمَا يَحِلُّ فِعْلُهُ وَفِيمَا لَا يَحِلُّ أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ ظُلَّةً فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ لَا تَضُرُّ بِالْعَامَّةِ، فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَقَّ الْمَنْعِ وَالطَّرْحِ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ لَا الطَّرْحِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ لَهُ كِلَاهُمَا وَلَوْ ضَرَّ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقُّ الْمَنْعِ وَالطَّرْحِ وَالدَّفْعِ، وَإِحْدَاثُهَا فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ لَمْ يَجُزْ بِلَا إذْنِ أَهْلِهَا ضَرَّ أَوْ لَا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ إحْدَاثَهَا عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ يُبَاحُ قَبْلَ أَنْ يُخَاصِمَهُ أَحَدٌ لَا بَعْدَهُ وَلَا الِانْتِفَاع، وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهَا. قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ لَوْ لَمْ يَضُرَّهُمْ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: إنِّي أَمْنَعُ مِنْ بِنَاءٍ كَنِيفٍ أَوْ ظُلَّةٍ عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَلَوْ بَنَى يُقْلَعُ لَوْ ضَرَّ وَإِلَّا لَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ أَخْرَجَ كَنِيفًا وَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي دَارِهِ وَلَمْ يَضُرَّ تَرَكَهُ، وَلَوْ أَدْخَلَهُ فِيهَا يُمْنَعُ عَنْهُ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ الطَّرِيقِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ ظُلَّةٌ فِي غَيْرِ نَافِذَةٍ لَيْسَ لِأَهْلِهَا هَدْمُهَا لَوْ لَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ كَانَ أَمْرُهَا، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ بَنَاهَا عَلَى السِّكَّةِ هُدِمَتْ، وَلَوْ كَانَتْ نَافِذَةً فِي الْوَجْهَيْنِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُهْدَمُ لَوْ يَضُرُّ، وَإِلَّا لَا. ثُمَّ الْأَصْلُ: أَنَّ مَا عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ لَوْ لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ يُجْعَلُ حَدِيثًا فَلِلْإِمَامِ رَفْعُهُ، وَمَا فِي غَيْرِ النَّافِذَةِ لَوْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ يُجْعَلُ قَدِيمًا فَلَا يُرْفَعُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْأَصْلِ: غَابَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الدَّارِ فَأَرَادَ الْحَاضِرُ أَنْ يُسْكِنَهَا رَجُلًا أَوْ يُؤَجِّرَهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ دِيَانَةً؛ إذْ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلِلْمَالِكِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ قَضَاءً؛ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُمْنَعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا فِي يَدِهِ لَوْ لَمْ يُنَازِعْهُ أَحَدٌ، فَلَوْ أَجَّرَ، وَأَخَذَ الْأَجْرَ يَرُدُّ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ لَوْ قَدَرَ، وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْخُبْثِ فِيهِ بِحَقِّ شَرِيكِهِ فَكَانَ كَغَاصِبِ أَجْرٍ يَتَصَدَّقُ بِالْأَجْرِ أَوْ يَرُدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ، وَأَمَّا نَصِيبُهُ فَيَطِيبُ لَهُ؛ إذْ لَا خُبْثَ فِيهِ، هَذَا لَوْ أَسْكَنَ غَيْرَهُ أَمَّا لَوْ سَكَنَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ دِيَانَةً قِيَاسًا، وَلَهُ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا؛ إذْ لَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ حَالَ حُضُورِهِ؛ إذْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. هَذَا أَمْرُ الدُّورِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ حَالَ غَيْبَتِهِ، بِخِلَافِ إسْكَانِ غَيْرِهِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَالَ حَضْرَتِهِ بِلَا إذْنِهِ فَكَذَا حَالَ غَيْبَتِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْقُنْيَةِ: دَارٌ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مَقْسُومَةٍ غَابَ أَحَدُهُمَا وَسِعَ الْحَاضِرُ أَنْ يَسْكُنَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ فَيَسْكُنَ الدَّارَ كُلَّهَا، وَكَذَا خَادِمٌ بَيْنَهُمَا غَابَ أَحَدُهُمَا فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ بِحِصَّتِهِ. وَفِي الدَّابَّةِ لَا يَرْكَبُهَا الْحَاضِرُ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الرُّكُوبِ لَا السُّكْنَى وَالِاسْتِخْدَامِ فَيَتَضَرَّرُ الْغَائِبُ بِرُكُوبِهَا لَا بِهِمَا. قَالَ فِي النَّوَازِلِ عَنْ مُحَمَّدٍ: لِلْحَاضِرِ أَنْ يَسْكُنَ كُلَّ الدَّارِ لَوْ خَافَ خَرَابَهَا لَوْ لَمْ يَسْكُنْهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِلْحَاضِرِ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ، وَفِي الدَّارِ أَنْ يَسْكُنَهَا. قَالَ فِي التَّجْرِيدِ: إنَّ لَهُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَصْلُ: أَنَّ الدَّارَ الْمُشْتَرَكَةَ فِي حَقِّ السُّكْنَى وَتَوَابِعِهِ جَعْلُ الْمِلْكِ لِكُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ يُمْنَعُ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ دُخُولِهِ وَقُعُودِهِ وَوَضْعِ أَمْتِعَتِهِ فَيَتَعَطَّلُ عَلَيْهِمَا مَنَافِعُ مِلْكِهِمَا وَهُوَ لَمْ يَجُزْ فَصَارَ الْحَاضِرُ سَاكِنًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ.

فصل في الأشجار المتدلية الأغصان إلى ملك الغير

فَرْعٌ) : قَالَ فِي النَّوَازِلِ: اتَّخَذَ دَارِهِ حَظِيرَةَ غَنَمٍ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَيَتَأَذَّى جِيرَانُهُ بَيْنَ السِّرْقِينِ وَلَا يَأْمَنُونَ عَلَى الرُّعَاةِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ مَنْعُهُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِي دَارِهِ تَنُّورًا لِلْخُبْزِ الدَّائِمِ أَوْ رَحًى لِلطَّحْنِ أَوْ مِدَقَّةً لِلْقَصَّارَيْنِ يُمْنَعُ عَنْهُ لِتَضَرُّرِ جِيرَانِهِ ضَرَرًا فَاحِشًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ اتَّخَذَ دَارِهِ حَمَّامًا وَيَتَأَذَّى الْجِيرَانُ مِنْ دُخَانِهَا فَلَهُمْ مَنْعُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ دُخَانُ الْحَمَّامِ مِثْلَ دُخَانِ الْجِيرَانِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: إذَا اسْتَفْتَى عَنْ بِنَاءِ تَنُّورٍ فِي مِلْكِهِ لِلْخُبْزِ فِي وَسَطِ الْبَزَّازِينَ تَارَةً كَانَ يُفْتِي بِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَتَارَةً يُفْتِي بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي النَّوَازِلِ: أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ رَحًا حَوَّاسًا فِي بَيْتِهِ وَيَضُرُّ ذَلِكَ بِجَارِهِ ضَرَرًا بَيِّنًا بِأَنْ عَلِمَ أَنَّ دَوَرَانَ الرَّحَى أَوْ رِيحَهُ يُوهِنُ بِنَاءَ جَارِهِ يُمْنَعُ عَنْهُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَلَوْ أَضَرَّ بِغَيْرِهِ، لَكِنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ فِي مَحِلٍّ يَضُرُّ بِغَيْرِهِ ضَرَرًا بَيِّنًا. وَقِيلَ بِالْمَنْعِ، وَبِهِ أَخَذَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. (فَرْعٌ) : دَارَانِ مُتَلَاقِيَتَانِ جَعَلَ رَبُّ إحْدَاهُمَا فِي دَارِهِ إصْطَبْلًا وَكَانَ فِي الْقَدِيمِ مَسْكَنًا، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِرَبِّ الْأُخْرَى قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: لَوْ كَانَ وُجُوهُ الدَّوَابِّ إلَى الْجَارِ لَا يُمْنَعُ، وَلَوْ كَانَتْ حَوَافِرُهَا إلَيْهِ يُمْنَعُ، ثُمَّ لَوْ خَرَّبَتْ الدَّوَابُّ فِي الْإِصْطَبْلِ جِدَارَ الْجَارِ بِحَوَافِرِهَا قِيلَ: لَا يَضْمَنُ رَبُّ الدَّارِ؛ إذْ لَمْ يُبَاشِرْ؛ إذْ لَا يَنْتَقِلُ فِعْلُ الدَّوَابِّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جُبَارٌ، فَلَوْ ضَمِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِإِدْخَالِ الدَّوَابِّ فِي الْإِصْطَبْلِ مِنْ حَيْثُ التَّسَبُّبُ إلَى التَّخْرِيبِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ إذَا أَدْخَلَهَا فِي مِلْكِهِ، فَالتَّسَبُّبُ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عِنْدَ التَّعَدِّي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ الْأَغْصَانِ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ] (فَصْلٌ) : قَالَ فِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ: بَاعَ ضَيْعَةً وَلِلْبَائِعِ أَشْجَارٌ فِي ضَيْعَةٍ أُخْرَى بِجَنْبِ هَذِهِ الضَّيْعَةِ أَغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَةٌ فِي الْمَبِيعَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِتَفْرِيغِ الْمَبِيعَةِ مِنْ الْأَغْصَانِ الْمُتَدَلِّيَةِ فِيهَا، وَكَذَا لَوْ وَرِثَهَا، وَفِي جَانِبِهَا ضَيْعَةٌ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَمُوَرِّثٍ، وَلَهُ تَفْرِيغُ ضَيْعَتِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَغْصَانِ، فَكَذَا وَارِثُهُ. (فَرْعٌ) : قَالَ فِي التَّجْرِيدِ: وَقَعَتْ شَجَرَةٌ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الْمُتَقَاسِمَيْنِ أَغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَةٌ إلَى نَصِيبِ الْآخَرِ يُجْبَرُ صَاحِبُهَا عَلَى قَطْعِ الْأَغْصَانِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَعَنْهُ يُتْرَكُ كَذَلِكَ. وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ: خَرَجَ شُعَبُ نَخْلَتِهِ إلَى جَارِهِ فَلِلْجَارِ قَطْعُهَا لِتَفْرِيغِ هَوَائِهِ. قَالُوا: هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ، فَلَوْ أَمْكَنَ تَفْرِيغُهُ بِشَدِّ الشُّعَبِ عَلَى النَّخْلَةِ أَوْ تَفْرِيغُهُ بِشَدِّ بَعْضِهَا فَلَهُ: أَنْ يَأْخُذَ رَبَّ النَّخْلَةِ بِالشَّدِّ لَا بِالْقَطْعِ فِيمَا أَمْكَنَ التَّفْرِيغُ بِشَدِّهِ. وَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ تَفْرِيغُهُ إلَّا بِقَطْعِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَأْذِنَ رَبَّهَا فَيَقْطَعَ بِنَفْسِهِ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ بِهِ، وَلَوْ أَبَى يُرْفَعُ إلَى الْقَاضِي فَيُجْبِرُهُ عَلَى الْقَطْعِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ الْجَارُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ قَطَعَهَا بِنَفْسِهِ ابْتِدَاءً، فَلَوْ قَطَعَ مِنْ مَحِلٍّ لَيْسَ الْقَطْعُ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ أَسْفَلَ أَنْفَعَ فِي حَقِّ الْمَالِكِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ أَنْفَعَ مِنْهُ ضَمِنَ جُمْلَةً. [الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ] اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِبِنَائِهِمَا أَوْ بِنَاءِ أَحَدِهِمَا، أَوْ لَا يَتَّصِلَ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ بَيْنَ دَارَيْهِمَا، وَالِاتِّصَالُ نَوْعَانِ: اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ، وَاتِّصَالُ مُجَاوَرَةٍ وَمُلَازَقَةٍ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ لِأَحَدِهِمَا

جُذُوعٌ وَلِلْآخِرِ هَرَاوَى، أَوْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، أَوْ لَهُمَا عَلَيْهِ هَرَاوَى أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَقَطْ، أَوْ لَا يَكُونُ لَهُمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَلَوْ لَمْ يَتَّصِلْ بِبِنَائِهِمَا وَلَا لَهُمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ جِذْعٍ وَغَيْرِهِ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا، كَذَا فِي الْأَصْلِ: إذَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَى وَلَا يُنَازِعُهُمَا أَحَدٌ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُقْضَى بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ لَوْ عُرِفَ كَوْنُهُ فِي يَدَيْهِمَا يُقْضَى بَيْنَهُمَا قَضَاءَ تَرْكٍ، وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ بِيَدِهِمَا وَقَدْ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَفِي يَدِهِ يُجْعَلُ فِي يَدَيْهِمَا؛ إذْ لَا مُنَازِعَ لَهُمَا لَا أَنَّهُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا، هَذَا كَدَارٍ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَفِي يَدِهِ يُتْرَكُ فِي يَدَيْهِمَا لَوْ عُرِفَ كَوْنُهُ بِيَدِهِمَا، وَإِلَّا يُجْعَلُ فِي يَدِهِمَا لَا أَنَّهُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا، كَذَا هُنَا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا هَرَاوَى عَلَيْهِ أَوْ بَوَارِي، وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ يُقْضَى بَيْنَهُمَا؛ إذْ بِوَضْعِ الْهَرَاوَى لَا يَثْبُتُ عَلَى الْحَائِطِ يَدُ اسْتِعْمَالٍ؛؛ إذْ الْحَائِطُ إنَّمَا يُبْنَى لِلتَّسْقِيفِ، وَذَلِكَ بِوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ لَا بِوَضْعِ الْهَرَاوَى وَالْبَوَارِي؛ إذْ التَّسْقِيفُ عَلَيْهِمَا بِلَا جُذُوعٍ لَا يُمْكِنُ، وَهُمَا يُوضَعَانِ لِلِاسْتِظْلَالِ وَالْحَائِطُ لَا تُبْنَى لِلِاسْتِظْلَالِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ ثَوْبٌ مَبْسُوطٌ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ وَهُنَاكَ يُقْضَى بَيْنَهُمَا بِهِ؛ إذْ رَبُّ الثَّوْبِ غَيْرُ مُسْتَعْمِلٍ لِلْحَائِطِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي مَرَّ، كَذَا هُنَا، وَإِنْ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ يُقْضَى بِهِ لِرَبِّ الْجُذُوعِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلُهُ، وَلِلْآخَرِ مُجَرَّدُ يَدٍ بِلَا اسْتِعْمَالٍ، وَالْيَدُ الْمُسْتَعْمَلَةُ أَوْلَى، كَدَابَّةٍ تَنَازَعَ فِيهَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا رَاكِبٌ وَالْآخَرُ آخِذٌ بِلِجَامِهَا فَرَاكِبُهَا أَوْلَى، وَكَثَوْبٍ تَنَازَعَا فِيهِ أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِطَرَفِهِ فَلَابِسُهُ أَوْلَى لِمَا مَرَّ، وَكَذَا هُنَا، وَجُعِلَ الِاسْتِعْمَالُ مُرَجَّحًا إذَا اسْتَوَيَا يَدًا. وَكَذَا لَوْ كَانَ لِلْآخَرِ هَرَاوَى لِمَا مَرَّ أَنَّ وَضْعَ الْهَرَاوَى لَيْسَ بِاسْتِعْمَالٍ لِلْحَائِطِ فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، وَإِنْ لِأَحَدِهِمَا جِذْعٌ وَاحِدٌ وَلِلْآخَرِ هَرَاوَى أَوْ لَا شَيْءَ لَهُ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَقَدْ قِيلَ: لَا يُقْضَى بِهِ لَهُ؛ إذْ الْحَائِطُ لَا يُبْنَى لَوْ وُضِعَ جِذْعُ وَاحِدٌ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لِرَبِّ الْجِذْعِ؛ إذْ لَهُ مَعَ الْيَدِ نَوْعُ اسْتِعْمَالٍ؛ إذْ وَضْعُهُ اسْتِعْمَالٌ حَتَّى قُضِيَ لِرَبِّ الْجُذُوعِ فَيَكُونُ وَضْعُ وَاحِدِهَا اسْتِعْمَالًا لِلْحَائِطِ بِقَدْرِهِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ ذَلِكَ، وَقَدْ بُنِيَ الْحَائِطُ لِوَضْعِ جِذْعٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَ الْبَيْتُ صَغِيرًا، هَذَا لَوْ لَمْ يَتَّصِلْ الْحَائِطُ بِبِنَائِهِمَا فَأَمَّا الْمُتَّصِلُ بِبِنَائِهِمَا اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ أَوْ مُلَازَقَةٍ فَيُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ إذَا اسْتَوَيَا، وَلَوْ كَانَ اتِّصَالُ أَحَدِهِمَا تَرْبِيعًا وَالْآخَرِ مُلَازَقَةً فَالتَّرْبِيعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ؛ إذْ تَفْسِيرُ اتِّصَالِ التَّرْبِيعِ إذَا كَانَ الْجِدَارُ مِنْ مَدَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَنْ تَكُونَ أَنْصَافُ لَبِنِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازِعِ فِيهِ دَاخِلَةً فِي أَنْصَافِ لَبِنِ حَائِطِهِ دَاخِلَةً فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَإِنْ مِنْ خَشَبٍ فَالتَّرْكِيبُ تُرَكَّبُ سَاجَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْأُخْرَى، أَمَّا لَوْ ثَقَبَ وَأَدْخَلَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ تَرْبِيعًا، وَإِذَا كَانَ تَفْسِيرُهُ هَذَا كَانَ لِذِي التَّرْبِيعِ مَعَ الِاتِّصَالِ نَوْعُ اسْتِعْمَالٍ وَلِلْآخَرِ مُجَرَّدُ اتِّصَالٍ فَالِاتِّصَالُ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ أَوْلَى فَصَارَا كَرَاكِبِ الدَّابَّةِ وَالْمُتَعَلِّقِ بِلِجَامِهَا وَلَوْ اتَّصَلَ بِأَحَدِهِمَا مُلَازَقَةً أَوْ تَرْبِيعًا، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ اتِّصَالٌ وَلَا جُذُوعٌ يُقْضَى لِذِي الِاتِّصَالِ فَلَا إشْكَالَ فِي التَّرْبِيعِ، فَكَذَا الْمُلَازَقَةُ إذَا اسْتَوَيَا فِي الِاتِّصَالِ بِالْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ وَلِأَحَدِهِمَا زِيَادَةُ اتِّصَالِ تُغَايِرُ الْأَوَّلَ، وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِالْبِنَاءِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَا لَوْ اتَّصَلَ بِأَحَدِهِمَا وَلِلْآخَرِ هَرَاوَى يُقْضَى لِذِي الِاتِّصَالِ. ، وَإِنْ لِأَحَدِهِمَا تَرْبِيعٌ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٌ، فَلَوْ كَانَ التَّرْبِيعُ فِي طَرَفَيْ الْحَائِطِ فَذُو التَّرْبِيعِ أَوْلَى، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَرُجِّحَ الِاتِّصَالُ عَلَى الْجُذُوعِ، وَإِنْ لِكُلِّ مِنْهُمَا يَدُ اسْتِعْمَالٍ؛ إذْ الِاسْتِعْمَالُ بِالتَّرْبِيعِ، وَهُوَ بِالْبِنَاءِ يَسْبِقُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ بِجُذُوعٍ وَهُوَ وَضَعَهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ جُذُوعَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَرْهَنَ ذُو التَّرْبِيعِ أَنَّ الْحَائِطَ لَهُ يَرْفَعُ جُذُوعَ الْآخَرِ؛ إذْ الْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا تَصْلُحُ لِلدَّفْعِ وَالِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ، وَأَمَّا التَّرْبِيعُ فَهُوَ نَوْعٌ ظَاهِرٌ، وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ بِنَوْعٍ ظَاهِرٍ. وَلَوْ كَانَ التَّرْبِيعُ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ قِيلَ: هُوَ أَوْلَى، وَقِيلَ: الْجُذُوعُ أَوْلَى، وَلَوْ فِي أَعْلَى حَائِطٍ تَوَزَّعَ فِيهِ عُودٌ مُرَكَّبٌ عَلَى عَمُودٍ هُوَ عَلَى حَائِطِ أَحَدِهِمَا خَاصَّةً وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْلَى مِنْ اتِّصَالِ مُلَازَقَةٍ؛ إذْ رَبُّ الْجُذُوعِ

فصل في وضع الخشب على الحائط المشترك

مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ وَلِلْآخَرِ مُجَرَّدُ اتِّصَالٍ وَإِنْ لِأَحَدِهِمَا عَشْرُ خَشَبَاتٍ عَلَيْهِ وَلِلْآخِرِ عَلَيْهِ ثَلَاثٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ إذَا اسْتَوَيَا فِي اسْتِعْمَالِ مَا بُنِيَ الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِلتَّسْقِيفِ، وَهُوَ كَمَا يَحْصُلُ بِالْعَشَرَةِ يَحْصُلُ بِمَا دُونَهَا إلَى الثَّلَاثِ فَاسْتَوَيَا يَدًا، هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ: لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ؛ إذْ مَا تَحْتَهُ فِي يَدِهِ وَصَاحِبُهُ خَارِجٌ فِيهِ، وَصَدَقَ ذُو الْيَدِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ رَجَعَ وَقَالَ: الْحَائِطُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْعَشَرَةِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَإِنْ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبَةٌ وَاحِدَةٌ وَلِلْآخَرِ ثَلَاثٌ أَوْ أَكْثَرُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا قِيَاسًا لَا اسْتِحْسَانًا، ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا قِيلَ: هُوَ لِرَبِّ الْعَشَرَةِ وَلَا يُؤْمَرُ الْآخَرُ بِرَفْعِ الْجُذُوعِ وَقِيلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا بِعَدَدِ الْجِذْعِ اعْتِبَارًا لِلِاسْتِعْمَالِ وَالْيَدِ عَلَى الْحَائِطِ فَيَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِهَا. وَأَمَّا مَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ فَقِيلَ: هُوَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ، وَإِنْ لِأَحَدِهِمَا خَشَبَتَانِ وَلِلْآخَرِ خَشَبَاتٌ قِيلَ: هُمَا كَثَلَاثٍ؛ إذْ يُمْكِنُ التَّسْقِيفُ بِهِمَا، وَقِيلَ كَوَاحِدَةٍ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ التَّسْقِيفُ إلَّا نَادِرًا. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ فِي الْجَامِعِ: جُذُوعُ أَحَدِهِمَا فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ وَجُذُوعُ الْآخَرِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ جُذُوعُهُ وَمَا بَيْنَ النِّصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا، وَالْجُذُوعُ أَوْلَى مِنْ السُّتْرَةِ فَالْحَائِطُ لِرَبِّ الْجُذُوعِ، وَكَذَا السُّتْرَةُ لَوْ تَنَازَعَا فِيهَا وَلَوْ تَوَافَقَا أَنَّ السُّتْرَةَ لِلْآخَرِ لَا تُرْفَعُ كَمَنْ لَهُ سُفْلٌ وَتَنَازَعَا فِي سَقْفِهِ وَمَا عَلَيْهِ فَالْكُلُّ لِذِي السُّفْلِ، وَلَوْ تَوَافَقَا أَنَّ الْعُلُوَّ لِلْآخَرِ لَا يُرْفَعُ إلَّا إذَا بَرْهَنَ. [فَصْلٌ فِي وَضْعِ الْخَشَبِ عَلَى الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ] (فَصْلٌ) : لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ فَلِلْآخَرِ وَضْعُ مِثْلِهِ إذَا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْحَائِطِ حَيْثُ وُضِعَ الْخَشَبُ عَلَيْهِ إذَا بَنَى لِلتَّسْقِيفِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ خَشَبِ شَرِيكِهِ لِتَضَرُّرِ شَرِيكِهِ بِهَدْمِ بِنَائِهِ، وَإِنَّمَا لَهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِهِ، لَا ضَرَارَةِ غَيْرِهِ. قَالُوا: هَذَا لَوْ احْتَمَلَ الْحَائِطُ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَشَبِ لَوْ وُضِعَ عَلَيْهِ، فَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ يُؤْمَرُ شَرِيكُهُ بِرَفْعِ بَعْضِ الْخَشَبِ حَتَّى يَبْقَى مَا يَحْتَمِلُ الْحَائِطُ مِثْلَهُ؛ إذْ رَبُّ الْخَشَبِ لَوْ وَضَعَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَغَاصِبٌ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَالْآخَرُ مُعِيرٌ لِنَصِيبِهِ مِنْ الْحَائِطِ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَارِيَّةَ، وَبِهِ أَفْتَى صَاحِبُ شَرْحِ الْحِيَلِ. وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ حُمُولَةُ هَذَا الشَّرِيكِ مُحْدَثَةً فَلِلْآخَرِ وَضْعُ حُمُولَتِهِ. وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْقَدِيمِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: لَوْ كَانَ جُذُوعُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَزِيدَ فِي جُذُوعِهِ لَوْ يَحْمِلُهُمْ الْحَائِطُ، وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ قَدِيمٍ وَحَدِيثٍ [فَصْلٌ فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ لَوْ انْهَدَمَ أَوْ خِيفَ عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) : انْهَدَمَ حَائِطٌ بَيْنَهُمَا فَبَنَى أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ عَلَيْهِ حُمُولَةٌ أَوْ لَا، وَالْأَحْكَامُ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا طُلِبَ مِنْ أَحَدِهِمَا قِسْمَةُ عَرْصَةِ الْحَائِطِ وَأَبَى الْآخَرُ. وَثَانِيهَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ ابْتِدَاءً بِلَا طَلَبِ الْقِسْمَةِ وَأَبَى الْآخَرُ. وَثَالِثُهَا لَوْ بَنَاهُ بِلَا إذْنِ شَرِيكِهِ هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ أَمْ لَا؟ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ عَدَمُ الْحُمُولَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ طَلَبُ الْقِسْمَةِ وَأَبَى الْآخَرُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مُطْلَقًا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَكُنْ عَرْصَةُ الْحَائِطِ عَرِيضَةً بِحَيْثُ لَوْ قُسِّمَتْ لَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ فَظَاهِرٌ لِتَعْيِينِهِ فِي طَلَبِ الْقِسْمَةِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ عَرِيضَةً بِحَيْثُ يُصِيبُ مَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ فِيهِ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَسَّمَ يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا وَرُبَّمَا يَخْرُجُ فِي قُرْعَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَلِي دَارَ شَرِيكِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ فَلَا تَقَعُ الْقِسْمَةُ مُفِيدَةً وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِيمَا رَوَى عَنْهُ هِشَامٌ.

الباب الخمسون في القضاء بكلمات الكفر

[الْبَابُ الْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِكَلِمَاتِ الْكُفْرِ] مَسْأَلَةٌ) : الْجَاهِلُ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهَا كُفْرٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ كُفْرًا وَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِيرُ كَافِرًا. (مَسْأَلَةٌ) : إنَّ مَنْ أَتَى بِلَفْظَةِ الْكُفْرِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا كُفْرٌ إلَّا أَنَّهُ أَتَى بِهَا عَنْ اخْتِيَارٍ يُكَفَّرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، أَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلِمَةُ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَا يُكَفَّرُ. (مَسْأَلَةٌ) : إنَّ مَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ لَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَهُوَ كَارِهٌ لِذَلِكَ، فَذَلِكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَوْ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ يُكَفَّرُ فِي الْحَالِ، وَفِي النِّصَابِ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ لَا يَصِيرُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِالْعَزْمِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَسْأَلَةُ الزَّكَاةِ. وَلَوْ نَوَى أَنْ يُصَيِّرَ الْعَبْدَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَتَّجِرْ بِهِ، وَلَوْ نَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْخِدْمَةِ يَصِيرُ لِلْخِدْمَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ فِي نُسْخَةِ الْإِمَامِ الْخَيْرَوَانِيِّ. وَتَقْرِيرُ هَذَا مَعَ التَّقْرِيبِ أَنَّ الْكُفْرَ تَرْكُ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ، أَمَّا الْإِسْلَامُ فَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ. (فَرْعٌ) : إنَّ مَنْ ضَحِكَ عَمَّنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ يُكَفَّرُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الضَّحِكُ ضَرُورِيًّا مُضْحِكًا، وَالْكَلَامُ فِي الضَّحِكِ مَعَ الرِّضَا بِالْكُفْرِ. (مَسْأَلَةٌ) : رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِنَا: لَا يُخْرِجُ الرَّجُلَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، ثُمَّ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ رِدَّةٌ يُحْكَمُ بِهَا، وَمَا شَكَّ أَنَّهُ رِدَّةٌ لَا يُحْكَمُ بِهَا؛ إذْ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِشَكٍّ مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو، وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ هَذَا أَنْ لَا يُبَادِرَ بِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهُ يَقْضِي بِصِحَّةِ إسْلَامِ أَهْلِ الْكُفْرِ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا وَصَفَ اللَّهَ - تَعَالَى - بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ أَوْ سَخِرَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ أَوْ بِأَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِهِ أَوْ أَنْكَرَ وَعْدَهُ أَوْ وَعِيدَهُ؛ يُكَفَّرُ. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ قَالَ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ نَبِيًّا لَا أُومِنُ بِهِ، أَوْ قَالَ لَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ لَا أُصَلِّي، أَوْ قَالَ لَوْ كَانَتْ الْقِبْلَةُ إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ لَا أُصَلِّي، هَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ. وَلَوْ قَالَ: لَوْ بُعِثَ فُلَانٌ نَبِيًّا لَا نَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ لَا يُكَفَّرُ، وَلَوْ عَنَى بِهِ فِي الْأَوَّلِينَ أَنْ لَا يَذْهَبَ عَلَى مُوجِبِ الْأَوَامِرِ لَا يُكَفَّرُ، وَلَوْ عَنَى أَنْ لَا يَكُونَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا إنْ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِخْفَافَ بِذَلِكَ النَّبِيِّ أَوْ عَدَاوَتَهُ يُكَفَّرُ، وَلَوْ عَابَ نَبِيًّا يُكَفَّرُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْفَتَاوَى رَجُلٌ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - يُكَفَّرُ إنْ قَالَ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي أَخْرُجُ مِنْ الدُّنْيَا مُؤْمِنًا أَوْ لَا لَا يُكَفَّرُ. (فَرْعٌ) : رَجُلٌ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِيِّ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكَفَّرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُكَفَّرُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنْ كَانَ لِضَرُورَةِ الْبَرْدِ أَوْ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ لَا تُعْطِيهِ اللَّبَنَ لَا يُكَفَّرُ، وَإِلَّا يُكَفَّرُ. وَلَوْ شَدَّ الزُّنَّارَ عَلَى وَسَطِهِ وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْرُوشَنِيُّ: إنْ فَعَلَ لِتَخْلِيصِ الْأُسَارَى لَا يُكَفَّرُ، وَلَوْ دَخَلَ لِلتِّجَارَةِ يُكَفَّرُ. امْرَأَةٌ شَدَّتْ عَلَى وَسَطِهَا حَبْلًا، وَقَالَتْ: هَذَا زُنَّارٌ تُكَفَّرُ. وَلَوْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ شِبْهَ قَلَنْسُوَةِ الْمَجُوسِ مَعَ الْعِمَامَةِ، الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ. وَلُبْسُ السَّوَادِ والسراغج وَتَعْلِيقُ الْعَائِرَةِ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ.

