معرفة المأمور به والمحذور في زيارة القبور

عبد الكريم الحميد

المقدمة .. وفيها بيان أقسام زيارة القبور وأنها ثلاثة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ معرفة المأمور به والمحذور في زيارة القبور الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .. ... أما بعد: فإنَّ زيارة القبور تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي: 1 - الزيارة السُنّية .. ينتفع بِهَا الزائر والْمَزُور، وتشمل السَّلام على الميت، والدعاء له بالرحمة والمغفرة، وأنْ يدخله الله الجنة، ويعيذه من النار؛ ولا يزيد على ذلك شيئاً، فلا يتعلّق قلبه

الصفة الشرعية للسلام على أهل القبور من المسلمين

بالميت ولا ينشغل به بأكثر من هذا، وصفة السلام على أهل القبور: (السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون (¬1)، أسأل الله لنا ولكم العافية (¬2). 2 - الزيارة البدعية .. وهي الاعتقاد بأن الدعاء عند قبر مُعَيّن مستجاب. 3 - الزيارة الشركية .. وذلك أن تُزار القبور لاعتقاد أن أهلها يَتَوَسَّطون ويشفعون وينفعون عند الله بأنْ يرفعوا حوائج الخلق إلى الله ليقضيها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (974) عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (975) عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

معنى الشرك الأكبر

وسَوَاءٌ دعاهم على مقتضى هذا الاعتقاد فقط أوْ زَاد على ذلك الذَّبْح لهم والنذر لهم والتقرّب إليهم بالعبادات التي لا تصلح إلا لله، فهذا هو الشرك الأكبر الذي مَن مات عليه فهو مُخلَّد في جهنم، لأنه قصد غير الله في تَوَجُّه قلبه وطلبه وإرادته لينفعه عند الله بالتوسُّط، وصَرَفَ خالص حقِّ الله لِمخلوق هو مملوك لله ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن غيره، لا في حياته ولا بعد موته. وهذا الشِّرْك أعظم من القتل والزنا وشُرب الخمر لأنه تَنَقُّص لرب العالمين سبحانه وشَكٌّ في علمه وقدرته ورحمته، وكأنه لا يرحم عبده إلا بواسطة بل هو - سبحانه - أرحم الراحمين، وقد فَرَض التوحيد على عباده قبل الصلاة والصوم والزكاة والحج. وكأنّه - جَلَّ وعَلاَ - لا يَرى عبدَه ولا يسمعه وأنه تخفى عليه أمور عباده فيحتاج إلى مَنْ يعلمه، بل هو سبحانه

من أين جاء الشرك وما سببه؟

السميع البصير العليم، ولا يخفى عليه مثقال ذَرَّة في السموات ولا في الأرض. وهو سبحانه فَرَضَ التوحيد على عباده رحمة بهم لِيَتَوَجّهوا بقلوبهم بالدعاء والتضرّع والسؤال إليه وحده مباشرة دون وسائط، وعلى ذلك فطَرهم. وليس هو سبحانه كملوك الدنيا الذين تُتَّخَذ لَدَيْهم الوسائط من المقربين والوُجَهَاء لأنهم لا يعلمون حوائج الناس ولا يَقدرون على كل شيء ويحتاجون إلى مَن يسْترحمهم ويسْتعطفهم. ومِنْ هنا جاء الشِّرك حيث شُبِّه الربُّ سبحانه بخلقه، ولذلك فالمشرك يتقرّب إلى الله بالشرك مع أنه أعظم ما يُبعده من رحمته، حيث تعلّق قلبه بالواسطة وإنْ كان يصلي ويصوم ويحج فعمله حابط حتى يُوَحِّد عبادته لربه.

لا ينتفي جرم الشرك بالصلاة والصوم والحج ونحوها

فكما لا يُصلي لغير الله .. كذلك لا يدعو غير الله ولاَ يَذبح لغيره ولا ينذر لغيره، ولا يعتقد حصول نَفْع أو دفع ضرٍّ بواسطة غيره لا الأنبياء ولا الملائكة فضلاً عن غيرهم. وتأمل الآن قوله - تعالى -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1)، فهو سبحانه قال: {ادْعُونِي} ولَم يَقُل: أدعو الولي أو النبي أو غيرهم ليتوسطوا لكم ويرفعون حوائجكم إلَيَّ. والمشرك يغترّ بأنه يصوم ويُصلي ويحج، فيقال له: قبل الصلاة والصوم والحج والزكاة فَرَض الله عليك العمل بكلمة " لا إله إلا الله، محمد رسول الله "؛ ولوْ عَرَف معنى " لا إله إلا الله " ما التَفَتَ قلبه لغير الله كائناً مَن كان، وذلك بالعبودية من الخوف والرجاء والدعاء وغير ذلك من العبادات مثل الذبح والنذر. ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية: 60.

معنى (لا إله إلا الله)

فـ " لا إله " نفيُ كلّ ما يتوجّه القلب إليه بالعبادة سواء الأحياء أو الأموات، و " إلا الله " إثبات العبادة كلها لله. وهذا الشرك هو ما يُفعل عند القبور في بعض الدُّول العربية مثل العراق والشام ومصر وغيرها حيث يأتي أحدهم إلى القبر بخشوع وذل ورجاء وخوف، فإمَّا أنْ يدعوه، أو يذبح له، أو يضع في الصندوق المخصص للنذور نذره كما يُفعل عند ما يُسمى بقبر السيد " البدوي " في مصر، و " الدسوقي "، و " زينب "، وغير ذلك. إنَّ مَن يفعل ذلك عند قبر النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يكون مُشركاً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يُعاديه أشد العداوة يوم القيامة ويتبرأ منه، لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بشَر مَخلوق وليس له من العبادة مثقال ذرّة، فكيف بغيره. وهو - صلى الله عليه وسلم - أمر أُمّته بما أمره به ربه عز وجل أن تكون

بيان أن ما يفعل اليوم عند القبور هو ما كانت تفعله قريش عند أصنامها

عبوديتهم خالصة لربهم لا يشركون معه أحداً لا نبياً ولا مَلَكاً فضلاً عمن سواهما، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} (¬1) .. يعني أخلصوا له العبادة بتوحيده بأعمالكم التعبّدية دون ما تجعلونه وسائط بينكم وبينه تُشركونه بعبادته التي هي حقُّه الخالص عليكم. والذي يُفعل عند القبور المذكورة هو الذي تفعله قريش عند أصنامها إذْ إنهم يريدون القرب من الله بالوسائط، ولذلك يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬2) .. يعني يتوسطون لنا كالْوُجَهاء عند الملوك؛ فكَفَّرهم الله ورسوله بذلك، فهم يعبدون الله لكن يعبدون معه غيره بهذا الاعتقاد، وهو الوساطة، وإلاَّ فهم مُقِرُّون أنَّ الله خالقهم ورازقهم. ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية: 36. (¬2) سورة الزمر، من الآية: 3.

