معركة النص

فهد العجلان

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى (ح) مجلة البيان، 1433 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر العجلان، فهد صالح معركة النص/ فهد صالح العجلان - الرياض، 1433 هـ ص 144، 16.5 × 22 سم ردمك: 0 - 07 - 8101 - 603 - 978 1 - الفكر الإِسلامي 2 - تحليل النص 3 - المقاصد الشرعية ... أ. العنوان ديوي 250 ... 436/ 1433 رقم الإيداع: 436/ 1433 ردمك: 0 - 07 - 8101 - 603 - 978

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قصة المعركة

قصة المعركة الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه وعلى آله وصحبه، أما بعد: فحين تقرأ كتابًا أو تقلِّب صحيفة أو تحرِّك موقعًا إلكترونيًا فتجد المقولات التي تُصادِم النص الشرعي صراحة، وتدعو لرؤية مغايرة بالكلية ومصادمة تمامًا للأحكام الشرعية، فإن من المفارقات أن تجد أن كل هذا -بحسب كاتبه- لا يعارض النص ولا يناقض أحكامه؛ وإنما يخالف تفسيرًا فقهيًا معيَّنًا لا يقرُّه النص ولا يتوافق مع أصول الشريعة. هذا خيط موحَّد يجمع أكثر الأفكار والرؤى المعاصرة التي تُصادِم النص وتناقض الإجماع؛ فلا تكاد تجد أحدًا يبدي صراحته في عدم اعتباره لقيمة النص الشرعي، بل إن كلَّ تلك المخلَّفات الفكرية والمخالفات الشرعية تُقدَّم في قالب التفسير الفقهي للنص، والسَّير على خط الاعتدال والوسطية التي دافعها

الغيرة على النص من اختطاف الرؤى التفسيرية المتطرفة. لقد أدرك خصوم النص أن المعركة ضد النص محسومة النتائج، وكل خطوة للأمام انكشاف تام ودخول لخط النار، وفي الضمير الحي للشعوب المسلمة من معانى الحب والتعظيم والفداء للدين وقِيَمه ما يجعله يشمئز من مرأى هذا المحارِب، فضلًا عن قبول رأيه أو تفهُّمِ دواعيه. عَلِم خصوم النص أن قواهم الفكرية والإعلامية عاجزة عن تمزيق سياج النص للنفوذ إلى قلب الشعوب المسلمة، فكان لابد من حيلة تكون موصلة إلى هذه الغاية من غير الاصطدام بهذا السياج المُحكَم, فتحركت بوصلة المعركة من مواجهة مع النص إلى تخطٍّ للنص عن طريق مسايرة النص الشرعي بجعل كلِّ الرؤى والمفاهيم المنحرفة داخلة في مفهوم النص، ويقبُلها الفَهْم والتفسير الفقهي بطريقة شَرَحَ مفاصل إستراتيجيتها أحدهم بقوله: (طريق لا عقلاني للعقلانية)! لم يتغير شيء من تلك المفاهيم، فمفاهيم المعركه الأولى هي ذاتها مفاهيم المعركة الثانية، لكنها بدلًا من أن تكون ضد النص الشرعي أصبحت مسايِرة له ومتوافِقة معه، وأصبحت مفاهيمهم المأخوذة من القيم الوافدة (بقدرة قادر) مفاهيم شرعية تضافرت النصوص على تقريرها! هذا التغيُّر الإستراتيجي قد يراه بعض الناس إيجابيًا وتصحيحًا لدى خصوم النص، لكن الواقع أن هذا التغيير خطر جدًا على المفاهيم والأحكام الشرعية؛ لأن عامة الناس ليس لديهم قدرة تفصيلية على معرفة الحق والباطل، وإنما المعيار المعتمد لديهم هو في موافقة النص أو مخالفته، وحين تُقدَّم الانحرافات الفكرية

في قوالب شرعية، فمن السهل وقوع التلبيس على كثيرٍ من الناس لظنهم أنها موافقة للدين ولما يريده اللَّه ورسوله. إن تعظيم الشعوب المسلمة للنصوص الشرعية هو أقوى أسباب الحفاظ على هوية وثقافة هذه المجتمعات، وحين تتمكن اللصوصية الثقافية من كسر هذا السياج والدخول بعدها في عمق النص لممارسة العبث والتأويل للأحكام والمفاهيم الشرعية؛ فإن هذا مؤشِّرُ خَطَرٍ وبلاء سيحل بمفاهيم الناس وقيمهم من حيث لا يشعرون. لا حلَّ أمام هذه اللصوصية الثقافية إلا بتكاتف العلماء والمثقفين والمفكرين الغيورين على كشف هذه الممارسات العبثية وإزالة الأقنعة التي تُخفي عوارها، وإعلان المفاصلة التامة مع أفكار التأويل والتحريف للنصوص الشرعية؛ بحيث يكون حالها كحال المعطِّل والمنكِر، بل أشد من ذلك، وأن يكون واضحًا لدى الوعي المسلم أن الاستدلال بالنص الشرعي ليس دائمًا علامة اتباع واستهداء، بل كثيرًا ما يكون توظيفًا يراد به تحويل النص من كونه حلًا لمشكلات الثقافة العصرية إلى جعله مشكلة يتخلص منها للدخول في ثقافة العصر. حالة تجاوز النص هذه، يقابلها من الجهة الأخرى حالة رفض المساحة الاجتهادية التي يقبلها النص، أو يتعارض فيها مع نصوص أخرى، فلا يحتمل خلاف أهل العلم ويضيق صدره عن تقبل النظر والاجتهاد المنضبط بأصول الشرع وقواعد الاجتهاد، ويضيِّق فهمَ النص باجتهاده الفقهي الخاص وتغيب عنه سعة الفقه واختلاف مدارسه، وهذا مما يعقِّد حالة المعركة ويجعل خيوطها تتشابك في

أذهان الكثيرين فيقعون بسببها حيرى مترديين في حسم موقفهم من معركة النص. وهي -تحديدًا- بحاجة لكتابات العلماء الراشدين لأنهم الأقدر على ضبط الميزان الذي يكشف الانحراف الذي لا يحتمله النص والفهم الاجتهادي الذي يتسع له الدليل، وهم الأولى برسم وتحديد معالم الخلاف السائغ، من الخلاف غير السائغ، من الانحراف المرفوض. فاختلاطها في عين الإنسان وعدم ظهور معايير بينة للحد الفاصل بينها توقع المسلم في الحيرة، فتكون سببًا لأن تُقْبَل تفسيرات معارضة للشرع لوجود خلاف في فهم الشريعة، أو تُرفض تفسيرات صحيحة لوجود منحرفين عن فهم الشريعة! وفي هذا المجال دراسات وبحوث متعددة تناولت مشكورةً قضايا كثيرة في هذه المقصد، وما يزال بحاجة لجهد وبيان أكثر، فالقضايا الأساسية تتطلب باستمرار مزيد تأكيد وتوضيح وإزالة مشتبهات. وهذه موضوعات متفرقة تسلط الضوء على صورةٍ من أحداث هذه المعركة، وتعالج في أثنائها عددًا من القضايا الشرعية والفكرية المختلفة، هي مساهمة متواضعة، أدعو اللَّه أن يتقبلها ويبارك فيها, ولا حول اللَّه ولا قوة إلا باللَّه.

الانقياد المشروط

الانقياد المشروط اعتاد كثير من ذوي التوجهات المنحرفة عن النص الشرعي أن يقلِّب في كتب الفقهاء أو يستفيد من التقنية الحديثة لاستخراج الأقوال والاختيارات الفقهية (القديمة والحديثة) التي يرونها تتفق مع بعض رؤاهم؛ ليضعوا من أجزائها زورقًا آمنًا؛ لتجاوز أمواج الاعتراض والنكير التي لا تزداد نحو عبثهم إلا دفعًا وتصاعدًا. وقف بعدها يشير بطَرْف عينه إلى كلِّ من يذكِّره بقول اللَّه وقول رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن (فلانًا) يرى كذا, وأنه يرى رجحان اختيار (فلان) , وأن المسألة فيها اختلاف, فلا يصحُّ التضييق على الناس ما دام في المسألة خلاف لأحد من الفقهاء. إنَّ هذه القضية قد فصل فيها أَحَكم الحاكمين في نصٍّ مُحْكَم تنزيله؛ إذ قال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وقال -سبحانه-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ} [الشورى: 10] فما يحدث من خلاف في الأحكام

الشرعية، فإن مردَّه إلى كتاب اللَّه وسنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، هذا ما يستشعره بالضرورة كلُّ منقادٍ لأمر اللَّه وأمر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأما الاحتجاج بخلاف الفقهاء في ترك العمل بالنصوص فهو قلب للقضية؛ إذ أصبح حكم اللَّه ورسوله حينها متوقفًا على كلام الفقهاء؛ فما دام ثَمَّ قول فقهي مخالف فالنصوص متعطِّلة لحين الاتفاق على العمل بها، وبدلًا من أن تُحَاكَم أقوال الفقهاء لنصوص الوحي، تصبح دلالة الوحي متوقِّفة حتى يتمَّ الاتفاق على مفهومها. لا شك أن هذه ممارسة بعيدة كلَّ البعد عمَّا كان عليه الفقهاء في خلافاتهم الفقهية؛ فهم وإن اختلفوا في كثير من المسائل إلا أنهم متفقون -قطعًا- على أن دلالة النصوص هي الحاكمة عليهم وأن أقوالهم تتلاشى مع حضور الوحي، ولم يكن أحد منهم يشترط (الإجماع) على النص حتى يتمَّ العمل به، ولا كان خلاف الفقهاء سقفًا يحول دون نفوذ شعاع الوحي، وقد كان هذا مفهومًا متقرِّرًا لدى جميع فقهاء المذاهب؛ فقد ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية أن المختلَف في تحريمه لا يكون حلالًا؛ حيث وصفه قائلًا: (هذا مخالف لإِجماع الأمة، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإِسلام) (¬1). وحَكَم الفقيه ابن حزم على مَنْ هذا حاله، فقال: (ولو أن امرأً لا يأخذ إلا بما أجمعت عليه الأمة فقط، ويترك كلَّ ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص، لكان فاسقًا بإِجماع الأمة) (¬2)، كما حكى ابن القطَّان اتفاق العلماء على حرمة ترك ما صحَّ من الشرع والاكتفاء فقط بما أُجمع عليه (¬3). وبلسان الناقد البصير يقول الإِمام الشاطبي عن هذه الظاهرة (وقد زاد هذا ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى: 20/ 270. (¬2) الإحكام في أصول الأحكام: 1/ 291، بل ذهب ابن حزم إلى أبعد من هذا، فقال عن هذا القول: (بل قد أصبح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدًا له كافر بلا خلاف؛ لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف بين أحد في وجوب طاعتها)، الإحكام: 1/ 481. (¬3) انظر: الإقناع في مسائل الإجماع: 1/ 65.

الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودًا من حجج الأباحة) (¬1). ويطول المقام في تتبُّع أقوال الفقهاء في هذا الأصل الذي نختمه بهذه الخلاصة التي حرَّرها الحافظ ابن عبد البر: (الاختلاف ليس بحجَّة عند أحد عَلِمْتُه من فقهاء الأمة، إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجَّة في قوله) (¬2). ولا شكَّ أنَّ هذا موقف صارم، ورأي شديد ضدَّ من يعطِّل دلالة النصوص بحجَّة الخلاف لإدراك الفقهاء لِمَا في هذا الرأي من جنوح عن حقِّ التعظيم والانقياد الواجب للنص الشرعي. إن خلاف الفقهاء في القضايا الفقهية كان لاختلافهم في تأويل النص؛ فهو من النص يبدأ وإليه يعود. ومَنْ خالف حُكْم النص، فإنما خالفه لاجتهاد يُثَاب فيه على جهده وصِدْق نيَّته؛ وإن خالف النص. ولم يكن حالهم حال المعرِض تمامًا عن النص، وبعد أن حسم خياراته وحدَّد موقفه بحسب المفاهيم والقيم التي يؤمن بها رجع للنصِّ الشرعي؛ ليبحث عن مخرج وحلٍّ لمشكلة النصِّ يتمكَّن بها من تخفيف حدَّة الاعتراض التي لا يطيقها فجاء بزورق الخلاف الفقهي؛ فهل يستويان؟ ومن طريف الأمر: أنَّهم -مع كلِّ هذا- حين يأتي الحكم المجمَع عليه بين فقهاء الإِسلام ويتأكَّد لهم اتفاق فقهاء الإِسلام على حكمٍ من الأحكام التي لا تروق للذائقة العصرية؛ فإن بوصلة التفكير لديهم يتحرَّك سهمها إلى الجهة المقابلة فيتذكَّر أن الإجماع من الأساس مشكوك فيه ويورد بعض شُبَه منكري الإجماع في التشكيك في حجِّية الإجماع أو إمكانية وقوعه واستحالة الجزم بنفي وجود قول فقهي معيَّن. ¬

_ (¬1) الموافقات: 4/ 507. (¬2) جامع بيان العلم وفضله: 2/ 115.

حتى وإن تمكَّنتَ -بعد هذا كلِّه- من إثبات الإجماع وأوقفتَه بعينيه على دلائل الإجماع؛ فإن بوصلة (الزورق) الفقهي سترفع لافتة: أن ثَمَّ اختيارات فقهية من المعاصرين، ومن غير المتخصِّصين -عند الحاجة إليهم- تخالف في هذا، وأنه يراه القولَ الموافق للنص الشرعي! فهذا التفكير المنطقي يشترط الإِجماع للاتفاق على النص، وحين يأتي الإِجماع يشكِّك في صحته وإمكانيَّته، وحين يزول هذا التشكيك يرجع ليتمسَّك بأي قَشَّة من أقوال المعاصرين! هل لهذه (الظاهرة) تفسير أو علاج خير من أن يقرأ فيها قول اللَّه -تعالى-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92].

البقع السوداء

البقع السوداء لن يجد القارئ للانحرافات الفكرية المعاصرة عناءً في إدراك طريقة تسويق كثير من الانحرافات المعاصرة من خلال رفعها على منصة الخلاف الفقهي؛ إذ أصبح الاستناد إلى خلاف الفقهاء غالبًا على كثيرٍ من تلك الدراسات والمقالات، ومع أنَّ الانحراف الفكري يستند إلى الخلاف الفقهي إلا أن طبيعة الخلاف الفقهي وسموَّ مرجعيته وشخصية أهله تجعله غير قابل للتقليد، فينكشف سريعًا كلُّ من يحاول أن يغطي انحرافه بستار الخلاف الفقهي، وتبدو البقع السوداء واضحة عن يمينه وشماله كاشفةً للبصير براءة هذا الانحراف عن الخلاف الفقهي. ولعلِّي هنا أضرب مثالًا للبقع السوداء التي تلازم الانحراف الفكري حين يتستر بالخلاف الفقهي بمسألة (حدود الحجاب الشرعي) الذي يرضاه اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أظن أن ثمَّ مسألة فقهية يعرف الناس الخلاف فيها كهذه المسألة، وكثيرًا ما يتكئ (المنحرف) عن النص على آرائك تبرير التبرُّج والتعرِّي من خلال إشاعة هذا

الخلاف الفقهي وإثارته وترجيح قول على قول، وفي حسبانه أن رأيه في اختيار (جواز كشف المرأة المسلمة لوجهها وكفَّيها) سيكون مألوفًا هادئًا لأنه من جنس كلام الفقهاء، غير أنه لم يفطن للبقع السوداء التي تطفو على سطح قلمه تكشف للناس عمق الظلمة والسواد الذي ينضح من هذا الخلاف، وأن العاقل البصير حين يرى هذه البقع سيعرف أنه أمام انحراف فكري يفسد المرأة المسلمة ويتعدى على أحكام الشريعة وليس أمام خلاف فقهي فرعي؛ وإن كان (الانحراف الفكري) و (الخلاف الفقهي) كلاهما يتحدثان عن كشف الوجه. • الانحراف الفكري يتحدث في حجاب الوجه، فيثني على السفور ويبدي محاسنه وفضائله وكيف أنه يحقق للمرأة ثقة وراحة لا يؤديها الغطاء الذي يعرقل مسيرتها ويثير الغرائز نحوها، ويفيض الانحراف الفكري على هذا النحو بشيء من السخرية أحيانًا، وهم يجهلون أن الحجاب باتفاق جميع الفقهاء هو من الأمور المشروعة المتفق على أنها من شريعة الإِسلام، فتفضيل السفور على الحجاب والطعن في الحجاب بهذه الطريقة هو في حقيقته إساءةٌ إلى شرع وطعنٌ في سنَّة وتعدٍّ على حكم شرعي على أي قول فقهي كان، ولم يكن الخلاف الفقهي في يوم من الأيام يسير في هذه المسألة على خطِّ الإشادة بالسفور والطعن في الحجاب؛ لأن هذا من العدوان على السنن, وهم من أشد الناس انتصارًا لها. أترون أن خلاف الفقهاء في سنية صلاة الجماعة في المساجد -مثلًا- يبيح لأحد أن يطعن في مرتادي المساجد ويتهمهم بالتخلُّف والجمود في مقابل من يصلي في بيته من المتحضرين والمعتدلين! فهل يخرج مثل هذا من منبع فقهي صافٍ؟ • يغطي المنحرف حقيقة فكره في منبع هذا الخلاف الفقهي فيدعو إلى (منع)

حجاب الوجه ومحاصرته، ويسعى لمحاربته وسن القوانين المجرِّمة له، وتضيق نفسه ذرعًا واشمئزازًا من رؤية المنتقبات، ويستغرب -بعد كلِّ هذا- من تشنيع الناس عليه في هذه الممارسة وهو يظن أنه يسبح في المحيط المائي للخلاف الفقهي، وما شعر ببقعة السواد الضخمة التي تحيط بما حوله تكشف عن حجم الجراثيم التي يحملها حين يدعو إلى تجريم الشريعة والتبرُّم منها ومن القائمين بها كراهيةً، يخشى أن يكون معها ممن قال المولى فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]. • يرى (المنحرف) بعيني رأسه التهاون الكبير في أمر الحجاب، وتمر عليه يوميًا صور التفسخ والتعري في القنوات والصحف والأماكن التي يعمل أو يدرس فيها، فلا ينبس فيها بحرف ولا يتحرك فيه شيء، بينما يسطِّر المقالات والدراسات التي يرجح فيها القول الفقهي بجواز كشف المرأة لوجهها وكفيها بناء على الأدلة الشرعية كما يعتقد؛ فهل غدا (الفقيه) متحمِّسًا لنشر رأي فقهي أكثر من حماسته لإنكار المنكرات المجمَع عليها وتصحيح المفاهيم القطعية التي كثر التهاون فيها، أم أنَّها بقعة سوداء! • تتفجَّر ينابيع الحماسة في أنامل هذا المنحرف على إشهار القول الفقهي بأن وجه المرأة وكفيها ليس بعورة، بينما لا يفكر أن يذكر اتفاق الفقهاء على أن ما عداهما فهو عورة وواجب الستر بالقطع واليقين، ولا يريد أن يجهد فكره ليعلم أن وجود خلاف في كشف الوجه والكفين لا يسوغ أن يقف مبررًا للفساد والانحراف الذي تجاوز هذا بكثير، ولا يستوعب العقل الفقهي أن يفهم حالة من

يقف في وجه إنكار التكشُّف والتبرُّج الفاضح بدعوى جواز كشف الوجه! • عاش الفقهاء -رحمهم اللَّه- قرونًا وهم يتداولون هذه المسألة الخلافية، في جوٍّ معظِّم للحجاب ولمقاصده، داعٍ للحفاظ عليه وسدِّ الذرائع الممزقة له، مشيعٍ لأحكام الشريعة المتعلقة بصيانة المرأة من تحريم الخلوة والاختلاط ووجوب الحجاب وغضِّ البصر والنهي عن التزيُّن والخضوع في القول والأمر بالقرار في البيت، وعاشت هذه المسألة في قلوب حيَّة تألم من أي انحراف أو فساد يصيب بعض نساء زمنهم، غير أن هذا كله تبخَّر ولم يبق منه على السطح إلا (كشف المرأة لوجهها وكفيها) فجاء بها من أقصى الخلاف الفقهي يسعى فرحًا بضالته. ومهما حاول المنحرف أن يبدي الوجه الفقهي المشرق في عرضه لهذه القضية فإن بشرة الانحراف الداكنة لابد وأن يعلوها تلك الندبات السوداء التي لا تصبر طويلًا أمام أشعة الشمس الطاهرة. هذا مجرد مثال، ولست بحاجة في خاتمته أن أشدد التأكيد على أن مقصود الحديث فيه هو تسليط الإضاءة النقدية على ممارسات المنحرفين في التستر خلف بعض الاختيارات الفقهية، وليس غضًّا من قولٍ فقهي، ولا طعنًا في فقهاء أجلَّاء أو لمزًا لمن يختار هذا القول الفقهي أو ذاك لاجتهاد يثاب عليه في كل حال. وهكذا، اختبر كلَّ خلاف فقهي يسوقه (منحرف فكري) في أي مسألة كانت، وستجد البقع السوداء طافية على سطحه، ومهما حاول أن يسترها بكلِّ ما أوتي من براعة وسلاسة لفظية واحترازية فإن هذه البقع السوداء تأبى إلا الظهور؛ ليعلم المسلم أنه أمام خلل فكري وليس خلافًا فقهيًا.

في الطريق إلى العلمانية

في الطريق إلى العلمانية (الأحكام الشرعية لا يصلح فيها الإِلزام أو المنع؛ من أحب أن يصلي أو يزكي أو يترك الحرام فهو إنسان يعرف مصلحة نفسه، ومن لم يفعل فلا يصلح أن نلزمه أو نمنعه لأن هذا شأن بينه وبين ربه). هذا فحوى ما سمعته في سياق حديثنا الودي مع سائق الأجرة الذي تكرم بإيصالنا ذات يوم، ودعته ثم فارقته، وقد آذتني هذه الجملة كثيرًا، ليس لأني أسمعها للمرة الأولى، فمؤداها متكدس في المقروء والمسموع؛ لكنَّ المؤذي فيها أنها تصدر من رجل الشارع العادي، وتترجم معنى حاضرًا بقوة في الثقافة الشعبية لعالمنا العربي والإِسلامي. إذا كانت الأوامر الشرعية غير ملزمة، والنواهي غير ممنوعة فإن السير على هذا الطريق يوصلك إلى بوابة العلمانية وإن لعنتها وبصقت عليها. فالعلمانية تعني

فصل الدين عن الدولة بمعنى عزل الأحكام الشرعية أن تكون مؤثرة في نظامٍ عام ملزم للناس، وحين تكون الأحكام الشرعية شأنًا خاصًّا يُحمَد فاعله ولا يتعرَّض لتاركه وليس لها تعلُّق بنظام أو سلطة فنحن بهذا في وسط باحة العلمانية. إن إسقاط (الإِلزام) و (المنع) من الأحكام الشرعية هو من مفاصل النزاع مع الفكر العلماني؛ فالفلسفة العلمانية لا تمانع من حضور الطاعات وترك المنهيات لاعتبارات دينية لدى الناس، بل إنها قد تحمي ذلك وتحرسه، ما دام شأنًا خاصًّا لا يؤثر على الآخرين ولا يترتب عليه منع أو فرض لهذه الأحكام وإعلاء لها إلى مقام التقنين والإلزام، ومثل هذا سيؤدي إلى تعطيل الأحكام الشرعية عن القيادة والحكم وإن كانت حاضرة في الوجود لمن أحب. إن الأوامر والنواهي الشرعية في كتاب اللَّه وسنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- متجهة إلى الفرد والمجتمع، ومتعلقة بخاصّة المسلم وبنظامه الذي يحكمه؛ فالمسلم حين يقرأ قوله -تعالي-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وقوله -سبحانه-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وقوله -سبحانه-: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، فإن هذا الخطاب متجه للفرد بأن يمتثل أوامر ربه ويتجنَّب نواهيه، ومتجه أيضًا للمجتمع ليحكم بما يريد رب العالمين منه، ولم يكن أحد من السابقين يظن أن هذا الخطاب متجه للفرد، وأما الجماعة فشيء آخر، فالتفكير بهذه الطريقة إنما هو من رواسب التأثير العلماني المكثف في عقول الناس؛ حيث أحدث لكثيرٍ منهم حمل أوامر الشريعة ونواهيها على الشأن الخاص للفرد فقط دون النظام والمجتمع.

لا أدري كيف يتعامل هذا التفكير مع العقوبات الشرعية المحددة في كتاب اللَّه في قطع يد السارق وجلد الزاني والقاذف، فالحكم هنا تجاوز مجرد الإلزام أو المنع الذي يستكثرونه على الشريعة إلى العقوبة المحددة، وحتى الأحكام التي لم ترد الشريعة بعقوبات محددة لها هي من الجرائم التي تستحق (التعزير) بحسب حال الذنب وصاحبه والعوارض المحتفَّة به، (¬1) فالأوامر والنواهي لا تقف فقط عند حد الإلزام والمنع بل تصل إلى حد العقوبة وهو أمر أعلى من مجرد الإلزام. وأعلى من هذا كله أنَّ اللَّه -تعالى- قد أمر بالتحاكم إلى ما أنزل، ووصف المستنكفين عنه بالأوصاف العظيمة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {هُمُ الظَّالِمُونَ}، {هُمُ الْفَاسِقُونَ}، بما يفهم منه كل مسلم أن أحكام الشريعة أحكام قضائية عليا ملزمة، وأن الحكم بها والفصل بين الناس بناء عليها من قطعيات الشريعة، ومن ينفي (الإلزام) و (المنع) كيف يستقيم على فهمه وجود حكم بغير ما أنزل اللَّه؟ وما دامت الأوامر والنواهي شأنًا خاصًّا فما معنى الحكم إذن؟ وتجد في كتاب اللَّه ثناء عظيمًا على هذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وأعطاها اللَّه أمانًا من الهلاك ما دامت ممتثلة له {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، وقد فسَّرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في جوابه عن سؤال زينب بنت جحش -رضي اللَّه عنها-: أنهلك ¬

_ (¬1) والتعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وهو محل اتفاق بين العلماء، انظر: مجموع الفتاوى: 30/ 39 و 35/ 402، الطرق الحكمية، ص 134.

وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث" (¬1). وبقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكنَّ اللَّه أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" (¬2) فانتشار الخبث سبب لهلاك الناس حتى الصالحين منهم؛ ما دام وجودهم لم يكن سببًا للتقليل من الخبث الذي لن يتحقق بدون إلزام ومنع. كما بيَّن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مراتب هذه الخيرية فجعل (الإلزام) و (المنع) هو أول هذه المراتب وأعلاها فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (¬3). وإذا زال (الإلزام) بأوامر اللَّه و (المنع) عن مناهي اللَّه لم يكن ثمَّ ميزة لهذه الأمة إلا مجرد أن تفعل المعروف وتترك المنكر، وإذا حَسُن أمرها نصحت بالكلام من غير نظام ولا إلزام ولا سلوك عام، وليس في هذا ميزة يُفتَخَر بها؛ لأن فعل المعروف ونصح بعض الناس به تفعله كل الأمم والحضارات، فأي شيء يميِّز أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ لا شك -بعد هذا- أن (الإلزام) و (المنع) سيكون بالحكمة والموعظة الحسنة، ولن يكون مردُّه إلى آحاد الناس مطلقًا، ولن يطالَب الإنسان بشيء من ذلك في حال الضعف وعدم القدرة، أو في حال ترتَّب عليه مفسدة أعظم منه، فكل ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإِسلام، برقم 3403، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، برقم 7418. (¬2) من حديث حذيفة -رضي اللَّه عنه- أخرجه الترمذي وحسنه في كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، برقم 2169 وحسنه الألباني. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان, باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان, برقم 186.

من القواعد الشرعية المستحضرة في هذا المقام، وهي من مكمِّلات أصل الإلزام في الشريعة، ولا يجوز أن تتخذ أداة لتكسير هذا الأصل. أعرف جيدًا أن صاحبنا حين قال هذا الجملة لم يقصد حقيقتها ولم يدرك لوازمها، وأجزم أنه سيتعوذ باللَّه ويستغفره من مثل هذا القول في مواطن أخرى، لكن هذا لا يعني التهاون مع مثل هذه المفاهيم؛ لأنَّ استمرار حضورها مع ضعف البيان يعطيها الوقت للبقاء والتمدُّد وشقِّ أخاديد الانحراف في عمق المجتمعات المسلمة، لتنساب بهدوء من حيث لا نشعر في طريقها إلى العلمانية.

علمنة الأحكام الشرعية

علمنة الأحكام الشرعية ستجهد ذهنك كثيرًا حين تريد الوصول إلى أصحِّ الأقوال لأصل كلمة (العلمانية) ومفهومها؛ نظرًا لأعداد الدراسات المعاصرة المتفرقة في هذا المضمار, إلا أن جميع الدراسات تتفق أن حقيقة العلمانية تكمن في درجة الابتعاد عن (الدين) فبعضها يرفع من درجة الانحراف العلماني ليقصي الدين بالكليَّة عن جميع مناحي الحياة, وتقترب عند آخرين فيكون ابتعاد (الدين) منحصرًا في شؤون النظام والحكم. لا حاجة بنا لأى حديث مع (المفهوم الأول) لأنه مفهوم استئصالي للدين, ومثل هذا تنكره النفوس بداهة فيكفي أن يفهم المسلم معناه حتى يرفضه وينكره؛ وإنما تكمن الإشكالية في المفهوم الثاني الذي لا ينكر الدين ولا ينفيه وإنما يقطِّعه من أطرافه ويقزِّم من عليائه فيؤمن به من تحت سقف الإلزام والنظام والحكم. ونسجل هنا بإشادة وإعجاب: أن جهود العلماء والمصلحين والباحثين خلال عقودٍ من السنين في التحذير من العلمانية وبيان خطرها وتشديد النكير على

أصحابها قد ساهم في خلق حالة وعي وإدراك عميق لدى الشعوب المسلمة تنفر بها من العلمانية حتى على المفهوم الأقل تطرفًا، وهو ما جعل كثيرًا من العلمانيين يهربون من مجرَّد الانتساب إليها. إذن، فالوعي المسلم مدرك لخطر العلمانية بمفهومها المتطرف أو بمفهومها العتدل (الأقل تطرفًا). والإشكالية التي هي بحاجة إلى وعي وبحث وعناية هي في تسرُّب بعض المفاهيم العلمانية إلى الأحكام الشرعية؛ حيث أصبحت جملة من الأحكام الفقهية تقدَّم بصورة جديدة تجعلها مقبولة لدى التفكير (العلماني)، فالتفكير العلماني يرفض قيام القوانين والأنظمة في الدولة المدنية بناءً على (رؤية دينية) ومن ثَمَّ فلا تحفُّظ لديه على كثيرٍ من الأحكام الشرعية التي ليس لها تأثير على النظام العام: كأداء العبادات واجتناب المحرَّمات وأداء الصدقات. . . إلخ؛ وإنما الإشكالية في الأحكام التي لها تأثير كالحدود ومنع المعاصي والإلزام بالواجبات فجاءت هذه الخطوة لتتعامل مع هذه الأحكام بطريقة معيَّنة تجعلها مقبولة للتفكير العلماني. هذا ما دفع بعضهم لرفع خاصية (المنع) و (الإِلزام) عن الأحكام الشرعية، فقدَّم الأحكام الشرعية على أنَّها أوامر ونواهٍ يطلب من المسلم فعلها أو اجتنابها، ومن يخالف في ذلك فيمكن مراقبته ومحاسبته من خلال النصيحة والموعظة الحسنة من غير أن يكون ثمَّ منع لهذه المحرَّمات أو إلزام لتلك الواجبات فضلًا عن العقوبات والحدود، فرسمها في هذه الصورة بحالة مقبولة تمامًا لدى التفكير العلماني المعاصر. وتطبيق الشريعة وما يتبع ذلك من أحكام وآثار هو عند آخرين من آثار تطبيق الديمقراطية واختيار الأكثرية، فالإلزام بالأحكام الشرعية ليس راجعًا إلى كونها

دينًا وشريعةً من رب العالمين؛ وإنما لكونها قانونًا ونظامًا قد تعاقد عليه الناس كما يتعاقدون على أي نظام آخر من أنظمتهم الدنيوية. وحدُّ الردَّة في الشريعة الإِسلامية ليس هو للمرتد عن الإِسلام كما كان الفقهاء يقولون؛ وإنما هو للخارج عن القانون والمتمرِّد على الدولة فيكون جزاؤه القتل كما تعتمده النظم المعاصرة في ما يسمى بـ (الخيانة العظمى). والزيادة المحرمة في الشريعة من الربا الذي يجب منعه ليس هو ما اتفق الفقهاء عليه من الزيادة على الدَّين، وإنما هو الزيادة على الفقراء في ما يحصل به ضرر عليهم فيتدخَّل النظام لمنعه كما يتدخَّل لمنع أي ضرر دنيوي. والجهاد في الشريعة الإِسلامية ليس هو الجهاد لإِعلاء كلمة اللَّه تعالى؛ وإنما هو في القتال للدفاع عن الأراضي المحتلَّة فقط كما تقرره جميع القوانين المعاصرة في حقِّ الشعوب لصدِّ المعتدي على أراضيها. وشرط الإِسلام الذي يتفق الفقهاء على اشتراطه لكل من يتولى الرئاسة العامة أو القضاء أو الإِمارة، أصبح أمرًا تاريخيًا متعلقًا بظرف معيَّن حين كانت الدول تقوم على التمايز الديني وقد زال سببه مع الدولة المدنية التي تلغي تأثير الدين في التمييز بين المواطنين الذين تشملهم المساواة. ووصف الأنوثة المؤثر في (الشهادة) و (الولاية) وفي غيرها كما اتفق عليه الفقهاء أصبح متعلقًا كذلك بظرف زمني معيَّن كانت المرأة لا تشارك الرجال ولا تخالطهم وقد زال هذا المعنى في العصر الحاضر فلم يعد لوصف الأنوثة ذي الصبغة الدينية أي تأثير.

كذلك أصبح (الولاء) و (البراء) في معاملة غير المسلمين متعلقًا بظرف زماني كان العداء فيه ظاهرًا بين المسلمين ومخالفيهم، فكان لابد من حضور وصف البراءة منهم، ومن لا تكون حاضرة لديه فهو مظنة تهمة على ميله وتعاطفه مع العدو المحارِب للدولة، وقد زال هذا المعنى مع الدول المعاصرة التي تقوم علاقاتها على المصالح الدنيوية دون اعتبارات أخرى. والضوابط الشرعية التي يلزم النظام حفظها في العلاقة بين الرجل والمرأة هي محاربة الابتزاز وتجريم التحرش الذي تقرِّره القوانين المعاصرة لما فيه من تجاوز وتعدٍّ، مع إضعافٍ أو تغييبٍ للضوابط الدينية المحضة كالخلوة والتبرُّج وغضِّ البصر والخضوع في القول وغيرها. وهكذا. . . تبقى الأحكام الشرعية على مسمياتها، بعد أن ينتَزَع منها الوصف الديني الذي لا يستقيم مع الذائقة العلمانية المعاصرة وتحوُّل الأحكام الشرعية إلى كيفيات ومواقع مختلفة لا تتصادم مباشرة مع التفكير العلماني المعاصر. يا ليتهم علموا أن هذه الطريقة في التعامل مع أحكام الشريعة قد تحقق مكاسب سريعة في التخلُّص من إحراجات الأسئلة العلمانية المتلاحقة، وربَّما ترسم بعض صور الاستحسان على شفاه أقوام عن الخطاب الشرعي، غير أنَّها ستكون صك اعتراف منهم بأن الأحكام الشرعية بصورتها الحقيقية تعاني من الخلل والقصور، وأن هذا الاجتهاد المعاصر هو سبيل التخلص من أزمة العيب الذي يلاحق الأحكام الشرعية.

إذن، فما سيكون جوابهم عن المخالف الفطن حين يقول لهم: إن القول الذي تفرُّون منه هو قول كافة الفقهاء وهم أعلم بالإِسلام وبفقه الشريعة منكم؛ فإِن كان في الأمر عيب ونقص وخلل فهو في ذات الشريعة (باعترافكم)! إنه تأويل للأحكام الشرعية بطريقة تقرِّبها كثيرًا من التفكير العلماني وتخفِّف من غلواء ضغط الثقافة المعاصرة عليها، غير أنَّها تبتعد عن مقاصد التشريع وتخرج عن دائرة التفكير الفقهي بقدر بُعدِها عن النصِّ الشرعي، وربَّما دخلت على بعض الأفاضل والأجلَّاء لاجتهاد وتأويل هم مأجورون ومثابون عليه، وليس في هذا حديث إساءة أو تقويم لهم، غير أن مراعاة القائل واعتبار اجتهاده وقصده الحسن لا يحول دون بيان خطأ الرأي وتوضيح العوامل التي قد تكون مؤثرة فيه.

يؤمنون بالشريعة. . . إلا قليلا!

يؤمنون بالشريعة. . . إلا قليلًا! لم يكن لديَّ شكٌّ أن هذا خطأ، وانحراف، ومعارضة تنافي واجب التسليم للَّه ولرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . هذا ما كان يدور في خاطرى وصوت القائل يتردد في أذني يؤكد -بعد إنكاره لبعض الأحكام الشرعية-: (أنه يؤمن بأن الشريعة والنصوص النبوية لا تنافي العقل أو تتعارض مع المصلحة، وإن وجد خلاف ذلك فإن من إيمانه بالشريعة أن ينزهها عن هذا الحكم؛ فلا يقرُّه ولا يؤمن به). وقد كنت أحسبها واضحة عند من يسمعها حتى بعثَّر حساباتي ما سمعته وقرأته من بعض الناس مِن حَمْلِه مثل هذا الكلام على معنى (أنَّ الشريعة والنصوص النبويّة تأتي على ما فيه المصلحة والعقل). تأمل في عبارته جيدًا. . . إنه لم يجعل أحكام الشريعة مؤدِّية لما فيه مصلحة، وما يتفق مع العقل والفطرة السويَّة؛ وإنما وضع (شرطًا) للأحكام الشرعية التي سيؤمن بها ويقبلها، وهو أن تكون على ما فيه المصلحة والعقل، فهو انقياد للنصوص الشرعيَّة (مشروط) بسلامة النتيجة؛ بحيث لا تخالف العقل والمصلحة.

أين من يقرأ في نصوص الشريعة ويبحث في أحكامها لينظر في مراد اللَّه ومراد رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لأجل أن يؤمن به ويعمل بمقتضاه، ويؤمن بعد ذلك كلِّه، أنَّ هذا هو العقل والمصلحة ويعتمد في سبيل ذلك على أقاويل الصحابة وتفاسير التابعين ومذاهب الفقهاء واللغويين حتى يهتدي إلى مراد اللَّه ومراد رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ أين هذا ممن يضع أحكامًا عقليَّة مسبقة ومصالح دنيوية محددة يرى أنَّها بحسب هواه وعقله القاصر هي العقل والمصلحة التي لا تأتي الشريعة بما ينافيها، فإذا وجد آية مُحْكَمة أو حديثًا صحيحًا يهزُّ بعض جوانب هذه الثوابت المتقررة لديه بادر بتكذيب الخبر أو تأويله لأنه ينافي العقل والمصلحة. ليست هي مقابلة بين (الشريعة) و (العقل)، بل هي مقابلة بين الشريعة وعقل هذا الإنسان وفهمه وإدراكه؛ فهو يجعل أحكام الشريعة مرهونة التطبيق حتى تنفكَّ من معارضتها للعقل بحسب فهمه، فإذا لم يفهم بطلت الشريعةُ، فأصبح عدم الفهم لحكمة الشريعة سببًا لتوقُّف العمل بالأحكام الشرعية. إنَّ الحكم على الشيء بأنه موافق (للعقل) أو منافٍ له إنما يتأثَّر بذات الشخص وتجاربه وعلمه وبيئته التي يعيش فيها؛ فهو إدراك نسبي في لحظة معيَّنة تتغيَّر مع تقدُّم العمر أو اكتساب المعرفة أو حدوث التجربة، ومن ثَمَّ فالعقل الذي يتحدث عنه عقل آني متغيِّر، وكلُّ ما يقال عنه إنه العقل. . . يوجد في الضفَّة المقابلة من يقول هو ضدُّ العقل وينافي جميع المقدمات العقليَّة؛ فعلى أي الضفَّتين ستستقرُّ الأحكام الشرعية؟ إنَّ جزءًا من الشريعة -بناءً على هذه (المشروطية) - غير قابل للتنفيذ، وهذا الجزء يضيق ويتَّسع بحسب (العقل) الذي يحمله كلُّ إنسان، وبحسب

المصلحة التي يعرفها أو يريدها؛ فالأحكام التي يفترق فيها الرجل عن المرأة في الشريعة متوقِّفة عند العقل الذي يرى المصلحة في (المساواة)، والأمر بالأحكام الشرعية والإلزام بها وإقامة الحدود عليها متوقِّفة عند العقل الذي يرى المصلحة في (الحريات)، والنصوص الشرعية في الإيمان بأسماء اللَّه وصفاته متوقفة عند العقل الذي يرى (التأويل أو التفويض)، والإيمان بصحيح سنَّة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- متوقِّف عند العقل الذي يرى المصلحة في (الاكتفاء) بالقرآن أو بالمتواتر من السنَّة أو بإخراج السنَّة عن دائرة التأثير في العقائد أو التشريعات. وهكذا يدخل (العقل) وتأتي (المصلحة) لتسحب جزءًا من الشريعة عن الإيمان والتسليم، وإن كان هذا الجزء لدى كثير منهم هو قليل بالنسبة لما يؤمنون به من الشريعة إلا أنَّ هذا الجزء لا يدرى ما حدُّه وما ضابطه؟ فكلُّ جزء من الشريعة هو قابل لأن يقر أو يرفض، وما تؤمن به الطائفة الفلانية فمن الممكن أن تنكره الطائفة الأخرى بسبب العقل والمصلحة، وكلُّ ما يؤمنون به مما يعتقدون أنه موافق للعقل والمصلحة يمكن أن ينكَر عند آخرين لمخالفته للعقل والمصلحة. إن المسلم حين يؤمن بأن الإِسلام هو دين اللَّه الذي أنزله على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنَّ أحكامه وشرائعه هي ما يريده اللَّه ويرضاه، فإنَّ واجب التسليم للَّه أن ينقاد لأمر اللَّه وأمر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- حين يصح عنه؛ فيؤمن بأن ما جاءت به الشريعة هو من أعظم المصالح وأكمل ما تهتدي إليه العقول، وكلُّ التجارب التي عارضت النصوص بدعوى المصلحة أو العقل لا يطول عليها الزمان حتى تكشف الدلائل والبراهين عن أحقية النص الشرعي بالعقل والمصلحة الذي قد غاب عن مدارك الكثيرين.

إن من كمال العقل أن يعتقد المسلم أن ما يجيء في الشريعة هو العقل والصلحة، وحين يضع عقلُه سقفًا يحول دون نفوذ شعاع الوحي فإنه سيحرم نفسه خيرًا عظيمًا في النصوص والأحكام التي يحكم من خلالها على (معقولات) الناس وتضع المعايير التي تحدِّد المعنى الذي يقبله العقل والذي يرفضه؛ فالواجب أن تكون أحكام الشريعة حاكمة على العقل ومحددة لأُطره ومسيِّرة لعمله، وليس العقل هو الذي يحدِّد الشريعة ويضع عليها الشروط والمواثيق. إنهم بهذا يؤمنون بأحكام الشريعة إلا قليلًا، وهذا القليل لا يعلمه إلا اللَّه، فقد ينكشف في أبواب الاعتقاد أو المعاملات أو العبادات، وقد يكون كثيرًا أو قليلًا وقد يكون من الأحكام المجمَع عليها أو المختلَف فيها، وقد يكون من آيات القرآن أو من نصوص السنَّة، ولا يعلم أحد من أي طريق سيأتي هذا البلاء؟ ألا فَلْتنسَ كلَّ هذا، ويكفيني أن تعوف أن الفرق بين الشخصين الذَين يقول أحدهما: (أؤمن بالشريعة، وكلُّ ما فيها فهو حقّ ومصلحة) ويقول الآخر: (أؤمن بالشريعة ما لم تعارض العقل والمصحلة)؛ كالفرق بين من يقول: (أؤمن بالشريعة لأنها صدق ولا تخالف الواقع)، وبين من يقول: (أؤمن بالشريعة ما لم تكن كذبًا ومخالفة للواقع)! شيء مدهش حقًّا، لم أكن أظن أن هذا المعنى الذي بسطتُ في شرحه كلَّ هذا، وأجهدتُ نفسي والقارئ الكريم في تتبعه وملاحقة أفكاره، قد صاغه (شيخ الإِسلام ابن تيمية) بأسطر من نور يعجز البيان عنها لولا توفيق ربِّ العالمين، يقول -رحمه اللَّه-: (إن ما يستخرجه الناس بعقولهم أمر لا غاية له سواء كان حقًا أو باطلًا، فإذا جوَّز المجوّز أن يكون في (المعقولات) ما يناقض خبر الرسول لم يشق

بشيء من أخبار الرسول؛ لجواز أن يكون في (المعقولات) التي لم تظهر له بعد ما يناقض ما أخبر به الرسول، ومن قال: أنا أُقِر من الصفات بما لم ينفه (العقل) أو أثبت من السمعيات ما لم يخالفه (العقل) لم يكن لقوله ضابط؛ فإِن تصديقه بالسمع مشروط بعدم (جنس) لا ضابط له ولا منتهى، وما كان مشروطًا بعدمِ ما لا ينفبط لم ينضبط فلا يبقى مع هذا الأصل إيمان؛ ولهذا تجد من تعوَّد معارفة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه الإِيمان) (¬1). ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل: 1/ 177.

ولا تهنوا. . . في طريق المطالبة بتحكيم الشريعة

ولا تهنوا. . . في طريق المطالبة بتحكيم الشريعة يميل بعض الإسلاميين الفضلاء إلى تصوير (تطبيق الشريعة) في النظام الإسلامي بما يتوافق مع كيفية تطبيق القوانين في النظم السياسية المعاصرة؛ وذلك من خلال أن يتفق الناس باختيارهم على دستور للحكم هذا الدستور بما يكفل عدم مخالفة أي قانون داخلي لنظام هذا الدستور. ولو وقف الأمر عند هذا الحد لأمكن إيجاد مخرجٍ لهذا التخريج يهوَّن فيه من أمر هذا الخلاف؛ غير أن محاولة تكييف تطبيق الشريعة بما يتلاءم مع النظام الديمقراطي المعاصر جعل تطبيق الشريعة ليس إلا مادة من موادِّ الدستور يجري عليها ما يجري علي أي مادة أخرى من إمكانية الحذف والتعديل والتقييد, ومن كون المشروعية والقوة فيها تعتمد على كونها رغبة الناس وإرادتهم لا كونها شريعة من رب العالمين, وأن الشريعة لا يمكن أن تُحكَم إلا بعد تعاقد الناس ورضاهم لأن الإرادة للأمة فلا تُكرَه على شيء لا تريده.

من الصراحة المهمة أن نقول: إن مثل هذا التخريج هو من قبيل لَيِّ الشريعة وتطويع أحكامها بما يجعلها متلائمة مع الثقافة الغربية المعاصرة، ولئن كان التطويع في زمن مضى حاضرًا بقوة في قضايا (المعجزات) و (الأمور الغيبية) لتعارُضها مع المنهج المادِّي الغربي فإن أعراض هذا الوهن قد انتقلت إلى جهة أخرى، من خلال تطويع الأحكام الشرعية بل والشريعة كلها بما يتوافق مع سطوة الثقافة الغربية المعاصرة في قضايا الحقوق والحريات المدنية. إن هذا التفسير وإن أغتر به بعض الإِسلاميين إلا أنه مناقض للشريعة ومعارض لأصولها؛ فليس لنا خيار في تطبيق الإِسلام حتى ننتظر به رأي أقليَّة أو أكثرية؛ فمن يرفض الإِسلام هو خارج عن دائرته فلن تكون أحكام ديننا متوقفة على إرادته، وقد بذل الصحابة مُهَجَهُم ودماءهم في سبيل فتح البلاد لنشر الإِسلام ولم تتوقف الفتوحات في يوم من الدهر لمعرفة رأي الناس وهل يقبلون بدخول جيوش الإِسلام أم لا؟ بل إن علماء الإِسلام متفقون على أن الطائفة التي تمتنع عن حكم شرعي واحد فإنها تقاتَل حتى تلتزم بالإِسلام، (¬1) فلم يكن لأي طائفة خيار على ترك حكم شرعي واحد ولو اتفقت عليه كلها، وسياق الدلائل الشرعية في بطلان هذا التصور يطول. إنَّ مثل هذا التخريج وإن بدا متلائمًا بعض الوقت ومقنعًا لبعض المخالفين إلا أن له أثرًا سلبيًا بالغ السوء في إثخانه بالأحكام الشرعية وتهوين قدرها في قلوب المسلمين، وذلك من جهات كثيرة، من أبرزها: ¬

_ (¬1) قد حكى الإجماع في هذا شيخُ الإِسلام ابن تيمية في مواضع متفرقة من الفتاوى، انظر: 28/ 356 و 468 و 510 و 545 و 557.

أولًا: أن الشريعة حين تحكم الناس (على هذا التفسير) فليس لكونها شريعة من رب العالمين وإرادة من الحي القيوم؛ وإنما مستنَد ذلك كونها رغبة الناس وإرادتهم؛ فالواجبات الشرعية من إقامة الشعائر ورفض الخمور والفواحش والربا. . . لا تستمد سلطتها من كونها أمرًا شرعيًّا، بل تستمد شرعيتها من خلال رضا الناس ورغبتهم، وهذا هو تفسير آلية عمل الدستور في النظم السياسية المعاصرة، وفي هذا من تهوين الأحكام ما يهزُّ ضمير أي معظِّم لنصوص الشريعة. ثانيًا: وإذا كانت الشريعة إنما تحكم لإرادة أكثرية في الدستور، فبإمكانهم أن يرفضوها من خلال الطريقة نفسها؛ فالدستور ليس شأنًا جامدًا لا يتغير، بل هو قابل للتغيير والتعديل، وحينئذٍ سيكون بقاء الشريعة في النظام الإِسلامي مرتبطًا برضا وإرادة الأكثرية من الناس وليست أمرًا ثابتًا وضروريًّا، وهذه ثغرة مهولة في أساس هذا التفسير ولازم شنيع، وقد دافع عنها أصحابها بأنَّ إجراءات تعديل الدستور تبدو معقَّدة وطويلة بعض الشيء ولا يمكن للناس أن يتفقوا على تغيير مادة تطبيق الشريعة. . . إلخ، والجواب عنه أن يقال: إن مجرد القول بأن حكم الشريعة مما يمكن أن يعاد النظر فيه هو جريمة لا تحتمل، فليس لمسلم في الشريعة أن يختار في أي حكم شرعي {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فلا خيار للمؤمن في أي حكم شرعي؛ فكيف يكون له الخيار في ترك الشريعة بأكملها؟ فليس لأي مؤمن أحقية اختيار الحكم الشرعي حتى ولو كان سيختار الإِسلام؛ لأن إيمانه باللَّه يجعله منقادًا ومختارًا لأوامر اللَّه؛ فالميثاق بهذه الطريقة قائم على (إقرار) بجواز تغيير الشريعة إن أراد الناس ذلك، وهذا شرط باطل وشنيع، وحتى لو كان مثل هذا بعيدًا، فالدخول في العقود الدنيوية المحرَّمة باطل لتضمُّنه رضًا بمحرم؛

فكيف حين يكون العقد مجيزًا لتعطيل الشريعة بأكملها! ثالثًا: وحين ترفض الأكثرية تطبيق حكم الإِسلام فإن هذا التفسير يحترم لهذه الأكثرية إرادتها ويسلِّم لها ما تريد، وهذا لازم شنيع يتحاشى كثيرًا الحديث عنه، وإن كان قد التزم به آخرون، فجعلوا النظام السياسي الإِسلامي بهذا يقوم على اعتبار أقوام قد حكم اللَّه على من فعل دون فعلهم بالكفر، فمن يستنكف عن التحاكم إلى الشريعة كافر بنص القرآن؛ فكيف بمن يرفض الشريعة كلها {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]؟ وقد يقال هنا بأن الأكثرية إذا رفضت الحكم بالشريعة فلا يكون بإمكانك أن تحكم بالشريعة؟ وجوابه: أن الواجب متعلق بالقدرة والاستطاعة، فإذا لم يتمكن المسلمون من الحكم بالشريعة فهم معذورون، وهو شيء خارج عن موضوعنا. غير أنَّ أصحاب هذا التفسير يرفضون الحكم بالشريعة على خلاف رغبة الأكثرية لأنَّ هذا ينافي حريَّة الاعتقاد وحق الاختيار ويؤسس للنزاع والخلاف، وهو ما يعني أن حديثهم متجه إلى تطبيق الشريعة في وضع الاستطاعة والقدرة، فلما اعترض عليهم بخطورة مثل هذا الرأي استدلوا بوضع الضرورة! وهاهنا مغالطة كبيرة لابد من الوقوف عندها قليلًا، وهي تصوير التصويت الذي يجري في النظام الديمقراطي حين يغلب طرف طرفًا وكأن الطرف الغالب هو رأي الأكثرية التي لا يمكن إكراهها أو فرض ما يخالفها إلا بحرب وفتنة، وأنهم حين يرفضون الإِسلام فالأولى دعوتهم للإسلام لأن المشكلة حينئذٍ من الناس؛ فالمغالطة هنا ظاهرة لأن سقوط الشريعة في التصويت لا يعني رفض الناس للشريعة، بل إن في الدستور من الصياغات القانونية ما لا يفقهه أكثر الناس

فحين تسقط الشريعة في التصويت فليس معناه أنك أمام شعب يرفض الإِسلام، كما أن هذا التصويت يتأثر بشكل كبير جدًا بالحملات الإعلامية التي تشوِّه الصورة وتلبِّس على الناس، كما أن الأكثرية لا تعني أن أكثرية الشعب يرفض هذا، بل هي أكثرية المشاركين في العملية الانتخابية وهم في الغالب لا يشكِّلون أي أكثرية على الحقيقة. ستعرف فداحة هذا الرأي على الشريعة حين تأتي بمثله في موضوع الحريات مثلًا، ما رأيهم لو أن مجتمعًا مَّا رأت الأكثرية فيه أن تنتهك حقوق الأقلية، وأن تضيِّق عليهم في حقوق المواطنة، وأن تجعلهم طبقة مختلفة عن الأكثرية، هل يجعلون مثل هذا قابلًا للتصويت؟ لماذا يتفقون على أن هذه القضايا خارجة عن التصويت ويدعمون أي رأي يحفظها من التصويت ولو كان من فرد ما دام أنه يحفظ الحقوق؟ فلماذا تكون الشريعة دون هذه الحريات؟ رابعا: أن أحكام الشريعة وأصولها تكون محترمة على هذا لمجيئها في الدستور؛ فاحترامها وتقديرها من احترام وتقدير الدستور، فهي من جنس المواد والقوانين المنصوص عليها في الدساتير مما هو من شؤون الإدارة والمعيشة الحياتية، فليس لها من القوَّة والخصوص شيء يذكر، والحديث عن مكانتها وقدرها إنما يكون بناء على تعظيمنا للدستور؛ فعظمة الشريعة تابعة لعظمة الدستور لا العكس. خامسا: وإذا كان تطبيق الشريعة راجعًا لإرادة الناس، فبالإمكان تصير الشريعة والتخفُّف من بعض أحكامها مراعاة لإرادة الناس التي كانت السبب في الحكم بالشريعة، فترك بعض أحكام الشريعة والتخفُّف من قوانينها التي

تصادم شهوات الناس هو من استلهام روح الدستور، وحينها فلن يتعرَّض لأصل الشريعة بالتغيير؛ وإنما سينال التغيير جزءًا كبيرًا من أحكامها لتتلاءم مع الذائقة المعاصرة في حريات الاعتقاد والدعوة وإقامة الشعائر والمساواة المطلقة والتخفُّف من أحكام الإلزام والمنع. سادسا: أن النظم السياسية المعاصرة لم تجعل للأكثرية إرادة مطلقة؛ لأن استبداد الأكثرية أشد عنفًا وطغيانًا من استبداد الفرد الذي يحاربونه؛ ولهذا قيَّدوا إرادة الأكثرية بجملة من الحقوق التي لا يجوز للأكثرية أن تمسَّها ولا أن تسنَّ فيها قوانين تنافيها؛ فالحريات والمساواة وحقوق الأقلية والمواطنة وغيرها حدود مُحكَمَة لا يمكن لإرادة الأكثرية أن تتجاوزها؛ إذن فإرادة الأكثرية لا تعمل في فضاء مطلق، بل هي مقيَّدة بأصول فكرية محددة؛ فعجبًا لماذا يضعف بعض الإسلاميين عن المطالبة بأن تكون الشريعة من الحدود التي لا يجوز المساس بها؟ لماذا لا يطالبون -على أقل الأحوال- بتحكيم الشريعة من خلال إرادة الأمة، فيقررون أن الأمة دينها الإِسلام ولن تختار غير الإِسلام فيطالبوا باختيار الناس وأن الإِسلام هو خيارهم بلازم كونهم مسلمين، ما حاجتهم لأن يعتقنوا مثل هذه التأصيلات المضللة؟ لماذا يتصور البعض أنه لابد أولًا من إعطاء الناس الخيار المطلق ثم بعد ذلك المطالبة بتطبيق الشريعة؟ سابعا: أن القول بأن المجتمعات المسلمة ستختار الإسلام لا يساوي القول بأن الشريعة هي الحاكمة ابتداء كما سبق من الأوجه، وفيها أيضًا إشكالية أخرى، وهي أن مجرد الاعتراض على الشريعة وحكمها هو فعل مجرم في النظام السياسي

الإِسلامي، وهي ورطة لا يمكن أن يتخلص منها من خلال هذه الديمقراطية الملفقة، فإذا استطعت أن تصل إلى حكم الإِسلام من خلال الديمقراطية فإنك لن تستطيع أن تمنع الآخرين من رفض الإِسلام ونقد حكمه، أو المطالبة بإزالة مادته من الدستور، فوجود المادة في الدستور لا يمنع من نقدها وأحقية المطالبة بإزالتها وهو حق تكفله النظم المعاصرة لكونه ينسجم مع ثقافتها لكنه لا يمكن أن يكون مقبولًا في النظام السياسي الإسلامي. ثامنا: إذا كانت الديمقراطية ليست سوى وسائل إجرائية لحفظ الحقوق وتقييد صلاحية السلطة ومراقبة أدائها، فإن القول بأن الأكثرية حين تريد غير حكم الشريعة فلها الحق في ذلك يشكك في الموضوع برمَّته؛ فالتمسك برأي الأكثرية حتى ولو رفضت الإِسلام يجعل الموضوع ليس إجرائيًا فحسب، بل فلسفة عميقة تقوم على مبادئ ومنطلقات منافية للشريعة، فالنشاط الفكري الذي يسعى إلى (أسلمة) الديمقراطية بجعلها مجرد أشكال إجرائية يسقط في الامتحان سريعًا حين يتمسَّك برأي الأكثرية حتى ولو خالفت الشريعة؛ فهذا لا يمكن أن يكون مجرد إجراء. تاسعا: حقيقة الإشكال ليست مع المشاركة في العملية الديمقراطية لتحقيق أرجح المصلحتين ودرء أشد المفسدتين؛ فهذه حالة اجتهادية تقديرية يُسلَك فيها ما يكون أنفع للإسلام والمسلمين، إنما الإشكال هو في التصور الفاسد الذي سبق الحديث عنه وهو أمر خارج عن المشاركة ومختلف عن ظروف الحاجة؛ فالضرورة والحاجة لا تدفع المسلم إلى الرجوع للمفاهيم بالتحريف والتأويل لأن لها أحكامها الخاصة.

