معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين وكاتب وحي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم - كشف شبهات ورد مفتريات

شحاتة صقر

تقديم الأستاذ الدكتور: أنور السنوسي

تقديم الأستاذ الدكتور: أنور السنوسي رئيس قسم اللغة العربية بكلية التربية بدمنهور إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله ـ وحده لا شريك له ـ وأن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلِّمْ وبارك عليه كما تحب أن يصلى عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ... وبعد فإن {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} (¬1)، وعدنا ربُّنا وعدَ الحق: ... {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (¬2) بالسنان واللسان، وهاهم أولاء يفعلون دائبين لا يفتُرون، ووعدنا ربنا وعد الصدق: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} (¬3). وهاهم أولاء يؤذون الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - والمؤمنين بألسنة حدادٍ، وقلوبٍ سُودٍ، وغيظٍ قاتلٍ، وحقدٍ أعمى، ونفوسٍ موتورة، وكلابٍ مسعورة، وأقلامٍ مأجورة، وأخبرنا ربنا - عز وجل - بالخبر الموثوق: {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} (¬4) فترانا ¬

_ (¬1) الأحزاب:22. (¬2) البقرة:217. (¬3) آل عمران:186. (¬4) آل عمران:119.

نوادّهم ونتزلف ونتملق ونطلب الرضا والقبول، ولا يُلقون إلينا إلا بالبغضاء والاحتقار والاستنزاف وابتزاز المزيد من الصَّغار وإعطاء الدنية. {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (¬1) إلا على المسلمين وكتابِهم ونبيِّهم، ورموزهم، وتاريخهم؛ فتتحد قلوبهم على شنآنهم، وتتحد ألسنتهم فيقولون ـ وصدق ربي ـ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (¬2)، ويتعاون على ضرب الإسلام أحبارُهم ورهبانُهم ومستشرقوهم، واستعمارهم، وصهاينتهم، ومجامعهم، ونواديهم، وكل جند لهم. ويشاركهم أصحاب الأعراق من الفرس وغيرهم، من الذين يبغضون العرب والنبي العربي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويواليهم المحسوبون على الإسلام من كل فرقة ضالة فيقولون للذين كفروا ـ وصدق ربي ـ: {هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} (¬3)، ويرونهم أقرب إليهم من أهل السنة، فـ {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} (¬4). ويتسلق على بنيانهم الآثم نباتُ العلمانيين الآكلين على موائد اللئام، المتسولين أجر الكفر، الطالبين وجاهة أبي لهب وامرأته، تبت يداهم من رجال سوء وناءت بحملها من طابورهم كل حمالة للحطب. ويعينهم (طيبون) من مثقفي المسلمين من حيث لا يدرون أن السم في الدسم، وأمةٌ غلب عليها الجهل بدينها وسلفها وتاريخها، وصدق ربي: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (¬5). ¬

_ (¬1) الحشر:14. (¬2) البقرة:111. (¬3) النساء:51. (¬4) الحشر:11. (¬5) التوبة:47.

صدق ربي وعده وتكالبوا جميعًا، وصدق رسوله فتداعوا جميعًا على قصعة الإسلام وثروات المسلمين، يريدون أن يطفئوا نور الله، فتعجز أفواههم العفنة، فيدورون ويناورون، فيرمون الرجال، وخيرهم نبي هذا الدين - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيرومون نسف الجبل الأشم فلا يُوهُون إلا قرونهم، فيقصدون أصحابه، لينالوا من صخرتهم الباذخة (¬1)، ليقال: «رجل سوء وصحبته صحبة سوء»، فتتحطم رؤوسهم، وتنفجر آذانهم بدويّ الحق من ربهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2)، وصحبة الصدق في قرآنهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} (¬3). ولكنهم لا يزالون يقاتلون، فيرمون أبا بكر وعمر وعائشة وغيرهم - رضي الله عنهم -، وهاهم أولاء يقصدون معاوية - رضي الله عنه -، يريدون كما أراد أسلافهم أن يكسبوا جولة في معركة التشويه، ويريدون ما هو أخطر: أن يفسخوا وجدان الأمة؛ لتفرق في محبتها بين معاوية وعلي - رضي الله عنهما -، وأن يُفقدوها ثقتها في خلفائها وملوكها، وفاتحيها ومجاهديها، الذين أذلوا الفرس والروم من قبل، ولا يزالون بفضل الله شوكة في حلوق أحفادهم ¬

_ (¬1) بَذِخَ الْجَبَلُ يَبْذَخُ بَذَخًا: طَالَ فَهُوَ بَاذِخٌ. انظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، مادة (ب ذ خ). (¬2) التوبة:100. (¬3) الفتح:29.

الموتورين. وهم يستغلون جهل الأمة، وفساد منهج التلقي عندها، وبعدها عن القراءة الصحيحة لتراثها، وإعجاب كل ذي رأي فيها برأيه، وانبهار عقول كثير منها بالغرب وفكره المسموم. ولكن الله غالب على أمره يقيّض في كل عصر ومَصر ـ من أهل السنة الراشدين، والعلماء العاملين، والدعاة الحارسين للحدود ـ مَن يردّ الحملة المسعورة فينفي الجهالة، ويكشف الضلالة، ويبيِّن المنهج السويّ بالفهم الجلي والنقل السلفي. وأحسب أن من بين طالبي هذه المنزلة السامية والهمة العالية أخانا الشيخ شحاتة صقر الذي ندبني لمراجعة هذا البحث لُغَويًا، فأهدى إليَّ خير ما يهدي الأخ لأخيه، من العلم النافع المجموع من مظانه الحسنى الوثيقة، والمفهوم فهمًا صحيحًا راسخًا، كما أشركني وأشْرك كل قارئٍ في همّه، وما همُّه إلا قضايا الإسلام والهجمة الشرسة عليه. لقد جلّى دواعي الشانئين للطعن في الصحابة - رضي الله عنهم -، نقلة الدين، ووارثي العلم، ومؤسسي الدولة المسلمة، ومجسدي نموذج الإسلام المتحرك الفاعل، ومخرجي الناس ـ بمشيئة الله ـ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. كما بيَّن وسائل تشويه التاريخ وأمسك بالأيدي الآثمة الدساسة، وأرشد إلى كيفية قراءة التاريخ على هدى وبصيرة نافذة، ومنهج رشيد، لا يغادر سندًا إلا حققه، ولا متنًا إلا دققه، ولا دعوى إلا محصها، ولا فهمًا إلا راجعه. ونبَّه على أن موقف السلف مما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم -، هو الإمساك عن الخوض فيه، واعتقاد الخير في جميعهم، والتماس العذر لهم في اجتهادهم. ثم فرغ لشخص معاوية - رضي الله عنه -، فتحدث عن شخصه الكريم الفذ وعن أبويه وإخوته وابنه يزيد، وعن كتابته الوحي للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ونبوءات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له، وما جرى بينه وبين علي - رضي الله عنهما -، وما كان من التحكيم وما تلاه، ثم موقف الحسن بن علي بعد أبيه

- رضي الله عنهما -، وما كان من ملك معاوية - رضي الله عنه - وجهاده وفتوحه. ثم عكف على شبهات الشيعة حول معاوية التي بلغت ـ فيما عدّه المؤلف ـ خمسًا وثلاثين شبهةً، واجتهد ما أمكنه في دحضها. وأظن أن الأخ شحاتة صقر قد أحسن الجمع والترتيب، والاستنباط والنقد، وأرجو أن يكون له أجور المصيبين، ودرجات المرابطين على ثغور هذا الدين، وأن يرزقنا وإياه الإخلاص، ويعفو عن زلاتنا وخطراتنا. والله حسبنا ونعم الوكيل. كتبه: أنور السنوسي.

مقدمة

( مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} (آل عمران:102)، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} (النساء:1)، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)}. (الأحزاب:70). أما بعد: فإن خيرَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن سلامة القلب تجاه الصحابة والتأدب معهم من صميم اعتقاد أهل السنة والجماعة، وإن الطعن فيهم هو وسيلة للطعن في الدين الإسلامي فأصحاب رسول الله كلهم عدول ثقات، وهم الذين نقلوا لنا هذا الدين. ومن كتب أهل العلم جمعتُ هذا الكتاب عن أحدهم، وهو معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - ـ كاتب وحي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمير المؤمنين ـ الذي مكث عشرين سنة أميرًا على الشام في خلافة عمر وخلافة عثمان - رضي الله عنهما -، ثم خليفةً للمسلمين مثلَها.

هذا الكتاب فيه ذِكْر فضائله - رضي الله عنه - من كتاب الله - عز وجل - وكلام حبيبنا - صلى الله عليه وآله وسلم -، وفيه ثناء الصحابة والتابعين وتابعيهم والعلماء عليه - رضي الله عنه -، وفيه ذِكْر جهاده وأخلاقه وحسن سياسته لرعيته، وفيه دفْعٌ للشبهات والأكاذيب التي حاولت النيْل منه - رضي الله عنه -، في وقت اشرأبت فيه أعناق أهل الضلال من الشيعة وغيرهم. ولعله لم يَنَلْ شخصيةً في التاريخ الإسلامي من التشويه مثل ما نال شخصيةَ معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - خاصة من أهل الأهواء قديمًا للنزاعات السياسية والمذهبية، ثم وجد المستشرقون في رواياتهم مرتعًا خصبًا للنيل من الإسلام. إن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - من الصحابة الأجلّة الكرام، الذين يجبُ الترضّي عن جميعهم، ولا يجوز الطعنُ فيهم، كما هو اعتقادُ الفرقة الناجية: أهلِ السُنَّة والجماعة، كيف وقد قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (رواه البخاري ومسلم). ومَعْنَى الْحَدِيث ـ كما نقل الحافظ ابن حجر عن الْبَيْضَاوِيّ: «لَا يَنَال أَحَدكُمْ بِإِنْفَاقِ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مِنْ الْفَضْل وَالْأَجْر مَا يَنَال أَحَدهمْ بِإِنْفَاقِ مُدّ طَعَام أَوْ نَصِيفه» (¬1). ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - هو أحد الصحابة الذين أكرمهم الله - عز وجل - بصحبة نبيه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وكل كلام يقال في الصحابة فيما يتعلق بفضلهم عمومًا وما يجب لهم عمومًا، فإن معاوية - رضي الله عنه - يدخل في ذلك. أما من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فهو في الحقيقة لم يضرّهم إنما ضرَّ نفسه؛ وذلك أنهم - رضي الله عنهم - قدِموا على ما قدَّموا، وقد قدَّموا الخير الكثير، وقد قدَّموا الأعمال الجليلة التي قاموا بها مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. بل إن ذلك يكون زيادة في حسناتهم؛ لأنه إذا تكلم فيهم بغير حق أضيف إليهم من حسنات المتكلم فيهم ـ إذا كان له حسنات ـ فيكون ذلك رفعة في درجاتهم، وإن لم يكن له حسنات فإنه لا يضر السحاب نبح الكلاب ـ كما يقولون. ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (7/ 34).

وقال الإمام الشافعي قال: «ما أرى الناس ابتُلُوا بشتم أصحاب محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا لِيَزيدَهمُ الله عزَّ وجلَّ بذلك ثوابًا عندَ انقطاعِ عَمَلِهم» (¬1). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَسَبُّوهُمْ» (رواه مسلم). قال الإمام النووي في (شرح صحيح مسلم): «وَأَمَّا الْأَمْر بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (الحشر:10) وَبِهَذَا اِحْتَجَّ مَالِك فِي أَنَّهُ لَا حَقّ فِي الْفَيْء لِمَنْ سَبَّ الصَّحَابَة - رضي الله عنهم -، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَهُ لِمَنْ جَاءَ بَعْدهمْ مِمَّنْ يَسْتَغْفِر لَهُمْ». فلا يجوز الطعنُ في آحادهم، فكيف بمن له فضائل ثابتة ـ خاصة وعامة ـ مثلَ معاوية - رضي الله عنه -؟ ولمعاوية - رضي الله عنه - فضائل كثيرة ـ سنذكرها إن شاء الله - عز وجل - ـ وبسبب ثبوت هذه الفضائل وغيرها عن السلف، فقد نهوا نهيًا شديدًا عن التكلم في معاوية - رضي الله عنه - وبقية الصحابة - رضي الله عنهم -، وعَدّوا ذلك من الكبائر. وكان بعض السلف يجعل حب معاوية - رضي الله عنه - ميزانًا للسنة. قال الربيع بن نافع: «معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه». (¬2) وسُئل أبوعبد الرحمن النسائي عن معاويةَ بن أبي سفيان -صاحبِ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ، فقال: «إنما الإسلام كدارٍ لها بابٌ، فبابُ الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابةَ إنما أرادَ الإسلام، كمن نَقرَ البابَ إنما يريدُ دخولَ الدار؛ فمن أراد معاويةَ فإنما أراد الصحابة» (¬3). ¬

_ (¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (8/ 1460). (¬2) رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (1/ 209)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 209). (¬3) ذكره الحافظ المزي في تهذيب الكمال (1/ 45).

وقال الإمام عبد الله بن المبارك - رحمه الله -: «معاوية عندنا مِحْنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزَرًا اتهمناه على القوم»، يعني الصحابة. (¬1) وقد صدق في ذلك - رحمه الله -، فإنه ما من رجل يتجرأ ويطعن في معاوية - رضي الله عنه - إلا تجرأ على غيره من الصحابة - رضي الله عنهم -.وانظر هذا في أحوال الزيدية: فإنهم طعنوا في معاوية - رضي الله عنه - ثم تجرؤوا على عثمان - رضي الله عنه -، ثم تكلموا في أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حتى صرح بعض الزيدية بكفرهما. والسبب في ذلك أن من تجرأ على معاوية - رضي الله عنه - فإنه يكون قد أزال هيبة الصحابة من قلبه فيقع فيهم. قال الأوزاعي: «أدركَتْ خلافةُ معاوية جماعةً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، لم ينتزعوا يدًا من طاعة، ولا فارقوا جماعة، وكان زيد بن ثابت يأخذ العطاء من معاوية». وقال أيضًا: «أدركَتْ خلافةُ معاوية عدةً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، منهم: سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك، ورجال أكثر ممن سمَّيْنا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تأويله. ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريز، في أشباه لهم، لم ينزعوا يدًا عن مجامعة في أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬2). وقال البيهقي بعد أن سرد الآيات والأحاديث الموجبة لحب الصحابة جميعًا، وأن ذلك من الإيمان: «وإذا ظهر أن حب الصحابة من الإيمان، فحُبُّهم أن يَعتقد فضائلهم، ويَعترف لهم بها، ويَعرف لكل ذي حقٍّ منهم حقَّه، ولكل ذي غناءٍ في الإسلام منهم غناءَه، ولكل ذي منزلةٍ عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - منزلتَه، ويَنشر محاسنهم، ¬

_ (¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 8/ 139. (¬2) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 158)، ورجاله ثقات أثبات.

ويدعو بالخير لهم، ويقتدي بما جاء في أبواب الدين عنهم، ولا يتبع زلاتِهم وهفواتِهم، ولا يتعمَّد تهجين أحد منهم بِبَثِّ ما لا يحسن عنه، ويسكت عما لا يقع ضرورة إلى الخوض فيه فيما كان بينهم» (¬1). وقال الميموني: «سمعت أحمد يقول: ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية». وقال لي: «يا أبا الحسن إذا رأيت أحدًا يذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بسوء فاتهمه على الإسلام» (¬2). وروى الخطيب البغدادي عن أبى زرعة الرازى - رحمه الله - أنه قال: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليُبْطِلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أوْلى وهم زنادقة» (¬3). ولما تكلم الموفق ابن قدامة في لمعة الاعتقاد عن الصحابة إجمالًا ختم بقوله: «ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين - رضي الله عنهم -». فعلّق الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «إنما ذكره المؤلف وأثنى عليه للرد على الروافض الذين يسبونه ويقدحون فيه» (¬4). ومعاوية - رضي الله عنه - كان من كتاب الوحي، وقد أثبت ذلك إمام الحديث أحمد بن حنبل وأمر بهجر من يجحد بتلك الحقيقة. ولذلك لمّا سأل رجلٌ الإمام أحمد بن حنبل: «ما تقول ـ رحمك الله ـ فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول إنه خال المؤمنين، فإنه أخذها بالسَّيف ¬

_ (¬1) شُعَب الإيمان (4/ 146). (¬2) الصارم المسلول (3/ 1058)، وأوله عند الخلال (2/ 432) بسند صحيح. (¬3) الكفاية في علم الرواية (ص67). (¬4) شرح لمعة الاعتقاد (ص107).

غصْبًا؟».قال الإمام أحمد: «هذا قول سوءٍ رديء. يجانَبُون هؤلاء القوم، ولا يجالَسون، ونبيِّن أمرهم للناس» (¬1). وعن إبراهيم بن ميسرة قال: «ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانًا قط إلا إنسانًا شتم معاوية فإنه ضربه أسواطًا» (¬2). وما ضَرَّ معاويةَ - رضي الله عنه - شَتْمُ مَنْ شَتَمَه؛ فإنه «ما ضر المسك عطره، أن مات من شمه الجعل» (¬3). و «لا يضر السحابَ نبحُ الكلاب، ولن يضير السماء نقيق الضفادع». يا نَاطِحَ الجَبَلَ العالي ليَكْلِمَه ... أَشفِقْ على الرّأسِ لا تُشْفِقْ على الجَبَلِ وقد يلاحظ القارئ الكريم أن هناك تكرارًا لبعض الأقوال؛ والسبب في ذلك تعلقها بالموضوع الذي ذُكِرَتْ فيه، وهذا أيسر للقارئ من الإحالة على ماسبق ذكره. وفي الختام أتقدم بالشكر لأستاذي الأستاذ الدكتور أنور السنوسي لما قام به من جهد في مراجعة هذا الكتاب، واللهَ أسأل أن يكون هذا الجهد في ميزان حسناته، وأن نكون بهذه الورقات قد وفَّينا الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - بعض حقه علينا في الدفاع عنه باعتباره أحد صحابة حبيبنا - صلى الله عليه وآله وسلم -، كما أسأله - سبحانه وتعالى - أن ينفع المسلمين بهذه الورقات وأن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ـ سيدنا محمد ـ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. شحاتة محمد صقر [email protected] ¬

_ (¬1) السنة للخلال (2/ 43)، وإسناده صحيح. (¬2) تاريخ دمشق (59/ 211)، ومعظم النقول المتقدمة ذكرها أيضًا الحافظ ابن كثير في ترجمة معاوية - رضي الله عنه - من كتابه البداية والنهاية (8/ 130 - 139). (¬3) الجُعْل: دُوَيْبَّة سَوْدَاء تُدِير الْخِرَاء بِأَنْفِهَا. وَمِنْ شَأْنِه جَمْع النَّجَاسَة وَادِّخَارهَا. وَمِنْ عَجِيب أَمْره أَنَّهُ يَمُوت مِنْ رِيح الْوَرْد وَرِيح الطِّيب فَإِذَا أُعِيدَ إِلَى الرَّوْث عَاشَ. وَمِنْ عَادَته أَنْ يَحْرُس النِّيَام فَمَنْ قَامَ لِقَضَاءِ حَاجَته تَبِعَهُ وَذَلِكَ مِنْ شَهْوَته لِلْغَائِطِ لِأَنَّهُ قُوتُه.

هذا معاوية - رضي الله عنه -

هذا معاوية - رضي الله عنه - أيُّها الشَّانِئُ (¬1) أَقْصِرْ ... إِنَّمَا جِئْتُ لِأَفْخَرْ بِابْنِ حَربٍ مَنْ كَسَيْلٍ ... لِصُرُوحِ الْكُفْرِ دَمَّرْ جَيْشُهُ قَامَ يُنادِي ... فِي الدُّنَى: اللهُ أَكْبَرْ بَذَلَ الْغالِي انْتِصَارًا ... لِلْهُدَى فِي كُلِّ مَعْبَرْ مَجْدُ (رُومَانٍ) و (فُرْسٍ) ... كُلُّ ذَا وَلَّى .. تَبَخَّرْ زَانَهُ اللهُ بِحِلْمٍ صَارَ ... فِي الْأَمْثَالِ يُذْكَرْ كَاتِبُ الْوَحْيِ أَمِينٌ ... لِلتُّقَى وَالْعَدْلِ مُسْفِرْ جَاءَهُ بِالْحَقِّ بُشْرَى ... الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ تُظْهِرْ أَنَّهُ حَازَ الْجِنَانَ ... سَبْقَ مَنْ في الْيَمِّ أَبْحَرْ (¬2) كَالْمُلُوكِ فِي الْأَسِرَّةْ (¬3) ... إِنَّ فَضْلَ اللهِ أَكْبَرْ ¬

_ (¬1) الشانئ: المبغِض. (¬2) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا». (رواه البخاري). ... (قَدْ أَوْجَبُوا) أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّة. ... وفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَة لِمُعَاوِيَة - رضي الله عنه - لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ. (¬3) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - عَنْ أُمِّ حَرَامٍ - رضي الله عنها - وَهِيَ خَالَةُ أَنَسٍ قَالَتْ: أَتَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا، فَقَالَ عِنْدَنَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ: «مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟»، قَالَ: «أُرِيتُ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ».فَقُلْتُ: «ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ». قَالَ: «فَإِنَّكِ مِنْهُمْ». قَالَتْ: «ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ أَيْضًا وَهُوَ يَضْحَكُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ فَقُلْتُ: «ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ». قَالَ: «أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ». فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ. (رواه البخاري ومسلم). قَوْله (مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّة): أي رَأَى الْغُزَاة فِي الْبَحْر مِنْ أُمَّته مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّة فِي الْجَنَّة، وَرُؤْيَاهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَحْي، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي صِفَة أَهْل الْجَنَّة: {عَلَى سُرَرٍ مُتَقَابِلِينَ}. ومعاوية - رضي الله عنه - مِن أولى الناس بهذا الفضلُ العظيم، إذ أنه أميرُ تلك الغزاة بالاتفاق، وقد قال ابنُ عبد البر عن هذا الحديث في التمهيد (1/ 235): «وفيه فضلٌ لمعاوية - رحمه الله -، إذ جَعَلَ مَن غَزا تحتَ رايَتِه مِن الأوَّلين».

وَلَهُ يُدْعَى بِحِفْظٍ ... مِنْ لَظَى ـ نَارٍ تُسَعَّرْ (¬1) وَدُعَاءٍ بِاهْتِدَاءٍ ... وَالْهُدَى فِي النَّاسِ يَنْشُرْ (¬2) أَيُّهَا الشَّانِي تَدَبَّرْ ... فِي جَزَاءِ مَنْ تَجَبَّرْ عِنْدَ رَبِّ الْعَرْشِ تَلْقَى ... كُلَّ مَا تَجْنِي مُسَطَّرْ هل يَضِيرُ الشَّمْسَ يَوْمًا ... جَحْدُ مَنْ لِلنُّورِ أَنْكَرْ هَلْ يُمِيطُ الضَّوْءَ عَنْهَا ... أمْ بِنُورِ الْحَقِّ يُقْهَرْ أَيُّ وَجْهٍ لِقِرَانٍ؟ (¬3) ... ذَاكَ نَجْمٌ لَسْتَ تُذْكَرْ أَنْتَ لَا تَسْمُو لِتُرْبٍ (¬4) ... دَاسَهُ الْغازِي الْمُظَفَّرْ شَادَ فِي الْآفَاقِ عِزًّا ... أُسُّهُ الدِّينُ الْمُطَهَّرْ لَيْتَ هَذَا العزَّ فِينَا ... إِنَّنِي كَمْ أَتَحَسَّرْ ¬

_ (¬1) ثَبَتَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا لمعاوية فقال: «اللهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ والْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ». (رواه الطبراني وغيره وصححه الألباني). (¬2) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ - رضي الله عنه - ـ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ» (رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني). (هَادِيًا) أَيْ لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَيْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ. (¬3) قِران: مقارنة. (¬4) تُرْب: تراب.

أيْنَ هَذَا مِنْ قُرَانَا ... سَاسَهَا كِسْرَى وَقَيْصَرْ ظُلْمُ (أَمْرِيكَا) وَ (رُوسْيَا) ... وَجْهُ مَنْ بِالْكُفْرِ أَسْفَرْ جَرْحُ (شِيشَانٍ) وَ (بُورْمَا) ... جَرْحُ أَفْغَانَ الْمُسَعَّرْ جَرْحُ أَقْصَانَا سَجِينًا ... جَرْحُ صُومَالَ الْمُفَغَّرْ (¬1) جَرْحُ غَزَةَ قَدْ دَهَانَا ... جَرْحُ بَغْدَادَ تَفَجَّرْ أَيُّهَا الْفُجَّارُ مَهْلًا ... إِنَّنَا يَوْمًا سَنَثْأَرْ إِنْ أَقَمْنَا الشَّرْعَ فِينَا ... إِنَّنَا حَتْمًا سَنُنْصَرْ ¬

_ (¬1) المفَغَّر: المتسع.

كيف نقرأ التاريخ

كيف نقرأ التاريخ (¬1) كيف نقرأ التاريخ؟ لابد أن نقرأ التاريخ كما نقرأ أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. إذا أردنا أن نقرأ أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإننا نتثبت من الخبر أثابِتٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أم لا؟ ولن نستطيع أن نعرف صحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من بطلانه إلا بالنظر إلى الإسناد مع المتن؛ لأن أهل العلم اعتنوا بالحديث ورجاله وتتبعوا أحاديثهم ومحَّصُوها وحكموا عليها وبيَّنوا الصحيح من الضعيف وبالتالي نُقّيَتْ هذه الأحاديث مما فيها أو مما أدخِلَ عليها من كذب أو تدليس أو مما شابه ذلك. ولكن التاريخ يختلف فتارة نجد كثيرًا من رواياته ليس لها إسناد وتارة أخرى نجد لها إسنادًا ولكن قد لا نجد للرجال الذين في إسناد تلك الرواية ترجمة، ولا نجد أحدًا من أهل العلم تكلم فيهم جرحًا أو تعديلا ً مدحًا أو ذمًا، فيصعب عليك عندئذ أن تحكم على هذه الرواية؛ لأنك لا تعرف حال بعض رجال السند. فالأمر أصعب من الحديث، ولكن لا يعني هذا أبدًا أن نتساهل فيه بل لابد أن نتثبت وأن نعرف كيف نأخذ تاريخنا. قد يقول قائل: سيضيع علينا كثير من التاريخ بهذه الطريقة. نرد عليه قائلين: إنه لن يضيع الكثير كما تتصور. بل إن كثيرًا من روايات التاريخ مذكورة بالأسانيد سواء كانت هذه الأسانيد في كتب التاريخ نفسها كتاريخ الطبري، أوفي كتب الحديث كصحيح البخاري ومسند أحمد وسنن الترمذي، أو المصنفات كمصنف ابن أبي شيبه، أو في كتب التفسير التي تذكر بعض الروايات التاريخية بالأسانيد كتفسير ابن كثير وتفسير ابن جرير، وأحيانًا في كتب خاصة تكلمت عن أوقات خاصة ككتاب (حروب الردة) للكلاعي مثلا ً أو ¬

_ (¬1) حقبة من التاريخ، للشيخ عثمان الخميس ص 29 - 39 باختصار وتصرف يسيرين.

كتاب (تاريخ خليفة بن خياط) المختصر، القصد أنك لا تعجز عن أن تجد سندًا لرواية من الروايات. إن لم تجد سندًا: وإن عجزت ولم تجد سندًا فعندك أصل عام تسير عليه وهو خاص بالنسبة لما وقع في عهد الصحابة، ألا وهو ثناء الله تبارك وتعالى وثناء رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - على الصحابة فالأصل فيهم العدالة. وكل رواية جاء فيها مطعن على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فالأصل النظر في السند فإن كان صحيحًا ينظر بعد ذلك في تأويل هذه الرواية وفيما تدل عليه. فإن وجدنا السند ضعيفًا فالحمد لله، وإن لم تجد لها سندًا فعندك الأصل وهو عدالة أولئك القوم. إذًا عند قراءة التاريخ لابد أن نقرأ بتمحيص كما نقرأ الحديث، ويُخَصُّ من هذا التاريخ تاريخ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. لمن نقرأ؟ للأسف شُغف الكثيرون الآن في زماننا هذا بقراءة الكتب الحديثة التي ألّفَتْ في التاريخ والتي تهتم بجمال القصة، أو تشويه الصورة، أو هما معًا، بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها، ككتب عباس العقاد، أو كتب خالد محمد خالد، أو كتب طه حسين، أو كتب چورچي زيدان أو غيرهم من المُحْدَثين. فهؤلاء عندما يتكلمون عن التاريخ يهتمون بالسياق وجمال القصة بغض النظر عما إذا كانت صحيحة أو غير صحيحة المهم أن يقص عليك قصة جميلة. إذن لمن نقرأ؟ • إذا كنت تستطيع أن تبحث عن الأسانيد وتمحصها فاقرأ للإمام الطبري فهو العمدة بالنسبة للذين يكتبون في التاريخ، واقرأ لابن كثير في كتابه (البداية والنهاية)، وللذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام). • وإذا كنت لا تستطيع أن تمحص الأسانيد فاقرأ لأبي بكر ابن العربي في كتابه (العواصم من القواصم)، وهو من أجمل الكتب التي تكلمت عن فترة الفتنة التي وقعت بين الصحابة، واقرأ لكتب أهل السنة التي تهتم بتمحيص الروايات التاريخية وفق منهج المحدثين ككتاب (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدّثين) للأستاذ الدكتور محمد أمحزون. مم نحذر؟ ونحن نقرأ كتب التاريخ نحذر من أن نميل مع رأي المؤلف إذ لابد من أن ننظر إلى أصل الرواية لا إلى رأيه وأن نكون منصفين ونحن نقرأ. ولابد أن نعتقد ونحن نقرأ تاريخ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمرين اثنين: الأمر الأول: أن نعتقد أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هم خير البشر بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم؛ وذلك لأن الله تبارك وتعالى مدحهم والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مدحهم وبيَّنَ في أكثر من حديث أنهم أفضل الأمة أو الأمم بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم. الأمر الثاني: أن نعلم أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - غير معصومين؛ نعم نحن نعتقد العصمة في إجماعهم لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبرنا أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة (¬1)، لكنْ كأفراد هم غير معصومين فالعصمة لأنبياء الله - عز وجل -، أما غير الأنبياء فلا نعتقد بعصمة أحد منهم. إذًا لابد أن نعتقد أن الصحابة خير الأولياء وأن نعتقد أنهم غير معصومين. ¬

_ (¬1) قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَجَارَ أمَّتِي أنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ». (رواه ابن أبي عاصم في السنة وحسنه الألباني).

فإذا جاءتك رواية فيها طعن في صحابي فلا تُقْدِمْ على ردّها وأيضًا لا تقْبَلْها حتى تنظر فيها، فإن وجدت السند صحيحًا فهذه من الأشياء التي هم غير معصومين فيها. وإن وجدت السند ضعيفًا فنبقى على الأصل وهو أنهم خير البشر بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم. مدح الله تبارك وتعالى لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: أما مدح الله تبارك وتعالى لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو في قول الله - عز وجل -: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} (محمد:29). مَدَح الله تبارك وتعالى جملة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ ًا الأصل فيهم المدح. مدح رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه - رضي الله عنهم -: وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (متفق عليه). فهذا مدح من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. لاتقبل كل ما خَطّ الرواة: يقول أبو عبد الله القحطاني في نونيته: لَا تَقْبَلَنَّ مِنَ التَّوَارِخِ كُلّ مَا ... جَمَعَ الرُّوَاةُ وَخَطّ كُلُّ بَنَانِ ارْوِ الحَدِيثَ المُنْتَقَى عَنْ أَهْلِهِ ... سِيمَا ذَوِي الأحْلَامِ والأسْنَانِ كَابْنِ المُسَيَّبِ وَالعَلَاءِ وَمَالِكٍ ... وَاللّيْثِ وَالزُهْرِيِّ أوْ سُفْيَانِ وهو يحذّر المخاطب أن لا يقبلن من التوارخ كل ما خط الرواة وجمعوا , وأن لا يقبل كل هذا التاريخ ففيه الغث والسمين , إذ ًا كيف؟ قال: إذا أردت تاريخًا صحيحًا

فهو الذي يرويه هؤلاء وأمثالهم من الثقات، لا كما يقول الكثيرون ممن يطعنون في سيرة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، يقولون إن تاريخنا أسود مظلم قاتم , لا بل تاريخنا ناصع , جميل , طيب يتلذذ الإنسان بقراءته. تاريخ الطبري: إن أهم كتاب في التاريخ هو تاريخ الإمام الطبري وكثيرًا ما ينقل الناس عن تاريخ الطبري، أهل السنة ينقلون عن تاريخ الطبري، وأهل البدعة ينقلون عن تاريخ الطبري، أهل السنة يحتجون بتاريخ الطبري، وأهل البدعة يحتجون بتاريخ الطبري. لماذا يقدم تاريخ الطبري على غيره من التواريخ؟ لأمور كثيرة منها: 1 - قرب عهد الإمام الطبري من تلك الحوادث. 2 - أن الإمام الطبري يروي بالأسانيد. 3 - جلالة الإمام الطبري ومنزلته العلمية رحمه الله تبارك وتعالى. 4 - أن أكثر كتب التاريخ إنما تنقل عنه. وإذا كان الأمر كذلك فنحن إذا أردنا أن نقرأ فلنذهب مباشرة إلى الإمام الطبري , ولكن أهل السنة يأخذون من تاريخ الطبري وأهل البدعة يأخذون من تاريخ الطبري، فكيف نوفّق بين هذا وهذا؟ تاريخ الطبري ـ كما قلنا ـ من مميزاته أنه لايحدّث إلا بالأسانيد، أهل السنة يأخذون الصحيح من أسانيد الطبري وأهل البدعة يأخذون الصحيح والغث والسمين , المهم أن يوافق أهواءهم.

منهج الإمام الطبري في تاريخه: لقد أراحنا الإمام الطبري - رحمه الله - من هذه المسألة بمقدمة كتبها في أول كتابه , ليت الذين يقرؤون التاريخ يقرؤون هذه المقدمة (¬1). يقول الإمام الطبري في مقدمة تاريخه: «وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه , إنما هو على ما رُوِّيتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مُسْنِدُها إلى رواتها. فما يكن في كتابي هذا من خير ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه , من أجل أنه لم يعرف له وجهًا من الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يُؤْتَ في ذلك مِن قِبَلِنَا وإنما أتِيَ مِنْ قِبَل ناقليه إلينا، وإنا إنما أدَّيْنا ذلك على نحو ما أدِّيَ إلينا». إن الإمام الطبري بهذه المقدمة التي قدم لكتابه ألقى العهدة عليك أيها القارئ فهو يقول لك: إذا وجدت في كتابي هذا خبرًا تستشنعه ولا تقبله فانظر عمن رُوِّيناه والعهدة عليه، وعليَّ أن أذكر من حدثني بهذا، فإن كان ثقة فاقبل وإن لم يكن ثقة فلا تقبل. وهذا الأمر قام به أكثر المحدثين , فحين ترجع إلى كتب الحديث غير الصحيحين اللذين تعهدا بإخراج الصحيح فقط , كأن ترجع إلى سنن الترمذي , أو أبي داود , أو الدارقطني , أو الدارمي أو مسند أحمد أو غيرها من الكتب تجدهم يذكرون لك الإسناد ولم يتعهدوا بذكر الصحيح فقط وإنما ذكروا لك الإسناد، وانظر أنت إلى الإسناد إذا كان السند صحيحًا فاقبل وإن لم يكن صحيحًا فرُدّه. والطبري هنا لم يتعهد أن ينقل الصحيح فقط إنما تعهد أن يحدثك عمن نقل عنه، يحدثك باسمه فإذا كان الأمر كذلك فلا عهدة على الإمام الطبري رحمه الله تعالى. ¬

_ (¬1) بل ينبغي لكل إنسان إذا أراد أن يقرأ كتابًا من الكتب أن يقرأ مقدمة الكتاب حتى يعرف منهج المؤلف.

وقد أكثَرَ الإمام الطبري في كتابه (التاريخ) النقل عن رجل اسمه لوط بن يحيى، ويكنى بأبي مخنف. ولوط بن يحيى هذا روى عنه الطبري خمسمائة وسبعًا وثمانين رواية , وهذه الروايات تبدأ من وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتنتهي إلى خلافة يزيد , منها سقيفة بني ساعدة , قصة الشورى الأمور التي من أجلها قام الخوارج على عثمان - رضي الله عنه - ثم بعد ذلك مقتله , خلافة علي - رضي الله عنه - , معركة الجمل , معركة صِفِّين , التحكيم , معركة النهروان , خلافة معاوية - رضي الله عنه - , قتل الحسين - رضي الله عنه -.في كل هذه تجد لأبي مخنف رواية وهذه هي التي يعتمدها أهل البدع , ويحرصون عليها. وليس أبو مخنف وحده بل أبو مخنف هو أشهرهم وإلا فهناك غيره كالواقدي مثلا ً، وهو متروك متهم بالكذب أيضًا. والثالث: سيف بن عمر التميمي وهو أيضًا مؤرخ معروف ولكنه متروك متهم بالكذب أيضًا. وكذلك الكلبي وهو كذاب مشهور فإذ ًا لابد أن يتثبت المرء من رواية أمثال هؤلاء. نرجع إلى أبي مخنف قال عنه ابن معين: ليس بثقة. وقال أبو حاتم: متروك الحديث. وسئل عنه مرة فنفض يده وقال: أحد يسأل عن هذا؟. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال الذهبي: أخباري تالف لا يوثق به. فأنت إذا فتحت تاريخ الطبري ووجدت رواية فيها مطعن على أصحاب الرسول ثم وجدت أن الطبري إنما رواها عن أبي مخنف فعليك أن تلقيها جانبًا. لماذا؟ لأنها من رواية أبي مخنف. وأبو مخنف هذا جمع بين البدعة والكذب وكثرة الرواية؛ مبتدع كذاب مكثر من الرواية.

دور الشيعة في الدس على التاريخ الإسلامي وتشويهه:

دور الشيعة في الدس على التاريخ الإسلامي وتشويهه: أشهر أهل البدع الشيعة وهم أكثروا من الكذب في التاريخ؛ ولذلك قال أهل العلم: «أكذب من رافضي» , وذلك لكثرة الكذب عندهم. قال الأعمش: «أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين». ويقول شريك القاضي: «احمل العلم عن كل من لقيته إلا الرافضة , فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينًا». ويقول الإمام الشافعي: «لم أرَ أشْهَدَ بالزورِ من الرافضة» (¬1). فالقصد أن هذه الفرقة اشتهرت أكثر من غيرها باختلاق الكذب والأحاديث. منهج التثبت عن أهل السنة متى بدأ؟ بدأ لما وقعت الفتنة كما يقول الإمام محمد بن سيرين التابعي الجليل - رحمه الله -: «لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا: «سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ»، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ» (¬2). وذلك أن الأصل في الناس الثقة , ولأن ابن سيرين من كبار التابعين , وأدرك حياة الصحابة وعاش مع كبار التابعين ومع صغارهم , ولأن الفتنة هذه هي خروج أهل البدع كالشيعة والخوارج والقدرية. ¬

_ (¬1) انظر أقوال هؤلاء الأئمة في مختصر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ص (25. ( (¬2) رواه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 15 (.

وسائل الأخباريين في تشويه التاريخ:

وسائل الأخباريين في تشويه التاريخ: 1 - الاختلاق والكذب: يختلقون قصة ما , كما اختلقوا مثلًا أن عائشة - رضي الله عنها - لما جاءها خبر موت علي - رضي الله عنه - سجدت لله شكرًا؛ وهذه قصة مكذوبة. 2 - الزيادة على الحادثة أو النقصان منها بقصد التشويه. أصل الحادثة صحيح كحادثة السقيفة , قصة السقيفة صحيحة ووقع هناك اجتماع بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة من جانب، والحباب بن المنذر وسعد بن عبادة وغيرهما من الأنصار من جانب آخر، فزادوا عليها أشياء أرادوا بها تشويه هذه الحقيقة وتشويه حياة أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم -. 3 - التأويل الباطل للأحداث: وهو أن يجتهد في تأويل الحدث تأويلًا باطلًا يتمشى مع هواه , مع معتقده , مع بدعته التي هو عليها. 4 - إبراز المثالب والأخطاء: القصة صحيحة , ولكن يبرزها إبرازًا يركز فيه على الأخطاء ويغطي على أية محاسن. 5 - صناعة الأشعار لتأييد حوادث تاريخية: يصنعون شعرًا يؤلفه أحدهم ثم ينسبه إلى أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - أو ينسبه إلى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، أو ينسبه إلى الزبير أو إلى طلحه - رضي الله عنهما - في الطعن في أحد الصحابة. 6 - وضع الكتب والرسائل المزيفة: ككتاب (الإمامة والسياسة) الذي نسب ـ زورًا ـ للإمام ابن قتيبة، وكتاب (نهج البلاغة) الذي نُسب ـ زورًا ـ إلى علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬1). ¬

_ (¬1) حقبة من التاريخ للشيخ عثمان الخميس (29 - 39) بتصرف واختصار يسيرين.

تنبيه:

تنبيه: مما يؤسف له أن ينخدع كثير من أهل السنة بكتاب (نهج البلاغة)، فتجده في مكتباتهم الخاصة والعامة، بل إن كثيرًا منهم لا يعلم أنه من كتب الشيعة، وأنه كتاب مطعون في سنده ومتنه، فقد جُمِع بلا سند بعد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بثلاثة قرون ونصف، وقد نسبت الشيعة تأليف نهج البلاغة إلى الشريف الرضي ـ محمد بن الحسين بن موسى الرضي أبو الحسن، المتوفى سنة 406 هـ قال الذهبي: «رافضي جلد» (¬1)، وهو غير مقبول عند المحدثين لو أسند ـ خصوصًا فيما يوافق بدعته ـ فيكف إذا لم يُسنِد كما فعل في (النهج)؟ وأما المتهم ـ عند المحَدِّثين ـ بوضع (النهج) فهو أخوه علي بن الحسين العلوي الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزلي، المتوفى سنة (436هـ) (¬2). وسواء أكان من تأليف وجمع الشريف الرضى، أم أخيه الشريف المرتضى، فليس متصل الإسناد إلى الإمام على - رضي الله عنه -. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأهل العلم يعلمون أن أكثر خُطَب هذا الكتاب مُفْتَراة علَى علِيٍّ، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم ولا لها إسناد معروف» (¬3). وقال الإمام الذهبي: «ومن طالع كتابه «نهج البلاغة» جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين عليّ - رضي الله عنه -، ففيه السب الصراح والحطُّ على السيدين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي مَن له معرفة بنفس القرشيين الصحابة، وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين، جزم بأن الكتاب أكثره باطل» (¬4). وقد قام الدكتور صبري إبراهيم السّيّد في تحقيقه وتوثيقه لـ (نهج البلاغة) ببحث يمتاز بالدقة والصبر والتأنّي ذكر فيه عشرة أسباب للشك في نسبة النّصوص ¬

_ (¬1) ميزان الاعتدال (3/ 523). (¬2) ميزان الاعتدال (3/ 124). (¬3) منهاج السنة (4/ 24). (¬4) ميزان الاعتدال (3/ 124).

الواردة في كتاب (نهج البلاغة) عن القدماء والمحدثين ننقلها بشيء من الاختصار والتصرّف: - إن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما لا يصحّ نسبته إلى عليّ - رضي الله عنه -، وهو ما قرّره الحافظ ابن حجر بقوله: «ففيه السبّ الصراح والحطّ على السيدين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -». (¬1) - إنّ فيه من السجع والتنميق اللفظي وآثار الصنعة ما لم يعهده عهد عليّ ولا عرفَه. - إنّ فيه من دقة الوصف واستفراغ صفات الموصوف كما تراه في الخفاش والطاووس وغير ذلك مما لم تعرفه العرب إلاّ بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية والحكمية. - إنّ فيه بعض الألفاظ الاصطلاحية التي لم تعرف إلا من بعد كاصطلاحات المتكلّمين وأصحاب المقولات مثل (المحسوسات) و (الصفات الذاتية والجسمانية). - إنّ فيه ما يُشَمّ منه ريح ادّعاء صاحبه علم الغيب. - إنّ في خطبه مقاطع طويلة وقصيرة تروى على وجهين مختلفين يتّفقان في المعنى، ولكن يختلفان في اللفظ. - خلوّ الكتب الأدبية والتاريخية التي ظهرت قبل الشريف الرضي من كثير مما في (النهج). - طول الكلام غير المعهود في ذلك الوقت كما في عهده إلى الأشتر النخعي، والمعروف عن عليّ - رضي الله عنه - التوسّط إن لم يكن الإيجاز. - ما في الكتب من الخطب الكثيرة والرسائل المتعددة التي من الواضح أنها مختلقة لأغراض مذهبية شيعية. ¬

_ (¬1) اللسان (4/ 223).

- عدم ذكر المصادر المنقول منها خطب علي - رضي الله عنه - ولا الشيوخ الذين رووا ذلك (¬1). وقد استهجن الدكتور زيد العيص موقف محمد عبده من الكتاب حيث قام بشرح ألفاظ الكتاب. قال الدكتور: «وليس بمستغرب أن يصدر هذا الافتراء عن الشريف المرتضى، إنما المستهجن موقف الشيخ محمد عبده الذي قام بشرح ألفاظ هذا الكتاب، وكان يمر بالعبارات التي تذم الشيخين والصحابة، والنصوص التي توحي بأن عليًّا يعلم الغيب، وغيرها من النصوص المستنكرة، دون أن يعلق بكلمة واحدة، وكأنها مسلمات عنده. ولم يكن هَمّ الشيخ سوى شرح الألفاظ، وتقريب المعاني إلى القاريء بأسلوب ميسر ليحببه إلى النفوس، ويشجع على قراءته، والغريب أيضا أنه عبَّر في بعض المواضع عن أهل السنة بقوله: «عندهم». ولا أدري أين كان يضع الإمام نفسه وقتئذ؟» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر في نقد نهج البلاغة: تأملات في كتاب نهج البلاغة لمحمد الصادق، قراءة راشدة لكتاب نهج البلاغة لعبد الرحمن عبد الله الجميعان، كِتابُ (نَهْجِ البَلاغَةِ) في مِيزانِ أهلِ السنةِ والجماعةِ لعبد الله زقيل. (¬2) الخميني والوجه الآخر (ص 166).

ذم في ثوب المدح، تشويق وتشويه

ذم في ثوب المدح، تشويق وتشويه إن من وسائل الأخباريين في تزييف الحقائق التاريخية وضع الذم في ثوب المدح، فتجد أحدهم يذكر واقعة معينة بها فضيلة لأحد الصحابة ولكن لو دققت فيها لوجدت طعنًا فيه أو في غيره من الصحابة. وهذه الخدعة قد تنطلي حتى على بعض الغيورين من أهل السنة فتجده يستدل بالواقعة على شيء مع أنها في نفس الوقت تهدم شيئًا آخر. ومن أوضح الأمثلة على ذلك: 1 - قصة ابن الأكرمين: رُوِيَ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلًا من أهل مصر أتى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: «يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم». قال: «عُذْتَ بمعاذ». قال: «سابقتُ ابنَ عمرو بن العاص فسبقتُه، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين». فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم عليه، ويَقْدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب. فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر: «اضرب ابن الألْيَمَيْن». قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: «ضع على صلعة عمرو». فقال: «يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذى ضربني، وقد اشتفيت منه». فقال عمر لعمرو: «مُذْ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟». قال: «يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني».

هذه القصة الموضوعة رواها ابن عبد الحكم في (فتوح مصر وأخبارها ص290، وأوردها محمد يوسف الكاندهلوي في (حياة الصحابة 2/ 88، باب عدل النبي وأصحابه). وقد استدل بها على عدل عمر - رضي الله عنه -. وقد ذكرها أحد الدعاة ـ حفظه الله ـ في أحد دروسه على إحدى القنوات الفضائية مستدلًا على عدل الفاروق عمر - رضي الله عنه -. وقد بيَّن الشيخ علي حشيش في مجلة التوحيد عدد شعبان 1422هـ أن هذه القصة واهية وسندها منقطع ومظلم. ويظهر هذا الانقطاع في السند، حيث قال ابن عبد الحكم فى (فتوح مصر ص 290): «حُدِّثْنا عن أبى عبدة عن ثابت البُنانى وحُمَيْد عن أنس ... » ثم ذكر القصة. ولفظ الأداء فى رواية ابن عبد الحكم للقصة مبنى للمجهول، وبهذا لم يُعرَف مَن الشيخ الذي أخذ عنه وتلقى عنه القصة. وترتب عليه عدم معرفة أبى عبدة الذي روى عنه هذا المجهول وأصبح السند مظلمًا بهذه الجهالة. وهذه القصة لو دققت فيها لوجدت طعنًا في عمرو بن العاص - رضي الله عنه - حيث اتهامه باستغلال ابنه لنفوذ أبيه في ظلم الرعية. وفيها طعن في عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمخالفة الكتاب والسنة؛ إذ ورد في القصة قول عمر للمصرى: «ضع السوط على صلعة عمرو». وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الإسراء:15). قال ابن كثير: «أي لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جَانٍ إلا على نفسه» (¬1). وقال القرطبى: «أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها» (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم (5/ 34). (¬2) الجامع لأحكام القرآن (3/ 2676).

2 - قصة أصابت امرأة وأخطأ عمر:

وفى هذه القصة يُنْسب إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال للمصري وهو يضرب ابن عمرو بن العاص: «اضرب ابن الألْيَمين». يعنى الألْأمين، وهذا اللفظ أشد من لفظ (لئيم) لأن هناك اللئيم والألْأم، ولفظ (اللئيم) معناه: «الدنيء الأصل الشحيح النفس» (¬1) والتعيير بالأصل لا يجوز؛ لأنه من أمور الجاهلية. 2 - قصة أصابت امرأة وأخطأ عمر: أخرج سعيد بن منصور في سننه عن الشعبي قال: «خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «ألَا لَا تُغالوا في صداق النساء، فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أو سيق إليه إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال»، ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: «يا أمير المؤمنين أكتاب الله أحق أن يتبع أم قولك؟». قال: «بل كتاب الله عز وجل، فما ذلك؟». قالت: «نهيت الناس آنفًا أن يغالوا في صداق النساء، والله عز وجل يقول في كتابه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (النساء:20). فقال عمر: «كل أحد أفقه من عمر» مرتين أو ثلاثًا، ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: «إني نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء؛ ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له». (¬2) وهذه الرواية قد بيَّن ضعّفها الشيخ الألباني في (إرواء الغليل رقم 1927)، والشيخ علي حشيش في (سلسلة تحذير الداعية من القصص الواهية) التي تصدر تباعًا في مجلة (التوحيد) المصرية. وهذه الرواية باطلة سندًا ومتنًا. فأما من ناحية السند: ففيه علّتان: ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب (12/ 530). (¬2) سنن سعيد بن منصور (ج1، باب ما جاء في الصداق برقم (595، 569،579).

الأولى: الانقطاع، قال البيهقي عقب روايته: «هذا منقطع؛ لأن الشعبي لم يدرك عمر». والعلّة الثانية: أن فيه مجالدًا وهو ابن سعيد، ضعفه الأئمة النسائي والجوزجاني وابن عدي وأحمد بن حنبل وابن معين وابن حجر. (¬1) وأما من ناحية المتن: ففيه نكارة وذلك للأسباب التالية: أـ أنه ثبت عن عمر صريحًا نهيه عن المغالاة في المهور بالسند الصحيح، فعَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ السُّلَمِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فَقَالَ: «أَلَا لَا تُغَالُوا بِصُدُقِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَلَا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً» (رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني). فهذه الرواية الصحيحة تُظهِر نَهْيَ عمر - رضي الله عنه - عن المغالاة في المهور وهي تُظهِر بطلان الرواية الأخرى. ب ـ مخالفتها لنصوص صحيحة صريحة في الحث على عدم المغالاة في المهور وتيسير أمر الصداق منها: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). ومنها قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا، وَتَيْسِيرُ رَحِمِهَا» (رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه الألباني). ومنها أيضًا ما أخرجه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ. ¬

_ (¬1) الضعفاء الصغير للبخاري (ص116) رقم (368)، الضعفاء والمتروكين للنسائي (ص 236) رقم (552)، الشجرة في أحوال الرجال وآيات النبوة للجوزجاني (ص 144)، تهذيب الكمال للمزي (27/ 222)، رقم (5780)، تقريب التهذيب (2/ 159). وانظر: القول المعتبر في تحقيق رواية كل أحد أفقه من عمر.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّ فِي عُيُونِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا؟». قَالَ: قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا. قَالَ: «عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟». قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ؟ كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ». قَالَ: فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ». قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: (الْعُرْض) بِضَمِّ الْعَيْن وَإِسْكَان الرَّاء هُوَ الْجَانِب وَالنَّاحِيَة، (وَتَنْحِتُونَ) بِكَسْرِ الْحَاء أَيْ تُقَشِّرُونَ وَتُقَطِّعُونَ. وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام كَرَاهَة إِكْثَار الْمَهْر بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَال الزَّوْج. ت ـ هذه الآية التي استدلت بها المرأة {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (النساء:20) معترضَةً بمفهومها على عمر - رضي الله عنه - في نهيه عن المغالاة في مهور النساء، لا تنافي توجيه عمر، فغاية ما تدل عليه جواز دفع القادر على الصداق الكثير المنوه عنه بالآية بالقنطار، لا تكليف العاجز ما لا يقدر عليه أو يستطيعه، بدليل إنكار النبي على الرجل المتزوج امرأة من الأنصار بأربع أواق صنيعهما لكون ذلك لا يتناسب وحالهما أو لكثرته، هذا فيما لو كانت الآية تدل على المغالاة في المهور. أما وأنها لا تدل على إباحة المغالاة في الصداق لأنه تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة، قال القرطبي - رحمه الله - بعد أن حكى قول من أجاز المغالاة في المهور: «وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا للهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي عند تفسير هذه الآية، والحديث رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

3 - قصة جلد عمر - رضي الله عنه - لابنه حتى الموت:

نستخلص مما سبق أن الآية الكريمة لا علاقة لها بإباحة غلاء المهور وأن نصها ومفهومها يفيدان أن الرجل القادر لو أحب إعطاء زوجته تطوعًا من نفسه فدفع إليها قنطارًا أو قناطير فهذا جائز. 3 - قصة جلد عمر - رضي الله عنه - لابنه حتى الموت: وسنذكر هذه القصة رغم طولها لنعلم خطر تغليف التشويه بالتشويق، وقد ذكر لي أحد الشباب أنه كاد يبكي من شدة تأثره أثناء قراءته لهذه القصة، وذلك قبل أن يعلم أنها مكذوبة. ذكر الإمام ابن الجوزي في كتاب (الموضوعات) بسنده عن سعيد بن مسروق قال: «كانت امرأة تدخل على آل عمر أو منزل عمر ومعها صبى، فقال: من ذا الصبي معك؟ فقالت: هو ابنك، وقع عليَّ أبو شحمة فهو ابنه. قال: فأرسل إليه عمر فأقَرَّ. فقال عمر لعلى - رضي الله عنهما -:اجلدْه. فضربه عمر خمسين، وضربه علي خمسين. قال: فأتى به. فقال لعمر: يا أبَتِ قتلْتَنى. فقال: إذا لقيت ربك عز وجل فأخبره أن أباك يقيم الحدود». ثم قال: «هذا حديث موضوع، وضعه القصاص، وقد أبدوا فيه وأعادوا، وقد شرحوا وأطالوا». ثم ذكر بسنده عن مجاهد قال: «تذاكر الناس في مجلس ابن عباس، فأخذوا في فضل أبى بكر، ثم أخذوا في فضل عمر بن الخطاب، فلما سمع عبد الله بن عباس بكى بكاء شديدًا حتى أغمى عليه، ثم أفاق فقال: رحم الله رجلًا لم تأخذه في الله لومة لائم، رحم الله رجلًا قرأ القرآن وعمل بما فيه وأقام حدود الله كما أمر، لم يزد عن القريب لقرابته، ولم يخف عن البعيد لبعده.

ثم قال: والله لقد رأيتُ عمر وقد أقام الحد على ولده فقتله فيه. ثم بكى وبكى الناس مِن حولِه وقلنا: يا ابن عم رسول الله إن رأيتَ أنْ تحدثنا كيف أقام عمر على ولده الحد. فقال: والله لقد أذكرتمونى شيئًا كنت له ناسيًا. فقلت: أقسمنا عليك بحق المصطفى أما حدثتنا. فقال: معاشر الناس، كنت ذات يوم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعمر بن الخطاب جالس والناس حوله يعظهم ويحكم فيما بينهم، فإذا نحن بجارية قد أقبلتْ من باب المسجد، فجعلت تتخطى رقاب المهاجرين والأنصار حتى وقفت بإزاء عمر فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال عمر: وعليكِ السلام (¬1) يا أمة الله، هل من حاجة؟ فقالت: نعم أعظم الحوائج إليك، خذ ولدك هذا منى فأنت أحق به منى. ثم رفعت القناع فإذا على يدها طفل. فلما نظر إليه عمر قال: يا أمة الله أسفري عن وجهك. فأسفرت. فأطرق عمر وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، يا هذه أنا لا أعرفك، فكيف يكون هذا ولدى؟ فبكت الجارية حتى بلت خمارها بالدموع، ثم قالت: يا أمير المؤمنين إن لم يكن ولدك من ظهرك فهو ولدُ ولدِك. قال: أي أولادي؟ قالت: أبو شحمة. قال: أبحلال أم بحرام؟ قالت: من قِبَلى بحلال ومن جهته بحرام. ¬

_ (¬1) قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86)، تأمل الافتراء على عمر - رضي الله عنه - حيث تزعم الرواية أنه لم يَرُدّ السلام بطريقة صحيحة حيث قالت المرأة: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته».فقال عمر: «وعليكِ السلام يا أمة الله».

قال عمر: وكيف ذاك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، اسمع مقالتي فوالله ما زدت عليك حرفًا ولا نقصت. فقال لها: اتقى الله ولا تقولي إلا الصدق. قالت: يا أمير المؤمنين كنتُ في بعض الأيام مارةً في بعض حوائجي إذ مررت بحائط لبنى النجار، فإذا أنا بصائح يصيح من ورائي، فإذا أنا بولدك أبى شحمة يتمايل سُكْرًا، وكان قد شرب عند نسيكة اليهودي، فلما قرب منى تواعدني وتهددني وراودني عن نفسي وجرني إلى الحائط فسقطت وأغمى عليّ، فوالله ما أفقت إلا وقد نال منى ما ينال الرجل من امرأته، فقمت وكتمت أمري عن عمى وجيراني، فلما تكاملَتْ أيامي وانقضت شهوري وضربني الطلق وأحسست بالولادة خرجْتُ إلى موضع كذا وكذا فوضعت هذا الغلام فهمَمْتُ بقتله ثم ندمتُ على ذلك، فاحكم بحكم الله بيني وبينه. قال ابن عباس: فأمر عمر - رضي الله عنه - مناديه ينادى. فأقبل الناس يهرعون إلى المسجد ثم قام عمر فقال: يا معاشر المهاجرين والأنصار لا تتفرقوا حتى آتيكم بالخبر. ثم خرج من المسجد وأنا معه، فنظر إليَّ وقال: يا ابن عباس أسرع معى، فجعل يسرع حتى قرب من منزله فقرع الباب فخرجت جارية كانت تخدمه، فلما نظرَتْ إلى وجهه وقد غلبه الغضب قالت: ما الذى نزل بك؟ قال يا هذه ولدى أبو شحمة هاهنا؟ قالت: إنه على الطعام، فدخل وقال له: كل يا بُنَيَّ فيوشك أن يكون آخر زادك من الدنيا. قال ابن عباس: فرأيت الغلام وقد تغير لونه وارتعد، وسقطت اللقمة من يده. فقال له عمر: يا بُنى من أنا؟ قال: أنت أبي وأمير المؤمنين. قال: فلي عليك حق طاعة أم لا؟ قال: طاعتان مفترضتان، أولهما: أنك والدي والأخرى أنك أمير المؤمنين.

فقال عمر: بحق نبيك وبحق أبيك، فإني أسألك عن شيء إلا أخبرتني. قال: يا أبت لا أقول غير الصدق. قال: هل كنتَ ضيفًا لنسيكة اليهودي، فشربتَ عنده الخمر وسكرتَ؟ قال: بأبي قد كان ذلك وقد تُبتُ. قال: يا بُنَيَّ رأس مال المذنبين التوبة. ثم قال: يا بُنَيَّ أنشدك الله هل دخلت ذلك اليوم حائطًا لبنى النجار فرأيت امرأة فواقعتها؟ فسكت وبكى وهو يبكى ويلطم وجهه. فقال له عمر: لا بأس اصدق فإن الله يحب الصادقين. فقال: يا أبى كان ذلك والشيطان أغواني وأنا تائب نادم. فلما سمع عمر ذلك قبض على يده ولببه وجره إلى المسجد. فقال: يا أبت لا يعصمني على رؤوس الخلائق حد السيف واقطعني هاهنا إربًا إربًا. قال: أما سمعت قول الله - عز وجل -: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور:2)، ثم جره حتى أخرجه بين يدى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في المسجد وقال: صدقت المرأة، وأقر أبو شحمة بما قالت. وله مملوك يقال له أفلح. فقال له: يا أفلح إن لي إليك حاجة إن أنت قضيتها فأنت حر لوجه الله. فقال: يا أمير المؤمنين مُرني بأمرك. قال: خذ ابني هذا فاضربه مائة سوط ولا تقصر في ضربه. فقال: «لا أفعله».وبكى، وقال: «يا ليتني لم تلدني أمي حيث أكلف ضرب ولد سيدي». فقال له عمر: إن طاعتي طاعة الرسول فافعل ما أمرتك به فانزع ثيابه.

فضج الناس بالبكاء والنحيب، وجعل الغلام يشير بإصبعه إلى أبيه ويقول: «أبت ارحمني». فقال له عمر وهو يبكى: «ربك يرحمك، وإنما هذا كي يرحمني ويرحمك»، ثم قال: «يا أفلح اضرب». فضرب أول سوط. فقال الغلام: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال: نعم الاسم سميت يا بُنَيَّ. فلما ضربه به ثانية قال: أوه يا أبت. فقال عمر: اصبر كما عصيت. فلما ضرب ثالثًا قال: الأمان. قال عمر: ربك يعطيك الأمان. فلما ضربه رابعًا قال: واغوثاه. فقال: الغوث عند الشدة. فلما ضربه خامسًا حمد الله. فقال عمر: كذا يجب أن تحمده. فلما ضربه عشرًا قال: يا أبت قتلتني قال: يا بُنَيَّ ذنبُك قتلك. فلما ضربه ثلاثين قال: أحرقت والله قلبي. قال: يا بني النار أشد حرًا. قال: فلما ضربه أربعين قال: يا أبت دعني أذهب على وجهي. قال: يا بُنَيَّ إذا أخذت حد الله من جنبك اذهب حيث شئت. فلما ضربه خمسين قال: نشدتك بالقرآن لما خليتني. قال: يا بُنَيَّ هلا وعظك القرآن وزجرك عن معصية الله عز وجل، يا غلام اضرب.

فلما ضربه ستين قال: يا أبى أغثني. قال: يا بُنَيَّ إن أهل النار إذا استغاثوا لم يغاثوا. فلما ضربه سبعين قال: يا أبت اسقني شربة من ماء. قال: يا بُنَيَّ إن كان ربك يطهرك فيسقيك محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - شربة لا تظمأ بعدها أبدًا، يا غلام اضرب. فلما ضربه ثمانين قال: يا أبت السلام عليك. قال: وعليك السلام، إن رأيت محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - فأقرئه منى السلام وقل له: خلفت عمر يقرأ القرآن ويقيم الحدود، يا غلام اضربه. فلما ضربه تسعين انقطع كلامه وضعف. فوثب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من كل جانب فقالوا: يا عمر انظر كم بقى فأخِّرْه إلى وقت آخر. فقال: كما لا تؤخر المعصية لا تؤخر العقوبة. فأتى الصريخ إلى أمه فجاءت باكية صارخة وقالت: يا عمر أحج بكل سوط حجة ماشية، وأتصدق بكذا وكذا درهمًا. قال: إن الحج والصدقة لا تنوب عن الحد، يا غلام أتم الحد. فلما كان آخر سوط سقط الغلام ميتًا. فقال عمر: يا بُنَيَّ محَّصَ الله عنك الخطايا. وجعل رأسه في حجره وجعل يبكي ويقول: بأبي من قتله الحق، بأبي من مات عند انقضاء الحد، بأبي من لم يرحمه أبوه وأقاربه!! فنظر الناس إليه فإذا هو قد فارق الدنيا. فلم يُرَ يوم أعظم منه. وضج الناس بالبكاء والنحيب.

