معاني النحو

فاضل صالح السامرائي

معاني النحو الجزء الأول الدكتور فاضل صالح السامرائي دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم معاني النحو

الطبعة الأولى 1420 هـ - 2000 م

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة اللهم انفعني بما علمتني وزدني علمًا. وبعد: فإنه من المعلوم أن علم (النحو) يُعنى، أول ما يعنى، بالنظر في أواخر الكلم، وما يعتريها من إعراب وبناء، كما يعنى بأمور أخرى على جانب كبير من الأهمية، كالذكر، والحذف والتقديم، والتأخير، وتفسير بعض التعبيرات، غير أنه يولي العناية الأوى للاعراب. وهناك موضوعات ومسائل نحوية كثيرة، لا تقل أهمية عن كل ما بحثه النحاة، بل قد تفوق كثيرا منها، لا تزال دون بحث، لم يتناولها العلماء بالدرس ولم يولوها النظر. قد أبدو مغاليا في هذا الزعم، ولكن هذا الزعم حقيقة. أننا عجز عن فهم كثير من التعبيرات النحوية، أو تفسيرها، ولا نستطيع التمييز بين معانيها، فمن ذلك على سبيل المثال. ما الفرق في المعنى بين قولك: (لا رجلَ - بالفتح - في الدار)، و (ما من رجل في الدار) مع أن كلتا العباراتين لنفي الجنس على سبيل الاستغراق؟ ما الفرق بين قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} وقوله: {وما من إله إلا الله} لم نفى العبارة الأولى بـ (لا) والثانية بـ (ما)؟ ما الفرق في المعنى بين قولك (ليس محمد حاضرا) و (ما محمد حاضرا) و (إن محمد حاضرا) أقول ما الفرق في المعنى، وليس في الاعراب؟ ما الفرق بين قوله تعالى: {قل لست عليكم بوكيل} وقوله: {وما أنا عليكم بوكيل} لماذا نفى العبارة الأولى بليس، والثانية بـ (ما)؟

ما الفرق بين قوله تعالى: {وما أنا إلا نذير مبين} وقوله: {إن أنا إلا نذير مبين} لماذا نفى العبارة الأولى بـ (ما) والثانية بـ (إن)؟ أهو لمجرد التغيير في التعبير، أم هو لمعنى مقصود؟ ما الفرق بين التعليل باللام، وكي؟ أهناك فرق في المعنى بين قولك (جئت لاستفيد) و (جئت كي استفيد) أم هما بمعنى واحد؟ قال تعالى: {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق} [القصص: 13] فجاء بالتعليل الأول بكي (كي تقر) والثاني باللام (لتعلم) فلم كان ذاك؟ أهذا التغيير لمعنى مقصود أم هو لمجرد التغيير؟ ثم ما الفرق بين أنواع التعليل المختلفة؟ هناك تعليل باللام مثل {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [هود: 118 - 119]. وتعليل بالباء مثل: {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10]. وتعليل بمن مثل: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} [الأنعام: 151]. وتعليل بفي مثل: {لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم} [النور: 14]. وتعليل بعن كقوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه} [التوبة: 114]. وتعليل بعلى كقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]. فهل التعليل بهذه الأدوات المختلفة واحد؟ هل هناك فرق في المعنى بين (مع)، و (واو) المعية، في نحو قولك: " جئت مع محمد" و " جئت ومحمدا"؟ ما الفرق في المعنى، بين " واو" رب، في نحو قوله:

وليل كأن الصبح في اخرياته ... حشاشة نصل ضم إفرنده غمد وقوله: رب ليل كأنه الصبح في الحسـ ... ن وإن كان اسود الطيلسان ما الغرض من الاتيان بواو الحال في نحو قوله: (جاء محمد وبيده حقيبة)؟ وما الفرق بين ذكرها وحذفها؟ ما الفرق في المعنى بين قولك، إن تسهر تتعب، إن تسهر تعبت، إن سهرت تعبت، إن سهرت تتعب (بالجزم)، إن سهرت تتعب (بالرفع) إن سهرت فتتعب، إن سهرت فأنت تتعب، إن أنت سهرت تعبت، أنت إن سهرت تعبت، أنت تتعب إن سهرت؟ ما الفرق في المعنى بين قولك: عندي سوار ذهب - بالاضافة. وعندي سوار ذهبا. وعندي سوار ذهب - بالاتباع وعندي سوار من ذهب وعندي سوار من الذهب؟ ما الفرق بين قولك (جئت إكرما لك) و (جئت لاكرام لك)؟ إن النحاة يقولون: كلاهما جائز ونحن نقول: نعم كلاهما جائز، ولكن هل ثمة فرق بينهما في المعنى؟ وغير ذلك وغيره، مما لايخص موضوعا دون موضوع بل هو يعم جميع الموضوعات النحوية بلا استثناء. فهناك في كل موضوع سؤالات أكثر مما ذكرت لا تزال بها حاجة إلى الإجابة عنها.

ربما لا أكون مغاليا إذا قلت نحن لا نفهم اللغة كما ينبغي لأن أكثر دراستنا تتعلق بالعلاقات الظاهرة بين الكلمات أما المعنى فهو بعيد عن تناولنا وفهمنا. بل ربما لا أكون مغالبا إذا قلت أننا نجهل أكثر مما نعلم فيما نحسب أننا نعلم. ومن هنا محتاجون إلى (فقه) للنحو يصل إلى درجة الضرورة. صحيح أن قسما من المسائل المتعلقة بالمعنى عرض لها علم النحو، وعلم البلاغة، لكن لا يزال كثير منها دون نظر. ومن ذلك على سبيل المثال، ما عرضته قبل قليل، فإن أكثر هذه المسائل لم تبحث لا في كتب النحو، ولا في كتب البلاغة، ولا في غيرها من كتب اللغة، في حدود ما أعلم. قد تكون هناك شذرات، أو عبارات متناثرة، وردت عرضا في كتاب تفسير، أو في بحث اعجاز، أو في كتاب أدب، ولكن أكثر هذه المسائل بقيت بلا جواب. أن دراسة النحو على أساس المعنى، علاوة على كونها ضرورة فوق كل ضرورة، تعطي هذا الموضوع نداوة وطراوة، وتكسبه جدة وطرافة، بخلاف ما هو عليه الآن من جفاف وقسوة. إن الدارس له على هذا النهج، يشعر بلذة عظيمة وهو ينظر في التعبيرات ودلالتها المعنوية، ويشعر باعتزاز، بانتسابه إلى هذه اللغة الفنية، الثرية، الحافلة بالمعاني الدقيقة الجميلة، ثم هو بعد ذلك يحرص على هذه اللغة الدافقة بالحيوية، وهو وراء كل ذلك يحاول تطبيق هذه الأوجه في كلامه، ويشعر بمتعة في هذا التطبيق. أن الجهل بالمعنى أدى إلى أن تختفي، وتموت ظواهر لغوية كانت شائعة مستعملة ومن ذلك على سبيل المثال، ظاهرة " القطع" الجميلة الدلالة، والتي كانت شائعة شيوعا كبيرا في الشعر، والنثر، في القرآن وغيره، وذلك نحو قولك" مررت بمحمد الكريم أو الكريم " واكتفى بالاتباع، علما بأن دلالة القطع، تختلف عن دلالة الاتباع، وإن دلالة القطع إلى الرفع تختلف عن دلالة القطع إلى النصب.

إن الأوجه النحوية ليست مجرد استكثار من تعبيرات لا طائل تحتها، كما يتصور بعضهم، وإن جوزا أكثر من وجه تعبيري ليس معناه أن هذه الأوجه ذات دلالة معنوية واحدة، وإن لك الحق أن تستعمل أيها تشاء كما تشاء وإنما لكل وجه دلالته فإذا أردت معنى ما لزمك إن تستعمل التعبير الذي يؤديه، ولا يمكن أن يؤدي تعبيران مختلفان معنى واحدا، إلا إذا كان ذلك لغة، نحو قولك" ما محمد حاضرا" و " ما محمد حاضر" فالأولى لغة حجازية، والثانية تميمية، ولا يترتب على هذا اختلاف في المعنى. وفيما عدا ذلك لابد أن يكون لكل تعبير معنى، إذ كل عدول من تعبير إلى تعبير، لابد أن يصحبه عدول من معنى إلى معنى، بالأوجه التعبيرية المتعددة، إنما هي صور لأوجه معنوية متعددة. إن هذا الكتاب محاولة في فقه النحو على النهج الذي اسلفته، إنه محاولة للتمييز بين التراكيب المختلفة وشرح معنى كل تركيب. فهو إذن يدور على المعنى أساسا وبناء. وموضوع المعنى موضوع جليل، وحسبك من جلالته أن اللغة ما وجدت إلا للافصاح عنه. إن تأليف أي كتاب في النحو، أيسر من موضوع هذا الكتاب بكثير، وذلك لأن الأحكام النحوية مذكورة مبينة في كتب النحو لا تكلفك إلا استخراجها، وجمعها في كتاب واحد على حسب الخطة التي تريدها. وأما هذا الموضوع فليس الأمر فيه أمر جمع أحكام نحوية، ولا ذكر قواعد مبينة، وإنما هو تفسير للجملة العربية، وتبيين لمعاني التراكيب المختلفة، مما لا تجلو أغلبه في كتب النحو، وقد تفزع إلى كتب البلاغة والتفسير وغيرها من المظان، فلا تجد شيئا مما تريد. فلابد من أن تضطلع بهذه المهمة أنت بنفسك تنظر في النصوص، وتدقق في الصور التعبيرية المختلفة، لاستباط المعاني للتعبيرات المختلفة، لقد أمضيت في هذا البحث أكثر من عشرة أعوام، وكان شغلى الشاغل في الليل والنهار أتأمل النصوص،

وأديم النظر فيها، وأوازن بينها، وأدقق فيما تحتمله من معان، وكان القرآن الكريم هو المصدر الأول لهذا البحث، أفهرس آياته بحسب الموضوعات، وانظر في الفروق التعبيرية، وفي السياق الذي ورد فيه كل تعبير، إضافة إلى المظان الأخرى من كتب النحو، والبلاغة، واللغة، والتفسير، وعلوم القرآن وغيرها. وأنا لا أدعي، أني وصلت إلى أمور نهائية في كل ما بحثت، وإنما هي - كما ذكرت - محاولة للسير في هذا الطريق فإن أكن قد أصبت فمن الله، وإن أكن قد أخطأت، فمن النفس والشيطان، وأرجو ألا أحرم أجر المجتهدين في الحالتين. نسأل الله أن يلهمنا الرشد ويجنبنا الزلل، ويهدينا إلى الخير كله، ويعصمنا من الشر كله، إنه سميع مجيب. فاضل السامرائي