قد كان الواجب أن يكون تعظيمهم للشريعة وتطبيق أحكامها أعظم في نفوسهم من ضمان مجيء الحكم بالإِسلام على وَفْقِ النظريات السياسية الغربية، وبإمكانهم أن يقرروا التحاكم إلى الدساتير مع جعل الشريعة سلطة عليا فوق الدساتير، فيكون لإرادة الناس وضع ما يريدون في الدساتير، وتكون الشريعة وأحكامها فوق هذه الدساتير وحاكمة عليها، وهي سياسة موجودة حتى في النظم السياسية المعاصرة التي تقرر حق الأغلبية في اختيار النظام السياسي الذي يريدون، وتقرر في الوقت نفسه أن ثَمَّ أصولًا ومبادئ في تفاصيل حقوق الإنسان وحرياته ترفض أن يقوم أي دستور على معارضته، فمن المرفوض تمامًا في الثقافة الديمقراطية المعاصرة أن يقوم دستور على انتهاك أي حقٍّ من حقوق الإنسان أو حرياته على وَفْقِ المعيار الغربي، أيكون قدر الإِسلام في قلوب أتباعه دون قدر حقوق الإنسان لدى أولئك الغربيين!

جامعة الانحرافات الفكرية المعاصرة

جامعة الانحرافات الفكرية المعاصرة هلع وارتباك وتحفّز يصيب كثيرًا من المؤلفين المعاصرين في موضوعات النظام السياسي حين يمر على بحث (حد الردة) في الإِسلام؛ فهو يشكل إحراجًا لا يطاق أمام ضغط الثقافة الغربية المعاصرة التي تضع (الحرية الدينية) في قمة هرم الحقوق والحريات المدنية التي تحتضنها، وتقاتل في سبيل التزام جميع الأمم والحضارات بها على وَفْق التفسير والمعيار الغربي. فتوالت البحوث والدراسات التي تبحث في الدلائل الشرعية عما يخفف من شدة نكير الأصوات المستغربة ليصلوا بيهذا الحكم الشرير إلى (النفي) أو (التأويل) أو (التكييف) الذي يجعله متلائمًا مع الحالة المعاصرة. وهذا ما يفسر لك أن البحث في إشكالية الردة وإثارة الخلاف حول حكم المرتد لم يكن له أي حضور في المذاهب الفقهية السالفة؛ فمع أن الفقهاء يختلفون في كثيرٍ من المسائل، ويتنازعون حتى في المسائل التي وردت نصوص صريحة فيها إلا أن إقامة الحد على الرجل المرتد لم يكن مجال خلافٍ بينهم؛ فقد أجمع عليه الفقهاء كافة،

وحكى الإجماع عليه عشرات من الفقهاء من مختلف الأزمان (¬1)، بينما تجد هذا الحكم حاضرًا ومشكلًا في الدراسات المعاصرة، وهو ما يدلل على أن العامل المؤثر فيها ليس هو النظر في الاجتهاد الفقهي بقدر ما هو تأثر بروح الثقافة الغربية. الملفت للانتباه أن التخلُّص من هذا الحكم الشرعي لم يسر على طريقة واحدة؛ فلئن اتفقت كلمة كثير من المعاصرين على ضرورة الانفكاك من تبعات هذا الحكم، إلا أن وسيلة تنفيذ ذلك قد تعدَّدت في ما بينهم، فاجتمعت علينا طرائق كثيرة نستخلص من كل واحدة منها منزعًا من منازع الانحراف الفكري، تتباين في ما بينها تباينًا كبيرًا إلا أنها تجتمع على وصف الحال بأنه (إشكالية حد الردة). فبعضهم: ينكر هذا الحكم لعدم ذكره في القرآن الكريم، فينظر في الآيات القرآنية التي تخاطب الكفار وتحكي مقولاتهم فلا يجد فيها أي عقوبة لهم في الدنيا، وهو ما يعني أن الشريعة لا ترتب أي عقابٍ دنيوي على من يمارس حريته الدينية في الدنيا، وهذا التفسير يستبطن الانحراف القائم على (إنكار) سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورفض الإيمان بها؛ لأن حد الردة لم يثبت إلا في سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فالمطالبة بأن يُذكر الحكم في القرآن يعني أن السنة غير كافية في هذا الباب. ولا يصل الأمر بآخرين إلى هذا الحد؛ فهو يثبت السنة النبوية لكنه يحكم على حديث "من بدَّل دينه فاقتلوه" (¬2) بأنه من قبيل أحاديث (الآحاد) ولا يستقيم ¬

_ (¬1) منهم -على سبيل المثال-: ابن المنذر في الإجماع ص 76، والبغوي في شرح السنة: 5/ 431، والنووي في شرح صحيح مسلم: 12/ 208، وابن قدامة في المغني: 12/ 264، وابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع: 1/ 355، والسبكي في السيف المسلول ص 119 وغيرهم. (¬2) أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: 9/ 15 برقم (622).

العمل بها لأنها ظنية، وهذا انحراف في إنكار شيء من سنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يشكل أكثر أحاديثه، عليه الصلاة والسلام. وآخرون لا ينكرون العمل بخبر الآحاد لكنهم لا يرون العمل به في المجالات المهمة كمجال التشريع، وهذا انحراف في وضع شرائط معاصرة حاكمة على السنَّة النبوية؛ وكأن موضوعات التشريع هي المهمة دون موضوعات العبادة أو الاعتقاد أو الأخلاق. ويأتي الحديث عند الفئة الرابعة: في تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، وعلى سوء فهمهم لهذا التقسيم، إلا أن الإشكال الأبرز هنا أن المعيار لمعرفة التشريعي في السنة من غير التشريعي معيار مضطرب وغير محدَّد؛ وإنما يستخدم عند كثيرين لإزاحة بعض الأحكام. ويأتي بعضهم بذريعة (الخلاف الفقهي) ليزيح حضور الحاكم عن طريقه, مع أن المسألة ليس فيها خلاف أصلًا (¬1)، ولو كان ثمَّ خلاف بين الفقهاء في أي حكم ¬

_ (¬1) ينسب كثيرون إلى الفقيهين الكبيرين (إبراهيم النخعي) و (سفيان الثوري) -رحمهما اللَّه- أنهما ينكران حدَّ الردَّة، والحقيقة أن خلاف هذين الإمامين إنما هو في (استتابة) المرتد وليس في حكم قتله، فقد كانا يقولان: يستتاب أبدًا كما رواه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 166)، وقولهما هذا إنما هو في معرض حكم الاستتابة وليس في محلِّ الحكم الأصلي، وقد روى عبد الرزاق في مصنَّفه (6/ 105) عن الثوري: أن المرتد إذا قتل فماله لورثته، وذكر عنه أيضًا (9/ 418): أن من قتل مرتدًا قبل أن يرفع إلى السلطان فليس على قاتله شيء، وهو ما يدل على أن الثوري لا يخالف في هذه المسألة، وهذا ما فهمه الفقهاء في كتب المذاهب؛ حيث يذكرون كلام هذين الإمامين في خلاف الفقهاء في حكم (الاستتابة) وليس في عقوبة المرتد، انظر -على سبيل الثال-: المغني لابن قدامة (10/ 72) مغني المحتاج للشربيني (4/ 140) وعلى التسليم بأن النخعي والثوري ينكران حد الردة فإنهما يطالبان بالاستتابة الدائمة، وليس بالحرية الدينية للمرتد، ومن ثمَّ فالإشكال الذي يلاحق حد الردة سيأتي هنا، فإذا كان القتل مرفوضًا في الحرية الدينية المعاصرة فالملاحقة والاستتابة والسجن مرفوضة كذلك.

شرعي فالخلاف لا يلغي العمل، وليس من شرط العمل بالأحكام الشرعية أن يتم الاتفاق عليها. وسادس هذه الانحرافات: من يفسِّر حد الردة بأنه (الخروج) على الدولة ونظامها مما يطلق عليه في النظم المعاصرة (الخيانة العظمى) وتبيح التعامل معه بالقتل، وهذا التفسير جميل متلائم مع الفكر السياسي المعاصر لكنه بعيد عن دلائل الشريعة وكلام الفقهاء، وهو من قبيل تطويع الشريعة لتستقيم مع الثقافية المعاصرة، ويبدو مقنعًا لكثير من الغربيين والمستغربين لكن أصحاب هذا التفسير سيقعون في ورطة مع عقلاء الغربيين وأتباعهم الذين يدركون حقيقة هذا الحكم الشرعي، وسيكون مثل هذا التفسير سبيلًا للاستطالة على الشريعة من جهة أن هذا التفسير يتضمَّن اعترافًا من أصحابه بأن الحكم الشرعي على التفسير الفقهي المعروف مرفوض عقلًا. وسابع الانحرافات: الاستمساك بالمصلحة في كافَّة صورها لتعطيل العمل بالنص، وموضع الانحراف هنا ليس في ترك العمل بالحكم الشرعي في حال وجود مصلحة معتبرة من ضرورة أو حاجة ماسة، بل هذا اجتهاد شرعي وإن حصل اختلاف في تطبيقاته؛ وإنما الإشكال أن يعطَّل الحكم بكليَّته بدعوى المصلحة، وأن تكون المصلحة حاضرة عند النظر في ثبوت الحكم الشرعي ابتداءً؛ فبدلًا من تقرير ثبوت هذا الحكم مع عدم إمكانية تطبيقه أو وجود ضرر أو غياب مصالح معتبرة عند العمل به، يأتي صاحب المصلحة لينفي هذا الحكم من أساسه بدعوى المصلحة، وهذا خلل؛ لأن المصلحة (بشروطها) قد توقف العمل بالحكم الشرعي؛ غير أنها لا تزيل وصف الشرعية عن الحكم تمامًا.

وثامنهم وهو من ذرية السابع: من يتحدث عن ضرورة تقديم صورة حسنة للغربيين، وأن الحديث عن حد للمرتد في زمان شيوع ثقافة الحريات الدينية وقيام النظم السياسية الغربية على حمايتها يقدم صورة مشوهة عن الإِسلام. . . إلخ. هذا الكلام الذي يقال في كثيرٍ من أحكامنا الشرعية، ومع ذلك ما تزال دعوة الإِسلام تنتشر في الأوساط الغربية بشكل مذهل، وهو ما يعني أن وَهْم التشويه الذي يتحدث عنه هؤلاء الناس محض خيالٍ علمي، وهو قائم على تصوُّر (غارق في الوهم) بأن تحسين صورة الإِسلام ولو بإخفاء وتغيير الحقيقة سيكفُّ خصوم الإِسلام عن مواصلة التشويه. والتاسع: يشيع الرعب والذعر من أن تقرير مثل هذا الحكم سيكون سببًا لاستغلال بعض النظم السياسية له في سبيل القضاء على مخالفيهم وتسويغ جرائمهم؛ فحين يأتي بعض الناس فيسيء تطبيق حكمٍ شرعي ما، فالحل في هذا النظر العقلي أن يلغى الحكم الشرعي كله! ويأتي بعضهم: فينفي هذا الحكم لمعارضته لأصل قطعي محكم هو (الحريات) وهذا الانحراف مركب من وجهين: فوجهه الأول أنه يضرب بالأصول الكلية على هامة الأحكام الفرعية، مع أن الأصول إنما تثبت من خلال اجتماع الفروع، وإلا فعلى هذه العقلية من التفكير يمكن أن ننفي حكم الربا لأنه معارض لأصل قطعي هو (حلُّ البيع)! وننفي حرمة شرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير لأنه معارض لأصل قطعي هو (حلُّ الطعام)! والوجه الثاني: أنه جاء بمفهوم غربي بتفسيره المعاصر (الحريات) ليجعله أصلًا شرعيًّا، بل وقطعيًا أيضًا. تلك عشرة كاملة، هي أبرز وسائل البحوث المعاصرة (للتخلَّص) من هذا

الحكم الشرعي، قد اجتمعت فيه منابت الانحراف المعاصرة من جذورِ بقاعٍ شتَّى، حضر فيها (منكر) السنَّة و (مضيِّق) العمل بها و (مقطَّع أوصالها)، ومن يعطِّل الأحكام الشرعية بدعوى (الخلاف) أو (المصلحة)، ومن يعارض الأحكام الشرعية بأصول فكرية محدثة، ومن (يخاف) من الحكم الشرعي أو (يخاف عليه)، فأصبح النظر إلى هذا الحكم (جامعًا) للانحرافات الفكرية المعاصرة، وحين يأتي المسلم فيقرر هذا الحكم كما جاء في النصوص الشرعية وبما نقله كافة الفقهاء، فإنه يسجل شهادة خير لنفسه -ليحمد اللَّه عليها- بسلامته وبعده عن مثل هذه الانحرافات التي كثر الافتتان بها.

الشاطبي المفترى عليه

الشاطبي المفترى عليه لا أظن أن أحدًا من العلماء قد قُدِّم بحالة مختلفة عن صورته الحقيقة كما حصل مع الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت 790 هـ)؛ فلقد حرص كثير من المنحرفين على وضع اسم (الشاطبي) في واجهة تأويلاتهم المنحرفة للأحكام والنصوص الشرعية, واتخذوا من (موافقات) الشاطبي ذريعة للتهوين من كافَّة النصوص الجزئية بدعوى المصلحة أو العقل أو التمسك بالأصول والكليات و (بذلك يكون الشاطبي قد دشن قطيعة ايبستمولوجية حقيقية مع طريقة الشافعي وكل الأصوليين الذين جاؤوا بعده) (¬1). فالشاطبي بهذا قد انفصل بمشروعه المقاصدي عن جادة العلماء في تتبع الفروع الفقهية والعناية بانصوص الجزئية لأنه قد: (دعا إلى ضرورة بنائها -أعنى الأصول- على مقاصد الشارع بدل بنائها على استثمار ألفاظ النصوص الدينية كما دأب على العمل بذلك علماء الأصول انطلاقًا من الشافعي) (¬2). ¬

_ (¬1) بنية العقل العربي لمحمد عابد الجابري, ص 544. (¬2) بنية العقل العربي, ص 540.

وحين تقرأ للشاطبي كما هو ستجد أن الصورة مختلفة تمامًا، وأن هذا التصور لا يحكي حقيقة الشاطبي ولا موافقاته؛ فهو تصوير للشاطبي بحسب ما يريد للشاطبي أن يكون، وعلى وَفْق ما يراد من موافقاته أن تخدم مشاريع التخفُّف من الأحكام الشرعية. إن أدنى قراءة عابرة لرسالة (الموافقات) التي كتبها الشاطبي تكشف حقيقة هذا الخداع والافتراء الذي بُغِي به على هذا الإِمام، وستجد أن تعظيم الشريعة ومراعاة نصوصها وجزئياتها وتقديم الدليل الشرعي على كلِّ ما سواه من عقل ومصلحة واجتهاد هو أصل محكم وثابت قطعي يعتمده الشاطبي أساسًا لكل شيء يكتبه في الموافقات، فهو على جادَّة الأئمة الأسلاف في تعظيم النصوص الشرعية والانقياد لها وفي كيفية استنباط أحكامها. فالعقل عند الشاطبي لا يتقدَّم على النقل بل: (العقل إنما ينظر من وراء الشرع) (¬1). فهو تابع منقاد له، بل حتى المسائل الشرعية التي يُستَدل بالعقل فيها على صحَّة النقل فإنما هي عنده على كيفية: (إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا ويتأخر العقل فيكون تابعًا) (¬2). والنصوص الجزئية لها عناية تامة، وقد أخلى لها في (موافقاته) حيزًا واسعًا لإدراكه بخطر التهاون بها: (فإِن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًا ليس بحق في نفسه) (¬3). ¬

_ (¬1) الموافقات: 1/ 36. (¬2) الموافقات: 1/ 78. (¬3) الموافقات: 2/ 556.

وقد كَسَر أيَّ استغلالٍ لنظريته في المقاصد بأن قرَّر بكل وضوح: (أنَّ من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليِّه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه) (¬1). فلا مكان لنظريته المقاصدية لمنطق نسف الجزئيات تمسكًا بالمقاصد. ثمَّ صعد بالدليل الجزئي لأعلى درجات الأهمية والاحتياط حين جعل ثبوته كافيًا لجعله أصلًا برأسه: فـ (كلُّ دليل شرعي يمكن أخذه كليًا وسواء علينا أكان كليًا أم جزئيًا إلا ما خصَّه الدليل) (¬2). واتباع الهوى: مزلق خطر ينحرف بالشريعة عن أصل وضعها؛ فـ: (المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا للَّه اختيارًا كما هو عبد اللَّه اضطرارًا) (¬3). وتفريعًا على هذا الأصل شدد الشاطبي على حرمة اتباع رخص الفقهاء في الأقوال الفقهية لأن: (تتبع الرخص ميلٌ مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه) (¬4). وأوجب على المفتي أن يختار للمستفتي أرجح القولين، ولا يفتيه بجميع القولين معًا حتى لا يكون هذا سببًا لاتباع الهوى في الأحكام: (فإِنه إذا أفتى بالقولين معًا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإِباحة وإطلاق العنان وهو قول ثالث خارج عن القولين) (¬5). ¬

_ (¬1) الموافقات: 3/ 8. (¬2) الموافقات: 3/ 45. (¬3) الموافقات: 2/ 469. (¬4) الموافقات: 4/ 511. (¬5) الموافقات: 4/ 509.

لأن حاصل هذا مناقضة أصل وضع الشريعة فـ (متى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة فلا يصح القول بالتخيير على حال) (¬1). ويعتني بتعظيم منهج السلف الصالح وفقههم: في نفس قارئ موافقاته، فيخاطبه بمنطق العالم الناصح: (الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثمَّ فضلٌ ما لكان الأولون أحقُّ به) (¬2). فاتباع منهج السلف أصل يعرف به السلم صحة طريقه وسلامة منهجه: (فيقال لمن استدلَّ بأمثال ذلك: هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد؟ فإِن زعم أنه لم يوجد -ولابد من ذلك- فيقال له: أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به أم لا؟ ولا يسعه أن يقول بهذا لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه وخرق للإِجماع، وإن قال: إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له: فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها، ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيه على الخطأ دونك أيها المتقوِّل، والبرهان الشرعي والعادي قال على عكس القضية، فكل ما جاء مخالفًا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه) (¬3). ولأهمية جانب التعبُّد للَّه والقيام بحق الطاعة، يطالب بإلغاء كل المباحث والمسائل التي لا تثمر عبادة أو سلوكًا شرعيًا فـ (كلُّ مسألة مرسومة في أصول الفقه ¬

_ (¬1) الموافقات: 4/ 499. (¬2) الموافقات: 3/ 64. (¬3) الموافقات: 3/ 66.

لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونًا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية) (¬1). وذلك حتى تتجه همَّة طالب العلم إلى العمل والعبادة لأن: (كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به للَّه تعالى) (¬2). ولفهم القرآن على ظاهره والتحذير من تأويله، يعيب مسلكَ التأويل من متأوِّلة النصوص: (وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعًا للرأي، وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام اللَّه بما لا يشهد للفظه عربي ولا لمعناه برهان) (¬3). والسير على خلاف الظاهر يؤدِّي لإبطال الشريعة لأن (دعوى أن مقصود الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها؛ وإنما المقصود أمر آخر وراءه، ويطَّرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع وهذا رأي كلِّ قاصد لإِبطال الشريعة) (¬4). ولشدَّة تعظيمه لمقام الكلام في الشريعة يحذر من الكلام فيها؛ لأنه تحديد لمقصود اللَّه ويذكِّره بموقف قيامه بين يدي رب العالمين: (ومنها أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم عليه أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم والقرآن كلام اللَّه فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد اللَّه من هذا الكلام، فليتثبت أن يسأله اللَّه -تعالى- من أين قلت عني هذا) (¬5). ¬

_ (¬1) الموافقات: 1/ 40. (¬2) الموافقات: 1/ 54. (¬3) الموافقات: 3/ 357. (¬4) الموافقات: 2/ 667. (¬5) الموافقات 3/ 385.

ويقدِّم المصالح الدينية على المصالح الدنيوية مطلقًا: فـ (المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإِطلاق) (¬1). هذه إشارات سريعة توضح منهج الإِمام الشاطبي وحقيقة موافقاته، وفي كتابه العظيم (الموافقات) أضعاف أضعاف هذه النقولات التي تُظهِر منهج تعظيم الشريعة لدى هذا الإِمام، وهو ما يفتِّت أي إمكانية لاستغلال اسمه أو مشروعه المقاصدي لتمرير الانحرافات والتجاوزات؛ لأجل ذلك دعا بعض المنحرفين لتجاوز الشاطبي عند دراسة المقاصد، وأن يكون ثمَّ إنشاء جديد للمقاصد يتجاوز به المقاصد الشاطبية؛ لأن الشاطبي قد قطع فيها الطريق على أي منفذ تسلك منه مقاصد النفوس. ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 648.

بين (مقاصد الشريعة) و (مقاصد النفوس)!

بين (مقاصد الشريعة) و (مقاصد النفوس)! (نحن بحاجة إلى إعادة النظر في هذا الحكم حسب المقاصد الشرعية) و (لابد من مراعاة المقاصد الشرعية عندما نتحدث عن هذه القضية). وعبارات أخرى مختلفة، ستراها -ولا بد- عند أي رؤية منحرفة تتعامل مع النصوص والأحكام الشرعية؛ فعامة الانحراف المعاصر حين يتعامل مع النصوص والأحكام الشرعية الجزئية فإنه لا بد -في سياق تجاوزه لأي حكم وإنكاره له- أن يرفع لافتة (المقاصد الشرعية) كتصريح شرعي للمارسات غير الشرعية. المقاصد الشرعية التي كتب فيها فقهاء الإسلام بدءًا من الجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي تختلف اختلافًا تامًا عن هذه المقاصد التي يشيع كثير من الناس الحديث عنها؛ فالمقاصد عند فقهاء الإسلام قواعد كليَّة مستخرجة من استقراء كلي لكافة النصوص والأحكام الجزئية، ولا يصح أن يرد بها أي حكم أو نص جزئي، بخلاف هذه المقاصد التي تترجم المقاصد التي تريدها (نفوسهم) وتميل إليها (اختياراتهم) ويسعون من خلالها لرد جملة من النصوص والأحكام غير المرغوب فيها.

من أهم قواعد المقاصد الشرعية أن لا يرد بها الأحكام الجزئية، فإذا ثبت نص شرعي أو حكم فقهي فلا يجوز أن ينقض أو يتجاوز بدعوى أنه مخالف لقاعدة مقاصدية فهذا باطل لا علاقة له بعلم المقاصد (فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًا ليس بحقٍّ في نفسه) (¬1). وإذا كانت المقاصد الشرعية تقوم على ضرورة اعتبار الكليات فإنها تقوم على اعتبار الجزئيات كذلك (كما أنَّ من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه) (¬2). فالمقاصد الشرعية تعتمد على تفاصيل الأحكام الجزئية، تقوم عليها، ولا تنكرها، بل حتى ولو وجد تعارض بين قاعدة مقاصدية وحكم جزئي تفصيلي فإن المنهج الصحيح في ذلك ليس إنكار الجزئي بل (إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كليَّة ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بدَّ من الجمع في النظر بينهما) (¬3). فإذا وصل الأمر إلى حصول تعارض بين (الكليات) و (الفروع) فهذا يستدعي الجمع بينهما لأهمية كلٍّ من الكليات والفروع التفصيلية، وهو شيء لا يفهمه (مقاصديو النفوس) حيث ينكرون النصوص والأحكام الشرعية ثمَّ يبحثون بعد هذا عن الطريقة المقاصدية المناسبة لرفض مثل هذه الأحكام! لقد كان الشاطبي مدركًا غاية الإدراك خطورة استعمال المقاصد من غير ¬

_ (¬1) الموافقات للشاطبي: 2/ 556. (¬2) الموافقات: 3/ 8. (¬3) الموافقات: 3/ 9.

المؤهلين، ولأجله منعهم من موافقاته وجعلهم في حرج من قراءتها أو الاستفادة منها (لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريَّان من علم الشريعة أصولها وفروعها معقولها ومنقولها) (¬1). كما أطال الحديث عن ضرورة العناية بالجزئيات، وأن المقاصد لا تقوم إلا عليها، وهذا كله لإدراكه أن طبيعة المقاصد وما فيها من كليات عامة تستدعي دخول غير المؤهلين واستغلال بعض المنحرفين مما يؤدي إلى تعطيل الشريعة، وهذا ما دعا بعض المنحرفين الذين يفهمون حقيقة المقاصد الشرعية أن يسمي المقاصد بأنها تبرير للأحكام الشرعية ليس إلا، وقد صدق، فالمقاصد ليست إلا بحثًا عن فلسفة لقواعد وعلل للشريعة من خلال الأحكام والنصوص، فاذا وجد نصٌّ مخالف فان المقاصد تعدل في الفلسفة حتى تدخل هذا الحكم لا أن تلغيه لمخالفته للمقاصد. إن دعوتهم للأخذ بالمقاصد لإسقاط بعض الأحكام الشرعية تؤدي إلى نسف الشريعة بكاملها، وتعطيل كافة أحكامها، وإسقاط قطعياتها وضرورياتها، وليس عسيرًا على أي أحد أن ينفي أي حكم شرعي ويربط ذلك بمقاصد عُلْيا، وقد مارس المعاصرون في ذلك من ألوان العدوان على الأحكام الشرعية ما لا يحصيه إلا اللَّه؛ فـ (الحدود الشرعية) منافية لمقصد الشريعة في الرحمة وإشاعة الأمن، و (حدِّ الردة) منافٍ لمقصد الشريعة في التسامح والحرية، و (الحجاب) منافٍ لتكريم المرأة و (كلُّ فتوى بتحريم أي حكم) تنافي مقصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج و (الحكم بكفر من لم يؤمن برسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- يتعارض مع مقصد ¬

_ (¬1) الموافقات: 1/ 78.

إرساله رحمة للعالمين و (حرمة الربا) أو (منع المحرمات) يؤدي إلى حصول حرج ومشقة تنافي مقصد الشريعة! ولأجل ذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية بصيرًا بأمر عموميات المقاصد حين قال: (من استحلَّ أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا من غير اتباع لما أنزل اللَّه فهو كافر) (¬1). فهذه المقاصد الكلية تتسم بالعمومية المطلقة التي تشترك فيها عامة الاتجاهات، فاختصاص الشريعة إنما يكون بتفصيل هذه المقاصد وشرحها وتقييدها فإذا ألغى الإنسان الاعتبار بهذا لم يكن قد أخذ من الشريعة بشيء. وهكذا تغيب أحكام الشريعة الجزئية بسبب مخالفتها لـ (مقاصد النفوس) كما يسميها بعض الفضلاء؛ فهي مقاصد لما تريده نفوسهم وما يتوافق مع أهوائهم جعلوها قواعد كلية تحاكَم إليها النصوص والأحكام الفقهية، وتلك النفوس تكاد تحصر مقاصدها في الجانب الدنيوي المحض، وهو ما يختلف تمامًا عن المقاصد الشرعية المستفادة من نصوص الكتاب والسنة التي تدلك على أن (الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية) (¬2). بل إن المصالح الدنيوية تابعة للمصالح الأخروية فـ (المصلح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواءُ النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية) (¬3). وإذا كان إشاعة علم المقاصد الشرعية ضروريًا في مرحلة ما لشيوع التعصب ¬

_ (¬1) منهاج السنة النبوية: 5/ 130. (¬2) الموافقات: 2/ 350. (¬3) الموافقات: 2/ 351.

والجهل والتضييق على الناس، فإن المبالغة في تقرير المقاصد الشرعية وإشاعتها وتعظيم قدرها وضرورتها عند عامة الناس وقد اختلف الحال سيكون على حساب تعظيم النصِّ الشرعي والانقياد له، وسيكون سببًا لظهور مقاصد النفوس لتشيع عبثها وانحرافها بدعوى (مقاصد الشريعة).

مصارع المغرقين

مصارع المغرقين حدَّث العالم الجليل ابن أبي ذئب بحديث (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين) (¬1) فقال له أبو حنيفة: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ قال: فضرب صدري وصاح بي صياحًا منكرًا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول اللَّه وتقول تأخذ به! وذلك الفرض علي وعلى من سمعه (¬2). وسأل رجل الإمام الشافعي عن مسألة فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فقال له السائل: يا أبا عبد اللَّه تقول به؟ فرأيت الشافعي أرعد وانتقص فقال: يا هذا! أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا فلم أقل به، نعم على السمع والبصر على السمع والبصر (¬3). وقال: إذا رويت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا صحيحًا فلم آخذ به فأنا أشهدكم أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 6/ 2522 برقم 6486، ومسلم: 2/ 988 برقم 1355. (¬2) انظر: الرسالة للإمام الشافعي، ص 452 - 454، الفقيه والتفقه للخطيب البغدادي، ص 222 - 223. (¬3) انظر: الفقيه والمتفقه، ص 300.

عقلي قد ذهب (¬1). وقال وكيع بن الجراح لشخصٍ اعترض عليه بقول أحد التابعين: أقول لك قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقول قال إبراهيم؟ ما أحقك أن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا (¬2). وروعة هذه النماذج تغري الكاتب بالاسترسال وتشدُّ القارئ لطلب المزيد بما يقف القلم معه عاجزًا عن استقصاء أحوالها؛ لأنها نماذج رائعة مسطرة بمدادٍ من نور في سجل علماء الإسلام، تكشف خاصية التجرد والتسليم لخطاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فالآراء والاجتهادات تتوقف وتوضع جانبًا حين يأتي حديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. لم يكن أحد من فقهاء الإسلام يرد حديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بل ولا حتى يتوقف في ذلك لأي سبب كان، وكلُّ ما وقع من ترك أحدٍ من الفقهاء لبعض الأحاديث فإنما كان بسبب عذر خاص به ناشئٍ عن عدم بلوغ الحديث له أو كونه يتأوله بما يخالف ظاهره، وأما أن يكون أحد منهم قد ترك حديثًا واحدًا (تركًا غير جائز فهذا لا يكاد يصدر من الأئمة) (¬3). ولا عجب فالعلماء هم أعظم الناس خشية للَّه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ومن تمام هذه الخشية ولوازمها أن يسلم وينقاد لمن أمره اللَّه - تعالى- بطاعته والتسليم لكلامه {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}. [آل عمران: 31] ¬

_ (¬1) انظر: الفقيه والمتفقه، ص 301. (¬2) انظر: الفقيه والمتفقه، ص 288. (¬3) رفع الملام لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 48.

هو منهج سار عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة الإسلام وفقهاء المذاهب، غير أنَّه ثمة منهج آخر ما زال في نفسه ضعف من كمال التسليم لسنَّة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيضع من الشروط والقيود على سنَّة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقدر ما في قلبه من مرض الشك وضعف الانقياد؛ فبعضهم يضعف في قلبه التسليم حتى ينعدم حين يلغي اعتبارَ السنة -إطلاقًا- من التشريع فلا يؤمن إلا بالقرآن فقط، وهي دعوى مخادعة؛ وإلا فلو آمن بالقرآن حقًا لآمن بسُنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جاءت بذلك نصوص القرآن، بل واقع الحال أنهم لا يؤمنون بقطعيات القرآن في القضايا التي تنافي الثقافة العَلمانية المعاصرة؛ فحقيقة الأمر أنه استثقال للتشريع ومحاولة للتخفف من جزء كبير منه. وبعضهم يشترط في السنَّة أن تكون متواترة لا آحادًا، فيلغي أكثرية سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بتقسيمات محدَثَة لم يعرفها الصحابة والتابعون ولا مَن بعدهم. وبعضهم يشترط في الآحاد التي يقبلها أن لا تكون في العقائد أو أن تكون في غير القضايا التشريعية المهمة كمسائل السياسة والحكم ونحوها. والملفت للنظر أن هذه الشروط التي يضعون تتبخر حين يكون الحديث في هواهم؛ فتجد من يشترط التواتر يستدل بأحاديث الآحاد ويرد أحاديث المتواتر، ومن يشترط أن لا تكون في القضايا العقدية أو التشريعية المهمة يستدل ببعض الأحاديث حين تكون موافقة لهواه ويرد بعض الأحاديث المتواترة ولو كانت في هذه الأبواب المهمة. وآخرون يشترطون في السنَّة أن تكون قطعية الدلالة أو قطعية الدلالة والثبوت

أو مُجمَع عليها بين العلماء أو لا تكون معارِضة للعقل أو المصلحة أو مقاصد الشريعة. . . وخذ ما شئت من هذه الشروط والقيود التي لا تنتهي ولا تتوقف عند حد، وكلما جاء حديث على خلاف ما تهوى النفوس جاءت هذه الشروط والقيود للتخلص منه، وهي صورة منافية للتسليم الذي كان عليه أئمة الإسلام وفقهاؤه الكبار. إن سنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- سياج واحد، واختراق حديث واحد وترك العمل به بلا سبب سيؤدي إلى مزيد من التهاون والتساهل بأجزاء أخرى من السنة يتسع تدريجيًا حتى يصل إلى تعطيل السنة كلها، وحين يعوِّد المسلم نفسه ويعتاد قلبه على وضع الشروط والقيود لما يقبله من سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنه يكون قد بدأ في شقِّ طريقٍ جديدة خارجًا به عن جادة أهل السنة والجماعة؛ فما يلبث أن يزداد انحرافه وشتاته إلى أن لا يبالي اللَّه به في أي أودية الضلالة هلك (ولهذا تجد من تعوَّد معارضة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه إيمان) (¬1). وتجد من يضع مثل هذه الشروط لا يجد نفرة أو غضاضة في قلبه من إنكار شيء من السنة ولو بلا سبب؛ لأن هذه الشروط لم تأتِ -أصلًا- إلا من حالة شك بأصل ثبوت السنَّة، فكان التهاون في حديث واحد نابعًا من مرض يثير التهاون في المزيد من السنة. لقد كان علماء الإسلام مدركين تمامًا خطر التهاون ولو بحديث واحد من أحاديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ويستحضرون أن ترك حديث واحد بلا عذر خرق يغرق سفينة ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل: 1/ 197.

النجاة؛ لهذا قال نعيم بن حماد: من ترك حديثًا معروفًا فلم يعمل به وأراد له علَّة أن يطرحه فهو مبتدع (¬1). إنها سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هي مثل سفينة نوح من ركبها نجا من الغرق ووصل إلى العافية والسلامة التي يريدها، ومن تركها وبحث عن النجاة بطرق أخرى فالغرق والهلاك لا بدَّ آتيه ولو بعد حين، ومن لا يقبل السنة إلا بشروط وقيود فقد ركب السفينة وهو يجتهد في شق خروق في أسفلها وأعلاها فما تبرح به السفينة حتى تغرق فلا ينفعه حينها نداء الناصحين له: (اركب معنا ولا تكن مع المغرقين). ¬

_ (¬1) انظر: الفقيه والمتفقه، ص 299.

هوس التفسير السياسي

هوس التفسير السياسي تتملّكني الدهشة والإعجاب كلّما نظرت في بعض المواقف الصارمة لأئمة السلف من الأحكام الفقهية المتعلقة بالتعامل مع (السلطة السياسية)، ولو فتح الشخص صفحة ذلك التاريخ لانهالت على ناظرية عشرات القصص والأخبار في إنكار الدخول على السلاطين أو تولي القضاء لهم وإسقاط الرواية عمن وجدوه مترخِّصًا في ذلك، إلى مواقف أشدَّ حسمًا وصرامة كمثل ما روى أن (خلفًا البزَّار) رفض الرواية عن شيخه (الكسائي) بسبب انه سمعه مرة يقول: سيدي الرشيد، فقال: (إن إنسًانا مقدار الدنيا عنده أن يجعل من إجلالها هذا الإجلال لحري أن لا يؤخذ عنه شيء من العلم) (¬1). أتساءل مع القارئ الكريم ما سبب هذه الصرامة التى سكلها أولئك الأئمة؟ بحلو لكثير من الناس أن يبحث لها عن مبررات وأعذار لأن ثمَّ قناعة في ¬

_ (¬1) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح: 2/ 133.

التفكير الفقهي المعاصر بعدم رجحان مثل هذه المواقف بناءً على قاعدة جلب المصالح ودفع المفاسد، وهي آراء قابلة في تفاصيلها للاجتهاد والأخذ والرد، غير أن ما يدهش المتابع حقًّا أنَّ هذا الموقف -في جملته- قد كان صيانة ربانية وعناية إلهية لهذه الشريعة من حيث لا نشعر؛ لأن (التفسير السياسي) هو أعظم قوس جائرة سددت إلى جسد التراث الإسلامي؛ فكل الدراسات الفكرية المعاصرة التي أخذت تنبش في تاريخ الإسلام وتراثه كانت تعتمد بشكل رئيسي على تأثير السياسة على النصوص الشرعية وطرائق الاستدلال والاجتهادِ، وأنَّ الأحكام والنصوص لم يكن مردُّها إلى التشريع والديانة بقدر ما هي متأثِّرة بواقعها الذي صاغته السياسة. وحين يعرف المتابع حقيقة ما كان عليه العلماء في ذلك الزمن، وبُعدَهم عن السلطة، وتحاشيهم عنها، وتحفُّظهم من مجرد الدخول عليها أو تولي القضاء لديها عرف أن مثل هذا الاتهام ضرب من الهجاء والشتيمة لا أساس له من البحث العلمي. يغطِّي التفسير السياسي مساحة واسعة من حركة خلايا العقل العَلماني المعاصر، ولو تعطَّل هذا التفسير لتوقَّفت حركة تلك القراءات عن البحث في تراث الفقهاء ونصوص السنة، فلا يقرأ الباحث منهم أي حكم أو ينظر في أي نص إلا ويفتش عن أثر السياسة في الموضوع، وبطريقة كسولة جدًا لا تتعدى ربط أي نص شرعي بأقرب حدث سياسي، وتعليق أي حكم بأدنى سلطان (فما من شيء في هذا التاريخ إلا وهو مبصوم بخاتم السياسة، الفكر والفقه والاجتماع والاقتصاد واللغة والفن والجغرافيا والسيكولوجيا، بل والنص الشرعي ذاته) (¬1). ¬

_ (¬1) السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، لعبد الجواد ياسين، ص 168.

فكلُّها مصبوغة بالسياسة، ولم يبقَ ما هو خارج عن تأثير السياسة إلا شيء واحد، وهو ما يكتبه مثل هذا المؤلف والبحوث والأفكار التي يقررها فهي بلا شك بعيدة عن تأثير هذه السياسة التي تبصم على كل شيء! ومع أن التفسير السياسي هو أكبر الأدوات التفسيرية التي يعتمدها هؤلاء في قراءتهم للتراث، وهو أكثرها شيوعًا وحضورًا إلا أنه في الوقت نفسه أضعف نقطة وأهش زاوية يعتمدون عليها، فنشر نماذج وأمثلة للتفسير السياسي على السطح كافٍ لكشف المستوى الموضوعي والعلمي لتلك الدراسات، وأنَّ هذا التفسير يعبِّر عن حالة مرضية أكثر من تعبيره عن روح علمية. فأحدهم يقرر تأثير السياسة على الشافعي لأنه: (الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختارًا راضيًا) (¬1). ولشدة ضغط المرض السياسي خفي عليه معرفة مولد الشافعي وهو (سنة 150 هـ) أي بعد زوال الدولة الأموية التي كان يتعاون معها بثمان عشر سنة! وباحث آخر يفسر الظاهرية التي كان عليها (ابن حزم) بأنها موقف سياسي اتخذه ابن حزم لأجل أن الدولة الأموية بالأندلس تحتاج لمشروع يناهض المشروع الثقافي لخصميها (العباسي) و (العبيدي) فجاءت بابن حزم: (لينطق باسها ويحمل مشروعها الثقافي) (¬2)، وقد أعماه التفسير السياسي عن إدراك الحقيقة التاريخية الواضحة من أن الدولة الأموية بالأندلس قامت سنة (138 هـ)؛ أي قبل مولد ابن حزم بما يقارب قرنين ونصف من الزمان (ولد سنة 384 هـ) وسقطت (سنة 422 هـ) وابن حزم ما يزال في عز شبابه (ت 456 هـ)! ¬

_ (¬1) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، نصر حامد أبو زيد، ص 16. (¬2) تكوين العقل العربي، لمحمد عابد الجابري، ص 309.

ومؤلف ثالث يتهم كعبًا الأحبار بأنه يروي الأخبار تملقًا لعبد الملك بن مروان (¬1) مع أن كعبًا قد توفي عام 34 هـ قبل أن يتولى عبد الملك الخلافة بما يزيد عن ثلاثين سنة، وهي فضيحة يستحي منها أي باحث لم يبتلى بمرض التفسير السياسي! وقد كنا نحسب مصطلح (إجماع أهل المدينة) عند المالكية دليلًا وأصلًا شرعيًا، وقد كنا غافلين عن البعد السياسي لهذا المصطلح فلم نعرف كونه سلاحًا سياسيًا وعصيانًا مدنيًا كما تفطن أحدهم له حين قال: (فلو أراد إمام دار الهجرة التقرب إلى السلطة السياسية لوجد الطريق إلى ذلك سهلًا، بإِسقاط هذا الأصل الذي انفرد به دون غيره، والذي يكفي لندرك بعده أن نرى فيه محاولة لإِضفاء الشرعية على إجماع أولئك الذين قاوموا طويلًا سلطتي دمشق وبغداد) (¬2)! وخذ من الأمثلة والقراءات العقلانية التي تحكم على الحديث إذا ورد في فضل أحد بأنه من وضع أنصاره، وإذا ورد في ذم أحد بأنه من وضع أعدائه، وأي نص له علاقة بالواقع فهو من صياغة الواقع له! ومع ذلك، فالهوس بالتفسير السياسي لم يكن من إبداعهم وابتكارهم، بل هو صورة طبق الأصل من المدرسة الاستشراقية التي غرستها في أدمغة تلاميذها المقلدة فما عادوا يبصرون جيدًا من دونها، وقد أحسن العلامة (المعلمي) وصف بعض أسباب الخلل لديهم من أنهم: (إنما يعرفون الدواعي إلى الكذب ولا يعرفون معظم الموانع منها) (¬3) فهؤلاء الناس يعرفون الدواعي لتأثير السياسة من جهة قوة السلطان ورغبة الناس في التملق إليه لكنهم لا يعرفون الموانع التي تحول دون تأثير ¬

_ (¬1) السلطة في الإسلام، لعبد الجواد ياسين، ص 274. (¬2) الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، لعبد المجيد الصغير، ص 235. (¬3) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، لعبد الرحمن المعلمي: 1/ 27.

السياسة كمثل ما عليه العلماء من الديانة والعدالة، ونفرتهم من الكذب، وما جرى من صيانة للعلم بالرواية والتدوين والجرح والتعديل، وهو ما يجعل تأثير السياسة فيها مستحيلًا. فحقيقة الأمر أن كثيرًا من القوم إنما يعبِّرون عما يجدونه في نفوسهم، فإذا شاهدوا تأثير السياسة على تغيير قناعاتهم ومذاهبهم ظنُّوا أن غيرهم لن يكون أحسن حالًا منهم، مع كثافة جهلٍ تحول دون فهمهم لحال التراث والشريعة التي يريدون تقديم تفسير لها، للحدِّ الذي يقرر فيهم أحدهم: (لقد كان القائمون بجمع الروايات "النصوص" من المحدثين هم أنفسهم الفقهاء الذين يمارسون اللحظة ذاتها، عملية التدوين النصي وعملية التنظير الفقهي وفي ظل هذا الوضع لا يؤمن من التداخل والقلب بين التشريع والتفسير) (¬1)، فهو يتصور أن الفقهاء لم يكونوا يفرقون بين أقوالهم وبين أقوال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيمكن للفقيه أن تختلط عليه فيجعل قوله هو قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من حيث لا يشعر! فهذا التصور الظريف في فهم التراث الإسلامي يفسر لك سر تضخم هذا الوهم في رؤوسهم. هذا (التفسير السياسي) لا يقوم على أي إثبات أو برهنة علمية، فطريقتهم تقوم على ربط أي حكم أو نص شرعي بالسياسة من دون أي دلائل قاطعة؛ وإنما لأنه يشكُّ -أو يريد أن يشك بالأصح- يبدأ في البحث عن أي مؤثر سياسي من دون أي يقدم على ذلك أي برهنة، وهذه الطريقة في إنكار الحقائق والطعن في الشرائع بمحض الأوهام ليست مبتكرة لهم؛ فهي طريقة قديمة في التعامل مع محكمات الشريعة، فهذا أحد المبتدعة القدامى يدَّعي أن الزنادقة قد دسُّوا على ¬

_ (¬1) السلطة في الإسلام، لعبد الجواد ياسين، ص 321.

أهل الحديث اثنا عشر ألف حديث من حيث لا يشعرون -لاحظ ضخامة العدد- وهو ما دفع الإمام الدارمي إلى الجواب عنه متهكمًا: (دونك أيها المعارض فأوجدنا عشرة أحاديث دلسوها على أهل العلم. . أو جرب أنت فدلس عليهم عشرة حتى تراهم كيف يردونها في نحرك) (¬1). هل معنى هذا أن السياسة لا تؤثر ولا تستغل الأحكام الشرعية؟ أبدًا، بل لها تأثير ولا شك في ذلك، لكن تأثيرها لم يمس أصل الشريعة ولا نصوصها ولا مذاهب الفقهاء وأصولهم، فالتأثير يكمن في استغلال بعض النصوص والمواقف، وربما في تقديم بعض الفقهاء لأهوائهم وشهواتهم إرضاء للسياسة لكن ذلك لن يضر إلا من فعل، أما نصوص الشريعة وأصول الاستدلال وقواعد الفقه فقد كانت في منعة -أي منعة- عن التأثر بذلك، وكلُّ محاولة تثبت خلاف ذلك فإنها ما زالت عاجزة عن إقامة أي إثبات علمي سوى الاعتماد على الشك والخرص على طريقة أحدهم حين يحلل أحداث التاريخ منطلقًا من (يبدو) و (أظن) و (لا يستبعد) ثم بعد ذلك (فتحصل يقينًا) (¬2). ¬

_ (¬1) نقض عثمان بن سعيد، ص 401. (¬2) أشير هنا وأشيد برسالة لطيفة بعنوان (التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي المعاصر) للأستاذ الباحث: سلطان العميري، وهي من إصدارات مركز التأصيل للدراسات والبحوث، فهي جديرة بالقراءة والاطلاع.

التسامح الفقهي

التسامح الفقهي تمتاز الحوارات الشرعية والفكرية على شبكات الإنترنت بأن المتابع لها يستطيع أن يعرف الحق بكافة أطرافه؛ خاصة حين يكون الحوار جادًا ومن شخصيات تملك قدرًا جيدًا من العلم بالموضوع؛ فإن القراءة لعدد من المتحاورين يجعل القارئ يتمكن من معرفة أطراف الموضوع ولو كان خلىَّ الذن عنه قبل ذلك، كم يستطيع أن يعرف كافة النصوص والسنن والقواعد فى مادة النقاش بما يضيء له الطريق الصحيح، فهذه قاعدة منهجية من الرائع حقًا أن يضعها العاقل نصب عينيه. ومن خلال هذه القاعدة المنهجية يدرك المتابع قضية (تداخل الموضوعات) و (اختلاط الملفات) فى كثير من القضايا التى يجرى فيها الحوار؛ فبعض المتحاورين لا يستحضر جوانب أخرى من الموضوع يكون غافلًا عنها فيضع كلَّ براهينه واعتراضاته على اعتبار أن الموضوع يتجه فى مسار واحد، بينما حقيقة الأمر أن ثم مسارات عدة، وعلى ملفَّات مختلفة فتميز هذه الملفات وإبراز محتوياتها نافع جدًا فى استيعاب مادة الحوار. أكتب هذا كلَّه لأجل موضوع (التسامح الفقهي)، فهو من الموضوعات التي

يتتابع الحوار والجدل فيها، فتتبع كلام جميع الأطراف مهم لمعرفة الحق كاملًا، وحين تختلط فيه الموضوعات فمن الضروري أن تفرد الموضوعات وتفصَّل لتتضح الصورة كاملة. ومن خلال متابعة لمثل هذه الحوارات يمكن لي أن أفصِّلها إلى الملفَّات التالية: الملف الأل: أخلاقيات وآداب الحوار: كالأدب مع المخالف وتجنُّب الإساءة اللفظية الموجهة إليه، والعدل في أي أحكام يصدرها الشخص ضد أي أحد، وترك التنقيب عن الخفايا والمقاصد التي لا يعلمها إلا اللَّه، وغير ذلك مما يدخل كله في قيمة (الخُلُق) الذي أعلت الشريعة مقامه لمرتبة الأصول الكلية التي يجب التواصي والصبر عليها، وهي وصية اللَّه لعباده {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53] وهو خلق محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يكن فاحشًا ولا متفحشًا ولا بذيئًا ولا طعَّانًا ولا لغَانًا، ولطالما انتهكت ساحة هذا الخلق العظيم وحصل فيها من التجاوزات ما يصل كثير منه إلى المنكرات التي يجب الاحتساب عليها، وقد تقع هذه الإساءات في قضايا فقهية اجتهادية قابلة للنظر والخلاف، وهذا يتطلب ضرورة أن يمرن المسلم نفسه ويعوِّدها ويأطرها على ضبط النفس وكظم الغيظ والصبر والحلم. هذه الأخلاقيات ملف يجب أن ينفك عن موضوع الصواب والخطأ في البحث الفقهي والفكري؛ فالمحاور الذي تكون عبارته جافة أو نابية لا يعني أن ما يقوله باطل، والمحاور الذي يكون في قمة الذوق والأدب لا يقدم رأيًا صحيحًا بالضرورة، فيجب أن لا تكون (أخلاقيات الحوار) هي الحاكمة على (سلامة الأفكار). الملف الثانى: تأثيم المجتهد وتفسيقه وإسقاط عدالته أو الحكم عليه بالعقاب الأُخرَوي، وهو يبحث في سؤال تراثي كبير عن (أثر خطأ المجتهد) هل يكون سببًا

لفسقه أو كفره أو إسقاط عدالته، وثَمَّ آراء ومذاهب شتى، أرى أن خير من حرَّرها وجمع أطرافها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أطال فيها النفس وناقش كافة الأقوال في مجموع الفتاوى وخلص فيه إلى أنَّ "المجتهد المسؤول من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفتٍ وغير ذلك إذا اجتهد واستدل فاتقى اللَّه ما استطاع، كان هذا هو الذي كلفه اللَّه إياه، وهو مطيع للَّه مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه اللَّه البتة" (¬1). هذه الرؤية المعتدلة تجعل الشخص يتجه إلى المسألة نفسها فيحكم عليها ويوضح مدى موافقتها للكتاب والسنة، وأما الحكم على القائل بالإثم والفسق والكفر فهذا باب آخر؛ فالبحث الفقهي يتجه الى المسألة وبيانها، وأما الحكم على الأشخاص فموضوع مختلف، وهذا الاشتباك بينهما هو الذي يجعل بعض الناس يتحرز عن بعض المسائل أو يقبل بها لأنه يتصور أن رفضها يعني تأثيم وتفسيق القائل بها، كما أن بعض الناس يتجه لنفسيق المجتهدين لأنه يرى أنهم أباحوا أمرًا من المحرمات، وينزاح الستار عن كلا الرؤيتين حين يتمايز في نظر الإنسان (الحكم على المسألة) عن (الحكم على المخالف). الملف الثالث: الإنكار في مسائل الخلاف، وهذه مسألة فقهية شهيرة قد اتجهت أنظار الفقهاء فيها إلى مذاهب شهيرة، أقواها -بلا شك- جعل (الإنكار) متعلقًا بالنص الشرعي؛ فكلما بعد (الخلاف الفقهي) عن النص كان أقرب للإنكار؛ لأن الشريعة جاءت بمعاني (المعروف) و (المنكر)، وهذه المفاهبم إنما يحددها النص ولسى خلاف العلماء، ووجود الخلاف لا يمنع من الإنكار بالحكمة وبحسب درجاته، فموضوع (الإنكار) متعلق بتطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى: 19/ 217.

في الشريعة، ولا يلزم من الإنكار تأثيم المخالف أو التضييق على اجتهاده؛ فهذا باب فقهي وذاك باب فقهي آخر؛ فالإنكار في كل المسائل أو بطريقة تفتقد للحكمة أو من دون مراعاة لحال المخالف، كلُّها مخالفة للتسامح الفقهي الصحيح، كما أن التسامح الفقهي لا يلغي مبدأ الإنكار في مسائل الخلاف. الملف الرابع: الاختيار بين المذاهب والأقوال الفقهية، وهو تسامح فقهي يجب أن يبقى وسطًا بين طرفين: طرف (إلزام الناس بقول واحد) ورفض أي اجتهادات وأقوال أخرى لمذاهب فقهية معتبَرة، خاصة في المسائل الاجتهادية القابلة للنظر والخلاف. وطرف (تخيير الناس بين الأقوال) وجعلها في متناولهم ليختاروا منها أسهلها وأيسرها وأقربها لنفوسهم ومقتضيات عصرهم، فلا هذا ولا ذا، فالقادر على النظر في الأدلة والمسائل لا يجوز له أن يتجاوز القول الفقهي الذي يراه راجحًا، وأما من لا يستطيع فيستفتي من يثق في دينه وعلمه من دون أن يتخيَّر من الأقوال والمذاهب ما يشاء؛ لأن هذا من الترخُّص الذي أجمع الفقهاء على ذمه وعيبه لمنافاته لأصل التكليف (¬1)؛ لأن المسلم متعبَّد باتباع النص ما استطاع، وجعل الأقوال في سلَّةٍ يختار منها ما يشاء يجعله متبعًا لشهوته وهوى نفسه، كما أن هذا التسامح يجب أن لا يجعل الأصل في المسائل الخلافية العفو والتجاوز وأنَّ المسألة ما دام فيها خلاف فالأمر واسع (فالمختلف في حرمته لا يكون حلالًا) وهو معلوم من دين الإسلام بالضرورة كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2). ¬

_ (¬1) لمعرفة بعض من نقل الإجماع هنا من أهل العلم راجع: ابن حزم في مراتب الإجماع ص 271، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 119، وابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع 1/ 65، وابن حمدان الحنبلي في صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ص 41. (¬2) ذكر ذلك في مجموع الفتاوى: 20/ 270.

وحين يكون الأصل هو (النصّ) فإن ذاك يستدعي البحث عنه وإشهاره وأن تكون دائرة البحث فيه وحوله، ولو حصل خلاف واجتهاد وتأويل له فإنه منطلق من النص، وهو تطبيق لأمر اللَّه -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وأما حين يكون الخلاف بحد ذاته حجة وعذرًا فإن هذا في النهاية سيؤدي إلى هجران النصوص وإضعاف مكانتها في النفوس، وهو ما دفع الحافظ ابن عبد البر ليقرر بوضوح أنَّ: (الاختلاف ليس بحجة عند أحد عَلِمْتُه من فقهاء الأمة، إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجَّة في قوله) (¬1). الملف الخامس: التسامح مع الانحرافات العقدية: وهو موضوع خارج عن حوار (التسامح الفقهي) كلَّه؛ لأن الخلافات الفقهية تدنو من النصوص ولا تصادم أصول الشريعة وقطعياتها بخلاف الظاهرة الفكرية المنحوفة التي تترجمها (الانحرافات والمذاهب العقدية)، غير أن بعض الناس يسعى لاستغلال (التسامح الفقهي) لتهوين الانحرافات العقدية في النفوس: إما بجعلها اجتهادات بشرية قابلة للاجتهاد حيث لا وجود لمن يملك الحقيقة المطلقة، أو باعتبار أنَّ هؤلاء قد يكونوا مجتهدين ومعذورين فيبدأ في خلط ملفِّ (عذر القائل) بملف (الموقف من القول) أو يخلط فيها ملف (أخلاقيات الحوار) و (إعطاء الناس حقوقهم) وغيرها من الملفات التي تربك بعض الناس فيغفل بسببها عن استحضار أن هذه منكرات مصادمة للشريعة ومخالفة لسبيل المؤمنين. ظاهرة (اختلاط الملفات) و (دمج الموضوعات) ليست مختصة بالتسامح ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله: 2/ 115.

الفقهي؛ فكثيرًا ما يلتبس على المتابع حقيقة بعض القضايا الفكرية والشرعية لأنها تأتيه جميعًا فيختلط الحق بالباطل والصواب بالخطأ، والمنهج الشرعي فيه هو ذات المنهج الصحيح في التعامل مع (الألفاظ المجملة)؛ فلا قبول لها بإطلاق ولا رفض لها بإطلاق، بل قبول للحق ورد للباطل في منهج موضوعي يستفصل عن أفراد الموضوع حتى تكتمل الرؤية في كافة أطرافها فلا تقبل باطلًا ولا تردُّ حقًا بسبب هذا الإجمال.

التسربات الفكرية

التسربات الفكرية لا تمرُّ ساعة دون أن يدخل "محمد" إلى أحد المواقع الالكترونية ليناقش عددًا من أصحاب الطوائف والتوجهات المختلفة في مسائل وقضايا كثيرة، ثم بعد أشهر من الجدل والحوار المستمر يظهر محمد برؤى وأفكار منحرفة يظنها ضرورية وأساسية للدفاع عن أحكام الشريعة وتصحيح صورة الإسلام والسنة. ولقد أصاب أخونا (عبد الرحمن) قريبًا مما أصاب (محمد) غير أنه كان أقل انهماكًا في هذه المعمعة فكان دوره يقتصر على المتابعة والقراءة مع بعض الحوارات الهامشية، فما دارت الأيام حتى كان قلب (عبد الرحمن) يحتضن كثيرًا من الإشكاليات والشبهات التي كانت تمر على عينيه الساخطتين فما لبثت أن سكنت قلبه بعد ذلك. (عبد الرحمن) و (محمد) نموذجان لظاهرتين منتشرتين في واقعنا المعاصر، ظاهرة الشخص الغيور الذي يدخل في نقاش الشبهات دفعًا لها وتحذيرًا منها،

وظاهرة القارئ المطلع على هذه الحوارات فضولًا وثقافة ثم ما يلبثا بعد هذا إلا قليلًا حتى ينقلب بعضهم على عقبيه أو يكون قد تأثر (كثيرًا) وتشرَّب عددًا من الأصول والمقدمات الفاسدة. سأقف مع سبب واحد يفسر واقع هذه المشكلة، وسأدع بقية الأسباب المؤثرة لمقام آخر، فلن أتحدث عن ضعف جانب العبادة والاتصال باللَّه، أو عن إشكالية تهاون المسلم في تحريك دفعات الشبهات على قلبه من دون أن يشد حبل قلبه باللَّه، ولا عن سبب العجب والثقة والاتكال على النفس الذي يضعف افتقار العبد إلى مولاه، ولا عن ضعف التأصيل الشرعي، ولا عن التفرد والاستقلال الموهوم الذي يجعل أمثال هؤلاء يأنفون عن سؤال أهل العلم والرجوع إليهم، بل لربما ظن -لعظم الوهم الذي يسكنه- أنه يخوض غمارًا لا ينقذ الإسلام ولا يحفظ أصول الدين إلا رأيه وفكره. السبب الذي أريده يتعلق بواقعة (التسليم بالمقدمات والأصول الفاسدة) فيدخل المحاور والقارئ هذه الحوارات، وفي غمار معمعة قضاياها وأمواج إشكالاتها يتخذ لنفسه عددًا من الأصول والقضايا الثابتة يدافع عنها ويجيب عن الشبهات بناءً عليها، وقد غفل عن أن هذه الأصول والقضايا لم تأته من قراءة تدبُّرية لكتاب اللَّه ولا من جلوس طويل على صحيح السنة ولا من دراسة بحثية لكتب الفقه؛ وإنما جزم بها من خلال هذه الحوارات وحسم أمرها بعد إلزام من هنا أو ورطة هناك. هي مشكلة قديمة، كثيرًا ما يبتلى بها من يقرر أصوله ومحكماته من خلال هذه الحوارات، وقد كانت سببًا ظاهرًا لبذور الانحراف العقدي الذي مزق أمة

محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من قديم، فرأس المنحرفين (الجهم بن صفوان) لم يقرر عقيدته في نفي أسماء اللَّه وصفاته إلا بعد نقاشٍ مع فرقة وثنية أحرجته بأنه لا يستطيع أن يحس خالقه ولا يشمه ولا يسمع صوته فهو إذن غير موجود، فحيَّرته هذه الشبهة ومكث أيامًا يبحث عن جواب مريحٍ لها، ثم خرج إليهم فأجابهم بأن وجود اللَّه مثل وجود الروح التي في جسد الإنسان، يقرُّ الإنسان بوجودها لكنه لا يراها ولا يسمع صوتها، ومن خلال هذا الدليل الذي قرره ليتخلص من ورطته مع الوثنيين بنى تصوُّره عن اللَّه فنفى عنه الصفات التي أخبرنا بها عن نفسه (¬1). وقد بذلت الفرق الكلامية جهدًا عظيمًا في سبيل إقناع الملاحدة بوجود اللَّه فجاؤوا بالدليل العقلي الشهير (دليل حدوث الأعراض والأجسام) وجعلوا إثبات اللَّه لا يقوم إلا به، فحطموا به وعبثوا بكثير من النصوص والأصول الشرعية. لاحظ أنهم لم يكونوا يرونها أصولًا فاسدة، أبدًا، بل كانت عندهم دليلًا شرعيًا وأصلًا ضروريًا لحفظ الإسلام وصدِّ هجمات أعدائه، وهو ما زادهم ثقة وتمسكًا بهذه الأصول ورفضًا لأي قاعدة أو دليل يخالفها؛ لأنه سيكون مضرًا بالإسلام حسب رأيهم. وإذا أردنا أن نتخفف من عرض الإشكالات القديمة ونأتي لواقع إشكالاتنا المعاصرة فسنجد المشكلة نفسها حاضرة لم تتغير، فمجموعة من الفضلاء يدخلون في حوارات وصدامات فكرية مختلفة وعلى أصعدة متعددة، يضطر بسبب هذه الحوارات تبني عدد من القضايا والمقدمات التي يراها مرتكزات أساسية للدفاع عن نصوص الشريعة وحفظ أحكامها، ويدعمها بعدد من الأدلة الشرعية، لكنه قد ¬

_ (¬1) انظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل، ص 93 - 95.