قول المشرك بأن من يدعوهم صالحون ويريد التبرك بهم، والرد عليه

يقول المشرك: " أنا أعبد الله، لكن هؤلاء صالحين وأنا أتبَرَّك بهم، لأنهم وُجهاء عند الله "، فيصرف لهم تَوَجّه قلبه خوفاً ورجاءاً وتوكلاً ومحبة؛ وهذه هي العبودية التي لا يرضى الله أن يُشْرك معه مخلوق فيها لا محمد ولا جبريل - عليهما الصلاة والسلام - فضلاً عن غيرهما حيث إن هذا هو الشرك. ويقال لهذا المشرك: لَمْ يلتفت قلبك لمخلوق من أجل هذا الغرض إلاَّ لاعتقادك حصول نفعه وضُره، وهذا الاعتقاد لا يكون إلا لله وحْده دون شريك يعينه على قضاء حوائجك. والعَجَب كلّ العَجَب أنَّ الْمُشرك يعتبر التوحيد وإخلاص العبادة لله تَنَقُّصاً لأهل الرُّتَب العالية والمقامات الرفيعة من الأنبياء والأولياء، ولا يدري أنه هو الذي تنقّصهم بافترائه عليهم ما هم ضِدّه تماماً من إخلاصهم عبوديتهم لربهم وعدم شركهم به، وسوف يكفرون بشِرْكه يوم القيامة ويتبَرَّؤون منه ويكونون ضِدَّه.

وهل التوحيد دليل على عدم محبة الأنبياء والأولياء ونحوهم؟!

كذلك يَتّهم الموحِّد بأنه لا يُحب الأنبياء والأولياء لأنه لا يصرف لهم عبودية خالقه، وقد كَذَبَ المشرك فالذي في قلب الموحِّد من محبة الأنبياء والأولياء عظيم لا يعرفه المشرك الخبيث النجِس ولا يصل إلى قلبه، لأن الموحد محبته لهم عبودية لربه ولا يرفعهم فوق مقاماتهم بالغلو بهم واعتقاد نفعهم وضرهم فهي محبة عظيمة تضعهم موضعهم بأنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضَرًّا فضلاً عن غيرهم. أما المشرك فمحبته لهم عبودية لهم بتشريكهم مع الله في حقه الخالص من العبادة، فهي محبة باطلة، وهم أعظم الخلق معاداة له وتبرءاً منه لأنهم موحدون لربهم لم يجعلوا بينهم وبينه وسائط، فهو مع شركه بربه مُسخط لهم غاية السخط ومُضَادّ لطريقتهم غاية المضادَّة. وإنما غَرَّه الشيطان الغَرور بأن صَوّر له الشركَ محبةً للصالحين والتوحيدَ تنقّصاً لِمَقاماتهم، وسوف يتبَرأ منه

الخلاصة في أهل القبور

الشيطان يوم القيامة إذا أوْرده جهنم وبئس المصير. والخلاصة أنَّ أهل القبور بين مُنَعَّم ومُعَذَّب، مشغولون عمَّن دعاهم وخافهم ورجاهم، قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (¬1). واللهُ سبحانه أرحم الراحمين .. لا يحتاج لِمَن يسترحمه لعباده. وهو بكل شيء عليم .. لا يحتاج لِمَن يعلمه بأحوالهم. وهو على كل شيء قدير .. لا يحتاج لِمن يُعينه. والْمُلْكُ كلُّه له، والخلق كلهم عبيده، والتدبير كله له - جلَّ جلاله -. ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 14.

المشرك ملعون وخاسر في الدنيا والآخرة

فالْمُشرك خاسر في الدنيا والآخرة، ملعون في الدنيا والآخرة .. {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (¬1). إنَّ كثيراً من الناس يقعون في الشرك وهم لا يشعرون؛ فإذا زُرْتَ قبر المسلم تُسَلِّم عليه وتدعو له بالمغفرة والرحمة لأنه ميت وعمله منقطع وبحاجة إلى الدعاء له، وتتذكر موتك أنت وأنك لاحِقٌ به لا محالة فترجع مستعداً للرحيل للدار الآخرة بالأعمال الصالحة كما رَحَل هو، ولا تزيد على ذلك شيئاً، إلاَّ إذا أردت مخالفة ربك ونبيك بالدخول بالشرك، واعلم أنَّ الزيارة للميت مثل الصلاة على جنازته حيث يُدعا له فقط ولا يُدعا هو. وكثير من الناس لا يعرف الشرك، ولذلك يفعله وهو يظنه من أفضل العبادة فيقع في أعظم ذنب وهو الشرك ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 166.

قول المشرك بأنه يصلي ويصوم ويذكر الله فكيف يكون مشركا!، والرد عليه

الموجب للخلود في جهنم؛ فهو يقول لك: " أنا لا أشرك، أنا أعبد الله، أنا أصلي لله وأصوم، وأدعو الله، وأذكر الله، فكيف أكون مشركاً؟!، أعوذ بالله من الشرك "؛ فإذا قال ذلك فقل له: (أنا لا أُكذِّبك في كونك تعبد الله وتصلي وتصوم، وإنما أقول لك: أنت تشرك مع كونك تصلي وتتعبّد .. ألسْتَ تزور القبور للتبرك وليتوسّطوا لك عند الله ليقضي حاجاتك وليغفر لك ويرحمك؟!). سيقول: " نَعَم، هؤلاء أولياء وصالحون .. لهم جاه عند الله، وأنا لا أريد منهم، إنما أريد من الله بجاههم وبِحُكم أنهم صالحون ومقربون ". فإذا قال ذلك فقل له: (هذا هو الشرك الذي وقَعَتْ به الأمم الضالة قبلنا، فأخذهم الله بعذابه، فاحذر من ذلك غاية الحذر). وقل له: (أنا أعلم أنك تفعل ذلك لتتقرب به إلى الله

ليس في القرآن والسنة أن الميت يتقرب إليه أو يذبح له ونحو ذلك

بل تَعُدُّه من أفضل أعمالك، ولذلك يحضر قلبك عند القبر ويحضرك الخشوع ما لا يكون وأنت تصلي في المساجد!). وقل له: (مِن أين أتيت بفعلك هذا، فإنه ليس في كلام الله ولا كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يُتقرب إليه، ويُتبرك به، ويُذبح له، ويُنذر له، ويدعا، ويُخاف، ويرجى، ويتوسط، ويشفع لمن فعل معه ذلك. بل في القرآن وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنَّ ذلك أعظم الذنوب، وهو الشرك الأكبر، وهو الذي أول مَن فعله قوم نوح - عليه السلام - لأن ودّاً وسُواعاً ويغوث ويعوق ونسراً رجالٌ صالحون، ولَمَّا ماتوا غلا قوم نوح بهم لصلاحهم، فجعلوهم وسائط بينهم وبين الله تعالى، فصاروا مشركين بهذا الغلو، حيث توجهت قلوبهم إليهم بالدعاء، والخوف، والرجاء، ليقربوهم إلى الله بزعمهم، فوقعوا بالشرك، وأخذهم الله بالطوفان).

قول المشرك: (كيف تجعل محبة الصالحين والأولياء شركا!)، والرد عليه

وإذا قال لك: " كيف تجعل محبة الصالحين والأولياء شركاً؟! " .. فقل له: ليست محبتهم شركاً، بل عبادة لله، وإنما الشرك وَضْعهم في غير مواضعهم وإنزالهم في غير منازلهم التي أنزلهم الله فيها، فهم عبيد .. الأنبياء والصالحون عبيد لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيرهم؛ ومحبتهم إمّا أن تكون عبادة لله أو تكون شركاً، والفرق واضح، فإذا أحببتهم لصلاحهم ولحب الله لهم فهذه عبادة لله عز وجل، وهي من أفضل العبادات، وهي الْحُبّ في الله. أما إذا زَعَمْتَ حبهم بالتقرب إليهم بحق الله الخالص الذي ليس له فيه شريك لا هُمْ ولا غيرهم مثل الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة، ونحو ذلك من العبادات التي أوْجبها الله عليك وعليهم بأن تكون خالصة له لا يُصرف شيء منها لغيره ولو كان محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فمحبتك هذه لهم شركية وهي محبة مع الله لا لله، وهم يُعادونك أشد العداوة على ذلك

هل ينفع المشرك اعترافه بأن الله هو الذي خلقه ورزقه؟!