فلما كان بعد أربعين يوما أقبل عليه حذيفة بن اليمان صبيحة يوم الجمعة فقال: إني أخذت وِردى من الليل فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام وإذا الفتى معه حُلتان خضراوان. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:أقرئ عمر منى السلام وقل له: هكذا أمرك الله أن تقرأ القرآن وتقيم الحدود. وقال الغلام: أقرئ أبي منى السلام وقل له: طهرك الله كما طهرتني، والسلام». ثم ذكر الإمام ابن الجوزي بإسناده صفوان عن عمر أنه كان له ابنان يقال لأحدهما عبد الله والآخر عبيد الله، وكان يكنى أبا شحمة، وكان أبو شحمة أشبه الناس برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تلاوة للقرآن، وأنه مرض مرضًا، فجعل أمهات المؤمنين يَعُدْنه، فبينا هن في عيادته قلن لعمر: لو نذرت على ولدك كما نذر عليٌّ بن أبى طالب على ولده الحسن والحسين فألبسهما الله العافية. فقال عمر: على نذر واجب لئن ألبس الله عز وجل ابني العافية أن أصوم ثلاثة أيام، وقالت والدته مثل ذلك. فلما أن قام من مرضه أضافه نسيكة اليهودي، فأتوه بنبيذ التمر فشرب منه. فلما طابت نفسه خرج يريد منزله، فدخل حائطًا لبنى النجار، فإذا هو بامرأة راقدة فكابدها وجامعها، فلما قام عنها شتَمَتْه وخرقت ثيابه وانصرفَتْ إلى منزلها». وذكر الحديث بطوله. ثم قال الإمام ابن الجوزي: «هذا حديث موضوع؛ كيف رُوي ومن أي طريق نُقل؟ وضعه جهال القصاص ليكون سببًا في تبكية العوام والنساء، فقد أبدعوا فيه وأتوا بكل قبيح ونسبوا إلى عمر ما لا يليق به، ونسبوا الصحابة إلى ما لا يليق بهم، وكلماته الركيكة تدل على وضعه، وبعده عن أحكام الشرع يدل على سوء فهم واضعه وعدم فقهه.

وقد تعجل واضعُه قذف ابن عمر بشرب الخمر عند اليهودي، ونسب عمر إلى أنه أحلفه بالله ليقر، وحاشى عمر، لأنه لو رأى أمارة ذلك لصدف عنها فإن ماعزًا لما أقر أعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلما أعاد الإقرار أعرض عنه إلى أن قال له: «أَبِكَ جُنُونٌ» (¬1). وقد قال: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬2)، وقال عمر لرجل أقر بذنب عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَقَدْ سَتَرَكَ اللهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ». (¬3). وكيف يُحَلّفُ عمر ولده بالله: هل زنيت؟ هذا لا يليق بمثله. وما أقبح ما زينوا كلامه عند كل سوط. وذلك لا يخفى عن العوام أنه صنعه جاهل سوقي. وقد ذكر أنه طلب ماء فلم يَسْقِه، وهذا قبيح في الغاية. وحكوا أن الصحابة قالوا: أخِّر باقى الحد، وأن أمّ الغلام قالت: «أحُجُّ عن كل سوط».وهذا كله يتحاشى الصحابة عن مثله. ومنام حذيفة أبرد من كل شيء. ثم شبهوا أبا شحمة برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم قذفوه بالفاحشة».اهـ كلام ابن الجوزي. ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. (¬2) عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِى الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِى الْعُقُوبَةِ». (رواه الترمذي وضعَّفه الألباني). (¬3) عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّى عَالَجْتُ امْرَأَةً فِى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِىَّ مَا شِئْتَ». فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: «لَقَدْ سَتَرَكَ اللهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ». ... قَالَ: فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ فَأَتْبَعَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - رَجُلًا دَعَاهُ وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا نَبِىَّ اللهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً». (رواه مسلم).

4 - قصة اغتسال فاطمة - رضي الله عنها - قبل الموت:

وأيضًا قد حكم على هذه القصة بالوضع الحافظ ابن حجر والإمام ابن عراق والإمام الشوكاني. وتأمل كيف خلط القُصَّاص بين عدل عمر - رضي الله عنه - وحرصه على تطبيق الحدود وبين الطعن فيه وفي زوجته وغيرهما من الصحابة - رضي الله عنهم - بالجهل بالشريعة. وفي القصة أيضًا اتهام لابن خليفة المسلمين عمر - رضي الله عنه - بشرب الخمر واغتصاب بنات المسلمين. وتجد في القصة الحلف بغير الله مثل قول الناس لابن عباس: «قسمنا عليك بحق المصطفى أما حدثتنا». وقول عمر لابنه: «بحق نبيك وبحق أبيك، فإني أسألك عن شيء إلا أخبرتني». 4 - قصة اغتسال فاطمة - رضي الله عنها - قبل الموت: ذكر الإمام ابن الجوزي في كتاب (الموضوعات) بإسناده عن عبيد الله بن أبى رافع عن أبيه عن أمه سلمى قالت: «اشتكت فاطمة فمرضتها فقالت لي يومًا وقد خرج عَلِىٌّ: «يا أمتاه اسكبي لي غسلًا»، فسكبتُ ثم قامت كأحسن ما كنت أراها تغتسل، ثم قالت: «هاتي لي ثيابي الجدد»، فأتيتها بها فلبستها، ثم جاءت إلى البيت الذي كانت فيه فقالت لي: «قدمي لي الفراش إلى وسط البيت»، ثم اضطجعتْ ووضعتْ يدها تحت خدها واستقبلت القبلة ثم قالت: «يا أمتاه إني مقبوضة اليوم، وإني قد اغتسلت فلا يكشفني أحد». قال: فقُبِضت مكانها، فجاء علي - رضي الله عنه - فأخبرته فقال: «لا والله لا يكشفها أحد، فدفنها بغسلها ذلك». ثم قال الإمام ابن الجوزي: «وهذا حديث لا يصح ... ثم إن الغسل إنما يكون لحدث الموت فكيف يغتسل قبل الحدث. هذا لا يصح إضافته إلى علي وفاطمة - رضي الله عنهما -، بل يتنزهون عن مثل هذا.» اهـ كلام ابن الجوزي.

5 - حلم أم ظلم:

فتأمل كيف طعن القُصّاص في علي وفاطمة - رضي الله عنهما - بالجهل بأبسط أحكام الدين، وغلفوا ذلك بما يشير إلى حسن خاتمة فاطمة - رضي الله عنها -. ومن الأمثلة المتعلقة بمعاوية - رضي الله عنه -: 5 - حلم أم ظلم: في أثناء دفاعه عن معاوية - رضي الله عنه - ذكر أحد المعاصرين الغيورين من أهل السنة ـ حفظه الله ـ الكلام التالي يمدح حِلم معاوية - رضي الله عنه - فتأمل فيه تجد إساءة كبيرة: «وقال القاضي الماوردي في الأحكام السلطانية: «وَحُكِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أُتِيَ بِلُصُوصٍ فَقَطَعَهُمْ حَتَّى بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقُدِّمَ لِيُقْطَعَ فَقَالَ: يَمِينِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيذُهَا ... بِعَفْوِكَ أَنْ تَلْقَى نَكَالًا يُبِينُهَا يَدِي كَانَتْ الْحَسْنَاءَ لَوْ تَمَّ سَتْرُهَا ... وَلَا تُقَدِّمُ الْحَسْنَاءُ عَيْبًا يَشِينُهَا فَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَكَانَتْ خَبِيثَةً ... إذَا مَا شِمَالٌ فَارَقَتْهَا يَمِينُهَا فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَيْف أَصْنَعُ بِكَ وَقَدْ قَطَعْتُ أَصْحَابَكَ؟ فَقَالَتْ أُمُّ السَّارِقِ: «اجْعَلْهَا مِنْ جُمْلَةِ ذُنُوبِكَ الَّتِي تَتُوبُ إلَى اللهِ مِنْهَا». فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ حَدٍّ تُرِكَ فِي الْإِسْلَامِ». هذه الرواية ذُكِرَتْ كمثال لحلم معاوية - رضي الله عنه - ولكن فيها اتهام لمعاوية - رضي الله عنه - بتضييع حدود الله - عز وجل - حيث لم يُقِم الحد على السارق. 6 - ذكر أحد المعاصرين الغيورين ـ حفظه الله ـ الكلام التالي يستدل بها على ثقة عمر في معاوية وسعادة أبي سفيان بذلك: «في سنة ثمان عشرة للهجرة توفي يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - في طاعون عمواس، فولى عمر معاوية عمل أخيه ـ دمشق وبعلبك والبلقاء. وقد كان لعمل عمر هذا أكبر الأثر على نفسية والد معاوية ووالدته، فحين عزَّى عمر أبا سفيان في وفاة ابنه يزيد قال: يا أمير المؤمنين من وليتَ مكانه؟ قال: أخوه معاوية.

7 - وقال هذا الغيور أيضا ما يلي:

قال: وصلت رحمًا يا أمير المؤمنين. وكتب أبو سفيان لمعاوية ينصحه في بداية عمله هذا فمما قال: «يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفَعَهم سَبْقُهم وقدمهم عند الله وعند رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقصر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعًا، وقد ولَّوك جسيمًا من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس، فإن بلغته أورثته عقبك». ففي هذه الرواية طعن في أبي سفيان - رضي الله عنه - حيث يظهره بمظهر الحريص على الزعامة وأن حزنه لتأخره في الإسلام كان من أجل الدنيا، وأنه يحث ابنه على المنافسة في هذه الزعامة، وتحريضه على توريث الحكم. 7 - وقال هذا الغيور أيضًا ما يلي: «كان عمر - رضي الله عنه - ـ وهو الخبير بمعادن الرجال ـ يدرك أكثر من غيره ما يتمتع به معاوية من صفات تؤهله للقيادة، فحين قدم عمر الشام وافاه معاوية بموكب عظيم أنكره عليه عمر فقال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك. قال: هو ما بلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافيًا إلى بلاد الحجاز. قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن تظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال له عمر: ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس (¬1)، لئن كان ما قلت حقًا، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلًا إنه لخديعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين. قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه. فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جَشَّمناه ما جَشَّمناه. وكان عمر - رضي الله عنه - يتعهد معاوية بالتربية والوعظ والنصح، وأحيانًا يشتد ويغلظ عليه، فعن أسلم مولى عمر - رضي الله عنه - قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض أو أبضُّ الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه، فيعجب له، ثم يضع أُصبُعَه على متنه ثم يرفعها عن مثل الشِّراك، فيقول: بَخٍ بَخٍ، نحن إذا خير الناس، أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة. فقال معاوية: «يا أمير المؤمنين، سأحدثك، إنّا بأرض الحمّامات والريف». فقال عمر: «سأحدثك ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك وذوو الحاجات وراء الباب». قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حُلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحًا كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم حاجًّا تَفِلًا، حتى إذا جاء أعظم بُلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما. فقال معاوية: إنما لبستهما لأدْخل فيهما على عشيرتي أو قومي، والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام، والله يعلم إني لقد عرفتُ الحياء فيه. ثم نزع معاوية ثوبيه، ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما. وقال عمرو بن يحي بن سعيد الأموي، عن جَدِّه قال: دخل معاوية على عمر وعليه حُلَّةٌ خضراء فنظر إليها الصّحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدِّرَّة (¬2)، فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين، اللهَ اللهَ فيَّ. فرجع عمر إلى مجلسه، فقال له القوم: لم ضَرَبْتَه يا أمير المؤمنين وما في قومِك مثله؟ ¬

_ (¬1) الرواجب: جمع راجبة: وهي ما بين عقد الأصابع من داخل أي: أضيق ما يكون. (¬2) الدِّرَّة: السوط.

فقال: والله ما رأيت إلا خيرًا وما بلغني إلا خيرٌ، ولكنِّي رأيته وأشار بيده (¬1) ـ فأحببت أن أضع منه».اهـ. هذا الكلام يشير إلى شدة مراقبة عمر - رضي الله عنه - لولاته واستدل بها هذا الغيور ـ حفظه الله ـ على ثقة عمر بمعاوية - رضي الله عنهما - واهتمامه بنصحه ولكن: هل كان معاوية - رضي الله عنه - مشغولًا عن رعيته بالطعام والشراب، وهل يعقل ألا يثق عمر في كلام معاوية - رضي الله عنهما - فيقول له: «لئن كان ما قلت حقًا، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلًا إنه لخديعة أديب»؟. وما هو أذى عمر الذي بلغ معاوية في مكة والشام. وهل يُعقل أن يعاقب عمر - رضي الله عنه - والِيَه الذي يثق به بأن يضربه بالدِّرة أمام الناس ويهمّ بأن يأمره بالمشي حافيًا إلى بلاد الحجاز؟ وما الجريمة التي اقترفها معاوية حتى يضربه عمر بالدِّرة. وفي القصة اتهام لمعاوية بالتكبر أو الخيلاء أمام خليفة المسلمين. وهل اطلع عمر على ما في قلب معاوية فعلم فيه الغرور أو الكبر فأحب أن يضع منه. وماذا على عمر لو عزله وولى مكانه من هو أصلح وأنفع للمسلمين منه. ¬

_ (¬1) يعني: أشار بيده إلى فوق.

التحذير من أخبار يحتج بها الرافضة

التحذير من أخبار يحتج بها الرافضة إن كثيرًا من الروايات التي توغر الصدور على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - و - رضي الله عنهم - لم تصح أصلًا، فكيف يُعتمد عليها مع كونها مخالفة لثناء الله على صحابة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - و - رضي الله عنهم - في القرآن الكريم، ومخالفة لما هو معلوم من حال الصحابة من نصرة للإسلام وجهاد في سبيل الله - عز وجل -، وبذل المُهَج والأموال لتكون كلمة الله هي العليا. من هذه الأخبار المكذوبة ما يلي: 1 - أن معاوية - رضي الله عنه - سَمَّ الحسن بن علي - رضي الله عنهما -. 2 - أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تقول: اقتلوا نعثلًا فقد كفر. تعنى عثمان - رضي الله عنه -. هذه الرواية في تاريخ الطبري من طريق سيف بن عمر التميمي، وهو كذاب مشهور. 3 - أن عمرو بن العاص اتفق مع أبي موسى الأشعري على عزل علي ومعاوية - رضي الله عنهم - فصعد أبو موسى الأشعري المنبر وقال: «إني أنزع عليا من الخلافة كما أنزع خاتمي هذا»، ثم نزع خاتمه، وقام عمرو بن العاص وقال: «وأنا أنزع عليا كذلك كما نزعه أبو موسى، كما أنزع خاتمي هذا، وأثبت معاوية كما أثبت خاتمي هذا». فصار اللغط فخرج أبو موسى غاضبًا ورجع إلى مكة ولم يذهب إلى عليٍّ في الكوفة ورجع عمرو بن العاص إلى الشام. هذه القصة في تاريخ الطبري وفي سندها أبو مخنف لوط بن يحيى وهو شيعي كذاب. 4 - أن عمر عندما رشح ستة للخلافة قال: إذا اتفق أربعة وخالف اثنان فاقتلوهما وإذا انقسم الستة إلى فريقين في كل جهة فخذوا برأي الثلاثة الذين يقف معهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا مضى وقت ولم يتفق الستة فاقتلوهم. هذه القصة فيها أبو مخنف الكذاب.

5 - من أقبح أكاذيب الشيعة ما زعموه من أن عمر - رضي الله عنه - ضرب فاطمة - رضي الله عنها - حتى أسقط ولدها. وما درى هؤلاء الجهلة أن في ذلك اتهامًا لعلي - رضي الله عنه - بالجبن مع أنه من أشجع الصحابة - رضي الله عنهم -. 6 - أن عثمان - رضي الله عنه - أعطى مروان خمس إفريقية، وهذا كذب. 7 - أن عثمان نفى أبا ذر إلى الربذة , هذا ذكره الطبري من رواية سيف بن عمر الكذاب. 8 - أن عثمان فتق أمعاء ابن مسعود وضرب عمارًا حتى كسر أضلاعه، وهذا كذب ولو فتق أمعاء ابن مسعود ما عاش. 9 - ما يُذكَر من أن طلحة والزبير - رضي الله عنهما - جاءا إلى عائشة - رضي الله عنها - بخمسين رجلًا وجعلا لهم جعلًا فأقسموا بالله أن هذا ليس بماء الحوأب فواصلت مسيرها حتى البصرة وأنها أول شهادة زور في الإسلام. وهذا كذب لا حقيقة له.

منهج أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم -

منهج أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم - إن الفتن التي جرت بين الصحابة - رضي الله عنهم - يجب أن يكون حظ العاقل منها حسنَ الظن بالصحابة الكرام، والسكوت عن الكلام فيهم إلاّ بخير، والترضي عن الصحابة جميعًا، وموالاتهم، ومحبتهم، والجزم أنهم دائرون في اجتهاداتهم بين الأجر والأجرين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مبينًا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة: «وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ. وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ. وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ. وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ. وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ. وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَهُمْ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ» (¬1). ¬

_ (¬1) انظر العقيدة الواسطية ص 34.

وقال الإمام الذهبي - رحمه الله -: «فَأَمَّا مَا تَنْقُلُهُ الرَّافِضَةُ، وَأَهْلُ البِدَعِ فِي كُتُبِهِم مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ نُعَرِّجُ عَلَيْهِ، وَلاَ كرَامَةَ، فَأَكْثَرُهُ بَاطِلٌ، وَكَذِبٌ، وَافْتِرَاءٌ، فَدَأْبُ الرَّوَافِضِ رِوَايَةُ الأَبَاطِيْلِ، أَوْ رَدُّ مَا فِي الصِّحَاحِ وَالمسَانِيْدِ، وَمتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرَان؟! وقال أيضًا - رحمه الله -: «كَمَا تَقَرَّرَ عَنِ الكَفِّ عَنْ كَثِيْرٍ مِمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَقِتَالِهِم - رضي الله عنهم - أَجْمَعِيْنَ - وَمَا زَالَ يَمُرُّ بِنَا ذَلِكَ فِي الدَّوَاوينِ، وَالكُتُبِ، وَالأَجْزَاءِ، وَلَكِنْ أَكْثَرُ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ، وضَعِيْفٌ، وَبَعْضُهُ كَذِبٌ، وَهَذَا فِيْمَا بِأَيْدِيْنَا وَبَيْنَ عُلُمَائِنَا، فَيَنْبَغِي طَيُّهُ وَإِخْفَاؤُهُ، بَلْ إِعْدَامُهُ، لِتَصْفُوَ القُلُوْبُ، وَتَتَوَفَّرَ عَلَى حُبِّ الصَّحَابَةِ، وَالتَّرَضِّي عَنْهُمُ، وَكِتْمَانُ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَنِ العَامَّةِ، وَآحَادِ العُلَمَاءِ. وَقَدْ يُرَخَّصُ فِي مُطَالعَةِ ذَلِكَ خَلْوَةً لِلْعَالِمِ المُنْصِفِ، العَرِيِّ مِنَ الهَوَى، بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَغفرَ لَهُم، كَمَا عَلَّمَنَا اللهُ ـ تَعَالَى ـ حَيْثُ يَقُوْلُ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (الحشرُ:10). فَالقَوْمُ لَهُم سَوَابِقُ وَأَعْمَالٌ مُكَفِّرَةٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمُ، وَجِهَادٌ مَحَّاءٌ، وَعِبَادَةٌ مُمَحِّصَةٌ، وَلَسْنَا مِمَّنْ يَغْلُو فِي أَحَدٍ مِنْهُم، وَلاَ نَدَّعِي فِيْهِم العِصْمَةَ، نَقْطَعُ بِأَنَّ بَعْضَهُم أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَنَقْطَعُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَفْضَلُ الأُمَّةِ. ثُمَّ تَتِمَّةُ العَشْرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ، وَحَمْزَةُ، وَجَعْفَرٌ، وَمُعَاذٌ، وَزَيْدٌ، وَأُمَّهَاتُ المُؤْمِنِيْنَ، وَبنَاتُ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وآله وسلم - وَأَهْلُ بَدْرٍ، مَعَ كَوْنِهِم عَلَى مَرَاتِبَ» (¬1). وقد أثنى الله - عز وجل - عليهم مع أنه سبق في علمه ما سيكون منهم. فعن مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن الله أمر بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون» (¬2). ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (10/ 93). (¬2) فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/ 69) , (2/ 1152) , والإبانة لابن بطة (294)، وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2/ 22). وانظر: الصارم المسلول (3/ 1071).

وقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة: «قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» (¬1). وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ العاص وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ هُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَهُمْ فَضَائِلُ وَمَحَاسِنُ. وَمَا يُحْكَى عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْهُ كَذِبٌ؛ وَالصِّدْقُ مِنْهُ إنْ كَانُوا فِيهِ مُجْتَهِدِينَ: فَالْمُجْتَهِدُ إذَا أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَخَطَؤُهُ يُغْفَرُ لَهُ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ لَهُمْ ذُنُوبًا فَالذُّنُوبُ لَا تُوجِبُ دُخُولَ النَّارِ مُطْلَقًا إلَّا إذَا انْتَفَتْ الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ عَشْرَةٌ. مِنْهَا: التَّوْبَةُ، وَمِنْهَا الِاسْتِغْفَارُ، وَمِنْهَا الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ، وَمِنْهَا الْمَصَائِبُ الْمُكَفِّرَةُ، وَمِنْهَا شَفَاعَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَمِنْهَا شَفَاعَةُ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا مَا يُهْدَى لِلْمَيِّتِ مِنْ الثَّوَابِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ، وَمِنْهَا فِتْنَةُ الْقَبْرِ، وَمِنْهَا أَهْوَالُ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم بلفظ: «لاَ يَدْخُلُ النَّارَ ـ إِنْ شَاءَ اللهُ ـ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ. الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا». قال الإمام النووي: «قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلهَا أَحَد مِنْهُمْ قَطْعًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث الَّذِي قَبْله حَدِيث حَاطِب، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّه لِلتَّبَرُّكِ، لَا لِلشَّكِّ». (¬2) الذي في الصحيحين بلفظ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». ورواه مسلم بلفظ: «خَيْرُ أُمَّتِى الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ «ولفظ: «خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ «الْقَرْنُ الَّذِى أَنَا فِيهِ ثُمَّ الثَّانِى ثُمَّ الثَّالِث» (رواه مسلم). ورواه الإمام أحمد في المسند عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ أُمَّتِى الْقَرْنُ الَّذِى بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». وَاللهُ أَعْلَمُ أَقَالَ الثَّالِثَةَ أَمْ لاَ». وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن شقيق فمن رجال مسلم». وكذلك رواه أبو داود والترمذي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - وصححه الألباني.

وَحِينَئِذٍ فَمَنْ جَزَمَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ لَهُ ذَنْبًا يَدْخُلُ بِهِ النَّارَ قَطْعًا فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ. فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ لَكَانَ مُبْطِلًا فَكَيْفَ إذَا قَالَ مَا دَلَّتْ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ عَلَى نَقِيضِهِ؟ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ـ وَقَدْ نَهَى اللهُ عَنْهُ: مِنْ ذَمِّهِمْ أَوْ التَّعَصُّبِ لِبَعْضِهِمْ بِالْبَاطِلِ ـ فَهُوَ ظَالِمٌ مُعْتَدٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» (¬1). وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الْحَسَنِ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (¬2). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: «تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} (الحجرات:9) فَثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُسْلِمُونَ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ كَانُوا أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمُقَاتِلَةِ لَهُ» اهـ (¬3). وقال أيضًا - رحمه الله -: «وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمُخْتَارُ الْإِمْسَاكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالِاسْتِغْفَارَ لِلطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا وَمُوَالَاتَهُمْ؛ فَلَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَسْكَرِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجْتَهِدًا مُتَأَوِّلًا كَالْعُلَمَاءِ بَلْ فِيهِمْ الْمُذْنِبُ وَالْمُسِيءُ وَفِيهِمْ الْمُقَصِّرُ فِي الِاجْتِهَادِ لِنَوْعِ مِنْ الْهَوَى لَكِنْ إذَا كَانَتْ السَّيِّئَةُ فِي حَسَنَاتٍ كَثِيرَةٍ كَانَتْ مَرْجُوحَةً مَغْفُورَةً. وَ (أَهْلُ السُّنَّةِ) تُحْسِنُ الْقَوْلَ فِيهِمْ وَتَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمْ لَكِنْ لَا يَعْتَقِدُونَ الْعِصْمَةَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَعَلَى الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ إلَّا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. وَمَنْ سِوَاهُ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْخَطَأِ لَكِنْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} الْآيَةَ. وَفَضَائِلُ الْأَعْمَالِ إنَّمَا هِيَ بِنَتَائِجِهَا وَعَوَاقِبِهَا لَا بِصُوَرِهَا» اهـ (¬4). وقال أيضًا - رحمه الله -: «وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ لَا يَعْتَقِدُونَ عِصْمَةَ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا الْقَرَابَةِ وَلَا السَّابِقِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ وُقُوعُ الذُّنُوبِ مِنْهُمْ، وَاللهُ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَيَرْفَعُ بِهَا دَرَجَاتِهِمْ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِك مِنْ الْأَسْبَابِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} (الزمر:33 - 35)،، وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} (الأحقاف:15 - 16). وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ هُمْ الَّذِينَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ. فَأَمَّا الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ؛ وَالصَّالِحُونَ: فَلَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ. وَهَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ. وَأَمَّا مَا اجْتَهَدُوا فِيهِ: فَتَارَةً يُصِيبُونَ، وَتَارَةً يُخْطِئُونَ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه البخاري بلفظ: «إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ». (¬3) مجموع الفتاوى (ج 4/ 431 - 433) ط دار الوفاء. (¬4) مجموع الفتاوى 4/ 434 ط دار الوفاء.

فَإِذَا اجْتَهَدُوا فَأَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدُوا وَأَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ، وَخَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ. وَأَهْلُ الضَّلَالِ يَجْعَلُونَ الْخَطَأَ وَالْإِثْمَ مُتَلَازِمَيْنِ: فَتَارَةً يَغْلُونَ فِيهِمْ؛ وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ. وَتَارَةً يَجْفُونَ عَنْهُمْ؛ وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ بَاغُونَ بِالْخَطَأِ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لَا يُعَصِّمُونَ، وَلَا يُؤَثِّمُونَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تُولَدُ كَثِيرٌ مِنْ فِرَقِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ. فَطَائِفَةٌ سَبَّتْ السَّلَفَ وَلَعَنَتْهُمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذُنُوبًا، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَةَ؛ بَلْ قَدْ يُفَسِّقُونَهُمْ؛ أَوْ يُكَفِّرُونَهُمْ، كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ كَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانَ بْنَ عفان، وَمَنْ تَوَلَّاهُمَا، وَلَعَنُوهُمْ، وَسَبُّوهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا قِتَالَهُمْ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» (¬1)، وَقَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَتُقَاتِلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ لِأَجْلِ الْحَقِّ» (¬2) وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمَارِقَةُ الَّذِينَ مَرَقُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَفَّرُوا كُلَّ مَنْ تَوَلَّاهُ. وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٍ مَعَ عَلِيٍّ، وَفِرْقَةٍ مَعَ مُعَاوِيَةَ. فَقَاتَلَ هَؤُلَاءِ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بَهْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الْحَسَنِ ابْنِهِ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ بَهْ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (¬3) فَأَصْلَحَ اللهُ بَهْ بَيْنَ شِيعَةِ عَلِيٍّ وَشِيعَةِ مُعَاوِيَةَ. وَأَثْنَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى الْحَسَنِ بِهَذَا الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ عَلَى يَدَيْهِ وَسَمَّاهُ سَيِّدًا بِذَلِك؛ لِأَجْلِ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيَرْضَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ. وَلَوْ كَانَ ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. (¬2) رواه مسلم بلفظ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ». (¬3) رواه البخاري بلفظ: «إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

الِاقْتِتَالُ الَّذِي حَصَلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِك؛ بَلْ يَكُونُ الْحَسَنُ قَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، أَوْ الْأَحَبَّ إلَى اللهِ. وَهَذَا النَّصُّ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ مَحْمُودٌ، مَرْضِيٌّ للهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يَضَعُهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَيَضَعُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَيَقُولُ: «اللهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا، وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» (¬1). وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ظَهَرَ فِيهِ مَحَبَّتُهُ وَدَعْوَتُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنَّهُمَا كَانَا أَشَدَّ النَّاسِ رَغْبَةً فِي الْأَمْرِ الَّذِي مَدَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِهِ الْحَسَنَ، وَأَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهَةً لَمَا يُخَالِفُهُ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَتْلَى مِنْ أَهْلِ صِفِّين لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِمَنْزِلَةِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، الَّذِينَ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ مَدَحَ الصُّلْحَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقِينَ عَلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَظَهَرَ مِنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - السُّرُورُ بِقِتَالِهِمْ؛ وَمِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ مَا قَدْ ظَهَرَ عَنْهُ. وَأَمَّا قِتَالُ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُرْوَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِيهِ أَثَرٌ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ سُرُورٌ؛ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ الْكَآبَةُ، وَتَمَنَّى أَنْ لَا يَقَعَ، وَشَكَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ، وَبَرَّأَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْكُفْرِ ¬

_ (¬1) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنهما -:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ «اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا». (رواه البخاري). وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّى أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا». (رواه البخاري). أما لفظة: «وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» فوجدته خاصًا بالحسن والحسين - رضي الله عنهما - فعن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: طَرَقْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ حَاجَتِي قُلْتُ: مَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَكَشَفَهُ فَإِذَا حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَى وَرِكَيْهِ. فَقَالَ: «هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِيَ؛ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» (رواه الترمذي وحسنه الألباني). (الطَّرْقُ): الْإِتْيَانُ بِاللَّيْلِ. (فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ) أَيْ لِأَجْلِ حَاجَةٍ مِنْ الْحَاجَاتِ (وَهُوَ مُشْتَمِلٌ) أَيْ مُحْتَجِبٌ (فَكَشَفَهُ) أَيْ أَزَالَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحِجَابِ (عَلَى وَرِكَيْهِ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ: مَا فَوْقَ الْفَخِذِ، (هَذَانِ اِبْنَايَ) أَيْ حُكْمًا. (وَابْنَا اِبْنَتِي) أَيْ حَقِيقَةً. (اهـ باختصار من تحفة الأحوذي).

وَالنِّفَاقِ، وَأَجَازَ التَّرَحُّمَ عَلَى قَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَمْثَالَ ذَلِك مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا اتِّفَاقُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُؤْمِنَةٌ. وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ اقْتِتَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (الحجرات:9 - 10)؛ فَسَمَّاهُمْ (مُؤْمِنِينَ) وَجَعَلَهُمْ (إخْوَةً) مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ «إذَا اقْتَتَلَ خَلِيفَتَانِ فَأَحَدُهُمَا مَلْعُونٌ» كَذِبٌ مُفْتَرًى لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَمَدَةِ. ومُعَاوِيَةُ لَمْ يَدَّعِ الْخِلَافَةَ؛ وَلَمْ يُبَايَعْ لَهُ بِهَا حِينَ قَاتَلَ عَلِيًّا، وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَةٌ، وَلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ، وَيُقِرُّونَ لَهُ بِذَلِك، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ يُقِرُّ بِذَلِك لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ، وَلَا كَانَ مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ يَرَوْنَ أَنْ يَبْتَدُوا عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ بِالْقِتَالِ، وَلَا يَعْلُوَا. بَلْ لَمَّا رَأَى عَلِيٌّ - رضي الله عنه - وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَمُبَايَعَتُهُ، إذْ لَا يَكُون لِلْمُسْلِمَيْنِ إلَّا خَلِيفَةٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ يَمْتَنِعُونَ عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ، وَهُمْ أَهْلُ شَوْكَةٍ رَأَى أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا هَذَا الْوَاجِبَ، فَتَحْصُلَ الطَّاعَةُ وَالْجَمَاعَةُ. وَهُمْ (¬1) قَالُوا: إنَّ ذَلِك لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّهُمْ إذَا قُوتِلُوا عَلَى ذَلِك كَانُوا مَظْلُومِينَ قَالُوا: لِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَتُهُ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ، وَهُمْ غَالِبُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ، فَإِذَا امْتَنَعْنَا ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا عَلَيْنَا. وَعَلِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُمْ، كَمَا لَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ عَنْ عُثْمَانَ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُبَايِعَ خَلِيفَةً يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْصِفَنَا وَيَبْذُلَ لَنَا الْإِنْصَافَ. ¬

_ (¬1) أي مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ.

وَكَانَ فِي جُهَّالِ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يَظُنُّ بِعَلِيِّ وَعُثْمَانَ ظُنُونًا كَاذِبَةً، بَرَّأَ اللهُ مِنْهَا عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ: كَانَ يَظُنُّ بِعَلِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَحْلِفُ ـ وَهُوَ الْبَارُّ الصَّادِقُ بِلَا يَمِينٍ ـ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَلَا رَضِيَ بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يُمَالِئْ عَلَى قَتْلِهِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِلَا رَيْبٍ مِنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه -. فَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ مُحِبِّي عَلِيٍّ وَمِنْ مُبْغِضِيهِ يُشِيعُونَ ذَلِك عَنْهُ: فَمُحِبُّوهُ يَقْصِدُونَ بِذَلِك الطَّعْنَ عَلَى عُثْمَانَ بِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ، وَأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ بِقَتْلِهِ. وَمُبْغِضُوهُ يَقْصِدُونَ بِذَلِك الطَّعْنَ عَلَى عَلِيٍّ، وَأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ الشَّهِيدِ، الَّذِي صَبَّرَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهَا، وَلَمْ يَسْفِكْ دَمَ مُسْلِمٍ فِي الدَّفْعِ عَنْهُ، فَكَيْفَ فِي طَلَب طَاعَتِهِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ بِهَا الزَّائِغُونَ عَلَى الْمُتَشَيِّعِينَ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَالْعَلَوِيَّةِ. وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُتَشَيِّعِينَ مُقِرَّةٌ مَعَ ذَلِك بِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَاوِيَةُ كُفْئًا لِعَلِيِّ بِالْخِلَافَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةٌ مَعَ إمْكَانِ اسْتِخْلَافِ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - فَإِنَّ فَضْلَ عَلِيٍّ وَسَابِقِيَّتَهُ، وَعِلْمَهُ، وَدِينَهُ، وَشَجَاعَتَهُ، وَسَائِرَ فَضَائِلِهِ: كَانَتْ عِنْدَهُمْ ظَاهِرَةً مَعْرُوفَةً، كَفَضْلِ إخْوَانِهِ: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ - رضي الله عنهم -. وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى غَيْرُهُ وَغَيْرُ سَعْدٍ، وَسَعْدٌ كَانَ قَدْ تَرَكَ هَذَا الْأَمْرَ، وَكَانَ الْأَمْرُ قَدْ انْحَصَرَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ؛ فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ لَمْ يَبْقَ لَهَا مُعَيَّنٌ إلَّا عَلِيٌّ - رضي الله عنه - وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّرُّ بِسَبَبِ قَتْلِ عُثْمَانَ، فَحَصَلَ بِذَلِك قُوَّةُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَضَعْفُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، حَتَّى حَصَلَ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ مَا صَارَ يُطَاعُ فِيهِ مَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالطَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف، وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: مَا يَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا يُجْمِعُونَ مِنْ الْفُرْقَةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: «إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» (¬1) فَلَيْسَ فِي كَوْنِ عَمَّارٍ تَقْتُلهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ مَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم.

فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات:9 - 10)؛ فَقَدْ جَعَلَهُمْ مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ مُؤْمِنِينَ إخْوَةً؛ بَلْ مَعَ أَمْرِهِ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ جَعَلَهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ بَغْيًا وَظُلْمًا أَوْ عُدْوَانًا يُخْرِجُ عُمُومَ النَّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ، وَلَا يُوجِبُ لَعْنَتَهُمْ؛ فَكَيْفَ يُخْرِجُ ذَلِك مَنْ كَانَ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ؟ وَكُلُّ مَنْ كَانَ بَاغِيًا، أَوْ ظَالِمًا، أَوْ مُعْتَدِيًا، أَوْ مُرْتَكِبًا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَهُوَ قِسْمَانِ: مُتَأَوِّلٌ، وَغَيْرُ مُتَأَوِّلٍ. فَالْمُتَأَوِّلُ الْمُجْتَهِدُ: كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، الَّذِينَ اجْتَهَدُوا، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ حِلَّ أُمُورٍ، وَاعْتَقَدَ الْآخَرُ تَحْرِيمَهَا، فَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلُونَ الْمُجْتَهِدُونَ غَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة:286)، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ (¬1). وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - رضي الله عنه - إنَّمَا حَكَمَا فِي الْحَرْثِ، وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ، مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ. وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا فَهِمَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِك مَلُومًا وَلَا مَانِعًا لِمَا عُرِفَ مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِك مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ يَكُون إثْمًا وَظُلْمًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهِ فِسْقًا، بَلْ مَتَى عُلِمَ تَحْرِيمُهُ ضَرُورَةً كَانَ تَحْلِيلُهُ كُفْرًا. فَالْبَغْيُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. أَمَا إذَا كَانَ الْبَاغِي مُجْتَهِدًا وَمُتَأَوِّلًا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ بَاغٍ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ: لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ (بَاغِيًا) مُوجِبَةً لِإِثْمِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تُوجِبَ فِسْقَهُ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ؛ يَقُولُونَ: مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ قِتَالُنَا لَهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرِ بَغْيِهِمْ؛ لَا عُقُوبَةً لَهُمْ؛ بَلْ لِلْمَنْعِ مِنْ الْعُدْوَانِ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ؛ لَا يُفَسَّقُونَ. وَيَقُولُونَ هُمْ كَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ، كَمَا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالنَّاسِي وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنْهُمْ؛ بَلْ تُمْنَعُ الْبَهَائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ. وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قُتِلَ مُؤْمِنًا خَطَأً الدِّيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِك، وَهَكَذَا مَنْ رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ الْحُدُودِ وَتَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْبَغْيُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ: يَكُون ذَنْبًا، وَالذُّنُوبُ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا بِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ: بِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِك. ثُمَّ «إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لمعاوية وَأَصْحَابِهِ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بَهْ تِلْكَ الْعِصَابَةُ الَّتِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ، وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعَسْكَرِ، وَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ: كَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص، وَغَيْرِهِ؛ بَلْ كُلُّ النَّاسِ كَانُوا مُنْكَرِينَ لِقَتْلِ عَمَّارٍ، حَتَّى مُعَاوِيَةُ، وَعَمْرٌو. وَالْفُقَهَاءُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ رَأْيُهِ الْقِتَالُ مَعَ مَنْ قَتَلَ عَمَّارًا؛ لَكِنْ لَهُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِمَا أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ: مِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِتَالَ مَعَ عَمَّارٍ وَطَائِفَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِمْسَاكَ عَنْ الْقِتَالِ مُطْلَقًا. وَفِي كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ طَوَائِفُ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ. فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَمَّارٌ، وَسَهْلُ بْنُ حنيف، وَأَبُو أَيُّوبَ. وَفِي الثَّانِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مسلمة؛ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُمْ. وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْأَكَابِرِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَسْكَرَيْنِ بَعْدَ عَلِيٍّ أَفَضْلُ مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَ مِنْ الْقَاعِدِينَ. (¬1) قال الأستاذ الدكتور محمد أمحزون في خاتمة كتابه القيم (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدّثين): «إن موضوع النزاع والخلاف بين الصحابة - رضي الله عنهم - بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - يجب أن ينظر إليه من زاويتين: الأولى: إن اللوم في تلك الفتنة على العموم يلقى على قتلة عثمان - رضي الله عنه -؛ لأن كل من قُتِل من المسلمين بأيدي إخوانهم منذ قتل عثمان - رضي الله عنه - إنما يقع إثمه عليهم، فهم الذين فتحوا باب الفتنة وكل ما وقع بعد ذلك فإثمه ووزره عليهم، إذ كانوا هم السبب المباشر فيها، وهم الفئة المعتدية الظالمة الباغية التي قتل بسببها كل مقتول في الجمل وصفين وما تفرق عنها من أحداث وآراء ومواقف فتحت باب الخلاف والفرقة بين المسلمين. الثانية: إن ما حدث من جانب الصحابة - رضي الله عنهم - في هذه الفتنة يُحمَل على حسن النية والاختلاف في التقدير والاجتهاد، كما يحمل على وقوع الخطأ والإصابة، ولكنهم على كل حال كانوا مجتهدين وهم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في حالتي الإصابة والخطأ، وإن كان ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ؛ لأن كل فئة كانت لها وجهة نظر تدافع عنها بحسن نية، حيث إن الخلاف بينهم لم يكن بسبب التنافس على الدنيا، وإنما كان اجتهادًا من كل منهم في تطبيق شرائع الإسلام. وقد سئل ابن المبارك عن الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - فقال: «فتنة عصم الله منها سيوفنا فلْنَعصِمْ منها ألسنتَنا» ـ يعني في التحرز من الوقوع في الخطأ والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبًا فيه. وسئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: «قتال شهده أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وغِبْنَا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتَّبَعْنا، واختلفوا فوقَفْنا». (¬2) ويقول النووي - رحمه الله - في شرحه لحديث (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ): «وَأَمَّا كَوْن الْقَاتِل وَالْمَقْتُول مِنْ أَهْل النَّار فَمَحْمُول عَلَى مَنْ لَا تَأْوِيل لَهُ، وَيَكُون قِتَالهمَا عَصَبِيَّة وَنَحْوهَا - ثُمَّ كَوْنه فِي النَّار مَعْنَاهُ مُسْتَحِقّ لَهَا، وَقَدْ يُجَازَى بِذَلِكَ، وَقَدْ يَعْفُو اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. هَذَا مَذْهَب أَهْل الْحَقّ، وَقَدْ سَبَقَ تَأْوِيله مَرَّات، وَعَلَى هَذَا يُتَأَوَّل كُلّ مَا جَاءَ مِنْ نَظَائِره. وَاعْلَمْ أَنَّ الدِّمَاء الَّتِي جَرَتْ بَيْن الصَّحَابَة - رضي الله عنهم - لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي هَذَا الْوَعِيد، وَمَذْهَب أَهْل السُّنَّة وَالْحَقّ إِحْسَان الظَّنّ بِهِمْ، وَالْإِمْسَاك عَمَّا شَجَرَ بَيْنهمْ، وَتَأْوِيل قِتَالهمْ، وَأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُتَأَوِّلُونَ لَمْ يَقْصِدُوا مَعْصِيَة وَلَا مَحْض الدُّنْيَا، بَلْ اِعْتَقَدَ كُلّ فَرِيق أَنَّهُ الْمُحِقّ، وَمُخَالِفه بَاغٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ قِتَاله لِيَرْجِع إِلَى أَمْر اللَّه. وَكَانَ بَعْضهمْ مُصِيبًا، وَبَعْضهمْ مُخْطِئًا مَعْذُورًا فِي الْخَطَأ؛ لِأَنَّهُ لِاجْتِهَادٍ، وَالْمُجْتَهِد إِذَا أَخْطَأَ لَا إِثْم عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلِيّ - رضي الله عنه - هُوَ الْمُحِقّ الْمُصِيب فِي تِلْك الْحُرُوب. هَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة، وَكَانَتْ الْقَضَايَا مُشْتَبِهَة حَتَّى إِنَّ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة تَحَيَّرُوا فِيهَا فَاعْتَزَلُوا الطَّائِفَتَيْنِ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا، وَلَمْ يَتَيَقَّنُوا الصَّوَاب، ثُمَّ تَأَخَّرُوا عَنْ مُسَاعَدَته مِنْهُمْ» (¬3). يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: «وَاتَّفَقَ أَهْل السُّنَّة عَلَى وُجُوب مَنْع الطَّعْن عَلَى أَحَد مِنْ الصَّحَابَة بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ عَرَفَ الْمُحِقّ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا فِي ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (35/ 69 - 79) ط دار الوفاء باختصار يسير. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (16/ 322) في تفسير سورة الحجرات. (¬3) شرح صحيح مسلم (18/ 219 - 220).

تِلْكَ الْحُرُوب إِلَّا عَنْ اِجْتِهَاد وَقَدْ عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْ الْمُخْطِئ فِي الِاجْتِهَاد، بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُؤْجَر أَجْرًا وَاحِدًا وَأَنَّ الْمُصِيب يُؤْجَر أَجْرَيْنِ» (¬1). إن كتابة تاريخ الخلفاء الراشدين بصفة خاصة وتاريخ الصحابة بصفة عامة ـ من زاوية الرصد الإسلامي ـ ضرورة لازمة للأمة الإسلامية وليست نافلة يمكن الاستغناء عنها» اهـ. (¬2) إن البحث فيما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم -، لا يقرب العبد إلى الله زلفى، فهم قد لقوا ربهم وهو أعلم بما شجر بينهم، فإن كان الأمر لا يقربك إلى الله زلفى وإنما قد يقودك إلى النار وأنت لا تعلم، فتجنبه أولى؛ إلا في حالة واحدة، وهي إن ظهر مبتدع مبطل يقدح فيهم بالباطل، فيجب الدفاع عنهم بحق وعدل مع التنبيه إلى أنه لا يدافع عن بعضهم فيقع في سب آخرين منهم، إنما يكون الدفاع عنهم - رضي الله عنهم - جميعًا، وإلا فيجب الصت والإمساك عما شجر بينهم. ومعنى الإمساك عما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم -، هو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات، ونشر ذلك بين العامة، أو التعرض لهم بالتنقّص لفئة والانتصار لأخرى. وهذا هو الذي دل عليه الحديث الثابت عند الطبراني وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» (¬3). وقد فسر المناوي الحديث بأن معناه: ما شجر بينهم ـ أي الصحابة ـ من الحروب والمنازعات (¬4). ¬

_ (¬1) فتح الباري (13/ 37). (¬2) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة للأستاذ الدكتور محمد أمحزون ص601 - 606 بتصرف يسير. (¬3) انظر: السلسة الصحيحة للألباني (1/ 75). (¬4) فيض القدير (2/ 676).

لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة - رضي الله عنهم - ولماذا الدفاع عنهم؟

وإذا كانت أعراض المسلمين بشكل عام مصونة في الإسلام، فأعراض الصحابة وهم أهل الفضل والسابقة والجهاد أولى بالصيانة، والدفاع عنهم قربة لله - عز وجل - وتقديرٌ لمآثرهم وجهادهم. لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة - رضي الله عنهم - ولماذا الدفاع عنهم؟ إن مكمن الخطر في سبهم أو التعريض بهم وبعدالتهم، فهم نقلة الدين والطعن فيهم وسيلة للطعن في الدين. ولما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هم قدوتنا في ديننا وهم حملة الكتاب الإلهي والسنة المحمدية، الذين حملوا عنهم أماناتهم حتى وصلت إلينا، فإن من حق هذه الأمانات على أمثالنا أن ندرأ عن سيرتهم كل ما ألصق بهم من إفك ظلمًا وعدوانا .. حتى تكون صورتهم التي تعرض على أنظار الناس هي الصورة النقية الصادقة التي كانوا عليها، فنحسن الاقتداء بهم وتطمئن النفوس إلى الخير الذي ساقه الله للبشر على أيديهم. والطعن فيهم طعنٌ في الدين الذي هم ورائه. وتشويه سيرتهم تشويه للأمانة التي حملوها وتشكيك في جميع الأسس التي قام عليها كيان التشريع في هذه الملة الحنيفية السمحة. وإن من أسوأ الأخطاء المنهجية والتربوية معًا، تدريس الحروب والخلافات التي وقعت بين الصحابة لتلاميذ المدارس، مع ما يصاحب ذلك من تشويه في العرض، وتقصير في تعريف التلاميذ بمنزلة الصحابة وفضلهم وحقهم على الأمة، حيث ينشأ عن ذلك تعارض في أذهانهم بين الصورة الفطرية التي تصوروها عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وما ينبغي أن يكونوا عليه من الاستقامة، وبين الصورة التي تلقوها من المدرسة، فلا يستطيعون معرفة الحق من ذلك ولا يستوعبونه نظرًا لصغر سنهم، ولقلة ثقافتهم، حتى لو حاولت أن توضح لهم الصورة الصحيحة فإنهم لا يكادون يقتنعون لأن الشبهة التي أثيرت قد انقدحت في أذهانهم.

معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - في سطور

معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - في سطور - هو خال المؤمنين (¬1)، وكاتب وحي رسول الله رب العالمين - صلى الله عليه وآله وسلم -، أمير المؤمنين ملك الإسلام، أبو عبد الرحمن مُعاوية بن أبي سُفيان ـ صَخْر بن حَرْب ـ بن أُمَيَّة بن عبد شَمْس بن عبد مَناف بن قُصي بن كِلاب القرشي الأمويُ المكي، يلتقي نسبُه مع النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في عبدِ مَناف. · وأٌمُّه: هِند بنت عُتبة بن رَبيعة بن عبد شمس - رضي الله عنها -. - وُلد معاوية - رضي الله عنه - قبل البعثة بخمس سنين على الأشهر، وقيل بسبع، وقيل بثلاث عشرة. - وكان معاوية - رضي الله عنه - رجلًا طويلًا أبيضَ جميلًا مهيبًا أجلح (¬2). · ومعاوية - رضي الله عنه - لم يُعرف عنه قبل الإسلام أذىً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، لا بيد، ولا بلسان. · وبعد إسلام أبيه أبي سفيان - رضي الله عنه -:انتقلَ وأهله إلى المدينة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بين معاوية والحُتات بن يزيد المُجاشِعي، وتوفي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو عن معاوية راضٍ. - وصحب معاوية رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكتب الوحي بين يديه مع الكُتَّاب، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. ¬

_ (¬1) فأخته أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. جاء في معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد: «خال المؤمنين: في إطلاق ذلك على إخوان زوجات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قولان للعلماء: المنع، والجواز، وحكاهما الكرماني في (شرح البخاري) ولم يُرَجِّحْ». (¬2) من انْحَسَرَ الشَّعرُ عن مقَدَّم رأسِه فهو أَجْلَحُ.

· رُوي له عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مائة حديث وثلاث وستون حديثًا، روى عنه من الصحابة ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو الدرداء وجرير البجلي والنعمان بن بشير وغيرهم، ومن التابعين ابن المسيب وحميد بن عبد الرحمن وغيرهما. · مكث معاوية - رضي الله عنه - عشرين سنة أميرًا على الشام في خلافة عمر وخلافة عثمان - رضي الله عنهما -، ثم خليفةً للمسلمين مثلَها. - فتح معاوية - رضي الله عنه - قيسارية (¬1) سنة تسع عشرة في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. - وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرص. - ولم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها. - ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان - رضي الله عنهم -، على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم، وكان الحق والصواب مع علي - رضي الله عنه -، ومعاوية - رضي الله عنه - معذور عند جمهور العلماء سلفًا وخلفًا. - وقد شهدت الأحاديث الصحيحة بالإسلام للفريقين من الطرفين ـ أهل العراق وأهل الشام ـ (¬2). ¬

_ (¬1) قيسارية وتلفظ أيضا (قيسرية أو قيصرية)، مدينة كانت من أهم المدن في دولة سلاجقة الروم، تقع جنوبي مدينة سيواس إلى الشرق. وهناك مدينة بهذا الاسم في فلسطين تقع على ساحل البحر المتوسط في منتصف الطريق بين مدينتي حيفا ويافا. (¬2) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ» (رواه مسلم). قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «هَذِهِ الرِّوَايَات صَرِيحَة فِي أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - كَانَ هُوَ الْمُصِيبَ الْمُحِقَّ، وَالطَّائِفَة الْأُخْرَى أَصْحَاب مُعَاوِيَة - رضي الله عنه - كَانُوا بُغَاة مُتَأَوِّلِينَ، وَفِيهِ التَّصْرِيح بِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ مُؤْمِنُونَ لَا يَخْرُجُونَ بِالْقِتَالِ عَنْ الْإِيمَان وَلَا يَفْسُقُونَ».

- ولما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي - رضي الله عنهما - ما كان، لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي علي - رضي الله عنه -، وطمع في معاوية ملكُ الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي - رضي الله عنهما - تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: «والله لئن لم تَنْتَهِ وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطَلِحَنَّ أنا وابن عمي عليك، ولأخرِجَنَّك من جميع بلادك، ولأضَيِّقَنَّ عليك الأرض بما رحبت». فعند ذلك خاف ملك الروم وانكَفَّ، وبعث يطلب الهدنة (¬1). - ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فانعقدت الكلمة على معاوية - رضي الله عنه -، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين للهجرة، فلم يزل مستقلًا بالأمر في هذه المدة إلى السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم تَرِدُ إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو. - وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، ويأمر رجلًا من قومه فيحج بالناس، وحج هو سنة خمسين، وحج ابنه يزيد سنة إحدى وخمسين. - وفيها أو في التي بعدها غزا ابنه يزيد بلاد الروم فسار معه خلق كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القسطنطينية، وقد ثبت في صحيح البخاري قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِى يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ». · وكان معاوية - رضي الله عنه - من الموصوفين بالدهاء والحِلم. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية لابن كثير (8/ 127).

· وكان يُضرَب بحِلم معاوية - رضي الله عنه - المثل. - وكان معاوية - رضي الله عنه - أول من اتخذ ديوان الخاتم وختم الكتب، وديوان الخاتم شبيه بدائرة السجلات أو الأرشيف العام في الوقت الحاضر. · وقد عين معاوية - رضي الله عنه - موظفين مشرفين على هذا الديوان. · توفي معاوية - رضي الله عنه - بدمشق في رجب سنة ستين. · أغمي عليه ثم أفاق فقال لأهله: «اتقوا الله فإن الله تعالى يقي من اتقاه، ولا يقي من لا يتقي»، ثم مات - رحمه الله -. - وقد ورد من غير وجه أنه أوصى أن يكفن في ثوب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي كساه إياه، وكان مدخرًا عنده لهذا اليوم. - ومن أشهر أولاده يزيد. · وعاش معاوية ثمانية وسبعين عامًا، وقيل غيرُ ذلك، - رضي الله عنه -.

أبو سفيان بن حرب والد معاوية - رضي الله عنهما -

أبو سفيان بن حرب والد معاوية - رضي الله عنهما - كان أبو سفيان - رضي الله عنه - من سادات قريش ومن عتاة الجاهلية الذين حاربوا الإسلام. إلا أن الله - عز وجل - أراد الهداية له؛ فأسلم قبل فتح مكة بقليل، وقد حَسُن إسلامُه وقدم خدمات جليلة للإسلام، فقد كان مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حُنَيْن، وشارك في حصار الطائف وفقد إحدى عينيه فيها، وفي اليرموك فقد الثانية، وبعد ثقيف أرسله رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مع المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - لهدم اللات ـ صنم ثقيف ـ، وقد كانت اللات معظمة عند قريش كذلك، وكانوا يحلفون بها. ورُوي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: «فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل واحد يقول: «يا نصر الله اقترب، والمسلمون يقتتلون هم والروم»، فذهبتُ أنظر فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد». ورُوي أنه كان يوم اليرموك يقف على الكراديس: فيقول للناس: الله الله إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهمَّ هذا يوم من أيامك، اللهمَّ أنزل نصرك على عبادك» (¬1). ¬

_ (¬1) التبيين في أنساب القرشيين ص 203 عن الدولة الأموية للصلابي. والكُرْدُوسَةُ: قِطْعَةٌ عظيمةٌ من الخَيْلِ، أو الكتيبة من الجند، وكَرْدَسَ الخيلَ جَعَلَهَا كتيبَةً كتيبَةً.

هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية - رضي الله عنهما -

هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية - رضي الله عنهما - أسلمت - رضي الله عنها - يوم الفتح، بعد إسلام زوجها أبي سفيان - رضي الله عنه -، ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من بيعة الرِّجال، بايع النساء، وفيهنَّ هند بنت عتبة، وقد بايعن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من غير مصافحة، فقد كان لا يصافح النساء، ولا يمس يد امرأة إلا امرأة أحلّها الله له، أو ذات محرم منه. ولما أسلمت هند وبايعت عادت إلى بيتها فجعلت تكسر صنمًا كان عندها وهي تقول: «كنتُ مِنْكَ في غرور» (¬1). موقف في الجاهلية: وكان لهند في جاهليتها موقف مع زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقد كانت بمكة مع زوجها أبي العاص بن الربيع وأرسل النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من يأتيه بها إلى المدينة، وكان ذلك بعد (غزوة بدر) ولم تجِفّ دماء قريش بعد، وكانت هند قد أصيبت بأبيها وأخيها وعمها، وكانت تطوف على مجالس قريش وأنديتها تُذكي نار الثأر، وتؤجج أوار الحرب. وفي الطريق لقِيَتْ زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكان قد تسرَّب خبر استعدادها للخروج لأبيها فقالت هند: «أي بنت محمد: بلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك!! .. أي ابنة عمي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يعينك في سفرك، أو بمال تبلغين به إلي أبيك، فعندي حاجتك فلا تستحي مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما يكون بين الرجال». تروي زينب - رضي الله عنها - ذلك، وتقول: «ووالله ما أراها قالت إلا لتفعل». ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 172).

ثم يوم خروج زينب يتعرض لها رجال من قريش، يريدون إرجاعها، فتسقط من على ناقتها وكانت حاملًا، فتنزف، وتسمع هند، فتخرج مسرعة، وتقول لقومها: «أين كانت شجاعتكم يوم بدر؟». وتحُولُ بينهم وبين زينب وتضمها إليها وتمسح عنها ما بها، وتصلح شأنها، حتى استأنفت الخروج إلى أبيها في أمن وأمان» (¬1). ¬

_ (¬1) الدولة الأموية للصلابي عن (نحو رؤية جديدة للتاريخ ص 200، ص 208)، (فرسان من عصر النبوة ص 853).

من إخوان وأخوات معاوية - رضي الله عنه

من إخوان وأخوات معاوية - رضي الله عنه - يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنه -: كان يقال له يزيد الخير، أسلم يوم الفتح وشهد حُنَيْنًا، واستعمله أبو بكر - رضي الله عنه - على أول الجيوش التي أرسلها إلى الشام. ولما فُتِحَت الشام في عهد الفاروق عمر وَلّى يزيدَ بنَ أبي سفيان فلسطين وناحيتها، ثم لما مات أبو عبيدة استخلف معاذ بن جبل، فلما مات معاذ بن جبل استخلف يزيد بن أبي سفيان، ثم مات يزيد فاستخلف أخاه معاوية - رضي الله عنهم - جميعًا. أم حبيبة بنت أبي سفيان - رضي الله عنها -: هي رملة بنت أبي سفيان زوج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تكنى أم حبيبة وهي بها أشهر من اسمها، ولدت - رضي الله عنها - قبل البعثة بسبعة عشر عامًا، وكانت قبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عند عبيد الله بن جحش بن رباب بن يعمر الأسدي من بني أسد بن خزيمة، فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة فولدت حبيبة ومات زوجها - رضي الله عنه - بالحبشة (¬1)،وهي أقرب أزواجه نسبًا إليه وأكثرهن صداقًا - رضي الله عنه - اوأرضاها (¬2). قال الإمام الذهبي عنها: «وَهِيَ مِنْ بَنَاتِ عَمِّ الرَّسُوْلِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَيْسَ فِي أَزْوَاجِهِ مَنْ هِيَ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَيْهِ مِنْهَا، وَلاَ فِي نِسَائِهِ مَنْ هِيَ أَكْثَرُ صَدَاقًا مِنْهَا، وَلاَ مَنْ تَزَوَّجَ بِهَا وَهِيَ نَائِيَةُ الدَّارِ أَبْعَدُ مِنْهَا. عُقِدَ لَهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِالحَبَشَةِ، وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ صَاحِبُ الحَبَشَةِ أَرْبَعَ مائَةِ دِيْنَارٍ، وَجَهَّزَهَا بِأَشْيَاءَ (¬3). ¬

_ (¬1) من القصص المختلقة الواهية قصة ارتداد عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة - رضي الله عنهما - عن الإسلام وتنَصُّرُه بالحبشة. (انظر تحقيق دعوى ردة عبيد الله بن جحش لمحمد بن عبد الله العوشن). (¬2) الطبقات لابن سعد (8/ 96 - 100) مجمع الزوائد (9/ 249). (¬3) سير أعلام النبلاء (3/ 193).

تاريخ إسلام معاوية - رضي الله عنه -

تاريخ إسلام معاوية - رضي الله عنه - اختَلف العلماء في تحديده على قولين مشهورين، أحدهما أنه أسلم في فتح مكة سنة ثمان، والآخر أنه قَبل ذلك، ولكلّ من الفريقين أدلتُهم. ورجَّح الحافظ ابن حجر في (الإصابة) أن معاوية - رضي الله عنه - أسلم سنة سبع من الهجرة، وجَزَم في (تقريب التقريب) أيضا أنه أسلم قبل الفتح. وقد قال مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي: «أسلم قبل أبيه في عُمرة القَضاء، وبقيَ يخاف من الخروج إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من أبيه»، ثم قال: «وأظهر إسلامه يوم الفتح» (¬1). قال الحافظ ابن كثير: «ورُوِي عنه أنه قال: أسلمتُ يوم القضية ولكن كتمتُ إسلامي من أبي، ثم علم بذلك فقال لي: هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه، فقلت له: «لم آل نفسي جهدًا». عن عمر بن عبد الله العنسي قال: قال معاوية: «لما كان عامُ الحُديبية، وصدُّوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن البيت، وكتبوا بينهم القضية، وقع الإسلام في قلبي، فذكرت لأمي، فقالت: «إياك أن تخالف أباك»، فأخفيتُ إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الحديبية وإنّي مصدّقٌ به، ودخل مكة عام عُمرة القضية وأنا مسلم. وعلم أبو سفيان بإسلامي، فقال لي يومًا: «لكن أخوك خيرٌ منك وهو على ديني»، فقلت: «لم آلُ نفسي خيرًا»، وأظهرتُ إسلامي يوم الفتح، فرحَّب بي النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكتبتُ له» (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ الإسلام (4/ 308). (¬2) البداية والنهاية (4/ 501)، الطبقات لابن سعد (7/ 406)، وتاريخ ابن عساكر (16/ 339).

حقيقة ما حدث بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما -

حقيقة ما حدث بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - يرجع أصل هذه القضية إلى استشهاد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على أيدي المنافقين وتأجيل علي - رضي الله عنه - إقامة القصاص على قتلة عثمان، مما أدى إلى مطالبة معاوية لعلي بتسليمه قتلة عثمان. قال الحافظ ابن حجر: «وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى بْن سُلَيْمَان الْجُعْفِيُّ أَحَد شُيُوخ الْبُخَارِيّ فِي (كِتَاب صِفِّينَ) فِي تَأْلِيفه بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ أَبِي مُسْلِم الْخَوْلَانِيّ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «أَنْتَ تُنَازِع عَلِيًّا فِي الْخِلَافَة أَوَ أَنْتَ مِثْله؟». قَالَ: لَا، وَإِنِّي لَأَعْلَم أَنَّهُ أَفْضَل مِنِّي وَأَحَقّ بِالْأَمْرِ، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَان قُتِلَ مَظْلُومًا وَأَنَا اِبْن عَمّه وَوَلِيّه أَطْلُب بِدَمِهِ؟ فَأْتُوا عَلِيًّا فَقُولُوا لَهُ يَدْفَع لَنَا قَتَلَة عُثْمَان». فَأَتَوْهُ فَكَلَّمُوهُ فَقَالَ: «يَدْخُل فِي الْبَيْعَة وَيُحَاكِمهُمْ إِلَيَّ». فَامْتَنَعَ مُعَاوِيَة فَسَارَ عَلِيّ فِي الْجُيُوش مِنْ الْعِرَاق حَتَّى نَزَلَ بِصِفِّينَ، وَسَارَ مُعَاوِيَة حَتَّى نَزَلَ هُنَاكَ وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّة سَنَة سِتّ وَثَلَاثِينَ، فَتَرَاسَلُوا فَلَمْ يَتِمّ لَهُمْ أَمْر، فَوَقَعَ الْقِتَال») (¬1). فأصل الخلاف لم يكُنْ حول اعتراض معاوية على أحقية علي بالخلافة، بل كان بسبب تأجيل إقامة القصاص على قتلة عثمان إذ كان علِيٌّ يرى تأجيل إقامة القصاص على قتلة عثمان حتى تستتب له الأمور بعد استشهاد عثمان - رضي الله عنهم - أجمعين. ولا شك أن الحق الذي سعى إليه علي - رضي الله عنه - مقدم على الحق الذي سعى له معاوية - رضي الله عنه -، إذًا فالمسألة تتعلق بالأولويات وهو ما فقهه علي - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) فتح الباري (13/ 92).