الجملة العربية

الجملة العربية عناصر الجملة العربية: تتألف الجملة العربية من عناصر وأبرز هذه العناصر هي: 1 - المفردة: ونعني بها الكلمة مثل أسد، سيف، شجرة. 2 - البناء الصرفي: (الصيغة) كأسماء الفاعلين، والمفعولين، والمبالغة، واختلاف الجموع للاسم الواحد، وغير ذلك مثل طاعن، ومطعان وطعان، وحمق، وأحمق، وسائد وسيد، وسنبلات وسنابل، وأشهر وشهور ونحو ذلك. وكل صيغة - في الغالب - لها دلالة تختلف عن أختها قليلا، أو كثيرا، وكما أنهم قالوا: " زيادة المباني دليل على زيادة المعاني" نرى أن " اختلاف المباني دليل على اختلاف المعاني" 3 - التأليف بنوعيه: أ - التأليف الجزئي: نحو رغب إلى، رغب في، رغب عن، فرغب إليه بمعنى تضرع إليه وابتهل، ورغب فيه أراده واستحبه، ورغب عنه عزف ومال عنه. ب - التأليف التام: كالتقديم، والتأخير، والذكر، والحذف، والتوكيد، وعدمه، وما إلى ذلك نحو: زيد قائم وقائم زيد والقائم زيد وإن زيدًا قائم وما إلى ذلك. 4 - النغمة الصوتية: وهي ذات دلالة على معنى - فالجملة الواحدة قد يختلف معناها باختلاف النغمة كأن تقول: " زيد عند مال " وتشد صوتك على " مال" وتفخم الصوت فيه فيكون المعنى، أنه ذو مال كثير أو متعدد ونحو ذلك. وتقول: " عنده مال " وترقق الصوت وتكسره فيكون معناها أنه ذو مال قليل، لا يعتد به ونحو ذلك. قال أبو الفتح عثمان بن جني: " وذلك أنك تحس في كلام القائل لذلك من التطويح، والتطريح،

والتفخيم، والتعظيم، ما يقوم مقام قوله (طويل) أو نحو ذلك. وأنت تحسن هذا من نفسك إذا تأملته وذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه فتقول: كان والله رجلا، فتزيد في قوة اللفظ بـ " الله " هذه الكلمة، وتتمكن في تمطيط اللام، وإطالة الصوت بها وعليها، أي رجلا فاضلا، أو شجاعا أو كريما ونحو ذلك. وكذلك تقول: سألناه فوجدناه إنسانًا، وتمكن الصوت بـ " إنسان " وتفخمه فتستغني بذلك عن وصفه بقوله: إنسانا سمحا، أو جوادا ونحو ذلك. وكذلك إن ذممته ووصفته بالضيق قلت: سألناه وكان إنسانا وتزوي وجهك وتقطبه فيغني ذلك عن قولك: إنسانا لئيما، أو لحزا أو مبخلا أو نحو ذلك" (¬1). "وقد برهنت التجارب الحديثة على أن الإنسان حين ينطق بلغته، لا يتبع درجة صوتية واحدة في النطق بجميع الأصوات. ومن اللغات ما يجعل لاختلاف درجة الصوت أهمية كبيرة، إذ تختلف فيها معاني الكلمات تبعا لاختلاف درجة الصوت حين النطق بها. ومن أشهر هذه اللغات اللغة الصينية إذ قد تؤدي فيها الكلمة الواحدة عدة معنا، ويتوقف كل معنى من هذه المعاني على درجة الصوت حين النطق بالكلمة. ففي اللغة الصينية كلمة (فان) مثلا تؤدي ستة معان لا علاقة بينها هي (نوم، يحرق، شجاع، واجب، نعم، مسحوق) وليس هناك من فرق سوى النغمة الموسيقية في كل حالة" (¬2). 5 - التطور التاريخي للدلالة: فدلالات التعبير الواحد قد تتغير والمعاني قد تتحول وربما كان من الصعوبة معرفة الأصل للدلالة وذلك نحو قولهم " رفع عقيرته"، بمعنى صاح، إذ ليس هناك من علاقة لغوية بين " رفع عقيرته" و " صاح" " فلو ذهبت تشتق هذا بأن تجمع معنى الصوت وبين معنى" ع ق ر " لبعد عنك وتعسفت. وأصله أن رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى ثم صرخ بأرفع صوته فقال الناس: رفع عقيرته" (¬3). ¬

_ (¬1) الخصائص: (3/ 370 - 371) (¬2) الأصوات اللغوية، لإبراهيم أنيس: (103) (¬3) الخصائص: (1/ 166)

وكقولهم " لله دره" للدلالة على التعجب فنحن حين نقول: " لله دره كاتبا أو شاعرا" لا نريد المعنى المعجمي لهذه العبارة، بل ربما لم نفهم المعنى الأصلى لها. وقد اختلف اللغويون في أصل هذا التعبير وأشهر ما ذكر فيه، إن الدر هو اللبن، فمعنى قولهم " لله دره " إن الله سقاه لبنا خاصا. " أي ما أعجب هذا اللبن الذي نزل به مثل هذا الولد الكامل في هذه الصفة" (¬1). بل ربما تكلم الناس بكلام لا يفهمون معناه ولا ألفاظه وإنما تعارفوا عليه، أو نقل من لغة أخرى، واختفى المعنى الدلالي واللغوي للأصل، فنحن في العراق نستعمل مثلا " قزل قرط" في التوبيخ، والغضب، والدعاء على المخاطب، ولكن الناس لا يفهمون القصد الحقيقي من هذا التعبير ولا معناه، وقد استفسرت من كثير من الناس عن معنى هذا التعبير الدارج فلم يعرفه منهم أحد (¬2). ومن ذلك قولهم في الاستحسان وتحبيذ الأمر عَلُوّا الذي فيه معنى التمني، ولكن الأصل لهذا التعبير قد فقد، وأظن أن أصله ألا يا حبذا فاقتصر على ألا يا تخفيفا، ثم أبدلت العامة الهمزة عينا، كقولهم القرعان، في القرآن ثم قلبت يا إلى وا فتغير التعبير إلى ما ترى، ومثل هذا التغيير كثير في اللغة. ونحو ذلك قولهم حي الله بمعنى أيا كان، تقول لصاحبك: ماذا تأخذ أهذا أم ذلك؟ فيجيبك حي الله أي: أيا كان، وبقيت مدة أفكر في أصل هذا التعبير وعلاقته بهذا المعنى، إلى أن استقر رأيي على أن أصله أيا كان ثم أي إللى كان ومعنى اللى الذي عند العامة وأحيانا نقول: هي اللى كان بإبدال الهمزة هاء ثم حذفت كان ¬

_ (¬1) التصريح: (1/ 397) (¬2) ذكر أحد الفضلاء أن هذا التعبير دخل العامية العراقية من التركية وهو مركب من كلمتين: 1 - قيزيل وهي لفظة تركية ومعناها مرض الحمى القرمزية. 2 - كورت وهي لفظة إيطالية الأصل دخلت اللغة التركية ومن معانيها القرين. فكأن الإنسان يدعو على مخاطبة بأن تلازمه الحمى القرمزية.

تأليف الجملة العربية

اختصارا، وأبدلت الهمزة جاء لتقاربهما، فكلتاهما من أحرف الحلق فصارت: حي اللي ثم حي الله. 6 - الإعراب: وهو أبرز ظاهرة، أو من أبرز الظواهر في العربية، ومن أهم عناصر الجملة فيها وسنفرد له بحثا. تأليف الجملة العربية: الجملة العربية - كما يرى النحاة - تتألف من ركنين أساسيين، هما المسند، والمسند إليه. فالمسند إليه هو المتحدث عنه ولا يكون إلا إسما، والمسند هو المتحدث به ويكون فعلا أو إسما، وهذان الركنان هما عمدة الكلام وما عداهما فضلة أو قيد. وليس المقصود بالفضلة عند النحاة أنها يجوز الاستغناء عنها من حيث المعنى، كما أنه ليس المقصود بها أنها يجوز حذفها متى شئنا. فإن الفضلة قد يتوقف عليها معنى الكلام وذلك نحو قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} [الأنبياء: 16]، فإنه لا يمكن الاستغناء عن قوله: لا عبين، وكقوله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحا} [الإسراء: 37]، فإنه لا يستغنى عن قوله " مرحا". والحذف لا يكون في العمدة، ولا في الفضلة إلا بالقرائن، فإن العمدة تحذف جوازا ووجوبا كالفضلة، وذلك كحذف كل من المبتدأ والخبر جوازا، ووجوبا، وحذف عامل المفعول المطلق جوازا، ووجوبا وحذف عامل الاغراء والتحذير جوازا ووجوبا. وهذه كلها عمد. ويحذف المفعول به والحال وغيرهما من الفضلات. فليس معنى الفضلة إذن إمكان الاستغناء عنها متى شئنا وإنما المقصود بـ {الفضلة} أنه يمكن أن يتألف كلام بدونها، إذ كل كلام لابد أن يكون فيه عمدة مذكورة أو مقدرة بخلاف الفضلة فإنه لا يمكن أن يتألف كلام بدونها نحو " محمد مسافر" و " فاض النهر ". وقد تخرج بعض التعبيرات على طريقة التأليف هذه ولكن النحاة يتأوَّلون ذلك، كالنداء نحو " يا رجل" فإنهم أوّلوه بـ " ادعو رجلا " على ما بين التعبيرين من تباين. وكالتعجب نحو " ما أعذب الماء" فإنهم أولوه بـ " شيء جعل الماء عذبا".

صورة تأليف الجملة

ولا داعي لأن تخرج كل التعبيرات الواردة في اللغة على هذا النمط من التأليف، بل ينبغي الاعتراف بأن بعض التعبيرات تكون على غير هذا النمط، وإن كان الأصل في تأليف الجملة العربية أن يكون على النمط الذي ذكروه. وقد ذهب الخليل وسيبويه إلى أنه لا خبر لـ (ألا) التي تفيد التمني نحو قولهو " ألا ماء ماء باردًا" انظر الكتاب 1/ 359، الأشموني 2/ 15، الهمع 1/ 147" وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه لا خبر لنحو قولنا (الإنسان وعمله - انظر الأشموني 1/ 217). ومعنى ذلك أن بعض التعبيرات يتألف من إسم وحرف، وبعضها يتألف من اسم ومعطوف، وهذا خروج على الطريقة العامة التي يقول بها النحاة. صورة تأليف الجملة: يظهر تأليف الجملة العربية بصورتين تبعًا للمسند: فعل مع اسم، واسم مع اسم. وبالتعبير الإصطلاحي فعل وفاعل أو نائبه، ومبتدأ وخبر نحو: أقبل سعيد، وسعيد مقبل، وكل التعبيرات الأخرى إنما هي صور أخرى لهذين الأصلين. والصورة الأساسية للجمل التي مسندها فعل، أن يتقدم الفعل على المسند إليه كما في جملة " أقبل سعيد " ولا يتقدم الفاعل (¬1) على الفعل أو بتعبير أدق لا يتقدم المسند إليه على الفعل إلا لغرض يقتضيه المقام. والصورة الأساسية للجمل التي مسندها اسم، أن يتقدم المسند إليه على المسند، أو بتعبير آخر، أن يتقدم المبتدأ على الخبر، ولا يقدم الخبر إلا لسبب يقتضيه المقام، أو طبيعة الكلام. ¬

_ (¬1) نقول هذا تجوزا وإلا فهو مبتدأ عند الجمهور.