ويتبرءون منك ومن عملك .. لأنهم إن كانوا أنبياء وأولياء وصالحين فإنما عبدوا الله عبادة خالصة ضد عبادتك حيث أخلصوا له بعدم التقرب لأي وسيلة أوْ واسطة، بل كل عباداتهم خالصة، فأنت جنيت على نفسك وعليهم، وغرَّك الشيطان بأن خيّل لك أنهم يحبونك لتقربك إليهم وصَرْفك بعض حق الله لهم، فجعلتهم شركاء لله من هذا الوجه، ولاَ ينفعك أن تقول: " أنا أُقر أن الله هو الذي خلقني، وهو الذي يرزقني، وهو الخالق للسموات والأرض وجميع المخلوقات "، لأنَّ أبا جهل يقول ذلك ولا ينفعه، فهذا توحيد أفعاله هو سبحانه، ولا يُدخلك في الإسلام لأن الإسلام مع هذا لابُدَّ فيه من توحيد أفعالك العبادية بأن تكون كلها لله، فكما أنه لابد للصلاة من الطهارة من الحدث فالتوحيد وتحقيق معنى" لا إله إلا الله " قولاً وعملاً أعظم، لأن نجاسة الشرك لا تطهرها بحار الدنيا، فلابد من التوبة منه بأن تعتقد

إذا أردت الدعاء فوجه قلبك لخالقه رب السماوات والأرض لا للقبور

في أهل القبور أنهم أموات لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم خيراً ولا شراً، وأن تفعل معهم إذا كانوا مسلمين ما أمرك به الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إذا زُرْتهم من السلام عليهم والدعاء لهم لاَ دعاءهم ولا تزيد على ذلك (¬1)؛ بل حتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وقفت عنده لا تزيد على السلام عليه وعلى صاحبيه، ثم تذهب. فإذا أردتَ الدعاء لضيقٍ حلّ بك، أو كرْب أحاط بك من مرض قلب أو مرض بدن أو فاقة أو حاجة، أو سؤال الجنة والاستعاذة من النار فَوَجِّه قلبك وهِمَّتك وإرادتك وطلبك مباشرة إلى مَن هو سبحانه فوقك فوق السموات السبع مستو على عرشه العظيم، فهو السميع الْمُجيب والحيُّ الذي لا يموت وهو القائل سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬2) ولَم يقل: " أدعو أنبيائي أو أوليائي "، ¬

_ (¬1) تقدم ذكر صفة السلام على أهل القبور من المسلمين في ص (4). (¬2) سورة غافر، من الآية: 60.

من صرف شيئا من العبادات لأي مخلوق فقد اتخذه إلها من دون الله

ولِهَذا امتدح الله عباده الموحدين الصالحين بقوله - سبحانه -: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (¬1) .. فَمَن صرَف شيئاً من العبادات التي هي حق الله - كما تقدم بيانه - لأيِّ مخلوق سواء صنماً أو قبراً أو نبياً أو مَلَكاً أو جِنياً فقد اتخذه إلَهاً من دون الله بهذه الكيفية ولو قال: " أنا أعلم أنه مخلوق ولا ينفع ولا يضر ". وإذا قال ذلك قيل له: إذا كنت صادقاً في أنه مخلوق والنافع الضار هو الله فلماذا تُحرِّك قلبك إلى المخلوق رجاءً وخوفاً ودعاءً وتبركاً، فالسِّرّ هنا هو أنك إذا اعتقدت أنه مخلوق لا ينفع ولا يضر لا يمكن أن يتحرك قلبك بخوفه أو رجائه، ولا تجود بِمَالِك للذبح له والنذر له، ولا تخرجه عن طَوْر المماثلة في العبودية وسلْب خصائص الربّ - سبحانه - عنه. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، من الآية: 68.

تنبيه مهم جدا فيمن يتوجه قلبه لصاحب القبر وما يورثه له ذلك من الفتنة

تنبيه مهم جداً: وهو أنَّ مَن يتوجَّه قلبه لصاحب القبر سواء كان نبياً أوْ وَلياً أوْ كافراً أو فاسقاً - كما تقدم بيانه - فإنه يَتَعَرّض لفتنة سوداء مظلمة يظنها ثمرة تَقَرّبه للميت وقبوله منه وتحقيقه لِمَطْلبه فيفرح بذلك ويشْتد اعتقاده بالمقبور، وذلك أنه قد يرى المقبور يخرج من قبره، وقد يُسلِّم عليه، وقد يقضي له حاجته وقد يُحْضِر له بعض المال سواء عند الضريح أو بعيداً عنه، وقد يدفع عنه ما يؤذيه، وهو لا يشك أن هذا صاحب القبر .. وحتى لو كان يعرفه في حياته لَمَا تغيَّر عليه من صفاته شيء، فهذا وأضعاف أضعافه يحصل في اليقظة وفي المنام؛ ومن الخطأ الفاحش والجهل إنكار ذلك لأن إنكاره يزيد في إغْراء مَن حصل له بالتمسك بما هو عليه لأنه حصلت له حقائق قد باشرها، فمن المحال إبطالها بمجرد الإنكار. وإنما يبيَّن له أنه فُتِن حين أشرك بربه، وذلك أن

الشيطان لَمَّا أضلّه بالشرك أراد أن يُرَسِّخ الفتنة في قلبه فتمثّل له بالميت وقضى بعض حوائجه لأنه أرضاه، بل عَبَدَه، والله سبحانه أقدر الشياطين على ذلك وأعظم منه. ومن هنا اشتدت فتنة عُبّاد القبور والأصنام فظنوا أنهم على شيء، وهم على الحقيقة قد وقَعوا في أعظم الذنوب وهو الشرك بالله، وإنما غرَّهم الشيطانُ بما يُسْمِعهم أو يُريهم عند القبر خُداعاً منه ليزيد تعلق قلوبهم بالميت وتنصرف عن تعلقها بخالقها وربها - تبارك وتعالى -!. وهذا الذي ذكرته يقعُ كثيراً جداً، وفي كل زمان، وهو من أعظم ما أوقع أهل الإشراك في الشرك. وقد ذَكَر العلماء من ذلك ما يطول وَصْفه، ومَن شاء فليسأل مَنْ يعتقد بأهل القبور أو الأصنام يَجِد عندهم حكايات وعجائب تحدث لهم ولغيرهم يعتقدونها من كرامات الوَلِيِّ ومن علامات رضاه عنهم، وإنما اقْتَطَعهم الشيطان عن

النجاة من الشرك تكون بالتوحيد، ومعنى ذلك

وليِّهم الحقِّ سبحانه وأوْقعهم بالشرك بهذا الخداع ليأخذهم معه إلى جهنم وبئس المصير!. ولاَ نَجَاة من ذلك إلا بالتوحيد، وهو إخلاص العبادة لله سبحانه وإفْراده بتعلّق القلب في الرغبة والرهبة، والضَّرْب صفحاً عن أهل القبور والبُعْد عنهم إلا زيارة على السُّنة، وهي السلام عليهم، وسؤال الله الرحمةَ لهم والمغفرة إن كانوا مسلمين. وأمرٌ آخر أذكره هنا لِصِلَته بهذا الموضوع، وهو ما يُسمى بـ " تحضير الأرواح "، وصِفَتُه أنَّ بعض الدجاجلة يتقربون إلى الشياطين بالشرك، إمَّا أنْ يدعونهم ويذبحون لهم أو غير ذلك من عبادتهم، ثم إنَّ الشيطان يُقدّم لهم بعد ذلك من الخدمة ما يريدون، فيزعم هذا الدجال أنه يُحَضِّر أرواح الموتى، فيأتي إليه بعض الناس ويقول له: " أريد منك أن تحضر روح أمي أوْ أبي أوْ جدّتي - حسب الطلب - "،