وروى ابن عساكر من طريق سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: ذكر عند عليّ يوم صِفِّين ـ أو يوم الجمل ـ فذكرنا الكفر، قال: «لا تقولوا ذلك، زعموا أنا بغَيْنَا عليهم، وزعمْنا أنهم بغَوْا علينا؛ فقاتلناهم على ذلك» (¬1). يقول الحافظ ابن كثير: «ثم كان ما كان بينه ـ أي معاوية ـ وبين علي بعد قتل عثمان على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم ... وكان الحق والصواب مع علي، ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفًا وخلفًا» (¬2)). ويقول ابن خلدون: «ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي، أو لإيثار باطل، أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم، وينزع إليه ملحد، وإنما اختلف اجتهادهم في الحق، وسفه كل واحد نظر صاحبه في اجتهاده في الحق، فاقتتلوا عليه، وإن كان المصيب عليًّا، فلم يكن معاوية قائمًا فيها بقصد الباطل وإنما قصد الحق وأخطأ، والكل كانوا في مقاصدهم على الحق» (¬3). وخلاصة القول أن عليًّا ومعاوية - رضي الله عنهما - كانا يسعيان إلى الحق ولا شيء سوى ذلك، لكن عليًا كان هو الأقرب إلى الحق والدليل في ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ». وَقَدْ أَخْرَجَ اِبْن عَسَاكِر عَنْ أَبِي الْقَاسِم اِبْن أَخِي أَبِي زُرْعَة الرَّازِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُل إِلَى عَمِّي فَقَالَ لَهُ: «إِنِّي أُبْغِض مُعَاوِيَة»، قَالَ لَهُ: «لِمَ؟»، قَالَ: «لِأَنَّهُ قَاتَلَ عَلِيًّا بِغَيْرِ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق (1/ 343)، وإسناده صحيح. (¬2) البداية والنهاية (8/ 126). (¬3) المقدمة (1/ 257).

حَقّ»؛ فَقَالَ لَهُ أَبُو زُرْعَة: «رَبّ مُعَاوِيَة رَبّ رَحِيم، وَخَصْم مُعَاوِيَة خَصْم كَرِيم، فَمَا دُخُولُك بَيْنَهُمَا؟» (¬1). وشهد شاهد من أهلها: تذكر مصادر الشيعة الاثني عشرية أن معاوية ما قاتل عليًّا إلا في أمر عثمان - رضي الله عنهم -، وهذا هو ما يؤكده عليّ - رضي الله عنه - فقد أورد الشيعي الشريف الرضي في كتابه (نهج البلاغة) خطبة نسب فيها لعليٍّ - رضي الله عنه - قوله: «وبدءُ أمرِنا أنّا التقَينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله، ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء» (¬2). فهذا عليّ - رضي الله عنه - يؤكد أن الخلاف بينه وبين معاوية هو مقتل عثمان - رضي الله عنهم - جميعًا وليس من أجل الخلافة أو التحكم في رقاب المسلمين كما يدعي الشيعة، ويقرر أن معاوية وشيعته هم أهل إسلام وإيمان ولكن القضية اجتهادية كل يرى نفسه على الحق في مسألة عثمان. ولقد ذكر الحميري الشيعي عن جعفر عن أبيه أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يقول لأهل حربه: «إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ولم يقاتلونا على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنّا على حق ورأوا أنهم على حق». وروى رواية أخرى عن جعفر عن أبيه محمد الباقر: «إن عليًا - عليه السلام - لم يكن ينسب أحدًا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكن يقول: «هم إخواننا بغوا علينا» (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق (59/ 141). (¬2) نهج البلاغة (3/ 648). (¬3) قرب الإسناد للحميري الشيعي (ص45) ط. إيران.

التحكيم

التحكيم (¬1) إن أمير المؤمنين عليًّا - رضي الله عنه - قَبِلَ وقف القتال في صِفِّين (¬2) ورضي التحكيم وعَدَّ ذلك فتحًا ورجع إلى الكوفة، وعلّق على التحكيم آمالًا في إزالة الخلاف وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح من جديد. ولكن قتلة عثمان كانوا حريصين على أن تستمر المعركة بين الطرفين، حتى يتفانى الناس، وتضعف قوة الطرفين، فيكونوا بمنأى عن القصاص والعقاب، ولذلك فإنهم فزعوا وهم يرون أهل الشام يرفعون المصاحف، وعليٌّ - رضي الله عنه - يجيبهم إلى طلبهم فيأمر بوقف القتال وحقن الدماء فسعوا إلى محاولة ثَنْي أمير المؤمنين في عزمه لكن القتال توقف، فسقط في أيديهم، فلم يجدوا بدًا من الخروج على عليٍّ - رضي الله عنه - فاخترعوا مقولة (الحكم لله) وتحصنوا بعيدًا عن الطرفين. تم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صِفِّين، وهو أن يحكّم كل واحد منهما رجلًا من جهته ثم يتّفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص ووكل عليُّ أبا موسى الأشعري - رضي الله عنهم - جميعًا، وكُتِبَ بين الفريقين وثيقة في ذلك، وكان مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل في شهر رمضان سنة 37هـ. وقد رأى قسم من جيش علي - رضي الله عنه - أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر فعليه أن يتوب إلى الله تعالى وخرجوا عليه فسموا الخوارج، فأرسل علي - رضي الله عنه - إليهم عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - فناظرهم وجادلهم، ثم ناظرهم عليٌّ - رضي الله عنه - بنفسه فرجعت طائفة منهم ¬

_ (¬1) بتصرف من كتاب (الدولة الأموية) للدكتور علي الصلابي (178 - 202). (¬2) صِفَّين: بكسرتين وتشديد الفاء، موضع بقرب الرقة على شاطىء الفرات من الجانب الغربىِ بين الرَقة وبالس، وكانت وقعة صِفِّين بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - في سنة 37 في غرة صفر. (باختصار من معجم البلدان).

وأبَتْ طائفةٌ أخرى، فجرت بينهم وبين علي - رضي الله عنه - حروب أضعفت من جيشه وأنهكت أصحابَه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة. نَصّ وثيقة التحكيم بسم الله الرحمن الرحيم 1ـ هذا ما تقاضى عليه عليُّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما، فيما تراضَيَا فيه من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -. 2ـ قضية علي على أهل العراق شاهدهم وغائبهم، قضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم. 3 ـ إنّا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته، نُحيي ما أحْيى ونُميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا. 4 ـ وإن عليًّا وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس (¬1) ناظرًا وحاكمًا، ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظرًا وحاكمًا. 5 ـ عليٌّ ومعاوية - رضي الله عنهما - أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذِمّته وذِمّة رسوله، أن يتخذا القرآن إمامًا ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورًا وما لم يجدا في الكتاب ردّاه إلى سنة رسول الله الجامعة، لا يتعمّدان لها خلافًا، ولا يبقيان فيها بشبهة. 6 ـ وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على عليٍّ ومعاوية عهدَ الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه وليس لهما أن ينقُصا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره. 7 ـ وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما، لم يَعْدُوَا الحق، رضي به راض أو سخط ساخط، وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله. ¬

_ (¬1) أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -.

8 ـ فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلًا من أهل المعدلة والصلاح، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق. 9 ـ وإن مات أحد الأميرين قبل إنقضاء الأجل المحدود في هذه القضية، فلشيعته أن يُوِلوّا مكانه رجلًا يرضون عدله. 10 ـ وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح. 11 ـ وقد وجبت القضية على ما سمّيناه في هذا الكتاب، من موقع الشرط على الأميرين والحَكمين والفريقين والله أقرب شهيد وكفى به شهيدًا، فإن خالفا وتعدّيا، فالأمّة بريئة من حُكمهما، ولا عهد لهما ولا ذِمّة. 12 ـ والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل، والسلاح موضوع، والسبل آمنة، والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر. 13 ـ وللحَكمين أن ينزلا منزلًا متوسطًا عدلًا بين أهل العراق والشام. 14 ـ ولا يحضرهما فيه إلا من أحبَّا عن تراضٍ بينهما. 15 ـ والأجل إلى انقضاء شهر رمضان، فإن رأى الحَكمان تعجيل الحكومة عجّلاها، وإن رَأَى تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها. 16 ـ فإن هما لم يحكُما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل، فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب. 17 ـ وعلى الأمّة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر، وهم جميعًا يد واحدة على من أراد في هذا الأمر إلحادًا أو ظلمًا أو خلافًا. وكتب يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الوثائق السياسية (537 - 538)، الأخبار الطوال للدينوري (196 ـ 199)، أنساب الأشراف (1/ 382)، تاريخ الطبري (5/ 665، 666)، البداية والنهاية (7/ 276، 277).

بطلان قصة التحكيم المشهورة

بطلان قصة التحكيم المشهورة (¬1) إن قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة وقد تاه فيها كثير من الكتاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام وخصوصًا: أبا موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعًا في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة؛ ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضيّة التحكيم، ووصفوا عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بأنه كان صاحب مكر وخداع. فكل هذه الصفات الذميمة حاول المغرضون والحاقدون على الإسلام إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين الذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدّى إلى قتل الكثير من المسلمين. وقد تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء والباحثين مع الروايات التي وضعها خصوم الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - على أنها حقائق تاريخية، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها، وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في اهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها، وليعلم ¬

_ (¬1) بتصرف من كتاب (الدولة الأموية) للدكتور علي الصلابي (203 - 218). وانظر: الإنصاف فيما وقع في تاريخ العصر الراشدي من الخلاف - للدكتور حامد محمد الخليفة (ص533). حقبة من التاريخ - للشيخ عثمان الخميس (ص84). العواصم من القواصم - للقاضي أبو بكر بن العربي (ص117). إبطال قصة التحكيم الشهيرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - للشيخ سليمان بن صالح الخراشي على موقع صيد الفوائد http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/11.htm حيث نقل كلام الشيخ محمد العربي التباني عن هذه القصة من كتابه (تحذير العبقري من محاضرات الخضري، 2/ 86 - 91).

أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم حيث أن أصله حق لا شك فيه (¬1). إن قصة تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص في الخلاف الذي كان بين علي ومعاوية ـ رضي الله عن الجميع ـ مشهورة ذائعة في كتب الأخباريين وأهل الأدب، وفيها ما فيها من لمز الصحابة - رضي الله عنهم - بما ليس من أخلاقهم. لقد كثر الكلام حول هذه القصة الباطلة، وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبانٍ للأحكام على مضامينها وقلما تجد أحدًا وقف عندها فاحصًا محققًا، وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالًا دون أن يُفَصّل وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص. وقد فند هذه القصة الباطلة: الدكتور يحيى اليحيى في (مرويات أبي مخنف). وقد أجاد الشيخ محمد العربي التباني في إبطالها في رده على محمد الخضري المؤرخ في كتابه (تحذير العبقري من محاضرات الخضري). إن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة من عدة وجوه (¬2). الوجه الأول: أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند رجالة ثقات عن الزهري مرسلًا قال: قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصاحفهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراق، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص فتعرق أهل صِفِّين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن ويخفضا من خفض ¬

_ (¬1) مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري (ص 378). (¬2) نفس المصدر (ص 404).

القرآن، وأن يختار لأمّة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح. فلما انصرف عليّ خالفت الحرورية وخرجت ـ وكان ذلك أول ما ظهرت ـ فآذنوه بالحرب، وردوا عليه: أن حكَّم ابن آدم في حكم الله - عز وجل -، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه، فلما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشّام، وأبَى علي وأهل العراق أن يوافوا، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحدًا من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يفترقان؟ قالوا: لا نرى أحدًا يعلم ذلك. قال: فوالله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأرجعهما، فدخل على عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة، فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمّة، قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو، وقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأيًا، فيكم بقية المسلمين. فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد. فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشّام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها فكتبها أبو موسى. قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن نسمي رجلًا يلي أمر هذه الأمة؟ فسَمِّه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك علَيَّ أن أتابعك، وإلا فلي عليك أن تتابعني!

قال أبو موسى: أسمي لك عبد الله بن عمر، وكان ابن عمر فيمن اعتزل؛ قال عمرو: إني أسمي لك معاوية بن أبي سفيان. فلم يبرحا مجلسهما حتى استبَّا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: «إني وجدت مثَلَ عمرو كمَثَلِ الذي قال الله - عز وجل -: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} (الأعراف:175). فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال الله - عز وجل -: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الجمعة:5). وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار (¬1). تحقيق هذه القصة: الزهري لم يدرك الحادثة فهي مرسلة، ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة (¬2)، كما قرّر العلماء. * وهناك طريق أخرى أخرجها ابن عساكر بسنده إلى الزهري وهي مرسلة وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد: كان يضع الحديث. وفي سندها أيضًا الواقدي، وهو متروك (¬3). وهذا نصها: « ... رفع أهل الشّام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتابًا على أن يوافوا رأس الحول أذرح، وحكموا حكمين ينظرون في أمور الناس فيرضوا بحكمها، فحكّم عليٌّ أبا موسى الأشعري، وحكَّم معاوية عمرو بن العاص. ¬

_ (¬1) المصنف (5/ 463)، مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري (ص 406). (¬2) المراسيل لأبي حاتم (ص 3)، الجرح والتعديل (1/ 246). (¬3) تهذيب التهذيب (12/ 27)، مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري (ص 406).

وتفرق الناس فرجع عليٌّ إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كان معه، وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حُكْم إلا لله ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه. ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين، واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية، فقدم أبا موسى فتكلم وخلع عليًّا ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع عليًا وأقر معاوية، فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما وبايع أهل الشام ومعاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين» (¬1). *وهناك طريق أخرى فيها أبو مخنف وأبو جناب الكلبي فهي معلولة بهما: فالأول: أبو مخنف ـ لوط بن يحيى ـ ضعيف ليس بثقة، وأخباري تالف غالٍ في الرفض. والثاني: أبو جناب الكلبي قال فيه ابن سعد: «كان ضعيفًا». وقال البخاري وأبو حاتم: «كان يحيى القطان يضعفه». وقال عثمان الدارمي: «ضعيف»، وقال النسائي: «ضعيف» (¬2). وهذا نص رواية أبي مخنف كما ذكرها الطبري في (تاريخ الرسل والملوك 5/ 70 - 71): «قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي أن عمرًا وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل، أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام، يقول: «إنك صاحب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنت أسَنّ مني، فتكلم وأتكلم». ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق لابن عساكر (16/ 53). (¬2) انظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدّثين) للأستاذ الدكتور محمد أمحزون (2/ 223)، مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري (ص 407)، التاريخ الكبير للبخاري (4/ 267)، الجرح والتعديل (9/ 138). التاريخ للدارمي (ص 238)، الضعفاء والمتركون (ص 253).

فكان عمرو قد عوَّد أبا موسى أن يقدمه في كل شيء، اعتزى (¬1) بذلك كله أن يقدمه فيبدأ بخلع عَلِيٍّ. قال: فنظرا في أمرهما وما اجتمعا عليه، فأراده عمرو على معاوية فأبى، وأراده على ابنه فأبى، وأراد أبو موسى عمْرًا على عبد الله بن عمر فأبى عليه. فقال له عمرو: «خبرني ما رأيك؟». قال: «رأيي أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا». فقال له عمرو: «فإن الرأي ما رأيت». فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال: «يا أبا موسى، أعْلِمْهم بأن رأيَنَا قد اجتمع واتفق»، فتكلم أبو موسى فقال: «إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله - عز وجل - به أمر هذه الأمة». فقال عمرو: «صدق وبرّ، يا أبا موسى، تقدم فتكلم». فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: «ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك. إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك، ثم تكلم أنت بعده، فإنّ عَمْرًا غادر، ولا آمن من أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك»، ـ وكان أبو موسى مغفّلًا ـ فقال له: «إنا قد اتفقنا». فتقدم أبو موسى فحمد الله - عز وجل - وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نَرَ أصلحَ لأمرِها، ولا ألَمَّ لشعثها من أمرٍ قد أجمع رأيي ورأيُ عمرو عليه؛ وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليًا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم. وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلًا»، ثم تنحى. ¬

_ (¬1) اعتزى: أي قصد.

وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه. وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه». فقال أبو موسى: «ما لك لا وفقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث». قال عمرو: «إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا». وحمل شريح بن هانىء على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل على شريح ابنٌ لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم. وكان شريح بعد ذلك يقول: «ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسيف آتيًا به الدهر ما أتى». والتمس أهل الشام أبا موسى فركب راحلته ولحق بمكة! قال ابن عباس: «قبح الله رأي أبي موسى حذرته وأمرته بالرأي فما عقل». فكان أبو موسى يقول: «حذرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه، وظننت أنه لن يؤثر شيئًا على نصيحة الأمة». ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، وسلموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانىء إلى علي، وكان إذا صلى الغداة يقنت فيقول: «اللهم العن معاوية وعمرًا وأبا الأعور السلمي وحبيبًا وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد».فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليًّا وابن عباس والأشتر وحسنًا وحسينًا». هذه طرق قصة التحكيم المشهورة، والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة، أفمثل هذا تقوم به حجة، أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام

وعهد الخلفاء الراشدين، عصر القدوة والأسوة، ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفًا فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها (¬1). وتأمل ما وضعنا تحته خطًا في الرواية الأخيرة لتعلم مدى جُرم هؤلاء الكذابين في الافتراء على صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإظهارهم بمظهر أهل السبّ واللعن والغدر. الوجه الثاني من أوجه بطلان قصة التحكيم المشهورة: إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين عليٍّ ومعاوية - رضي الله عنهما -، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طُلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قرارًا في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك أنهما لم يَفْقَهَا موضوع النزاع، ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو مستبعد جدّا (¬2). ولم يكن معاوية - رضي الله عنه - مدعيا للخلافة ولا منكرًا حق عليّ - رضي الله عنه - فيها كما تقرر سابقًا، وإنما كان ممتنعًا عن بيعته وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبًا عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيدًا من طاعة الناس له بعد أن بقي واليًا فيها زهاء عشرين سنة (¬3). الوجه الثالث: ليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات أن كل من لم يرضَ بإمامه خلعه، فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده، وهم أهل الحل والعقد، وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامة، وهل علي - رضي الله عنه - فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك، فما ظهر منه قط إلى ¬

_ (¬1) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري (ص 408). (¬2) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/ 225). (¬3) نفس المصدر (2/ 234).

أن مات - رضي الله عنه -، شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل، والجد والبر والتقوى والخير (¬1). الوجه الرابع: أن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة، وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة له، فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة! لا شك أن الأحوال ستزداد سوءًا، والصحابة الكرام - رضي الله عنهم - أحذق وأعقل من أن يُقْدِموا على هذا، وبهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلًا ونقلًا. الوجه الخامس: هذه الرواية المكذوبة تطعن في أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - بأنه مغفل وهذا طعْن في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي ولاه على تهائم اليمن زبيد وعدن وغيرهما وهو مغفل. والطعنُ فيه بما ذكر طعنٌ في عمر - رضي الله عنه - الذي ولاه أميرًا على البصرة وقائدًا على جيشها فافتتح الأهواز وأصبهان، وكتب عمر في وصيته: «لا يقر لي عامل أكثر من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين». فكيف يقرّ عمر - رضي الله عنه - أبا موسى الأشعري أربع سنين وهو مغفل؟!!! فهؤلاء الوضاعون الكائدون للإسلام ورجاله مغفلون لا يحسنون وضع الأباطيل؛ لأنهم يأتون فيها بما يظهر بطلانها في بادئ الفهم الصحيح لكل مسلم. الوجه السادس: ما نقصت هذه الخديعة ـ لو صحت ـ مما كان لأمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنه - عند أتباعه شيئًا وما أفادت معاوية - رضي الله عنه - شيئًا جديدًا زائدًا عما كان له حتى يصح أن يقال فيها إن فلانًا داهية كاد أمة من المسلمين بكيد مقدمها ومحكمها، وغاية أمرها أنها أشبه بعبث الأطفال لا تتجاوز العابث والمعبوث به، وبرَّأ الله تعالى أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من هذا العبث. ¬

_ (¬1) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 238).

الوجه السابع: لا يخلو قول عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فيما زعموا عليه: «وأثبت صاحبي معاوية» من أمرين: الأول: تثبيته في الخلافة كما كان أولًا، وهذا هو المتبادر من لفظ التثبيت، وهو باطل قطعًا؛ فإنه لم يقل أحد ينتسب إلى الإسلام إن معاوية - رضي الله عنه - كان خليفة قبل التحكيم حتى يثبّته حَكمه فيها بعده، ولم يدَّعِها هو لا قبله ولا بعده، ولم ينازع عليًّا - رضي الله عنه - فيها. الثاني: تثبيته على إمارة الشام كما كان قبل، وهذا هو المتعين دراية وإن لم يصح رواية، وهو تحصيل الحاصل، وأي دهاء امتاز به على أبي موسى في تحصيل الحاصل؟ وأي تغفيل يوصم به أبو موسى مع هذا العبث؟ فهل زاد به معاوية شيئًا جديدًا لم يكن له من قبل؟ وهل نقص به علي عما كان له قبل؟ الوجه الثامن: لا يخفى ما تنطوي عليه هذه الروايات من قدح وذمّ في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - واتهام بعضهم بالغدر والخيانة وسب ولعن بعضهم بعضًا , وما يخالف هذا امتداح الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم - رضي الله عنهم -. الوجه التاسع: وردت رواية صحيحة تناقض تلك الروايات تمامًا، وذلك فيما أخرجه البخاري في (التاريخ الكبير) بسند صحيح، أن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لما جاء التحكيم التقى مع أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - فقال له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: «أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو عنهم راض» (¬1). فقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: «فأين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟». قال: «إن يستَعِن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما (¬2). ثم انتهى الأمر على هذا فرجع عمرو بن العاص إلى معاوية - رضي الله عنهما - بهذا الخبر ورجع أبو موسى الأشعري إلى عليٍّ - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) أي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬2) التاريخ الكبير (5/ 398).

والصلح خير

والصلح خير كانت بيعة الحسن بن علي - رضي الله عنهما - في شهر رمضان من سنة 40 هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم المرادي , وقد اختار الناس الحسن بعد والده - رضي الله عنهما - ولم يعين أمير المؤمنين أحدًا من بعده, وقد اشترط الحسن بن علي - رضي الله عنه - على أهل العراق عندما أرادوا بيعته، فقال لهم: «والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم». قالوا: «ما هو؟». قال: «تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت». ويستفاد من ذلك ابتداء الحسن - رضي الله عنه - في التمهيد للصلح فور استخلافه وقد باشر الحسن بن علي سلطته كخليفة, فرتب العمال وأمّر الأمراء وجند الجنود وفرق العطايا، وكان في وسعه أن يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد معاوية ,وكانت شخصيته الفذة من الناحية العسكرية والأخلاقية, والسياسية, والدينية تساعده على ذلك، إلا أن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - , مالَ إلى السلم والصلح لحقن الدماء, وتوحيد الأمة, والرغبة فيما عند الله، وزهده في الملك، وغير ذلك من الأسباب. وقد قاد الحسن بن علي مشروع الإصلاح الذي تُوّج بوحدة الأمة. وقد تنازل الحسن بن علي - رضي الله عنهما - من موقف قوة فقد اختير الحسن بن علي بعد والده - رضي الله عنهما - اختيارًا شوريًا وأصبح الخليفة الشرعي على الحجاز واليمن والعراق, وكل الأماكن التي كانت خاضعة لوالده, وقد استمر في خلافته ستة أشهر وتلك المدة تدخل ضمن الخلافة الراشدة التي أخبر عنها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن مدتها ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، وصححه الألباني.

وكان مع الحسن بن علي - رضي الله عنهما - أكثر من أربعين ألفًا بايعوه على الموت وكان في معسكره كثير من القواد الكبار، كأخيه الحسين، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وقيس بن سعد بن عبادة، وعدي بن حاتم وغيرهم فلو أراد الخلافة لأعطي المجال لقياداته للتحرك نحو تعبئة الناس والدخول في الحرب مع معاوية وعلى الأقل يكون خليفة على دولته إلى حين. إن تسليم الحسن بن علي - رضي الله عنهما - الخلافة إلى معاوية - رضي الله عنه - مع أنه كان معه أكثر من أربعين ألفًا بايعوه على الموت، ليدل على مكانة معاوية - رضي الله عنه - فلو لم يكن أهلًا لها لما سلمها السبط الطيب إليه ولَحَاربه (¬1). عن الْحَسَن قال: «اسْتَقْبَلَ وَاللهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: «إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لَا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا». فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ ـ وَكَانَ وَاللهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ ـ: «أَيْ عَمْرُو، إِنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ؟ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ؟ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ؟» فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ـ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ ـ فَقَالَ: «اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولَا لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ». فَأَتَيَاهُ فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا وَقَالَا لَهُ، فَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: «إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا». قَالَا: «فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ». قَالَ: «فَمَنْ لِي بِهَذَا؟». قَالَا: «نَحْنُ لَكَ بِهِ». فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا: «نَحْنُ لَكَ بِهِ»، فَصَالَحَهُ. ¬

_ (¬1) بتصرف من كتاب الدولة الأموية للصلابي (229 - 244).

فَقَالَ الْحَسَنُ: «وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ». (رواه البخاري في كتاب الصلح من صحيحه). وفي رواية أخرى للبخاري عن الْحَسَنُ قَالَ: «لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رضي الله عنهما - إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: «أَرَى كَتِيبَةً لَا تُوَلِّي حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا». قَالَ مُعَاوِيَةُ: «مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ»، فَقَالَ: «أَنَا». فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: «نَلْقَاهُ فَنَقُولُ لَهُ الصُّلْحَ». قَالَ الْحَسَنُ وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ: «بَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَخْطُبُ جَاءَ الْحَسَنُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ». (رواه البخاري في كتاب الفتن من صحيحه). قال الحافظ ابن حجر: «(الْحَسَن) يَعْنِي الْبَصْرِيّ. وَالْكَتَائِب جَمْع كَتِيبَة وَهِيَ طَائِفَة مِنْ الْجَيْش تَجْتَمِع. (أَمْثَال الْجِبَال) أَيْ لَا يُرَى لَهَا طَرَف لِكَثْرَتِهَا كَمَا لَا يَرَى مَنْ قَابَلَ الْجَبَل طَرَفه، وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد شِدَّة الْبَأْس. وَأَشَارَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ بِهَذِهِ الْقِصَّة إِلَى مَا اِتَّفَقَ بَعْدَ قَتْل عَلِيّ - رضي الله عنه -، وَكَانَ عَلِيّ لَمَّا اِنْقَضَى أَمْر التَّحْكِيم وَرَجَعَ إِلَى الْكُوفَة تَجَهَّزَ لِقِتَالِ أَهْل الشَّام مَرَّة بَعْدَ أُخْرَى فَشَغَلَهُ أَمْر الْخَوَارِج بِالنَّهْرَوَانِ وَذَلِكَ فِي سَنَة ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ تَجَهَّزَ فِي سَنَة تِسْع وَثَلَاثِينَ فَلَمْ يَتَهَيَّأ ذَلِكَ لِافْتِرَاقِ آرَاء أَهْل الْعِرَاق عَلَيْهِ، ثُمَّ وَقَعَ الْجِدّ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فِي سَنَة أَرْبَعِينَ. فَأَخْرَجَ إِسْحَاق مِنْ طَرِيق عَبْد الْعَزِيز بْن سِيَاهٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْخَوَارِج قَامَ عَلِيّ فَقَالَ: «أَتَسِيرُونَ إِلَى الشَّام أَوْ تَرْجِعُونَ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَلَفُوكُمْ فِي دِيَاركُمْ؟». قَالُوا: «بَلْ نَرْجِع إِلَيْهِمْ»، فَذَكَرَ قِصَّة الْخَوَارِج.

قَالَ: فَرَجَعَ عَلِيّ إِلَى الْكُوفَة، فَلَمَّا قُتِلَ وَاسْتَخْلَفَ الْحَسَن وَصَالَحَ مُعَاوِيَة كَتَبَ إِلَى قَيْس بْن سَعْد بِذَلِكَ فَرَجَعَ عَنْ قِتَال مُعَاوِيَة. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ يُونُس بْن يَزِيد عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ: «جَعَلَ عَلِيّ عَلَى مُقَدِّمَة أَهْل الْعِرَاق قَيْس بْن سَعْد بْن عُبَادَةَ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْت، فَقُتِلَ عَلِيّ فَبَايَعُوا الْحَسَن بْن عَلِيّ بِالْخِلَافَةِ، وَكَانَ لَا يُحِبّ الْقِتَال وَلَكِنْ كَانَ يُرِيد أَنْ يَشْتَرِط عَلَى مُعَاوِيَة لِنَفْسِهِ، فَعَرَفَ أَنَّ قَيْس بْن سَعْد لَا يُطَاوِعهُ عَلَى الصُّلْح فَنَزَعَهُ وَأَمَّرَ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس فَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ كَمَا اِشْتَرَطَ الْحَسَن». قَالَ اِبْن بَطَّال: «سَلَّمَ الْحَسَن لِمُعَاوِيَةَ الْأَمْر وَبَايَعَهُ عَلَى إِقَامَة كِتَاب اللَّه وَسُنَّة نَبِيّه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَدَخَلَ مُعَاوِيَة الْكُوفَة وَبَايَعَهُ النَّاس فَسُمِّيَتْ سَنَة الْجَمَاعَة لِاجْتِمَاعِ النَّاس وَانْقِطَاع الْحَرْب. وَبَايَعَ مُعَاوِيَةَ كُلّ مَنْ كَانَ مُعْتَزِلًا لِلْقِتَالِ كَابْنِ عُمَر وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ، وَأَجَازَ مُعَاوِيَة الْحَسَن بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْف وَأَلْف ثَوْب وَثَلَاثِينَ عَبْدًا وَمِائَة جَمَل، وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَة، وَوَلَّى مُعَاوِيَة الْكُوفَة الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة وَالْبَصْرَة عَبْد اللَّه بْن عَامِر وَرَجَعَ إِلَى دِمَشْق. قَوْله (قَالَ عَمْرو بْن الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى كَتِيبَة لَا تُوَلِّي) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ لَا تُدْبِرُ. قَوْله (حَتَّى تُدْبِر أُخْرَاهَا) أَيْ الَّتِي تُقَابِلهَا. (قَالَ مُعَاوِيَة مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ مَنْ يَكْفُلهُمْ إِذَا قُتِلَ آبَاؤُهُمْ؟ وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ (ضَيْعَتهمْ) الْأَطْفَال وَالضُّعَفَاء سُمُّوا بِاسْمِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرهمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا تُرِكُوا ضَاعُوا لِعَدَمِ اِسْتِقْلَالهمْ بِأَمْرِ الْمَعَاش. وَأَمَّا قَوْله هُنَا فِي جَوَاب قَوْل مُعَاوِيَة: «مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: «أَنَا» فَظَاهِره يُوهِم أَنَّ الْمُجِيب بِذَلِكَ هُوَ عَمْرو بْن الْعَاصِ، وَلَمْ أَرَ فِي طُرُق الْخَبَر مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَة فَلَعَلَّهَا كَانَتْ: (فَقَالَ أَنَّى) بِتَشْدِيدِ النُّون الْمَفْتُوحَة، قَالَهَا عَمْرو عَلَى سَبِيل الِاسْتِبْعَاد. قَوْله (فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عَامِر وَعَبْد الرَّحْمَن بْن سَمُرَة: نَلْقَاهُ فَنَقُول لَهُ الصُّلْح)

أَيْ نُشِير عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ، وَهَذَا ظَاهِره أَنَّهُمَا بَدَآ بِذَلِكَ، وَاَلَّذِي فِي كِتَاب الصُّلْح أَنَّ مُعَاوِيَة هُوَ الَّذِي بَعَثَهُمَا، فَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنَّهُمَا عَرَضَا أَنْفُسهمَا فَوَافَقَهُمَا. (فَقَالَ مُعَاوِيَة: اِذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُل فَاعْرِضَا عَلَيْهِ) أَيْ مَا شَاءَ مِنْ الْمَال (وَقُولَا لَهُ) أَيْ فِي حَقْن دِمَاء الْمُسْلِمِينَ بِالصُّلْحِ (وَاطْلُبَا إِلَيْهِ) أَيْ اُطْلُبَا مِنْهُ خَلْعه نَفْسه مِنْ الْخِلَافَة وَتَسْلِيم الْأَمْر لِمُعَاوِيَةَ وَابْذُلَا لَهُ فِي مُقَابَلَة ذَلِكَ مَا شَاءَ. (فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: «إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا». قَالَا: «فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ». قَالَ: «فَمَنْ لِي بِهَذَا؟». قَالَا: «نَحْنُ لَكَ بِهِ». فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا: «نَحْنُ لَكَ بِهِ»، فَصَالَحَهُ). قَالَ اِبْن بَطَّال: هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَة كَانَ هُوَ الرَّاغِب فِي الصُّلْح وَأَنَّهُ عَرَضَ عَلَى الْحَسَن الْمَال وَرَغَّبَهُ فِيهِ وَحَثَّهُ عَلَى رَفْع السَّيْف وَذَكَّرَهُ مَا وَعَدَهُ بِهِ جَدّه - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ سِيَادَته فِي الْإِصْلَاح بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَن: إِنَّا بَنُو عَبْد الْمُطَّلِب أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَال، أَيْ إِنَّا جُبِلْنَا عَلَى الْكَرَم وَالتَّوْسِعَة عَلَى أَتْبَاعنَا مِنْ الْأَهْل وَالْمَوَالِي وَكُنَّا نَتَمَكَّن مِنْ ذَلِكَ بِالْخِلَافَةِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ لَنَا عَادَة. وَقَوْله (إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّة) أَيْ الْعَسْكَرَيْنِ الشَّامِيّ وَالْعِرَاقِيّ (قَدْ عَاثَتْ) أَيْ قَتَلَ بَعْضهَا بَعْضًا فَلَا يَكُفُّونَ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالصَّفْحِ عَمَّا مَضَى مِنْهُمْ وَالتَّأَلُّف بِالْمَالِ. وَأَرَادَ الْحَسَن بِذَلِكَ كُلّه تَسْكِين الْفِتْنَة وَتَفْرِقَة الْمَال عَلَى مَنْ لَا يُرْضِيه إِلَّا الْمَال، فَوَافَقَاهُ عَلَى مَا شَرَطَ مِنْ جَمِيع ذَلِكَ وَالْتَزَمَا لَهُ مِنْ الْمَال فِي كُلّ عَام وَالثِّيَاب وَالْأَقْوَات مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ لِكُلِّ مَنْ ذُكِرَ. وَقَوْله (مَنْ لِي بِهَذَا) أَيْ مَنْ يَضْمَن لِي الْوَفَاء مِنْ مُعَاوِيَة؟ فَقَالَا: نَحْنُ نَضْمَن لِأَنَّ مُعَاوِيَة كَانَ فَوَّضَ لَهُمَا ذَلِكَ.

وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة مِنْ الْفَوَائِد: عَلَم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة، وَمَنْقَبَة لِلْحَسَنِ بْن عَلِيّ فَإِنَّهُ تَرَكَ الْمُلْك لَا لِقِلَّةٍ وَلَا لِذِلَّةٍ وَلَا لِعِلَّةٍ بَلْ لِرَغْبَتِهِ فِيمَا عِنْدَ اللَّه لِمَا رَآهُ مِنْ حَقْن دِمَاء الْمُسْلِمِينَ، فَرَاعَى أَمْر الدِّين وَمَصْلَحَة الْأُمَّة. وَفِيهَا رَدّ عَلَى الْخَوَارِج الَّذِينَ كَانُوا يُكَفِّرُونَ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ، وَمُعَاوِيَة وَمَنْ مَعَهُ؛ بِشَهَادَةِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِلطَّائِفَتَيْنِ بِأَنَّهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ يَقُول عَقِبَ هَذَا الْحَدِيث: «قَوْله: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ» يُعْجِبنَا جِدًّا» أَخْرَجَهُ يَعْقُوب بْن سُفْيَان فِي تَارِيخه عَنْ الْحُمَيْدِيِّ وَسَعِيد بْن مَنْصُور عَنْهُ. وَفِيهِ فَضِيلَة الْإِصْلَاح بَيْنَ النَّاس وَلَا سِيَّمَا فِي حَقْن دِمَاء الْمُسْلِمِينَ، وَدَلَالَة عَلَى رَأْفَة مُعَاوِيَة بِالرَّعِيَّةِ، وَشَفَقَته عَلَى المُسْلِمِينَ، وَقُوَّة نَظَره فِي تَدْبِير الْمُلْك، وَنَظَره فِي الْعَوَاقِب. وَفِيهِ وِلَايَة الْمَفْضُول الْخِلَافَة مَعَ وُجُود الْأَفْضَل لِأَنَّ الْحَسَن وَمُعَاوِيَة وُلِّيَ كُلّ مِنْهُمَا الْخِلَافَة وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَسَعِيد بْن زَيْد فِي الْحَيَاة وَهُمَا بَدْرِيَّانِ. وَفِيهِ جَوَاز خَلْع الْخَلِيفَة نَفْسه إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلْمُسْلِمِينَ وَالنُّزُول عَنْ الْوَظَائِف الدِّينِيَّة وَالدُّنْيَوِيَّة بِالْمَالِ، وَجَوَاز أَخْذ الْمَال عَلَى ذَلِكَ وَإِعْطَائِهِ بَعْدَ اِسْتِيفَاء شَرَائِطه بِأَنْ يَكُون الْمَنْزُول لَهُ أَوْلَى مِنْ النَّازِل وَأَنْ يَكُون الْمَبْذُول مِنْ مَال الْبَاذِل. فَإِنْ كَانَ فِي وِلَايَة عَامَّة وَكَانَ الْمَبْذُول مِنْ بَيْت الْمَال اُشْتُرِطَ أَنْ تَكُون الْمَصْلَحَة فِي ذَلِكَ عَامَّة، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ اِبْن بَطَّال قَالَ: يُشْتَرَط أَنْ يَكُون لِكُلٍّ مِنْ الْبَاذِل وَالْمَبْذُول لَهُ سَبَب فِي الْوِلَايَة يَسْتَنِد إِلَيْهِ، وَعَقْد مِنْ الْأُمُور يُعَوَّل عَلَيْهِ (¬1). إن أهم نتائج الصلح هي: - توحد الأمة تحت قيادة واحدة. - عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه. ¬

_ (¬1) باختصار من (فتح الباري).

- تفرغ الدولة للخوارج. وبتنازل الحسن بن علي - رضي الله عنهما - اكتملت عوامل تولي معاوية - رضي الله عنه - الخلافة، وتهيأت له جميع أسبابها، فبويع أميرًا للمؤمنين عام واحد وأربعين للهجرة وسمي هذا العام بعام الجماعة، وسجل في ذاكرة الأمه عام الجماعة وأصبح هذا الحدث من مفاخرها التي تزهو بها على مر العصور، وتوالي الدهور. فقد التقت الأمة على زعامة معاوية، ورضيت به أميرًا عليها، وابتهج خيار المسلمين بهذه الوحدة الجامعة، بعد الفرقة المشتتة، وكان الفضل في ذلك لله - عز وجل - ثم للسيد الكبير صاحب المشروع الإصلاحي العظيم الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -، ويُعد عام الجماعة من علامة نبوة المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - وفضيلة باهرة من فضائل الحسن. ويكفي معاوية - رضي الله عنه - فخرًا أن كل الصحابة الأحياء في عهده بايعوه، فقد أجمعت الأمة على معاوية وبايعه علماء الصحابة والتابعين وعدوا خلافته شرعية ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام في تلك المرحلة. رُوي عن الأوزاعي أنه قال: «أدركت خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك، ورجال أكثر مما سميت بأضعاف مضاعفة. كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تأويله، ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريز في أشباه له، لم ينزعوا يده عن مجامعة في أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬1). ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (11/ 434، 435).

وقال ابن حزم: «فبويع الحسن ثم سلّم الأمر إلى معاوية، وفي بقايا الصحابة مَن هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية، ورأى إمامته» (¬1). فالصحابة لم يبايعوا معاوية - رضي الله عنه - إلا وقد رأوا فيه شروط الإمامة متوفرة، ومنها العدالة، فمن يطعن في عدالة معاوية وإمامته فقد طعن في عدالة هؤلاء الصحابة جميعهم وخونّهم وتنقَّصَهم. فمن رضيه هؤلاء لدينهم ودنياهم ألا نقبله ونرضى به نحن؟!! ومن قال: «لعلهم بايعوا خوفًا» فقد اتهمهم بالجبن وعدم الصدع بالحق، وهم القوم المعلوم من سيرتهم الشجاعة والشهامة وعدم الخوف في الله لومة لائم. انتهاء عهد الخلافة الراشدة: انتهى عهد الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بتنازل الحسن بن علي لمعاوية - رضي الله عنه -، فعن حُذَيْفَةُ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، ثُمَّ سَكَتَ (¬2). وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خِلاَفَةُ النُّبُوَّةِ ثَلاَثُونَ سَنَةً ثُمَّ يُؤْتِى اللهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ - أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ -». (رواه أبو داود وصححه الألباني). ¬

_ (¬1) الفصل في الملل والنحل (5/ 6). (¬2) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني. (ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا) أي يعضّ بعضُ أهلِه بعضًا كعَضِّ الكلاب (فَيَكُونُ) أي الملك أي الأمر على هذا المنوال (فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا) أي تلك الحالة (إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ) أي الحكومة (مُلْكًا جَبْرِيَّةً) أي جبروتية (ثُمَّ سَكَتَ) أي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الكلام. (باختصار من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لعلي القاري ح 5378).

وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنه - صلى الله عليه وآله وسلم - توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل نبوته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وبذلك تكون مرحلة خلافة النبوة قد انتهت بتنازل الحسن - رضي الله عنه - عن الخلافة لمعاوية في شهر ربيع الأول من سنة 41 هـ. وقد بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أوَّلُ هَذَا الْأمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً» (رواه أحمد والطيالسي والبزار، وصححه العراقي والألباني) (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: « ... فكانت نبوة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نبوة ورحمة، وكانت خلافة الخلفاء الراشدين خلافة نبوة ورحمة، وكانت إمارة معاوية ملكًا ورحمة، وبعده وقع ملك عضوض» (¬2). ويجوز تسمية مَن بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكًا، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل قول النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِىٌّ خَلَفَهُ نَبِىٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ». قَالُوا: «فَمَا تَأْمُرُنَا؟».قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» (رواه البخاري ومسلم). (¬3) ¬

_ (¬1) انظر السلسلة الصحيحة (رقم 3270). (¬2) جامع المسائل (5/ 154). (¬3) قال الحافظ ابن حجر: «قَوْله: (تَسُوسهُمْ الْأَنْبِيَاء) أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ظَهَرَ فِيهِمْ فَسَاد بَعَثَ اللهُ لَهُمْ نَبِيًّا لَهُمْ يُقِيم أَمْرهمْ وَيُزِيل مَا غَيَّرُوا مِنْ أَحْكَام التَّوْرَاة، وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَا بُدّ لِلرَّعِيَّةِ مِنْ قَائِم بِأُمُورِهَا يَحْمِلهَا عَلَى الطَّرِيق الْحَسَنَة وَيُنْصِف الْمَظْلُوم مِنْ الظَّالِم».قَوْله: (وَإِنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي) أَيْ فَيَفْعَل مَا كَانَ أُولَئِكَ يَفْعَلُونَ. قَوْله: (وَسَيَكُونُ خُلَفَاء) أَيْ بَعْدِي. قَوْله: (فُوا) فِعْل أَمْر بِالْوَفَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا بُويِعَ الْخَلِيفَة بَعْد خَلِيفَة فَبَيْعَة الْأَوَّل صَحِيحَة يَجِب الْوَفَاء بِهَا وَبَيْعَة الثَّانِي بَاطِلَة. (اهـ باختصار من فتح الباري).

ومعاوية - رضي الله عنه - أفضل ملوك هذه الأمة، والذين كانوا قبله خلفاء نبوة، وأما هو فكانت خلافته مُلكًا، وكان مُلكه مُلكًا ورحمة وكان في مُلكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيرًا من مُلك غيره. ومعاوية - رضي الله عنه - كان عالمًا ورعًا عدلًا دون الخلفاء الراشدين في العلم والورع والعدل، كما ترى من التفاوت بين الأولياء، بل الملائكة والأنبياء، وإمارته كانت صحيحة بإجماع الصحابة وتسليم الحسن بن عليٍّ - رضي الله عنهما -. سؤال: من المسَلّم به عند كل من اطلع على مذهب الشيعة أنهم يكفّرون معاوية لقتاله عليًّا - رضي الله عنهما - ولكن الثابت أن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - ـ وهو من الأئمة المعصومين عندهم ـ قد صالح معاوية - رضي الله عنه - وبايعه على الخلافة. فهل صالح الحسن (المعصوم) رجلًا كافرًا وسلّم له بالخلافة؟! أم أصلح بين فئتين مسلمتين كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ»؟! (رواه البخاري ومسلم).

فضائل معاوية - رضي الله عنه - من فضائل معاوية - رضي الله عنه - في القرآن الكريم:

فضائل معاوية - رضي الله عنه - من فضائل معاوية - رضي الله عنه - في القرآن الكريم: * قال الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} (التوبة:25 - 26).ومعاوية - رضي الله عنه - من الذين شهدوا غزوة حُنين المقصودة في الآيات، وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينتَه عليهم مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. * وقال - عز وجل -: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} (الحديد:10). ومعاوية - رضي الله عنه - لا يخلو أن يكون على حالَين: · أن يكون قد أسلم قبل فتح مكة كما رجّح وصحّح الحافظُ ابنُ حَجَر. · أو يكون بعد ذلك، وقد أنفق وقاتل في حُنين والطائف مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو ممن وعَدَهم الله الحُسنى بنص الآية. والحُسنى: الجنّة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)} (الأنبياء:101 - 102). وهل يُخْلِف الله وعده. * وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} (التوبة:117). وساعةُ العُسرة هي غزوةُ تَبُوك، وقد شَهِدَها مُعاوية - رضي الله عنه -.

من فضائل معاوية - رضي الله عنه - في السنة النبوية الصحيحة

من فضائل معاوية - رضي الله عنه - في السُّنّة النبوية الصحيحة من الشبهات التي يتعلق بها البعض شبهة أن المحدثين الأوائل ضعفوا الأحاديث الواردة في فضل معاوية - رضي الله عنه - ومن ذلك: الشبهة الأولى: ما يتشدق به البعض من نقلهم عن إسحاق بن راهويه أنه قال: «لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في فضل معاوية شيء». والجواب: هذا القول عن ابن راهويه باطل ولم يثبت عنه (¬1). وقد أورده السيوطي في «اللآلي المصنوعة» (¬2)، وابن عراق الكناني في «تنزيه الشريعة» (¬3)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (¬4) وعلق على ذلك بقوله: «قلت: قد ذكر الترمذي في الباب الذي ذكره في مناقب معاوية من سننه ما هو معروف فليراجع». وعلى فرض صحة هذا القول عن إسحاق بن راهويه يجاب عنه بما يلي: * أنه يوجد من الأئمة من ذكر أحاديث في فضل معاوية مصححًا لها! وهم بهذا يخالفون من قال بأنه «لا يصح في فضل معاوية شيء» ومن هؤلاء الأئمة: 1 - الإمام الآجري رحمه الله في «كتاب الشريعة» (¬5) بوَّبَ: سياق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في فضائل أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) انظر: الأحاديث النبوية في فضائل معاوية بن أبي سفيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. لا دفاعًا عن الألباني لعمرو عبد المنعم (ص 181 - 182). (¬2) (1/ 388). (¬3) (2/ 7). (¬4) (407). (¬5) (5/ 1524).

2 - الإمام الذهبي - رحمه الله - كما في «سير أعلام النبلاء» (¬1) فقد ذكر أحاديث في فضل معاوية - رضي الله عنه - وقال بعد ذلك: «فهذه أحاديث مقاربة». 3 - الحافظ ابن كثير كما في «البداية والنهاية» حيث قال - رحمه الله - بعد أن ذكر أحاديث في فضل معاوية - رضي الله عنه -: «واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصحاح والحسان والمستجادات عما سواه من المصنوعات والمنكرات» (¬2). وقال في تعليقه على قول النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِمُعَاوِيَةَ: «اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ»: «وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث وأطنب فيه وأطيب وأطرب وأفاد وأحسن الانتقاد فرحمه الله كم من موطن قد تبرز فيه على غيره من الحفاظ والنقاد» (¬3). 4 - والحافظ ابن عساكر كما في «تاريخ دمشق» (¬4). 5 - وابن حجر الهيتمي في «تطهير الجنان» (¬5). الشبهة الثانبة: ما يشاع أن الإمام البخاري لم يجد في فضائل معاوية شيئًا. والجواب: قد عقد الإمام البخاري - رحمه الله - في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه بابًا قاله فيه: (بَاب ذِكْرِ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه -)، أورد فيه ثلاثة أحاديث: أحدها: عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: أَوْتَرَ مُعَاوِيَةُ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِرَكْعَةٍ وَعِنْدَهُ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: «دَعْهُ فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». ثانيها: عَنْ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «هَلْ لَكَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ مَا أَوْتَرَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ؟». ¬

_ (¬1) (3/ 350). (¬2) (8/ 84). (¬3) (8/ 83).والحديث رواه الترمذي وغيره، وصححه الألباني. (هَادِيًا) أَيْ لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَيْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ. (¬4) (ص59 - 79). (¬5) (ص11).

قَالَ: «أَصَابَ إِنَّهُ فَقِيهٌ». ثالثها: عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً لَقَدْ صَحِبْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ». وأما أن الإمام البخاري عبّر في ترجمة معاوية - رضي الله عنه - بقوله: «بَاب ذِكْرِ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه -»، ولم يقل فضيلة ولا منقبة، فإن الإمام البخاري كذلك عبّر في ترجمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - بقوله: «بَاب ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -»، ولم يقل فضيلة ولا منقبة. علمًا أنه أخرج فيه قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ». وهذا لا يختلف عاقل أنه فضيلة عظيمة لابن عباس - رضي الله عنه -. فهل يفهم أحد من ذلك أن عبد الله بن عباس ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهم - ليس لهما فضائل؟! قال الحافظ ابن حجر في شرحه: «عَبَّرَ الْبُخَارِيّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَة بِقَوْلِهِ: «ذِكْر» وَلَمْ يَقُلْ فَضِيلَة وَلَا مَنْقَبَة لِكَوْنِ الْفَضِيلَة لَا تُؤْخَذ مِنْ حَدِيث الْبَاب، لِأَنَّ ظَاهِر شَهَادَة اِبْن عَبَّاس لَهُ بِالْفِقْهِ وَالصُّحْبَة دَالَّة عَلَى الْفَضْل الْكَثِير، وَقَدْ صَنَّفَ اِبْن أَبِي عَاصِم جُزْءًا فِي مَنَاقِبه، وَكَذَلِكَ أَبُو عُمَر غُلَام ثَعْلَب، وَأَبُو بَكْر النَّقَّاش .... ثم قال الحافظ ابن حجر إن البخاري بِدَقِيقِ نَظَره اِسْتَنْبَطَ مَا يَدْفَع بِهِ رُءُوس الرَّوَافِض» (¬1). وقد كان البخاري - رحمه الله - يترضى عن معاوية كلما ذكر اسمه، ثم إنه قد ثبت عند البخاري صحبة معاوية - رضي الله عنه - للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، وثبت فقهه أيضًا كما نص عليه ابن عباس، وقد تقدم الحديث ... وكفى بهذا الثناء من حبر الأمة من فضيلة ومنقبة. كما أخرج البخاري رحمه الله الحديث الذي دعا فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمعاوية بأن يجعله هاديًا مهديًا ويهدي به في كتابه (التاريخ الكبير). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (7/ 103 - 104).

الشبهة الثالثة: أَخْرَجَ اِبْن الْجَوْزِيّ مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل: «سَأَلَتْ أَبِي مَا تَقُول فِي عَلِيّ وَمُعَاوِيَة؟». فَأَطْرَقَ ثُمَّ قَالَ: «اِعْلَمْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ كَثِير الْأَعْدَاء فَفَتَّشَ أَعْدَاؤُهُ لَهُ عَيْبًا فَلَمْ يَجِدُوا، فَعَمَدُوا إِلَى رَجُل قَدْ حَارَبَهُ فَأَطْرَوْهُ كِيَادًا مِنْهُمْ لِعَلِيٍّ» (¬1). والجواب: هذه القصة عجيبة الله أعلم بمدى صحة إسنادها. وقد رواها ابن الجوزي فقال: أنبأنا هبة الله بن أحمد الجريرى أنبأنا محمد بن على بن الفتح أنبأنا الدارقطني حدثنا أبو الحسين عبدالله بن إبراهيم بن جعفر بن نيار البزاز حدثنا أبو سعيد بن الحرفى حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: ... ». ولم أجد مَن ترجم لبعض رواته، وقال الإمام الذهبي في ترجمة: مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ الفَتْحِ: «وَقَدْ أُدْخِلَ فِي سَمَاعه مَا لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ» (¬2). والقصة على أية حال ليس لها علاقة بموضوعنا؛ فإن الإمام أحمد ـ على فرض صحة القصة ـ قد أشار إلى أن أعداء علي - رضي الله عنه - قد وضعوا أحاديث في فضائل معاوية - رضي الله عنه -، وهذا شيء معروفٌ مسلّمٌ به، بل والعكس صحيح كذلك، فقد وضع شيعة عليٍّ الكثير من الأحاديث في ذم معاوية، وكلها موضوعة. ووضعوا في فضائل علي أكثر بأضعاف مما وضع النواصب في فضائل معاوية - رضي الله عنهما -. أما عقيدة إمام أهل السنة والجماعة في عصر أحمد بن حنبل فقد كانت واضحة جدًا في الترضي عن معاوية - رضي الله عنه - والإنكار على من يذمه. قال الخلال: «أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قيل لأبي عبد الله ونحن بالعسكر وقد جاء بعض رسل الخليفة وهو يعقوب، فقال: «يا أبا عبد الله، ما تقول فيما كان من علي ومعاوية رحمهما الله؟».فقال أبو عبد الله: «ما أقول فيها إلا الحسنى رحمهم الله أجمعين» (¬3). بل قد صحح الإمام أحمد حديثًا في فضل معاوية - رضي الله عنه -.فقد روى الخلال: أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال: قلت لأحمد ابن حنبل: «أليس قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلّ صِهْرٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ إلّا صِهْرِي وَنَسَبِي» (¬4)؟ قال: «بلى!». قلت: «وهذه لمعاوية؟». قال: «نعم، له صهر ونسب». قال: «وسمعت ابن حنبل يقول: «ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية!» (¬5). ويستفادُ منه تثبيتُ الإمام أحمد - رحمه الله - للحديث. وأخيرًا: على فرض صحة ما ذُكر عن بعض الأئمة من أنه لا يصح شيء في فضل معاوية - رضي الله عنه - فأنهم رحمهم الله لا ريب أنهم يرون أن معاوية داخل في عموم النصوص التي جاءت في فضل الصحابة - رضي الله عنهم -. فمرادهم لا يصح حديث في فضله بخصوصه أما على سبيل العموم فنعم. ¬

_ (¬1) الموضوعات (2/ 24). (¬2) سير أعلام النبلاء (35/ 38). (¬3) السنة (2/ 460)، وإسناده صحيح. (¬4) وفي رواية «كُلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ سَبَبي ونَسَبي»، وفي رواية: «غَيْرَ نَسَبِي وصِهري». (وللحديث طرقٌ كثيرة، جوَّدَ بعضَها ابنُ كثير، وصححه ابن السَّكَن، والحاكم، والضياء، والذهبي، والألباني، وغيرُهم). (¬5) السنة (654)، وإسناده صحيح.

من فضائل معاوية - رضي الله عنه - ثبوت كونه كاتبا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكتابته الوحي

من فضائل معاوية - رضي الله عنه - ثبوت كونه كاتبًا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكتابته الوحي * عن ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ لاَ يَنْظُرُونَ إِلَى أَبِى سُفْيَانَ وَلاَ يُقَاعِدُونَهُ فَقَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا نَبِىَّ اللهِ ثَلاَثٌ أَعْطِنِيهِنَّ». قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: عِنْدِى أَحْسَنُ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِى سُفْيَانَ أُزَوِّجُكَهَا». قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: «وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ». قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: «وَتُؤَمِّرُنِى حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ». قَالَ: «نَعَمْ». (رواه مسلم). قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة بِالْإِشْكَالِ، وَوَجْه الْإِشْكَال أَنَّ أَبَا سُفْيَان إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْم فَتْح مَكَّة سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة، وَهَذَا مَشْهُور لَا خِلَاف فِيهِ، وَكَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَدْ تَزَوَّجَ أُمّ حَبِيبَة قَبْل ذَلِكَ بِزَمَانٍ طَوِيل. قَالَ الْقَاضِي: «وَاَلَّذِي فِي مُسْلِم هُنَا أَنَّهُ زَوَّجَهَا أَبُو سُفْيَان غَرِيب جِدًّا. وَخَبَرهَا مَعَ أَبِي سُفْيَان حِين وَرَدَ الْمَدِينَة فِي حَال كُفْره مَشْهُور» (¬1). وَلَمْ يَزِدْ الْقَاضِي عَلَى هَذَا. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح - رحمه الله -: «يَحْتَمِل أَنَّهُ سَأَلَهُ تَجْدِيد عَقْد النِّكَاح تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا يَرَى عَلَيْهَا غَضَاضَة مِنْ رِيَاسَته وَنَسَبه أَنْ تُزَوَّج اِبْنَته بِغَيْرِ رِضَاهُ، أَوْ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ إِسْلَام الْأَب فِي مِثْل هَذَا يَقْتَضِي تَجْدِيد الْعَقْد، وَقَدْ خَفِيَ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا عَلَى أَكْبَر مَرْتَبَة مِنْ أَبِي سُفْيَان مِمَّنْ كَثُرَ عِلْمه وَطَالَتْ صُحْبَته». هَذَا كَلَام أَبِي عَمْرو - رحمه الله -، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - جَدَّدَ الْعَقْد، وَلَا قَالَ لِأَبِي سُفْيَان إِنَّهُ يَحْتَاج إِلَى تَجْدِيده، فَلَعَلَّهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَرَادَ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ أَنَّ مَقْصُودك يَحْصُل وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَقِيقَةِ عَقْد. وَاَللَّه أَعْلَم». (اهـ كلام النووي - رحمه الله - مختصرًا). وقال الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر بعض الأقوال: «وهذه كلها ضعيفة والأحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الأخرى عمرة لما رأى في ذلك من الشرف له واستعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين وإنما وهم الراوي في تسميته أم حبيبة وقد أوردنا لذلك خبرًا مفردًا» (¬2). ¬

_ (¬1) رُوِي عن الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يُقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - طَوَتْه دونه فقال: «يا بنية، أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟». فقالت: «بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنت امرؤ نجس مشرك». فقال: «يا بنية لقد أصابك بعدي شر». ... = = (أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 79) وأخرجه ابن عساكر في التاريخ (79/ 150) وأورده الحافظ الذهبي في «السير» (2/ 222 - 223) بصيغة التضعيف التي تدل على عدم صحة القصة). وقد بَيَّنَ الشيخ علي حشيش في الحلقة السبعين من سلسلة (تحذير الداعية من القصص الواهية) التي تصدر تباعًا في مجلة (التوحيد) المصرية أن قصة أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان قصة واهية اشتهرت على ألسنة الوعاظ والقصاص ووجدت في كتب المغازي والسير بغير تحقيق، فاغتر بها من لا دراية له بعلم الحديث. وقد سبقه إلى تضعيف القصة الشيخ الألباني في (فقه السيرة ص 323)، وقال إن ابن إسحق رواها بدون إسناد كما في سيرة ابن هشام 2/ 265 وابن جرير 2/ 325 - 326. وكذلك من القصص المختلقة الواهية قصة ارتداد عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة - رضي الله عنها - عن الإسلام وتنصره بالحبشة. (انظر تحقيق دعوى ردة عبيد الله بن جحش لمحمد بن عبد الله العوشن). (¬2) البداية والنهاية (2/ 572).

* عن ابْنَ عَبَّاسٍ قال: كُنْتُ غُلَامًا أَسْعَى مَعَ الصِّبْيَانِ قَالَ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَلْفِي مُقْبِلًا، فَقُلْتُ: مَا جَاءَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَّا إِلَيَّ. قَالَ: فَسَعَيْتُ حَتَّى أَخْتَبِئَ وَرَاءَ بَابِ دَارٍ فَلَمْ أَشْعُرْ حَتَّى تَنَاوَلَنِي فَأَخَذَ بِقَفَايَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً، قَالَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ» ـ وَكَانَ كَاتِبَهُ ـ فَسَعَيْتُ فَقُلْتُ: أَجِبْ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ». (رواه الإمام أحمد وصححه ابن عساكر والذهبي، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن). (حَطَأَنِي حَطْأَة):هُوَ الضَّرْب بِالْيَدِ مَبْسُوطَة بَيْن الْكَتِفَيْنِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هَذَا بِابْنِ عَبَّاس مُلَاطَفَة وَتَأْنِيسًا. * وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: «إن معاوية كان يكتبُ بين يَدَي رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -». (إسنادُه حسن رواه الطبراني وأبوعوانة والبزار والآجري). * وعن سَهْلِ بن الحَنْظَلِيَّة الأنصاري - رضي الله عنه -:أن عُيَيْنَةَ والأَقْرَعَ سألا رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شيئًا، فأمرَ معاويةَ أن يكتُبَ به لهما، ففعلَ، وختَمَها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأَمَر بدفعه إليهما». (إسناده صحيح على شرط مسلم رواه أبوداود وأحمد). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «استَكْتَبَه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لخِبْرَتِه وأمانته» (¬1). ¬

_ (¬1) منهاج السنة (4/ 439).

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - كونه خال المؤمنين

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - كونه خال المؤمنين فهو أخو أمِّ المؤمنين؛ زوجِ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ أمِّ حَبيبة رَمْلة بنت أبي سفيان - رضي الله عنهم -؛ ولذلك قال الإمام أحمد: «أقول: معاوية خال المؤمنين، وابن عمر خال المؤمنين». (رواه الخلال في السنة بسند صحيح). وروى العجلي في (الثقات) ومن طريقه ابن عساكر بسند صحيح أن رجلا سأل الحكم بن هشام الكوفي: ما تقول في معاوية؟ قال: «ذاك خالُ كلِّ مؤمن». * وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الصحيح: «كُلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ سَبَبي ونَسَبي»، وفي رواية: «غَيْرَ نَسَبِي وصِهري». (رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وللحديث طرقٌ كثيرة، جوَّدَ بعضَها ابنُ كثير، وصححه ابن السَّكَن، والحاكم، والضياء، والذهبي، والألباني، وغيرُهم) (¬1). ولا شك أن معاوية داخلٌ في هذا الفضل. وروى الخلال: أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني (ثقة فقيه) قال: قلت لأحمد ابن حنبل: «أليس قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلّ صِهْرٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ إلّا صِهْرِي وَنَسَبِي؟». قال: «بلى!». قلت: «وهذه لمعاوية؟». قال: «نعم، له صهر ونسب». قال: «وسمعت ابن حنبل يقول: «ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية!» (¬2). ويستفادُ منه تثبيتُ الإمام أحمد - رحمه الله - للحديث. ¬

_ (¬1) انظر السلسلة الصحيحة للألباني (رقم 2036). (¬2) السنة (654)، وإسناده صحيح.

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - أنه أول من غزا البحر وقد وجبت له الجنة

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - أنه أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ وقد وجبت له الجنة روى البخاري في صحيحه عن أم حَرَام الأنصارية - رضي الله عنها - أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «أوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا». قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ - رضي الله عنها - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا فِيهِمْ؟» قَالَ: «أَنْتِ فِيهِمْ». ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ» فَقُلْتُ: «أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟» قَالَ: «لَا». (رواه البخاري). (مَدِينَةَ قَيْصَر) يَعْنِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة. (قَدْ أَوْجَبُوا) أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّة. قَالَ الْمُهَلَّب: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَة لِمُعَاوِيَة لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ، وَمَنْقَبَةٌ لِوَلَدِهِ يَزِيد لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ .. (¬1) ¬

_ (¬1) باختصار من (فتح الباري).

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - أنه من الذين رآهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يركبون ظهر البحر كالملوك على الأسرة

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - أنه من الذين رآهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - عَنْ أُمِّ حَرَامٍ - رضي الله عنها - وَهِيَ خَالَةُ أَنَسٍ قَالَتْ: أَتَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا، فَقَالَ عِنْدَنَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ: «مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟» قَالَ: «أُرِيتُ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ». فَقُلْتُ: «ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ». قَالَ: «فَإِنَّكِ مِنْهُمْ». قَالَتْ: «ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ أَيْضًا وَهُوَ يَضْحَكُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ فَقُلْتُ: «ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ». قَالَ: «أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ». فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِى زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ. وفي رواية: «فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ». (رواه البخاري ومسلم). قال الإمام النووي - رحمه الله - (¬1): «فِيهِ (أي هذا الحديث):مُعْجِزَات لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْهَا إِخْبَاره بِبَقَاءِ أُمَّته بَعْده، وَأَنَّهُ تَكُون لَهُمْ شَوْكَة وَقُوَّة وَعَدَد، وَأَنَّهُمْ يَغْزُونَ وَأَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ الْبَحْر، وَأَنَّ أُمّ حَرَام تَعِيش إِلَى ذَلِكَ الزَّمَان، وَأَنَّهَا تَكُون مَعَهُمْ، وَقَدْ وُجِدَ بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَى كُلّ ذَلِكَ. وَفِيهِ: فَضِيلَة لِتِلْكَ الْجُيُوش، وَأَنَّهُمْ غُزَاة فِي سَبِيل اللهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مَتَى جَرَتْ الْغَزْوَة الَّتِي تُوُفِّيَتْ فِيهَا أُمّ حَرَام فِي الْبَحْر؟ وَقَدْ ذكرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة فِي مُسْلِم أَنَّهَا رَكِبَتْ الْبَحْر فِي زَمَان مُعَاوِيَة، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتهَا ¬

_ (¬1) في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم.