التقط هذه القواعد من هذه الحوارات ثم بحث بعد ذلك عن أدلتها في الشريعة، ولم يستخرجها من قراءة لنصوص الشريعة أو فحص لكلام الفقهاء. مثلًا: يخوض حوارًا مع الغربيين دفاعًا عن بناء المساجد وحق المسلمين في العبادة، ويقوم بجهود مشكور في إحراج الغربيين بما في موقفهم من تحيز ضد المسلمين، فيقولون له: (إنكم لا تسمحون ببناء الكنائس في بلادكم، ولا تعطون غير المسلمين حريتهم في نشر دينهم؟) فيجيب مباشرة بأن هذا غير صحيح وأن حرية العبادة والدعوة مكفولة مطلقًا في بلادنا ولهم كامل الحرية في دينهم مثل ما للمسلمين، وإذا كان أحسن حالًا قال: عدم بناء الكنائس خاص بجزيرة العرب بسبب خاصيتها الدينية أو بسبب انتفاء وجود نصراني فيها. فلم يكن بحث بناء الكنائس ونشر الكفار لدينهم هنا معتمدًا على نصوص الشريعة ولا آراء الفقهاء -وإن جاء ذلك في ما بعد- وإنما جاء لضرورة التخلص من هذا الإلزام المحرج؛ فلحاجته لجواب مريح قرر مثل هذه القاعدة مع أنه بإمكانه أن يقرر بسهولة أن حديثه مع الغربي هو مطالبة له لأن يكون صادقًا مع مبادئه وقيمه؛ فبما أنكم تقررون الحياد مع الأديان فيجب أن تكونوا كذلك أو تعترفوا بأنكم غير صادقين. وينتفض آخر: غيرة ودفاعًا عن الانتهاكات التي تلحق ببعض الدعاة والمصلحين بناءً على (حرية الرأي) وأنه حق مكفول للجميع ما دام لم يقع منه عدوان على أحد، ومع مواصلة الحوار والسجال يضطر لأن يجعل حرية الرأي في الشريعة مكفولة لأي أحد، فلا عقوبة ولا منع في الشريعة للرأي؛ وإنما يكون ممنوعًا إذا كان اعتداءً على الناس، وأما الرأي المجرد فهو حق مصان ولا إشكال

فيه، ويسوق لذلك بعض النصوص، وهي رؤية علمانية صريحة لا وجود لها في أي تراث فقهي بتاتًا، لكنها ذات المشكلة والمرض القديم، يريد الشخص أن يدافع عن الإسلام فيعتقد بأصل فاسد يرى أنه لا يمكن تحقيق مقصود الشريعة إلا من خلال هذا الأصل الفاسد. ويعيب شخص ثالث على النصارى تغييبهم للعقل وتعطيلهم له ويسوق لهم شواهد من ذلك في معتقدات الخلاص والتثليث وغيرها فيلزمونه ويقولون: (لديكم أيضًا في الإِسلام مخالفة للعقل وسنذكر لك أمثلة) فيذكر لهم بارتياح أن الإسلام (يقدم العقل على النقل) فلا وجه لإشكالكم، وقد ظن أنه قدَّم جوابًا رائعًا لهذه الشبهة، وما درى أن أراد أن يصلح خدشًا فهدم قصرًا! فتخلص بهذا الجواب من إحراجهم له لكنه أدخل على عقله وقلبه فيروسًا خطيرًا ما دخل عقل أحد إلا وعبث بيقينه. ورابع: يخوض غمار الدفاع عن أحكام الإسلام في المرأة، فيبذل مشكورًا غاية جهده في البرهنة والعقلنة لتلك الأحكام لأنه يستشعر أن أي ضعف في الدفاع عن هذه الإيرادات المثارة سيكون سببًا للتشكيك في الإسلام ذاته، ثم يخرج من هذه الحوارات بآراء من مثل: مساواة المرأة للرجل في الشهادة وجواز توليها للولايات العامة مطلقًا وبما شاء من القواعد التي يشعر بحاجته لها لدفع الصائلين على الشريعة! يزيد المشكلة تعقيدًا أن الشخص في معمعة هذا الحوار لا يشعر بمثل هذه القواعد والمقدمات الفاسدة من أين دخلت عليه، فيحسب أنه تلقَّاها من مَعِين الفقه وما يدري أنه إنما غرفها من مستنقع آخر.

إذن ما هو الحل؟ هل نترك الدفاع عن قضايا الإِسلام ودفع الشبهات؟ لا، أبدًا، ليس الحل أن نترك الدفاع عن قضايا الإسلام ولا أن نَضعُف عنه أو نهوُّن من أي نشاطٍ فيه، فهذا باب من أبواب الجهاد في سبيل اللَّه؛ وإنما المطلوب -تحديدًا- أن يتحصن الشخص بالعلم الشرعي أولًا فلا يخوض غمار هذه السجالات من لم يكن عالمًا بأحكام الشريعة، ثم أن لا يعتمد على نفسه في تقرير القواعد والأصول والأحكام، بل يجب أن يراجع كلام العلماء وتقريرات المتقدمين ويسشير أهل العلم المعاصرين؛ لأن المقصود ليس أي جواب عن الشبهة؛ بل لا بد أن يكون الجواب صحيحًا ومستقيمًا، وإلا وقع الشخص في مشكلتين: تسرُّب الأفكار المنحرفة إليه، وعدم قدرته على الإقناع والبرهنة ما دام أنه قد وقف على أرضٍ زلقة؛ فأقوى عامل يقوي المحاور أن يكون مستقيمًا على الحق لم يخلط معه شيئًا من الباطل لأنه: (من المعلوم أن كل مبطل أنكر على خصمه شيئًا من الباطل قد شاركه في بعضه أو نظيره فإِنه لا يتمكن من دحض حجته؛ لأن خصمه تسلط عليه بمثل ما تسلط هو به عليه) (¬1) ثبِّت اللَّه قلوبنا على دينه، ورزقنا اليقين، وصرف عنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. ¬

_ (¬1) مختصر الصواعق المرسلة، ص 80.

الخصم الأكبر!

الخصم الأكبر! لطالما طرق أذني هذا المعنى، وكثيرًا ما يعاد ترداده في مناسبات كثيرة، هذا المعنى يتلخص في العبارة التالية (ضرورة تقديم خطاب عقلاني وبرهاني وعلمي لدعوة الناس إلى الإسلام، وأن سبب جفولهم عن الإسلام إلى ضعف الخطاب الموجَّه لهم). ليس لي تحفُّظ كبير يمس صحة هذا المعنى، لكني كلما سمعتُ هذه العبارة قفز إلى ذهني المناظرات العلمية والإعجاز العلمي فأجد أن دورها في دعوة الناس إلى الإسلام، وأثرها على أعداد الداخلين في الإسلام أقل بكثير من دور الموعظة الحسنة أو التعامل اللطيف أو الخطاب العقلي الميسر، وهو ما يجعلني أشكُّ في حقيقة هذه الصورة التى تكرر علينا في كل حين، ليس انتقاصًا أو شكًا بأهمية الحديث العقلاني والعلمي؛ وإنما أشعر أنه يتضخم أمام ناظرينا فيتشكل بأكبر من صورته الحقيقية. عدت إلى (كتاب اللَّه) وبدأت في قراءة المصحف من فاتحته لألتمس الطريق

الصحيح في التعامل مع هذا الأمر، ولم أكد أنهي بعض أجزاء القرآن حتى ذهلت من الحقيقة التي ظهرت لي بجلاء! لم تكن جديدة عليَّ ولا أظنها تخفى على أحد لكن ميزة النظر في القرآن أنه يرتب الأولويات في عقل المسلم ويعيد تشكيل نظرته إلى الأمور لتبدو في وضعها الصحيح. بدت لي حقائق شرعية ناصعة البيان يجب أن تكون أمام ناظرينا في قضية الإِيمان: الحقيقة الأولى: أن الهداية إلى الإسلام نعمة ومنَّة من اللَّه على أهل الإسلام: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94] يختار اللَّه لها و {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74]، وأمرها إلى اللَّه فـ {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، فلن يدخل أحد في الإسلام إلا بعد أن يشرح اللَّه صدره لذلك {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]، وهذا ما يجعل من ثناء أهل الإيمان قولهم: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، حتى من دخل في الإسلام فلن يستقيم على أحكام الشريعة إلا بفضلٍ من اللَّه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]. وهذه الحقيقة توصلنا إلى الحقيقة الثانية: أن اللَّه يحول دون وصول بعض الناس إلى الإسلام فلا يتمكن من فهم الحق ولا ينشرح صدره له: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25]، {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101]، وجاء في ذلك التحذير

المخيف: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]. فإذا لم يرد اللَّه هداية إنسانٍ إلى الإسلام فلن يملك أحد له شيئًا {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء: 88]، وقال نوح مخاطبًا قومه {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] لأن القاعدة الشرعية الراسخة في نفوس المسلمين جميعًا أنه: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، فهم محجوبون عن الهداية، بل ويصرفهم اللَّه عنها لِمَا علم من حالهم {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]. هاتان الحقيقتان تزيحان الستار عن ناظري المسلم بأن فهم الإسلام والاقتناع به لا يعني الدخول فيه، وأن من يرفض الدخول في الإسلام فليس لأنه لم يفهم الدليل ولم يقتنع به، فثمَّ أمر آخر فوق هذا كلِّه، هو إرادة اللَّه ومشيئته؛ فالهداية ليست مرتبطة آليًا بالدليل العقلي، فإذا رفض شخص الإسلام بحثنا عن المزيد من الدلائل العقلية واجتهدنا في الإقناع تلو الإقناع، بل هي هداية وانشراح قبل ذلك وبعده، وهذا يضع (الدليل العقلي) في مكانه الصحيح فلا يطغى ويتضخم ليربك المفاهيم والأولويات الشرعية. الحقيقة الثالثة: أن الدلائل العقلية ليست على الوجه الذي يريد الكفار؛ فإنهم يقترحون دلائل معينة فلا تحقق لهم {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12]، وطالبوا {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لكَ

جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} [الإسراء: 90 - 91] فهذه دلائل طلبوها حتى يقتنعوا بالإسلام فلم تحصل لهم، وهو ما يعني أن الدلائل العقلية لا يجب أن تكون بحسب ما يريد الكافر. الحقيقة الرابعة: أن الكفار يعتقدون أنهم على حق: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، ولديهم قدرة على المحاججة والمجادلة عن باطلهم: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]، {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56]. فبقاء الكافر معتقدًا أنه على حق ويسير في طريق صحيح هذه سنَّة كونية أرادها اللَّه ولا مبدِّل لما أراد؛ فالإنسان ليس بقادر على أن يقدم دليلًا عقليًا يكون قاطعًا لأي أحد ولكل مجادل ويكون حال منكِرِه كحال من ينكر الأرض التي يمشي عليها، بل سنة اللَّه أن يبقى أكثر الناس على ضلال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]. الحقيقة الخامسة: أن سبب ضلال كثير من الناس ليس لعدم فهمهم لدلائل الإيمان والتوحيد، بل لما في نفوسهم من أهواء وأدواء، وفي (القرآن) ذكر لكثير من هذه الأهواء: المال: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}، والتلبيس: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، والإعراض: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ

وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83]، والحسد: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، والتعصُّب للآباء: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78]، وحب الدنيا: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ} [البقرة: 212]، وغيرها كثير. الحقيقة السادسة: قيام الدنيا على الابتلاء والتمحيص؛ فمن سنَّة اللَّه أن يجري على أهل الإيمان الابتلاء والاختبار: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة: 214]، وقد بيَّن اللَّه حكمة هذه السنَّة الربانية: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، فقضية الإيمان ليست مسائل عقلية تُفهَم أو لا تُفهَم، بل تحتاج النفوس مع ذلك إلى اختبار وامتحان ليظهر الثبات والصبر وتقديم مراد اللَّه، وهذه معانٍ شرعية عظيمة هي أسمى بكثير من مجرد فهم الدليل أو عدم فهمه، ولذلك يتكرر في القرآن وصف المؤمنين بالتزكية والثبات والإخبات والانقياد وهو ما يعني أن الإيمان ليس فهمًا للدليل بل خضوع وانقياد وتسليم للَّه رب العالمين، وهو ما تأنف عنه كثير من النفوس ولا يكفي فهمها للدليل لتصل لهذه المنزلة. ما الذي نخلص إليه بعد استحضار هذه الحقائق القرآنية؟ نخلص إلى أن موضوع الإيمان ليس قضية عقلية صرفة، تتوقف على مدى قدرتنا على تقديم خطاب عقلاني مذهل، وأن كثرة المعادين للإسلام وعلوَّ أصواتهم ليس ناتجًا بالضرورة عن ضعف الدليل العقلي الذي يسمعونه من

المسلمين، بل وراء ذلك أسباب عدة تفتح لذهن الداعية فضاءً واسعًا للتفكير في كيفية الدعوة إلى الإسلام؛ فلا يغلق ذهنه على صورة واحدة تتضخم في الذهن بسبب عوامل خارجية، وهذا قطعًا ليس تقليلًا من الدلائل العقلية أو تهوينًا من قدرها، بل إن القرآن مليء بالبرهنة والاستدلال العقلي واستحثاث أهل العقول ونعي على أهل الشرك تعطيلهم لعقولهم. إن حضور هذه الحقائق يفتح أهام ناظرينا النتائج التالية: 1 - أن الخصومة الحقيقية والمشكلة الأكبر التي تصدُّ الناس عن الإسلام ليست الدلائل العقلية بقدر ما هي (الأمراض) التي تسكن النفوس: من كِبْر وحسد وحب للمال والجاه أو التعصب لما عليه المجتمع والإرث أو الإعراض وحب الدنيا، ولعل هذا يفسر أن أكثر الداخلين في الإسلام ينقادون إليه من دون حاجة لخطاب ذو مواصفات عالية في البرهنة والعقلانية. 2 - أهمية العناية بالوسائل التي تعالج أمراض النفوس وأدواءها: فالوعظ والترغيب والترهيب والتذكير بالبعث والمصير له دور عظيم في دخول الناس في دين اللَّه أفواجًا، وسيلفت نظرك حين تقرأ دلائل القرآن أن الخطاب الوعظي حاضر بقوة في مجادلة الكفَّار، فتأمل في الآيات التالية: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، وقوله -سبحانه-: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171]، وقوله: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]، بل إن من حكمة اللَّه في إرسال الآيات: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، فهذا خطاب اللَّه الذي خلق هذه الأنفس ويعلم ما تحتاج إليه، وهو معنى يغفل عنه كثيرًا من

يغرق في العناية بالدلائل العقلية فيكون جُلُّ تفكيره وحديثه في محاولة الإبداع في استخراج الدلائل التي تقنع المخالف -وهو مطلوب حسن- لكنه يغفل عن أثر الوعظ في هداية الناس. 3 - الاعتدال في تقرير وتقديم الدلائل العقلية: فدورها أن تبين الحق للشخص وليس أن تدخله في الإسلام، وحين لا ينشرح صدر الشخص للإسلام فإنه قادر على المجادلة وإثارة الملفات المختلفة إلى ما لا نهاية، وكثيرًا ما تختفي الأهواء والأمراض والحظوظ الشخصية في قوالب الدلائل العقلية التي يقدِّمها المجادل، فتكون غلافًا لأهواء النفوس من حيث يشعر أو لا يشعر؛ ولهذا يكثر في خطاب القرآن تسمية حجج الكفار بالأهواء {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145]، بل كلُّ من يُعرِض عن اتباع الرسول فهو متبع لهواه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، وحين يكون بعض الناس بحاجة للدلائل العقلية المعقدة والمركَّبة والدقيقة فيجب أن يكون ذلك بحسب الحاجة لأن أكثر الناس في غنى عنها. 4 - مراعاة النفوس التي يُعرَف من حالها الصدق والبذل وحبُّ الخير للناس أو الضَّعَفَة من الناس؛ فمثل هؤلاء أقرب لأن تكون نفوسهم مهيَّأة لقبول الحق: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]؛ لأن سوء بعض الناس يكون سببًا لأن يحرمه اللَّه من الهداية فكما قال -تعالى-: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، حتى لو جاءتهم الدلائل العقلية الواضحة البينة فإنهم لا يستفيدون ولا ينتفعون، بل قد يزيدهم سماع الحق ضلالًا وفسادًا كما قال -تعالى-: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا

طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60]، وقال -سبحانه-: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41]، بل حتى لو أتاهم الدليل عيانًا بيانًا وتحقَّق لهم حسب ما يريدون فلن ينتفعوا به: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14 - 15].

السلفية. . . منهج، أم جماعة؟

السلفية. . . منهج، أم جماعة؟ تشهد الساحة الإعلامية هذه الأيام هجومًا عنيفًا ومتلاحقًا ضدَّ السلفية فى مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، في ظاهر ملفتة أثارت انتباه المتابعين عن بدء حلول موسم الهجوم على السلفية، وفي الحقيقة أن الهجوم على السفية متواصل أبدًا لا يتوقف صريره، يشتعل فى أوقات ويخفت لهبه فى أُخَر، فليس ثمَّ موسم للطعن في السلفية لأنه غذاء يومي لكثير من الخانقين والخائفين من الخيار الإسلامي. هل السلفية منهج، أم جماعة وحزب معيَّن؟ أكثر المشاركين في إشعال الحرائق ضد السلفية لا يميزون بين الأمرين؛ لأن لديهم خصومة عميقة مع المنهج الإسلامي عمومًا، ومن ثم فلا أثر لهذا التمييز لديهم لأن النقد متجه بشكل أساسي إلى المنهج الإسلامي. السلفية هى منهجٌ فى طريق السير على هدي الإسلام، فحين تتفاوت الأفهام في تفسير الإسلام ومعرفة احكامه وتحديد المنهجية الصحيحة فيه تأتي السلفية

معتمدة على منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ فهم خير هذه الأمة، وأزكاها دينًا، وأعلاها مقامًا، وأعمقها فهمًا، وأعلمها بما كان عليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمن اجتهد في سلوك طريقهم فهو سلفي أيًّا ما كانت الجماعة التي ينتمي إليها. يرتكز قِوام السلفية: على احترام هذا الجيل الإسلامي الفريد والاقتداء به، وتربية النفس والأجيال على تقديرهم وبيان فضلهم، ليس تنزيهًا لهم عن الخطأ بل استهداء بفهمهم وسيرٌ على خطاهم. تسير السلفية: على خطا هؤلاء الأسلاف في ما اجمعوا عليه، وعلى اتباع منهجيتهم في التلقي ومصادر الاستدلال وكيفيته وفي مسالك التعبد والأخلاق؛ فهم أَوْلى الناس بالحق فلن يخرج الحق عن قولهم إن أجمعوا، ولا عن أقوالهم إن اختلفوا. تعظِّم السلفية من شأن النص الشرعي -كتابًا وسنة صحيحة- وتجعله هو الأصل الذي تعتمده وتستهدي به، لا ترد أي نص صحيح لذوق أو هوى أو معقول أو مصلحة ولا تضع أمامه عراقيل القيود والشروط، بل تنقاد إليه وتسلم له حين يتبين أنه مراد اللَّه ومراد رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فالنص هادٍ ودليل تتبعه النفوس، وليس تابعًا ومنقادًا يسير خلف ما تريد النفوس والقراءات المختلفة منه. تؤمن السلفية: بشمولية الإسلام في العبادات والأخلاق والمعاملات وشوؤن الحياة كلها، شمولًا يضم الفرد والمجتمع، الحاكم والمحكوم والحكم، الدنيا والآخرة، المصالح العاجلة والأجلة، رؤية متكاملة لما يسعد المسلم في دينه ودنياه.

تشهر السلفية بوضوح تام ضرورة إخلاص العبادة للَّه -تعالى- وأولوية تطهير النفوس من الخرافات والمعتقدات الفاسدة والبدع المحدَثَة التي تخالف ما كان عليه الصحابة وتابعوهم. هذه هي الأصول العامة للسلفية، فهي منهج ورؤية مَنِ التزم بها ودعا إليها واجتهد في تحقيقها فهو سلفي أيًّا ما كان، وعلى أي جماعة سياسية سلك، ومن خالف أصولها خرج عن السلفية. إذن: ما معنى أن تكون السلفية منهجًا لا جماعة؟ 1 - أنه ليس ثَمَّ ناطق أو ممثل للسلفية يعبِّر عن رأيها ومنهجها؛ بحيث يكون من خالفه فهو مخالف للسلفية ومن وافقه فهو موافق للسلفية، لا يوجد شخص ولا جماعة ولا حزب كذلك؛ فهي منهجية استدلال تحاكم الأفراد والجماعات ولا تحاكَم هي إلى أحد؛ فليس ثَمَّ جماعة تمثل السلفية وإنما يوجد أفراد وجماعات ينتسبون إلى السلفية ويسعون لتحقيق منهج السلف. فلا يمكن اختزال السلفية في جماعة محددة ولا في قضايا معيَّنة، وهذا ما يفسر لك التباين الشديد بين الجماعات المنتسبة إلى السلفية في كثير من الوقائع؛ حتى إنك لتجد التعامل مع الأنظمة السياسية المعاصرة يختلف من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال في رؤية بعض الجماعات التي تنتسب إلى السلفية، فهذا التنافر التام والاختلاف الجذري يثبت أن السلفية ليست جماعة محددة؛ وإنما منهج ورؤية قد يحسن المسلم تطبيقها وقد يسيء فهمها فيقع في الخطأ والانحراف. 2 - أن مجرد الانتساب إلى السلفية لا يكفي لأن يكون الشخص سلفيًا، وكون الشخص لا يتسمى بالسلفية لا يخرجه ذلك عن السلفية؛ لأنها ليست

جماعة تقتصر على أفرادها المنتسبين إليها، ويكتفي الشخص بمجرد الانتساب إليها، بل هي منهج ورؤية تقوم على اقتناع بضرورة معرفة وتطبيق منهج الصحابة ومن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان. 3 - أن وقوع بعض المنتسبين إلى السلفية في بعضر الأخطاء لا يجوز أن ينسب إلى السلفية، وإنما تنسب الأقوال والأفعال الى قائلها أو إلى الجماعة التي تقررها، وحينئذٍ فالنقد الإعلامي الذي يوجَّه الى السلفية بشكل عام هو نقد مأزوم غير موضوعي؛ لأن الناقد يقصد شخصًا معينًا أو فئة محددة ويتكلم بخطاب عام، ثم يكرر في كل مرة اعتذاره بأنه لا يقصد الجميع وإنما يقصد البعض، وسبب الحلط نشأ لديه من عدم تمييزه من كون السلفية منهجًا لا جماعة. 4 - أن السلفية لا تعني الاتفاق على المسائل الففهية الخلافية أو المواقف السياسية المبنية على تقدير المصالح والمفاسد، فاتفاتهم على الأصل الكلي والمنهج العام لا يؤدي بالضرورة الى اتفاتهم في الفروع والتفاصيل، وقد كان السلف الصالح يختلفون كثيرًا في المسائل الفقهية وفي تقديرهم للمصالح والمفاسد، ولم يكن هذا سببًا للطعن في أحد منهم ما دام أنه مستمسك بالأصول والمنهج الكلي، بل هذا دليل على ثراء المنهج السلفي وتنوعه. 5 - أن الأخطاء التي يقع فيها الشخص لا تخرجه عن السلفية ما دام أنه ملتزم بها ومستمسك بأصولها ومجتهد في تطبيقها ومراعاتها في الواقع، اللهم إلا أن يخالف أصلًا كليًا من أصول السُّنة أو تكثر مخالفته وتطَّرد في عدد من القضايا الجزئية بما يصل حد الانحراف في الأصل الكلي (¬1)، مع أهمية التأكيد على أن هذا حكم على الوصف ¬

_ (¬1) انظر: الاعتصام للإمام الشاطبي: 3/ 140.

لا العين؛ إذ في الحكم على أعيان الأشخاص من الضوابط ما يقتضي شديد التورع والاحتياط فيه. 6 - وكون السلفية منهجًا لا جماعة يعني بداهة أن المنتسبين للسلفية هم قِطاع واسع جدًا من العالم العربي والإسلامي، بل هم الأصل في عموم المسلمين؛ فالأصل في المسلم أن يتبع الدليل ويسير خلفه بمنهجية فهم الصحابة، ومن شذ عنه فهو المخالف؛ فالسلفية هي القاعدة والأصل وليس الاستثناء؛ فمحاولة تقزيمها في جماعة محددة أو اختزالها في قضايا معينة هو جهل من بعض الناس أو أسلوب ماكر من بعض المنحرفين لمآرب لا تخفى. 7 - وكون السلفية منهجًا لا جماعة لا يعني أن كل الاجتهادات والتفسيرات مقبولة ومعتبَرة في المنهج السلفي؛ فالسلفية منهج له أصوله وثَمَّ مساحة واسعة للاجتهاد في محيطه، فسعة منهجه وثراء مقولاته لا تؤدي إلى النسبية المطلقة وغياب الحدود الفاصلة التي تكشف الاجتهادات المقبولة داخل المنهج السلفي والاجتهادات المخالفة له. 8 - أن النقد الموجه للسلفية يجب أن يفرِّق فيه بين النقد الموجه للمنهج السلفي والنقد الموجه للجماعات والأفراد المنتسبين للسلفية؛ فالثاني نقد مقبول ومعتبَر شريطة أن يكون عادلًا وأن يكون النقد لأفعال السلفيين لا إلى ذات السلفية، والسلفيون هم أَوُلى الناس بضرورة الوعي بأهمية الاستفادة من نصح الناس ونقدهم وتقويمهم حتى ولو بدر ممن يحمل مواقف عدائية أو بطريقة خاطئة فيستفاد من نقده ولن يضرهم قصده.

وهل سيتوقف الهجوم على السلفية حين تتميز (منهجًا) لا (جماعة)؟ بالتأكيد لا. فإن اعتماد المنهج السلفي على (النص الشرعي) محورًا مركزيًا للانطلاق، وارتباطه بـ (السلف الصالح) في فهم هذا النص وتفسيره، يجعله المنهج الصحيح لفهم الإسلام وتطبيقه، وهو ما يجعل النفوس تهفو وتنجذب إليه؛ فالنفوس المسلمة متعطشة إلى الرجوع إلى هويتها ودينها وقيمها بفهمه الصحيح، فأكثرية الناس تبحث عما يريده اللَّه وتسأل عن المنهج والمسلك الذي ينجيها في الآخرة، وليسوا مهمومين بمنهجية (التكيف مع الواقع) و (تبرئة الإسلام من الشبهات) ومحاولة إقناع المسلمين (بصلاحية دينهم لكل زمان ومكان)، فأكثرية المسلمين ليسوا بحاجة إليها كثيرًا، وما هي إلا زيادة بصيرة ونور، وهذا (الوضوح) و (العمق) هو ما يجعل (المنهج السلفي) مخيفًا ومرعبًا لكثير من المنحرفين والزائغين الذين لن تتوقف مراجل الحَنَق في قلوبهم عن الغليان. المنهج السلفي يربي في أتباعه خصائص الشموخ والعزة بالإسلام رسالة وحضارة، فشتان بين من (يقرأ النص ليعرف مراده ليسير على هديه) كما هي خاصية المنهج السلفي، وبين من يبحث عن (تحقيق مراده من خلال النص) كما هي خاصية كثير من المناهج العلمانية والتلفيقية. وشتان بين من (يبحث في النص وهو يعتقد أن ثَمَّ معنى شرعيًا محددًا يريده اللَّه) وبين من يرى (أن الحقائق نسبية وأنه لا وجود لمن يمتلك الحقيقة المطلقة) كما هي حالة التيه التي تعبث بكثير من أهل هذا العصر.

وشتان بين من يضع (منهجًا محددًا وأصولًا واضحة في التعامل مع النص) وبين (يتقلب بين المناهج والأفكار بحسب كل واقعة). وشتان بين من (يتخذ الصحابة والتابعين دليلًا بين يديه) وبين من (يسير خلف فلاسفة وضلال الشرق والغرب). إنه منهج يتسم بالوضوح والاطراد، والتناسق والتماسك، وهو ما يجعل أثره عميقًا في نفوس المستمسكين به، ودوره فاعلًا في التأثير على المخالفين، وهو أيضًا أقدر المناهج على الدفاع عن أحكام الاسلام لأنه لا يسلم للمخالف بباطل يتوصلون من خلاله للطعن في الإسلام. إن بعض المنحرفين يوجِّه سهامه إلى السلفية فينتقدها على أمور هي من صميم الإسلام، فهو ينتفد في الظاهر الجماعات السلفية لكنه في الحقيقة يطعن في ذات الإسلام، كمن ينتقدهم في أصل (الحجاب) أو (التوحيد) أو (الحكم الإسلامي) فهو في الحقيقة يطعن في الإسلام نفسه وإن زعم أنه يقصد الجماعات السلفية؛ فمن الخلل ونقص الحكمة أن يتعامل بعض الناس مع ظاهرة النقد هذه وكأنها موجَّهة إلى جماعة محددة، فمن المهم أن يستوعب الشخص الأسباب التي تدعو للنقد وحقيقة النقد حتى يدرك من خلالها، هل هو نقد لـ (جماعة) أم طعن في (منهج ورسالة)؟

بين الأصل والاستثناء

بين الأصل والاستثناء تأملوا معي -إخوتي وأخواتي- في النماذج التالية، وهي نماذج شائعة في أوساطنا الثقافية: 1 - إذا دخلت الزوجة في الإسلام، وما يزال زوجها باقٍ على كفره، فلا يجب عليها مفارقته لأن المحرَّم هو ابتداء النكاح مع الكافر وليس استمراره، والقول بخلافه سيؤدي إلى ترك المرأة للإسلام. 2 - حرية الرأي مكفولة في النظام السياسي فمن حق أي أحد أن يعبِّر عن أي رأي، مهما كان ما دام أنه لم يعتدِ فيه على أحد لأننا لا نستطيع أن نمنع الآراء، ولو أردنا المنع فالخاسر هم الإسلاميون. 3 - الحجاب ليس واجبًا على المرأة لأنَّه يسبب لها عددًا من المضايقات والاعتداءات المختلفة. ستلاحظون معي وجود فجوة منهجية ظاهرة في سياقات هذه النماذج.

هي أن الشخص يخلط بين الحكم الشرعي في حال (الاختيار والسعة والقدرة) والحكم الشرعي في حال (الضرورة والحرج أو عدم الاستطاعة) فيتحدث عن الحكم الشرعي في حال الاختيار، ويستدل لذلك بأحوال الضرورة، فيتعامل معها على أنها درجة واحدة، بينما هما في الحقيقة درجتان متباينتان {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. إنها ظاهرة الخلط بين (الأصل) و (الاستثناء)، تتشابك معها القضايا في ذهن المتحدث فيُدخِل في أحكام الشريعة أمورًا ويبرهن عليها ويكون دليله على ذلك النظر في حالات الضرورة. والمنهجية الصحيحة أن يقرر أولًا الحكم الشرعي الأصلي الذي يريده اللَّه ويريده النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم يتحدث بعدها عما يطرأ في الواقع من حالات ضرورة أو حاجة معيَّنة تعطي نوعًا من الاستثناء للحكم، لا أن تتداخل فلا يعلم القارئ هل هو أمام حكم (استثنائي خاص) أم حكم (شرعي دائم)؟ فحين يتكلم الشخص أو يؤلف عن (الحريات في الدولة الإسلامية) فيجب عليه أولًا أن يوضح حدود الحريات في الشريعة بحسب دلائل الشريعة وأحكامها، ثم يقرر كيفية تطبيق ذلك في الواقع لا أن يكون الواقع هو الذي يفرض عليه الحكم، ويكون دوره بعدها هو في تتبع الشواهد والنصوص المساندة. هل معنى هذا أن لا يكون للواقع أي تأثير على الحكم؟ لا. . . قطعًا، فحين يجد الباحث أن هذا القول لا يمكن تطبيقه في الواقع فيجب الاجتهاد وبذل الوسع في اختيار الموقف المناسب، فيكون ثَمَّ درجتان في

النظر، نظر في الحكم الشرعي ابتداءً، ونظر في حالات استثنائية طارئة للحكم. إن حال من يخلط بينهما كحال من يُسأل عن حكم السجود للأصنام؟ فيقول: جائز؛ لأن عدم سجودك سيؤدي بك إلى الهلاك! أو يقول عن شرب الخمر: إنه مباح؛ لأن من لم يتداوَ به فسيموت! أو يكتب: إن سرقة الماء جائزة لئلا تموت عطشًا! فعلى منوال هذه الأمثلة الظريفة تتضح إشكالية دمج الأصل والاستثناء في حالة واحدة. وأكثر ما تكون هذه الظاهرة حضورًا في موضوعات (النظام السياسي)؛ حيث يقف بصرك متحيرًا أمام بعض التقريرات الفقهية، فلا تدري هل الحكم فيها متعلق ببيان الحكم الشرعي ابتداءً أم هو حالة ضرورة؟ لأن الباحث يبدأ فيها بذكر الحكم، ثم يسوق الدلائل والبراهين المتعلقة بالضرورات! ومن الأمثلة الواضحة هنا: أن من ينظر في فلسفة الحريات في الإسلام فسيجد أن حرية نشر الكفر والضلال لا يمكن أن تكون مكفولة في النظام السياسي، وهو قول خارج عن التفكير الفقهي بتاتًا؛ بل قد قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: (وإظهار الطعن في الدين لا يجوز للإِمام أن يعاهدهم مع وجوده منهم، أعني مع كونهم ممكنين من فعله إذا أرادوا. وهذا مما أجمع المسلمون عليه، ولهذا بعضهم يعاقِبون على فعله بالتعزير. وأكثرهم يعاقِبون عليه بالقتل، وهو مما لا يشك فيه مسلم، ومن شك فيه فقد خلع رِبقة الإِيلام من عنقه) (¬1). فالقول بترك أهل الذمة يطعنون في الدين يعتبر ردَّة عن الإسلام في نظر شيخ الإسلام ابن تيمية، وما علم -رحمه اللَّه- أن هذا القول سيصبح في ¬

_ (¬1) الصارم المسلول، ص 220.

زماننا رأيًا فقهيًا يُستَدَل له بنصوص الكتاب والسنة، والحجة الثابتة هي عدم الاستطاعة (¬1). ما المشكلة في هذا؟ هب أنهم خلطوا بين (الأصل) و (الضرورة) في بيان الأحكام الشرعية فكان ماذا؟ في هذا إشكالات عدة: الأول: تحريف المفاهيم الشرعية؛ فالضرورة حالة استثنائية في واقعة معينة وليست هي الحكم الشرعي ابتداء، وحين يخلط الشخص بينهما فإنه يمارس تحريفًا للشريعة فيقرر من الشريعة ما ليس منها، ويتقوَّل على اللَّه بلا علم ويُخشَى عليه من الدخول في قوله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]. الثاني: تغيير مسار الإصلاح، فبدلًا من قيام المصلح الإسلامي بمهمة تحريك الناس ودفعهم نحو سيادة الشريعة التي يصلح بها شأن دينهم ودنياهم، ينقلب الحال ليكون الدور قائمًا على محاولة تخريج الشريعة وإدراجها ضمن الواقع المتاح، فيكون الحاكم في قضايانا هو (الممكن والمتاح) وليس (مرجعية الشريعة). فحين تسود مفاهيم (الضرورة) و (الاستثناء) حتى تكون لدى الناس هي ¬

_ (¬1) ذهب جمع من المعاصرين إلى أن الحرية في النظام السياسي الإسلامي تتسع لكافة الآراء مهما كانت مصادمة للشريعة أو قادحة فيها، انظر -على سبيل المثال-: الحريات العامة في الدولة الإسلامية للدكتور راشد الغنوشي: 1/ 78.

المفاهيم الشرعية الثابتة ويبحث لها عما يجعلها هي الأصل؛ فإن هذه عملية انقلاب كاملة للمنهج الإسلامي. الثالث: مخالفة فقه الضرورات، القائم على التأكد أولًا من وجود الضرورة والاستثناء، وبعدها يكون حا لها على منهجية (الضرورات تقدَّر بقدرها)، فتكون خاصة في المكان أو الزمان المعينين، ومن ثَمَّ فلن تعمم على جميع المجتمعات، ولن تبقى دائمًا، بل لا بد من إصلاح الوضع لإزالة هذا الحكم الاستثنائي. الرابع: إضافة مفاهيم ومعان جديدة إلى الشريعة؛ لأن الشخص يعامل الضرورات كالأحكام الثابتة فيدرج مفاهيم الضرورة لتكون جزءًا من أحكام الشريعة ومقاصدها، فيُدخِل في نسيج الفقه الإسلامي أحكامًا لم تكن معروفة من قبل؛ لأنها روعيت في حالة الضرورة حتى أصبحت أصلًا، ومن آثار هذا أن أصبح بعض المفكرين الإسلاميين حين يفسر بعض الآيات القرآنية يعرض معناها على قولين، قول كافة المتقدمين في مقابل قول بعض المعاصرين! فأصبح ثمَّ تغيُّر وتحوُّل في المفاهيم الشرعية، حتى أصبحت الشريعة مفرَّغة من أي إلزام أو منع أو إكراه لا ترضى عنه الحريات المعاصرة، ولو رجعت بالقراءة قليلًا (قرنًا أو قرنين) فإنك ستلحظ أن مثل هذه التفسيرات معدومة تمامًا في أي مواقع فقهية سابقة؛ لأنها باختصار مفاهيم دخلت من بوابة الضرورة فصارت جزءًا من نسيج الفقه الإسلامي. هل هذا يعني أن يتمسك الشخص بالأصل دائمًا ولا يلتفت للمتغيرات المعاصرة؟ كلا، فالمتغيرات الهائلة والنوازل المتلاحقة تتطلب اجتهادًا وبحثًا ودراسة

متتابعة، تراعي الأحوال وتضع لكل حالة حكمها المناسب، وإذا كان من يخلط بين الأصل والاستثناء مخطئًا لكونه سحب أحكام الضرورة حتى صارت هي الأصل، فإن من يترك واجب الاجتهاد في الوقائع المتجددة مخطئ أيضًا لأنه لم يحكم في القضية بحكمها الشرعي الصحيح. إن الأحكام الشرعية أمانة في عنق كل من ينطق بها، والهم الأول الذي يجب أن يكون نصب عينيه هو في الوصول إلى الأحكام الشرعية التي يريدها اللَّه، وأن يجتهد غاية الاجتهاد في تحديد حكم الشريعة ليعرف كيف يجيب اللَّه عنها يوم يلقاه، وكل صعوبات الواقع وإحباطاته وإحراجات المخالفين وضغوط القوى المختلفة وكافة هذه الإشكالات لا يجوز أن تكون سببًا للتهاون أو التخفف من المعايير العلمية والمنهجية لتحرير الأحكام الشرعية؛ فالواجب بيان الحكم الشرعي تحديدًا، وأما مجريات الواقع وتوقعاته فهي بيد اللَّه يقلِّبها كيف يشاء.

بين صورتين

بين صورتين صورتان مختلفتان تكشفان عن حالة تثير الدهشة: الصورة الأولى: يظهر فيها (سعيد بن المسيب والشعبي وسفيان والأوزاعي وأحمد ومالك والشافعي وأبو حنيفة وبقية أئمة الإسلام الكبار)، يخافون من الشبهات ويحذِّرون منها ويخشون من آثارها في مشهد عريض أثمر تراثًا ضخمًا من الأقوال والمواقف، تتفاوت في ما بينها لكنها تتفق على أصل (التحذير من الشبهات والابتعاد عنها). الصورة الثانية: يتحرك فيها كثير من المعاصرين، يتواصون فيها على البحث والاستغراق في الكتب والبرامج والحوارات المتخصصة في إثارة الشبهات وتحريك المسلَّمات، يشعرون بقدر من الارتياح على حالة التميُّز والانفتاح على الثقافات والرؤى المختلفة، لا يحفظ كثير منهم القرآن ولم يطلع جيدًا على نصوص السنَّة، وثقافتهم -في الجملة- محدودة في علوم الشريعة، ولعل ما لديهم في عدد من الأبواب الشرعية قد غرف من الأوعية المتخصصة في جمع الشبهات.

فيا لها من مفارقة: (الإمام المتبحر في أصول الشريعة وفروعها) يخاف من الشبهات ويحذر منها و (الشاب محدود الإطلاع على علوم الشريعة) يقدم على الشبهات ويغرف منها ولا يفهم سبب التخوُّف من مثلها خاصة مع قدرته على التمييز واختيار الأصلح. لا أظن أننا بحاجة للمفاضلة بين الصورتين؛ إنما الذي نريد أن نتمعَّن فيه ونكثر التأمل وإدارة الفكر حوله، هو: لماذا كان السلف يتحاشون من الشبهات؟ ما سر هذا الحذر والخشية والفرار من الشبهات وأهلها ومواردها؟ إن أدنى قراءة لأي كتاب موسوعي يجمع آثار السلف يكشف لنا عن جملة من الأسباب التي كانت وراء هذا الموقف الشرعي من أولئك الأئمة، وهو يدل على أن خوفهم هذا كان قائمًا على وعي وفقه وعمق، فهو ترك واعٍ وليس مجرد تركٍ محض. إن أول سبب يجب أن ننفيه هنا أن تكون خشية السلف من الشبهات بسبب (ضعفهم عن مواجهتها) أو (عدم قدرتهم على تفكيك إشكالياتها) أو (كونها جديدة عليهم وعلى معارفهم فلم يتمكنوا منها) أو أنه (راجع لطبيعة عصرهم وما توفَّر لديهم من معطيات محدودة)، فكلُّ هذا هواء وتخويف لا يستقرُ في عقل مَن سَبَر حال القوم أو اطلع على آثارهم، فإن الأئمة لما رأوا المصلحة في دخول معترك الشبهات ظهرت عبقرياتهم وقدراتهم البارعة في فهم الشبهة وتفكيكها وقلب طاولة الحجج على أصحابها، وانظر إن شئت لانتفاض الإمام الدارمي على الجهمية في (نقض عثمان بن سعيد) و (الرد على الجهمية) أو في الدلائل المهيبة في رد الأمام أحمد على الجهمية والزنادقة أو طالع محمد بن نصر المروزي

في تعظيم قدر الصلاة أو غيرها كثير. إذن، لماذا كانوا يخافون من الشبهات ويحذرون منها ويشددون الموقف من أصحابها؟ أولًا: لتعظيمهم لكلام اللَّه وكلام رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكانوا ينفرون وتشمئز نفوسهم من أي كلام أو رأي يتقدَّم بين يدي اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فكأنهم يسمعون اللَّه -جل جلاله- يقول لهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، فهذا إمام دار الهجرة يحدِّث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيعترض شخص فيقول: أرأيت لو كان كذا؟ فيقرأ عليه الإمام قوله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ثم قال: (أفكلما جاء رجل أجدل من الآخر رُدَّ ما أنزل جبريل على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؟) (¬1). وحين يستمتع بعض الناس لسماع بعض الشبهات أو تتبع مجالس أصحابها فإنَّ الفضيل بن عياض لا يراها إلا خوضًا في آيات اللَّه فيقول: (لا تجادلوا أهل الخصومات فإِنهم يخوضون في آيات اللَّه) (¬2). ولعله كان يستشعر فَرَقًا قول اللَّه -تعالى-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]. ثانيًا: لرسوخ يقينهم وقطعهم بأنهم على الحق والصراط المستقيم باتباعهم لمنهج الكتاب والسنة الذي أخذوه عن علمائهم عن صحابة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فالطريق واضح أمامهم، فلن يضل الصحابة وجمهور التابعين والأسلاف من بعدهم في قضايا الإيمان والاعتقاد ثم يعثر عليه مغمور قد جاء بعدهم بقرون. فهذا الإمام الحسن البصري يأتيه رجل فقال: أربد أن أخاصمك، فقال: ¬

_ (¬1) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي: 1/ 168. (¬2) المصدر السابق: 1/ 146.

(إليك عني فإني قد عزمت ديني وإنما يخاصمك الشاك في دينه) (¬1). إنه تفسير عميق لحقيقة كثير من المبتلين بالشبهات؛ فضعف يقينهم بأصولهم وثوابتهم هو الذي دفعهم للبحث يمنة ويسرة عن الأجوبة التي تمسك اليقين في قلوبهم، فكانوا مندفعين للاطلاع على الأفكار والرؤى الأخرى لعل الانسان يجد فيها ما هو خير مما لديه، ويبقى الانسان بهذا في حال شكٍّ دائم وحَيرة مستمرَّة؛ فكلُّ شيء قابل لأن يوجد ما هو خير منه، وهذا ما يجعل ثَمّ ترابطًا وثيقًا بين (تتبُّع الخصومات) وبين (التحول والانقلاب) وهو ما نبَّه عليه السلف قديمًا، قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التحول (¬2). وقال عمرو بن قيس: قلت للحكم بن عتبية: ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال: الخصومات (¬3). ثالثًا: لأنهم كانوا مدركين لحقيقة الشبهات، فهي ليست مجرد معلومات يطلع عليها الانسان ثم يقبلها إن شاء ويتركها إن شاء، بل قد تَعْلَق بقلب الانسان وهو كاره لها فتؤدي إلى هلاكه؛ فعن مجاهد قيل لابن عمر: إن نجدة يقول كذا وكذا فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء (¬4). ودخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء فقالا يا أبا بكر نحدثك بحديث؛ فقال لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب اللَّه؟ قال: تقومان عني أو قمت؟ ¬

_ (¬1) المصدر السابق: 1/ 144. (¬2) المصدر السابق: 1/ 144. (¬3) المصدر السابق: 1/ 145. (¬4) المصدر السابق: 1/ 138.

فخرجا فقال بعضهم: ما كان عليك أن يقرأ آية؟ فقال: إني كرهت أن يقرأ آية فيحرفانها فيقع ذلك في قلبي (¬1). وقال عبد الرزاق: إن القلب ضعيف وإن الدين ليس لمن غلب (¬2). وأدخل ابن طاووس أصبعيه في أذنيه لما سمع أحدهم، وقال لابنه: ادخل أصبعيك في أذنيك واشدد لا تسمع من كلامه شيئًا قال معمر: يعني إن القلب ضعيف (¬3). فموضوع الشبهات ليس معادلة رياضية قائمة على القدرة على نقضها أو الانهزام أمامها، بل لها تعلق وثيق بما في قلب المسلم من خضوع وتعظيم وانقياد للشرع؛ لأجل ذلك جاء الامتنان بالهداية كثيرًا في القرآن: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21]. واستشعار هذا المعنى يجعل المسلم يلتجئ إلى اللَّه أن يعصمه ويحفظه ويثبت قلبه، ولا يتعامل مع الشبهات على اعتبارها معلومات يستطيع الإجابة عنها، وانظر إلى جانب مشرق في هذا الفقه عند محمد بن النضر الحارثي حين يقول: (من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنه صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووُكل إلى نفسه) (¬4). ومن فقههم هنا: أن الشبهة إذا دخلت القلب فإن المبتلى بها لا يرجع عنها، ¬

_ (¬1) المصدر السابق: 1/ 151. (¬2) المصدر السابق: 1/ 152. (¬3) المصدر السابق: 1/ 152. (¬4) المصدر السابق: 1/ 153.

لأنه يراها هي الحق والصراط المستقيم، فيستمر فيها، ولأجل هذا قال سفيان: البدعة لا يتاب منها (¬1). وكيف يتوب منها وهو لا يقبل فيها نصحًا ولا وعظًا ولا إنكارًا، بل يستنكر ويستغرب ممن ينكر عليه. رابعًا: لأنهم كانوا ينصحون ويريدون الخير لهذه الأمة ويكرهون لها كلَّ ما يضرُّها في دينها ودنياها، ويعلمون أن أكثر الناس لا يستطيعون التمييز بين الشبهات فمن الأمانة والمسؤولية عليهم لأنهم حملة هذه الشريعة أن يحذروا وينصحوا قال قتادة: إن الرجل إذا ابتدع بدعة ينبغي لها أن تذكر حتى تحذر (¬2). خاصة أن أصحاب الاهواء يستدلون كثيرًا بالقرآن و (القرآن مهيب جدًا، فإِن جادل به منافق على باطل أحاله حقًا، وصار مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل) (¬3) فكان من نصحهم أن حذروا من جدال المنافق بالقرآن كما ورد عن عددٍ من صحابة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. خامسًا: لأنهم كانوا أهل جِدٍّ في الحياة، يبحثون عن العمل والطاعة والعبادة وما فيه نفع في الدين والدنيا، وأما الكلام في ما لا ثمرة له فكان مذمومًا ممقوتًا، قال جعفر بن محمد: إياكم والخصومات في الدين فإِنها تشغل القلب وتورث النفاق (¬4). ¬

_ (¬1) المصدر السابق: 1/ 149. (¬2) المصدر السابق: 1/ 154. (¬3) الموافقات للشاطبي: 2/ 283. (¬4) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي: 1/ 145.

وقال مالك: الكلام في الدين أكرهه كله ولا أحب الكلام إلا ما تحته عمل (¬1). هذا تلمُّس لمحاولة استخراج بعض ما في هذا الموقف من فقه وحكمة، وإن كنتُ أعترف أنني ما زلت بعيدًا عن الغوص في أغوار هذا الفقه العميق. طبعًا، لا يمكن أن ينتهي هذا الكلام إلا ويأتيه الاعتراض المشهور: (هذه دعوة إلى الانغلاق، فيحرم الإنسان نفسه من الانفتاح على المعارف والاستفادة من الثورة المعلوماتية الهائلة، كما أن صورة الانغلاق غير ممكنة في مثل هذا العصر). كلا، فبإمكان المسلم أن ينفتح ويستفيد من المجالات المتعددة في الاقتصاد والسياسة والإدارة والتربية والثقافة والإبداع والقانون والتاريخ والأدب وكافة العلوم التجريبية. . . إلخ، ولا حاجة لأن ينفتح فيفتح قلبه لتيار الشبهات ليفسده ويظلمه، كما أن حالة الانفتاح لا تؤدي ضرورة إلى كسر خاصية الشموخ والاعتزاز بالأصول والثوابت لدى الشاب المسلم. ¬

_ (¬1) المصدر السابق: 1/ 168.

أسلمة العلمانية

أسلمة العلمانية ساعدني -أيها القارئ الكريم- لتخطِّي التفاصيل الكثيرة التي تثيرها مفردة (الأسلمة) , وامتع بصرك معي بالمعني الجميل الذي يبهر الناظرين في جمالية هذه الأسلمة, ما أروع انجذاب النفوس الي دينها وحرصها الشديد علي انسجام حياتها مع ما يريده اللَّه منها, حضوره العميق يجعل اي سلوك او منتج مخالف للدين سببًا لإثارة الوخز والتأنيب الذي يشتعل في الضمائر فلا يتوقف الا بإصلاح هذا السلوك, وهو ما أحيا أي مشاريع تسعي للأسلمة مهما كان اختلافنا في تقويمها. لم تقف ظاهرة الأسلمة علي البحث في مشروعية بعض المنتجات والمتغيرات المعاصرة, بل شملت حتي الأفكار والاتجاهات المنحرفة, فالصوت الفكري الذي كان يقدم نفسة ندًّا للخطاب الإسلامي ويسلك في مسار معاكس للرؤية الدينية رجع صداه ليبحث في التراث والنصوص والأقوال الإسلامية عما يسند اتجاهاته لتكون مقبولة لدي الناس, فشملتهم ظاهرة الأسلمة في من شملت, فلله درُّ المسلمين أي عظمة للإسلام تسكن في أهداب نفوسهم.

المثير للانتباه: أن ظاهرة الأسلمة شملت حتى الفكرة العَلمانية ذاتها؛ فالفكر العلماني الذي نشأ منابذًا للخيار الإسلامي -تحديدًا- ما دار عليه الزمان حتى صار العلمانيون يقدِّمون أنفسهم مجتهدين في فهم النص الشرعي ومستمسكين بتفسير من تفسيراته ومعتمدين على أقوال المذاهب وفتاوى العلماء. ومعتضدين بمقاصد الشاطبي ومصلحة الطوفي والتصرفات عند القرافي وظاهرية ابن حزم واجتهادات عمر بن الخطاب. . .! يعني هذا: أن جمال هذه الأسلمة يجب أن لا يخدع العين عن إبصار أشكال التحريف التي تأتي على الأحكام الشرعية في ثناياها، بغضِّ النظر عن الدوافع النبيلة التي قد تحركها. أسلمة العلمانية تأتي على مستويين: مستوى العلمانية المتطرفة: التي تحتفظ بموقف عدائي تجاه الدين وتشمئزُّ من كافة مظاهر للتدين، فهذه علمانية مكشوفة وغير جذابة، ومحاولة أسلمتها بجعلها غير معادية للإسلام عملية استهلاك رخيصة لا تتجاوز في تأثيرها حدود مساحة التصوير التي تتحرك فيها. مستوى العلمانية الأقل تطرُّفًا: وهي التي تتفهَّم وجود الدين، وتؤمن بضرورة مراعاته مكونًا للمجتمع في ما دون مستوى القانون والإلزام، فهو موجود كخيار شخصي وقيم محفزة نحو العمل والتنمية لكنه مقصى تمامًا عن التأثير على القوانين أو الحريات أو تقديم أي تفسير لها. هذه الدرجة العَلمانية هي المفهوم الخطر الذي تسرَّبت مفاهيمه لدى بعض

الناس من دون أن يشعر، حتى جاءت بعض المحاولات والتفسيرات التي تسعى لأن توفِّق بين هذا المفهوم والمفهوم السياسي الإسلامي، فاندفعت عدد من التفسيرات المختلفة التي تسعى لتقديم النظام السياسي الإسلامي بكيفية متلائمة مع هذا التصوُّر العلماني، ومن هذه التصوُّرات المؤسلمة للعلمانية: التصور الأول: أن النظام السياسي في الإسلام جاء بمبادئ وكليات عامة ولم يأت بأحكام وتشريعات محددة؛ فالواجب هو تطبيق المبادئ العامة من العدل والحرية والشورى والمساواة وأما كيفية ذلك فهذا مما يُختَلَف في تقديره كلَّ عصر. وهذا تصوُّر لذيذ جدًا للفكرة العلمانية لأن مشكلتهم مع بعض الأحكام والتفصيلات الشرعية، وأما المبادئ والكليات فمن خاصيتها أنها واسعة ومرنة يمكن الدخول والخروج منها بكل اطمئنان، وحين نقول: إن الإسلام جاء بمبادئ ولم يأت بتشريعات فنهاية هذا الكلام أن الإسلام لم يأت في النظام السياسي بشيء يذكر؛ لأن هذه الكليات موجودة عند كل الأمم والحضارات، لا يوجد أحد في الدنيا لا يأخذ بهذه المبادئ، غير أن لكل ثقافة تفاصيلها ومحدداتها لهذه المفاهيم، وحين نلغي الأحكام الشرعية المفصَّلة لهذه المبادئ فإننا في الحقيقة قد ألغينا الحكم الإسلامي؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا من غير اتباع لما أنزل اللَّه فهو كافر) (¬1)؛ لأنه في الحقيقة لم يأخذ من الإسلام بشيء فالكليات معنى ذهني تجريدي لا يقوم بدون تفصيلات وتفريعات. يقولون نأخذ بـ (الكليات دون الجزئيات) وبـ (الأصول دون الفروع) أو بـ (المبادئ ¬

_ (¬1) منهاج السنة: 5/ 130.

دون التشريعات) وبـ (المقاصد دون الوسائل). . . كلَّها صيغ مختلفة لإشكالية واحدة، إشكالية إبعاد بعض الأحكام الشرعية عن التأثير، وحين تبتعد الفروع والجزئيات فإن الكليات والمقاصد التي يؤتى بها تكون مقاصد وكليات أخرى ليس هي الكليات والمقاصد الشرعية؛ فالمقصد الشرعي والكلِّي الشرعي معتمد ومفسَّر بجزئياته وفروعه الشرعية (¬1). لا تقل: هذا حكم جزئي أو ظنِّي أو مختلف فيه، فأبدًا -واللَّه- لا يمكن أن يهون في قلب مسلم إبعاد أو تحريف أي حكم شرعي لأي سبب كان وهو يقرأ قوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. التصور الثانى: أن النظام السياسي في عصر الإسلام كان يقوم على رابطة دينية مرتبطة بظرف ذلك الزمان، وقد تغير هذا الوضع في عصرنا فأصبحت الرابطة التي تجمع أفراد الناس هي الرابطة الوطنية لا الدينية، وحينئذٍ فكافة الأحكام الشرعية المتعلقة بالجانب السياسي هي أحكام تاريخية، ومعها سيتم التخلُّص من إشكالية حضور الدين في النظام السياسي. وحين نمسك خيوط لوازم هذا القول فلن نصل إلى نهايتها إلا بعد أن نكون قد نكثنا الغزل عن رسالة الإسلام بالكليَّة؛ لأن بإمكان أي أحد أن يلغي أي حكم شرعي أراد بسبب أن هذا الحكم كان مرتبطًا بظرف زمني قد انتهى، بل حتى الصلاة والزكاة والصيام والحج يمكن أن يقال: إنها عبادات نشأت في ظرف زمني كان ¬

_ (¬1) ينظر في موقع الجزئيات والفروع من المقاصد: الموافقات للشاطبي: 2/ 372 - 374.

الناس فيه بحاجة إلى التعبد بطريقة معينة (¬1)، فحقيقة هذا القول أنه جعل جزءًا من النص الشرعي في الموضوعات السياسية نصًا تاريخيًا مختصًا بالبيئة والزمان الذي نزل فيه، وهو خلل يحدث هزة في أصل منهجية التعامل مع النص الشرعي. هذا التفسير يتصوَّر أن الدين كان هو رابطة المسلمين في ذلك الزمن مصادفة وتوافقًا مع الظرف التاريخي ليس إلا، فهو في الحقيقة -وإن لم يُرِد- ينطق بالمفهوم العلماني في جعل الدين علاقة فردية لا تتصل بالسلطة، فحين ارتبطت فإنما كان لظرف زمني معيَّن. لازم هذا الكلام: أن أحكام الشريعة المتعلقة بالكفار والجهاد والحريات ونحو هذه المعاني الدينية المحضة كانت استثناء فرضتها ظروف ذلك الزمان، فهذا يستبطن انتقاصًا لها حيث لم يكن التزام المسلمين لها في زمن مضى راجع لكمالها وشرفها وإنما لحال زمانهم فقط، وهي تنظر للإسلام بالعين العلمانية التي لا تفقه من مصالحها إلا ما كان متعلقًا بمعيشتها الدنيوية {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] وتنسى في غمرة انبهارها بالنموذج السياسي المادي أن المصالح الدينية هي الأصل والغاية في رسالة الإسلام تحقيقًا لغاية اللَّه في الخلق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فمصلحة الدين هي الأصل في الرسالة وليست استثناء عارضًا جاء لظروف الزمان. التصور الثالث: أن الإسلام ليس فيه إلزام وإكراه وإجبار؛ وإنما هو اختيار ورغبة، فهو دين دعوة لا قضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس إلا نصح وتذكير وليس فيه منع أو إلزام، وتسير معهم في هذا المضمار حتى تصل ¬

_ (¬1) وقد قيل!