ويُعطيه مالاً مقابل ذلك، ثم إنَّ العملية تتم بغاية البساطة، حيث يجلس عنده في محل وغالباً ما يكون مظلماً لأن الشياطين تحب الظُّلمة، فيطلب الدجال من ولِيِّه الشيطان إحضار روح أم هذا أو أباه أو جده أو ما شاء من الموتى ولو كانوا قد ماتوا من سنواتٍ طويلة، فيأتي الشيطان ويتكلم بحيث يسمعه الرجل فيظن أن هذه روح مَن طلب إحضار روحه، فيخبره بأخبار قديمة وحديثة لا يشك فيها الرجل لأنها واقعة وحاصلة، فقد يُخبره أين كان مسكنه قبل موته وما حصل لأولاده أو مسكنه أو ماله أو أقاربه بعد موته، كذلك يُخبره إذا سأله عن أشياء حقيقية حاصلة للرجل، فلا يرتاب أن هذه روح أمه أوجدته أو الروح التي طلب، وأنها تخبره من الغيْب. فهذا وأعظم منه يفعله الشيطان لأنه يعلم أحوال الناس، ويعلم ذلك إخوانه وقرناؤه ويتعاونون على إضلال الناس، وهم يعرفون الناس سواء الأحياء أو الأموات، ويعلمون

تحضير روح الميت محال ومن أكذب الكذب

أحوالهم وشؤونهم، فهذا سهل بالنسبة إليهم كما يعلم الناس بعض شؤون بعضهم وأمورهم، لكن الله تعالى أقدر الشياطين على مالا يقدر عليه الناس ابتلاءاً منه سبحانه وامتحاناً، فبالنسبة للأحياء فهم معهم ويروْن الناس والناس لا يروْنهم، ولهذا يقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (¬1)، كذلك يعلمون مِن أحوال الأموات قبل موتهم أشياء كثيرة ويُخبرون بها. والمراد أن هذا فعل الشياطين مع إخوانهم وأوليائهم من الإنس الذين يتقربون إليهم بالشرك. أما تحضير روح الميت، فهذا مُحال وهو من أكذب ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: 27.

من هو أكثر من يروج ضلالات (تحضير الأرواح)، وسبب ذلك؟!

الكذب، فالميت روحه مُمْسَكة إما في نعيم أو عذاب وليس للأموات من الأمر شيء، ولو قَدِروا على شيء لخرجوا من قبورهم ونفعوا نفوسهم قبل أن يُفكروا في نفع غيرهم!. فيا له من غرور سوف يندم المتمادي فيه غير التائب منه حين لا ينفعه الندم!. وأكثر من يُرَوِّج هذه الضلالاتِ الكهانُ الذين يستخدمون الجن، كذلك سَدَنَة القبور الدَّجَاجلة الذين يَتَأكَّلون بالشرك والكذب، حيث يزيدون على ما يحصل من الشياطين عند القبور وفي مواضع ما يسمونه تحضير الأرواح دَجَلاً كثيراً لِيُعَلِّقوا قلوب الناس بالكفريات والضلالات والخرافات، ويأخذوا أموالهم. كذلك فإنه يُفعل عند المشهد المسمى " مشهد الحسين " في مصر من الشرك ما الله به عليم مع أنه ليس في مصر من الحسين ولا شعرة!.

ذكر ما قاله شيخ الإسلام عما يسمى بمشهد «الحسين» بمصر، وعن بدنه

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (المشهد الذي بُني بالقاهرة على رأس «الحسين» كذب باتفاق أهل العلم، ورأس الحسين لم يُحمل إلى هناك أصلاً) (¬1). وقال: (وقد اتفق العلماء كلهم على أنَّ هذا المشهد الذي بقاهرة مصر الذي يقال له: " مشهد «الحسين» باطل ليس فيه رأس الحسين ولا شيء منه، وإنما أُحْدث في أواخر دولة بني عبيد الله ابن القداح الذين كانوا ملوكاً بالديار المصرية مائتي عام) (¬2). وقال - رحمه الله -: (وأما بَدَن «الحسين» فبِكَرْبلاء بالاتفاق)، ثم ذَكَر ما ثبت عن «أبي عبد الله القرطبي» - صاحب التفسير - أنه كان يُنكر هذا المشهد ويقول: (إنه كذِب، وأنه ليس فيه قبر «الحسين» ولا شيء منه)، ثم ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (17/ 500). (¬2) «مجموع الفتاوى»، (4/ 508).

قال: (والذين حدثوني عن «ابن القسطلاني» ذَكَروا عنه أنه قال: " إنَّما فيه نصراني ") انتهى (¬1). ولوْ كان الحسين - رضي الله عنه - حَيًّا في ذلك الموضع فلن يملك لنفْسه شيئاً فضلاً عن غيره لكنها الفتنة والضلال البعيد، كذلك ضريح «البدوي» في طنطنا يُفعل عنده من الشرك شيء عظيم من الذبح له والنذر والدعاء والتبرّك والشكوى لدفع البلوى أو جلب النّعماء مما لا يقدر عليه إلا الحي الذي لا يموت؛ وذلك هو الشرك الأكبر والعياذ بالله. وكمْ وكم من حكاياتٍ عند القبوريين بأنَّ السيِّد «أحمد البدوي» فعَل كذا ونفَع بكذا وضَرَّ بكذا!!، وهو الدّجَل الذي يُرَوِّجه السَّدنة وأمثالهم ليأكلوا أموال الناس، والذي يصح من حكاياتهم هو مِن فِعْل الشياطين - كما تقدم بيانه - لأجْلِ الفتنة، فالحذر الحذر من موجبات عذاب سَقَر. ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (27/ 493).

ذكر كلام آخر لشيخ الإسلام عن المشاهد المنسوبة لـ «علي» و «الحسين»

وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (هل المشاهد المسماة باسم «علي بن أبي طالب» وَوَلده «الحسين» - رضي الله عنهما - صحيحة أم لا؟!، وأين ثَبَت قبر «علي»؟!)، فأجاب: (أما هذه المشاهد المشهورة فمنها ما هو كذب قطْعاً: مثل المشهد الذي بظاهر دمشق المضاف إلى «أُبَيِّ بن كعب»، والمشهد الذي بظاهرها المضاف إلى «أويس القرني»، والمشهد الذي بمصر المضاف إلى «الحسين» - رضي الله عنه - إلى غير ذلك من المشاهد التي يطول ذكرها بالشام والعراق ومصر، وسائر الأمصار؛ حتى قال طائفة من العلماء منهم «عبد العزيز الكناني»: " كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح شيء منها إلا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وقد أثبت غيره أيضاً قبر «الخليل» - عليه السلام -) انتهى (¬1). وقال - رحمه الله - عن " مشهد عَليّ ": (فعامة ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى» (27/ 446).