فَهَلَكَتْ، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ أَكْثَر أَهْل السِّيَر وَالْأَخْبَار: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خِلَافَة عُثْمَان بْن عَفَّان - رضي الله عنه - وَأَنَّ فِيهَا رَكِبَتْ أُمّ حَرَام وَزَوْجهَا إِلَى قُبْرُص فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتهَا هُنَاكَ، فَتُوُفِّيَتْ وَدُفِنَتْ هُنَاكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُون قَوْله: (فِي زَمَان مُعَاوِيَة) مَعْنَاهُ: فِي زَمَان غَزْوِهِ فِي الْبَحْر لَا فِي أَيَّام خِلَافَته، قَالَ: وَقِيلَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَته، قَالَ: وَهُوَ أَظْهَر فِي دَلَالَة قَوْله فِي زَمَانه». وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - (¬1): «قَوْله (مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّة) قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: «أَرَادَ ـ وَاَللهُ أَعْلَم ـ أَنَّهُ رَأَى الْغُزَاة فِي الْبَحْر مِنْ أُمَّته مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّة فِي الْجَنَّة، وَرُؤْيَاهُ وَحْي، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي صِفَة أَهْل الْجَنَّة: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وَقَالَ: {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} وَالْأَرَائِك: السُّرَر فِي الْحِجَال (¬2). وَقَالَ عِيَاض: «هَذَا مُحْتَمَل، وَيُحْتَمَل أَيْضًا أَنْ يَكُون خَبَرًا عَنْ حَالهمْ فِي الْغَزْو مِنْ سَعَة أَحْوَالهمْ وَقِوَام أَمْرهمْ وَكَثْرَة عَدَدهمْ وَجَوْدَة عَدَدهمْ فَكَأَنَّهُمْ الْمُلُوك عَلَى الْأَسِرَّة». قُلْتُ (أي الحافظ ابن حجر): «وَفِي هَذَا الِاحْتِمَال بُعْد، وَالْأَوَّل أَظْهَر لَكِنَّ الْإِتْيَان بِالتَّمْثِيلِ فِي مُعْظَم طُرُقه يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى مَا يَئُول إِلَيْهِ أَمْرهمْ، لَا أَنَّهُمْ نَالُوا ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَة، أَوْ مَوْقِع التَّشْبِيه أَنَّهُمْ فِيمَا هُمْ مِنْ النَّعِيم الَّذِي أُثِيبُوا بِهِ عَلَى جِهَادهمْ مِثْل مُلُوك الدُّنْيَا عَلَى أَسِرَّتهمْ، وَالتَّشْبِيه بِالْمَحْسُوسَاتِ أَبْلَغ فِي نَفْس السَّامِع».اهـ. فإذا تبيَّن هذا الفضلُ العظيم، كان معاوية - رضي الله عنه - مِن أولى الناس به، إذ أنه أميرُ تلك الغزاة بالاتفاق. وقد قال ابنُ عبد البر عن هذا الحديث: «وفيه فضلٌ لمعاوية - رحمه الله -، إذ جَعَلَ مَن غَزا تحتَ رايَتِه مِن الأوَّلين» (¬3). ¬

_ (¬1) في شرحه لهذا الحديث من صحيح البخاري. (¬2) الحَجَلة مثل القُبَّة، وحَجَلة العروس هي بيت يُزَيَّن بالثياب والأَسِرَّة والستور لَهَا عُرًى وَأَزْرَار. (¬3) التمهيد (1/ 235).

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - أنه كان من الذين أحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يعزوا، فأعزهم الله

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - أنه كان من الذين أحبُّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يَعِزّوا، فأعزّهم الله عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمْ اللهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُعِزَّهُمْ اللهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ». فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه». (رواه البخاري ومسلم). (خِبَاء) خَيْمَة مِنْ وَبَر أَوْ صُوف، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْبَيْت كَيْف مَا كَانَ. قَوْله: (قَالَ وَأَيْضًا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) قَالَ اِبْن التِّين: «فِيهِ تَصْدِيق لَهَا فِيمَا ذَكَرَتْهُ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنَا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْك مِثْل ذَلِكَ» (¬1). قال ابن كثير: «فالمِدحة في قوله: «وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه»؛ وهو أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يَوَدُّ أن هندًا وأهلَها وكلَّ كافر يَذلّوا في حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحبُّ أن يَعِزّوا، فأعزّهم الله، يعني أهلَ خبائها» (¬2). والحديث يدلُّ على تخصيص هند وأهل خبائها بالذات، ثم مما يؤكدُ إعزازَ النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لها بعد الإسلام؛ أنه استَغفرَ لها لما جاءته مبايعةً مع النساء، فنَزل قولُ الله تعالى: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ}، وجاء وصفُ المبايعات في الآيات بأنهن من (المؤمنات). (الممتحنة:12) ويَدخلُ معاويةُ في فضل الحديث السابق، فهو من أهل خباء هند. وفيهم أنزل الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)} (الممتحنة:7)، فإن الله جعل بين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين الذين عادُوه ـ كأبي سفيان وهند وغيرهما ـ مودة، والله قدير على تبديل العداوة بالمودة، وهو غفور لهم بتوبتهم من الشرك، رحيم بالمؤمنين، وقد صاروا مؤمنين. ¬

_ (¬1) باختصار من فتح الباري. (¬2) البداية والنهاية (8/ 131).

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - أنه كانت له منزلة خاصة عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - أنه كانت له منزلةٌ خاصة عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ. قَالَ: آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي. وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟». قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: «آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟». قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ. قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ - عز وجل - يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ» (رواه مسلم). والشاهد من الحديث قولُ معاوية: «وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي».

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - دلائل النبوة في الإخبار بأن ولايته رحمة على الأمة

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - دلائل النبوة في الإخبار بأن ولايته رحمةٌ على الأمة فقد بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أوَّلُ هَذَا الْأمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً» (رواه أحمد والطيالسي والبزار، وصححه العراقي والألباني) (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: « ... فكانت نبوة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نبوة ورحمة، وكانت خلافة الخلفاء الراشدين خلافة نبوة ورحمة، وكانت إمارة معاوية ملكًا ورحمة، وبعده وقع ملك عضوض» (¬2). وقال أيضًا - رحمه الله -: «وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَفْضَلُ مُلُوكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْأَرْبَعَةَ قَبْلَهُ كَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ؛ كَانَ مُلْكُهُ مُلْكًا وَرَحْمَةً كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ... وَكَانَ فِي مُلْكِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحِلْمِ وَنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ». (¬3) ¬

_ (¬1) انظر السلسلة الصحيحة (رقم 3270). (¬2) جامع المسائل (5/ 154). (¬3) مجموع الفتاوى (4/ 478).

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له بالهداية وبالوقاية من العذاب

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له بالهداية وبالوقاية من العذاب عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ» (رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني). (هَادِيًا) أَيْ لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَيْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ. وثَبَتَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا لمعاوية فقال: «اللهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وقِهِ الْعَذَابَ». (رواه الطبراني وغيره وصححه الألباني).

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - أنه أحد الخلفاء الاثني عشر

ومن فضائل معاوية - رضي الله عنه - أنه أحد الخلفاء الاثني عشر عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنهما - قَالَ: «انْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَمَعِي أَبِى فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ «لاَ يَزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا مَنِيعًا إِلَى اثْنَىْ عَشَرَ خَلِيفَةً». فَقَالَ كَلِمَةً صَمَّنِيهَا النَّاسُ فَقُلْتُ لأَبِى مَا قَالَ قَالَ «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ». (رواه مسلم). (فَقَالَ كَلِمَة صَمَّنِيهَا النَّاس) أَيْ: أَصَمُّونِي عَنْهَا، فَلَمْ أَسْمَعهَا لِكَثْرَةِ الْكَلَام. وبالتأمل في الحديث بكل حيدة وموضوعية نجد أن هؤلاء الاثنَي عشر وُصِفوا بأنهم يتولون الخلافة , وأن الإسلام في عهدهم يكون في عزة ومنعة، وأن الناس تجتمع عليهم، ولا يزال أمر الناس ماضيًا وصالحًا في عهدهم، وكل هذا الأوصاف لا تنطبق على من تدعي الشيعة الاثنا عشرية فيهم الإمامة فلم يتَوَلَّ الخلافة منهم إلا أمير المؤمنين علي وابنه الحسن - رضي الله عنهما -. وليس في الحديث حصر لأئمة بهذا العدد, بل نبوة منه - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن الإسلام لا يزال عزيزًا في عصور هؤلاء, وكان عصر الخلفاء الراشدين وبني أمية عصر عزة ومنعة. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الإسلام وشرائعه في بني أمية أظهر وأوسع مما كان بعدهم» , وعدّ شيخ الإسلام ابن تيمية معاوية - رضي الله عنه - من الأئمة المقصودين بالحديث. (¬1) وقد قَالَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» (رواه مسلم). يُصَلُّونَ: أَيْ يَدْعُونَ. ومعاوية - رضي الله عنه - كان من أحسن الناس سيرة في ولايته، وكانت رعيته تحبه وهو يحبهم، ويصلون عليه وهو يصلي عليهم. ¬

_ (¬1) منهاج السنة (4/ 206).

معاوية - رضي الله عنه - أم عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -

معاوية - رضي الله عنه - أم عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - إن عمر بن عبد العزيز من أئمة الهدى ومن المجددين، واعتبر خامس الخلفاء الراشدين، لأنه سار على نهجهم في سيرتهم مع الرعية والخلافة وطريقة العيش وغيرها من الأمور، لكن هذا لا يعني أن نفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية - رضي الله عنه -، فمعاوية صحابي جليل القدر والمنزلة رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وصافحَتْ يدُه يدَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. عن أبي بكر المروزي قال: «قلت لأبي عبد الله (أي الإمام أحمد بن حنبل): «أيهما أفضل: معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟». فقال: «معاوية أفضل، لسنا نقيس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحدًا؛ قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ» (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الخلال في السنة (660) بسند صحيح، والحديث في الصحيحين بلفظ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». ورواه مسلم بلفظ: «خَيْرُ أُمَّتِى الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ «ولفظ: «خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ «الْقَرْنُ الَّذِى أَنَا فِيهِ ثُمَّ الثَّانِى ثُمَّ الثَّالِث» (رواه مسلم). ورواه الإمام أحمد في المسند عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ أُمَّتِى الْقَرْنُ الَّذِى بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». وَاللهُ أَعْلَمُ أَقَالَ الثَّالِثَةَ أَمْ لاَ». وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن شقيق فمن رجال مسلم». وكذلك رواه أبو داود والترمذي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - وصححه الألباني.

وعن رباح بن الجراح الموصلي قال: سمعت رجلًا يسأل المعافى بن عمران فقال: «يا أبا مسعود أيْش عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟». فغضب من ذلك غضبًا شديدًا وقال: «لا يقاس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحد، معاوية صاحبه، وصهره، وكاتبه وأمينه على وحي الله - عز وجل -» (¬1). وسئل المعافى بن عمران: «معاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز؟» فقال: «كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبد العزيز» (¬2). وذُكر عمر بن عبد العزيز وعدله عند الأعمش، فقال: «فكيف لو أدركتم معاوية؟». قالوا: «يا أبا محمد يعني في حلمه؟». قال: «لا والله بل في عدله» (¬3). وإن الجمع الذي بايع معاوية - رضي الله عنه - بالخلافة خير من الجمع الذي بايع عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، فقد بايع لمعاوية جم غفير من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - و - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) كتاب الشريعة للآجري (5/ 2466 - 2467)، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (1/ 209)، شرح السنة لللالكائي برقم (2785) بسند صحيح. (¬2) السنة للخلال (2/ 435). (¬3) السنة للخلال (1/ 437).

أحاديث لا تصح في شأن معاوية - رضي الله عنه - مدحا وذما

أحاديث لا تصح في شأن معاوية - رضي الله عنه - مدحًا وذمًا قال ابن خلدون: «وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل، غثا أو سمينا» (¬1). وقد طفحت كتب الأخباريين والتواريخ بأخبارٍ عن معاوية، وجُلها مقاطيع ومراسيل، وهي ضعيفة، فهذا أكثر مَن نقل أخبار معاوية، وهو البلاذري يقول: «قال لي هشام بن عمار: «نظرتُ في أحاديث معاوية عندكم فوجدتُ أكثرها مصنوعا .. »، وذكر أحدها (¬2). ناهيك عن مصادر الأخبار غير الموثوقة أصلًا، كتواريخ الضعفاء المتروكين؛ أمثال أبي مخنف لوط بن يحيى الكوفي، والكلبي، والواقدي، والعباس بن بكار، أو كتب الشيعة مثل كتابَي (الأغاني) و (مقاتل الطالبيين) لأبي الفَرَج الأصفهاني، وكتب المسعودي (¬3) وابن أبي الحديد، أو الكتب الموضوعة المنحولة: كالإمامة والسياسة، وتاريخ اليعقوبي، وكتاب السقيفة المنسوب للجوهري، أو الكتب غير المُسندة، أو غير المختصة: كـ (العقد الفريد)، فضلا عن كتابات أمثال طه حسين وخالد محمد خالد! وبمثل هذه الأخبار يتعلق أعداء معاوية - رضي الله عنه -، وقد شاء الله أن يرفع درجات معاوية بكثرة من يسبُّه من الرافضة ومَن لا خَلاق له، وقد قام أولئك بوضع الكثير من الحكايات التي تطعن فيه، بل وصل الأمر إلى وضع أحاديث في ثَلْبه - رضي الله عنه -، ولا يُستغرب ذلك من أكذب الناس، وهم الرافضة. ¬

_ (¬1) المقدمة (1/ 13). (¬2) أنساب الأشراف (4/ 19 - 317) تحقيق العظم. (¬3) طُبعت رسالة جامعية من إعداد إبراهيم بن يوسف الأقصم، بعنوان: «الدولة الأموية في كتابات المسعودي»، خلص فيها إلى أن المسعودي يمثل وجهة نظر الخصم الشيعي في كتابة العهد الأموي، وأنه لم يكن حياديًا ولا موضوعيًا ولا منصفًا، وأنه وقع في تناقضات عديدة، وأورد خرافات وموضوعات.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما أورده الطبري (5/ 323) وغيره أن معاوية لما أوصى إلى ابنه يزيد قال له: «إني لا أتخوّف أن ينازعك هذا الأمر الذى أسَّسْتَه إلا أربعة نفر: الحسين بن على، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبى بكر، فأما ابن عمر فهو رجل ثقة قد وقدته العبادة وإذا لم يبق أحد غيره بايعك. وأما الحسين فإن أهل العراق خلفه لا يدعونه حتى يخرجوه عليك؛ فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه فإن له رحمًا ماسة وحقًّا عظيمًا. وأما ابن أبى بكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئًا صنع مثله ليست له همة إلا النساء واللهو. وأما الذى يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب وإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير؛ فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطّعه إربًا إربًا». وهذا الأثر باطل، في سند الطبري أبومخنف، وهو أخباري تالف، ثم إن متنه منكر، وفي سياقه ما يُكذبه، قال ابن كثير: «كذا قال! والصحيح أن عبد الرحمن [أي ابن أبي بكر] كان قد توفى قبل موت معاوية»، ثم أشار راويه عن أبي مخنف إلى مخالفته (¬1). فإذا كان أحاديثٌ وأخبارٌ قد وُضعت لها أسانيد تطعن في الصحابي الجليل معاوية، فكيف بالحكايات التي لا سند لها أصلا؟ ولا شك أن تاريخ معاوية خاصة، وخلفاء بني أُمَيَّة عامة، قد أصابه ظُلمٌ عظيم من قِبَل أعدائه المختلفين ـ سياسيين وعقائديين ـ وعلى الباحثين من أهل السنة الاجتهادُ في تخليص الأكاذيب عن ذلك العهد ـ بل القرن المفضّل ـ وتجلية واقعه عبر المنهج الحديثي العلمي. قال المؤرخ محمود شاكر - رحمه الله -: «إن هذه الافتراءات على بني أمية ليس لها سند صحيح، ومعظمها مجهول المصدر، الأمر الذي يدل على كذبها، وبهذا لا يمكن الاعتماد عليها أبدًا، وإذا أخذنا بمنهج الحديث في الجرح والتعديل، وهو أفضل منهج ¬

_ (¬1) انظر: البداية والنهاية (8/ 123).

للوصول إلى صحة الخبر، فإننا سنطرح هذه الروايات كلها التي تقوَّلت على بني أمية» (¬1). تنبيه: الأحاديث التي رُويت في ذم بني أمية مطلقا لا يصح منها شيء ألبتة، ويكفي للدلالة على بطلانها أنها تشمل عثمان بن عفان: ثالث الأمة فضلا ومنزلة، وأم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان - رضي الله عنهما - زوج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وغيرهما من الصحابة الأجلاء، ومَن بعدَهم، كعمر بن عبد العزيز، مع ما حصل من التصاهر بين الأمويين والهاشميين وغيرهم، مع قرابتهم أصلًا. فهذه الأحاديث من وضع أعداء الأمويين السياسيين والعقائديين. قال ابن الجوزي - رحمه الله -: «قد تعصب قوم ممن يدَّعي السنة فوضعوا في فضله (¬2) أحاديثَ ليغضبوا الرافضة، وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح» (¬3). أولا: من الأحاديث التي لا تصح في ذم معاوية - رضي الله عنه -: وقد نص الإمام ابن القيم على أنه لا يصح حديث في ذم معاوية - رضي الله عنه - (¬4). 1 - «يا معاوية كيف بك إذا وليت حقبا تتخذ السيئة حسنة والقبيح حسنًا، يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، أجلك يسير وظلمك عظيم». (موضوع). 2 - عن أبى برزة قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فسمع صوت غناء فقال انظروا ما هذا؟ فصعدتُ فنظرتُ فإذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان فجئتُ فأخبرتُ نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «اللهم اركسهما في الفتنة ركسًا، اللهم دُعَّهُمَا إلى النار دعًّا». (هذا حديث لا يصح). ¬

_ (¬1) انظر: مقدمته القيّمة للمجلد الرابع من (التاريخ الإسلامي ص46). (¬2) أي معاوية - رضي الله عنه -. (¬3) الموضوعات (2/ 15). (¬4) المنار المنيف في الصحيح والضعيف (ص 94).

4 - «لكل أمة فرعون وفرعون هذه الأمة معاوية بن أبي سفيان» (موضوع). ثانيًا: من الأحاديث التي لا تصح في مدح معاوية - رضي الله عنه - (¬1): 1 - «كاد معاوية أن يبعث نبيًا من حلمه وائتمانه على كلام ربي». (موضوع) 2 ـ وعن أبي موسى: نزل عليه الوحي، فلما سُرِّي عنه، طلب معاوية، فلما كتبها ـ يعني آية الكرسي. قال: «غفر الله لك يا معاوية ما تقدم إلى يوم القيامة». (موضوع). 3 ـ وعن أنس: هبط جبريل بقلم من ذهب، فقال يا محمد: «إن العليَّ الأعلى يقول: قد أهديتُ هذا القلم من فوق عرشي إلى معاوية، فمره أن يكتب آية الكرسي به ويشكله ويعجمه»، فذكر خبرًا طويلًا. (موضوع). 4 ـ وعن ابن عباس، قال: لما أنزلت آية الكرسي، دعا معاوية فلم يجد قلمًا، وذلك أن الله أمر جبريل أن يأخذ الأقلام من دواته، فقام ليجيء بقلم، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خذ القلم من أذنك، فإذا قلم ذهب مكتوب عليه لا إله إلا الله، هدية من الله إلى أمينه معاوية». (موضوع). 5 ـ «يبعث معاوية يوم القيامة وعليه رداء من نور». (موضوع). 6 - «لا أفتقد أحدًا غير معاوية، لا أراه سبعين عامًا، فإذا كان بعد أقبل على ناقة من المسك، فأقول: أين كنت؟ فيقول في روضة تحت العرش». (موضوع). 7 - «يا معاوية، أنت مني وأنا منك، لتزاحمنِّي على باب الجنة». (موضوع). 8 - «الأمناء سبعة اللوح والقلم وإسرافيل وميكائيل وجبرائيل ومحمد ومعاوية بن أبي سفيان» (موضوع). ¬

_ (¬1) لو كان أهل السنة كهؤلاء الشيعة الذين لا يفرقون بين صحيح وضعيف وموضوع لتركوا التنبيه على ضَعْف هذه الأحاديث ولَعُدَّتْ من مناقب معاوية - رضي الله عنه -، ولكن أهل السنة لهم منهج فريد في نقد النصوص وتمحيصها لا يعرف المجاملة ولا المحاباة، قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره: «أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم».

تعظيم معاوية - رضي الله عنه - لسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

تعظيم معاوية - رضي الله عنه - لسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - 1 - عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ، فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ: اجْلِسْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (صحيح رواه أبو داود). (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ):أَيْ يَقُوم وَيَنْتَصِب لَهُ. (فَلْيَتَبَوَّأْ):أَيْ فَلْيُهَيِّئْ، أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَةً مِنْ النَّارِ وَحُقَّ لَهُ ذَلِكَ. 2 - قال أبو الدَّرداء - رضي الله عنه -: «ما رأيتُ أشْبَهَ صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مِن أميركم هذا»، يعني معاوية - رضي الله عنه -. (سنده صحيح رواه الطبراني، والبغوي في معجم الصحابة). 3 - روى ابن أبي عاصم أن معاوية قال: إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهود والنصارى، فلا تشبهوا بهم. (قال الألباني: إسناده صحيح). يشير معاوية - رضي الله عنه - إلى ما رواه مسلم في صحيحه، عن أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ شُفَىٍّ قَالَ كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرُودِسَ فَتُوُفِّىَ صَاحِبٌ لَنَا فَأَمَرَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ بِقَبْرِهِ فَسُوِّىَ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا. 4 - وكان معاوية - رضي الله عنه - يرجع عن رأيه إذا استبان له أن رأي غيره موافق لسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فعَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ طَافَ مَعَ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - بِالْبَيْتِ فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقْتَ» (رواه الإمام أحمد وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح). 5 - وعَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّكَ إِنْ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ»، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ نَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا». (صحيح رواه أبو داود). (أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ):شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي. معنى الحديث: إِذَا بَحَثْت عَنْ مَعَائِبِهِمْ وَجَاهَرْتهمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قِلَّة حَيَائِهِمْ عَنْك فَيَجْتَرِئُونَ عَلَى اِرْتِكَاب أَمْثَالهَا مُجَاهَرَة. قول أَبي الدَّرْدَاءِ: «كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ نَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا». قال ابن كثير: «يعني أنه كان جيّدَ السريرة، حَسَنَ التجاوُز، جميلَ العفو، كثيرَ السِّتر، رحمه الله تعالى». 6 - قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ لِمُعَاوِيَةَ: «إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلَّا أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ»، فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ. (رواه الترمذي وصححه الألباني). (وَمَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ) أَيْ يَحْتَجِبُ وَيَمْتَنِعُ مِنْ الْخُرُوجِ عِنْدَ اِحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، وَالْخَلَّةُ: الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ. فَالْحَاجَةُ وَالْخَلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. (إِلَّا أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ) أَيْ أَبْعَدَهُ وَمَنَعَهُ عَمَّا يَبْتَغِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَوْ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَى حَاجَةٍ مِنْ حَاجَاتِهِ الضَّرُورِيَّةِ (¬1). وعن أَبَي مَرْيَمَ الْأَزْدِيَّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: مَا أَنْعَمَنَا بِكَ أَبَا فُلَانٍ ـ وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ ـ فَقُلْتُ: حَدِيثًا سَمِعْتُهُ أُخْبِرُكَ بِهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ¬

_ (¬1) باختصار من تحفة الأحوذي.

يَقُولُ: «مَنْ وَلَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ» قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ. (رواه أبو داود وصححه الألباني). (مَا أَنْعَمَنَا بِك):أَيْ مَا الَّذِي أَنْعَمَك إِلَيْنَا وَأَقْدَمَك عَلَيْنَا، يُقَال ذَلِكَ لِمَنْ يُفْرَح بِلِقَائِهِ أَيْ مَا الَّذِي أَفْرَحَنَا وَسَرَّنَا وَأَقَرَّ أَعْيُننَا بِلِقَائِك وَرُؤْيَتك (¬1). 7 - عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنهما - يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبْ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ»، وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ» (رواه البخاري). قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث في (فتح الباري): «فِي سِيَاق هَذِهِ الْقِصَّة إِشْعَار بِأَنَّ مُعَاوِيَة لَمْ يَرَ لَهُمْ اِهْتِمَامًا بِصِيَامِ عَاشُورَاء، فَلِذَلِكَ سَأَلَ عَنْ عُلَمَائِهِمْ، أَوْ بَلَغَهُ عَمَّنْ يُكَرِّهُ صِيَامَهُ أَوْ يُوجِبُهُ». 8 - ومن تعظيم معاوية - رضي الله عنه - لسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تحريه موضع صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - داخل الكعبة فعن سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ: اعْتَمَرَ مُعَاوِيَةُ فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ وَجَلَسَ يَنْتَظِرُهُ حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: «أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمَ دَخَلَ الْبَيْتَ؟». قَالَ: «مَا كُنْتُ مَعَهُ وَلَكِنِّي دَخَلْتُ بَعْدَ أَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ أَيْنَ صَلَّى فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ صَلَّى بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ». فَقَامَ مُعَاوِيَةُ فَصَلَّى بَيْنَهُمَا. (رواه الإمام أحمد، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين). ¬

_ (¬1) باختصار من عون المعبود.

توقير معاوية - رضي الله عنه - لآل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

توقير معاوية - رضي الله عنه - لآل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْجُرَشِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَمُصُّ لِسَانَهُ أَوْ قَالَ شَفَتَهُ ـ يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ـ وَإِنَّهُ لَنْ يُعَذَّبَ لِسَانٌ أَوْ شَفَتَانِ مَصَّهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (رواه الإمام أحمد وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح). وأخرج ابن كثير في البداية والنهاية بسند صحيح، أن معاوية - رضي الله عنه -، كان إذا لقي الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: مرحبًا بابن رسول الله وأهلًا، ويأمر له بثلاثمائة ألف، ويلقى ابن الزبير - رضي الله عنهما - فيقول: مرحبًا بابن عمة رسول الله وابن حواريِّه، ويأمر له بمائة ألف (¬1). وأخرج الآجري عن الزهري قال: لما قُتل علي بن أبي طالب وجاء الحسن بن علي إلى معاوية - رضي الله عنهم -، فقال له معاوية: «لو لم يكن لك فضل على يزيد إلا أن أمك من قريش وأمه امرأة من كلب (¬2)، لكان لك عليه فضل، فكيف وأمك فاطمة بنت رسول - صلى الله عليه وآله وسلم -»؟! (¬3). ورواية أهل البيت عن معاوية - رضي الله عنه - دالة على فضله وصدقه عندهم, وممن روى عنه ابن عباس - رضي الله عنهما - ومحمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية) (¬4). ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (8/ 137). (¬2) قبيلة من قبائل العرب. (¬3) انظر كتاب الشريعة (5/ 2469 - 2470) وإسناده حسن. (¬4) انظر مسند الإمام أحمد (4/ 97).

أمر معاوية - رضي الله عنه - بالمعروف وإنكاره للمنكر

أمر معاوية - رضي الله عنه - بالمعروف وإنكاره للمنكر 1 - عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنه - عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِفَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ وَكَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ، فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَيَقُولُ: «إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «إِنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ زِيَّ سَوْءٍ وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَهَى عَنْ الزُّورِ». قَالَ: «وَجَاءَ رَجُلٌ بِعَصًا عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَلَا وَهَذَا الزُّورُ». قَالَ قَتَادَةُ: «يَعْنِي مَا يُكَثِّرُ بِهِ النِّسَاءُ أَشْعَارَهُنَّ مِنْ الْخِرَقِ» (رواه مسلم). قال الإمام النووي: «الْقُصَّة: الْخُصْلَة مِنْ الشَّعْر، وهِيَ شَعْر مُقَدَّم الرَّأْس الْمُقْبِل عَلَى الْجَبْهَة، وَقِيلَ: شَعْر النَّاصِيَة. وَالْحَرَسِيّ: وَاحِد الْحُرَّاس، وَهُمْ خَدَم الْأَمِير الَّذِينَ يَحْرُسُونَهُ. (يَا أَهْل الْمَدِينَة أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) هَذَا السُّؤَال لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِإِهْمَالِهِمْ إِنْكَار هَذَا الْمُنْكَر وَغَفْلَتهمْ عَنْ تَغْيِيره. وفِي هَذَا الحَدِيث اِعْتِنَاء معاوية - رضي الله عنه - بِإِنْكَارِ الْمُنْكَر، وَإِشَاعَة إِزَالَته، وَتَوْبِيخ مَنْ أَهْمَلَ إِنْكَاره مِمَّنْ تَوَجَّهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ» (¬1). فائدة: قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: «كَمَا يَحْرُم عَلَى الْمَرْأَة الزِّيَادَة فِي شَعْر رَأْسهَا يَحْرُم عَلَيْهَا حَلْق شَعْر رَأْسهَا بِغَيْرِ ضَرُورَة». (¬2) ¬

_ (¬1) باختصار من شرحه لصحيح مسلم. (¬2) باختصار من (فتح الباري).

2 - عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً لَقَدْ صَحِبْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ» (رواه البخاري). 3 - عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنْكَحَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ ابْنَتَهُ وَأَنْكَحَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَتَهُ وَكَانَا جَعَلَا صَدَاقًا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ يَأْمُرُهُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: هَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه أبو داود وحسنه الألباني). قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ: (وَكَانَا جَعَلَا صَدَاقًا) أَيْ كَانَا جَعَلَا إِنْكَاح كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا الْآخَر اِبْنَته صَدَاقًا. (فَكَتَبَ مُعَاوِيَة) بْن أَبِي سُفْيَان الْخَلِيفَة. (إِلَى مَرْوَان) بْن الْحَكَم وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَة مِنْ قِبَل مُعَاوِيَة - رضي الله عنه -. (وَقَالَ فِي كِتَابه) الَّذِي كَتَبَ إِلَى مَرْوَان. (هَذَا الشِّغَار الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وآله وسلم -) قَالَ الْإِمَام الْخَطَّابِيّ فِي (الْمَعَالِم): «إِذَا وَقَعَ النِّكَاح عَلَى هَذِهِ الصِّفَة كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَهَى عَنْهُ». (اهـ باختصار من عون المعبود). 4 - عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي الْخُوَارِ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَرْسَلَهُ إِلَى السَّائِبِ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: «نَعَمْ صَلَّيْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: «لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَنْ لَا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ» (رواه مسلم).

قال الإمام النووي في شرح لهذا الحديث من صحيح مسلم: «قَوْله: (صَلَّيْت مَعَهُ الْجُمُعَة فِي الْمَقْصُورَة) فِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز اِتِّخَاذهَا فِي الْمَسْجِد إِذَا رَآهَا وَلِيّ الْأَمْر مَصْلَحَة قَالُوا: وَأَوَّل مَنْ عَمِلَهَا مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان حِين ضَرَبَهُ الْخَارِجِيّ. قَوْله: (فَإِنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَلَّا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّم أَوْ نَخْرُج) فِيهِ دَلِيل لِمَا قَالَهُ أَصْحَابنَا (¬1) أَنَّ النَّافِلَة الرَّاتِبَة وَغَيْرهَا يُسْتَحَبّ أَنْ يَتَحَوَّل لَهَا عَنْ مَوْضِع الْفَرِيضَة إِلَى مَوْضِع آخَر، وَأَفْضَله التَّحَوُّل إِلَى بَيْته، وَإِلَّا فَمَوْضِع آخَر مِنْ الْمَسْجِد أَوْ غَيْره لِيَكْثُر مَوَاضِع سُجُوده وَلِتَنْفَصِل صُورَة النَّافِلَة عَنْ صُورَة الْفَرِيضَة. وَقَوْله: (حَتَّى نَتَكَلَّم) دَلِيل عَلَى أَنَّ الْفَصْل بَيْنهمَا يَحْصُل بِالْكَلَامِ أَيْضًا، وَلَكِنْ بِالِانْتِقَالِ أَفْضَل لِمَا ذَكَرْنَاهُ». (اهـ باختصار). ¬

_ (¬1) الشافعية.

معاوية - رضي الله عنه - طالبا للعلم والنصيحة

معاوية - رضي الله عنه - طالبًا للعلم والنصيحة 1 - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَأَلَ أُخْتَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُصَلّيِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُهَا فِيهِ؟» فَقَالَتْ: «نَعَمْ إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِ أَذًى» (صحيح رواه أبو داود). 2 - وكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيَان - رضي الله عنهما - إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضي الله عنها - أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها - إِلَى مُعَاوِيَةَ: «سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ»، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ» (رواه الترمذي وصححه الألباني). قال المباركفوري: «(مَنْ اِلْتَمَسَ) أَيْ طَلَبَ (بِسَخَطِ النَّاسِ) السَّخَطُ وَالسُّخُطُ وَالسُّخْطُ وَالْمَسْخَطُ الْكَرَاهَةُ لِلشَّيْءِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِهِ (كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ) لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مِنْ حِزْبِ اللهِ وَهُوَ لَا يَخِيبُ مَنْ اِلْتَجَأَ إِلَيْهِ، أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ. (وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ) أَيْ سَلَّطَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤْذُوهُ» (¬1). ¬

_ (¬1) باختصار من (تحفة الأحوذي).

بعض الأحاديث التي رواها معاوية - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -

بعض الأحاديث التي رواها معاوية - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُعَدُّ معاوية - رضي الله عنه - من الذين نالوا شرف الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومرَدُّ ذلك إلى ملازمته لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد فتح مكة وكان عمره في فتح مكة حوالي ثماني عشرة سنة، ولكونه صهر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وكاتبه فقد أتيحت له فرصة عظيمة مكَّنَتْه من الاستفادة من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقد روى معاوية - رضي الله عنه - مائة وثلاثة وستين حديثًا عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، واتفق له البخاري ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة، ومن هذه الأحاديث التي رواها معاوية - رضي الله عنه -: 1 - عن حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنه - يَخْطُبُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَيُعْطِي اللهُ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ» (رواه البخاري ومسلم). «وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَيُعْطِي اللهُ»، مَعْنَاهُ أَنِّي لَمْ اِسْتَأْثِرْ مِنْ مَال اللهِ تَعَالَى شَيْئًا دُونكُمْ، وَقَالَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ حِين فَاضِل فِي الْعَطَاء فَقَالَ: اللَّه هُوَ الَّذِي يُعْطِيكُمْ لَا أَنَا، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِم، فَمَنْ قَسَمْت لَهُ شَيْئًا، فَذَلِكَ نَصِيبه قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا (¬1). 2 - عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَمِّهِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ يَدْعُوهُ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه مسلم). ¬

_ (¬1) باختصار من شرح صحيح مسلم للنووي.

3 - عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْهَوْزَنِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَامَ فِينَا فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَامَ فِينَا فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ: ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ» (رواه أبو داود وحسنه الألباني). (وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّة):يَعْنِي أُمَّته - صلى الله عليه وآله وسلم -. (وَهِيَ):أَيْ الْوَاحِدَة الَّتِي فِي الْجَنَّة. (الْجَمَاعَة):أَيْ أَهْل الْقُرْآن وَالْحَدِيث وَالْفِقْه وَالْعِلْم الَّذِينَ اِجْتَمَعُوا عَلَى اِتِّبَاع أَثَارِهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي جَمِيع الْأَحْوَالِ كُلّهَا وَلَمْ يَبْتَدِعُوا بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِير وَلَمْ يُبَدِّلُوا بِالْآرَاءِ الْفَاسِدَة. (تَجَارَى):أَيْ تَدْخُل وَتَسْرِي. (تِلْكَ الْأَهْوَاء):أَيْ الْبِدَع. (الْكَلَبُ) الْكَلَب ـ بِالْكَافِ وَاللَّام الْمَفْتُوحَتَيْنِ ـ: دَاء يَعْرِض لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَضّ الْكَلْب وَهُوَ دَاء يُصِيب الْكَلْب فَيُصِيبهُ شِبْه الْجُنُون فَلَا يَعَضّ أَحَدًا إِلَّا كَلُبَ وَيَعْرِض لَهُ أَعْرَاض رَدِيَّة (¬1). 4 - عَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَوَاللهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ» (رواه مسلم). (وَالْإِلْحَاف: الْإِلْحَاح). 5 - عن عُمَيْرَ بْنَ هَانِئٍ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ». (رواه مسلم). ¬

_ (¬1) باختصار من (عون المعبود).

6 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ. قَالَ: آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي. وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟» قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: «آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟» قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ. قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ - عز وجل - يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ» (رواه مسلم). 7 - عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَاءَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَدِيثِهِمْ فَقَالُوا: كُنَّا فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَلَا أَزِيدُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. قَالُوا: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ الْأَنْصَارَ أَحَبَّهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ أَبْغَضَ الْأَنْصَارَ أَبْغَضَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» (رواه الإمام أحمد وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح). 8 - عن مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنه - قال: قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ كَالْوِعَاءِ، إِذَا طَابَ أَسْفَلُهُ طَابَ أَعْلَاهُ، وَإِذَا فَسَدَ أَسْفَلُهُ فَسَدَ أَعْلَاهُ» (صحيح رواه ابن ماجه). (إِذَا طَابَ أَسْفَله) كَأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْعِبْرَة بِالْخَوَاتِيمِ (¬1). ¬

_ (¬1) قاله السندي في (حاشيته على سنن ابن ماجه).

علم معاوية - رضي الله عنه - وفقهه

علم معاوية - رضي الله عنه - وفقهه استفاد معاوية - رضي الله عنه - من ملازمته لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - علمًا وتربية، وقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحاديث كثيره قد ذَكرنا بعضها، وقد روى له البخاري ومسلم مع شرطهما أن لا يرويان إلا عن ثقة ضابط صدوق. وشهد له ابن عباس بالفقة , فعن ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: «قِيلَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: «هَلْ لَكَ فِى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ مَا أَوْتَرَ إِلاَّ بِوَاحِدَةٍ». قَالَ: «إِنَّهُ فَقِيهٌ». (رواه البخاري). قال الشُرّاح: أي مجتهد. وفي رواية أُخرى للبخاري عن أبي مليكة قال: «أوتر معاوية - رضي الله عنه - بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس - رضي الله عنهما - فأتى ابن عباس فَقَالَ «:دَعْهُ، فَإِنَّهُ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». وكان ابن عباس - رضي الله عنه - من فضلاء الصحابة، ويُلقّب: البحر، لسعة علمه وحبر الأمة، وترجمان القرآن، وقد دعا له الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بالعلم والحكمة والتأويل (¬1)، وكان من خواص أصحاب علي - رضي الله عنه - وشديد الإنكار على أعدائه، وأرسله علي - رضي الله عنه - ليُحَاجَّ الخوارجَ فحاجَّهم حتى لم يُبق لهم حجة. فإذا شهد مثله لمعاوية بأنه مجتهد وكَفَّ مولاه عن الإنكار مستدلًا بأنه من الصحابة فهذه الشهادة دليل على سعة علم معاوية - رضي الله عنه -. كما أن معاوية - رضي الله عنه - كان كاتب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ¬

_ (¬1) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا مِنْ اللَّيْلِ، فَقَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ: «وَضَعَ لَكَ هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ». فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ». (رواه الإمام أحمد، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم).

ذكر بعض ما جاء من ثناء الصحابة على معاوية - رضي الله عنهم -

ذكر بعض ما جاء من ثناء الصحابة على معاوية - رضي الله عنهم - * قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قُبيل وفاته: «اللهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ، وَإِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ وَيَرْفَعُوا إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِم». (رواه مسلم). وقد توفي عمر ومعاوية - رضي الله عنهما - أمير الشام. قال الإمام الذهبي - رحمه الله -: «حَسْبُكَ بِمَنْ يُؤَمِّرُهُ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ عَلَى إِقْلِيْمٍ ـ وَهُوَ ثَغْرٌ ـ فَيَضْبِطُهُ، وَيَقُوْمُ بِهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَيُرْضِي النَّاسَ بِسَخَائِهِ وَحِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَأَلَّمَ مَرَّةً مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فَلْيَكُنِ المَلِكُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَيْرًا مِنْهُ بِكَثِيْرٍ، وَأَفْضَلَ، وَأَصْلَحَ، فَهَذَا الرَّجُلُ سَادَ وَسَاسَ العَالَمَ بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَفَرْطِ حِلْمِهِ، وَسَعَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ دَهَائِهِ وَرَأْيِهِ» (¬1). * وروى الطبري في التاريخ والبلاذري بسند صحيح عن سعيد المقبُري، قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «تَذكرونَ كِسْرَى وقَيْصَرَ ودَهاءَهُما؛ وعندَكم معاوية». * وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: ما رأيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أسْوَدَ (¬2) من معاوية». فقيل: ولا أبوك؟ قال: أبي عمر ـ رحمه الله ـ خير من معاوية، وكان معاوية أسود منه (¬3). ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (5/ 128). (¬2) من السيادة. (¬3) رواه الخلال في السنة (1/ 443)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (3/ 152)، وابن كثير في البداية والنهاية (8/ 137).

* قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «ما رأيت رجلًا كان أخْلَق (¬1) للملك من معاوية» (¬2). * عَنْ أَبِى إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىِّ قَالَ لَمَّا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُمَيْرَ بْنَ سَعِيدٍ عَنْ حِمْصَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ النَّاسُ: «عَزَلَ عُمَيْرًا وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ». فَقَالَ عُمَيْرٌ: «لاَ تَذْكُرُوا مُعَاوِيَةَ إِلاَّ بِخَيْرٍ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ «اللَّهمَّ اهْدِ بِهِ». (رواه الترمذي وصححه الألباني). * عن مرجانة أم علقمة مولى عائشة، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: «إني لأتمنى أن يزيدَ اللهُ - عز وجل - معاويةَ مِن عُمري في عُمره» (¬3). * وروى الشافعي في (الأم) وعبد الرزاق والبيهقي وابن عساكر بسند جيد عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «ليس أحدٌ منا أعلم من معاوية». * وروى البخاري في (صحيحه) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال عن معاوية: «إِنَّهُ فَقِيهٌ». وفي رواية في البخاري أيضًا عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال عن معاوية: «إِنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». * وقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: «ما رأيت أحدًا بعد عثمان أقضى بحقٍّ من صاحب هذا الباب» , يعني: معاوية (¬4). * قال أبوالدَّرداء - رضي الله عنه -: «ما رأيتُ أشْبَهَ صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مِن أميركم هذا»، يعني معاوية (¬5). ¬

_ (¬1) أخلق: أجدر. (¬2) رواه عبد الرزاق في المصنف (برقم 20985) بسند صحيح. (¬3) رواه أبوعَرُوبة الحرَّاني في الطبقات (ص41)، وسنده صحيح. (¬4) سير أعلام النبلاء (3/ 150). (¬5) رواه الطبراني، والبغوي في (معجم الصحابة) وسنده صحيح.

ذكر بعض ما جاء من ثناء التابعين على معاوية - رضي الله عنه -

ذكر بعض ما جاء من ثناء التابعين على معاوية - رضي الله عنه - * قال أبو إسحاق السبيعي الكوفي: «كان معاوية، وما رأينا بعده مثله» (¬1). * وعن مجاهد قال: «لو رأيتم معاوية لقُلْتم هذا المهدي من فضله» (¬2). * وقال قتادة: «لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثَرُكُم: «هذا المهدي» (¬3). * وقيل للحسن البصري: «يا أبا سعيد، إن ههنا قوما يَشتمون ـ أو يلعنون ـ معاوية وابن الزبير!» فقال: «عَلَى أولئك الذين يَلعَنونَ لعنةُ اللهِ» (¬4). * وقال أبومُسْلِم الخَوْلاني لمعاوية: «فلا والله ما أبغضْناكَ منذ أَحببْناك، ولا عَصَيناك بعدما أَطَعْناك، ولا فارَقْناكَ بعدَما جامَعَنْاك، ولا نَكَثْنا بَيْعَتَنا منذُ بايَعْناك، سُيوفُنا على عَواتِقِنا، إنْ أَمَرْتَنا أَطَعْناك، وإنْ دَعَوْتَنا أَجَبْناك، وإنْ سَبَقْتَنا أَدْرَكْناك، وإنْ سَبَقْناكَ نَظَرْناك» (¬5). * وعن الزهري قال: «عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئًا» (¬6). * وقد أثنى عليه قبيصة بن جابر الأسدي ـ وهو من كبار التابعين ـ بقوله: «ألا أخبركم من صحبت؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلًا أفقه فقهًا ولا أحسن ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد وابن عساكر بسند صحيح. (¬2) رواه الخلال في (السنة) والبغوي في (المعجم) وابن عساكر، وسنده صحيح. (¬3) السنة للخلال (1/ 438). (¬4) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 206)، وسنده صحيح. (¬5) رواه أحمد في (مسائل ابنه صالح)، وفي (الزهد) بسند جيّد. (¬6) السنة للخلال (1/ 444)، وقال المحقق إسناده صحيح.

مدارسة منه، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله، فما رأيت رجلًا أعطى للجزيل من غير مسألة منه؛ ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلًا أحب رفيقًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه». وقال أيضًا: «ما رأيت أحدًا أعظم حلمًا ولا أكثر سؤددًا ولا أبعد أناة ولا ألين مخرجًا ولا أرحب باعًا بالمعروف من معاوية» (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري (5/ 337)، التاريخ الكبير للبخاري (7/ 175)، البداية والنهاية (8/ 138).

ذكر بعض ما جاء من ثناء العلماء على معاوية - رضي الله عنه -

ذكر بعض ما جاء من ثناء العلماء على معاوية - رضي الله عنه - * قال ابن أبي العز الحنفي: «وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين (¬1). * يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَفْضَلُ مُلُوكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْأَرْبَعَةَ قَبْلَهُ كَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ؛ كَانَ مُلْكُهُ مُلْكًا وَرَحْمَةً كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ... (¬2) وَكَانَ فِي مُلْكِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحِلْمِ وَنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ» (¬3). وقال أيضًا: «فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَمَا أَمَّرَ غَيْرَهُ وَجَاهَدَ مَعَهُ وَكَانَ أَمِينًا عِنْدَهُ يَكْتُبُ لَهُ الْوَحْيَ وَمَا اتَّهَمَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي كِتَابَةِ الْوَحْيِ. وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِالرِّجَالِ ـ وَقَدْ ضَرَبَ اللهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ ـ وَلَمْ يَتَّهِمْهُ فِي وِلَايَتِهِ. وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَبَاهُ أَبَا سُفْيَانَ إلَى أَنْ مَاتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ عَلَى وِلَايَتِهِ فَمُعَاوِيَةُ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ وَأَحْسَنُ إسْلَامًا مِنْ أَبِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ» (¬4). * وقال الإمام الذهبي عن معاوية - رضي الله عنه -: «أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ، مَلِكُ الإِسْلاَمِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ القُرَشِيُّ، الأُمَوِيُّ، المَكِّيُّ» (¬5). ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الطحاوية (ص 722). (¬2) قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أوَّلُ هَذَا الْأمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةً ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً» (رواه الطيالسي وأحمد والبزار، وصححه العراقي والألباني، انظر: الصحيحة3270) (¬3) مجموع الفتاوى (4/ 478). (¬4) نفس المصدر (4/ 472). (¬5) سير أعلام النبلاء (5/ 116).

وقال: «حَسْبُكَ بِمَنْ يُؤَمِّرُهُ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ عَلَى إِقْلِيْمٍ ـ وَهُوَ ثَغْرٌ ـ فَيَضْبِطُهُ، وَيَقُوْمُ بِهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَيُرْضِي النَّاسَ بِسَخَائِهِ وَحِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَأَلَّمَ مَرَّةً مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فَلْيَكُنِ المَلِكُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَيْرًا مِنْهُ بِكَثِيْرٍ، وَأَفْضَلَ، وَأَصْلَحَ، فَهَذَا الرَّجُلُ سَادَ وَسَاسَ العَالَمَ بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَفَرْطِ حِلْمِهِ، وَسَعَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ دَهَائِهِ وَرَأْيِهِ» (¬1). * تحدث القاضي ابن العربيِّ المالكي عن الخصال التي اجتمعت في معاوية - رضي الله عنه - , فذكر منها: « ... قيامه بحماية البيضة, وسدِّ الثغور, وإصلاح الجند, والظهور على العدوِّ , وسياسة الخلق» (¬2). * وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: «وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلًا بالأمر إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته , والجهاد في بلاد العدو قائم , وكلمة الله عالية , والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض , والمسلمون معه في راحة وعدل , وصفح وعفو» (¬3). وقال عنه أيضًا: «كان جيد السيرة , حسن التجاوز جميل العفو , كثير الستر، رحمه الله تعالى» (¬4). * يقول ابن قدامة المقدسي: «ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين رضي الله تعالى عنهم» (¬5). ¬

_ (¬1) نفس المصدر (5/ 128). (¬2) العواصم من القواصم (ص 210, 211). (¬3) البداية والنهاية (11/ 400). (¬4) نفس المصدر (11/ 419) (¬5) لمعة الاعتقاد (ص 33).

* قال المؤرخ العلامة ابن خلدون: «إن دولة معاوية وأخباره كان ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين وأخبارهم، فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة» (¬1). * قال الشيخ محب الدين الخطيب - رحمه الله -: «سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن برأيي في الرجال ما تقول في معاوية؟». فقلت له: «ومن أنا حتى أسأل عن عظيم من عظماء هذه الأمة، وصاحب من خيرة أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، إنه مصباح من مصابيح الإسلام، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها على نوره» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر هذا القول في العواصم من القواصم (ص213). (¬2) حاشية محب الدين الخطيب على كتاب العواصم من القواصم (ص95).

تواضع معاوية - رضي الله عنه - وزهده

تواضع معاوية - رضي الله عنه - وزهده 1 - روى الإمام أحمد في (الزهد) وابن أبي عاصم بسند صحيح عن أبي حملة قال: «رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه قميص مرقوع». 2 - وعن يونس بن ميسر الحميري الزاهد ـ وهو من شيوخ الأوزاعي ـ قال: «رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مُرْدِفٌ وراءَه وصيفًا (¬1)، وعليه قميص مرقوع الجَيْب يسير في أسواق دمشق (¬2). 3 - قال ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي قال: قال معاوية: «يأيها الناس! ما أنا بخيركم وإن منكم لمن هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدَرّكم حلبًا» (¬3). 4 - عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامُوا لَهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه الإمام أحمد وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين). وعَنْه أيضًا قَالَ: «خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ، فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ: اجْلِسْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه الترمذي وأبو داود ـ واللفظ له ـ وصححه الألباني). ¬

_ (¬1) الوصيف: الخادم. (¬2) تاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 171)، البداية والنهايةلابن كثير8 (/143). (¬3) تاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 163)، البداية والنهايةلابن كثير (8/ 143).

حلم معاوية - رضي الله عنه - ورحابة صدره

حِلم معاوية - رضي الله عنه - ورحابة صدره (¬1) لقد كان حلم معاوية - رضي الله عنه - ورحابة صدره مضرب المثل، وأخباره في ذلك كثيرة جدًا، وقد أفرد الحافظان ابن أبي الدنيا وابن أبي عاصم تصنيفًا في حلم معاوية. 1 - قال ابن عون: «كان الرجل يقول لمعاوية: «والله لتستقيمن بنا يا معاوية أو لنُقَوِّمَنَّكَ»، فيقول: «بماذا؟»، فيقول: «بالخشب»، فيقول: «إذن نستقيم». 2 - وقال قبيصة بن جابر: «صحبتُ معاوية فما رأيت رجلًا أثقل حلمًا ولا أبطأ جهلًا ولا أبعد أناةً منه». 3 - عن أبي مسلم الخولاني، أنه نادى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وهو جالس على منبر دمشق فقال: «يا معاوية، إنما أنت قبر من القبور إن جئت بشيء كان لك شيء وإن لم تجئ بشيء فلا شيء لك. يا معاوية، لا تحسبَنَّ الخلافة جمع المال، وتفرقته ولكن الخلافة العمل بالحق والقول بالمعدلة، وأخذ الناس في ذات الله، يا معاوية، إنا لا نبالي بكدر الأنهار وما صفَت لنا رأس عيننا وإنك رأس أعيننا، يا معاوية إنك إن تَحِفْ على قبيلة من قبائل العرب يذهب حيفُك بعدلِك». فلما قضى أبو مسلم مقالته أقبل عليه معاوية فقال: «يرحمك الله يرحمك الله» (¬2). 4 - وقال بعضهم: أسمَعَ رجلٌ معاويةَ كلامًا سيئًا شديدًا، فقيل له: «لو سطوت عليه؟»، فقال: «إني لأستحيي من الله أن يضيق حِلمي عن ذنبِ أحدٍ من رعيتي». ¬

_ (¬1) انظر ترجمة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - في (تاريخ دمشق لابن عساكر 59/ 55 - 241). وترجمته في (البداية والنهاية 8/ 125 - 156). (¬2) رواه الإمام أحمد في الزهد (2351).

وفي رواية قال له رجل: «يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟»، فقال: «إني لاستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي». 5 - وقال له ابن أخته عبد الرحمن بن أبي الحكم: «إن فلانا يشتمني»، فقال له معاوية: «طأطئ لها؛ فتمر؛ فتجاوزك». 6 - وقال: «لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم». 7 - وقيل لمعاوية - رضي الله عنه -: «مَن أسودُ الناس؟» قال: «أسخاهم نفسًا حين يُسأل، وأحسنهم في المجالس خلقًا، وأحلمهم حين يستجهل».

جهاد معاوية - رضي الله عنه - وفتوحاته

جهاد معاوية - رضي الله عنه - وفتوحاته شهد معاويةُ - رضي الله عنه - مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حُنينا والطائف، وشهد غزوة تبوك، وهي العُسرة. وفي أيام أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - شهد حرب المرتدين في اليمامة. ثم جمع أبو بكر - رضي الله عنه - أناسًا ووجههم إلى الشام، وأمَّر عليهم معاوية - رضي الله عنه -، وأمرهم باللحاق بيزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وهي أول مهمة قيادية يتولاها معاوية. ثم صَحِبَ أخاهُ يَزيدَ أميرَ الشام في فُتوحها، وشهد اليرموك، وفتح دمشق تحت راية يزيد. وفي عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أرسل يزيدُ حملةً بإمرة أخيه معاوية - رضي الله عنهما - إلى سواحل بلاد الشام فافتتحها. وكان معاوية - رضي الله عنه - من الجيش الذي فتح بيت المقدس، ودخل المسجد مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكان أحد أربعة شهدوا على العَهد العُمَري الشهير. وفي سنة تسع عشرة زمن عمر كانَ معاويةُ - رضي الله عنه - قائدَ فتحِ قَيْسَارِيَّة، من المعارك الفاصلة مع الروم، وكان فيها بَطارِقَتُهم، وقد حاصرها معاوية حصارًا شديدًا، وأبلى فيها بلاءً كبيرًا. فعن عبد الله بن العلاء، قال: ثَغَرَ المسلمون من حائط قيساريةِ فلسطين ثغرة؛ فتحاماها الناس، فكتب عمر إلى معاوية - رضي الله عنهما - بتوليه قتالها، فتناول اللواء وأنهض الناس وتبعوه، فركز لواءه في الثغرة؛ فقال: «أنا ابن عنبسة». يريد الأسد (¬1). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/ 381) بسند صحيح.

وتولى معاوية إمارة دمشق في عهد عمر بعد وفاة يزيد - رضي الله عنهم - في طاعون عَمَواس سنة 18، ثم تفرد بإمرة الشام آخر عهد عمر، وقام على ثغورها، وفتح عسقلان، وتتبع ما بقي من فلسطين. وكان قد استأذن عمر في بناء قوة بحرية لمحاربة الروم فلم يأذن. ثم توفي عمر وهو عن معاوية راض، فأقرّه عثمان بن عفان ـ - رضي الله عنهم - جميعًا ـ على إمرة الشام كلها، وكان معاوية يغزو الروم، وكان على رأس صائفة، واستطاع أن يصل إلى عمّورية (موقع أنقرة اليوم)، ومعه عدد من الصحابة، منهم: عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وأبو الدرداء، وشداد بن أوس - رضي الله عنهم -. وأعاد معاوية طلب بناء قوة بحرية للمسلمين، فوافق عثمان - رضي الله عنه -، فبنى أسطولًا، وغزا بنفسه جزيرة قبرص سنة خمس وعشرين وقيل سنة ثمان وعشرين. وعندما قامت الدولة الأموية استكمل معاوية - رضي الله عنه - ما بدأه في بناء القوة البحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية بإقامة المراكب للغزو إلى جانب ترتيب الحفظة في السواحل مما استولى عليه المسلمون من قواعد ومنشآت بحرية، وعندما خرجت الروم في عهده إلى السواحل الشامية أمر بجمع الصناع من النجارين فجُمعوا ورتبهم في السواحل الشامية وجعل مقر دار صناعة السفن في جند الأردن بعكا. كما أنشأ الخليفة معاوية - رضي الله عنه - أول دار صناعة للأساطيل لإنتاج السفن الحربية المختلفة بمصر سنة 54هـ في عهد واليها مسلمة بن مخلد الأنصاري، وكان مقرها بجزيرة الروضة لذا عرفت باسم صناعة الروضة. وبلغت السفن الحربية في عهد معاوية - رضي الله عنه - نحوًا من ألف وسبعمائة سفينة شراعية مشحونة بالرجال والسلاح وجميع العتاد، والمستلزمات القتالية البحرية.

وجاء حديثٌ في فضل أوّل من يغزو البحر من الأمة كما تقدّم (¬1)، وهو أمير تلك الغزوة، ومعه عدد من الصحابة، وقام بتحصين أسوار سواحل الشام عند ذهابه إلى قبرص، مثل عكا وصور، وأنشأ حصونًا وشحنها بالجند. ثم أعاد فتح قبرص سنة 33 عندما نقض أهلها العهد. كما غزا معاوية بلاد الروم على رأس صائفة، فوصل إلى (حصن المرأة) قرب ثغر ملاطية. وكان لمعاوية إسهام في دحر بقايا الروم في سواحل الشام، مثل طرابلس. توقفت الفتوحات بعد مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مظلومًا. قال سعيد بن عبد العزيز: لما قُتل عثمان واختلف الناس لم تكن للناس غازية ولا صائفة حتى اجتمعت الأمة على معاوية سنة أربعين، وسمّوها سنة الجماعة. قال سعيد: فأغزا معاويةُ الصوائف وشتّاهم بأرض الروم؛ ست عشرة صائفة تصيفُ بها وتشتُو، ثم تَقفلُ وتدخلُ مُعَقِّبَتُها، ثم أغزاهم معاويةُ ابنَه يزيد في سنة ثنتين وخمسين في جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - و - رضي الله عنهم - في البر والبحر؛ حتى أجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينة على بابها، ثم قَفِل. فلم يزل معاوية على ذلك حتى مضى لسبيله، وكان آخر ما وصّاهم به أن شُدّوا خناق الروم، فإنكم تَضبِطون بذلك غيرَهم من الأمم. ¬

_ (¬1) روى البخاري في صحيحه عن أم حَرَام الأنصارية أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا». قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ - رضي الله عنها -:قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا فِيهِمْ؟» قَالَ: «أَنْتِ فِيهِمْ».ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ» فَقُلْتُ: «أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟» قَالَ: «لَا». (رواه البخاري). (مَدِينَةَ قَيْصَر) يَعْنِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة. (قَدْ أَوْجَبُوا) أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّة. قَالَ الْمُهَلَّب: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَة لِمُعَاوِيَة لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ، وَمَنْقَبَةٌ لِوَلَدِهِ يَزِيد لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ.

ولم يقتصر الأمر على الغزو الهجومي، بل وزَّع معاوية الصُنّاع والجند على سواحل الشام، بعد أن كانت الصناعة في مصر فقط. ثم عادت الفتوحات واتسعت أيام خلافة معاوية، وأرسل لحصار القسطنطينية. ثم جدد حصارها ولمدة أربع سنوات (من سنة 53 إلى 57هـ). وغزا جُزُرَ صقلية، ورودس، وجربا، كريت، وكثير من جزر بحر إيجة قرب القسطنطينية. وأما في إفريقية، فقد جدد معاوية فتحها، ووصل إلى مكان تونس اليوم، كما فتح مناطق من فزّان، والسودان. وفي عهده افتتح بعض المناطق في المشرق، مثل الرُّخّج وبعض سجستان، وقوهستان، وغزا أمراؤه بلادَ السِّند، وجبال الغور، وبلاد اللان، واجتازوا النهر، وهم أول من اجتازه من جند المسلمين، ودخلوا بخارى، وسمرقند، وتِرْمِذ. وفي عهده شَتَّتَ الخوارجَ، واشتدَّ وُلاتُه عليهم، وأراحوا المسلمين من شرِّهم. والحاصل كما قال أبونعيم: «مَلَكَ الناسَ كلَّهم عشرين سنة منفردًا بالمُلك، يفتح الله به الفتوح، ويغزو الروم، ويقسم الفيء والغنيمة، ويقيم الحدود، والله تعالى لا يُضِيْعُ أجرَ من أحسنَ عَملًا» (¬1). وتحدث القاضي ابن العربيِّ المالكي عن الخصال التي اجتمعت في معاوية - رضي الله عنه - , فذكر منها: « ... قيامه بحماية البيضة, وسدِّ الثغور , وإصلاح الجند , والظهور على العدوِّ , وسياسة الخلق» (¬2). ¬

_ (¬1) معرفة الصحابة (5/ 2497). (¬2) العواصم من القواصم (ص 210, 211).

عدل معاوية - رضي الله عنه -

عدل معاوية - رضي الله عنه - عن عطية بن قيس قال: «خطبنا معاوية فقال: «إن في بيت مالكم فضلًا عن أعْطِيَاتِكُمْ وأنا قاسمٌ بينكم ذلك، فإن كان فيه في قابلَ فَضْلٌ قسمناه بينكم، وإلا فلا عتيبة علينا فيه؛ فإنه ليس بمالنا إنما هو فَيْءُ الله الذي أفاءه عليكم «(¬1). وعن الزهري قال: «عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئًا» (¬2). وقال ابن كثير في ترجمة معاوية - رضي الله عنه -: «وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلًا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي في الأموال (536)، وابن زنجويه في الأموال (724). (في قابلَ): في الْعَامُ الْمُقْبِلُ، (الفيء): ما يؤخذ من العدو من مال ومتاع بغير حرب. (¬2) السنة للخلال (1/ 444)، وقال المحقق إسناده صحيح. (¬3) البداية والنهاية (8/ 119).

حرص معاوية - رضي الله عنه - على توطين الأمن في خلافته

حرص معاوية - رضي الله عنه - على توطين الأمن في خلافته (¬1) من القواعد التي بنى عليها معاوية - رضي الله عنه - سياسته الداخلية توطيد الأمن في ربوع العالم الإسلامي وقد اتخذ معاوية عدة وسائل لتحقيق هذا الهدف. 1 ـ الحاجب: كان معاوية بن أبي سفيان أول من اتخذ الحاجب في الإسلام، لكي يتجنب محاولات الاعتداء عليه، وكانت بعض المظاهر الملكية لها ما يبررها في هذه الحقبة التاريخية فقد عبر ابن خلدون عن احتجاب الخلفاء عن الناس، على النحو التالي: «كان أول شيء بدأ به في الدولة شأن الباب وستره دون الجمهور، لما كان يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعُمر وعلي ومعاوية وعمرو ابن العاص وغيرهم - رضي الله عنهم -، مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات، فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب» (¬2). وقد كان معاوية وبنو أمية يعيشون في الشام قريبًا من أعدائهم الموتورين من الروم، فضلًا عن أعدائهم الموتورين من الشيعة والخوارج المتفرقين في البلاد، وكانوا يرون لابد لهم لاستقرار الدولة الإسلامية التي قتل ثلاثة من خلفائها من اتخاذ نمط من أنماط الحراسة والاحتراز. 2 ـ الحرس: كان معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - أول من اتخذ الحرس في الدولة الإسلامية، خوفًا من الخوارج الذين كانوا يريدون قتله، فقد أمر بالمقصورات في الجوامع وكان لا ¬

_ (¬1) انظر ما ذكره الدكتور علي الصلابي في كتابه (الدولة الأموية ص312 - 315). (¬2) تاريخ ابن خلدون (2/ 49 ـ 150).