وإياهم إلى أنه لا وجود لإلزام أو منع منطلق من رؤية دينية، فيتم تخفيض الحكم الإسلامي من خاصية القانون والنظام إلى مستوى النصح والتذكير والدعوة، وهو مستوى يروق جدًا للنخب العلمانية لكنه منابذ لشريعة من يقول "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده. . . " (¬1) فجعل أول درجات التعامل مع المنكرات هو التغيير بالقوة، وليس ثَم إشكال في تقييد استعمال القوة لتكون بيد السلطة أو يكون ثَم ضوابط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن هذا كلُّه إن أدى إلى إزالة خاصية المنع والإلزام في النظام السياسي فهو في الحقيقة قماش أسلمة يستر المحفور من العلمانية. التصور الرابع: لا يشك بوجود أحكام متعلقة بالنظام السياسي غير أن كونها محرمة أو واجبة لا يجعلها قيد التنفيذ إلا بعد أن يقرَّها الناس ويختاروها. أما قبل اختيار الناس فلا يتم فرض أي حكم مهما كان؛ ليس لأنه غير شرعي، بل لأن الفرض السياسي يحتاج هو إلى مشروعية أخرى وهي -تحديدًا- لا تكون مستمدة إلا من الناس. هذا التصور يقوم على اعتبار أن ثَمَّ مشروعيتين: مشروعية دينية يكون النص هو الذي يفسرها، ومشروعية سياسية تأتي وتُستَمَد من الناس، وهذه فلسفة منبثقة من الوعي العلماني الذي يعزل الدين عن الحكم السياسي فيجعل مشروعيته منفكة عن المشروعية السياسية، وأما في التصور الإسلامي فليس ثَمَّ مشروعيتان؛ إنما هما مشروعية واحدة، فما حرَّمه اللَّه فهو حرام على الفرد والمجتمع، وما أوجبه اللَّه فهو واجب على الفرد والمجتمع، فدور الناس هو تنفيذ الأحكام الشرعية لا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1/ 69 برقم 49.

في تشريعها ابتداء، فالمحرمات الشرعية يجب منعها والواجبات الشرعية يجب القيام بها، والمسلم حين يدخل في الإسلام فإنه ضرورةً يكون ملتزمًا بأن الإسلام هو الذي يحكمه فلا حاجة لأن يسأل أو يبحث معه عن رغبته في حكم الإسلام. هذا التفسير يثير شهية العلمانيين كثيرًا: لأنه أولًا: ينطلق من ذات الوعي العلماني الذي يقزم الحكم الشرعي عن المستوى السياسي. وثانيًا: لأن الذكاء العلماني مستوعب أن الناس لا يختارون في الفضاء المجرد؛ وإنما يوضع لهم الإطار المقيَّد الذي يصوتون فيه ولا يخرجون عنه؛ فحين يقوم الإسلاميون بإبعاد الشريعة عن الإلزام إلا بعد اختيار الناس فالذي حصل هو أن الشريعة لم تعد هي التي تضع الإطار، ليكون من السهل جدًا بعدها أن تأتي المنظومة الفكرية الأخرى التي تملأ هذا الإطار الذي يصوت الناس فيه، فيكون إطار التصويت بيد المنظومة الفكرية الليبرالية، وحينها فلن يُعرَض الحكم الشرعي -أساسًا- على الناس لينظر في اختيارهم؛ لأن الحكم الشرعي سيكون حينها منافيًا للحريات والحقوق التي تحكمها المنظومة العلمانية التي وضعت الإطار الذي يحكم اختيار الناس. هذه بعض التفسيرات المؤسلمة للفكرة العلمانية، تتفق جميعًا على محاولة التلفيق بين النظام السياسي الإسلامي والفلسفة العلمانية، لكنها تصطدم بالأحكام الشرعية الملزمة في النظام السياسي الإسلامي، الأحكام الصادرة عن تصور ديني ما عاد محبذًا في الثقافة العلمانية المعاصرة؛ فبدلًا من التسليم لهذه الأحكام والانقياد لها وأن يقول المسلم ما أمره اللَّه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا

دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، تحوَّلت هذه الأحكام لإشكالية لا بد من إعادة قراءتها وفحصها للخروج منها بالهندام اللائق، وعظمة اللَّه في قلب المؤمن تُرعِد فرائصه وترهب أركان قلبه من التسامح مع أي تحريف لأي حكم شرعي، والغيورون على دين اللَّه من الدعاة والعاملين لنصرة الإسلام هم أَوْلى الناس بتعظيم أحكام الإسلام وتقديرها حق قدرها، وحين يضيق الواقع ويتعسَّر الحال في تطبيق أي حكم شرعي فلهم في أحكام الضرورة والحاجة مندوحة عن تحريف أي حكم شرعي؛ فالمتغيرات لها اجتهادها الخاصُّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، من دون أن ترجع على المفاهيم والمعاني الشرعية بالتغيير والتحريف.

المعيار المنكسر

المعيار المنكسر حين يقول أحدهم: (الكتاب والسنة هما معيار وميزان الحقائق) , فإن من الرائع حقًا أن يكون ثَم اتفاق قطعي علي هذه القاعدة؛ فهو كلام بدهي ضروري لا ينازع فيه أحد ذو بال؛ فكتاب اللَّه وسنة حبيبنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- هما المعيار الذي توزن به الأمور وتقاس به المفاهيم, فنقبل الصحيح ونردُّ الباطل ونقيِّد المطلق ونفصل المجمل ونميِّز المشتبه, فلدينا معيار صحيح واضح نتمكن من خلاله من تمييز الأمور وفحصها: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. لكن هذه القاعدة تبقي أحيانًا بديهة في الجانب النظري ويضعف أثرها في الميزان العملي؛ إذ إن هذا المعيار والميزان الشرعي ينكسر أحيانًا فلا يكون معيارًا, بل يبقي نورًا محجوبًا زاحمته معايير أُخرَي وشاركته في أحقية الوزن والقياس.

من الذى كسر هذا المعيار؟ التسليم للَّه ولرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ليس شأنًا معرفيًا محضًا يحسبه الشخص بدقة كما يحسب المسائل الرياضية، بل هو إيمان وطاعة وانقياد وخضوع لأمر اللَّه، فكلما ازداد إيمان المرء وعظم الشرع في قلبه كان أكثر التزامًا وتطبيقًا لهذه القاعدة، وحينها فإن ثَم عواملَ كثيرة تأتي على هذا المعيار فتضغط عليه وتضعفه حتى تكسره، فيضعف أثر هذه القاعدة عمليًا وإن كانت ما تزال ثابتة في المقياس النظري. وهذه العوامل كثيرة، اكتفي منها بعاملين، وسأحصره في الأحكام الشرعية السياسية: كاسر النسبية: حين تقول: إن من بدهيات المفاهيم الشرعية الأصيلة التي من أجلها قامت الحركات الإسلامية هو إعادة الحكم للإسلام وشريعته، الحكم الشامل المحقق لسعادة الناس وصلاح دينهم ودنياهم، يأتيك الاعتراض المشهور: الشريعة على فهم من؟ وحين تقول: الحقوق والحريات والمصالح كلها مفاهيم رائعة ننطلق فيها من قيمنا وأصولنا الشرعية، فهذه كليات عامة تملؤها كل ثقافة بحسب قيمها ومعاييرها، يلاحقك ذات الاعتراض: الحقوق والحريات الشرعية فَهْم من؟ وحين يغار المصلحون على أحكام الشريعة فيرفضون أي تعدٍّ عليها أو ردٍّ لأحكامها يأتيك ذات الاعتراض: هذا التعدي على الشريعة بمفهوم من؟

وهكذا، يأتي (على فهم من؟) ليفكك المعيار الشرعي من قيمته، ويكسر الميزان الإسلامي من اعتباره، لتكون الشريعة بناء خاملًا خاويًا على عروشه، ليس له إلا القيمة الشكلية الروحية، لكنه معيار محايد لا يقيس ولا يوزن. فلأننا لا ندري (على أي فهم تكون هذه الشريعة؟) نطالب بالحكم السياسي القائم على المساواة المطلَقَة وحكم الناس بما يشتهون، ويبقى الدين شأنًا خاصًا لا اعتبار له في حكم الناس لأننا لا ندري ما هو! ولأننا لا ندري (على أي فهم تكون هذه الشريعة) تصبح مصمتة لا يُرجَع إليها في مفاهيم الحقوق والحريات والعدل والمصالح بل يكتفى بالمصالح الدنيوية البحتة التي يتفق عليها الجميع ولا اعتبار للدين الذي لا يدرى ما هو! ولأننا لا ندري (على أي فهم تكون هذه الشريعة؟) نجعل العبرة هو اختيار الأكثرية؛ فما اختارته فهو المشروع وإلا فليس بمشروع، وليس لك أن تذكر الشريعة لأن الشريعة هذه على فهم من! وهكذا، أخرجنا العلمانية من الباب ثم ذهبنا نجري خلفها؛ أُخرجت لأنها تعارض حكم الإسلام وترفض أصوله، وذهبنا إليها لأننا أصبحنا لا ندري ما هو الإسلام ولا على أي فهم تكون شريعته، فالنتيجة النهائية: تجاوز إشكالية رفض الدين إلى إشكالية القبول به هلاميًا لا يدرى ما هو! (على أي فهم؟) هو سؤال النسبية الشهير، الذي ما زال يتكرر منذ قدماء الفلاسفة اليونان ومرَّ في طريقه فجرف من أهل الضلال والبدع والتحريف مَن جرف، وما يزال مسيره الجارف متواصل في إغراق القلوب بالشك والحيرة والتيه، حرمهم من حالة الطمأنينة التي يمنُّ اللَّه بها على من يشاء من عباده، وله

أثر عميق السوء في ترك بعض الناس لدينهم أو شكهم فيه أو إضعاف يقينهم وطمأنينة قلوبهم؛ وربما أدى ببعض الناس إلى حالة اللامبالاة فيمارس مع الشريعة حالة (الإعراض) من دون بحث عنها ولا رفض لها، وهي صفة أهل الكفر، الإعراض حين تيأس نفوسهم من الوصول إلى اليقين: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3]. نعم، لو كان الأمر متعلقًا بمسائل ظنية أو أحكام اجتهادية أو في المساحة التي لا نصوص قطعية فيها أو كان من الوقائع المتجددة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد، ونحو هذا مما هو مندرج في مساحة الاجتهاد والتقدير التي يتطلب المسلم فيها أرجح ما يراه حقًا، فالخلاف هنا أهون بكثير، مع أن سؤال النسبية له تأثير سلبي هنا أيضًا، فبدلًا من أن يسير المسلم خلف (الأرجح دليلًا) يتوجه من حيث لا يشعر إلى حيث (الأيسر) حكمًا أو الأقرب للواقع. الإشكالية أن يلاحقك سؤال النسبية في الأصول القطعية وفي النصوص الظاهرة وفي الأحكام المجمع عليها، وبدلًا من أن يقول المسلم فيها ما يجب عليه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] أصبح البعض يسأل ما هي الشريعة التي تريدون؟ فكأن ثمَّ اشتراطًا مسبقًا في أن تكون الشريعة مَرْضية عنده قبل أن يسلِّم لها. سؤال النسبية لا يتحرك إلا حيث يجب الإيمان، لا أحد يسأل في مجالات (الديمقراطية) أو (الحرية) أو (الحقوق) أو (العدالة) أو (الإنسانية) عن أي فهم تكون!

هذا هو كاسر النسبية، يأتي على معيار الاحتكام إلى الكتاب والسنة فيهشمه، وكلما ضعف التسليم في القلب زاد هذا المعيار في الانكسار. هذا هو الكاسر الأول، فاما الكاسر الثاني فسيأتيك بعد متابعة هذه الأمثلة: يرفض أن يقول بمشروعية جهاد الطلب؛ لأنك إذا شرعت لنفسك غزو الآخرين فإن هذا يعني مشروعية غزوهم وقتالهم لك. ولا يجوز لك أن تقول بقتل المرتد؛ لأن هذا يشرع لهم أن يقتلوا الذين يدخلون في الإسلام في أوطانهم. ولا يجوز أن تقول بمنع نشر الكفر والضلال؛ لأنك تشرع لهم أن يمنعوا نشر الخير والإسلام. ولا يجوز أن تدعم إخوانك المسلمين المضطهدين؛ لأنك تشرع للآخرين أن يدعموا إخوانهم في أوطان المسلمين. يتساءل بحرارة: كيف تجيز لنفسك جهاد الطلب وقتل المرتد ونشر الخير ودعم المضطهدين ولا تبيح للآخرين أن يفعلوا مثل ما تفعل؟ هذا هو الكاسر الثاني: مساواة الحق بالباطل، فللباطل من المشروعية مثل ما للحق سواء بسواء، فلا يجوز أن تفعل أمرًا مشروعًا مستمدًا من شريعتك لأن الآخرين سيفعلون مثله، فيجب ترك فعل الحق لأجل أن تكون عادلًا مع الباطل، فكما تمنع الباطل يجب أن تمنع الحق! وكما من حقك أن تفعل الحق فيجب أن تجعل للباطل مثله وإلا وقعت في الظلم! غفل في غمراتِ وهمِ المساواة المطلقة بين الحق والباطل عن أمور عدة:

الأول: غفل عن المعيار البدهي والضروري؛ وهو أن منطلقه هو الكتاب والسنة، فمرجعيته في معرفة الحق هو الوحي وليس في مفتقدات الناس التي يفكرون من خلالها؛ فما قيمة معيارية الكتاب والسنة ما دام أنه سيأخذ بكل المعايير الأخرى؟ الثاني: أن الآخرين لا ينطلقون في تصوراتهم بناءً على مقارنتها بتصوراتنا، فهم ينطلقون بناء على ثقافتهم ومصالحهم؛ فمن الوهم الكبير أن يتخيل أحد أن الآخرين يكيِّفون حياتهم ونظمهم بحسب نظامنا، فإذا أبحنا لهم شيئًا أباحوا لنا مثله وإلا حرموه، لا أحد يفكر بهذه الطريقة، فهو خيال خاطئ رجع فأفسد وكسر المعيار. الثالث: أنه لا وجود لمفاهيم كونية كلية متفَق عليها ينطلق منها الناس جميعًا؛ فحين تتحدث عن العدل والظلم والحق والخير والشر فكل له تفسيراته وتقديراته لهذه المفاهيم، وكل قول تراه حقًا يوجد في المقابل من يراه باطلًا، وكل أمانة يوجد من يراها خيانة، لا يمكن وضع قواعد كلية يتفق الجميع في النظر إليها فيتوحدون في حكمها على اختلاف زوايا نظرهم، وإن أمكن اتفاقهم في كثير من جزئياتها. الرابع: أنه يساوي بين الحق والباطل، فيرى أن للباطل أن يفعل مثل ما يفعل الحق، وهذا مساواة بين أمرين قد فرق اللَّه بينهما {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8]، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36] فالحق يجب نشره وحفظه والدفاع عنه والباطل يجب ردعه؛ فلا يساوى أبدًا من يدعو لتوحيد اللَّه بمن يحاد اللَّه ويسعى لحرب دينه، هذه مساواة باطلة ومخالفة للعدل؛ فالعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، وليس هو المساواة المطلقة

بين الأشياء ولو اختلفت، بل إن المساواة بين الحق والباطل ظلم محض، إذ قد فرق اللَّه بينهما {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]؟ وهكذا: تبقى قاعدة (الرجوع إلى الكتاب والسنة) ميزانًا ومعيارًا منكسرًا لا يؤدي غرضه في بعض القضايا؛ لأن المعيار العلماني القائم على تحييد الدين والمساواة التامة بين الحق والباطل كان مزاحمًا وحاضرًا، وربما يتبرأ كثير من الناس من هذه النتيجة لكن العبرة بالواقع لا بالدعوى؛ فالمعيار الشرعي حين يكون مستقيمًا فلا بد أن يكون له أثر في الوزن والقياس، أما حين يكون ساكنًا جامدًا فإنه معيار منكسر ما عاد معيارًا وإن كان ما زال يسمّى كذلك، وللمفاهيم الغربية معتمدة على قوتها السياسية والإعلامية أثر رهيب على عقول وقلوب بعض الناس، تمارس الضغط عليها حتى تضعف معيارية الشريعة لديها وربما تنكسر أو يكون أكثر اعتزازًا وثقة فلا تزيدها هذه الإشكالات إلا إيمانًا وتسليمًا.

مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي

مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي تعتبر مقولة نجم الدين الطوفي الشهيرة: (تقديم المصلحة على النص) من أشهر المقالات الفقهية والفكرية فىِ هذا العصر؛ لأنه تم توظيفها بمهارة لتكون بساطًا يسير عليه أي تحريف معاصر يرغب في تخطي بعض النصوص الشرعية، ومع الجهود العلمية الحثيثة في توضيح هذه القضية وبيان الشذوذ والخلل فيها إلا أن المقالة الطوفية ما تزال حاضرة في أي مشهد ثقافي يرغب في حذف بعض أحكام الشريعة. نريد أن نقف مع القضية فى سؤالين جوهريين: ما قصة هذه المقالة؟ وما علاقة التحريف المعاصر للشريعة بنظرية الطوفي؟ تبدأ القصة: من أن نجم الدين الطوفي -رحمه اللَّه- وهو من فقهاء وأصوليي الحنابلة المبرزين (ت 716 هـ) لما جاء في كتابه (شرح الأربعين النووية) إلى حديث

"لا ضرر ولا ضرار" قرَّر فيه أن الضرر والفساد منفي عن الشريعة وأن النصوص الشرعية دالة على اعتبار المصالح، وجعل هذا الحديث يدلُّ بعمومه على نفي الفساد؛ فإن جاء في النصوص ما يوهم فسادًا فإن كان النص قطعيًا معارضًا للمصلحة من كل وجه فلا اعتبار للمصلحة، وإن كان النص ظنيًا ووجد دليل آخر يسنده فلا اعتبار للمصلحة أيضًا، وإن كان لم يسند بدليل فإن أمكن الجمع بين النص والمصلحة فحسن، وإن لم يكن فإن كان في العبادات والمقدرات فلا اعتبار للمصلحة، وإلا قدِّمت المصلحة على عموم النصِّ من باب البيان والتخصيص لعمومها لا من باب الافتيات عليها (¬1). فخلاصة الأمر في نظرية الطوفي أنها تقوم على خمس قواعد جوهرية: 1 - المصالح لا تقدَّم على النصوص القطعية. 2 - المصالح لا تقدم على النصوص الشرعية المتعلقة بالعبادات والمقدرات. 3 - المصالح المقصودة هي المصالح الشرعية التي جاءت الدلائل الشرعية باعتبارها. 4 - أنه لا يُلجأ إلى تقديم المصالح إلا بعد تعذر الجمع بين المصلحة والنص. 5 - أن تقديم المصالح هو من باب تخصيص العموم وليس من الافتيات أو الردِّ الكلي للنص الشرعي. فحقيقة الأمر أن تقرير الطوفي لم يكن بعيدًا عن تقرير عموم الأصوليين في الموضوع في المبحث الأصولي الشهير (تخصيص النص)؛ حيث يقرر الأصوليون ¬

_ (¬1) انظر: التعيين شرح الأربعين، للطوفي، ص 236 - 241.

أن عموم النص قد يكون ضعيفًا أو محتملًا لبعض الأفراد فيتم تخصيصه بناءً على نص آخر أو قياس أو مصلحة ضرورية أو حاجية ملائمة للشريعة، مع اختلاف بينهم في مدى إعمال هذه القاعدة وفي المسميات الأصولية التي يطلقونها على هذا الباب، فحقيقته في النهاية أنه من تخصيص النص بالنص، ومن إعمال النصوص جميعًا، ومن منهجية دفع التعارض عن النصوص (¬1). فالطوفي لم يخرج عن قاعدة الأصوليين هذه، لكن تعبيره عن رأيه الفقهي بهذه الطريقة (تقديم المصلحة على النص) لم يكن موفَّقًا، ولا مهذَّبًا مع الدليل الشرعي، وقد كان سببًا لأن يتخذ مسمارًا تشق به كلُّ قطعيات الشريعة، وأصبح الطوفي بعدها منبرًا يعلو عليه كلُّ محرِّف تائه ليصرخ في وجه الشريعة باسم الطوفي، فرحمه اللَّه وعفا عنه. كما أن الطوفي لم يمثل للمصلحة التي تقدَّم على النص، وهو ما يؤكد أنه لا يقصد المصلحة العقلية المحضة التي يقصدها أصحاب القراءات الجديدة للنص الشرعي، بل يقصد المصلحة الشرعية التي جاءت الشريعة باعتبارها، وفي ¬

_ (¬1) حَمْل كلام الطوفي على جادة عموم الأصوليين في الموضوع هو ما توصل إليه بعض الباحثين المعاصرين كالباحث أيمن جبريل الأيوبي في رسالته القيمة (مقاصد الشريعة في تخصيص النص بالمصلحة) حيث جمع كلام الطوفي بعضه إلى بعض فحكم بناء عليه أن الطوفي غير خارج عن المنهجية الأصولية، غير أن في تقرير الطوفي من العبارات المشتبهة والمجملة والملبسة ما دفع بأكثرية المعاصرين إلى مخالفة هذا الرأي وحمل كلامه على تقديم المصلحة العقلية على النص أو تقديمها على النص القطعي أو نحو هذا مما يعد فيه الطوفي شاذًا عن الطريق الأصولي، ومن هؤلاء -على سبيل المثال- مصطفى زيد في المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي، محمد سعيد رمضان البوطي في ضوابط المصلحة في الشريعة الاسلامية، أحمد الريسوني في نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، وغيرهم كثير.

الحقيقة أنه لا يُتَصوَّر وجود تعارُض بين المصلحة والنص؛ فالنص لا يمكن أن يأتي بما يعارض المصلحة، ولا تأتي النصوص إلا بأكمل المصالح وأنفعها، فمقصود الطوفي هو ما يظن أنه نص وليس كذلك؛ وإلا فالنص إذا ثبت لا يمكن أن يخالف المصلحة؛ وإنما تحصل المعارضة مع نص غير صحيح أو صريح أو مع مصلحة موهومة غير حقيقية. وهذا يدعونا إلى السؤال الثاني: هل طريقة بعض المعاصرين في تحريف الشريعة باسم المصلحة لها علاقة بنظرية الطوفي؟ الواقع أنه ثَمَّ فروق جوهرية بين مقولة الطوفي وبين من يستند إليه من المعاصرين: 1 - الاختلاف الجوهري في فهم المصالح: فنظرة الطوفي إلى المصالح تعتمد على الميزان الشرعي في تعريف وتحديد المصلحة؛ فالمصالح تعمُّ ما ينفع الناس في الدنيا والآخرة، وشاملة لا فيه حفظ الدين والدنيا، ويندرج فيها كلُّ ما جاءت الشريعة به من الأصول والأحكام. هذه صورة المصالح عند الطوفي وعند غيره من العلماء، لكن المشهد يتغير تمامًا عند المتذرعين بالطوفي؛ فالمصالح عندهم مصالح دنيوية بحتة فقط، لا ترى أي اعتبار يذكر للمصالح الأخروية، لا يكادون يفهمون شيئًا اسمه مصلحة الدين؛ لأن الدين شأن ذاتي فردي لا علاقة له بالنظام، ينفون كثيرًا من الأحكام الشرعية فلا يرون فيها أي مصلحة لأنها تنافي الثقافة العَلمانية السائدة. إذن، فلفظ المصلحة متفَق بين الطرفين، لكن معناه يختلف جذريًا بين من ينطلق من مفهوم إسلامي للمصلحة وبين من ينطلق من مفهوم علماني لها؛ ولهذا تجد أن الطوفي وغيره يرون أن الجهاد وقتل المرتد ومنع المحرمات هو من

أعظم المصالح لما فيه من حفظ مصلحة الدين، وهو الشيء المزعج لدى كثير من المعاصرين لأنهم يرونها أحكامًا تنافي المصلحة. 2 - الاختلاف الجوهري في فهم النصوص: فالطوفي وغيره لا يتحدثون عن نصوص قطعية ذات دلالة واضحة فيقدمون النصوص عليها، فهم أهل تعظيم للشريعة وحرماتها، فهم بعيدون جدًا عن هذا الطريق الذي يريد الحداثيون تعبيده باسم الطوفي، فالنص القطعي لا يجوز لأي مسلم تخطِّيه، لكن إشكالية كثير من الحداثيين أن النصوص كلَّها محل إشكال، فكلها لا تدل على قطع ولا يستمد منها يقين، وإذا سمعوا كلمة (قطعي) قالوا مباشرة: (من يمتلك الحقيقة؟)! 3 - الاختلاف الجوهري في تمييز الأبواب الشرعية: فأبواب العبادات والمقدرات خارجة تمامًا عن الموضوع؛ لأننا علمنا -قطعًا- أنَّها مراد اللَّه فلن يجرؤ مسلم على مناقضة اللَّه في حكمه ولا حكمته، فلا إمكانية لأي مصلحة حقيقة لأن تكون مخالفة لها، فلا يمكن تخطِّي بعض أحكام العبادات أو الحدود أو المواريث أو الديات أو تفاصيل الجنايات أو الكفارات أو العِدَد أو الطلاق أو شروط النكاح؛ لأنها جاءت مقدَّرة محددة فلا إمكانية لأي مصالح فيها، لأن المصلحة فيها قطعية في اتباع مراد اللَّه. 4 - الاختلاف الجوهري في منهجية النظر في النصوص: فالطوفي وغيره من أهل العلم يقصدون الجمع بين النصوص، وإعمال كافة الأدلة. قد يخطئ بعضهم في بعض أحكامه، لكن المنهج الكلي العام هو الجمع بين النصوص وإعمالها جميعًا، بينما تقوم الطريقة الحداثية ومن تأثر بها على إعمال المصالح الدنيوية المحضة، ومواكبة العصر، ومسايرة التطور، ثم وجدوا أثناء ذلك نصوصًا وأدلة

لا تنتج ما يريدون، فاضطروا إلى تأويلها وتحريفها حتى لا تكون عائقًا عن الحداثة والتقدم، بل إن بعضهم لم يلتفت إليها أصلًا إلا لما رأى أن الناس منجذبون إلى هذه النصوص، فعُلِم أن مجرد الإعراض عن النصوص لا يكفي، فلا بد من عودة إليها لتخليص العقل المسلم من الانجذاب نحوها، فشتان بين من ينظر في النصوص ليهتدي بها ويسير وراءها ممن يفكِّر خارجها ولا يأتي إليها إلا لمهمة التخلُّص منها. فنهاية الأمر في تقديم المصلحة على النص هو أن تكون النصوص عبئًا لا فائدة منها؛ فالإنسان يتبع مصالحه أينما كانت، فإن وافق المصلحة عمل بالنص اتباعًا للمصلحة، وإن خالفه عمل بالمصلحة، فكان وجود النص عبئًا وتلبيسًا وإشغالًا للناس لا غير، وهو نتيجة طبيعية لمن ينظر للمصلحة بمعيار يختلف عن معيار الشريعة، فالنصوص إنما جاءت بما فيه مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، فافتراض التعارض بينها وبين المصلحة افتراض مغلوط وسؤال خاطئ؛ لأنه يفترض أن النصَّ شيء يختلف عن المصلحة، بينما النصوص في الحقيقة لا تأتي إلا بأكمل المصالح وأشرفها؛ فالتعارض لا يكون بين المصلحة والنص، بل بين مصالح الشريعة التي جاءت بها النصوص والمصالح الكاذبة التي تأتي بها أهواء النفوس. ومع كل هذا ستبقى مقولة (تقديم المصلحة على النص) حاضرة في مشهد التحريف والعبث المعاصر، وسيبقى الطوفي -رحمه اللَّه- حاضرًا على لسان وقلم كل عابث، وما كان يدور في خلدِ أحد أن عبارة قيلت قبل سبعة قرون ستكون ذريعة وسترًا شرعيًا لأرتال العبث الفكري المعاصر، وهذا نموذج لخطورة

زلة العالم التي تجعلنا نستشعر عظمة فقه عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حين قال (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن والأئمة المضلون) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: 2/ 162.

أين الثوابت والمتغيرات؟

أين الثوابت والمتغيرات؟ أتمني لو كنت استطيع الوصول إلى تحديد تاريخ أول استعمال لهذا المصطلح في الفكر الإسلامي, لكنه قطعًا نشأ متأخرًا ولم يكن معروفًا في التراث الفقهي القديم, وهو كبقية المصطلحات المحدَثة لا يتعامل الإنسان معه بحساسية لمجرد كونه مصطلحًا جديدًا, فلا مشاحة في الاصطلاح ولا إشكال فيها بحد ذاتها ما دامت محتفظة بخصلتين: أن لا تحتوي علي مخافة شرعية وأن يتم توضيح المقصود بها بما يزيل الإشكال. وحين نستعرض تفسيرات المعاصرين للثوابت والمتغيرات في الشريعة الإسلامية نجدها ترجع لثلاث تفسيرات رئيسية, تفسير الثوابت بالقطعيات والمتغبرات بالظنيات, أو تفسير الثوابت بالمجمع عليه والمتغيرات بالمختلف فيه, أو تفسير الثوابت بالأصول والمتغيرات بالفروع. وحقيقة هذه التفسيرات ترجع لمعني واحد, فالثوابت هي الأصول الكلية القطعية المتفق عليها, والظنيات هي ما كان دون ذلك من الظنيات والفروع.

ويبقى تفسير المصطلح ليس فيه أي إشكال، فلا غضاضة في أن يتم تفسير الثوابت والمتغيرات بأي معنى يتم الاتفاق عليه. إذن أين الإشكال؟ الإشكال هو في الأحكام التي تترتب على هذا التقسيم، وفي التصورات التي تبنى على هذه التفسيرات؛ فسؤال: أين الثوابت والمتغيرات؛ ليس مشكلًا كسؤال ما الذي سيترتب على تفسير الثوابت والمتغيرات؟ فتسمية بعض أحكام الشريعة بالثوابت، وتسمية غيرها بالمتغيرات، ليس فيه إشكال كبير ما دام أنه محصور في التسمية والاصطلاح، إنما الإشكال في ما يترتب على هذا التقسيم. فبعض الناس يفسِّر المقصود بشكل صحيح ويقيم الفروق بين الثوابت والمتغيرات برؤية شرعية صحيحة، وآخرون يبنون على هذا التقسيم كثيرًا من الأحكام الباطلة. فبعضهم يرتب على هذا التقسيم تصورًا يقوم على أن الثوابت هي الأحكام الشرعية التي يجب الخضوع لها، وأما المتغيرات فهي خارج الشريعة وهي مجرد اجتهادات يمكن أن يأخذ الشخص منها ما يشاء، فالعبرة بمقاطع الإجماع، وأما ما حصل فيه الاختلاف فالإنسان منه في سعة، يأخذ منه ويذر بحسب ظروف المرحلة وما يحقق المصلحة وما يتلاءم مع تطور المجتمع. وهذا تفسير مختلٌّ، لأنه يلغي دائرتين واسعتين من الشريعة هما الأوسع من أحكام الإسلام، وهما دائرتا (الظنيات) و (المختلف فيه).

فدائرة الظنيات: هي أحكام شرعية ثابتة وملزمة ويجب اتباعها، وأما تسميتها بالظنية فهو مجرد اصطلاح، لا يعني أنها خارج الشريعة أو غير ملزمة، فالظن واليقين هو في مرتبة الجزم بالحكم وليس في مرتبة الإيمان بالحكم، فأنت توقن بالحكم بشكل يقيني قطعي أو يغلب على ظنك بما يوجب العمل به، لا أن تثبت الحكم أو تنفيه؛ فبعض الأحكام الشرعية قطعي جاءت الدلائل اليقينية عليه كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم الخمر والربا والزنا، وبعض الأحكام جاءت فيه دلائل أقل من ذلك، لكن هذا لا يعني أنه ليس حكمًا شرعيًا، ولا أن أمر الإيمان به يرجع للإنسان إن شاء عمل به وإن شاء ترك، بل العمل بها واجب، غير أن مراتب الإيمان تختلف فدرجة الإيمان بحرمة الزنا ليست كدرجة الإيمان بحرمة النظر المحرم، ودرجة الإيمان بالسنة المتواترة ليس كدرجة الإيمان بالسنة الآحاد، وذلك مثل ما أن من الشريعة ما هو فرض لا يدخل الإنسان الإيمان إلا به كالشهادتين، ومنها ما هو فرض يخرج من الإيمان بتركه كالصلاة، ومنها ما هو فرض يضعف الإيمان ولا يزيله كترك الحج ومنها ما هو دون ذلك، لكنها جميعًا داخلة في أحكام الإسلام وإن تفاوتت في قوتها. فالغلط في هذا التفسير أنه جعل دائرة (الظنيات) من المتغيرات غير الملزمة، فنفى جملة واسعة من أحكام الشريعة لتوهُم فاسد، تصوَّر فيه أن كلمة (الظن) تعادل في لغتنا العامية التوقع والتوهم والشك، وهي ليست كذلك، بل أحكام ثابتة وصحيحة. الدائرة الثانية، دائرة المختلف فيه: فيجعلون كلَّ حكم وقع فيه اختلاف بين العلماء حكمًا متغيرًا غير ملزم، وهذا النظر يتصوَّر أن أحكام الشريعة لا بد أن تكون مُجمَعًا

عليها حتى تكون ملزِمة، فهو يقلب معادلة الشريعة؛ لأن اللَّه -تعالى- يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وهو يريد رد كلام اللَّه وكلام رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى كلام الناس؛ فكأن أحكام الشريعة لا تكون ملزمة للمسلم إلا إذا أجمع عليها العلماء وهذا معنى ساقط متفَق على فساده (¬1). واشتراط الاجماع لجعل الأحكام الشرعية ملزمة كلام سجالي يأتي به البعض للجدال لا غير، وإلا فلا أحد يطرد هذا الكلام فيقول على الحقيقة إنه لا يعتقد بشيء إلا بعد الإجماع، ولهذا كان ابن حزم دقيقًا حين قال عنه أنه (مذهب لم يخلق له معتقد قط، وهو ألا يقول القائل بنصّ حتى يوافقه الإِجماع) (¬2). وهذا الذي يقتصر على الإجماع دون المختلف فيها، لا بدّ أن يرجع فيفسد حتى القضايا القطعية؛ فإنه (لا بد أن يخالف الكتاب والسنة -حتمًا- في كثير من القضايا، هذا في المخالفة القطعية، فأما الظنية فحدِّث عن كثرتها ولا حرج) (¬3). الخلاصة إذن: أن أمامنا طريقين للتعامل مع هذا المصطلح: الطريق الأول: تفسير الثوابت بأنها هي القطعيات والمتغيرات هي الظنيات، فيجب على من يسلك هذا الطريق أن يكون منهجه قائمًا على عدم ترتيب أحكام على هذا الاصطلاح؛ وإنما يقال: إن هذا ثابت وهذا متغير لبيان درجة الحكم وليس لجعل أحدهما ملزمًا والآخر غير ملزم. ¬

_ (¬1) سبق ذكر عدد من أقوال العلماء في فساد هذا التصور. انظر: بحث الانقياد المشروط من هذا الكتاب ص 10 - 11. (¬2) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 3/ 481. (¬3) الأنوار الكاشفة، ص 33.

الطريق الثانى: في حال ترتيب الأحكام على هذا الاصطلاح، فيجب أن يتم تفسير الثابت والمتغير بشكل دقيق وصحيح لا يتضمن تجاوزًا على الحكم الشرعي، وهذا التفسير سيكون بجعل الثابت: ما ثبت بدليل شرعي سواء كان قطعيًا أو ظنيًا أجمع عليه أو اختلف فيه، فهذه مساحة ثابتة مرتبطة بالدليل الشرعي، والمتغير: هو الحكم الاجتهادي الذي كان مرتبطًا بعرف أو مصلحة معينة وتتغير بتغير الزمان والمكان. فهذا هو التفسير الصحيح لهذا المصطلح؛ فالأحكام الظنية ليست متغيرة، والأحكام الخلافية ليست متغيرة، بل هي ثابتة، ووقوع الخلاف لا يجعلها متغيرة؛ لأنهم يختلفون بناءً على رؤيتهم في الأدلة، فهم يدورون حول محور ثابت، فيجب أن يتم الاختيار والترجيح بناء على هذا المحور، وليس متغيرًا بحسب الزمان والمكان. وهذا المنهج هو الأسلم والأصوب في تفسير (الثوابت) و (المتغيرات) لأنه يفسِّر المتغير بما يناسب لفظه؛ فالمتغير في الأحكام هو ما كان معلقًا على وصف متغير، كعرف سابق أو مصلحة مرتبطة بظرف معين؛ فحين يتغير الوصف الذي كان سبب الفتوى تتغير الفتوى تبعًا لذلك، وأما جعل الأحكام الشرعية الظنية أو الأحكام المختلف فيها في دائرة المتغيرات فهو خطأ؛ لأنها ليست متغيرة، ووقوع الخلاف فيها لا يحيلها متغيرة، والاختلاف الذي وقع فيها ليس تغيرًا، بل هو اجتهاد راجع لفهم الدليل الشرعي الثابت؛ فهو راجع لاختلافٍ في الفهم، وليس تغيرًا مرتبطًا بالزمان والمكان. وهذا المنهج هو الأصح أيضًا؛ نظرًا لأن هذه المصطلحات قد عم استعمالها

لدى كثير من الناس على اختلاف توجهاتهم ومقاصدهم، بما يحتم مزيد عناية في ضبط المصطلحات والتأكيد على دقة معانيها حتى لا تكون ذريعة لتمرير بعض التصورات المنحرفة من خلال المفاهيم المعتادة. مشكلة مثل هذه المصطلحات المحدثة أنها تحوي حقًا وباطلًا، وفيها تفسيرات صحيحة وأخرى فاسدة، لكن الفرق الذي يميز المعنى الصحيح من المعنى الباطل لا يبدو جليًا دائمًا، وكثيرًا ما يبقى مشكلًا وملبسًا، ويرجَع فيه لاجتهاد كل أحد، فتجد كثيرًا من الناس يتفقون على تكرار هذه العبارة وبينهم في تفسيرها ما بين المشرقين؛ فالمعيار في التمييز معيار ذاتي لا موضوعي، فهو يرجع لفهم كل شخص وعلمه ودينه، وليس لمحددات موضوعية فاصلة، وهو مزلق خطر يقود لانحرافات عدة. وهذه إشكالية حاضرة بوضوح في مشهدنا الثقافي المعاصر، فبعض الأطروحات الإسلامية تقوم بدور سلبي على بعض الأحكام الشرعية ليس من جهة ما تقرره من معانٍ فاسدة، بل من جهة ما تسكت عنه من بيان المعاني الباطلة التي تختلط ببعض المعاني الصحيحة. وهذه الإشكالية سبب لانحرافات ظاهرة في مشهدنا المعاصر، تجد بعض الفضلاء يرفع شعارات مجملة يتوافق فيها مع عدد من المنحرفين والمحادِّين للشريعة، من الذين يفرحون كثيرًا بها لأن هؤلاء الفضلاء يدفعون بتصوراتهم إلى الجمهور الذي لا يمكنهم الوصول إليه، ويبقى الفرق بين الشعارين ذاتي لا موضوعي؛ فكلهم يتكلم بعبارات واحدة وكل شخص يفسرها بحسب ما يريد، بينما كان المفترض على الغيور على شريعة اللَّه أن يحرص على تمييز الحق من الباطل فلا يكفي أن يقول

ما يقصد به الحق، بل لا بد من تجلية الحق ورفع الالتباس عنه. ولهذا تجد بعض المفاهيم كالحريات وحقوق المرأة والمساواة والدولة المدنية ونحوها تتردد من أقصى التيارات العلمانية تطرفًا ويرددها كثير من الفضلاء من دون تمييز موضوعي يكشف الحق من الباطل، وليس المقصود أن يشرح الإنسان الكلمة في كل سياق، وإنما أن يكون منهجه الكلي واضحًا في تحديد المقصود من هذه المفاهيم وفصل المعاني الباطلة عنه بوضوح تام بما يجعل الحق ساطعًا تشيح عنه وجوه الانحراف والعلمنة.

الحلقة المفقودة

الحلقة المفقودة في لقاء ثقافي عام قدَّم صاحب الورقة عددًا من الأفكار والرؤى المتعلِّقة بالشأن العام، تحفَّظ بعضهم على بعض هذه الأفكار وطالب بأهمية أن تدرس لضمان التزامها بأحكام الإسلام؛ إذ رأى فيها تجاوزًا لبعض أحكامه، فما كان من مقدِّم الورقة إلا أن فتح فمه بحديث طويل ملأه بقائمة من الكلمات الآتية: (هذه أحكام خلافية، قضايا ظنية غير قطعية، هو فهمك للنص، هذه متغيرات وليست ثوابت). الذي لفت نظري في كلامه أنه لم يكن -كما يظهر- يعرف أساسًا بوجود إشكالات على تقريره، فلما نبه بها أخرج لها هذه المقطوعة المألوفة، وقد كان الموقفي السليم أن يوقف نفسه قليلًا ويقول: لعلي أتاكد أو أبحث أو أسال حتى أزيل هذا الإشكال. مثل هذا الكلام يعني أن أحكام الإسلام ليست ملزِمة لأحد ولا حاكمة على

أحد، فاختر أي قول تراه ثم قل: (خلافيٌّ) و (ظنيٌّ) و (متغير) و (اختلاف في الفهم) وينتهي حينها الموضوع! نعم، في الشريعة مساحة واسعة للقضايا الظنية، وفيها خلاف فقهي كبير، وتتضمن متغيرات عدَّة، ويقع فيها اختلاف في الفهم والتأويل وتحوي مدارس مختلفة فيه، لكن هذا لا يعني أن يتوقَّف التذكير بضوابط الشرعية ويتعطَّل الإلزام بها: أولًا: لأن الشريعة ليست كلها ظنية وخلافية ومتغيرة، بل ثَمَّ مساحة للقطعيات والمتفق عليها في الشريعة، وحين يبادر الشخص فيتعلق بحبل الظنيات والخلافيات مباشرة لتجاوز أي إشكال يرد عليه فإنه سيتعلق به مرة أخرى في القطعيات والمجمَع عليها في ما بعد، حتى تلاحظ بجلاء أن كافة الرؤى المتضمنة انحرافًا صريحًا تقول دائمًا حين تذكَّر بالشريعة: هذه مساحة خلافية وظنية! الثاني: أن وصف القضايا بكونها (ظنية) أو (خلافية) لا يعني أنها أصبحت مرسلة وفارغة وغير ملزمة، أو أنها مساحة اختيار من متعدد ينتقي منها الإنسان ما يشاء، أو يختار من واقعه وفكره ما يروق له ويصبح في حِل من نصوص الشريعة وأحكامها ما دام فيها خلاف أو ظن! ليست هذه منهجية مقبولة في الشريعة، فإذا كان ثَمَّ خلاف وظن في كثير من أحكام الإسلام فإن ثَمَّ منهجًا قطعيًا مجمعًا عليه في كيفية التعامل معه، هو أن يبذل الإنسان جهده ويسعى للوصول لأرجح ما يعتقد من خلال منهجية علمية موضوعية تتقصَّد الكشف عن مراد اللَّه قَدْر الطاقة {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فالتنازع يذهب به إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس هو إشارة

عفو أو إرشاد إلى الاختيار المفتوح. فلا يكفي أن تأتي برأي ثم تقول: (ظني) أو (خلافي)، حدثنا كيف توصلت إلى هذا الرأي؟ ما المنهجية التي سلكتها لاختيار هذا القول؟ ما الطريقة والآلية المتبعة عندك في القضايا الحلافية والظنية؟ فالعلماء وطلاب العلم وعامة الناس لهم منهجية في التعامل مع المسائل الظنية والخلافية؛ فما هذه المنهجية التي يسلكها مثل هذا المتحدث؟ معرفة هده المنهجية تضع فى يدك فائدتين: الفائدة الأولى: أن تعرف مدى موافقة هذه المنهجية للشريعة؛ فحين يقول أحد: إن منهجه هو الاجتهاد والموازنة بين الأدلة لكونه عالمًا ومجتهدًا فهذا منهج سليم ومنضبط، أو يقول: إن منهجه اتباع المذهب الفلاني الذي يثق فيه وفي اختياراته فهذا منهج سليم ومنضبط، أو يقول: أتبع علماء البلد الذي أنا فيه لكوني أراهم أوثق علمًا ودينًا فهذا منهج سليم ومنضبط. فمعرفة المنهج يخلِّص المنهج الشرعي من المناهج العبثية الفوضوية كمثل من يقول: منهجي أن اختار الأسهل! أو أن اختار ما أشاء! أو أختار ما هو أقرب للواقع وأكثر ملائمة له، أو ما يكون متوائمًا مع متطلبات الحداثة! فالقضايا الظنية والخلافية هي الدائرة الأوسع في الشريعة الإسلامية ولا يمكن أن تكون قضايا مهملة يختار الشخص ما يشاء وينتقي ما يشاء؛ وإلا ما فائدة وجودها من الأساس؟ ولماذا أنفق العلماء أعمارهم في تحريرها وتفصيلها وبيان دلائلها ما دامت مجرد قائمة اختيارات متساوية يختار الشخص الأسهل والأجمل والأقرب؟ فهذه منهجيات مخالفة لقطعيات الشريعة، وتؤدي لتعطيل الشريعة وتجعل

نظر المسلم ليس إلى الشريعة بل إلى التخلُّص من قيودها، حتى ولو كانت في مسائل خلافية فالخلاف لا يلغي ضرورة اتباع الشرع. الفائدة الثانية: أن نحاكم آراء هذا القائل إلى منهجه؛ فما دام أنه اختار منهجًا معينًا فيجب أن تكون آراؤه منطلقة منه، فلا بد أن تكون هذه الآراء مبنية على منهج صحيح وليست آراءً مشتتة مقطَّعة لا يجمعها أي جامع؛ وإنما يختار لاعتبارات غير شرعية ثم يظن أنها شرعية! وثَمَّ فائدة أخرى تزيد على هاتين الفائدتين: هي أن يحفظ الإنسان أصوله القطعية وأحكامه المجمَع عليها؛ فالتهاون مع الظنيات سيضعف الثقة في القطعيات تدريجيًا؛ لأن الشخص حين يرتفع صوته دائمًا بـ (فيه خلاف)، فإن هذا الصوت لن ينقطع حين لا يكون في المسألة (خلافًا)، بل سيتردد الصوت ذاته في المسائل القطعية والمجمع عليها في ما بعد، ولن يبالي بذلك حينها لأنه عوَّد نفسه أن لا يلتفت إلى الأحكام الشرعية ما دام فيها خلاف، وحدود الخلاف ليست معلومة له دائمًا، فحين يعتاد أن لا ينظر في الشريعة إلا في ما بعد فإنها ستكون ثقيلة ومزعجة وسيجد أي تأويل لها مخرجًا مريحًا ومقبولًا؛ ولهذا -ومن واقع ملاحظة شخصية- وجدت أن كثيرًا ممن يقول: (فيه خلاف) وهذه مساحة (ظنية)، هو ذاته حين تأتي القضايا القطعية يقول لك: (كيف عرفت أنها قطعية؟) و (كلُّ يظن أن رأيه قطعي!) فيتهاون في المساحة الظنيه لأنه مستمسك بالقضايا القطعية، ثم صار يشك -أصلًا- في وجود القضايا القطعية التي هو مستمسك بها! يأتي بعضهم فيقول: من الضروري مراعاة المتغيرات التي تؤثر في الأحكام الشرعية فليس كل ما كان في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يكون ملزمًا لنا الآن لتغيُّر الحال.

فهذا كلام فيه حق، وفيه باطل كثير أيضًا، وهنا تأتي أهمية تحديد المنهج؛ فما المنهج لمعرفة المتغير والثابت في أحكام الإسلام؟ وما هو المتغير والثابت مما كان في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فهذا الكلام يقوله أشدُّ العلماء تمسُّكًا وتعظيمًا لأحكام الإسلام ويقوله أشدُّ العلمانيين تفلُّتًا وانحرافًا عن أحكام الإسلام. ويأتي آخر فيقول: ليس كل ما صدر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يكون تشريعًا فثم أمور ليست تشريعية. لا بأس، السؤال المهم: ما الضابط لمعرفة التشريعي من غير التشريعي لديك؟ فهذا الكلام قد يكون كلامًا أصوليًا دقيقًا منضبطًا وقد يكون تحللًا وتفلتًا من قيود الشريعة، والفارق بينهما هو في معرفة المنهج الذي سيسلكه الشخص في معرفة السنة التشريعية من غير التشريعية. تحديد المنهجية يفتح العين على ظاهرة فكرية شائعة في زمننا، ظاهرةِ من يأتي بالأقوال المنبتَّة التي ليس لها امتداد فقهي ولم تخرج من البيئة الشرعية فيتمسك بها بدعوى أن فيها خلافًا وأنها ضمن المساحة الخلافية أو المتغيرة، والحقيقة الظاهرة أن القول لم يأتِ من قراءة فقهية، بل من إسقاط خارجي على الفقه، حاول بعده أن يكسِّر في أبنية الفقه ومذاهبه وأقواله حتى يجد لهذا الدخيل مكانًا مناسبًا يجلس فيه فوقع بسببه في إشكالات أكبر. مثلًا: ينفي وجود حدِّ الردة في الشريعة الإسلامية متأثرًا بضغط مفاهيم الحريات المعاصرة وأسئلتها فيحاول أن يبحث لها عن مذهب هنا أو قول هناك لكنه يصطدم بمثل قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من بدّل دينه فاقتلوه" (¬1) فيتملص منه بأنه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 9/ 15، برقم 6922.

حديث آحاد، أو ليس سنة تشريعية، أو كان لظرف زمني معين. . . إلخ، وهكذا يدخل في منهجيات مضطربة حتى يستقيم له إسكان هذا الفرع الفقهي الدخيل؛ فهل من منهجك أن ترفض الحديث الآحاد؟ وما هي السنة التشريعية من غير التشريعية لديك؟ وما هي المتغيرات التي تؤثر في الحكم؟ إنها أسئلة منهجية لن تجد لها جوابًا محررًا لأن هذا القول لم يخرج من منهج فقهي أساسًا. إنها (الحلقة المفقودة) في كثير من القضايا المعاصرة، تضع يدك عليها حين تبحث عن المنهج وآلية التفكير التي يسير عليه الإنسان في القضايا الخلافية والظنية، وفي منهجية ومستندات الأقوال التي يتبناها، وربما تُصدَم حين تجد الحلقة المفقودة التي وضعت يدك عليها هي المنهج ذاته؛ حيث إن الأمر كثيرًا ما يكون بمنهج مضطرب أو بلا منهج وطريق واضح من الأساس.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى (ح) مجلة البيان، 1434 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر العجلان، فهد صالح معركة النص - المجموعة الثانية/ فهد صالح العجلان - الرياض، 1434 هـ ص 146، 16.5 × 22 سم ردمك: 1 - 26 - 8101 - 603 - 978 1 - العلمانية 2 - الإسلام - دفع مطاعن ... أ. العنوان ديوي 201.16 ... 2791/ 1434 رقم الإيداع: 2793/ 1434 ردمك: 8 - 27 - 8101 - 603 - 978

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة بسم اللَّه، والحمد للَّه، وصلى اللَّه وسلم على رسول اللَّه، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: راهن الخطاب العلماني في لحظةٍ زمنية خلت على أن المجتمعات الإسلامية ستسير في علاقتها مع الدين بذات المنحى التي سارت عليها المجتمعات الغربية، وأن تحييد الدين وإقصائه هو قدر هذه المجتمعات كما هي سنة التطور التي سبقتها إليه المجتمعات الغربية، غير أن الواقع قد أحدث صدمة عنيفة هزت مرتكزات العقل العلماني، إذ زاد تمسك المجتمعات بالإسلام، وقويت الحركات الإسلامية واتسع نطاق تأثيرها، وزاد تعطش الناس للدين ولشعائره ولتعلم أحكامه، وغدا الإسلاميون هم الرقم الأصعب في كل المجتمعات المسلمة اليوم، وأصبح أكثر العلمانيين تفاؤلًا يجزم بأن أي انتخابات في أي مجتمع ستكون نتيجتها محسومة سلفًا للإسلاميين. حفز هذا كثيرًا من العلمانيين على تغيير طريقة خطابهم وترتيب أوراقهم من جديد، فانتهت طريقة المصادمة الصريحة للنصوص الشرعية أو الاستخفاف

الصريح بأي حكم منها، واتجه النقد إلى فهم النص، والغلو في النص، وعدم إدراك المتغيرات، وإلى البحث عن مقاصد النصوص، وروح الشريعة، والغايات التي تسعى إليها، والمصالح الكبرى التي تحققها، وما عاد مستنكرًا أن تجد أشد الناس عداوة لأحكام الشريعة يقرر بكل ثقة: أنه لا يعارض الشريعة، بل إنه يسعى إلى حكم الشريعة وأنه أشد غيرة عليها من كثير من دعاتها. بسبب ذلك نشطت حركة البحث عن الأصول التراثية التي يمكن أن تكون مرجعية مقبولة لأي آراء حداثية معاصرة مخالفة للشريعة، فصارت الانحرافات المصادمة لقطعيات الشريعة تقدم من خلال الشاطبي والطوفي والعز بن عبد السلام وابن القيم وابن تيمية وعمر بن الخطاب! لم تكن هذه المنهجية المداهنة لترضي كل الأطراف العلمانية، فلئن ساهمت في تعميق الرؤى العلمانية وتخفيف الصدمات التي تواجهها، إلا أن ثم فئة رأت في هذه الطريقة سقوطًا أمام المد الإسلامي وانهزامًا أمام مقولاته (والأخطر من كل هذا والأكثر تدليلًا على تراجع الفكر العلماني عندنا، ما نشهده من محاولات حثيثة من قبل المفكرين العلمانيين لدعم موقفهم عن طريق اللجوء إلى القرآن والسنة، غير مدركين أنهم يقدمون بهذا أكبر التنازلات للحركات المناوئة للعلمانية) (¬1). تحدث أحدهم منتقدًا هذه الظاهرة: (إن الجمجمة في الكلام السالف واضحة جلية، فأكثرية المفكرين العرب المذكورين اتقوا هجوم الدينيين بتوجيه نقدهم إلى ما دعوه قشوره الدين أو لسوء استخدام الدين من قبل رجاله أو رجال السياسة، دونما الولوج مباشرة في أمور الدين نفسه) (¬2). ¬

_ (¬1) الأسس الفلسفية للعلمانية لعادل ضاهر، 16. (¬2) العلمانية لعزيز العظمة، 231.

ويهاجم المسلك العلماني الجديد بأن (استخدام الرموز الدينية لأغراض غير دينية أمر مشكوك بفاعليته، إذ أن مجالات تأويلاته الأخرى أوسع وأرحب وأكثر انغراسًا في الثقافة الدينية) (¬1). وتحدث بنبرة حزن عن آثار الحملة الواعية ضد الفكر العلماني (كانت لهذه الحملة على العلمانية عمومًا وعلى طه حسين وعلي عبد الرازق بوجه الخصوص نتائج كثيرة، كانت اثنتان منها على قدر كبير من الأهمية بالنسبة إلى موضوع كتابنا هذا، وهما ضمور الإصلاحية الإسلامية وجمودها على بعض لحظات بدايتها والتأكل الداخلي في مواقف بعض العلمانيين الليبراليين) (¬2). هذا كله يضع المشروع الإسلامي للإصلاح في موضع قوة، ويضعه في موقع تحدٍ أيضًا، فهو قوة للمشروع الإسلامي حيث تخلى -غالبًا- خصوم المشروع الإسلامي عن المناكفة الصريحة لأحكام الإسلام وصاروا يقرون ظاهرًا بأحكام الإسلام، لكن هذه القوة في ضمنها تحدٍ كبير وعميق، حيث أصبحت بقية المشاريع المناهضة للمشروع الإسلامي تقدم نفسها -صدقًا أو نفاقًا- داعمة للمشروع الإسلامي، بما يتطلب ضرورة الاستمساك بالمشروع الإسلامي، مع ضرورة إبرازه وإظهار كافة أوجه التحريف التي تعبث بمساره، وهو تحدٍ مضاعف، فلئن كان المطلوب سابقًا أن تحشد الناس على دعم المشروع الإسلامي، فإن الواجب الآن هو حشدهم مع شرح حقيقة هذا المشروع ولماذا كان إسلاميًا دون غيره. ويزيد التحدي تعقيدًا واشتباكًا أن الواقع المعاصر في كثير من دول المسلمين لا يمكن من خلاله تطبيق كافة أحكام الإسلام أو يترتب على تطبيق بعض أحكامه ¬

_ (¬1) العلمانية لعزيز العظمة، 296. (¬2) العلمانية لعزيز العظمة، 235.

مفاسد عظيمة بما يتطلب تأجيل بعض الأحكام والسعي لتطبيق ما يمكن، وهو ميزان شرعي معتبر قائم على ميزان الاستطاعة والإمكان {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ومن الاستطاعة الشرعية المعتبرة أن لا يترتب على إزالة المنكر منكر أعظم. هذا الواقع دفع فئة من الناس إلى عدم اعتبار ميزان الاستطاعة، ولا النظر إلى المصالح والمفاسد، بما ينشأ عنه مواقف أو أحكام مخالفة قطعًا للإسلام يتم توظيفها للإساءة إلى أحكام الإسلام والدفع نحو تعميق مشاريع الانحراف. ودفع هذا الواقع فئة أخرى لتخلط بين الأصل والاستثناء، وما يراعى ابتداءً وما يراعى من أجل ظرف معين، فتحكم بمشروعية أي فعل ما دام أن الواقع الراهن يدفع باتجاهه ولو خالف أحكام الشريعة وقطعياتها، وتبحث في سبيل ذلك عن أي تأويل أو مخرج مناسب، ويتم من خلاله تحريف الشريعة والعبث ببعض أحكامها، حتى يجد نفسه في النهاية قد تبنى الرؤية العلمانية من حيث يظن أنه يسير في مناقضتها، وهو ما دفع سؤالًا مشروعًا يحرج بعض الإسلاميين عن الفرق الموضوعي بينهم وبين الرؤية العلمانية؟ فجاء حينها تقسيم العلمانية إلى علمانية متطرفة رافضة للدين لا يمكن التصالح معها، وعلمانية معتدلة محايدة ليس لدينا مشكلة كبيرة معها! زاد التحدي أيضًا أن مقولات العلمانيين وقوة إعلامهم وطبيعة المناخ الثقافي المعاصر أثر على بعض الإسلاميين فصار متشربًا لبعض أفكار العلمانيين ومقولاتهم، وصارت الأفكار العلمانية تتردد في أفواه أولئك الإسلاميين.

فالسعي إلى تأويل الحكم الشرعي بدلًا من رفضه، وطبيعة الواقع الذي قد يتعذر فيه تطبيق بعض أحكام الشريعة، وتسرب هذه المفاهيم إلى الإسلاميين، هي تحديات عميقة ومتجددة على المشروع الإسلامي، يجب أن تأخذ حقها بعلم وعدل، لأن المشروع الإسلامي يستمد قوته وعمقه في المجتمعات المسلمة من انطلاقه من الإسلام وأحكامه، وبقدر ما يبتعد عن ذلك بقدر ما يتخلى عن ميزته وخاصيته، فلا معنى لبقائه (مشروعًا إسلاميًا) وهو قد تخلى عنه، وهذا ما دفع بعض الإسلاميين ليطالب بإعادة التقسيم بدلًا من ثنائية إسلامي وغير إسلامي، إلى وطني وغير وطني، أو إصلاحي ومحافظ، ونحو هذه التقسيمات التي تترجم إشكالية تخلي بعض الإسلاميين عن ميزتهم الإسلامية فما عاد ثم معنى لاحتكارهم لاسمٍ ليس له أثر يذكر! وهذا المشهد يقتضي مزيد العناية بتعميق الأصول الشرعية، ودفع الإشكالات المثارة عليها، وتصحيح الرؤى المنحرفة عنها، وتبصير الناس بالحدود الفاصلة بين الاجتهاد السائغ في الشريعة الإسلامية والاجتهاد غير السائغ، وتحديد المنهجية الشرعية الواجبة في تلقي النص وفهمه والعمل به. ولأن أكثر الإشكالات والتأويلات المعاصرة تتجه نحو الأحكام الشرعية السياسية جاء عامة ما في هذه المشاركة المتواضعة في بحث عددٍ من القضايا السياسية راجيًا أن يكون في ذلك شيء من المساهمة في تعميق حاكمية الشريعة التي بها صلاح كافة شؤون العباد في فى دينهم وفى دنياهم. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

مدخل التحريف المعاصر

مدخل التحريف المعاصر رأيته في أحد الحوارات حول بعض الأحكام الشرعية يكرر مرة بعد مرة (لا يمكن أن تقنع الناس بهذا)، وهذا (يقنع الناس بسهولة)، وهو (شيء مرفوض عند الناس). . يعيد هذه العبارات في سياق دعم القول الذي يميل إليه أو إضعاف الرأي المقابل. لفت نظري تكرار مضمون هذه الكلمة (لا يمكن أن تقنع الناس بهذا) فشدني إلى التفكير فيها: ما علاقة معرفة (الحكم الشرعي) بكيفية (إقناع الناس) به؟ إن هدف الحوار في الأحكام الشرعية أن تبحث عن الدلائل والبراهين التي تقطع من خلالها أو يغلب على ظنك أن هذا هو الحكم الشرعي، وأن هذا هو المعنى الأقرب لدلائل الكتاب والسنة، وأما إقناع الناس أو بعضهم بهذا الحكم فهو مرحلة تاليةٌ لمعرفة ما هو الحق، فالمطلوب أولًا أن تعرف ما هو الحكم ثم تأتي بعد ذلك الطرق والأساليب الإقناعية المناسبة.