بيان أنه لا يجوز الطواف بحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم –، ولا غيره

العلماء على أنه ليس قبره، وجمهور أهل المعرفة يقولون: " إن «عَلِيًّا» إنما دُفن في قصر الإمارة بالكوفة أو قريباً منه "). وقال - رحمه الله - في شأن القبور: (معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام) انتهى (¬1). وقال عن الطواف: (فلا يجوز لأحد أنْ يطوف بحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولاَ بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء كالقبة التي فوق جبل عرفات وأمثالها، بل ليس في الأرض مكان يُطاف به كما يُطاف بالكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شَرٌّ مِمَّن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة) انتهى (¬2). وفي " مصر " قبور أخرى يُشْرك بها مثل ما يسمونه " الدسوقي " و " نفيسة " و " زينب " و " الغريب " وغير ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى» (27/ 447). (¬2) «مجموع الفتاوى» (27/ 10).

مثال في بيان شناعة الشرك الأكبر، وأن المشرك لو دعا النبي فهل سينفعه؟!

ذلك مِمَّا هو مكذوب أوْ صحيح ولكن فُتِنَ به مَن فُتِن - نسأل الله السلامة والعافية -، وأشجار أيضاً تُعَلّق عليها الثياب وتُعمل عليها العُقد ويُعْتقد فيها، وكل هذا دِين الشيطان وعبادته، وهي من جِنْس السدرة ذات الأنواط، وفي غير مصر الشام وغيره. ويكفي هنا أنْ أضْرِب مِثالاً واحداً وهو قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لو كان معه في قبرهِ الأنبياءُ والرسلُ والملائكة أجمعون وجاء مَن يزعم أنه يطلب الشفاعة والوساطة منهم بينه وبين الله لأنهم مُقربون وَوُجَهاء، فدعاهم أو نَذَرَ لهم أو استغاث بهم وقع في الشرك الأكبر، وما انتفع مثقال ذرة، ويوم القيامة يكونون أشد الخلق له عداوة مع تبرئهم منه، والسِّرُّ في ذلك أن هذه الفاقة التي في القلب والتّوَجّه والانكسار هو عبادة جعلها الله في قلوب عباده له بلا وسيط ولا شريك فِطرةً وتشريعاً، فَيَتَوَجّه القلب مباشرة إلى فوق لِسيّده ومولاه

لماذا احتال الشيطان على عباد القبور بأنهم يطلبون منهم الشفاعة عند الله؟!

الحي الذي لا يموت وهو على عرشه فوق سمواته يسمع عباده ويراهم، وليس بحاجة إلى من يُبَلِّغه حوائجهم لأنه أعلم بهم من نفوسهم فضلاً عن غيرهم، وهو أرحم الراحمين، القريب المجيب، وهو على كل شيء قدير، ليس له ظهير ومعين، ولا يقبل من العبادة إلا ما أُفْرِدَ به باتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ثم لِيَعلم عباد القبور أن الشيطان إنما احْتال عليهم بحيلة طلب الشفاعة والوساطة والقرب من الله ولأن أهل القبور في عالم الغيب لأنه يعلم أنه لوْ قال لهم: " أهل القبور هم الذين خلقوكم وهم يرزقونكم ويدبرون أموركم " لكذّبوه ولَمَا أطاعوه بالتقرّب إليهم، ولكنه جاءهم بهذه الحيلة وهي الوساطة بدعْوى القرب والوجاهة وأن ذلك من محبتهم، فأوقعهم في الشرك بهذا الاعتقاد، فصاروا مِنَ {الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ? الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ

ذكر كلام لابن تيمية عن الزيارة الشرعية للقبور ولو كان قبر الرسول

أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (¬1)، قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فالزيارة الشرعية مقصودها السلام على الميت والدعاء له، سواء كان نبياً أو غير نبي، ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسلّمون عليه ويدعون له ثم ينصرفون، ولَم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفْسه) انتهى (¬3). وقال - رحمه الله -: (وأما التمسّح بالقبر - أيّ قبر كان -، وتقبيله، وتمريغ الخد عليه، فمنهي عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء، ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هذا من الشرك) انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآيات: 103 - 104. (¬2) سورة النساء، الآية: 120. (¬3) «مجموع الفتاوى» (27/ 30). (¬4) «مجموع الفتاوى» (27/ 91).

بيان أن الموحد يفرق بين مالله تعالى وما للأنبياء والصالحين من حقوق

وقد ذَكَرْتُ فيما سَبَق أنَّ القبوريين يَتّهمُون الموحِّدَ إذا نهاهم عن الشرك وذرائعه، وأنْ يجعل العبد عبادته خالصة كلها لربه .. أنه لا يُحب الأنبياء والأولياء؛ وهو اتّهام باطل - ولله الحمد -، فالموحّد يُفَرِّق بين ما لِله وما لأنبيائه والصالحين من عباده من حقوق ولا يخلط بين حق ربه الذي لا يقبله إلا خالصاً بلا شريك وبين حقوق عباده، سواء الأحياء أو الأموات. وتأمل الآن كلام شيخ الإسلام حتى تَعلَم افْتراءَ القبوريين على الموحِّدين. قال - رحمه الله -: (والله سبحانه أمَرَنا أنْ نُطيع رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬1)، وأمرنا أن نتبعه فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية: 80.

ذكر آيات وأحاديث في بيان القدر الشرعي لتعظيم النبي - عليه السلام -

فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬1)، وأمرنا أنْ نُعزره (¬2) ونوقره وننصره، وجعل له من الحقوق ما بَيّنه في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أوْجب علينا أن يكون أحبّ الناس إلينا حتى من أنفسنا وأهلينا فقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (¬3)، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " (¬5)، وقال له عمر ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬2) نعزره: ننصره. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 6. (¬4) سورة التوبة، الآية: 24. (¬5) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (44) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعاً.

- رضي الله عنه -: يا رسول الله .. لأَنْتَ أحب إليَّ من كل شيء إلاَّ من نفسي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يا عمر .. حتى أكون أحب إليك من نفسك "، قال: فلأنت أحبّ إلَيَّ من نفْسي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الآن يا عمر! " (¬1)؛ وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث مَن كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: مَن كان الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، ومَن كان يحب المرء لا يُحِبُّه إلا لله، ومَن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار " (¬2)؛ وقد بَيَّن في كتابه حقوقه التي لا تصلح إلا له وحقوق رسله وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض) انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (6257) عن عبد الله بن هشام - رضي الله عنه - قال: (كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، فذَكَره. (¬2) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (16)، ومسلم في «صحيحه» برقم (43) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬3) أنظر كتاب: «زيارة القبور» من كلام شيخ الإسلام، ص (77 - 78).

ذكر ما جعل القبوريين من الشركين بالله

هذا - ولله الحمد - هو مُعْتقد الموحّد وعليه عمله، أمَّا دَعْوى القبوري أنه يحب الأنبياء ويحب الأولياء فهو من أبطل الباطل لأنها محبة شركية، يبغضونه ويُعادونه ويتبرؤن منه لأجلها، لأنه شرّكهم في حق الله الخالص. أما الموحِّد فمحبته لهم عظيمة على حسب أقدارهم لكنها لا تقوده إلى الغلو بهم وإنزالهم في غير منازلهم، فلاَ يُخرجهم عن طَوْر المماثلة بالنسبة للبشرية وعدم القدرة على جلب نفع أو دفع ضر فَيُميِّز بين حقوقهم وحق معبوده كما مَيّزوا هم ذلك وعادَوْا من اختلط عليه الأمر وتبرءوا منه. والذي جعل القبوريين يُشركون هو - كما قال " ابن تيمية " رحمه الله -: (العكوف على القبور، والتمسّح بها، وتقبيلها، والدعاء عندها وفيها، ونحو ذلك .. هو أصل الشرك وعبادة الأوثان، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم لا تجعل

هل يستطاع الوصول إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟!