يدخلها إلا الثقات وحراسه، وكما يبدو أن معاوية لم يكتف باتخاذ الحرس، بل اتخذ المقاصير زيادة في التشدد وذلك لحماية نفسه من أي اعتداء قد يقع عليه. 3 ـ الشرطة: وظيفتها المحافظة على الأمن والنظام، والقبض على اللصوص والجناة والمفسدين، والدفاع عن الخليفة، وهي غير مسؤولة عن صد أي هجوم خارجي عن الدولة، وقد قام معاوية - رضي الله عنه - بتنظيمها وتطويرها في الشام. والشرطة لا يقتصر وجودها على عاصمة الخلافة فقط بل في الولايات الإسلامية الأخرى وهم يتبعون الولاة فهم الذين يختارونهم ويعينونهم وكان وجودها مهمًا للدولة والمجتمع، فالدولة تعتمد عليها في قمع المتمردين، وفي القضاء على الثورات، والاضطرابات، وربما كانت تحل محل الجند في حالة غيابهم واشتراكهم في الغزوات، وهي للمجتمع، لأنها تعمل على تحقيق الأمن والاستقرار، فهي الجهة الوحيدة المسؤولة عن حماية أرواح الناس، وحفظ حقوقهم وأموالهم من اعتداء بعضهم على بعض.

اهتمام معاوية - رضي الله عنه - برعيته

اهتمام معاوية - رضي الله عنه - برعيته (¬1) عن أبي قبيل قال: «كان معاوية يبعث رجلًا يقال له أبو الجيش في كل يوم فيدور على المجالس يسأل هل ولد لأحد مولود؟ أو قدم أحد من الوفود؟ فإذا أخبر بذلك أثبت في الديوان» ـ يعني ليجري عليه الرزق. (¬2) وعن أبي عثمان الشامي، قال: كان معاوية يَخرج علينا ونحن في الكُتّاب، ويقول للمعلم: «يا معلِّم، أَحْسِن أَدَبَ أبناءِ المُهاجرين» (¬3). ومن إصلاحات معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - أنه أول من بلّط المدينة المنورة بالحجارة، وبنى فيها مرافق وحصنًا لأهلها. (¬4) وكان يُرسل الأطعمة إلى المدينة كما كان يُفعل أيام عمر، وأمر بحفر نهر مَعْقِل (¬5). واهتم بالمسجد الحرام وأمر بتوسعته وأجرى له القناديل والزيت من بيت المال وأضاء المصابيح فيه لأهل الطواف، واهتم بالمسجد الأقصى، وقام مسلمة بن مخلد أمير مصر من قبل معاوية بالزيادة في المسجد الجامع بالفُسطاط عام 53هـ وبنى له أربع منارات شامخة وفرشه بالحصير. واهتم معاوية - رضي الله عنه - بالمرافق العامة في الدولة الإسلامية، وحرص على توفير مياه الشرب في المدينة، وأجرى في الحرم المكي عيونًا وأنشأ آبار المياه على الطرقات، فربط بين أجزاء مملكته ربطًا محكمًا. وجعل دار المراجل بمكة، والتي كان يطبخ فيها طعام الحجاج وطعام الصائمين من الفقراء في شهر رمضان المبارك وقفًا في سبيل الله. ¬

_ (¬1) انظر (البداية والنهاية 8/ 125 - 156)، والدولة الأموية للصلابي (ص321 - 327). (¬2) يجري عليه الرزق: أي يحدد له راتبًا من بيت المال. (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في (العيال) (293) بسند صحيح. (¬4) انظر أخبار المدينة لابن شبة (1/ 16، 271). (¬5) فتوح البلدان للبلاذري (ص253، 439).

بعض ما روي من أقوال معاوية - رضي الله عنه -

بعض ما رُوي من أقوال معاوية - رضي الله عنه - (¬1) 1 - «إني لأرفع نفسي من أن يكون ذنبٌ أعظمَ من عَفوي، وجهلٌ أكثر من حِلمي، أو عورةٌ لا أواريها بسِتْري، أو إساءةٌ أكثر من إحساني». 2 - «ما مِن شيء ألذُّ عندي من غيظٍ أتجَرَّعُه أرجو بذلك وجه الله». 3 - «العقلُ والحِلمُ أفضل ما أُعطي العبدُ، فإذا ذُكِّرَ ذَكَر، وإذا أُعطيَ شَكر، وإذا ابتُليَ صَبر، وإذا غضب كظم، وإذا قَدر غَفر، وإذا أساءَ استغفر، وإذا وعَد أنجز». 4 - «إصلاحُ مالٍ في يَدَيك أفضلُ مِن طَلَب الفَضْلِ مِن أيدي الناس، وحُسن التدبير مع الكَفاف أحبُّ إليَّ من الكثير». 5 - «أفضل الناس من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا وعد أنجز، وإذا أساء استغفر». 6 - «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت». قيل: «وكيف يا أمير المؤمنين؟». قال: «كانوا إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها». 7 - «المروءة في أربع، العفاف في الاسلام، واستصلاح المال، وحفظ الإخوان، وحفظ الجار». 8 - «إياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: «سمعتُ وبلغني»، فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لَسُئِلَ عنها يوم القيامة». ¬

_ (¬1) انظر ترجمة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - في تاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 55 - 241). والبداية والنهاية (8/ 125 - 156).

9 - «لا يبلغ الرجلُ مبلغَ الرأي حتى يغلبَ حِلمُه جهلَه، وصبرُه شهوتَه، ولا يبلغُ الرجلُ ذلك إلا بقوة الحلم». 10 - «إن الرشيد من رشد عن العجلة، وإن الخائب من خاب عن الأناة، وإن المتثبت مصيب أو كاد يكون مصيبًا، وإن العَجِلَ مخطئ أو كاد يكون مخطئًا، ومن لا ينفعه الرفق يضره الخرق، ومن لا تنفعه التجارب لا يبلغ المعالي، ولا يبلغ رجل مبلغ الرأي حتى يغلب صبرُه شهوتَه وحلمُه غضبَه». (الخرق: ضد الرفق).

كشف شبهات الشيعة حول معاوية - رضي الله عنه -

كشف شبهات الشيعة حول معاوية - رضي الله عنه - (¬1) ما من شخصية في تاريخنا الإسلامي، من الرعيل الأول من الصحابة الذين تربوا على يدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - و - رضي الله عنهم - قد نالها من التشويه والدس والافتراء والظلم، مثل ما نال معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -؛ حيث امتلأت معظم المصادر التاريخية بعشرات الروايات الضعيفة أو المكذوبة على هذا الصحابي الكريم .. فكان لابد من الدفاع عن عرضه وفق المنهج الصحيح. وإن الشبهات التي قيلت في ذم معاوية - رضي الله عنه - ليست بشيء! ولولا أنها ذكرت واعتقد بعض الناس صحتها لكان الإضراب عنها صفحًا أولى من ذكرها. فإن الإعراض عن القول الساقط أفضل وأحرى لإماتته، وإخمال ذكر قائله وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيها للجهال عليه. وهذه الشبهات التي ذكرت في معاوية - رضي الله عنه - إما أحاديث صحيحة ليس فيها ذم لمعاوية - رضي الله عنه - بل يفهم منها المدح له. ¬

_ (¬1) انظر: * شبهات حول الصحابة والرّدّ عليها، أَميرُ المُؤْمِنين مُعاويةُ بنُ أَبي سُفْيَان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وتقديم وتعليق الشيخ محمد مال الله. * شبهات وأباطيل حول معاوية ابن أبي سفيان لأبي عبد الله الذهبي. * سل السِّنان في الدفاع عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - لسعد بن ضيدان السبيعي. * كشف الجاني محمد التيجاني في كتبه الأربعة: ثم اهتديت، فاسألوا أهل الذكر، مع الصادقين، الشيعة هم أهل السنة، للشيخ عثمان الخميس.

وإما أخبار ساقطة يرويها الأخباريون وأهل التاريخ بلا زمام ولا خطام، ويتولى كبر الترويج لها أهلُ البدع والأهواء. ومنها ما يكون رواتها من المتروكين كأبي مخنف لوط بن يحيى فهو إخباري تالف لا يوثق به. ونصر بن مزاحم صاحب كتاب (صفين) فهو رافضي متروك الحديث. ومحمد بن السائب الكلبي المفسر الإخباري فهو متروك الحديث أيضًا. ومحمد بن عمر الواقدي، متروك (¬1). والبلاذري أحمد بن يحيى بن جابر بن داود المتوفى سنة 279هـ صاحب كتاب «أنساب الأشراف»، وهو وإن كان صدوقًا في نفسه إلا أنه انفرد بذكر آثار وقصص في ذم معاوية لا يتابَع عليها ـ وأطال في ترجمته جدًا ـ وقد أنكرها أهل الحديث عليه، نقل ذلك هو بنفسه فقال: «قال لي هشام بن عمار: نظرت في أحاديث معاوية عندكم فوجدت أكثرها مصنوعًا» وذكر مثالًا لذلك (¬2)! وهشام بن عمار رحمه الله المتوفى سنة 245هـ إمام من أئمة الحديث من شيوخ البخاري ومن شيوخ البلاذري نفسه. ¬

_ (¬1) انظر: الكامل لابن عدي (6/ 93)، الضعفاء للعقيلي (4/ 190)، لسان الميزان (2/ 430). التهذيب (3/ 569)، الميزان للذهبي (3/ 556)، (3/ 666). (¬2) أنساب الأشراف (5/ 81).

الشبهة الأولى «لا أشبع الله بطنه»

الشبهة الأولى «لا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ» عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ بَابٍ قَالَ فَجَاءَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً وَقَالَ: «اذْهَبْ وَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ». قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: «هُوَ يَأْكُلُ». قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِيَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ». قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: «هُوَ يَأْكُلُ». فَقَالَ: «لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ» (رواه مسلم). الجواب: قد يستغل بعض أعداء الإسلام كالشيعة وغيرهم هذا الحديث ليتخذوا منه مطعنًا فى معاوية - رضي الله عنه - وليس فيه ما يساعدهم على ذلك، كيف وفيه أنه كان كاتب النبى - صلى الله عليه وآله وسلم -؟!. قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «وَقَوْله: حَطْأَة: هُوَ الضَّرْب بِالْيَدِ مَبْسُوطَة بَيْن الْكَتِفَيْنِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا بِابْنِ عَبَّاس مُلَاطَفَة وَتَأْنِيسًا. وَأَمَّا دُعَاؤُهُ عَلَى مُعَاوِيَة أَنْ لَا يَشْبَع حِين تَأَخَّرَ فَفِيهِ الْجَوَابَانِ السَّابِقَانِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ جَرَى عَلَى اللِّسَان بِلَا قَصْد، وَالثَّانِي أَنَّهُ عُقُوبَة لَهُ لِتَأَخُّرِهِ. وَقَدْ فَهِمَ مُسْلِم - رحمه الله - مِنْ هَذَا الْحَدِيث أَنَّ مُعَاوِيَة لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَجَعَلَهُ غَيْره مِنْ مَنَاقِب مُعَاوِيَة لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة يَصِير دُعَاء لَهُ». (اهـ باختصار).

فالظاهر أن هذا الدعاء منه - صلى الله عليه وآله وسلم - غير مقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب فى وصل كلامها بلا نية كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لبلال - رضي الله عنه -: «مَا لَهُ تَرِبَتْ يَدَاهُ» (¬1). وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لمعاذ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ» (¬2) ونحو ذلك. ويمكن أن يكون ذلك منه - صلى الله عليه وآله وسلم - بباعث البشرية التى أفصح عنها هو نفسه - صلى الله عليه وآله وسلم - فى أحاديث كثيرة متواترة، منها قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَيُّ عَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ أَوْ شَتَمْتُهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا» (رواه مسلم). وقد ختم الإمام مسلم - رحمه الله - بهذا الحديث الأحاديث الواردة في دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يجعل ما صدر منه من سب ودعاء على أحد ليس هو أهلًا لذلك أن يجعله له زكاة، ¬

_ (¬1) عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «ضِفْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَمَرَ بِجَنْبٍ فَشُوِيَ وَأَخَذَ الشَّفْرَةَ فَجَعَلَ يَحُزُّ لِي بِهَا مِنْهُ»، قَالَ: «فَجَاءَ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ»، قَالَ: «فَأَلْقَى الشَّفْرَةَ، وَقَالَ: «مَا لَهُ تَرِبَتْ يَدَاهُ»، وَقَامَ يُصَلِّي» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ: (ضِفْتُ):أَيْ نَزَلْت عَلَيْهِ ضَيْفًا. (بِجَنْبٍ):جَنْب الشَّاة شِقّهَا، وَجَنْب الْإِنْسَان شِقّه. (الشَّفْرَة): هِيَ السِّكِّين الْعَظِيمَة، وَقِيلَ: هِيَ السِّكِّين الْعَرِيضَة. (يَحُزّ): حَزَّهُ وَاحْتَزَّهُ أَيْ قَطَعَهُ، وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز قَطْع اللَّحْم بِالسِّكِّينِ، وَفِي النَّهْي عَنْهُ حَدِيث ضَعِيف فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ. ... (فَآذَنَهُ): أَيْ أَعْلَمَهُ وَأَخْبَرَهُ. (وَقَالَ (النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: (مَا لَهُ): لِبِلَالٍ قَدْ عَجَّلَ وَلَمْ يَنْتَظِر إِلَى أَنْ أَفْرُغ مِنْ أَكْل طَعَامِي. (تَرِبَتْ يَدَاهُ): تَرِبَ الشَّيْء: أَصَابَهُ التُّرَاب، وَمِنْهُ تَرِبَ الرَّجُل اِفْتَقَرَ كَأَنَّهُ لَصِقَ بِالتُّرَابِ، يُقَال تَرِبَتْ يَدَاك وَهُوَ عَلَى الدُّعَاء أَيْ لَا أَصَبْت خَيْرًا. وَ (تَرِبَتْ يَدَاهُ) كَلِمَة تَقُولهَا الْعَرَب عِنْد اللَّوْم وَمَعْنَاهَا الدُّعَاء عَلَيْهِ بِالْفَقْرِ وَالْعَدَم، وَقَدْ يُطْلِقُونَهَا فِي كَلَامهمْ وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ وُقُوع الْأَمْر كَمَا قَالُوا عَقْرَى حَلْقَى فَإِنَّ هَذَا الْبَاب لَمَّا كَثُرَ فِي كَلَامهمْ وَأَدَامَ اِسْتِعْمَاله فِي مَجَارِي اِسْتِعْمَالهمْ صَارَ عِنْدهمْ بِمَعْنَى اللَّغْو، وَذَلِكَ مِنْ لَغْو الْيَمِين الَّذِي لَا اِعْتِبَار بِهِ وَلَا كَفَّارَة فِيهِ. (¬2) جزء من حديث طويل عن معاذ - رضي الله عنه -: « ... قُلْتُُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِما نَتَكَلَّمُ بهِ؟ فقالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، ـ أوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ ـ إلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ». (رواهُ الترمذيُّ وصححه الألباني).

وأجرًا، ورحمة، وذلك كقوله: (عَقْرَى حَلْقَى (¬1)، وثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وتَرِبَتْ يَمِينُك، ولَا كَبِرَ سِنُّكِ)، فقد أورد في صحيحه عدّة أحاديث: أحدها هذا الحديث. وقبله حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ فَرَأَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْيَتِيمَةَ فَقَالَ: «آنْتِ هِيَهْ لَقَدْ كَبِرْتِ، لَا كَبِرَ سِنُّكِ». فَرَجَعَتْ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي؛ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: «مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ؟». قَالَتْ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي فَالْآنَ لَا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا ـ أَوْ قَالَتْ قَرْنِي. فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا (¬2) حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ». فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي؟ قَالَ: «وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟». قَالَتْ: زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ثُمَّ قَالَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». ¬

_ (¬1) مَعْنَى (عَقْرَى) عَقَرَهَا اللهُ تَعَالَى، وَ (حَلْقَى) حَلَقَهَا اللهُ. يَعْنِي عَقَرَ اللهُ جَسَدهَا وَأَصَابَهَا بِوَجَعٍ فِي حَلْقهَا. وَقِيلَ: يُقَال لِلْمَرْأَةِ عَقْرَى حَلْقَى مَعْنَاهُ عَقَرَهَا اللهُ، وَحَلَقَهَا أَيْ حَلَقَ شَعْرهَا أَوْ أَصَابَهَا بِوَجَعٍ فِي حَلْقهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلَهَا اللَّه عَاقِرًا لَا تَلِد، وَحَلْقَى مَشْئُومَة عَلَى أَهْلهَا. وَعَلَى كُلّ قَوْل فَهِيَ كَلِمَة كَانَ أَصْلهَا مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ اِتَّسَعَتْ الْعَرَب فِيهَا فَصَارَتْ تُطْلِقهَا وَلَا تُرِيد حَقِيقَة مَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا، وَنَظِيره تَرِبَتْ يَدَاهُ، وَقَاتَلَهُ اللَّه مَا أَشْجَعه وَمَا أَشْعَره. وَاَللَّه أَعْلَم. (باختصار من شرح صحيح مسلم للنووي). (¬2) تَلُوث خِمَارهَا: أَيْ تُدِيرهُ عَلَى رَأْسِهَا.

وعقب هذا الحديث مباشرة أورد مسلم - رحمه الله - الحديث الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في معاوية: «لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ». وهذا من حسن صنيع مسلم - رحمه الله - وجودة ترتيبه لصحيحه، وهو من دقيق فهمه، وحسن استنباطه - رحمه الله -.فركب مسلم من الحديث الاول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يُورِد له غير ذلك. قال الحافظ ابن كثير: «فركّب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية» (¬1). الحديث الأول: أي حديث «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» وهذا الحديث: أي حديث «لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ». وفي الحديث تأكيد لصحبة معاوية - رضي الله عنه - وبأنه من كُتَّاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وليس في الحديث ما يثبت أن ابن عباس - رضي الله عنه - ـ وقد كان طفلًا آنذاك ـ قد أخبر معاوية - رضي الله عنه - بأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يريده، بل يُفهم من ظاهر الحديث أنه شاهده يأكل فعاد لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليخبره. فأين الذم هنا كما يزعم المتشدِّقون؟! ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (8/ 119 - 120).

الشبهة الثانية «وأما معاوية فصعلوك لا مال له»

الشبهة الثانية «وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ» عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ فَقَالَ: «وَاللهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ». فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ». فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ثُمَّ قَالَ: «تِلْكِ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي». قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ؛ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ». فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: «انْكِحِي أُسَامَةَ»، فَنَكَحْتُهُ فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ». (رواه مسلم). وفي رواية عند مسلم: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ تَرِبٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ، وَلَكِنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ». فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا أُسَامَةُ أُسَامَةُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «طَاعَةُ اللهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ خَيْرٌ لَكِ». قَالَتْ: «فَتَزَوَّجْتُهُ فَاغْتَبَطْتُ». وفي رواية عنده أيضًا: «إِنَّ مُعَاوِيَةَ تَرِبٌ خَفِيفُ الْحَالِ وَأَبُو الْجَهْمِ مِنْهُ شِدَّةٌ عَلَى النِّسَاءِ أَوْ يَضْرِبُ النِّسَاءَ أَوْ نَحْوَ هَذَا» (¬1). ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: وَقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (فَإِذَا حَلَلْت فَآذِنِينِي) أَيْ أَعْلِمِينِي، وَفِيهِ جَوَاز التَّعْرِيض بِخِطْبَةِ الْبَائِن وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدنَا. ... = = قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (أَمَّا أَبُو الْجَهْم فَلَا يَضَع الْعَصَا عَنْ عَاتِقه) فِيهِ تَأْوِيلَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ كَثِير الْأَسْفَار، وَالثَّانِي أَنَّهُ كَثِير الضَّرْب لِلنِّسَاءِ وَهَذَا أَصَحّ، بِدَلِيلِ الرِّوَايَة الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم بَعْد هَذِهِ أَنَّهُ ضِرَاب لِلنِّسَاءِ. وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز ذِكْر الْإِنْسَان بِمَا فِيهِ عِنْد الْمُشَاوَرَة وَطَلَب النَّصِيحَة وَلَا يَكُون هَذَا مِنْ الْغِيبَة الْمُحَرَّمَة بَلْ مِنْ النَّصِيحَة الْوَاجِبَة. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وَأَمَّا مُعَاوِيَة فَصُعْلُوك) هُوَ بِضَمِّ الصَّاد، وَفِي هَذَا جَوَاز ذِكْره بِمَا فِيهِ لِلنَّصِيحَةِ كَمَا سَبَقَ فِي ذِكْر أَبِي جَهْم. وَأَمَّا إِشَارَته - صلى الله عليه وآله وسلم - بِنِكَاحِ أُسَامَة فَلَمَّا عَلَّمَهُ مِنْ دِينه وَفَضْله وَحُسْن طَرَائِفه وَكَرَم شَمَائِله فَنَصَحَهَا بِذَلِكَ فَكَرِهَتْهُ لِكَوْنِهِ مَوْلًى وَقَدْ كَانَ أَسْوَد جِدًّا فَكَرَّرَ عَلَيْهَا النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْحَثّ عَلَى زَوَاجه لَمَّا عَلِمَ مِنْ مَصْلَحَتهَا فِي ذَلِكَ وَكَانَ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَتْ: (فَجَعَلَ اللهُ لِي فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْت) وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذَا: (طَاعَة اللهِ وَطَاعَة رَسُوله خَيْر لَك).

الجواب: جاء في (القاموس المحيط):الصُّعْلُوكُ: كعُصْفُورٍ: الفقيرُ. وجاء في (لسان العرب):الصُّعْلُوك: الفقير الذي لا مال له. ولا يضير معاوية فقره - رضي الله عنه -، ولو كان في دينِ مُعاويةَ أو خُلُقِهِ شيءٌ لذَكَرَه النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من باب أولى، ولم يكن من حاله عيبٌ إلا أنه خفيف ذاتِ اليد وقتَها.

الشبهة الثالثة «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»

الشبهة الثالثة «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» زعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لعن معاوية الطليق بن الطليق، اللعين بن اللعين، وقال: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه». الجواب: هذا الحديث ليس في شيء من كتب الإسلام التي يرجع إليها في علم النقل، وهو عند أهل المعرفة بالحديث كذب موضوع مختلق على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهؤلاء الرافضة لا يذكرون له إسنادًا حتى يُنظر فيه، وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات. ومما يبيّن كذبه أن منبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد صعد عليه بعد معاوية - رضي الله عنه - من كان معاوية خيرًا منه باتفاق المسلمين. فإن كان يجب قتل من صعد عليه لمجرد الصعود على المنبر، وجب قتل هؤلاء كلهم. ثم هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن مجرد صعود المنبر لا يبيح قتل مسلم. وإن أمر بقتله لكونه تولّى الأمر وهو لا يصلح، فيجب قتل كل من تولّى الأمر بعد معاوية ممن معاوية أفضل منه. وهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من نهيه عن قتل ولاة الأمور وقتالهم. ثم الأمة متفقة على خلاف هذا؛ فإنها لم تقتل كل من تولّى أمرها ولا استحلّت ذلك. ثم هذا يوجب من الفساد والهرج ما هو أعظم من ولاية كل ظالم، فكيف يأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بشيء يكون فعله أعظم فسادًا من تركه؟! قال الحافظ ابن كثير: «وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحا لبادر الصحابة إلى فعل ذلك، لأنهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم» (¬1). ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (11/ 434).

الشبهة الرابعة الطليق ابن الطليق

الشبهة الرابعة الطليق ابن الطليق قولهم: إن معاوية - رضي الله عنه - كان من الطلقاء فهو الطليق ابن الطليق. وقولهم: «كان معاوية من المؤلَّفة قلوبهم». والجواب: إذا كان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم فى رأيِ البعض، ففى رأيِ الكثيرين أنه ليس من المؤلفة قلوبهم، قال ابن عبد البر: «معاوية وأبوه من المؤلفة قلوبهم، ذكره فى ذلك بعضهم»، وهو يُشعِر بأن الكثيرين لا يرون هذا الرأى، ولذا نجد الحافظ المحقق ابن حجر لم يذكر فى ترجمته شيئًا من هذا، وإنما ذكر فى ترجمة أبيه أنه من المؤلفة قلوبهم. ومهما يكن من شئ فقد أسلم معاوية - رضي الله عنه - وحسن إسلامه، وحتى لو كان ممن أسلموا يوم الفتح، فلا يقدح ذلك فى عدالته وصحبته، بعد تزكية رب العزة لمن أسلموا بعد الفتح أيضًا قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} (الحديد:10). ولم تكن هناك عداوة بين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين معاوية - رضي الله عنه -، فمعاوية كان صغيرًا حين أسلم، ولم يحضر معركة ضد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يحاربْه في أي موقعة، ولكن الشيعة نقلوا عداوة أمه وأبيه لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إليه، ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد عفا عن أمه وأبيه، وهما ممن قد حسن إسلامه، وتابا توبة نصوحا، والتوبة تجُبُّ ما قبلها. وقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومُعظم رجالات بني أمية على مختلف الأعمال، من الولاية والكتابة، وجباية الأموال، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمالٌ لرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أكثر منهم، واستعمال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأكثر رجال بني أمية، أكبر دليل على كفاءتهم وأمانتهم.

فقد ولى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أبا سفيان على نجران، ومات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو أمير عليها، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صدقات مَذْحج وصنعاء اليمن، ولم يزل عليها حتى مات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، واستعمل عمرو بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة، وأبان بن سعيد بن العاص استعمله أيضًا على البحرين برها وبحرها حين عزل العلاء بن الحضرمي، فلم يزل عليها حتى مات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأرسله قبل ذلك أميرًا على سرايا منها سرية إلى نجد وولاه عمر - رضي الله عنه -، ولا يتهم لا في دينه ولا في سياسته. ومعاوية - رضي الله عنه - ولاه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على بعض عمله، واستخدمه كاتبًا بين يديه، وولاه أبو بكر الصَّدَّيق من بعده، ولم يطعن في كفاءته أحد. وأما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (¬1)، فهذه الكلمات، جعل بعض الناس منها سُبَّة في جبين بني أمية وحدهم، وجعلوا يعيرونهم بأنهم الطلقاء وأبناء الطلقاء، ولم يفهموا أن هؤلاء الطلقاء وأبناءهم قد أسلموا وحسن إسلامهم، وكانت لهم مواقف مشهودة في نصرة الإسلام في الفتوحات في حياة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد وفاته في عهد خلفائه الراشدين. وهاهنا عدة نقاط متعلقة بوصف الطلقاء منها: 1ـ إن هذا الاتهام وليد عصر الخصومة الحزبية الحادة، لما تفجرت الأحقاد ضد بني أمية في أواخر عهد عثمان - رضي الله عنه - وبعد بروز نجم معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - وخلافه مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، حيث أصبح ذلك الوصف يعني عندهم أنهم قوم ضعاف الإيمان، دخلوا الإسلام رغبة في غنائمه، أو رهبة من القتل، ليكيدوا لأهله ويفيدوا أنفسهم. ¬

_ (¬1) تنبيه: حديث «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ضعّفه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، والألباني في السلسلة الضعيفة والموضوعة (3/ 307).

2 ـ إن أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية - رضي الله عنهما - ليسا من الطلقاء بالمعنى الدقيق السابق لهذه الكلمة فقد أسلم أبو سفيان قبيل فتح مكة والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وجيشه بمر الظهران خارجها، وقد جاء فور إسلامه يدعو قومه إلى المسالمة والفتح. أما معاوية ابنه فقد أكدت بعض الروايات أنه أسلم قبل الفتح أيضًا، غير أنه كان يخفي إسلامه ـ شأن بعض الناس آنذاك ـ لمكانته من أبيه الذي كان يقود القتال ضد المسلمين، فقد رُوى أنه أسلم سرًا يوم عمرة القضاء، أو عام الحديبية (¬1) وإنما وضعهم المؤرخون في زمرة هؤلاء الطلقاء لقرب وقت إسلام أبي سفيان من الفتح، ولأنه كان زعيم مكة الذي ارتبط إسلامه بإسلامها، كما أن معاوية كان إسلامه سرًا لم يشع، ولم يعرف إسلامه إلا مع الطلقاء بعد فتح مكة. 3 ـ إن وصف الطلقاء لا يقتضي الذم، فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح الذين أسلموا عام فتح مكة وأطلقهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكانوا نحوًا من ألفَيْ رجل، ومنهم من صار من خيار المسلمين كالحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، ويزيد بن أبي سفيان وحكيم بن حزام، وأبي سفيان بن الحارث، ابن عم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي كان يهجوه ثم حسن إسلامه، وعتاب بن أسيد الذي ولاه النبي مكة لما فتحها، وغير هؤلاء ممن حسن إسلامهم. 4 ـ إن النظرة الإسلامية في هذا الشأن أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله (¬2). والإسلام يفسح المجال للإفادة من جميع الطاقات والقدرات ويدفع بها نحو تحقيق غاياته الكبرى، وينزل الناس منازلهم، وأن خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا، ولم يمنع تأخر إسلام خالد وعمرو بن العاص من تبوئهما المكانة العالية عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأرسل عمْرًا أميرًا على ذات السلاسل، وسمّى خالدًا سيف الله، هذا مع حفظ المكانة الأسمى والمنزلة العظمى للسابقين الصادقين في الإسلام، ومن هؤلاء السابقين كان جماعة من بني أمية وغيرهم، كما كان من الطلقاء بني أمية وغيرهم. 5 - أكثر الطلقاء من المؤلفة قلوبهم، كالحارث بن هشام، وابن أخيه عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وحكيم بن خزام، وهؤلاء من خيار المسلمين. والمؤلفة قلوبهم غالبهم حَسُن إسلامه. ومعاوية ممن حَسُن إسلامه باتفاق أهل العلم. ولهذا ولاّه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موضع أخيه يزيد بن أبي سفيان لما مات أخوه يزيد بالشام. وكان يزيد بن أبي سفيان من خيار الناس، وكان أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر وعمر لفتح الشام: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، مع أبي عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد. فلما توفي يزيد بن أبي سفيان ولّى عمر مكانه أخاه معاوية، وعمر لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، وليس هو ممن يحابي في الولاية، وكان من أعظم الناس عداوة لأبيه أبي سفيان قبل الإسلام، فتولية عمر لابنه معاوية ليس لها سبب دنيوي، ولولا استحقاقه للإمارة لما أمّره. ثم إن معاوية - رضي الله عنه - بقي في الشام عشرين سنة أميرًا، وعشرين سنة خليفة، ورعيته من أشد الناس محبة له وموافقة له، وهو من أعظم الناس إحسانًا إليهم وتأليفًا لقلوبهم. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (11/ 396). (¬2) عن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا أَلْقَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِيُبَايِعَنِي فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ فَقُلْتُ: «لَا أُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي». قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ، يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ» (رواه الإمام أحمد وصححه الألباني). ورواه مسلم بلفظ «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».

الشبهة الخامسة قالوا: قاتل عليا وهو عند أهل السنة رابع الخلفاء، إمام حق، وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم

الشبهة الخامسة قالوا: قاتل عليًا وهو عند أهل السنة رابع الخلفاء، إمام حق، وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم الجواب: أولًا: إن الخلاف بين علي ومخالفيه - رضي الله عنهم - إنما هو في تقديم الاقتصاص من قتلة عثمان أو تأخيره مع اتفاقهم على وجوب تنفيذه. يقول ابن حجر الهيتمي: «ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي كما مر فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم، لكون معاوية ابن عمه فامتنع علي» (¬1). وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى بْن سُلَيْمَان الْجُعْفِيُّ أَحَد شُيُوخ الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب (صِفِّينَ) فِي تَأْلِيفه بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ أَبِي مُسْلِم الْخَوْلَانِيّ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «أَنْتَ تُنَازِع عَلِيًّا فِي الْخِلَافَة أَوَ أَنْتَ مِثْله؟»، قَالَ: «لَا، وَإِنِّي لَأَعْلَم أَنَّهُ أَفْضَل مِنِّي وَأَحَقّ بِالْأَمْرِ، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَان قُتِلَ مَظْلُومًا وَأَنَا اِبْن عَمّه وَوَلِيّه أَطْلُب بِدَمِهِ؟ فَأْتُوا عَلِيًّا فَقُولُوا لَهُ يَدْفَع لَنَا قَتَلَة عُثْمَان». فَأَتَوْهُ فَكَلَّمُوهُ فَقَالَ: «يَدْخُل فِي الْبَيْعَة وَيُحَاكِمهُمْ إِلَيَّ». فَامْتَنَعَ مُعَاوِيَة فَسَارَ عَلِيّ فِي الْجُيُوش مِنْ الْعِرَاق حَتَّى نَزَلَ بِصِفِّينَ، وَسَارَ مُعَاوِيَة حَتَّى نَزَلَ هُنَاكَ وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّة سَنَة سِتّ وَثَلَاثِينَ، فَتَرَاسَلُوا فَلَمْ يَتِمّ لَهُمْ أَمْر، فَوَقَعَ الْقِتَال (¬2). وهذه المسألة مقررة أيضًا عند أهل العلم من أهل السنة بما ثبت في ذلك من الأخبار، والآثار الدالة على أن عليًا - رضي الله عنه - لا ينازع مخالفيه في وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان يرى تأجيل ذلك حتى يستتب له الأمر. وذلك أن قتلة عثمان - رضي الله عنه - كانوا قد تمكنوا من المدينة، ثم قام في أمرهم من الأعراب وبعض أصحاب الأغراض الخبيثة ما أصبح به قتلهم في أول عهد علي - رضي الله عنه - متعذرًا. يشهد لهذا ما ذكره الطبري حيث يقول: «واجتمع إلى علي بعدما دخل طلحة والزبير في عدة من الصحابة، فقالوا: «يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم»، فقال لهم: «يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم! هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابَتْ إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعًا لقدرة على شيء مما تريدون؟». قالوا: «لا». قال: «فلا والله لا أرى إلا رأيًا ترونه إن شاء الله» (¬3). ويقول ابن كثير: «ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة - رضي الله عنهم - وطلبوا منه إقامة الحدود، والأخذ بدم عثمان، فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا» (¬4). ¬

_ (¬1) الصواعق المحرقة (ص 216). (¬2) فتح الباري لابن حجر (13/ 86). (¬3) تاريخ الطبري (4/ 437). (¬4) البداية والنهاية (7/ 239).

فكان هذا هو عذر علي - رضي الله عنه - في بداية الأمر، أما بعد ذلك فإن الأمور أصبحت أكثر تعقيدًا، وأشدّ اشتباهًا، خصوصًا بعدما اقتتل الصحابة - رضي الله عنهم - في معركة الجمل بغير اختيار منهم، وإنما بسبب المكيدة التي دبرها قتلة عثمان للوقيعة بينهم، فلم يكن أمر الاقتصاص مقدورًا عليه بعد هذه الأحداث لا لعلي، ولا لغيره من مخالفيه - رضي الله عنهم -، وذلك لتفرق الأمة وانشغالها بما هو أولى منه من تسكين الفتنة ورأب الصدع. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «لم يكن علي - رضي الله عنه - مع تفرق الناس عليه متمكنًا من قتْل قتَلة عثمان - رضي الله عنه -، إلا بفتنة تزيد الأمر شرًّا وبلاءً. ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس، لأنهم كانوا عسكرًا، وكان لهم قبائل تغضب لهم» (¬1). وأيًا كان عذر علي - رضي الله عنه - فالمقصود هنا أنه لا يخالف بقية الصحابة المطالبين بدم عثمان - رضي الله عنه - في وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان - رضي الله عنه - وهذا مما يدل على إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على هذه المسألة، والله تعالى أعلم. ثانيًا: إن الصحابة - رضي الله عنهم - الذين اختلفوا في الفتنة لم يتهم بعضهم بعضًا في الدين، وإنما كان يرى كل فريق منهم أن مخالفه وإن كان مخطئًا، فهو مجتهد متأول، يعترف له بالفضل في الإسلام وحسن الصحبة لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وهذه مسألة مقررة عند أهل العلم أيضًا بما ثبت من ثناء الصحابة بعضهم على بعض - رضي الله عنهم - أجمعين. فقد ثبت عن علي - رضي الله عنه - على ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن إسحاق بن راهويه بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه قال: «سمع علي يوم الجمل أو يوم صِفِّين رجلًا يغلو في القول فقال: «لا تقولوا إلا خيرًا إنما هم قوم زعموا أنا بغَيْنا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم» (¬2). ¬

_ (¬1) منهاج السنة (4/ 407 - 408). (¬2) نفس المصدر (5/ 244 - 245).

وعن محمد بن نصر بسنده عن مكحول أن أصحاب علي - رضي الله عنه - سألوه عمن قُتِل من أصحاب معاوية: «ماهم؟». قال: «هم مؤمنون» (¬1). وعن عبد الواحد بن أبي عون قال: «مر علي ـ وهو متوكئ على الأشتر ـ على قتلى صِفِّين، فإذا حابس اليماني مقتول: فقال الأشتر: «إنا لله وإنا إليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية، أما والله لقد عهدته مؤمنًا»، قال علي: «والآن هو مؤمن» (¬2). إن عليًّا - رضي الله عنه - لم يكن يَعُدّ محاربيه كفارًا، ولقد أقرّ بذلك الشيعة أنفسهم حيث أوردوا نفس الرواية التي أوردها أهل السنة في كتبهم: فقد ذكر الحميري الشيعي عن جعفر عن أبيه أن عليًّا - عليه السلام - كان يقول لأهل حربه: «إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ولم يقاتلونا على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنّا على حق ورأوا أنهم على حق». وروى رواية أخرى عن جعفر عن أبيه محمد الباقر: «إن عليًا - عليه السلام - لم يكن ينسب أحدًا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكن يقول: «هم إخواننا بغوا علينا» (¬3). وقد تقدَّم ثناء معاوية على عليٍّ - رضي الله عنهما - واعترافُه بفضله كما جاء في حواره مع أبي مسلم الخولاني لما قال له: «أَنْتَ تُنَازِع عَلِيًّا فِي الْخِلَافَة أَوْ أَنْتَ مِثْله؟»، قَالَ: «لَا، وَإِنِّي لَأَعْلَم أَنَّهُ أَفْضَل مِنِّي وَأَحَقّ بِالْأَمْرِ») (¬4). ¬

_ (¬1) منهاج السنة (5/ 245). (¬2) نفس المصدر والصفحة. (¬3) قرب الإسناد للحميري الشيعي (ص 45) ط. إيران. (¬4) فتح الباري (13/ 92).

وأما قول الشيعة: «وقاتل عليًّا وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق، وكل من قاتل إمام حقٍ فهو باغ ظالم». فيقال لهم: الباغي قد يكون متأوّلًا معتقدًا أنه على حق، وقد يكون متعمدًا يعلم أنه باغٍ، وقد يكون بَغْيُهُ مركبًّا من شبهة وشهوة، وهو الغالب. وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة؛ فإنهم لا يُنَزِّهُون معاوية - رضي الله عنه - ولا مَن هو أفضل منه مِن الذنوب، فضلًا عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون: إن الذنوب لها أسباب تُدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة، وغير ذلك. وهذا أمر يعم الصحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم. وأهل السنة يثبتون خلافة الخلفاء كلهم، ويستدلون على صحة خلافتهم بالنصوص الدالة عليها، ويقولون: إنها انعقدت بمبايعة أهل الشوكة لهم، وعليّ - رضي الله عنه - بايعه أهل الشوكة، وإن كانوا لم يجتمعوا عليه كما اجتمعوا عَلَى من قبله، لكن لا ريب أنه كان له سلطان وقوة بمبايعة أهل الشوكة له، وقد دل النصّ على أن خلافته خلافة نبوة. وأما تخلف من تخلف عن مبايعته، فعذرهم في ذلك أظهر من عذر سعد بن عبادة وغيره لما تخلّفوا عن بيعة أبا بكر، وإن كان لم يستقر تخلف أحد إلا سعد وحده، وأما عليّ وغيره فبايعوا الصديق بلا خلاف بين الناس. لكن قيل: إنهم إن تأخروا عن مبايعته ستة أشهر، ثم بايعوه. ونقول للشيعة إلزامًا لهم بما يعتقدون: عليّ - رضي الله عنه - إما أن يكون تخلّف أولًا عن بيعة أبي بكر، ثم بايعه بعد ستة أشهر، كما تقول ذلك طائفة من أهل السنة مع الشيعة. وإما يكون بايعه أول يوم، كما يقول ذلك طائفة أخرى.

فإن كان الثاني بطل قول الشيعة: «إن عليًّا تخلّف عن بيعة أبي بكر - رضي الله عنهما -»، وثبت أنه كان من أول السابقين إلى بيعته. وإن كان الأول، فعذر من تخلف عن بيعة عليّ - رضي الله عنه - أظهر من عذر من تخلف عن بيعة أبي بكر - رضي الله عنه -، لأن النص والإجماع المثبتين لخلافة أبي بكر، ليس في خلافة عليّ مثلها. والنصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تقتضي أن ترك القتال كان خيرًا للطائفتين، وأن القعود عن القتال كان خيرًا من القيام فيه، وأن عليًّا - رضي الله عنه -، مع كونه أوْلى بالحق من معاوية - رضي الله عنه - وأقرب إلى الحق من معاوية، لو ترك القتال لكان أفضل وأصلح وخيرًا. وأهل السنة يترحّمون على الجميع، ويستغفرون لهم، كما أمرهم الله تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر:10). والذين قاتلوا عليًا - رضي الله عنه - لا يخلو: إما أن يكونوا عصاة، أو مجتهدين مخطئين، أو مصيبين. وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح في إيمانهم ولا يمنعهم الجنة. فإن الله تعالى قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (الحجرات:9، 10)، فسمّاهم إخوة ووصفهم بأنهم مؤمنون مع وجود الاقتتال بينهم، والبغي من بعضهم على بعض. فمن قاتل عليًّا - رضي الله عنه -:فإن كان باغيًا فليس ذلك بمخرجه من الإيمان ولا بموجب له النيران، ولا مانع له من الجنان؛ فإن البغي إذا كان بتأويل كان صاحبه مجتهدًا.

ولهذا اتفّق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين، وإن قالوا في إحداهما: إنهم كانوا بغاة لأنهم كانوا متأوّلين مجتهدين، والمجتهد المخطئ لا يَكْفُر ولا يفسق، وإن تعمد البغي فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة: كالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفّرة، وشفاعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ودعاء المؤمنين وغير ذلك. والفتن إنما يُعرَف ما فيها من الشر إذا أدبرت. فأما إذا أقبلت فإنها تُزين، ويظن أن فيها خيرًا، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء، صار ذلك مبينًا لهم مضرتها، وواعظًا لهم أن يعودوا في مثلها، كما أنشد بعضهم: الحَرْبُ أوّلَ مَا تَكونُ فتيّةً ... تَبْدُو بِزِينَتِهَا لِكُلّ جَهُولِ حتى إذا حَمِيَتْ وَشبّ ضِرَامُها ... عادتْ عجوزًا غيرَ ذاتِ خليلِ شَمطاءُ جَزّتْ رَأسَها وَتَنَكّرَتْ ... مكروهة ً للشَّمِّ والتقبيلِ والذين دخلوا في الفتنة من الطائفتين لم يعرفوا ما في القتال من الشر، ولا عرفوا مرارة الفتنة حتى وقعت، وصارت عبرة لهم ولغيرهم. وقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث المتفق على صحته: «تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ» يدل على أن عليًّا - رضي الله عنه - وأصحابه أدنى إلى الحق من معاوية - رضي الله عنه - وأصحابه. وكذلك حديث عمار بن ياسر: «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» قد رواه البخاري في صحيحه ورواه مسلم بلفظ: «تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ». والذين قتلوه هم الذين باشروا قتله. والحديث أطلِق فيه لفظ «البغي» لم يقيده بمفعول، ولفظ البغي إذا أطلق فهو الظلم، كما قال تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات:9)، وقال - عز وجل -: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:173).

وأهل العلم في هذا الحديث ـ حديث عمار ـ على ثلاثة أقوال: 1 - فطائفة ضعفته لما روي عندها بأسانيد ليست ثابتة عندهم، ولكن رواه أهل الصحيح، رواه البخاري ومسلم. 2 - ومنهم من قال: هذا دليل على أن معاوية وأصحابه بغاة، وأن قتال عليّ لهم قتال أهل العدل لأهل البغي، لكنهم بغاة متأولون لا يُكفرون ولا يُفسقون. 3 - والقول الثالث في هذا الحديث ـ حديث عمار ـ إنَّ قاتِل عمار طائفة باغية، ليس لهم أن يقاتلوا عليًا، ولا يمتنعوا عن مبايعته وطاعته، وإن لم يكن عليّ مأمورًا بقتالهم، ولا كان فرضًا عليه قتالهم لمجرد امتناعهم عن طاعته، مع كونهم ملتزمين شرائع الإسلام، وإن كان كل من المقتتلتَيْن متأولين مسلمين مؤمنين، وكلهم يُستغفر لهم ويُترحم عليهم، عملًا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر:10). فكان الصواب أن لا يكون قتال، وكان ترك القتال خيرًا للطائفتين، فليس في الاقتتال صواب، ولكن عليًّا كان أقرب إلى الحق من معاوية - رضي الله عنهما -، والقتال قتال فتنة ليس بواجب ولا مستحب، وكان ترك القتال خيرًا للطائفتين، مع أن عليًا - رضي الله عنه - كان أوْلَى بالحق. وهذا قول الإمام أحمد وأكثر أهل الحديث أئمة الفقه، وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو قول عمران بن حُصيْن - رضي الله عنه -، وكان ينهي عن بيع السلاح في ذلك القتال، ويقول: «هو بيع السلاح في الفتنة»، وهو قول أسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم -.

ولهذا كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم. وما وقع منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفورًا. فالخوض فيما شجر يُوقع في نفوس كثير من الناس بُغضًا وذمًا، ويكون هو في ذلك مخطئًا، بل عاصيًا، فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلَّم في ذلك؛ فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله ولا رسوله: إما مِن ذم مَن لا يستحق الذم، وإما مِن مدح أمور لا تستحق المدح. ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف. والكتاب والسنة قد دلّا على أن الطائفتين مسلمون، وأن ترك القتال كان خيرًا من وجوده. قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (الحجرات:9، 10)؛ فسمّاهم مؤمنين إخوة مع وجود الاقتتال والبغي. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ» وهؤلاء المارقة مرقوا على عليّ، فدل على أن طائفته أقرب إلى الحق من طائفة معاوية. وفي الصحيحين عن عَنْ أَبِى بَكْرَةَ - رضي الله عنه -:أَخْرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ الْحَسَنَ فَصَعِدَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ «ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ». فأصلح الله به بين أصحاب عليّ ومعاوية، فمدح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الحسن بالإصلاح بينهما، وسماهما مؤمنين. وهذا يدل على أن الإصلاح بينهما هو المحمود، ولو كان القتال واجبًا أو مستحبًا، لم يكن تركه محمودًا. والذين رووا أحاديث القعود في الفتنة والتحذير منها، كسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد لم يقاتلوا لا مع علي ولا مع معاوية - رضي الله عنهم -.

عَنْ مُحَمَّدٍ اِبْن سِيرِينَ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ - رضي الله عنه -: «مَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ تُدْرِكُهُ الْفِتْنَةُ إِلَّا أَنَا أَخَافُهَا عَلَيْهِ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «لَا تَضُرُّكَ الْفِتْنَةُ» (رواه أبوداود وصححه الألباني). (¬1). وعَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ ضُبَيْعَةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى حُذَيْفَةَ فَقَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ رَجُلًا لَا تَضُرُّهُ الْفِتَنُ شَيْئًا». قَالَ: فَخَرَجْنَا فَإِذَا فُسْطَاطٌ مَضْرُوبٌ فَدَخَلْنَا فَإِذَا فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «مَا أُرِيدُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ أَمْصَارِكُمْ حَتَّى تَنْجَلِيَ عَمَّا انْجَلَتْ» (رواه أبوداود وصححه الألباني) (¬2). ومما ينبغي أن يُعلم أن الأمة يقع فيها أمور بالتأويل في دمائها وأموالها وأعراضها، كالقتال واللعن والتكفير. فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ». فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: ... «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟». قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنْ السِّلَاحِ». قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا»، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ (رواه مسلم). ¬

_ (¬1) (إِلَّا أَنَا أَخَافهَا عَلَيْهِ):أَيْ أَخَاف مَضَرَّة تِلْكَ الْفِتْنَة عَلَيْهِ. (إِلَّا مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ):هُوَ مِنْ أَكَابِر الصَّحَابَة شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِد كُلّهَا اِسْتَوْطَنَ الْمَدِينَة وَاعْتَزَلَ الْفِتْنَة. (باختصار من عون المعبود). (¬2) (فَإِذَا فُسْطَاط):بِالضَّمِّ أَيْ خِبَاء. (فَإِذَا فِيهِ):أَيْ فِي الْفُسْطَاط. (فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ):أَيْ عَنْ سَبَب خُرُوجه وَإِقَامَته فِي الْفُسْطَاط. (فَقَالَ):أَيْ مُحَمَّد مِنْ مَسْلَمَةَ. (مَا أُرِيدُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ أَمْصَارِكُمْ):الْمَعْنَى لَا أُرِيدَ أَنْ أَسْكُن وَأُقِيم فِي أَمْصَاركُمْ (حَتَّى تَنْجَلِي عَمَّا اِنْجَلَتْ):أَيْ تَنْكَشِف وَتَزُول. ومَعْنَى الْحَدِيث حَتَّى تَنْكَشِف الْفِتَن عَنْ الْأَمْصَار الَّذِي غَطَّتْهُ الْفِتَن. (باختصار من عون المعبود).

وَقَوْله (حَتَّى تَمَنَّيْت أَنِّي أَسْلَمْت يَوْمئِذٍ) مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامِي بَلْ اِبْتَدَأْت الْآنَ الْإِسْلَام لِيَمْحُوَ عَنِّي مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ هَذَا الْكَلَام مِنْ عِظَمِ مَا وَقَعَ فِيهِ (¬1). وعن عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَدِيٍّ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ حَدَّثَهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ يَدِي بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، وَقَالَ: أَسْلَمْتُ للهِ آقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟». قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَقْتُلْهُ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُ طَرَحَ إِحْدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا آقْتُلُهُ؟ قَالَ: «لَا تَقْتُلْهُ؛ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ» (رواه البخاري ومسلم). فقد ثبت أن هؤلاء قتلوا قومًا مسلمين لا يحل قتلهم، ومع هذا لم يقتلهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا ضمن المقتول بِقَوَدٍ ولا ديّة ولا كفّارة، لأن القاتل كان متأولًا. وهذا قول أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد وغيرهما. فالبغاة المتأولون كذلك لم تضمنهم الصحابة - رضي الله عنهم -. إذا تبين هذا فيقال: قول الرافضة من أفسد الأقوال وأشدها تناقضًا؛ فإنهم يعظِّمون الأمر على مَن قاتل عليًّا، ويمدحون مَن قتل عثمان - رضي الله عنهما -، مع أن الذم والإثم لمن قتل عثمان أعظم من الذم والإثم لمن قاتل عليًّا - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) باختصار من شرح صحيح مسلم للنووي.

افتراء متعلق بهذه الشبهة قالوا: «إن معاوية شر من إبليس، لم يسبقه في سالف طاعته، وجرى معه في ميدان معصيته. ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد من الملائكة، وكان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة، ولما خلق الله آدم وجعله خليفة في الأرض، وأمره بالسجود فاستكبر فاستحق اللعنة والطرد، ومعاوية لم يزل في الإشراك وعبادة الأصنام إلى أن أسلم بعد ظهور النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بمدة طويلة، ثم استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين عليه إمامًا، وبايعه الكل بعد قتل عثمان وجلس مكانه، فكان شرًا من إبليس». الجواب: هذا الكلام فيه من الجهل والضلال والخروج عن دين الإسلام وكل دين، بل وعن العقل الذي يكون لكثير من الكفار، ما لا يخفى على من تدبره. أولًا: إن إبليس أكفر من كل كافر، وكل من دخل النار فمن أتباعه. كما قال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} (ص:85)، وهو الآمر لهم بكل قبيح المزين له، فكيف يكون أحد شرًا منه؟ لاسيما من المسلمين، لاسيما من الصحابة - رضي الله عنهم -؟ وقول هؤلاء: «إن معاوية شرٌّ من إبليس، لم يسبقه في سالف طاعة، وجرى معه في ميدان المعصية» يقتضي أن كل من عصى الله فهو شر من إبليس، لأنه لم يسبقه في سالف طاعة، وجرى معه في ميدان المعصية. وحينئذ فيكون آدم وذريته شرًّا من إبليس، فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» (رواه الترمذي وحسنه الألباني). ثم هل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن من أذنب ذنبًا من المسلمين يكون شرًا من إبليس؟ وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام، وقائل هذا كافر كفرًا معلومًا بالضرورة من الدين. وعلى هذا فالشيعة دائمًا يذنبون، فيكون كل منهم شرًا من إبليس. ثم إذا قالت الخوارج: إن عليًّا - رضي الله عنه - أذنب فيكون شرًا من إبليس ـ لم يكن للروافض حجة إلا دعوى عصمته وهم لا يقدرون أن يقيموا حجة على الخوارج بإيمانه وإمامته وعدالته، فكيف يقيمون حجة عليهم بعصمته؟ ولكن أهل السنة تقدر أن تقيم الحجة بإيمانه وإمامته، لأن ما تحتج به الرافضة منقوض ومعارض بمثله، فيبطل الاحتجاج به. وفي الجملة فلوازم هذا القول وما فيه من الفساد يفوق الحصر والتعداد. ثانيًا: إن أحدًا لا يجرى مع إبليس في ميدان معصيته كلها، فلا يتصور أن يكون في الآدميين من يساوي إبليس في معصيته، بحيث يضل الناس كلهم ويغويهم. وأما طاعة إبليس المتقدمة فهي حابطة بكفره بعد ذلك، فإن الردة تحبط العمل، فما تقدم من طاعته ـ إن كان طاعة ـ فهي حابطة بكفره وردته، وما يفعله من المعاصي لا يماثله أحد فيه، فامتنع أن يكون أحد شرًا منه، وصار نظير هذا المرتد الذي يقتل النفوس ويزني ويفعل عامة القبائح بعد سابق طاعاته، فمن جاء بعده ولم يسبقه إلى تلك الطاعات الحابطة، وشاركه في قليل من معاصيه، لا يكون شرًا منه، فكيف يكون أحد شرًا من إبليس؟ وهذا ينقض أصول الشيعة: حقها وباطلها. وأقل ما يلزمهم أن يكون أصحاب عليّ - رضي الله عنه - الذين قاتلوا معه، وكانوا أحيانًا يعصونه، شرًّا من الذين امتنعوا عن مبايعته من الصحابة، لأن هؤلاء عبدوا الله قبلهم، وأولئك جروا معهم في ميدان المعصية. ثالثًا: ما الدليل على أن إبليس كان أعبد الملائكة؟ وأنه كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة؟ أو أنه كان من حملة العرش في الجملة؟ أو أنه كان طاووس الملائكة؟ أو أنه ما ترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة وركعة؟ ونحو ذلك مما يقوله بعض الناس؟

فإن هذا أمر إنما يعلم بالنقل الصادق، وليس في القرآن شيء من ذلك، ولا في ذلك خبر صحيح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهل يحتج بمثل هذا في أصول الدين إلا من هو من أعظم الجاهلين؟! وأعجب من ذلك قولهم: «ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملائكة». فيقال: من الذي قال هذا من علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين؟ فضلًا عن أن يكون هذا متفقًا عليه بين العلماء؟ وهذا شيء لم يقُلْه قط عالم يقبل قوله من علماء المسلمين. وهو أمر لا يعرف إلا بالنقل، ولم ينقل هذا أحد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. فإن كان قاله بعض الوعاظ أو المصنفين في الرقائق، أو بعض من ينقل في التفسير من الإسرائيليات ما لا إسناد له، فمثل هذا لا يحتج به في جُرْزَةِ بقل، فكيف يحتج به في جعل إبليس خيرًا من كل من عصى الله من بني آدم، ويجعل الصحابة من هؤلاء الذين إبليس خير منهم؟ وما وصف الله ولا رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - إبليس بخير قط ولا بعبادة متقدمة ولا غيرها، مع أنه لو كان له عبادة لكانت قد حبطت بكفره وردته. وأعجب من ذلك قولهم: «لا شك بين العلماء أن كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة» فيا سبحان الله! هل قال ذلك أحد من علماء المسلمين المقبولين عند المسلمين؟ وهل يتكلم بذلك إلا مفرط في الجهل؟ فإن هذا لا يعرف ـ لو كان حقًا ـ إلا بنقل الأنبياء، وليس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك شيء. ثم حمل واحد من الملائكة العرش خلاف ما دل عليه النقل الصحيح. ثم ما باله حمل العرش وحده ستة آلاف سنة ولم يكن يحمله وحده دائمًا؟ ومن الذي نقل أن إبليس من حملة العرش؟

وهذا من أكذب الكذب؛ فإن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (غافر:7)، فأخبر أن له حَمَلةً لا واحدًا، وأنهم كلهم مؤمنون مسبحون بحمد ربهم، مستغفرون للذين آمنوا. رابعًا: إن إبليس كفر، كما أخبر الله تعالى بقوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} (ص:74)، فلو قُدِّر أنه كان له عمل صالح حبط بكفره. كذلك غيره إذا كفر حبط عمله، فأين تشبيه المؤمنين بهذا؟! خامسًا: قولهم: «إن معاوية لم يزل في الشرك إلى أن أسلم» به يظهر الفرق فيما يقصد به الجمع، فإن معاوية أسلم بعد الكفر، وقد قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال:38)، وتاب من شركه وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة:11). وإبليس كفر بعد إيمانه فحبط إيمانه بكفره، وذاك حبط كفره بإيمانه، فكيف يقاس من آمن بعد الكفر بمن كفر بعد الإيمان؟! سادسًا: قد ثبت إسلام معاوية - رضي الله عنه -، والإسلام يَجُبُّ ما قبله. فمن ادعى أنه ارتد بعد ذلك كان مدعيًا دعوى بلا دليل لو لم يعلم كذب دعواه، فكيف إذا علم كذب دعواه، وأنه مازال على الإسلام إلى أن مات، كما علم بقاء غيره على الإسلام؟ فالطريق الذي يُعلم به بقاء إسلام أكثر الناس من الصحابة وغيرهم، يُعلم به بقاء إسلام معاوية - رضي الله عنه -. والمدَّعي لارتداد معاوية وعثمان وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهم -، ليس هو أظهر حجة من المدعي لارتداد عليّ - رضي الله عنه -. فإن كان المدَّعي لارتداد عليّ - رضي الله عنه - كاذبًا، فالمدعي لارتداد هؤلاء أظهر كذبًا - رضي الله عنهم -.

سابعًا: هذه الدعوى إن كانت صحيحة، ففيها من القدح والغضاضة بعليّ والحسن وغيرهما ما لا يخفى. وذلك أنه يلزم منها أن عليًا - رضي الله عنه - كان مغلوبًا مع المرتدّين، وكان الحسن - رضي الله عنه - قد سلَّم أمر المسلمين إلى المرتدين. وخالد بن الوليد قهر المرتدّين، فيكون نصر الله لخالد على الكفار أعظم من نصره لعليّ. والله - سبحانه وتعالى - عدل لا يظلم واحدًا منهما فيكون ما استحقه خالد من النصر أعظم مما استحقه عليّ، فيكون أفضل عند الله منه. بل وكذلك جيوش أبي بكر وعمر وعثمان ونوّابهم؛ فإنهم كانوا منصورين على الكفّار أيضًا؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} (آل عمران:139)، وقال تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)} (محمد:35). وعليّ - رضي الله عنه - دعا معاوية إلى السِّلْم في آخر الأمر، لَمّا عجز عن دفعه عن بلاده، وطلب منه أن يبقى كل واحد منهما على ما هو عليه. وقد قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} (آل عمران:139). وحسب عقيدة الشيعة فإن أصحاب علي - رضي الله عنه - مؤمنون، وأولئك مرتدون، ويلزم من ذلك أن يكونوا هم الأعلين، وهو خلاف الواقع. ثامنًا: من قال: «إن معاوية - رضي الله عنه - استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين» نقول له: لِمَ قلت: إنه علم أن ولايته صحيحة، وأن طاعته واجبة عليه؟ فإن الدليل على ثبوت ولايته ووجوب طاعته من المسائل المشتبهة التي لا تظهر إلا بعد بحث ونظر، بخلاف من أجمع الناس على طاعته. وبتقدير أن يكون عَلِمَ ذلك، فليس كل من عصى يكون مستكبرًا عن طاعة الله. والمعصية تصدر تارة عن شهوة، وتارة عن كِبْر، وهل يُحكم على كل عاصٍ بأنه مستكبر عن طاعة الله كاستكبار إبليس؟!

تاسعًا: قولهم: «وبايعه الكل بعد عثمان». إن لم يكن هذا حجة فلا فائدة فيه، وإن كان حجة فمبايعتهم لعثمان كان اجتماعهم عليها أعظم. والشيعة لا يرون الممتنع عن طاعة عثمان كافرًا، بل مؤمنًا تقيًّا. عاشرًا: اجتماع الناس على مبايعة أبي بكر كانت على قول الشيعة أكمل، وهم وغيرهم يقولون: إن عليًّا تخلّف عنها مدة. فيلزم على قولهم أن يكون عليّ - رضي الله عنه - مستكبرًا عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إمامًا، فيلزم حينئذ كفر عليّ بمقتضى حجتهم، أو بطلانها في نفسها. وكُفْر عليّ - رضي الله عنه - باطل، فلزم بطلانها. حادي عشر: قولهم: «بايعه الكل بعد عثمان» من أظهر الكذب، فإن كثيرًا من المسلمين: إما النصف، وإما أقل أو أكثر لم يبايعوه، ولم يبايعه سعد بن أبي وقاص ولا ابن عمر ولا غيرهما. ثاني عشر: قولهم: «إنه جلس مكانه» كذب؛ فإن معاوية لم يطلب الأمر لنفسه ابتداء، ولا ذهب إلى عليّ لينزعه عن إمارته، ولكن امتنع هو وأصحابه عن مبايعته، وبقي على ما كان عليه واليًا على من كان واليًا عليه في زمن عمر وعثمان. ولما جرى حكم الحكمين إنما كان متوليًا على رعيته فقط. فإن أريد بجلوسه في مكانه أنه استبد بالأمر دونه في تلك البلاد، فهذا صحيح، لكن معاوية - رضي الله عنه - يقول: إني لم أنازعه شيئًا هو في يده، ولم يثبت عندي ما يوجب عليّ دخولي في طاعته. وهذا الكلام سواء كان حقًا أو باطلًا لا يوجب كون صاحبه شرًّا من إبليس، ومَن جعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شرًّا من إبليس، فما أبقى غاية في الافتراء على الله ورسوله والمؤمنين، والعدوان على خير القرون في مثل هذا المقام، والله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، والهوى إذا بلغ بصاحبه إلى هذا الحد فقد أخرج صاحبه عن ربقة العقل، فضلًا عن العلم والدين.

سؤال للشيعة من المسَلّم عند كل من اطلع على مذهب الشيعة الإمامية أنهم يكفّرون معاوية لقتاله عليًا - رضي الله عنه - ولكن الثابت ـ عندهم ـ أن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - من الأئمة المعصومين، فكل ما يصدر عنه فهو حق، والحسن قد صالح معاوية وبايعه على الخلافة. فهل صالح الحسن (المعصوم) - رضي الله عنه - كافرًا وسلّم له بالخلافة؟! أم أصلح بين فئتين مسلمتين كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!!! نريد من الشيعة الإجابة!!! إن في مصادر الاثني عشرية ما يثبت أن عليًا ومعاوية على حق ومأجورين على اجتهادهما فقد ذكر الكليني في كتابه (الروضة من الكافي) ـ الذي يمثل أصول وفروع مذهب الاثني عشرية: «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَلَبِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «اخْتِلَافُ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنَ الْمَحْتُومِ، وَالنِّدَاءُ مِنَ الْمَحْتُومِ، وَخُرُوجُ الْقَائِمِ مِنَ الْمَحْتُومِ».قُلْتُ: وَكَيْفَ النِّدَاءُ؟ قَالَ: يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوَّلَ النَّهَارِ أَلَا إِنَّ عَلِيًّا وَشِيعَتَهُ هُمُ الْفَائِزُونَ، قَالَ وَيُنَادِي مُنَادٍ فِي آخِرِ النَّهَارِ أَلَا إِنَّ عُثْمَانَ وَشِيعَتَهُ هُمُ الْفَائِزُونَ» (¬1). وهذا علي بن أبي طالب يقرر أن عثمان وشيعته هم أهل إسلام وإيمان ولكن القضية اجتهادية كل يرى نفسه على الحق في مسألة عثمان فيذكر الشيعي الشريف الرضي في كتابهم (نهج البلاغة) عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: «وكان بدء أمرنا أن التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء» (¬2) ¬

_ (¬1) روضة الكافي (8/ 310). (¬2) نهج البلاغة (3/ 648).