والفرق بين هاتين الصورتين - أعني الجملة التي مسندها فعل والجملة التي مسندها اسم - أن الجملة التي مسندها فعل، إنما يدل على الثبوت. تقول مثلا: يجتهد زيد وزيد مجتهد، ويحفظ زيد وزيد حافظ، ويطلع سعيد وسعيد مطلع، ويتعلم سعيد وسعيد متعلم، ويجود مصعب ومصعب جواد ونحو ذلك. فأنت ترى في هذه الأمثلة جميعها أن الفعل يدل على التجدد والحدوث، والاسم يدل على الثبوت. تقول لصديقك: أتظن أنك تنجح في هذا العام؟ فيقول لك (أنا ناجح) أي لوثوقه بنفسه ادعى أن الأمر منته وثابت، ولو لم يكن هذا الأمر قد تم فعلا. فالفعل يدل على التجدد والحدوث، والاسم يدل على الثبوت، فإذا أردت الدلالة على الحدوث جئت بجملة مسندها فعل تقدم الفعل أو تأخر. وإذا أردت الدلالة على الثبوت جئت بجملة مسندها اسم. فالجملتان يجتهد سعيد وسعيد يجتهد كلتاهما تدلان على الحدوث (¬1)، وإنما قدم المسند إليه لغرض من أغراض التقديم. ثم إن الأصل أن يتقدم الفعل على المسند إليه - كما ذكرنا - فإذا جاء الفعل متقدما لم يسأل عن سبب تقدمه، لأنه هو الصورة الأساسية، فإن تقدم المسند إليه سألنا عن سبب تقدمه. وإذا جاء المسند إليه في الجملة التي مسندها إسم متقدما، لم نسأل عن سبب تقدمه لأنه هو الصورة الأساسية لهذا التعبير، فإن تقدم المسند سألنا عن سبب تقدمه، فالتأليف الطبيعي للجملة العربية هو نحو هذا. يقبل سعيد. سعيد مقبل. فإن تقدم سعيد في الجملة الأولى، أو تقدم مقبل في الجملة الثانية نظرنا في سبب ذلك ¬

_ (¬1) انظر: حاشية يس على التصريح (1/ 173)، حاشية الصبان (1/ 210).

دلالة الجملة العربية

وكلا التعبيرين بدرجة واحدة بالنسبة إلى المخاطب، فكلاهما إخبار أولي والمخاطب خالي الذهن عن الموضوع، ويسمى هذا الضرب من الخبر " الخبر الابتدائي" إلا أن الفرق بينهما - كما ذكرت - أن الفعل يدل على الحدوث، والاسم يدل على الثبوت. دلالة الجملة العربية: ينظر إلى دلالة الجملة العربية من جهتين: 1 - الدلالة القطعية والاحتمالية. 2 - الدلالة الظاهرة والباطنة. وسننظر في هذين النوعين. 1 - الدلالة القطعية والاحتمالية: المدقق في الجملة العربية ودلالتها على المعنى يرى أنها على ضربين: أ - تعبير نصي أو قطعي أي يدل على معنى واحد. ب - تعبير احتمالي أي يحتمل أكثر من معنى. وهذا خط واضح في طبيعة دلالة الجملة العربية يبرز للمستقري بصورة جلية، فمن ذلك على سبيل المثال أنك لا تقول: (اشتريت قدح ماء) بالاضافة (واشتريت قدحا ماء) فالجملة الأولى تعبير إحتمالي، لأنها تحتمل أنك اشتريت ماء مقدار قدح، وتحتمل أنك اشتريت القدح أي الإناء. أما الجملة الثانية فدلالتها قطعية لأنها لا تحتمل إلا أنك اشتريت ماء مقدار قدح. جاء في (شرح الأشموني): " النصب في نحو ذنوب ماء، وحب عسلا، أولى من الجر، لأن النصب يدل على أن المتكلم اراد أن عنده ما يملأ الوعاء المذكور من الجنس المذكور، وأما الجر فيحتمل أن يكون مراده ذلك وأن يكون مراده بيان أن عنده الوعاء الصالح لذلك (¬1). ¬

_ (¬1) شرح الأشموني: (1/ 197).

وتقول: (الذي يدخل الدار له جائزة) و (الذي يدخل الدار فله جائزة) فالجملة الأولى ذات دلالة إحتمالية، لأنها تحتمل أنك تعني بـ (الذي يدخل الدار) شخصا معروفا وأن الجائزة ليست مترتبة على دخول الدار بل هو مستحقها قبل ذلك، كما تحتمل أن يكون الاسم الموصول هنا مشبها بالشرط، فالجائزة مترتبة على دخول الدار فكل من يدخلها يستحق الجائزة. وأما الجملة الثانية فذات دلالة قطعية لأنها لا تعني إلا المعنى الثاني أي فيها معنى الشرط والجزاء، وهذه الفاء واقعة في جواب " الذي" كما تقع في جواب الشرط أي أن الجائزة مترتبة على دخول الدار (¬1). وتقول: " اعبد ربك خوفا وطمعًا" و (اعبد ربك خائفا وطامعا) فالمنصوب في الجملة الأولى يحتمل الحالية، والمفعول لأجله، والمفعولية المطلقة، وفي الجملة الثانية حال ليس غير. وتقول: (أنا ضارب زيد) بالإضافة، و (أنا ضارب زيدا)، فالتعبير الأول يحتمل المضي والحال، والاستقبال، فهو تعبير احتمالي، في حين أن الجملة الثانية هي نص، في أنها بمعنى الحال، أو الاستقبال، لأن إسم الفاعل المضاف، يحتمل المضي كقوله تعالى: {فاطر السماوات والأرض} [الأنعام: 14] ويحتمل الاستمرار، كقوله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى .. فالق الإصباح} [الأنعام: 95 - 96]، والحال، كقولك (انا ضارب سعيد الآن) والاستقبال، كقوله تعالى: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لاريب فيه} [آل عمران: 9]. أما الذي ينصب مفعولا به، فلا يدل إلا على الحال أو الاستقبال (¬2). وتقول (لا رجل في الدار) و (لا رجل في الدار)، فالأولى نص في نفي الجنس، أما الثانية فتحتمل نفي الجنس ونفي الوحدة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية: (1/ 109) (¬2) الأشموني: (2/ 292)، وما بعدها، التصريح: (2/ 65 - 66). (¬3) الأشموني: (2/ 2)، حاشية الصبان: (1/ 236 - 237)، الرضي على الكافية: (1/ 279).

2 - الدلالة الظاهرة والباطنة

وتقول: (ما جاءني رجل) و (ما جاءني من رجل) فالأولى تحتمل نفي الجنس ونفي الوحدة، أي ما جاءني رجل واحد بل أكثر، والثانية لا تحتمل إلا نفي الجنس (¬1). وتقول: (كرم زيد ضيفا) و (كرم ضيف زيد) فالجملة الأولى تحتمل أن يكون المقصود الثناء على ضيف زيد بالكرم، كما تحتمل أن يكون زيد كريما حال كونه ضيفا، أي زيد هو الموصوف بالكرم، أما الثانية، فلا تحتمل إلا أن يكون الثناء على ضيف زيد (¬2). جاء في (شرح الرضي على الكافية) في (طاب زيد أبا) " يجوز أن تريد بـ (أبا) نفس زيد وأن تريد به أباه" (¬3). إلى غير ذلك من الأمثلة: وهذا خط واضح في التعبير العربي. 2 - الدلالة الظاهرة والباطنة: ونعني بالدلالة الظاهرة المعنى الذي يعطيه ظاهر اللفظ مثل سافر محمد ونام خالد ونحو قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275]. وأما الدلالة الباطنة فهي الدلالة التي تؤدي عن طريق المجاز والكنايات والملاحن والإشارات، وما إلى ذلك، كقوله: (رمتني بسهم ريشه الكحل) أي بنظرة من عين مكحولة وقوله (بعيدة مهوى القرط) أي طويلة العنق وقولهم (بنو فلان فلان يطؤهم الطريق) أي أهل الطريق جاء في (دلائل الإعجاز): " الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلا بالخروج على الحقيقة فقلت: خرج زيد، وبالإنطلاق عن عمرو فقلت: عمرو منطلق وعلى هذا القياس. ¬

_ (¬1) حاشية الصبان: (2/ 212)، التصريح: 2/ 8، الرضي على الكافية: (1/ 279) (¬2) انظر: مغني اللبيب: (2/ 463). (¬3) الرضي على الكافية: (1/ 239).

وضربٌ آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك، اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل أو لا ترى إنك إذا قلت: هو كثير رماد، القدر، أو قلت: طويل النجاد، أو قلت في المرأة: نؤوم الضحى، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى، على سبيل الاستدلال، معنى ثانيا، هو غرضك كعرفتك من كثير رماد القدر إنك مضياف ومن طويل النجاد، إنه طويل القامة .. وكذا إذا قال: (رأيت أسدًا) ودلك الحال على إنه لم يرد السبع علمت أنه أراد التشبيه، إلا أنه بالغ فجعل الذي رآه، بحيث لا يتميز عن الأسد في شجاعته .. وإذا قد عرفت هذه الجملة، فههنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول: المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة. وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى، إلى معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى، إلى معنى آخر كالذي فسرت لك" (¬1). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز: (202 - 203).

ظاهرة الإعراب

ظاهرة الإعراب وهو كما ذكرنا أبرز ظاهرة، أو من أبرز الظواهر في العربية. وقد ورثت العربية ظاهرة الأعراب من اللغة السامية الأم وقد كانت اللغات السامية القديمة كلها معربة (¬1). وقال المستشرق الألماني نولدكه، إن النبط كانوا يستعملون الضمة في حالة الرفع والفتحة في حالة النصب، والكسرة في حالة الجر (¬2). " والنصوص في اللغة، الأكدية وتشمل اللغتين البابلية والآشورية، تدل على وجود الأعراب فيهما كاملا. وهذا قانون حمورابي (1792 - 1750 ق. م) المدون باللغة البابلية القديمة، يوجد فيه الاعراب، كما هو في اللغة العربية الفصحى تماما، فالفاعل مرفوع، والمفعول منصوب وعلامة الرفع الضمة، وعلامة النصب الفتحة، وعلامة الجر الكسرة، تماما كما في العربية. ولا يقتصر الأمر على ذلك بل، إن المثنى، والجمع، المذكر، يماثلان، في الاعراب المثنى والجمع في العربية. فيرفع المثنى بالألف، وينصب ويجر بالياء .. أما الجمع المذكر فإنه يرفع بالواو وينصب ويجر بالياء" (¬3). ومعنى الاعراب لغة، الابانة عما في النفس، وهو مصدر الفعل (أعرب) ومعنى أعرب أبان يقال: أعرب الرجل عن حاجته، أي أبان عنها. جاء في (أسرار العربية): " أما الإعراب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون سمي بذلك لأنه يبين المعاني مأخوذ من قولهم: أعرب الرجل عن حجته إذا بينها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " الثيب تعرب عن نفسها " أي تبين وتوضح .. فلما كان الإعراب يبين المعاني سمي إعرابًا. ¬

_ (¬1) العربية ليو هان فك 33، التطور النحوي لبرجشراسر 75. (¬2) انظر اللغات السامية لنولدكه 73. (¬3) قضية الاعراب في العربية بين أيدي الدارسين مقال للدكتور رمضان عبد التواب في مجلة المجلة العدد 114 يونيو 1966 ص 105، وانظر الدراسات النحوية واللغوية عند الزمخشري 337 - 339.