الباب الحادي والخمسون في القضاء بما يظهر من قرائن الأحوال

فَرْعٌ) : وَفِي النِّصَابِ: وَمَنْ أَبْغَضَ عَالِمًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ خِيفَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي نُسْخَةِ الْخَيْرَوَانِيِّ: رَجُلٌ يَجْلِسُ عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ وَيَسْأَلُونَ مِنْهُ مَسَائِلَ بِطَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ بِالْوَسَائِدِ، وَهُمْ يَضْحَكُونَ يُكَفَّرُونَ جَمِيعًا، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَجْلِسْ عَلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ. الْكُلُّ مِنْ الْخُلَاصَةِ [الْبَابُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ] وَالْأَمَارَاتِ وَحُكْمِ الْفِرَاسَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا قَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْحُكْمِ بِهَا، وَقَدْ جَاءَ الْعَمَلُ بِهَا فِي مَسَائِلَ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الطَّوَائِفُ الْأَرْبَعُ مِنْ الْفُقَهَاءِ. الْأُولَى: أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ وَطْءِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ إذَا أُهْدِيَتْ إلَيْهِ لَيْلَةَ الزِّفَافِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مِنْ الرِّجَالِ أَنَّ هَذِهِ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الَّتِي عَقَدْت عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْطِقْ النِّسَاءَ أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتُهُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ النَّاسَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا لَمْ يَزَالُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى قَوْلِ الصِّبْيَانِ وَالْإِمَاءِ الْمُرْسَلِ مَعَهُمْ بِالْهَدَايَا وَأَنَّهَا مُرْسَلَةٌ إلَيْهِمْ فَيَقْبَلُونَ أَقْوَالَهُمْ وَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْمُرْسَلُ مِنْهُ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ إذْنَ الصِّبْيَانِ فِي الدُّخُولِ إلَى الْمَنْزِلِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ الضَّيْفَ يَشْرَبُ مِنْ كُوزِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَيَتَّكِئُ عَلَى وِسَادَتِهِ وَيَقْضِي حَاجَتَهُ فِي مِرْحَاضِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَلَا يُعَدُّ فِي ذَلِكَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. الْخَامِسَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْإِنْسَانِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ مِمَّا لَا يَتَّبِعُهُ الْإِنْسَانُ كَالْفَلْسِ وَالتَّمْرَةِ وَالْعَصَا التَّافِهَةِ الثَّمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. السَّادِسَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَبْقَى فِي الْحَوَائِطِ وَالْأَقْرِحَةِ مِنْ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ بَعْدَ انْتِقَالِ أَهْلِهِ عَنْهُ وَتَخْلِيَتِهِ وَتَسَيُّبِهِ. السَّابِعَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْحَبِّ عِنْدَ الْحَصَادِ مِمَّا لَا يَعْتَنِي صَاحِبُ الزَّرْعِ بِلَقْطِهِ. الثَّامِنَةُ: أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ إذَا قَدَّمَ الطَّعَامَ لِلضَّيْفِ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَفْظًا إذَا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ قَدَّمَهُ لَهُ خَاصَّةً، وَلَيْسَ ثَمَّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ حُضُورُهُ اعْتِبَارًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْقَطْعِ. التَّاسِعَةُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُوِّزَ لِلْمَارِّ بِثَمَرِ الْغَيْرِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ، وَلَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا وَحَمَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْمُحَوَّطِ، وَمَا لَيْسَ لَهُ حَارِسٌ. الْعَاشِرَةُ: جَوَازُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي الْأَقْرِحَةِ وَالْمَزَارِعِ الَّتِي فِيهَا الطُّرُقَاتُ الْعِظَامُ بِحَيْثُ لَا يَنْقَطِعُ مِنْهَا الْمَارَّةُ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ غَصْبًا لَهَا وَلَا تَصَرُّفًا مَمْنُوعًا. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الشُّرْبُ مِنْ الْمَصَاقِعِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّارِبُ إذْنَ أَرْبَابِهَا فِي ذَلِكَ لَفْظًا اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ، لَكِنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يَقْتَضِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ شَاهِدُ حَالٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ حِينَئِذٍ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُمْ فِي الرِّكَازِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ كَكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ سُمِّيَ كَنْزًا وَهُوَ كَاللُّقَطَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَكْلُ الصَّلِيبِ أَوْ الصُّوَرُ أَوْ اسْمُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ فَهُوَ رِكَازٌ، وَنَصُّ كَلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ هُنَا: وَإِنْ وُجِدَ رِكَازٌ: أَيْ كَنْزٌ وَجَبَ الْخُمْسُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ وَقَدْ عُرِفَ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَالْمَنْقُوشِ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّنَمِ فَفِيهِ الْخُمْسُ عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى. فَهَذَا عَمَلٌ بِالْعَلَامَاتِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً جَازَ لَهُ ضَرْبُهَا إذَا قَصَّرَتْ فِي السَّيْرِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ مَالِكَهَا، وَكَذَلِكَ رُكُوبُهَا بِالْمَهَامِيزِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ إذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّارِ لِأَضْيَافِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي

فِي الدُّخُولِ وَالْمَبِيتِ وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ ذَلِكَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ غَسْلِ الْمُسْتَأْجِرِ الثَّوْبَ الْمُسْتَأْجَرَ إذَا اتَّسَخَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ الْمُؤَجِّرَ فِي ذَلِكَ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا وَجَدْنَا هَدْيًا مُشْعَرًا مَنْحُورًا، وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ جَازَ الْأَكْلُ مِنْهُ لِلْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ شَرَى طَعَامًا أَوْ حَبًّا فِي دَارِ رَجُلٍ فَلَهُ أَنْ يُدْخِلَ دَارِهِ - مِنْ الدَّوَابِّ وَالرِّجَالِ - مَنْ يُحَوِّلُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَاعْتِبَارُهُ فِي الْأَحْكَامِ لَيْسَ إلَّا رُجُوعًا إلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ فَقُدِّمَتْ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ: التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَإِنَّ لِلرَّجُلِ مَا يُعْرَفُ لِلرِّجَالِ وَلِلْمَرْأَةِ مَا يُعْرَفُ لِلنِّسَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِهِ. الْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ رِضَا الْبِكْرِ بِصُمَاتِهَا اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الشَّاهِدَةِ بِذَلِكَ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ وَأَرْخَى السِّتْرَ عَلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَ، وَقَالَ: لَمْ أَمَسَّهَا، وَقَالَتْ: قَدْ وَطِئَنِي صُدِّقَتْ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ كَامِلًا. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا وَجَدَ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ بِخَطِّ أَبِيهِ أَنَّ لَهُ عِنْدَ زَيْدٍ كَذَا جَازَ لَهُ الدَّعْوَى بِذَلِكَ اعْتِمَادًا مِنْهُ عَلَى صِحَّةِ مَا يَكْتُبُهُ أَبُوهُ لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ صِدْقِهِ وَتَثَبُّتِهِ فِيمَا يَضَعُ بِهِ خَطُّهُ، وَأَظُنُّ أَنَّهَا تَقَدَّمَتْ فِي الدَّعَاوَى. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا صَادَ بَازِيًا فِي رِجْلَيْهِ سَامَانِ أَوْ ظَبْيًا فِي أُذُنَيْهِ قُرْطَانِ أَوْ فِي عُنُقِهِ سِلْكُ جَوْهَرٍ فَلَيْسَ لِوَاجِدِهِ فِيهِ شَيْءٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهُ كَاللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَوْ اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا جَوْهَرَةً مَثْقُوبَةً فَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُلَّاكَ لَمْ تَتَدَاوَلْهَا فَقَالَ فِي الْمُحِيطِ عَنْ النَّوَادِرِ: لَوْ اشْتَرَى صَدَفَةً أَوْ سَمَكَةً فَوَجَدَ فِيهَا لُؤْلُؤَةً فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الصَّدَفِ فَصَارَتْ كَالْبَيْضَةِ فِي بَطْنِ الدَّجَاجَةِ، وَالسَّمَكُ يَأْكُلُ مَا فِي الْبَحْرِ فَصَارَ تَبَعًا لَهُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ سَمَكَةً فِي بَطْنِ سَمَكَةٍ. وَلَوْ اشْتَرَى دَجَاجَةً فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا اللُّؤْلُؤَةَ فَهِيَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الدَّجَاجَةِ بَلْ ابْتَلَعَتْهَا مِلْكَ الْغَيْرِ. اُنْظُرْ تَمَامَ ذَلِكَ فِي الْمُحِيطِ فِي بَابِ بَيْعِ مَا هُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ. (مَسْأَلَةٌ) : ذَكَرَهَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ مَا تَقُولُونَ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ يُوجَدُ عَلَى ظُهُورِهَا وَهَوَامِشِهَا كِتَابَةُ الْوَقْفِ هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِكَوْنِهَا وَقْفًا بِذَلِكَ؟ قِيلَ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا رَأَيْنَا كُتُبًا مُودَعَةً فِي خِزَانَةِ مَدْرَسَةٍ، وَعَلَيْهَا كِتَابَةُ الْوَقْفِ، وَقَدْ مَضَى عَلَيْهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ كَذَلِكَ، وَقَدْ اُشْتُهِرَتْ بِذَلِكَ لَمْ نَشُكَّ فِي كَوْنِهَا وَقْفًا، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَدْرَسَةِ فِي الْوَقْفِيَّةِ، فَإِنْ انْقَطَعَتْ كُتُبُهَا أَوْ فُقِدَتْ ثُمَّ وُجِدَتْ وَعَلَيْهَا تِلْكَ الْوَقْفِيَّةُ، وَشُهْرَةُ كُتُبِ الْمَدْرَسَةِ فِي الْوَقْفِيَّةِ مَعْلُومَةٌ، فَيَكْفِي فِي ذَلِكَ الِاسْتِفَاضَةُ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالسَّمَاعِ. وَأَمَّا إذَا رَأَيْنَا كِتَابًا لَا نَعْلَمُ مَقَرَّهُ وَلَا نَعْرِفُ مَنْ كَتَبَ عَلَيْهِ الْوَقْفِيَّةَ، فَهَذَا يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ، وَهُوَ عَيْبٌ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي بِهِ الرَّدُّ انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ كَانَ لَوْحٌ مَضْرُوبٌ عَلَى بَابِ دَارٍ يَنْطِقُ بِالْوَقْفِ لَا يُقْضَى بِهِ مَا لَمْ تَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَى الْوَقْفِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَكَى بَعْضُهُمْ فِي الْقِبْلَةِ. قَالَ: إذَا دَخَلَ رَجُلٌ بَلَدًا خَرَابًا لَا أَحَدَ فِيهَا، وَقَدْ حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ رَجَعَ إلَى اجْتِهَادِهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى تِلْكَ الْمَحَارِيبِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَكَانَتْ الْقَرْيَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَلَّى إلَى تِلْكَ الْمَحَارِيبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَسَاجِدَهُمْ وَآثَارَهُمْ لَا تَخْفَى، وَأَنَّ قِبْلَتَهُمْ وَمَحَارِيبَهُمْ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ مَحَارِيبُ مَنْصُوبَةً فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامِرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ وَتَتَكَرَّرُ، وَيُعْلَمُ أَنَّ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ بَنَاهَا فَإِنَّ الْعَالِمَ وَالْعَامِّيَّ يُصَلُّونَ إلَى تِلْكَ الْقِبْلَةِ وَلَا يَحْتَاجُونَ فِي ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا لَمْ تُبْنَ إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الَّتِي لَا تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى فَإِنَّ الْعَالِمَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ

فصل في ذكر الفراسة والمنع من الحكم بها

الِاجْتِهَادِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى الْجِهَةِ، فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ صَلَّى إلَى تِلْكَ الْمَحَارِيبِ إذَا كَانَ بَلَدًا لِلْمُسْلِمِينَ عَامِرًا؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْوَى مِنْ اجْتِهَادِهِ مَعَ خَفَاءِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَيُصَلِّي فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. (تَنْبِيهٌ) : وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَشْتَهِرَ الطَّعْنُ فِيهَا كَمَحَارِيبِ الْقُرَى وَغَيْرِهَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مَا زَالَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يُنَبِّهُونَ عَلَى فَسَادِهَا. قَالَهُ الْقَرَافِيُّ. وَلِلزَّيْنِ الدِّمْيَاطِيِّ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ، وَلِغَيْرِهِ: وَقَدْ قَصَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيُّ تَغْيِيرَ مِحْرَابِ قُبَّةِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَدْرَسَةِ وَمُصَلَّى خَوْلَانَ فَعَاجَلَهُ مَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مِحْرَابُ الْمَحَلَّةِ مَدِينَةِ الْغَرْبِيَّةِ، وَالْفَيُّومِ وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهَا عَالِمٌ وَلَا عَامِّيُّ. وَالْحَاصِلُ أَنْ تَتَبُّعَ الْأَحْكَامِ مِمَّا يَطُولُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ. [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْفِرَاسَةِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِهَا] (فَصْلٌ) : فِي ذِكْرِ الْفِرَاسَةِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِهَا وَالْأَصْلُ فِي الْفِرَاسَةِ قَوْله تَعَالَى -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] فَسَّرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ. ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ» وَذَكَرَهُمَا التِّرْمِذِيُّ. وَالْفِرَاسَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَةِ النَّظَرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ مَذْحِجٍ فِيهِمْ الْأَشْتَرُ، فَصَعَّدَ عُمَرُ فِيهِ النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ وَقَالَ: أَيُّهُمْ هَذَا؟ فَقِيلَ: مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَالَ: مَا لَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ؟ إنِّي لَأَرَى لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ يَوْمًا عَصِيبًا، فَكَانَ مِنْهُ فِي الْفِتْنَةِ مَا كَانَ. وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَفْدٌ مِنْ الْيَمَنِ وَكَانَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَأَشَارُوا إلَى رَجُلٍ مِنْ الْوَفْدِ وَقَالُوا لِعُمَرَ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تَنْشُدُ فِي الطَّوَافِ: وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِعَذْبٍ مُبَرَّدٍ ... نُقَاخٍ فَتِلْكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَرَّتْ وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِأَخْضَرَ آجِنٍ ... أُجَاجٍ وَلَوْلَا خَشْيَةُ اللَّهِ رَنَّتْ فَتَفَرَّسَ عُمَرُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا شَكَتْ، فَبَعَثَ عُمَرُ إلَى زَوْجِهَا فَاسْتَنْكَهَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْخَرُ الْفَمِ، فَأَعْطَاهُ خَمْسَمِائَةٍ وَجَارِيَةً عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَفَعَلَ. وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ كَانَ مَرَّ بِالسُّوقِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ عُثْمَانُ قَالَ لَهُ: يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيْنَا، وَفِي عَيْنَيْهِ أَثَرُ الزِّنَا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ بُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ عَنْ عَلِيٍّ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْفِرَاسَةُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ، وَقَدْ كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّاشِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ أَيَّامَ كَوْنِهِ فِي الشَّامِ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقِ الْقَاضِي إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ إيَاسٌ قَاضِيًا فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَهُ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ بِطَرِيقِ الْفِرَاسَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ صَنَّفَ جُزْءًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ كَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ وَأَعْطَانِيهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ فَإِنَّ مَدَارِكَ الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا مُدْرَكَةٌ قَطْعًا وَلَيْسَتْ الْفِرَاسَةُ مِنْهَا اهـ. فَالْحُكْمُ بِالْفِرَاسَةِ مِثْلُ الْحُكْمِ بِالظَّنِّ وَالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ، وَذَلِكَ فِسْقٌ وَجَوْرٌ مِنْ الْحَاكِمِ، وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ لِلضَّرُورَةِ.

القسم الثالث من الكتاب في القضاء بالسياسة الشرعية

[الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْكِتَابِ فِي الْقَضَاءِ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] فِي الْقَضَاءِ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ السِّيَاسَةَ شَرْعٌ مُغَلَّظٌ. وَالسِّيَاسَةُ نَوْعَانِ: سِيَاسَةٌ ظَالِمَةٌ فَالشَّرْعِيَّةُ تُحَرِّمُهَا. وَسِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنْ الظَّالِمِ وَتَدْفَعُ كَثِيرًا مِنْ الْمَظَالِمِ وَتَرْدَعُ أَهْلَ الْفَسَادِ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْعِبَادِ. فَالشَّرْعِيَّةُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهَا وَالِاعْتِمَادُ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ عَلَيْهَا، وَهِيَ بَابٌ وَاسِعٌ تَضِلُّ فِيهِ الْأَفْهَامُ وَتَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ، وَإِهْمَالُهُ يُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَيُعَطِّلُ الْحُدُودَ وَيُجْزِئُ أَهْلَ الْفَسَادِ وَيُعِينُ أَهْلَ الْعِنَادِ، وَالتَّوَسُّعُ فِيهِ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمَظَالِمِ الشَّنِيعَةِ وَيُوجِبُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَأَخْذَ الْأَمْوَالِ الْغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِهَذَا سَلَكَ فِيهِ طَائِفَةٌ مَسْلَكَ التَّفْرِيطِ الْمَذْمُومِ فَقَطَعُوا النَّظَرَ عَنْ هَذَا الْبَابِ إلَّا فِيمَا قَلَّ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، فَسَدُّوا مِنْ طُرُقِ الْحَقِّ سُبُلًا وَاضِحَةً، وَعَدَلُوا إلَى طَرِيقٍ مِنْ الْعِنَادِ فَاضِحَةٍ؛ لِأَنَّ فِي إنْكَارِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ رَدًّا لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَغْلِيطًا لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَطَائِفَةٌ سَلَكَتْ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْلَكَ الْإِفْرَاطِ فَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ وَخَرَجُوا عَنْ قَانُونِ الشَّرْعِ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ السِّيَاسِيَّةِ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَاصِرَةٌ عَنْ سِيَاسَةِ الْحَقِّ وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ جَهْلٌ وَغَلَطٌ فَاحِشٌ، فَقَدْ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» فَدَخَلَ فِي هَذَا جَمِيعُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّتِي» وَطَائِفَةٌ تَوَسَّطَتْ وَسَلَكَتْ فِيهِ مَسْلَكَ الْحَقِّ وَجَمَعُوا بَيْنَ السِّيَاسَةِ وَالشَّرْعِ فَقَمَعُوا الْبَاطِلَ وَدَحَضُوهُ وَنَصَبُوا الشَّرْعَ وَنَصَرُوهُ، وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى - شَرَعَ الْأَحْكَامَ، فَمِنْهَا مَا أَدْرَكْنَاهُ، وَمِنْهَا مَا خَفِيَ عَلَيْنَا رَعْيًا لِمَصَالِح الْعِبَادِ وَدَرْءًا لِمَفَاسِدِهِمْ تَفَضُّلًا لَا وُجُوبًا. وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ. [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ] : شَرْعٌ لِكَسْرِ النَّفْسِ بِالْعِبَادَاتِ. [الْقِسْمُ الثَّانِي] : شَرْعٌ لِبَقَاءِ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ كَالْإِذْنِ فِي الْمُبَاحَاتِ الْمُحَصَّلَةِ لِلرَّاحَةِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْوَطْءِ وَشِبْهِ ذَلِكَ. [الْقِسْمُ الثَّالِثُ] : شَرْعٌ لِدَفْعِ الضَّرُورَاتِ كَالْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَلِافْتِقَارِ الْإِنْسَانِ إلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى اسْتِخْدَامِ غَيْرِهِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: شُرِعَ تَنْبِيهًا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَالْحَضِّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَعِتْقِ الرِّقَابِ وَالْهِبَاتِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الْمَقْصُودُ شَرْعٌ لِلسِّيَاسَةِ وَالزَّجْرِ، وَهُوَ سِتَّةٌ أَصْنَافٍ. الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: شَرْعٌ لِصِيَانَةِ الْوُجُودِ كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى -: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] مَعْنَاهُ: أَنَّ الْقِصَاصَ الَّذِي كَتَبْتُهُ عَلَيْكُمْ إذَا أُقِيمَ ازْدَجَرَ النَّاسُ عَنْ الْقَتْلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ، وَبِأَنَّهُ

الْغَرَضُ مِنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - هَذَا الْقِصَاصَ حَيَاةً وَنَكَالًا وَعِظَةً لِأَهْلِ الْجَهْلِ، فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ هَمَّ بِدَاهِيَةٍ لَوْلَا مَخَافَةُ الْقِصَاصِ لَوَقَعَ بِهَا وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ حَجَزَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَخَصَّ أُولِي الْأَلْبَابِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ عَامًّا؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ. ثُمَّ قَالَ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يَعْنِي الدِّمَاءَ. وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى -: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الْآيَةَ لِيَزْدَجِرَ النَّاسُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ قِتَالُ الْخَوَارِجِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْكُفَّارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] الْآيَةَ. وَفِي قِتَالِ الْكُفَّارِ زِيَادَةُ مَعْنًى، وَهِيَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَمَحْوُ الشِّرْكِ. الصِّنْفُ الثَّانِي مِنْ الْأَحْكَامِ: شَرْعٌ لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ كَحَدِّ الزِّنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَانْظُرْ هُنَا كَلَامَ صَاحِبِ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ جَلْدٍ وَرَجْمٍ وَلَا نَفْيٍ وَجَلْدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ سِيَاسَةً. الصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَحْكَامِ: شَرْعٌ لِصِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ؛ لِأَنَّ صِيَانَتَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَغْرَاضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَأَلْحَقَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ التَّعْزِيرَ عَلَى السَّبِّ وَالْأَذَى بِالْقَوْلِ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ مِنْ الْأَحْكَامِ: شَرْعٌ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْجِنَايَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] . الصِّنْفُ الْخَامِسُ مِنْ الْأَحْكَامِ: شَرْعٌ لِحِفْظِ الْعَقْلِ كَحَدِّ الْخَمْرِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى -: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ثُمَّ قَالَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ بِحَدِّ الشَّارِبِ. الصِّنْفُ السَّادِسُ مِنْ الْأَحْكَامِ: شَرْعٌ لِلرَّدْعِ وَالتَّعْزِيرِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إلَى قَوْله تَعَالَى -: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] أَيْ: لِيَذُوقَ جَزَاءَ فِعْلِهِ، وقَوْله تَعَالَى -: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] إلَى قَوْلِهِ {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] ثُمَّ شُرِعَ كَفَّارَةُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} [المجادلة: 3] إلَى قَوْلِهِ {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة: 4] وَقَوْلُهُ تَعَالَى -: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] الْآيَةَ، وَقِصَّةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ مَا وَقَعَ فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ غِفَارٍ أَقْبَلَا يُرِيدَانِ الْإِسْلَامَ، حَتَّى إذَا كَانَا قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ أَمْسَيَا فَبَاتَا، وَأَتَى أُنَاسٌ بِظَهْرٍ لَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَاتُوا قَرِيبًا مِنْهُمَا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ السَّحَرِ قَامُوا لِيَذْهَبُوا فَفَقَدُوا قَرْنَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ فَاتَّهَمُوا الْغِفَارِيِّينَ، فَأَخَذُوهُمَا فَأَتَوْا بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَحَبَسَ الْوَاحِدَ وَأَرْسَلَ الْآخَرَ يَطْلُبُ فَوَجَدُوهُمَا قَرِيبًا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي بَاتُوا فِيهِ فَأَتَوْا بِهِمَا، فَقَالَ الْغِفَارِيَّانِ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كُنَّا لَبُرَآءَ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْتَغْفِرَا لِي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَكَ يَغْفِرُ اللَّهُ وَقَبِلَكَ فِي سَبِيلِهِ، وَقَالَ لِلْآخَرِ اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنْ كُنَّا لَبُرَآءَ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: اسْتَغْفِرْ لِرَسُولِ اللَّهِ وَيْحَكَ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَخْذِ الرَّجُلِ

بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ ثَقِيفًا كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي غِفَارٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحُجَّاجِ، فَقَالَ: أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفٍ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُرُّ بِهِ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إنِّي مُسْلِمٌ، قَالَ: لَوْ كُنْتَ قُلْتَ ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْتَ، فَفَدَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ لِنَفْسِهِ» . ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْله تَعَالَى -: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 192] وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَجْلَى يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ غَيْرَ الْحَلَقَةِ وَالسِّلَاحِ كَانَ لِأَبِي الْحَقِيقِ مَالٌ عَظِيمٌ بَلَغَ مَسْكَ ثَوْرٍ: أَيْ مِلْءَ جِلْدِ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَحُلِيٍّ وَآنِيَةٍ مَصُوغَةٍ، فَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ حَاصَرَ الْحِصْنَ الَّذِي فِيهِ ابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، فَنَزَلَ فَصَالَحَ عَلَى حَقْنِ دِمَاءِ مَنْ فِي الْحِصْنِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا بِذَرَارِيِّهِمْ وَيُخَلُّوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَأَرْضٍ، وَعَلَى تَرْكِ الْبَيْضَاءِ وَالصَّفْرَاءِ وَالْكُرَاعِ إلَّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ مِنْكُمْ إنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا، فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ عَمِّ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيٍّ الَّذِي فَعَلَ بِهِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ؟ فَقَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ، أَرَأَيْتَ إنْ وَجَدْنَاهُ عِنْدَكَ أَقْتُلُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: إنِّي رَأَيْتُ كِنَانَةَ يَطُوفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ كُلَّ غَدَاةٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخَرِبَةِ فَحُفِرَتْ فَأَخْرَجَ مِنْهَا بَعْضَ كَنْزِهِمْ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَمَّا بَقِيَ فَأَبَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ، فَأَمَرَ بِهِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَقَالَ: عَذِّبْهُ حَتَّى تَسْتَأْصِلَ مَا عِنْدَهُ، فَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقْدَحُ بِزَنْدٍ فِي صَدْرِهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ بِأَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ» . وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِكِنَانَةَ؛ لِأَنَّ الْكَنْزَ كَانَ عِنْدَهُ وَصَاحِبُ الْكَنْزِ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقُتِلَ مَعَهُمْ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ السِّيَرِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ «لَمَّا وَقَعَتْ قِصَّةُ الْإِفْكِ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ بِهَا اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَقَالَ زَيْدٌ. أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، أَوْ لَا نَعْلَمُ مِنْهُمْ إلَّا خَيْرًا، وَهَذَا لَكَذِبٌ وَبَاطِلٌ. وَأَمَّا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ النِّسَاءَ لَكَثِيرٌ وَإِنَّكَ لَتَقْدِرُ أَنْ تَسْتَخْلِفَ، وَاسْأَلْ الْجَارِيَةَ فَإِنَّهَا تُصَدِّقُكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِيرَةَ لِيَسْأَلَهَا، فَقَامَ إلَيْهَا عَلِيٌّ فَضَرَبَهَا شَدِيدًا، وَجَعَلَ يَقُولُ: اُصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، وَمَا كُنْتُ أَعِيبُ عَلَى عَائِشَةَ شَيْئًا إلَّا أَنِّي كُنْتُ أَعْجِنُ الْعَجِينَ فَآمُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ فَتَنَامَ عَنْهُ فَتَأْتِيَ الشَّاةُ فَتَأْكُلَهُ» . فَهَذَا مِنْ السِّيَاسَةِ؛ لِأَنَّهُ ضَرَبَهَا لِتُقِرَّ بِمَا عِنْدَهَا. وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ رَجُلًا فَاتَّهَمَهُ بِأَنَّهُ جَاسُوسٌ لِلْعَدُوِّ، فَعَاقَبُوهُ حَتَّى أَقَرَّ» . وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُحَرِّقُوا عَلَيْهِمْ الْبَيْتَ، فَفَعَلَ طَلْحَةُ ذَلِكَ وَاقْتَحَمَ الضَّحَّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، وَاقْتَحَمَ أَصْحَابُهُ فَأَفْلَتُوا» . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي جَامِعِ الْخَلَّالِ أَنَّهُ حَبَسَ فِي تُهْمَةِ دَمٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا اتَّهَمَهُ الْمَسْرُوقُ

مِنْهُ بِسَرِقَةٍ وَكَانَ صَاحِبُهُ فِي السَّفَرِ. رَوَاهُ بَعْضُهُمْ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَانًا فَيَجْمَعُونَ حُزَمًا مِنْ حَطَبٍ ثُمَّ آتِيَ قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فَأُحَرِّقَهُمْ عَلَيْهِمْ» وَاخْتُلِفَ هَلْ هَذَا فِي الْمُؤْمِنِينَ أَوْ الْمُنَافِقِينَ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " فِي بُيُوتِهِمْ " وَالْمُنَافِقُونَ لَا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى -: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ " لَقَدْ هَمَمْتُ " تَقْدِيمُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَى الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْفَسَدَةَ إذَا ارْتَفَعَتْ وَانْدَفَعَتْ بِالْأَخَفِّ مِنْ الزَّوَاجِرِ لَمْ يَعْدِلْ إلَى الْأَعْلَى. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي جَارًا يُؤْذِينِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إلَى الطَّرِيقِ، فَانْطَلَقَ فَأَخْرَجَ مَتَاعَهُ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إلَيْهِ فَقَالُوا: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: لِي جَارٌ يُؤْذِينِي، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ اللَّهُمَّ أَخْرِجْهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَتَاهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى مَنْزِلَكَ فَوَاَللَّهِ لَا أُوذِيكَ» وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قِتَالُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَاجْتِهَادُهُ فِي الْحُكْمِ بِقِتَالِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَرَ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ احْتَجَبَ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَصَارَ يَحْكُمُ فِي دَارِهِ، وَأَمَرَ أَيْضًا بِتَحْرِيقِ حَانُوتِ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ الَّذِي كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ فِيهِ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فُوَيْسِقٌ وَلَسْتَ بِرُوَيْشِدٍ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا خَافَ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْقُرْآنِ وَيَفْتَرِقَ النَّاسُ فِيهِ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ الْمَصَاحِفِ وَجَمَعَ الْأُمَّةَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ لِمَا رَأَى لَهُمْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَرَأَوْا ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْأُمَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا وَجَعَلَ لَهَا عَلَيْهِ جَعْلًا عَلَى أَنْ تُوَصِّلَهُ إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ فِي الْكِتَابِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَسِيرِ إلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَجَاءَ الْخَبَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ حَتَّى أَدْرَكَاهَا فَاسْتَنْزَلَاهَا وَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا الْكِتَابَ فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا كَذَبْنَا، وَلَتُخْرِجِنَّ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكَ، فَلَمَّا رَأَتْ الْجَدَّ مِنْهُ اسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا وَكَانَتْ قَدْ جَعَلَتْهُ فِي شَعْرِهَا وَفَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتَذَرَ حَاطِبٌ بِإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مُصَانَعَةً لَهُمْ لِمَا لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ وَلَدٍ وَأَهْلٍ وَمَالٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الْآيَةَ، فَالطَّرِيقُ الَّذِي اُسْتُخْرِجَ بِهَا الْكِتَابُ مِنْ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ التَّهْدِيدُ وَالْإِرْعَابُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَعْضِ الْحُكُومَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ دَفَعَا إلَى امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِائَةَ دِينَارٍ وَدِيعَةً وَقَالَا لَهَا: لَا تَدْفَعِيهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ، فَلَبِثَا حَوْلًا وَجَاءَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ: إنَّ صَاحِبِي قَدْ مَاتَ فَادْفَعِي إلَيَّ الدَّنَانِيرَ، فَأَبَتْ وَقَالَتْ: إنَّكُمَا قُلْتُمَا لِي: لَا تَدْفَعِيهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ، فَتَشَفَّعَ إلَيْهَا بِأَهْلِهَا وَجِيرَانِهَا وَتَلَطَّفَ بِهَا حَتَّى دَفَعَتْهَا إلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: ادْفَعِي إلَيَّ الدَّنَانِيرَ فَقَالَتْ: إنَّ صَاحِبَكَ جَاءَ وَادَّعَى أَنَّكَ قَدْ مِتَّ وَدَفَعْتُهَا إلَيْهِ، فَتَرَافَعَا إلَى

الفصل الثاني في أحكام هذا الباب

عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلِمَ أَنَّهُمَا قَدْ مَكَرَا بِهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَيْسَ قَدْ قُلْتُمَا لَهَا: لَا تَدْفَعِي إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ؟ فَقَالَ: بَلَى، قَالَ: فَاذْهَبْ فَجِيءَ بِصَاحِبِكَ حَتَّى تَدْفَعَهَا إلَيْكُمَا، فَذَهَبَ، وَلَمْ يَرْجِعْ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ شَابًّا شَكَا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَفَرًا فَقَالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ خَرَجُوا مَعَ أَبِي فِي سَفَرٍ فَعَادُوا وَلَمْ يَعُدْ أَبِي، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِهِ فَقَالُوا مَا تَرَكَ شَيْئًا وَكَانَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَارْتَفَعَا إلَى شُرَيْحٍ فَاسْتَحْلَفَهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، فَدَعَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالشُّرْطَةِ فَوَكَّلَ بِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لَا يُمَكِّنُوا بَعْضَهُمْ يَدْنُو مِنْ بَعْضٍ، وَلَا يُمَكِّنُوا أَحَدًا يُكَلِّمُهُمْ، وَدَعَا كَاتِبَهُ وَدَعَا أَحَدَهُمْ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَبِ هَذَا الْفَتَى فِي أَيِّ يَوْمٍ خَرَجَ مَعَكُمْ؟ وَفِي أَيِّ مَنْزِلٍ نَزَلَ مَعَكُمْ؟ وَكَيْفَ كَانَ سَيْرُكُمْ وَبِأَيِّ عِلَّةٍ مَاتَ؟ وَكَيْفَ أُصِيبَ بِمَالِهِ، وَسَأَلَهُ عَمَّنْ غَسَّلَهُ وَدَفَنَهُ؟ وَمَنْ تَوَلَّى الصَّلَاةَ عَلَيْهِ؟ وَأَيْنَ دُفِنَ؟ وَالْكَاتِبُ يَكْتُبُ، ثُمَّ كَبَّرَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَبَّرَ الْحَاضِرُونَ مَعَهُ، وَالْمُتَّهَمُونَ لَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ قَدْ أَقَرَّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ دَعَا آخَرَ بَعْدَ أَنْ غَيَّبَ الْأَوَّلَ عَنْ مَجْلِسِهِ فَسَأَلَ كَمَا سَأَلَ صَاحِبَهُ ثُمَّ غَيَّبَهُ، وَطَلَبَ الْآخَرَ وَسَأَلَ حَتَّى عَرَفَ مَا عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَوَجَدَ كُلَّ وَاحِدٍ يُخْبِرُ بِضِدِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَاحِبُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَدِّ الْأَوَّلِ فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتُ غَدْرَكَ وَكَذِبَكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ أَصْحَابِكَ وَمَا يُنْجِيكَ مِنْ الْعُقُوبَةِ إلَّا الصِّدْقُ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ إلَى السِّجْنِ وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ الْحَاضِرُونَ بِتَكْبِيرِهِ، فَلَمَّا أَبْصَرَ الْقَوْمُ الْحَالَ لَمْ يَشُكُّوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ أَقَرَّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ دَعَا آخَرَ مِنْهُمْ فَهَدَّدَهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كُنْتُ كَارِهًا لِمَا صَنَعُوا ثُمَّ دَعَا الْجَمِيعَ فَأَقَرُّوا بِالْقِصَّةِ، وَاسْتَدْعَى الْأَوَّلَ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ أَقَرَّ أَصْحَابُكَ وَلَا يُنْجِيكَ سِوَى الصِّدْقِ، فَأَقَرَّ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَأَغْرَمَهُمْ الْمَالَ، وَقَادَ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ، وَهَذَا مِنْ السِّيَاسَةِ الْحَسَنَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ تَفْرِيقِ الشُّهُودِ إذَا اسْتَرَابَ الْقَاضِي مِنْهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى رَأْسِهِ فَادَّعَى الْمَضْرُوبُ أَنَّهُ أُخْرِسَ وَرُفِعَتْ الْقَضِيَّةُ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يُخْرِجُ لِسَانَهُ وَيُنْخَسُ بِإِبْرَةٍ، فَإِنْ خَرَجَ الدَّمُ أَحْمَرَ فَهُوَ صَحِيحُ اللِّسَانِ، وَإِنْ خَرَجَ أَسْوَدَ فَهُوَ أَخْرَسُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي مَوْلُودٍ وُلِدَ وَلَهُ رَأْسَانِ وَصَدْرَانِ فِي حَقْوٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ لَهُ أَيُوَرَّثُ مِيرَاثَ اثْنَيْنِ أَوْ مِيرَاثَ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: يُتْرَكُ حَتَّى يَنَامَ ثُمَّ يُصَاحَ بِهِ، فَإِنْ انْتَبَهَا جَمِيعًا كَانَ لَهُ مِيرَاثُ وَاحِدٍ، وَإِنْ انْتَبَهَ وَاحِدٌ وَبَقِيَ وَاحِدٌ كَانَ لَهُ مِيرَاثُ اثْنَيْنِ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ سِيَاسَةِ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْقُضَاةِ وَاسْتِخْرَاجِهِمْ الْحُقُوقَ بِالطُّرُقِ السِّيَاسِيَّةِ فَيَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهِ. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ هَذَا الْبَابِ] إذَا ثَبَتَ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ السِّيَاسَةَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَلْ لِلْقُضَاةِ أَنْ يَتَعَاطَوْا الْحُكْمَ بِهَا فِيمَا رُفِعَ إلَيْهِمْ مِنْ اتِّهَامِ اللُّصُوصِ وَأَهْلِ الشَّرِّ وَالتَّعَدِّي، وَهَلْ لَهُمْ الْكَشْفُ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ أَوْ قِيَامِ الْبَيِّنَاتِ، وَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَتَهَدَّدُوا الْخَصْمَ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ أَوْ ضَرْبُهُ أَوْ سُؤَالُهُ عَنْ أَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى صُورَةِ الْحَالِ؟ وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ مِنْ أَنَّ عُمُومَ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصَهَا وَمَا يَسْتَفِيدُهَا الْمُتَوَلِّي بِالْوِلَايَةِ يُتَلَقَّى مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، فَقَدْ يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ مَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْحَرْبِ فِي زَمَانٍ وَمَكَانٍ آخَرَ وَبِالْعَكْسِ. وَأَمَّا نُصُوصُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فَصَرِيحَةٌ بِأَنَّ لَهُمْ تَعَاطِيَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالذَّخِيرَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى وِلَايَةِ الْكَشْفِ عَنْ الْمَظَالِمِ وَفِي أَحْكَامِ الْجَرَائِمِ، وَكَلَامُهُ فِيهِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي السِّيَاسَةِ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهَا، وَسَأَذْكُرُ مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ ثُمَّ أُتْبِعُهُ نُصُوصَ أَهْلِ

الْمَذْهَبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْوِلَايَةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَهِيَ وِلَايَةُ الْكَشْفِ عَنْ الْمَظَالِمِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَظَرِ وَالِي الْمَظَالِمِ وَبَيْنَ الْقُضَاةِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: لَهُ يَعْنِي نَاظِرَ الْمَظَالِمِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ مَا لَيْسَ لَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَفْسَحُ مَجَالًا وَأَوْسَعُ مَقَالًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ مِنْ الْإِرْهَابِ وَكَشْفِ الْأَشْيَاءِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ اللَّائِحَةِ مِمَّا يُؤَدِّي إلَى ظُهُورِ الْحَقِّ بِخِلَافِهِمْ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَابِلُ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ بِخِلَافِهِمْ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَتَأَنَّى فِي تَرْدَادِ الْخُصُومِ عِنْدَ اللَّبْسِ لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ بِخِلَافِهِمْ إذَا سَأَلَهُمْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَصْلَ الْحُكْمِ لَا يُؤَخِّرُوهُ. السَّادِسُ: لَهُ رَدُّ الْخُصُومِ إذَا عَضَلُوا إلَى وَاسِطَةِ الْأُمَنَاءِ لِيَفْصِلُوا بَيْنَهُمْ صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ لِلْقُضَاةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ. السَّابِعُ: أَنْ يُفْسِحَ فِي مُلَازَمَةِ الْخَصْمَيْنِ إذَا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ التَّجَاحُدِ، وَيُلْزِمَ فِي إلْزَامِ الْكَفَالَةِ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ التَّكْفِيلُ لِيَنْقَادَ الْخُصُومُ إلَى التَّنَاصُفِ يَتْرُكُوا التَّجَاحُدِ بِخِلَافِهِمْ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَسْمَعُ شَهَادَاتِ الْمَسْتُورِينَ بِخِلَافِهِمْ. التَّاسِعُ: لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الشُّهُودَ إذَا ارْتَابَ فِيهِمْ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ. الْعَاشِرُ: لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ وَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ فِي الْقَضِيَّةِ، بِخِلَافِ الْقُضَاةِ لَا يَسْمَعُونَ الْبَيِّنَةَ حَتَّى يُرِيدَ الْمُدَّعِي إحْضَارَهَا وَلَا يَسْمَعُونَهَا إلَّا بَعْدَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي لِسَمَاعِهَا. وَهَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَنُصُوصُ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي أَنَّ الْقَاضِيَ تَعَاطَى أَكْثَرَ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَالُوا فِي خِصَالِ الْقَاضِي: إنَّهُ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهَدَةِ، وَيَسْعَى فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَيَطْلُبُهُ، وَيَسْتَصْلِحُ النَّاسَ بِالرَّهْبَةِ وَالرَّغْبَةِ، وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِّ، وَلَا يَدْعُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَلِينُ مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ حَتَّى قَالَ فِي الْمُحِيطِ: لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ وَسِعَهُ أَنْ لَا يَرُدَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اتِّقَاءً لِحُرْمَةِ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ. وَأَمَّا الْأَخْذُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ فِي وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ أَفْرَدْتُ لَهَا بَابًا سَبَقَ ذِكْرُهُ. وَأَمَّا مُقَابَلَةُ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا انْكَشَفَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ - فَإِنَّهُ يُؤَدِّبُهُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْحَبْسُ؛ لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَاللَّدَدِ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَلِلْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَ الصَّبِيَّ الْفَاجِرَ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ لَا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ حَتَّى لَا يُمَاطِلَ حُقُوقَ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُؤَدَّبُ لِيَنْزَجِرَ عَنْ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَكَذَا إذَا آذَى أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ أَوْ تَشَاتَمَا عِنْدَهُ فَلَهُ حَبْسُهُمَا وَتَعْزِيرُهُمَا. وَأَمَّا تَأَنِّيهِ فِي تَرَادِّ الْخُصُومِ عِنْدَ اللَّبْسِ لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْأَخْذُ بِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا طَالَ الْخِصَامُ فِي أَمْرٍ وَكَثُرَ التَّشْغِيبُ فِيهِ فَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُمَزِّقَ كُتُبَهُمْ - إذَا رَجَا بِذَلِكَ تَقَارُبَ أَمْرِهِمْ - وَيَفْسَخَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْحُجَجِ وَيَأْمُرَهُمْ بِابْتِدَاءِ الْحُكُومَةِ وَأَمَّا رَدُّ الْخُصُومَةِ إلَى وَاسِطَةِ الْأُمَنَاءِ لِيَفْصِلَ بَيْنَهُمْ بِالصُّلْحِ فَقَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ وَمَسَائِلُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا خَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ سَوَّاهُ بَيْنَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ. وَقَدْ أَقَامَ بَعْضُ قُضَاةِ الْعَدْلِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي جِيرَانِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اُسْتُرَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا وَلَا تُطْلِعَانِي عَلَى سِرِّكُمَا، وَلَا بُدَّ فِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ الْوَسَائِطِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: رُدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُوَرِّثُ الضَّغَائِنَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ يَسْمَعُ شَهَادَاتِ الْمَسْتُورِينَ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُهَا أَيْضًا فِي مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ يُحَلِّفُ الشُّهُودَ إذَا ارْتَابَ مِنْهُمْ فَقَدْ فَعَلَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ بَشِيرٍ بِقُرْطُبَةَ، حَلَّفَ الشُّهُودَ فِي تَرِكَةٍ بِاَللَّهِ: إنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ حَقٌّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ

بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: أَرَى لِفَسَادِ الزَّمَانِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يَسْتَدْعِي الشُّهُودَ وَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ فَعِنْدَنَا أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَوَاطِنَ إذَا اسْتَرَابَ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ أَيْضًا. (فَصْلٌ) : وَقَالَ الْقَرَافِيُّ أَيْضًا فِي الذَّخِيرَةِ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ نَظَرِ الْقَاضِي وَنَظَرِ وَالِي الْجَرَائِمِ قَالَ: وَيَمْتَازُ وَالِي الْجَرَائِمِ عَنْ الْقُضَاةِ بِتِسْعَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: سَمَاعُ قَذْفِ الْمَتْهُومِينَ مِنْ أَعْوَانِ الْإِمَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقِ الدَّعْوَى الْمُعْتَبَرَةِ. وَيَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِمْ هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ التُّهْمَةِ أَمْ لَا، فَإِنْ نَزَّهُوهُ أَطْلَقَهُ، أَوْ قَذَفُوهُ بَالَغَ فِي الْكَشْفِ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُرَاعِي شَوَاهِدَ الْحَالِ وَأَوْصَافَ الْمَتْهُومِ فِي قُوَّةِ التُّهْمَةِ وَضَعْفِهَا بِأَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ بِالزِّنَا مُتَّصِفًا بِالنِّسَاءِ فَتَقْوَى التُّهْمَةُ، أَوْ مُتَّهَمًا بِالسَّرِقَةِ وَفِيهِ آثَارُ ضَرْبٍ مَعَ قُوَّةِ بَدَنٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الدَّعَارَةِ فَتَقْوَى التُّهْمَةُ، أَوْ لَا يَكُونُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَتَخْفَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْقُضَاةِ. الثَّالِثُ تَعْجِيلُ حَبْسِ الْمَتْهُومِ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْكَشْفِ وَمُدَّتُهُ شَهْرٌ أَوْ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ. الرَّابِعُ: يَجُوزُ لَهُ مَعَ قُوَّةِ التُّهْمَةِ ضَرْبُ الْمَتْهُومِ ضَرْبَ تَقْرِيرٍ لَا ضَرْبَ حَدٍّ لِيَصْدُقَ، فَإِنْ أَقَرَّ، وَهُوَ مَضْرُوبٌ اُعْتُبِرَتْ حَالُهُ، وَإِنْ ضُرِبَ لِيُقِرَّ لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ تَحْتَ الضَّرْبِ، وَلَوْ صَدَقَ عَنْ حَالِهِ قَطَعَ ضَرْبَهُ وَاسْتَعَادَ إقْرَارَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ أَخَذَهُ بِالثَّانِي، وَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ مَعَ كَرَاهَتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْقُضَاةِ. الْخَامِسُ: أَنَّ لَهُ فِيمَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْجَرَائِمُ وَلَمْ يَنْزَجِرْ بِالْحُدُودِ اسْتَدَامُوا حَبْسَهُ إذَا أَضَرَّ النَّاسَ بِجَرَائِمِهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَيُقَوِّتُهُ وَيَكْسُوهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْقُضَاةِ. السَّادِسُ: أَنَّ لَهُ إحْلَافَ الْمَتْهُومِ لِاخْتِبَارِ حَالِهِ. وَيُغْلِظُ عَلَيْهِ الْكَشْفَ وَيُحَلِّفُهُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالصَّدَقَةِ كَأَيْمَانِ بَيْعَةِ السُّلْطَانِ، وَلَا يُحَلِّفُ الْقَاضِي أَحَدًا فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَلَا يُحَلِّفُ إلَّا بِاَللَّهِ. السَّابِعُ: أَخْذُ الْمُجْرِمِ بِالتَّوْبَةِ قَهْرًا، وَيُظْهَرُ لَهُ مِنْ الْوَعِيدِ مَا يَقُودُهُ إلَيْهَا طَوْعًا، وَبِتَوَعُّدِهِ بِالْقَتْلِ فِيمَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّهُ إرْهَابٌ لَا تَحْقِيقٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحَقِّقَ وَعِيدَهُ بِالْأَدَبِ دُونَ الْقَتْلِ، بِخِلَافِ الْقُضَاةِ. الثَّامِنُ: لَهُ سَمَاعُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْمُتَّهَمِينَ إذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ مِمَّنْ لَا يَسْمَعُهُمْ الْقَاضِي. التَّاسِعُ: أَنَّ لَهُ النَّظَرَ فِي الْمُوَاثَبَاتِ وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ غُرْمًا لِأَحَدٍ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثَرٌ سَمِعَ قَوْلَ السَّابِقِ بِالدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا أَثَرٌ فَقِيلَ: يَبْدَأُ بِسَمَاعِ دَعْوَى ذِي الْأَثَرِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَبْدَأُ بِسَمَاعِ السَّابِقِ وَالْمُبْتَدِي بِالْمُوَاثَبَةِ أَعْظَمُ جُرْمًا وَتَأْدِيبًا. وَيَخْتَلِفُ تَأْدِيبُهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْجُرْمِ وَبِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْهَيْبَةِ وَالتَّصَاوُنِ، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي قَمْعِ السَّفَلَةِ بِإِشْهَارِهِمْ بِجَرَائِمِهِمْ فَعَلَ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ التِّسْعَةُ فِي مُجَرَّدِ الِاتِّهَامِ بِالْجَرَائِمِ، وَيَظْهَرُ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْجَرَائِمِ، فَأَمَّا بَعْدَ ثُبُوتِهَا بِالْإِقْرَارِ وَبِالْبَيِّنَةِ فَيَسْتَوِي فِي إقَامَةِ حُدُودِهَا الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقُضَاةِ تَعَاطِيَ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَمَّا كَوْنُهُ يَسْمَعُ قَذْفَ الْمَتْهُومِ مِنْ أَعْوَانِ الْإِمَارَةِ فَقَدْ اسْتَحَبُّوا لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاشِفًا قَدْ ارْتَضَاهُ يَكْشِفُ لَهُ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ فِي السِّرِّ وَيَقْبَلُ مِنْهُ مَا نَقَلَ إلَيْهِ. وَقَالُوا: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَبْطِنَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ فَيَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى مَا هُوَ بِسَبِيلِهِ وَيَقْوَى بِهِمْ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى مَا يَنْوِيهِ. وَقَدْ أَجَازُوا التَّجْرِيحَ بِوَاحِدٍ عَدْلٍ إذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي. وَأَجَازُوا التَّجْرِيحَ فِي السِّرِّ وَيَقْبَلُ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ اُنْظُرْ الْمُحِيطَ. وَهُوَ نَحْوُهُ فِي أَعْوَانِ الْإِمَارَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ يُرَاعِي شَوَاهِدَ الْحَالِ فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي مُرَاعَاةُ شَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي بَابِ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ وَالدَّلَائِلِ. وَأَمَّا تَعْجِيلُ حَبْسِ الْمَتْهُومِ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْكَشْفِ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ أَتَى الْقَاضِيَ مُتَعَلِّقًا بِرَجُلٍ يَرْمِيهِ بِدَمِ وَلِيِّهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا جَاءَهُ مَثَلٌ فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ وَلِيُّ الدَّمِ، فَإِذَا أَثْبَتَ لَهُ تَعَدُّدَهُ مِنْ الْمُدَّعِي دَمَهُ كَشَفَ هَلْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى دَعْوَاهُ فَإِنْ ادَّعَى ثُبُوتَ ذَلِكَ مَنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ الْغَدِ يَحْبِسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ «حَبَسَ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا فِي تُهْمَةِ دَمٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً» ، وَإِنْ أَثْبَتَ الْعَدَدَ، وَلَمْ يُحْضِرْهُ بَيِّنَةً عَلَى الدَّمِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا أُطِيلَ حَبْسُهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فَالْيَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوَهُمَا فَإِنْ أَتَى طَالِبُ الدَّمِ فِي دَاخِلِ الْمُدَّةِ بِسَبَبٍ قَوِيٍّ سَقَطَ هَذَا الْحُكْمُ وَوَجَبَتْ الزِّيَادَةُ فِي حَبْسِهِ عَلَى مَا يَرَاهُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ يَجُوزُ لَهُ مَعَ قُوَّةِ التُّهْمَةِ ضَرْبُ الْمَتْهُومِ ضَرْبَ تَقْرِيرٍ فَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي تَعَاطِيهِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ قَرِيبًا فِي الدَّعَاوَى عَلَى أَهْلِ التُّهَمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ صِفَةِ ضَرْبِ الْحُدُودِ وَلَا يُعَاقِبُهُمْ بِغَيْرِ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. (فَصْلٌ) : وَمِنْ هَذَا الْفَصْلِ مَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَ السَّرِقَةَ قَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ: الْإِمَامُ يُعَزِّرُهُ إذَا وَجَدَهُ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ بِأَنْ رَآهُ الْإِمَامُ يَمْشِي مَعَ السُّرَّاقِ أَوْ رَآهُ مَعَ الْفُسَّاقِ جَالِسًا لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ لَكِنَّهُ مَعَهُمْ فِي مَجْلِسِ الْفِسْقِ. وَعَنْ عِصَامِ بْنِ يُوسُفَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى حَنَّانِ بْنِ أَبِي حَبَلَةَ وَكَانَ أَمِيرًا فَأَتَى بِسَارِقٍ فَقَالَ الْأَمِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ يَجِبُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: الْيَمِينُ وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، قَالَ الْأَمِيرُ: هَاتُوا بِالسَّوْطِ وَالْعُقَابَيْنِ، وَهُمَا عُودَانِ يُنْصَبَانِ مَفْرُوقَيْنِ فِي الْأَرْضِ يُشَجُّ بَيْنَهُمَا الْمَضْرُوبُ أَوْ الْمَصْلُوبُ، كَذَا فِي الْمَغْرِب، فَمَا ضُرِبَ عَشْرَةَ أَسْوَاطٍ حَتَّى أَقَرَّ وَأَتَى بِسَرِقَتِهِ. قَالَ عِصَامٌ: سُبْحَانَ اللَّهُ، مَا رَأَيْتُ ظُلْمًا أَشْبَهَ بِالْعَدْلِ مِنْ هَذَا. مِنْ الْخُلَاصَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ لَهُ فِيمَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْجَرَائِمُ، وَلَمْ يَنْزَجِرْ بِالْحُدُودِ - اسْتِدَامَةَ حَبْسِهِ فَذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالدُّعَّارُ يُحْبَسُونَ حَتَّى تُعْرَفَ تَوْبَتُهُمْ، ذَكَرَهُ فِي بَابِ مَنْ يُحْبَسُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِغْلَاظَ عَلَى أَهْلِ الشَّرِّ وَالْقَمْعَ لَهُمْ، وَالْأَخْذَ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِمَّا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ. وَيُقَالُ: مَنْ لَمْ يَمْنَعْ النَّاسَ مِنْ الْبَاطِلِ لَمْ يَحْمِلْهُمْ عَلَى الْحَقِّ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَهُ إحْلَافُ الْمَتْهُومِ لِاخْتِبَارِ حَالِهِ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَ الْمُتَّهَمَ، وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ. قَالَ فِي الْقُنْيَةِ نَاقِلًا عَنْ الْمُحِيطِ فِي بَابِ تَصَرُّفَاتِ الْقَيِّمِ فِي الْأَوْقَافِ قَالَ: وَإِنْ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ أَنْفَقُوا عَلَى الْيَتِيمِ وَالضَّيْعَةِ مِنْ إنْزَالِ الْأَرْضِ كَذَا وَبَقِيَ فِي أَيْدِينَا كَذَا، فَإِنْ عُرِفَ بِالْأَمَانَةِ يَقْبَلُ الْقَاضِي الْإِجْمَالَ وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى التَّفْسِيرِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى التَّفْسِيرِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَا يَحْبِسُهُ، وَلَكِنْ يُحْضِرُهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَيُخَوِّفُهُ وَيُهَدِّدُهُ إنْ لَمْ يُفَسِّرْ، فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ إحْلَافَ الْمُتَّهَمِ مُطْلَقًا مَعَ زِيَادَةِ التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، وَهُوَ مِنْ السِّيَاسَةِ الْحَسَنَةِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ فَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقُ وَالْأَيْمَانُ الْمُغَلَّظَةُ لَمْ يُجَوِّزْهَا أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا، فَإِنْ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ يُفْتَى أَنَّ الرَّأْيَ إلَى الْقَاضِي. اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ يَأْخُذُ الْمُجْرِمَ بِالتَّوْبَةِ قَهْرًا فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْقَاضِي بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهُ فِي مَظَانِّهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَهُ سَمَاعُ شَهَادَاتِ أَهْلِ الْمِهَنِ فَإِنَّ لِلْقَاضِي ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ لِلضَّرُورَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَهُ النَّظَرُ فِي الْمُوَاثَبَاتِ فَمَسَائِلُ الْمَذْهَبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَكَرْتُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي مَدَارَ الْأَحْكَامِ، وَإِلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِلَا تَحْدِيدٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالتَّدْمِيَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا. (فَصْلٌ) : قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، بَلْ تَشْهَدُ لَهُ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَتَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَسَادَ قَدْ كَثُرَ وَانْتَشَرَ بِخِلَافِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ بِحَيْثُ لَا تَخْرُجُ عَنْ الشَّرْعِ بِالْكُلِّيَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، وَتَرْكُ هَذِهِ الْقَوَانِينِ يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ جَمِيعُ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ

بِنَفْيِ الْحَرَجِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمُرْسَلَةَ قَالَ بِهَا جَمْعُ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي لَمْ يَشْهَدْ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا وَلَا بِإِلْغَائِهَا، وَيُؤَكِّدُ الْعَمَلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَجْمَعِينَ عَمِلُوا أُمُورًا لِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ لَا لِتَقَدُّمِ شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ نَحْوَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَظِيرٌ، وَوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا أَمْرٌ وَلَا نَظِيرٌ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْخِلَافَةِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، وَتَدْوِينُ الدَّوَاوِينِ، وَعَمَلُ السِّكَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَاِتِّخَاذُ السِّجْنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَدْمُ الْأَوْقَافِ الَّتِي بِإِزَاءِ الْمَسْجِدِ: يَعْنِي مَسْجِدَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالتَّوْسِعَةُ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ ضِيقِهِ، وَحَرْقُ الْمَصَاحِفِ وَجَمْعُهُمْ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، وَتَجْدِيدُ أَذَانٍ فِي الْجُمُعَةِ بِالسُّوقِ مِمَّا فَعَلَهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا فُعِلَ لِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّرْعَ شَدَّدَ فِي الشَّهَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّوَايَةِ لِتَوَهُّمِ الْعَدَاوَةِ، فَاشْتَرَطَ الْعَدَدَ وَالْحُرِّيَّةَ، وَوَسَّعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ لِلضَّرُورَةِ كَالْعَرَايَا وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقِرَاضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُقُودِ الْمُسْتَثْنَاةِ، وَضَيَّقَ فِي الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا فَلَمْ يَقْبَلْ فِيهِ إلَّا أَرْبَعَةً يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَقَبِلَ فِي الْقَتْلِ اثْنَيْنِ، وَالدِّمَاءُ أَعْظَمُ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ السِّتْرُ، وَلَمْ يُحْوِجْ الزَّوْجَ الْمُلَاعِنَ إلَى بَيِّنَةٍ غَيْرِ أَيْمَانِهِ، وَلَمْ يُوَجِّهْ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَذَفَةِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ فِي الذَّبِّ عَنْ الْإِنْسَانِ وَصَوْنِ الْعِيَالِ وَالْفُرُشِ عَنْ أَسْبَابِ الِارْتِيَابِ. وَهَذِهِ الْمُبَايِنَاتُ وَالِاخْتِلَافَاتُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرْعِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ فِي الْأَزْمَانِ فَتَكُونَ الْمُنَاسَبَةُ الْوَاقِعَةُ فِي هَذِهِ الْقَوَانِينِ السِّيَاسِيَّةِ مِمَّا شَهِدَتْ لَهَا الْقَوَاعِدُ بِالِاعْتِبَارِ، فَلَا تَكُونُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بَلْ أَعْلَى رُتْبَةً فَتُلْحَقُ بِالْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ فِي هَذِهِ الْقَوَانِينِ وَرَدَ دَلِيلٌ يَخُصُّهُ أَوْ أَصْلٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَدِلَّةِ الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لِكَلَامِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. عَلَى أَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ نَجِدْ فِي جِهَةٍ إلَّا غَيْرَ الْعُدُولِ أَقَمْنَا أَصْلَحَهُمْ وَأَقَلَّهُمْ فُجُورًا لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لِئَلَّا تَضِيعَ الْمَصَالِحُ وَتَتَعَطَّلَ الْحُقُوقُ وَالْأَحْكَامُ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ أَحَدٌ فِي هَذَا، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْإِمْكَانِ، وَإِذَا جَازَ نَصْبُ الشُّهُودِ فَسَقَةً لِأَجَلِ عُمُومِ الْفَسَادِ جَازَ التَّوَسُّعُ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ لِأَجَلِ كَثْرَةِ فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَيَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلَا نَشُكُّ أَنَّ قُضَاةَ زَمَانِنَا وَشُهُودَهُمْ وَوُلَاتَهُمْ وَأُمَنَاءَهُمْ لَوْ كَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَا وُلُّوا وَلَا عُرِّجَ عَلَيْهِمْ، وَوِلَايَةُ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فُسُوقٌ، فَإِنَّ خِيَارَ زَمَانِنَا هُمْ أَرَاذِلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَوِلَايَةُ الْأَرَاذِلِ فُسُوقٌ، فَقَدْ حَسُنَ مَا كَانَ قَبِيحًا وَاتَّسَعَ مَا كَانَ ضَيِّقًا وَاخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الشَّرْعَ وَسَّعَ لِلْمُرْضِعِ فِي النَّجَاسَةِ اللَّاحِقَةِ لَهَا مِنْ الصَّغِيرِ مِمَّا لَمْ تُشَاهِدْهُ كَثَوْبِ الْإِرْضَاعِ، وَوَسَّعَ فِي زَمَانِ الْمَطَرِ فِي طِينِ الْمَطَرِ كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي طِينِ بُخَارَى عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْقَذَرِ وَالنَّجَاسَةِ، وَوَسَّعَ لِأَصْحَابِ الْقُرُوحِ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجَاسَتِهَا، وَوَسَّعَ لِصَاحِبِ الْبَوَاسِيرِ فِي بَلَلِهَا، وَجَوَّزَ الشَّارِعُ تَرْكَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا إذَا ضَاقَ الْحَالُ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَنَحْوِهَا وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا ضَاقَ شَيْءٌ إلَّا اتَّسَعَ. يُشِيرُ إلَى هَذَا الْمَوْطِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا ضَاقَ عَلَيْنَا الْحَالُ فِي دَرْءِ الْمَفَاسِدِ اتَّسَعَ كَمَا اتَّسَعَ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ أَوَّلَ بَدْءِ الْإِنْسَانِ مِنْ زَمَنِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ الْحَالُ ضَيِّقًا، فَأُبِيحَتْ الْأُخْتُ لِأَخِيهَا وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَسَّعَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهَا، فَلَمَّا اتَّسَعَ الْحَالُ وَكَثُرَتْ الذُّرِّيَّةُ حَرَّمَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَحَرَّمَ السَّبْتَ وَالشُّحُومَ وَالْإِبِلَ وَأُمُورًا كَثِيرَةً، وَفُرِضَ عَلَيْهِمْ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَتَوْبَةُ أَحَدِهِمْ بِالْقَتْلِ لِنَفْسِهِ، وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِقَطْعِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ

الفصل الثالث في الدعاوى بالتهم والعدوان

التَّشْدِيدَاتِ. ثُمَّ جَاءَ آخِرُ الزَّمَانِ وَضَعُفَ الْجَسَدُ وَقَلَّ الْجَلَدُ، فَلَطَفَ اللَّهُ بِعِبَادِهِ فَأُحِلَّتْ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ وَخُفِّفَتْ الصَّلَوَاتُ وَقُبِلَتْ التَّوْبَاتُ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْأَحْكَامَ وَالشَّرَائِعَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِعِبَادِهِ وَسُنَّتِهِ الْجَارِيَةِ فِي خَلْقِهِ، وَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْقَرَائِنَ لَا تَخْرُجُ عَنْ أُصُولِ الْقَوَاعِدِ، وَلَيْسَتْ بِدَعًا عَمَّا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ الْمُكَرَّمُ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الدَّعَاوَى بِالتُّهَمِ وَالْعُدْوَانِ] وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ] : أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَرِيئًا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ التُّهْمَةِ كَمَا لَوْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا مَشْهُورًا، فَهَذَا النَّوْعُ لَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْمُتَّهِمُ لَهُ بِذَلِكَ فَيُعَاقَبُ صِيَانَةً لِسُلْطَةِ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ عَلَى أَعْرَاضِ الْبُرَآءِ الصُّلَحَاءِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مَا وَقَعَ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ فِي آخِرِ مُتَشَابِهِ الْقَذْفِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: يَا فَاسِقٌ يَا لِصٌّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَلَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ فَعَلَى الْقَاذِفِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ يَلْحَقُهُ إنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَ يُعْرَفُ بِهِ لَمْ يُعَزَّرْ اهـ. هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ تَقْسِيمِ الدَّعَاوَى مِمَّا لَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَيُؤَدِّبُ الْمُدَّعِيَ بِسَبَبِ مَا ادَّعَاهُ الَّذِي وَعَدْنَاكَ بِالْإِتْيَانِ بِهِ فِي أَحْكَامِ السِّيَاسَةِ. [الْقِسْمُ الثَّانِي] : وَهُوَ الْمُتَّهَمُ بِالْفُجُورِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا بُدَّ أَنْ يُكْشَفُوا وَيُسْتَقْصَى عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ تُهْمَتِهِمْ وَشُهْرَتِهِمْ بِذَلِكَ، وَرُبَّمَا كَانَ بِالضَّرْبِ وَبِالْحَبْسِ دُونَ الضَّرْبِ عَلَى قَدْرِ مَا اُشْتُهِرَ عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الدَّعَاوَى وَمَا أَشْبَهَهَا يَحْلِفُ وَيُرْسَلُ بِلَا حَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَيْسَ تَحْلِيفُهُ وَإِرْسَالُهُ مَذْهَبًا لِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَلَوْ حَلَّفْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَأَطْلَقْنَاهُ وَخَلَّيْنَا سَبِيلَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِاشْتِهَارِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَكَثْرَةِ سَرِقَاتِهِ وَقُلْنَا: إنَّا لَا نُؤَاخِذُهُ إلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ كَانَ الْفِعْلُ مُخَالِفًا لِلسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّرْعَ تَحْلِيفُهُ وَإِرْسَالُهُ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا لِنُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلِأَجَلِ هَذَا الْغَلَطِ الْفَاحِشِ تَجَرَّأَ الْوُلَاةُ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ وَتَوَهَّمُوا أَنَّ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَاصِرَةٌ عَنْ سِيَاسَةِ الْخَلْقِ وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، فَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ وَخَرَجُوا عَنْ الشَّرْعِ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ فِي السِّيَاسَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ الْجَهْلُ بِالشَّرِيعَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَنْ يَضِلَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ أَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَدُلُّ عَلَى عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِ وَحَبْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمُتَّهَمِينَ يَجُوزُ ضَرْبُهُ وَحَبْسُهُ لِمَا قَامَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ فِي مَنْزِلِهِ فَبَادَرَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ فَقَتَلَهُ وَقَالَ: إنَّهُ دَاعِرٌ دَخَلَ عَلَيَّ لِيَقْتُلَنِي، فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مَعْرُوفًا بِالدَّعَارَةِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا وَجَبَ. مِنْ الْإِيضَاحِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ إذَا وُجِدَ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ بَعْضُ الْمَتَاعِ الْمَسْرُوقِ وَادَّعَى الْمُتَّهَمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ - فَهُوَ مُتَّهَمٌ بِالسَّرِقَةِ وَلَا سَبِيلَ لِلْمُدَّعِي إلَّا فِيمَا بِيَدِهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَعَلَى السُّلْطَانِ حَبْسُهُ وَالْكَشْفُ عَنْهُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يُطَالُ فِي حَبْسِهِ حَتَّى يُقِرَّ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا قَالَ بَعْضُهُمْ: يُمْتَحَنُ بِالسِّجْنِ بِقَدْرِ رَأْيِ الْإِمَامِ. وَكَتَبَ

عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ: يَعْنِي إذَا لَمْ يُقِرَّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو اللَّيْثِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ فِيمَنْ سُرِقَ لَهُ مَتَاعٌ فَاتَّهَمَ رَجُلًا مَعْرُوفًا بِذَلِكَ يُحْبَسُ؛ لِأَنَّ حَبْسَهُ يَصْرِفُ أَذَاهُ عَنْ النَّاسِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ لِتَكَرُّرِهِ مِنْهُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَإِتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ فَيَجِبُ أَنْ يُقْبَضَ عَنْهُمْ بِالسِّجْنِ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ بِأَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ مَعَ تَسَاوِي حَالِهِ فِيهِمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْخُلَاصَةِ: أَنَّ الدُّعَّارَ يُحْبَسُونَ حَتَّى تُعْرَفَ تَوْبَتُهُمْ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا رُفِعَ لِلْقَاضِي رَجُلٌ يُعْرَفُ بِالسَّرِقَةِ وَالدَّعَارَةِ فَادَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ رَجُلٌ فَحَبَسَهُ لِاخْتِبَارِ ذَلِكَ فَأَقَرَّ فِي السِّجْنِ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ يَلْزَمُهُ، وَهَذَا الْحَبْسُ خَارِجٌ عَنْ الْإِكْرَاهِ. قَالَ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ فِي مِثْلِهِ: وَإِنْ خَوَّفَهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ حَتَّى يُقِرَّ فَلَيْسَ هَذَا بِإِكْرَاهٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَيْسَ فِي هَذَا وَقْتٌ وَلَكِنَّ مَا يَجِيءُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، فَرُبَّ إنْسَانٍ يَغْتَمُّ بِحَبْسِ يَوْمٍ، وَالْآخَرُ لَا يَغْتَمُّ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي الشَّرَفِ وَالدَّنَاءَةِ، فَيُفَوَّضُ ذَلِكَ إلَى رَأْيِ كُلِّ قَاضٍ فِي زَمَانِهِ، فَيَنْظُرُ إنْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِكْرَاهَ فَوَّتَ عَلَيْهِ رِضَاهُ أَبْطَلَهُ، وَإِلَّا فَلَا، هَذَا فِي الْأَمْوَالِ. وَأَمَّا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَتَوَلَّى ضَرْبَ هَذَا الْمُتَّهَمِ وَحَبْسَهُ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي وَيَحْبِسُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ: أَتَى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ قَاضِي الْمَدِينَةِ بِرَجُلٍ مُتَّهَمٍ خَبِيثٍ مَعْرُوفٍ بِالصِّبْيَانِ قَدْ لَصِقَ بِغُلَامٍ فِي الزِّحَامِ، فَبَعَثَ إلَى مَالِكٍ يَسْتَشِيرُهُ فِيهِ، فَأَمَرَ مَالِكٌ الْقَاضِي بِعُقُوبَتِهِ، فَضَرَبَهُ أَرْبَعَمِائَةٍ سَوْطٍ. وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ الْحَبْسُ رَاجِعٌ إلَى الْوَالِي، وَذَهَبَ إلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الضَّرْبَ الْمَشْرُوعَ هُوَ ضَرْبُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ أَسْبَابِهِمَا وَتَحْقِيقِهِمَا فَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالْقَاضِي. وَمَوْضُوعُ وِلَايَةِ الْوَالِي الْمَنْعُ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقَمْعُ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ، وَذَلِكَ لَا يُتَمَكَّنُ إلَّا بِالْعُقُوبَةِ لِلْمُتَّهَمِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْإِجْرَامِ، بِخِلَافِ وُلَاةِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ مَوْضُوعَهَا إيصَالُ الْحُقُوقِ وَإِثْبَاتُهَا، فَكُلُّ وَالٍ أُمِرَ بِفِعْلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ اهـ مِنْ كَلَامِ ابْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيِّ. وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ كَلَامُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ. وَمِمَّا يُنَاسِبُ قَضِيَّةَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَاضِي الْمَدِينَةِ فِي قَضِيَّةِ الرَّجُلِ الْمَذْكُورَةِ مَا وَقَعَ فِي الْخُلَاصَةِ فِي رَجُلٍ خَدَعَ امْرَأَةَ رَجُلٍ حَتَّى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، وَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ خَدَعَ صَبِيَّةً وَزَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ يُحْبَسُ حَتَّى يَرُدَّهَا أَوْ يَمُوتَ، وَالسِّجْنُ، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ الْعُقُوبَاتِ فَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] أَنَّ السِّجْنَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الْبَلِيغَةِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى - قَرَنَهُ مَعَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّجْنَ الطَّوِيلَ عَذَابٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوِلَايَاتِ تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ أَنَّ عُمُومَ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصَهَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَبَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَتَنَاوَلُ مَا يَتَنَاوَلُهُ أَهْلُ الْحَرْبِ وَبِالْعَكْسِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ وَالتَّنْصِيصِ فِي الْوِلَايَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ فِي قُطْرٍ آخَرَ يَمْنَعُ مِنْ تَعَاطِي هَذِهِ السِّيَاسَاتِ قَضَاءً أَوْ عُرْفًا فَلَيْسَ لِلْقَاضِي تَعَاطِي ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى شَرْعِيَّةٌ حُكْمُهَا الِاخْتِيَارُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ فَيَسُوغُ لَهُ الْحُكْمُ فِيهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْحُكُومَاتِ. [الْقِسْمُ الثَّالِثُ] : أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَجْهُولَ الْحَالِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْوَالِي لَا يَعْرِفُهُ بِبِرٍّ وَلَا فُجُورٍ، فَإِذَا ادَّعَى

فصل في بيع الظالم مال نفسه عند المصادرة

عَلَيْهِ تُهْمَةً فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ، هَذَا حُكْمُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَنْصُوصُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَالْوَالِي. [فَصْلٌ فِي بَيْعِ الظَّالِمِ مَالَ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُصَادَرَةِ] (فَصْلٌ) : فِي بَيْعِ الظَّالِمِ مَالَ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُصَادَرَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْعُمَّالِ يُوَلَّوْنَ بِطَلَبٍ مِنْهُمْ أَوْ كُرْهٍ فَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَسِيرُونَ فِيهِمْ سِيرَةَ الظُّلْمِ ثُمَّ يُعْزَلُونَ عَنْ سُخْطٍ مِنْ الْوَالِي عَلَيْهِمْ فَيُرْهِقُهُمْ وَيُعَذِّبُهُمْ فِي غُرْمٍ يُغَرِّمُهُمْ انْتِقَامًا لِلَّهِ - تَعَالَى - مِنْهُمْ وَلْيَرُدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ الَّذِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ يُغَرِّمُهُمْ لِنَفْسِهِ عَلَى غَيْرِ مَجْرَى الْحَقِّ وَالْعَدَالَةِ فَيَلْجَئُونَ فِي ذَلِكَ إلَى بَيْعِ أَمْتِعَتِهِمْ وَرَقِيقِهِمْ، فَذَلِكَ مَاضٍ عَلَيْهِمْ سَائِغٌ لِمَنْ ابْتَاعَهُ. قَالَ فِي التَّجْرِيدِ: إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي انْتَهَى؛ لِأَنَّ إغْرَامَهُمْ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْحَقِّ لِلْوَالِي الَّذِي وَلَّاهُمْ، وَأَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ إلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ احْتَبَسَ الْوَالِي ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ لِلرَّعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَافِعِ أُولَئِكَ الْعُمَّالِ الظَّلَمَةِ فِيمَا بَاعُوهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إنَّمَا كُنَّا نَأْخُذُ ذَلِكَ لِمَنْ وَلَّانَا وَيُقَادُ مِنْهُمْ لِكُلِّ مَنْ جَلَدُوا أَوْ قَطَعُوا بِغَيْرِ حَقٍّ. (فَرْعٌ) : وَكَذَلِكَ الْعَامِلُ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْكُورَةَ وَالْبَلْدَةَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مَضْمُونٍ فِي مَالِهِ يُلْزِمُهُ نَفْسَهُ، فَإِنْ اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَقَبَّلُ عَمَلَهُمْ فَلَهُ مَا زَادَ وَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ فَيَخْرُجُ فِي عَمَلِهِ عَلَى هَذَا فَيَأْخُذُ مَا شَاءَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ بِأَسْبَابٍ وَوَظَائِفَ وَعِلَلٍ وَبِدَعٍ وَأَشْيَاءَ قَدْ سَمَّوْهَا وَأُمُورٍ قَدْ جَرَوْا عَلَيْهَا، فَرُبَّمَا عَزَلَهُ الْوَالِي لِلْوَقْتِ الَّذِي تَقَبَّلَهُ إلَيْهِ فَيَعْجِزُ عَنْ تِلْكَ الْقُبَالَةِ، فَمَا بَاعَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا فَهُوَ مَاضٍ غَيْرُ مَرْدُودٍ، وَهُوَ أَقْبَحُ وَبَيْعُهُ أَجْوَزُ مِنْ الْأَوَّلِ. (مَسْأَلَةٌ) : السُّلْطَانُ إذَا صَادَرَ رَجُلًا فَقَالَ الْمَطْلُوبُ لِرَجُلٍ ادْفَعْ إلَيْهِ وَإِلَى أَعْوَانِهِ شَيْئًا عَنْ جِنَايَتِي فَدَفَعَ بِأَمْرِهِ قَالَ السَّرَخْسِيُّ وَالْبَزْدَوِيُّ: يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِمَا دَفَعَ بِدُونِ شَرْطِ الرُّجُوعِ وَالضَّمَانِ كَالْآمِرِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَقَالَا: الْمُطَالَبَةُ الْحِسِّيَّةُ كَالشَّرْعِيَّةِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ: لَا يَرْجِعُ بِدُونِ شَرْطِ الرُّجُوعِ وَالضَّمَانِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي النَّوَازِلِ: قَوْمٌ وَقَعَتْ لَهُمْ الْمُصَادَرَةُ فَأَمَرُوا رَجُلًا أَنْ يَسْتَقْرِضَ لَهُمْ مَالًا وَيُنْفِقَ فِي هَذِهِ الْمُؤْنَةِ فَفَعَلَ، فَالْمُقْرِضُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ وَالْمُسْتَقْرِضُ هَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآمِرِ؟ إنْ شَرَطَ الرُّجُوعَ يَرْجِعُ، وَبِدُونِ الشَّرْطِ هَلْ يَرْجِعُ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ. اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ وَالْوَصِيَّةِ. [فَصْلٌ فِي الْجِنَايَاتِ] [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي الْقَتْلِ] (فَصْلٌ) : وَهِيَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْعَقْلِ وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَالِ وَالْجِنَايَةُ عَلَى النَّسَبِ وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْعِرْضِ وَجِنَايَةُ الْمُحَارِبِينَ وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْأَدْيَانِ. وَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْخَوَارِجِ وَالرِّدَّةِ وَحُكْمُ مَنْ سَبَّ اللَّهَ أَوْ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْأَنْبِيَاءَ أَوْ الصَّحَابَةَ، وَحُكْمُ السَّاحِرِ وَعُقُوبَتُهُ وَالْخَنَّاقُ وَالزِّنْدِيقُ، وَحُكْمُ الْعَائِنِ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ. وَيَجِبُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِلَاكَ الْوِلَايَةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَالرِّيَاسَةِ الْإِحْسَانُ وَالسِّيَاسَةُ وَالْعَدْلُ فَإِنَّ بِالْإِحْسَانِ يُسْتَعْبَدُ الْإِنْسَانُ وَيُرْفَعُ التَّبَاغُضُ وَالْعُدْوَانُ، وَبِالسِّيَاسَةِ تَنْزَجِرُ السُّفَهَاءُ عَنْ الطُّغْيَانِ، وَبِالْعَدْلِ يَسْتَقِيمُ الْمُلْكُ وَتَعْمُرُ الْبُلْدَانُ، فَكَانَ شَرْعُ أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ مِنْ مُعْظَمِ مَعَاقِدِ الْأُمُورِ. وَالْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ فِي الْقَتْلِ. وَالثَّانِي: فِي الْجِرَاحِ وَالْأَطْرَافِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ تُسَمَّى قَتْلًا، وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ تُسَمَّى قَطْعًا وَجُرْحًا. وَالْقَتْلُ فِعْلٌ يُضَافُ إلَى الْعِبَادِ بِحَيْثُ تَزُولُ بِهِ الْحَيَاةُ، وَزَوَالُ الْحَيَاةِ بِدُونِ فِعْلِ الْعِبَادِ يُسَمَّى مَوْتًا. ثُمَّ قَتْلُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ مِنْ أَجَلِّ الْكَبَائِرِ وَأَخْبَثِهَا، وَقَدْ شُرِعَ فِيهِ