قبري وثناً يُعبد " (¬1) انتهى (¬2)، وقبره - صلى الله عليه وسلم - لا يُوصل إليه، أما ما يفعله الضالون من شِرك فبالحديد المجاور!. كذلك فإنَّ مما فتنهم بأهل القبور ما ذكره الشيخ محمد بن علي الشوكاني اليماني - المتوفى سنة (1250 من الهجرة) -، وهو كلام نفيس. قال - رحمه الله -: (فلا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نَشَأَ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زَيَّنَه الشيطان للناس من رفع القبور وَوَضْع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين؛ فإنَّ الجاهل إذا وَقَعَتْ عينه على قبر من القبور قد بُنيَتْ عليه قبة فدخلها، ونظر على القبر الستور الرائعة، والسّرُج المتلألئة ¬

_ (¬1) رواه مالِك في «الموطأ» برقم (414) من حديث عطاء بن ياسر - رحمه الله - مُرسلاً. (¬2) «مجموع الفتاوى» (27/ 114).

وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصوّر ما لِهَذا الميت من المنزلة ويدخله من الرّوْعَة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشدّ وسائله إلى ضلال العبد مما يُزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً حتى يطلب من صاحب ذلك القبر مالا يقدر عليه إلا الله سبحانه، فيصير في عِداد المشركين؛ وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصِّفَة وعند أول زَوْرَة له، إذْ لابدَّ أنْ يخطر بباله أنَّ هذه العناية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلا لفائدة يرجونها منه إما دنيوية أو أخروية، فَيَسْتصغر نفْسه بالنسبة إلى من يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر وعاكفاً عليه ومُتَمسِّحًا بأركانه) انتهى (¬1). ¬

_ (¬1) أنظر: «الجامع الفريد، يحتوي على كُتب ورسائل لأئمة الدعوة الإسلامية»، ص (527).

تأملات في كلام الشوكاني

هذا واللهِ كلام خبير!، ومن أجْلِ هذه الشبهة وغيرها جاءت الشريعة بالتغليظ الشديد على كل ما يُمَيِّز القبر ويَشْهره زيادةً على ترابه. وتأمل قول الشوكاني - رحمه الله -: (فإنَّ الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بُنيت عليه قبة) إلى آخر كلامه .. تعلم أن الذي يغتر بذلك هو الجاهل، ولا يقصد بالجاهل الذي ليس عند شهادة علوم هذا العصر الْمُحْدَثة وإنما الجاهل الذي لا يعرف التوحيد وهو معنى شهادة (أن لا إله إلا الله). أما الموحِّد فلوْ لَم يكن يقرأ ولا يكتب فلو رأى قبراً عليه قبة من ياقوت وذهب وفضة ومرفوعة إلى السماء لَمَا الْتفت قلبه لصاحب القبر، وعَلِم أن هذا من فعل شياطين الإنس والجن؛ لأن الموحِّد يعرف وِجْهَة قلبه، وأنها ليست للعالَم السفلي كله، ولا الشمس والقمر والنجوم، ولا ما

ذكر كلام نفيس لشيخ الإسلام في إقامة الحجة على من يدعو أهل القبور

فوق ذلك في السموات السبع من الملائكة، وإنما للذي عرشه فوق هذا العالَم العلوي كله، وهو الحي السميع البصير، والعليم القدير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعَوْت هذا فإنْ كنت تظن أنه أعلم بحالك فهذا جهل وضلال وكفر، وإنْ كنت تعلم أنَّ الله أعلم وأقدر وأرحم فَلِمَ عَدَلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟!) انتهى (¬1). وقال: (فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحيِّ إلى الميت، ولا مسألته ولا توسّله به، بل فيها منفعة الحي للميت كالصلاة عليه، والله تعالى يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه، ويُثيب هذا على عمله، فإنه ثَبَت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: " إذا مَاتَ ابن آدم انقطع عمله إلا مِن ثلاث: ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (27/ 74).

بيان حكم ما يفعله بعض العوام في الأشجار والأحجار ونحوها من النذر ونحوه

صدقة جارية، أو عِلْم يُنتفع به، أوْ ولد صالِح يدعو له " (¬1). وقال - رحمه الله -: (وأما الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها بعض العامّة، أو يُعلقون بها خِرَقاً، أو غير ذلك، أو يأخذون ورَقَها يتبركون به، أو يُصَلُّون عندها، أو نحو ذلك؛ فهذا كله من البدع المنكَرة، وهو من عمل أهل الجاهلية، ومن أسباب الشرك بالله تعالى. وقد كان للمشركين شجرة يُعلِّقون بها أسلحتهم يُسمُّونها " ذات أنواط "، فقال بعض الناس: يا رسول الله .. اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " الله أكبر!، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (¬2) .. إنها السُّنن، لتَركبُن سَنن مَن كان ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (1631) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) سورة الأعراف، من الآية: 138.

ذكر ما فعله «عمر بن الخطاب» حينما بلغه أن قوما يصلون عند الشجرة

قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو أنَّ أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه " (¬1). وقد بلغ «عمر بن الخطاب» أنَّ قوماً يقصدون الصلاة عند " الشجرة " التي كانت تحتها بيعة الرضوان التي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس تحتها، فأمر بتلك الشجرة فقطعت) انتهى (¬2). وقال - رحمه الله - في زيارة المشاهد: (وأول مَن وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور أهل البِدَع من الرافضة ونحوهم الذين يُعطِّلون المساجد ويُعظِّمُون المشاهد، يَدَعون بيوت الله التي أمَر أن يُذكر فيها ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في «مستدركه» برقم (8404) بهذا اللفظ من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وصححه ووافقه الذهبي؛ وأخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (6889) دون قوله (وحتى لو أنَّ أحدهم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه). (¬2) «الفتاوى الكبرى»، (4/ 373).

اسمه ويُعبد وحده لا شريك له ويعظمون المشاهد التي يُشرك فيها ويُكْذَب ويُبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطاناً؛ فإن الكتاب والسنة إنما فيها ذِكر المساجد دون المشاهد كما قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬1)، وذكر آيات فيها ذكر المساجد لا المشاهد، ثم قال: (وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه كان يقول: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يُحَذِّر ما فعلوا، ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية: 29. (¬2) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (532) من حديث جُندب بن عبد الله - رضي الله عنه -.

ذكر ما قالته «عائشة» في سبب عدم إبراز قبر النبي - عليه السلام -

قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كَرِه أنْ يُتخذ مسجداً (¬1) انتهى (¬2). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (" فَصْلٌ في الفرق بين زيارة الموحدين للقبور وزيارة المشركين "؛ أما زيارة الموحدين فمقصودها ثلاثة أشياء: أحدها: تذكِّر بالآخرة والاعتبار والاتعاظ، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: [زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة] (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (1330)، ومسلم في «صحيحه» برقم (529) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) «مجموع الفتاوى»، (27/ 191)؛ وقولها: (ولكن كَرِه أنْ يتخذ مسجداً) كراهة تحريم. (¬3) أخرجه ابن ماجه في «سننه» برقم (1569) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وهو حديث حسَن.