والوجه الثاني أن يكون سمي إعرابا لأنه تغير يحلق أواخر الكلم من قولهم: " عربت معدة الفصيل" إذا تغيرت. فغن قيل: العرب في قولهم: عربت معدة الفصيل معناه الفساد وكيف يكون الإعراب مأخذوا منه؟ قيل: معنى قولك: أعربت الكلام أي أزلت عربه، وهو فساده، وصار هذا كقولك: أعجمت الكتاب، إذا أزلت عجمته، وأشكيت الرجل، إذا أزلت شكايته .. وهذه الهمزة تسمى همزة السلب. والوجه الثالث أن يكون سمي إعرابا لأن المعرب للكلام كأنه يتحبب إلى السامع باعرابه من قولهم: إمرأة عروب إذا كانت متحببة" (¬1) وجاء في (شرح شذور الذهب): " للاعراب معنيان لغوي واصطلاحي. فمعناه اللغوي الإبانة يقال: أعرب عما في نفسه إذا أبان عنه وفي الحديث " البكر تستأمر وأذنها صماتها والأيم تعرب عن نفسها" أي تبين رضاها بصريح النطق" (¬2). وجاء في (الايضاح في علل النحو): " الإعراب أصله البيان يقال أعرب الرجل عن حاجته إذا أبان عنها، ورجل معرب أي مبين عن نفسه ومنه الحديث " الثيب تعرب عن نفسها .. " هذا أصله، ثم إن النحويين لما رأوا في أواخر الأسماء والأفعال حركات تدل على المعاني وتبين عنها سموها إعرابا أي بيانا وكأن البيان بها يكون .. والإعراب الحركات عن معاني اللغة. وليس كل حركة إعرابًا، كما إنه ليس كل الكلام معربًا" (¬3). ¬

_ (¬1) أسرار العربية (18 - 19). (¬2) شرح شذور الذهب لابن هشام (33). (¬3) الايضاح (91) وانظر كتاب الجمل للزجاجي (291)، الخصائص: (1/ 35 - 36)، والرضي على الكافية (1/ 24 - 25)، همع الهوامع (1/ 13)، شرح الأشموني (1/ 47 - 48).

وهذا المعنى اللغوي للاعراب هو الأصل لمعنى الاعراب في النحو: فالاعراب " هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ألا ترى أنك إذا سمعت أكرم سعيد أباه، وشكر سعيدا أبوه علمت برفع أحدهما، ونصب الآخر الفاعل، من المفعول، ولو كان الكلام شرجا واحدا لاستبهم أحدهما من صاحبه" (¬1). " وإنما أتي به للفرق بين المعاني، وإذا أخبرت عن الإسم بمعنى من المعاني المفيدة إحتيج إلى الإعراب، ليدل على ذلك المعنى" (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " الإعراب ما أختلف آخره .. ليدل على المعاني المعتورة عليه. وقوله " ليدل على المعاني المعتورة عليه " بيان لعلة وضع الاعراب في الأسماء" (¬3). قال الزجاجي في (الإيضاح) " فإن قال قائل: قد ذكرت أن الإعراب داخل عقب الكلام فما الذي دعا إليه واحتيج إليه من أجله؟ فالجواب أن يقال: إن الأسماء لما كانت تعتورها المعاني، وتكون فاعلة، ومفعولة ومضافة، ومضافا إليها، ولم يكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني، بل كانت مشتركة، جعلت حركات الاعراب فيها تنبيء عن هذه المعاني فقالوا: ضرب زيد عمرا فدلوا برفع زيد على إن الفعل له، وبنصب عمرو على إن الفعل واقع به. وقالوا (ضرب زيد) فدلوا بتغيير أول الفعل، ورفع زيد على إن الفعل لما لم يسم فاعله، وأن المفعول قد ناب منابه. وقالوا: (هذا غلام زيد) فدلوا بخفض زيد، على إضافة الغلام إليه وكذلك سائر المعاني، جعلوا هذه الحركات دلائل عليها، ليتسعوا في كلامهم وقدموا الفاعل إذا أرادوا ذلك، أو المفعول عند الحاجة، إلى تقديمه، وتكون الحركات دالة على المعاني. هذا قول جميع النحويين إلا أبا علي قطربا فإنه عاب عليهم هذا الاعتلال، ¬

_ (¬1) الخصائص (1/ 35). (¬2) المفصل (1/ 84). (¬3) الرضي على الكافية (1/ 18).

وقال لم يعرب الكلام للدلالة على المعاني، والفرق بين بعضها وبعض .. وإنما أعربت العرب كلامها لأن الأسم في حال الوقف يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا، لكان يلزمه الاسكان في الوقف، والوصل فكانوا يبطئون عند الإدراج، فلما وصلوا وأمكنهم التحريك، جعلنا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام .. وقال الخالفون له ردًا عليه " لو كان كما ذكر لجاز جر الفاعل مرة، ورفعه، أخرى ونصبه، وجاز نصب المضاف إليه لأن القصد في هذا، إنما هو الحركة تعاقب سكونا، ليعتدل بها الكلام فأي حركة أتى بها المتكلم أجزأته، فهو مخير في ذلك، وفي هذا فساد للكلام، وخروج عن أوضاع العرب وحكمة نظمهم في كلامهم (¬1). وقد ذهب الأستاذ إبراهيم أنيس مذهب قطرب، قال: " يظهر والله أعلم أن تحريك أواخر الكلمات، كان صفة من صفات الوصل في الكلام، شعرا ونثرا، فإذا وقف المتكلم او اختتم، لم يحتج إلى تلك الحركات بل يقف على آخر كلمة من قوله، بما يسمى السكون. كما يظهر أن الأصل في كل الكلمات أن تنتهي بهذا السكون، وأن المتكلم لا يلجأ إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة شعرية (¬2). وقال أيضا: " لم تكن تلك الحركات الإعرابية تحدد المعاني في أذهان العرب القدماء كما يزعم النحاة، بل لا تعدو أن تكون حركات يحتاج إليها في الكثير من الأحيان لوصل الكلمات بعضها ببعض" (¬3). " وكون الاعراب علما على المعاني، هو الرأي المقبول الواضح البين، إذ لو كانت الغاية منه الخفة عند درج الكلام، ما التزمته العرب هذا الإلتزام. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر 1/ 84 - 86، الإيضاح في علل النحو (69)، وما بعدها. (¬2) من أسرار اللغة (142). (¬3) المصدر نفسه (158).

ومن أوضح الأمور على هذا انه لو قرأ أحدٌ قوله تعالى: {أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة: 30]، بالجر لاختل المعنى وفسد. وقيل أن حادثة كهذه هي التي أدت إلى وضع النحو (¬1). وذكر لنا الزمخشري أعرابيا مر فسمع مؤذنا يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، بالنصب فصاح به: ويحك ماذا تصنع؟ ثم .. إن أول حكايات ظهور اللحن على زمن أبي الأسود الدؤلي تدل على أن الإعراب له أثر في المعنى (¬2). ومن يستطيع أن ينكر أن قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] لو أبدلت فيه حركة (الله) إلى الرفع وحركة (العلماء) إلى النصب، لاختل المعنى وتغير إلى العكس تماما؟ وأن الجملة التالية - مثلا - إذا كانت غفلا احتملت معاني عدة فإن شكلت نصت على معنى واحد: أكرم الناس أحمد. أكرم الناسُ أحمدَ. أكرم الناسَ أحمدُ. أكرمُ الناسِ أحمدُ. أكرمِ الناسَ أحمدُ. وهو من الوضوح بمكان" (¬3). ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 27 (¬2) دراسات في اللغة إبراهيم السامرائي 47 (¬3) الدراسات النحوية واللغوية عند الزمخشري (235 - 336).

معاني الاعراب

معاني الاعراب ذهب كثير من النحويين إلى أن الرفع علم الفاعلية، وبقية المرفوعات مشبهة به والنصب علم المفعولية، وبقية المنصوبات ملحقة بالمفاعيل، والجر علم الإضافة (¬1). وقيل بل المبتدأ والخبر هما الأول والأصل في استحقاق الرفع وبقية المرفوعات محمولة عليهما، ونسب هذا القول إلى سيبويه وابن السراج (¬2). وقيل: المرفوعات كلها أصول (¬3)، إلا إن ما عليه حذاق النحويين هو الأول (¬4). ورجح رضي الدين الإستراباذي أن الرفع علم العمدة، والنصب علم الفضلة، والجر علم الإضافة، جاء في (شرح الرضى على الكافية) تعقيبا على قول المصنف أن الرفع علم الفاعلية، والنصب علم المفعولية، والجر علم الإضافة، " والأولى كما بينا أن يقال: الرفع علم كون الاسم عمدة الكلام، ولا يكون في غير العمد، والنصب علم الفضلة في الأصل، ثم يدخل في العمد تشبيها بالفضلات كما مضى .. وأما الجر فعلم الإضافة أي كون الاسم مضافا إليه معنى أو لفظًا، كما في غلام زيد وحسن الوجه" (¬5). وجاء فيه: وجعل الرفع أقوى الحركات للعمد وهي ثلاثة: الفاعل والمبتدأ والخبر. وجعل النصب للفضلات سواء اقتضاها جزء الكلام بلا واسطة، كغير المفعول معه من المفاعيل، وكالحال، والتمييز، أو اقتضاها بواسطة حرف كالمفعول معه، والمستثنى غير المفرع، والأسماء التي تلي حروف الاضافة، أعني حروف الجر. وإنما جعل للفضلات النصب الذي هو أضعف الحركات وأخفها، لكون الفضلات أضعف من العمد، وأكثر منها. ¬

_ (¬1) المفصل (1/ 50)، همع الهوامع: (1/ 93)، الرضي على الكافية: (1/ 34). (¬2) ابن يعيش (1/ 73)، همع الهوامع: (1/ 93). (¬3) همع الهوامع (1/ 93)، حدائق الدقائق للبردعي. (¬4) ابن يعش (1/ 73)، حدائق الدقائق للبردعي. (¬5) شرح الرضي على الكافية (1/ 24 - 25).

ثم أريد أن يميز بعلامة ما هو فضلة، بواسطة حرف ولم يكن بقي من الحركات غير الكسر، فميز به، مع كونه منصوب المحل، لأنه فضلة، فصار معنى معنى كون الاسم مضافا إليه معنى العمدة بحرف، معنى آخر منضما إلى المعنيين المذكورين، علامته الجر فإن سقط الحرف ظهر الاعراب المحلي في هذه الفضلة، نحو: " الله لا فعلن " فإذا عطف على المجرور فالحمل على الجر الظاهر أولى من الحمل على النصب المقدر. وقد يحمل على المحل كما في قوله تعالى {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم} بالنصب فإن سقط الجار مع الفعل لزوما كما في الاضافة زال النصب المقدر. فأصل الجر أن يكون علم الفضلة التي تكون بواسطة حرف، ثم يخرج في موضعين عن كونه علم الفضلة، ويبقى علما للمضاف إليه فقط: أحدهما فيما أضيف إليه الاسم. والثاني في المجرور المسند إليه نحو: مر بزيد. والأصل فيهما أيضا ذلك كما بينا" (¬1). والظاهر إن ما رجحه الرضي، من أن الرفع دليل العمدة، هو الأصل، لقول إبراهيم مصطفى ومن تابعه، إن الضمة دليل السناد. والذي أراه في تعليل إعراب الاسم ما يأتي: 1 - إن الرفع دليل الإسناد، أو العمدة، وليس في العربية اسم مرفوع، إلا وهو طرف في الإسناد أي عمدة. 2 - إن حق العمدةـ أن يرتفع ولكن قد يدخل على المسند، أو المسند إليه ما يعدل حركته الأصلية، إلى النصب، أو إلى الجر، كالنصب، بالأحرف المشبهة بالفعل، والجر بالحروف الزائدة. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية (1/ 21 - 22).