الْقِصَاصُ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] الْآيَةَ. ثُمَّ الْقَتْلُ يَنْقَسِمُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: عَمْدٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ، وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: هَذَا تَقْسِيمُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، أَمَّا فِي الْأَصْلِ قَسَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقَتْلَ عَلَى ثَلَاثَةٍ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ. ثُمَّ إنَّ الْقَتْلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَصْدُرَ بِسِلَاحٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ صَدَرَ بِسِلَاحٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ قَصْدٌ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ عَمْدٌ وَإِلَّا فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ صَدَرَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ قَصْدُ التَّأْدِيبِ أَوْ الضَّرْبِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَإِلَّا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ هُوَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ الْقَتْلُ بِالسَّبَبِ، وَبِهَذَا الِانْحِصَارِ يُعْرَفُ أَيْضًا تَفْسِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقِيلَ: وَجْهُ الِانْحِصَارِ الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ. (تَنْبِيهٌ) : الْعَمْدُ هُوَ أَنْ يُتَعَمَّدَ ضَرْبُهُ بِالسِّلَاحِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِمَّا لَهُ حَدٌّ يَقْطَعُ وَيَجْرَحُ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْقَصْدَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الضَّرْبَ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ قَاطِعَةٍ قَاتِلَةٍ دَلِيلُ عَمْدِ الْقَتْلِ فَيُقَامُ مَقَامَ الْعَمْدِ. ثُمَّ آلَةُ الْقَتْلِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: آلَةُ السِّلَاحِ، وَغَيْرُ السِّلَاحِ. أَمَّا السِّلَاحُ فَكُلُّ آلَةٍ هِيَ جَارِحَةٌ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَنَحْوِهِ فَقَتَلَ بِهِ فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهُ بِحَدِيدٍ لَا حِدَّةَ لَهُ نَحْوَ أَنْ يَضْرِبَ بِعَمُودٍ أَوْ صَنْجَةِ حَدِيدٍ أَوْ صُفْرٍ. وَعَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ: لَا يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا، وَلَوْ ضَرَبَهُ بِصَنْجَةِ رَصَاصٍ لَا يَكُونُ عَمْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ اسْتِعْمَالَ الْحَدِيدِ وَهُوَ السِّلَاحُ كَذَا فِي الْمُحِيطِ. وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَمُودِ الْمِيزَانِ فَقُتِلَ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعَصَا الصَّغِيرَةِ، فَإِنْ كَانَ عَصًا عَظِيمَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ. فُرُوعٌ: رَجُلٌ أَحْمَى تَنُّورًا وَأَلْقَى فِيهِ إنْسَانًا أَوْ أَلْقَاهُ فِي النَّارِ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ عَنْهَا عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ. وَكَذَا كُلُّ مَا لَا يُلْبَثُ مَعَهُ عَادَةً كَالسِّلَاحِ إلَّا أَنَّهُ لَا تُجْعَلُ النَّارُ كَالسِّلَاحِ فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ، حَتَّى لَوْ تَوَقَّدَتْ النَّارُ عَلَى الْمَذْبَحِ وَانْقَطَعَ بِهَا الْعُرُوقُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، ثُمَّ كَيْفَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ؟ قَالَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عِنْدَنَا يُسْتَوْفَى بِالسَّيْفِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالنَّارِ. وَلَوْ أَلْقَاهُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ خِلَافًا لَهُمَا. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ مُتَعَلِّقٌ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ قَاطِعَةٍ مُوجِبَةٍ مُسْرِعَةٍ فِي نَزْعِ الرُّوحِ أَمْ مُبْطِئَةٍ. وَعِنْدَهُمْ يَتَعَلَّقُ بِآلَةٍ قَاتِلَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ جَارِحَةً أَوْ لَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ غَرَّقَهُ بِالْمَاءِ، وَكَانَ الْمَاءُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ بِالسِّبَاحَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْدُودٍ وَلَا مُثْقَلٍ، وَهُوَ يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ فَمَاتَ يَكُونُ خَطَأَ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الْإِلْقَاءَ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ الْقَتْلَ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَنْجُو مِنْهُ، وَهُوَ لَا يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ أَوْ هُوَ مَشْدُودٌ بِمُثْقَلٍ لَا يُمَكِّنُهُ السِّبَاحَةَ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خَطَأُ الْعَمْدِ، وَعِنْدَهُمْ عَمْدٌ مَحْضٌ. وَلَوْ خَنَقَ رَجُلًا وَمَاتَ فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ لَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِآلَةٍ غَيْرِ جَارِحَةٍ وَقَاطِعَةٍ وَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْضِيَةٍ إلَى الْقَتْلِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ التَّخْنِيقَ قَدْ لَا يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ فَكَانَ شِبْهَ الْعَمْدِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ فَيُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَالسَّاعِي فِي الْأَرْضِ بِفَسَادٍ يُقْتَلُ صِيَانَةً لِلْمُسْلِمِينَ دَفْعًا لِشَرِّهِ؛ لِأَنَّ شَرَّهُ قَلَّمَا يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ كَمَا فِي الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ. وَعِنْدَهُمَا إذَا دَامَ عَلَى الْخَنْقِ حَتَّى مَاتَ يَجِبُ الْقِصَاصُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: إذَا شَقَّ رَجُلٌ بَطْنَ رَجُلٍ وَأَخْرَجَ أَمْعَاءَهُ ثُمَّ ضَرَبَ رَجُلٌ عُنُقَهُ بِسَيْفٍ عَمْدًا فَالْقَاتِلُ هُوَ الَّذِي ضَرَبَ الْعُنُقَ بِالسَّيْفِ فَيُقْتَصُّ إنْ كَانَ عَمْدًا، وَإِنْ كَانَ خَطَأً تَجِبُ الدِّيَةُ، وَعَلَى الَّذِي شَقَّ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ الشَّقُّ نَفَذَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَثُلُثَا الدِّيَةِ، هَذَا إذَا كَانَ مِمَّا يَعِيشُ بَعْدَ شَقِّ الْبَطْنِ يَوْمًا

أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعِيشُ وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ الْحَيَاةُ وَلَا يَبْقَى مِنْهُ إلَّا اضْطِرَابَ الْمَوْتِ فَالْقَاتِلُ هُوَ الَّذِي شَقَّ الْبَطْنَ وَيُقْتَصُّ فِي الْعَمْدِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ، وَاَلَّذِي ضَرَبَ الْعُنُقَ يُعَزَّرُ، وَكَذَا لَوْ جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا جِرَاحَةً مُثْخِنَةً لَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَعِيشَ مَعَهَا وَجَرَحَ آخَرَ جِرَاحَةً أُخْرَى فَالْقَاتِلُ هُوَ الَّذِي جَرَحَ الْجِرَاحَةَ الْمُثْخِنَةَ هَذَا إذَا كَانَتْ الْجِرَاحَتَانِ عَلَى التَّعَاقُبِ، فَإِنْ كَانَتَا مَعًا فَلَا هُمَا قَاتِلَانِ. مِنْ الْخُلَاصَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْمُنْتَقَى: رَجُلٌ قَمَّطَ رَجُلًا وَطَرَحَهُ فَقَتَلَهُ سَبُعٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَلَوْ قَمَّطَ صَبِيًّا: أَيْ شَدَّهُ وَأَلْقَاهُ فِي الشَّمْسِ أَوْ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ. رَجُلٌ قَتَلَ آخَرَ وَهُوَ فِي النَّزْعِ قُتِلَ بِهِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ، وَلَا قِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ وَالْوَكْزَةِ وَالْوَجْأَةِ وَالدَّفْعَةِ. الْمَسَائِلُ فِي الْمُنْتَقَى. وَلَوْ ضَرَبَهُ بِالْمِسَلَّةِ فِيهِ الْقِصَاصُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ عَضَّهُ حَتَّى مَاتَ ذَكَرَ فِي الْأَجْنَاسِ: كُلُّ آلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا الزَّكَاةُ فِي الْبَهَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْقِصَاصُ فِي الْآدَمِيِّ، وَمَا لَا فَلَا: يَعْنِي لَا يَجِبُ بِالْبَعْضِ. (فَرْعٌ) : وَفِي النَّوَازِلِ: رَجُلٌ قَالَ بِعْتُكَ دَمِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِفَلْسٍ فَقَتَلَهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَلَوْ قَالَ لَهُ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَفِي التَّجْرِيدِ: لَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ تَجِبُ. وَلَوْ قَالَ لَهُ اقْطَعْ يَدِي فَقَطْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي جَمِيعِ الْأَطْرَافِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْمُنْتَقَى: لَوْ قَالَ لِآخَرَ اقْطَعْ يَدِي عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ فَفَعَلَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَبَطَلَ الصُّلْحُ. وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: اجْنِ عَلَيَّ فَرَمَاهُ بِحَجَرٍ فَجَرَحَهُ جُرْحًا لَا يَعِيشُ مِنْ مِثْلِهِ فَهَذَا قَاتِلٌ وَلَا يُسَمَّى جَانِيًا وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَلَوْ جَرَحَهُ بِالْحَجَرِ جُرْحًا يَعِيشُ مِنْ مِثْلِهِ لَا يُسَمَّى قَاتِلًا، وَلَوْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي. وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ صَارَتْ وَاقِعَةُ الْفَتْوَى صُورَتُهَا: رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ: ارْمِ إلَيَّ أَقْبِضْهُ وَأَكْسِرْهُ، فَرَمَاهُ فَأَصَابَ عَيْنَهُ فَذَهَبَ ضَوْءُهَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ قَالَ لِآخَرَ: اُقْتُلْ ابْنِي وَهُوَ صَغِيرٌ فَقَتَلَهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَ يَدَهُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَفِي الْعُيُونِ: لَوْ قَالَ لِآخَرَ: اُقْتُلْ أَخِي فَقَتَلَهُ وَهُوَ وَارِثُهُ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: تَجِبُ الدِّيَةُ. وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ: جَعَلَ الْأَخَ كَالِابْنِ وَقَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فِي الْكُلِّ، وَالِاسْتِحْسَانُ تَجِبُ الدِّيَةُ. وَفِي الْإِيضَاحِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي الِابْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَجْهَ الْقِيَاسِ، وَلَوْ قَالَ: اُقْتُلْ أَبِي فَقَتَلَهُ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَلَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدَهُ فَقَطَعَ يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَلَوْ قَالَ: اُقْتُلْ عَبْدِي أَوْ اقْطَعْ يَدَهُ فَفَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. الْكُلُّ مِنْ الْخُلَاصَةِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لَيْسَ بِسِلَاحٍ وَلَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: وَالشَّافِعِيُّ شِبْهُ الْعَمْدَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِآلَةٍ لَا يُقْتَلُ بِمِثْلِهَا فِي الْغَالِبِ، فَإِنْ كَانَتْ الْآلَةُ مُثْقَلَةً فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ فَيَجِبُ بِهَا الْقِصَاصُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْخَطَأُ فَقَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ نَحْوَ أَنْ يَقْصِدَ شَيْئًا فَيُصِيبَ غَيْرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الظَّنِّ نَحْوُ أَنْ يَظُنَّهُ صَيْدًا أَوْ حَرْبِيًّا فَيُصَادِفَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَلَيْسَ فِيهِ إثْمُ الْقَتْلِ إنَّمَا فِيهِ إثْمُ تَرْكِ التَّأَمُّلِ لِلْقَاتِلِ وَالْفَحْصِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الْوُقُوعِ فِيهِ. وَالْكَفَّارَةُ شُرِعَتْ لِسَتْرِ هَذَا الْإِثْمِ، وَبِهَذَا الْإِثْمِ انْتَهَضَ الْقَتْلُ سَبَبًا لِحِرْمَانِ

الْإِرْثِ، وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَنَوْعٌ آخَرُ يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ، وَهُوَ النَّائِمُ يَنْقَلِبُ عَلَى إنْسَانٍ فَيَقْتُلُهُ. تَفْرِيعٌ: قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا تَعَمَّدَ شَيْئًا مِنْ إنْسَانٍ فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْهُ سِوَى مَا تَعَمَّدَ فَهُوَ عَمْدٌ، وَإِنْ أَصَابَ غَيْرَهُ فَهُوَ خَطَأٌ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: رَجُلٌ تَعَمَّدَ أَنْ يَضْرِبَ يَدَ رَجُلٍ بِسَيْفٍ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ عُنُقَهُ وَأَبَانَ رَأْسَهُ فَهُوَ عَمْدٌ، وَلَوْ أَرَادَ يَدَ رَجُلٍ فَأَصَابَ عُنُقَ غَيْرِهِ فَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَ غَيْرَ مَا تَعَمَّدَ. وَفِي الْأُولَى أَصَابَ مَا تَعَمَّدَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إتْلَافَ طَرَفِ ذَلِكَ الرَّجُلِ. وَلَوْ رَمَى قَلَنْسُوَةَ رَجُلٍ عَلَى رَأْسِهِ فَأَصَابَ رَجُلًا فَهُوَ خَطَأٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَصَدَ الْقَلَنْسُوَةَ فَأَصَابَ السَّيْفُ رَأْسَهُ فَهُوَ خَطَأٌ، وَلَوْ رَمَى رَجُلًا فَأَصَابَ حَائِطًا ثُمَّ رَجَعَ السَّهْمُ فَأَصَابَ الرَّجُلَ فَقَتَلَهُ فَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي إصَابَةِ الْحَائِطِ، وَرُجُوعُ السَّهْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى إصَابَةِ الْحَائِطِ لَا عَلَى الرَّمْيِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْمُسَبَّبَيْنِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى آخِرِ السَّبَبَيْنِ وُجُودًا. اُنْظُرْ الْمُحِيطَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقَتْلُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ دِيَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا حِرْمَانُ الْإِرْثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُلْحَقُ بِالْخَطَأِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَمَا جُعِلَ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي نُسْخَةِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ: لَوْ ضَرَبَ إنْسَانًا ضَرْبَةً لَا أَثَرَ لَهَا فِي النَّفْسِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا. وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: رَجُلٌ صَاحَ عَلَى آخَرَ فَخَافَ فَمَاتَ مِنْ صَيْحَتِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَلَوْ سَلَخَ جِلْدَةَ وَجْهِهِ فَمَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ. (فَصْلٌ) : لَوْ قُتِلَ الرَّجُلُ عَمْدًا، وَلَهُ وَلِيٌّ وَاحِدٌ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ قِصَاصًا سَوَاءٌ قَضَى الْقَاضِي أَوْ لَمْ يَقْضِ، وَيَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ وَيَضْرِبُ عِلَاوَتَهُ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ بِغَيْرِ السَّيْفِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يُعَزَّرُ إلَّا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَصَارَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ بِالْعَصَا أَوْ بِالْحَجَرِ أَوْ سَاقَ عَلَيْهِ دَابَّةً أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَأَلْقَاهُ فِيهَا أَوْ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِنَفْسِهِ وَيَأْمُرَ غَيْرَهُ بِقَتْلِهِ، فَإِذَا قَتَلَهُ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا وَلَا ضَمَانَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، هَذَا إذَا قَتَلَ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، أَمَّا إذَا قَتَلَ فَقَالَ الْوَلِيُّ: كُنْتُ أَمَرْتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ. : رَجُلَانِ اصْطَدَمَا فَوَقَعَا فَمَاتَا، إنْ وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِهِ لَا شَيْءَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دِيَةِ صَاحِبِهِ. وَإِنْ وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَفَاهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ صَاحِبِهِ، وَلَوْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَجْهِهِ وَالْآخَرُ عَلَى قَفَاهُ فَدَمُ الَّذِي وَقَعَ عَلَى وَجْهِهِ هَدَرٌ وَدِيَةُ الْآخَرِ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهِ. (فَرْعٌ) : مِنْدِيلٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا طَرَفًا، وَالْآخَرُ الطَّرَفَ الْآخَرَ فَتَجَاذَبَا فَوَقَعَا فَمَاتَا، فَإِنْ وَقَعَا مُنْبَطِحَيْنِ تَجِبُ دِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ، وَلَوْ وَقَعَا مُسْتَلْقِيَيْنِ عَلَى قَفَاهُمَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا مُنْبَطِحًا وَالْآخَرُ مُسْتَلْقِيًا لَا تَجِبُ دِيَةُ الْمُسْتَلْقِي وَتَجِبُ دِيَةُ الْمُنْبَطِحِ. وَفِي الْعُيُونِ: لَوْ قَطَعَ رَجُلٌ الْمِنْدِيلَ فَوَقَعَا عَلَى أَقْفِيَتِهِمَا فَمَاتَا ضَمِنَ الْقَاطِعُ دِيَتَهُمَا وَالْمِنْدِيلَ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَعَنْ الْإِمَامِ الْفَضْلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاطِعِ شَيْءٌ لَا الدِّيَةُ وَلَا الْقِصَاصُ. (مَسْأَلَةٌ) : صَبِيٌّ فِي يَدِ أَبِيهِ جَذَبَهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِ أَبِيهِ وَالْأَبُ يُمْسِكُهُ حَتَّى مَاتَ فَدِيَةُ الصَّبِيِّ عَلَى مَنْ جَذَبَهُ وَيَرِثُهُ أَبُوهُ، وَإِنْ جَذَبَهُ الرَّجُلُ وَجَذَبَهُ الْأَبُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ وَلَا يَرِثُهُ أَبُوهُ.

القسم الثاني في الجراح والأطراف والمنافع

مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ فَجَذَبَ الرَّجُلُ يَدَهُ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ، إنْ أَخَذَهُ بِالْمُصَافَحَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْيَدِ، وَإِنْ عَقَدَهَا فَمَدَّهَا ضَمِنَ الْقَابِضُ دِيَةَ الْيَدِ. وَلَوْ عَضَّ ذِرَاعَ رَجُلٍ فَجَذَبَ الْمَعْضُوضُ ذِرَاعَهُ مِنْ فِيهِ فَسَقَطَ بَعْضُ أَسْنَانِهِ وَذَهَبَ بَعْضُ لَحْمِ الْمَعْضُوضِ فَدِيَةُ الْأَسْنَانِ هَدَرٌ، وَيَضْمَنُ الْعَاضُّ أَرْشَ ذِرَاعٍ، هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ ثَوْبٌ فَتَشَبَّثَ بِالثَّوْبِ رَجُلٌ فَجَذَبَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ مِنْ يَدِ الْمُتَشَبِّثِ فَتَخَرَّقَ الثَّوْبُ ضَمِنَ الْمُتَشَبِّثُ نِصْفَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي جَذَبَ الثَّوْبَ مَنْ لَبِسَ الثَّوْبَ ضَمِنَ جَمِيعَ الْخَرْقِ. اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ. [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْجِرَاحِ وَالْأَطْرَافِ وَالْمَنَافِعِ] وَيَنْقَسِمُ إلَى عَمْدٍ وَخَطَأٍ. وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مَشْرُوعٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَالْمُمَاثَلَةُ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَجْزَاءِ وَالشِّجَاجُ عَشْرَةٌ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الشَّجَّةَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَقْطَعَ الْجِلْدَ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَقْطَعْ فَلَا تَكُونُ شَجَّةً وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنْ قَطَعَتْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُظْهِرَ الدَّمَ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ تُظْهِرْ فَهِيَ الْحَارِصَةُ، وَإِنْ أَظْهَرَتْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسِيلَ الدَّمُ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَسِلْ فَهِيَ الدَّامِعَةُ، وَإِنْ أَسَالَتْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ قَطَعَتْ بَعْضَ اللَّحْمِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَقْطَعْ فَهِيَ الدَّامِيَةُ، وَإِنْ قَطَعَتْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ أَكْثَرَ اللَّحْمِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَظْمِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ اللَّحْمِ فَهِيَ الْبَاضِعَةُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُظْهِرَ الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ الْحَائِلَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ أَمْ لَا؛ فَإِنْ لَمْ تُظْهِرْ فَهِيَ الْمُتَلَاحِمَةُ، وَإِنْ أَظْهَرَتْ فَهِيَ السِّمْحَاقُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ انْحَسَرَتْ عَلَى إظْهَارِ الْعَظْمِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَنْحَسِرَ عَلَى كَسْرِ الْعَظْمِ أَمْ لَا، فَإِنْ انْحَسَرَتْ عَلَيْهِ فَالْهَاشِمَةُ، وَإِنْ لَمْ تَنْحَسِرْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَنْحَسِرَ عَلَى نَقْلِ الْعَظْمِ وَتَحْوِيلِهِ مِنْ غَيْرِ وُصُولٍ إلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي بَيْنَ الْعَظْمِ وَالدِّمَاغِ أَمْ لَا؛ فَإِنْ انْحَسَرَتْ فَهِيَ الْمُنَقِّلَةُ، وَإِلَّا فَهِيَ الْآمَّةُ وَهِيَ الْعَاشِرَةُ. وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ مَا بَعْدَهَا، وَهِيَ الدَّامِغَةُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُخْرِجُ الدِّمَاغَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَبْقَى بَعْدَهَا فَكَانَ ذَلِكَ قَتْلًا لَا شَجَّةً، وَالْكَلَامُ فِي الشَّجَّةِ لَا فِي الْقَتْلِ، فَعُلِمَ أَنَّ حَصْرَ الشِّجَاجِ فِي تَعَاقُبِ أَثَرِهَا. هَكَذَا قَرَّرَ فِي الْمَبْسُوطِ. فَفِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ عَمْدًا، وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ لَا فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ شَجَّةٍ مِنْ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ فِيمَا ذُكِرَ بَعْدَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْآمَّةِ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ، وَفِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ حُكُومَةٌ عَلَى مَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَبَسْطُ هَذَا الْبَابِ وَذِكْرُ الْمُقَدِّمَاتِ وَمَا فِيهَا وَأَحْكَامِ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ يُخْرِجُنَا عَنْ الْمَقْصُودِ، وَالْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالسِّيَاسَةِ. [فَصْلٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَقْلِ وَهُوَ الشُّرْبُ] (فَصْلٌ) : فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَقْلِ وَهُوَ الشُّرْبُ إذَا كَانَ شَارِبُ الْخَمْرِ حُرًّا مُسْلِمًا مُكَلَّفًا وَشَرِبَهُ مُخْتَارًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا عُذْرٍ فَإِنَّهُ يُحَدُّ ثَمَانِينَ سَوْطًا، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَيُجْلَدُ أَرْبَعِينَ، فَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَوُجِدَ سَكْرَانَ تُرِكَ، وَإِنْ أَعْلَنَ بِذَلِكَ عُوقِبَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَدَّ مِنْ الْخَمْرِ يَجِبُ بِنَفْسِ الشُّرْبِ وَلَوْ قَطْرَةً، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ حَتَّى يَسْكَرَ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ كَانَتْ الرَّائِحَةُ تُوجَدُ مِنْهُ عِنْدَ الْأَخْذِ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ إلَى الْإِمَامِ انْقَطَعَتْ الرَّائِحَةُ بِسَبَبِ بُعْدِ الْمَسَافَةِ لَمْ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الْعُذْرِ، وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَنْ يَهْذِيَ وَيَخْلِطَ كَلَامَهُ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ أَقَرَّ بَعْدَ زَوَالِ الرِّيحِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ حَتَّى يُقِرَّ، وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ رِيحِهَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحَدُّ. وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ رِيحُهَا أَوْ تَقَايَأَهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شَرِبَهَا مُكْرَهًا وَلِأَنَّ الرَّائِحَةَ تَشْتَبِهُ.

فصل حكم الحشيشة

مَسْأَلَةٌ) : إذَا رَجَعَ شَارِبُ الْمُسْكِرِ أَوْ الْخَمْرِ عَنْ إقْرَارِهِ لَا يُحَدُّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي الرُّجُوعِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ سَكْرَانُ لَا يُحَدُّ لِجَوَازِ كِذْبِهِ فِي الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ السُّكْرِ فَتَقُومُ الشُّبْهَةُ، وَلَا كَذَلِكَ سَائِرُ الْحُقُوقِ. (مَسْأَلَةٌ) : وُجِدَ سَكْرَانُ وَتُوجَدُ مِنْهُ الرَّائِحَةُ لَا يُحَدُّ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَلَوْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ دُونَ السُّكْرِ يُعَزَّرُ وَلَا يُؤَخَّرُ التَّعْزِيرُ حَتَّى يَزُولَ السُّكْرُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ وُجِدَ يَحْمِلُ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ يُعَزَّرُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَيُضْرَبُ الْمُسْلِمُ بِبَيْعِ الْخَمْرِ ضَرْبًا وَجِيعًا بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ حَتَّى يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ، فَإِنْ بَاعَ فِي الْمِصْرِ بَعْدَ التَّقَدُّمِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَسْقُطْ الضَّرْبُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. (فَرْعٌ) : وَيُنْزَعُ ثَوْبُ الشَّارِبِ عِنْدَ الضَّرْبِ، وَيُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ كَمَا يَأْتِي فِي فَصْلِ الزِّنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -، وَضَرْبُ الشَّارِبِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَسَبَبُ حَدِّ الْقَذْفِ مُتَرَدِّدٌ. [فَصْلٌ حُكْم الْحَشِيشَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَشِيشَةُ فَفِيهَا الْأَدَبُ بِقَدْرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهَا تُغَطِّي الْعَقْلَ، بِخِلَافِ الْعَقَاقِيرِ الْهِنْدِيَّةِ فَإِنْ أُكِلَتْ لِتَغْطِيَةِ الْعَقْلِ امْتَنَعَ أَكْلُهَا حِينَئِذٍ. (فَرْعٌ) : وَالظَّاهِرُ جَوَازُ مَا سُقِيَ مِنْ الْمُرْقِدِ لِقَطْعِ عُضْوٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمُرْقِدِ مَأْمُونٌ، وَضَرَرُ الْعُضْوِ غَيْرُ مَأْمُونٍ. [فَصْلٌ فِي السَّرِقَة] (فَصْلٌ) : السَّارِقُ كُلُّ بَالِغٍ عَاقِلٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ فِي جَمَاعَةِ السُّرَّاقِ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَلِيَا إخْرَاجَ الْمَتَاعِ دُرِئَ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَلِيَ سِوَاهُمَا قُطِعُوا إلَّا الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلَيْنِ أَقَرَّا بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ يُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: الثَّوْبُ ثَوْبُنَا لَمْ نَسْرِقْهُ دُرِئَ عَنْهُمَا الْقَطْعُ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا سَرَقْنَا هَذَا الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ قُطِعَ الْمُقِرُّ وَحْدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَلَوْ شَارَكَ صَبِيٌّ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٌ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، أَوْ كَانَ شَرِيكًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي الْمَتَاعِ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ وَالْمَحْرَمِ، وَلَا يَجِبُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا شَرِيكًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا كَانَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ أَخْرَسُ. [فَصْلٌ النِّصَابَ فِي بَابِ السَّرِقَةِ] (فَصْلٌ) : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النِّصَابَ فِي بَابِ السَّرِقَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَدَّرَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ بِرُبْعِ دِينَارٍ، وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ تِبْرًا لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهَا عَشْرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ لَمْ يُقْطَعْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا سَرَقَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ قُطِعَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَضْرُوبِ إذَا كَانَ جَارِيًا، وَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ كَامِلَةً وَقْتَ السَّرِقَةِ ثُمَّ انْتَقَصَتْ فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي عَيْنِهَا لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ السِّعْرِ سَقَطَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَوْ سَرَقَ فِي بَلَدٍ وَوُجِدَ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَالْقِيمَةُ فِيهِ أَنْقَصُ لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى تَكُونَ الْقِيمَةُ فِي الْبَلَدَيْنِ عَشْرَةً. اُنْظُرْ الْإِيضَاحَ. [فَصْلٌ الْحِرْز فِي السَّرِقَة] (فَصْلٌ) : وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْحِرْزَ مُعْتَبَرٌ وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِمَا يُعَدُّ لِلْإِحْرَازِ كَالدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ

فصل عقوبة السرقة

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُحْرَزًا بِالْحَافِظِ، فَإِنَّ مَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعُهُ فَهُوَ مُحْرَزٌ بِهِ، وَمَا كَانَ حِرْزًا لِنَوْعٍ فَهُوَ حِرْزٌ لِسَائِرِ الْأَنْوَاعِ، حَتَّى قِيلَ شَرِيحَةُ الْبَقَّالِ حِرْزٌ لِلْجَوْهَرِ، وَسَوَاءٌ سُرِقَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَفْتُوحُ الْبَابِ أَوْ لَا بَابَ لَهُ إذَا حُجِزَ الْبِنَاءُ، وَالْمَكَانُ الَّذِي لَمْ يُوضَعْ لِلْحِرْزِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَافِظُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَافِظُ نَائِمًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ مُسْتَيْقِظًا، وَمَا كَانَ مُحْرَزًا بِالْأَبْنِيَةِ فَأُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهِ فَسَرَقَ هَذَا الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الدُّخُولِ لَمْ يُقْطَعْ وَلَمْ يَكُنْ حِرْزًا فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ حَافِظٌ أَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ نَائِمًا عَلَيْهِ. [فَصْلٌ عُقُوبَة السَّرِقَةِ] (فَصْلٌ) : فِي عُقُوبَةِ السَّرِقَةِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، وَمَحَلُّهُ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى مِنْ مِفْصَلِ الزَّنْدِ وَإِبْهَامِ الْيُمْنَى بِشَرَائِطَ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْيُسْرَى صَحِيحَةً وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى صَحِيحَةً، فَإِنْ كَانَتْ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ أَوْ مَقْطُوعَةَ الْإِبْهَامِ أَوْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ سِوَى الْإِبْهَامِ لَمْ تُقْطَعْ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَكُونُ إهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ. وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا سَرَقَ وَإِبْهَامُ يَدِهِ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ أَوْ اثْنَتَانِ سِوَى الْإِبْهَامِ لَمْ تُقْطَعْ الْيُمْنَى، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً سِوَى الْإِبْهَامِ تُقْطَعُ، وَلَا قَطْعَ فِي الْيَدِ الْيُسْرَى عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَا فِي الرِّجْلِ الْيُمْنَى، وَإِنَّمَا تُقْطَعُ الْيُمْنَى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى فِي الْكَرَّةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ يُعَزَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُحْبَسُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى فِي الْكَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، فَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ حُبِسَ. وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ: يُقْتَلُ. وَالْقَطْعُ لِوُجُوبِهِ شُرُوطٌ بَعْضُهَا فِي السَّارِقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ، وَأَنَّهُ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ جِنَايَةٍ، وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ جِنَايَةً مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ قَرَابَةُ وِلَادَةٍ أَوْ قَرَابَةُ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجِيَّةٍ. وَبَعْضُهَا فِي الْمَسْرُوقِ، وَهُوَ كَوْنُهُ نِصَابًا بِالْإِجْمَاعِ. [فَصْلٌ بَاعَ السَّارِقُ الْعَيْنَ مِنْ غَيْرِهِ] (فَصْلٌ) : مَا أَوْجَبَ الْقَطْعَ فَإِنَّ السَّارِقَ لَا يَضْمَنُ إذَا قُطِعَ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ وَيَضْمَنُ مَا اسْتَهْلَكَ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً رُدَّتْ إلَى الْمَالِكِ. وَلَوْ سَقَطَ الْقَطْعُ بِشُبْهَةٍ مُعْتَرِضَةٍ نَحْوَ أَنْ مَلَكَ بَعْضَ الْمَسْرُوقِ ضَمِنَ، وَلَوْ بَاعَ السَّارِقُ الْعَيْنَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ وَهَبَ رُدَّتْ عَلَى صَاحِبِهَا وَالتَّمْلِيكُ بَاطِلٌ، فَإِنْ هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَقَدْ كَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَطْعِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ وَلَا عَلَى الْقَابِضِ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَلَوْ غَصَبَ إنْسَانٌ مِنْ السَّارِقِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بَعْدَ الْقَطْعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ وَلَا عَلَى الْغَاصِبِ. قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ بَعْدَ الْقَطْعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَضْمَنُ إذَا اسْتَهْلَكَ، وَلَوْ هَلَكَ أَوْ سَرَقَ لَمْ يَضْمَنْ. وَلَوْ وَجَدَهُ الْمَالِكُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ السَّارِقِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَيَرْجِعَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ اسْتَهْلَكَ كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ وَيَرْجِعَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ دُونَ الْقِيمَةِ. اُنْظُرْ الْإِيضَاحَ. [فَصْلٌ فِي الزِّنَا] (فَصْلٌ) : الْحَدُّ الْوَاجِبُ بِالزِّنَا نَوْعَانِ: رَجْمٌ وَجَلْدٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ. فَأَمَّا الْبِكْرُ فَحَدُّهُ الْجَلْدُ، وَالتَّغْرِيبُ لَيْسَ بِحَدٍّ وَلَكِنَّ الْإِمَامَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ - سِيَاسَةً - جَازَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ سَنَةً، وَالرَّجْمُ يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَنِ، وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي الْفَرْجِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ وَالْإِسْلَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهُوَ أَحَدُ

فصل يثبت إحصان الزاني بالإقرار أو بالبينة

قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ، وَإِحْصَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجِ شَرْطٌ لِيَصِيرَ بِهِ الْآخَرُ مُحْصَنًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إسْلَامُ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. [فَصْلٌ يَثْبُتُ إحْصَانُ الزَّانِي بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ] (فَصْلٌ) : إذَا ثَبَتَ إحْصَانُ الزَّانِي بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ فَهُوَ سَوَاءٌ وَيُرْجَمُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ جَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا صَارَ مُحْصَنًا، كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ جَامَعَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُكْتَفَى بِقَوْلِهِمْ دَخَلَ بِهَا. [فَصْلٌ فِي صِفَةِ الزِّنَا] (فَصْلٌ) : فِي صِفَةِ الزِّنَا الزِّنَا عَلَمٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَحْظُورِ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَالشُّبْهَةُ عَلَى ضُرُوبٍ: شُبْهَةٌ فِي الْعَقْدِ؛ فَالْعَقْدُ إذَا وُجِدَ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ جَهِلَ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا وَالشَّافِعِيُّ: إذَا تَزَوَّجَ نِكَاحًا مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَالْخَامِسَةِ وَأُخْتِ الْمَرْأَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشُبْهَةٍ، وَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ إذَا عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) : الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: جَارِيَةُ الْأَبِ، وَجَارِيَةُ الْأُمِّ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً مِنْهُ، وَجَارِيَةُ الْمَنْكُوحَةِ، وَالْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ، وَالْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ يَطَؤُهَا الْمُرْتَهِنُ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ. وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّهُ يُحَدُّ الْمُرْتَهِنُ وَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ. وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إذَا ادَّعَى فَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الظَّنَّ وَجَبَ الْحَدُّ، وَإِنْ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَوْ لَمْ يَدَّعِهِ الْآخَرُ فَلَا حَدَّ حَتَّى يُقِرَّا جَمِيعًا بِأَنَّهُمَا عَلِمَا بِالْحُرْمَةِ. [فَصْلٌ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا] (فَصْلٌ) : وَالْإِقْرَارُ بِالزِّنَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي. وَقَالَ شَارِحُنَا: يُقَامُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا فَلَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ كَيْفَ يُقَامُ الْحَدُّ فِي الزِّنَا] (فَصْلٌ) : كَيْفَ يُقَامُ الْحَدُّ وَإِذَا حُكِمَ بِالرَّجْمِ أُمِرَ الشُّهُودُ أَنْ يَبْدَءُوا بِالرَّجْمِ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَلَا يُرْبَطُ الْمَرْجُومُ وَلَا يُمْسَكُ وَلَا يُحْفَرُ لَهُ إذَا كَانَ رَجُلًا وَلَكِنَّهُ يُقَامُ قَائِمًا وَيُنْصَبُ لِلنَّاسِ وَيُرْجَمُ. وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً، فَإِنْ شَاءَ حَفَرَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْفِرْ، وَلَا بَأْسَ لِكُلِّ مَنْ رَمَى أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ إلَّا إذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَرْجُومِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ. وَيُجَرَّدُ فِي التَّعْزِيرِ وَحَدِّ الزِّنَا، وَكَذَا فِي حَدِّ الشُّرْبِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ فِي الشُّرْبِ، وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَلَا يُجَرَّدُ فِيهِ، وَلَكِنْ يُنْزَعُ عَنْهُ الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُنْزَعُ عَنْهَا ثِيَابُهَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ إلَّا الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْحَدُّ فِي الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا مَا خَلَا الْفَرْجَ وَالْوَجْهَ وَالرَّأْسَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَّقِي الصَّدْرَ وَالْبَطْنَ وَيَضْرِبُ الرَّأْسَ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ وَيُفَرِّقُ عَلَى الْكَتِفَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ. وَأَمَّا فِي التَّعْزِيرِ فَلَا يُفَرِّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ. (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا ضَرَبَ النَّاسَ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا أَنْ يَضْرِبَ الرِّجَالَ قِيَامًا وَيَأْمُرَ الْجَلَّادَ أَنْ لَا يَرْفَعَ يَدَهُ بِالسَّوْطِ جِدًّا، وَلَا يُخَفِّفَهَا جِدًّا وَلَكِنْ وَسَطًا مِنْ ذَلِكَ. وَضَرْبُ الشَّابِّ وَالشَّيْخِ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا سَوَاءٌ فِي الْإِيجَاعِ، وَإِذَا اقْتَصَّ لِلنَّاسِ فِي جِرَاحَاتِهِمْ دَعَا بِطَبِيبٍ رَفِيقٍ يَقْتَصُّ لَهُمْ، وَأُجْرَتُهُ عَلَى الْمُقْتَصِّ لَهُ.