ذكر أصل الزيارة الشركية

الثاني: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به فيهجره ويتناساه كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه فإذا زاره الحيُّ فرح بزيارته وسُرَّ بذلك، فالميت أولى لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم فإذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة أو أهدى قربة ازداد بذلك سروره وفرحه كما يُسَرّ الحي بِمَن يزوره ويُهدي له، ولهذا شَرَع النبي - صلى الله عليه وسلم - للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية فقط، ولَمْ يشرع أن يدعوهم ولا أن يدعوا بهم ولا يصلي عندهم. الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شَرَعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فَيُحسن إلى نفسه وإلى المزور. وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ من عُبّاد الأصنام، قالوا: «الميت المعظم الذي لروحه قُربٌ ومزيّة عند الله لا يزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات؛

فإذا علّق الزائر روحه به وأدناها فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء على الجسم المقابل له!». وقالوا: «فتمام الزيارة أنْ يَتَوجَّه الزائر بِرُوحه وقلبه إلى الميت ويعكف بهمَّتِه عليه، ويُوَجّه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، وكلما كان اجتماع القلب والهمّة عليه أعظم كان أقرب إلى الانتفاع به») انتهى (¬1). قلت: فتأمل ذلك، واعلم أنه قد يحصل مثل هذا الاعتقاد في الحي - أيضاً -، وسببه الغلو في الصالحين. ثم قال ابن القيم - رحمه الله -: (وقد ذَكَر هذه الزيارة «ابن سَينا» و «الفارابي» وغيرهما، وَصرّح بها عُبّاد الكواكب في عبادتها. ¬

_ (¬1) «إغاثة اللهفان»، (1/ 218 - 219).

ذكر رد ابن القيم على فلسفة المشركين وتبريراتهم الشيطانية لعبادة القبور

وهذا بعينه هو الذي أوجب لِعُباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السُّرُج، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبطاله ومَحْوه بالكلية، وسَدّ الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شِقٍّ وهؤلاء في شِقّ. وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله، قالوا: «فإنَّ العبد إذا تعلّقت رُوحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجّه بِهِمَّته إليه، وعكف بقلبه عليه، وصار بينه وبينه اتصال يفيض عليه مما يحصل له». وشبَّهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحَضْوَة وقُرب من السلطان وهو شديد التعلّق به، فما يحصل لصاحب الجاه من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلّق به بحسب تعلّقه

كلام ابن القيم المتقدم يبين الفرقان بين عبادة الرحمن وعبادة الشيطان

به، فهذا سرّ عبادة الأصنام) (¬1)، وهو الذي اعتقده عُبّاد القبور. فتأمل هذا فإنه نافع جدًّا - بإذن الله - في معرفة التوحيد وبيان الفرقان بين عبادة الرحمن وعبادة الشيطان، لأنَّ مقصود الشيطان بهذا أن يصرف قلب العبد عن التعلّق الخالص بإلهه الحق - سبحانه -، فصاغ هذه الحيلة وشَبّه للأشقياء الخالقَ بالمخلوقين وأنَّ ذلك الفعل أنفع لهم من التوحيد الخالص. ومعلوم أنَّ مَن تعلّق قلبه ذلك التعلّق المذكور بغير الله - عزَّ وجل - أنه ينصرف عن عبوديته لأنَّ هذا التعلّق هو لُبُّها ورُوحها، ولوْ ذَكر الله بلسانه وصلَّى وصام وحج وعمل الطاعات كلها فهو مشرك من أجل هذا الاعتقاد الذي يظنه من أقرب القربات وهو أعظم شيء يُبْعده عن الله تعالى. ¬

_ (¬1) انتهى مختصراً من «إغاثة اللهفان»، (1/ 219).

معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)

وكَلِمة التوحيد (لا إله إلا الله) قاطعة النفي لِهذا التعلُّق بأيِّ مخلوق بلا استثناء عمَّا سِوى الله وتُثْبِته له سبحانه لأنه خَالِصُ حَقِّه بلا شريك، لأنَّ (الإله) هو ما انجذبت إليه الروح بهذا الاعتقاد المذكور ولو لم يُسَمِّه مُتخذه (إلهاً). إنك بتأمّل المثال السابق يتبين لك جلياً أنَّ الذي يخدم ذا الجاه والحظْوة والقُرب من السلطان وهو شديد التعلق به لاعتقاده أنَّ ما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال يناله منه بحسب تعلّقه أنه فارغ القلب من التعلق بالسلطان أو الاهتمام بشأنه، لأنه قد أنزل حاجته بهذا الوجيه فأوجب له ذلك أن صار حُبه وذلّه وخضوعه وخوفه ورجاءه لِلْوَجيه دون السلطان. ومن هنا انقطع المشرك عن معبوده الحقِّ بعبادة الشيطان الذي أمَرَه بهذا.

جواب من يقول أن المقبور ليس كالصنم حتى يكون توجه القلب إليهما سواء

وهذا هو الشرك الأكبر الذي مَن مات عليه خُلِّدَ في جهنم وأعماله كلها حَابِطَة. وإذا كان هذا هو سِرّ عبادة الأصنام والقبور فينبغي تأمّله والاعتناء به. وهُنا يرِد سؤال وهو: (أنَّ صاحِب القبر الذي يُعتقد فيه ذلك الاعتقاد ليس هو كالصَّنَم الْجُماد حتى يكون توجُّه القلب إليهما سواء ويكون ذلك كله شِركاً!). فجواب ذلك هو أنَّ الأصنام معمولة ومُعْتَقَدٌ فيها على اعتبارِ معبودٍ غائب، فالعبادة والتقرّب لَهَا بإنزالها منزلته كأصنام قوم «نوح» - عليه السلام - وتماثيل الملائكة بزعمهم ونحو ذلك، ومع كل صنم شيطان يُضل ويُغوي، فكذلك القبور؛ بل الفتنة بالقبور أعظم.

كلام مهم حول حقيقة الشفاعة وخلق أفعال العباد

وليعلم أهل الإشراك أنَّ مَن يطلبون منه الشفاعة والقربة إلى الله ليس فقط أنه ميت، وإنَّما لأنَّ ذلك مُمتنع ومُحَال؛ لأنَّ الله - سبحانه - هو الخالق لأفعال العباد، فالمطلوب منه الشفاعة والتقرب إلى الله سواءً الأنبياء أو غيرهم، لأنَّ أفعالَهم مخلوقة لله، فهم لا يخلقون أفعالهم ولا يُحرِّكون نفوسهم لا بإرادة القلوب وحُبها وبغضها ولا الجوارح. ومعلوم أنَّ مَطْلب المشرك من المخلوق أنْ تتحرك إرادته استقلالاً ليتوسَّط عند الله لِمَن أشركه مع الله في عبادته، كذلك جَوَارحه بالدعاء لِتُستجاب الوساطة والشفاعة؛ وهذا لا يقدر عليه لا «محمد» ولا «جبريل» - عليهما السَّلام - فضلاً عن غيرهما لأنَّ خالق أفعال العباد هو الله - تعالى -.