دلالة العلامات على المعنى

3 - النصب علامة الفضلة. 4 - قد يدخل على قسم من الفضلات ما يعدل حركتها إلى الجر كقولهم: ما رأيت من أحد، ورب رجل أكرمت. 5 - الجر دليل الإضافة، وأحيانا يكون علامة لاسناد غير مباشر، أو مفعولية غير مباشرة (¬1). دلالة العلامات (¬2) على المعنى: الأصل في العربية أن تكون العلامات ذوات دلالة على المعاني، وإن اختلاف العلامات يؤدي إلى اختلاف المعاني ويستثني من ذلك أمور منها: 1 - علامات البناء: فليست علامات البناء أعلاما لمعان، كما هي في الإعراب فـ (أين) مثلا تقع عمدة نحو: أين دارك؟ وتقع فضلة محلها النصب نحو: أين ذهبت؟ وتقع في محل جر نحو: من أين جئت؟ وهي في جميع ذلك، لها حركة واحدة هي الفتحة. 2 - إختلاف اللغات: من الواضح أن اختلا العلامات في اللغة الواحدة، يتبعه إختلاف في المعنى نحو: ما أحسن زيد ما أحسن زيدا، وكما يذكر النحاة في نحو: لا رجل في الدار (بالفتح) ولا رجل في الدار (بالرفع). ولكن ليس من الضرورة أن يؤدي اختلاف العلامات في اللغتين إلى إختلاف المعنى في التعبير الواحد، فنحن لا نستطيع أن نقول أن معنى جملة (ما محمد حاضرا) في لغة الحجاز يختلف عن معنى جملة (ما محمد حاضر) في لغة تميم فـ (ما) كما هو معلوم يعملها الحجازيون إذا دخلت على الجملة الإسمية بشروط معروفة ويهملها التميميون" (¬3) ¬

_ (¬1) انظر الدراسات النحوية واللغوية عند الزمخشري (346). (¬2) العلامات هي (الضمة، الفتحة، الكسرة، السكون) مع بقية العلامات الفرعية الأخرى. (¬3) المغني (1/ 303) ابن عقيل (1/ 302) الأشموني (1/ 247)، التصريح: (1/ 196).

أو أن جملة (ليس الطيب إلا المسك) بنصب (المسك) في لغة الحجاز، يختلف معناها عن جملة (ليس الطيب إلا المسك) برفع (المسك) في لغة تميم، فإن (ليس) إذا انتقض خبرها بالا يبقى عملها عند الحجازيين ويهملها بنو تميم (¬1). أو أن جملة (لعل الله فضلكم علينا) بجر لفظ الجلالة عند عقيل، يختلف معناها عن جملة (لعل الله فضلكم علينا) بالنصب في لغة سائر العرب، فإن الجر بلعل لغة عقيل، والنصب بها، لغة سائر العرب (¬2). أو (اقبل أباك) في لغة بني الحارث وجماعة يختلف معناها عن جملة (أقبل أبوك) في لغة سائر العرب، فإن بني الحارث وزبيدا وخثعما وهمدان تجعل أبا وأخا وحما، بالألف مطلقا (¬3). فاختلاف اللغات في التعبير الواحد لا يؤدي إلى إختلاف المعنى، وإن كانت العلامات الإعرابية مختلفة. 3 - الاتباع والمجاورة: ظاهرة من ظواهر العربية تكون في الحركات والكلمات ويعود في حقيقته إلى الانسجام الموسيقي بين الأصوات، كقراءة من قرأ: الحمدُ لله بضم اللام اتباعا لضمة الدال، أو الحمد للهِ (¬4) بكسر الدال اتباعا لكسر اللام. ومن الاتباع في غير الأواخر قولهم (حدث أمر) بضم الدال، حين يقرن الفعل بقدم فإذا أفردت لفظة (حدث) قالوا (حدث) بفتح الدال لأنه زال السبب الذي أوجب ضم دالها (¬5). ومن الاتباع في الكلمات قولهم (الغدايا والعشايا) إذا قرنوا بينهما، فجاؤا بكلمة الغدايا لموازنة العشايا فإن أفردوا الغدايا ردوها إلى أصلها، فقالوا الغدوات. ومنه ما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم إنه قال للنساء المتبرزات في العيد: " ارجعن مأزورات غير مأجورات". ¬

_ (¬1) المغني (1/ 394)، التصريح: (1/ 196). (¬2) المغني (1/ 286)، ابن عقيل (3/ 4)، الأشموني (2/ 204)، التصريح (2/ 2). (¬3) الأشموني (1/ 70)، شرح شواهد الأشموني للعيني (1/ 70)، التصريح (1/ 65)، حاشية الخضري على شرح ابن عقيل: (1/ 38) (¬4) الخصائص: (3/ 179). (¬5) انظر درة الغواص (51).

والأصل في (مأزورات) (موزورات) لاشتقاقها من الوزر (¬1). ومن الاتباع أن يجاء بكلمات لا معنى لها أصلا، وإنما ضمت إلى الكلمات التي قبلها لزيين الكلام، مثل قولهم حسن بسن (¬2). ومنه المجاورة كقول الحطيئة: فإياكم وحية بطن واد ... هموز الناب ليس لكم بسي فيمن جر هموز الناب. وقول الآخر كأن نسج العنكبوت المرمل وإنما صوابه المرملا (¬3). ولا نستطيع أن نقول في حركات الاتباع، أنها حركات ذات معنى خاص، فلا فرق في المعنى بين القرائتين: الحمد لله والحمدِ لله، وإنما هو أمر يعود إلى الإنسجام الموسيقي بين الأصوات كما ذكرنا. 4 - النقل وحذف الحركة لسبب غير إعرابي: فمن النقل قول الشاعر: عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزي سبني لم أضربه فضمة الباء منقولة من الهاء (¬4) وإلا فهي ساكنة لأن الفعل مجزوم والضمة هنا ليست ذات دلالة على معنى، ولا يقاس أمرها على ضمة المضارع الإعرابية. ومنه رأي بعض النحاة قراءة من قرأ: (ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) بضم الكاف من (يدركه) قيل ضم الكاف منقول ¬

_ (¬1) درة الغواص (51 - 52). (¬2) الرضي على الكافية: (1/ 365). (¬3) الخصائص: (3/ 220 - 221). (¬4) حاشية على الكشاف لمجهول - الورقة 116 مخطوطة بمكتبة الأوقاف ببغداد برقم 2247.

من الهاء، كأنه أراد أن يقف عليها ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف كقوله: عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزي سبني لم أضربه (¬1) ومن ذلك في رأي بعض النحاة قول الشاعر: من أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر فقد ذهب إلى إن فتحة الراء في (يقدر) نقل من همزة (أم) (¬2)، وإلا فالفعل مجزوم ومن حذف الحركة لسبب غير إعرابي قوله تعالى: {مالك لا تأمنا على يوسف} [يوسف: 11] والأصل: لا تأمننا لأن الفعل مرفوع وإنما حصل هنا إدغام النونين، فسكنت النون الأولى لأجل الإدغام. 5 - علامات الحكاية: وذلك لأن المحكي لا تتغير حركاته وسكناته بل يحكي بلفظه وذلك نحو (اقبل جاد الحق) و (رأيت جاد الحق) و (مررت بجاد الحق) فهو يلازم حالة تعبيرية واحدة مهما اختلفت حالاته الاعرابية فلا تدل علاماته على معنى، وإن كان في أصله قد يكون جاريا على الأسس التعبيرية العامة في الاعراب والبناء. 6 - الضرورة الشعرية: وذلك لأن لغة الشعر لغة خاصة فقد يضطر الوزن صاحبه إلى ما لا يجوز في سعة الكلام من حركة أو سكون أو غيرها كقول الشاعر: يوم الصليفاء لم يوفون بالجار. وقوله: أبيت أسري وتبيتي تدلكي. وقوله: فاليوم اشرب غير مستحقب ونحو ذلك: وهذا كله مما لا علاقة له بدلالات الأعراب التي ذكرناها. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 420 (¬2) الخصائص 3/ 94 - 95

الغرض من الاعراب

الغرض من الاعراب: للاعراب أغراض وفوائد منها مالا يمكن الاستغناء عنه ومنها ما فيه نفع كثير للغة وأهلها، حرمت منه اللغات المبنية، وأهم هذه الاغراض وهي: 1 - الإبانة عن المعاني: ذلك لأن الأصل في الاعراب، أن يكون للإبانة عن المعاني كما ذكرنا فإنه إذا كانت الجملة غفلا من الاعراب، احتملت معاني عدة فإن أعرب تعين معناها: " يدلك على ذلك أنك لو قلت: (ما أحسن زيدا) لكنت متعجبا، ولو قلت: (ما أحسن زيدا) لكنت نافيا: ولو قلت: (ما أحسن زيد) لكنت مستفهما عن أي شيء منه حسن، فلو لم تعرب في هذه المواضع لالتبس التعجب بالنفي، والنفي بالاستفهام، واشتهبت هذه المعاني بعضها ببعض وإزالة الالتباس واجب" (¬1). ومن ذلك ما ذكرناه في جملة (اكرم الناس أحمد). ويذكر النحاة أمثلة كثيرة لاختلاف المعاني باختلاف الاعراب، من ذلك قولهم: " بكم ثوبك مصبوغا؟ ، وبكم ثوبك مصبوغ؟ وبينهما فرق يختلف المعنى فيه، وهو إنك إذا نصبت مصبوغا كان انتصابه على الحال، والسؤال واقع عن ثمن الثوب وهو مصبوغ، وإن رفعت مصبوغا رفعته على أنه خبر المبتدأ، الذي هو ثوبك وكان السؤال واقعا عن أجرة الصبغ، لا عن ثمن الثوب (¬2). ومن ذلك وله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49]، بنصب (كل) إذ لو تغيرت علامة إعرابها لتغير المعنى، قال السيرافي ما ملخصه: " فإن قال قائل: قد زعمتم أن نحو: (إني زيد كلمته) الاختيار فيه الرفع، لأنه جملة في موضع الخبر، فلم اختبر النصب في (إنا كل شيء خلقناه بقدر) وكلام الله تعالى أولى بالاختيار؟ ¬

_ (¬1) أسرار العربية 34 - 35 (¬2) درة الغواص 194، وانظر منثور الفوائد للأنباري 113