فصل في القذف

وَيُسْتَحَبُّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَخْتَارَ رَجُلًا عَدْلًا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى أَهْلِهَا عَارِفًا بِوُجُوهِ ذَلِكَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَقِّ، فَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُقِيمُ الْحَدَّ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي خِلَافَتِهِمَا، وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ إلَّا بِالسَّوْطِ وَلَا تَكُونُ بِالدِّرَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنَّمَا كَانَتْ دِرَّةُ عُمَرَ لِلْأَدَبِ، فَإِذَا حَضَرَتْ الْحُدُودُ قُرِّبَ السَّوْطُ، وَلَا يُعَادُ الْحَدُّ بِالسَّوْطِ إذَا أُقِيمَ بِالدِّرَّةِ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْ الدِّرَّةِ مَا هُوَ أَوْجَعَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ السِّيَاطِ، فَلَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ حَدَّانِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الدِّرَّةُ لَطِيفَةً لَا تُؤْلِمُ وَلَا تُوجِعُ فَيُعَادُ الْحَدُّ بِالسَّوْطِ، وَلَا يُعْتَمَدُ بِضَرْبَةٍ مَكَانَ ضَرْبَةٍ قَبْلَهَا، بَلْ يُفَرَّقُ عَلَيْهِ الضَّرْبُ؛ إذْ فِيهِ رَاحَةٌ لَهُ، وَلَا يُشَطَّطُ بِالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَلَا يُمَدُّ بِحَالٍ، وَلَا تُرْبَطُ يَدَاهُ بَلْ تُتْرَكُ لَهُ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ. هَذَا فِي الْحُدُودِ. وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ وَالتَّعْزِيرَاتُ فَمَا عَظُمَ مِنْهَا فَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحُدُودِ، وَمَا خَفَّ مِنْهَا عُوقِبَ صَاحِبُهُ عَلَى شَأْنِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ بِحَبْسٍ دُونَ ضَرْبٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَيَكُونُ السَّوْطُ الَّذِي يُجْلَدُ بِهِ مُتَوَسِّطًا لَا جَدِيدًا وَلَا خَلَقًا، وَيَكُونُ قَدْ قُطِعَتْ ثَمَرَتُهُ وَثَمَرَةُ السَّوْطِ عُقْدَةُ طَرَفِهِ، كَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ. [فَصْلٌ فِي الْقَذْفِ] (فَصْلٌ) : عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي رِضًا أَوْ غَضَبٍ: لَسْتَ لِأَبِيكَ فَهَذَا قَذْفٌ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ قَالَ لَيْسَ هَذَا أَبَاكَ، فَإِنْ قَالَ فِي رِضًا أَوْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ، وَلَوْ قَالَ فِي غَضَبٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ فَهُوَ قَذْفٌ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ قَالَ: لَسْتَ لِأَبِيكَ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ تَلِدْكَ أُمُّكَ، وَإِنَّمَا الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَلِدُ مِنْ الزِّنَا لَا الَّتِي لَا تَلِدُ، بِخِلَافِ نَفْيِهِ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ نَسَبَهُ وَنَفَاهُ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِي بِزِنَا الْأُمِّ فَكَانَ قَذْفًا. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ، وَأُمُّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ مُسْلِمَةٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا يُبَالِي بِحَالِ الْجَدَّةِ؛ لِأَنَّ الْأُمِّيَّةَ حَقِيقَةٌ لِلْوِلَادَةِ، وَالْجَدَّةُ تُسَمَّى بِهَا مَجَازًا. (فَرْعٌ) : وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ مِائَةِ زَانِيَةٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ الْأُمِّ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ زَنَتْ مِائَةَ مَرَّةٍ. (فَرْعٌ) : لَوْ قَالَ: أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَهُوَ قَاذِفٌ لِلْأَجْنَبِيِّ وَلِأُمِّ ذَلِكَ الَّذِي خَاطَبَ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ لِنَفْيِ النَّسَبِ لَكِنْ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّشْبِيهِ بِهِ فِي أَخْلَاقِهِ فَتُحْكَمُ الْحَالَةُ، فَإِنْ كَانَ فِي غَضَبٍ يُجْعَلُ قَذْفًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي رِضًا يُحْمَلُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ، كَذَا فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ قَالَ: لَسْتَ لِآدَمَ أَوْ لِإِنْسَانٍ أَوْ لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى نِسْبَةِ الْأُمِّ إلَى الزِّنَا فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا. وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزِّنَا فَهُوَ قَاذِفٌ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا مَقْبُوحُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يُضِيفَ الْفِعْلَ إلَى السَّبِيلِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ قَذْفًا بِحَالٍ وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ اللِّوَاطَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِمَعْنَى الزِّنَا. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّ الْقَحْبَةَ اسْمٌ لِلْمُتَعَرِّضَةِ لِلزِّنَا دُونَ الزَّانِيَةِ. [فَصْلٌ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَذْفِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَذَفَهُ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَذْفِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَذَفَهُ فِيهِ أَوْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَذَفَهُ فِيهِ وَجَبَ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَجِبُ الْحَدُّ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ فَقَالُوا رَأَيْنَاهُ يَزْنِي فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ قَالَ لَا يُحَدُّ وَلَا يُحَدُّونَ. وَلَوْ قَالُوا: رَأَيْنَاهُ يَزْنِي ثُمَّ قَالُوا بَعْدَ قَطْعِ الْكَلَامِ زَنَى فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ضُرِبُوا الْحَدَّ. اُنْظُرْ الْإِيضَاحَ.

فصل من له المطالبة بحد القذف

مَسْأَلَةٌ) : لَوْ صَدَّقَ الْمَقْذُوفُ الْقَاذِفَ فِي قَذْفِهِ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِذَلِكَ جَازَتْ الشَّهَادَةُ وَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْقَذْفِ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي. (مَسْأَلَةٌ) : وَإِذَا ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ صَدَّقَهُ جَازَتْ عَلَى ذَلِكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي. (فَرْعٌ) : وَلَوْ ادَّعَى الْمَقْذُوفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ عَلَى قَذْفِهِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَحْبِسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِقِيَامِ الْحَاكِمِ مِنْ مَجْلِسِهِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمُلَازَمَةَ وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ. (فَرْعٌ) : لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا أَوْ شَاهِدَيْنِ لَا يَعْرِفُهُمَا الْقَاضِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْبِسُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْبِسُهُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتٍ الْحَقِّ، بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فَإِنَّ قَوْلَهُمَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْحُجَّةُ تُوجَدُ بِالْعَدَدِ وَيُعْمَلُ بِهَا عِنْدَ الْعَدَالَةِ، وَإِذَا وُجِدَ الْوَاحِدُ عَدْلًا وُجِدَ الْوَصْفُ وَالْعَمَلُ لِلشَّهَادَةِ فَأَوْرَثَ التُّهْمَةَ، وَالْحَبْسُ شَرْعٌ عِنْدَ التُّهْمَةِ اُنْظُرْ شَرْحَ التَّجْرِيدِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً وَاحِدَةً وَادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً أُخْرَى خَارِجَ الْمِصْرِ لَا يُحْبَسُ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّ شُهُودَهُ غُيَّبٌ وَطَلَبَ التَّأْجِيلَ مِنْ الْقَاضِي لَمْ يُؤَجِّلْهُ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّ شُهُودَهُ حُضُورٌ فِي الْمِصْرِ أَجَلَّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيَامِ الْقَاضِي فَيَلْزَمُهُ وَيَقُولُ: ابْعَثْ إلَى شُهُودِكَ وَأَحْضِرْهُمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُؤَجَّلُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ التَّكْفِيلَ اسْتِيثَاقٌ، وَإِنَّهُ لَا يُلَائِمُ الْحُدُودَ، وَالتَّأْجِيلُ أَكْثَرُ مِنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي مَنْعٌ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ بِلَا حُجَّةٍ فَلَا يَجُوزُ. (فَرْعٌ) : رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ إذَا ادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَبْعَثُ بِهِ إلَى الشُّهُودِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبْعَثُ مَعَهُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرَطِ مَنْ يَحْفَظُونَهُ وَلَا يُتْرَكُ حَتَّى يَفِرَّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ضُرِبَ الْحَدَّ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ قَذْفِهِ أَطْلَقْتُ شَهَادَتَهُ وَأَجَزْتُهَا؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَقْذُوفَ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا، وَكَلَامُهُ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، وَأَنَّهُ جُلِدَ خَطَأً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِحَدِّ الْقَذْفِ] (فَصْلٌ) : فِيمَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ حَدُّ الْقَذْفِ لَا يُوَرَّثُ وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْإِرْثُ لَا يَجُوزُ فِي حُقُوقِهِ، وَلَوْ قَذَفَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلِوَلَدِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْحَدِّ، وَلِابْنِ الِابْنِ وَبِنْتِ الِابْنِ، وَلَا يَأْخُذُ الْحَدَّ لِلْمَيِّتِ إلَّا وَالِدٌ أَوْ وَلَدٌ، وَلَا يَأْخُذُ ذَلِكَ أَخٌ وَلَا عَمٌّ وَلَا مَوْلًى؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ يَتَنَاوَلُ الْوَلَدَ بِاعْتِبَارِ الْإِيجَادِ الثَّابِتِ بِالْجُزْئِيَّةِ وَلَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ وَلَدُ الِابْنِ وَوَلَدُ الْبِنْتِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَأْخُذُ الْحَدَّ مَنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ، يُرِيدُ بِهِ وَلَدَ الِابْنِ دُونَ وَلَدِ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ بِالْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ، وَيَجُوزُ لِلْأَبْعَدِ مِنْ الْوَلَدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ مَعَ بَقَاءِ الْأَقْرَبِ، فَيَكُونُ لِابْنِ الِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ مَعَ بَقَاءِ الِابْنِ خِلَافًا لِزُفَرَ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ وَإِنْ عَلَا بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَلَا جَدَّتَهُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ وِلَايَةُ عُقُوبَةٍ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ كَالْقِصَاصِ. (مَسْأَلَةٌ) : يُسْتَحْسَنُ مِنْ الْحَاكِمِ إذَا رَفَعَهُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُثْبِتَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا. [فَصْلٌ فِي الْحِرَابَةِ وَعُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) :

فصل في عقوبة قطاع الطريق

صِفَةُ الْمُحَارِبِ وَهُوَ الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ بِهِ مَنَعَةٌ وَكُلُّ مَنْ خَرَجَ فِي غَيْرِ مِصْرٍ بِسِلَاحٍ أَوْ خَشَبٍ فَامْتَنَعَ وَقَدَرَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَدْ حَارَبَ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَارِبٍ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقَامُ عَلَيْهِ؛. لِأَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ فَلَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ، فَكَذَا حُكْمُهَا. قُلْنَا: إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ لَا بِجِنَايَةٍ مُطْلَقَةٍ، وَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمِصْرِ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ أَمْنٍ عَلَى وَجْهٍ يُقْطَعُ الطَّرِيقُ بِهِ وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ خَارِجَ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَطْعُ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا كَانَ فِي زَمَانِهِ، وَأَمَّا الْآنَ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْبَرِّيَّةِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُحَارِبًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَحْفُوظٌ فِي الصَّحْرَاءِ بِحِفْظِ اللَّهِ، وَالْمُتَعَرِّضُ لَهُ مُتَصَوِّرٌ بِصُورَةِ الْمُحَارِبِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَمَنْ لَمْ يُبَاشِرْ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ مُضَافٌ إلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَمْ يُبَاشِرْ مُعِينٌ لِلْمُبَاشِرِ وَمُحَقِّقٌ مَعْنَى فِعْلِهِ بِتَرَصُّدِهِ لِلدَّفْعِ عَنْهُ وَالْإِرْهَابِ فَصَارَ كَالرَّدِّ فِي بَابِ الْغَنِيمَةِ. [فَصْلٌ فِي عُقُوبَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) : فِي عُقُوبَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الْآيَةَ، فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَمَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا نُفِيَ، وَمَنْ أَخَذَ مَالًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قُتِلَ، وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ فَالْإِمَامُ فِيهِ مُخَيَّرٌ فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَصَلَبَهُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْفِيهِ مِنْ الصَّلْبِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُقْتَلُ وَلَا يُصْلَبُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مِنْ الصَّلْبِ عُقُوبَتَانِ، كُلٌّ مُقَيَّدَةٌ بِحَالَةٍ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ، وَيَصْلُبُهُ الْإِمَامُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ. وَأَمَّا النَّفْيُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَحْبِسَهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً، فَإِنْ تَابَ قَبْلَ الْأَخْذِ وَثُبُوتِ الْيَدِ؛ سَقَطَ الْحَدُّ وَإِنْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ. (فَصْلٌ) : إذَا سَقَطَ الْحَدُّ دُفِعَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ بِحَدِيدَةٍ إلَى الْأَوْلِيَاءِ فَيَقْتُلُونَ أَوْ يَعْفُونَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ الْفِعْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَطْعًا لِلطَّرِيقِ لَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ قَتْلًا فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَحُكْمُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ مَا ذَكَرْنَاهُ. (فَرْعٌ) : وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ بِعَصًا أَوْ حَجَرٍ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، وَكَذَا إذَا تَابَ الْمُحَارِبُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَالْحُكْمُ فِي الْقِصَاصِ وَضَمَانِ الْأَمْوَالِ نَحْوُ مَا لَوْ أَخَذُوا مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَكَذَا إذَا أَخَذُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ وَلَمْ يَكُونُوا أَخَذُوا مَالًا وَلَا قَتَلُوا وَلَكِنْ أَصَابُوا جِرَاحَاتٍ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ فِيمَا يُسْتَطَاعُ، وَيَضْمَنُونَ مَا لَا يُسْتَطَاعُ وَيُسْتَوْدَعُونَ الْحَبْسَ حَتَّى يَتُوبُوا. [فَصْلٌ فِي السِّيرَةِ فِي الْبُغَاةِ] (فَصْلٌ) : فِي السِّيرَةِ فِي الْبُغَاةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ بَيْتَهُ وَلَا يَخْرُجَ إلَى الْفِتْنَةِ فَإِنْ دَعَاهُ الْإِمَامُ وَعِنْدَهُ غِنًى وَقُدْرَةٌ لَمْ يَسَعْهُ التَّخَلُّفُ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فَرْضٌ حَالَةَ الْقُدْرَةِ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا بَلَغَهُ أَنَّ الْخَوَارِجَ يَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الشَّرِّ قَبْلَ وُقُوعِهِ أَسْهَلُ مِنْ الدَّفْعِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ الْإِمَامُ حَتَّى تَعَسْكَرُوا وَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ بَعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْعَدْلِ رَجَاءَ أَنْ يَعُودُوا إلَيْهِ، وَقَدْ بَعَثَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إلَى أَهْلِ حَرُورَاءَ يَدْعُوهُمْ إلَى الْعَدْلِ، فَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ،

فصل في الردة

فَإِنْ هَزَمَهُمْ وَلَهُمْ فِئَةٌ يَلْجَئُونَ إلَيْهَا فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ الْعَدْلِ أَنْ يَتْبَعَ مُدْبِرَهُمْ وَيُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَيَقْتُلَ أَسِيرَهُمْ وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَّاهُمْ يَعُودُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. (مَسْأَلَةٌ) : مَا ظَفَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ مِنْ كُرَاعِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَسِلَاحِهِمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ أَسْلِحَةَ أَهْلِ الْعَدْلِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ. (مَسْأَلَةٌ) : مَا أَصَابَ الْإِمَامُ مِنْ الْخَوَارِجِ حَبَسَ عَنْهُمْ، فَإِذَا زَالَ بَغْيُهُمْ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا أَصَابَ الْخَوَارِجُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ دَمٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ فَذَلِكَ مَوْضُوعٌ، وَمَا فَعَلُوهُ قَبْلَ التَّحَيُّزِ وَالْخُرُوجِ يُؤْخَذُونَ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا فَعَلُوهُ بَعْدَ تَفَرُّقِ جَمْعِهِمْ. [فَصْلٌ فِي الرِّدَّةِ] (فَصْلٌ) : فِي الرِّدَّةِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهَا، وَنَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ، وَهِيَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَيَكُونُ بِصَرِيحٍ وَبِلَفْظٍ يَقْتَضِيهِ وَبِفِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ، فَالصَّرِيحُ وَاضِحٌ كَقَوْلِهِ: أُشْرِكُ بِاَللَّهِ أَوْ أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاللَّفْظُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مِثْلُ أَنْ يَنْسُبَ التَّأْثِيرَ إلَى النُّجُومِ وَمِثْلُ الْخَطِيبِ يَرَى كَافِرًا يُرِيدُ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ فَيَقُولَ لَهُ: اصْبِرْ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِي فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْخَطِيبِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ بَقَاءَ الْكُفْرِ، وَهَذَا رَأَيْتُهُ نَصًّا لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَلَكِنْ غَابَ عَنِّي مَوْضِعُهُ. وَوَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ فِي أَيَّامِ شِهَابِ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ بِمِصْرَ، وَكَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ - إذْ ذَاكَ - مُتَوَافِرِينَ، وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ: أَمَاتَ اللَّهُ الْبَعِيدَ كَافِرًا، فَأَفْتَى شَرَفُ الدِّينِ الْكُرْكِيُّ بِكُفْرِهِ، قَالَ:؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُكْفَرَ بِاَللَّهِ. وَأَفْتَى الْقَرَافِيُّ بِعَدَمِ كُفْرِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ إرَادَةَ الْكُفْرِ لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً لَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّغْلِيظَ فِي الشَّتْمِ وَإِرَادَةُ التَّكَفُّرِ شَيْءٌ يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ، وَمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ: لَوْ قَالَ لِآخَرَ: قَبَضَ اللَّهُ رُوحَكَ عَلَى الْكُفْرِ إنَّهُ لَا يَكْفُرُ، وَتَمَامُ ذَلِكَ اُنْظُرْهُ فِي الْخُلَاصَةِ فِي الْجِنْسِ الْخَامِسِ مِنْ كِتَابِ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ. وَاللَّفْظُ الَّذِي يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَجَحْدِهِ لِمَا عُلِمَ مِنْ الشَّرِيعَةِ ضَرُورَةً كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. اُنْظُرْ الْقُنْيَةَ، وَمَا حُكِيَ فِيهَا عَنْ نُظُمِ الزَّنْدَوَسْتِيِّ وَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ فَمِثْلُ التَّرَدُّدِ فِي الْكَنَائِسِ وَالْتِزَامِ الزُّنَّارِ فِي الْأَعْيَادِ. اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ. وَكَتَلْطِيخِ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ بِالنَّجَاسَاتِ وَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَكَذَا لَوْ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَيْهِ اسْتِخْفَافًا. مِنْ الْقُنْيَةِ. وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ دَالَّةٌ عَلَى الْكُفْرِ لَا أَنَّهَا كُفْرٌ لِمَا قَامَ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ التَّكْفِيرِ بِالذُّنُوبِ. (مَسْأَلَةٌ) : عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ إذَا طَلَبَ الْإِمْهَالَ أُجِّلَ ثَلَاثًا، وَتَوْبَتُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ وَيَتَبَرَّأَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ، فَإِنْ تَابَ الْمُرْتَدُّ ثُمَّ رَجَعَ فَارْتَدَّ ثُمَّ رَجَعَ كَانَ حُكْمُهُ فِي الدَّفْعَةِ الثَّانِيَةِ كَالدَّفْعَةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ الدَّفْعَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ، وَفِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ إذَا تَابَ يَضْرِبُهُ وَيُخَلِّي سَبِيلَهُ. وَقِيلَ: يُحْبَسُ حَتَّى يُرَى عَلَيْهِ خُشُوعُ التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا يَجِبُ قَتْلُهَا وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَإِجْبَارُهَا عَلَى الْإِسْلَام أَنْ تُحْبَسَ ثُمَّ يُخْرِجُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ فَيَعْرِضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ، فَإِنْ أَبَتْ ضَرَبَهَا أَسْوَاطًا ثُمَّ يَحْبِسُهَا، هَكَذَا يَفْعَلُ أَبَدًا. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَتْ فِي الْغَضَبِ أَنَا يَهُودِيَّةٌ أَوْ كَافِرَةٌ حُرِّمَتْ عَلَى الزَّوْجِ. مِنْ الْقُنْيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل من سب الله تعالى أو الملائكة والأنبياء أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

[فَصْلٌ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ أَوْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَصْلٌ) : فِيمَنْ سَبَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ أَوْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ اسْتَوْفَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالشِّفَاءِ الْكَلَامَ فِي هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ لِغَيْرِهِ مَقَالًا. وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا خِلَافَ أَنَّ سَابَّ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي اسْتِتَابَتِهِ. (فَصْلٌ) : وَمَنْ سَبَّ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ قُتِلَ. وَوَقَعَ فِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ قَالَ: لِقَاؤُكَ عَلَيَّ كَلِقَاءِ مَلَكِ الْمَوْتِ قَالَ الْحَاكِمُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنْ كَانَ قَالَهُ لِكَرَاهَةِ الْمَوْتِ لَا يَكْفُرُ، وَلَوْ قَالَهُ لِعَدَاوَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ يَكْفُرُ. (فَصْلٌ) : وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سَبِّ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ: مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ عَابَهُ أَوْ أَلْحَقَ بِهِ نَقْصًا فِي نَسَبِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ أَوْ عَرَّضَ بِهِ أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ وَالِازْدِرَاءِ عَلَيْهِ أَوْ النَّقْصِ لِشَأْنِهِ أَوْ الْغَضِّ مِنْهُ وَالْعَيْبِ لَهُ فَهُوَ سَابٌّ تَلْوِيحًا كَانَ أَوْ تَصْرِيحًا، وَكَذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ أَوْ دَعَا عَلَيْهِ أَوْ تَمَنَّى مَضَرَّةً لَهُ أَوْ نَسَبَ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ أَوْ عَبَثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنْ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ أَوْ عِصْمَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ وَالْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِ - قُتِلَ. قَالَ: هَذَا كُلُّهُ إجْمَاعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - إلَى هَلُمَّ جَرًّا. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا عَدْلٌ أَنَّ رَجُلًا سَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَدَبُ الْوَجِيعُ وَالتَّنْكِيلُ، وَيُطَالُ سِجْنُهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ. [فَصْلٌ فِيمَنْ سَبَّ أَزْوَاجَهُ أَوْ أَصْحَابَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (فَصْلٌ) : وَسَبُّهُمْ وَنَقْصُهُمْ حَرَامٌ مَلْعُونٌ فَاعِلُهُ، وَمَنْ شَتَمَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيًّا أَوْ مُعَاوِيَةَ أَوْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَإِنْ قَالَ: كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ وَكُفْرٍ قُتِلَ، وَإِنْ شَتَمَهُمْ بِغَيْرِ هَذَا مِنْ مُشَاتَمَةِ النَّاسِ نُكِّلَ نَكَالًا شَدِيدًا. (مَسْأَلَةٌ) : الرَّافِضِيُّ إنْ كَانَ يَسُبُّ الشَّيْخَيْنِ وَيَلْعَنُهُمَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يَكُونُ كَافِرًا، لَكِنَّهُ مُبْتَدِعٌ. وَالْمُعْتَزِلِيُّ مُبْتَدِعٌ إلَّا إذَا قَالَ بِاسْتِحَالَةِ الرُّؤْيَةِ فَحِينَئِذٍ هُوَ كَافِرٌ. وَالْمُشَبِّهُ مُبْتَدِعٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْيَدِ الْجَارِحَةَ فَهُوَ كَافِرٌ. وَالْمُبْتَدِعُ: صَاحِبُ الْبِدْعَةِ الْكَبِيرَةِ. وَفِي الْمُنْتَقَى: سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَقَالَ: أَنْ تُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ وَتُحِبَّ الْحَسَنَيْنِ وَتَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَتُصَلِّيَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَاَللَّهُ الْهَادِي. مِنْ الْخُلَاصَةِ. وَرَوَى مَالِكٌ: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ جُلِدَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قُتِلَ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ؟ فَقَالَ: مَنْ رَمَاهَا فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ. (فَصْلٌ) : وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهَا أَنْ يُقْتَلَ؛ لِأَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِسَبِّ حَلِيلَتِهِ، وَالْآخَرُ أَنَّهَا كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ يُجْلَدُ جَلْدَ الْمُفْتَرِي [فَصْلٌ مَنْ انْتَسَبَ إلَى آلِ النَّبِيِّ] (فَصْلٌ) : وَمَنْ انْتَسَبَ إلَى آلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضْرَبُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَيُشْهَرُ وَيُحْبَسُ طَوِيلًا حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. [فَصْلٌ مَنْ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ] (فَصْلٌ) : وَمَنْ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَوْ جَحَدَهُ أَوْ حَرْفًا مِنْهُ أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَوْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِذَلِكَ، أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا مَنْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ زَادَ فِيهِ كَفِعْلِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ لَيْسَ

فصل من سب نبيا أو ملكا من الملائكة

فِيهِ حُجَّةٌ وَلَا مُعْجِزَةٌ كَقَوْلِ هِشَامٍ الْقُرَظِيِّ وَمَعْمَرٍ الضَّمْرِيِّ إنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ وَلَا حُكْمٍ فَلَا مَحَالَةَ فِي كُفْرِهِمَا بِهَذَا الْقَوْلِ. وَكَذَا نُكَفِّرُهُمَا بِإِنْكَارِهِمَا أَنْ يَكُونَ فِي سَائِرِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ حُجَّةٌ لَهُ، أَوْ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِمُخَالَفَتِهِمَا الْإِجْمَاعَ وَالنَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِاحْتِجَاجِهِ بِهَذَا كُلِّهِ وَتَصْرِيحِ الْقُرْآنِ بِهِ. [فَصْلٌ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ] (فَصْلٌ) : وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ صَاحِبُ الشِّفَاءِ: وَهَذَا فِيمَنْ حَقَّقْنَا كَوْنَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَخَزَنَةِ الْجَنَّةِ وَخَزَنَةِ النَّارِ - أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا - وَالزَّبَانِيَةِ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَكَعِزْرَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَرَضْوَانَ وَالْحَفَظَةِ وَمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِ الْخَبَرِ الْوَارِدِ بِذِكْرِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَثْبُتْ الْأَخْبَارُ بِتَعْيِينِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَضِرِ وَلُقْمَانَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ - الْمَذْكُورِ أَنَّهُ نَبِيُّ أَهْلِ الرَّسِّ - وَزَرَادُشْتَ الَّذِي تَدَّعِي الْمَجُوسُ وَيَذْكُرُ الْمُؤَرِّخُونَ نُبُوَّتَهُ فَلَيْسَ الْحُكْمُ فِي سَابِّهِمْ وَالْكَافِرِ بِهِمْ كَالْحُكْمِ فِيمَنْ قَدَّمْنَاهُ إذَا لَمْ تَثْبُتْ لَهُمْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَلَكِنْ يُزْجَرُ مَنْ نَقْصِهِمْ وَآذَاهُمْ وَيُؤَدَّبُ بِحَالِ الْمَقُولِ فِيهِمْ لَا سِيَّمَا مَنْ عُرِفَتْ صِدِّيقِيَّتُهُ وَفَضْلُهُ مِنْهُمْ كَمَرْيَمَ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهَا. وَأَمَّا إنْكَارُ نُبُوَّتِهِمْ أَوْ كَوْنُ الْآخَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا حَرَجَ؛ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ زُجِرَ عَنْ الْخَوْضِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ؛ إذْ لَيْسَ لَهُمْ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ السَّلَفُ فِي مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ بِالْعَامَّةِ. [فَصْلٌ فِي عُقُوبَةِ السَّاحِرِ وَالْخَنَّاقِ وَالزِّنْدِيقِ] (فَصْلٌ) : فِي عُقُوبَةِ السَّاحِرِ وَالْخَنَّاقِ وَالزِّنْدِيقِ قَالَ فِي النَّوَازِلِ: الْخَنَّاقُ وَالسَّاحِرُ يُقْتَلَانِ إذَا أُخِذَا؛ لِأَنَّهُمَا سَاعِيَانِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، فَإِنْ تَابَا، إنْ كَانَ قَبْلَ الظَّفَرِ بِهِمَا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمَا، وَبَعْدَ مَا أُخِذَا لَا، وَيُقْتَلَانِ كَمَا فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَكَذَا الزِّنْدِيقُ الْمَعْرُوفُ وَالدَّاعِي إلَيْهِ: يَعْنِي إلَى مَذْهَبِ الْإِلْحَادِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْإِبَاحِيُّ عَلَى هَذَا وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، كَذَا أَفْتَى الشَّيْخُ الْإِمَامُ عِزُّ الدِّينِ الْكِنْدِيُّ وَالْخَاقَانُ إبْرَاهِيمُ اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ. [فَصْلٌ فِي عُقُوبَةِ الْعَائِنِ] (فَصْلٌ) : فِي عُقُوبَةِ الْعَائِنِ وَفِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ «أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ اغْتَسَلَ بِالْخَرَّارِ فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، وَكَانَ سَهْلٌ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ عَذْرَاءَ، فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُخْبِرَ أَنَّ سَهْلًا وُعِكَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ بِاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَامِرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، أَلَا بَرَّكْتَ؟ إنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، تَوَضَّأْ لَهُ، فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعَا عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ: عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، أَلَا بَرَّكْتَ؟ اغْتَسِلْ لَهُ، فَغَسَلَ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَ إزَارِهِ فِي قَدَحٍ. وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْغُسْلُ الَّذِي أَدْرَكْنَا عَلَيْهِ عُلَمَاءَنَا يَصِفُونَهُ أَنْ يُؤْتَى الْعَائِنُ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَيُمْسِكُ مُرْتَفِعًا عَنْ الْأَرْضِ فَيُدْخِلُ فِيهِ كَفَّيْهِ فَيَتَمَضْمَضُ ثُمَّ يَمُجُّهُ فِي الْقَدَحِ ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ فِي الْقَدَحِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى كَفِّهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى مِرْفَقِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى قَدَمِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ

فصل ومن الزواجر الشرعية التعزير والعقوبة بالحبس

بِهَا عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يُدْخِلُ دَاخِلَةَ إزَارِهِ فِي الْقَدَحِ وَلَا يُوضَعُ الْقَدَحُ فِي الْأَرْضِ، وَيَصُبُّ عَلَى رَأْسِ الْمَعِينِ مِنْ خَلْفِهِ صَبَّةً وَاحِدَةً. وَقِيلَ يُسْتَغْفَلُ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُكْفَأُ الْقَدَحُ عَلَى الْأَرْضِ وَرَاءَهُ. وَأَمَّا دَاخِلَةُ إزَارِهِ فَهُوَ الطَّرَفُ الْمُتَدَلِّي الَّذِي يُفْضِي مِنْ مِئْزَرِهِ إلَى جِلْدِهِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ: فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْوُضُوءِ قُضِيَ عَلَيْهِ إذَا خُشِيَ عَلَى الْمَعْيُونِ الْهَلَاكُ، وَكَانَ وُضُوءُ الْعَائِنِ يُبْرِئُ عَادَةً وَلَمْ يَزُلْ الْهَلَاكُ عَنْهُ إلَّا بِهَذَا الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إحْيَاءِ النَّفْسِ كَبَذْلِ الطَّعَامِ عِنْدَ الْمَجَاعَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْبَرُ عَلَى الْوُضُوءِ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ، وَإِنْ أَبَاهُ أُمِرَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِالْأَدَبِ الْوَجِيعِ حَتَّى يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ بِهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ، فَإِنَّ الشِّفَاءَ مَنُوطٌ بِفِعْلِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَرَضَ النَّازِلَ كَانَ بِسَبَبِهِ فَلَا يَنْدَفِعُ مَا نَزَلَ إلَّا بِفِعْلِهِ. (فَصْلٌ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ فِي أَمْرِ الْعَيْنِ وُجُوهًا، أَصَحُّهَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ عِنْدَ تَعَجُّبِ النَّاظِرِ مِنْ أَمْرٍ دُونَ أَنْ يُبَرِّكَ أَنْ يَمْرَضَ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ أَوْ يَتْلَفَ أَوْ يَتَغَيَّرَ، إلَّا أَنَّ الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ بَطَلَ الْمَعْنَى الَّذِي يُخَافُ مِنْ الْعَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ، فَإِنْ لَمْ يُبَرِّكْ وَقَعَ مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَلَافَى ذَلِكَ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِمَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَلَيْسَ فِيهِمَا حَرَكَةٌ وَلَا سَكْنَةٌ وَلَا حِكْمَةٌ وَلَا لَفْظَةٌ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى - خَالِقُهَا فِي الْعَبْدِ وَهُوَ مُقَدِّرُهَا لَهُ، وَهُوَ - تَعَالَى - رَتَّبَ أَفْعَالَهُ وَرَتَّبَ أَسْبَابَهَا وَرَتَّبَ الْعَوَائِدَ عَلَى أَسْبَابٍ. مِثَالُ ذَلِكَ الْعَيْنُ، فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا رَأَتْ صُورَةً تَسْتَحْسِنُهَا فَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَاسْتَوْلَى ذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ شَيْئًا، وَإِنْ نَطَقَتْ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ الْجَمَالِ فَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ - تَعَالَى - فِي بَدَنِ الْمَعِينِ الْمَرَضَ وَالْهَلَاكَ عَلَى قَدْرِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ - تَعَالَى - فَلِذَلِكَ نَهَى الْعَائِنَ عَنْ الْقَوْلِ، وَالْبَارِئُ - تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ مِنْ حِكْمَةِ الْوُجُودِ بِذَلِكَ فَقَدْ سَبَقَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّ الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ سَقَطَ حُكْمُ فِعْلِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ، وَالْبَارِئُ - سُبْحَانَهُ - يَرُدُّ قَضَاءَهُ بِقَضَائِهِ. وَمَنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ جَعَلَ وُضُوءَ الْعَائِنِ يُسْقِطُ أَثَرَ عَيْنِهِ. وَذَلِكَ بِخَاصَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا خَالِقُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَكَذَلِكَ مَا يَحْدُثُ عِنْدَ قَوْلِ السَّاحِرِ وَفِعْلِهِ فِي جِسْمِ الْمَسْحُورِ وَضَعَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْأَرْضِ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَمِنْ فُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفَضْلِهَا وَحِكْمَتِهَا الْبَالِغَةِ مَا وَضَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ الرُّقَى فِي إذْهَابِ الْأَمْرَاضِ مِنْ الْأَبْدَانِ بِهَا وَإِبْطَالِ سِحْرِ السَّاحِرِ وَرَدِّ عَيْنِ الْعَائِنِ عِنْدَ الِاسْتِرْقَاءِ بِهَا وَدَفْعِ كُلِّ ضَرَرٍ بِإِذْنِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْبَارِئُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي خَلَقَ الشِّفَاءَ عِنْدَ الِاسْتِرْقَاءِ كَمَا خَلَقَ الشِّفَاءَ مِنْ الدَّاءِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ وَلَا حَظَّ لِلدَّوَاءِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ فِي عَقْلِ عَاقِلٍ أَنْ يَكُونَ جَمَادًا فَاعِلًا، وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - يَصْرِفُ الْأَفْعَالَ الْغَرِيبَةَ دَاخِلَ الْبَدَنِ بِالْأَدْوِيَةِ، كَذَلِكَ يَصْرِفُهَا خَارِجَ الْبَدَنِ بِالرُّقَى وَالتَّعْوِيذِ. وَقَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ، وَالْمُشَاهَدَةُ أَقْوَى مِنْ الدَّلِيلِ النَّظَرِيِّ. [فَصْلٌ وَمِنْ الزَّوَاجِرِ الشَّرْعِيَّةِ التَّعْزِيرُ وَالْعُقُوبَةُ بِالْحَبْسِ] (فَصْلٌ) : وَالتَّعْزِيرُ تَأْدِيبُ اسْتِصْلَاحٍ وَزَجْرُهُ عَنْ ذُنُوبٍ لَمْ تُشْرَعْ فِيهَا حُدُودٌ وَلَا كَفَّارَاتٌ وَالْأَصْلُ فِي التَّعْزِيرِ مَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي مِثْلِ هَذَا، وَهَذَا دَلِيلُ التَّعْزِيرِ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا التَّعْزِيرُ بِالْقَوْلِ فَدَلِيلُهُ مَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ: اضْرِبُوهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ بِإِسْنَادِهِ: ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ بَكِّتُوهُ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ، مَا خَشِيتَ اللَّهَ، مَا اسْتَحَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» " وَهَذَا التَّبْكِيتُ مِنْ التَّعْزِيرِ بِالْقَوْلِ.