الشبهة السادسة

الشبهة السادسة قالوا: إن أهل السنة قالوا لمعاوية إنه خال المؤمنين دون محمد بن أبي بكر، وسبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعليّ - رضي الله عنه -، ومفارقته لأبيه، وبغض معاوية لعلي ومحاربته له. الجواب: تنازع العلماء في إخوة أمهات المؤمنين: هل يقال لأحدهم خال المؤمنين (¬1)؟ فقيل: يقال لأحدهم خال المؤمنين؛ وعلى هذا فهذا الحكم لا يختص بمعاوية بل يدخل في ذلك عبد الرحمن ومحمد ولدا أبي بكر، وعبد الله وعبيد الله وعاصم أولاد عمر ويدخل في ذلك عمرو بن الحارث بن أبي ضرار أخو جويرية بنت الحارث، ويدخل في ذلك عتبة بن أبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان أخوا معاوية. ومن علماء السنة من قال: لا يطلق على إخوة الأزواج أنهم أخوال المؤمنين فإنه لو أطلق ذلك لأطلق على أخواتهن أنهن خالات المؤمنين ولو كانوا أخوالا وخالات لحرم على المؤمنين أن يتزوج أحدهم خالته وحرم على المرأة أن تتزوج خالها. وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يجوز للمؤمنين والمؤمنات أن يتزوجوا أخواتهن وإخوتهن كما تزوج العباس أم الفضل أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين ووُلد له منها عبد الله والفضل وغيرهما، وكما تزوج عبد الله بن عمر وعبيد الله ومعاوية وعبد الرحمن بن أبي بكر ومحمد بن أبي بكر من تزوجوهن من المؤمنات ولو كانوا أخوالًا لهن لما جاز للمرأة أن تتزوج خالها. قالوا: وكذلك لا يطلق على أمهاتهن أنهن جدات المؤمنين ولا على آبائهن أنهم أجداد المؤمنين لأنه لم يثبت في حق الأمهات جميع أحكام النسب وإنما ثبت الحرمة ¬

_ (¬1) جاء في معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد: (خال المؤمنين) في إطلاق ذلك على إخوان زوجات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قولان للعلماء: المنع، والجواز، وحكاهما الكرماني في (شرح البخاري) ولم يرجِّح.

والتحريم وأحكام النسب تتبعض كما يثبت بالرضاع التحريم والمحرمية ولا يثبت بها سائر أحكام النسب وهذا كله متفق عليه. والذين أطلقوا على الواحد من أولئك أنه خال المؤمنين لم ينازعوا في هذه الأحكام ولكن قصدوا بذلك الإطلاق أن لأحدهم مصاهرة مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - واشتهر ذكرهم لذلك عن معاوية - رضي الله عنه - كما اشتهر أنه كاتب الوحي وقد كتب الوحي غيره، فهم لا يذكرون ما يذكرون من ذلك لاختصاصه به بل يذكرون ما له من الاتصال بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما يذكرون في فضائل غيره ما ليس من خصائصه، كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ». (رواه البخاري ومسلم). وقول علي - رضي الله عنه -: «وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَىَّ «أَنْ لاَ يُحِبَّنِى إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضَنِى إِلاَّ مُنَافِقٌ». (رواه مسلم). فهذان الأمران ليسا من خصائص علي - رضي الله عنه - لكنهما من فضائله ومناقبه التي تعرف بها فضيلته واشتهر رواية أهل السنة لها ليدفعوا بها قدْح مَن قدَح في علي - رضي الله عنه - من الخوارج وغيرهم حيث جعلوه كافرًا أو ظالمًا. ومعاوية - رضي الله عنه - أيضا لما كان له نصيب من الصحبة والاتصال برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وصار أقوام يجعلونه كافرًا أو فاسقًا ويستحلون لعنته ونحو ذلك احتاج أهل العلم أن يذكروا ما له من الاتصال برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليرعى بذلك حق المتصلين برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بحسب درجاتهم. وهذا القدر لو اجتهد فيه الرجل وأخطأ لكان خيرًا ممن اجتهد في بغضهم وأخطأ فإن باب الإحسان إلى الناس والعفو عنهم مقدم على باب الإساءة والانتقام، فخطأ المجتهد في الإحسان إليهم بالدعاء والثناء عليهم والذب عنهم خير من خطئه في الإساءة إليهم باللعن والذم والطعن.

وما شجر بينهم غايته أن يكون ذنبًا والذنوب مغفورة بأسباب متعددة هم أحق بها ممن بعدهم وما تجد أحدًا قدح فيهم إلا وهو يغضي عما هو أكبر من ذلك من زلات غيرهم وهذا من أعظم الجهل والظلم. وهؤلاء الرافضة يقدحون فيهم بالصغائر وهم يغضون عن الكفر والكبائر فيمن يعاونهم من الكفار والمنافقين كاليهود والنصارى والمشركين والإسماعيلية والنصيرية وغيرهم؛ فمن ناقش المؤمنين على الذنوب وهو لا يناقش الكفار والمنافقين على كفرهم ونفاقهم بل وربما يمدحهم ويعظمهم دل على أنه من أعظم الناس جهلًا وظلمًا إن لم ينته به جهله وظلمه إلى الكفر والنفاق. ومما يبين تناقضهم أنه ذكروا معاوية ومحمد بن أبي بكر وأنهم سموا هذا خال المؤمنين ولم يسموا هذا خال المؤمنين ولم يذكروا بقية من شاركهما في ذلك وهم أفضل منهما كعبد الله بن عمر بن الخطاب وأمثاله. وقد بينا أن أهل السنة لا يخصون معاوية - رضي الله عنه - بذلك وأما هؤلاء الرافضة فخصوا محمد بن أبي بكر بالمعارضة وليس هو قريبًا من عبد الله بن عمر في عمله ودينه بل ولا هو مثل أخيه عبد الرحمن بل عبد الرحمن له صحبة وفضيلة. ومحمد بن أبي بكر إنما وُلد عام حجة الوداع بذي الحليفة ولم يدرك من حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا خمس ليال من ذي القعدة وذا الحجة والمحرم وصفر وأوائل شهر ربيع الأول ولا يبلغ ذلك أربعة أشهر. ومات أبوه أبو بكر وتزوج علىٌّ - رضي الله عنهما - بعد أبي بكر بأمه أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - فكان ربيب على وكان اختصاصه بعلي لهذا السبب. * وأما قولهم: «إن سبب قول أهل السنة لمعاوية إنه خال المؤمنين دون محمد بن أبي بكر محبة محمد بن أبي بكر لعليّ، ومفارقته لأبيه»، فكَذِبٌ بَيِّنٌ، وذلك أن محمد بن أبي بكر في حياة أبيه لم يكن إلا طفلًا له أقل من ثلاث سنين، وبعد موت أبيه كان من أشد الناس تعظيمًا لأبيه، به كان يتشرف، وكانت له بذلك حرمة عند الناس.

وأما قولهم: «إن سبب قول أهل السنة لمعاوية إنه خال المؤمنين دون محمد بن أبي بكر، أن محمدًا هذا كان يحب عليًّا، ومعاوية كان يبغضه». فيقال: هذا كذب أيضًا؛ فإن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان أحق بهذا المعنى مِن هذا وهذا، وهو لم يقاتل لا مع هذا ولا مع هذا، وكان معظِّمًا لعليّ - رضي الله عنه -، محبًا له، يذكر فضائله ومناقبه، وكان مبايعًا لمعاوية لما اجتمع عليه الناس غير خارج عليه، وأخته أفضل من أخت معاوية، وأبوه أفضل من أبي معاوية، والناس أكثر محبة وتعظيمًا له من معاوية ومحمد، ومع هذا فلم يشتهر عنه خال المؤمنين. فعُلم أنه ليس سبب ذلك ما ذكره. وأيضًا فأهل السنّة يحبون الذين لم يقاتلوا عليًّا - رضي الله عنه - أعظم مما يحبون مَن قاتَله، ويفضِّلون مَن لم يقاتله على من قاتله، كسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. فهؤلاء أفضل من الذين قاتلوا عليًّا عند أهل السنة. والحب لعليّ - رضي الله عنه - وترك قتاله خير بإجماع أهل السنة من بغضه وقتاله. وهم متفقون على وجوب موالاته ومحبته، وهم من أشد الناس ذَبًّا عنه، وردًّا على من يطعن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب، لكن لكل مقام مقال. والرافضة لا يمكنهم أن يثبتوا وجوب موالاته كما يمكن لأهل السنة. وأهل السنة متفقون على ذم الخوارج الذين هم أشد بغضًا له وعداوة من غيرهم. وأهل السنة متفقون على وجوب قتالهم، فكيف يفتري المفتري عليهم بأنَّ قَدْح هذا لبغضه عليًّا وذَمّ هذا لحبه عليًّا، مع أنه ليس من أهل السنة من يجعل بغض عليّ طاعة ولا حسنة، ولا يأمر بذلك، ولا من يجعل مجرد حبه سيئة ولا معصية، ولا ينهى عن ذلك.

وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبَّه، وكارهون لذلك. وأهل السنة من أشد الناس بغضًا وكراهة لأن يُتعرض لعلي - رضي الله عنه - بقتال أو سبّ، بل هم كلهم متفقون على أنه أجلّ قدرًا، وأحق بالإمامة، وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه يزيد الذي كان خيرًا منه، وعليّ أفضل ممن هو أفضل من معاوية - رضي الله عنه -. فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح، وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية، وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم، وعليّ - رضي الله عنه - أفضل جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة، بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة، فليس في أهل السنة من يقدّم عليه أحدًا غير الثلاثة ـ أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ـ، بل يفضّلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وممن أسلم بعد الحديبية خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشيبة الحجبي وغيرهم. وأما سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وأبو سفيان بن حرب، وابناه يزيد ومعاوية، وصفوان بن أمية، وغيرهم، فهؤلاء مسلمة الفتح. ومن الناس من يقول: إن معاوية - رضي الله عنه - أسلم قبل أبيه، فيجعلونه من الصنف الأول. فإذا كانت هذه مراتب الصحابة عند أهل السنة، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وهم متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مسلمة الفتح عمَّن أسلم بعد الحديبية، وعلى تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية، وعلى أن البدريين أفضل من غير البدريين، وعلى أن عليًا أفضل من جماهير هؤلاء ـ لم يُقدَّم عليه أحد غير الثلاثة، فكيف يُنْسَبُ إلى أهل السنة تسويته بمعاوية، أو تقديم معاوية عليه - رضي الله عنهما -؟

الشبهة السابعة

الشبهة السابعة قالوا: إن أهل السنة سموه كاتب الوحي ولم يكتب للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كلمة واحدة من الوحي، بل كان يكتب له رسائل. وقد كان بين يدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أربعة عشر نفسًا يكتبون الوحي، أولهم وأخصهم وأقربهم إليه عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، مع أن معاوية لم يزل مشركًا بالله تعالى في مدة كَوْن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مبعوثًا، يُكذِّب بالوحي ويهزأ بالشرع. الجواب: * أما قول الشيعة: «وسمّوه كاتب الوحي ولم يكتب كلمة واحدة من الوحي». فهذا قول بلا حجة ولا علم، فما الدليل على أنه لم يكتب له كلمة واحدة من الوحي، وإنما كان يكتب له رسائل؟ وقولهم: «إن كتاب الوحي كانوا بضعة عشر أخصّهم وأقربهم إليه عليّ». فلا ريب أن عليًّا - رضي الله عنه - كان ممن يكتب له أيضًا، كما كتب الصلح بينه وبين المشركين عام الحديبية، ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضًا، ويكتب له زيد بن ثابت بلا ريب. وكتب له أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم، وأبيّ بن كعب، وثابت بن قيس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وزيد بن ثابت، ومعاوية، وشُرحبيل بن حسنة - رضي الله عنهم -. * أما قولهم: «إن معاوية لم يزل مشركًا مدة كون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مبعوثًا». فيقال: لا ريب أن معاوية وأباه وأخاه وغيرهم أسلموا عام فتح مكة، قبل موت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بنحو ثلاث سنين، فكيف يكون مشركًا مدة البعث، ومعاوية - رضي الله عنه - كان حين بُعث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صغيرًا، ومعاوية - رضي الله عنه - أسلم مع مسلمة الفتح، مثل أخيه يزيد، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وأبي سفيان بن حرب، وهؤلاء كانوا قبل إسلامهم أعظم كفرًا ومحاربة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من معاوية - رضي الله عنه -.

فصفوان وعكرمة وأبو سفيان كانوا مقدَّمين للكفار يوم أحد، رؤوس الأحزاب في غزوة الخندق، ومع هذا كان أبو سفيان وصفوان بن أمية وعكرمة من أحسن الناس إسلامًا، وقُتِلوا - رضي الله عنهم - يوم اليرموك. ومعاوية لم يُعرف عنه قبل الإسلام أذًى للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا بيد ولا بلسان فإذا كان مَن هو أعظم معاداة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مِن معاوية قد حَسُن إسلامه، وصار ممن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فما المانع أن يكون معاوية - رضي الله عنه - كذلك؟ وكان معاوية - رضي الله عنه - من أحسن الناس سيرة في ولايته، وهو ممن حسن إسلامه، ولولا محاربته لعليّ - رضي الله عنه - وتولِّيه الملك، لم يذكره أحد إلا بخير، كما لم يذكر أمثاله إلا بخير. وهؤلاء مسلمة الفتح ـ معاوية ونحوه ـ قد شهدوا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عدة غزوات، كغزاة حُنين والطائف وتبوك، فله من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ما لأمثاله، فكيف يكون هؤلاء كفارًا وقد صاروا مؤمنين مجاهدين تمام سنة ثمان وتسع وعشر وبعض سنة إحدى عشرة؟ فإن مكة فُتحت باتفاق الناس في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - باتفاق الناس توفي في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة، والناس كلهم كانوا كفارًا قبل إيمانهم بما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكان فيهم من هو أشد عداوة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من معاوية وأسلم وحسن إسلامه، كأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان من أشد الناس بُغضًا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهجاء له قبل الإسلام. وأما معاوية - رضي الله عنه - فكان أبوه شديد العداوة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكذلك أمه حتى أسلمت، فعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمْ اللهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُعِزَّهُمْ اللهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ». فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه». (رواه البخاري ومسلم). (خِبَاء) خَيْمَة مِنْ وَبَر أَوْ صُوف، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْبَيْت كَيْف مَا كَانَ.

قَوْله: (قَالَ وَأَيْضًا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) قَالَ اِبْن التِّين: «فِيهِ تَصْدِيق لَهَا فِيمَا ذَكَرَتْهُ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنَا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْك مِثْل ذَلِكَ» (¬1). قال ابن كثير: «فالمِدحة في قوله: «وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه»؛ وهو أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يَوَدُّ أن هندًا وأهلَها وكلَّ كافر يَذلّوا في حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحبُّ أن يَعِزّوا، فأعزّهم الله، يعني أهلَ خبائها» (¬2). والحديث يدلُّ على تخصيص هند وأهل خبائها بالذات، ثم مما يؤكدُ إعزازَ النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لها بعد الإسلام؛ أنه استَغفرَ لها لما جاءته مبايعةً مع النساء، فنَزل قولُ الله تعالى: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ}، وجاء وصفُ المبايعات في الآيات بأنهن من (المؤمنات). (الممتحنة:12) ويَدخلُ معاويةُ في فضل الحديث السابق، فهو من أهل خباء هند. وفيهم أنزل الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)} (الممتحنة:7)، فإن الله جعل بين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين الذين عادوه ـ كأبي سفيان وهند وغيرهما ـ مودة، والله قدير على تبديل العداوة بالمودة، وهو غفور لهم بتوبتهم من الشرك، رحيم بالمؤمنين، وقد صاروا مؤمنين. ¬

_ (¬1) باختصار من فتح الباري. (¬2) البداية والنهاية (8/ 131).

الشبهة الثامنة

الشبهة الثامنة قالوا: «وكان باليمن يوم الفتح يطعن على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيّره بإسلامه، ويقول: أصَبَوت إلى دين محمد؟ وكتب إليه: يا صخر لا تُسلِمَنّ طوعًا فتفضحنا ... بعد الذين ببدرٍ أصبحوا فرقا جدّي وخالي وعمُّ الأم يا لهم ... قومًا وحنظلة المهدي لنا أرقا فالموت أهون من قول الوشاة لنا ... خلّى ابن هند عن العزّى لقد فَرَقا الجواب: أما قولهم: «كان باليمن يطعن على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيِّره بإسلامه، وكتب إليه الأبيات»، فهذا من الكذب المعلوم؛ فإن معاوية إنما كان بمكة، لم يكن باليمن، وأبوه أسلم قبل دخول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مكة بمر الظهران ليلة نزل بها. وهذا الشعر كذب على معاوية قطعًا؛ فإنه فيه: فالموت أهون من قول الوشاة ... خلّى ابن هند عن العزّى لقد فرقا ومعلوم أنه بعد فتح مكة أسلم الناس وأُزيلت العُزَّى؛ بَعَثَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إليها خالد بن الوليد، فجعل يقول: إني رأيت الله قد أهانك ... يا عزّ كفرانك لا سبحانك وكانت قريبًا من عرفات، فلم يبق هناك لا عُزّى ولا من يلومهم على ترك العزّى، فعُلم أن هذا وضع بعض الكذّابين على لسان معاوية. وهو كذّاب جاهل لم يعلم كيف وقع الأمر. وعلى فرض أن هذا الكذب صحيح فقد أسلم معاوية - رضي الله عنه - وحسن إسلامه والإسلام يجُبُّ ما قبله.

الشبهة التاسعة

الشبهة التاسعة قالوا: «الفتح كان في رمضان لثمان سنين من قدوم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المدينة، ومعاوية مقيم على شركه، هارب من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأنه كان قد أهدر دمه، فهرب إلى مكة، فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مضطرًا، فأظهر الإسلام، وكان إسلامه قبل موت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بخمسة أشهر، وطرح نفسه على العباس، فسأل فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فعفا، ثم شفع إليه أن يشرِّفه ويضيفه إلى جملة الكُتَّاب، فأجابه وجعله واحدًا من أربعة عشرة، فكم كان حظه من هذه المدة لو سلّمنا أنه كاتب الوحي حتى استحق أن يوصف بذلك دون غيره؟». الجواب: وأما قولهم: «إن الفتح كان في رمضان لثمان من مقدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المدينة»، فهذا صحيح. وأما قولهم: «إن معاوية كان مقيمًا على شِرْكِهِ هاربًا من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأنه كان قد أهدر دمه، فهرب إلى مكة، فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مضطرًا فأظهر الإسلام، وكان إسلامه قبل موت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بخمسة أشهر». فهذا من أظهر الكذب؛ فإن معاوية أسلم عام الفتح باتفاق الناس، وقد تقدّم قول الشيعة: «إنه من المؤلفة قلوبهم»، والمؤلفة قلوبهم أعطاها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عام حُنَين من غنائم هَوَازن، وكان معاوية - رضي الله عنه - ممن أعطاه منها، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يتألّف السادة المُطاعين في عشائرهم، فإن كان معاوية هاربًا لم يكن من المؤلفة قلوبهم، ولو لم يسلم إلا قبل موت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يعطَ شيئًا من غنائم حنين. ومن كانت غايته أن يُؤَمَّن لم يحتج إلى تأليف.

وقد ذكر البياضي ـ وهو من علماء الشيعة ـ أن معاوية أظهر إسلامه في عام الفتح، فقال: «قد صح من التاريخ أنه أظهر الإسلام سنة ثمانية من الهجرة» (¬1). فهذا شاهد منهم ينقل أنه قد صح إظهار معاوية لإسلامه في السنة الثامنة ـ عام الفتح ـ وقوله حجة على من زعم تأخر ذلك. وأقل أحوال معاوية أن يكون من الطلقاء أو المؤلفة قلوبهم، وكونه منهم لا يقدح به لأن أكثر الطلقاء المؤلفة قلوبهم حسن إسلامهم. وبعض الناس يقول: إنه قد أسلم قبل ذلك. ومما يبيّن كذب ما ذكره الرافضة أنه لم يتأخر إسلام أحد من قريش إلى هذه الغاية، وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد بعث أبا بكر عام تسع بعد الفتح بأكثر من سنة ليقيم الحج، وينادي أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. في تلك السنة نُبذت العهود إلى المشركين، وأجِّلوا أربعة أشهر، فانقضت المدة في سنة عشر، فكان هذا أمانًا لكل مشرك من سائر قبائل العرب، وغزا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غزوة تبوك سنة تسع لقتال النصارى بالشام، وقد ظهر الإسلام بأرض العرب. ولو كان لمعاوية - رضي الله عنه - من الذنوب ما كان لكان الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فكيف ولم يُعرف له ذنب يهرب لأجله، أو يُهدر دمه لأجله؟! وأهل السير والمغازي متفقون على أنه لم يكن معاوية - رضي الله عنه - ممن أهدر دمه عام الفتح. فهذه مغازي عُروة بن الزبير، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، والواقدي، وسعيد بن يحيى الأموي، ومحمد بن عائذ، وأبي إسحاق الفزاري وغيرهم. وكتب التفسير والحديث كلها تنطق بخلاف ما ذكره الشيعة. والذين أهدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دماءَهم كانوا نفرًا قليلًا نحو العشرة. وأبو سفيان كان أعظم الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فهو في غزوة بدر الذي أرسل إلى قريش ليستنفرهم، وفي غزوة أحد هو الذي جمع الأموال التي كانت معه ¬

_ (¬1) الصراط المستقيم للبياضي (3/ 46).

للتجارة، وطلب من قريش أن ينفقها في قتال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو أعظم قواد الجيش يوم أحد، وهو قائد الأحزاب أيضًا، وقد أسلم أبو سفيان، وأمّنه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فكيف يُهدِر دم معاوية، وهو شاب صغير ليس له ذنب يختص به، ولا عُرف عنه أنه كان يحضُّ على عداوة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد أمَّن رؤوس الأحزاب؟ فهل يَظُن هذا إلا مَن هو أجهل الناس بالسيرة؟ وهذا الذي ذكرناه مجمع عليه بين أهل العلم مذكور في عامة الكتب المصنّفة في هذا الشأن. * وأما قولهم: «إنه استحق أن يُوصف بذلك دون غيره». ففرية على أهل السنة؛ فإنه ليس فيهم من يقول: إن هذا من خصائص معاوية، بل هو واحد من كتّاب الوحي.

الشبهة العاشرة

الشبهة العاشرة قالوا: «إنه نزل فيه: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} الآية (النحل:106)». الجواب: هذا باطل؛ فإن هذه الآية نزلت بمكة، لما أكرِه عمّار وبلال على الكفر، ولو قُدِّر أنه نزلت فيه هذه الآية؛ فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قَبِل إسلامه وبايعه. وقد قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)} (آل عمران:86 - 89).

الشبهة الحادية عشرة

الشبهة الحادية عشرة قالوا: «قد روى عبد الله بن عمر، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فسمعته يقول: «يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي»، فطلع معاوية. وقام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خطيبًا، فأخذ معاوية بيد ابنه زيدًا أو يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لعن الله القائد والمقود، أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة؟». الجواب: أولًا: نحن نطالب بصحة هذا الحديث؛ فإن الاحتجاج بالحديث لا يجوز إلا بعد ثبوته، ونحن نقول هذا في مقام المناظرة، وإلا فنحن نعلم قطعًا أنه كذب. ثانيًا: هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يُرجع إليها في معرفة الحديث، ولا له إسناد معروف. وهذا المحتج به لم يذكر له إسنادًا، ثم من جهله أن يروي مثل هذا عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وعبد الله بن عمر كان من أبعد الناس عن ثلب الصحابة، وأروى الناس لمناقبهم، وقوله في مدح معاوية - رضي الله عنه - معروف ثابت عنه. قال ابن كثير: «وقال هشيم عن العوام عن جبلة بن سحيم عن ابن عمرو، قال: «ما رأيت أحدًا أسْوَد (¬1) من معاوية». قال: قلت: «ولا عمر؟». قال: «كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسوَد منه» (¬2). ثالثًا: إن خُطب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم تكن واحدة، بل كان يخطب في الجمع والأعياد والحج وغير ذلك، ومعاوية وابنه كانا يشهدان الخطب، كما يشهدها المسلمون كلهم. ¬

_ (¬1) من السيادة. (¬2) البداية والنهاية (8/ 153).

أفَتَراهما في كل خطبة كانا يقومان ويُمَكَّنان من ذلك؟ هذا قدح في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي سائر المسلمين، إذ يمكِّنون اثنين دائمًا يقومان ولا يحضران الخطبة ولا خطبة الجمعة. وإن كانا يشهدان كل خطبة، فما بالهما يمتنعان من سماع خطبة واحدة قبل أن يتكلم بها؟ ثم من المعلوم من سيرة معاوية أنه كان من أحلم الناس، وأصبرهم على من يؤذيه، وأعظم الناس تأليفًا لمن يعاديه، فكيف ينفر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، مع أنه أعظم الخلق مرتبة في الدين والدنيا، وهو محتاج إليه في كل أموره؟ فكيف لا يصبر على سماع كلامه وهو بعد المُلك كان يسمع كلام من يسبّه في وجهه؟ فلماذا لا يسمع كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وكيف يتخذ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كاتبًا مَن هذه حاله؟ رابعًا: أما قولهم: «إنه أخذ بيد ابنه زيدًا أو يزيد»، فمعاوية لم يكن له ابن اسمه زيد. وأما يزيد ابنه الذي تولّى بعده الملك وجرى في خلافته ما جرى، فإنما وُلد في خلافة عثمان - رضي الله عنه - باتفاق أهل العلم، ولم يكن لمعاوية ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

الشبهة الثانية عشرة

الشبهة الثانية عشرة ما ذُكِرَ مِن حال جدّه أبي أمية عتبة بن ربيعة وخاله الوليد بن عتبة وعم أمه شيبة بن ربيعة وأخيه حنظلة وموتهم على الكفر. الجواب: هذا أمر يشترك فيه هو وجمهور قريش، فما منهم من أحد إلا وله أقارب كفار، قُتلوا كفارًا أو ماتوا كفارًا، فهل كان في إسلامهم فضيحة؟! وقد أسلم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، وكانا من خيار المسلمين، وأبواهما قتلا ببدر. وكذلك الحارث بن هشام قُتل أخوه يوم بدر. وفي الجملة هذا طعن في عامة أهل الإيمان. وهل يحل لأحد أن يطعن في عليّ - رضي الله عنه - بأن عمه أبا لهب كان شديد العداوة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو يطعن في العبّاس - رضي الله عنه - بأن أخاه كان معاديًا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو يعيّر عليًّا - رضي الله عنه - بكفر أبي طالب أو يعير بذلك العباس؟ وهل مثل ذلك إلا مِن كلام مَن ليس مِن المسلمين؟

الشبهة الثالثة عشرة

الشبهة الثالثة عشرة قالوا: «كسر أبوه ثَنِيَّة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (¬1)، وأكلتْ أمُّه كبدَ حمزة عم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -». الجواب: لا ريب أن أبا سفيان بن حرب - رضي الله عنه - كان ـ قبل إسلامه ـ قائد المشركين يوم أُحُد، وكُسرت ذلك اليوم ثنيّة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، كسرها بعض المشركين. لكن لم يقل أحد: إن أبا سفيان باشر ذلك، وإنما كسرها عُتبة بن أبي وقاص (¬2)، ورُوِىَ أن هندًا أخذت كبد حمزة فلاكَتْها (¬3)، فلم تستطع أن تبلعها فلفظتها (¬4). وإن صح ذلك فقد كان هذا قبل إسلامهما، ثم بعد ذلك أسلما وحسن إسلامهما، وهند كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكرمها، والإسلام يَجُبٌّ ما قبله (¬5). وقد قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال:38). ¬

_ (¬1) الثَنِيَّة: إحدى الأسنان الأربع التي في مقدَّم الفم، اثنتان من فوق واثنتان من تحت. (¬2) في سيرة ابن هشام (3/ 84) عن أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يومئذ (يوم أحد) فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى. وفي زاد المعاد (3/ 197): «وكان الذي تولى أذاه - صلى الله عليه وآله وسلم - عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص. وقيل: إن عبد الله بن شهاب الزهري، عم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، هو الذي شجه». (¬3) اللَّوْكُ: أهْوَنُ المَضْغِ، أو مَضْغُ صُلْبٍ. (¬4) لفَظَتْها: رَمَتْها مِن فَمِها. (¬5) عن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - رضي الله عنه - قَالَ: «لَمَّا أَلْقَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِيُبَايِعَنِي فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ فَقُلْتُ لَا أُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي».قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا عَمْرُو، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ، يَا عَمْرُو، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ» رواه الإمام أحمد وصححه الألباني). ورواه مسلم بلفظ «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».

الشبهة الرابعة عشرة

الشبهة الرابعة عشرة قالوا: «إن معاوية سمَّ الحسن بن عليٍّ - رضي الله عنهما -». الجواب: أولا: هذا الادعاء باطل وذلك لأسباب وهي: أـ أنه لم يثبت أي دليل صحيح عليه، وإن كان عند الشيعة نقل ثابت عن عدل فليرشدونا إليه لا أن يتهموا صحابيًا دون أن يأتوا ببينة على ادعائهم. ومثل هذا لا يحكم به في الشرع باتفاق المسلمين، فلا يترتب عليه أمر ظاهر: لا مدح ولا ذم. ب ـ كان الناس في تلك المرحلة في حالة فتنة تتصارعهم الأهواء وكل فرقة تنسب للأخرى ما يذمها وإذا نقل لنا ذلك فيجب ألا نقبله إلا إذا نقل بعدل ثقة ضابط. جـ ـ إن هذه الحادثة ـ قصة دس السم من قبل معاوية للحسن ـ تستسيغها العقول في حالة واحدة فقط؛ وهي كون الحسن بن علي - رضي الله عنهما - رفض الصلح مع معاوية - رضي الله عنه - وأصر على القتال، ولكن الذي حدث أن الحسن صالح معاوية - رضي الله عنهما - وسلم له بالخلافة طواعية وبايعه عليها، فعلى أي شيء يقدم معاوية على سم الحسن - رضي الله عنهما -؟؟!! هـ- لا نلمس لهذه القضية أثرًا في قضية قيام الحسين - رضي الله عنه -، أو حتى عتابًا من الحسين لمعاوية - رضي الله عنهما -. ولو كان هذا حقًا لذُكِرَ ذلك. ثانيًا: أقوال أهل العلم في هذه المسألة: 1 - قال ابن العربي - رحمه الله -: «فإن قيل: دس ـ أي معاوية ـ على الحسن مَن سَمَّه، قلنا هذا محال من وجهين: أحدهما: أنه ما كان ليتقي من الحسن بأسًا وقد سلّم الأمر. الثاني: أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله، فكيف تحملونه بغير بينة على أحد من خلقه، في زمن متباعد، لم نثق فيه بنقل ناقل، بين أيدي قوم ذوي أهواء، وفي حال فتنة

وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه مالا ينبغي، فلا يقبل منها إلا الصافي، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم» (¬1). 2 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وأما قوله: إن معاوية سم الحسن، فهذا مما ذكره بعض الناس، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية، أو إقرار معتبر، ولا نقل يجزم به، وهذا مما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم» (¬2). 3 - قال الذهبي - رحمه الله -: «قلت: هذا شيء لا يصح فمن الذي اطلع عليه». (¬3) 4 - قال ابن كثير - رحمه الله -: «وروى بعضهم أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث أن سُمّي الحسن وأنا أتزوجك بعده، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت إليه فقال: «إنا والله لم نرضك للحسن أفنرضاك لأنفسنا؟». وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى» (¬4). 5 - قال ابن خلدون (¬5): «وما نقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث، فهو من أحاديث الشيعة، وحاشا لمعاوية من ذلك». ثالثًا: إن الذي نُقِلَ لنا عن حادثة سم الحسن بن علي - رضي الله عنه - روايات متضاربة ضعيفة. بعضها يقول أن الذي دس السم له هي زوجته. ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم (ص 220 - 221). (¬2) منهاج السنة (4/ 469. (¬3) تاريخ الإسلام (عهد معاوية ص 40). (¬4) البداية والنهاية (8/ 43). (¬5) في تاريخه (2/ 649).

وبعضها يقول أن أباها الأشعث بن قيس هو الذي أمرها بذلك (¬1). وبعضها يتهم معاوية - رضي الله عنه - بأن أوعز إلى بعض خدمه فسمّه. وبعضها يتهم ابنه يزيد. وهذا التضارب في حادثة كهذه، يضعف هذه النقول؛ لأنها يعزوها النقل الثابت بذلك، والرافضة ـ خيبهم الله ـ لم يعجبهم من هؤلاء إلا الصحابي الجليل معاوية - رضي الله عنه - يلصقون به التهمة، مع أنه أبعد هؤلاء عنها. رابعًا: إن من الدلالة على ضعف تلك الاتهامات وعدم استنادها إلى معقول أو محسوس، ما ذكر حول علاقة جعدة بنت قيس بمعاوية ويزيد، حيث زعموا أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة بنت قيس أن سُمّي حسنًا فإني سأتزوجك، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء، فقال: «إنا والله لم نرضك له أفنرضاك لأنفسنا». ولعل الناقد لمتن هذه الرواية يتجلى له عدة أمور: * هل معاوية - رضي الله عنه - أو ولده يزيد بهذه السذاجة ليأمرا امرأة الحسن بهذا الأمر الخطير، الذي فيه وضع حد لحياة الحسن بن علي - رضي الله عنهما - غيلة، وما هو موقف معاوية أو ولده أمام المسلمين لو أن جعدة كشفت أمرهما؟! ¬

_ (¬1) الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي، أبو محمد، له صحبة، وفد على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سنة عشر في سبعين راكبًا من كندة وكان من ملوك كنده، فأسلم، وشهد اليرموك فأصيبت عينه وكان مع عليّ يوم صِفِّين وحضر معه وقعة النهروان ثم عاد إلى الكوفة فتوفى فيها سنة 40هـ. روى له البخاري ومسلم تسعة أحاديث. (انظر ترجمته في: الإصابة 1/ 66؛ الأعلام 1/ 333 - 334). ومما يدل على كذب هذه الرواية أن الأشعث بن قيس - رضي الله عنه - مات سنة أربعين، وقيل إحدى وأربعين، ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين معاوية والحسن بن علي، في العام الذي كان يسمى عام الجماعة، وهو عام 41هـ، وكان الأشعث حما الحسن بن عليّ، فلو كان شاهدًا لكان يكون له ذكر في ذلك، وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين، فكيف يكون هو الذي أمر ابنته أن تسم الحسن؟!!

* هل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد، وبالتالي تكون زوجة له، أليست جعدة ابنة أمير قبيلة كندة كافة وهو الأشعث بن قيس، ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شرفًا ورفعة بلا منازعة، إن أمه فاطمة - رضي الله عنها - وجده الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وكفى به فخرًا، وأبوه علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين، إذًا ما هو الشيء الذي تسعى إليه جعدة وستحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير؟! * ولو كانت هي التي فعلت ذلك لما خفي ذلك على الحسن أو الحسين - رضي الله عنهما - ولأقاموا عليها الحد فلمّا لم يفعلوا ذلك دلَّ على أن هذا الأمر لا يستقيم. خامسًا: إذا كان معاوية - رضي الله عنه - يريد أن يصفي الساحة من المعارضين حتى يتمكن من مبايعة يزيد بدون معارضة، فإنه سيضطر إلى تصفية الكثير من أبناء الصحابة - رضي الله عنهم -، ولن تقتصر التصفية على الحسن - رضي الله عنه - فقط. سادسًا: إن بقاء الحسن من مصلحة معاوية - رضي الله عنهما - في بيعة يزيد، فإن الحسن كان كارهًا للنزاع وفرقة المسلمين، فربما ضمن معاوية رضاه، وبالتالي يكون له الأثر الأكبر في موافقة بقية أبناء الصحابة. سابعًا: إن هناك الكثير من أعداء الحسن بن علي - رضي الله عنه -، قبل أن يكون معاوية هو المتهم الأول: فهناك السبئية الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل عن الخلافة لمعاوية وجعل حدًا لصراع المسلمين. وهناك الخوارج الذين قاتلهم أبوه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في النهراون، وهم الذين طعنوه في فخذه، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم في النهروان وغيرها. ثامنًا: إن ثبت موت الحسن - رضي الله عنه - بالسم، فهذه شهادة له وكرامة في حقه كما قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1). ¬

_ (¬1) منهاج السنة (4/ 42).

ولمزيد فائدة راجع كتاب: (أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري) للدكتور محمد نور ولي (¬1) وكتاب (مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية) للدكتور محمد بن عبد الهادي الشيباني (¬2) لتقف على الكم الهائل من الروايات المكذوبة على معاوية - رضي الله عنه - من قِبَل الشيعة في قضية سم الحسن - رضي الله عنه -. إن أحد مؤرخي الشيعة وهو ابن رستم في كتابه: دلائل الإمامة (¬3) قد بالغ في اتهام معاوية - رضي الله عنه -، وادعى أنه سم الحسن - رضي الله عنه - سبعين مرة فلم يفعل فيه السم، ثم ساق خبرًا طويلًا ضمنه ما بذله معاوية لجعدة من الأموال والضِياع لتَسُمّ الحسن، وغير ذلك من الأمور الباطلة. ¬

_ (¬1) ص 367 - 368. (¬2) ص 120 - 125. (¬3) ص 61.

الشبهة الخامسة عشرة

الشبهة الخامسة عشرة شبهة طلب معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - للخلافة قد شاع بين الناس قديمًا وحديثًا أن الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - كان سببه طمع معاوية في الخلافة، وأن خروج معاوية على علي وامتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام. لكن الصحيح أن الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - كان حول مدى وجوب بيعة معاوية وأصحابه لعلي قبل إيقاع القصاص على قتلة عثمان أو بعده، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء. فقد كان رأيُ معاوية - رضي الله عنه - ومن حوله من أهل الشام أن يقتص علي - رضي الله عنه - من قتلة عثمان ثم يدخلوا بعد ذلك في البيعة. يقول إمام الحرمين الجويني: «إن معاوية وإن قاتل عليًا فإنه لا ينكر إمامته ولا يدعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظنًا منه أنه مصيب، وكان مخطئًا» (¬1). أما شيخ الإسلام فيقول: «ومُعَاوِيَةُ لَمْ يَدَّعِ الْخِلَافَةَ؛ وَلَمْ يُبَايَعْ لَهُ بِهَا حَيْنَ قَاتَلَ عَلِيًّا، وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَةٌ، وَلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ، وَيُقِرُّونَ لَهُ بِذَلِك، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ يُقِرُّ بِذَلِك لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ» (¬2). ويذكر ابن كثير أن أبا الدرداء وأبا أمامة - رضي الله عنهما -، دخلا على معاوية فقالا له: «يا معاوية! عَلَامَ تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلامًا، وأقرب منك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأحق بهذا الأمر منك». فقال: «أقاتله على دم عثمان، فاذهبا إليه فقولا: فليقدْنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام» (¬3). ¬

_ (¬1) في لمع الأدلة (ص 115). (¬2) مجموع الفتاوى (35/ 72). (¬3) البداية والنهاية (7/ 360).

ويقول ابن حجر الهيتمي: «ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين معاوية وعلي - رضي الله عنهما - من الحرب، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي؛ فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه، فامتنع علي» (¬1). وتتضافر الروايات وتشير إلى أن معاوية - رضي الله عنه - خرج للمطالبة بدم عثمان، وأنه صرح بدخوله في طاعة عليٍّ - رضي الله عنه - إذا أقيم الحد على قتلة عثمان. ولو افتُرِضَ أن معاوية - رضي الله عنه - اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال علي طمعًا في السلطة، فماذا سيحدث لو تمكن عليٌّ من إقامة الحد على قتلة عثمان؟ حتمًا ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي ومبايعته له، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة، كما أن كل من حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئًا آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، ولا يمكن أن يقدم عليه إذا كان ذا أطماع. إن معاوية - رضي الله عنه - كان من كتاب الوحي، ومن أفاضل الصحابة، وأصدقهم لهجة، وأكثرهم حلمًا فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي ويريق دماء المسلمين من أجل ملك زائل، وهو القائل: «وَاللهِ، لاَ أُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، إِلاَّ اخْتَرْتُ اللهَ عَلَى مَا سِوَاهُ» (¬2). أما وجه الخطأ في موقفه من مقتل عثمان - رضي الله عنه - فيظهر في رفضه أن يبايع لعلي - رضي الله عنه - قبل مبادرته إلى القصاص من قتلة عثمان، بل ويلتمس منه أن يمكنه منهم، مع العلم أن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، بل يدخل في الطاعة ويرفع دعواه إلى الحاكم ويطلب الحق عنده. ¬

_ (¬1) الصواعق المحرقة (ص 325). (¬2) سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 151).

ويمكن أن نقول إن معاوية - رضي الله عنه - كان مجتهدًا متأولًا يغلب على ظنه أن الحق معه، فقد قام خطيبًا في أهل الشام بعد أن جمعهم وذكّرهم أنه ولي عثمان ـ ابن عمه ـ وقد قُتل مظلومًا وقرأ عليهم الآية الكريمة: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} (الإسراء:33) ثم قال: أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقام أهل الشام جميعهم وأجابوا إلى الطلب بدم عثمان، وبايعوه على ذلك وأعطوه العهود والمواثيق على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفني الله أرواحهم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/ 150 - 152).

الشبهة السادسة عشرة

الشبهة السادسة عشرة ادعاء الشيعة على معاوية - رضي الله عنه - أنه أخذ الخلافة بالقوة والقهر وحوّلها من الشورى إلى ملكية قيصرية بمبايعة ابنه يزيد. الجواب: 1ـ لم يأخذ معاوية - رضي الله عنه - الخلافة بالقوة والقهر وإنما سُلّمَتْ له من قبل الحسن بن علي - رضي الله عنهما - وذلك بعدما تم الصلح بينهما. 2ـ عمل معاوية - رضي الله عنه - جهده من البداية في سبيل إعداد ولده يزيد، وتنشئته التنشئة الصحيحة، ليشب عليها عندما يكبر، فسمح لمطلقته ميسون بنت بحدل الكلبية ـ وكانت من الأعراب، وكانت من نسب حسيب، ومنها رزق بابنه يزيد ـ سمح لها أن تتولى تربيته في فترة طفولته، وكان يزيد وحيد أبيه، فأحب معاوية - رضي الله عنه - أن يشب على حياة الشدة والفصاحة فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية، ويتحلى بشمائل النخوة والشهامة والكرم والمروءة، إذ كان البدو أشد تعلقًا بهذه التقاليد. كما أجبر معاوية ولده يزيد على الإقامة في البادية؛ لكي يكتسب قدرًا من الفصاحة في اللغة، كما هو حال العرب في ذلك الوقت. وعندما رجع يزيد من البادية، نشأ وتربى تحت إشراف والده، ونحن نعلم أن معاوية - رضي الله عنه - كان من رواة الحديث، فروى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث وبعض أخبار أهل العلم. وروى عنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان، وقد عده أبوزرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي الطبقة العليا (¬1). ¬

_ (¬1) البداية والنهاية لابن كثير (8/ 226 - 227).

وقد اختار معاويةُ دَغْفَلَ بن حنظلة السدوسي الشيباني مؤدبًا لولده يزيد، وكان دغفل علامة بأنساب العرب، وخاصة نسب قريش، وكذلك عارفًا بآداب اللغة العربية. هذا مختصر لسيرة يزيد بن معاوية قبل توليه الخلافة. 3 - أما عن فكرة ولاية العهد، فقد بدأ معاوية - رضي الله عنه - يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده، ففكر معاوية في هذا الأمر ورأى أنه إن لم يستخلف ومات ترجع الفتنة مرة أخرى. فقام معاوية - رضي الله عنه - باستشارة أهل الشام في الأمر، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية، فرشح ابنه يزيد، فجاءت الموافقة من مصر وباقي البلاد وأرسل إلى المدينة يستشيرها. وقد خالف عبد الله بن الزبير والحسين - رضي الله عنهما - هذه الموافقة ولا يقدح ذلك في البيعة إذ لابد من مخالف لذلك، ومن هنا نعلم أن معاوية - رضي الله عنه - حرص على موافقة الأمة على بيعة يزيد، ولو أراد معاوية الاستبداد وأخْذ البيعة ليزيد بالقوة والقهر كما يدعي الشيعة لاكتفى ببيعة واحدة، وفرضها على الناس فرضًا، وهذا ما لم يفعله معاوية بل قد خالف مَن خالف ولم يتخذ معاوية سبيل القوة لإرغامهم على البيعة. وكان اعتراض هؤلاء النفر حول تطبيق الفكرة نفسها، لا على يزيد بعينه. واعتبر معاوية أن معارضة هؤلاء ليس لها أثر، وأن البيعة قد تمت، حيث أجمعت الأمة على هذه البيعة. وقد ثبت أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - بايع يزيد وعندما قامت عليه الفتنة من المدينة جمع أهله وحذّرهم من الخروج على يزيد، فعَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ: «إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ بَايَعَ فِى هَذَا الأَمْرِ، إِلاَّ كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ». (رواه البخاري). فهذا ابن عمر - رضي الله عنه - يعلن في أحرج المواقف ـ أي في ثورة أهل المدينة على يزيد بتحريض ابن الزبير وداعيته ابن مطيع ـ أن في عنقه كما في أعناقهم بيعة شرعية لإمامهم على بيع الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأن من أعظم الغدر أن تبايع الأمة إمامها ثم تنصب له القتال. ولم يكتف ابن عمر بذلك في تلك الثورة على يزيد، بل روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه عَنْ نَافِعٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: «اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً». فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». قال الإمام ابن العربي المالكي: «وروى الثبت العدل عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد: «إن كان خيرًا رضينا، وإن كان شرًا صبرنا». وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال: «دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حين استُخلِف يزيد بن معاوية فقال: «تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد، لا أفقهها فقهًا ولا أعظمها فيها شرفًا. وأنا أقول ذلك. ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق. أرأيتم بابًا دخل فيه أمة محمد ووسِعَهُم، أكان يعجز عن رجل واحد لو كان دخل فيه؟». قلنا: لا. قال: «أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم: لا أريقُ دم أخي ولا آخذ ماله، أكان هذا يَسَعُهم؟». قلنا: «نعم». قال: «فذلك ما أقول لكم». .. و (الصاحب) الذي كنَّى عنه حميد بن عبد الرحمن هو عبد الله بن عمر، والله أعلم. وإن كان غيره فقد أجمع رجلان عظيمان على هذه المقالة، وهي تعضد أن ولاية المفضول نافذة وإن كان هنالك من هو أفضل منه إذ عقدت له. وذلك لما في حلها ـ أو طلب الفضل ـ من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة» (¬1). 4ـ ولقد كانت هناك أسباب كثيرة لتولية معاوية ابنه يزيد للعهد من بعده: فهناك سبب سياسي: وهو الحفاظ على وحدة الأمة، خاصة بعد الفتن التي تلاحقت يتلو بعضها بعضًا، وكان من الصعوبة أن يلتقي المسلمون على خليفة واحد، خاصة والقيادات المتكافئة في الإمكانيات قد تضرب بعضها بعضًا فتقع الفتن والملاحم بين المسلمين مرة ثانية، ولا يعلم مدى ذلك إلا الله تعالى. وهناك سبب اجتماعي: وهو قوة العصبية القبلية خاصة في بلاد الشام الذين كانوا أشد طاعة لمعاوية ومحبة لبني أمية، وليس أدل على ذلك من مبايعتهم ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه دون أن يتخلف منهم أحد. ¬

_ (¬1) باختصار من العواصم من القواصم (ص 231).

وهناك أسباب شخصية في يزيد نفسه: فليس معاوية بذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة، ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره وهو يسوس الناس ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء، ويعرف لكل واحد منهم فضيلته، وقد توفرت في يزيد بعض الصفات الحسنة من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام والقدرة على القيادة، وكل هذه المزايا جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير. 5ـ إن المؤرخين والمفكرين المسلمين قد وقفوا حيال هذه الفكرة مواقف شتى، ففيهم المعارض، ومنهم المؤيد، وكانت حجة الفريق المعارض تعتمد على ما أوردته بعض الروايات التاريخية من أن يزيد بن معاوية كان شابًا لاهيًا عابثًا، مغرمًا بالصيد وشرب الخمر، وتربية الفهود والقرود، والكلاب ... الخ. ولكن مثل هذه الأوصاف لا تمثل الواقع الحقيقي لما كانت عليه حياة يزيد بن معاوية، فإضافة إلى ما سبق من الجهود التي بذلها معاوية في تنشئة وتأديب يزيد، نجد رواية في مصادرنا التاريخية قد تساعدنا في دحض مثل تلك الآراء. قال الإمام ابن العربي المالكي: «فإن قيل: كان يزيد خمارًا. قلنا: لا يحل قول ذلك إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه؟!! بل شهد العدل بعدالته، فروى يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال الليث: «توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا»؛ فسماه الليث «أمير المؤمنين» بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا «توفي يزيد» (¬1). ويروي البلاذري أن محمد بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ـ المعروف بابن الحنفية ـ دخل يومًا على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت، فقال له يزيد، وكان له مُكرمًا: «يا أبا القاسم، إن كنت رأيت مني خُلُقًا تنكره نَزَعتُ عنه، وأتيت الذي تُشير به علي؟». ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم (ص 231).

فقال: «والله لو رأيت منكرًا ما وسعني إلاّ أن أنهاك عنه، وأخبرك بالحق لله فيه، لما أخذ الله على أهل العلم عن أن يبينوه للناس ولا يكتموه، وما رأيت منك إلاّ خيرًا» (¬1). كما أنه شهد له بحسن السيرة والسلوك حينما أراده بعض أهل المدينة على خلعه والخروج معهم ضده، فيروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع ـ الذي كان داعية لابن الزبير ـ مشى من المدينة هو وأصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبَى عليهم. فقال ابن مطيع: «إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب». فقال محمدبن الحنفية: «ما رأيت منه ما تذكرون، قد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة متحريًا للخير يسأل عن الفقه ملازمًا للسنة». قالوا: «ذلك كان منه تَصَنّعًا لك». قال: «وما الذي خاف مني أو رجا حتى يُظهِر إليّ الخشوع؟ ثم أفأطْلَعَكم على ما تَذْكُرون من شرب الخمر، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا». قالوا: «إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه». فقال لهم: «أبى الله ذلك على أهل الشهادة، ولست من أمركم في شيء» (¬2). وقد شهد له ابن عباس - رضي الله عنه - بالفضيلة وبايعه (¬3). 6 - إن مجرد موافقة عدد من كبار الشخصيات الإسلامية، من أمثال عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وأبي أيوب الأنصاري، على مصاحبة جيش يزيد في سيره ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف للبلاذري (5/ 17). (¬2) البداية والنهاية (8/ 233)، وتاريخ الإسلام للذهبي (حوادث سنة 61 - 80هـ، ص274) وحسَّن محمد الشيباني إسناده، انظر: مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية (ص384). (¬3) انظر: أنساب الأشراف (4/ 289 - 290) وسنده حسن.

نحو القسطنطينية، فيها خير دليل على أن يزيد كان يتميز بالاستقامة، وتتوفر فيه كثير من الصفات الحميدة، ويتمتع بالكفاءة والمقدرة لتأدية ما يوكل إليه من مهمات. وقد روى البخاري في صحيحه عن أم حَرَام الأنصارية - رضي الله عنها - أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا». قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ - رضي الله عنها - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا فِيهِمْ؟» قَالَ: «أَنْتِ فِيهِمْ». ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ» فَقُلْتُ: «أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟» قَالَ: «لَا». (رواه البخاري). (مَدِينَةَ قَيْصَر) يَعْنِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة. (قَدْ أَوْجَبُوا) أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّة. قَالَ الْمُهَلَّب: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَة لِمُعَاوِيَة لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ، وَمَنْقَبَةٌ لِوَلَدِهِ يَزِيد لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ. (¬1) وأخرج البخاري عن محمود بن الربيع في قصة عتبان بن مالك قال محمود: «فَحَدَّثْتُهَا قَوْمًا فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي غَزْوَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِمْ بِأَرْضِ الرُّومِ». 7 - ولنستمع إلى وجهة النظر التي أبداها الأستاذ محب الدين الخطيب - حول مسألة ولاية العهد ليزيد - وهي جديرة بالأخذ بها للرد على ما سبق، فهو يقول (¬2): «إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر وعمر في مجموع سجاياهما، فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام، ولا عمر بن عبد العزيز، وإن طمعنا بالمستحيل ¬

_ (¬1) باختصار من (فتح الباري). (¬2) في تعليقه على العواصم من القواصم لابن العربي (ص221).

وقدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر، فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر. وإن كان مقياس الأهلية، الاستقامة في السيرة، والقيام بحرمة الشريعة، والعمل بأحكامها، والعدل في الناس، والنظر في مصالحهم، والجهاد في عدوهم، وتوسيع الآفاق لدعوتهم، والرفق بأفرادهم وجماعاتهم، فإن يزيد يوم تُمحّص أخباره، ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم، وأجزل الثناء عليهم». 8 - نجد أيضًا في كلمات معاوية نفسه ما يدل على أن دافعه في اتخاذ مثل هذه الخطوة هو النفع للصالح العام وليس الخاص، فقد ورد على لسانه قوله: «اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيتُ من فضله، فبلّغه ما أملْتُ وأعِنْه، وإن كانت إنما حملني حبّ الوالد لولده، وأنه ليس لما صنعت به أهلًا، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك» (¬1). 9 - لنتصور أن معاوية - رضي الله عنه - سلك إحدى الأمور الثلاث الآتية: * ترك الناس بدون خليفة من بعده، مثلما فعل حفيده معاوية بن يزيد. * نادَى في كل مَصر من الأمصار بأن يرشحوا لهم نائبًا ثم يختاروا من هؤلاء المرشحين خليفة. * جعل يزيد هو المرشح، وبايعه الناس كما فعل. ولنأخذ الأمر الأول: كيف ستكون حالة المسلمين لو أن معاوية تناسى هذا الموضوع، وتركه ولم يرشح أحدًا لخلافة المسلمين حتى تُوُفّي. قد يغلب على الظن أن الوضع سيكون أسوأ من ذلك الوضع الذي أعقب تصريح معاوية بن يزيد بتنازله عن الخلافة، وترك الناس في هرج ومرج، حتى ¬

_ (¬1) تاريخ الإسلام للذهبي، عهد معاوية بن أبي سفيان (ص169)، وخطط الشام لمحمد كرد علي (1/ 137).

استقرت الخلافة أخيرًا لعبد الملك بن مروان بعد حروب طاحنة استمرت قرابة عشر سنوات. ثم لنتصور الأمر الثاني: نادى منادٍ في كل مَصر بأن يرشحوا نائبًا عنهم، حتى تكون مسابقة أخيرة ليتم فرز الأصوات فيها، ثم الخروج من هذه الأصوات بفوز مرشح من المرشحين ليكون خليفة للمسلمين بعد وفاة معاوية. سيختار أهل الشام، رجل من بني أمية بلا شك، وربما كان يزيد، وربما غيره. وسيختار أهل العراق في الغالب الحسين بن علي - رضي الله عنهما -. وسيختار أهل الحجاز: إما عبد الله بن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر، أو ابن الزبير ـ رضي الله عن الجميع. وسيختار أهل مصر: عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. والسؤال الآن: هل سيرضى كل مَصر بولاية واحد من هؤلاء، ويسَلّموا له، أم ستكون المعارضة واردة؟! الجواب: أغلب الظن أن المعارضة ستظهر. ولنسأل سؤالًا آخر: في حالة أنه تم اختيار كل مرشح من قِبَل الأمصار، هل يستطيع معاوية - رضي الله عنه - أن يلزم كل مَصر بما اختاره أهل المصر الآخر؟! الجواب: ستجد الدولة نفسها في النهاية أمام تنظيمات انفصالية، وسيعمد أدعياء الشر الذين قهرتهم الدولة بسلطتها إلى استغلال هذه الفوضى السياسية، ومن ثم الإفادة منها في إحداث شرخ جديد في كيان الدولة الإسلامية.

ونحن حينما نورد هذه الاعتراضات، فربما حصل ما أشرنا إليه، وربما حدث العكس من ذلك، ولكنا أوردنا ذلك حتى نتصور مدى عدم صحة الآراء التي أحيانًا يطلقها ويتحمس لها البعض دون الرجوع إلى الواقع التاريخي المحتم آنذاك. لقد تعرض المجتمع المسلم إلى هزة عنيفة بعد استشهاد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وترك كيانات وتيارات سياسية وعقائدية خطيرة، استوجبت من معاوية أن يدرك خطورة الأمر والفرقة التي سوف تحصل للمسلمين إذا لم يسارع بتعيين ولي عهد له. ويبقى الأمر الثالث: وهو ما فعله معاوية - رضي الله عنه - بتولية يزيد وليًا للعهد من بعده. وقد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه، كل من ابن العربي (¬1)، وابن خلدون الذي كان أقواهما حجة، إذا يقول: «والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه ... ». ثم يضيف قائلًا: «وإن كان لا يُظن بمعاوية غير هذا، فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك، وسكوتهم عنه، دليل على انتفاء الريب منه، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم ـ كلهم ـ أجلّ من ذلك، وعدالتهم مانعة منه» (¬2). 10 - لم يبتدع معاوية نظامًا جديدًا للخلافة بتوريث ابنه يزيد، فقد سبقه إلى ذلك أبو بكر عندما عهد بالأمر لعمر بن الخطاب وقد عمد عمر إلى نفس الأمر فعهد بالولاية وحصَرَها في ستة من الصحابة - رضي الله عنهم -. 11 - إذا احتج الشيعة بأن الاستخلاف في عهد الشيخين لم يكن للأبناء أي ملكًا وراثيًا فنقول لهم: «تذكر كتب الشيعة أن أول من فعل ذلك هو علي - رضي الله عنه - عندما ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم (228 - 229) (¬2) المقدمة لابن خلدون (210 - 211).

عهد بالخلافة من بعده لابنه الحسن، فقد ذكر الكليني في (أصول الكافي) عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ - عليه السلام - قَالَ: «أَوْصَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ - عليه السلام - إِلَى الْحَسَنِ وَأَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ الْحُسَيْنَ - عليه السلام - وَمُحَمَّدًا وَجَمِيعَ وُلْدِهِ وَرُؤَسَاءَ شِيعَتِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ». وذكر عَنْ أَبَانٍ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: «شَهِدْتُ وَصِيَّةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - عليه السلام - حِينَ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ - عليه السلام - وَأَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ الْحُسَيْنَ - عليه السلام - وَمُحَمَّدًا وَجَمِيعَ وُلْدِهِ وَرُؤَسَاءَ شِيعَتِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ» (¬1). 12ـ الشيعة الاثنا عشرية يعارضون في الأصل مبدأ الشورى ويدَّعون أن الولاية يجب أن ينص عليها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بنص صريح، ويعارضون خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فلماذا يتباكون هنا على نظام الشورى الذي يعارضونه، ويعترضون على معاوية بولاية العهد لابنه يزيد؟ فهل لو جعلها شورى سيقبلها الشيعة الرافضة؟! أم أن الأمر عندهم سِيَّان؟! الجواب: إنهم لن يقبلوها ولو كانت شورى من جميع المسلمين. فلماذا هذه الإثارة الممجوجة والورع المكذوب من الشيعة على مبدأ الشورى وأغرب ما في الأمر اعتراضهم أن يورث معاوية ابنه يزيد وراثة قيصرية ملكية! مع أن أن أعظم اعتقاداتهم هو اعتقاد الإمامة وراثية قيصرية ملكية في ولد علي بن أبي طالب باستخلاف الأب للابن وهكذا؛ فهل هي حلال لهم حرام على غيرهم؟! ¬

_ (¬1) أصول الكافي (1/ 297 - 298) ـ بَابُ الْإِشَارَةِ وَالنَّصِّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - عليه السلام -.

الشبهة السابعة عشرة هل لعن علي على المنابر بأمر من معاوية - رضي الله عنهما -؟

الشبهة السابعة عشرة هل لُعِنَ عليٌّ على المنابر بأمر من معاوية - رضي الله عنهما -؟ الجواب: إن هذه الفرية من الأشياء المكذوبة في حق معاوية - رضي الله عنه - بل من الأباطيل التي روج لها الرافضة ودخلت على كتب أهل السنة كأنها حقيقة لا شك فيها. وهذه دعوى تحتاج إلى دليل، وهي مفتقرة إلى صحة النقل، وأغلب الرافضة ومن أشرب قلبه بغض معاوية - رضي الله عنه -، لا يتثبتون فيما ينقلون، وإنما يكتفون بقولهم: (كما ذكر ذلك المؤرخون) أو (وكتب التواريخ طافحة بذلك) إلى غيرها من التُرَّهات. ولا يحيلون إلى أي مصدر موثوق، وكما هو معلوم مدى أهمية الإحالة والتوثيق لمثل هذه الدعاوى عند المحققين والباحثين. ومعاوية - رضي الله عنه - منزه عن مثل هذه التهم، بما ثبت من فضله في الدين، كما أن معاوية - رضي الله عنه - كان محمود السيرة في الأمة، أثنى عليه الصحابة وامتدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم والفقه والعدل والحلم وسائر خصال الخير. وإذا ثبت هذا في حق معاوية، فإنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته أن يحمل الناس على لعن علي - رضي الله عنه - على المنابر وهو مَن هو في الفضل، وهذا يعني أن أولئك السلف وأهل العلم من بعدهم الذين أثنوا عليه ذلك الثناء البالغ، قد مالؤوه على الظلم والبغي واتفقوا على الضلال!! وهذا مما نُزّهت الأمة عنه بنص حديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَجَارَ أمَّتِي أنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ». (رواه ابن أبي عاصم في السنة، وحسنه الألباني). ومَن عَلِم سيرة معاوية - رضي الله عنه - في الملك وما اشتهر به من الحِلم والصفح وحسن السياسة للرعية، ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه. ثم كيف يسمح معاوية - رضي الله عنه - بذلك؟! وهو الذي لم يصح عنه أبدًا أنه سبّ عليًّا - رضي الله عنه - أو لعنه مرة واحدة، فضلًا عن التشهير به على المنابر؟!!

* إن قصة لعْن عليٍّ - رضي الله عنه - على منابر بني أمية قد رواها الطبري من طريق أبي مخنف عن أبي جناب الكلبي وفيه عن علي - رضي الله عنه -: «وكان إذا صلى الغداة يقنت فيقول: «اللهم العن معاوية وعمْرًا وأبا الأعور السُّلمي وحبيبًا وعبدالرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد، فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت لعن عليًا وابن عباس والأشتر وحسنًا وحسينًا» (¬1). وإسنادها لا يصح. إن هذا الأثر ـ قصة لعن علي على منابر بني أمية ـ مروي من طريق علي بن محمد وهو شيخ ابن سعد، وهو المدائني فيه ضعف. وشيخه لوط بن يحي (أبو مخنف) ليس بثقة، متروك الحديث وأخباري تالف لا يوثق به وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل وفي سندها أيضًا أبو جناب الكلبي، ضعيف (¬2). ثم إن هذا الأثر، وهو الوحيد الذي ورد فيه التصريح المباشر بقصة اللعن وهو المشهور، وهو الذي يتمسك به عامة أهل البدع والجهل. يشير إلى أن عليًا - رضي الله عنه - كان يلعن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهم!! فلماذا لم يتحدثوا عن هذه؟!! إن في هذا الأثر المكذوب طعنًا أيضًا في علي - رضي الله عنه -. إن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا أكثر حرصًا من غيرهم على التقيّد بأوامر الشرع الذي نهى عن سباب المسلم ولعنه. * وتذكر كتب التاريخ أيضًا أن الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - كانوا يشتمون عليًّا، وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصح. ¬

_ (¬1) تاريخ الأمم والملوك (3/ 112). (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 302)، والميزان (3/ 419).

قال ابن سعد: «أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحيي، قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلًا - رضي الله عنه -، فلما ولي هو ـ عمر بن عبد العزيز ـ أمسك عن ذلك، فقال كثير عزة الخزاعي: وَلِيتَ فلم تشتمْ عليًّا ولم تُخِفْ ... بَرِيًّا ولم تتبِعْ مقالةَ مجرمِ تكلمتَ بالحق المبين وإنما ... تبين آيات الهدى بالتكلمِ فصدَّقت معروف الذي قلتَ بالذي ... فعلتَ فأضحى راضيًا كلُّ مسلمِ» (¬1) إن هذا الأثر واهٍ، فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف وشيخه لوط بن يحيى، واهٍ بمرة، قال عنه يحي بن معين: «ليس بثقة»، وقال أبو حاتم: «متروك الحديث»، وقال الدارقطني: «أخباري ضعيف»، ووصفه في الميزان: «أخباري تالف لا يوثق به، وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل» (¬2). لقد اتهم الشيعة معاوية بحمل الناس على سب علي - رضي الله عنهما - ولعنه فوق منابر المساجد، وهذه الدعوى لا أساس لها من الصحة، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل، حتى صارت عند المتأخرين من المُسلَّمات التي لا مجال لمناقشتها، ولم يثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الشيعة أمثال الدميري، واليعقوبي والمسعودي وأبي الفرج الأصفهاني. إن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء، من احترام وتقدير معاوية - رضي الله عنه - لأمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وأهل بيته الأطهار - رضي الله عنهم -، فحكاية لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث، ولا مع طبيعة المتخاصمين. ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 393 (. (¬2) سير أعلام النبلاء (5/ 147)، الميزان (3/ 419).

وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة ولا يوجد فيها رواية صحيحة صريحة، فهذه دعوى مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوى عند المحققين والباحثين. ومعاوية - رضي الله عنه - بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين، وكان محمود السيرة في الأمة، أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير. وقد ثبت هذا في حق معاوية - رضي الله عنه - كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي - رضي الله عنه - على المنابر وهو من هو في الفضل، ومن علم سيرة معاوية - رضي الله عنه - في الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية - رضي الله عنه - في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال ..

الشبهة الثامنة عشرة مسألة سب معاوية لعلي - رضي الله عنهما -

الشبهة الثامنة عشرة مسألة سب معاوية لعلي - رضي الله عنهما - يتعلق أهل البدع والأهواء في ذلك بشبهات واهية، ليس فيها أي دليل على ما يتشدقون به: الشبهة الأولى: ما جاء في صحيح مسلم عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟». فَقَالَ: «أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَلَنْ أَسُبَّهُ لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ لَهُ خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «يَا رَسُولَ اللهِ خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟». فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي». وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ». قَالَ: فَتَطَاوَلْنَا لَهَا، فَقَالَ: «ادْعُوا لِي عَلِيًّا»، فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} دَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: «اللهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي». الجواب: أولا: هذا الحديث لا تصح نسبته إلى الإمام مسلم دون بيان أنه إنما أورده في الشواهد لا في الأصول، أي أنه لم يخرجه احتجاجًا، فإنه على طريقته المعروفة ـ والتي

نص عليها في مقدمة صحيحه ـ يقدِّم اللفظ الأصح، والمحفوظ في الرواية، ثم يتبعه بما هو دونه، وقد يُشير في ذلك لعلة في السياق المؤخر، ونص على مثل ذلك في كتاب (التمييز) له ـ وهو في العلل ـ ومن أمثلته ما نحن بصدده الآن. فالإمام مسلم أورد أكثر من طريق لحديث «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي»، ليس فيها هذا اللفظ: «أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟» ولا حتى إشارة له، بل هذا اللفظ تفرد به راوٍ مختلفٌ فيه، وهو بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَار (¬1)، وخالف بذلك جمعًا من الرواة الثقات الذين لم يذكروا السبّ، فتكون روايته بذلك ضعيفة منكرة. تنبيه: كلمة «أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا» هي من كلام بكير لا من كلام سعد، إذ لو كانت من كلام سعد لقال: «أمرني معاوية». فيكون قد روى بالمعنى وتصرف بالألفاظ. فقد جاء الحديث عند الحاكم عن بكير بن مسمار قال: سمعت عامر بن سعد يقول: قال معاوية لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهما -: «ما يمنعك أن تسب ابن أبي طالب؟». فهذا إسناد متصل؛ وليس فيه لفظ الأمر. ثانيًا: على فرض أن اللفظ ثابت، فليس صريحًا في السب ولا يفيد أن معاوية أمر سعدًا بسَبّ علي - رضي الله عنهم -، وإنما أراد معاوية أن يستفسر عن المانع من سبّ علي، فأجابه سعدٌ عن السبب، ولم نعلم أن معاوية عندما سمع ردَّ سعدٍ غضبَ منه ولا عاقبه. ¬

_ (¬1) بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَار: قال عنه ابن حجر في التقريب: «صدوق». وقال الذهبي في الكاشف: «فيه شيء». وقال النسائي: «ليس به بأس» (وهذا دون التوثيق). وقال أبو أحمد بن عدي: «مستقيم الحديث». وقال البخاري: «فيه نظر» كما في تهذيب الكمال. وذكر له هذا الحديث في التاريخ الكبير (2/ 115) وقال: «فيه بعض النظر»، وما روى له شيئًا. وذكره العقيلي في (الضعفاء 191). وقال ابن حزم في المحلى (9/ 47): «بكير بن مسمار ضعيف». وقال عنه الذهبي في (المغني في الضعفاء 1/ 180): «صدوق، ليَّنَه ابن حبان البستي وابن حزم، وقال البخاري: فيه نظر».

كما أن سكوت معاوية هنا، تصويب لرأي سعد، ولو كان معاوية - رضي الله عنه - ظالمًا يجبر الناس على سب علي - رضي الله عنه - كما يدّعون، لَمَا سكت عن سعد ولأجبره على سبِّه، ولكن لم يحدث من ذلك شيء، فعُلم أنه لم يأمر بسبه ولا رضي بذلك. يقول الإمام النووي - رحمه الله - في ذلك: «قَوْل مُعَاوِيَة هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهُ أَمَرَ سَعْدًا بِسَبِّهِ، وَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ السَّبَب الْمَانِع لَهُ مِنْ السَّبّ، كَأَنَّهُ يَقُول: هَلْ اِمْتَنَعْت تَوَرُّعًا، أَوْ خَوْفًا، أَوْ غَيْر ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ تَوَرُّعًا وَإِجْلَالًا لَهُ عَنْ السَّبّ فَأَنْتَ مُصِيب مُحْسِن، وَإِنْ كَانَ غَيْر ذَلِكَ فَلَهُ جَوَاب آخَر. . وَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا آخَر أَنَّ مَعْنَاهُ مَا مَنَعَك أَنْ تُخَطِّئَهُ فِي رَأْيه وَاجْتِهَاده، وَتُظْهِرَ لِلنَّاسِ حُسْن رَأْينَا وَاجْتِهَادنَا، وَأَنَّهُ أَخْطَأَ؟» (¬1). وقال القرطبي في شرح هذا الحديث: «وهذا ليس بتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج ما عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية سكت وأذعن، وعرف الحق لمستحقه. ولو سلمنا أن ذلك من معاوية - رضي الله عنه - حمل على السَّب، فإنَّه يحتمل أن يكون طلب منه أن يسبَّه بتقصير في اجتهاد، في إسلام عثمان لقاتليه، أو في إقدامه على الحرب والقتال للمسلمين، وما أشبه ذلك مما يمكن أن يقصر بمثله من أهل الفضل. وأما التصريح باللعن، وركيك القول، فحاشا معاوية منه، ومَن كان على مثل حاله من الصحبة، والدين، والفضل، والحلم، والعلم» (¬2). وقال القاضي عياض في شرح هذا الحديث: «ليس فيه تصريح بأنه أمره بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب، وقد سُئِل عن مثل هذا السؤال من يستجيز سب المسؤول عنه، وسئل عنه من لا يستجيزه. فقد يكون معاوية رأى سعدًا بين قوم يسبونه، ولا يمكن الإنكار عليهم، فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؛ ليستخرج منه مثل ما استخرج مما حكاه عن النبى - صلى الله عليه وآله وسلم - فيكون له حجة على من سبه ممن ينضاف إليه من غوغاء جنده، فيحصل على المراد على لسان غيره من الصحابة. ويمكن أن يريد السب الذى هو بمعنى التغيير للمذهب والرأى، وقد سمى ذلك فى العرف سبًّا، ويقال فى فرقة: إنها تسب أخرى إذا سمع منهم أنهم اْخطؤوا فى مذاهبهم، وحادوا عن الصواب، وأكثروا من التشنيع عليهم، فمن الممكن أن يريد معاوية من سعد بقوله: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟» أى يُظهر للناس خطأه فى رأيه، وإن رأينا وما نحن عليه أشد وأصوب» (¬3). وقيل: إن معاوية - رضي الله عنه - إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي - رضي الله عنه -، فإن معاوية - رضي الله عنه - كان رجلًا فطنًا ذكيًا يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي - رضي الله عنهما -، فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير. ثالثًا: إن معاوية - رضي الله عنه - كان رجلًا ذكيًا، مشهورًا بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب علي - رضي الله عنه - ـ وحاشاه من ذلك ـ أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وهو من هو في الفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلًا!! فهذا لا يفعله أقل الناس عقلًا وتدبيرًا، فكيف بمعاوية؟!! ¬

_ (¬1) باختصار من شرح النووي لصحيح مسلم. (¬2) باختصار يسير من شرح القرطبي لصحيح مسلم المسمى (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم). (¬3) باختصار يسير من من شرح القاضي عياض لصحيح مسلم المسمى (إكمال المعلم شرح صحيح مسلم).

الشبهة الثانية التي يتعلق بها أهل البدع والأهواء لاتهام معاوية بسبّ علي - رضي الله عنهما -: ما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ، قَالَ: فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا. قَالَ: فَأَبَى سَهْلٌ فَقَالَ لَهُ: «أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَقُلْ لَعَنَ اللهُ أَبَا التُّرَابِ». فَقَالَ سَهْلٌ: «مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي التُّرَابِ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهَا».فَقَالَ لَهُ: «أَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّتِهِ لِمَ سُمِّيَ أَبَا تُرَابٍ». قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ». فَقَالَ: «أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ». فَقَالَتْ: «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي» (¬1). فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِإِنْسَانٍ: «انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟». فَجَاءَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ». فَجَاءَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: «قُمْ أَبَا التُّرَابِ، قُمْ أَبَا التُّرَابِ». الجواب: هذا الادعاء لا أساس له من الصحة، بل إن استشهاد هؤلاء وأمثالهم بهذا الحديث لا حجة فيه، فأين التصريح باسم معاوية فيه؟!! ثم إن الرجل من آل مروان، ومن المعروف لدى الجاهل قبل العالم أن معاوية - رضي الله عنه - سفياني وليس مرواني. ومما يدل على جهل هؤلاء قول سهل بن سعد - رضي الله عنه -: «اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ»، إن كان المقصود بذلك معاوية - رضي الله عنه - فمن الذي استعمله، وقد كان حاكم المسلمين ولم يكن واليًا على المدينة فقط. ومن الغرائب أن هؤلاء الشيعة المبتدعة ينكرون سب علي - رضي الله عنه -، ولم يتورعوا عن سب خير البرية بعد الأنبياء أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -!! وكتبهم طافحة بذلك. ¬

_ (¬1) (فَخَرَجَ وَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ ـ مِنْ الْقَيْلُولَة، وَهِيَ النَّوْمُ نِصْفَ النَّهَار.

الشبهة الثالثة التي يتعلق بها أهل البدع والأهواء لاتهام معاوية بسبّ علي - رضي الله عنهما -: قال ابن ماجه: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ سَابِطٍ ـ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ـ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ فِي بَعْضِ حَجَّاتِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدٌ فَذَكَرُوا عَلِيًّا، فَنَالَ مِنْهُ فَغَضِبَ سَعْدٌ، وَقَالَ تَقُولُ هَذَا لِرَجُلٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي»، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ الْيَوْمَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ». الجواب: هذا الحديث منكر شديد الضعف فيه علل (¬1). وابن سابط لم يسمع من سعد بن أبي وقاص كما نص يحيى بن معين. الشبهة الرابعة التي يتعلق بها أهل البدع والأهواء لاتهام معاوية بسبّ علي - رضي الله عنهما -: ما ذكر البلاذري بلا إسناد! فقال: «وحُدِّثْتُ أن معاوية خطب الناس يومًا , فذكر عليًا فتنقصه ... » (¬2). الجواب: هذه الشبهة ليست بحاجة إلى جواب؛ فالقصة ليس لها إسناد أصلًا حتى يحكم أهل العلم بصحتها أو ضعفها. ¬

_ (¬1) انظر تخريجًا مفصلًا للحديث وبيان سبب تضعيفه والرد على من أخطأ في تصحيحه من أهل العلم في: أبحاث من مسودة كتاب من فضائل وأخبار معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - دراسة حديثية، تأليف: محمد زياد بن عمر التكلة. (¬2) أنساب الأشراف (5/ 124).

إن ما ادعاه الشيعة من الأمر بالسبّ، حاشا معاوية - رضي الله عنه - أن يصدر منه مثل ذلك، والمانع من هذا عدة أمور: الأول: أن معاوية نفسه ما كان يسب عليًا - رضي الله عنه -، فكيف يأمر غيرَه بسبه؟ بل كان معظمًا له معترفًا له بالفضل والسبق إلى الإسلام، كما دلت على ذلك أقواله الثابتة عنه. قال ابن كثير: وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: «هل تنازع عليًا أم أنت مثله؟». فقال: «والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني ... ». ونقل ابن كثير أيضًا عن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: «أتبكيه وقد قاتلته؟». فقال: «ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم» (¬1). الثاني: أنه لا يعرف بنقل صحيح أن معاوية - رضي الله عنه - تعرض لعلي - رضي الله عنه - بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه. الثالث: أن معاوية - رضي الله عنه - انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي - رضي الله عنهما - له واجتمعت عليه الكلمة والقلوب، ودانت له الأمصار بالملك، فأي نفع له في سبِّ علي - رضي الله عنه -؟! بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية - رضي الله عنه - الذي شهدت له الأمة بحسن السياسة والتدبير. الرابع: أنه كان بين معاوية - رضي الله عنه - بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي - رضي الله عنهم - من الألفة والتقارب ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (8/ 132، 133)، وانظر: تاريخ دمشق (59/ 142).

ومن ذلك أن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - دخل مرة على معاوية فقال له: «مرحبًا وأهلًا بابن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأمر له بثلاثمائة ألف» (¬1). وهذا مما يقطع بكذب ما ادُّعِيَ في حق معاوية من حمله الناس على سبِّ علي - رضي الله عنهما -، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم. الخامس: ماذا يمكن أن يقال في إجماع المسلمين على أنه لا يجوز لعن المسلم على التعيين؟ هل يكون هذا الحكم غائبًا عن معاوية - رضي الله عنه -؟ وكيف نفسر ما نقله صاحب العقد الفريد من أن معاوية أخذ بيد الحسن بن علي في مجلس له، ثم قال لجلسائه: «مَن أكرم الناس أبًا وأمًا وجدًا وجدة؟». فقالوا: «أمير المؤمنين أعلم». فأخذ بيد الحسن وقال: «هذا أبوه علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة - رضي الله عنها - بنت محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وجده رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وجدته خديجة - رضي الله عنها -». وأخيرًا: لنستمع إلى ما رواه أبو نعيم عن أبي صالح قال: «دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له معاوية: «صف لي عليًا». فقال ضرار: «أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟». قال معاوية: «لا أعفيك». قال ضرار: «أما إذ لابدّ، فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا ويحكم عدلًا، ويتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (8/ 140).

الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب (¬1). كان والله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله، ولا ييأس الضعيفُ من عدله. فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم (¬2)، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: «يا ربنا، يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: «إلىّ تغررت؟ إلىّ تشَوَّفْت؟ هيهات، هيهات، غُرّي غَيري، قد بَتَتّكِ ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك كبير، آهٍ آهٍ من قلة الزاد، وبُعد السفر ووحشة الطريق». فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال ـ أي معاوية - رضي الله عنه - ـ: «كذا كان أبو الحسن ـ رحمه الله ـ، كيف وَجْدُكَ عليه يا ضرار؟». قال ضرار: «وَجْدُ من ذُبح واحِدُها في حِجْرِها، لا ترقأ دمعتها ولا يسكن حزنها»، ثم قام فخرج (¬3). قال القرطبي في كتابه (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم) معلقًا على وصف ضرار لعلي - رضي الله عنه - وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك، وتصديقه لضرار فيما قال: «وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي - رضي الله عنهما - ومنزلته، وعظم حقه ومكانته، وعند ذلك يَبْعُد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه، لَِما ¬

_ (¬1) غليظ، أو بلا إدام. (¬2) اللديغ. (¬3) حلية الأولياء (1/ 84 - 85).

كان معاوية موصوفًا به من العقل والدين والحلم وكرم الأخلاق وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح».اهـ. وبعد هذا الموقف، هل يتصور من معاوية أن يسب عليًّا - رضي الله عنهما - أو أن يصرح بلعنه - رضي الله عنه - على المنابر؟! وهل يعقل أن يسع حلم معاوية - رضي الله عنه - ـ الذي بلغ مضرب الأمثال ـ سفهاء الناس وعامتهم وهو أمير المؤمنين، ثم يأمر بعد ذلك بلعن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على المنابر، ويأمر ولاته بذلك في سائر الأمصار والبلدان؟؟!! والحكم في هذا لكل صاحب عقل وفهم ودين. تناقض عجيب: من العجب أن الشيعة تنكر سبّ عليّ - رضي الله عنه -، وهم يسبّون أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ويكفرونهم ومن والاهم. ومعاوية - رضي الله عنه - وأصحابه ما كانوا يكفرون عليًّا - رضي الله عنه -، وإنما يكفره الخوارج المارقون، والرافضة شر منهم. ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة: لا عليّ ولا عثمان ولا غيرهما، ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثمًا ممن سب عليًّا. ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما وصفهم الله - عز وجل - فى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر:10). وطاعةً للنبى - صلى الله عليه وآله وسلم - فى قوله: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (رواه البخاري ومسلم). ومَعْنَى الْحَدِيث: لَا يَنَال أَحَدكُمْ بِإِنْفَاقِ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مِنْ الْفَضْل وَالْأَجْر مَا يَنَال أَحَدهمْ بِإِنْفَاقِ مُدّ طَعَام أَوْ نَصِيفه.

الشبهة التاسعة عشرة هل حملت الخمر لمعاوية - رضي الله عنه -؟

الشبهة التاسعة عشرة هل حُمِلَتْ الخمرُ لمعاوية - رضي الله عنه -؟ أولا: روي عن أبي تميلة يحيى بن واضح، عن محمد بن اسحاق، عن بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، قال غزا عبد الرحمن بن سهل الأنصاري في زمان عثمان، ومعاوية أمير على الشام، فمرت به روايا خمر تُحمل لمعاوية، فقام إليها عبد الرحمن برمحه فنقر كل راوية منها، فناوشه غلمانه، حتى بلغ شأنه معاوية، فقال: «دعوه، فإنه شيخ قد ذهب عقله!». فقال: «كلا والله! ما ذهب عقلي، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نهانا أن ندخل بطوننا وأسقيتنا خمرًا، وأحلف بالله لئن أنا بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبقرن بطنه، أو لأموتن دونه» (¬1). الجواب: هذا الأثر ضعّفه الحافظ ابن حجر في (الإصابة) (¬2). وهو خبر باطل، وسنده مسلسل بالعلل: فابن إسحاق مدلس ـ وقد عنعن ـ وبريدة واهٍ، وكان غاليًا في التشيع، ومحمد بن كعب لم يدرك الواقعة، كما يظهر من ترجمته وطبقته (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الحسن بن سفيان في مسنده، وابن منده وابن قانع، كما في الإصابة في معرفة الصحابة للحافظ ابن حجر (6/ 286)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4/ 1828)، وابن عساكر (34/ 420). (¬2) الإصابة في معرفة الصحابة للحافظ ابن حجر (6/ 286). (¬3) تهذيب الكمال وحاشيته (4/ 56، 26/ 347).

ثانيًا: روى ابن عساكر من طريق يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه أن عبادة بن الصامت مرت عليه قطارة وهو بالشام تحمل الخمر، فقال: «ما هذه؟ أزَيْتٌ؟». قيل: «لا، بل خمر تباع لفلان». فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يَذَرْ فيها راوية إلا بَقَرَها، وأبو هريرة إذا ذاك بالشام. فأرسل فلان إلى أبي هريرة فقال: «ألا تمسك عنَّا أخاك عبادة بن الصامت، أما بالغدوات فيغدو إلى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي فيقعد بالمسجد ليس له عمل إلا شتم أعراضنا وعيبنا؛ فأمسك عنا أخاك». فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة فقال: «يا عبادة ما لك ولمعاوية؛ ذَرْهُ وما حمل فإن الله يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} (البقرة:134). قال: «يا أبا هريرة لم تكن معنا إذا بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأهلنا ولنا الجنة، ومن وَفّى وَفّى الله له الجنة مما بايع عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه». فلم يكلمه أبو هريرة بشيء فكتب فلان إلى عثمان بالمدينة: «إن عبادة بن الصامت قد أفسد علىَّ الشام وأهله فإما أن يكف عبادة وإما أن أخلي بينه وبين الشام»، فكتب عثمان إلى فلان أن رحِّله إلى داره من المدينة. فبعث به فلان حتى قدم المدينة فدخل على عثمان الدار وليس فيها إلا رجل من السابقين بعينه ومن التابعين الذين أدركوا القوم متوافرين فلم يفْجَأ عثمان به إلا وهو قاعد في جانب الدار فالتفت إليه فقال: «ما لنا ولك يا عبادة». فقام عبادة قائمًا وانتصب لهم في الدار قال: «إني سمعت رسول الله أبا القاسم يقول: «سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تنكرون فلا طاعة لمن عصى فلا تعتلوا بربكم» فوالذي نفس عبادة بيده إن فلانًا لمن أولئك». فما راجعه عثمان بحرف (¬1). الجواب: أولًا: هذا الحديث لا يصح، وقد رواه الإمام أحمد بدون ذكر قصة الخمر وبدون ذكر حوار عبادة مع أبي هريرة وبدون ذكر معاوية - رضي الله عنهم -، ورواه الحاكم كذلك ولكن ذكر فيه قول عبادة: «فو الذي نفسي بيده إن معاوية من أولئك». وهذا الحديث قد ضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة والموضوعة (3/ 528) وضعفه الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند. ثانيًا: على فرض صحة الحديث ـ وهو ليس بصحيح ـ فهذا اجتهاد من عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - في حمله الحديث على معاوية - رضي الله عنه - , فعمر وعثمان - رضي الله عنهما - جعلا معاوية واليًا على الشام ولم يتهماه مدة ولايته. وأدرك جمع من الصحابة وكبار التابعين ملك معاوية , ولم ينزعوا يدًا من طاعة - رضي الله عنهم - أجمعين. ثالثًا: من جهة متن الحديث فعلى فرض صحته ـ وهو ليس بصحيح ـ ليس صريحًا في أن الخمر كانت لمعاوية - رضي الله عنه - بل جاء فيه «ألا تمسك عنا أخاك عبادة بن الصامت أما بالغدوات فيغدو إلى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم ... »، وفيه «خمر تباع لفلان»!! وكذلك لو صح لكان فيه طعن في عثمان - رضي الله عنه -؛ يبلغه عن معاوية المتاجرة في الخمور فلا يعاقبه بل يجعله واليًا على أهل الشام؛ بل يعاتب عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لأنه أنكر عليه!! ¬

_ (¬1) تاريخ مدينة دمشق (26/ 198).

تنبيه: قد أورد ابن عراق الكناني أثر ابن عائشة عن أبيه: كان يزيد في حداثته صاحب شراب فأحس معاوية بذلك فأحب أن يعظه فأنشده أبياتًا يرخص له في فعل ذلك بالليل!! يقول فيها: حتى إذا الليل أتَى بالدجَى ... واكتحلتْ بالغمضِ عينُ الرقيبِ باشر الليل بما تشتهِي ... فإنما الليل نهارُ الأريبِ كم فاسق تحسبه ناسكًا ... قد باشر الليلَ بأمرٍ عجيبِ ولذةُ الأحمقِ مكشوفةٌ ... يسعى بها كلُّ عدوٍّ مريبِ قال ابن عراق: «وهذا على انقطاعه كذب آفته الغلابي , وإنما الأبيات ليحيى بن خالد البرمكي كتب بها إلى ولده عبدالله وقد أحب مغنية» (¬1). ¬

_ (¬1) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة (2/ 9).

الشبهة العشرون هل باع معاوية - رضي الله عنه - الأصنام لأهل الهند؟

الشبهة العشرون هل باع معاوية - رضي الله عنه - الأصنام لأهل الهند؟ روى البلاذري من طريق جرير عن الأعمش عن أبي وائل قال: «كنت مع مسروق بالسِلْسِلة فمرت به سفائن فيها أصنام من صُفْر تماثيل الرجال , فسألهم عنها فقالوا: «بعث بها معاوية إلى أرض السند والهند تباع له». فقال مسروق: «لو أعلم أنهم يقتلونني لغرقتها , ولكني أخاف أن يعذبوني ثم يفتنوني، والله ما أدري أي الرجلين معاوية , أرجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع من الدنيا أم رجل زُيِّن له سوء عمله» (¬1). الجواب: هذا لا ريب أنه من أبطل الباطل وأكذب الكذب!! وقد رد جهابذة الحديث هذه الفرية الباطلة! قال الخلال: «قال مهنا سألت أحمد، عن حديث الأعمش، عن أبي وائل، أن معاوية لعب بالأصنام فقال: ما أغلظ أهل الكوفة على أصحاب رسول الله ولم يصح الحديث. وقال تكلم به رجل من الشيعة» (¬2). وهذا قاله الإمام أحمد في حق من قال: «إن معاوية لعب بالأصنام». فكيف بمن قال أن معاوية يبيعها!! ¬

_ (¬1) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة (2/ 9). (¬2) المنتخب من العلل (227).

الشبهة الحادية والعشرون هل أقسم معاوية - رضي الله عنه - اليمين الغموس وكذبه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -!!

الشبهة الحادية والعشرون هل أقسم معاوية - رضي الله عنه - اليمين الغموس وكذبه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -!! روى الروياني في مسنده (¬1) وابن عساكر في تاريخه (¬2) من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمد بن كعب قال: «إنا جلوس مع البراء في مسجد الكوفة إذ دخل قاص فجلس فقص ثم دعا للخاصة والعامة ثم دعا للخليفة , ومعاوية بن أبي سفيان يومئذ خليفة. فقلنا للبراء: يا أبا إبراهيم , دخل هذا فدعا للخاصة والعامة ثم دعا لمعاوية فلم يسمعك قلت شيئًا؟ فقال: إنا شهدنا وغبتم وعلمنا وجهلتم إنا بينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بحنين إذ أقبلت امرأة حتى وقفت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت: «إن أبا سفيان وابنه معاوية أخذا بعيرًا لي فغيباه عليَّ». فبعث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رجلًا إلى أبي سفيان بن حرب ومعاوية: «أن رُدَّا على المرأة بعيرها. فأرسلا: «إنا والله ما أخذناه، وما ندري أين هو». فعاد إليهما الرسول فقالا: «والله ما أخذناه وما ندري أين هو». فغضب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى رأينا لوجهه ظلالًا , ثم قال: «انطلق إليهما , فقل لهما: «بلى والله إنكما لصاحباه , فأدِّيَا إلى المرأة بعيرها». فجاء الرسول إليهما وقد أناخا البعير وعقلاه. فقالا: «إنا والله ما أخذناه، ولكن طلبناه حتى أصبناه , فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اذهبا». ¬

_ (¬1) مسند الروياني (1/ 290). (¬2) تاريخ دمشق (59/ 204).

الجواب: هذا الإسناد لا يصح في سنده سلمة بن الفضل الأبرش ضعيف الحديث له مناكير وغرائب. ومحمد بن إسحاق عنعن ولم يصرح بالسماع!! وأشار ابن عساكر في لنكارته. قال رحمه الله: محمد بن إسحاق وسلمة بن الفضل يتشيعان (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق (59/ 205).

الشبهة الثانية والعشرون هل قتل معاوية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؟

الشبهة الثانية والعشرون هل قتل معاوية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؟ قال الطبري: «خبر انصراف عبد الرحمن بن خالد إلى حمص وهلاكه: وفيها انصرف عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من بلاد الروم إلى حمص، فدس ابن أثال النصراني إليه شربةً مسمومةً ـ فيما قيل ـ فشربها فقتلته». ثم روى الطبري من طريق عمر بن شبه عن علي بن محمد المدائني عن مسلمة بن محارب أن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظم شأنه بالشام، ومال إليه أهلها، لما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه، حتى خافه معاوية وخشي على نفسه منه، لميل الناس إليه، فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله، وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه جباية خراج حمص. فلما قدم عبد الرحمن بن خالد حمص منصرفًا من بلاد الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه، فشربها فمات بحمص، فوفى له معاوية ما ضمن له، وولاه خراج حمص، ووضع عنه خراجه» (¬1). الجواب: أولا: هذا الخبر لا يصح! فيه مسلمة بن محارب وهو الزيادي فيه جهالة روى عن أبيه وابن جريج وروى عنه المدائني لم يوثقه غير ابن حبان (¬2). ذكره البخاري في «التاريخ الكبير»، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري (3/ 202). (¬2) الثقات (7/ 490).

ثم أن مسلمة بن محارب لم يدرك القصة وهو لا يروي عن معاوية - رضي الله عنه - إلا بواسطة مما يدل على أن القصة منقطعة السند (¬1). وأيضًا في السند علي بن محمد المدائني الأنباري قال فيه ابن عدي: «ليس بالقوي في الحديث , وهو صاحب أخبار , قَلَّ ما له من الروايات المسندة» (¬2). لذا رواها الطبري بصيغة التمريض قال: «فيما قيل» (¬3). وقال ابن كثير: «وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح» (¬4). وروى هذه القصة بنحوها البلاذري، قال: حدثني محمد بن سعد عن الواقدي قال: «توفي خالد بن الوليد بن المغيرة بحمص سنة عشرين، وأوصى إلى عمر بن الخطاب، وكان عبدالرحمن بن خالد يلي الصوائف فيبلى ويحسن أثره , فعظم أمره بالشام , فدس إليه معاوية متطببًا يُقال له ابن أثال ليقتله وجعل له خراج حمص فسقاه شربة فمات فاعترض خالد بن المهاجر بن خالد ـ ويقال خالد بن عبدالرحمن بن خالد ـ ابنَ أثال فضربه بالسيف فقتله , فرفع أمره إلى معاوية , فحبسه أيامًا وأغرمه دِيَتَهُ ولم يُقِدْه به» (¬5). وفي سند هذه القصة الواقدي وهو متروك الحديث. ثانيًا: هذه الروايات بالإضافة إلى ضعف سندها يوجد اختلاف في متنها مع الواقع الملموس فمعاوية - رضي الله عنه - بيده عزل الأمراء أو توليتهم كما هو معروف، وليس بالصعوبة على معاوية أن يطلب من عبد الرحمن بن خالد أن يتنحى عن قيادة الصوائف على الثغر الرومي، وتكون النتيجة أن يهمل عبد الرحمن بن خالد ثم لا يكون له أي مكانة يُخشى منها. ¬

_ (¬1) انظر التاريخ الكبير (7/ 387) , الجرح والتعديل (8/ 266) , الثقات (7/ 490). (¬2) تاريخ الطبري (3/ 202). (¬3) الكامل (5/ 213). (¬4) البداية والنهاية (8/ 24). (¬5) أنساب الأشراف (5/ 118).

وقد ورد أن معاوية - رضي الله عنه - عزله وولى بدلًا منه سفيان بن عوف الغامدي على إحدي الصوائف (¬1)، وهذا لا يشكل صعوبة على معاوية، بل إن معاوية كان يعزل عن الإمارة من هو أعظم وأقوى من عبد الرحمن بن خالد. ثالثًا: كيف يقوم معاوية بقتله وقد أورد الطبري ذكر غزوة البحر سنة 48هـ وكان قائد أهل مصر عقبة بن عامر الجهني، وعلى أهل المدينة المنذر بن زهير، وعلى جميعهم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد (¬2)، فكيف يرضى معاوية أن يكون ولد عبد الرحمن بن خالد قائدًا كبيرًا من بعد أبيه هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى كيف يرضى أن يقوم ولده خالد بقيادة الجيش لمعاوية إن كان معاوية قاتلَ أبيه، وهل يمكن أن يخفى على ولده هذا الأمر وهو أقرب الناس إليه؟ ¬

_ (¬1) تهذيب تاريخ دمشق (6/ 185)، أنساب الأشراف (4/ 104). (¬2) تاريخ الطبري (6/ 147).

الشبهة الثالثة والعشرون هل قتل معاوية الأشتر مالك بن الحارث النخعي؟

الشبهة الثالثة والعشرون هل قتل معاوية الأشتر مالك بن الحارث النخعي؟ هذه أيضًا من الأباطيل وما أكثرها! في طبقات ابن سعد: «وكان الأشتر من أصحاب علي بن أبي طالب وشهد معه الجمل وصفين ومشاهده كلها وولاه علي - عليه السلام - مصر فخرج إليها فلما كان بالعريش شرب شربة عسل فمات» (¬1). قال الذهبي: «ولما رجع علي من موقعة صِفِّين , جهز الأشتر واليًا على ديار مصر , فمات في الطريق مسمومًا , فقيل: إن عبدًا لعثمان عارضه , فسم له عسلًا ... » (¬2). وليس لمعاوية - رضي الله عنه - ذكر!! وقال الحافظ ابن حجر: «قد روي عن عمر وخالد بن الوليد وأبي ذر وعلي وصحبه وشهد معه الجمل وله فيها آثار , وكذلك في صِفِّين وولاه على مصر بعد صرف قيس بن عبادة عنها , فلما وصل إلى القلزم شرب شربة عسل فمات فقيل: إنها كانت مسمومة , وكان ذلك سنة ثمان وثلاثين» (¬3). وليس لمعاوية - رضي الله عنه - ذكر. وروى الطبري خبرًا وفيه: «فبعث معاوية إلى الجابيستار ـ رجل من أهل الخراج ـ فقال له: «إن الأشتر قد ولى مصر , فإنْ أنت كَفَيْتَنِيهِ لم آخُذْ منك خراجًا ما بقيت , فاحْتَلْ له بما قدرتَ عليه». ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد (6/ 213). (¬2) سير أعلام النبلاء (4/ 34). (¬3) الإصابة (6/ 162).

فخرج الجابيستار حتى أتى القلزم وأقام به , وخرج الأشتر من العراق إلى مصر , فلما انتهى إلى القلزم استقبله الجابستار , فقال: «هذا منزل , وهذا طعام وعلف , وأنا رجل من أهل الخراج , فنزل به الأشتر فأتاه الدهقان بعلف وطعام , حتى إذا طعم أتاه بشربة من عسل قد جعل فيها سمًا فسقاه إياه فلما شربها مات ... » (¬1). وهذه القصة من راوية أبي مخنف لوط بن أبي يحيى أخباري تالف , وقد سبق الكلام عليه. لذلك أشار إليها ابن عساكر في (تاريخه) بصيغة التمريض!! (¬2) وذكر القصةَ البلاذري بلا إسناد. وفيها: «وبلغت معاوية وفاته .. وجعل يقول: «إن لله لجندًا من عسل»! (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري (3/ 127). (¬2) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر (49/ 428) , (56/ 375، 376، 388، 389، 391). (¬3) أنساب الأشراف (3/ 168).

الشبهة الرابعة والعشرون هل معاوية - رضي الله عنه - ذمه كثير من المهاجرين والأنصار من البدريين وغيرهم - رضي الله عنهم -؟!!

الشبهة الرابعة والعشرون هل معاوية - رضي الله عنه - ذمه كثير من المهاجرين والأنصار من البدريين وغيرهم - رضي الله عنهم -؟!! أما ذم معاوية - رضي الله عنه - على ألسنة كثير من المهاجرين والأنصار فهذا كذب محض! فعمر - رضي الله عنه - المحدث الملهم مدحه وأثنى عليه وولاه الشام مدة خلافته وكذلك عثمان - رضي الله عنه -، وناهيك بهذه منقبة عظيمة من مناقب معاوية - رضي الله عنه - فلم يَشْكُ أحد منه , ولا اتهمه بجور ولا مظلمة مدة ولايته (¬1). أما قول من قال: «ثبت ذمه على ألسنة كثير من المهاجرين والأنصار»، فلم يُورِدْ ولا إسنادًا واحدًا صحيحًا: أولا: أثر علي - رضي الله عنه - لما طلبوا منه أن يبقي معاوية على الشام فتلا الآية الكريمة: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)} (الكهف:51)، رواه ابن عساكر في (تاريخ دمشق 59/ 127)، وفي سنده نصر بن مزاحم رافضي كذاب. ثانيًا: عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسلُّ سيفًا وشهد صِفِّين، وقال أنا لا أقتل أحدًا حتى يُقتَل عمار فأنظر مَن يقتله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ». قال: فلما قتل عمار بن ياسر، قال خزيمة: «قد بان لي الضلالة»، واقترب فقاتل حتى قتل» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الاستيعاب (699)، السير (3/ 132)، منهاج السنة (4/ 369)، البداية والنهاية (8/ 18). (¬2) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 259)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (16/ 370).

وهذا الأثر لا يصح؛ في سنده محمد بن عمر الواقدي الكذاب، كان يضع الحديث. ثالثًا: حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا «سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى، فلا تعتلوا بربكم»، قال عبادة: «والله إن معاوية لمن أولئك». تقدم في جواب الشبهة التاسعة عشرة أن هذا الحديث لا يصح، وقد رواه الإمام أحمد بدون ذكر معاوية - رضي الله عنه -، ورواه الحاكم كذلك ولكن ذكر فيه قول عبادة: «فو الذي نفسي بيده إن معاوية من أولئك». وهذا الحديث قد ضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة والموضوعة (3/ 528) وضعفه الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند. وعلى فرض صحة الحديث فهذا اجتهاد من عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - في حمله الحديث على معاوية - رضي الله عنه - , فعمر وعثمان - رضي الله عنهما - جعلا معاوية واليًا على الشام ولم يتهماه مدة ولايته، وأدرك جمع من الصحابة وكبار التابعين ملك معاوية , ولم ينزعوا يدًا من طاعة - رضي الله عنهم - أجمعين. رابعًا: هل كفّر أبو بكرة معاوية - رضي الله عنهما -؟! روى ابن عساكر عن هوذة بن خليفة عن عوف عن أبي عثمان النهدي قال: «كنت خليلا لأبي بكرة فقال لي يوما: «أترى الناس إني إنما عتبت على هؤلاء في الدنيا، وقد استعملوا عبيد الله ـ يعني ابنه ـ على فارس، واستعملوا روادًا ـ يعني ابنه ـ على دار الرزق، واستعملوا عبد الرحمن ـ يعني ابنه ـ على الديوان وبيت المال، أفليس في هؤلاء دنيا؟ كلا، والله إنما عتبتُ عليهم لأنهم كفروا ـ فذكر كلمة وكان في نسخة أخرى ـ كفروا صراحة أو صراحًا»» (¬1). الجواب: ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق (62/ 217).

أولًا: بعض رواة هذا الأثر لم أجد من ترجم لهم. ثانيًا: هذا الأثر رواه هَوْذَةُ بنُ خَلِيْفَةَ عن عوف بن أبى جميلة العبدى الهجرى وقد نقل الذهبي والمزي عن أَحْمَدُ بنُ زُهَيْرٍ: قَوْلَ يَحْيَى بن معين: «هَوْذَةُ بنُ خَلِيْفَةَ، عَنْ عَوْفٍ ضَعِيْفٌ». ونقلا عن أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحْرِزٍ، عَنْ يَحْيَى بن معين أيضًا قوله في هَوْذَةَ: «لَمْ يَكُنْ بِالمَحْمُوْدِ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِهَذِهِ الأَحَادِيْثِ كَمَا جَاءَ بِهَا، وَكَانَ أُطْرُوشًا» (¬1). ثالثًا: على فرض صحة هذا الأثر ـ وقد تبيَّن ما فيه ـ يجاب عنه بأن هذا ليس صريحًا في أن أبا بكرة قاله في حق معاوية - رضي الله عنهما -؛ فليس لمعاوية - رضي الله عنه - ذِكْر في هذا الأثر، بل إنه يتكلم عن (هؤلاء) ومن زعم أن المقصود بـ (هؤلاء) معاوية فليأتنا بالدليل. رابعًا: على فرض أن أبا بكرة قال هذا في حق معاوية - رضي الله عنهما - فلماذا اعتزل أبو بكرة الفتنة ولم يقاتِلْه وهو يرى كُفْرَه؟! ولماذا لم يقاتل مع علي - رضي الله عنه -؟! عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: «أَيْنَ تُرِيدُ؟». قُلْتُ: «أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ». قَالَ: «ارْجِعْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ». فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْقَاتِلُ؛ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟». قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» (رواه البخاري). ورواه مسلم عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: «خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: «أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَحْنَفُ؟». قَالَ: قُلْتُ: «أُرِيدُ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» ـ يَعْنِي عَلِيًّا ـ. قَالَ: فَقَالَ لِي: «يَا أَحْنَفُ، ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِذَا تَوَاجَهَ ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (19/ 104)، تهذيب الكمال (30/ 323) والأُطْروشُ: الأصَمُّ.

الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا؛ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ». قَالَ: فَقُلْتُ أَوْ قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟». قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ». واستدلال أبي بكرة - رضي الله عنه - بهذا الحديث يدل على عدم تكفيره لمعاوية حيث يعتبره وعليًا - رضي الله عنهما - ومن معهما من المسلمين. خامسًا: هل خفي على أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه روى ثناء الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - على الحسن - رضي الله عنه - في حقنه لدماء المسلمين وتنازله عن الملك لمعاوية، فعن أَبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (رواه البخاري). فهل يعقل بعد ذلك أن يكفِّر معاوية؟!! قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «فَلَمَّا أَثْنَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى الْحَسَنِ بِالْإِصْلَاحِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ تِلْكَ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ أَحَبَّ إلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ فِعْلِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِتَالَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ. وَلَوْ كَانَ مُعَاوِيَةُ كَافِرًا لَمْ تَكُنْ تَوْلِيَةُ كَافِرٍ وَتَسْلِيمُ الْأَمْرِ إلَيْهِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ بَلْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ؛ كَمَا كَانَ الْحَسَنُ وَأَصْحَابُهُ مُؤْمِنِينَ؛ وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مَحْبُوبًا مُرْضِيًا لَهُ وَلِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (4/ 467).

الشبهة الخامسة والعشرون هل معاوية - رضي الله عنه - ذمه كثير من التابعين كالحسن البصري والأسود بن يزيد وغيرهم؟!

الشبهة الخامسة والعشرون هل معاوية - رضي الله عنه - ذمه كثير من التابعين كالحسن البصري والأسود بن يزيد وغيرهم؟! أما ذم الحسن البصري لمعاوية - رضي الله عنه - فلا يصح عنه. ذكر الطبري في تاريخه (3/ 232) ضمن حوادث سنة (51هـ) وابن الأثير في الكامل (3/ 487) وابن كثير في «البداية والنهاية» (8/ 90) ـ بصيغة التمريض التي تدل على ضعفه عنده ـ نقلًا عن الحسن البصري أنه قال: «أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة له: * أخذه الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة ونور الفضيلة. * استخلافه بعده ابنه سكيرًا خميرًا يلبس الحرير ويضرب الطنابير. * ادعاءه زيادًا وقد قال رسول الله: «الولد للفراش وللعاهر الحجر». * قتله حجرًا وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر» (¬1). الجواب: أولًا: من ناحية السند: هذه الرواية مدارها على أبي مخنف، وأبو مخنف هذا هو لوط بن يحيى الأزدي الكوفي، قال عنه الذهبي وابن حجر: «أخباري تالف لا يوثق به». كما تركه أبو حاتم وغيره. وقال عنه الدارقطني: «ضعيف». وقال ابن معين: «ليس بثقة». ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري (3/ 232) ضمن حوادث سنة (51 هـ)، الكامل لابن الأثير (3/ 487)، البداية والنهاية لابن كثير (8/ 90).

وقال مرة: «ليس بشيء». وقال ابن عدي: «شيعي محترق». وعَدَّهُ العقيلي من الضعفاء (¬1). وعلى ذلك فالخبر ساقط ولا حجة فيه بسبب ضعف سنده، هذا بالنسبة لرواية الطبري. أما رواية ابن الأثير فقد أوردها ابن الأثير بغير إسناد. وكيف نسلم بصحة خبر مثل هذا في ذم صحابي لمجرد وروده في كتاب لم يذكر فيه صاحبه إسنادًا صحيحًا، والمعروف أن المغازي والسير والفضائل من الأبواب التي لم تسلم من الأخبار الضعيفة والموضوعة. ثانيًا: الصحيح عن الحسن - رحمه الله - خلاف ذلك! فروى الآجري، وابن عساكر عن قتادة عن الحسن البصري إن أناسًا يشهدون على معاوية وذويه أنهم في النار! قال: «لعنهم الله! وما يدريهم أنه في النار؟» (¬2). ورواه ابن عساكر عن أبي الأشهب قال: قيل للحسن: «يا أبا سعيد إن ههنا قومًا يشتمون ـ أو يلعنون ـ معاوية وابن الزبير! فقال: «على أولئك الذين يلعنون لعنة الله» (¬3). ¬

_ (¬1) الضعفاء للعقيلي (4/ 18 - 19)، ميزان الاعتدال (3/ 419)، لسان الميزان (4/ 492). وللمزيد من حال هذا الرجل راجع رسالة (مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري) للدكتور يحيى بن إبراهيم اليحيى (ص 43 - 45) ففيها مزيد بيان وتفصيل عن حال هذا الرجل. (¬2) الشريعة (5/ 2467)، تاريخ دمشق (59/ 206). (¬3) تاريخ دمشق (59/ 206)، وسنده صحيح.

وكذلك ذم الأسود بن يزيد لا يصح: روى ابن عساكر عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - في الخلافة؟ قالت: «وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة» (¬1). وهذا الأثر لا يصح في سنده أيوب بن جابر أبو سليمان اليمامي، وهو ضعيف عند أكثر أهل العلم بالحديث، ضعفه ابن معين وابن المديني والنسائي وأبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن سفيان ومعاوية بن صالح وقال أبو حبان: «كان يخطئ حتى خرج عن حد الاحتجاج به لكثرة وهمه». وفيه أيضا عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن ياسر الجوبري فيه جهالة توفي سنة 425هـ. ذكره الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (17/ 415) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق (59/ 145). (¬2) انظر: التهذيب (1/ 201)، المجروحين (1/ 167)، الكامل (1/ 355)، تذكرة الحفاظ (3/ 1076).

الشبهة السادسة والعشرون قولهم: «قتل ابنه يزيد الحسين - رضي الله عنه - ونهب نساءه»

الشبهة السادسة والعشرون قولهم: «قتلَ ابنُه يزيد الحسينَ - رضي الله عنه - ونهب نساءه» الجواب: إن يزيد لم يأمر بقتل الحسين - رضي الله عنه - باتفاق أهل النقل، ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق. والحسين - رضي الله عنه - كان يظن أن أهل العراق ينصرونه ويَفُونَ له بما كتبوا إليه، فأرسل إليهم ابنَ عمه مسلم بن عقيل، فلما قتلوا مسلمًا وغدروا به وبايعوا ابن زياد، أراد الرجوع فأدركَتْه السرية الظالمة، فطلب أن يذهب إلى يزيد، أو يذهب إلى الثغر، أو يرجع إلى بلده، فلم يمكّنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر لهم، فامتنع، فقاتلوه حتى قتل شهيدًا مظلومًا - رضي الله عنه -، ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجع على ذلك، وظهر البكاء في داره، ولم يَسْبِ له حريمًا أصلًا، بل أكرم أهل بيته، وأجازهم حتى ردهم إلى بلدهم. ولو قُدِّرَ أن يزيد بن معاوية قتل الحسين - رضي الله عنه - لم يكن ذنب ابن معاوية ذنبًا له، فإن الله تعالى يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (فاطر:18). وقد اتفق الناس على أن معاوية - رضي الله عنه - وصّى يزيد برعاية حق الحسين وتعظيم قدره. وإذا قيل: إن معاوية - رضي الله عنه - استخلف يزيد، وبسبب ولايته فعل هذا. قيل: استخلافه إن كان جائزًا لم يضره ما فعل، وإن لم يكن جائزًا فذاك ذنب مستقل ولو لم يقتل الحسين. وهو مع ذلك كان من أحرص الناس على إكرام الحسين - رضي الله عنه - وصيانة حرمته، فضلًا عن دمه، فمع هذا القصد والاجتهاد لا يضاف إليه فعل أهل الفساد.

موقف يزيد بن معاوية - رحمه الله - من قتل الحسين - رضي الله عنه -: كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه، فلما بلغ الخبر إلى يزيد بن معاوية بكى وقال: «كنت أرضى من طاعتهم ـ أي أهل العراق ـ بدون قتل الحسين، لعن الله ابن مرجانة لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوتُ عنه، فرحم الله الحسين» (¬1). ومن هنا يعلم أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكل مؤلم أو أنه حملهم مغللين كما ورد في بعض الروايات. وكان رد يزيد - رحمه الله - على ابن زياد مخالفًا لما يطمع إليه ابن زياد، حيث كان يطمع بأن يقره يزيد على الكوفة، فلم يقره على عمله بل سبه ونال منه بسبب تصرفه مع الحسين، وهنا يكون الداعي أكبر لأن يحمل ابن زياد آل الحسين على صورة لائقة لعلها تخفف من حدة وغضب يزيد عليه. ولذلك قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: «وأما ما ذكر من سبي نسائه والذراري والدوران بهم في البلاد وحملهم على الجمال بغير أقتاب، فهذا كذب وباطل، ما سبى المسلمون ـ ولله الحمد ـ هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - سبي بني هاشم قط، ولكن كان أهل الجهل والهوى يكذبون كثيرًا» (¬2). ولما دخل أبناء الحسين على يزيد قالت فاطمة بنت الحسين: «يا يزيد أبنات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سبايا؟»، قال: «بل حرائر كرام، ادخلي على بنات عمك (¬3) تجديهن قد فعلْنَ ما فعلْتِ»، قالت فاطمة: «فدخلتُ إليهن فما وجدتُ فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي» (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البلاذري في أنساب الأشراف (3/ 219، 220) بسند حسن. (¬2) منهاج السنة (4/ 559). (¬3) أي النساء من أهل يزيد. (¬4) رواه الطبري (5/ 464).

وأرسل يزيد إلى كل امرأة من الهاشميات يسأل عن كل ما أخِذ منهن، وكل امرأة تدّعي شيئًا بالغًا ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية. وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين. وبعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوو السن من موالي بني هاشم ومن موالي بني علي. ولعل يزيد أراد باستقدامه لهؤلاء الموالي إظهار مكانة الحسين وذويه ويكون لهم موكب عزيز عند دخول المدينة. وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين وبناته أن يتجهزن وأعطاهن كل ما طلبن حتى أنه لم يدع لهن حاجة بالمدينة إلا أمر بها (¬1). وقبل أن يغادروا قال يزيد لعلي بن الحسين: «إن أحببت أن تقيم عندنا فنصل رحمك ونعرف لك حقك فعلت» (¬2). قال شيخ الإسلام: «وأكرم أبناء الحسين وخيرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة» (¬3). وعند مغادرتهم دمشق كرر يزيد الاعتذار من علي بن الحسين وقال: «لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدًا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتِبْني بكل حاجة تكون لك» (¬4). وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفد من موالي بني سفيان، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا بهم حيث شاءوا ومتى شاءوا، وبعث معهم محرز بن حريث الكلبي، وكان من أفاضل أهل الشام (¬5). ¬

_ (¬1) الطبقات لابن سعد (5/ 397)، تاريخ الطبري (6/ 395). (¬2) رواه ابن سعد في الطبقات (5/ 397). (¬3) منهاج السنة (4/ 559). (¬4) تاريخ الطبري 5/ 462). (¬5) ابن سعد في الطبقات (5/ 397).

وخرج آل الحسين من دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة. قال ابن كثير في ذلك: «وأكرم آل الحسين ورد عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عظيمة ... » (¬1). تنبيه: لم يصح أن رأس الحسين - رضي الله عنه - حُمِل إلي يزيد بن معاوية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي يَذْكُرُونَ فِيهَا حَمْلَ رَأْسِ الْحُسَيْنِ إلَى يَزِيدَ وَنَكْتَهُ إيَّاهَا بِالْقَضِيبِ كَذَبُوا فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ إلَى ابْنِ زِيَادٍ ـ وَهُوَ الثَّابِتُ بِالْقِصَّةِ ـ فَلَمْ يُنْقَلْ بِإِسْنَادِ مَعْرُوفٍ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى قُدَّامِ يَزِيدَ. وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ إلَّا إسْنَادًا مُنْقَطِعًا، قَدْ عَارَضَهُ مِنْ الرِّوَايَاتِ مَا هُوَأَثْبَتُ مِنْهُ وَأَظْهَرُ ـ نَقَلُوا فِيهَا أَنَّ يَزِيدَ لَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ أَظْهَرَ التَّأَلُّمَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: «لَعَنَ اللهُ أَهْلَ الْعِرَاقِ. لَقَدْ كُنْت أَرْضَى مِنْ طَاعَتِهِمْ بِدُونِ هَذَا». وَقَالَ فِي ابْنِ زِيَادٍ: «أَمَا إنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمٌ لَمَا قَتَلَهُ. وَأَنَّهُ ظَهَرَ فِي دَارِهِ النَّوْحُ لِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ وَأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ وَتَلَاقَى النِّسَاءُ تَبَاكَيْنَ وَأَنَّهُ خَيَّرَ ابْنَهُ عَلِيًّا بَيْنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ وَالسَّفَرِ إلَى الْمَدِينَةِ فَاخْتَارَ السَّفَرَ إلَى الْمَدِينَةِ. فَجَهَّزَهُ إلَى الْمَدِينَةِ جَهَازًا حَسَنًا. فَهَذَا وَنَحْوَهُ مِمَّا نَقَلُوهُ بِالْأَسَانِيدِ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ مِنْ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ الْمُنْقَطِعِ الْمَجْهُولِ تُبَيِّنُ أَنَّ يَزِيدُ لَمْ يُظْهِرْ الرِّضَا بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَأَنَّهُ أَظْهَرَ الْأَلَمَ لِقَتْلِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِسَرِيرَتِهِ». (¬2) وقال شيخ الإسلام أيضًا: «الَّذِي ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى قُدَّامِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ بِحَضْرَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ». ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (8/ 235). (¬2) مجموع الفتاوى (27/ 479 - 480)

وَفِي الْمُسْنَدِ: «أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَضْرَةِ أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي» وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ رَوَى بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ «أَنَّ هَذَا النَّكْتَ كَانَ بِحَضْرَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ» وَهَذَا بَاطِلٌ. فَإِنَّ أَبَا بَرْزَةَ وَأَنَسَ بْنُ مَالِكٍ كَانَا بِالْعِرَاقِ لَمْ يَكُونَا بِالشَّامِ، وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ كَانَ بِالشَّامِ لَمْ يَكُنْ بِالْعِرَاقِ حِينَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ؛ فَمَنْ نَقَلَ أَنَّهُ نَكَتَ بِالْقَضِيبِ ثَنَايَاهُ بِحَضْرَةِ أَنَسٍ وَأَبِي بَرْزَةَ قُدَّامَ يَزِيدَ فَهُوَ كَاذِبٌ قَطْعًا كَذِبًا مَعْلُومًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ. وَمَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ: أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ زِيَادٍ كَانَ هُوَ أَمِيرَ الْعِرَاقِ حِينَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ». (¬1) روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أنه قال: «أُتِيَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ فَجَعَلَ يَنْكُتُ وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا فَقَالَ أَنَسٌ: «كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». قال الحافظ ابن حجر: «قَوْله: (فَجَعَلَ يَنْكُت) فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَابْن حِبَّان مِنْ طَرِيق حَفْصَة بِنْت سِيرِينَ عَنْ أَنَس: «فَجَعَلَ يَقُول بِقَضِيبٍ لَهُ فِي أَنْفه، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث زَيْد بْن أَرْقَم: «فَجَعَلَ قَضِيبًا فِي يَده فِي عَيْنه وَأَنْفه، فَقُلْت: اِرْفَعْ قَضِيبك فَقَدْ رَأَيْت فَم رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي مَوْضِعه»، وَلَهُ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَنَس نَحْوه». ¬

_ (¬1) (مجموع الفتاوى 27/ 469).

التحذير من أساطير الشيعة حول مقتل الحسين - رضي الله عنه -: إن الشيعة بالغوا في نقل أخبار تلك الحادثة، وامتلأت كتب التاريخ بحوادث عجيبة قيل إنها وقعت إثر مقتل الحسين، من احمرار الأفق، وتدفق الدماء من تحت الحجارة، وبكاء الجنّ، إلى غير ذلك من الخيال الذي نسجته عقول الشيعة يومئذ، وما زالوا يردّدونه إلى اليوم تضخيمًا لهذا الحادث على حساب غيره من الأحداث الأخرى، وإن الذي يدرس أسانيد تلك الأخبار والرّوايات لا يرى إلا ضعيفًا هالكًا، أو مجهولًا لا يعرف أصله أو مدلِّسًا يريد تعمية الأبصار عن الحقائق. ومن أكاذيب مؤرخي الشيعة على سبيل المثال في هذه الموقعة أن السبايا حملن على نجائب الإبل عرايا حتى أن الإبل البخاتي (¬1) إنما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم لتستر عوارتهن من قبلهن ودبرهن (¬2). إن كل عاقل يعلم أن الإبل البَخَاتي كانت مخلوقة موجودة قبل أن يبعث الله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقبل وجود أهل البيت، كوجود غيرها من الإبل والغنم، والبقر والخيل والبغال (¬3). وقال ابن كثير: «ولقد بالغ الشِّيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة وكذبًا فاحشًا، من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وإن أرجاء السماء احمرّت، وأن الشمس كانت تطلع وشُعاعُها كأنه الدم وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب صار يضرب بعضها بعضًا، وأمطرت السماء دمًا أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ. وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دمًا، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يُمسَّ زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذ إلا احترق مَن مسَّه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط. وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم. إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء (¬4). وللأسف الشديد، فقد شحنت المصادر التاريخية الإسلامية، مثل تاريخ الطبري، وتاريخ ابن عساكر وغيرهما بمثل هذه الأباطيل والأكاذيب، ممّا يتطلب تحقيقًا علميًا لهذين الكتابين خاصة، ولغيرهما من كتب التاريخ. ¬

_ (¬1) البُخْتيَّةُ: الأُنثى من الجمال البُخْتِ، وهي جمالٌ طوالُ الأَعْناق، ويُجْمَع على بُختٍ وبَخَاتٍ، وقيل الجمع بَخاتيُّ. (القاموس المحيط، لسان العرب - مادة بخت). (¬2) البداية والنهاية (11/ 564، 565). (¬3) الفتاوى (4/ 306). (¬4) البداية والنهاية (11/ 576).

الشبهة السابعة والعشرون استلحاق معاوية - رضي الله عنه - زياد بن أبيه

الشبهة السابعة والعشرون استلحاق معاوية - رضي الله عنه - زياد بن أبيه الجواب: المراد بزياد هنا؛ هو زياد بن سمية، وهي أمُّه كانت أمَةً للحارث بن كلدة، زوَّجها لمولاه عبيد، فأتت بزياد على فراشه وهم بالطائف قبل أن يسلم أهل الطائف، قال الطبري في حوادث عام 44هـ: «في هذه السنة استلحق معاوية نسب زياد بن سمية بأبيه أبي سفيان فيما قيل (¬1)». وقد اتُهِم معاوية - رضي الله عنه - عندما استلحق زياد بن أبيه إلى أبيه بأنه خالف أحكام الإسلام؛ فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فُلَانًا ابْنِي عَاهَرْتُ بِأُمِّهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا دِعْوَةَ فِي الْإِسْلَامِ، ذَهَبَ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» (¬2) (رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري (6/ 131). (¬2) قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ: «(عَاهَرْت): أَيْ زَنَيْت. (لَا دِعْوَة): بِكَسْرِ الدَّال أَيْ لَا دَعْوَى نَسَب. قَالَ فِي النِّهَايَة: الدِّعْوَة بِالْكَسْرِ فِي النَّسَب وَهُوَ أَنْ يَنْتَسِب الْإِنْسَان إِلَى غَيْر أَبِيهِ وَعَشِيرَته وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فَنُهِيَ عَنْهُ وَجُعِلَ الْوَلَد لِلْفِرَاشِ. واخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْفِرَاش فَذَهَبَ الْأَكْثَر إِلَى أَنَّهُ اِسْم لِلْمَرْأَةِ وَقَدْ يُعَبَّر بِهِ عَنْ حَالَة الِافْتِرَاش. وَقِيلَ إِنَّهُ اِسْم لِلزَّوْجِ. قَالَ النَّوَوِيّ: «مَعْنَى قَوْله «الْوَلَد لِلْفِرَاشِ» أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ زَوْجَة أَوْ مَمْلُوكَة صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَان مِنْهُ لَحِقَهُ الْوَلَد وَصَارَ وَلَدًا يَجْرِي بَيْنهمَا التَّوَارُث وَغَيْره مِنْ أَحْكَام الْوِلَادَة، سَوَاء كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الشَّبَه أَمْ مُخَالِفًا، وَمُدَّة إِمْكَان كَوْنه مِنْهُ سِتّ أَشْهُر مِنْ حِين أَمْكَنَ اِجْتِمَاعهمَا». ... وَأَمَّا مَا تَصِير بِهِ الْمَرْأَة فِرَاشًا فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَة صَارَتْ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ عَقْد النِّكَاح وَنَقَلُوا فِي هَذَا الْإِجْمَاع وَشَرَطُوا إِمْكَان الْوَطْء بَعْد ثُبُوت الْفِرَاش. ... = = وَأَمَّا الْأَمَة فَعِنْد الشَّافِعِيّ وَمَالِك تَصِير فِرَاشًا بِالْوَطْءِ وَلَا تَصِير فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ الْمِلْك حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ فِي مِلْكه سِنِينَ وَأَتَتْ بِأَوْلَادٍ وَلَمْ يَطَأهَا وَلَمْ يُقِرّ بِوَطْئِهَا لَا يَلْحَقهُ أَحَد مِنْهُمْ، فَإِذَا وَطِئَهَا صَارَتْ فِرَاشًا، فَإِذَا أَتَتْ بَعْد الْوَطْء بِوَلَدٍ أَوْ أَوْلَاد لِمُدَّةِ الْإِمْكَان لَحِقُوهُ. (وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر): الْعَاهِر الزَّانِي وَعَهَرَ زَنَى وَعَهَرَتْ زَنَتْ، وَالْعِهْر الزِّنَا أَيْ وَلِلزَّانِي الْخَيْبَة وَلَا حَقّ لَهُ فِي الْوَلَد. وَعَادَة الْعَرَب أَنْ تَقُول لَهُ الْحَجَر وَبِفِيهِ الْأَثْلَب وَهُوَ التُّرَاب وَنَحْو ذَلِكَ يُرِيدُونَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْخَيْبَة. وَقِيلَ الْمُرَاد بِالْحَجَرِ هُنَا أَنَّهُ يُرْجَم بِالْحِجَارَةِ، وَهَذَا ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلّ زَانٍ يُرْجَم وَإِنَّمَا يُرْجَم الْمُحْصَن خَاصَّة، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ رَجْمه نَفْي الْوَلَد عَنْهُ. وَالْحَدِيث إِنَّمَا وَرَدَ فِي نَفْي الْوَلَد عَنْهُ». (اهـ باختصار).

وقد ردّ على هذا الاتهام الدكتور خالد الغيث بقوله: « ... أما اتهام معاوية - رضي الله عنه - باستلحاق نسب زياد، فإني لم أقف على رواية صحيحة صريحة العبارة تؤكد ذلك، هذا فضلًا عن أن صحبة معاوية - رضي الله عنه -، وعدالته ودينه وفقهه تمنعه من أن يرد قضاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لاسيما وأن معاوية أحد رواة حديث: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» (¬1). ووجَّه الدكتور خالد الغيث التهمة إلى زياد بن أبيه بأنه هو الذي ألحق نسبه بنسب أبي سفيان واستدل برواية أخرجها مسلم في صحيحه من طريق أَبِي عُثْمَانَ النهدي قَالَ: «لَمَّا ادَّعَى زِيَادٌ لَقِيتُ أَبَا بَكْرَةَ فَقُلْتُ لَهُ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ؛ إِنِّي سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُول: سَمِعَ أُذُنَايَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَبِيهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ». فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: «وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». قال الإمام النووي - رحمه الله - مُعلقًا على هذا الخبر: «فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام الْإِنْكَار عَلَى أَبِي بَكْرَة؛ وَذَلِكَ أَنَّ زِيَادًا هَذَا الْمَذْكُورُ هُوَ الْمَعْرُوف بِزِيَادِ بْن أَبِي سُفْيَان، وَيُقَال فِيهِ: زِيَادُ بْن أَبِيهِ، وَيُقَال: زِيَاد بْن أُمِّهِ، وَهُوَ أَخُو أَبِي بَكْرَة لِأُمِّهِ، وَكَانَ يُعْرَف بِزِيَادِ بْن عُبَيْد الثَّقَفِيّ، ثُمَّ اِدَّعَاهُ مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان وَأَلْحَقَهُ بِأَبِيهِ أَبِي سُفْيَان، وَصَارَ مِنْ جُمْلَة أَصْحَابه بَعْد أَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيّ بْن أَبِي ¬

_ (¬1) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري (ص 372 - 379)، وانظر: فتح الباري (12/ 39).