مدخل التحريف المعاصر حين تكون مهمومًا بـ (كيفية الإقناع) في الوقت الذي لم تحرر فيه الحكم جيدًا، فإن الحكم حينها لن يكون تبعًا للدلائل والبراهين، بل سيكون متأثرًا بكيفية الإقناع، فيميل الشخص في اختياره إلى ما هو أسهل وأيسر في إقناع الناس وليس إلى ما هو أقرب إلى مقصود الشارع. يأتي هنا سؤال مشروع يعترض قائلًا: إن الحكم الشرعي لا يمكن أن يخالف العقل والمنطق الصحيح، فلو كان حكمًا شرعيًا حقًا لكان مقنعًا وعقلانيًا، ومجيء الحكم على غير ذلك دليل على وجود خلل. هذا السؤال يستحضر أن (اقتناع الناس) هو مساوٍ للعقل والمنطق، فما أقنعهم فهو دليل عقلي تام، وما لم يقنعهم فهو باطل، فيجعل وسيلة إقناع الناس هي من قبيل الأدلة العقلية التي لا تخالفها الشريعة، وهذا التصور فيه فجوات هائلة في فهم الدليل العقلي يتضح ذلك بسرد هذه المعاني المهمة: أولًا: أن إقناع الناس يتطلب مهارات ذاتية وقدرات فكرية تستطيع من خلالها إيصال الفكرة بوضوح وجلاء، وهذا أمر لا يتهيأ لكل أحد، فليس كل من يعرف الأحكام الشرعية متمكنًا من هذه المهارات ليستطيع إقناع الناس بجميع هذه الأحكام، فعدم القدرة على الإقناع يرجع في حالاتٍ كثيرة إلى نقصٍ في الأدوات وليس إلى خلل في الحكم. كما أن كثيرًا من الأحكام تتطلب علومًا إضافية يتمكن المسلم من خلالها من إقامة البراهين على مصلحة الحكم وفائدته، فمثلًا يستطيع عامة الناس بيان حكمة

الشريعة في حرمة الربا، لكن القدرة على إقناع الناس بتحريم جميع صور الربا تحتاج إلى معرفة اقتصادية لا يحسنها أكثر الناس، فعدم قدرتهم على إقناعنا بتحريم الربا راجع لنقص كفاءتهم، فليس من المنهج العقلي السوي أن يحذف المسلم بعض أحكام الربا لأنه لم يستطع إقناع الناس بها، ولك أن تسرح بذاكرتك فتسحب منها أمثلة كثيرة تحتاج في سبيل الإقناع بها إلى فهمٍ جيد لعدد من العلوم المعاصرة. ثانيًا: لا يلزم المسلم أن يُبلِّغ الأحكام الشرعية لجميع الناس في كل زمان ومكان، فمن يدخل في الإسلام حديثًا لن تبلغه بجميع الأحكام الشرعية؛ لأن هذا قد يكون سببًا في تنفيره من الإسلام، وحين تدعو كافرًا إلى الإسلام فليس من الحكمة أن تشرح له كثيرًا من تفاصيل أحكام الإسلام، فهذه أحكام شرعية ثابتة ولا إشكال فيها، لكن قد يأتيها زمان أو مكان أو حالة معينة تقتضي أن لا تظهر الحكم خشية من المفسدة، ولهذا قال الصحابي الفقيه عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-: (ما أنت بمحدثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) (¬1). وقال الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّب اللَّه ورسوله) (¬2). فموضوع الإقناع تراعى فيه الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص، فهو حالة منفكة تمامًا عن تحديد الحكم الشرعي، فهو حكم شرعي ومع ذلك لن تستطيع إقناع فئةٍ من الناس به. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (127).

ثالثًا: أن اقتناع الناس ليس مرتبطًا بالدليل العقلي فقط، بل هو يتأثر بعوامل نفسية وبيئية كثيرة جدًا، فقد يعجز المصلح عن إقناعهم بالحكم نظرًا لتمكن هذه العوائق وليس بسبب خللٍ في الحكم. لهذا تجد أن رسالة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بدلائلها وبراهينها القاطعة لم تكن مقنعة لكثيرٍ من الناس {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الفرقان: 41]، وأصبحت نظرات السخرية والتندر تلاحق أتباعه عليه الصلاة والسلام {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)} [المطففين: 29 - 30]. كما أنهم صاروا يعارضون القرآن ويضعون شروطًا كثيرة حتى يقتنعوا {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31]، {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)} [الإسراء: 90 - 91]، {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]. ومع ذلك فلم تحقق لهم الشريعة تلك الشروط التي يريدون. فاقتناع الناس تؤثر فيه أهواء وأمراض وشهوات وعادات كثيرة، فاستحضار ضرورة إقناعهم في حال تحرير الحكم الشرعي وبيانه يغبش عين المسلم عن إدراك هذه الحقيقة الناصعة. لهذا؛ فليس من واجب الدعوة ولا معيار نجاح الداعية أن يؤمن الناس أو يعملوا بالحكم أو يقتنعوا، وإنما هو البلاغ والنصح والبيان {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي

مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. رابعًا: أن اقتناع الناس يتأثر بشكل كبير بالرفق واللين والإحسان والمعروف، وهذه كلها معانٍ خارجة عن الحكم الشرعي، فقد يرفض بعض الناس قبول بعض الأحكام ثم يقبلونها بسبب حسن تعامل الداعية أو إحسان منه، وهذه كلها معانٍ لا تجعل الحكم حقًا ولا باطلًا، ومع ذلك جاءت بها الشريعة وحثت عليها؛ لأن لها تأثيرًا في إصلاح الناس، بما يجعلك تضع قاطعًا يفصل بين (الحكم) و (الاقتناع به). خامسًا: أن موافقة الشريعة للعقل لا تعني أن تكون كل أحكامها متفقة مع العقل عند جميع الناس، فقد يخفى على بعض الناس شيء من أحكامها، أو تحتاج لبحث أو سؤال أو نظرٍ أو وقت، فتعليق الحكم بموافقة عقل الإنسان هو ضعف تسليم لأمر اللَّه وأمر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لأن الإشكال حينها ليس مع (العقل)، بل مع رأي هذا الإنسان ومستواه العقلي، فالمقابلة حينها ليست بين (الشرع) و (العقل)، بل بين (الشرع) و (رأي هذا الإنسان)، هذا مع ما يظنه الإنسان هو العقل، فكيف إن كان متعلقًا بكيفية إقناع الناس فقط؟ إذن، لا بد أن يضع المسلم في فكره قاطعًا فاصلًا بين (معرفة الحكم) و (كيفية إقناع الناس) به، وأن قناعات الناس ليست هي الدليل العقلي، بل هي ترتبط بأمور كثيرة خارجة عنه، فلا يصح أن تدخل هذه العوامل في أساس الحكم فتحرفه وتعبث به.

ستقول لي: وما فائدة التأكيد على مثل هذا الكلام؟ في المشهد الثقافي المعاصر نماذج كثيرة لآراء مختلفة مال إليها بعض الناس، ليس بسبب براهينها بقدر كونها (أقرب) و (أسهل) في الخطاب الإعلامي. فحتى لا يثار موضوع (التمييز الطائفي) صار يقال: لا فرق بين المسلم وغيره في الأحكام السياسية! وحتى لا يزعجوك بـ (الحريات) تقول الحرية الدينية مكفولة مطلقًا ولو بالردة أو محادة الشريعة! وحتى تتجاوز إشكاليات بعض الناس مع تحكيم الشريعة تقول هو خيار الناس وسيادة الشعب! وهكذا، يشعر بعض الناس بارتياح ونشوة انتصار حين يتجاوز جميع الإشكالات التي يثيرها خصوم الإسلام، ويتوهم حينها أن هذا الخطاب أقنع وأقدر على نصرة الإسلام، وهو في الحقيقة تحريف وعبث بالإسلام وأحكامه، فدوري أن أقنعهم بأحكام الإسلام لا أن أضع لهم أحكامًا مقنعة أيًا ما كانت. خطابنا الإسلامي المعاصر يواجه إشكالية عميقة وضخمة في كيفية تقديم خطاب إسلامي مناسب مع عدم تجاوزٍ للأحكام الشرعية، لأنه في النهاية محاصر بترسانة إعلامية غربية معادية ومتربصة للعاملين للإسلام، تقف في ذيلها قوى ليبرالية وعلمانية أشد عداوة وتربصًا، إلى ركام عميق من التغريب والإبعاد عن هوية الأمة، وهذه كلها تحديات، يسلك كثير من الناس مسلك السلامة فيكتفي بتصوير الأحكام الشرعية بما لا يثير الثقافة الغربية وبما لا يزعج التيارات الليبرالية

والعلمانية، وهي طريقة وإن تظاهر أصحابها بالاجتهاد والعقل والتجديد إلا أنها -في الحقيقة- طريقة كسولة لا تتجاوز إعادة تسويق للمنتجات الغربية، بينما الاجتهاد والتحدي الحقيقي هو في المحافظة على الثوابت الشرعية والاستمساك بها وتقديم خطاب عقلاني مقنع في ظل جو يعاديه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. الإشكال العميق أن خطاب (الإقناع) صار -عند بعض الإسلاميين- إقناعًا يراعي المزاج المناسب للفضاء الإعلامي، فتجد بعض الإسلاميين يبدو في غاية الحرص أن لا يخدش أي حاجزٍ يزعجهم، ويسعى لتقريب الأحكام إلى أقرب مساحة ممكنة ترضيهم، ويجتهد غاية الاجتهاد في أن يقتصر على الخطاب المشترك وإن أتت المفاهيم الدينية نطق بها فلا يكاد يبين! فيستحضرون هذه (الشرذمة) المنافية لهوية الأمة وثقافتها وينسون عموم الناس وجماهير المتعلمين الذين ينتفعون ويتعلمون ويتأثرون ويميلون عادة إلى اتباع أي حكم ظهر لهم أنه هو حكم الشريعة، غير أن مراعاة أمزجة هذه (القلة) تكف أعين بعض المتحدثين عن استحضار عموم الناس وقت الخطاب. إن ثمّ تغيرات وضرورات في الواقع تقتضي عدم القدرة على تطبيق كل الأحكام الشرعية بما يستدعي التدرج في بعضها، وتأجيل بعضها، ومن المهم في هذه الجزئية أن لا يكون العجز عن بعض الأحكام سببًا لتحريف الحكم بالكلية مراعاة لخطاب الإقناع، كما يمارسه -للأسف- بعض الإسلاميين، فالشريعة حسب خطابهم تكفل حرية الرأي مطلقًا ولو صادمت أصول الإسلام! ولا إلزام في أحكام الشرع إلا برضا الناس واختيارهم؛ لأنه لا إكراه في الدين! ومن حق

المرأة أن تلبس ما تشاء!. . . إلى آخر أمثال هذه الأقوال الشائعة التي تراعي تقديم خطابٍ مقنع منسجم مع المزاج الإعلامي والسياسي، لكنها -وبكل وضوح- تفتري على اللَّه الكذب {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]. هل في كل هذا أى تهوين من أهمية إقناع الناس؟ كلا، بل يجب على دعاة الإسلام أن يفكروا كثيرًا في كيفية إقناع الناس، ويجتهدوا غاية الاجتهاد في تحديد المداخل المؤثرة في إقناع الناس بالحكم الشرعي، ويستفيدوا من كافة المهارات والأدوات المعاصرة، لكن هذا كله يجب أن يكون إقناعًا بالحكم لا تحريفًا للحكم لأجل أن يقتنعوا به، وأما مراعاة المزاج السياسي والإعلامي واستحضار الفئات المعادية للإسلام ومحاولة جذب الاستحسان الغربي؛ فهو أحد المداخل الأساسية المهمة التي يلج فيها الإنسان المعاصر إلى تحريف الشريعة والعبث بها ولو كان في نفسه فاضلًا أو حسب أنه بفعله هذا قد خدم الإسلام وأحسن صنعًا.

ضغط اللحظة الراهنة

ضغط اللحظة الراهنة كانت قضية (المعجزات) في مرحلة زمنيةٍ قريبة من أسخن القضايا التي أربكت عددًا من المؤلفين في الفكر الإسلامي المعاصر. قبل هذه المرحلة، ما كان مكوث قضية المعجزات في دائرة القضايا الشرعية البدهية يثير أي إشكال، حيث إنها من دلائل صدق الرسل -عليهم الصلاة والسلام- كما قال ربنا -تعالى- عن موقف كثيرٍ من الكفار {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] وقد قصَّ اللَّه -تعالى- في القرآن الكريم عددًا من معجزات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كمعجزة موسى وعيسى -عليهما الصلاة والسلام- قال -تعالى-: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه: 69] وقال أيضًا: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] كما اختص نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بمعجزات كثيرة تضافرت في تأكيدها الروايات الصحيحة.

كان القلق ناتجًا من هبوب موجة استنكارات عنيفة من المثقفين الغربيين على المعجزات التي لم يتقبلها العقل الغربي، فهي لديهم أقرب لفكر الخرافات والأساطير التي تجاوزها الزمان، فما عادت مستساغة في زمن تأليه العقل، وتقديس الفكر المادي التجريبي، غدت معه المعجزات مادة تندُّر واستهجان من رجالات الغرب، وكنز أسئلة يلاحقون بها من يلتقون به من العلماء والمثقفين المسلمين. هذا المزاج الغربي صاحبه حالة إلحاد وجحود عن الدين لدى أوساط كثير من المثقفين المسلمين، بما عزز في وعي كثير من المؤلفين ضرورة تقديم خطاب عقلاني مناسب يحفظون به الدين الإسلامي من سياط النقد الغربي، ويحمون شباب الإسلام من التفلت عن الدين، فكان لا بدَّ من إعادة قراءة التراث الإسلامي؛ لتخليصه من قصص المعجزات التي غدت معيبة في تلك اللحظة. كتب حينها محمد حسين هيكل كتابه الشهير (حياة محمد) جرَّد فيه سيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من كافة الآثار والسنن الواردة في معجزاته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وجعل معجزته الوحيدة هي القرآن الكريم فقط، وقد قدَّم له أحد العلماء المشهورين ووافقه فيما ذهب إليه. وأما الروايات الصحيحة فلا اعتبار لها لأن (مضرة الروايات التي لا يقرُّها العقل والعلم قد أصبحت واضحة ملموسة) (¬1). فضرورة الواقع تفرض تجاوز مثل هذه الأخبار (ولو أنهم -أي رواة الحديث- عاشوا إلى زماننا هذا ورأوا كيف اتخذ خصوم الإسلام ما ذكروه منها حُجَّة على الإسلام وأهله لالتزموا ما جاء به القرآن الكريم) (¬2). ¬

_ (¬1) حياة محمد، 54. (¬2) حياة محمد، 54.

وكان المزاج العصري الرافض لقضية المعجزات حاضرًا حتى في تفسير آيات القرآن الكريم، فالآيات التي تتضمن معجزات سابقة يتم التعامل معها بطريقة تزيل عنها وصف الإعجاز حتى تكون حكمًا معتادًا على وفق سنن الطبيعة، كمثل تفسير هلاك الفيل بالطير الأبابيل الوارد في كتاب اللَّه {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 3 - 5] بأنها جراثيم الطاعون إذ لا مانع من تسميتها طيورًا، أو أنهم قد أصيبوا بمرض الجدري أو الحصبة حتى ماتوا، فالطير الأبابيل إنما هو بعوض أو ذباب ناقل للأمراض (¬1). وحتى ما لم يصبه التحريف من المعجزات السابقة، فلم يسلم من حال التهوين منها كتفسير المعجزات السابقة بأنها أدلة مناسبة لضعفاء العقول؛ فكانت المعجزات (لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتق عقولهم إلى فهم البرهان) (¬2). وعلى نفس المنوال جرى الكلام على بقية المعجزات الواردة في القرآن الكريم، وتبع ذلك تأويل عدد من المغيبات التي لا يتقبلها المزاج المادي الغربي كتأويل الملائكة بأنها قوى وأرواح مودعة في الكائنات الحية وهي قوى الطبيعة، وتأويل الشيطان بأنه ما يدفع إلى الشر، ومن النتيجة البدهية بعدها أن يتم تأويل وإنكار أخبار الدجال والسحر ونزول عيسى وأشراط الساعة وغيرها (¬3). هذه الحال آلمت عددًا من العلماء الذين شعروا أنها حال عبث وتحريف لأحكام الإسلام، وجزموا بأنها ثمرة انهزام أمام مدَّ الثقافة الغربية، فكتب في تلك الحقبة ¬

_ (¬1) انظر بعض هذه الأقوال في منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير للدكتور فهد الرومي، 724 - 722. (¬2) تفسير المنار، 1/ 315. (¬3) انظر عددًا من هذه التأويلات في: التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان أمامة، 394 - 400.

بكل قوة وثبات شيخ الإسلام مصطفى صبري موسوعته الشهيرة (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين) ومن الملفت للنظر أن أغلب مباحث هذا الكتاب كانت في مناقشة قضايا الغيب والمعجزة بما يكشف عن حجم القلق الذي تثيره هذه القضية في تلك المرحلة. لم تكن الحركة النشطة آنذاك لتأويل المعجزات نابعة من رفضٍ للشريعة أو انتقاص من مكانتها؛ بل ظاهر جدًا أن الحفاظ على الإسلام والدفاع عن حرماته، والخوف عليه وضرورة تقديم صورة حسنة إلى الغرب هو الهاجس العميق الذي كان يسكن قلوب كثيرٍ ممَّن تأثر بهذه الموجة، فهم يشعرون كما يقول السيد رشيد رضا: "إن المعجزات هي من منفرات العلماء عن الدين في هذا العصر" (¬1). وكانت قلوبهم معلقة بهداية الغربيين، ولو وصل ذلك إلى تجاوز خطير بلغ حدَّ القول: "إنه لولا حكاية القرآن الكريم لآيات اللَّه التي أيدَ بها موسى وعيسى -عليهما السلام- لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر واهتداؤوهم به أعمُّ وأسرع) (¬2). طبعًا هذا لا ينفي خضوع العقل لسطوة المفاهيم الغربية لحد القول (ممَّا يدلُّ على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات تكذيب علماء أوروبا بكل المعجزات السابقة وهو وإن كان تهورًا منهم إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه للاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي) (¬3). ومضت تلك الحقبة، ورصد التاريخ مقولاتها وإشكالاتها التي تكشف عن طبيعة المؤثرات التي كانت توجه الفكر الإسلامي. ¬

_ (¬1) تفسير المنار، 11/ 155. (¬2) تفسير المنار، 11/ 159. (¬3) الإسلام والمدنية لفريد وجدي، 71 - 72 نقلًا عن منهج المدرسة العقلية الحديثة، 549.

فتش الآن عن حضور قضية المعجزات في الفكر الإسلامي المعاصر، هل سؤال المعجزة من القضايا القلقة والأسئلة المشكلة التي تتزاحم الدراسات والمؤتمرات في مناقشتها وإزالة الشبهات عنها؟ المسلم المعاصر الآن يدرك بوضوح أن هذا السؤال -وإن بقي حاضرًا عند بعض الفئات- ما عاد له ذاك التأثير، ولا تكاد كثير من البحوث والدراسات الإسلامية المعاصرة تتطرق للموضوع من الأساس، وربَّما يشدُّ المسلم حاجبيه متعجبًا من حال التحفز والتعسف في تأويل المعجزات، فلا يجد في الأمر ما يستحق كل هذا. إنه قلق مرحلة زمنية، وضغط حال مؤقتة، ضعف دافعه فذهبت معه كافة الإشكالات المصاحبة له. وعاش الفكر الإسلامي بعده مراحل زمنية أخرى انتعشت فيه قضايا أخرى وأحدثت من الإرباك ما أحدثته المعجزة في تلك الفترة، فجاءت قضية الاشتراكية والقومية وغيرها، وتكرر في كل قضية منها نفس المشهد: تشكيك في الأحكام الشرعية المعارضة لهذه الهزات المؤقتة، يتبعه استنكار شائع، ثم حركة تأويل وتعسف من قبل بعض الناس، ثم لا يسلم بعض أهل العلم والفضل من الوقوع في الخطأ والتحريف. حين تضع هذه الصور التاريخية أمام عينيك وتدقق النظر فيها يتجلى لك هذا المعنى العظيم: ضرورة (الاستمساك بالأصول الشرعية والمحكمات الإسلامية) وأهمية (التماسك المنهجي في الأخذ بأحكام الإسلام) وألا يخضع المسلم لضغط مرحلة زمنية ما، فتكون سببًا لتحريف الأحكام والعبث بالتصورات وإحداث أشكال التلفيق بين مفاهيم الإسلام والمفاهيم المزاحمة، فالعبرة باتباع الحق وليس بموافقة

المزاج العام، فهذا المزاج والجو العام عرضة للتقلبات السريعة والهزات العنيفة فلا يليق بمَن يعظَّم كتاب اللَّه وسنة رسوله (صلى اللَّه عليه وسلم) -خاصة من أهل العلم المؤتمنين على بيان الشريعة- أن يكون ضغط هذا المزاج مؤثرًا على تصوراته ومفاهيمه الشرعية. إنك حين تتحدث عن قضايا شرعية فأنت تتحدث في الدين الذي يريده اللَّه للناس جميعًا، فلا تكن حبيس اللحظة الراهنة التي تعيشها، ولا أسير الفضاء الذي يحيط بك، فلعل من يقرأ كتابك ممن يعيش في أزمنة لاحقة وأمكنة مختلفة هم أضعاف من قرأه وكان متفهمًا لحالة القلق التي عاشها الكاتب، وربما هذا يفسر بعض حالات الشذوذ الفكري والفقهي التي نستنكرها ونتعجب من صدورها. إن الرؤية التي تكون أمام منظار المسلم هي (البحث عن مراد اللَّه ومراد رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-) وخارطة التفكير لديه يجب أن تكون في كيفية السير خلف الدلائل الشرعية، والابتعاد عن أي صوارف عارضة. فالمنهج الشرعي في إصابة الحق ليس مرتبطًا بالكثرة قال -تعالى-: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] وقال أيضًا: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103] ومن المفاهيم المتقررة في وعي المسلم مفهوم الطائفة المستمسكة بالحق التي: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر اللَّه) (¬1) ومن مأثور الصحابة: (الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك) (¬2) فرسوخ هذا المعنى في وعي المسلم يجعل البحث عن الحق هو المعيار الوحيد الذي يبدد كل المؤثرات التي تضغط على العقل المسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري برقم 3641، ومسلم برقم 1920. (¬2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 46/ 409، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/ 109.

إن ثم عوارض كثيرة تصرف المسلم عن إصابة الحق، ومن المهم أن يجتهد كل مسلم في محاولة التخلص من كافة دوافعها قدر المستطاع، ومنها العوارض المتعلقة بالواقع الذي لا يتقبل بعض الأحكام الشرعية، فمثل هذا الواقع يدفع المسلم لئن يتخففَ من بعض الصرامة العلمية الواجبة، وهو من جنس الهوى الذي نهت الشريعة عنه قال -تعالى-: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. إن الدفاع عن الإسلام، وضرورة تقديم صورة حسنة له، وضرورة حماية الشباب من الانحراف هي مقاصد نبيلة وغايات شريفة؛ لكنها لا تبرر التهاون في تحريف أي حكم شرعي، كما أن التحرز من ضغط اللحظة الراهنة لا يعني إهمال الاجتهاد المبني على المنهج الفقهي في الوقائع المتجددة للنظر في متغيراتها وأوصافها المؤثرة، وما يطرأ عليها من ضرورة أو حاجة، فهذا اجتهاد في الواقع وليس خضوعًا لضغط لحظة راهنة. ضغط اللحظة الراهنة موجود في كل زمان ومكان، وهو دافع عميق لتجاوز عدد من الأحكام الشرعية التي لا تنسجم مع اللحظة الراهنة، ليس لأن الدليل لا يدل عليها، ولا لأن العقل لا ينصرها؛ بل لأن المزاج العام لا يجعل لدلائلها ذاك الوهج المقبول، فيجد المسلم ضغطًا عميقًا في نفسه، يجعله يتخفف من الصرامة العلمية ومنهجية التحري والتدقيق المطلوبة، فإنْ كانت لمن قبلنا لحظات مع المعجزات والاشتراكية والقومية، فإن لحظتنا الراهنة قد اندفعت نحو مفاهيم أخر، ما زالت تمارس عبثها في عقول كثير من المسلمين، فأعملوا عقولهم في أحكام الإسلام تلفيقًا وتأويلًا وتغييرًا برؤية غير علمية، ولا منسجمة مع الأصول والقواعد الشرعية، وهي مرحلة زمنية لا بدَّ أن تنتهي فيتضح من كان سائرًا مع النص وبراهينه ودلائله ممَّن وقع تحت أسر ضغط لحظةٍ راهنةٍ قد انتهت!

البيئة الحاضنة للانحراف

البيئة الحاضنة للانحراف هل يظن أحد أنه فى مأمن عن الانحراف بعد أن يقرأ هذا الخبر؟ كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يكثر من الدعاء بـ "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، ولما سئل عن سبب ذلك قال: "إنه ليس آدمى إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع اللَّه فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ" (¬1). وكيف لا تأخذ الخشية مجامع قلب المؤمن وهو يقرأ قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده: 19/ 160، والترمذي: 5/ 538 برقم (2140) وحسنه، والنسائي: 4/ 14 برقم (7690)، وابن ماجه: 2/ 1260 برقم (3834) وصححه الحاكم في المستدرك: 1/ 524. (¬2) أخرجه البخاري برقم (3332) ومسلم برقم (2643).

فلا أحد في مأمن أن يتعرض للابتلاء في دينه؛ إلا أنه شتان بين من يبذل الأسباب الموجبة للثبات والحفظ والنجاة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. ومن يفتح على قلبه ذرائع الشكوك ودوافع الشبهات {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]. وهذا يدفعنا للحديث عن السؤال المهم هنا: ما هذه الدوافع والذرائع التى قد تكون سببًا لهذا الانحراف؟ لا يمكن لأحد أن يختصر وقائع الانحراف عن الإسلام والمروق من تكاليفه في سبب محدد؛ فمن طبيعة الظواهر أن تكون مؤلفة من مجموعة أسباب مركبة وظروف مختلفة تتكامل في تشكيل الظاهرة؟ غير أن ثَمَّ عاملًا محوريًا وأساسيًا في هذه الظاهرة يتبدى جليًا عند النظر في أكثر حالات هذا الانحراف، هذا العامل هو وقوع الإنسان في بيئة حاضنة للانحراف تغذي في نفسه دوافع الانحراف وتفتح ذرائعه وتخلخل الأصول الفكرية التي تشد المسلم ثم ترمي به في مهبِّ ريح الضلالات تعبث به كما تشاء. بيئة الانحراف الحاضنة هذه تتميز بثلاث خصائص أساسية: الخاصية الأولى: التشكيك في اليقين، والتزهيد به، وتعظيم الشك والتساؤل الفوضوي والبحث العبثي؛ حيث يشعر الشاب باستخفافٍ من أي منهج أو كتابة ذات رؤية يقينية، ويشعر أن اليقين نابخ عن ضعف الوارد ونقص الذكاء والفهم وقلة الاطلاع والثقافة، بخلاف الشاك المتوقد ذكاء وفهمًا بما يجعله قادرًا على الخروج عن النسق السائد ومحاكمة الأصول اليقينية التي لا يجرؤ عموم الناس عن الاقتراب منها لجهلهم وسذاجتهم.

هو فضاء محبَّب لبعض النفوس تشعر من خلاله بتميُّز وتفرُّد عن بقية الناس، مع أن حقيقة الشك أنه ليس بشيء؛ وغاية أمره أن الإنسان في بحث عن الطريق الصحيح لكنه -قطعًا- ليس على الطريق الصحيح ولم يصل إليه، وبناءً على أصله المنهجي فلن يصل إلى اليقين أبدًا، بل سيبقى في دوامة الشكوك إلى ما لا نهاية. فالشك حالة نقص يجب أن يتخلص منها الإنسان إلى اليقين، وقبل وصوله إلى الطمأنينة فهو في مرحلة حيرة وضياع لا يُحمَد عليها الإنسان. وتعجب حين تجد بعض الناس يكرر أن الشك طريق إلى اليقين! فما أدري ما حاجة المسلم إلى الشك وقد وصل إلى اليقين؟ اللهم إلا أن يكون لدى المسلم شك في دينه وعدم جزم بحقيقته؛ فهذه قاعدة من لا يعرف اليقين ولا يجد طريقًا صحيحًا إليه؟ فعجبًا كيف تسربت إلى بعض المسلمين الموقنين! الخاصية الثانية: تفكيك عوامل الثبات الفكرية المستقرة في نفس الشاب، فتزدحم في رأس هذا الشاب الأسئلة والإشكالات والمقولات التي تطعن في أصوله الشرعية المنضبطة، وتستهين بمنظومة براهينه العقلية والنقلية، ويتواصل دفع سيل هذه الأسئلة حتى تشق في قلب الشاب أودية الحيرة والاضطراب والارتباك حول تدوين القرآن، وحجية السنة، وفهم النصوص، ومسائل الإيمان والكفر، والموقف من الصحابة. . . إلخ. هذه القضايا التي تقررت عند أهل السنة وحُررَت مباحثها، وكتب في تقرير أصولها ودفع الشبهات عنها ما لا يحصر من الدراسات، فكثرة هذه الاعتراضات تضعف ثقة الشاب بها، وتوهن في قلبه الاعتزاز والاستمساك التام بها، والأشكالية الأكبر أنها تغرس خنجر الحيرة في روح هذا الشاب؛ فلا هو

الذي تمسك بأصوله المعرفية، ولا هو الذي تبنَّى أصولًا معرفية بديلة عنها؛ وإنما نجحت في خلخلتها في نفسه، فأصبح بعضهم يؤمن بها نظريًا وإن كان في الحقيقة لا يعتمد عليها كثيرًا، وهذا ما يفسر لك أن كثيرًا من الشباب يقرر هذه الأصول ثم يتبنى ما يخالفها في نفس اللحظة! الخاصية الثالثة: الانفتاح الفوضوي، والاطلاع العبثي على كافة الدراسات الفلسفية والفكرية التي تقوم على منظومات فكرية مختلفة، لا تعتمد على مرجعية النص الشرعي ولا تعلي من مكانة الخطاب القرآني والنبوي، من دون أن يكون لدى الشاب حصيلة كافية لمحاكمة هذه الدراسات وإدراك جذورها واكتشاف مكامن القوة والضعف فيها، فيسقط الشاب سريعًا عند أول قراءةٍ فيها، ليس لقوة هذه الدراسات، إنما لضعف المحل الذي نزلت عليه. ويزيد الإشكالية أن الشاب يُقبِل عليها بنفسية المعظِّم لها، الذي يعتقد بعبقرية أصحابها، وقدراتهم البحثية الهائلة، وهو ما يجعله مهيأ نفسيًا لقبول أي معلومة والتسليم لأي نتيجة، فهو منكسر خاضع لها أيًّا ما توجَّهَت به؛ ولهذا تجد وَلَعَ بعض الشباب بتكرار بعض المقولات الفلسفية الهزيلة التي لا يحسنون كثيرًا شرحها وبيانها. كما أن الشاب يُقبِل عليها وقد امتلأ قلبه بأهمية الاستقلال والثقة التامة بالعقل وضرورة الشك في كل القطعيات ونحو هذه الدوافع التي تتضخم في ذاته فتجعله يستهين بنعمة اليقين الذي أنعم اللَّه عليه، ثم يجد نفسه بعد هذا نافرًا من قراءة القرآن وتدبُّره، مستخفًّا من الوعظ والتذكير، بعيدًا عن التضرع والانطراح بين يدي اللَّه، وهو ما يجعله خليقًا بالخذلان والحرمان.

وحين يقول بعض الناس: إن الإسلام والحقَّ قوي ببراهينه فلا يُخَاف عليه. فهو لا يفقه أن الإشكال ليس مع الحق ولا مع الإسلام، الإشكال مع هذا الشاب الذي قد يسقط لأنه لم يفهم حقيقة الإسلام، وما امتلأ قلبه بالتسليم والانقياد له، ولأنه قد وقع ضحية غش فكرية بتحريضه على دراسات فكرية لا يستطيع أن يحاكمها فكان دورها أن تكسر أرضية الثبات لديه ليخرج منها حائرًا لا يلوي على شيء. هذه العوامل الثلاث (التزهيد في اليقين، تفكيك الأصول الشرعية، الدفع نحو الانفتاح الفوضوي) هي البيئة الحقيقية للانحرافات التي تعصف ببعض الشباب، وهي بيئة حاضنة تهيئ الشاب للانحراف، وتجعل روحه محلًا قابلًا للتصورات الفاسدة. هل معنى هذا أن الانفتاح بالقراءة والثقافة والاطلاع بيئة حاضنة للانحراف؟ بالتأكيد لا، بل إن القراءة والاطلاع مما يزيد الإنسان علمًا وعقلًا وفهمًا ويقوي من أدواته البحثية والفكرية، وكثير من علماء الإسلام ودعاته هم من أكثر الناس قراءة واطلاعًا على كافة العلوم. إنما الخلل من جهات ثلاثة: 1 - التركيز على القراءات الفكرية والفلسفية المقتصرة على التشكيك والتشغيب على الثوابت والمحْكَمَات، وهي ذات فائدة يسيرة في خضم مفاسدها ودوامة شكوكها، وإهمال الفضاء المعرفي الواسع من علوم الاقتصاد والسياسة والتربية والإدارة والقانون وبقية العلوم التجريبية وغيرها.

2 - الضعف العلمي الذي يبتدئ معه الشاب بالقراءة المباشرة لدراسات دقيقة في الفكر والفلسفة من دون أن يكون لديه أي مخزون معرفي يستطيع به محاكمة هذا النتاج المتخصص. 3 - إضعاف نفسية الشاب بتفكيك أصوله والتشكيك فيها، وتضخيم مثل هذه الدراسات، وتعظيم عبقرية أصحابها، وهو ما يجعله يستسلم لها سريعًا، فيأنف بعقله أن يقلد علماء الإسلام وأئمته الكبار ليقلد -بكل ثقة واستقلال- طائفة من الحيارى التائهين. حين تجتمع هذه الخصائص الثلاث فإنك تكون في محضن بيئة دافعة للانحراف، أيًا ما كانت هذه البيئة؛ فقد تكون قناة فضائية أو صحبة معيَّنة أو منتدى ثقافيًا أو مدرسة أو أي شيء آخر؛ فهي تهز أصول الشاب، وتسخر من يقينه ثم ترمي به في مزالق المنظومات الفكرية المختلفة بعد أن فككت مرتكزاته الفكرية التي كان يعتمد عليها، ثم لا يدري أحد بعدها عند أي منحدر انحراف سيقف. أعرف أن ثَمَّ من يهز شفتيه استخفافًا من أي حديث عاقل يتحفظ من الانفتاح الفوضوي؛ بدعوى أنه خطاب تجاوزه الزمن لأن الانفتاح الآن لا حدود له ولا يملك أحد أن يسيطر على قراءة الشباب. حقًا، لا يملك أحد أن يسيطر على قراءات الشباب، لكنه يملك أن يُظهِر لهم نصحَه وشفقتَه ويعلن لهم المآلات التي تسير إليها خطواتهم، لتستجيب لها فئة (لعلها هي الأكثر) ولتكون الفئة الأخرى على حيطة من أمرها قبل أن تحكى في أخبارها الذكريات، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.

من (السلامة). . . إلى (الغل)!

من (السلامة). . . إلى (الغل)! ينشأ المسلم وهو يجد هذه المعاني تتعزز في نفسه يومًا بعد يوم، يتلقاها في البيت والمسجد والمدرسة، ينمو في قلبه حب الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وتوقيرهم، ويعتاد لسانه على الترضي عنهم وذكرهم بالخير، وتألف نفسه كمال الأدب معهم، والكف عن أي شيء يسيء لمقامهم. أثمرت هذه التنشئة الإسلامية مكانة عميقة في نفوس الناس للصحابة، تشتعل غضبًا ضد أي إساءة تنال أحدًا منهم. وحتى يبقى القلب في كمال الطهارة والسلامة تجاه هذا الجيل الإسلامي الفريد جاءت وصية أعلام الإسلام الكبار بترك الخوض فيما شجر بين الصحابة -رضي اللَّه عنهم- حتى لا تنتج القراءة الخاطئة لهذه الأحداث منابت غل وضغينة في قلب المسلم تجاه صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأوصوا -لنصحهم وعلمهم- بترك الخوض في هذا الباب، فلا يتحدث فيه إلا مع الاحتياط التام في استيفاء شروط العلم

والعدل وحفظ المكانة، وبما لا يكون ذريعة للاستطالة أو فساد الفهم وسوء الظن. فأحداث الفتنة ليست شيئًا مغلقًا أو محذوفًا من تاريخ الإسلام، فلقد تكلم فيه العلماء وبحثوا تفاصيله، وأجابوا عن الإشكالات المثارة، وهذا يبدد الوهم الذي يجثم فوق صدور بعض الناس حول هذا الموقف السلفي من الصحابة، هو وهمٌ مركب يجهل حقيقة موقف السلف، ولا يفقه -في جزئه الآخر- حقيقة الدوافع والاعتبارات العقلية العميقة في هذا الموقف، ويمكن أن نستلهم بعض هذه الاعتبارات في العناصر التالية: أولًا: احتواء كتب التاريخ لخريطة واسعة من الأخبار والأقوال والتفصيلات التي رسمها إخباريون كذبة وخصوم مبتدعة، وأكثر من يخوض فيما شجر بين الصحابة لا يسلم من قبول كثير من هذه الأخبار وروايتها والبناء على مضامينها، وأكثرهم -بداهة- ليس لديهم القدرة على فحص الأخبار وتمييز صحيحها من سقيمها، بما يجعل صورة الأحداث تترسخ في وعيهم بنسختها المكذوبة التي رسمها خصوم الصحابة. ما يزال كثير من الباحثين يعتمد على هذه الأخبار، وينقل عن الضعفاء والمتروكين والوضاعين، ثم يتحدث بكل ثقة أنه يعتمد على مصادر تاريخية موثوقة، بمجرد أنه ينقل من أحد كتب التاريخ الشهيرة! لقد بحّت أصوات العلماء والمحققين وهم يحذرون مثلًا من (أبي مخنف لوط بن يحيى) ويذكرون أنه إخباري تالف متروك الرواية، حتى غدا هذا من المعلومات الشائعة، ومع ذلك فما زال كثير من المؤلفين يبني قائمة طويلة من الأحكام والتحليلات بناء على رواية محفور في أولها: قال أبو مخنف!. ثانيًا: إن الخوض في تلك التفصيلات والأخبار لا يترتب عليه أي فائدة عملية

أو ثمرة فقهية، فهي حوادث تاريخية وقعت تحت ظروف وملابسات معينة أنتجت فتنة بين الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كانوا فيها مجتهدين ومتأولين، ولا يترتب على إدراك تفاصيلها علم مستقل بأحكام شرعية أو تأثير على جانب فقهي أو علمي معين، فمن يجهل خفاياها ولا يدرك تفصيلاتها لن يمس ذلك بتاتًا أي قضية شرعية، وهذا يبدد الوهم الذي يسكن بعض الناس حين يظن أنه أمام حقبة تاريخية مخفية، وواقعة لا بدّ من إعادة قراءتها، ويشعر أنه يكتشف من خلالها مواقف شرعية مهمة، والحقيقة أن أحكام الشرع وتصورات المسلم لن تتأثر بمعرفته لهذه التفصيلات أو إعراضه عنها، ولهذا كانت وصية السلف في الكف عمَّا شجر بينهم لأنه من قبيل فضول البحث الذي لا طائل من ورائه. ولهذا قال الإمام أحمد لمن سأله عن القراءة في الكتب التي فيها ذكر ما شجر من الصحابة: لا تنظر فيها، وأي شيء في تلك من العلم؟ عليكم بالسنن الفقه وما ينفعكم (¬1). وقال عنها: هذه الأحاديث تورث الغل في القلب (¬2). ثالثًا: إن الحكم على الصحابة يتطلب عدلًا وإنصافًا وموازنة بين الحسنات والسيئات، وألا يكون أي اجتهاد أو خطأ سببًا لإلغاء ما عداه، وهذا ميزان دقيق لا يحسن أكثر الناس ضبط ميزانه، فينتج من ذلك استطالة عليهم، وبغيًا في حقهم، وإذا كان البغي والجور محرم في حق أي أحد من الناس فكيف بصحابة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ الحديث هنا عن جيل قد أثنى عليه القرآن الكريم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة: 100] {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ ¬

_ (¬1) انظر: السنة للخلال 1/ 398. (¬2) انظر: السنة للخلال 1/ 400.

بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] ووعدهم جميعًا -سابقهم ولاحقهم- بالحسنى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] وأوصانا رسولنا الكريم -صلى اللَّه عليه وسلم- بهم فقال: "لا تسبوا أصحابي" (¬1). فمن العقل والحكمة والديانة أن يتحفظ المسلم عند نظره في مواقف هؤلاء الناس الذين يتحدث القرآن الكريم عنهم بهذه الكيفية، وأن يعلي من قدرهم كما أعلى اللَّه من مكانتهم، فيتولاهم جميعًا، ويدعو لهم جميعًا، ويرجو أن يحشره اللَّه في زمرتهم، ويتحفظ من ولوج بابٍ يكون ذريعة إلى أي إساءة لمن عظَّم اللَّه حقهم. إن غياب العدل في حقهم، والعلم بحالهم، والإنصاف في تقويمهم هو الذي جرَّأ كثيرًا من المبتدعة على الخوض في أعراضهم، والنيل من مقامهم بما أنتج غلًا وكرهًا دفينًا في نفوسهم في حق صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي صفة خليق بها الكفار لا أهل الإيمان {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. رابعًا: حاجة هذه الأحداث للرؤية الشمولية التي تعرف دوافعها، وتضبط أحداثها، وهي غالبًا ما تخفى على أكثر الناس، فيقرأ الأحداث منتزعة من سياقها، مقطوعة عن دوافعها بما يجعله يفهم الموقف على غير ما كان عليه، فيقع في قلبه شيء على صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيَّر من وجهه، والصحيح فيه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري برقم 3673، ومسلم برقم 2540.

معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم ليغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم. . ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- الذين هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه. . ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم) (¬1) خامسًا: لم يقل أحد من السلف إن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كانوا معصومين، أو أن كل فعل صدر منهم فهو حجة ودليل معتبر، وحينئذٍ فأي خطأ أو اجتهاد صدر من بعضهم مما يخالف فيه الدليل فإن المسلم بداهة سيأخذ الدليل، وحينها فلا معنى للخوض في تفاصيل هذه الأخطاء وإثارة الحديث فيها مرة بعد مرة بمناسبة وبغير مناسبة، إلا شحن النفوس بالغل والضغينة عليهم، ولهذا تجد في القرآن من دعاء المؤمنين {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] فكثير من النقد الموجه لهم هو من قبيل الغلِّ ومرض القلب فحسب، وإلا فأي فائدة من الحديث عن أحدٍ من صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأجل الطعن فيه وذمه وعيبه؟ وما الفائدة من إثارة تاريخه ومواقفه وخطبه بمناسبة وبغير مناسبة، بلا تحقيق فيها ولا تدقيق، إلا أن يمتلئ قلب المسلم غلًا وحنقًا على صحابي لقي ربه من قرون طويلة؟ وربما قال بعضهم هنا: إن هذا الموقف من قبيل تقديس الأشخاص دون تقديس المبادئ، وهذا غلط بني على سوء تصور للموضوع، فلم يقل أحد بتصويب كل ما ¬

_ (¬1) العقيدة الواسطية، 120 - 121.

صدر من الصحابة حتى يقال: إنه تقديس للأشخاص وقد يضر بتقديس المبادئ، فالمبادئ واضحة ولم يقل أحد بتقديم أي شيء عليها، إنما الحديث عن تقدير الشخص وحفظ سابقته ومقامه وترك الإساءة والطعن فيه، وهذا لا يضر المبادئ في شيء، فليس من ضرورة حفظ المبادئ أن تطعن في الأشخاص أو تسبهم أو تخوض في نياتهم أو تثير الطعن فيهم بمناسبة أو بغير مناسبة. ومن الأوهام المجرئة هنا على صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- القول: إن الصحابة ليسوا بمنزلة واحدة، وإنه لا يمكن مساواة بعض من أسلم بعد الفتح بأبي بكر وعمر؟ وهذا كلام صحيح، وهو ما يقوله أهل السنة (¬1) فالصحابة درجات، وبعضهم أفضل من بعض، والتفضيل ليس فيه إساءة لأحد، إنما لا يجوز أن يكون هذا التفضيل سببًا للجرأة على أحد منهم وتهوين ذمه والطعن فيه. سادسًا: إن من يقرأ حادثة الفتنة بشكل متكامل، ولديه قدرة على تمييز الأخبار الصحيحة والسقيمة، فإنه في النهاية سيصل إلى ما وصل إليه السلف الصالح -رضي اللَّه عنهم- من توقير الصحابة وحبهم وتقدير إيمانهم وتضحيتهم في سبيل اللَّه، وأن هذه الفتنة تقدير رباني؛ ليعرف المسلم عظمة هذا الجيل حتى وهو في حال الفتنة، ويعرف الأحكام الشرعية الواجبة في مثل هذه الفتنة، والأخلاق الإسلامية الرفيعة حتى في أشد حالات الفتنة والقتال. فوصية علماء السلف بالكف عن هذه الأحداث لم يكن جهلًا منهم بحالها، ولا خشية من ظهور حقائقها، بل هم من أعلم الناس بها، قد فحصوا رواياتها، وحرروا أحكامها، وضبطوا أحوالها، فعرفوا أنها موصلة إلى حب الصحابة واعتقاد فضلهم، ورأوا أن الخوض فيها لا ثمرة عملية فيه وقد يكون ذريعة ¬

_ (¬1) انظر: العقيدة الواسطية لشيخ الاسلام ابن تيمية، 115 - 116.

للاستطالة والغل فكان من النصح للناس أن يبنوا لهم هذا المنهج، وهي النتيجة العلمية التي سيجدها من يقرأ -بعدل وعلم- تفاصيل هذه الفتن. وقد يأنف بعض الناس من الأخذ بقول بجمهور السلف وأئمته وكبار محدثيه الذين ميزوا الأخبار وتتبعوا الأحوال، فيشعر أن هذه حالة تقليد وتضليل ثم ينقاد بكل سهولة ويصدق كل ما يقرأه في كتاب أو يسمعه من خطيب! وربما شعر أن ثم مؤامرة لتضليله عن معرفة أحداث التاريخ فدفعه ذلك لمزيد حرص وعناية لقراءة تلك التفاصيل، وبدلًا من أن يتجه لمنهج الأئمة والمحدثين الكبار الذين خبروا الأحداث وعرفوا تفاصيلها فسلكوا به -بعد علم ودراية- منهج سلامة الصدر وطهارة القلب وحفظ اللسان، يبحث عن ناقصي العلم والعدل ليملؤوا قلبه حنقًا وحقدًا وضغينة وغلًا على أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فينتقل من سلامة الصدر إلى الضغينة والغل، فوآحسرتاه {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10].

هل الإلزام بأحكام الإسلام يورث النفاق؟

هل الإلزام بأحكام الإسلام يورث النفاق؟ في أكثر من لقاءٍ فضائي. وفي إشارات مقتضبة في بعض المؤلفات المعاصرة. وفي كلام كثير على مواقع الإنترنت. يتردد الحديث بأن تحكيم الشريعة وفرض أحكامها يؤدي إلى النفاق، وأن الشريعة لا تلزم الناس بأحكامها لأن ذلك سيخلق مجتمعًا منافقًا، ولهذا كان من دلائل الشريعة أن {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. فهل الإلزام بالشريعة أو ببعض أحكامها يؤدي إلى النفاق؟ يقول لك حامل هذا الاستشكال: إنه لا يمكن الإلزام بأحكام الشريعة لأنه يورث النفاق، فالناس حين لا تقتنع بالحكم فإنها ستمارسه في الخفاء، فالمطلوب هو غرس القيم الإيمانية وتعزيز انتماء الناس لدينهم وهويتهم، والاجتهاد في

نصحهم ووعظهم حتى يقوموا بأحكام الدين برغبتهم واختيارهم، وأما مع الإلزام فهو إكراه ينافي الإسلام ويؤدي للنفاق. وثم تفاوت في إعمال هذا الكلام: فبعضهم: ينفي بسبب هذا عن الإسلام أي إلزام، ويجعله مجرد رسالة روحية فردية بين العبد وبين ربه ولا علاقة له بنظام ولا حكم لأن حين يرتبط بسلطة وإلزام يتحول من رسالة هداية إلى وسيلة قمع. وبعضهم: يأتي بمثل هذا الكلام لكن في جانب معين وهو ما يتعلق بالرأي، فحرية الرأي مكفولة مهما تجاوزت أصول الإسلام ومحكماته ما دام ليس فيها اعتداء على أحد، لأن إي إلزام أو منع سيعزز النفاق. وبعضهم: يجعل هذا الأصل سببًا لتعليق الإلزام بأحكام الشريعة بطريقة معينة، بحيث يكون الإلزام مستمدًا شرعيته من التصويت واختيار الناس لا من كونه حكمًا شرعيًا، فإذا اختار الناس الإلزام بهذه الطريقة فلا بأس، وإلا فهو مرفوض، ولا يمكن تطبيق الشريعة بغير هذه الطريقة وإلا كان هذا سببًا لخلق مجتمعٍ منافق. فهذه اتجاهات مختلفة كلّها تستدل -بشكل أو بآخر- بشبهة ترتب النفاق على الإلزام بالشريعة. إذن: الحديث هنا ليس عن الإيمان بالحكم الشرعي، بل عن مستوى الإلزام. لا حاجة هنا أن يعترض أحد فيقول (إن صاحب هذا الاستشكال لا يؤمن بالنص ولا بحكمه) لأن هذا ليس محلّ السؤال، الحديث تحديدًا عن الإلزام بالحكم.

ولا حاجة لصاحب السؤال بأن يجيب (بأنه مؤمن بالنص)، لأن الخلاف تحديدًا عن الإلزام بالنص وليس عن مجرد الإيمان به. هذا هو تفصيل السؤال، وهو يحمل في طياته خللًا بينا وتصورًا خاطئًا وإشكالات مركبة، ستظهر بإذن اللَّه من خلال تفكيك هذا السؤال ومناقشة مقدماته وإظهار مخفياته. فهذا السؤال يحمل ثلاث إشكالات رئيسية: الأول: إلغاء وصف (الإلزام) في الشريعة تصريحًا أو مآلًا. الثاني: الخلل في فهم النفاق ومعرفة أسبابه. الثالث: الخلل في تصوّر الإلزام وأثره. وحجم هذه الإشكالات يتضح -بإذن اللَّه- مع استعراض هذه العناصر: (1) يجب التفريق -أولًا- بين ترك الإلزام بالشريعة أو ببعض أحكامها في ظرفٍ ما، أو مكانٍ ما، أو لسببٍ ما، وبين التأصيل الكلّي العام الذي يعود على مفاهيم الشريعة بالنقض والتحريف. فهذا التأصيل -بجعل الإلزام يؤدي للنفاق- يرجع على أصل الإلزام بالشريعة بالنقض. فإذا كان الإلزام بالشريعة يؤدي إلى النفاق فمعناه أن الشريعة يجب أن لا يكون فيها إلزام، ولو وجد فيها إلزام فهو مفسدة ظاهرة تؤدي للنفاق ولا فائدة

منها ويجب تبرئة الشريعة من هذه النقيصة، وهذا هو لازم مؤدٍ للوقع في الفكرة العلمانية الصريحة التي غمرتها الأمة رفضًا واستنكارًا. وهنا تكمن المشكلة: فالإلزام ببعض أحكام الشريعة قد لا يكون ممكنًا في بلد ما، أو يترتب عليه مفاسد أعظم في حالة ما، الخ هذه الأسباب التي يجب مراعاته عند تطبيق الأحكام الشرعية، فالموقف الصحيح حينها أنه واجب شرعي قد يسقط لعدم القدرة، وهذا أصل شرعي محكم {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقاعدة السياسة في الإسلام تقوم على الأخذ بأرجح المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين، فالإلزام ليس فرضًا في كل زمان ومكان وحال وشخص ونظام، بل قد يؤجل أو يسقط لاعتبارات عدة خاضعة للميزان الشرعي. إذن أين المشكلة؟ المشكلة أن يتحول الاستثناء إلى أصل، وأن تنتقل الضرورة إلى حكمٍ ثابت وأساس محكم، فالقول بأن النفاق تابع وأثر للإلزام يعني أن أصل الإلزام كله مرفوض مطلقًا، وأن الشريعة ليس فيها إلزام، وهذا تجاوز وحذف لأصل شرعي ثابت ومجمع عليه ولا يمكن إنكاره، وكون الإنسان لا يستطيع تنفيذه أو يرى أن ثم ما هو أوجب منه أو يرى أن تنفيذه سيثير مفاسد معينة، كل هذا لا يجيز إلغاء الحكم الشرعي. فالإنسان قد يضطر لشرب الخمر مثلًا، وهو شيء مقبول، بل ويجب عليه أن يشربه، ولو قال إن الخمر شراب من ضمن الأشربة ولا تشددوا على الناس، لعد قوله منكرًا شنيعًا ولو كان مضطرًا، لأن الضرورة في الشرب وليس في تغيير الحكم الشرعي.

فالإشكال ليس في (التطبيق) الذي سيجري في بلد معين من بلاد المسلمين حين يكون مراعيًا للأصول الشرعية في المصالح والمفاسد بل في حقيقة (التصور الشرعي). حينئذٍ فلا معنى لما يكرره بعض الفضلاء من أن كثيرًا من العلماء لا يفقهون واقع تلك البلاد. فأيًا ما كان مستوى فقه العلماء لذلك الواقع، لا علاقة لهذا بأساس الخلل. القضية متعلقة بمفهوم شرعي، وليس بتطبيق معين في أي بلد، فالقضية علم بأحكام شرعية ثابتة وليس علم بواقع مجتمع معين. وكون البلد يعاني من مشكلات معينة، ويجد الدعاة فيه إشكالات وصعوبات كثيرة، كل هذا لا يجيز تحريف الأحكام الشرعية أو تغيير مفاهيمها، فهذا دين وشرع من عند اللَّه، الحديث فيه توقيع عن اللَّه، وهو مزلق عظيم {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33] فحاجة المجتمع والمتغيرات التي يعيشها ليست عذرًا لأحد في حذف شيء من الشريعة أو إدخال شيء فيها، والعناية بهذا الموضوع ليس ترفًا علميًا أو سجالًا جدليًا. فهو أولًا: من بيان أحكام الشرع، وحفظ المفهوم الشرعي مطلب بحد ذاته. وثانيًا: فوضوحه للناس سبب لأن يتمسكوا به ويطالبوا به حتى يستطيعوا تحكيمه فيما بعد. وثالثًا: أن كونه ضرورة أو حاجة يقتضي معاملته وفق القواعد الشرعية لهذه الأبواب، فليس كل دعوى في هذا مقبولة، ولا كل اجتهادٍ فيها معتبر.

ورابعًا: أن حاجة المجتمعات تختلف فإذا لم يستطع بلد أن يطبق بعض أحكام الشريعة فثم مجتمعات تستطيع أن تطبقه، فيجب أن يكون الحكم الشرعي بينًا لا تختلط فيه صورة الأصل مع الضرورة. (2) ومن يلتزم بهذه الشبهة سيقع في إشكال عميق مع قائمة طويلة من الأحكام الشرعية، وستطول عليه أساليب التأويل والتحريف والتغيير. فالقضية ليست نصًا جزئيًا يمكن أن يتأول أو يكون ضعيفًا. الإلزام أصل شرعي محكم يقوم على نصوص وأحكام وقواعد لا تحصر، وسأعدد سريعًا -لتوضيح حجم هذا الأصل- بعض هذه الأحكام: - الحدود الشرعية، ففي القرآن حد السرقة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وحد الزنا {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وفي السنة الصحيحة عقوبة شرب الخمر، فهذه ليست إلزامات فقط، بل عقوبات على هذه الجرائم، تعني تجريم الفعل وتحديد عقوبة معينة عليه، فهو إلزام بترك الفعل، وإلزام بعقاب معين، فهل نتعامل مع هذه الحدود على مبدأ {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] أم على مبدأ أن الإلزام يؤدي للنفاق؟ - وجوب تغيير المنكر بدرجاته الثلاث كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه) (¬1) فالتغيير باليد يعني منعًا وإزالة، وهو إلزام على التزام أحكام الشريعة، بخطابٍ لعموم الناس وليس خاصًا فقط بالنظام، فهل الواجب تغيير المنكر أم هو داع للنفاق؟ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم برقم 186.

- التحاكم إلى الشرع، فقد أمر اللَّه بالتحاكم إلى كتابه فقال سبحانه {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وقال تعالى {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)} [النور: 47 - 48]، وقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] فهذه آيات صريحة على وجوب التحاكم إلى الشريعة، ولو لم يكن في الشريعة إلزام ومنع وفرض لما كان للتحاكم أي معنى؟ فيتحاكمون لأي شيء ما دام أن حكمه غير ملزم؟ وقد قال اللَّه تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فالمؤمن ليس له خيار في الالتزام بالشريعة وأحكامها، كيف توفق بين الإيمان بهذه الآية وبين القول بأنه لا إلزام في الشريعة؟ كيف لا يكون له خيار، لكنه في نفس الوقت ليس ملزمًا؟! هذه معادلة معقّدة جدًا! - الجهاد في سبيل اللَّه، ففي نصوص القرآن والسنة وسيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وسيرة خلفائه الراشدين وأصحابه الكرام ما هو شائع مشهور، فإذا لم يكن في الشريعة إلزام فعلى أي شيء كان كل هذا الجهد والجهاد؟ حتى على التفسير العصري المحدث القائل إن الجهاد في الإسلام كان لردّ العدوان ولدفع المعتدي فقط، فحتى على هذا التفسير يبقى موضوع الإلزام مشكلًا، لأن الصحابة في جهادهم لم يكتفوا بدفع العدوان وتسليم البلد لأهلها ثم عادوا إلى بلادهم، بل حكموا البلد بالإسلام وأقاموا شعائره وألزموهم بنظام الإسلام، فهل كانوا دعاةً إلى الإسلام نشروا شعائره في الخافقين أم أنهم كانوا يغرسون النفاق في جذور المجتمع من حيث لا يشعرون؟

وسيرة الخلفاء الراشدين ظاهرة في الأخذ بالإسلام ونشره وإقامة شعائره، وأحكامهم مع أهل الذمة لا تخفى على أحد، فأيًا ما كان تفسيرهم لهذه الأحكام فهل أدى هذا الإلزام للنفاق أم كان سببًا لنشر الإسلام وتقويته وتوسيع دائرة أوطانه؟ - نصوص العقاب والإهلاك: ففي القرآن والسنة نصوص عدة تثبت أن المنكر إذا ظهر وفشا كان عاقبته الهلاك {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: 117] وكما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لزينب بنت جحش وقد سأَلته (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث) (¬1) فكثرة الخبث مؤذنة بالهلاك، وهذا يعني أنه يجب منع هذا الخبث حتى لا يحل بالمسلمين الهلاك. - السنة العملية الظاهرة من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسنة خلفائه الراشدين، ومن معهم من الصحابة رضي اللَّه عنهم في الأخذ بالشريعة والإلزام بها، فقد حد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شارب الخمر، ورجم في الزنا في عدة وقائع، وهم بتحريق بيوت تاركي الصلاة في المساجد، وعاقب من تخلف عن الجهاد معه، وقام بجباية الزكاة، وأسقط الزيادة في الديون الربوية، وأخذ الجزية من أهل نجران، وجلد في القذف، وأخذ الناس بأحكام الجنايات والديات والبيوع والأسرة، وقام بالفصل بين الخصومات. . إلخ. وأما نصوص الصحابة فحدث ولا حرج، فقد قاتلوا المرتدين، وجبوا الزكاة، وحكموا بين الناس في كافة قضاياهم، وطبّقوا أحكام أهل الذمة، وأقاموا الجهاد، والحدود، والعقوبات التعزيزية على المعاصي، إلخ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري برقم 3403، ومسلم برقم 7418.