فصل التعزير لا يختص بفعل معين

وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتُ إلَّا بِالْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالزَّوَاجِرِ شُرِعَ ذَلِكَ عَلَى طَبَقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالْعُقُوبَةُ تَكُونُ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ فِعْلِ مَكْرُوهٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُقَدَّرٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ. وَتَخْتَلِفُ مَقَادِيرُهَا وَأَجْنَاسُهَا وَصِفَاتُهَا بِاخْتِلَافِ الْجَرَائِمِ وَكِبَرِهَا وَصِغَرِهَا، وَبِحَسْبِ حَالِ الْمُجْرِمِ فِي نَفْسِهِ وَبِحَسَبِ حَالِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ فِيهِ وَالْقَوْلِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ، بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْعِظَمِ وَالصِّغَرِ وَحَسَبِ الْجَانِي فِي الشَّرِّ وَعَدَمِهِ. [فَصْلٌ التَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ] (فَصْلٌ) : وَالتَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ وَلَا قَوْلٍ مُعَيَّنٍ، فَقَدْ عَزَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهَجْرِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَهُجِرُوا خَمْسِينَ يَوْمًا لَا يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ، وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ فِي الصِّحَاحِ. وَعَزَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّفْيِ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَنَفَاهُمْ. وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ. وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِمَّا قَالَ بِبَعْضِهِ أَصْحَابُنَا، وَبَعْضُهُ خَارِجُ الْمَذْهَبِ. فَمِنْهَا: أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَجْرِ صَبِيغ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ عَنْ الذَّارِيَاتِ وَغَيْرِهَا وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالتَّفَقُّهِ فِي الْمُشْكِلَاتِ مِنْ الْقُرْآنِ، فَضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَنَفَاهُ إلَى الْبَصْرَةِ أَوْ الْكُوفَةِ، وَأَمَرَ بِهَجْرِهِ فَكَانَ لَا يُكَلِّمُهُ أَحَدٌ حَتَّى تَابَ وَكَتَبَ عَامِلُ الْبَلَدِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُخْبِرُهُ بِتَوْبَتِهِ فَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي كَلَامِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَلَقَ رَأْسَ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ وَنَفَاهُ مِنْ الْمَدِينَةِ لَمَّا شَبَّبَ النِّسَاءُ بِهِ فِي الْأَشْعَارِ وَخَشِيَ الْفِتْنَةَ بِهِ. وَمِنْهَا: مَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْعُرَنِيِّينَ. وَمِنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي رَجُلٍ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ فَأَشَارُوا بِحَرْقِهِ بِالنَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، ثُمَّ حَرَقَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي خِلَافَتِهِ، ثُمَّ حَرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. اُنْظُرْ الْهِدَايَةَ. وَمِنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَرَقَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ. وَمِنْهَا: أَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهَا. وَمِنْهَا «أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَ فِيهَا لَحْمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ثُمَّ اسْتَأْذَنُوهُ فِي غَسْلِهَا فَأَذِنَ لَهُمْ» ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْكَسْرِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً. وَمِنْهَا: تَحْرِيقُ عُمَرَ الْمَكَانَ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ. وَمِنْهَا تَحْرِيقُ عُمَرَ قَصْرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا احْتَجَبَ فِيهِ عَنْ الرَّعِيَّةِ وَصَارَ يَحْكُمُ فِي دَارِهِ. وَمِنْهَا: مُصَادَرَةُ عُمَرَ عُمَّالَهُ بِأَخْذِ شَطْرِ أَمْوَالِهِمْ فَقَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ ضَرَبَ الَّذِي زَوَّرَ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ: وَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةً، ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةً، ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَةً، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ التَّعْزِيرُ يُزَادُ عَلَى الْحَدِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا وَجَدَ مَعَ السَّائِلِ مِنْ الطَّعَامِ فَوْقَ كِفَايَتِهِ وَهُوَ يَسْأَلُ، أَخَذَ مَا مَعَهُ وَأَطْعَمَهُ إبِلَ الصَّدَقَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ تِعْدَادُهُ. وَهَذِهِ قَضَايَا صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ. قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ سَائِغَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. (مَسْأَلَةٌ) : يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْعُقُوبَةَ الْمَالِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ فَقَدْ غَلِطَ عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ نَقْلًا وَاسْتِدْلَالًا وَلَيْسَ بِسَهْلٍ دَعْوَى نَسْخِهَا. وَفِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبْطِلٌ لِدَعْوَى نَسْخِهَا، وَالْمُدَّعُونَ لِلنَّسْخِ لَيْسَ مَعَهُمْ سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ يُصَحِّحُ دَعْوَاهُمْ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا لَا يُجَوِّزُ، فَمَذْهَبُ أَصْحَابِهِ عِنْدَهُ عَيَاءٌ عَلَى الْقَبُولِ وَالرَّدِّ. [فَصْلٌ أَصْلُ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَةِ هَلْ يُتَجَاوَزُ بِهِ الْحَدَّ أَمْ لَا] (فَصْلٌ) : إذَا ثَبَتَ أَصْلُ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَةِ هَلْ يُتَجَاوَزُ بِهِ الْحَدَّ أَمْ لَا. فَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ أَقَلَّ الْحَدِّ فِي الْأَحْرَارِ، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْحُرِّيَّةُ ثُمَّ نَقَصَ سَوْطًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَفِي رِوَايَةٍ نَقَصَ خَمْسَةً

فصل في العقوبة بالسجن وذكر حقيقته

وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ. وَأَكْثَرُ التَّعْزِيرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ يُقَدِّرُهُ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ. وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ الْحَبْسَ فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ تَعْزِيرًا. وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ، فَجَازَ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعْ التَّعْزِيرُ بِالتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ كَمَا شُرِعَ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَنَقَلَ الْمَازِرِيُّ فِي الْمُعْلِمِ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجِيزُ فِي الْعُقُوبَاتِ فَوْقَ الْحَدِّ لِمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ضَرْبِ الَّذِي نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ مِائَةً، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فَوْقَ هَذَا. وَنَقَلَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ. وَإِنَّ صَاحِب الْقِصَّةِ مَعْنُ بْنُ زِيَادٍ زَوَّرَ كِتَابًا عَلَى عُمَرَ وَنَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ فَجَلَدَهُ مِائَةً، فَشَفَعَ فِيهِ قَوْمٌ فَقَالَ: أَذْكَرْتُمُونِي الطَّعْنَ وَكُنْتُ نَاسِيًا، فَجَلَدَهُ مِائَةً أُخْرَى، ثُمَّ جَلَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمِائَةٍ أُخْرَى وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا عِنْدَهُمْ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَضَرَبَ عُمَرُ ضُبَيْعًا أَكْثَرَ مِنْ الْحَدِّ، وَقَدْ أَخَذَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَجْلِدُ أَحَدٌ أَحَدًا فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» فَلَمْ يَزِدْ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى عَشْرَةٍ. [فَصْلٌ فِي الْعُقُوبَةِ بِالسِّجْنِ وَذِكْرِ حَقِيقَتِهِ] (فَصْلٌ) : فِي الْعُقُوبَةِ بِالسِّجْنِ وَذِكْرِ حَقِيقَتِهِ، وَمَنْ يُحْبَسُ وَمَنْ لَا يُحْبَسُ. وَفِي قَدْرِ مَا يُحْبَسُ فِيهِ وَفِي مُعَامَلَةِ الْقَاضِي الْمَحْبُوسَ، وَفِي مَسَائِلِ الْمُلَازَمَةِ فَأَمَّا حَقِيقَتُهُ فَالسِّجْنُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَصْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8] أَيْ سِجْنًا وَحَبْسًا، وَالسِّجْنُ وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ الْعُقُوبَاتِ فَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْله تَعَالَى -: {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] أَنَّ السِّجْنَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الْبَلِيغَةِ؛ لِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَرَنَهُ مَعَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَقَدْ عَدَّ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الِانْطِلَاقَ مِنْ السِّجْنِ إحْسَانًا فِي قَوْلِهِ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّجْنَ الطَّوِيلَ عَذَابٌ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْنَ؛ إذْ أَوْعَدَ مُوسَى {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] وَنَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ، وَلَمَّا اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ ابْنَهُ عَلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْصَاهُ أَنْ لَا يُعَاقِبَ فِي حِينِ الْغَضَبِ، وَحَضَّهُ أَنْ يَسْجُنَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ ثُمَّ يَرَى رَأْيَهُ. وَكَانَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ السِّجْنَ كَانَ حَلِيمًا، وَلَمْ يُرِدْ مَرْوَانُ طُولَ السِّجْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ السِّجْنَ الْخَفِيفَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ. وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَبْسَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ هُوَ الْحَبْسُ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتٍ أَوْ مَسْجِدٍ، أَوْ كَانَ بِتَوْكِيلِ نَفْسِ الْغَرِيمِ أَوْ وَكِيلِهِ عَلَيْهِ أَوْ مُلَازَمَتِهِ لَهُ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسِيرًا. فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَرِيمٍ لِي فَقَالَ لِي: الْزَمْهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِكَ؟» وَفِي رِوَايَةٍ ابْنِ مَاجَهْ: " مَرَّ بِي آخِرَ النَّهَارِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ " وَهَكَذَا كَانَ الْحَبْسُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسٌ مُعَدٌّ لِحَبْسِ الْخُصُومِ، فَلَمَّا انْتَشَرَتْ الرَّعِيَّةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ ابْتَاعَ بِمَكَّةَ دَارًا وَجَعَلَهَا سِجْنًا يَسْجُنُ فِيهَا. وَجَاءَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دَارًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَجَعَلَهَا سِجْنًا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ السِّجْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَنَقَلَ ابْنُ الطَّلَّاعِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِأَحْكَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ هَلْ سَجَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ أَحَدًا أَمْ لَا؟ فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا سِجْنٌ وَلَا سَجَنَا أَحَدًا وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَنَ فِي الْمَدِينَةِ فِي تُهْمَةِ دَمٍ» رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالنَّسَائِيِّ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا

فصل حبس المديون

وَفِي غَيْرِ الْمُصَنَّفِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي سِجْنٍ مُتَّخَذٍ لِذَلِكَ. وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سِجْنٌ، وَأَنَّهُ سَجَنَ الْحُطَيْئَةَ عَلَى الْهَجْوِ، وَسَجَنَ صَبِيغًا عَلَى سُؤَالِهِ عَنْ الذَّارِيَاتِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَالنَّازِعَاتِ وَشِبْهِهِنَّ. وَضَرَبَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَنَفَاهُ إلَى الْعِرَاقِ، وَقِيلَ إلَى الْبَصْرَةِ، وَكَتَبَ أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ. قَالَ الْمُحَدِّثُ: فَلَوْ جَاءَنَا وَنَحْنُ مِائَةٌ لَتَفَرَّقْنَا عَنْهُ. ثُمَّ كَتَبَ أَبُو مُوسَى إلَى عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ فَأَمَرَهُ عُمَرُ فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ. وَسَجَنَ عُثْمَانُ صَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ وَكَانَ مِنْ لُصُوصِ بَنِي تَمِيمٍ وَفَتَّاكِيهِمْ حَتَّى مَاتَ فِي السِّجْنِ. وَسَجَنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْكُوفَةِ وَسَجَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَمَّا كَانَ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ مِنْ جِنْسِ الْحَبْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْوِيقِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَصَالِحِ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَطْلُبُ الْغَرِيمَ لِلْمُدَّعِي بِخَاتَمٍ أَوْ رَسُولٍ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ فَيَحْصُلُ لِلْغَرِيمِ تَعْوِيقٌ عَنْ مَصَالِحِهِ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ فَقَدْ يَكُونُ الْحَاكِمُ غَيْرَ جَالِسٍ لِلْخُصُومِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرُبَّمَا كَانَ مَشْغُولًا عَنْهُ بِغَيْرِهِ فَلَا يَزَالُ مُعَوَّقًا حَتَّى يَتَفَرَّغَ الْقَاضِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَرِيمِهِ. [فَصْلٌ حَبْسُ الْمَدْيُونِ] (فَصْلٌ) : وَفِي كَفَالَةِ الْأَصْلِ يُحْبَسُ فِي الدِّرْهَمِ وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَفِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ: يُحْبَسُ بِدَانَقٍ وَيُحْبَسُ فِي كُلِّ دَيْنٍ مَا خَلَا دَيْنَ الْوَلَدِ عَلَى أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ الْجَدِّ أَوْ الْجَدَّةِ، عَلَى أَنَّهُ يُحْبَسُ فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِدَيْنِ الْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى يُحْبَسُ بِدَيْنِهِمَا، هَذَا إذَا كَانَ الْمَأْذُونُ مَدْيُونًا، وَفِي الْمُكَاتَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، أَمَّا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَقَدْ ظَفَرَ الْمَوْلَى بِجِنْسِ حَقِّهِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا. (مَسْأَلَةٌ) : الْكَفِيلُ إذَا حُبِسَ يُحْبَسُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ، وَإِذَا لَازَمَهُ الطَّالِبُ فَهُوَ يُلَازِمُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، وَلَا يَأْخُذُ الْمَالَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْبِسَ الْكَفِيلَ لَهُ ذَلِكَ وَهِيَ وَاقِعَةُ الْفَتْوَى، وَكَذَا يُحْبَسُ الْكَفِيلُ وَكَفِيلُ الْكَفِيلِ وَإِنْ كَثُرُوا، وَيُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي مُدَّةِ التَّزْكِيَةِ. وَفِي الْمُنْتَقَى: رَجُلٌ جَرَحَ رَجُلًا هَلْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَبْرَأَ؟ إنْ كَانَ الْجُرْحُ فِيهِ الْقِصَاصُ حُبِسَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْقِصَاصُ إنْ بَرِئَ لَمْ يُحْبَسْ وَيُسْتَوْثَقُ مِنْهُ. (مَسْأَلَةٌ) : الْمَرْأَةُ إذَا حَبَسَتْ زَوْجَهَا فَقَالَ الزَّوْجُ لِلْقَاضِي: احْبِسْهَا مَعِي فَإِنَّ لِي مَوْضِعًا فِي الْحَبْسِ وَلَكِنْ تُحْبَسُ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ. وَنُقِلَ عَنْ قَاضِي لَامِشَ أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُهَا فِي وَقْتِ قَضَائِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَأَى فِي ذَلِكَ وَهِيَ صِيَانَتُهَا عَنْ الْفُجُورِ. [فَصْلٌ لَا يُضْرَبُ الْمَدْيُونُ وَلَا يُغَلُّ وَلَا يُقَيَّدُ] (فَصْلٌ) : وَفِي كَفَالَةِ الْأَصْلِ: لَا يُضْرَبُ الْمَدْيُونُ وَلَا يُغَلُّ وَلَا يُقَيَّدُ إلَّا أَنْ يُخَافَ فِرَارُهُ، كَذَا فِي الْمُنْتَقَى. وَلَا يُخَوَّفُ وَلَا يُجَرَّدُ وَلَا يُقَامُ بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِ الْحَقِّ إهَانَةً، وَلَا يُؤَاجَرُ، وَلَا يَخْرُجُ لِجُمُعَةٍ وَلَا عِيدٍ وَلَا حَجٍّ وَلَا صَلَاةِ جِنَازَةٍ وَلَا عِيَادَةِ مَرِيضٍ، وَيُحْبَسُ فِي مَوْضِعٍ وَحْشٍ، وَلَا يُبْسَطُ لَهُ فُرُشٌ وَلَا غِطَاءٌ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِيَسْتَأْنِسَ بِهِ. ذَكَرَهُ السَّرَخْسِيُّ. وَفِي الْأَقْضِيَةِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْجِيرَانِ وَأَهْلِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَشُورَةِ مَعَهُمْ لِأَجْلِ الدِّينِ، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْمُكْثِ مَعَهُ حَتَّى لَا يَسْتَأْنِسَ بِهِمْ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ جُنَّ الْمَحْبُوسُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: لَا يُخْرِجُهُ الْحَاكِمُ. وَفِي وَاقِعَاتِ النَّاطِفِيِّ: لَوْ مَرِضَ فِي الْحَبْسِ وَأَضْنَاهُ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَخْدِمُهُ يُخْرِجُهُ مِنْ الْحَبْسِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، هَذَا إذَا كَانَ الْغَالِبُ هُوَ

فصل إذا حبس القاضي رجلا يسأل عن يساره

الْهَلَاكَ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ، وَالْهَلَاكُ فِي السِّجْنِ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَالْفَتْوَى عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا يُطْلِقُهُ بِكَفِيلٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْكَفِيلَ لَا يُطْلِقُهُ. (فَرْعٌ) : لَوْ احْتَاجَ إلَى الْجِمَاعِ نُدْخِلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ حَتَّى يُجَامِعَهَا، لَكِنْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا خَالِيًا لَا يُجَامِعُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الْجِمَاعِ بِخِلَافِ الْأَكْلِ لِلضَّرُورَةِ ثَمَّةَ. وَهَلْ يُمْنَعُ مِنْ الْكَسْبِ؟ اخْتَلَفَ الشُّيُوخُ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمْنَعُ. (فَصْلٌ) : وَيُتْرَكُ لَهُ دَسْتَانِ مِنْ الثِّيَابِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي فِي الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ثِيَابٌ حَسَنَةٌ تُبَاعُ وَيُشْتَرَى لَهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ وَيُصْرَفُ الْبَاقِي إلَى الدَّيْنِ. وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ بَاعَ عِمَامَةَ الْمَحْبُوسِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ هَكَذَا. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبِيعُ الْقَاضِي الْمَبِيعَ لِأَجْلِ الثَّمَنِ وَهَذَا قَوْلُهُمَا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَبِيعُ الْعُرُوضَ وَلَا الْعَقَارَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ. وَلَوْ قَالَ الْمَدْيُونُ أَبِيعُ عَبْدِي هَذَا وَأَقْضِي الدَّيْنَ مِنْهُ لَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَيُؤَجِّلُهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ يُحْبَسُ لِيَبِيعَ وَيَقْضِيَ الدَّيْنَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُشْتَرَى إلَّا بِثَمَنٍ قَلِيلٍ. [فَصْلٌ إذَا حَبَسَ الْقَاضِي رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ يَسَارِهِ] (فَصْلٌ) : إذَا حَبَسَ الْقَاضِي رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ يَسَارِهِ، إنْ كَانَ مُوسِرًا أَبَدًا يُحْبَسُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ. وَفِي كَفَالَةِ الْأَصْلِ إذَا حُبِسَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً يُسْأَلُ عَنْ حَالِهِ، هَذَا إذَا كَانَ أَمْرُهُ مُشْكِلًا، أَمَّا إنْ كَانَ أَمْرُهُ ظَاهِرًا عِنْدَ النَّاسِ وَعِنْدَ الْقَاضِي يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَيُخْلِي سَبِيلَهُ، وَإِذَا كَانَ أَمْرُهُ مُشْكِلًا هَلْ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ قَبْلَ الْحَبْسِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، يَسْأَلُ وَيَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِفْلَاسِ قَبْلَ الْحَبْسِ وَهُوَ اخْتِيَارُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ بَعْدَ الْحَبْسِ: فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي. وَفِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ: إنْ رَآهُ الْقَاضِي سَمْحًا يَأْخُذُ بِرِوَايَةِ الْأَقَلِّ، وَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يَأْخُذُ بِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِ ثُمَّ يَسْأَلُ أَهْلَ الْخِبْرَةِ مِنْ جِيرَانِهِ وَمَنْ يُخَالِطُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَالْوَاحِدُ يَكْفِي وَلَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ (مَسْأَلَةٌ) : فَإِنْ أَقَامَ الْمَدْيُونُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِفْلَاسِ وَأَقَامَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْيَسَارِ فَبَيِّنَةُ الطَّالِبِ أَوْلَى، وَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِ مَا يُثْبِتُ بِهِ الْيَسَارَ. وَفِي بَيِّنَةِ الْإِفْلَاسِ لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمُدَّعِي. وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ: وَإِذَا سَأَلَ الْقَاضِي عَنْ الْمَحْبُوسِ بَعْدَ مُدَّةٍ فَأُخْبِرَ بِأَنَّهُ مُفْلِسٌ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ غَائِبٌ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ. (فَرْعٌ) : ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ: نَشْهَدُ أَنَّهُ فَقِيرٌ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مَالًا وَلَا عَرَضًا مِنْ الْعُرُوضِ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ حَالِ الْفَقْرِ. وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ: نَشْهَدُ أَنَّهُ مُفْلِسٌ مُعْدَمٌ لَا نَعْلَمُ لَهُ مَالًا سِوَى كِسْوَتِهِ الَّتِي عَلَيْهِ وَثِيَابِ لَيْلِهِ وَقَدْ اخْتَبَرْنَا أَمْرَهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : فَلَوْ لَمْ يُخْبِرْ أَحَدٌ عَنْ حَالِهِ لَكِنْ قَالَ الْمَدْيُونُ: أَنَا مُعْسِرٌ وَقَالَ رَبُّ الدَّيْنِ: إنَّهُ مُوسِرٌ، ذُكِرَ فِي التَّجْرِيدِ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ الْمَدْيُونُ فِي أَنَّهُ مُعْسِرٌ فِي كُلِّ مَا هُوَ بَدَلُ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، وَكَذَا فِي كُلِّ دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَالْتِزَامِهِ كَالْكَفَالَةِ وَالْمَهْرِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ: لَا يُصَدَّقُ فِي أَنَّهُ مُعْسِرٌ فِي الْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ، أَمَّا فِي الْمَهْرِ الْمُؤَجَّلِ فَيُصَدَّقُ.

فصل في الملازمة وفي الأقضية

مَسْأَلَةٌ) : رَبُّ الدَّيْنِ إذَا ادَّعَى أَنَّ لَهُ مَالًا بَعْدَ مَا أَقَامَ الْمَدْيُونُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِفْلَاسِ يَحْلِفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْلِفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ. [فَصْلٌ فِي الْمُلَازَمَةِ وَفِي الْأَقْضِيَةِ] (فَصْلٌ) : الْمَحْبُوسُ بَعْدَ مَا أُخْرِجَ يُلَازِمُهُ الْمُدَّعِي، وَتَفْسِيرُ الْمُلَازَمَةِ أَنْ يَدُورَ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ وَلَا يُفَارِقَهُ وَلَا يُلَازِمَهُ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّهُ حَبْسٌ. وَفِي التَّتِمَّةِ: الْمُدَّعِي إذَا طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلًا وَأَبَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إعْطَاءَ الْكَفِيلِ فَالْقَاضِي يَأْمُرُ الْمُدَّعِيَ بِمُلَازَمَتِهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ فِي بَيْتِهِ لِغَائِطٍ أَوْ غَدَاءٍ، إلَّا إذَا أَعْطَاهُ الْمُدَّعِي غَدَاءً أَوْ أَعَدَّ مَوْضِعًا لِلْغَائِطِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ يُمْكِنُهُ الْعَمَلَ، وَلَا يَمْنَعُهُ اللُّزُومُ بِأَنْ كَانَ عَمَلُهُ السَّقْيَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ إلَّا إذَا أَعْطَاهُ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ وَلَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ بِنَائِبِهِ أَوْ أَجِيرِهِ أَوْ غُلَامِهِ، فَلَوْ قَالَ الْمَدْيُونُ: أَنَا لَا أُرِيدُ مُلَازَمَةَ الْغُلَامِ لَا أَجْلِسُ إلَّا مَعَ الْمُدَّعِي لَهُ ذَلِكَ. (فَرْعٌ) : وَلَيْسَ لِلطَّالِبِ أَنْ يُقِيمَ الْمَلْزُومَ فِي الشَّمْسِ أَوْ عَلَى الثَّلْجِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَضُرُّ بِهِ، فَلَوْ قَالَ لِلْغَرِيمِ: احْبِسْنِي وَأَبَى الْغَرِيمُ إلَّا الْمُلَازَمَةَ يُلَازِمُهُ. [فَصْلٌ مُلَازَمَةُ الْمَرْأَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مُلَازَمَةُ الْمَرْأَةِ فَيَأْمُرُ الْمُدَّعِي امْرَأَةً تُلَازِمُهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ امْرَأَةً إنْ شَاءَ جَعَلَهَا فِي بَيْتٍ مَعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ عَلَى بَابِهَا أَوْ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا وَهُوَ عَلَى بَابِهَا، هَذَا فِي الْمُنْتَقَى وَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَقْضِيَةِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْحَبْسِ] (فَصْلٌ) : اعْلَمْ أَنَّ الْمَشْرُوعَ مِنْ الْحَبْسِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: حَبْسُ الْجَانِي لِغَيْبَةِ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ حِفْظًا لِمَحَلِّ الْقِصَاصِ. الثَّانِي: حَبْسُ الْآبِقِ. الثَّالِثُ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ دَفْعِ الْحَقِّ الْجَائِي إلَيْهِ. الرَّابِعُ: حَبْسُ مَنْ أُشْكِلَ أَمْرُهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ اخْتِبَارًا لِحَالِهِ. فَإِنْ ظَهَرَ حَالُهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِمُوجَبِهِ عُسْرًا أَوْ يُسْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. الْخَامِسُ: حَبْسُ الْجَانِي تَعْزِيرًا أَوْ رَدْعًا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ. السَّادِسُ: حَبْسُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَحَبْسِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ أَوْ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ التَّعْيِينِ. السَّابِعُ: حَبْسُ مَنْ أَقَرَّ بِمَجْهُولِ عَيْنٍ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَامْتَنَعَ مِنْ تَعْيِينِهِ فَيُحْبَسُ حَتَّى يُعَيِّنَهُ فَيَقُولَ الْمُقِرُّ بِهِ: هَذَا الثَّوْبُ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ أَوْ الشَّيْءُ الَّذِي أَقْرَرْتُ بِهِ فِي ذِمَّتِي هُوَ دِينَارٌ. الثَّامِنُ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا عَدَا هَذِهِ الثَّمَانِيَةَ لَا يَجُوزُ الْحَبْسُ فِيهِ. وَيُزَادُ إلَى مَا ذَكَرُوهُ قِسْمٌ تَاسِعٌ وَهُوَ حَبْسُ الْمُتَدَاعَى فِيهِ، وَذَلِكَ إذَا ادَّعَى رَجُلَانِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَإِنَّهَا تُوقَفُ عَنْ النِّكَاحِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَجْهُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَتَكُونُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ امْرَأَةٍ صَالِحَةٍ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَالْحَبْسُ. وَقِسْمٌ عَاشِرٌ وَهُوَ: مَنْ يُحْبَسُ اخْتِبَارًا لِمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ مِنْ السَّرِقَةِ وَالْفَسَادِ، وَلَا يَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الْحَقِّ إذَا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ، مِثْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ، فَإِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ وَلَا يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ فَإِنَّ فِي حَبْسِهِ اسْتِمْرَارَ ظُلْمِهِ، وَدَوَامُ الْمُنْكِرِ فِي الْمَطْلِ وَضَرَرُهُ هُوَ مَعَ إمْكَانِ أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. سُؤَالٌ: كَيْفَ يَخْلُدُ فِي الْحَبْسِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ وَعَجَزْنَا عَنْ أَخْذِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ عَظِيمَةٌ فِي جِنَايَةٍ حَقِيرَةٍ وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي تَقْدِيرَ الْعُقُوبَاتِ بِقَدْرِ الْجِنَايَاتِ؟ جَوَابُهُ: أَنَّهَا عُقُوبَةٌ صَغِيرَةٌ بِإِزَاءِ جِنَايَةٍ صَغِيرَةٍ فَلَمْ تُخَالِفْ الْقَوَاعِدَ، فَإِنَّهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مُمْتَنِعٌ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ عَاصٍ فَيُقَابَلُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الِامْتِنَاعِ بِسَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْحَبْسِ، فَهِيَ جِنَايَاتٌ وَعُقُوبَاتٌ

فصل في التضمين

مُتَكَرِّرَةٌ مُتَقَابِلَةٌ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ وَلَمْ يُخَالِفْ الْقَوَاعِدَ. قَدْ يُجَابُ بِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ عَظِيمَةٌ فِي مُقَابَلَةِ جِنَايَةٍ عَظِيمَةٍ، فَإِنَّ مَطْلَ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الظُّلْمِ وَالتَّمَادِي عَلَيْهِ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ فَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ، وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ [فَصْلٌ فِي التَّضْمِينِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَضَاءُ بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَشَبَهِهِمْ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِعَمَلِهِ، وَمَا هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَقَالَا: هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ شَيْءٍ غَالِبٍ لَا يُتَحَفَّظُ مِنْهُ كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَالْعَدُوِّ وَالْمُكَابِرِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ إنَّمَا لَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، أَمَّا إذَا شُرِطَ يَضْمَنُ، وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ فِي مَحَلٍّ هُوَ أَلْيَقُ بِهِ مِنْ هَذَا. (مَسْأَلَةٌ) : وَمَا هَلَكَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ بِدُونِ صُنْعِ الْأَجِيرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ، نَحْوَ إنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ رَاكِبًا فِي السَّفِينَةِ أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْحِمْلُ فَعَطِبَتْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ رَاكِبًا وَحْدَهُ فَالْمَتَاعُ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا مَعَ الْمُكَارِي أَوْ قَائِدِينَ أَوْ سَائِقِينَ فَكَذَا؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَجِيرِ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا زَالَتْ يَدُ الْمَالِكِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ تَزُلْ فَلَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ مَضْمُونًا بِالْيَدِ وَالْفِعْلِ. وَأَمَّا مَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِصُنْعِ الْأَجِيرِ بِأَنْ جَنَحَتْ السَّفِينَةُ بِمَدِّ الْمَلَّاحِ أَوْ انْقَطَعَ حَبْلُهَا أَوْ عَثَرَتْ الدَّابَّةُ مِنْ سَوْقِ الْمُكَارِي أَوْ عَثَرَ الْحَمَّالُ فَهُوَ ضَامِنٌ. قَالَ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ:؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ اسْتِهْلَاكٍ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي غَيْرِ يَدِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا سُرِقَ الْمَتَاعُ مِنْ رَأْسِ الْحَمَّالِ، وَرَبُّ الْمَتَاعِ مَعَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَمَّالِ صُنْعٌ، وَالْمَتَاعُ لَيْسَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ مَالِكِهِ إذَا كَانَ مَعَهُ. (فَرْعٌ) : لَوْ كَانَ الطَّعَامُ فِي سَفِينَتَيْنِ سَيَّرَهُمَا مَعًا وَحَبَسَهُمَا مَعًا وَرَبُّ الْمَتَاعِ فِي أَحَدِهِمَا - فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ فِيمَا هَلَكَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ فِي يَدِ الْمَالِكِ سَوَاءٌ كَانَتَا مَقْرُونَتَيْنِ أَوْ لَا، وَكَذَا الْجِمَالُ إذَا كَانَ عَلَيْهَا الْحُمُولَةُ، وَرَبُّ الْحُمُولَةِ عَلَى بَعِيرٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَمَّالِ لِمَا بَيَّنَّا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْحَمَّالِ وَرَبِّ الْمَتَاعِ إذَا حَمَلَاهُ لِيَضَعَاهُ عَلَى رَأْسِ الْحَمَّالِ فَوَقَعَ وَهَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَمَّالِ، وَلَوْ حَمَلَهُ إلَى بَيْتِ صَاحِبِهِ ثُمَّ أَنْزَلَهُ وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ مِنْ رَأْسِهِ فَوَقَعَ مِنْ أَيْدِيهِمَا وَهَلَكَ فَالْحَمَّال ضَامِنٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَمَّالِ. [فَصْلٌ فِي الصُّنَّاعِ الَّتِي لَا تَضْمَنُ مَا أَتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِيهَا] (فَصْلٌ) : اعْلَمْ أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْوَقْتِ دُونَ الْعَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَنْ اسْتَأْجَرَهُ وَهُوَ مَعْنَى الْخَاصِّ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى أَجِيرِ الْوَحْدِ فِيمَا هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ تَضْمِينَ أَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ كَانَ احْتِيَاطًا كَيْ لَا تَضِيعَ أَمْوَالُ النَّاسِ وَهُوَ شَرْعٌ مُغَلَّظٌ، وَقَدْ عَرَفْنَا السِّيَاسَةَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الِاحْتِيَاطِ فِي أَجِيرِ الْوَحْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبِضُ الْمَالَ عَادَةً وَإِنَّمَا سَلَّمَ نَفْسَهُ، وَمَا هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ بِالْإِجْمَاعِ. وَعَلَى هَذَا تِلْمِيذُ الْقَصَّارِ وَسَائِرُ الصُّنَّاعِ وَأُجَرَائِهِمْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ إلَّا فِيمَا تَعَدَّوْا فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجِيرُ الْوَحْدِ، وَأَجِيرُ الْوَحْدِ لَا يَضْمَنُ بِصُنْعِهِ إلَّا بِصِفَةِ التَّعَدِّي.