فالجواب إن في النصب ههنا دلالة على معنى ليس في الرفع، فإن التقدير على النصب إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، فهو يوجب العموم. وإذا رفع فليس فيه عموم، إذ يجوز أن يكون (خلقناه) نعتا لشيء، و (بقدر) خبرا لكل، ولا يكون فيه دلالة على خلق الأشياء كلها إنما يدل على أن ما خلقه منها خلقه بقدر". (¬1) وتوضيح ذلك أن قوله تعالى (كل) بالنصب معناه إنا خلقنا كل شيء بقدر، ولو جاءت بالرفع لاحتمل المعنى أن تكون (خلقناه) صفة لسيء و (بقدر) خبرا لكل فيكون المعنى إن الشيء الذي خلقناه كان بقدر. ومعنى ذلك ما روى عن عتبان الحروري في قوله: فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب فمنا حصين وابطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب فإنه لما بلغ الشعر هشاما وظفر به قال له: أنت القائل. ومان أمير المؤمنين شبيب. فقال: لم اقل كذا وإنما قلت: ومنا أميرَ المؤمنين شبيب. فتخلص بفتحة الراء بعد ضمها". (¬2) فأنت تلاحظ أن فتح الراء من (أمير) أنجاه من هلاك محقق، وذلك أن المعنى برفع (أمير) أن شبيبا هو أمير المؤمنين لا هشاما: فـ (منا) خبر مقدم (وأمير) مبتدأ مؤخر وشبيب بدل. والمعنى بنصب (أمير) أن يكون على النداء: أي: ومنا - يا أمير المؤمنين - شبيب فهو يقر بأن هشاما أمير المؤمنين، وفرق بين التعبيرين. ¬

_ (¬1) حاشية سيبويه 1/ 74، وانظر التصريح 1/ 302، الأشموني 2/ 80 (¬2) تحرير التحبير 249 - 250

ومن ذلك ما روى عن الكسائي إنه قال: " اجتمعت وأبو يوسف القاضي عند هارون الرشيد فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول: ما النحو؟ فقلت - واردت أن أعلمه فضل النحو - ما تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتٌ غلامَك، وقال له آخر: أنا قاتلُ غلامِك أيهما كنت تأخذ به؟ قال: آخذهما جميعا. فقال له هارون: أخطأت. وكان له علم بالعربية، فاستحيا. وقال: كيف ذلك؟ فقال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتلُ غلامِك بالاضافة، لأنه فعل ماضٍ فأما الذي قال: أنا قاتلٌ غلامَك بلا إضافة فإنه لا يؤخذ لأنه مستقبل، لم يكن بعد كما قال الله تعالى: {ولا تقولن لشأي إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23 - 24]. فولا أن التنوين مستقبل ما جاز فيه غدا (¬1). ومن ذلك قولك: ما صنعت وأباك؟ ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها إنما أردت: ما صنعت مع أبيك، ولو تركت الناقة مع فصيلها. فالفصيل مفعول معه والأب كذلك. (¬2) ولو قلت: ما صنعت وأبوك لكان المعنى: ما صنعت وما صنع أبوك؟ لأنه عطف. جاء في كتاب سيبويه: " وكذلك ما أنت وعبد الله، وكيف أنت وعبدُ الله كأنك قلت: ما أنت وما عبد الله؟ وأنت تريد أن تحقر أمره. وكذلك: كيف أنت وعبد الله، وأنت تريد أن تسأل عن شأنها لأنك إنما تعطف بالواو، إذا أردت معنى " مع" على " كيف" وكيف بمنزلة الابتداء كأنك قلت: وكيف عبد الله؟ (¬3) ومن ذلك قولهم: (جاء بالرد والطيالسة): " ترفع بالبرد بفعله وتنصب الطيالسة، لأنك لست تريد جاءت الطيالسة وإنما أردت جاء البردُ مع الطيالسة، فادت الواو معنى مع، وعمل الفعل الذي قبلها فيما بعدها فنصبه، ولو أردت: (جاء البر وجاءت الطيالسة) ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر 3/ 224، وانظر تأويل مشكل القرآن 11 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 150 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 151 - 152

لرفعت وكان ذلك جائزا. وتقول: (استوى الماء والخشبةَ) بالنصب، لا غير لأنك تريد ساوي الماء الخشبة واستوي مع الخشبة" (¬1). ونحو ذلك قولك (كن أنت وزيدا كالأخ) وذلك لأنك لو عطفت زيدًا على الضمير في (كن) لزم أن يكون زيد مأمورا، وأنت لا تريد أن تأمره، وإنما تريد أن تأمر مخاطبك بأن يكون معه كالأخ (¬2). ومثل هذا الأمر يكون في الفعل المضارع فـ " العلة الموجبة لإعراب الاسم، موجودة في الفعل وذلك أنا لو قلنا: (ضرب زيد عمرو، وزيدا عمرا) لم يتميز لنا الفاعل من المفعول كذلك إذا قلنا: (لا يضرب زيد عمرا) لولا الرفع والجزم، ما عرف النفي من النهي". (¬3) ومنه المثال المشهور، (لا تأكل السمك وتشرب اللبن) فإنه يجوز في (تشرب) الرفع والنصب، والجزم، ولكن المعنى يختلف في كل حالة، فالجزم عطف على (تأكل) ويكون النهي عنهما جميعا فكأنه قال: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن. والنصب معناه النهي عن الجمع بينهما وإباحة كل واحد على حدة، فهو منهي عن الجمع بين أكل السمك وشرب اللبن، ولكن أكل السمك وحده مباح، وشرب اللبن وحده مباح. ومعنى الرفع أنه منهي عن أكل السمك على آية حالة، ومباح له شرب اللبن على اية حال، فكأنه قال ولك شرب اللبن. ومثله قولهم (لا تعن بالجفاء وتمدح عمرا) " فإنه يحتمل المعاني الثلاثة في (لا تأكل السمك وتشرب اللبن) ويغني عن الاعراب في ذلك وضع الاسم مكان كل من، المجزوم، والمنصوب، والمرفوع فيقال: لا تعن بالجفاء ومدح عمرو، ولا تعن بالجفاء مادحا عمرا، ولا تعن بالجفاء ولك مدح عمرو". (¬4) ¬

_ (¬1) الجمل للزجاجي 306 (¬2) قطر الندى 232 - 233 (¬3) الرد على النحاة 155 (¬4) الأشموني 1/ 10

ونحوه قولك: (حسبته شتمني فأثب عليه) إذا لم يقع الوثوب، ومعناه لو شتمني لو ثبت عليه، وإن كان الوثوب قد وقع فليس إلا الرفع. (¬1) ومثله قولك: أعطني فأمدحك، فإذا نصبت (أمدح) كان المعنى، إنه لم يقع المدح، وإنما يقع بعد العطاء، فالمدح مسبب عن العطاء، ولو قلت (أعطني فأمدحك) بالرفع كان المعنى، فأنا أمدحك أي أنا قائم بمدحك قبل العطاء، أي أعطني فأنا ممن يمدحك. ومثله قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} [الحج: 63]، " فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جوابًا للاستفهام؟ قلت: لو نصب لاعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت فتشكر؟ إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وأن رفعته فأنت مثبت للشكر، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الاعراب وتوقير أهله. (¬2) 2 - السعة في التعبير: وذلك أن يكون للمتكلم سعة في التقدير والتأخير، إذ أن الكلمة تحمل معها مركزها في الجملة بعلامتها الإعرابية فالجملة الآتية مثلا، يمكن صوغها في عدة صور مع بقاء المعنى العام واحدًا. اعطي محمدٌ خالدًا كتابًا. محمدٌ أعطي خالدًا كتابًا. خالدًا أعطي محمدٌ كتابا. كتابا أعطي محمدٌ خالدًا. كتابًا خالدًا أعطى محمد. ¬

_ (¬1) الرد على النحاة 147 (¬2) الكشاف 2/ 354

أعطي خالدًا كتابًا محمد. أعطي خالدا محمدٌ كتابًا. إلى غير ذلك من الصور الأخرى دون أن يحصل لبس بين المعطي والآخذ، فالمعطي في كل هذه الجمل هو محمد والآخذ خالد، وهو معلوم من حركة الاثنين فالرفع يشير إلى الفاعل، والنصب إلى المفعول في حين إنك لا تستطيع مثل هذا في اللغات المبنية بل أنت مقيد بصورة واحدة ضيقة لا تتعداها. فهذه الجملة يقابلها في الانكليزية: Mohammad gave khalid a book ولا نستطيع أن نصوغ لها صورة ثانية، إلا تغير أساسي في الجملة، أو بتغيير في المعنى في حين إننا ذكرنا لهذا التعبير، سبع صور في العربية. فالاعراب كما ترى يعطي المتكلم حرية وسعة بعكس البناء. 3 - الدقة في المعنى: للاعراب فائدة أخرى جليلة، وهي أنه يمنح اللغة غناء ودقة في التعبير عن المعاني، ويمكن المتكلم من التعبير بدقة عن المعاني التي يريدها، مما لا نجد نظيره في اللغات المبنية. لنعد إلى الجملة التي ذكرناها آنفا، وهي (أعطي محمدٌ خالدًا كتابا) نجد أن لكل صورة ذكرناها معى جديدا لا نجده في الجملة الأخرى، مع أن المعنى العام واحد. وتوضيح هذا الأمر بصورة مختصرة أنك تقول: 1 - أعطي محمدٌ خالدًا كتابا - هذه الجملة الفعلية تقال، والمخاطب خالي الذهن عن الموضوع، فهو إخبار بما لا يعلم عنه المخاطب شيئا. 2 - محمد أعطي خالدًا كتابا- المخاطب يعلم أن شخصا ما أعطي خالدا كتابا، ولكنه لا يعلم المعطي أو يظن أنه غير محمد، فهو يعتقد أنه سعيد مثلا فتقدم المسند إليه لازالة الوهم من ذهنه.

3 - خالدًا أعطى محمدٌ كتابا - المخاطب يعلم أن محمدًا أعطى كتابا شخصا ما، ولكنه يجهل هذا الشخص، أو يظن أنه غير خالد فتقدم (خالدا) لازالة هذا الوهم من ذهنه. 4 - كتابًا أعطي محمدٌ خالدًا - المخاطب يعلم أن محمدًا أعطي خالدًا شيئا ما ولكنه لا يعلم الشيء الذي أعطي، أو يظن أنه أعطاه دفترا مثلا، فقدمنا الكتاب لإزالة هذا الوهم، أي أعطاه كتابا لا شيئا آخر. 5 - كتابًا خالدًا أعطي محمدٌ - المخاطب يعلم أن محمدًا أعطي شيئًا ما شخصا ما ولكنه لا يعلم الشيء، ولا الشخص أو يظن أنهما غير المذكورين، فقدمنا المفعولين لإزالة الوهم. 6 - أعطي خالدًا كتابًا محمدٌ - هنا أخرنا الفاعل وقدمنا المفعولين، ذلك لأن المفعولين أهم من الفاعل عند المخاطب، وذلك لأن محمدًا من شأنه أن يعطي، فليس في الإخبار بأنه (أعطي) كبير فائدة، لكن الغرابة أو المهم أنه أعطي خالدا كتابًا، فهو ليس من شأنه أن يعطي خالدًا كتابا، أما لأنه لا علاقة بينهما تؤدي إلى مثل هذا، أو لأمر آخر، فقدم المفعولان لأنهما المهمان والعرب إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم بيانه أعني، وأن كانا جميعًا يهمانهم ويعنيانهم. (¬1) ومثل هذا التعبير قولك: أكرمت زيدًا وزيدًا أكرمت، ففي الجملة الأولى أخبرت أنك أكرمت زيدا ولم تتعرض لغير زيد فقد يكون أنك أكرمت شخصا آخر مع زيد أو لم يكن، أما الجملة الثانية (زيدا أكرمت) فإنها تفيد انك خصصت زيدا بالاكرام ولم تكرم غيره. وهذا ميدان اوسع نكتفي منه الان بهذا القدر القليل إلى أن نبحثه في مكانه الذي به أحرى. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 15