بصراحة أجد أن تعداد هذا ترف علمي لا حاجة له، لأنه من البدهيات التي يعرفها كل الناس، فلم يكن سؤال (الإلزام) بالشريعة مطروحًا في تلك العصور أصلًا، لأنه بدهي وضروري من أحكام الإسلام، إنما طرح هذا الموضوع بسبب ضغط مفاهيم الثقافة العلمانية المعاصرة التي حركت محاولات التوفيق والتلفيق والموائمة. - قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (من بدل دينه فاقتلوه) (¬1)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وذكر منها التارك لدينه المفارق للجماعة) (¬2)، وقد اعتضد هذا الحكم بعدة تطبيقات عن صحابة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وابن مسعود وابن عباس وغيرهم، وانعقدت عليه كلمة عامة فقهاء الإسلام. أعرف جيدًا أن لبعض المعاصرين تفسيرًا مختلفًا للحكم في قول لا يعرف له قائل من قبلهم. لكن بغض النظر عن صحة قولهم أو فساده، ما تفسيرهم لاتفاق كافة الفقهاء على هذا القول؟ هل كان الفقهاء ينشرون النفاق ويعمقونه في المجتمع من حيث يظنون أنهم يطبقون الإسلام؟ وعلى فرض أن بعض الفقهاء لا يقولون بحدّ الردة، فإنهم كانوا يقولون بسجنه أو استتابته، يعني في النهاية هو منع وإلزام وليس فيها حرية مطلقة للردة. مع ملاحظة أن دافع النفاق هنا قوي جدًا، لأنك أمام شخصى أعلن كفره، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري برقم 6922. (¬2) أخرجه البخاري برقم 6878، ومسلم برقم 1676.

ثم يوقف عند القضاء حتى يتراجع وإلا عوقب، فاتجاهه للنفاق حتى يسلم بنفسه سلوك طبيعي جدًا، ومع هذا فلم يكن أحد من الفقهاء بتاتًا يقول اتركوه حتى لا يكون منافقًا، بل يلزم بقانون الإسلام وباحترام نظامه وآدابه، ولو نافق مثله فهو خير من الإضرار بعموم المجتمع. فإذا كان مثل هذه الصورة المؤدية فعلًا للنفاق غير معتبرة عند أحد من فقهاء الإسلام، فكيف تكون الخشية من النفاق مؤثرة في قضايا لا يمكن بتاتًا أن تكون سببًا للنفاق؟ (3) هل من يثير هذا السؤال يتصوّر حالة المنافقين في عصر الرسالة؟ النفاق وجد في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذكرهم اللَّه في القرآن وحذر منهم وبيّن صفاتهم، ولم ينبت النفاق في المدينة إلا بعد أن قوي الإسلام واشتد عوده وظهرت شعائره، فوجودهم حالة طبيعية ملازمة لتطبيق الشريعة وقوتها وظهورها وليس عيبًا على الشريعة، فالنفاق لا يخرج إلا في المجتمع الإسلامي القوي، حين تظهر شعائره وتعظم حرماته فيلجأ بعض الناس لمسلك النفاق لأنه لا يستطيع أن يمارس فساده وانحرافه، فهذه علامة قوة وصحة للمجتمع، فوجود النفاق لا يؤدي لإلغاء الإلزام بالحكم الشرعي وإلا لكان هذا طعنًا وانتقاصًا من سيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وسنته، لأن قوة الشريعة وظهورها على يده هو الذي ظهر بعده المنافقون، ولم يكونوا موجودين قبل ذلك لما كان الإسلام ضعيفًا في مكة. فالحديث بطريقة: أن الإلزام يؤدي للنفاق وبناءً عليه فلا إلزام، تركيب خاطئ للموضوع.

بل وجود النفاق مع الإلزام ظاهرة صحية شرعية طبيعية، فلا يتعطل أصل شرعي من أجله. النفاق لا يوجد إلا مع قوة الإسلام، ولن يذهب إلا مع ضعف الإسلام، فإذا كان الهدف هو إزالة النفاق فالحل إذن هو في إضعاف الإسلام حتى لا يحتاج أحد للنفاق. أما حين يذهب الدعاة والعلماء والفضلاء لتقوية الإسلام وتعميق أحكامه وقيمه ومبادئه في نفوس الناس فإن هذا سيؤدي بداهة لوجود المنافقين الذين يضطرون لمسايرة هذا الواقع والاستفادة من منجزاته، فوجود النفاق دليل على قوة الإسلام وليس ضعفه. أيضًا: فالإلزام لا يُترك خشية النفاق، بل إن العيب والذم يلحق المنافقين لتفريطهم في الالتزام بأحكام الإسلام، فقد كان يتهرّبون من حكم الإسلام {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60]. فهم يرفضون التحاكم، واللَّه يذمهم ويعيبهم على تركهم للتحاكم إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. فترك التحاكم إلى الشريعة والابتعاد عن الإلزام بها هو صفة المنافقين، وليس هو سبب للنفاق. فالتصوّر الشرعي: هو دعوة المنافقين للتحاكم وإلزامهم به. أما أن يترك الإلزام لأجل أن لا يكون لدينا منافقين فهو بعثرة للصورة بالكامل.

وإذا كان هذا في المنافق غير المؤمن من الأساس فكيف بالمؤمن المسلم المنقاد؟ (4) إن هذا يدعوني للسؤال عن مفهوم النفاق وتعريفه لدى صاحب هذا الاستشكال. فما مفهوم النفاق؟ لأن كل المعطيات السابقة والآتية تثبت أن المسلمين لا يتحولون إلى هذا النفاق بسبب إنكار المنكر أو بتطبيق الشريعة، فهو غير مؤدٍ بتاتًا إلى النفاق، فالنفاق أن يسر الإنسان بالكفر ويظهر الإيمان، فما علاقة هذا بإنكار المنكرات أو تحكيم الشريعة؟ نعم، هذا سيكون في بعض الأحكام الشرعية ومن فئة قليلة لديها موقف سلبي من الدين نفسه وتريد الطعن في الإسلام لكنها لا تستطيع ذلك خشية العقاب فتلجأ إلى النفاق، وهذا موقف صحي وقوي، فالاستتار بكفره وعدائه خير من إعلانه الاستخفاف والاستهتار. فالنفاق لا يكون بالإلزام. بل الواقع أن النفاق إنما يكون حين يضعف الإلزام. فالمنافقون يخفون غيظهم وحنقهم على الإسلام والمسلمين، وإذا وجدوا مجالًا أو وضعًا مناسبًا استغلوه وأظهروا الرجف والتشكيك، لهذا كان علاجهم القرآني بالتهديد والوعيد {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)} [الأحزاب: 60] فالقوة والإلزام هي التي تحمي المجتمعات

من المنافقين، وتركه هو الذي يجرئهم ويغريهم، لهذا جاء الخطاب القرآني {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، فهذه هو علاج القرآن للمنافقين، ولم يكن علاجهم بطريقة: خذوا راحتكم، وأعلنوا كفركم وأنتم في حل من الشريعة، المهم أن لا تصبحوا منافقين!! النفاق لا يستقر في النفوس بسبب الشعائر، الشعائر والإلزام بركة وديانة وتقوى للَّه، شيوعها يقرب النفوس للدين ويجعلها تألفه وتحبه وتعتاده، النفاق لا ينشأ بسبب هذا، إنما ينشأ بأسباب أخرى، من أعظمها شيوع مسالك التشكيك والطعن في الدين وإثارة الشبهات فيه، فهذا من أعظم أسباب النفاق لأنه يهز اليقين في نفوس بعض الناس ويدخلهم في الحيرة والشكوك، فهذه منابت النفاق التي يجب الحرص عليها لمن كان صادقًا فعلًا في محاربة النفاق ومتألمًا منه، ومن الملفت أن من يرفض الإلزام بدعوى أنه يورث النفاق هو نفسه من يقرر حرية التشكيك وإثارة الشبهات والطعون في الإسلام وأحكامه، فأيهما الذي يورث النفاق؟ (5) أن إخفاء المعاصي والمنكرات خير من إظهارها وإشهارها، فعلى أسوء الاحتمالات فلو أن المنع لم يفد شيئًا وأصبح الناس يمارسون ذات المنكرات في الخفاء فإخفاؤها خير من إظهارها وإشاعتها، بل ولا وجه للمقارنة بينهما، ألم يقل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) (¬1) فالمجاهرة بالذنب أشر وأقبح من الإسرار به، وما دام المنكر سرًا فلا يحاسب عليه المجتمع ولا يؤاخذ به، إنما المحاسبة على المنكر حين يشيع ويظهر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري برقم 6069، ومسلم برقم 2990.

(6) ثم إن التخفي بالمعصي ليس نفاقًا، فإذا منع المسلم من شرب الخمر فشربه سرًا فهذا خير له وأخف شرًا وليس نفاقًا. وما أدري لماذا يتصور السؤال أن المسلم إما أن يشرب الخمر جهرًا ويفعل الفاحشة جهرًا وإما أن يكون منافقًا يشربه سرًا ويفعلها سرًا؟ ثم هل الإسرار بالمعصية نفاق؟ لا يقول هذا عالم، فالإسرار بالمعصية أولى من الجهر بها، فهو شرعًا أفضل وأهون، فلا أدري على أي اعتبار صار منافقًا؟ حتى ولو بحث المسلم عن المعصية واجتهد في الوصول إليها ولم يجدها فهذا ليس نفاقًا ولا علاقة له بالنفاق بتاتًا. (7) وهذا السؤال يمارس تصويرًا مغلوطًا واضحًا، فهو يفترض أن المسلم حين يمنع من الحرام فإنه سيفعله في السر، وكأنه لا وجود لخيار ثالث هو الأكثر والأشهر، وهو أن عامة المسلمين حين يمنعون من الحرام فإنهم سيتركونه لما في نفوسهم من تعظيم للشرع وميل لتطبيقه أحكامه ما استطاعوا، وإنما تبقى قلة هي التي تمارسه في الخفاء. كما أن هذا السؤال يخفي أثر إشاعة الحرام في توسيع دائرة مرتاديه وتجرئة الناس على فعله، فاعتقاد أن منع الحرام لن يؤثر في مضايقته وإبعاد الناس عنه

تصور بعيد جدًا عن الواقع، ولهذا جاءت الشريعة بالحث على التستر بالمعاصي وهو شيء بدهي يفهمه عامة الناس فتراهم يرددون: إذا بليتم فاستتروا. وقد قال ربنا جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19] فالمنكر الظاهر يجرئ الناس ويوسع الفساد فإذا لم يظهر غفل عنه الناس وتركوه. إن الصلاح الظاهر وشيوع الشعائر يؤثر على صلاح الناس، كما أن شيوع المنكرات تؤثر على فساد الناس، فالمنكر إذا انتشر أثر في الناس وزاد ضرره وكثر مرتاديه، فالقضية ليست خاصة بمن يريد المنكر ويبحث عنه، بل إن المنكر إذا شاع سهل في النفوس وخف أثره وجرأ الناس عليه، ولهذا كان من حكمة الشريعة في إنكار المنكر إضعافه وتقليله لئلا يؤثر على الباقين، فالمنكر يؤثر على الصالحين، وليست الصورة أنه منكر متجذر في نفوس الناس بدأ معهم فطرة، بل إن تركه وطول العهد به هو الذي يجعله منتشرًا وتقبله النفوس، وإذا حورب وضيق عليه قل أثره وضرره. (8) وهذا الإلزام لا يخلو منه أي قانون ولا نظام معاصر، فكل الأنظمة المعاصرة تقوم على قوانين وأنظمة ملزمة في كافة شؤون حياة الناس، والالتزام بها ضرورة، حتى ولو خالفها بعض الناس فلا يتصور أن يخطر ببال أحد أن مخالفتهم تعني أن القانون لم يعد له أهمية فإما أن تلتزم به أدبيًا أو لا حاجة له؟ لا أحد يفكر بهذه الطريقة لأن هذا شأن معيشي بدهي، والناس يعرفون أن القانون إذا قوي واستقر زادت قناعة الناس به ورضوا به مع كونهم في الأصل مكرهين عليه وملزمين به.

وفي برنامج فضائي سأل مقدم البرنامج أحد خصوم المشروع الإسلامي: لماذا لا تمنعون الخمر؟ فقال: إن المنع لن يفيد شيئًا لأن الناس ستعرف طريق الوصول إليه، فأجابه: لماذا لا تقول هذا في السرقة والاعتداء على الأموال، لماذا لا تكررون هذا الكلام إلا مع هذه القضايا بالذات؟ لم يكن مقدم البرنامج متحمسًا للدفاع عن الأحكام الشرعية حين قدم هذا الاعتراض بقدر ما كان يتحدث بلغة عفوية تتفهم بوضوح أن الإلزام شأن مفروض في النظام المعاصر، فلم يجد سببًا معقولًا لهذه الازدواجية في قبول بعض الإلزامات دون بعض! (9) ثم إن خطاب الشريعة في القرآن والسنة، القائم على أوامر ونواهٍ، هل هو خطاب للفرد فقط، أم للفرد والمجتمع؟ حين نقرأ في القرآن مثلًا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]. فيفهم منه المسلم أنه خطاب للفرد بأن يترك الربا امتثالًا لأمر اللَّه، وللمجتمع المسلم بأن يترك الربا، وللدولة المسلمة التي تقوم على سياسة هذا المجتمع أن تترك الربا. وهذا يعني أن الإلزام جزء أساسي من الحكم الشرعي. أما اعتقاد أن النص يدل على تحريمه على الفرد، أما تحريمه نظامًا وقانونًا فهو شيء آخر، فهو تفكير جديد، يناسب تفكير الفئة المتأثرة بالثقافة العلمانية حين تجعل الدين شأنًا فرديًا وخطابه متجه للفرد لا يمس النظام والدولة.

إن المسلم حين يدخل في الإسلام فإنه ضرورة سيكون مسلِّمًا ومنقادًا لحكم الإسلام، فالإسلام نظام شامل، لا يوجد في الفكر الإسلامي أن يُسلِّم الشخص فيدخل في الإسلام، ثم يسلِّم مرة أخرى فيوافق على حكم الشريعة، هذه درجتا فهم تناسب الثقافة العلمانية التي ترعرت في ظل المفهوم الكنسي، لأن الدين لديهم علاقة روحية لا تمس الحكم، فيختار الحكم الذي يريد بغض النظر عن دينه، أما المسلم فإنه حين رضي بالإسلام فقد رضي به حكمًا، وهذا يقتضيه إيمانه بالإسلام لزومًا ضروريًا، فكما أنه حين يدخل في الإسلام لا يبحث عن رضاه في أن يصلي أو يصوم أو يحج لأنها أحكام شرعية لا يصح إيمانه بدون التزام بالقيام بها، فكذلك لا يبحث عن رضاه في أن يحكم بحكم الإسلام. معنى هذا أن الإلزام بأحكام الإسلام ليس شيئًا طارئًا وجسمًا غريبًا نبحث له عن سبب ومشروعية معينة، بل هو أصل وفرض لازم لأي مسلم، وهذه مجتمعات مسلمين قامت في أرضها دول إسلامية خلال عشرات القرون، لم تعرف غير حكم الإسلام وإلزامه، فليس لها خيار عن حكم الإسلام. فالتفكير الذي يفصل الحكم بالإسلام عن كونه لازمًا لدخول المسلم في الدين، ويبحث للحكم بالإسلام عن مشروعية أخرى، هو من دوافع الخلل الذي يعمق وهم أن الإلزام يورث النفاق. (10) أن المطالبة الشرعية تتجه للظاهر لا الباطن، فلست مسؤولًا عما في بواطن الناس وخفايا قلوبهم فأمرها إلى اللَّه، فما دام أنه في خفايا قلبه فهو خاص بصاحبه ولا يضر إلا نفسه، ولا يعد منكرًا في الشريعة يجب إنكاره لأنك لا تدري عنه.

فمن الفارقات أن يترك السلم النكر الظاهر الذي يجب عليه (= منع المحرمات الشرعية)، خشية من منكر خفي لا يعلم عنه وهو غير واجب عليه! (= لئلا يورث النفاق). فالشريعة تأمره بالمنكر الظاهر، فيتركه خشية من منكر ليس بواجب عليه؟ ويترك منكرًا معلومًا، خشية من منكر غير معلوم ولا يمكن الكشف عنه؟ ويترك منكرًا متيقنًا خشية من منكر موهوم لا يجزم به؟ (11) ثمّ إن بعض النفوس فيها من الشر والسوء والكره للإسلام وأهله، فهل نتيح لهم الفرصة ليعبّروا عن مشاعرهم ويسيئوا للإسلام وأهله حتى لا يكونوا منافقين؟ يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية (فإن الكلمة الواحدة من سب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار، ولأن يظهر دين اللَّه ظهورًا يمنع أحدًا أن ينطق فيه بطعنٍ أحب إلى اللَّه ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهك مهان) (¬1). هذا هو التفكير الإسلامي البدهي الذي تجده عند أكثر المسلمين ولا تجد عندهم التفكير بطريقة (بل ليظهروا الفساد والانحراف حتى لا يتحولوا إلى منافقين)! (12) وإذا كان الإلزام سيؤدي إلى النفاق، فحتى النصيحة والموعظة ستؤدي إلى النفاق كذلك، لأن أكثر الناس يستجيبون للنصح والوعظ وإن كان قد يمارسها في الخفاء، فهل يكون مثل هذا منافقًا؟ ¬

_ (¬1) الصارم المسلول 3/ 939.

فعلى طريقة تفكير السؤال يجب أن يكون حكم النصيحة كحكم الإلزام لأنها تجعل الشخص يستحي منك ويترك المنكر حياء ويفعله سرًا فيكون منافقًا! بل إن أثر الحياء من المجتمع في ترك المنكر أقوى بكثير من أثر الإلزام، فالإنسان يراعي الناس وأعرافهم، ويمارس معهم من الحياء والمداراة ما هو أعظم بكثير من مراعاته لمجرد الإلزام القانوني، فإذا كان الإلزام يؤدي للنفاق فالحياء من المجتمع نفاق أيضًا! فالدافع إلى النفاق ليس هو الخشية والإكراه فقط بل ثمَّ دوافع مصلحية أعظم متعلقة بالجاه والمال والمكانة وكسب المصالح الذاتية من المجتمع، فهو يراعي المجتمع أكثر من مراعاته للنظام، فارتباط مصالحه بأفراد المجتمع أضعاف ارتباطه بالنظام، فعلى هذا فحتى لو زال الإلزام فسيبقى النفاق ما دام في الناس اعتزاز بدينهم وهويتهم يجعلهم ينقصون مقدار من يخالف الإسلام فيضطر للنفاق مسايرة لهم. (13) ثم إن هذا الإلزام بأحكام الشريعة هل سيأتي من خلال البرلمان واختيار الناس أم لا؟ هل ستمنع الخمور والفواحش وبقية المنكرات وتطبق أحكام الشريعة لو أتيحت الفرصة من خلال اختيار الأكثرية؟ هل سيكون هناك فرضٌ للشريعة وأحكامها حين تكون نصًا دستوريًا؟

إن كان الجواب بـ (نعم) فإن هذا سيؤدي للنفاق وهي ذات المشكلة التي نتحدث فيها الآن! فهل سيزول النفاق وتنتهي المشكلة بمجرد أن يصدر قرار برلماني بذلك؟ أو بمجرد أن يكون نصًا دستوريًا؟ إذا كان الإلزام إكراه في الدين ولا يمكن أن يلتزم به الإنسان إلا برضاه، فلا يجوز إذن إلزامه ابتداءً ولا بقانون ولا برأي أكثرية، لأن وصف النفاق موجود لم يتغير. فالقول بعدم الإلزام خشية من النفاق، ثم القول بعده بأن يكون الالزام من خلال البرلمان أو التصويت أو الدستور تناقض ظاهر، لهذا فالقول بأن الالزام يورث النفاق يطرد مع القول بأنه لا وجود لإلزام في الشريعة كما هي الرؤية العلمانية، حيث تجعل الإسلام رسالة روحية تخلو من أي إلزام أو فرض، وترفض الالزام لأنه ينافي رسالة الإسلام ويؤدي إلى النفاق. (14) يسوق هذا السؤال جزئية: (أن المطلوب هو تزكية النفوس وتطهيرها لا إلزامها بما لا تريد). والحقيقة أن الإلزام جزء من تزكية الناس وتطهيرها. فجعل المسألة: إما إلزام للشخص وإما أن يقوم بها من نفسه وضميره، قسمة غير عادلة ولا منصفة. بل الإلزام يتكامل مع مراقبة المسلم وإيمانه ودافعه الذاتي، فهما متكاملان لا ضدان، كون الشريعة جاءت بالإلزام لا يعني أنها لا تأتي بالدافع الذاتي، بل

كلاهما واجبان شرعيان وطريقان صحيحان لتزكية النفس وتطهيرها ودفعها نحو طاعة اللَّه وعبادته. ثم إن الإلزام بالشريعة هو سبب لتطهير النفس وتزكيتها من الأمراض والأهواء وتصحيح مسارها وتقوية مراقبتها للَّه. فالله تعالى يقول: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)} [النور: 47]. فترك التزامه بالتحاكم ينفي عنه صفة الإيمان، فالإلزام جزء من الإيمان، وقد أثنى اللَّه عليهم {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51] فالإلزام فلاح ونجاة وهذا معنى عظيم من معاني التزكية. فالتزكية إنما تكون بالقيام بأوامر اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وترك نواهي اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ليست التزكية حالة روحانية شعورية خارجة عن الشريعة، فبقدر ما يلتزم بالعبادة والطاعة -والتي منها الإلزام- بقدر ما تحصل التزكية، وبقدر ما يبتعد عنها تضعف التزكية، فالتزكية غاية شرعية تقوم على وسائلها الشرعية. هذه أوجه عديدة متفرقة لتفكيك هذه الإشكالية الشائعة في عصرنا، إشكالية تتوهم أن تطبيق أحكام الإسلام سيورث النفاق ويؤدي إلى النفاق، وأيًا ما كان مقصد الشخص في الاستدلال بها، هل يريد بها نفي الالزام مطلقًا عن الشريعة كما هي الرؤية العلمانية أو يريد تعليق الالزام بطريقة معينة لكي تتوافق مع الثقافة الحداثية المعاصرة أو يريد غير ذلك، فهي قاعدة باطلة تقوم على أساس موهوم وأينما توجهت بها لا تأت بخير.

تطبيق الشريعة بعدم تطبيق الشريعة! (محمد عابد الجابري انموذجا)

تطبيق الشريعة بعدم تطبيق الشريعة! (محمد عابد الجابري انموذجًا) هل أنت ضد (تطبيق الشريعة)؟ خذ هذا السؤال وضعه على طاولة أي اتجاه علماني، ستجد أن الغالبية منهم ستقول لك بوضوح: لستُ ضد تطبيق الشريعة، بل إن ما أدعو إليه هو التطبيق الحقيقي للشريعة. بل لستَ بحاجة أن تعرض هذا السؤال على أحد، لأن الأجوبة متاحة منثورة بين ناظريك في القنوات والمواقع والدراسات، يتحدث فيها العلمانيون بوضوح أنهم لا يعارضون الشريعة وأن موقفهم ليس فيه عداء ولا مخاصمة لها. هل انتقل العلمانيون إذن إلى الصف الإِسلامي وتخلوا عن رؤاهم العلمانية؟ أم قد انتهى الخصام الإِسلامي/ العلماني حول تطبيق الشريعة وصارت من الأمور المسلمة؟

لنأخذ أولًا نموذجًا من هذه الإجابات ولنفحص مضامينه جيدًا حتى نكتشف الجواب عن هذا السؤال، ولأن النماذج لدينا كثيرة، فسنضع جهاز الفحص على أوسعها وأشهرها، وهو نموذج الدكتور محمد عابد الجابري، وسبب اختيارنا للجابري يرجع لأسباب عدة، من أهمها أنه شرح فكرته شرحًا بينًا يوفر عليك كثيرًا من الظن والاستنتاج. يتفق معنا الجابري أولًا أن تطبيق الشريعة قد غدا من المسلمات التي يصعب معارضتها، فهو في نظره: (شعار لا يمكن مواجهته بشعار مضاد ولا حتى بشعار بديل، ومن يستطيع أن يناقش وجوب تطبيق الشريعة في بلاد إسلامية تستمد معظم نظم الحكم فيها شرعيتها من الانتماء للإسلام بصورة من الصور) (¬1). ولهذا يبدي الجابري معارضته للعلمانية ولفكرة فصل الدين عن الدولة، ويرى أن المجتمعات الإسلامية لا تحتاج لها فهي خاصة بالهوية الأوربية. ما مفهوم (تحكيم الشريعة) إذن عند الجابري؟ وما هي العلمانية التي يعارضها؟ لنستعرض سويًا رؤية الجابري التفصيلية حول هذا الموضوع حتى يتضح جيدًا مقصوده منها: يرى الجابري أنه لا بد من مرجعية فقهية لتحكيم الشريعة، ويرى أن المرجعيات الفقهية التراثية غير موثوقة: ¬

_ (¬1) الديمقراطية وحقوق الإنسان، 70.

(يمكن القول إن معظم المرجعيات التي يستند إليها الباحثون المعاصرون كانت موجهة بكيفية أو بأخرى بالظروف السياسية التي زامنتها) (¬1). ولأن الثقة بالمرجعيات الفقهية معدومة فلا بد من: (التأكيد على ضرورة بناء مرجعية تكون أسبق وأكثر مصداقية من المرجعيات المذهبية، أعني تلك التي قامت أصلا كوجهة نظر تروم تأييد موقف سياسي معين) (¬2). وحلًا لهذه الإشكالية لا بد من العودة بالمرجعية إلى مرحلة الصحابة رضي اللَّه عنهم: (وإذا كنا هنا ندعو إلى وضع الاجتهادات السابقة والمذاهب الماضية بين قوسين والرجوع مباشرة إلى عمل الصحابة) (¬3). وحين رجع الجابري لفقه الصحابة وجدهم في بنائهم الفقهي قد اعتمدوا على المصلحة: (إن المبدأ الوحيد الذي كانوا يراعونه دومًا هو المصلحة، ولا شيء غيرها، وهكذا فكثيرًا ما نجدهم يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، صارفين النظر عن النص حتى ولو كان صريحًا قطعيًا، إذا كانت الظروف الخاصة تقتضي مثل هذا التأجيل للنص) (¬4). ¬

_ (¬1) الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 8. (¬2) الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 9. (¬3) الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 12. (¬4) الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 12.

واكتشف بعد ذلك أن اعتماد الصحابة على المصلحة لا يختلف، سواء أكان في المسألة نص قطعي أم لم يكن فيها نص: (إن هذا المبدأ مبدأ المصلحة هو المستند الذي كان الصحابة يرتكزون عليه في تطبيقهم سواء تعلق الأمر بما فيه نص أو بما ليس فيه نص) (¬1). وبناءً عليه يرى ضرورة الاعتماد على المصلحة في بناء النظام السياسي الإسلامي: (يجب أن تؤسس عملية تطبيق الشريعة في كل زمان ومكان وهي اعتبار المصلحة العامة، يبقى بعد هذا المبدأ الأساسي العام تحديد المصلحة في كل نازلة وفي كل حكم وفي هذا شيء سهل لأن ميدان البحث عنها ميدان بشري) (¬2). وأما العلمانية فيرى أنه مصطلح جرى تشويهه، فهو قد ارتبط في أول الأمر بالوحدة والاستقلال ضد الدولة العثمانية، ولهذا لا بد من تعويضه بمصطلحات بديلة: (وفي رأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية فهما اللذان يعبران تعبيرًا مطابقًا عن حاجات المجتمع العربي، الديمقراطية تعني حفظ الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج) (¬3). ¬

_ (¬1) الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 41. (¬2) الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 171. (¬3) الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 113.

والمجتمع الإسلامي في نظره ليس بحاجة لفصل الدين عن الدولة إنما يحتاج لفصل الدين عن السياسة: (ما يحتاج إليه مثل هذا المجتمع هو فصل الدين عن السياسة بمعنى تجنب توظيف الدين لأغراض سياسية باعتبار أن الدين يمثل ما هو مطلق وثابت، بينما تمثل السياسة ما هو نسبي ومتغير، السياسة تحركها المصالح الشخصية أو الفئوية أما الدين فيجب أن ينزه عن ذلك وإلا فقد جوهره وروحه) (¬1). الصورة الكلية لتطبيق الشريعة: بعد هذا العرض التفصيلي نريد أن نبتعد قليلًا عن التفصيلات وننظر في الصورة الكلية لتطبيق الشريعة عند محمد عابد الجابري. نهاية رؤية الجابري أننا سنعتمد على المصلحة، فما جاءت به فهو المعتبر، وما رفضته فهو غير معتبر، والمصلحة في رؤية الجابري ليست هي المصلحة بحسب الموازين الشرعية المعروفة عند الفقهاء، بل هذه المصلحة يمكن أن تتجاوز حتى النص القطعي. وحين نعرف أن كل الاتجاهات العلمانية تبحث عن المصلحة، وهي إنما ترفض تطبيق الشريعة بدعوى مخالفتها للمصلحة المعاصرة، فإن رؤية الجابري في النهاية هي ذات الرؤية العلمانية، وهي سترفض تطبيق الشريعة لكنها هذه المرة بدعوى تطبيق الشريعة! الفرق بين رؤية الجابري ورؤية كثير من العلمانيين، أن العلمانيين صرحوا بقبولهم للمفاهيم الحداثية المعاصرة وصرحوا برفضهم لما يعارضها من تطبيق ¬

_ (¬1) الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 116 - 117.

الشريعة، أما الجابري فقد كان مدركًا أن هذا المسلك في رفض الأحكام الشرعية ليس مجديًا، وأنه لا يمكن قبول المفاهيم الحداثية المعاصرة إلا بعد البحث عن مرجعية فقهية لها، واستنبات أصول تراثية للمفاهيم المعاصرة، ولهذا يحرص على تجاوز المفاهيم التراثية من خلال مفاهيم تراثية أخرى. هل هذا دخول في النوايا أو إساءة ظن أو حتى تحليل واستنباط؟ أبدًا، بل هو أمر يتحدث عنه الجابري كثيرًا وبكل وضوح، ويراه ضروريًا لأي إصلاح، فهو يعترف أن قراءة التراث إنما هو طريق للبحث عن سند تاريخي للمضامين الحديثة: (إن هذا يعني أن قراءتنا لما كان موضوعًا للتفكير أو قابلًا لأن يكون كذلك في تراثنا ستكون موجهة بالرغبة في إيجاد سند تاريخي يمكننا من تأصيل المضامين الحديثة والمعاصرة التي يحملها مفهوم الإنسان وحقوقه، تأصيلها في وعينا ومرجعياتنا) (¬1). وحين شرع في البحث عن حقوق الإنسان في التراث الإسلامي قرر بوضوح أنه: (يجب أن لا يغرب عن بالنا قط أننا موجهون في قراءتنا لنصوص تراثنا بالرغبة في تأسيس مفهوم الإنسان وحقوقه على جميع المستويات تأسيسًا يجعلها ذات جذور في تراثنا وكياننا الحضاري). (¬2) فهي رؤية واضحة تبحث عن جذور للنتائج المتقررة سلفًا! ¬

_ (¬1) الديمقراطية وحقوق الإنسان، 197. (¬2) الديمقراطية وحقوق الإنسان، 201.

وهذه الطريقة نابعة من واقع خبرة لدى الجابري أدرك بها أن التجديد لا يمكن أن يمر من دون أدوات تراثية: (لا سبيل إلى التجديد والتحديث ونحن نتحدث عن العقل العربي إلا من داخل التراث نفسه وبوسائله الخاصة وإمكانياته الذاتية أولًا) (¬1). ولهذا شرح سبب اهتمامه بالتراث: (والحق أن اهتمامي بالتراث لم يكن من قبل وليس هو الآن من أجل التراث ذاته، بل هو من أجل حداثة نتطلع إليها) (¬2). وما دام أن المقصد هو توظيف الأدوات التراثية وليس الاعتماد عليها، فهو يعلن -بلا خجل- أنه في سبيل هذا الهدف فليس من المهم المحافظة على الموضوعية والصرامة العلمية: (والمقاربة ليست من الأمور التي يطبق عليها منطق الصواب والخطأ تطبيقًا صارمًا، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بموضوعات كالتي نحن بصددها، ذلك أن موضوع المقارنة هنا ليس من نوع الحقائق العلمية، بل هو من جنس الحقائق الثورية إن جاز التعبير الحقائق التي توظفها الثورات وكل دعوات الإصلاح والتي تستمد صدقها ولنقل مصداقيتها من وظيفتها كمحرك للثورة وشعار للدعوة) (¬3). فالذي حدث، أن الجابري أراد هدم مفهوم (تطبيق الشريعة) من خلال البحث عن أصول شرعية يستطيع بها إبدال هذا المفهوم بمفهوم آخر لا ينازع المفاهيم الحداثية المعاصرة. ¬

_ (¬1) بنية العقل العربي لمحمد عابد الجابري، 568. (¬2) محمد عابد الجابري في المسألة الثقافية 250، نقلًا عن الحداثيون العرب في العقود الثلاثة الأخيرة وموقفهم من القرآن للجيلاني مفتاح، 70. (¬3) الديمقراطية وحقوق الإنسان، 159.

ولأجل هذا فمن الطبيعي أن يكون المنهج الذي يسلكه ليس منهجًا موضوعيًا يبحث عن الدلائل ويتقصى الوصول إلى الحق بقدر ما هو بحث عما يعين على الهدف، وهو شيء يعترف به كما نقلنا ذلك سابقًا. لهذا تجد أن الجابري يمارس تفريغ الأصول الشرعية التي يتعامل معها من مضامينها: فأولًا: يتجاوز مرجعيات الفقهاء بدعوى الوصول إلى فقه الصحابة، وهذا خلل منهجي كبير، لأن الوصول إلى فقه الصحابة لا يمكن أن يتم من دون هذه المرجعيات الفقهية، فهم الذين نقلوا لك آثار الصحابة وهم الذين محصوها، فاتهامهم بأنهم كانوا منقادين للسياسة هو اتهام لفقه الصحابة الذين نقلوه، فالمنطق الصحيح أن يطعن الشخص في فقه الصحابة بناءً على طعنه في العصور التي نقلته، أما جعل العصور المتأخرة عصور ملوثة ومؤدلجة ومنحرفة ثم يستطيع الشخص الولوج منها إلى عصر الصحابة من دون أي تأثر فهذه طريقة استدلال ظريفة! الخلل الثاني: أن الجابري لما وصل إلى عصر الصحابة لم يطالبنا بالاستمساك بفقه الصحابة، وإلا لوجد أن فقه الصحابة قائم على ذات الأصول التي ينطلق منها الفقهاء، وأن فقههم في المصالح لا يختلف عن فقه العلماء، إنما أراد الجابري الانتقال إليهم لحذف من بعدهم ثم البدء في عملية تفكير جديدة هي أن الصحابة كانوا يعتمدون المصالح فقط، وهذه سورة مغالطة كبيرة لفقه الصحابة، فالصحابة كانوا يستعملون المصالح فعلًا، غير أن المصالح في رؤيتهم تختلف عن المصالح في رؤية الجابري، فأساس رؤيتهم في المصالح قائم على اعتبارها وفق موازين الشريعة، فما رفضته الشريعة فليس بمصلحة، وما اعتبرته فهو مصلحة، وبقدر اعتبار الشريعة يكون وزن المصلحة، وبقدر رفض الشريعة يكون وزن المفسدة،

والنصوص في هذا عن الصحابة أكثر من أن تحصر، وهو شيء يختلف تمامًا عند الجابري، لهذا يأتي الجابري إلى النصوص القطعية التي جاءت بها الشريعة والتي هي من أصول المصالح المعتبرة فيحرفها ويؤولها بسبب أنها مخالفة لرؤيته في المصلحة المنطلقة من رؤية مختلفة، كموقفة مثلًا من حد السرقة وهو نص قطعي لا يحتمل الخلاف ولا التأويل، ومع ذلك فمن تطبيق الشريعة في نظر الجابري أن لا يطبق هذا الحكم، ويتم التخلص من قطعية الحكم بطرائق مختلفة كالبحث عن سبب تاريخي معين يجعل الحكم مرتبطًا به، وهو: (تدبير كان معمولًا به في الجاهلية لعدم وجود سجون ولا سلطة تعتقل السارق، لقد كان العقاب البدني هو الوسيلة الزجرية الوحيدة التي تعاقب السارق) (¬1) ومارس أمثال هذا التأويل مع ما ترفضه الثقافة الغربية من أحكام ميراث المرأة وحد الردة وتعدد الزوجات والطلاق. (¬2) ولو أن الثقافة الغربية المعاصرة تتقبل مثل هذا الأحكام لقبلته هذه النفوس ولما بحثت عن أسباب تاريخية مفتعلة للتخلص منه! الخلل الثالث: أنه لا ينطلق من مقاصد الشريعة وأصولها للحكم على المصالح المعاصرة، وإنما يريدنا أن نخلق مقاصد للشريعة من خلال هذه المصالح: (وهكذا عندما ننجح في جعل ضروريات عصرنا جزءًا من مقاصد شريعتنا فإننا سنكون قد عملنا ليس فقط على فتح باب الاجتهاد في وقائع عصرنا المتجددة المتطورة بل سنكون أيضًا قد بدأنا العمل في تأصيل أصول شريعتنا نفسها بصورة ¬

_ (¬1) الديمقراطية وحقوق الإنسان، 184. (¬2) انظر: الديمقراطية وحقوق الإنسان، 179 و 183 و 186.

تضمن لها الاستجابة الحية لكل ما يحصل من تغيير أو يطرأ من جديد) (¬1). فالطريقة عند الجابري ليس أن تنظر في المصلحة المعاصرة ومدى موافقتها للشريعة، بل أن تنظر في المصلحة المعاصرة ثم تبحث في كيفية جعلها من مقاصد الشريعة! فمقاصد الشريعة عند العلماء هي استخراج أصول كلية مستقرأة من جمع فروع الشريعة، وأما الجابري فيريد أن تكون مقاصد الشريعة منتزعة من المصالح المعاصرة التي يزيد أن نجعلها داخلة ضمن الشريعة! (فإن تطبيق الشريعة يتطلب اليوم إعادة تأصيل الأصول على أساس اعتبار المصلحة الكلية كما كان يفعل الصحابة وبعبارة أخرى إن تطبيق الشريعة التطبيق الذي يناسب العصر وأحواله وتطوراته يتطلب إعادة بناء المرجعية للتطبيق) (¬2). فحقيقة الوضع هو أن الجابري لا يعتبر بالشريعة، لكنه بدلًا من أن يكون واضحًا في رفضه لها واعتبارها لما يخالفها، رفضها واعتبر ما يخالفها لكن بحث عما يجعلها غير مخالفة! فالجابري إذن يصل إلى ذات الغاية التي يجتمع إليها العلمانيون، وإنما تميز عنهم بأنه مزق من الأدوات التراثية ما جعله طريقًا يوصله لهذه الغاية، ولهذا تجد الجابري يكرر ذات الإشكالات التي يثيرها العلمانيون ضد الشريعة، مثل: أنه لا بد من فصل الدين عن السياسة حتى لا يؤدي ذلك إلى ادخال جرثومة التفرق والاختلاف في الدين، وما يحدثه من طائفية وحروب أهلية، وأنه يجب ¬

_ (¬1) الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 192. (¬2) الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 52 - 53.

تنزيه الدين عن السياسة حتى لا يفقد روحه لكونه مطلق وهي نسبية متغيرة (¬1) وأن تطبيق الحدود ستكون شبهة للتسييس (¬2). وأما موقف الجابري من العلمانية فهو في الحقيقة رفض للفظها، وقبول لمحتواها، فهو يرفض اللفظ لما تعرض له من إسقاط وتشويه في نفوس عامة الناس، فأراد البحث له عن ألفاظ بديلة، فالعقلانية والديمقراطية التى عرضها بديلًا عن العلمانية تحمل ذات المضامين المستقرة في العلمانية. بعد هذا، يتضح جواب السؤال السابق: هل تحول العلمانيون إلى الصف الإِسلامي وأصبح تحكيم الشريعة من الأمور المسلمات؟ بالتأكيد لا، فما زال العلمانيون على موقفهم في رفض تحكيم الشريعة، إنما الذي استجد هو انتقال أكثر العلمانيين وبعض الإسلاميين إلى تبني ذات الموقف العلماني من تحكيم الشريعة وهم يحسبون أنها هي الشريعة، فبدلًا من رفض الشريعة، تفرغ من مضمونها وتعبأ بذات المضامين العلمانية والليبرالية، ولهذا يجري في رؤيتهم تأويل كافة الأحكام الشرعية التي تعترض عليها الثقافة الحداثية المعاصرة، فأي حكم لا ترتضيه الحداثة فهو مؤول ويبحث في سبيل ذلك عن أي خلافٍ فقهي أو سبب نزول أو أي مخرجٍ من هنا أو هناك. تطبيق الشريعة بعدم تطبيق الشريعة، مسلك لجأ إليه العلمانيون هروبًا من النفرة التي يجدون أنفسهم فيها مع أي احتكاك لهم مع الشارع المسلم، كما ذهب إليها بعض الإسلاميين هروبًا من الضغط الذي يلاحقهم به العلمانيون! ¬

_ (¬1) انظر: الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 116 - 117. (¬2) انظر: الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 200.

سؤال السيادة فى الفكر الإسلامي المعاصر

سؤال السيادة فى الفكر الإسلامي المعاصر لمن السيادة فى الدولة الإسلامية؟ يعدُّ هذا السؤال من أشهر الأسئلة المثارة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ومنذ عشرات السنين ولا تزال الدراسات المعاصرة تجيب عن هذا السؤال، وبإمكان المستقرئ لهذه الدراسات أن يستخرج مادة علمية واسعة، وليس هذا كثيرًا على هذه القضية، فهي من القضايا المركزية في الفكر السياسي، بل هي الأساس لمعرفة غاية النظام السياسي، وأساس المشروعية فيه، والقبلة التي تتجه إليها كافة القوانين في المجتمع. لم يكن لهذا السؤال حضور في التراث الإسلامي بسبب أنه أثير بعد شيوع مفاهيم الفكر السياسي الغربي، حيث إن السيادة تعني السلطة العليا التي لها حق إصدار القوانين وإلزام الناس بها جميعًا من دون أن تكون مقيدة بشيء ولا أن تستمد مشروعيتها من أحد، فهي سلطة واحدة مطلقة مقدسة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر السياسي لجان توشار، 232 و 236، تطور الفكر السياسي لجورج سباين، 3/ 556، وتاريخ الفكر السياسي لجان جاك شوفالييه، 1/ 289.

وقد نشأت فكرة السيادة نتيجة الصراع الذي جرى في القرن السادس عشر الميلادي في فرنسا بين الملوك من جهة، والإقطاعيين والباباوات من جهة أخرى، فكانت هذه النظرية سندًا فكريًا للملوك لفرض سيطرتهم الداخلية ضد الأمراء الإقطاعيين، ولفرض سيطرتهم الخارجية ضد الإمبراطور والبابا، وإذا كانت الكنيسة تتمتع بنظرية الحق الإلهي لشرعنة طاعتها وخضوع الناس لها، فإن الملوك اتخذوا نظرية السيادة سندًا شرعيًا لفرض طاعتهم، حيث صار الانضواء تحت الملك في تلك الحقبة عند عدد من الفلاسفة طوق نجاة للخلاص من التشرذم والانقسام الذي أحدثته الحروب الدينية، ثم تحولت السيادة بعد ذلك فانتقلت من الملك إلى الأمة على يد الثورة الفرنسية (¬1). لهذا؛ ذهب عدد من المعاصرين إلى عدم الحاجة إلى طرح هذا السؤال في الفكر السياسي الإسلامي، فهو قد نشأ في ظل ظرف تاريخي واجتماعي مختلف، وبغرض تحقيق هدف معين، ولهذا فلا معنى لتكرار إعادة السؤال بعد إنتهاء الحاجة منه في ظل مجتمع إسلامي لا يعاني إشكالية الإقطاع ولا إشكالية السلطة الدينية التي كانت تسود التاريخ الأوروبي (¬2)، خصوصًا (أن الثظرية الإسلامية لا تعرف مثل هذه السلطة المطلقة، وإنما السلطة طبقًا لها ترد عليها قيود مهمة) (¬3). فالشريعة إنما عرفت السلطة والسلطان، أما السيادة بهذا المعنى فـ (إن الاعتراف بالسيادة لأي ¬

_ (¬1) انظر: تطور الفكر السياسي لجورج سباين، 3/ 549، مبادئ نظام الحكم في الإسلام لعبد الحميد متولي، 171 - 172، الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم، 122 - 123. (¬2) انظر: مبادئ نظام الحكم في الإسلام لعبد الحميد متولي، 171 وما بعدها، أصول نظام الحكم في الإسلام لفؤاد عبد النعم، 115، والدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم. (¬3) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم، 288.

جهة إنسانية فكرة بعيدة عن الإسلام) (¬1). ومع دقة هذا الكلام وعمق نظرته، إلا أن أكثر المعاصرين فضلوا الإجابة عن هذا السؤال، والنظر في مضمونه وحقيقته، والبحث عن إجابةٍ شافيةٍ له؛ بحسب ما يعرفون من أصول الفكر السياسي الإسلامي وقواعده. ومن خلال تتبُع أجوبة المعاصرين نجدها تنحصر فى ثلاثة اتجاهات رئيسية: السيادة للَّه أو للشريعة، السيادة للأمة، والسيادة مزدوجة. الاتجاه الأول: أن السيادة في الدولة الإسلامية للَّه أو للشريعة الإسلامية. وقد ذهب إلى هذه الرؤية عدد غفير من المعاصرين، فمن أقوالهم مثلًا: قال د. عبد الحكيم العيلي: (ومضمون ذلك التفرقة بين السيادة وبين سلطة الحكم، فالسيادة بيد اللَّه وحده، أما سلطة الحكم فهي مفوضة إلى الأمة تمارسها في حدود السيادة) (¬2). وقال د. فؤاد النادي: (ذلك يؤدي إلى عدم تردّدنا في نقض القول بأن الأمة الإسلامية هي صاحبة السيادة، وأنها منبع ومصدر السلطات في الدولة الإسلامية، ولا يخفف من هذه النتيجة -وهي رفض رأي أن الأمة صاحبة السيادة ومصدرها- القول بأن هذه السيادة ترتبط بما قرره الشارع، بحيث تعد القواعد الشرعية الحدود الطبيعية التي لا يجوز لها أن تتخطاها؛ ذلك أن مثل هذا القول ينفي عن الأمة بداهة ¬

_ (¬1) فقه الشورى والاستشارة لتوفيق الشاوي، 574. (¬2) الحريات العامة، 215.

أنها صاحبة السيادة طالما أنها لا تستطيع بمقتضى إرادتها العليا أن تضع قانونًا ملزمًا أو تقرر أمرًا يخرج عن نطاق ما رسمه الشارع) (¬1). وقال د. صبحي عبده سعيد: (لا محل ولا مجال في ظل الإسلام ونظام الحكم فيه، أن تثار مسألة السيادة لمن تكون في المجتمع؛ لأن هذه السيادة تنعقد للَّه وحده ولا يجترئ إنسان أن ينازعه هذا الاختصاص) (¬2). وقال الأستاذ محمد أسد: (أما الدولة الإسلامية ولو قامت كنتيجة لإرادة الشعب فظلت خاضعة لإشرافه؛ فإنما تستمد سيادتها من قبل اللَّه، فإذا سادت وفق الشروط الشرعية فلها على رعاياها حق الطاعة والولاء) (¬3). وعدد غفير من الباحثين غيرهم (¬4). ¬

_ (¬1) نظرية الدولة في الفقه السياسي الإسلامي، 410. (¬2) شرعية السلطة والنظام في حكم الإسلام، 69. (¬3) نظام الحكم في الإسلام، 81. (¬4) انظر مثلًا: أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، 19 و 34 و 37؛ وهبة الزحيلي، نظام الإسلام، 188؛ محمد العربي، دولة الرسول في المدينة، 365؛ صلاح الصاوي، نظرية السيادة، 68؛ عبد الكريم عثمان، النظام السياسي في الإسلام، 118 - 119؛ أبو المعاطي أبو الفتوح، حتمية الحل الإسلامي، 65 - 66؛ ضوء مفتاح غمق، السلطة التشريعية في نظام الحكم الإسلامي والنظم المعاصرة، 33؛ محمد مفتي وسامي الوكيل، السيادة وثبات الأحكام، 32؛ محمد فاروق النبهان، نظام الحكم في الإسلام، 166؛ أحمد الحصري، الدولة وسياسة الحكم، 126؛ منظور الدين أحمد، النظريات السياسية الإسلامية في العصر الحديث، 51؛ هشام أحمد عوض جعفر، الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية، 127؛ صالح حسن سميع، أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي، 189؛ علي محمد حسنين، رقابة الأمة على الحكام، 48 - 49؛ عارف أبو عيد، السيادة في الإسلام، 168؛ عبد الحميد الأنصاري، الشورى وأثرها في الديمقراطية، ص 427؛ محمد رأفت عثمان، رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، 387؛ محمد سلام مدكور، معالم الدولة الإسلامية، ص 95؛ توفيق الشاوي، فقه الشورى والاستشارة، 574.

الاتجاه الثاني: أن السيادة أو مصدر السلطات هو للأمة، ومن أقوالهم هنا: قال د. محمد ضياء الدين الريمس: (فهي التي تقوم على الشورى في مبدئها في سيرها وقانونها، شرع الإسلام والحاكم ليس إلا منفذًا للشريعة، والأمة هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات) (¬1). وقال د. قحطان الدوري: (الأمة هي صاحبة السلطة العليا في البلاد، فهي الموجب الأول في العقد للإمام ولأعضاء مجلس الشورى، وهؤلاء هم الذي يمثلونها وينطقون باسمها، وهم الذين يسنون القوانين على ضوء ما جاءت به الشريعة، ويسوسون الناس بما يرضي اللَّه ورسوله، والأمة مشرفة عليهم ومراقبة لأعمالهم تعدّل الزيغ وتقوّم المعوج) (¬2). وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي: (ومن هنا تعلم أن المسلمين بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- ومبايعتهم أبا بكر على الوجه الذي حصل؛ كانوا أول من سن أن الأمة مصدر جميع السلطات، وأنها هي التي تختار من يحكمها بدين الإسلام، وشريعة الإسلام هي القانون الإلهي الذي وضع ذلك وجعله متبعًا في كل إمام وخليفة) (¬3). وغيرهم (¬4). ¬

_ (¬1) الإسلام والخلافة في العصر الحديث، 211. (¬2) الشورى بين النظرية والتطبيق، 102. (¬3) حقيقة الإسلام وأصول الحكم، 24. (¬4) انظر: محمد كامل ليلة، النظم السياسية 205، سعد محمد خليل، تولية رئيس الدولة في الفكر السياسي الإسلامي والفكر السياسي الحديث 24، محمد عمارة، الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية 176، عبد الغني بسيوني، النظم السياسية 58 - 59، محمود =

أما الاتجاه الثالث فهو محاولة للتوفيق بين الرأيين والجمع بين الاتجاهين، فجعل هناك سيادة للَّه وسيادة للأمة في الوقت نفسه (¬1). حقيقة الخلاف بين هذه الاتجاهات: لن تجد عناءً حين تفحص هذه الاتجاهات حتى تصل إلى نتيجة أنها متفقة في المضمون كان اختلفت في الصياغة، فليس ثم خلف حقيقي بين هذه الاتجاهات، فهي تتفق جميعًا على أن للأمة سلطة في اختيار الحكومة التي تتولى أمرها، ولها سلطة على مراقبتها ومحاسبتها وخلعها، وليس لأحد أن يفرض على الأمة ما لا تريد، غير أن هذه السلطة والسيادة مقيدة بحدود الشريعة الإسلامية، فلا تستطيع أن تخالفها، ولا مشروعية لهذه المخالفة، فهذه السيادة محكومة قانونًا بسيادة وسلطة أعلى منها. فهذه صورة المسألة عند الاتجاهات الثلاثة جميعًا، فمن قال السيادة للَّه قصد أن التشريع والطاعة المطلقة للَّه، وأما الأمة فلها السلطان والحكم فيما لا يعارض الشريعة. ومن قال إن السيادة للأمة فيعني أن لها الاختيار فيما لا يتعارض مع الشريعة، فالمضمون متفق عليه والخلاف بينهما في تحديد مصطلح السيادة على أي شيء يكون؟ فهو خلف في تنزيل مصطلح السيادة لا غير. ¬

_ = حلمي، نظام الحكم الإسلامي مقارنًا بنظم الحكم المعاصرة 40، عبد الكريم زيدان، الفرد والدولة في الإسلام 28، محمد يوسف موسى، نظام الحكم ص 77، ومحمد معروف الدواليبي، الدولة والسلطة في الإسلام ص 43. (¬1) انظر: النظريات السياسية الإسلامية لمحمد ضياء الدين الريس، 385. نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين لمحمد حمد الصمد، 234.

فقد (تناول الفكر الإسلامي المعاصر هذه المسألة فظهرت ثلاث نظريات، الأولى وترى أن السيادة للتشريع الإلهي، والثانية ترى أن السيادة للأمة، والثالثة أطلق عليها نظرية ازدواج السلطة تقودنا جميعًا إلى سيادة للأمة الإسلامية مقيدة لصالح سيادة أسمى وأعلى منها مرتبة وهي سيادة التشريع المنزل من عند اللَّه) (¬1). وقد نبه إلى كون الخلاف لفظيًا عدد من الباحثين (¬2). وما دام أن الخلاف اصطلاحي، فهو مما يتوممع فيه، لهذا فـ (إذا أراد علماؤنا أن يصطلحوا على مفهوم جديد للسيادة لا يعرف الإطلاق ولا الأصالة ولا التفرد. . . إلخ ما عرف من السيادة في الفكر الغربي، فلا مشاحة في الاصطلاح، ويقال سيادة مقيدة بأحكام الشرع أو سيادة محكومة بضوابط الشريعة) (¬3). فما دام أن ثم اتفاقًا على المضمون، فإن من يقرر بأن السيادة للشريعة لا يعارض -في واقع الأمر- من يقول بأن السيادة للأمة، فهو يقول: (إذا كان لا بد من نسبة السيادة إلى جماعة أو هيئة من البشر فلا بد من التأكيد على أنها سيادة نسبية محدودة بحدود الشريعة الإلهية) (¬4). ¬

_ (¬1) البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي في الفكر السياسي الحديث لأحمد فؤاد عبد الجواد 347. (¬2) انظر: السيادة في الإسلام لعارف أبو عيد 168، الخلافة الإسلامية بين نظم الحكم المعاصرة لجمال المراكبي 417، مبدأ المشروعية في النظام الإسلامي والأنظمة القانونية المعاصرة لعبد الجليل محمد علي 224، الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية لهشام أحمد عوض جعفر 134، وأسس العلوم السياسية في ضوء العلوم الشرعية لتوفيق الرصاص 37. (¬3) نظرية السيادة لصلاح الصاوي 67. (¬4) سيادة الشريعة الإسلامية في مصر لتوفيق الشاوي، 84.

السيادة للشرع والسلطان للأمة: وهذه صياغة معاصرة تجمع الاتجاهات جميعًا، فهي عبارة محكمة توضح أن السلطة والحكم بيد الأمة، لكنها مقيدة بالسيادة والتشريع الإلهي فلا تتعداه، فحق الأمة في السلطة لا في السيادة؛ لأنها محكومة، لهذا تجد الحديث عن الحكم والاختيار والسلطة والشورى والبيعة والنظام والحرية والرضا، يقرن عند المؤلفين المعاصرين بأنه تحت شرع اللَّه. (فلا تعتبر البيعة شرعًا إلا برضا المسلمين ومشورتهم واتفاق غالبيتهم؛ لأنها ابتداءً حق من حقوق الأمة الإسلامية ترك الشرع لها اختيار من تريد أن يحكمها بالشرع) (¬1). (ليس من شك في أن الأمة هي المكلفة برعاية ذلك وتنفيذه، ولهذا يجب أن يكون سلطانها مطلقًا وسيادتها على بنيها عامة غير مقيدة ولا محدودة إلا بما قيدها اللَّه به وحدده لها) (¬2). (السلطة في النظام الإسلامي تخضع لقانون هو شريعة عامة لا يملك الحكام مخالفتها ولا تملك الأمة ذاتها تعديلها أو تبديلها، وبذلك كانت الدولة الإسلامية التي أقيمت في القرن السابع الميلادي أول دولة قانونية دستورية بالمعنى الصحيح) (¬3). (وإنما السلطة للأمة تعطيها لجماعة بقيود، فليست سلطة مطلقة، وإنما مقيدة بقيود مهمة شرعية ورقابية وتأهيلية) (¬4). ¬

_ (¬1) البيعة في الفكر السياسي الإسلامي لمحمود الخالدي، 109. (¬2) مناهج الحكم والقيادة في الإسلام لأنور الجندي، 27. (¬3) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم، 313. (¬4) الدولة الإسلامية بين التراث والمعاصرة لتوفيق الواعي، 61 - 62.

(لا يستطيع الشعب تبديل وتعديل هذه القواعد؛ لأنها ليست من صنعه، وإن كان قد ارتضى الخضوع لها والإيمان بها) (¬1). فالأحكام الشرعية قيود قانونية لسلطة الأمة لا تملك الخروج عنها ولا تجاوزها؛ لأن سلطتها مقيدة بسلطة شرعية أعلى منها. حقيقة سيادة الأمة: فحقيقة سيادة الأمة التي تتفق عليها الاتجاهات جميعًا، أنها سيادة تنفيذ للشرع، وليست سيادة تعلو عليها أو تنافسها أو تتخذ بديلة عنها: (أساس حق الأمة في الاختيار يكمن في كونها هي المخاطبة أصلًا بتنفيذ الشرع، ولتعذر قيامها بهذا الواجب بصورتها الجماعية فإنها تنيب من يقوم بهذا التنفيذ نيابة عنها وتحت إشرافها ليقوم بتنفيذ ما هي مكلفة به شرعًا) (¬2). (هذه المسؤولية الضخمة الملقاة على عاتق الجماعة تقتضي أن يكون السلطان من حق الجماعة نفسها لتستعين به على تنفيذ ما هي مسؤولة عنه، وهو تنفيذ أحكام الشرع وإدارة شؤونها وفق هذه الأحكام) (¬3). (رضاها أساس في صحة الولاية العامة، فمصدر سلطة الحاكم الأعلى في الدولة مستمدة من الشورى السياسية هذه أو الانتخاب الحر، ونعني بالسلطة هنا سلطة تنفيذ شرع اللَّه فيهم بما يستلزم ذلك من الاجتهاد التشريعي فيما لا نص فيه ¬

_ (¬1) تأصيل وتنظيم السلطة في التشريعات الوضعية والشريعة الإسلامية لعدي زيد الكيلاني، 145. (¬2) الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي لمنير البياتي، 463. (¬3) الفرد والدولة في الإسلام لعبد الكريم زيدان، 26.