بيان ثلاثة نتائج حتمية لمعنى أن المخلوق محرك ومخلوقة أفعاله

وإذا كان الأمر كذلك وأنَّ المخلوقَ مُحَرَّك وآلَةٌ صِرْفة فالنتيجة الحتميّة هي: أولاً: امتناع واستحالة قدرة المخلوق الحي أو الميت على نفع غيره أو ضره إلاّ أن يكون الله سبحانه يخلق ذلك النفع أو الضُّر. ثانياً: وبما أنَّ قلب المشرك مَالَ إلى غير معبوده الحق وأشْرَكه بخالص حقه وبما أن الله هو الخالق لأفعال الوسيط المزعوم فلا ريب أن الله لا يخلق بقلبه محبة ولا رحمة لهذا المشرك ولا يجعله مريدًا للشفاعة له، بل عكس هذا يجعل في قلبه بغضه والبراءة منه والكفر بعبادته. ثالثاً: غضب الله الشديد على المشرك وإحباطه جميع عمله لأنه صَرَف خالص حقه لمملوكه، وعبادته لله الشركية باطلة.

العلم بأن الله تعالى يخلق أفعال العباد يقطع جذور الشرك من القلب

إنَّ العلمَ بأن الله سبحانه يخلق أفعال العباد يقطع جذور الشرك من القلب، فتأمَّل. ولِيُعلم أنه لا حجة لِمَن احتج بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه داخل المسجد، فهذا ليس فعل الصحابة - رضي الله عنهم -، وإنما فَعَله «الوليد بن عبد الملك»، والصحابة لا يرضون بهذا بل يُنكرونه غاية الإنكار، وبنو (أُمَيَّة) أدخلوا البيت في المسجد لأجل توسيع المسجد ولَم يقصدوا تعظيم الحجرة بذلك، ولكنهم قصدوا تعظيم المسجد، ومع هذا أنكره علماء المدينة حتى قُتِل «خُبيب بن عبد الله بن الزبير» بسبب إنكاره ذلك؛ هكذا قال علماء التوحيد.

ذكر جملة من أبيات شعر شركية توضح ما تقدم ذكره من معنى الشرك وشناعته

وهذه أبياتُ شِعرٍ شِرْكية توضِّح ما تقدَّم: • قال «التواجي المصري» داعياً النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله: يَا رَسُولَ الإلهِ إنِّي ضَعِيفٌ ... فَاشْفِنِي أنْتَ مَقْصَدٌ لِلشِّفَاءِ يَا رَسُولَ اللهِ إنْ لَمْ تُغِثْنِي ... فَإِلَى مَنْ تَرَى يَكُونُ الْتِجَائِي! (¬1) • ويقول «أبو المواهب البكري» داعياً النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -!: أقِلْنِي عَثْرةً عَظُمَتْ ... فإنِّي ضَاقَ بِي الْمَذْهَبْ وخَلِّصْنِي وَخَصِّصْنِي ... بِسِرٍّ مِنْهُ لاَ أُسْلَبْ أغِثْ يَا سَيِّدي لَهَفي ... وَإلاَّ مَنْ لَهُ أَذْهَبْ وَقُلْ لِي أنتَ في جَاهِي ... فَلاَ تَخْشَ وَلاَ تَتْعَبْ بِكَ اسْتَنْصَرْتُ فانصُرْنِي ... فَمَن تَنصُرْهُ لاَ يُغلَبْ (¬2) ¬

_ (¬1) «شواهد الحق» للنبهاني، ص (352). (¬2) المصدر السابق، ص (377).

أنظر ما يفعل الشيطان بأوليائه!، فهذا التوجُّه لا يَصْلُح لغير الله، وهو شِرْك؛ والله - سبحانه - هو الذي لا يُغلب، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬1). • ويقول «النبهاني» مستغيثاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -!: سيِّدي يا أبَا البتُولِ أغِثْنِي ... أَنْتَ أدْرَى بِمَا حَوَاهُ الضَّمِيرُ! (¬2) والذي يعلم ما يحويه الضمير ليس النبي - صلى الله عليه وسلم - بل الله - عزَّ وَجَل - الذي أنزل عليه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (¬3)، والاستغاثة بغير الله شرك سواء كانت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: 160. (¬2) «شواهد الحق»، ص (363). (¬3) سورة الأنعام، من الآية: 50.

• وقال «محمد الجمالي الحلبي» مستغيثاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -!: يَا مَلاَذِي يَا مُنْجِدي يا مُنَائي ... يَا مَعَاذِي يَا مَقْصَدِي يَا رَجَائِي يَا نَصِيِرِي يَا عُمْدَتِي يَا مُجِيرِي ... يَا خَفِيرِي يَا عُدَّتِي يَا شِفَائِي أَدْرِكْ أدْرِكْ أَغِثْ أغِثْ يَا شَفِيعِي ... عَنْدَ رَبِّي وَاعْطفْ وَجُدْ بِالرِّضَاءِ أَنْتَ عَوْنِي وَمَلْجَئِي وَغِيَاثِي ... وَجَلاَ كُرْبَتِي وَأَنْتَ غِنَائِي (¬1) وماذا تَرَك للهِ هذا من عبودية؟!. • ويقول «الزمزمي المكي» داعياً النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -!: نَفْحَةً لَمْحَةً غِياثاً عِيَاذاً ... عَطْفَةً جَذْبَةً جَوَاباً نِدَاءَ ¬

_ (¬1) «شواهد الحق»، ص (355).

كَمْ هُمُومٍ مِنَ الدُّيُونِ عَلَتْنِي ... أَنَا فِي فِكْرِهَا صَبَاحاً مَسَاءَ ثَقَلتْ حَمْلها غَيْرَ أنِّي ... بِكَ أرْجُو وَضْعاً لَهَا أوْ وَفَاءَ أنْتَ فِي كُلِّ مَطْلَبٍ نَصْبَ عَيْنِي ... لاَ أَرَى لِي إلاَّ سِوَاكَ الْتِجَاءَ عَظُمَتْ كُرْبَتِي فَجِئْتُكَ قَصْداً ... قَاصِداً لِلْعَظَائِمِ العُظَمَاءَ (¬1) • ويقول «البرعي» مَادحاً بزعمه النبي - صلى الله عليه وسلم -: وَلَيْسَ مَعِي زَادٌ وَلاَ لِي وَسِيلَةٌ ... سِوَى (هَاشِمِيٍّ) بِالْبَهَاءِ مُتَوَّجُ أَلُوذُ بِهِ ذَاكَ الْجَنَابِ وَأحْتَمِي ... بِمَنْ هُوَ عَنْدَ الكَرْبِ لِلْكَرْبِ مُفْرِجُ ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص (353).

تعليق على هذه الجملة من الأشعار الشركية الكفرية

وَأَدْعُوهُ فِي الدُّنيا فَتُقْضَى حَوَائِجِي ... وَإِنِّي إِلِيْهِ فِي القِيَامَةِ أحْوَجُ (¬1) وكل هذه الأشعار دعاءٌ للرسول - صلى الله عليه وسلم - وشِركٌ عظيم، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (¬2)، فانظر كيف مَكَر الشيطانُ بهؤلاء وكيف جَعَلَهم يعبدون الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟!. * * * * * * وأخيراً .. لا ننسَ التنبيه على مسألة الحلف بغير الله، وهو كثير جداً .. يقول أحدهم في حَلِفِه: (والنبي) (وحياتِك) (وشرَفي) ونحو ذلك من الإقسام بالمخلوق، ¬

_ (¬1) «ديوان البرعي»، ص (190). (¬2) سورة النساء، آية: 48.

وهو شرك أصغر؛ وهل تدري ما هو الشرك الأصغر؟!، إنه أكبر من الكبائر مثل الزنا وشرب الخمر، فهو أعظم من ذلك؟!، ولا يجوز الحلف بغير الله - عز وجل -. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. عبد الكريم بن صالح الحميد بريدة ـ جمادى الآخرة، 1427 هـ

§1/1