النكرة والمعرفة

النكرة والمعرفة النكرة: إذا أطلقت النكرة دلت على أحد أمرين: إرادة الوحدة، أو إرادة الجنس. فإرادة الوحدة نحو قوله تعالى: {وجاء من أقصا المدينة رجلٌ يسعى} [يس: 20] ونحو: (زارني اليوم رجل غريب). وإرادة الجنس، نحو قوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء} [النور: 45]، وقوله تعالى: {ولأمة مؤمنة خيرٌ من مشركة ولو أعجبتكم} [البقرة: 221]. وقد تحتمل الجنس والوحدة معا كقولك (جاءني اليوم رجلٌ) فهذا يحتمل إنه جاءك رجلٌ واحدٌ، ويحتمل إنه جاءك رجلٌ لا إمرأة. فإذا كانت النكرة في حيز النفي، أو شبهه، كانت دلالتها على العموم أرجح، وذلك نحو قولك (ما جاءني رجل) فالراجح إنك تريد: لم يجئك أحد من هذا الجنس، وربما دل بوجه مرجوح على أن المعنى: لم يجئك رجل واحد بل أكثر. فإن قلت (ما جاءني رجل بل رجال) دل ذلك على إرادة نفي الواحد نصًا. جاء في (التصريح) إن النكرة في سياق النفي تعم (¬1). وجاء في (الطراز): " النكرة إذا أطلقت في نحو قولك: رجل وفرس وأسد ففيها دلالة على أمرين: الوحدة والجنسية. فالقصد يكون متعلقا بأحدهما ويجيء الآخر على جهة التبعية. فأنت إذا قلت: أرجل في الدار أم امرأة؟ حصل بيان الجنسية، والوحدة جاءت تابعة غير مقصودة، وإذا قلت أرجل عندك أم رجلان؟ فالغرض ها هنا الوحدة دون الجنسية. (¬2) ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 268، وانظر الاتقان 1/ 190 (¬2) الطراز للعلوي ج 2/ 12

أغراض التنكير

وقال سيبويه: " يقول الرجل: (أتاني رجل) يريد واحدًا في العدد، لا اثنين فيقال: (ما أتاك رجلٌ) أي أتاك أكثر من ذلك، أو يقول (أتاني رجل لا امرأة) فيقال: (ما أتاك رجل) أي: امرأة اتتك. (¬1) أغراض التنكير: للتنكير أغراض أهمها: 1 - إرادة الواحد كما مر نحو قوله تعالى: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} [البقرة: 101]، وقوله: {ائتوني بأخ لكم من أبيكم} [يوسف: 59]. 2 - إرادة الجنس نحو قوله تعالى: {لا ريب فيه} [البقرة: 2]، وقوله: {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 385]. 3 - التعظيم نحو قوله تعالى: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} [هود: 103]، وقوله: {وإنك لتلقي القراءان من لدن حكيم عليم} [النمل: 6]. وتقول: (لقيت اليوم شاعرًا) أي مجيدًا. قال سيبويه: " ويقول (أتاني اليوم رجل) أي في قوته ونفاذه. فتقول (ما أتاك رجل) أي أتاك الضعفاء". (¬2) 4 - التهويل نحو قوله تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} [البقرة: 48]. 5 - التكثير نحو قوله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [البقرة: 249]، وقوله: {وإن لك لأجرا غير ممنون} [القلم: 3]، أي كثيرًا غير منقطع، ونحو قولنا (هو عنده مال) أي كثير. 6 - التقليل كقوله تعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} [يونس: 44]، وقوله: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف: 35]. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 27 (¬2) سيبويه 1/ 27

المعرفة

7 - التخصيص وذلك نحو قوله تعالى: {من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها} [النساء: 47]، والمراد بالوجوه ههنا وجوه الكفار، فالنكرة عامة والمراد بها التخصيص. 8 - التحقير نحو قوله تعالى: " من أي شيء خلقه؟ أي من شيء حقير" ثم بينه بقوله: من نطفة خلقه (¬1). وكقوله تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} [البقرة: 96]، بمعني أية حياة كانت ولو كانت حقيرة مهينة. 9 - التجاهل والاستهزاء نحو قوله تعالى: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} [سبأ: 7] كأنهم لا يعرفونه (¬2). إلى غير ذلك من الاغراض. المعرفة المعرفة ما وضع لشيء معين (¬3). والمعارف هي: الضمير والعلم، واسم الإشارة والمعرف بأل، والاسم الموصول، والمضاف إلى معرفة، والمعرف بالنداء، وقد ذكرها كلها سيبويه. (¬4) وقد وردت أسماء معارف من غير هذه الأبواب، منها (أمس) لليوم الذي قبل يومك. و (سحر) المراد به سحر يوم بعينه، و (أجمع) وما تفرع منها نحو (أجمعين وجمع)، كقوله تعالى {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} [الحجر: 30]، وأسماء الأفعال، والأصوات غير المنونة، نحو ايه، وصه، وغاق، وسيأتي بيان ذلك كل في بابه. ¬

_ (¬1) الاتقان 1/ 190، وانظر سورة عبس 18/ 19 (¬2) انظر البرهان 4/ 91 - 92، الاتقان 1/ 189 (¬3) الرضي على الكافية 2/ 163 (¬4) انظر الكتاب 1/ 219 - 220، ا/ 269، 1/ 311

الضمير

كما سنذكر المعرف بالإضافة في باب الإضافة، والمعرف بالنداء، في باب النداء، ونذكر الآن بقية المعارف. الضمير الضمير فعيل، بمعنى اسم المفعول، من أضمرت الشيء في نفسي، إذا أخفيته وسترته فهو مضمر كالحكيم بمعنى المحكم. والنحاة يقولون إنما سمي بذلك لكثرة استتاره، فاطلاقه على البارز توسع، أو لعدم صراحته كالأسماء المظهرة. (¬1) والثاني: هو الراجح فيما أرى، وذلك لأنك بالضمير تستر الاسم الصريح، فلا تذكره فإنك إذا قلت (أنا)، فأنت لم تذكر اسمك وإنما سترته بهذه اللفظة، وكذا إذا قلت (أنت وهو وهي)، ألا ترى أنك تطرق على أحد بابه فيقول: من؟ فتقول: أنا، ويقول لك: ومن أنك؟ فتقول له: فلان. فأنت لم تذكر اسمك صراحة بقولك (أنا)، فطلب منك ذكر اسمك الصريح. فأخذ مصطلح الضمير من هذا لأنه يستر به الاسم الصريح. والضمير مصطلح بصري، ويسميه الكوفيون كناية، ومكنيا، وهو بالمعنى نفسه، فإن الكناية تقابل التصريح، ومنه قولهم استعارة تصريحية، واستعارة مكنية، فالتصريحية ما صرح فيها بلفظ المشبه به، والمكنية، ما كني فيها لفظ المشبه به أي ما ستر وأخفى. ومنه الكنية في العلم لأنها تستر الاسم الصريح، والكناية في الكلام أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره. (¬2) ¬

_ (¬1) انظر التصريح 1/ 95، شرح شذور الذهب 177، حاشية الخضري 1/ 53، حاشية الصبان 1/ 109 (¬2) القاموس المحيط (كني) 4/ 384

ألفاظه ودلالاته

جاء في (التصريح): " المضمر اسم مفعول، من أضمرته إذا أخفيته وسترته وإطلاقه على البارز توسع. والضمير بمعنى المضمر على حد قولهم (عقد العسل فهو عقيد) أي معقود. وهو اصطلاح بصري والكوفية يسمونه كناية ومكنيا، لأنه ليس باسم صريح والكناية تقابل الصريح قال ابن هانيء: فصرح بمن تهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر (¬1) ألفاظه ودلالاته ألفاظ الضمائر كثيرة فهناك ضمائر الرفع المنفصلة، وضمائر النصب المنفصلة، والمتصلة. وضمائر الجر، ولا تكون إلا متصلة. أما ضمائر الرفع المنفصلة فهي: أنا للمتكلم نحو: {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحي} [طه: 13]. ونحن المتكلم مع غيره نحو {بل نحن محرومون} [القلم: 27]، أو للواحد معظما نفسه كقوله تعالى [نحن خلقناكم فلولا تصدقون] [الواقعة: 57]. أنت بفتح التاء للمخاطب، وأنت بكسر التاء للمخاطبة، وأنتما للمخاطبين، والمخاطبتين وأنتم للمخاطبين، وأنتن للمخاطبات. وهو للغائب، وهما للغائبين والغائبتين، وهم للغائبين العقلاء، ولا يكون لغير العاقل (¬2) فتقول: هم الرجال ولا تقول: هم الجمال وتقول (هم في الدار) وأنت تعني الرجال، ولا تقول (هم في الدار) وأنت تعني الجمال. (¬3) ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 95، وانظر ابن يعيش 3/ 84 (¬2) انظر المقتضب 2/ 186 (¬3) سيبويه 1/ 235

و (هي) للغائبة تقول (هي أختك)، ويقع للجمع أيضا عاقلا، أو غيره فتقول: هي الرسل، وهي الرجال، وهي الجمال قال تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي}. [البقرة: 271]. و(هن) للغائبات. وأما ضمائر الرفع المتصلة فهي: التاء المضمومة للمتكلم، و (نا) للمتكلم مع غيره، أو للمتكلم المفرد معظما نفسه، عادا إياها كالجماعة. (¬1) وللمخاطب التاء المفتوحة، وللمخاطبة التاء المكسورة، وللمخاطبين والمخاطبتين (تما)، وللمخاطبين (تم). وللغائبين والغائبتين الألف، وللغائبين الواو. وتكون الألف والواو للخطاب أيضا، إذا اتصلتا بالفعل، أو الأمر نحو: تذهبان، وتذهبون، واذهبا، واذهبوا. ولا تكون الواو إلا للعاقل أو لما نزل منزلة العاقل مثل (هم) فتقول: الرجال حضروا ولا تقول: الجمال ذهبوا. وما نزل منزلة العاقل نحو قوله تعالى {وكل في فلك يسبحون} [يس: 40]، وقوله: {يا أيها النامل ادخلوا مساكنكم} [النمل: 18]، وجاء في كتاب سيبويه إن النمل صار " بتلك المنزلة حين حدثت عنه كما تحدث عن الأناسي. وكذلك (في فلك يسبحون) لأنها جعلت في طاعتها، وفي أنه لا ينبغي لأحد إن يقول: (مطرنا بنوء كذا) ولا ينبغي لأحد أن يعبد شيئا منها بمنزلة من يعقل من المخلوقين ويبصر الأمور. (¬2) ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 8 (¬2) سيبويه 1/ 240