بالتفريع على مبادئه والمصالح الجدية الحقيقية المعتبرة) (¬1). ومن يملك سيادة التنفيذ يملك التفويض، فالسلطة عقد تفوض الأمة فيه من يحكمها بالشرع، فـ: (اختيار الخليفة من هذا الوجه يؤكد أن الخلافة ليست إلا عقد نيابة يتم بين الجماعة والخليفة، فتوكل الجماعة إلى الخليفة أن يقوم فيها بأمر اللَّه وأن يدير شؤونها في حدود ما أنزل اللَّه، ويقبل الخليفة أن يقوم بالأمر في الجماعة طبقًا لما أمر اللَّه) (¬2). فهي المخاطبة بالشريعة: (إن أساس حق الأمة في انتخاب الخليفة لأنها هي المخاطبة في القرآن لتنفيذ أحكام الشرع وإقامة المجتمع السليم ونشر الإسلام في الافاق، فالأمة إذًا مطالبة باختيار الحاكم من تحديد مسؤوليتها عن تنفيذ أحكام الإسلام، وهذه السلطة أوكلها إليها الشارع ثم كلفها أن تختار خليفة عنها ليقوم عنها بمباشرة السلطة في تنفيذ ما هي مكلفة به) (¬3). (إذا كان اللَّه سبحانه وتعالى هو أساس السلطة ومنبعها، فإن السلطة لا تستبد بأمرها طبقة مخصوصة، بل هي بأيدي عامة المسلمين، وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشؤونها وفق ما تقتضيه أحكام الشريعة الإسلامية، فالإسلام يتيح حاكمية شعبية مقيدة تعمل في حدود السيادة الإلهية ونطاقها) (¬4). ¬

_ (¬1) خصائص التشريع الإسلامي لفتحي الدريني، 428. (¬2) الإسلام وأوضاعنا السياسية لعبد القادر عودة، 99. (¬3) نظام الحكم في الإسلام لمنصور الرفاعي عبيد، 69. (¬4) النظام الدستوري في الإسلام لمصطفى كمال وصفي، 70.

(الحاكم نائب عن الأمة في تنفيذ حكم اللَّه سبحانه وتعالى الذي اختارته وهي التي تملك عزله، وهي التي وكل إليها تقويمه إذا حاد وتسديده إذا أخطأ) (¬1). (البيعة عقد، ثم إن هذا العقد وكالة، فالوكيل فيه هو الإمام؛ لأن الناس يفوضون إليه وظيفة رعاية شؤونهم والنظر فيها بما يحقق مصالحهم على وفق ما جاء به الشرع) (¬2). وهذا يعني أن سيادة الأمة سيادة مقيَدة: (نادى القرآن بالحكم المقيد بأمر اللَّه والمحكوم المنظوم بالشرعة الاجتماعية والأخلاقية، وأناط الرقابة على كل منهما لسلطة الأمة الشورية) (¬3). (والحاكمية ليست مقيدة لسلطة الدولة فقط، بل لسلطة الأغلبية في النظام الديمقراطي) (¬4). (لأن الحاكم والمحكومين فيها مقيدون بفكرة معينة وبمجموعة من القيم الخلقية والتشريعية التي تكوّن إطارًا قانونيًا ملزمًا للجماعة بأسرها، ما جعلهم يطلقون عليها المبادئ فوق الدستورية) (¬5). (أما عن حدود سيادة الدولة أو سيادة مجموع الأفراد المكونين للدولة الإسلامية، فهي الحدود التي فرضتها الشريعة الإسلامية، وللأمة أن تضع أنظمتها ¬

_ (¬1) الشورى في ظل نظام حكم إسلامي لعبد الرحمن عبد الخالق، 82 - 83. (¬2) اهل الحل والعقد في نظام الحكم الإسلامي لعبد اللَّه الطريقي، 378. (¬3) دستور الحكم والسلطة في القرآن والشرائع لرفيق شنبور، 21. (¬4) الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية لهشام جعفر، 204. (¬5) إرادة الأمة في الفكر السياسي الإسلامي لفضل اللَّه محمد سلطح، 120.

وقوانينها في حدود هذه السيادة) (¬1). (السلطة في الدولة الإسلامية إن كانت تستمد مشروعيتها وأساس وجودها من رضا الشعب واختياره وتوكيله إياها بالسهر على شؤونه، إلا أنها مقيدة بأن تحكم بما أنزل اللَّه) (¬2). (سياسة الدولة الإسلامية سياسة مقيدة بحكم الشريعة الإسلامية، ذلك التقييد الذي لا يؤدي إلى تعطيل نص أو الخروج عليه أو مجافاة قاعدة من القواعد الإسلامية) (¬3). (وأما حدود سيادة الأمة أو سيادة مجموع الأفراد المكونين للدولة الإسلامية، فهي القيود والحدود التي فرضتها الشريعة الإسلامية على ممارسة هذه السيادة، وليس للأمة مجتمعة أو متفرقة، متفقة مع رئيس الدولة أو مختلفة معه، ممثلة في هيئة تأسيسية أو غير ممثلة؛ أن تتصرف فيما جعله اللَّه حقًا للأفراد أو واجبًا على الأفراد أو الجماعات. . وللأمة الإسلامية أن تكيف نظمها وتضع القوانين والدساتير في حدود هذه السيادة) (¬4). (جعل سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية صاحبة السلطان في شؤونها ما دامت تستعمل ذلك السلطان في حدود الكتاب والسنة) (¬5). وإذا كانت سيادة مقيدة، فإن مخالفة الشريعة تفقد السيادة شرعيتها، فلا يكون لها اعتبار: ¬

_ (¬1) أسس العلوم السياسية في ضوء الشريعة الإسلامية لتوفيق الرصاص 37. (¬2) أهداف ومجالات السلطة في الدولة الإسلامية لفوزي طايل 299. (¬3) معالم النظام السياسي في الإسلام لمحمد الشحات الجندي 150. (¬4) نظام الحكم الإسلامي مقارنًا بالنظم المعاصرة لمحمود حلمي 40. (¬5) الدين والدولة في الإسلام للسنهوري، 94، بواسطة كتاب الإسلام والسياسة لمحمد عمارة.

(وبذلك تكون سيادة الأمة مقيدة بهذا التشريع الإلهي، فإذا تجاوزته فقدت مشروعيتها، وفي التحليل النهائي فإننا نجد أنفسنا أمام سيادة للأمة الإسلامية مقيدة لصالح سيادة أسمى وأعلى منها مرتبة، وهي سيادة التشريع المنزل من عند اللَّه) (¬1). (يعتبر الالتزام بتحقيق ذلك الهدف في الدولة الإسلامية هو الحد الأدنى اللازم لوجوب طاعة القائم على السلطة) (¬2). (فلا تستطيع السلطة الحاكمة تجاوز الحدود المقررة في كتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يستطيع الأفراد أن يتواطؤوا أو يمالئوا حاكمًا على إهدار أحكام الشريعة) (¬3). (البيعة المرادة بالشرع انتخاب حقيقي يعبر فيه الناس عن اختيارهم شخص الخليفة الذي سيتولى أمورهم، وطبيعي أن يلتزم المبايعون بالطاعة ما التزم الخليفة بأحكام الدين وتقيد بها) (¬4). (لا شرعية لتصرف يخالف كتاب اللَّه أو سنته ولا ينسجم معهما) (¬5). (لقد أدرك الصحابة رضي اللَّه عنهم هذا الأصل، وهو مبدأ مشروعية ما يصدر عن الإمام من أوامر، وأنه لا بد لها أن تكون مشروعة غير مصادمة للكتاب والسنة، وإلا فقدت قيمتها ووجب رفضها وعدم تنفيذها) (¬6). ¬

_ (¬1) مبدأ المشروعية في النظام الإسلامي والأنظمة القانونية المعاصرة لعبد الجليل محمد علي، 224. (¬2) شرعية السلطة في الإسلام لعادل فتحي ثابت، 294. (¬3) من أصول الفكر السياسي الإسلامي لمحمد فتحي عثمان، 419. (¬4) قاعدة الشورى في مجتمع معاصر لأحمد أبو شنب، 74. (¬5) الحقوق والحريات في الشريعة الإسلامية لرحيل غرايبة، 442. (¬6) الحرية أو الطوفان لحاكم المطيري، 67.

السيادة بين الفكر الإسلامى والفكر الغربي: لقد كان الفكر السياسي المعاصر واعيًا بالفرق الجذري بين مفهوم السيادة في الفكر الغربي ومفهومها في الفكر الإسلامي، فالقائلون بأن السيادة للَّه أو السيادة للأمة أو السيادة مزدوجة كانوا واعين بأن هذه السيادة -أيًا كانت- تختلف جذريًا عن السيادة في الفكر الغربي؛ لأنها سيادة مقيدة ليست مطلقة، وسيادة تستمد شرعيتها من الشريعة وليست سامية ومستقلة عنها، لهذا عقدوا المقارنة بين مفهوم السيادة في الفكر الغربي ومفهومها في الفكر الإسلامي، فأظهروا الفروق الجذرية التي تكشف اختلاف السيادة في المنظومتين: 1 - مصدر السيادة (فمصدر السيادة في العقيدة هو اللَّه. . وفي النظريات الغربية فمردها إلى الإرادة العامة للأمة) (¬1). (الديمقراطية تصدر عن فكرة أن الشعب سيد نفسه ليحكم نفسه بالمنهج الذي يراه مناسبًا، وهذا مغاير للإسلام رأسًا؛ لأنه قائم على التسليم للَّه وحده بسلطة التشريع) (¬2). (السيادة في الديمقراطية الغربية تعني أن إرادة الشعب هي العليا، وأنها في أمور السياسة والحكم والتشريع تبرم ما تشاء وتنتقض ما تشاء، لا يحدها في ذلك حد. . أما السيادة في الفكر السياسي الإسلامي فإنها محدودة من جانب واحد ومطلقة من الجانب الآخر، ففي الجانب الأول يحدها القرآن والسنة اللذان يعتبران من القواعد فوق الدستورية التي تلتزم السلطة التأسيسية باحترامها حين تضع الدستور) (¬3). ¬

_ (¬1) نظرية السيادة لصلاح الصاوي، 74. (¬2) القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام لعبد اللَّه الكيلاني، 79. (¬3) الشورى والديمقراطية لعلي لاغا، 129.

في (حين أن الحكام في الديمقراطية الغربية بإمكانهم أن يفعلوا باسم الأمة ما يشاؤون؛ لأن إرادة الأمة لا تعلوها إرادة) (¬1). 2 - أن سلطة الأمة السياسية في الفكر الإسلامي تعمل في إطار الأحكام الإسلامية ولا اعتبار لها فيما خالف ذلك: (فالمبدأ الإسلامي يعمل في إطار الأحكام الإسلامية التي وردت بها النصوص الصحيحة الصريحة وما أجمعت عليه الأمة بحيث لا تتعارض مع ما يمكن أن يطلق عليه النظام العام للإسلام، ولو تعارض فهو مجرد رأي مبدد الأثر جملة وتفصيلًا) (¬2). (ومن ثم، فاجتهاد المسلمين إنما هو داخل هذه المقاييس، ولكن الديمقراطية تترك للبشر حرية وضع هذه المقاييس) (¬3). بخلاف سلطة الأمة في الفكر الغربي، فإنها سلطة مطلقة لا يحدها شيء من خارجها: (فإذا كانت سلطة الأمة لا تملك الخروج عن هذه النصوص ولا التعديل أو التبديل فيها ولا الزيادة أو النقصان منها ولا نسخها؛ فإنها بذلك تختلف اختلافًا جوهريًا عن سلطة الأمة في الديمقراطيات الغربية، فسلطة الأمة في هذه الديمقراطيات مطلقة، فالقرارات التي يصدرها المجلس الممثل لها تصبح قانونًا واجب النفاذ وتجب له الطاعة حتى إن جاءت مخالفة للقانون الأخلاقي أو متعارضة مع المصالح الإنسانية العليا) (¬4). (منطلق الأساس الفكري لمصطلح الديمقراطية يعطي أفراد المجتمع السياسي سلطات شبه مطلقة في رسم مناهج حياة الشعب في مدلولها الاجتماعي بالصورة التي يرضونها وعلى الطريقة التي يرونها دون حدود أو قيود إلا حدود الدستور، ¬

_ (¬1) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين لحمد محمد الصمد، 234. (¬2) الدولة الإسلامية وسلطتها التشريعية لحسن صبحي، 241. (¬3) الحكومة والدولة في الإسلام لأحمد شلبي، 56. (¬4) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم، 319.

وحتى هذا الأخير يكون قابلًا للتغيير والتعديل. . أما في ظل الأساس الشرعي لمصطلح الشورى، فإن الجماعة السياسية تكون مقيدة في ثبوتها وفي دلالتها بالكتاب والسنة بما يتلاءم مع متغيرات الزمان والمكان) (¬1). وأقوال كثيرة عند المعاصرين تقرر هذا المعنى (¬2). 3 - صلاحية التشريع في النظم السياسية المعاصرة تتسع لكل شيء لا يعارض الدستور، بل لها تعديل الدستور نفسه: (في الزمن المعاصر فإن السلطة التشريعية بإمكانها أن تشرع ما تشاء من الأحكام فيما لا يتعارض مع الدستور، بل هي تملك عادة هذا التعديل في مواد الدستور طبقًا لإجراءات معينة، ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر أن الهيئة التأسيسية في الأمة لها الحق في أن تضمّن الدستور ما تشاء من الأحكام، ومعنى هذا أن الدستور ذاته عرضة للتعديل جزئيًا أثناء الحياة النيابية وكليًا عندما ترغب الأمة في إيقاف العمل بالدستور ليحل محله دستور جديد. وفي المقابل فإن القرآن الكريم دستور الأمة الاسلامية إذا صح التعبير، وكذلك السنة النبوية الصحيحة؛ كلاهما ثابت لا تغيير فيهما ولا تبديل) (¬3). (ولكنه ليس كالنظام الديمقراطي الحديث في أن الشعب يملك التشريع وتعديل النظام كيف يشاء) (¬4). ¬

_ (¬1) مبدأ الشورى قواعده وضماناته لنزار عتيق، 92. (¬2) انظر: الخلافة الإسلامية بين نظم الحكم العاصرة لجمال المراكبي، 417، نظام الحكم في الإسلام بين النظريات والتطبيق لأحمد عبد اللَّه مفتاح 432، الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية لهشام جعفر، 131، المشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم العاصر لمشير الصري، 85، مبدأ الشورى قواعده وضماناته لنزار عتيق، 92، والمشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم العاصر لمشير المصري، 85. (¬3) الدولة الإسلامية وسلطتها التشريعية لحسن صبحي، 296. (¬4) النظام الدستوري في الإسلام لمصطفى كمال وصفي، 14.

(أما سلطة البرلمان فهي مشرعة الأبواب، فمن حقها التشريع المطلق في كافة المجالات، وكل نظام فهو قابل للتغيير والتبديل) (¬1). (أما سلطات المجلس النيابي في الديمقراطية المعاصرة فمطلقة، وإذا كان الدستور يقيدها، فإن الدستور نفسه قابل للتغيير، ولذلك يقال إن الأمة مصدر السلطات في الديمقراطية المعاصرة على الإطلاق، ولكن في الدولة الإسلامية فمصدر السلطات الكتاب والسنة النبوية، أي أن مصدر السلطة هو الشريعة الإسلامية، وإذا قلنا إن الأمة الإسلامية مصدر السلطات فنضيف إلى ذلك أنها مقيدة بنصوص الشريعة) (¬2). وأقوال أخرى كثيرة (¬3). 4 - أن الدولة في الفكر الغربي تنشأ أولًا ثم تضع ما تشاء من القوانين، وأما في الفكر الإسلامي فهي إنما نشأت طبقًا لمبادئ القانون الإسلامي، (فالدولة تنشأ أولًا ثم يدور البحث في تكييف ما يلائمها، أما الدولة في الإسلام فإنها نشأت طبقًا لمبادئ القانون الإسلامي) (¬4). (المفهوم الإسلامي يخالف الديمقراطية في أساس وجودها، فالتشريع في الإسلام سابق على الأمة وعلى الدولة، وهو يحكمها بتشريعه الإلهي ولا تحكمه هي بتشريعها الوضعي) (¬5). ¬

_ (¬1) أهل الحل والعقد صفاتهم ووظائفهم لعبد اللَّه الطريقي، 159 - 160. (¬2) نظرية الخلافة في العصر الحديث لإسماعيل محمد عيسى شاهين (رسالة دكتوراه)، 260. (¬3) انظر: النظم الإسلامية والمذاهب المعاصرة لحسن عويضة، 227 - 228، القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام لعبد اللَّه الكيلاني، 76 - 77، في فقه السياسة لإسماعيل الخطيب، 139، والخلافة والخلفاء الراشدون لسالم البهنساوي، 63. (¬4) معالم الدولة الإسلامية لمحمد سلام مدكور، 121. (¬5) القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام لعبد اللَّه الكيلاني، 76.

لهذا فسيادة الأمة في الفكر الغربي قائمة على تهميش الدين، بخلاف السيادة في الإسلام: (تقوم الديمقراطية أساسًا على مبدأ فصل الدين عن المجتمع، وولادتها جاءت بعد مفارقة الدين) (¬1). (كما أن هذه الديمقراطية تسعى لحكم الدنيا بقوانين وضعية على خلاف شرع اللَّه، بمعنى أنها تسعى لتعديل حكم اللَّه، أما نظام الحكم في الدولة الإسلامية فيسعى لحفظ الدين ونشره وحمايته وحكم الدنيا به) (¬2). فـ (معيار الصواب في ظل هذه الشرعية يتمثل في مدى تعبير المشرع عن إرادة الأمة ومدى تلبيته لأهوائها ورغائبها ومدى خضوعه لقاعدة دستورية القوانين) (¬3). الخلاصة: هذه الاتجاهات والمواقف ترسم لنا معالم رؤية واضحة في فهم وإدراك (السيادة)، وأن عامة المؤلفين في الفكر السياسي الإسلامي كانوا يسيرون على جادة بئنة ومتماسكة في التمييز بين السيادة في الفكر الغربي والفكر الإسلامي، غير أن ضغط المفاهيم الغربية قد شتت الرؤية عند بعض الإسلاميين، وأربك خطواتهم، فأصبحت تسير في طرق متناقضة، تسير على جادة الفكر الإسلامي حينًا، وتأخذ من الفكر العَلماني شيئًا آخر، وهي قصة سنرسم ملامحها ونحكي تفاصيلها بعد قليل بإذن اللَّه. ¬

_ (¬1) في فقه السياسة لإسماعيل الخطيب، 139. (¬2) الدولة ونظام الحكم في الإسلام لحسن السيد بسيوني، 102. (¬3) نظرية السيادة لصلاح الصاوي، 79.

سؤال السيادة. . والإجابات المتعثرة

سؤال السيادة. . والإجابات المتعثِّرة عرضنا في: (سؤال السيادة في الفكر الإِسلامي المعاصر) لاتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر في الجواب عن سؤال السيادة، وتبيّن من خلالها أن ثم رؤية واضحة في إجابة هذا السؤال لدى عامة الباحثين في الفكر الإسلامي المعاصر، مضمون هذا الجواب أن (السيادة للشرع والسلطان للأمة)، فسيادة الأمة سيادة تنفيذ لأحكام الشريعة ولها صلاحية اختيار من يحكمها ومراقبته، ولا يجوز اغتصاب هذا الحق منها بلا رضا ومشورة منها، وهو معنى تتفق عليه جميع الاتجاهات وإن اختلفت في اختيار الصياغة المناسبة. هذا الوضوح لدى عامة الباحثين يقابله حالة من التناقض والارتباك أحدثه (سؤال السيادة) مع عددٍ من الإسلاميين لم يتمكنوا من الجزم بوضوح بأن سيادة الأمة لا يمكن أن تتجاوز سيادة الشريعة، وأن صلاحيات الأمة مفتوحة الفضاء ما لم تخالف الشريعة، بل جعلوا لهذه السيادة مشروعية وقبولًا ولو رفضت الشريعة وتجاوزتها.

فيقرّر أحدهم أن الشريعة ليست قيدًا على السيادة، وإنما هي محل للسيادة! فـ (لا تمثل الشريعة الإسلامية قيدًا على سيادة الأمة، وإنما هي محل لإعمال هذه السيادة أفاء بها اللَّه لمخلوقاته، فسيادة الأمة مطلقة مستنيرة لا قيود عليها) (¬1). وشرعية القوانين إنما تحدّد بحسب قناعات الناس لا بحسب اعتبار الشريعة لها: فـ (شرعية الأحكام والقوانين لا تتوقف على اعتقاد فئة من الناس اتفاقها مع مبادئ الحق أو مخالفتها له، بل تتوقف على قدرة هذه الفئة على إقناع الجمهور بمصداقية رأيها وفاعلية اجتهادها) (¬2). فالأمر بالمعروف بالإِلزام يكون بحسب ما هو معروف ومتّبع لدى الأمة، وليس بحسب ما هو معروف في الشريعة: (الائتمار بين الناس ينحصر فقط فيما أصبح معروفًا بينهم عرفًا متّبعًا عندهم، أما ما خرج عن العرف من الحق والخير فتتحدّد مسؤولية الأمة في الدعوة إليه وتبليغه إلى الناس بالحكمة والموعظة الحسنة) (¬3). ولأن المشروعية بيد الأمة بشكل مطلق فلا تفرض الشريعة إلا عبر إرادة الأكثرية: فـ (لا يحق لأي أقلية إسلامية في مجتمع ما أن تطالب بتطبيق الشريعة وفرضها على الناس بقوة الحديد، بل يلزمها العمل لجعل مبادئ الإسلام وقيمه عرفًا مقبولًا بين الناس) (¬4). ¬

_ (¬1) سيادة الأمة وموقف الإسلام منها لعبد الكريم العواملة، 489. (¬2) العقيدة والسياسة للؤي صافي، 284. (¬3) العقيدة والسياسة للؤي صافي، 278. (¬4) العقيدة والسياسة للؤي صافي، 277.

حتى إن كان الحكم شرعيًا مقطوعًا به: (فإن إيمان المؤمن بوجوب أمر ديني عليه لا يعطيه الحق بفرضه على الآخرين، فهو مكلف به دينًا، وذلك لا يكفي لجعله قانونًا عامًا في المجتمع، بل عليه أن يحاول إقناع الآخرين به حتى يتبناه المجتمع بالطرق الديمقراطية) (¬1). فلا نقول إن الشريعة قيد على سلطة الأمة، بل إن الأمة لها مطلق التشريع وهي لن تخالف الشريعة! (لا حرج علينا لو قلنا إن الإسلام ديمقراطي وإن الشعب المسلم هو مصدر السلطات جميعًا وهو يغير القوانين ويسنها حسب ما يوحي إليه عقله، وكل ما لم يسوغه عقله يضرب به عرض الحائط ويخرجه من الدستور إخراجًا؛ لأن العقل المسلم لا يمكن أن يحيد عن شرع اللَّه، ومن حاد عقله عن ذلك فهو ليس بمسلم وليس بداخل في الشعب) (¬2). فالحكم بالشريعة هو من حكم الشعب لأنها دين الشعب! (إن الحكم الذي يكون قولًا وفعلًا متجسد العدل هو حكم الشعب، والشرع الذي يكون قولًا وفعلًا شرع العدل هو شرع الشعب، وتتجلى سيادة الشعب أول ما تتجلى في حقه في اختيار نظام حكمه، وحقه في التشريع لهذا النظام، وحقه في اختيار حكامه، وحقه في المشاركة في الحكم) (¬3). (فهي التي تؤمن بأن ما يصدر عن اللَّه هو الحق وما هو عن غير اللَّه فبالشورى التي هي الحق أيضًا) (¬4). ¬

_ (¬1) الدين والسياسة تمييز لا فضل لسعد الدين العثماني، 40 - 41. (¬2) معالم الدستور الإسلامي لأحمد صفي الدين عوض، 61. (¬3) إسلام الحرية لا إسلام العبودية لحسن صعب، 78. (¬4) سيادة الأمة وموقف الإسلام منها لعبد الكريم العواملة، 536.

فالمشروعية في النهاية بيد الأكثرية، سواءً اختارت الشريعة أو غير الشريعة: (فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية مرجعية عليا وإطارًا للتشريع والقوانين، فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية، وإن اختارت تعطيل الشريعة فسيكون الموقف إعلان الإنكار والاعتراض الواضح لهذا الاختيار، مع القبول والإقرار السياسي به نتيجة للمسار التعاقدي الدائم) (¬1). حقيقة الخلاف مع هذا الاتجاه: إن كان الفكر الإسلامي قد شاعت فيه مقولات (السيادة للَّه، السيادة للأمة، السيادة المزدوجة)، فهذه الاتجاهات لا تختلف في المضمون، أما الخلاف هنا فهو خلاف حقيقي، فالإشكال هنا ليس في الصياغة ولا في تحديد مفهوم السيادة، إنما الخلاف هنا في الموقف من حاكمية الشريعة، فهي عندهم تابعة لإرادة الأكثرية حتى تكون منسجمة مع مفهومها في الفكر السياسي الغربي. ولا يغب عن بالك أن الخلاف في كل ما سبق ليس في موقفٍ من حزب إسلامي أو شخصية إسلامية أو قضية اجتهادية، الحديث عن أصل الحكم بالشريعة بقطعياتها المجمع عليها. وحين تجعل سيادة الشريعة تابعة لسيادة الأكثرية فعدا ما فيه من إشكالات -سنتحدث عنها بعد قليل- فإن الشريعة نفسها ستكون محكومة بما لا يخالف المفاهيم المعاصرة التي جاءت بهذه السيادة. ¬

_ (¬1) سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة لعبد اللَّه المالكي، 143 - 144.

وهو معنى ظاهر، يقول د. رضوان السيد: (إصرار الإسلاميين على مرجعية الشريعة وليس الشعب له دلالته، فهناك أحكام قطعية في الشريعة في مسائل الحدود والقصاص والحقوق والواجبات لفئات المواطنين تعتبرها نخب اجتماعية وثقافية واسعة منافية لحقوق الإنسان وضرورات المساواة بين المواطنين، وهي كذلك بمقاييس العصر التي تسود العالم اليوم) (¬1). ولهذا ذهب أحد الباحثين إلى أن: (الإمبراطورية الإسلامية -شأنها شأن كل إمبراطورية- لم تتأسّس على عقد اجتماعي يسوي بين مواطنيها، وما كان فيها من تسامح ديني وسياسي -يستحق الفخر والإشادة في سياقه التاريخى- ليس قريبًا مما نطمح إليه من تحقيق مفهوم المواطنة المعاصر) (¬2). فالنظام السياسي الإسلامي يجب أن (يعدل) وفق المواصفات الشائعة في الثقافة الغربية. لأن بناء الدولة الإسلامية الذي كان قائمًا (على قانون الفتح وأخوة العقيدة كما كان حال الإمبراطورية الإسلامية، لم يعد مناسبًا أخلاقيًا ولا ممكنًا عمليًا، فالدول المعاصرة لا تتأسّس على الاشتراك في الدين أو العرق، بل على أساس الجغرافيا) (¬3). (وليس يعني هذا أن العلمانية الغربية هي الحل لعقدنا السياسية الحالية، الحل هو الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية) (¬4). ¬

_ (¬1) سياسيات الإسلام المعاصر لرضوان السيد، 220. (¬2) الناس على دين دساتيرهم لمحمد المختار الشنقيطي، موقع الجزيرة نت. (¬3) الناس على دين دساتيرهم لمحمد المختار الشنقيطي، موقع الجزيرة نت. (¬4) الناس على دين دساتيرهم لمحمد المختار الشنقيطي، موقع الجزيرة نت.

فحين تنزع عن الدولة رابطتها، وتجعل لها رابطة عقدية جديدة تتغير بسببها الأحكام الشرعية، فأي فرق بين (الدولة العلمانية) وهذه الدولة ذات المرجعية الإسلامية! ظاهرة (التلفيق) بين المفهوم الإسلامي والغربي: هذه الآراء المتعثرة تتفاوت فيما بينها، لكنها تنطلق من إشكالية موحدة، هي ظاهرة التلفيق بين المفهوم الإسلامي والغربي، فهي تريد تحقيق سيادة الأمة بمفهومها الغربي، وتريد في الوقت نفسه أن لا تتعارض مع الشريعة، وهذا التلفيق لا يمكن أن يستقيم إلا عبر الوقوع في عدد من المحاذير الشرعية. وليس هذا جديدًا على الفكر الإسلامي، ففي ذاكرته عدد من النماذج التلفيقية وقعت في أوقات متباعدة وفي أبوابٍ مختلفة، إلا أن دافعها المحرك لها ثابت لم يتغير. أصول التلفيق فى مفهوم السيادة: هنا عدد من الأصول التي تستند إليها فكرة التلفيق لتقريب مفهوم السيادة الغربي وتخريجه في صورةٍ يتوهم أنها لا تعارض الإسلام: الأصل الأول: أن حكم الشريعة إنما يكون من خلال تصويت الأكثرية، لأن أي حكم بخلاف ذلك فهو إكراه، واللَّه تعالى يقول {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. الأصل الثاني: أن المشروعية الدينية لا تستلزم المشروعية السياسية، فالسيادة للشريعة دينًا لا يجعلها مشروعة سياسيًا، فالمشروعية السياسية تستند إلى رأي الأكثرية.

مناقشة الأصل التلفيقي الأول

الأصل الثالث: أن سيادة الأمة هي الطريق الأمثل لحكم الشريعة في عصرنا الحاضر، وليس بيد الناس استطاعة شرعية لتطبيقها من دون هذا الطريق. الأصل الرابع: أن سيادة الشريعة لا تطبق إلا عبر الناس أنفسهم، فإن لم تجعل السيادة بيد الناس فستجعلها بيد المتغلب، وكونها بيد الناس أضمن، كما أنهم هم المكلفون بتطبيق الشريعة. وعامة ما يقال في هذا السياق لا يخرج عن هذه الأصول الأربعة. مناقشة الأصل التلفيقي الأول: يقول هذا الأصل أنه لا بد من رضا الأكثرية وإلا كان إكراهًا. وهذا التلفيق يخالف المنهج الإِسلامي في أساسين: الأساس الأول: أن تسمية حكم الإسلام هنا (إكراهًا) هي تسمية منطلقة بحسب الرؤية الديمقراطية، وليست بحسب الرؤية الإسلامية، فالاختيار حسب المفهوم الديمقراطي الليبرالي يتحدد من خلال التصويت الانتخابي، وأي حرمان منه فهو إكراه، وأما الاختيار في التصور الإسلامي فهو تابع للإسلام، فالمسلم حين يدخل في الإسلام فقد اختار أن يحكم بالإسلام، فليس هناك درجة أخرى من الاختيار {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)} [النور: 47]، فالرضا بحكم الإسلام هو من لوازم إيمان المسلم، فكما أن المسلم لا يختار بعد إسلامه أن يصلي أو يصوم أو يبر والديه، فكذلك لا يختار حكم الإسلام. إذن، فحين تحكم المسلمين بالإسلام فهذا من اختيارهم، وليس فيه أي إكراه، فالاختيار يعرف بدخولهم في الإسلام، وليس بإجراء انتخابي معين، فقبل أن

نستدل بآية الإكراه يجب أن نستوعب أن هذا الإكراه هو (إكراه ديمقراطي ليبرالي)، وليس هو (الإكراه الشرعي). الأساس الثاني: أن تحكيم الإسلام وخضوع الناس لحكمه وقوانينه ليس من الإكراه في شيء، ولا علاقة له بقوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، فجعل هذه الآية ذريعة لتعطيل الشريعة غلط وفهم منحرف عنها، ويظهر هذا من وجوه: 1 - أن علماء التفسير قد اختلفوا في تفسير هذه الآية إلى ما يزيد على ستة أقوال ليس فيها أي إشارة إلى أنها تشمل المسلمين، بل كل الأقوال ترجع إلى الكفار بعدم إكراههم على ترك دينهم والدخول في الإسلام قسرًا أو التعرض لهم إن دفعوا الجزية، ولم يقل أحد بتاتًا إنها تشمل المسلمين (¬1). 2 - أن تحكيم الشريعة ليس من الإكراه في الدين، فهو خضوع لقوانينها وأحكامها، وليس فيه إكراه أحد على مخالفة دينه. وعلى افتراض أن ذلك إكراه، فالعموم في الآية (عموم في نفي إكراه الباطل، فأما الإكراه بالحق فإنه من الدين، وهل يقتل الكافر إلا على الدين) (¬2). 3 - أن أحكام الإسلام كانت تطبق في الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلم وخلفائه الراشدين، تطبق على المسلم والكافر، وما كان يؤخذ آراء الناس لمعرفة رضاهم أو سخطهم، بل إن الفتوحات الإسلامية أخضعت بلدانًا كثيرة ولم تخيرهم في حكم الإسلام وهم غير مسلمين، فكيف تخير المسلمين في حكمهم بالإسلام؟ ¬

_ (¬1) فصلتُ هذه الأقوال في كتاب (التسليم للنص الشرعي والمعارضات الفكرية المعاصرة) ص 183 - 185. (¬2) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 233؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/ 280 - 283.

4 - والقول بأن تحكيم الشريعة من الإكراه في الدين يلزم منه نفي وجود أي إكراه في الدين، وهو منافٍ لحقيقة الإسلام، ففيه واجبات ومحرمات وحدود وعقوبات، فلازم هذا القول أن يجعل الإسلام رسالة روحية محضة ليس فيها أي إلزام سياسي -كما هي الرؤية العلمانية-، وأما القول بأن الإسلام فيه إلزامات مع القول بعموم (لا إكراه في الدين) لكل إكراه، فظاهر التناقض! لهذا؛ لا تجد هذا الفهم عند أحدٍ من المتقدمين، فتفسيرهم للآية ينسجم مع فهمهم لأصول الشريعة وقطعياتها، فلا يمكن أن يقول بأن الآية مطلقة العموم في كل إكراه، لأن هذا ينقض أحكام الإسلام بوضوح، لهذا (لم يختلف أحد من الأمة كلها في أن هذه الآية ليست على ظاهرها، لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد على دينه) (¬1). 5 - لا إشكال لدى أصحاب هذه الدعوى من تطبيق الشريعة إن جاءت بتصويت الأكثرية، إذن كيف تكره الأقلية على ذلك ما دام أنه لا إكراه في الدين حسب تصوركم؟ ثم لو أراد بعض من صوت مع الأكثرية أن يتراجع فهل يكره على الدين لمجرد أنه شارك في التصويت؟ فإذا كان تحكيم الشريعة إكراهًا، فلا يجوز تطبيقه على الأقلية ولو أرادت الأكثرية، فعجيب أمر هذا التطبيق، يكون إكراهًا ثم يزول الإكراه بمجرد تصويت الأكثرية! وكأن الآية تقول {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} إلا إن اختارت الأكثرية فأكرهوا الأقلية عليه! والظريف -والمؤسف- أن الأكثرية هذه متعلقة بنسبة غير محددة، فيمكن أن تكون 70 % أو 60 % أو أقل أو أكثر، فأي جرأة على اللَّه فوق أن تحدد نسبة معينة ¬

_ (¬1) المحلى، 2104.

مناقشة الأصل التلفيقى الثاني

تقول هي التي أعرف من خلالها أن هذا إكراه داخل في مراد اللَّه في قوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. فقاعدة (لا إكراه في الدين) أرادوا بها أن تكون (عذرًا) في ترك تطبيق الشريعة إن رفضت الأكثرية، وهي في الحقيقة تلغي تطبيق الشريعة بالكلية ولو أرادت الأكثرية! أرأيتم كيف ظهرت إشكالية التلفيق؟ يريد حكم الشريعة، ويريد حكم الأكثرية، فيأتي بمفهوم خاطئ لقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فيتورط معه لأنه يؤدي به إلى تعطيل الشريعة وعدم الحكم بها أبدًا! ويجعل {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} عامًا يشمل الحكم بالشريعة فيتورط لأنه يؤدي لإلغاء كل الإلزامات في الشريعة حتى تكون رسالة روحية علمانية! مناقشة الأصل التلفيقى الثاني: يقول هذا الأصل: إن سيادة الشريعة جانب ديني، وحتى يحمل صفة (المشروعية السياسية) لا بد له من الرجوع إلى رأي الأكثرية! من طبيعة أي تلفيق أنه يحتاج لحذف شيء من أحد الطرفين حتى يستطيع أن يلفق بينهما. والذي حصل هنا أنه حصل حذف في أحكام الإسلام فجُعلت دينية وليست سياسية، وهذا مفهوم لا تعرفه الشريعة.

لماذا؟ لأن الشريعة نظام حياة ونظام دولة وليست رسالة روحية منزوية عن الواقع، فالأحكام الدينية حسب تصور الإسلام، هي أحكام سياسية. فأي حكم في الواقع يخالف الشريعة فالمسلم مأمور بتغييره (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده) (¬1)، وأحكام الإسلام يجب أن تكون هي الحاكمة والفيصل بين الناس في حقوقهم ومنازعاتهم {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وأي قرار سياسي يجب ألا يخالف الشريعة وإلا فلا اعتبار له (إنما الطاعة في المعروف) (¬2)، إما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (¬3)، وأي نظام فمشروعيته مقيدة بالشريعة (إلا أن تروا كفرًا بواحًا) (¬4). فحين تستحضر هذه الأحكام يتضح لك صورة الأحكام في الإسلام، فالأحكام الدينية هي أحكام سياسية، والأحكام السياسية لا مشروعية لها إن خالفت الأحكام الدينية، فتصور الحكم الديني منعزلًا عن الحكم السياسي هي رؤية علمانية لا علاقة لها بالشريعة (¬5). فحين يقول إن تطبيق الشريعة واجب دينًا، لكنه يحتاج لمشروعية سياسية، فهو يتحدث عبر منطق مختلف عن الشريعة، فوجوب تطبيق الشريعة هو تطبيقها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم برقم (186). (¬2) أخرجه البخاري برقم (7257) ومسلم (1840). (¬3) أخرجه البخاري برقم (7144) ومسلم (4763). (¬4) أخرجه البخاري برقم (7056) ومسلم (4771). (¬5) بيان محكمٌ ومتين عن هذه الجزئية تجده في مقال: (المضمون العلماني في الاتجاه التنويري، لمشروعية السياسية) للشيخ الفاضل أحمد سالم، مجلة البيان، عدد 303، ذو القعدة 1433 هـ.

مناقشة الأصل التلفيقي الثالث

سياسيًا وتغيير أي مخالفة لها ورفض أي قرار ينافيها، وهذه كلها أحكام سياسية، أما مجرد الاعتقاد بوجوب التطبيق من دون تطبيق أي شيء، فهذا ليس هو الواجب ديانة، بل إن الخلاف مع الفكر العلماني إنما هو في تطبيق الشريعة وليس في اعتقاد تطبيقها، والأمر القرآني جاء في تطبيق الشريعة وليس في مجرد الاعتقاد {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. مناقشة الأصل التلفيقي الثالث: يقول هذا الأصل: إن سيادة الأمة هي الوسيلة الممكنة لتطبيق الشريعة في العصر الحاضر. والخلل هنا أنه يقرر أن السيادة وسيلة إلى تطبيق الشريعة، وهذا يعني أنه مراعاة لظرف زمني معين، بينما حقيقة الرأي تقوم على تأصيل كلي لا يرتبط بضرورة أو حالة معينة. فهم يتحدثون أن الشريعة لا إكراه فيها، وأن المشروعية السياسية بحاجة لمشروعية دينية، ثم يرجعون فيفسرون سيرة النبي صلى اللَّه عليه وسلم وخلفائه بما يتفق مع هذه الرؤية، فتقريرهم قائم على اعتبار (سيادة الأمة) أصلًا كليًا، والاستدلال هنا قائم على اعتبار أنها ظرف زمني معين! فليس محل الخلاف أن يشارك الإسلاميون في النظم التي لا تتخذ الشريعة مرجعية لها في سبيل أن يصلوا من خلال هذا إلى جعل السيادة للشريعة، إنما الخلاف في الأصل الكلي القائم على جعل المشروعية للأمة ولا حكم للشريعة إلا من خلالها مطلقًا، وليس لأجل ظرف زمني معين.

مناقشة الأصل التلفيقي الرابع

فهو يعتذر بأنه مضطر لأجل واقع، بينما كلامه تأصيل كلي دائم، كما لو أن شخصًا شارك في بنك ربوي لأجل مصلحة راجحة ثم صار بعد ذلك يقول إن الربا حلال لأنه لا فرق بينه وبين البيع واللَّه تعالى يقول {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]! فكما أن بعض الإسلاميين يشارك في بعض النظم العلمانية لأجل الإصلاح، فهذا لا يجيز له أن يقول بأن الشريعة جاءت بفصل الدين عن الدولة؛ لأنه هو الممكن في تلك المرحلة! ولا يمكن أن يقال إن الخلاف بين (الإسلامي) الذي يشارك في نظام علماني و (العلماني) الذي يرى فصل الدين عن الدولة خلف يسير! مناقشة الأصل التلفيقي الرابع: أن أحكام الشريعة لا تطبق إلا عبر الناس، وهم أضمن للشريعة. وهنا حديث في البدهيات، فلا شك أن كل الأفكار والاتجاهات لا تطبق إلا من خلال الناس، هذه بدهية لا معنى للنقاش حولها، بل حتى الاستبداد والظلم يطبق من خلال الناس، فالخلاف هنا خلف في (المشروعية) وليس في (التنفيذ) أو (الوجود). فعامة الباحثين في الفكر الإسلامي يقول إن سيادة الأمة سيادة تنفيذ، ولا إشكال، الخلل هنا أنهم جعلوها سيادة تشريع يمكن أن تشرع ما يخالف الشريعة، ولا تكون الشريعة نافذة إلا بعد رضاهم. وكونهم أضمن للشريعة، يعني أنهم يتحدثون عن (تنفيذ)، بينما الخلاف في (التشريع).

حكم الفرد أم حكم الأكثرية؟ ويأتي هنا عادة المقارنة بين حكم الفرد وحكم الأكثرية، فيقول كما أنكم تقبلون بحكم الفرد ولو خالف الشريعة، فكذلك نحن هنا نقبل بحكم الأكثرية إن خالفت الشريعة. وحقيقة هذا السؤال يكشف لك الإشكال بدقة. فالمتغلب الفرد إن خالف الشريعة فلا مشروعية لمخالفته ولا يجوز طاعته، وأي قرار يصدر منه مخالف للشرع فلا اعتبار له. بينما هم هنا يقولون إن الأكثرية حين تخالف الشريعة فهذا من حقها، ولها مشروعيتها، ولا مشروعية إلا من خلالها. وهنا يظهر أن إرادة الأكثرية حسب هذا المفهوم تأتي في معارضة الشريعة وليس في معارضة الفرد، لأنها تعطي الأكثرية صلاحية مخالفة الشريعة. نعم، لو قالوا إن الأكثرية مقيدة بالشريعة -كما هو قول عامة الباحثين- لما كان ثم نزاع، ولأصبحت الأكثرية في مقابل الفرد، أما إن أعطيتها صلاحية تجاوز الشريعة فالأكثرية هنا صارت مرجعية في مقابل مرجعية. المرجعية العليا لمن؟ من الأسئلة المركزية هنا: ماذا لو اختار الناس غير الإسلام؟ وفائدة هذا السؤال أنه يكشف المرجعية العليا لمن؟ هل هي للأكثرية أم للشريعة؟ تمامًا كبقية الأسئلة التي تورد على الأفكار والاتجاهات لكشف مضامينها وحقائقها.

يتحاشى كثير منهم الجواب عنه ويقول الناس سيختارون الإسلام فلا معنى للخوف من اختيار غير الإسلام، وهذه صورة افتراضية جدلية. حسنًا، ولماذا الخوف من التصريح بأنه لا اعتبار لهم إن خالفوا الإسلام؟ لماذا التهرب من الإجابة عن هذا السؤال ما دام أنه غير متصور ومجرد فرضية؟ بكل وضوح، لأن هذا السؤال يكشف حقيقة التشريع، هل هو للشعب أم للإسلام؟ فلو قال سيحكم بالإسلام -ولو كانت مسألة افتراضية- فهو قد أسقط مرجعية سيادة الأمة، ونموذج التلفيق يقتضي أن يحافظ على هذه السيادة كما هي. فالقول بأن المشروعية للشريعة، ليس مثل القول بأن المشروعية للناس وهم سيختارون الشريعة، فأنت حين تجعلها للناس تجعل أحكام الشريعة غير ملزمة إلا بعد اختيار الأكثرية، كما أن اختيار الأكثرية لو خالف الإسلام فله مشروعيته، وكل هذا ينافي قطعيات الشريعة. والقول بأن هذا لا يمكن مغالطة واضحة بعيدة تمامًا عن فهم واقع النظم المعاصرة. فالتصويت لن يجري على طريقة أن يدخل شخص على مجلس فيقول: (هل تريدون الإسلام)؟ بل هي مواد قانونية دقيقة في دستور عام، وتعتمد على النشاط المالي والإعلامي والقدرات التأثيرية على الناس، فمن الممكن جدًا أن يتم تجاوز الشريعة من خلالها، فلماذا الهرب من الجواب؟

ثم إن من يقول إن الناس لن يختاروا إلا الإسلام، لا يتفطن إلى أنه يفكر من حيث لا يشعر في واقع نظام سياسي غير إسلامي، لأن هذا معناه أن النظام يكفل للناس المطالبة بتغيير الشريعة، ولهم حق التعبير عن آرائهم ضد الإسلام، وتكوين الأحزاب وتأليب الرأي العام والحشد الإعلامي الذي يشكك في الإسلام ويطالب بتغيير أحكامه، ثم بعد هذا كله يكفل لهم إمكانية تغيره، ثم يكفل التصويت من أجله، ثم بعد هذا ينظر في النتيجة. فصاحب هذا الكلام قفز على كل هذه المقدمات التي تناقض الإسلام مناقضة قطعية، وظن أنه قد أنهى الإشكال لما جزم أن الناس لا يختارون غير الإسلام. والقصة أن هذه الصورة يوردها رافضو الديمقراطية الليبرالية لإثبات منافاتها للنظام السياسي الإسلامي، والجواب الصحيح أن يقول من يدافع عن الديمقراطية بأنها لن تكون بهذه الصورة ما دامت ديمقراطية إسلامية كما يرون، لا أن يتعامل معها وكأنها من المسلمات، ويجعل الإشكالية فقط في كفة الأصوات الأكثر. الغفلة عن هذه المقدمات المهمة تجعل الشخص يتوهم أن الإشكال فقط في التعامل مع نتيجة الانتخابات بل حتى هذا ما عاد إشكالًا عليها، بل هو من محاسنها وفضائلها! (لنفرض فرضًا أن شيئًا من هذه المخاوف قد وقع وظهر بديمقراطية حقيقية أن غالبية المسلمين في قطر من الأقطار قد اختاروا ما يتنافى مع الإسلام وما يعد خروجًا عن الإسلام، فهل العيب في الديمقراطية أم العيب في الواقع القائم؟ فليست الديمقراطية هي التي أتتنا بهذا العيب، وإنما الديمقراطية كشفت لنا هذا العيب، فهذا سبب لشكر الديمقراطية والتمسك بها وليس سببًا لرفضها والقدح فيها واتهامها) (¬1). ¬

_ (¬1) الشورى في معركة البناء لأحمد الريسوني، 170.

سيادة الشريعة أم سيادة الليبرالية؟ من البدهيات في النظم السياسية المعاصرة أنه ليس هناك إرادة مطلقة للأكثرية، فلها صلاحية واسعة لكنها في النهاية محددة بقائمة من الحقوق لا يمكن أن تتجاوزها، فلا يمكن للأكثرية أن تنتهك أي حق من الحقوق المتفق عليها دوليًا، ولا يمكنها أن تعتدي على أي حق من حقوق الأقلية أو تضيق عليها فيه، فهذه الحقوق هي من المبادئ فوق الدستورية التي لا يمكن التعرض لها وليست هي محلًا للتصويت. محل الخلاف مع أصحاب هذا الاتجاه أنه يقبل بهذه الحقوق والحدود ويرفض أن تكون (حاكمية الشريعة) ضمن هذه الحدود، فالشريعة لا بد لها من التصويت ولا يمكن أن تحكم من دون تصويت، ولا يمكن أن تكون مبدأ فوق دستوري، وأما الحدود التي وضعتها (الليبرالية المعاصرة) فهي حدود فوق دستورية ولا يمكن للأكثرية أن تتعرض لها. أرأيتم؟ فالحقيقة أن الخلاف ليس بين (سيادة الشريعة) و (سيادة الأمة)؛ لأن الأمة في النهاية سيادتها مقيدة وتعمل في إطار معين، الخلاف هو بين (سيادة الليبرالية) على الأمة أو (سيادة الشريعة) على الأمة، فلا إشكال في القبول بقيود الليبرالية، وأما قيود الإسلام فيقف دونها ألف إشكال؟ فحين يتحدثون عن (مسار تعاقدي) للأمة لا يمكن فرض أي شيء عليها، وإلا فهو تغلب واعتداء عليها؛ لا يتحدثون عن مسار مفتوح تفعل الأمة ما تشاء، بل هو مسار محكوم بإطار وحقوق وأعراف شائعة لا يمكن أن تتجاوزها، ومع هذا هو راضٍ خاضع مقر بكل ما فيها من حدود، وإنما تتحرك الإشكالية في وجه حكم الشريعة، ثم يُظن أن الخلاف ربما يكون لفظيًا أو من مساغات الاجتهاد!

ستعرف حجم هذا الخلاف حين تقارن الحكم بقطعيات الشريعة مع الحكم بحالة هامشية من الحقوق التي تقرها النظم المعاصرة، فالشريعة -في نظرهم- لا بد لها من تصويت واختيار ولا مشروعية لها إلا من خلاله وتسقط من خلاله، وأما هذا الحق الهامشي فلا يصوت عليه ولا يتعرض له لأنه من الحقوق الطبيعية، وجرب بنفسك فاسأل أصحاب هذا الاتجاه عن أقل حد من التضييق لأي حق هامشي وانتظر جوابهم! لهذا حين يقال: لا أحد يفرض شيئًا على (سيادة الأمة) و (حرياتها) و (قرارها). . . إلخ، فهو لا يتحدث عن حرية وسيادة مطلقة، بل يتحدث عنها وهو مدرك أنها محكومة بـ (إطار ليبرالي) لا يمكن أن تتجاوزه، ولا يريدك أن تدخل فيه المكون الأساسي والتاريخي للأمة الإسلامية (الشريعة)، فالنزاع حينها ليس مع سيادة الأمة وحرياتها وقرارها، بل مع مفهوم هذه السيادة. مصدر الخلل: ماذا لو قالوا: السيادة للشريعة ولا مشروعية لما يخالفها. ما الذي يدفعهم لكل هذه الإشكالات؟ خاصة مع قناعتهم بوجوب تطبيق الشريعة، ومخالفتهم للتيار العلماني في لزوم أحكام الإسلام. التفسير الأقرب لها هو (إشكالية التلفيق والخضوع للمفاهيم الحداثية المعاصرة). فحين يأتي الشخص لمفهوم حداثي معين له فلسفته وسياقاته، ويريد إعماله كما هو، فإنه سيقع في إشكالات كثيرة، وكل ما ورد في هذه المقالة هو نموذج تطبيقي لأحد هذه المفاهيم.

سطوة هذه المفاهيم على بعض العقول هي التي دعت أهل البصيرة من باحثي الفكر الإسلامي المعاصر إلى ضرورة الحذر في تقبل هذه المفاهيم، يقول محمد أسد ناصحًا: (إننا عندما نتحدث عن إرادة الشعب في حدود مفهوم الفكر السياسي في الإسلام، لا بد لنا من أن نفكر بحذر شديد كيلا نقع في الخطأ فنكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، أي أننا يجب أن نحرص على ألا نحل محل الاستبداد الغريب عن الإسلام الذي حكمنا خلال القرون الماضية نظامًا لا صلة له هو الآخر بالإسلام، لأنه يدعو لسيادة مطلقة للشعب) (¬1). فخلل هذه المفاهيم لا يزول بمجرد تغيير المصطلحات: فـ (لا يكفي إذن لإصلاح الديمقراطية أن نغير اسمها ونصفها بأنها شورى، بل لا بد من أن تقوم على الأسس الشرعية للشورى الإسلامية، وأول هذه الأسس التزامها بمبادئ الشريعة الإسلامية وعدم فصلها عنها) (¬2). فالمطلوب من الباحث أن يفهم الإسلام كما هو لا أن يسعى لتجميله وتحسين صورته: (وما درى هؤلاء أنهم يشوهون الإسلام لأنه لا بد لهم في محاولتهم هذه أن يميلوا إلى التصنع والتأويل حتى تتم لهم تلك المحاولات. ومن هنا يأتي التحريف والتزييف والوقوع في الزلل والأخطاء في الإسلام ونظمه، وتغليف جوهره الصافي بسحابات الضباب والأفكار الغربية. ¬

_ (¬1) منهاج الإسلام في الحكم، 79 - 81. (¬2) فقه الشورى والاستشارة لتوفيق الشاوي، 583.

ولما كانت النظريات ليست في غالبها إلا مجرد انعكاسات للفلسفة التي يقوم عليها النظام السياسي الذي ظهرت في ظله أو انعكاسًا لواقع هذه النظم ذاتها، فإن محاولة الباحثين في الإسلام لتفسير النظم السياسية الإسلامية على هدى تلك النظريات لن يجرنا إلى أخطاء في التطبيق، وإنما إلى أخطاء فادحة في منهج البحث والدراسة. فإن لكل نظام فلسفته وتاريخه ونظمه، والإسلام يستقل استقلالًا تامًا عن كل النظم كان تشابه من وجه أو آخر مع بعضها أو في أجزاء منها، لكنه يظل متفردًا من حيث ذاتيته وأساسه الاعتقادي على وجه الخصوص، ولا يصح أن نفسر أي نظام من نظمه إلا على ضوء أسسه الفكرية الخاصة) (¬1). والتلفيق حالة من الوهن تحتاج لمثل هذه العزة والثقة: (دفعهم حماسهم للإسلام إلى أن يثبتوا فيه بغير دراسة متعمقة كل ما يرونه قد راج في أسواق العالم المتحضر، متوهمين أن في ذلك خدمة جليلة للإسلام، فكأنه في أعينهم طفل يتيم ذليل لا يعيش إلا إذا جعل تحت رعاية رجل ذي جاه ونفوذ، أو هم يخافون أن لا تكون لهم عزة من حيث كونهم مسلمين ولا ينالون من الشرف شيئًا إلا إذا أخرجوا للناس مبادئ وأصولًا من دينهم مثل مبادئ النظم السائدة في عصرهم. فإذا راجت الديمقراطية كان الإسلام ديمقراطيًا، وإذا راجت الاشتراكية كان الاسلام اشتراكيًا، وإذا راجت نظرية سيادة الأمة كانت هذه النظرية من نظريات الإسلام) (¬2). ¬

_ (¬1) رقابة الأمة على الحكام لعلي محمد حسنين، 184 - 185. (¬2) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم، 18 - 19.

حينها لن يقع في مرض الخوف من: (أن يعاب على التفكير الفقهي الإسلامي أنه لا يوجد به مكان لكل نظرية سياسية أو دستورية قديمة أو حديثة) (¬1). هى جاذبية إعلامية. . ولكن؟ حين تتحدث في الإعلام بلغة: إن الشعوب قد تحررت ونالت سيادتها كاملة، فلا يمكن فرض أي شيء عليها، فمن حقها اختيار أي منظومة تريدها، وإن اختارت الإسلام فهذا من حقها، كان رفضته فهذا من حقها، والإسلام يكفل الحريات كاملة. . . إلخ. هو حديث له جاذبية، ويثير مكامن الرضا والاستحسان في وجوه فئات مختلفة لا تزال تحمل عداءً للمشروع الإسلامي، وسيريح المتحدث مزاجه من مسائل وإشكالات كثيرة تحاصر الإسلاميين، كما أنه هو الممكن في عدد من البلاد الإسلامية. لكنه في الحقيقة قلمٌ يجري على أحكام الشريعة بالتعديل والتغيير، ويجترئ على اللَّه، فيجعل مراد اللَّه تابعًا لما هو ممكن في الواقع، ويوجه الأحكام بحسب المتاح، ويكون السياق الإعلامي المناسب هو المعيار الذي يحدد تفاصيل الأحكام الشرعية! ¬

_ (¬1) مبدأ الشورى مع المقارنة بمبادئ الديمقراطيات الغربية والنظام الماركسي ليعقوب المليجي، 181.

علمانية ما قبل الأسلمة!

عَلمانيةُ ما قبل الأسلمة! يُعدُّ كتاب (الإسلام وأصول الحكم) أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية داخل الوسط الإسلامي، وقد نشره الشيخ القاضي علي عبد الرازق عام 1925 م بعد عامٍ من القضاء رسميًا على مسمى الخلافة العثمانية، أحدث به معركة ثقافية وسياسية ضخمة. تقوم فكرة الكتاب المركزية على تفسير (الدين الإسلامي) بما يتفق مع التصور الغربي للدين، فرسالة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما هي إلا رسالة روحية ليس فيها إلا البلاغ لوجود (آيات متظافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان) (¬1). فهي رسالة لا تتضمن سلطة حكم، حيث كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (رسولًا لدعوة دينية خالصة للدين لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة) (¬2)، وإنما أحدث ذلك ¬

_ (¬1) الإسلام وأصول الحكم، 87. (¬2) الإسلام وأصول الحكم، 82.

المسلمون من بعده، وكانت الحكومة التي أقامها الصحابة من بعده حكومة دنيوية ليست من أحكام الإسلام (¬1). شذوذ هذا الرأي ونكارته أحدث ردة فعل صارمة شديدة ضده، فأصدرت هيئة كبار العلماء في مصر بتوقيع (24) عالمًا، بيانًا ذكروا فيه أخطاء الكتاب البارزة، وحصروها في 7 مخالفات ظاهرة (¬2)، ثم توالت الردود العلمية، فكتب الشيخ محمد الخضر حسين: (نقض الإسلام وأصول الحكم)، وكتب الطاهر بن عاشور: (نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم)، وألَّف محمد بخيت المطيعي رسالته: (حقيقة الإسلام وأصول الحكم)، وأرَّخ الدكتور محمد ضياء الدين الريس للتفاصيل السياسية المتعلقة بصدور الكتاب في رسالته: (الإسلام والخلافة)؛ فكانت -مع جهود علمية أخرى- سببًا في سقوط الكتاب سقوطًا مريعًا في جانبه العلمي، وكشفت عن أخطائه وسوء تصوّراته، حتى أصبحت قيمة الكتاب في حدثه التاريخي وليس في القيمة العلمية الضعيفة والمتناقضة في تقريراته. لم يتوقف الأمر عند هذا، بل أصبح مبحث الإسلام (دين ودولة) من المباحث المركزية في الفكر الإسلامي المعاصر، فتوالت الدراسات والبحوث المؤصلة لهذا المفهوم، والمجيبة عن جميع الإشكالات والشبهات التي يثيرها أصحاب الاتجاه العَلماني، وحدَّدت الدوافع لتبني مثل هذا التفسير العَلماني للإسلام، وشارك فيها أهل العلم من جميع التخصصات المختلفة. ¬

_ (¬1) انظر: الإسلام وأصول الحكم، 105. (¬2) هذه الأخطاء هي: جعله الإسلام رسالة روحية لا علاقة لها بالحاكم وأمور الدنيا، ومهمة الرسول مهمة بلاغ مجردة عن الحكم والتنفيذ، وأن الدين لا يمنع أن جهاد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان لأجل الملك، وأن نظام الحكم في عهد الرسول كان موضع غموض، وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية، وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب إمام للأمة، وأن حكومة أبي بكر كانت حكومة لا دينية. انظر: حكم هيئة كبار العلماء، 5 - 6 من مطبوعات المكتبة السلفية.