طَالِب - رضي الله عنه -.فَلِهَذَا قَالَ أَبُو عُثْمَان لِأَبِي بَكْرَة مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ؟ وَكَانَ أَبُو بَكْرَة - رضي الله عنه - مِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَهَجَرَ بِسَبَبِهِ زِيَادًا، وَحَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ أَبَدًا. وَلَعَلَّ أَبَا عُثْمَان لَمْ يَبْلُغْهُ إِنْكَار أَبِي بَكْرَة حِين قَالَ لَهُ هَذَا الْكَلَام، أَوْ يَكُون مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ؟ أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جَرَى مِنْ أَخِيك؟ مَا أَقْبَحَهُ وَأَعْظَم عُقُوبَته! فَإِنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - حَرَّمَ عَلَى فَاعِله الْجَنَّة» اهـ. وبذلك يكون زياد هو المدعي، ولذلك هجره أخوه أبو بكرة - رضي الله عنه -. ويزيد هذا الأمر تأكيدًا ما أورده الحافظ أبو نعيم في ترجمة زياد بن أبيه حيث قال: «زياد بن سمية: ادَّعَى أبا سفيان فنُسب إليه» (¬1). وفي حقيقة الأمر فإن مسألة استلحاق معاوية - رضي الله عنه - زياد هي مسألة اجتهادية ويذهب الكثير من المؤرخين بأن هناك دلائل عديدة تثبت أن أبا سفيان قد باشر سمية ـ جارية الحارث بن كلدة الثقفي ـ وكانت من البغايا ذوات الرايات ـ في الجاهلية، فعلقت منه بزياد، وذكروا أن أبا سفيان اعترف بنفسه بذلك أمام علي بن طالب - رضي الله عنه - وآخرين بعدما شب زياد ونبغ في عهد عمر بن الخطاب (¬2). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا سفيان كان يقول زياد من نطفته (¬3)، فلما كانت خلافة معاوية شهد لزياد بذلك النسب أبو مريم السلولي وهو صحابي كان يعمل في الجاهلية خَمَّارًا بالطائف، وهو الذي جمع بين أبي سفيان وسمية، وكان ذلك أمرًا مألوفًا آنذاك (¬4). ويبدو أن هذا النسب قد شاع أمره حتى لقد شهد بذلك أحد رجال البصرة لزياد قبل استلحاق معاوية - رضي الله عنه - إياه (¬5)، فهي دعوة قديمة إذن ولم تكن كما يزعم الرواة ¬

_ (¬1) معرفة الصحابة (3/ 1217). (¬2) مروج الذهب (3/ 14 ـ 15)، الدولة الأموية المفترى عليها (ص 195). (¬3) الفتاوي (20/ 148). (¬4) الكامل في التاريخ (2/ 470). (¬5) تاريخ الطبري (6/ 131، 132).

نتيجة مشورة المغيرة بن شعبة على معاوية - رضي الله عنهما - كجزء من صفقة متبادلة بين معاوية وزياد أو غير ذلك من التفاصيل التي اخترعها الرواة (¬1). وبعد عقود من السنين نجد الإمام مالك بن أنس ـ إمام أهل المدينة ـ يذكر زيادًا في كتابه الموطأ بأنه زياد بن أبي سفيان، ولم يقل زياد بن أبيه، وذلك في عصر بني العباس (¬2)، والدولة لهم والحكم بأيديهم فما غيروا عليه، ولا أنكروا ذلك منه، لفضل علومهم ومعرفتهم بأن مسألة زياد قد اختلف الناس فيها، فمنهم من جوزها، ومنهم من منعها، فلم يكن لاعتراضهم عليها سبيل (¬3). وأما تعارض هذا الاستلحاق ـ إن صح ـ مع نص الحديث الشريف، فمن اعتذر لمعاوية - رضي الله عنه - قال: إنما استلحق معاوية زيادًا لأن أنكحة الجاهلية كانت أنواعًا، وكان منها أن الجماعة يجامعون البَغِيَّ، فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلمّا جاء الإسلام حرّم هذا النكاح، إلا أنّه أقر كل ولد كان يُنسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرّق بين شيء منها، فتوهم معاوية أنّ ذلك جائز له ولم يفرّق بين استلحاق في الجاهلية، والإسلام (¬4). وأجاز الإمام مالك أن يستلحق الأخ أخا له ويقول: هو ابن أبي، ما دام ليس له منازع في ذلك النسب. فالحارث بن كلدة ـ الذي كانت سمية جارية له ـ لم ينازع زيادًا، ولا كان إليه منسوبًا، وإنما كان ابن أمَةٍ بغي وُلد على فراشه ـ أي في داره ـ فكل من ادعاه فهو له، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز، بل فعل الحق على مذهب الإمام مالك. ¬

_ (¬1) الدولة الأموية المفترى عليها (ص 196). (¬2) المصدر نفسه (ص 196). (¬3) العواصم من القواصم (ص 254). (¬4) الكامل في التاريخ (2/ 471).

الشبهة الثامنة والعشرون قتله حجر بن عدي وأصحابه

الشبهة الثامنة والعشرون قَتْلُه حِجْر بنَ عدي وأصحابه الجواب: 1 - إن حِجْر بن عدى مختلف في صحبته، والأكثرون على أنه تابعى، قال الحافظ ابن حجر: «وأما البخاري، وابن أبي حاتم، عن أبيه، وخليفة بن خياط، وابن حبان فذكروه في التابعين، وكذا ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة» (¬1). وعلى فرض التسليم له بالصحبة فالواجب علينا عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة، بل الترحم عليهم، والتصديق بعدالتهم. 2 - تحدثت معظم المصادر التاريخية عن مقتل حجر بن عدي - رضي الله عنه - بين مختصر في هذا الأمر ومطول كل بحسب ميله، وكان للروايات الشيعية النصيب الأوفر في تضخيم هذا الحدث ووضع الروايات في ذلك؛ وكأنه ليس في أحداث التاريخ الإسلامي حدث غير قصة مقتل حجر بن عدي. 3 - ذكر ابن العربي أن الأصل في قتل الإمام، أنه قَتْلٌ بالحق فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل، ولكن حِجْرًا فيما يقال: «رأى من زياد أمورًا منكرة، حيث أن زياد بن أبيه كان في خلافة علي واليًا من ولاته، وكان حجر بن عدي من أولياء زياد وأنصاره، ولم يكن ينكر عليه شيئًا، فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعًا بعاطفة التحزب والتشيع، وكان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد. فقام حجر وحصب زياد وهو يخطب على المنبر، حيث أن زياد قد أطال في الخطبة فقام حجر ونادى: «الصلاة! فمضى زياد في خطبته فحصبه حجر وحصبه آخرون معه وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على ¬

_ (¬1) االإصابة (1/ 313).

أميره في بيت الله، وعدّ ذلك من الفساد في الأرض، فلمعاوية العذر، وقد كلمته عائشة في أمره حين حج، فقال لها: «دعيني وحجرًا حتى نلتقي عند الله» (¬1). وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله - عز وجل -. 4 - وأما قضاء معاوية - رضي الله عنه - في حجر - رضي الله عنه - وأصحابه، فإنه لم يقتلهم على الفور، ولم يطلب منهم البراءة من علي - رضي الله عنه - كما تزعم بعض الروايات الشيعية (¬2)، بل استخار الله - سبحانه وتعالى - فيهم، واستشار أهل مشورته، ثم كان حكمه فيهم. والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل بإسناد حسن عن ابن عياش قال: حدثني شرحبيل بن مسلم قال: «لما بُعِث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان، استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير، ومنهم الساكت. فدخل معاوية منزله، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم جلس على منبره، فقام المنادي فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ألا إنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق ألا وأنت الراعي ونحن الرعية، ألا وأنت أعلمنا بدائهم، وأقدرنا على دوائهم، وإنما علينا أن نقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285). فقال معاوية: «أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم، ورمى بها ما بين عيني معاوية». ثم قام المنادي فنادى: «أين أبو مسلم الخولاني»، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم (ص 219 - 220). (¬2) انظر: تاريخ الطبري (5/ 256 - 257، 275).

فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، سيوفنا على عواتقنا، إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك وإن سبقناك نظرناك»، ثم جلس. ثم قام المنادي فقال: «أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي»، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت، وإن تعفُ فقد أحسنت». فقام المنادي فنادى: «أين عبد الله بن أسد القسري»، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أمير المؤمنين، رعيتك وولايتك وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا على أنفسهم العقوبة، وإن تعفوا فإن العفو أقرب للتقوى، يا أمير المؤمنين لا تطع فينا من كان غشومًا ظلومًا بالليل نؤومًا، عن عمل الآخرة سؤومًا. يا أمير المؤمنين إن الدنيا قد انخشعت أوتارها، ومالت بها عمادها وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها»، ثم جلس. فقلت ـ القائل هو: اسماعيل بن عياش ـ لشرحبيل: فكيف صنع؟ قال: قتل بعضًا واستحيى بعضًا، وكان فيمن قتل حجر بن عدي بن الأدبر» (¬1). 5 - مما يجدر التذكير به في هذا المقام أن معاوية - رضي الله عنه - لم يكن ليقضي بقتل حجر بن عدي - رضي الله عنه - لو أن حجرًا اقتصر في معارضته على الأقوال فقط ولم ينتقل إلى الأفعال. وقد ذكر ابن سعد ما يدل على أن معاوية أمر بقتل حجر بن عدي - رضي الله عنه - لما شهد عنده الشهود بأنه ألب على عامله بالعراق، وحصبه وهو على المنبر، وخلع البيعة لمعاوية نفسه، وهو آنذاك أمير المؤمنين (¬2). ولعل معاوية - رضي الله عنه - قد اعتمد في قضائه هذا بقتل حجر بن عدي، على قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» (رواه مسلم). ¬

_ (¬1) انظر الرواية في مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (2/ 328 ـ 331). (¬2) الطبقات (6/ 151).

وفي رواية عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» (رواه مسلم). الْهَنَات: جَمْع هَنَة، وَتُطْلَق عَلَى كُلّ شَيْء، وَالْمُرَاد بِهَا هُنَا الْفِتَن وَالْأُمُور الْحَادِثَة. قال الإمام النووى - رحمه الله - في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم: «فِيهِ الْأَمْر بِقِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَام، أَوْ أَرَادَ تَفْرِيق كَلِمَة الْمُسْلِمِينَ وَنَحْو ذَلِكَ، وَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ قُوتِلَ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِع شَرّه إِلَّا بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ كَانَ هَدَرًا». 6 - وفي القصة التي ذكرها ابن سعد ما يدل على أن الشيعة قد ألّبوه على معاوية وعامله، وأن زيادًا والى العراق قد راجعه في ذلك قبل أن يبعث بالشهود إلى معاوية - رضي الله عنه - فلما علم معاوية من حاله، وشهد عنده الشهود بذلك، أمر بقتله عملًا بنص هذا الحديث، خصوصًا وأن البيعة كانت قد استقرت له، والتأليب عليه مما يضر بالدولة الإسلامية آنذاك. وقد أمرنا النبي بالسمع والطاعة ولو لعبد حبشي يقيم كتاب الله، فكيف بمن كان من صحابته الذين آزروه ونصروه، وبمن دعا له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالهداية؟!! إن حجرًا - رضي الله عنه - زيَّن له شيعة الكوفة هذه المعارضة، فأوردوه حياض الموت بخذلانهم إياه. ولا ننسى موقف شيعة الكوفة مع الحسين - رضي الله عنه -، حين زينوا له الخروج ثم خذلوه كما خذلوا حجرًا من قبله. 7 - إن قيل: قتل حجر بن عدي واختلفنا: فقائل يقول قتله ظلمًا، وقائل يقول قتله حقًا. فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله: قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل.

8 - إن الذين يرون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما من حكومة في الدنيا تعاقب بأقل من ذلك من يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعًا بعاطفة الحزبية والتشيع. والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون: كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه. ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولا سيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر من أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح، فكبدوا الأمة من دمائها وسمعتها وسلامة قلوبها ومواقف جهادها تضحيات غالية كانت في غنى عنها لو أن هيبة الدولة حفظت بتأديب عدد قليل من أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب. ولو سلمنا أن معاوية أخطأ في قتل حجر؛ فقد سبق هذا الخطأ في القتل أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -. وقصة أسامة بن زيد - رضي الله عنه - مع الرجل الذي نطق بالشهادتين، وقتْل أسامة له بعد نطقها، في الصحيحين البخاري ومسلم. وكل ما جرى من أسامة ناتج عن اجتهاد لا عن هوى وعصبية وظلم. 9 - الغريب أن الشيعة يصيحون من أجل قتل حجر بن عدي ولا يعترضون على عليٍّ - رضي الله عنه - عندما قاتل الخارجين على خلافته في الجمل وصفين، والتي تسببت في مقتل خيار الصحابة إضافة إلى الآلاف من المسلمين، مع أنّ السبب واحد وهو الخروج على سلطة الخليفة!!! 10 - بالغت الروايات في ذكر موقف عائشة - رضي الله عنها - من مقتل حجر بن عدي، حيث ذهبت بعض الروايات إلى زعم بتهديد عائشة لمعاوية بالقتل حين زارها عام

51هـ، وكذلك التهديد بمحاربة معاوية، وهذه الروايات لم يصح منها شيء في حق أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. وأما حقيقة موقفها فعن ابن أبي مليكه: إن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبت أن تأذن له، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان، قال: ويحك أدخلني على عائشة فإنها قد غضبت علَيَّ، فلم يزل بها غلامها حتى أذنت له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال: «أمّتاه فيما وجَدْتِ عليَّ (¬1) يرحمكِ الله؟». قالت: « ... وجدت عليك في شأن حِجْر وأصحابه أنك قتلتهم». فقال لها: « ... وأما حِجْر وأصحابه فإني تخوفت أمرًا، وخشيت فتنة تكون، تهراق فيها الدماء، تستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل ما يشاء». قالت: «تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله». وجاء في رواية أخرى: «لما قدم معاوية دخل على عائشة، فقالت: «أقتلت حجرًا؟». قال: «يا أم المؤمنين، إني وجدت قتل رجلٍ في صلاح الناس، خيرًا من استحيائه في فسادهم» (¬2). ¬

_ (¬1) وَجَدَ عليه: غَضِبَ، (القاموس المحيط، مادة وجد). (¬2) تاريخ دمشق (4/ 273، 274) نقلا عن مرويات معاوية (ص440).

الشبهة التاسعة والعشرون اتهام معاوية - رضي الله عنه - بشرب الخمر

الشبهة التاسعة والعشرون اتهام معاوية - رضي الله عنه - بشرب الخمر عن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَجْلَسَنَا عَلَى الْفُرُشِ ثُمَّ أُتِينَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلْنَا ثُمَّ أُتِينَا بِالشَّرَابِ، فَشَرِبَ مُعَاوِيَةُ ثُمَّ نَاوَلَ أَبِي ثُمَّ قَالَ: «مَا شَرِبْتُهُ مُنْذُ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». قَالَ مُعَاوِيَةُ: «كُنْتُ أَجْمَلَ شَبَابِ قُرَيْشٍ، وَأَجْوَدَهُ ثَغْرًا، وَمَا شَيْءٌ كُنْتُ أَجِدُ لَهُ لَذَّةً كَمَا كُنْتُ أَجِدُهُ وَأَنَا شَابٌّ غَيْرُ اللَّبَنِ أَوْ إِنْسَانٍ حَسَنِ الْحَدِيثِ يُحَدِّثُنِي» (رواه الإمام أحمد وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي). وقال غيره: «إسناد الخبر فيه لين؛ فزيد بن الحباب في حفظه ضعف، ومثله حسين بن واقد (¬1). يحاول الشيعة بهذا الخبر التلبيس على القارئ بأن معاوية كان ممن يشرب الخمر بعد إسلامه، وبعد ثبوت تحريم شرب الخمر. الجواب: هذا مندفع بأمور: أولها: لنفرض صحة الخبر السابق وأن ما جاء فيه، ثبوت شرب معاوية - رضي الله عنه - للشراب، فإن لفظ الشراب لا يقتضي أن يكون المشروب خمرًا. فقد يكون هذا الذي شربه معاوية نبيذًا، أو لبنًا. ثانيها: مناولته لبريدة بن الحصيب الشراب، فلو كان خمرًا لما أخذه بريدة، ولأنكر عليه ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: مجمع الزوائد (5/ 42 (، من فضائل وأخبار معاوية دراسة حديثية (ص 63).

ولم يَرِدْ في شيء من مصادر الخبر نَقْلُ كراهية بريدة أو إنكاره، فضلا عن ردِّه وامتناعه عما ناوله معاوية، ولو كان بُريدة - رضي الله عنه - يظن ذلك لما جلس هذا المجلس، ولَنَقَلَ ابنُه استفهامَه على أقل تقدير. ثالثها: أن قوله: «مَا شَرِبْتُهُ مُنْذُ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» هو من قول معاوية - رضي الله عنه - وليس من قول بريدة، فدل على أن الشراب لم يكن خمرًا. وإن مما يتبادر للذهن أن الشراب هو اللبن، بدليل أن معاوية في سِنّه هذه لا يُفَضِّلُ عليه غيره؛ كما في رواية ابن أبي شيبة عن عبد الله بن بريدة، قال: «دخلت أنا وأبي على معاوية، فأجْلَسَ أبي على السَّرير، وأَتَى بالطعام فأطْعَمنا، وأتَى بشرابٍ فشَرِبَ، فقال معاوية: «ما شيءٌ كنتُ أستَلِذَّهُ وأنا شابٌّ فآخُذُهُ اليومَ إلا اللَّبَنَ؛ فإني آخُذُه كما كنتُ آخُذُه قَبْلَ اليَومِ» (¬1). رابعها: كيف يُفهم أن معاوية - رضي الله عنه - شَرِبَ الخمر!! وهو ينص في الخبر ذاته على أنه لم يشربها قط! وأنَّه عَلِمَ النَّهْيَ عنه مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وروى عنه حديثَ جلد الشارب ثلاثًا، ثم قتْله في الرابعة. فعَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فِى الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ» (¬2). ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (11/ 94 - 95)، وسنده حَسَنَ، انظر: من فضائل وأخبار معاوية دراسة حديثية (ص 63). (¬2) رواه الترمذي، وصححه الألباني، وانظر: كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر للشيخ المحدث: أحمد بن محمد شاكر - رحمه الله -.

الشبهة الثلاثون افتراءات حول مصارف الأموال في عهد معاوية - رضي الله عنه -

الشبهة الثلاثون افتراءات حول مصارف الأموال في عهد معاوية - رضي الله عنه - (¬1) أثار بعض المؤرخين شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية - رضي الله عنه -، وذكروا عدة مصارف وسموها بأنها جائرة وغير شرعية منها: أولا: إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص: تتعدد الروايات التي تنص على أن معاوية - رضي الله عنه - أعطى مصر طُعمَةً لعمرو بن العاص لقاء تأييد الأخير له في حربه ضد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وجُلّ هذه الأخبار تحوي روحًا عدائية لعمرو ومعاوية - رضي الله عنهما - وتصور اتفاقهما على حرب علي - رضي الله عنه - كما لو كانت مؤامرة دَنيئة أو صفقة مريبة، خان فيها الرجلان ربهما ودينهما، مقابل عَرَضٍ زائل أو نصر سريع، وكأن من المستحيل أن يبذل ابن العاص نصره لقضية اجتمع حولها آلاف الرجال في الشام وغيرها ـ وهي الطلب بدم عثمان ـ إلا إذا نال ولاية مصر وخراجها لنفسه. وبعض هذه الروايات تحوي سبابًا لهذين الصحابيين، كأن تزعم أن عَمْرو بنَ العاص فضَّل ولاية مصر على حسنى الآخرة وصرح بذلك فقال: «إنما أردنا هذه الدنيا»، أو أنه قال لمعاوية: «لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك»، أو قوله: «إنما أبايعك بها ديني» (أي بمصر)، أو قوله لمعاوية: «ولولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها؛ فإني أعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على ضده»، إلى غير ذلك من الروايات (¬2). ¬

_ (¬1) باختصار من كتاب (الدولة الأموية) للدكتور علي الصلابي. (¬2) الكامل في التاريخ (2/ 57)، الإمامة والسياسة (1/ 98)، العقد الفريد (4/ 345)، مروج الذهب (3/ 29)، وقعة صِفِّين (ص237).

ورواة هذه الروايات كلهم من الشيعة الروافض. وكذلك روايات باطلة وموضوعة عند المسعودي وكتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة وغيرها تمسخ عمرو بن العاص إلى رجل مصالح، وصاحب مطامع وراغب دنيا. وقد تأثر بالروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة مجموعة من الكتّاب والمؤرَّخين، فأهووا بعمرو إلى الحضيض، ومنهم عباس محمود العقَّاد الذي يتعالى عن النَّظر في الإسناد، ويستخفُّ بقارئه، ويظهر له صورة معاوية وعمرو - رضي الله عنهما - بأنَّهما انتهازيَّان، صاحبا مصالح، ولو أجمع النّاقدون التاريخيون على بطلان الرِّوايات التي استند إليها في تحليله فهذا لا يعني للعقَّاد شيئًا. فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة، واهية، لا تقوم بها حجة: « ... ولْيَقُل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار، وصحَّة هذه الكلمات، وما ثبت نقلة، ولم يثبت منه سنده، ولا نصُّه فالذي لا ريب فيه، ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه: أن الاتفاق بين الرجلين، كان اتفاق مساومة، ومعاونة على الملك، والولاية، وأن المساومة بينهما كانت على النصَّيب الذي آل على كلِّ منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق» (¬1). وما عرف من صحة إسلام وتقوى معاوية وعمرو - رضي الله عنهما -، وتاريخهما المضيء في خدمة دين الله منذ أسلما مما يرد على تلك الروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة التي لاقت رواجًا واستقرارًا في تشويههما بالظلم والبهتان. ففي معاوية يكفي دعاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عندما قال: «اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ» (رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني). (هَادِيًا) أَيْ لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَيْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ. ¬

_ (¬1) عمرو بن العاص للعقاد (ص231 - 232).

وثَبَتَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا لمعاوية فقال: «اللهمَّ عَلِّمْهُ الكِتابَ والحِسابَ، وقِهِ العَذاب». (رواه الطبراني وغيره وصححه الألباني). وأما عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالإيمان حيث قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ» (رواه الترمذي وحسنه الألباني). ثانيًا: التنازل عن خراج ((دارابجرد)) للحسن بن علي: زعم بعض المؤرخين أن معاوية تنازل للحسن بن علي - رضي الله عنهم - عن خراج (دارابجرد) وأن يعطيه مما في بيت مال الكوفة مبلغ خمسة آلاف ألف درهم مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، وأن الحسن قد أخذ ما في بيت مال الكوفة ولكنه لم يستطع الحصول على خراج (دارابجرد) إذ إن أهل البصرة قد منعوه منه، ويزعمون أن ذلك كان بتحريض معاوية أو بمبادرة من البصريين (¬1). إن هذه الرواية تغض من شأن الحسن ومعاوية معًا - رضي الله عنهما - وتجعلهما في موقف التواطؤ على أكل أموال المسلمين بالباطل، وهذا باطل ولا يصح. ثالثًا: التوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار: ذكر المؤرخون أن معاوية - رضي الله عنه - أنفق أموالًا كبيرة ليتألف بها قلوب الزعماء والأشراف ويوطد أركان الدولة الإسلامية التي قامت بعد فترات من الصراع والتطاحن. فإن صح ذلك فإن إراقة بعض المال خير من إراقة كثير من دماء المسلمين. فلعله أعطى هؤلاء الرجال المال يستميل به قلوبهم، وقلوب أتباعهم وأنصارهم، ويعلي به مكانتهم ويسد خلة من وراءهم. ولعله قد فهم من إعطاء الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة ليستميلهم نحو الدين، أنه يجوز أن يعطي أمثال هؤلاء الرجال ليتألف قلوبهم ويضمن ولاءهم للدين والدولة حيث نصرة الدين وجمع شمل أهله. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري (6/ 165)، الدولة الأموية المفترى عليها (ص417).

الشبهة الحادية والثلاثون هل قال معاوية - رضي الله عنه -: «إن الكريم طروب»

الشبهة الحادية والثلاثون هل قال معاوية - رضي الله عنه -: «إن الكريم طروب» عن محمد بن عامر: عاتب معاوية عبد الله بن جعفر على الاستهتار بالغناء والطرب، فدخل عليه يومًا ومعه بُديح المليح، مولى آل الزبير ويقال مولاه، فلما كان على باب البيت الذي فيه معاوية قال: «يا بديح، قل»، فتغنى وجعل يقرع حلقة الباب ويوقع بها، وجعل معاوية يحرك رجليه، فقال عبد الله: «ما هذا يا أمير المؤمنين؟». قال: «إن الكريم طروب» (¬1). وقال الطبري: حدثنى أحمد عن على عن محمد بن عامر قال: «لام معاوية عبد الله بن جعفر على الغناء فدخل يومًا على معاوية ومعه بديح، ومعاوية واضع رجلًا على رجل. فقال عبد الله لبديح: «إيهٍ (¬2) يا بديح». فتغنى، فحرك معاوية رجله. فقال عبد الله: «مه يا أمير المؤمنين؟». فقال معاوية: «إن الكريم طروب». قال: وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية، ومعه سائب خاثر وكان مولى لبنى ليث وكان فاجرًا، فقال له: «ارفع حوائجك». ففعل ورفع فيها حاجة سائب خاثر، فقال معاوية: «من هذا؟» فخبره، فقال: «أدخله». فلما قام على باب المجلس غنى: ¬

_ (¬1) هذا الخبر أورده البلاذري في (أنساب الأشراف 4/ 27) بنحوه، وأورده ابن عبد ربه في (العقد الفريد 6/ 21، 22)، مع بعض الزيادات المنكرة. (¬2) إيهِ: اسمُ فعْل أمر، ومعناه طلب الزيادة من حديث أو عَمل.

إن الديارَ رسومُها قَفْرُ ... لعبَتْ بها الأرواحُ والقطرُ وخَلا لها مِن بَعدِ ساكِنِها ... حِجَجٌ خَلَوْنْ ثَمانِ أو عشْرُ والزعفرانُ على ترائِبِهَا ... شَرِقًا به اللّبَّاتُ والنَّحْرُ فقال: «أحسنت»، وقضى حوائجه». الجواب: أولًا: لم أجد مَن ترجم لمن اسمه محمد بن عامر إلا ابن حبان في (المجروحين برقم 1010) فقال: «محمد بن عامر أبو عبد الله شيخ من أهل الرملة يروي عن ابن عيينة يقلب الأخبار ويروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم». ثانيًا: غاية مافي هذه الرواية ـ إن صحت ـ سماع معاوية - رضي الله عنه - للشعر، فليس هناك معازف أو فرق موسيقية!!!! ثالثًا: في هذه الرواية الضعيفة إنكار معاوية - رضي الله عنه - على عبد الله بن جعفر الاستهتار بالغناء والطرب.

الشبهة الثانية والثلاثون هل أراد معاوية - رضي الله عنه - أن ينقل منبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من المدينة إلى الشام؟

الشبهة الثانية والثلاثون هل أراد معاوية - رضي الله عنه - أن ينقل منبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من المدينة إلى الشام؟ ذكر الإمام الطبري - رحمه الله - في كتابه التاريخ في حوادث سنة 50 هـ، قال محمد بن عمر (¬1): «وفي هذه السنة أمر معاوية بمنبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يحمل إلى الشام، فحرك فكسفت الشمس حتى رُئِيَت النجوم بادية يومئذ، فأعظم الناس ذلك. وجاء في رواية أخرى: «قال معاوية: «إني رأيت أن منبر رسول الله وعصاه لا يُتْركان بالمدينة، وهم قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه»، فلما قدم طلب العصا وهي عند سعد القرظ، فجاء أبو هريرة وجابر بن عبد الله، فقالا: «يا أمير المؤمنين، نذكّرك الله ـ عز وجل ـ أن تفعل هذا، فإن هذا لا يصح، تُخرِجُ منبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من موضع وضعه، وتخرج عصاه من المدينة». فترك ذلك معاوية، ولكن زاد في المنبر ستَّ درجات، واعتذر إلى الناس. وفي رواية: «قال محمد بن عمر: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار عن أبيه قال: قال معاوية: «إني رأيت أن منبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعصاه لا يتركان بالمدينة، وهم قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه». وفي رواية: قال محمد بن عمر ـ بعد أن ساق سند الرواية ـ: «كان عبدالملك قد هَمَّ بالمنبر، فقال قبيصة بن ذؤيب: «أذَكّرك الله ـ عز وجل ـ أن تفعل هذا، أن تحوله، إن أمير المؤمنين معاوية حرَّكه فكسفت الشمس» (¬2). ¬

_ (¬1) الواقدي الكذاب. (¬2) البداية والنهاية (11/ 214) تاريخ الطبري (6/ 155).

تحدثت الروايات السابقة عن القضايا التالية: * عزم معاوية - رضي الله عنه - نقل منبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وعصاه إلى الشام. * ربط كسوف الشمس بتحريك منبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. * اتهام معاوية - رضي الله عنه - ببغض أهل المدينة (الأنصار). الجواب: أولًا: هذه الروايات مدارها على محمد بن عمر الواقدي وهو متروك الحديث. ولا توجد رواية صحيحة تؤكد عزم معاوية - رضي الله عنه - نقل منبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وعصاه إلى الشام، ولا بغضه لأهل المدينة (الأنصار) (¬1). ثانيًا: إن دين معاوية - رضي الله عنه -، وعدالته، وصحبته لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تمنعه مِن حَمْل منبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من المدينة إلى الشام وهو يعلم قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» (رواه البخاري ومسلم). ثالثًا: إن ربط كسوف الشمس بتحريك المنبر لم يَرِدْ بإسناد صحيح، هذا فضلًا عن أن كسوف الشمس ـ على افتراض حدوثه ـ لم يكن نتيجة لتحريك المنبر، وقد حصل ما يشبه ذلك في عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، حيث أخرج البخاري عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: «كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: «كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا وَادْعُوا اللهَ». رابعًا: في هذه القصة المكذوبة اتهام لمعاوية - رضي الله عنه - ببغض أهل المدينة (الأنصار) لكونهم قتلة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) وهناك رواية أخرى أوردها ابن الأثير في الكامل (2/ 482)، وهي ضعيفة الإسناد؛ انظر: مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري (ص390).

وإن تقريب معاوية للأنصار وتوليته إياهم في مناصب هامة وحساسة يَرُدّ هذه الفِرْيَة، ومن الشواهد على ذلك: - توليته فضالة بن عبيد الأنصاري - رضي الله عنه - قضاء دمشق، وتوليته إياه منصب أمير البحرية الإسلامية في مصر. - تعيينه النعمان بن بشير الأنصاري - رضي الله عنه - أميرًا على الكوفة. - تعيينه مسلمة بن مخلد الأنصاري - رضي الله عنه - أميرًا على مصر والمغرب معًا. - تعيينه رويفع بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - أميرًا على طرابلس (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الاستيعاب (2/ 504)، (3/ 1262)، الإصابة (5/ 371)، مرويات خلافة معاوية (ص391، 392).

الشبهة الثالثة والثلاثون

الشبهة الثالثة والثلاثون قَالَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: «وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ» (رواه مسلم). قالوا: «ولا ريب أن معاوية كان من مبغضي علي بن أبي طالب». وقالوا: «وقد كان معاوية من أعداء علي الكبار». والجواب: أولًا: معنى الحديث: قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث والأحاديث التي قبله من صحيح مسلم وهي قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حُبُّ الْأَنْصَارِ آيَةُ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمْ آيَةُ النِّفَاقِ»، و «أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَنْصَارِ: «لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللهُ»، و «لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»: «الْآيَة هِيَ الْعَلَامَةُ، وَمَعْنَى هَذَه الأحَادِيث: أَنَّ مَنْ عَرَفَ مَرْتَبَة الْأَنْصَار وَمَا كَانَ مِنْهُمْ فِي نُصْرَة دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّعْيِ فِي إِظْهَارِهِ وَإِيوَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقِيَامِهِمْ فِي مُهِمَّاتِ دِينِ الْإِسْلَامِ حَقّ الْقِيَام، وَحُبِّهِمْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَحُبّه إِيَّاهُمْ، وَبَذْلهمْ أَمْوَالهمْ وَأَنْفُسهمْ بَيْن يَدَيْهِ، وَقِتَالهمْ وَمُعَادَاتهمْ سَائِر النَّاس إِيثَارًا لِلْإِسْلَامِ. وَعَرَفَ مِنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب - رضي الله عنه - قُرْبه مِنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَحُبّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي نُصْرَة الْإِسْلَام وَسَوَابِقه فِيهِ، ثُمَّ أَحَبَّ الْأَنْصَارَ وَعَلِيًّا لِهَذَا، كَانَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِل صِحَّة إِيمَانِهِ وَصِدْقِهِ فِي إِسْلَامِهِ لِسُرُورِهِ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالْقِيَام بِمَا يُرْضِي اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَرَسُوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَمَنْ أَبْغَضهمْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى نِفَاقه وَفَسَاد سَرِيرَته. وَأَمَّا قَوْله: (فَلَق الْحَبَّة) فَمَعْنَاهُ شَقَّهَا بِالنَّبَاتِ. وَقَوْله (وَبَرَأَ النَّسَمَة) أَيْ خَلَقَ النَّسَمَة وَهِيَ بِفَتْحِ النُّون وَالسِّين. وَهِيَ الْإِنْسَان، وَقِيلَ: النَّفْس». (اهـ باختصار).

وقال القرطبي في شرحه لهذه الأحاديث في كتابه (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم): «وحُبُّ الأَْنْصَارِ ـ من حيث كانوا أنصارَ الدِّينِ ومُظهِريهِ، وباذلين أموالَهُمْ وأَنْفُسَهُمْ في إعزازِهِ وإعزازِ نبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - وإعلاءِ كلمته ـ دلالةٌ قاطعةٌ على صِحَّةِ إيمانِ مَنْ كان كذلك، وصحَّةِ محبَّته للنبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وبُغْضُهم لذلك دلالةٌ قاطعةٌ على النفاق. وكذلك القولُ في حُبِّ عليٍّ وبغضه - رضي الله عنه - وعنهم أجمعين: فمَنْ أحبَّه لسابقته في الإسلام، وقِدَمِهِ في الإيمان، وغَنَائِهِ فيه، وذبِّه عنه وعن النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولمكانته منه - صلى الله عليه وآله وسلم - وقرابتِهِ ومصاهرته، وعلمِهِ وفضائله، كان ذلك منه دليلًا قاطعًا على صِحَّةِ إيمانه ويقينِهِ ومحبتِهِ للنبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومَنْ أبغضَهُ لشيء من ذلك، كان على العكس. قال الشيخ - رحمه الله -: «وهذا المعنَى جارٍ في أعيان الصحابة - رضي الله عنهم - كالخلفاء، والعَشَرة، والمهاجرين ـ بل وفي كُلِّ الصحابة؛ إذْ كُلُّ واحدٍ منهم له سابقةٌ وغَنَاءٌ في الدِّين، وأَثَرٌ حَسَنٌ فيه؛ فحبُّهم لذلك المعنى محضُ الإيمان، وبُغْضُهُمْ له محضُ النفاق. وقد دَلَّ على صحَّة ما ذكرناه: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما خرَّجه البَزَّار في أصحابه كلِّهم: «فَمَنْ أحبَّهم فبحبِّي أحبَّهم، ومَنْ أبغضَهُمْ فببغضي أبغَضَهُمْ» (¬1). ¬

_ (¬1) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي، اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَمَنْ آذَى اللهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» (رواه الإمام أحمد والترمذي، وصحح إسناده حمزة الزين في تحقيقه للمسند (20456)، ولم أجده في مسند البزار). (اللهَ اللهَ) أَيْ اِتَّقُوا اللهَ ثُمَّ اِتَّقُوا اللهَ (فِي أَصْحَابِي) أَيْ فِي حَقِّهِمْ. وَالْمَعْنَى لَا تُنْقِصُوا مِنْ حَقِّهِمْ وَلَا تَسُبُّوهُمْ، أَوْ التَّقْدِيرُ: أُذَكِّركُمْ اللهَ ثُمَّ أَنْشُدُكُمْ اللهَ فِي حَقِّ أَصْحَابِي وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ كَمَا يَقُولُ الْأَبُ الْمُشْفِقُ اللهَ اللهَ فِي حَقِّ أَوْلَادِي. (لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا) أَيْ هَدَفًا تَرْمُوهُمْ بِقَبِيحِ الْكَلَامِ كَمَا يُرْمَى الْهَدَفُ بِالسَّهْمِ. (فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ) أَيْ بِسَبَبِ حُبِّهِ إِيَّايَ أحَبَّهُمْ، أَوْ بِسَبَبِ حُبِّي إِيَّاهُمْ أحَبَّهُمْ. (وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضُهُمْ) أَيْ إِنَّمَا أَبْغَضُهُمْ بِسَبَبِ بُغْضِهِ إِيَّايَ. (أَنْ يَأْخُذَهُ) أَيْ يُعَاقِبَهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ. (اهـ باختصار من تحفة الأحوذي).

تنبيه: مَنْ أبغض بعضَ مَنْ ذَكَرْنا من الصحابة - رضي الله عنهم - من غير تلك الجهات التي ذكرناها، بل لأمرٍ طارئ، وحدَثٍ واقعٍ ـ من مخالفةِ غَرَضٍ، أو ضررٍ حصل، أو نحوِ ذلك ـ لم يكنْ كافرًا ولا منافِقًا بسبب ذلك؛ لأنهم - رضي الله عنهم - قد وقعتْ بينهم مخالفاتٌ كثيرةٌ عظيمة، وحروبٌ هائلة، ومع ذلك فلم يكفِّرْ بعضُهُمْ بعضًا، ولا حُكِمَ عليه بالنفاقِ لِمَا جرى بينهم من ذلك، وإنما كان حالُهُمْ في ذلك حالَ المجتهدين في الأحكام: فإمَّا أن يكونَ كلُّهم مصيبًا فيما ظهَرَ له. أو المصيبُ واحدٌ، والمخطئُ معذورْ، بل مخاطبٌ بالعملِ على ما يراه ويظنُّه مأجورْ. (اهـ كلام القرطبي باختصار). وقال الإمام الذهبي في قَوْلِ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: «وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ»: «مَعْنَاهُ: أَنَّ حُبَّ عَلِيٍّ مِنَ الإِيْمَانِ، وَبُغْضَه مِنَ النِّفَاقِ، فَالإِيْمَانُ ذُو شُعَبٍ، وَكَذَلِكَ النِّفَاقُ يَتَشَعَّبُ، فَلاَ يَقُوْلُ عَاقل: إِنَّ مُجَرَّدَ حُبِّهِ يَصيرُ الرَّجُلُ بِهِ مُؤْمِنًا مُطلَقًا، وَلاَ بِمُجَرَّدِ بُغضه يصيرُ بِهِ الموحِّد مُنَافِقًا خَالصًا. فَمَنْ أَحَبّه وَأَبغض أَبَا بَكْرٍ، كَانَ فِي مَنْزِلَة مَنْ أَبغضه، وَأَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ، فَبُغضهُمَا ضَلاَلٌ وَنفَاق، وَحبُّهُمَا هُدَىً وَإِيْمَان» (¬1). إن عليًّا - رضي الله عنه - قد أحبه قوم لا خلاق لهم ـ وهم الشيعة , وأبغضه قوم من النواصب. فالمراد بالحديث: «لا يحبك الحب الشرعي المعتد به عند الله تعالى , أما حب الشيعة المتضمن للبلايا والمصائب , فلا عبرة به , بل هو وبال على صاحبه كما أحبت النصارى المسيح - عليه السلام -». ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (12/ 510).

إن الشيعة قد رفعوا بعض المخلوقين ـ وهم الأئمة عندهم ومنهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ـ إلى مرتبة جبار السماوات والأرض، يدعونهم من دون الله - عز وجل - ويعتقدون فيهم النفع والضر، ويعتقدون أنهم يعلمون الغيب. قال القحطاني في نونيته: واحفظْ لأهلِ البيتِ واجبَ ... حقِّهم واعرف عليًّا أيما عرفانِ لا تنْتَقِصْه ولا تَزِدْ في قدرِهِ ... فعليهِ تَصْلَى النارَ طائفتانِ إحداهما لا ترتَضِيهِ خليفةً ... وتَنُصُّهُ الأخرَى إلهًا ثَانِ ثانيًا: من زعم أنه قد شق عن قلب معاوية - رضي الله عنه - واطّلع على ما فيه وعلم أنه كان يبغض عليًّا - رضي الله عنه - فليأتِنَا بما يثبت ذلك. ثالثًا: إن معاوية ما ترك مبايعة عليًا - رضي الله عنهما - طمعًا في الخلافة أو الملك ولم يقاتله من أجل ذلك وإنما طلبًا لدم عثمان. ومعاوية - رضي الله عنه - كان متأولًا في قتاله لعلي - رضي الله عنه -. قال ابن كثير: «وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: «هل تنازع عليًا أم أنت مثله؟». فقال: «والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني ... ». ونقل ابن كثير أيضًا عن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: «أتبكيه وقد قاتلته؟». فقال: «ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم» (¬1). ولما سئل القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء عما جرى بين علي معاوية - رضي الله عنهما - , وهل يجوز أن يضاف إلى معاوية بذلك ظلم أو فسق؟ قال: «لا يجوز أن يضاف إليه شيء من ذلك، بل يقال: إنه اجتهد , وله أجر على اجتهاده , ووجه اجتهاده أنه ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (8/ 132، 133)، وانظر: تاريخ دمشق (59/ 142).

قال: استعملني الخليفتان من قبل , وولَّيَاني على الشام , عمر وعثمان - رضي الله عنهما - , وأنا على ما استعملاني عليه , حتى يجتمع الناس على إمام , فأسلِّم إليه ما في يدي , وأنا مطالب بدم عثمان , لأني ابن عمه ووليه , وأحق الناس به. والله تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} (الإسراء:33)» (¬1). قال ابن حزم: «لم ينكر معاويةُ قط فضلَ عليٍّ واستحقاقه بالخلافة لكن اجتهاده أدّاه إلى أنْ رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان - رضي الله عنه - على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان» (¬2). قال الأشعري: «وكذلك ما جرى بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - كان على تأويل واجتهاد وكل الصحابة مأمونون غير متهمين في الدين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم، وتعبَّدَنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم والتّبَرِّي من كل من ينقص أحدًا منهم رضي الله عن جميعهم» (¬3). رابعًا: إن الصحابة الذين حضروا القتال سواء مع علي أو معاوية - رضي الله عنهم - ما فهموا ما فهمه بعض أهل الأهواء من هذه النصوص التي ذكروها. فلم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق أو الكفر أفلا يسعهم ما وسعهم! روى ابن عساكر من طريق سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: ذكر عند عليّ يوم صِفِّين ـ أو يوم الجمل ـ فذكرنا الكفر، قال: «لا تقولوا ذلك، زعموا أنا بغَيْنَا عليهم، وزعمْنا أنهم بغَوْا علينا؛ فقاتلناهم على ذلك» (¬4). ¬

_ (¬1) تنزيه خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان من الظلم والفسق في مطالبته بدم أمير المؤمنين عثمان (ص 83). (¬2) الفصل (3/ 75). (¬3) الإبانة (78). (¬4) تاريخ دمشق (1/ 343)، وإسناده صحيح.

وتذكر مصادر الشيعة الاثني عشرية أن معاوية ما قاتل عليًّا إلا في أمر عثمان - رضي الله عنهم -، وهذا هو ما يؤكده عليّ - رضي الله عنه - فقد أورد الشيعي الشريف الرضي في كتابه (نهج البلاغة) خطبة نسب فيها لعليٍّ - رضي الله عنه - قوله: «وبدءُ أمرِنا أنّا التقَينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله، ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء» (¬1). فهذا عليّ - رضي الله عنه - يؤكد أن الخلاف بينه وبين معاوية هو مقتل عثمان - رضي الله عنهم - جميعًا وليس من أجل الخلافة أو التحكم في رقاب المسلمين كما يدعي الشيعة، ويقرر أن معاوية وشيعته هم أهل إسلام وإيمان ولكن القضية اجتهادية كل يرى نفسه على الحق في مسألة عثمان. ولقد ذكر الحميري الشيعي عن جعفر عن أبيه أن عليًّا - عليه السلام - كان يقول لأهل حربه: «إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ولم يقاتلونا على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنّا على حق ورأوا أنهم على حق». وروى رواية أخرى عن جعفر عن أبيه محمد الباقر: «إن عليًا - عليه السلام - لم يكن ينسب أحدًا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكن يقول: «هم إخواننا بغوا علينا» (¬2). ¬

_ (¬1) نهج البلاغة (3/ 648). (¬2) قرب الإسناد للحميري الشيعي (ص45 ط. إيران).

الشبهة الرابعة والثلاثون هل تعامل معاوية - رضي الله عنه - بالربا؟!

الشبهة الرابعة والثلاثون هل تعامل معاوية - رضي الله عنه - بالربا؟! عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ فَجَاءَ أَبُو الْأَشْعَثِ. قَالَ: قَالُوا: «أَبُو الْأَشْعَثِ، أَبُو الْأَشْعَثِ»، فَجَلَسَ. فَقُلْتُ لَهُ: «حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ». قَالَ: «نَعَمْ، غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَهَا فِي أُعْطِيَاتِ النَّاسِ؛ فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَامَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ؛ فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى». فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: «أَلَا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ. فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ: «لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ ـ أَوْ قَالَ وَإِنْ رَغِمَ ـ مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ» (رواه مسلم). الجواب: أولًا: القول بجواز ربا الفضل وأنه لا يحرم إلا في نسيئة لم ينفرد به معاوية - رضي الله عنه - , بل جاء عن جمع من الصحابة: عبدالله بن عباس , وابن عمر , والبراء بن عازب , وزيد بن أرقم - رضي الله عنهم - , فلماذا يُخَصُّ معاوية - رضي الله عنه - دون بقية هؤلاء؟! عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّرْفِ؛ فَقَالَ: أَيَدًا بِيَدٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ. فَأَخْبَرْتُ أَبَا سَعِيدٍ فَقُلْتُ: إِنِّي سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ: أَيَدًا بِيَدٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ إِنَّا سَنَكْتُبُ إِلَيْهِ فَلَا يُفْتِيكُمُوهُ. قَالَ: فَوَاللهِ لَقَدْ جَاءَ بَعْضُ فِتْيَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِتَمْرٍ فَأَنْكَرَهُ فَقَالَ: «كَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ تَمْرِ أَرْضِنَا». قَالَ: «كَانَ فِي تَمْرِ أَرْضِنَا أَوْ فِي تَمْرِنَا الْعَامَ بَعْضُ الشَّيْءِ فَأَخَذْتُ هَذَا وَزِدْتُ بَعْضَ الزِّيَادَةِ». فَقَالَ: «أَضْعَفْتَ، أَرْبَيْتَ لَا تَقْرَبَنَّ هَذَا، إِذَا رَابَكَ مِنْ تَمْرِكَ شَيْءٌ فَبِعْهُ ثُمَّ اشْتَرِ الَّذِي تُرِيدُ مِنْ التَّمْرِ». (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّرْفِ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا، فَإِنِّي لَقَاعِدٌ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَسَأَلْتُهُ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ: «مَا زَادَ فَهُوَ رِبًا»، فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِمَا فَقَالَ: «لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، جَاءَهُ صَاحِبُ نَخْلِهِ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ طَيِّبٍ ـ وَكَانَ تَمْرُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - هَذَا اللَّوْنَ ـ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَنَّى لَكَ هَذَا؟». قَالَ: «انْطَلَقْتُ بِصَاعَيْنِ فَاشْتَرَيْتُ بِهِ هَذَا الصَّاعَ فَإِنَّ سِعْرَ هَذَا فِي السُّوقِ كَذَا وَسِعْرَ هَذَا كَذَا». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَيْلَكَ، أَرْبَيْتَ، إِذَا أَرَدْتَ ذَلِكَ فَبِعْ تَمْرَكَ بِسِلْعَةٍ ثُمَّ اشْتَرِ بِسِلْعَتِكَ أَيَّ تَمْرٍ شِئْتَ». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «فَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ رِبًا أَمْ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ؟». قَالَ: «فَأَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ بَعْدُ فَنَهَانِي وَلَمْ آتِ ابْنَ عَبَّاسٍ». قَالَ: «فَحَدَّثَنِي أَبُو الصَّهْبَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهُ بِمَكَّةَ فَكَرِهَهُ» (رواه مسلم).

وعَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: «الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ مِثْلًا بِمِثْلٍ مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى»، فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ غَيْرَ هَذَا، فَقَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: «أَرَأَيْتَ هَذَا الَّذِي تَقُولُ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟». فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَلَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَلَكِنْ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» (رواه مسلم). قال الإمام النووي في شرحه لهذه الأحاديث من صحيح مسلم: «مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا كَانَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ، وَأَنَّهُ يَجُوز بَيْع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ، وَدِينَار بِدِينَارَيْنِ، وَصَاع تَمْر بِصَاعَيْنِ مِنْ التَّمْر، وَكَذَا الْحِنْطَة وَسَائِر الرِّبَوِيَّات، كَانَا يَرَيَانِ جَوَاز بَيْع الْجِنْس بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا، وَأَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُم فِي شَيْء مِنْ الْأَشْيَاء إِلَّا إِذَا كَانَ نَسِيئَة. وَهَذَا مَعْنَى قَوْله: «إِنَّهُ سَأَلَهُمَا عَنْ الصَّرْف فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا»، يَعْنِي الصَّرْف مُتَفَاضِلًا كَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَكَانَ مُعْتَمَدهمَا حَدِيث أُسَامَة بْن زَيْد: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة» ثُمَّ رَجَعَ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس عَنْ ذَلِكَ وَقَالَا بِتَحْرِيمِ بَيْع الْجِنْس بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا حِين بَلَغَهُمَا حَدِيث أَبِي سَعِيد كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ رُجُوعهمَا صَرِيحًا. وَهَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم تَدُلّ عَلَى أَنَّ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُمَا حَدِيث النَّهْي عَنْ التَّفَاضُل فِي غَيْر النَّسِيئَة، فَلَمَّا بَلَغَهُمَا رَجَعَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا حَدِيث أُسَامَة: «لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَة» فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْك الْعَمَل بِظَاهِرِهِ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى نَسْخه. وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ تَأْوِيلَات: أَحَدهَا: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى غَيْر الرِّبَوِيَّات، وَهُوَ كَبَيْعِ الدَّيْن بِالدَّيْنِ مُؤَجَّلًا بِأَنْ يَكُون لَهُ عِنْده ثَوْب مَوْصُوف، فَيَبِيعهُ بِعَبْدٍ مَوْصُوف مُؤَجَّلًا، فَإِنْ بَاعَهُ بِهِ حَالًّا جَازَ.

الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْأَجْنَاس الْمُخْتَلِفَة، فَإِنَّهُ لَا رِبَا فِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّفَاضُل، بَلْ يَجُوز تَفَاضُلهَا يَدًا بِيَدٍ. الثَّالِث: أَنَّهُ مُجْمَل، وَحَدِيث عُبَادَة بْن الصَّامِت وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَغَيْرهمَا مُبَيِّن، فَوَجَبَ الْعَمَل بِالْمُبَيِّنِ، وَتَنْزِيل الْمُجْمَل عَلَيْهِ. هَذَا جَوَاب الشَّافِعِيّ ـ رَحِمَهُ اللهُ».انتهى كلام الإمام النووي - رحمه الله -. وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في شرح حديث أُسَامَةُ بنِ زيد أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ»: «وَالصَّرْفُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ: دَفْعُ ذَهَبٍ وَأَخْذُ فِضَّةٍ وَعَكْسُهُ، وَلَهُ شَرْطَانِ: مَنْع النَّسِيئَة مَعَ اِتِّفَاقِ النَّوْعِ وَاخْتِلَافِهِ وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ. وَمَنْع التَّفَاضُل فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَخَالَفَ فِيهِ اِبْن عُمَر ثُمَّ رَجَعَ، وَابْن عَبَّاس وَاخْتَلَفَ فِي رُجُوعِهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيق حَيَّانَ الْعَدَوِيّ: «سَأَلْت أَبَا مِجْلَز عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ: كَانَ اِبْن عَبَّاس لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا بِعَيْن يَدًا بِيَد، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيد ـ فَذَكَرَ الْقِصَّة وَالْحَدِيث، وَفِيهِ: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْل، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبًا»، فَقَالَ اِبْن عَبَّاس: «أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ»، فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ». وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْن حَدِيث أَبِي سَعِيد فَقِيلَ: مَنْسُوخ، لَكِنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: «لَا رِبًا» الرِّبَا الْأَغْلَظ الشَّدِيد التَّحْرِيم الْمُتَوَعَّد عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَب: «لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ» مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الْأَكْمَل لَا نَفْيُ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَنَفْيُ تَحْرِيم رِبَا الْفَضْل مِنْ حَدِيثِ

أُسَامَةَ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَدِيث أَبِي سَعِيد لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِالْمَنْطُوقِ، وَيُحْمَلُ حَدِيث أُسَامَةَ عَلَى الرِّبَا الْأَكْبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللهُ أَعْلَمُ». وَقَالَ الطَّبَرِيّ: «مَعْنَى حَدِيث أُسَامَة: «لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ» إِذَا اِخْتَلَفَتْ أَنْوَاع الْبَيْعِ وَالْفَضْل فِيهِ يَدًا بِيَد رِبًا جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْن حَدِيث أَبِي سَعِيد». (انتهى كلام الحافظ ابن حجر). ثانيًا: معاوية وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - ممن قالوا بجواز ربا الفضل , قالوا ذلك متأولين أن الربا لا يحرم إلا في النسيئة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرَهُمَا رَخَّصُوا فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ أَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُمُ إلَّا فِي النَّسَاءِ؛ لَا فِي الْيَدِ بِالْيَدِ ... وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَّبِعَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إلَّا بِمَا هُمْ لَهُ أَهْلٌ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى عَفَا لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أَخْطَئُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة:286)، قَالَ اللهُ: «قَدْ فَعَلْت» (¬1)، وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَتَّبِعَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُطِيعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَنَسْتَغْفِرَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ؛ فَنَقُولَ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الْآيَةَ (الحشر:10). وَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَا كَانَ يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ. وَنُعَظِّمُ أَمْرَهُ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ للهِ وَرَسُولِهِ؛ وَنَرْعَى حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَمَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

وَمَنْ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي التَّقْلِيدِ وَآذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا: فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ. وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللهِ وَأَحْسَنَ إلَى عِبَادِ اللهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُتَّقِينَ» (¬1). ثالثًا: قد يُحْمَلُ قولُ مَن قال مِن الصحابة - رضي الله عنهم - بجواز ربا الفضل , على أن ذلك لم يبلغه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ومن ذلك قول معاوية - رضي الله عنه - لما بلغه عن عبادة النهي عن ربا الفضل: «أَلَا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ» (رواه مسلم). قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: «وَهَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم تَدُلّ عَلَى أَنَّ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُمَا حَدِيث النَّهْي عَنْ التَّفَاضُل فِي غَيْر النَّسِيئَة، فَلَمَّا بَلَغَهُمَا رَجَعَا إِلَيْهِ.» ا. هـ. وكذلك معاوية - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (32/ 238).

الشبهة الخامسة والثلاثون هل قتل معاوية - رضي الله عنه - خمسة وعشرين بدريا يوم صفين؟!

الشبهة الخامسة والثلاثون هل قتل معاوية - رضي الله عنه - خمسة وعشرين بدريًا يوم صِفِّين؟! الجواب: إن صِفِّين لم يحضرها من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا عددٌ قليلٌ بل قيل لم يحضرها إلا خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه -؛ فعن أمية بن خالد قال: «قلت لشعبة: «إن أبا شيبة حدثنا عن الحكم عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه قال: «شهد صِفِّين من أهل بدر سبعون رجلًا». قال: «كذب والله؛ لقد ذاكرتُ الحكم ذاك، وذكرناه في بيته فما وجدنا شهد صِفِّين أحدٌ من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت (¬1). وعن روح قال: حدثنا شعبة قال: «ذاكرتُ الحكم مَن شهد صِفِّين من أهل بدر فأثبت فيهم خزيمة بن ثابت، وكان شعبة ينكر أن يكون أبو الهيثم بن التيهان شهد صِفِّين» (¬2). قال الإمام الذهبي: «قَالَ أُمَيَّةُ بنُ خَالِدٍ: قُلْتُ لِشُعْبَةَ: «إِنَّ أَبَا شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَنِ الحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ صِفِّينَ شَهِدَهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَبْعُوْنَ رَجُلًا». قَالَ: «كَذَبَ أَبُو شَيْبَةَ، لقَدْ ذَاكَرتُ الحَكَمَ، فَمَا وَجَدْنَا أَحَدًا شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، غَيْرَ خُزَيْمَةَ بنِ ثَابِتٍ». «قُلْتُ ـ أي الذهبي ـ: «قَدْ شَهِدَهَا عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ، وَالإِمَامُ عَلِيٌّ أَيْضًا» (¬3). وقال الحافظ ابن كثير: «وقد قيل أنه شهدها من أهل بدر سهل بن حنيف وكذا ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في العلل ومعرفة الرجال (1/ 287)، وابن عدي في الكامل (239)، والخلال في السنة (2/ 465)، رقم (726) , والخطيب في تاريخ بغداد (6/ 113)، وسنده جيد. (¬2) رواه الإمام أحمد في «العلل ومعرفة الرجال» (1/ 431). (¬3) سير أعلام النبلاء (7/ 221).

أبو أيوب الأنصاري» (¬1). وعن إسماعيل بن علية قال: حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين قال: «هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله عشرة آلاف فما حضر فيها مائة بل لم يبلغوا ثلاثين» (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض» (¬3). وروى معمر بن راشد في (جامعه) عن أيوب عن ابن سيرين قال: «ثارت الفتنة , وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عشرة آلاف , لم يخِفّ (¬4) منهم أربعون رجلًا». قال معمر: «وقال غيره: «خَفَّ معه ـ يعني عليًّا - رضي الله عنه - ـ مئتان وبضعة وأربعون من أهل بدر , منهم أبو أيوب , وسهل بن حنيف , وعمار بن ياسر» (¬5). ورواه الحاكم (¬6) من طريق معمر بن راشد إلا أنه جعل آخره من كلام ابن سيرين فوهم ولم يُصِبْ!. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (11/ 491). (¬2) رواه الإمام أحمد في «العلل» (3/ 182) (4787)، والخلال في «السنة» (2/ 446) رقم (728)، وابن شبة في «أخبار المدينة» (2286). (¬3) منهاج السنة (6/ 236). (¬4) خَفَّ القوم عن منزلهم خُفُوفًا: ارْتحَلُوا مسرعين، وقيل: ارتحلُوا عنه فلم يَخُصُّوا السرعة، والخُفُوفُ سُرعةُ السير من المنزل، يقال: حان الخُفُوفُ. (انظر: لسان العرب، مادة خفف). (¬5) رواه معمر بن راشد في جامعه (20735). (¬6) المستدرك (5/ 627) (8407).

فقول من قال: «خَفَّ مع علي - رضي الله عنه - مئتان وبضعة وأربعون من أهل بدر» مردود من وجوه: 1 - أنه لا يُدرى من قال هذا، وعَزْوُ الحاكم في (مستدركه) هذا إلى ابن سيرين لم يُصِبْ فيه فقد رواه هو بنفسه من طريق معمر (¬1). والذي في (جامع معمر): «وقال غيره: ..... ». أي غير ابن سيرين. 2 - أن هذا يخالف ما ذُكِر من الآثار الصحيحة في أن صِفِّين لم يشهدها إلا عددٌ قليلٌ من الصحابة لاسيما أهل بدر. فصفين لم يدركها إلا قلة من أهل بدر فعن سعيد بن عامر قال: حدثنا هشام عن محمد قال: «وقعت الفتنة وبالمدينة عشرة آلاف، أو قال: أكثر من عشرة آلاف من أصحاب رسول الله فما دخل الفتنة منهم كلهم إلا ثلاثون» (¬2). بل حتى وقعة الجمل لم يحضرها إلا عددٌ قليلٌ من الصحابة - رضي الله عنهم -؛ قال ابن كثير: «ولم يكن في الفريقين من الصحابة إلا القليل» (¬3). وقال: «يقال: لم يكن في الفريقين مائة من الصحابة , وعن أحمد: «ولا ثلاثون» (¬4). وروى الحاكم ومعمر بن راشد عن سعيد ابن المسيب قال: «ثارت الفتنة الأولى فلم يبق ممن شهد بدرًا أحدٌ، ثم كانت الفتنة الثانية فلم يبق ممن شهد الحديبية أحد» , قال: «وأظن لو كانت الثالثة لم ترفع وفي الناس طَبَاخ» (¬5). ورواه البخاري في صحيحه عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الأُولَى ـ يَعْنِى مَقْتَلَ عُثْمَانَ ـ فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الثَّانِيَةُ ـ يَعْنِى ¬

_ (¬1) فقال: أخبرني محمد بن علي الصنعاني، بمكة حرسها الله تعالى، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين .... (¬2) رواه ابن شبة في أخبار المدينة (2285). (¬3) البداية والنهاية (11/ 474). (¬4) اختصار علوم الحديث (2/ 500). (¬5) رواه الحاكم في المستدرك (8505) ومعمر بن راشد في جامعه (20739) وسنده صحيح.

الْحَرَّةَ ـ فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ أَحَدًا، ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ فَلَمْ تَرْتَفِعْ وَلِلنَّاسِ طَبَاخٌ». قال ابن حجر في (فتح الباري): «قَوْله: (وَقَعَتْ الْفِتْنَة الْأُولَى) يَعْنِي مَقْتَل عُثْمَان. (فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَاب بَدْرٍ أَحَدًا)، أَيْ أَنَّهُمْ مَاتُوا مُنْذُ قَامَتْ الْفِتْنَة بِمَقْتَلِ عُثْمَان إِلَى أَنْ قَامَتْ الْفِتْنَة الْأُخْرَى بِوَقْعَةِ الْحَرَّة، وَكَانَ آخِر مَنْ مَاتَ مِنْ الْبَدْرِيِّينَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ، وَمَاتَ قَبْل وَقْعَة الْحَرَّة بِبِضْعِ سِنِينَ. قَوْله: (ثُمَّ وَقَعَتْ الْفِتْنَة الثَّانِيَة يَعْنِي الْحَرَّة إِلَخْ) كَانَتْ الْحَرَّة فِي آخِر زَمَن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة (¬1). (ثُمَّ وَقَعَتْ الثَّالِثَة) قَالَ اِبْن عَبْد الْحَكَم: هُوَ يَوْم خُرُوج أَبِي حَمْزَة الْخَارِجِيّ، قُلْت: كَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَة مَرْوَان بْن مُحَمَّد بْن مَرْوَان بْن الْحَكَم سَنَة ثَلَاثِينَ وَمِائَة. وَقَوْله (طَبَاخٌ): أَيْ قُوَّة. (اهـ باختصار). تم بحمد الله ¬

_ (¬1) لَمَّا خَلَعَ أَهْل الْمَدِينَة بَيْعَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَبَايَعُوا عَبْد اللَّه بْن حَنْظَلَة بْن أَبِي عَامِر الْأَنْصَارِيّ. وعَنْ نَافِعٍ قَالَ: «جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: «اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً»، فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُهُ ـ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» (رواه مسلم).

أهم المراجع

أهم المراجع * البداية والنهاية لابن كثير. * تاريخ دمشق لابن عساكر. * العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للقاضي أبي بكر بن العربي. * شبهات حول الصحابة والرّدّ عليها، أَميرُ المُؤْمِنين مُعاويةُ بنُ أَبي سُفْيَان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وتقديم وتعليق: محمد مال الله. * الأحاديث النبوية في فضائل معاوية بن أبي سفيان، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. * من أقوال المنصفين في الصحابي الخليفة معاوية - رضي الله عنه -، للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر. * تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدّثين، للأستاذ الدكتور محمد أمحزون. * مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري، للدكتور خالد الغيث. * سل السِّنان في الذَبّ عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - لسعد بن ضيدان السبيعي. * أبحاث من مسودة كتاب من فضائل وأخبار معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - دراسة حديثية، لمحمد زياد بن عمر التكلة. * الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، للدكتور: علي محمد الصًّلاَّبيَّ. * حقبة من التاريخ، للشيخ عثمان الخميس. * شبهات وأباطيل حول معاوية ابن أبي سفيان، لأبي عبد الله الذهبي. * معاوية بن أبي سفيان بين البخس والإنصاف، موقع البرهان 5 رمضان 1427.

§1/1