فصل استأجر إنسانا ليجيء بعياله فوجد بعضهم ميتا وجاء بالباقي

[فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَجِيءَ بِعِيَالِهِ فَوَجَدَ بَعْضَهُمْ مَيِّتًا وَجَاءَ بِالْبَاقِي] فَصْلٌ) : لَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَذْهَبَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا، وَيَجِيءَ بِعِيَالِهِ فَوَجَدَ بَعْضَهُمْ مَيِّتًا وَجَاءَ بِالْبَاقِي فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ. قِيلَ: هَذَا إذَا كَانَتْ عِيَالُهُ مَعْلُومَةً. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لِيَذْهَبَ بِكِتَابِهِ إلَى فُلَانٍ وَيَجِيءَ بِجَوَابِهِ فَوَجَدَ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ مَيِّتًا فَرَدَّ الْكِتَابَ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي قَوْلِهِمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ الْأَجْرُ فِي الذَّهَابِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَهُ طَعَامٌ فَعَادَ بِهِ سَقَطَ الْأَجْرُ فِي قَوْلِهِمْ اُنْظُرْ تَعْلِيلَهُ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ. [فَصْلٌ فِيمَا يَضْمَنُهُ الْمُسْتَأْجِرُ وَمَا لَا يَضْمَنُهُ] (فَصْلٌ) : اسْتَأْجَرَهَا بِإِكَافٍ فَأَوْكَفَهَا بِإِكَافٍ مِثْلِهِ أَوْ أَسْرَجَهَا مَكَانَ الْإِكَافِ لَا يَضْمَنُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِسَرْجٍ فَأَوْكَفَهَا بِإِكَافٍ لَا يُوكَفُ بِهِ مِثْلُهَا أَوْ بِسَرْجٍ لَا يُسْرَجُ مِثْلُهُ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ قِيمَةَ الدَّابَّةِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا عُرْيَانَةً فَأَسْرَجَهَا وَرَكِبَهَا ضَمِنَ. قَالَ مَشَايِخُنَا: إنْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فِي الْمِصْرِ إنْ كَانَ الْمُسْتَكْرِي مِنْ الْأَشْرَافِ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَوَامّ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ عُرْيًا ضَمِنَ. وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً وَلَمْ يَذْكُرْ السَّرْجَ وَالْإِكَافَ وَسَلَّمَهَا عُرْيَانَةً فَرَكِبَهَا بِهَذَا أَوْ بِهَذَا، إنْ كَانَ مِثْلُهُ يَرْكَبُ بِسَرْجٍ يَضْمَنُ إذَا رَكِبَهَا بِإِكَافٍ، وَإِنْ كَانَ يَرْكَبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَضْمَنُ إذَا رَكِبَهَا بِهَذَا أَوْ بِهَذَا، وَتَأْوِيلُهُ إذَا رَكِبَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَأَرْكَبَ غَيْرَهُ] (فَصْلٌ) : اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا بِنَفْسِهِ فَأَرْكَبَ غَيْرَهُ ضَمِنَ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَذْهَبَ إلَى مَكَانِ كَذَا فَذَهَبَ إلَى مَكَان غَيْرِهِ فَسَلِمَتْ الدَّابَّةُ أَوْ هَلَكَتْ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ. وَلَوْ رَكِبَ وَأَرْدَفَ غَيْرَهُ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ بَعْدَ بُلُوغِهَا الْمَقْصِدَ مِنْ ذَلِكَ الرُّكُوبِ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا سَوَاءٌ كَانَ أَثْقَلَ أَمْ أَخَفَّ. أَمَّا الْأَجْرُ فَلِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ. وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِرُكُوبِ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ مَأْذُونٍ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا كَانَ الرَّدِيفُ صَبِيًّا لَا يَسْتَمْسِكُ نَفْسَهُ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ مَتَاعًا ضَمِنَ بِقَدْرِ ثِقَلِهِ، كَذَا فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ خَافَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُ طَرِيقًا فَسَلَكَ طَرِيقًا آخَرَ إنْ كَانَ يَسْلُكُهُ النَّاسُ لَا يَضْمَنُ، فَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ. وَفِي الْفَتَاوَى: زَادَ عَلَى هَذَا فَقَالَ: الطَّرِيقَانِ إنْ كَانَا فِي السُّلُوكِ سَوَاءً - لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَبْعَدَ بِحَيْثُ يَتَفَاوَتُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالسُّهُولَةِ وَالصُّعُوبَةِ - ضَمِنَ. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الرَّاعِي] (فَصْلٌ) : اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ الرَّاعِي الَّذِي أَسْقَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ الضَّمَانَ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ الرَّاعِي الْخَاصُّ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ فَقَالُوا: إنَّمَا الَّذِي لَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يُفَرِّطَ أَوْ يَتَعَدَّى إذَا كَانَ الرَّاعِي لِرَجُلٍ خَاصٍّ، أَمَّا إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا فَهُوَ ضَامِنٌ حَتَّى يَأْتِي بِالْمَخْرَجِ. فَأَمَّا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ رَاعٍ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى أَوْ يُفَرِّطَ. نَقَلَهُ فِي الْوَاضِحَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْأَصْلِ: اسْتَأْجَرَ رَاعِيًا لِيَرْعَى غَنَمًا مَعْلُومَةً مُدَّةً غَيْرَ مَعْلُومَةٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَهَذَا جَائِزٌ وَالرَّاعِي أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ إلَّا إذَا قَالَ أَنْ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ مَعْلُومَةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ - جَازَ وَهُوَ أَجِيرٌ وَحْدٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعَقْدَ عَلَى الْمُدَّةِ، إلَّا إذَا قَالَ: وَتَرْعَى غَنَمَ غَيْرِي مَعَ غَنَمِي فَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا، فَلَوْ مَاتَتْ شَاةٌ مِنْهَا لَا يَضْمَنُ فِي الْوَحْدِ

فصل راعي الرماك إذا توهق رمكة فوقع في عنقها فماتت

بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَنْقُصُ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ، وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ يَضْمَنُ مَا كَانَ مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ مِنْ سَوْقٍ أَوْ سَقْيٍ بِأَنْ اسْتَعْجَلَ عَلَيْهَا فَعَثَرَتْ وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا أَوْ وُطِئَ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ سَوْقِهِ يَضْمَنُ فِي الْمُشْتَرَكِ لَا فِي الْخَاصِّ. (فَرْعٌ) : لَوْ خَلَطَ أَغْنَامَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْأَغْنَامِ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأَغْنَامِ يَوْمَ الْخَلْطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَلَفَ الشُّيُوخُ عَلَى قَوْلِهِمَا، فَالْمُعْتَبَرُ يَوْمُ الْخَلْطِ عَلَى الصَّحِيحِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ نَدَّتْ شَاةٌ فَخَافَ أَنْ يَضِيعَ الْبَاقِي لَا يَضْمَنُ فِي تَرْكِ طَلَبِ مَا نَدَّ فِي الْخَاصِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا فِي الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ خَافَ الرَّاعِي الْمَوْتَ عَلَى الشَّاةِ فَذَبَحَهَا لَا يَضْمَنُ كَذَا اسْتَحْسَنَ بَعْضُ الشُّيُوخِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَتَحَقَّقُ مَوْتُهَا، أَمَّا إذَا كَانَ يُرْجَى حَيَاتُهَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي وَاقِعَاتِهِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّرِكَةِ أَنَّ مَنْ ذَبَحَ شَاةَ إنْسَانٍ لَا يُرْجَى حَيَاتُهَا يَضْمَنُ، وَالرَّاعِي لَا يَضْمَنُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالرَّاعِي، وَالْفَقِيهُ سَوَّى فَقَالَ: لَا يَضْمَنُ الْأَجْنَبِيُّ كَمَا لَا يَضْمَنُ الرَّاعِي، وَالْبَقَّارُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَأَمَّا الْحِمَارُ وَالْبَغْلُ فَلَا يُذْبَحُ، وَكَذَا الْفَرَسُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. (فَصْلٌ) : لَوْ اخْتَلَفَا قَالَ الرَّاعِي: خِفْتُ الْمَوْتَ فَذَبَحْتُهَا وَأَنْكَرَ الْمَالِكُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ. (فَرْعٌ) : وَفِي الْمُحِيطِ: إذَا خَالَفَ الرَّاعِي فَرَعَاهَا فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي أَمَرَهُ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ سَلِمَتْ الْغَنَمُ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا أَجْرَ لَهُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجِبُ الْأَجْرُ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ الرَّعْيِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْغَنَمِ. (فَصْلٌ) : رَجُلٌ سَلَّمَ بَقَرَةً لِرَجُلٍ يَرْعَاهَا فَجَاءَ اللَّيْلُ فَزَعَمَ أَنَّهُ أَدْخَلَهَا الْقَرْيَةَ فَطَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَلَمْ يَجِدْهَا ثُمَّ وَجَدَهَا بَعْدَ أَيَّامٍ قَدْ نَفَقَتْ فِي نَهْرٍ، إنْ كَانَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ رَضُوا بِأَنْ يَأْتُوا بِالْبَقَرِ الْقَرْيَةَ وَلَمْ يُكَلِّفُوهُ أَنْ يُدْخِلَ كُلَّ بَقَرَةٍ فِي مَنْزِلِ صَاحِبِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاعِي: إنِّي قَدْ جِئْتُ بِالْبَقَرَةِ الْقَرْيَةَ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ أَبَى ضَمِنَ. (مَسْأَلَةٌ) : أَهْلُ الْقَرْيَةِ كَانُوا يَرْعَوْنَ دَوَابَّهُمْ بِالنَّوْبَةِ فَذَهَبَ مِنْهَا بَقَرَةٌ لَا يَضْمَنُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُعَيَّنٌ فِي رَعْيِهِ، كَذَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ حَيْثُ يَضْمَنُ عِنْدَهُمَا. وَفَرْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ قَالَ: لَوْ كَانَ نَوْبَةُ أَحَدِهِمْ فَلَمْ يَذْهَبْ هُوَ لَكِنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفَظَهَا فَأَخْرَجَ الْبَاقُورَةَ إلَى الْمَفَازَةِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَكْلِ فَضَاعَتْ بَقَرَةٌ مِنْهَا يَنْظُرُ، إنْ ضَاعَتْ بَعْدَ مَا رَجَعَ مِنْ الْأَكْلِ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ ضَاعَتْ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِنَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ النَّوْبَةِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَحْفَظَ بِإِجْرَائِهِ. (فَرْعٌ) : رَاعِي الْبَقَرِ إذَا أَدْخَلَ السَّرْحَ فِي سِكَكٍ فَأَرْسَلَ كُلَّ بَقَرَةٍ فِي سِكَّةِ صَاحِبِهَا وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَى صَاحِبِهَا، وَقَدْ كَانَتْ الرُّعَاةُ فَعَلُوا كَذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ عُرْفُهُمْ هَكَذَا فَفَعَلَ هَذَا الرَّاعِي كَذَلِكَ فَضَاعَتْ بَقَرَةٌ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَى صَاحِبِهَا. قَالَ أَبُو نَصْرٍ الدَّبُوسِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ إذْ الْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ. (مَسْأَلَةٌ) : رَاعٍ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ وَلَهُمْ مَرْعَى مُحَدَّقٌ بِالْأَشْجَارِ لَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى كُلِّ بَقَرَةٍ فَضَاعَتْ بَقَرَةٌ لَا يَضْمَنُ (مَسْأَلَةٌ) : بَقَرَةٌ مَرَّتْ عَلَى قَنْطَرَةٍ فَدَخَلَتْ بِرِجْلِهَا فِي ثُقْبِهَا فَانْكَسَرَتْ أَوْ دَخَلَتْ الْمَاءَ، وَالْمَاءُ عَمِيقٌ وَالرَّاعِي لَمْ يَعْلَمْ، وَهُوَ لَمْ يَسْبِقْهَا ضَمِنَ إذَا أَمْكَنَهُ صَوْنُهَا. [فَصْلٌ رَاعِي الرِّمَاكِ إذَا تَوَهَّقَ رَمَكَةً فَوَقَعَ فِي عُنُقِهَا فَمَاتَتْ] (فَصْلٌ) : رَاعِي الرِّمَاكِ إذَا تَوَهَّقَ رَمَكَةً فَوَقَعَ فِي عُنُقِهَا فَجَذَبَهَا فَمَاتَتْ عَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

فصل في ضمان القصار

مَسْأَلَةٌ) : وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الرَّاعِي إنْ مَاتَتْ يَأْتِي بِسِمَتِهَا وَإِلَّا فَهُوَ ضَامِنٌ لَيْسَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالسِّمَةِ وَلَا يَضْمَنُ بِهَذَا الشَّرْطِ. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْقَصَّارِ] (فَصْلٌ) : وَفِي الْأَصْلِ: إذَا هَلَكَ الثَّوْبُ عِنْدَ الْقَصَّارِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ الْعَمَلَ. وَفِي التَّجْرِيدِ مِثْلُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْخَيَّاطِ إذَا خَاطَ بِأَجْرِ نَفَقَتِهِ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يُقْبِضَ رَبَّ الثَّوْبِ فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَقَطَ الْبَدَلُ كَمَا فِي الْبَيْعِ انْتَهَى. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَلَا يَضْمَنُ الثَّوْبَ إنْ هَلَكَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بِهِ جَمْعٌ مِنْ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَخَذُوا بِقَوْلِهِمَا احْتِشَامًا لِقَوْلِ عُمَرَ. وَبَعْضُهُمْ أَفْتَوْا بِالصُّلْحِ عَمَلًا بِالْقَوْلَيْنِ مِنْهُمْ الْأُوزْجَنْدِيّ، وَأَئِمَّةُ فَرْغَانَةَ عَلَى هَذَا، وَعِزُّ الدِّينِ الْكِنْدِيُّ كَانَ يُفْتِي بِجَوَازِ الصُّلْحِ وَظَهِيرُ الدِّينِ كَانَ يُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: مَنْ قَالَ بِالصُّلْحِ لَوْ امْتَنَعَ الْخَصْمُ هَلْ يُجْبَرُ؟ قَالَ: لَا، وَكُنْتُ أُفْتِي بِالصُّلْحِ فَرَجَعْتُ لِهَذَا. ثُمَّ عِنْدَهُمَا إنْ شَاءَ الْمَالِكُ ضَمِنَهُ مَقْصُورًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مَقْصُورٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، فَإِنْ هَلَكَ بِدَقِّ الْقَصَّارِ وَعَصْرِهِ يَضْمَنُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، بِخِلَافِ الْبَزَّاغِ وَالْفَصَّادِ وَالْحَجَّامِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ. (مَسْأَلَةٌ) : دَفَعَ الثَّوْبَ إلَى الْقَصَّارِ وَقَالَ لَهُ: اُقْصُرْهُ وَلَا تَضَعْ غَيْرَ يَدِكَ حَتَّى تَفْرُغَ مِنْهُ فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَصِّرَهُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا فَلَمْ يَفْعَلْ وَطَالَبَ صَاحِبُ الثَّوْبِ مَرَّاتٍ حَتَّى سُرِقَ لَا يَضْمَنُ. وَفِي الْمُحِيطِ: سُئِلَ الْأُوزْجَنْدِيّ عَمَّنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى الْقَصَّارِ لِيُقَصِّرَهُ الْيَوْمَ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى هَلَكَ. قَالَ: يَضْمَنُ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ جَفَّفَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ عَلَى حَبْلٍ فَمَرَّتْ بِهِ حُمُولَةٌ فَمَزَّقَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الضَّمَانُ عَلَى سَائِقِ الْحُمُولَةِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ يَحْصُلُ بِسَوْقِهِ وَأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَإِذَا وَطِئَ تِلْمِيذُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى ثَوْبٍ مِنْ الْقِصَارَةِ فَحَرَقَهُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي الْوَطْءِ وَلَوْ وَقَعَ مِنْ يَدِهِ سِرَاجٌ فَأَحْرَقَ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ دُونَهُ، وَكَذَا لَوْ دَقَّ التِّلْمِيذُ ثَوْبًا فَانْقَلَبَتْ الْمِدَقَّةُ مِنْ يَدِهِ فَخَرَقَتْ الثَّوْبَ مِنْ الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ. اُنْظُرْ التَّجْرِيدِ. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْحَجَّامِ وَالْبَزَّاغُ] (فَصْلٌ) : إذَا حَجَمَ الْحَجَّامُ أَوْ بَزَغَ الْبَيْطَارُ أَوْ خَتَنَ الْخَتَّانُ فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ بِخِلَافِ الْقَصَّارِ، لَكِنْ هَذَا إذَا لَمْ يُجَاوِزْ مَوْضِعِ الْفِعْلِ، فَإِنْ جَاوَزَ مَوْضِعَ الْفِعْلِ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ ذُكِرَ فِي النَّوَازِلِ أَنَّهُ إنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ بَدَلِ النَّفْسِ، فَإِنْ بَرِئَ فَكَمَالُ بَدَلِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِجُرْحَيْنِ وَهُوَ مَأْذُونٌ فِي أَحَدِهِمَا. وَفِي دِيَاتِ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ: تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ. (مَسْأَلَةٌ) : الْكَحَّالُ إذَا صَبَّ الدَّوَاءَ فِي عَيْنِ رَجُلٍ فَذَهَبَ ضَوْءُهَا لَا يَضْمَنُ كَالْخَتَّانِ إلَّا إذَا غَلِطَ، فَإِنْ قَالَ رَجُلَانِ: إنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ وَهَذَا مِنْ خُرْقِ فِعْلِهِ، وَقَالَ رَجُلَانِ: هُوَ أَهْلٌ لَا يَضْمَنُ، فَإِنْ كَانَ فِي جَانِبِ الْكَحَّالِ وَاحِدٌ وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ اثْنَانِ ضَمِنَ.

فصل ومن الأفعال الموجبة للضمان

مَسْأَلَةٌ) : حَجَّامٌ قَالَ لِآخَرَ: إنَّ فِي عَيْنِكَ لَحْمًا إنْ لَمْ تَزُلْ عَمِيَتْ عَيْنُكَ، فَقَالَ: أَنَا أُزِيلُهُ عَنْكَ، فَقَطَعَ الْحَجَّامُ لَحْمًا مِنْ عَيْنِهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحَاذِقٍ فِي هَذِهِ الصَّنْعَةِ فَعَمِيَتْ عَيْنُ الرَّجُلِ يَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ اُنْظُرْ الْمَنِيَّةَ. (فَرْعٌ) : سُئِلَ نَجْمُ الْأَئِمَّةِ الْحَلِيمِيُّ عَنْ صَبِيَّةٍ سَقَطَتْ مِنْ السَّطْحِ فَانْفَتَحَ رَأْسُهَا فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْجَرَّاحِينَ إنْ شَقَقْتُمْ رَأْسَهَا تَمُوتُ وَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: إنْ لَمْ تَشُقُّوهُ الْيَوْمَ أَنَا أَشُقُّهُ وَأُبْرِئُهَا فَشَقَّهُ ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ هَلْ يَضْمَنُ؟ فَتَأَمَّلَ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ: لَا إذَا كَانَ الشَّقُّ بِإِذْنٍ وَكَانَ مُعْتَادًا وَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا خَارِجَ الرَّسْمِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَذِنُوا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عِلَاجُ مِثْلِهَا، فَقَالَ ذَلِكَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَاعْتَبَرَ نَفْسَ الْإِذْنِ، قِيلَ لَهُ: فَلَوْ قَالَ هَذَا الْجَرَّاحُ: إنْ مَاتَتْ فَأَنَا ضَامِنٌ هَلْ يَضْمَنُ؟ قَالَ: لَا. (فَرْعٌ) : وَفِي جِنَايَاتِ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِلْكَحَّالِ: دَاوِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَذْهَبَ الْبَصَرُ فَذَهَبَ لَا يَضْمَنُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي إجَارَاتِ الْأَصْلِ: لَوْ أَمَرَ حَجَّامًا أَنْ يَقْلَعَ سِنَّهُ فَقَلَعَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ: أَمَرْتُكَ أَنْ تَقْلَعَ غَيْرَ هَذَا السِّنِّ وَقَالَ الْحَجَّامُ: أَمَرْتنِي بِقَلْعِ هَذَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ. وَزَادَ الْقَاضِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي شَرْحِهِ: إنَّ عَلَى الْآمِرِ الْيَمِينَ إذَا ادَّعَى الْقَالِعُ الْإِذْنَ فِيمَا قَلَعَ وَأَنْكَرَ الْإِذْنَ فِي ذَلِكَ. اُنْظُرْ الْمَنِيَّةَ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَسُئِلَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ عَنْ فَصَّادٍ جَاءَ إلَيْهِ غُلَامٌ وَقَالَ: أَفْصِدْنِي فَفَصَدَهُ فَصْدًا مُعْتَادًا فَمَاتَ بِهِ قَالَ: يَضْمَنُ قِيمَةَ الْقِنِّ وَيَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ الْفَصَّادِ؛ لِأَنَّهُ خَطَأُ، وَكَذَا الصَّبِيُّ تَجِبُ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْفَصَّادِ. وَسُئِلَ عَمَّنْ فَصَدَ نَائِمًا وَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ بِسَيَلَانِهِ قَالَ: يُقَادُ مِنْهُ. [فَصْلٌ وَمِنْ الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ] (فَصْلٌ) : ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ: الْأُسْتَاذُ فِي كُلِّ عَمَلٍ إذَا ضَرَبَ الصَّبِيَّ أَوْ الْعَبْدَ لِلتَّعْلِيمِ فَهَلَكَ إنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ ضَمِنَ، وَلَوْ كَانَ بِإِذْنِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ لَا يَضْمَنُ. وَلَوْ ضَرَبَ الْأَبُ فَمَاتَ ضَمِنَ، وَكَذَا الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَضْرِبُهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِهِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُعَلِّمِ فَإِنَّهُ ضَرَبَهُ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ. وَكَذَا الرَّجُلُ لَوْ ضَرَبَ زَوْجَتَهُ. وَفِي الْعُيُونِ فِي الْأَبِ إذَا ضَرَبَ الِابْنَ فَمَاتَ لَا يَرِثُ مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ وَيَرِثُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَهُمَا. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الصَّائِغِ] (فَصْلٌ) : قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: دَفَعَ إلَى صَائِغٍ ذَهَبًا لِيَتَّخِذَهُ سِوَارًا مَنْسُوجًا، وَالنَّسْجُ لَا يَعْمَلُهُ هَذَا الصَّائِغُ، فَأَصْلَحَ الذَّهَبَ وَدَفَعَهُ إلَى مَنْ يَنْسِجُهُ فَسُرِقَ مِنْ الثَّانِي. قَالُوا: لَوْ دَفَعَ الصَّائِغُ الْأَوَّلُ بِلَا إذْنِ الْمَالِكِ وَلَمْ يَكُنْ الثَّانِي أَجِيرَ الْأَوَّلِ وَلَا تِلْمِيذَهُ ضَمَّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلَوْ سُرِقَ مِنْهُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ صَارَ مُودَعًا، فَأَمَّا مَا دَامَ فِي الْعَمَلِ كَانَ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ لِتَصَرُّفِهِ بِلَا إذْنِ مَالِكِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُودَعُ الْمُودَعِ لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْوَدِيعَةِ بِلَا إذْنِ رَبِّهَا. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْمَلَّاحِ] (فَصْلٌ) : غَرِقَتْ السَّفِينَةُ، فَلَوْ مِنْ رِيحٍ أَصَابَهَا أَوْ مَوْجٍ أَوْ جَبَلٍ صَدَمَهَا بِلَا مَدِّ مَلَّاحٍ وَفِعْلِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ بِفِعْلِهِ، فَلَوْ خَالَفَ بِأَنْ جَاوَزَ الْعَادَةَ ضَمِنَ إجْمَاعًا، وَكَذَا لَوْ لَمْ يُجَاوِزْ عِنْدَنَا لِمَا مَرَّ.

فصل في ضمان الإسكاف

مَسْأَلَةٌ) : وَإِذَا دَخَلَهَا الْمَاءُ فَأَفْسَدَ الْمَتَاعَ فَإِنْ كَانَ بِفِعْلِهِ وَيَدِهِ ضَمِنَ عِنْدَنَا، وَإِنْ بِلَا فِعْلِهِ ضَمِنَ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ وَإِلَّا يَبْرَأُ وِفَاقًا، وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَبُّ الْمَتَاعِ أَوْ وَكِيلُهُ فِي السَّفِينَةِ، فَلَوْ كَانَ فَلَا ضَمَانَ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْإِسْكَافِ] (فَصْلٌ) : أَخَذَ خُفًّا لِيُنْعِلَهُ فَلَبِسَهُ ضَمِنَ لَا لَوْ نَزَعَ. (مَسْأَلَةٌ) : خَرَجَ إلَى الْقُرَى لِلْخَرْزِ فَوَضَعَ خُفًّا لِرَجُلٍ فِي دَارٍ فَضَاعَ. اُنْظُرْهَا فِي ضَمَانِ الْمُودَعِ. (مَسْأَلَةٌ) : دَفَعَ صِرْمًا إلَيْهِ لِلْخَفِّ فَفَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَسُرِقَ ضَمِنَ. (مَسْأَلَةٌ) : دَفَعَ إلَيْهِ جِلْدًا لِيَخْرِزَ لَهُ خُفًّا وَسَمَّى الْأَجْرَ وَالْقَدْرَ وَالصِّفَةَ فَأَتَى بِهِ، فَإِنْ وَافَقَ مَا أَمَرَ بِلَا فَسَادٍ أُمِرَ مَالِكُهُ بِقَبُولِهِ بِلَا خِيَارٍ، وَلَوْ خَالَفَهُ ضَمِنَ قِيمَةَ جِلْدِهِ أَوْ أَخَذَ الْخَلَفَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْخَيَّاطِ وَالنَّسَّاجِ] (فَصْلٌ) : رَجُلٌ قَالَ لِلْخَيَّاطِ: اُنْظُرْ إلَى هَذَا الثَّوْبِ إنْ كَفَانِي قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ بِدِرْهَمٍ وَخِطْهُ فَقَطَعَهُ ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ لَا يَكْفِيكَ يَضْمَنُ الثَّوْبَ. وَلَوْ قَالَ: اُنْظُرْ أَيَكْفِينِي قَمِيصًا فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: اقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ ثُمَّ قَالَ: لَا يَكْفِيكَ لَا - يَضْمَنُ قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَلَوْ قَالَ اقْطَعْهُ إذَنْ فَلَمَّا قَطَعَهُ قَالَ: إذَنْ لَا يَكْفِيكَ لَا ذِكْرَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكِتَابِ. وَحُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: يَضْمَنُ. (مَسْأَلَةٌ) : دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا لِيَخِيطَ لَهُ قَمِيصًا فَخَاطَهُ قَمِيصًا فَأَفْسَدَهُ وَعَلِمَ بِهِ الْمَالِكُ وَلَبِسَهُ لَيْسَ لَهُ تَضْمِينُهُ؛ إذْ لَبِسَهُ رِضًا وَعُلِمَ مِنْهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ قَالَ: اقْطَعْهُ حَتَّى يُصِيبَ الْقَدَمَ وَاجْعَلْ كُمَّهُ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ وَعَرْضَهُ كَذَا فَجَاءَ بِهِ نَاقِصًا، فَلَوْ كَانَ قَدْرَ أُصْبُعٍ وَنَحْوَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَهُ تَضْمِينُهُ، كَذَا فِي الْمُنْتَقَى وَالْخُلَاصَةِ. (مَسْأَلَةٌ) : نَسَّاجٌ نَسَجَ الثَّوْبَ، وَجَاءَ بِهِ لِيَأْخُذَ الْأَجْرَ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ: أَمْسِكْهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ فَأُوفِيَكَ الْأَجْرَ، فَأَخَذَ إنْسَانٌ الثَّوْبَ مِنْ النَّسَّاجِ فِي الزَّحْمَةِ وَذَهَبَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَوْ أَخَذَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ مِنْهُ لَا يَمْنَعُهُ عَنْهُ أَوْ يَمْنَعُهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَمْنَعُهُ عَنْهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُ: أَمْسِكْهُ عَلَى وَجْهِ الرَّهْنِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ يَهْلَكُ الثَّوْبُ بِالْأَجْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ يَجِبُ الْأَجْرُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَائِكِ، وَإِنْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَذْهَبَ بِالثَّوْبِ لَمْ يَكُنْ الْحَائِكُ يَدْعُهُ فَلِذَلِكَ تَرَكَ صَاحِبُ الثَّوْبِ الثَّوْبَ عِنْدَهُ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: يَضْمَنُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ اصْطَلَحَا عَلَى شَيْءٍ فَحَسَنٌ. وَالنَّسَّاجُ إذَا أَمْسَكَ الثَّوْبَ فَتَعَلَّقَ رَبُّ الثَّوْبِ بِهِ لِيَأْخُذَهُ فَمَنَعَهُ الْحَائِكُ فَمَدَّهُ رَبُّ الثَّوْبِ فَتَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ مَدِّهِ لَا يَضْمَنُ الْحَائِكُ، وَلَوْ تَخَرَّقَ مِنْ مَدِّهِمَا ضَمِنَ نِصْفَ الثَّوْبِ اُنْظُرْ مَجْمُوعَ النَّوَازِلِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ سَلَّمَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ لِيَنْسِجَهُ ثَوْبًا سَبْعًا فِي أَرْبَعٍ فَعَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَصْغَرَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، إلَّا فِي النُّقْصَانِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ؛ لِأَنَّهُ وَافَقَهُ فِي الْأَصْلِ وَخَالَفَهُ فِي الْوَصْفِ. اُنْظُرْ تَمَامَهَا فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ.

فصل في ضمان الحداد

فَرْعٌ) : وَلَوْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِهِ رِطْلًا فَقَالَ: زِدْتُ وَأَنْكَرَ رَبُّ الثَّوْبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْحَائِكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ غَزْلٍ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ مُسْتَهْلَكًا. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْحَدَّادِ] (فَصْلٌ) : دَفَعَ إلَيْهِ حَدِيدًا يَصْنَعُهُ عَيْنًا سَمَّاهُ بِأَجْرٍ فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ أُمِرَ مَالِكُهُ بِقَبُولِهِ بِلَا خِيَارٍ، وَلَوْ خَالَفَهُ جِنْسًا بِأَنْ أَمَرَهُ بِقَدُومٍ يَصْلُحُ لِلنَّجَّارِ فَصَنَعَ قَدُومًا يَصْلُحُ لِكَسْرِ الْحَطَبِ يُخَيَّرُ مَالِكُهُ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ حَدِيدِهِ، أَوْ أَخَذَ الْقَدُومَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَكَذَا حُكْمُ كُلِّ مَا يُسَمَّى لِكُلِّ صَانِعٍ. (مَسْأَلَةٌ) : الْحَدَّادُ إذَا أَخْرَجَ الْحَدِيدَةَ مِنْ الْكِيرِ وَذَلِكَ فِي حَانُوتِهِ فَوَضَعَهَا عَلَى الْعُلَاةِ وَضَرَبَهَا بِمِطْرَقَةٍ فَخَرَجَ شَرَرُهَا إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَأَحْرَقَتْ رَجُلًا أَوْ فَقَأَتْ عَيْنَهُ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَوْ أَحْرَقَتْ ثَوْبَ إنْسَانٍ فَثَمَنُهُ فِي مَالِهِ، وَلَوْ لَمْ يَضْرِبْهَا بِالْمِطْرَقَةِ وَلَكِنَّ الرِّيحَ أَخْرَجَتْ شَرَرَهَا فَأَصَابَ مَا أَصَابَ فَهُوَ هَدَرٌ. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْحَمَّامِيِّ] (فَصْلٌ) : وَفِي الْأَصْلِ: رَجُلٌ لَبِسَ ثَوْبًا بِمَرْأَى عَيْنِ الْحَمَّامِيِّ وَظَنَّ الْحَمَّامِيُّ أَنَّهُ ثَوْبُهُ فَإِذَا هُوَ ثَوْبُ الْغَيْرِ ضَمِنَ هُوَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي وَدِيعَةِ النَّوَازِلِ: إذَا وُضِعَ الثَّوْبُ بِمَرْأَى عَيْنِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَمَّامِيِّ ثِيَابٌ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضْمَنُ إلَّا إذَا نَصَّ عَلَى اسْتِحْفَاظِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ، وَإِنْ قَالَ لِصَاحِبِ الْحَمَّامِ: أَيْنَ أَضَعُ هَذِهِ الثِّيَابَ؟ فَحِينَئِذٍ صَارَ مُودَعًا، وَقَوْلُهُ ضَمِنَ: يَعْنِي مَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الثِّيَابِيَّ لَا يَضْمَنُ إلَّا بِمَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ وَاسْتَأْجَرَهُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ إذَا تَلِفَ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ: يَضْمَنُ الْحَمَّامِيُّ إجْمَاعًا، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَكَانَ يَقُولُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو اللَّيْثِ. (مَسْأَلَةٌ) : دَخَلَ الْحَمَّامَ وَقَالَ لِلْحَمَّامِيِّ: احْفَظْ الثِّيَابَ فَخَرَجَ، وَلَمْ يَجِدْ ثِيَابَهُ، فَلَوْ أَقَرَّ الْحَمَّامِيُّ أَنَّ غَيْرَهُ رَفَعَهَا وَهُوَ يَرَاهُ فَظَنَّ أَنَّهُ يَرْفَعُ ثِيَابَهُ ضَمِنَ إذَا تَرَكَ الْحِفْظَ وَلَمْ يَمْنَعْ الْقَاصِدَ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنِّي رَأَيْتُ أَحَدًا رَفَعَ ثِيَابَكَ إلَّا أَنِّي ظَنَنْتُ أَنَّ الرَّافِعَ أَنْتَ لَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَتْرُكْ الْحِفْظَ لَمَّا ظَنَّ أَنَّ الرَّافِعَ هُوَ، وَلَوْ سُرِقَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ يَبْرَأُ لَوْ لَمْ يَذْهَبْ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلَمْ يُضَيِّعْ، وَهَذَا قَوْلُ الْكُلِّ. اُنْظُرْ تَمَامَ ذَلِكَ فِي الذَّخِيرَةِ. (فَرْعٌ) : نَزَعَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْحَمَّامِيِّ فَخَرَجَ فَوَجَدَ الْحَمَّامِيَّ نَائِمًا وَلَمْ يَجِدْ ثَوْبَهُ، فَإِنْ نَامَ قَاعِدًا فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ مُضْطَجِعًا بِأَنْ وَضَعَ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ قِيلَ ضَمِنَ. وَقِيلَ لَا. ؛ إذْ نَوْمُ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودِعِ عِنْدَ الْأَمَانَةِ مُضْطَجِعًا يُعَدُّ حِفْظًا عَادَةً. اُنْظُرْ التَّجْنِيسَ. (مَسْأَلَةٌ) : فِي النَّوَازِلِ: رَجُلٌ دَخَلَ الْحَمَّامَ وَقَالَ لِصَاحِبِهِ: احْفَظْ هَذِهِ الثِّيَابَ. فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَجِدْ ثِيَابَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ إنْ سُرِقَ أَوْ ضَاعَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ إذَا هَلَكَ يَضْمَنُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. [فَصْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْ الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ إذَا أَوْقَدَ نَارًا فِي أَرْضِهِ فِي يَوْمِ رِيحٍ لِإِحْرَاقِ الْحَشِيشِ فَتَعَدَّتْ إلَى كُدْسِ جَارِهِ فَأَحْرَقَتْهُ يَضْمَنُ إنْ كَانَتْ الرِّيحُ تَهُبُّ إلَى جَانِبِ الْكُدْسِ وَإِلَّا فَلَا. قَالَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ.

مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ أَوْقَدَ النَّارَ فِي طَرِيقِ الْجَادَّةِ ثُمَّ جَاءَتْ الرِّيحُ وَقَلَبَتْهَا إلَى دَارِ قَوْمٍ فَأَحْرَقَتْهَا لَا يَضْمَنُ، هَكَذَا فِي الْفَتَاوَى. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ: رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَأَحْرَقَ الْحَصَائِدَ فَاحْتَرَقَ كُدْسُ غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: يَضْمَنُ فِي يَوْمِ الرِّيحِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: دَارٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لِأَحَدِهِمَا فِيهَا أَنْعَامٌ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، وَأَذِنَ الْآخَرُ لِرَجُلٍ بِالسُّكْنَى فِيهَا فَسَكَنَ وَأَوْقَدَ فِيهَا نَارًا فَاحْتَرَقَتْ الدَّارُ وَالْأَنْعَامُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَالدَّارِ فِي الْإِيقَادِ الْمُعْتَادِ. قُلْتُ: هَكَذَا وَجَدْتُهُ مَكْتُوبًا، لَكِنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيقَادِ الْمُعْتَادِ أَوْقَعَ لِي شُبْهَةً فِيهِ. قَالَ فِي فَوَائِدِ سَيْفِ الدِّينِ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيقَادَ الْمُعْتَادَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَمْلِكُ إسْكَانَ الْغَيْرِ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إسْكَانُهُ لَمْ يَصِرْ الْمَأْمُورُ بِالسُّكْنَى مَأْمُورًا بِإِيقَادِ النَّارِ أَصْلًا فَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ مِنْ الْإِيقَادِ وَإِنْ كَانَ مُعْتَادًا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْإِيقَادِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ. (مَسْأَلَةٌ) : أَحْرَقَ كَلَأً أَوْ حَصَائِدَ فِي أَرْضِهِ فَذَهَبَتْ النَّارُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَأَحْرَقَتْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ مُطْلَقًا. وَفِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: رَجُلٌ أَوْقَدَ النَّارَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَتَعَدَّتْ النَّارُ إلَى كُدْسِ حِنْطَةٍ أَوْ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ الْأَمْوَالِ فَأَحْرَقَتْهُ لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ أَحْرَقَتْ شَيْئًا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَوْقَدَ ضَمِنَ، كَذَا ذَكَرَهُ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ التَّرْجُمَانِيُّ فِي فَتَاوَاهُ. (فَرْعٌ) : لَوْ مَرَّ بِنَارٍ فِي مِلْكِهِ أَوْ مِلْكِ غَيْرِهِ فَوَقَعَتْ شَرَارَةٌ مِنْ نَارٍ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلٍ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ حَمْلِ النَّارِ وَالْوُقُوعِ عَلَى الثَّوْبِ وَاسِطَةٌ لِيَكُونَ مُضَافًا إلَيْهِ، حَتَّى لَوْ طَارَتْ الرِّيحُ بِشَرَرٍ مِنْ النَّارِ فَأَلْقَاهُ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي النَّوَازِلِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنْ مَرَّ بِالنَّارِ فِي مَوْضِعٍ لَهُ حَقُّ الْمُرُورِ فَوَقَعَتْ شَرَارَةٌ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ أَوْ لَهَبُهَا لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُرُورِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَالْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ: إنْ وَقَعَتْ مِنْهُ شَرَارَةٌ يَضْمَنُ، وَإِنْ هَبَّتْ بِهَا الرِّيحُ لَا يَضْمَنُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. (مَسْأَلَةٌ) : حَمَلَ قُطْنًا إلَى النَّدَّافِ فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ فِي السِّكَّةِ تَحْمِلُ قَبَسًا مِنْ النَّارِ فَأَخَذَتْ النَّارُ الْقُطْنَ فَأَحْرَقَتْهُ لَمْ يَضْمَنْ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حَرَكَةِ الرِّيحِ، وَإِلَّا نُظِرَ إنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي مَشَتْ إلَى الْقُطْنِ ضَمِنَتْ، وَإِنْ مَشَى صَاحِبُ الْقُطْنِ إلَى النَّارِ لَمْ تَضْمَنْ. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلَانِ كَانَا يَدْبُغَانِ جُلُودًا فِي حَانُوتٍ وَاحِدٍ، فَأَذَابَ أَحَدُهُمَا شَحْمًا فِي مِرْجَلِ نُحَاسٍ فَصَبَّ فِيهِ مَاءً لِيَسْكُنَ فَالْتَهَبَ الشَّحْمُ فَأَصَابَ السَّقْفَ فَاحْتَرَقَ مَتَاعُ صَاحِبِهِ وَأَمْتِعَةُ جِيرَانِهِ لَمْ يَضْمَنْ. (فَصْلٌ) : وَمَنْ مَسَائِلِ الضَّمَانِ صَبِيٌّ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ وَحَقُّ الْحَضَانَةِ لِلْأُمِّ فَخَرَجَتْ وَتَرَكَتْ الصَّبِيَّ فَوَقَعَ فِي النَّارِ تَضْمَنُ الْأُمُّ، كَذَا قَالَهُ شَرَفُ الْأَئِمَّةِ الْمَكِّيُّ. وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: لَا تَضْمَنُ فِي ابْنِ سِتِّ سِنِينَ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي مَجْمُوعَاتِهِ: امْرَأَةٌ تُصْرَعُ أَحْيَانَا فَتَحْتَاجُ إلَى حِفْظِهَا لِئَلَّا تَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ وَهِيَ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ فَعَلَيْهِ حِفْظُهَا وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا، حَتَّى لَوْ أَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي نَارٍ عِنْدَ الصَّرْعِ فَعَلَى الزَّوْجِ ضَمَانُهَا. وَكَذَا الصَّغِيرَةُ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ وَهِيَ مُسَلَّمَةٌ إلَى الزَّوْجِ إنْ لَمْ يَحْفَظْهَا وَضَيَّعَهَا ضَمِنَ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ شَرَفُ الْأَئِمَّةِ الْمَكِّيُّ: مُعَلِّمٌ بَعَثَ صَبِيَّةً لِتَجِيءَ بِنَارٍ بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهَا فَاحْتَرَقَتْ يَضْمَنُ إنْ كَانَ صِغَرُهَا بِحَيْثُ لَا يُمَكِّنُهَا حِفْظَ النَّفْسِ، وَإِلَّا فَلَا. (مَسْأَلَةٌ) : امْرَأَةٌ تَرَكَتْ وَلَدَهَا عِنْدَ امْرَأَةٍ وَقَالَتْ لَهَا فِي مُحِبّك هجر دَارِي حَتَّى أَرْجِعَ فَذَهَبَتْ الْمَرْأَةُ الثَّانِيَةُ وَتَرَكَتْهُ. فَوَقَعَ الصَّغِيرُ فِي النَّارِ فَعَلَيْهَا الدِّيَةُ لِلْأُمِّ وَسَائِرُ الْوَرَثَةِ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ.

فصل في ضمان الراكب والقائد والسائق وما أشبههم

(فَرْعٌ) : قَالَ فِي الْمُحِيطِ: أُودِعَتْ صَبِيَّةً فَوَقَعَتْ فِي النَّارِ فَمَاتَتْ، فَإِنْ غَابَتْ عَنْ بَصَرِهَا ضَمِنَتْ وَإِلَّا فَلَا. (فَرْعٌ) : قَالَ أَبُو الْفَضْلِ فِي صَغِيرَيْنِ يَلْعَبَانِ فَصَرَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَانْكَسَرَ فَخْذُهُ وَلَمْ يَنْجَبِرْ حَتَّى لَا يُمْكِنَ الْمَشْيُ فَعَلَى أَقْرِبَاءِ الصَّبِيِّ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ خَمْسُمِائَةٍ دِينَارٍ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّوَازِلِ: صَبِيَّانِ يَرْمُونَ لَعِبًا فَأَصَابَ سَهْمُ أَحَدِهِمْ عَيْنَ امْرَأَةٍ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ وَنَحْوُهَا، وَفِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجيَّةِ: وَالرَّامِي ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَالدِّيَةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الدِّيَةَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى لِلْعُجْمِ عَاقِلَةً قَالَ: وَأَمَّا إذَا كَانَ لِلصَّبِيِّ عَاقِلَةٌ وَثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ، وَلَوْ شَهِدَ الصِّبْيَانُ أَوْ أَقَرَّ الصَّبِيُّ لَمْ يَجِبْ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ. (فَرْعٌ) : نَزَعَ سِنَّ امْرَأَةٍ فَتُجَنُّ يَوْمًا وَتُفِيقُ يَوْمًا فَحُكُومَةُ عَدْلٍ. (فَصْلٌ) : وَضَعَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ فَسَقَطَ وَهَلَكَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ يَضْمَنُ هُوَ الصَّحِيحُ، قَالَهُ الْقَاضِي بَدِيعٌ. (فَرْعٌ) : قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَالْعَلَاءُ التَّرْجُمَانِيُّ: وَضَعَ زِقًّا فِي الطَّرِيقِ فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ فَشَقَّهُ يَضْمَنُ إنْ كَانَ وَضَعَهُ لِعُذْرٍ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: إنْ أَبْصَرَهُ حِينَ عَثَرَ عَلَيْهِ يَضْمَنُ، وَإِلَّا فَلَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الرَّاكِبِ وَالْقَائِدِ وَالسَّائِقِ وَمَا أَشْبَهُهُمْ] (فَصْلٌ) : إذَا سَارَ فِي الطَّرِيقِ فَأَوْطَأَتْ دَابَّتُهُ رَجُلًا بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ كَدَمَتْ أَوْ صَدَمَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَكَذَلِكَ السَّائِقُ وَالرَّاكِبُ وَالرَّدِيفُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَى الرَّاكِبِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ تَسِيرُ وَعَلَيْهَا رَجُلٌ فَنَخَسَهَا فَأَلْقَتْ الرَّاكِبَ إنْ كَانَ النَّخْسُ بِإِذْنِهِ لَا يَجِبُ عَلَى النَّاخِسِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَإِنْ ضَرَبَتْ النَّاخِسَ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ. (مَسْأَلَةٌ) : الْغُبَارُ الثَّائِرُ مِنْ حَوَافِرِ الدَّوَابِّ وَالْحَصَى الصِّغَارُ الْمُرْتَفِعَةُ مِنْ سَنَابِكِهَا إذَا أَتْلَفَتْ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْحَصَى الْكِبَارِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ تَعْنِيفِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا وَهِيَ تَسِيرُ أَوْ بِذَنَبِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ حَالَةَ السَّيْرِ، وَكَذَا مَا عَطِبَ بِبَوْلِهَا وَرَوْثِهَا حَالَ سَيْرِهَا، وَكَذَا عَلَى الْقَائِدِ أَوْ السَّائِقِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ أَوْقَفَهَا صَاحِبُهَا فِي الطَّرِيقِ ضَمِنَ نَفْحَةَ الرِّجْلِ وَالذَّنَبِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَافَ غَيْرُ مُطْلَقٍ لَهُ فِي الطَّرِيقِ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِيقَافِ فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ. (فَرْعٌ) : رَجُلٌ أَوْقَفَ دَابَّتَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ جَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ مَوْقِفًا يُوقِفُونَ فِيهِ دَوَابَّهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَصَابَتْ فِي وُقُوفِهَا. (فَرْعٌ) : وَلَوْ سَاقَهَا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ أَوْ قَادَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ، وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ الْإِمَامُ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ قَدْ أَذِنَ الْإِمَامُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ سُوقِ الْخَيْلِ وَالدَّوَابِّ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاقِفِ الدَّابَّةِ فِيمَا كَانَ مِنْ نَفْحَةِ ذَنَبٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ لُعَابٍ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا وَاقِفًا فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ وَالسَّوْقَ وَالسَّيْرَ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ جَعْلِ الْإِمَامِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إذْنُ الْإِمَامِ وَعَدَمُهُ، بَلْ يَبْقَى مُقَيَّدًا عَلَى حَالِهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ؛ وَكَذَلِكَ الْفَلَاةُ مِنْ الْأَرْضِ إذَا أَوْقَفَ فِيهَا دَابَّتَهُ، وَكَذَلِكَ طَرِيقُ مَكَّةَ إذَا كَانَ وُقُوفُهُ فِي غَيْرِ الْمَحَجَّةِ

فصل في ضمان ما أفسدت المواشي

لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ، وَإِنْ وَقَفَ فِي الْمَحَجَّةِ فَهُوَ كَالْوُقُوفِ فِي الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا بَيَّنَّا. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ كَلْبٌ عَقُورٌ فَعَقَرَ إنْسَانًا فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ هَدَرٌ لِحَدِيثِ «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» وَلَوْ أَغْرَى كَلْبًا حَتَّى عَضَّ رَجُلًا لَا يَضْمَنُ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَ بَازِيًا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ، سَوَاءٌ كَانَ قَائِدًا أَوْ سَائِقًا أَوْ لَا يَقُودُهُ وَلَا يَسُوقُهُ كَمَا إذَا أَرْسَلَ الْبَهِيمَةَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: إنْ كَانَ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا لَهُ يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا، وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ. وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ كَانَ يُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي حَازِمٍ. وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَفِي الزِّيَادَاتِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْكَلْبُ مُعَلَّمًا لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هُوَ سَائِقًا لَهُ وَيَضْمَنُ مُطْلَقًا، وَفِي غَيْرِ الْمُعَلَّمِ يُشْتَرَطُ السَّوْقُ، اُنْظُرْ الْخُلَاصَةَ. (مَسْأَلَةٌ) : إذَا قَادَ الرَّجُلُ قِطَارًا فَمَا أَوَطْأَهُ - أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ - فَهُوَ ضَامِنٌ. وَكَذَلِكَ إذَا صَدَمَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ إلَى تَلَفِهِ بِتَقْرِيبِ الدَّابَّةِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي التَّسَبُّبِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقُودُ قِطَارًا، وَآخَرُ مِنْ خَلْفِ الْقِطَارِ يَسُوقُهُ، وَعَلَى الْإِبِلِ قَوْمٌ فِي الْمَحَامِلِ نِيَامٌ أَوْ غَيْرُ نِيَامٍ فَوَطِئَ بَعِيرٌ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ وَالرَّاكِبِينَ عَلَى ذَلِكَ وَالْبَعِيرِ وَالرَّاكِبِينَ الَّذِينَ قُدَّامَ الْبَعِيرِ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ عَدَدُ الرُّءُوسِ؛ لِأَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي التَّسَبُّبِ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَى رَاكِبِ الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ خَاصَّةً. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ قَادَ إنْسَانٌ أَعْمَى فَوَطِئَ الْأَعْمَى إنْسَانًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْقَائِدِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيضَاحِ وَمِنْ شَرْحِ التَّجْرِيدِ وَمِنْ الْخُلَاصَةِ. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ مَا أفسدت الْمَوَاشِي] (فَصْلٌ) : قَالَ يُوسُفُ التَّرْجُمَانِيُّ: الصَّغِيرُ رَاعٍ سَاقَ الْغَنَمَ مِنْ الرَّاعِي الْخَاصِّ أَوْ الْمُشْتَرَكِ لِيُبَيِّتَهَا فِي ضَيْعَتِهِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فَفَعَلَ وَبَيَّتَهَا فِيهِ وَنَامَ وَنَفَشَتْ الْغَنَمُ فِي زَرْعِ جَارِهِ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ جَرْحَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ بُرْهَانُ الدِّينِ صَاحِبُ الْمُحِيطِ: رَبَطَ كَبْشًا عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَأَشْهَدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْقُلْهُ حَتَّى نَطَحَ صَبِيًّا وَكَسَرَ ثَنِيَّتَهُ يَضْمَنُ. (فَرْعٌ) : رَجُلٌ أَدْخَلَ غَنَمًا أَوْ ثَوْرًا أَوْ حِمَارًا كَرْمًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ أَرْضًا فَأَفْسَدَهَا، وَصَاحِبُهَا مَعَهَا يَسُوقُهَا - فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَسُوقُهَا لَا يَضْمَنُ. وَقِيلَ: يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يَسُقْهَا عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ الْبَعِيرِ الْمُغْتَلِمِ. وَفِي غَصْبِ الْفَتَاوَى: إذَا وَجَدَ بَقَرَةً فِي زَرْعِهِ فَأَخْبَرَ صَاحِبَهَا لِيُخْرِجَهَا فَأَخْرَجَهَا صَاحِبُهَا فَأَفْسَدَتْ الدَّابَّةُ الزَّرْعَ عِنْدَ الْإِخْرَاجِ إنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ دَابَّتَهُ فِي الزَّرْعِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِخْرَاجِ يَضْمَنُ، وَإِنْ أَمَرَهُ حِينَ أَخْبَرَ لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ لَمْ يُخْبِرْ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ أَخْرَجَهَا مِنْ الزَّرْعِ فَجَاءَ ذِئْبٌ فَأَكَلَهَا. فِي غَصْبِ الْمُنْتَقَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَفِي غَصْبِ الْفَتَاوَى: الْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ أَكْثَرُ الشُّيُوخِ إنْ أَخْرَجَهَا وَسَاقَهَا ضَمِنَ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا وَلَمْ يَسُقْهَا لَا يَضْمَنُ.

فصل في الجناية على الدواب

مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ أَدْخَلَ دَابَّتَهُ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَخْرَجَهَا صَاحِبُ الدَّارِ فَهَلَكَتْ لَا يَضْمَنُ كَمَا فِي الزَّرْعِ. (مَسْأَلَةٌ) : الرَّاعِي إذَا وَجَدَ فِي السَّرْجِ بَقَرَةً فَطَرَدَهَا قَدْرَ مَا تَخْرُجُ لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ وَجَدَ فِي مِرْبَطِهِ دَابَّةً فَأَخْرَجَهَا فَأَكَلَهَا ذِئْبٌ أَوْ ضَاعَتْ ضَمِنَ قِيمَتَهَا. (فَرْعٌ) : رَجُلٌ وَجَدَ فِي كَرْمِهِ أَوْ زَرْعِهِ دَابَّةً وَقَدْ أَفْسَدَتْ زَرْعَهُ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ صَاحِبُ الْكَرْمِ. (مَسْأَلَةٌ) : اسْتَهْلَكَ عُجُولَ غَيْرِهِ فَيَبِسَ لَبَنُ أُمِّهِ يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْبَقَرَةِ. وَوَقَعَ فِي بَابِ التَّسَبُّبِ إلَى التَّلَفِ مِنْ الْقُنْيَةِ: غَصَبَ عُجُولًا فَأَتْلَفَهُ حَتَّى يَبِسَ ضَرْعُ أُمِّهِ يَضْمَنُ الْعُجُولَ دُونَ نُقْصَانِ الْبَقَرَةِ. [فَصْلٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الدَّوَابِّ] (فَصْلٌ) : شَاةٌ لِقَصَّابٍ فُقِئَتْ عَيْنُهَا فَفِيهَا مَا نَقَصَهَا، وَفِي عَيْنِ بَقَرَةِ الْجَزَّارِ وَجَزُورِهِ رُبْعُ الْقِيمَةِ، وَكَذَا فِي عَيْنِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ رُبْعُ الْقِيمَةِ. وَفِي الْمُنْتَقَى: مَا يَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ فَفِي عَيْنِهِ رُبْعُ الْقِيمَةِ وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةُ، وَمَا لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ كَالْفَصِيلِ وَالْجَحْشِ إذَا فُقِئَتْ عَيْنُ وَاحِدٍ فَفِيهَا رُبْعُ قِيمَتِهِ. وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: الدَّجَاجَةُ كَالشَّاةِ وَفِيهَا مَا نَقَصَهَا، وَلَوْ قَطَعَ أَحَدٌ قَوَائِمَ الدَّابَّةِ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا، ذَكَرَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي غَصْبِ الْأَصْلِ. وَفِي غَصْبِ الْفَتَاوَى: إنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولَ اللَّحْمِ هَكَذَا، أَمَّا إذَا كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ لَهُ الْخِيَارُ إنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَضَمِنَ الْجَانِي مَا نَقَصَهُ. وَفِي الْعُيُونِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا اسْتَهْلَكَ حِمَارَ الْغَيْرِ أَوْ بَغْلَهُ بِقَطْعِ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ أَوْ بِذَبْحِهِ إنْ شَاءَ صَاحِبُهُ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ وَلَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَلَوْ ضَرَبَ رَجُلٌ حِمَارًا حَتَّى صَارَ أَعْرَجَ فَهُوَ كَالْقَطْعِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَلَوْ قَطَعَ لِسَانَ الثَّوْرِ يَلْزَمُهُ كَمَالُ الْقِيمَةِ لِفَوَاتِ الِاعْتِلَافِ. اُنْظُرْ الْقُنْيَةَ. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ مَنْ وَضَعَ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) : إذَا حَفَرَ الْحُرُّ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ أَوْ مَاتَ أَوْ أَصَابَهُ جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِسُقُوطِهِ فَهُوَ ضَامِنُ الْجِنَايَةِ حَيًّا كَانَ الْحَافِرُ أَوْ مَيِّتًا، وَلَوْ كَانَ الْحَافِرُ عَبْدًا فَالْجِنَايَةُ كُلُّهَا فِي رَقَبَتِهِ، وَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ بِجَمِيعِ الْأَرْضِ. وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَجَاءَ آخَرُ فَحَفَرَ فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَهَذَا قِيَاسٌ وَبِهِ نَأْخُذُ. تَفْرِيعٌ: لَوْ وَسَّعَ رَجُلٌ رَأْسَهَا فَإِنْ كَانَ وَضَعَ قَدَمَهُ فِي حَفْرِهِمَا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ وَسَّعَ الثَّانِي كَثِيرًا حَتَّى صَارَ وَضْعُ الْقَدَمِ فِي حَفْرِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي. (فَرْعٌ) : وَلَوْ عَثَرَ بِحَجَرٍ فَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ فَإِنْ كَانَ الْحَجَرُ وَضَعَهُ إنْسَانٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ أَحَدٌ وَهُوَ حَمْلُ السَّيْلِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ. (مَسْأَلَةٌ) : لَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَحْفِرَ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانَ فِي فِنَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْأَجِيرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي فِنَائِهِ، فَإِنْ عَلِمَ الْأَجِيرُ بِذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ دُونَ الْآمِرِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ يَحْفِرُونَ لَهُ بِئْرًا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ] (فَصْلٌ) : اسْتَأْجَرَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ يَحْفِرُونَ لَهُ بِئْرًا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ رُبْعُ الدِّيَةِ وَهَدَرٌ الرُّبْعُ. وَلَوْ وَقَعَ رَجُلٌ فِي بِئْرٍ فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ وَتَعَلَّقَ الثَّانِي بِثَالِثٍ فَوَقَعُوا وَمَاتُوا فَإِنْ

فصل في ضمان ما يحدثه الرجل في الطريق

عُرِفَ حَالُ مَوْتِهِمْ بِأَنْ أُخْرِجُوا أَحْيَاءً فَأَخْبَرُوا فَهَذَا عَلَى تِسْعَةِ أَوْجُهٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ إنْ عُرِفَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ، وَإِنْ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَإِنْ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَنِصْفُهُ هَدَرٌ وَنِصْفُهُ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ مَاتَ بِسُقُوطِهِ وَوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ فَالنِّصْفُ عَلَى الْحَافِرِ وَنِصْفُهُ هَدَرٌ، وَإِنْ كَانَ بِسُقُوطِهِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَالنِّصْفُ عَلَى الْحَافِرِ وَالنِّصْفُ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ مَاتَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ فَالثُّلُثُ مِنْهُ هَدَرٌ وَثُلُثُهُ عَلَى الْحَافِرِ وَثُلُثُهُ عَلَى الثَّانِي. وَأَمَّا مَوْتُ الثَّانِي فَإِنْ كَانَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ فَدِيَتُهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَإِنْ مَاتَ بِوُقُوعِهِ وَوُقُوعِ الثَّالِث عَلَيْهِ فَنِصْفُ دَمِهِ هَدَرٌ وَالنِّصْفُ عَلَى الْأَوَّلِ. وَأَمَّا مَوْتُ الثَّالِثِ فَلَهُ وَجْهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ وُقُوعُهُ فِي الْبِئْرِ فَدِيَتُهُ عَلَى الثَّانِي. (فَصْلٌ) : وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ حَالُ مَوْتِهِمْ فَالْقِيَاسُ أَنَّ دِيَةَ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَافِرِ، وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: دِيَةُ الْأَوَّلِ أَثْلَاثًا: عَلَى صَاحِبِ الْبِئْرِ الثُّلُثُ، وَعَلَى الْأَوْسَطِ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ هَدَرٌ. وَدِيَةُ الثَّانِي نِصْفَانِ، نِصْفُهُ هَدَرٌ، وَنِصْفُهُ عَلَى الْأَوَّلِ. وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي. اُنْظُرْ الْإِيضَاحَ. [فَصْلٌ فِي ضَمَانِ مَا يُحْدِثُهُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) : إذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِنَائِهِ أَوْ أَخْرَجَ جَنَاحًا أَوْ نَصَبَ فِيهِ مِيزَابًا أَوْ وَضَعَ حَجَرًا أَوْ خَشَبًا أَوْ مَتَاعًا أَوْ بَنَى دُكَّانًا أَوْ صَبَّ مَاءً أَوْ قَعَدَ فِي الطَّرِيقِ لِيَسْتَرِيحَ أَوْ مَرِضَ فَقَعَدَ فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ مِنْ جِنَايَةٍ فِي بَنِي آدَمَ وَبَلَغَ نِصْفَ الْعُشْرِ فَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا مَشَى فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ لَابِسٌ سَيْفًا أَوْ طَيْلَسَانًا فَسَقَطَ مِنْهُ عَلَى إنْسَانٍ فَتَلِفَ بِهِ أَوْ وَقَعَ فِي الطَّرِيقِ فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ، وَلَوْ كَانَ حَامِلًا لَهُ فَحَدَثَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا لَبِسَ مَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ فَهُوَ ضَامِنٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَامِلِ، وَلَوْ وَضَعَ كُنَاسَةً فِي الطَّرِيقِ فَتَلِفَ بِهِ إنْسَانٌ ضَمِنَ. (فَرْعٌ) : وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: إذَا أَخْرَجَ الرَّجُلُ مِنْ دَارِهِ مِيزَابًا إلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ، إنْ أَصَابَهُ الطَّرْفُ الدَّاخِلُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرْفُ الْخَارِجُ ضَمِنَ، وَكَذَا وَسَطُهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ يَضْمَنُ النِّصْفَ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ شَيْئًا. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيُخْرِجَ لَهُ جَنَاحًا فِي فِنَاءِ دَارِهِ أَوْ حَانُوتِهِ إنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ حَقَّ الْإِشْرَاعِ فِي الْقَدِيمِ فَسَقَطَ وَقَتَلَ إنْسَانًا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ. سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْبِنَاءِ أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَيَرْجِعُ الْأَجِيرُ عَلَى الْآمِرِ، وَإِنْ عَلِمَ الْأَجِيرُ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْإِشْرَاعِ بِإِخْبَارِهِ أَوْ بِغَيْرِ إخْبَارِهِ إنْ سَقَطَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْبِنَاءِ فَقَتَلَ إنْسَانًا ضَمِنَ الْأَجِيرُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ الْفَرَاغِ يَرْجِعُ اسْتِحْسَانًا. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْعُيُونِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْهَلَاكَ بِالثَّلْجِ الْمَرْمِيِّ إذَا زَلَقَ بِهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ إنْ لَمْ تَكُنْ السِّكَّةُ نَافِذَةً لَا ضَمَانَ عَلَى الرَّامِي، وَإِنْ كَانَتْ نَافِذَةً ضَمِنَ الرَّامِي. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: لَا يَجِبُ الضَّمَانُ مُطْلَقًا نَافِذَةً أَوْ غَيْرَ نَافِذَةٍ: قَالَ: وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ فِي دِيَارِهِمْ؛ لِأَنَّ الثَّلْجَ يَقِلُّ هُنَاكَ أَوْ لَا يَكُونُ.

فصل في الحائط المائل إلى الطريق

مَسْأَلَةٌ) : لَوْ وَضَعَ خَشَبَةً فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ أَوْ رَشَّ الْمَاءَ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ. وَفِي الْفَتَاوَى: إنَّهُ يَضْمَنُ مُطْلَقًا. وَفِي بَابِ النُّونِ: إنَّهُ يَضْمَنُ إذَا رَشَّ كُلَّ الطَّرِيقِ. وَفِي بَابِ السِّينِ: إنْ لَمْ يَرَهُ يَضْمَنُ، وَإِنْ رَآهُ لَا يَضْمَنُ قَالَ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. (فَرْعٌ) : لَوْ أَمَرَ الْأَجِيرَ بِرَشِّ فِنَاءِ الدُّكَّانِ لِلْآمِرِ فَمَا تَرَكَ مِنْهُ يَضْمَنُ الْآمِرُ، وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ ضَمِنَ الرَّاشُّ. أَمَّا لَوْ أَمَرَهُ بِالْوُضُوءِ فِي الطَّرِيقِ فَتَوَضَّأَ فِي الطَّرِيقِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا بِوَضْعِ الْحَجَرِ عَلَى الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِهِ الْآمِرُ ضَمِنَ الْوَاضِعُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: اشْرَعْ جَنَاحًا مِنْ ذَلِكَ أَوْ ابْنِ دُكَّانًا عَلَى بَابِكَ فَعَطِبَ بِهِ الْآمِرُ أَوْ غُلَامُهُ، وَكَذَا إذَا بَنَى الْآمِرُ لِلْمَأْمُورِ بِأَمْرِهِ ثُمَّ عَطِبَ بِهِ الْآمِرُ ضَمِنَ. اُنْظُرْ الْإِيضَاحَ وَالْخُلَاصَةَ. [فَصْلٌ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ إلَى الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) : إذَا بَنَى حَائِطًا مَائِلًا إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ أَوْ إلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَطِبَ بِسُقُوطِهِ سَوَاءٌ طُولِبَ بِالنَّقْضِ أَمْ لَا، وَلَوْ بَنَى فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَمَالَ الْحَائِطُ فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ بِالنَّقْضِ حَتَّى سَقَطَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالنَّقْضِ ثُمَّ سَقَطَ فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ النَّقْضُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ فِي النَّقْضِ وَذَهَبَ يَطْلُبُ مَنْ يَنْقُضُهُ فَسَقَطَ الْحَائِطُ وَتَلِفَ بِهِ إنْسَانٌ أَوْ مَتَاعٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيَلَانُ إلَى الطَّرِيقِ صَحَّ الْإِشْهَادُ مِمَّنْ لَهُ الْمُرُورُ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْإِسْلَامِ سَوَاءٌ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ بِالْخُصُومَةِ أَوْ عَبْدًا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالْخُصُومَةِ، فَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ فَقَالَ: إنَّ حَائِطَكَ مَائِلٌ فَارْفَعْهُ كَفَاهُ، وَالْإِشْهَادُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْجُحُودِ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَهْدِمَهُ لَا يَكُونُ إشْهَادًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَشُورَةً. (فَرْعٌ) : وَإِنْ كَانَ الْمَيَلَانُ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَالْإِشْهَادُ إلَى صَاحِبِ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا سُكَّانٌ فَالْإِشْهَادُ إلَيْهِمْ. وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ اسْتَمْهَلَ مِنْ الْقَاضِي أَوْ مِمَّنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ أَيَّامًا فَأَجَّلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ اُنْظُرْ التَّجْرِيدَ. [فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِنَفْيِ الضَّرَرِ] (فَصْلٌ) : ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» قَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ " لَا ضَرَرَ ": أَيْ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ إضْرَارٌ بِغَيْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الضَّرَرُ أَنْ تَضُرَّ نَفْسَكَ لِتَضُرَّ بِذَلِكَ غَيْرَكَ، فَإِذَا مَنَعَ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ يُصْلِحُ مَالَ نَفْسِهِ بِإِفْسَادِ مَالِ غَيْرِهِ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الضَّرَرِ أَنْ يَضُرَّ أَحَدُ الْجَارَيْنِ بِجَارِهِ. وَالضِّرَارُ أَنْ يَضُرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْفَاعِلَةِ فِي الْقِتَالِ وَالضِّرَابِ وَالسِّبَابِ، وَكَذَا الضِّرَارُ فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَعَمَّدَ أَحَدُهُمَا الْإِضْرَارَ بِصَاحِبِهِ، وَعَنْ أَنْ يَقْصِدَا ذَلِكَ جَمِيعًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الضَّرَرُ مَا يَنْفَعُكَ وَيَضُرُّ صَاحِبَكَ، وَالضِّرَارُ مَا يَضُرُّ صَاحِبَكَ وَلَا يَنْفَعُكَ، فَيَكُونُ الضَّرَرُ مَا قَصَدَ بِهِ الْإِنْسَانُ مَنْفَعَةً وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَالضِّرَارُ مَا قَصَدَ بِهِ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ شَيْئًا يَضُرُّ بِهِ.

(مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ اشْتَرَى بَيْتًا مِنْ مَنْزِلٍ بِحُدُودِهِ وَحُقُوقِهِ، وَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ يَمْنَعُهُ مِنْ الدُّخُولِ وَيَأْمُرُهُ بِفَتْحِ الْبَابِ إلَى السِّكَّةِ، إنْ بَيَّنَ الْبَائِعُ لَهُ طَرِيقًا لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ. (مَسْأَلَةٌ) : رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَهْدِمَ دَارِهِ وَلِأَهْلِ السِّكَّةِ ضَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَرِّبُ السِّكَّةَ، الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُمْنَعُ، فَلَوْ هَدَمَ مَعَ هَذَا، وَأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْجِيرَانِ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْبِنَاءِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ. (مَسْأَلَةٌ) : وَفِي غَصْبِ الْفَتَاوَى: رَجُلٌ غَرَسَ شَجَرَةَ الْفِرْصَادِ فِي الطَّرِيقِ إنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ لَا بَأْسَ بِهِ وَيَطِيبُ لِلَّذِي غَرَسَ فِرْصَادَهُ وَوَرَقَهُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. هَذَا تَمَامُ الْكِتَابِ بِعَوْنِ اللَّهِ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ، وَلَقَدْ وَفَّيْتُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِضَبْطِ الْفَوَائِدِ الْكُلِّيَّةِ وَرَبْطِ الْقَوَاعِدِ الْجُمَلِيَّةِ، وَلَسْتُ أَعْوَرَ حَاسِدًا وَلَا غَمْرًا جَاحِدًا يُقَابَلُ سَعْيِي فِيهِ بِالطَّعْنِ وَالتَّغْيِيرِ وَيَنْسُبُنِي فِيهِ إلَى إحْدَى خُطَّتِي الْقُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ، فَلَا يَغُرَّنَّكَ - يَا أَخَا الْإِنْصَافِ - كَلَامَهُ عَنْ الِاسْتِيضَاءِ بِأَنْوَارِ الْكِتَابِ وَالْبَحْثِ عَنْ أَغْوَارِ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَقَدْ اسْتَوْفَيْتُ فِيهِ عَلَى صِغَرِ حَجْمِهِ جَمِيعَ الْقَوَانِينِ، وَاسْتَقْصَيْت فِيهِ أَشْكَالَ الْبَرَاهِينِ، وَذَلَّلْت فِيهِ الْمَسَالِكَ الْمُتَوَغِّرَةَ، وَكَشَفْتُ عَنْ وُجُوهِ الْحَقَائِقِ الْمُسْتَتِرَةِ، وَلَقَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَادَيْتُ وَأَهْدَيْتُ إلَى مَنْ نَوَيْتُ، وَأَنَا مُعْتَذِرٌ إلَيْهِ إنْ رَأَى فِي بَعْضِ قَوَاعِدِهِ بَعْضَ الْخَلَلِ، أَوْ صَادَفَ فِي بَعْضِ أَمْثِلَتِهِ مَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الدَّغَلِ، فَإِنَّ حَالِيَ مَا شَرَحْته فِي شَرْحِ كِتَابِ الْوِقَايَةِ وَهُوَ مَشْهُورٌ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْغَفُورِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِ الدِّينِ آمِينَ.

§1/1