عامة الدراسات المعاصرة التي تبحث الجانب السياسي في الإسلام في أي مجالٍ من مجالاته، كالدراسات عن النظام السياسي أو القانون الدستوري أو نظام الدولة أو الخلافة أو البيعة؛ لا بد أن تعرّج على رأي عبد الرازق بالنقض تفصيلًا، وتزيده نقضًا بحديثها المسهب عن جميع القضايا السياسية من منظور شرعي. كان لهذه الجهود العلمية الحثيثة أثر ظاهر في كسر العمود الفقري للعَلمانية، وفي قطع الطريق عن أي أمل لمحاولة إنعاش هذه الفكرة، حتى أصبح كثير من العَلمانيين يتحاشى الانتساب لها، وصار اسم علي عبد الرازق مشوّهًا ومثيرًا للنقد والامتعاض لما أحدثه من هذه السنة السيئة، بل إن بعض المفكرين الذين تأثروا بمدِّ العَلمانية سرعان ما عادوا وأعلنوا توبتهم كما فعل الشيخ خالد محمد خالد حين أسَّس للعَلمانية في رسالته الأولى (من هنا نبدأ) التي نشرها عام 1950 م، ثم عاد فنقضها في رسالته الأخيرة (الدولة في الإسلام) والتي قرر فيها أنه كان في تصوره لمفهوم الدين متأثرًا بطبيعة الأنظمة المستبدة في أوروبا، وخاضعًا لتأثير ما كان يُنسب إلى بعض الإسلاميين من أخطاء، فأدى به ذلك لاعتناق العَلمانية. يعترف بعدها أنه أخطأ حين جعل أخطاء بعض الإسلاميين مصدرًا للتفكير وليس موضوعًا للتفكير، فدفعه هذا الشحن النفسي إلى الابتعاد عن الحقيقة وتبني مقدمات غير مستقلة فكريًا (¬1). كان لهذه الحملات العلمية والشعبية أثر عميق يعبِّر عنه أحد المؤلفين العَلمانيين بقوله: (كانت لهذه الحملة على العَلمانية عمومًا، وعلى طه حسين وعلي عبد الرازق بوجه الخصوص، نتائج كثيرة، كانت اثنتان منها على قدر كبير من الأهمية، وهما: ضمور الإصلاحية الإسلامية وجمودها على بعض لحظات بدايتها والتآكل ¬

_ (¬1) انظر: الدولة في الإسلام، 9 - 16.

الداخلي في مواقف بعض العَلمانيين الليبراليين المصريين) (¬1). حتى أصبح اسم (علي عبد الرازق) مشوّهًا إلى حدٍ امتعض منه هذا المؤلف قائلًا: (بل اضطر حتى بعض القائلين بمَدَنية السلطة إلى ممارسة طقس رفض كتاب عبد الرازق) (¬2). هذا التشويه للعَلمانية دفع كثيرًا من المتأثرين بالفكر العَلماني للبحث عن جذور إسلامية يمكن استنبات المضامين العَلمانية فيها، بحيث تقدَّم الفكرة العَلمانية كفكرة إسلامية تراثية لتخطي مصادمة الجمهور، وهي دعوة رائجة لدى عدد من المفكرين المعاصرين المستشعرين لحالة النفور الشعبي من العَلمانية، وهو ما تذمر منه بعض العَلمانيين واعتبروه انهزامًا أمام الفكر الإسلامي وتخليًا عن أساس الفكرة العَلمانية وعلامة تراجع وانتكاس لها: (الأخطر من كل هذا والأكثر تدليلًا على تراجع الفكر العَلماني عندنا: ما نشهده من محاولات حثيثة من قبل المفكرين العَلمانيين لدعم موقفهم عن طريق اللجوء إلى القرآن والسنة، غير مدركين أنهم يقدِّمون بهذا أكبر التنازلات للحركات المناوئة للعَلمانية) (¬3). يدفعنا هذا للتساؤل عن حظوظ العَلمانيين في إمكانية إعادة بناء الرؤية العَلمانية التي قدمها علي عبد الرازق: فهل يمكن لهذه الفكرة أن يعود وهجها وحضورها الشعبي؟ وهل يمكن حدوث معارك ثقافية معاصرة تجدد الدماء في هذه القضية؟ ¬

_ (¬1) العلمانية من منظور مختلف لعزيز العظمة، 235. (¬2) العلمانية من منظور مختلف، 293. (¬3) الأسس الفلسفية للعلمانية لعادل ضاهر، 16.

ربما يكون لدينا عشرات الإجابات لهذا السؤال نظرًا لاختلاف الزاوية التي ينظر منها كل شخص، وأرى أن فكرة عبد الرازق تحتوي على جانبين: الجانب الأول: تفسير الإسلام تفسيرًا عَلمانيًا بحيث يكون مجرد رسالة روحية ليس لها أي علاقة بالجانب الدنيوي، إنما تكون علاقة المسلم بالدين محصورةً في الشأن الخاص، وأما الشؤون الدنيوية كافة فهي خارجة عن المجال الديني. هذه الرؤية ليس لها أي حضور يُذكر في الوسط المسلم، وحين تكدُّ بصرك في البحث عن آثار أهلها لن تجدهم إلا في أوساط الحداثيين وبعض المفكرين في مؤلفاتهم وصالوناتهم ذات التأثير المحدود، ربما تنتشر بعض آرائهم عند الناس شتمًا وعيبًا ليس إلا. الجانب الثاني: علمنة النظام السياسي في الإسلام بإبعاد الأحكام الدينية عن السياسة، فيكون الجانب السياسي جانبًا دنيويًا مصلحيًا لا يستند فيه إلى أحكام شرعية ملزمة. هذا الجانب لا يلغي أن الدين في الإسلام يشمل جوانب حياتية كثيرة، لكن يرفض أن يكون للدين حضور في النظام السياسي الملزم. هل يمكن إعادة ترميم هذه الرؤية من جديد؟ ثم سؤال آخر لا بد من الإجابة عنه لأنه مدخل مهم للإجابة عن هذا السؤال، وهو: لماذا يرفض العَلمانيون حضور الدين في الجانب السياسي؟ فالدافع لعَلمانية الحكم هو ما يثيره حضور الدين في النظام من إشكالات، فليس لديهم إشكال مع الدين في الجانب الخاص، ولا إشكال مع الدين في قضايا

الدنيا الأخرى، إنما وجود الدين في النظام له عدد من السلبيات هي التي دفعتهم لتبني هذه العلمنة. فتأثير الدين على النظام السياسي والقوانين غير مقبول في العقلية العَلمانية لمرتكزين أساسين: الأول: عدم إيمانهم أساسًا بوجود رؤية دينية قطعية صحيحة، وإنما هي كلها اجتهادات نسبية، ووجهات نظر خاصة، وفرض الدين يعني فرض رؤية خاصة، ما يعني استبدادًا باسم الدين، وعدوانًا على الآخرين بسبب فهم ضيق للدين، ولذا فهم يعتمدون على مرجعية أخرى مختلفة. ثانيًا: أن الدولة المعاصرة دولة مدنية تعتمد على أسس من العقل والتجربة والخبرة مستقلة تمامًا عن الدين، فخضوعها للدين سيكون انتهاكًا للحريات وحقوق الأقليات والمرأة والمساواة وغيرها من منجزات الدولة المعاصرة، ويستحضرون في هذا عددًا من التجارب التاريخية والحديثة التي يرونها ملازمة للحكم بالدين. إذا استحضرنا هذين الدافعين اللذين يدفعان نحو (علمنة النظام السياسي) بإبعاد الدين عنه، يسهل علينا أن نجيب عن سؤال: هل يمكن لهذه العلمانية أن يكون لها شيوع وانتشار في المرحلة الحالية؟ الواقع يجيب بوضوح: نعم، وما يؤهلها للانتشار أكثر هو أن هذه العَلمانية بدأت تتسلل إلى تفكير بعض الإسلاميين، وصار (المضمون العَلماني) هذا يعبَّأ في أوعية إسلامية، فأصبح النموذج العَلماني نموذجًا متسقًا مع المفهوم الإسلامي ولا يصادم الأحكام الشرعية، بل ويُقدِّم له عددًا من النصوص والدلائل الشرعية التي تدعمه وتؤيده كما تقرِّر ذلك بعض الدراسات والمؤتمرات والمحاضرات المعاصرة.

فالذي حصل أن إشكاليَّتي التفكير العَلماني في نفي (وجود رؤية دينية قطعية) بما يعني فرض رؤية استبدادية، و (طبيعة الدولة الحديثة التي لا تعتمد على الدين) بما يثير عددًا من الإشكالات؛ قد تسرَّبت إلى عقول بعض الإسلاميين، فأصبحت هذه الإشكالات حاضرة في تفكيرهم بدرجات متفاوتة، ولا شك أن حضورها لن يكون كما هو لدى العَلمانيين، فثم اختلاف كبير في التصورات بينهما، لكن الإشكال ذاته موجود بدرجة معينة وقد يزيد ويضعف بحسب عوامل كثيرة، هذا كله يسهم في أن تعود العَلمانية في جانبها السياسي من خلال بعض الإسلاميين أنفسهم. كيف يمكن ذلك؟ الواقع أن (بعض الإسلاميين) صار يقدم عددًا من الرؤى التجديدية في الفكر الإسلامي يفسر بها النظام السياسي الإسلامي تجعلها متقاربة لحد كبير -إن لم تكن متطابقة- مع الرؤية العَلمانية للنظام السياسي، فالنتيجة بين الطرفين واحدة وإن اختلفا في الطريق الموصل إليها. فتكثيف العَلمانيين للدوافع التي تخوف الناس من الحكم الإسلامي، مع وجود بعض الرؤى التجديدية المنسوبة إلى الإسلام، يعطي فرصة كبيرة لمفهوم (علمنة النظام السياسي) أن يكون له حضور في المرحلة القادمة. -بعد قليل- سنستعرض عددًا من هذه الرؤى التجديدية التي يقدمها بعض الإسلاميين ونقارنها بالمفهوم العَلماني، لنبحث عن أوجه الاتفاق والاختلاف، ونتمعّن بعدها في (قصة العَلمانية المؤسلمة) وما الذي تجاوزته من (عَلمانية ما قبل الأسلمة)!

قصة العلمانية المؤسلمة!

قصة العلمانية المؤسلمة! سأستعرض هنا عددًا من الرؤى التجديدية في الفكر السياسي كما يعرضها بعض المعاصرين، وسنفحصها جميعًا من خلال مقارنتها بـ (المضمون العلماني) لنكشف وجه الاختلاف الذي تفترق فيه هذه الرؤى عن المضمون العلماني. عرضنا فيما سبق لـ (أسلمة العلمانية) وذكرنا أن لها جانبين: الجانب الأول: علمنة الدين الإسلامي كله وجعله مجرد علاقة روحية بين العبد وربه وليس له أي شأن بالأحكام الدنيوية، وهذه علمانية صلعاء هرب منها كثير من العلمانيين المعاصرين، فلا إمكانية لإعادة أسلمتها من جديد. الجانب الثانى: العلمانية في جانبها السياسي القائمة على فصل الدين عن النظام السياسي وعدم خضوع الأحكام السياسية الملزمة لأي رؤية دينية، وهذه الرؤية قابلة لأن تؤسلم ويتصالح معها بعض الإسلاميين، ويمكن أن تعبأ في أوعية جديدة كالرؤى التجديدية المعاصرة:

الرؤية الأولى: أن الإسلام لم يأتِ في الجانب السياسي ونظام الحكم إلا بمبادئ كلية عامة وليس فيه أي تشريعات أو أحكام تفصيلية، فالواجب في الحكم الإسلامي هو الشورى والحرية والعدالة والمساواة ونحوها، وليس ثمَّ أحكام للشريعة في السياسة والحكم سوى هذه المبادئ. حين نفحص هذا الوعاء نجد أن المبادئ العامة أمور كلية فطرية متفق عليها بين جميع الناس، فلا وجود لمنظومة فكرية ذات بال تقول إنها ترفض الحرية أو العدالة أو المساواة، وإنما الخصومة والنزاع دائمًا في التفصيلات والتشريعات الجزئية. وعندما بحث الأستاذ القانوني د. عبد الحميد متولي الخلاف في مسألة الإسلام دين ودولة وذكر قول علي عبد الرازق في نفي وجود دولة، وقول من يرى وجود دولة بمعنى مبادئ عامة؛ ذكر أنه لا خلاف بينهما على الحقيقة، وأن هذه الرؤية لا تختلف كثيرًا عن رؤية علي عبد الرازق، و (لو أن المسألة وضعت هذا الوضع لما كان ثمة موضع للخلاف؛ لأنه لا يمكن أن يكون ثمة خلاف في أن القرآن جاء بمبادئ الشورى والحرية والمساواة والعدالة وغيرها مما يتعلق بنظام الحكم) (¬1). وهذه المبادئ الإسلامية كما يقول أحدهم ساخرًا: (ليست هذه القيم سوى المعاني الديمقراطية ذاتها بعد ترجمتها إلى المصطلحات الإسلامية) (¬2). الرؤية الثانية: أن مهمة الدولة في الإسلام هي حفظ الحقوق ورعاية الحريات وتوفير مناخ ¬

_ (¬1) مبادئ نظام الحكم في الإسلام لعبد الحميد متولي، 105. (¬2) برهان غليون في النظام السياسي في الإسلام، 184، حوار بين د. برهان غليون ود. محمد سيم العوا، ضمن مطبوعات دار الفكر.

آمن للحرية الفكرية والتعددية الثقافية من دون أي تدخل لفرض رؤية معينة، ويساق لأجل ذلك عدد من النصوص والأدلة. معنى هذا أن مهمة الدولة في حفظ الدين هي أن تتيح له حرية الوجود من دون أن يكون هناك أي فرض أو إلزام بشيء منه، ولا تنسَ أن تستحضر أن الحرية هنا ستكون للدين ولما يضاده، فحقيقة هذا الكلام هو إعادة صياغة للفكرة العلمانية بطريقة تكون مقبولة إسلاميًا، فالخلاف (الإسلامي/ العلماني) لم يكن عن السماح للدعوة أو منعها، بل حول الإلزام والفرض للأحكام الشرعية. الرؤية الثالثة: أنه لا يمكن تصور فصل الدين عن الدولة؛ لأن الدولة إنما تقوم على الشعب، وهو شعب مسلم، فالإسلام مؤثر في تفكيرهم وسلوكهم بما يظهر أثر ذلك على الدولة. وهذا تفسير جديد لمفهوم (فصل الدين عن الدولة) الذي كان محور النزاع الإسلامي/ العلماني يراد به زحزحة الخلاف عن مكانه الحقيقي، فلم يكن محل النزاع هو النوازع الذاتية التي تؤثر على تفكير الشخص، إنما كان تحديدًا عن أثر الدين على القوانين والنظم من جهة الفرض والإلزام، وهو ما يرفضه مثل هذا التفكير، لكنه أشغل الذهن بتحويله لمسار آخر. الرؤية الرابعة: أن الأحكام الشرعية تحتاج إلى شرعية سياسية حتى تكون ملزمة قانونًا، فإذا اختار الناس الحكم بها فتكون لها شرعية لأنها اختيرت من الناس، وإن لم تحز على اختيار الأكثرية فلا شرعية سياسية لها.

وهذه الرؤية تسعى للمواءمة بين الإلزام بالشريعة وبين الحداثة السياسية المعاصرة، فتجتهد في تكييف الإلزام الشرعي وإخراجه بشكل مدني بشري قائم على اختيار الناس كأي قانون آخر، فالحكم بالإسلام حينئذ لن يكون مبينًا على رؤية دينية ولزوم شرعي، بل لأنه قانون مدني مثل أي قانون آخر جاء بقانون ويمكن أن يذهب بقانون، فله شرعيته واحترامه السياسي ما دام قانونًا، وتذهب هذه الشرعية بذات الطريقة التي جاءت بها، لهذا لا يرفض كثير من العلمانيين تحكيم الشريعة حين يأتي عن طريق اختيار الناس؛ لأن المشروعية العليا حينها للناس وليس للشريعة. الرؤية الخامسة: أن كل جريمة معصية، وليس كل معصية جريمة، فلا يلزم من كون الشيء حرامًا أن يكون مجرمًا قانونًا، فالمحرم آثم شرعًا ويعاقب عليه في الآخرة، وكذا تارك الواجب، وأما في الدنيا فلا يلزم أن يكون عليه عقاب أو منع. وحين يكون الأمر مجرد تجريم أخروي فليس لدى العلمانيين أي إشكال مع هذا التفكير، بل هي ذات رؤية علي عبد الرازق، فهو لم يقل إن من حق الشخص أن يفعل المحرمات ويترك الواجبات ولا عقاب عليه في الآخرة! إنما حديثه عن الجانب الدنيوي، فنفي التجريم عن المحرمات الشرعية -إلا عن المحرمات التي تجرم في القانون المعاصر- هو ذات الرؤية العلمانية لكن عبر مدخل جديد. الرؤية السادسة: أن رابطة الدولة في العصر الإسلامي الأول كانت تقوم على الدين نظرًا للظرف التاريخي الذي عاصرته، فكان حضور الدين تبعًا لطبيعة الرابطة، بينما الرابطة المعاصرة هي رابطة دنيوية تعاقدية بحتة، وحينها تتوقف كافة الأحكام الشرعية لأنها مرتبطة بظرف معين قد اختلف.

وهذا في الحقيقة هو ذات المضمون العلماني بإعادة صياغة فقط وبالبحث عن سياق إسلامي مناسب يمكن أن تسير عليه العربة العلمانية. الرؤية السابعة: أن تصرفات الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- المتعلقة بالإمامة والقضاء كلها قضايا مصلحة دنيوية ليست تشريعًا من السماء، فالشؤون الدستورية والسياسية هي من المصالح المتغيرة، وما جاء فيها من أحكام فهو لأجل الاستفادة منها والبناء على أصولها ومناهجها القائمة على اعتبار المصالح وليس لأجل الالتزام بها. ومعنى هذا الكلام أنه لا وجود لتشريعات ملزمة في النظام السياسي الإسلامي، وما وجد سابقًا هو مرحلة تاريخية ليس إلا. هذه سبعة تفسيرات للنظام السياسي صدرت من عدد من المعاصرين، لست أريد تقويمها تفصيلًا وبيان ما فيها من قصور، إنما أريد مقارنتها بالنموذج العلماني للنظام السياسي. السؤال المركزي هنا: في أي شئ تختلف هده التصورات عن النظام السياسى العلماني؟ سؤال مباشر يحتاج لإجابة واضحة، فإن كان ثمَّة فرق واضح فيجب إظهار هذا (المضمون الإسلامي) المختلف ليكون الناس على بينة. سأجيب عنه بشكل منفرد، وأرجو من أصحاب هذه التصورات أن يقدموا إجاباتهم. رأيي بوضوح أن فرق هذه التصورات عن النموذج العلماني فرق ذاتي لا موضوعي، بمعنى أن ثمَّة فروقًا قد تكون ظاهرة لكنها بحسب الاجتهاد الشخصي

البحت، فقد يتفق عدد من الأشخاص على إشاعة مثل هذه التصورات، ويكون لدى بعضهم فرق واضح بين رؤيتهم والرؤية العلمانية، بينما لا يستطيع غيرهم أن يوضح ذلك الفرق. لماذا حصل هذا؟ لأن التصور بحد ذاته ليس فيه افتراق ظاهر عن النموذج العلماني، فهذه التصورات السبعة في الحقيقة لا تختلف كثيرًا عن التصور السياسي العلماني، وإن جاءت بطريقة مختلفة، وبُحث لها عن مسار إسلامي. فالنموذج العلماني قائم على إلغاء مبدأ وجود قوانين ملزمة على الجميع استنادًا إلى سبب ديني وحكم ديني، وكل التصورات السبعة موصلة لذات النتيجة التي يقوم عليها النموذج العلماني. لهذا صار من المحرج جدًا حضور اسم العلمانية هنا، فالعلمانية مشوهة لأبعد حد، وهذه الرؤى متقاربة جدًا مع جانبها السياسي. لهذا قال بعضهم: يجب إعادة تفسير العلمانية لأنها ظُلمت كثيرًا. وقال آخر: العلمانية فيها جوانب إيجابية، فقد قيدت سلطة رجال الدين ولا إشكال في قبول ما فيها من حق. وقال ثالث: إن كانت علمانية متطرفة فلا يمكن قبولها، وأما العلمانية المعتدلة فيمكن قبولها والاستفادة منها. وقال غيره: هناك علمانية تحارب الدين، وعلمانية تتصالح مع الدين.

هذه التقسيمات وغيرها تكشف عن وجود أزمة حقيقية في كيفية التخلص من ورطة اسم العلمانية، فثمَّة شعور بضرورة تحريك العلمانية من مكانها إلى مناطق جديدة حتى يسلم الشخص من تحمُّل تبعة بشاعة اسم العلمانية لكل من يقترب منها. وواقع الأمر أن علمانية علي عبد الرازق لم تكن علمانية ملحدة، ولا متطرفة تعادي التدين، بل من يقرأ كتابه (الإسلام وأصول الحكم) سيجد أنه يظهر احترام النصوص ويستدل بالقرآن، فإشكالية الفكر الإسلامي مع العلمانيين لم تكن في الأساس لأنهم لا يؤمنون باللَّه أو يقتلون من يصلي، فهؤلاء خلافنا معهم في الإسلام، وأما العلمانية فخلافنا معهم في حكم الإسلام وتفسيرهم للإسلام، فلا معنى لأن يقول بعضهم ثمَّة علمانية ملحدة وغير ملحدة؛ لأن الخلاف مع الملاحدة في شيء أخطر من الفكرة العلمانية. يجيب بعضهم عن إشكالية التقارب مع العلمانية فيقول: العلمانية ليست تفسيرًا واحدًا، فكل نظام له نموذج مختلف، بل حتى الأنظمة العلمانية المتوافقة في الفكر تجد بينها اختلافًا كبيرًا. وهذا جواب يصرف نظر بعض الناس عن الإشكال لكنه لا يقول شيئًا، فمن البديهي أن الأنظمة العلمانية تختلف، ككل الأفكار والاتجاهات، فلا يوجد في الدنيا اتجاه أو مذهب أو فكر لا يقوم على خلافات ورؤى متباينة، إنما هذه الخلافات ترجع لأصول محددة وتتفق على جذور مشتركة وإلا لما صارت فكرة واحدة ولا كانت منظومة محددة، فحديثنا هنا ليس عن (فروع) تفصيلية في العلمانية، بل عن الأصل العلماني المشترك.

من الملفت للنظر هنا أن مبررات العلمانيين ودوافعهم لرفض الحكم بالإسلام أو التشكيك فيه أصبحت متسربة ومتداولة عند بعض الإسلاميين، فصرتَ تقرأ في أدبيات بعض الإسلاميين مثل هذه العبارات: (عن أي شريعة تتحدثون؟ لا يمكن فرض رؤية دينية محددة، نحن لا ننكر أن التحريم والتحليل للَّه لكن هذا لا يعني أن يكون حرامًا في الدنيا، هناك فرق بين الشريعة وتطبيق الشريعة فالشريعة مقدسة وأما تطبيق الشريعة فاجتهادي، ونحن نريد تنزيه الدين وجعله مقدسًا بعيدًا عن ألاعيب السياسة وعبث المستبدين حتى لا يتحمل الدين سوء بعض أتباعه). ونحو هذه المبررات التي تصاغ بأشكال مختلفة، وهي ذات المبررات والدوافع التي تحرك العلمانيين بالعرب، بل ستصدم حين تجد أن ما يكرره بعض الإسلاميين هنا هو عين ما يقوله العلمانيون! وحتى تتضح إشكالية هذا النهج الجديد الذي يخطه بعض الإسلاميين، نريد أن نعود بهم قليلًا إلى حيث لحظة (علي عبد الرازق) لنضع أيدينا على مشهد الصراع الإسلامي العلماني على أي شيء كان، فهل كان (علي عبد الرازق) يريد هدم الإسلام وتدمير المسلمين والانتقام منهم؟ بالتأكيد لا، وإنما كان يقدم تصورات منحرفة في النظام السياسي. لهذا تجد بعضهم يثني عليه: بأنه إنما أراد استنقاذ الوعي الإصلاحي والمدني بالدولة والشأن العام، وما نجح في ذلك ليس لأن طريقته ما كانت مقنعة، بل بسبب تكالب المستعمرين على ديار المسلمين وتظاهرهم بمعارضة إعادة الخلافة (¬1). ¬

_ (¬1) مقدمة رضوان السيد لكتاب الإسلام وأصول الحكم، 21.

ويشيد به آخر: بأنه حريص أشد الحرص على أن يجنب الإسلام مزالق السياسة وأن يباعد بينه وبين معارك الحياة وأهواء الحاكمين، بحيث لا يخضع لسلطان أحد ولا يضاف إلى حساب أحد، يخشى أن يتولد نظام من الإسلام فيتحمل الإسلام أوزار هذا النظام (¬1). ويقول آخر منافحًا عنه: (جريمة علي عبد الرازق أنه طلب الحرية للدين في مواجهة الملك) (¬2). الغاية من هذا كله، أن الرؤية العلمانية لا يجوز -موضوعيًا- أن تنقلب رؤية إسلامية بمجرد أن تحوَّل إليها بعض الإسلاميين! ¬

_ (¬1) انظر: الخلافة والإمامة لعبد الكريم الخطيب، 218 - 222. (¬2) أفكار ضد الرصاص لمحمود عوض، 8.

نظرية القرافي عند المعاصرين. . أين الخلل؟

نظرية القرافي عند المعاصرين. . أين الخلل؟ هل كان يدور بخلد الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي (ت 684 هـ) أن اسمه سيتردد بعد وفاته بقرون في محاولة التلفيق بين النظام السياسي الإسلامي والعَلماني؟ هل كان "القرافي" يريد في حديثه عن تصرفات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالإمامة والقضاء ما ذكره بعض المعاصرين عنه أنه دليل على أن "الأحكام الشرعية السياسية تصرفات غير مُلزِمة؛ وإنما هي مرتبطة بالأئمة يقيمونها بحسب الأصلح"؟ لا بأس، لنلملم أطراف هذا الموضوع، ونعيد ترتيب المشهد من جديد، ولنشرح القصة بالكامل، لنعرف أين يقع "القرافي" وأين يقع بعض المعاصرين الذين يستشهدون بـ"القرافي" كثيرًا. لدينا إذن ثلاثة أمور: ماذا قال "القرافي"؟

وماذا فهم بعض المعاصرين منه؟ وما مدى صحة هذا الفهم؟ أما رأي "القرافي" فهو يقرر أن ما صدر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتباره إمامًا للمسلمين، فهو خاص بالأئمة ولا يقوم به عموم الناس، وما صدر عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتباره قاضيًا فهو للقضاة ولا يقوم به عموم الناس، وما صدر عنه باعتباره تبليغًا وفتوى فهو لعموم الناس، فمثلًا توزيع الغنائم وتجهيز الجيوش فعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتباره إمامًا فلا يسوغ لأحد أن يوزع الغنائم أو يجهِّز الجيوش إلا إن كان إمامًا، وليس هذا مثل الفتوى الصادرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- التي تكون لعموم المسلمين، وما فعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتباره قاضيًا فهو حكم قضائي لا يشمل عموم الناس، مثلًا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لهند بنت عتبة: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬1)، هو حكم قضائي فلا يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها إلا بعد حكم القاضي؛ لأن تصرُّف الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان باعتباره قاضيًا على رأي بعض أهل العلم، وقال آخرون: يجوز للمرأة أن تأخذ بلا إذن قضائي؛ لأن تصرف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هنا كان إفتاء لها وليس قضاء على زوجها. فأحكام الإمامة والقضاء والفتيا كلها قضايا تشريع، لكن منها ما هو تشريع لعموم الناس يقومون به من دون إذن إمام ولا حُكْم قاضٍ، ومنه ما هو تشريع خاص بالإمامة لا يصدر إلا عن إمام، وتشريع خاص بالقضاء لا يصدر إلا عن قاض، فما صدر عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتباره قاضيًا أو إمامًا فأحكامها متعلقة بالأئمة والقضاة؛ سواءً كانت واجبة أو مندوبة أو مباحة، وإلا فالأصل هو كونها أحكامًا تشريعية عامة لجميع الناس. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2/ 769، رقم (2095).

هذه خلاصة نظرية "القرافي" في التصرفات النبوية (¬1). وأما في عصرنا الحاضر فقد فُهم القرافي من عددٍ من المعاصرين بشكل مختلف تمامًا، وأصبح رأي "القرافي" يتكرر في بعض الدراسات السياسية بتفسير لا يمت لتنظير القرافي بأي صلة. ماذا فهم بعض المعاصرين من نطرية "القرافي"؟ يقولون: إن أفعال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقواله الواردة في باب الحكم الدستوري والسياسي ليست ملزمة، بل هي أمور فعلها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتباره إمامًا، وبما يحقق المصلحة المقصودة في ذلك الزمان، ولهذا فالأئمة من بعده يجتهدون في بناء الأحكام السياسية بحسب المصلحة التي بنى عليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك الأحكام التي ليست ملزمة لهم كأحكام العبادات والمعاملات والمقدرات التي جاء فيها نصوص ملزمة لعموم الناس. هذه خلاصة تلك الآراء. فهل هذا هو كلام "القرافي"؟ بالتأكيد: لا. إذن، أين الخلل؟ الخلل دخل عليهم من وقوعهم في خطأين اثنين: الخطأ الأول: عملية النقل الخطيرة التي مارسوها على كلام القرافي؛ فهو يتحدث عن تصرفات محددة من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فجعلوه يقصد كل الأحكام السياسية؟ ¬

_ (¬1) انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي، 45 - 49.

فالقرافي يتحدث عن فعل صدر عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتباره إمامًا، ولم يقل: كل أحكام السياسة، فهو يتحدث عن أفعال معتنة قام بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتباره إمامًا: كإقامة الحدود وتجهيز الجيوش وقسمة الغنائم ونحوها، ولم يقل هذا في كل باب السياسة! وكان يتحدث عن تصرفات، وليس عن كل الأقوال والأفعال في الباب، فهذا تحريف سيئ لكلامه. كما أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له تصرفات باعتباره قاضيًا، ولا يقول أحد: إن كل أحكام القضاء اجتهادية مصلحية لا نصوص فيها! فمثلًا حين يقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة" (¬1) هل يقول عاقل: إن هذا تصرف منه -عليه الصلاة والسلام- باعتباره إمامًا؟ فمن حق الحكام أن يحددوا باجتهادهم هل يفلح القوم إن ولَّوا أمرهم امرأة أو لا يفلحون؟ وحين يقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن سأله: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا" (¬2). هل يقول أحد: إن هذا حكم للائمة أو للناس فهم الذين يحددون اعتبار الصلاة هنا أو عدم اعتبارها؟ وما الحاجة لسؤال الصحابة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذن إن كانت كل شؤون السياسة مصلحية بحتة؟ لهذا قال القرافي (فما فعله -عليه السلام- بطريق الإمامة: كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الإقطاعات في الأراضي والمعادن ونحو ذلك، فلا يجوز الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- فعله بطريق الإمامة وما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 6/ 8، رقم (4425). (¬2) أخرجه مسلم: 3/ 1480، رقم (1854).

استبيح إلا بإذنه فكان ذلك شرعًا مقررًا) (¬1). فالموضوع عن تصرف معيَّن وليس عن كل أحكام الباب، فهذه عملية نقلٍ قفزت على مفازات عدة حتى وصلت إلى هذه النتيجة! فتصرفات الإمامة هي جزء من السياسة، وليست هي كل السياسة، فثمَّ أحكام كثيرة شرعية هي من صميم السياسة ولا علاقة لها بموضوع التصرفات. الخطأ الثاني: أن القرافي جعلها أحكامًا خاصة بالأئمة، ولم يخرجها عن التشريع؛ فهي تشريع حسب تأصيله لكن لا يقوم بها إلا الإمام، وأما هذا الفهم العصري فقد ألغى عنها التشريع بالمرَّة فجعلها أحكامًا مصلحية متغيرة، وهذا بعيد جدًا عن تقرير القرافي، فتصرفات الإمامة المختصة بالأئمة منها ما هو واجب على الإمام كإقامة الحدود، ومنها ما هو مندوب أو مباح حسب كل حكم، ولهذا اختلف العلماء في جملة من الأحكام السياسية، وما خطر ببال أحد منهم أن كل أحكام السياسة خارجة عن التشريع، ولو كان هذا ورادًا عندهم لما أتعبوا أذهانهم في الحديث عن كونها واجبة أو مباحة أو مندوبة أو منسوخة. . . إلخ؛ لأنها في النهاية ستكون خاصة بعصر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا تُلزِم أحدًا، كما هو هذا الفهم العصري المغلوط! فهما غلطتان حرَّفتا برأي القرافي وقلبتاه رأسًا فخرج رأي جديد لم يعرفه القرافي ولا كان يدور في خلد أحد من عصره، فالقرافي يتحدث عن جزئية معيَّنة في السياسة وهم جعلوه يتحدث عن كل السياسة! والقرافي يتحدث عن تشريع وإلزام لكنه خاص بالأئمة والقضاة فأخذوا برأيه بعد أن سحبوا قضية التشريع ووضعوها عند الباب. ¬

_ (¬1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، 49.

فصار رأيهم المحدث يقول: السياسة ليس فيها أحكام وتشريعات ملزمة؛ وإنما تقوم على مبادئ كلية عامة، تعتمد على المصلحة المتغيرة. هي نتيجة وصلوا إليها عن طريق "القرافي" ووصل إليها آخرون من مسار مصلحة "الطوفي" وغيرهم من جهة مقاصد "الشاطبي". تقول هذه النتيجة: إن بالإمكان تجاوز كثير من الأحكام الشرعية التفصيلية التي يجري عليها الخلاف المعاصر؛ حيث لم تعد ملزِمة كما كان الإسلاميون يفهمونها سابقًا. سيخطر في ذهنك سريعًا بعد قراءة هذا التفسير سؤال مشروع يقول: ما فرق هذا الكلام عن العَلمانية؟ فالخلاف مع العَلمانية حول النظام السياسي المعتمِد على تشريعات وأحكام ثابتة، وحين تكون أبواب السياسة خارجة عن التشريع فالخلاف إذن على أي شيء؟ وهو سؤال محرج يتطلب جوابًا واضحًا عن الفرق الذي يميز هذا الطرح الإسلامي عن الطرح العَلماني، وقد ذكروا في التفريق أمرين: الفرق الأول: أن أصحاب هذا التفسير يؤمنون بالمبادئ الكلية والأصول العامة للشريعة، ويؤمنون بقيام الأحكام على المصلحة كما راعتها الشريعة بخلاف الفكر العَلماني. وهذا فرق غير كافٍ ولا مقنع؛ لأن الأصول العامة والمبادئ الكلية تتميز بالعمومية المطلَقَة بما يمكن إدراج كافة التفسيرات فيها، ولن يكون لدى الفكر

العَلماني حساسية من مبادئ العدل والحرية والشورى والمساواة حين تكون مجرد مبادئ كلية عامة، وأما المصلحة فالفكر العَلماني إنما يدعو من قديم لأن تعتمد المصلحة بعيدًا عن الأحكام التشريعية التفصيلية. الفرق الثاني: أن العلمانية ليست شيئًا واحدًا ولا فكرًا محددًا، فيمكن بمثل هذه الرؤية التقريب والتوافق مع تفسير معين للعَلمانية لا يحمل عداءَ للإسلام وأهله، فهؤلاء يمكن تبئي موقفًا قريبًا من موقفهم لأن رؤيتهم لا تعارض الإسلام وإنما الخلاف مع العَلمانية المعادية للإسلام. إذن، ليس ثَمَّة مشكلة كبيرة مع الفكر العَلماني المعتدل الذي لا يعادي الدين؛ لأنه في النهاية حصل اتفاق على إبعاد أي أحكام شرعية ملزِمة من الحكم، وصار الاعتماد على المصلحة المتغيرة؛ فأساس الخلاف بين الإسلاميين والعَلمانيين هو في الإلزام بأحكام بناءً على رؤية دينية، وحين لا يعتمد النظام السياسي الإسلامي على أي أحكام شرعية محددة فقد حصل الاتفاق والتقارب بين الفكر العَلماني والإسلامي. ربما يفرح بعض الناس بهذا التقارب على أنه حل وسط وخيار جديد للعمل الإسلامي المعاصر، لكن واقع الأمر -بكل أسف- أنه ليس خيارًا جديدًا، بل هو تحويل للنظرية الإسلامية لتكون متوافقة مع المنظومة العَلمانية التي لم تغير شيئًا من منهجها، بل بقيت في مكانها وجاءت إليها المنظومة الإسلامية بعد أن حققت الحد الأدنى من الشرط العَلماني المقبول. يتوهم أن الصراع (الإسلامي - العلماني) قديمًا كان مع العَلمانيين المتطرفين الذين يعادون الدين ويسعون لاستئصاله، فيشعر بارتياح لأنه استطاع أن يكسب

بعض العَلمانيين، وما علم أن الصراع -أساسًا- كان مع العَلمانية التي لا تعادي الدين، وأن النزاع -تحديدًا- كان في كيفية فرض نموذج ديني على الناس، وأما العَلمانية المعادية للدين فهؤلاء خلاف الإسلاميين معهم لم يكن في النظام السياسي أصلًا، فلا معنى الآن لاستثنائهم لأنهم كانوا من الأصل خارج النزاع! فقصة العَلمانية التي لا تعارض الإسلام -باختصار- هي ذاتها العلمانية التي حاربها الإسلاميون سابقًا ثم أصبحت مع مرور الأيام لا تعارض الإسلام!

فاحكم بينهم. . . أو أعرض عنهم

فاحكم بينهم. . . أو أعرض عنهم أستاذٌ فاضلٌ كان كثيرًا ما يكرر على مسمعي هذه الكلمات: (أساس الخلل في كثير من الانحرافات المعاصرة أنها تعتمد على بعض النصوص وتترك بعضًا، فأخذُها ببعض النصوص جعلها تظن أنها تعتمد على الشريعة، ولو نظرت في النصوص جميعًا لظهر لها الانحراف بشكل جليٍّ). وما أكثر الوقائع التي جعلتني أتذكر هذه الكلمات، وأكثر شيءٍ شدني فيها أنها تفسر حالة بعض الانحرافات التي تستدل (بصدق) بآيات من القرآن أو بأحاديث من سُنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في ما يُعلم -قطعًا- أنه مخالف لأحكام الشريعة وتأباه قواعدها وأصولها ولا يقول به فقيه، وهو أحد تطبيقات اتباع المتشابه الذي حذرنا اللَّه -تعالى- منه في كتابه {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. تذكرت هذه الكلمات مرة أخرى قبل أيام لما رأيت بعض الناس يستشهد بقول اللَّه -تعالى-: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42].

يستدل بها على أن من رفض أن يحكم بالشريعة فلا يُلزَم بها، فلا بد أن يختارها ويؤمن بها، وحين لا يكون مؤمنًا بها لا يكون ملزَمًا كما خير اللَّه في هذا الآية نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أن يحكم بينهم أو يعرض عليهم، ولو كان الحكم ملزمًا لما حصل اختيار. صدمت من هذا الاستدلال؛ لأن هذه النتيجة تضرب حكمًا قطعيًا من أحكام الإسلام، فكيف استهان أن يضرب هذا الأصل بمجرد فهم عارض طرأ عليه؟ وحتى لو جهل الباحث عن الحق معنى هذه الآية فمن العقل والحكمة أن ينظر في النتيجة التي يأخذها من الآية، فلا يمكن أن يأتي بها على حالة يراها ممزِّقة لأحكام وآيات كثيرة؛ فأين هو عن قول اللَّه -تعالى-: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 48] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] ونحو هذه الدلائل القاطعة أن الإسلام حاكم على الجميع ولا يجوز تجاوزه أو التخيير في حكمه بمجرد أن أحدًا أو جماعة لا تريد ذلك. إذن، ما تفسير قول اللَّه -تعالى-: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}. لأهل التفسير اتجاهان في تفسير هذه الآية، الاتجاه الأول: يرى أنها منسوخة بقول اللَّه -تعالى-: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. والاتجاه الآخر: يرون أنها غير منسوخة وأنه لا تعارض بينها وبين قوله -تعالى-: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]؛ لأن المقصود أنه مخيَّر، فإذا حكم وجب الحكم بما أنزل اللَّه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري: 10/ 325 - 330.

وبناءً عليه، يرى بعض الفقهاء أنه يلزم القاضي أن يحكم بينهم إذا ترافعوا إليه (¬1)، ويرى آخرون أنه لا يلزم القاضي أن يحكم بين أهل الكتاب حين يأتوه (¬2). وعلى كلا اتجاهي التفسير، وعلى كلتا الرؤيتين الفقهيتين فالحكم يتعلق بجزئية معيَّنة، هي تحاكم أهل الكتاب إلى القاضي المسلم في ما لا يلزمهم من أحكام الإسلام، فالآية لا تتحدث عن (أهل الإسلام) الذين يلزمهم أن يحكموا بالإسلام في كافة قضاياهم، ولا تتحدث عن (أهل الكتاب) فيما يلزمهم من أحكام الإسلام، إنما موضوع الآية في بعض الأحكام التي جعلت الشريعة لأهل الكتاب بأن لهم أن يتحاكموا فيها إلى دينهم، فإن اختاروا التحاكم إلى المسلمين فهل يلزم المسلمين الحكم بينهم؟ هذا هو محل الآية، هو في الحكم بين أهل الكتاب في ما لا يلزمهم، فجاء هذا الاستدلال ليجعله حكمًا عامًا لجميع الناس مسلمهم وكافرهم، ويجعله حكمًا عامًا لكافة القضايا ولو أدى لعدم الحكم بالإسلام، فضرب في أصول الإسلام يمنة ويسرة من حيث يظن أنه يستدل بآية قطعية الثبوت والدلالة! وهي مشكلة قد لا تظهر للقارئ إلا بعد أن ينظر في النصوص كلها فيتضح له عمق هذا الإشكال ومخالفته القطعية؛ لهذا كان العلماء يوصون بأهمية الرجوع لكلام أهل العلم بكتاب اللَّه قبل الحكم لأنهم ينظرون في النصوص جميعًا فلا يقعون في مثل هذه الانحرافات والأخطاء الفادحة. ¬

_ (¬1) هو مذهب الحنفية، والقول الجديد عند الشافعية ورواية عند الحنابلة، انظر: بدائع الصنائع: 2/ 312، الحاوي الكبير: 9/ 307، المغني: 10/ 190. (¬2) هو مذهب المالكية، والحنابلة، والقول القديم عند الشافعية، انظر. الذخيرة: 3/ 458، المغني: 10/ 190، الحاوي الكبير: 9/ 307.

فهذا الخطأ صدم برأيه المتسرع أمرين محكَمَين من محكَمَات الشريعة التي أجمع العلماء عليها: المحكم الأول: أن المسلم لا يُحكَم في النظام الإسلامي بغير الإسلام أبدًا، وحتى لو اختلف مع كِتَابيٍّ فيجب الحكم بينهم بحكم الإسلام، وهو محل وفاق بين العلماء، وفيه ما لا يحصر من نقولات الإجماع، فمنها -مثلًا-: (فأما إذا كان التحاكم بين مسلم وذمي ومعاهد وجب على الحاكم أن يحكم بينهم قولًا واحدًا -سواء كان المسلم طالبًا أو مطلوبًا- لأنهم يتجاذبان إلى الإسلام والكفر فوجب أن يكون حكم الإسلام أغلب) (¬1). (واتفقوا -في ما أعلم- على أنه إذا ترافع مسلم وكافر أن على القاضي الحكم بينهم) (¬2). (وإن تحاكم مسلم وذمي وجب الحكم بينهما بغير خلاف لأنه يجب دفع ظلم كل واحد منهما عن صاحبه) (¬3). (فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه؛ لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة) (¬4). وغيرهم ممن نقل هذا الإجماع المحكَم (¬5). وإذا كان هذا في مسلم مع كتابي؛ فكيف إذن إن كان بين مسلمين؟ ¬

_ (¬1) الحاوي في فقه الشافعي: 9/ 308. (¬2) الذخيرة: 10/ 112. (¬3) المغني: 10/ 191. (¬4) تفسير البغوي: 3/ 59، وانظر: شرح السنة للبغوي: 10/ 287. (¬5) انظر: تفسير الخازن: 2/ 55، واللباب في علوم الكتاب لابن عادل الدمشقي: 7/ 343، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 6/ 148، وتفسير الجلالين 144، وفتح القدير: 2/ 61.

فليس للمسلم خيار في قبول الشريعة أو رفضها {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، بل إن رفضها يعتبَر في النظام الإسلامي جناية تستحق العقوبة وليس المكافَأة! المحكَم الثاني: أن هذا ليس في كل القضايا بل في بعض القضايا التي تركتها الشريعة لأهل الكتاب، وليس في كل الأحكام فإن (الأمة أجمعت على أن أهل الذمة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأن عهود الذمة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللُهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددتْ لهم شرائعهم) (¬1). فحكم الإسلام شامل بعدله ورحمته وكماله جميع المنضوين تحت سلطانه؛ غير أنه ترك لغير المسلمين بعض الأحكام فجعل لهم أن يتحاكموا فيها بينهم لأن حكم الإسلام فيها أنهم غير ملزمين بأحكام المسلمين، وذلك مثل عباداتهم وأنكحتهم ومعاملاتهم وما يستحلونه كشرب الخمر، وأما ما تجاوز ذلك فهم ملزمون فيه بأحكام الإسلام. وثَمَّ اختلاف في فروع المذاهب الفقهية في حدود ما يختص بغير المسلمين فعله مما لا يجوز للمسلمين فعله، سيصل قارئها لنتيجة قطعية ظاهرة هي أن ثَمَّ مساحةً معيَّنة (بشروطها) فقط هي التي لا يلزمهم فيها حكم الإسلام، وهي التي جرى الخلاف فيها في ما لو جاؤوا هل يلزم الحكم بينهم؟ لأنها مساحة تركتها الشريعة لهم، ولن يجد أحدًا يقول: إنهم مخيَّرون في أحكام الإسلام كلها، بل هم متفقون على لزوم أحكام الإسلام عليهم في الجملة (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير التنوير 6/ 205. (¬2) انظر في المذاهب الأربعة: بدائع الصنائع: 7/ 113، الذخيرة للقرافي 10/ 754 - 458 و 10/ 326، والحاوي للماوردي: 14/ 386 - 387، والمغني: 10/ 190 وعند المفسرين انظر: المحرر الوجيز: 2/ 226، والجامع لأحكام القرآن: 6/ 185، والتحرير والتنوير: 6/ 205 - 206.

خلاصة هذا الكلام كله: أن حكم الآية خاص بأهل الذمة فقط، وخاص ببعض أقضيتهم، لكن هذا تحوَّل بكل تهاون وعجلة إلى أن يكون شاملًا للمسلمين، وشاملًا لكل القضايا، من دون أن يتروَّى قائله قليلًا في هذه النتيجة التي تضرب في المحكمات من حيث لا يشعر! فعجبًا كيف يستدل بآية قرآنية ليقع في هذا الخطأ الفادح! وفيه عِبَر: 1 - ضرورة النظر في النصوص جميعًا، وأن الاستدلال بالنص الشرير لا يكفي ما لم يضم لجميع النصوص في الباب حتى يتضح مراد اللَّه ومراد رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. 2 - ضرورة مراجعة كلام أهل العلم والنظر في أقوالهم وتفسيراتهم، فمن الكسل المعرفي والعجز العلمي أن يخوض المسلم في مثل هذه القضايا الكبيرة وهو خِلْو الذهن عن الاستفادة من تراث قرون تعاقبت فيها الأذهان والأقلام في التحرير والنظر والتدبر في كلام اللَّه وكلام رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. 3 - ضرورة صيانة أحكام الشريعة من التفسيرات العاجلة التي يدفعها ضغط واقع معيَّن أو حاجة ماسة ما، فيجد المسلم نفسه يتقبَّل كثيرًا من الأقوال والتفسيرات متخففًا من الأصول المنهجية والقواعد العلمية في النظر والاستدلال لأن ثم قوة دافعة تجعله لا يقف عندها كثيرًا.

الربيع العربي. . . إلى (الأسلمة). . . أم (اللبرلة). . .؟!

الربيع العربي. . . إلى (الأسلمة). . . أم (اللبرلة). . .؟! بعد عقودٍ متوالية من السنين، جاء الربيع العربي لينفض (الحقوق والحريات) من تحت ركام الظلم والفساد والجبروت الذي خلفته تلك النظم الفاسدة، فأصبحت هموم الناس وأحاديثهم تدور حول تلك الحقوق التي كانت مغيبة في ما مضى، فلا حديث يعلو في مجتمعات المسلمين الآن فوق حديث الحقوق والحريات. ولئن اتفقت كلمة كافة الناس على مبدأ (الحقوق والحريات) فإن ثَمَّ اختلافًا جذريًا بيِّنًا حول الفلسفة التي تنطلق منها هذه الحقوق، والإطار الكلِّي الذي يحكمها ويضع حدودها، فكل اتجاه يسعى لتقديم نموذجه الفكري حاكمًا وموجهًا لهذه الحقوق، ويوجِّه كافة الوسائل لإقناع الناس لتبني هذا النموذج الخاص. كل المعطيات الواقعية تكشف أن إرادة جمهور الناس تبحث عن النموذج الإسلامي للحقوق والحريات، قد تختلف في تحديده وفي حجم تفاعلها معه لكن يبقى النموذج الإسلامي -أيًّا كان تفسيره- هو النموذج المحبَّب لتلك الشعوب؛

فالانتماء العميق للإسلام في نفوس أكثر الناس غرس فيها مغناطيس تجذب أي رؤية حقوقية تنطلق من أحكام الإسلام ومبادئه. لكن هذا لا يكفي، فالفكر الليبرالي يملك من المقومات الفكرية والحشد الإعلامي والسياسي والمالي والدعم الخارجي ما يجعله قادرًا على تغيير مفاهيم الناس وإقناعهم بالنموذج الليبرالي؛ فحالة الحقوق والحريات التي أظهرت العمق الإسلامي الشعبي يمكن أن تكون نافذة لتسلل الليبرالية في نفوس المسلمين. يستدعي هذا من الدعاة والعاملين للإِسلام العناية بأمرين: الأول: توضيح المفهوم الإسلامي للحقوق والحريات وإظهاره بشكل جلي حتى يكون الناس على بيِّنة من أمرهم، فلا تلتبس عليهم المفاهيم، فوضوح المعنى الشرعي كافٍ لأكثر الناس؛ لأنهم مؤمنون بالإسلام فيسلِّمون بكلِّ أحكامه ديانة وانقيادًا لأمر اللَّه وأمر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا تحتاج معهم سوى أن توضِّح المفهوم الشرعي وتكشف أيَّ لبس أو انحراف عنه؛ لأن حالهم {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وابتعاد كثيرين عن الإيمان بالمفاهيم الشرعية راجع بشكل أساسي إلى جهلهم بها أو التباسها عليهم. الثاني: إقناع الناس بأن النموذج الإسلامي للحقوق والحريات هو الأقدر على حفظ حقوقهم، وعنده من الضمانات ما ليست عند غيره، وفيه من الخصائص ما يعمِّق من تأثيره بما تعجز عنه بقية النماذج، وهذا الخطاب نافع جدًا لكثيرٍ من الناس الذين لديهم شكٌّ أو تردُّدٌ في تبنِّي النموذج الإسلامي فيضعفون عن المطالبة بالحقوق الشرعية لضعف قناعتهم به، كما أن مثل هذا الخطاب الواقعي العقلاني سيحفظ المسلِّمين لأحكام الإسلام من تسلل المفاهيم الليبرالية جرَّاء ضغط دلائلها وبراهينها.

هذان العاملان يُختَصران في (بيان الحكم الشرعي) و (إقامة الدلائل والبراهين عليه)، ولئن كان علماء الإسلام هم الأقدر على الجانب الأول، فإن المعنى الثاني يحتاج لمشاركة فئات أخرى من المتخصصين في القانون والعلوم السياسية والفكر والاقتصاد وبقية العلوم المعاصرة لإقامة منظومة علمية متكاملة من المفاهيم والدلائل والتجارب التي تكشف تفوُّق النموذج الإسلامي؛ ليزول الغبش عمن في قلبه شيء، ويزداد الذين آمنوا إيمانًا. فمعرفة الحكم الشرعي تختلف عن القدرة على البرهنة عليه، فليس أحدهما مرتبطًا بالآخر؛ فقدرة الإنسان على معرفة الحكم الشرعي لا تجعله قادرًا على المحاججة في إثباته وإقناع الناس به، إذ هذا قد يتطلَّب مهارات وعلومًا إضافية لا تكون موجودة لدى العالِم بالحكم، وهذا ما يستدعي ضرورة التكامل بين المتخصصين بالشريعة والمتخصصين في بقية المجالات ليقوم كلُّ أحدٍ منهم بواجبه الشرعي. كما أنَّ عدم اقتناع المسلم بعقلانية حكم شرعيٍّ ما، أو قدرته على الإقناع به لا يجيز له تجاوزه وتركه ولو بدعوى أن الأحكام الشرعية لا تخالف العقل والمصلحة؛ لأنه ليس بالضرورة يكون مدركًا لكل هذه المصالح في هذه اللحظة، كما أن فهمه وإدراكه ليس هو الحاكم على العقل والمصلحة. لا شيء سيحفظ هذه الحقوق ويحقق ضمانات عميقة لها مثل إدراجها ضمن مفاهيم الإسلام وأحكامه، فالمفاهيم والقيم المحكومة بالإسلام تتميز بخصائص عدة، منها ما يلي: أولًا: أنها تكتسب صفة (الثبات) و (القطع) و (الوضوح) فتكون مفاهيمَ شرعيةً ربانيةً غير قابلة للنقاش؛ فلا تخضع لتصورات معاصرة أو اجتهادات لاحقة،

فالنص القرآني والحديث النبوي قد قضى بها ولا معقب لحكم اللَّه، وهي قضية ربما لا تشدُّ ذهن المسلم لأنه يراها بدهية، لكنه سيعرف قيمتها وفضلها حين يقرأ في مسيرة (الحقوق) التي قد عانت مخاضًا عسيرًا في الفكر الغربي خلال تاريخه الصراعي الطويل معها، فغياب القطعيات جعل تحديد الحقوق معضلة فكرية عويصة، فمن الذي يحدد هذه الحقوق؟ سؤال يجيبه المسلم بكل استرخاء، لكنه يسبب إشكالًا عميقًا لدى كل من حيَّد الدين عن الحكم، فجاءت نظريات (الحقوق الطبيعية) والتي رفعت جملة من الحقوق فجعلتها حقوقًا غير قابلة للنقاش، وليس لهذه النظريات من مستنَد سوى فكرة خيالية تقرر أن الإنسان يولد ومعه جملة من الحقوق، ولا شيء يثبت وجود هذه الحقوق سوى أنها يجب أن تكون موجودة! فهي في الحقيقة قد تبنت المفهوم الديني في القطع بهذه الحقوق لكنهم استنكفوا عن ربطها بالدين. ثانيًا: أن المفهوم الإسلامي للحقوق يجعلها حقوقًا دينية ذاتية قبل أن تكون حقوقًا قانونية نظامية، فالمسلم يقوم بها ويلتزم بها ديانة للَّه ووقوفًا عند حدوده، وهذا يعطي الحقوق دعمًا عميقًا لا تملك بقية النماذج أن تقترب منه، فالنظام القانوني مهما كان محكمًا ومتطورًا فهو عاجز عن الوصول إلى تلك المناطق العميقة التي يصل إليها هذا الدين، فالحقوق بهذا المفهوم ترتكز على رقابة ذاتية يراقب المسلم فيها ربه، فتكون مستحضرة في الظاهر والباطن، في ما يثبت عند القانون وفي ما لا يقدر القانون على إثباته، تنشط لها النفوس، وتمارس عليها دورًا رقابيًا احتسابيًا نابعًا من الدين، فتجاوُز الحقوق منكر يجب إنكاره من الجميع "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم برقم 186.

ثالثًا: أن المجتمعات المسلمة لا يصلح لها إلا المفهوم الإسلامي للحقوق والحريات، فلئن نجحت منظومة الفكر الليبرالي في المجتمعات الغربية فهذا راجع لسياقها الثقافي والتاريخي، وأما المجتمعات المسلمة فهي عميقة التدين بالإسلام لا ترضى بغير الإسلام بديلًا؛ ففرض نموذج مخالف لهويتها لن يكون متقبَّلًا وسيواجَه بمعارضات وإشكالات لن تُحَل إلا بالنموذج الذي ينسجم مع ذاتها وهويتها وتاريخها. رابعًا: أن المطالبة بحكم الإسلام لن تتوقَّف في مجتمعات المسلمين إلا إذا حكم بالإسلام؛ فما دام أن الحكم في المجتمعات لغير الإسلام فلن تتوقَّف هذه المطالبات، وقد تسلك في سبيل ذلك وسائل غير صحيحة وتؤدي لمفاسد وأضرار، أو تتبنى رؤى مغالية أو مخالفة للإسلام، وكل الحلول لإيقاف هذه الوسائل ستبوء بالفشل، الحل الوحيد هو في التطبيق الصحيح للإسلام، والذي يظنّ أن المجتمعات المسلمة ستحيِّد الإسلام في الحكم كما حيَّدت المجتمعات الغربية الحكم الكنسي فهو غارق في الوهم لأقصى أذنيه، وهو بعيد عن فهم طبيعة الإسلام وعن إدراك عمق تأثيره في نفوس المسلمين. خامسًا: أن الراية الإسلامية هي الراية الوحيدة التي يمكن أن يجتمع عليها الناس وتستمر في ثبات وضمان، وأما الرايات الأخرى فيمكن أن تجمع الناس في مرحلة زمنية مؤقتة لكنها لا يمكن أن تستمر؛ لأنها باختصار راية مؤقتة يرتهن تأثيرها بعوامل معينة تزول هذه الراية مع زوال تلك العوامل، وقد جرَّب العالم الإسلامي رايات كثيرة تلاحقت سقوطًا، وسيتلاحق غيرها، وأما الراية العميقة في نفوس الناس وتاريخهم ومستقبلهم فهي الراية المرشحة لأن تكون محل وفاق.

يبقى أن ثَمَّ عاملين مُشكِلَين قد يكونا عامل إخفاق وتعثُّر للنموذج الإسلامي المعاصر: العامل الأول: الخلل في التسوية بين الحالة المثالية والوضع الاستثنائي، فيعاملهما الشخص على اعتبارهما حالة واحدة، فإما يغلو فيطالب بتطبيق الحالة المثالية الشرعية في كافة الأوضاع من دون مراعاة لما تقتضيه الحاجة أو الضرورة أو الإمكان في تلك المجتمعات، ويتهم العاملين هناك بالقصور وتضييع الدين، وإما يفرِّط فيجعل الاستثناء هو الأصل، فينفي عن الشريعة كل ما لا يمكن تطبيقه من الأحكام الشرعية، ويعيد تركيب المفاهيم الشرعية على وَفْق الحاجات المعاصرة. إنها غياب الرؤية الواضحة والميزان الصحيح في التفريق بين حالتي (الأصل) و (الاستثناء) فالمسلم مطالَب بتطبيق أحكام الإسلام بحسب الإمكان والاستطاعة، ومطالب في الوقت نفسه أن لا يحرِّف الأحكام الشرعية ولا يقوِّل الشريعة ما لم تقل، وهذا الخلط بارز للعيان بوضوح في المشهد الإسلامي المعاصر وهو مؤذن بتنازع يؤدِّي إلى الفشل. العامل الثاني: الاختلاف في مفهوم النموذج الإسلامي وحدوده: حيث يستغل بعض الزائغين الاختلاف الفكري بين العاملين للإسلام من أجل ضرب النموذج الإسلامي بكليته، فينفي وجود نموذج إسلامي نظرًا لاختلاف الناس فيه، وهذا يتطلَّب ضرورة التأكيد على الأصول الكلية والقواعد القطعية في النموذج الإسلامي، وتحكيم الخلافات فيه إلى المنهج القطعي في التعامل مع الخلافات {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، ويمكن وضع كثير من

الآليات لحسم مثل هذا الخلاف حين يكون الشخص فعلًا مؤمنًا وموقنًا بالنموذج الإسلامي؛ لكنه سيكون موهنًا للواقِعين تحت ضغط آلة المفاهيم الغربية. فالخلط بين (الأصل) و (الاستثناء) في فهم الأحكام الشرعية تفريطًا أو إفراطًا، والخلاف في تحديد النموذج الإسلامي للحكم: هو من التحديات الفكرية الخطرة التي قد تحدث فجوة عميقة تخلخل أساس النموذج الإسلامي في نفوس الناس.

§1/1