تاء التأنيث الساكنة هل هي ضمير؟

وللغائبات النون، نحو (النساء ذهبن)، وتكون للخطاب أيضا، إذا اتصلت بالمضارع والأمر نحو (تذهبن واذهبن). وأما ضمائر النصب المنفصلة فهي: إياي للمتكلم، وإيانا للمتكلم مع غيره، أو للواحد معظما نفسه. إياك بفتح الكاف للمخاطب، وإياكِ بكسر الكاف للمخاطبة، و (إياكما) للمخاطبين والمخاطبين، وإياكم للمخاطبين وإياكن للمخاطبات. إياه للغائب وإياها للغائبة، وإياهما للغائبين، وإياهم للغائبين العقلاء، وإياهن للغائبات. وضمائر النصب المتصلة هي بحذف (إيا) من الضمائر المذكورة آنفا. وضمائر الجر بلفظ النصب المتصلة. وذكروا أن هذا التنوع في ألفاظ الضمائر، من ضمائر رفع، إلى ضمائر نصب، إلى ضمائر جر، أغناها عن أن تكون معربة. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وإنما بنيت المضمرات أما لشبهها بالحروف وضعا .. وأما لعدم موجب الإعراب فيها، وذلك أن المقتضي لإعراب الأسماء توارد المعاني المختلفة على صيغة واحدة، والمضمرات مستغنية باختلاف صيغها، لاختلاف المعاني عن الإعراب، ألا ترى أن كل واحد من المرفوع، والمنصوب، والمجرور، له ضمير خاص (¬1)؟ تاء التأنيث الساكنة هل هي ضمير؟ ذهب النحاة عامة إلى إن تاء التأنيث الساكنة حرف وليست اسما (¬2)، وذهب بعضهم إلى أنها اسم (¬3) كالتاء المتحركة. وقد ذهب إلى هذا الرأي قسم من المحدثين فقالوا: ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 3 - 4، وانظر الأشموني: 1/ 110 - 111 (¬2) انظر سيبويه 1/ 235، ابن يعيش 3/ 88، الرضي على الكافية 2/ 9 (¬3) انظر الهمع 2/ 170

إنها شبيهة بتاء الفاعل، وذلك إن التاء المتحركة تكون للمتكلم. أو للخطاب والتاء الساكنة للغائبة. ثم إنها تقابل نون النسوة فإن التاء هذه للأفراد، ونون النسوة للجمع، ولما كانت نون النسوة اسما، كانت التاء كذلك، لأنها مفردها كالتاء المضمونة و (نا)، ضمير المتكلمين، فإن (نا) اسم، ومفرده وهو التاء المضمونة اسم أيضا، فلماذا لا تكون التاء الساكنة اسما؟ ومن أظهر ما يرد هذا القول، إنك تأتي بعد هذه التاء بالفاعل ظاهرا (¬1) فتقول: ذهبت ليلى، وخرجت سعاد، في حين لا يصح ذلك مع بقية الضمائر، فلا يؤتي بالفاعل بعد التاء المتحركة، ولا بعد نون النسوة فلا يقال (ذهبت خالد) على أن خالدا فاعل، ولا (ذهبن الهندات) على أن الهندات فاعل في اللغة المشهورة، فاختلف الأمر بين هذه التاء، والتاء المتحركة، جاء في (شرح ابن يعيش): " والتاء مؤذنة بأن الفعل لمؤنث والذي يدل أنها ليست اسما أشياء منها: إنك تقول (هند ضربت جاريتها) فترفع الجارية بأنها فاعلة، ولو كانت التاء اسما لم يجز رفع الاسم الظاهر، لأن الفعل لا يرفع فاعلين، أحدهما مضمر والآخر ظاهر. ومنها أنها لو كانت اسما، لكنت إذا قلت (قامت هند) قدمت المضمر على المظهر وذلك لا يجوز. ومنها إنك تقول في التثنية (قامتا) فتجمع بين التاء وضمير التثنية، فيلزم من ذلك أن يكون الفعل خبرًا عن ثلاثة من غير اشتراك. (¬2) وأما الشبهة القائلة بأن نون النسوة جمع لتاء التأنيث الساكنة، فهي وهم، فإن نون النسوة ليست جمعا لتاء التأنيث، وقد ذكرنا إنه لا يجوز ذكر فاعل ظاهر بعد نون النسوة بخلاف تاء التأنيث، ثم إنك قد تأتي مع الجمع بتاء التأنيث فتقول (حضرت النساء)، قال تعالى {وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار: 2] وتستعمل تاء التأنيث لجماعة الذكور أيضا ¬

_ (¬1) انظر الرضي على الكافية 2/ 9 (¬2) ابن يعيش 3/ 88

ضمير الفصل

قال تعالى: {وإذا الرسل اقتت} [المرسلات: 11]، وقال: {قالت الأعراب أمنا} [الحجرات: 14]، فتاء التأنيث تستعمل للمفرد والمثني والجمع بنوعيه المذكر والمؤنث في حين لا تستعمل نون النسوة إلا الجماعة الاناث. ولو كانت النون جمعا لتاء التأنيث، لجمعنا قولنا (حضرت الأم) بقولنا (حضرت الامهات) وهذا باطل غير صحيح. فدل ذلك على رجحان رأي النحاة في هذا القول والله أعلم. ضمير الفصل ضمير الفصل يقع بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله مبتدأ وخبر، واشترط الجمهور أن يكون الأول معرفة، وأما الثاني فمعرفة، أو كالمعرفة، في إنه لا يقبل (أل) نحو (زيد هو المنطلق) وقوله: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا} [المزمل: 20]. (¬1) ولو جوده في الكلام أغراض وفوائد أهمها: 1 - الإعلام بأن ما بعده خبر لا تابع: قال ابن هشام: " ولهذا سمي فصلا لأنه فصل بين الخبر والتابع، وعمادا لأنه يعتمد عليه معنى الكلام وأكثر النحويين يقتصر على هذه الفائدة" (¬2) وقال سيبويه في (باب ما يكون فيه هو، وأنت، وأنا، ونحن، وإخواتهن فصلا): " اعلم إنهن لا يكن فصلا، إلا في الفعل، ولا تكون كذلك إلا في كل فعل الاسم بعده بمنزلته، في حال الابتداء، واحتياجه إلى ما بعده كاحتياجه إليه في الابتداء، فجاز هذا في هذه الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء، واعلاما بأنه فصل ¬

_ (¬1) مغني اللبيب 2/ 494 - 495، وانظر كتاب سيبويه 1/ 355 (¬2) المغني 2/ 496، وانظر التفسير الكبير للرازي 2/ 34، المفصل 2/ 26، الكشاف 1/ 112، الاتقان 1/ 188

الاسم، وإنه فيما ينتظر المحدث عنه، ويتوقعه منه، مما لابد له من أن يذكره للمحدث، لأنك إذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدأ لابد منه وإلا فسد الكلام ولم يسغ لك، فكأنه ذكر (هو) ليستدل المحدث أن ما بعد الاسم ما يخرجه مما وجب عليه، وأن ما بعد الاسم ليس منه، هذا تفسير الخليل". (¬1) وهذا القول كسابقه أي الاعلام بأن ما بعده خبر لا تابع، فضمير الفصل قد يفيد أن ما يعده خبر لا تابع، ولولا هو لاحتمل أن يكون تابعًا، وأن يكون خبرًا، ومن ذلك قوله تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق} [آل عمران: 62]، فوجود الضمير عين أن يكون (القصص) هو الخبر، ولولا الضمير لاحتمل أن يكون (الحق) هو الخبر، والقصص بدلا منه، فيكون المعنى: إن هذا القصص هو الحق، ولا تظنن أن (إن) هي التي عينت الخبر برفعه، فذلك صحيح في هذه الجملة ولكن لو حذفنا (أن) ماتعين الخبر إلا بالضمير. ومن ذلك قوله تعالى: {ذلك هو الضلال البعيد} [الحج: 12] فوجود الضمير عين أن يكون (الضلال) هو الخبر، ولولا (هو) لاحتمل أن يكون البعيد هو الخبر، والضلال تابعًا، فيكون المعنى: ذلك هو الضلال هو البعيد. ونحوه قوله {ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11] ومنه {ذلك هو الفضل الكبير} [فاطر: 32]، وقوله: {إن هذا لهو البلاء المبين} [الصافات: 106]، وقوله: {وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة: 111]، ويحتمل أن يكون منه قوله: {والكافرون هم الظالمون} [البقرة: 254]، فلو حذف لاحتمل أن يكون (الظالمون) نعتا، والخبر محذوفا. 2 - الاختصاص والقصر: قد يأتي ضمير الفصل للدلالة على القصر، وإذا ذهب ذهب معنى القصر، جاء في (الإيضاح): " وأما توسط الفصل بينه وبين المسند إليه فلتخصصه به كقولك: زيد هو المنطلق، أو هو أفضل من عمرو، أو هو خير منه، أو هو يذهب (¬2). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 394 (¬2) الإيضاح 1/ 25، وانظر المغني 2/ 496، شرح المختصر على تلخيص المفتاح 41، حاشية الجرجاني على الكشاف 1/ 112 =

وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 5]. " و (هم) فصل وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر، لا صفةـ، والتوكيد، وإيجاب إن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره (¬1) " أي للقصر، وجاء في (معترك الأقران في إعجاز القرآن): " وممن ذكر أنه للحصر، البيانيون في بحث المسند إليه، واستدل له السهيلي بأنه أتي به في كل موضع إدعى فيه نسبة ذلك المعنى إلى غير الله، ولم يؤت به حيث لم يدع وذلك في قوله: {وأنه هو أضحك وأبكى. وأنه هو أمات وأحيا، وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى. من نطفة إذا تمنى، وأن عليه النشأة الأخرى، وأنه هو أغنى وأقنى، وأنه هو رب الشعرى، وأنه أهلك عادا الأولى} [النجم: 43 - 50]، (¬2) فلم يؤت به في {وأنه خلق الزوجين} [النجم: 45]، {وأن عليه النشأة الأخرى} [النجم: 47]، {وأنه أهلك عادا الأولى} [النجم: 50]، لأن ذلك لم يدع لغير الله، وأتى به في الباقي لادعائه لغيره" (¬3). وجاء في (التفسير الكبير) في إفادة ضمير الفصل الحصر " لو قلت: الإنسان ضاحك فهذا لا يفيد ان الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان أما لو قلت: الإنسان هو الضاحك فهذا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان". (¬4) وأرى أن هذا ليس دليلا، فقد يقال أن التخصيص جاء من التعريف، لا من ضمير الفصل وإنما جاء الضمير لتوكيد التخصيص الموجود. ومن دلالته على القصر بنفسه قوله تعالى: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار} [آل عمران: 10]، فضمير الفصل هنا يفيد قصرًا حقيقيًا، فالقول: {وأولئك هم وقود النار} قد يفيد مجرد الأخبار كما تقول (هذا صديقك) ووضع ضمير الفصل عين القصر الذي كان محتملا قبل دخوله. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 112 (¬2) ويلاحظ أن هذا ليس من ضمائر الفصل عند الجمهور وإنما هو توكيد أو مبتدأ (¬3) معترك الاقران 1/ 186 (¬4) التفسير الكبير 2/ 34

ومنه قوله تعالى {والذين كفروا بآيتنا هم أصحاب المشئمة} [البلد: 19]، فقد أفاد الضمير القصر ولو حذف لكان القصر محتملا. وإذا أخذنا بالرأي القائل أن ضمير الفصل قد يقع بين المبتدأ وخبره الفعلي (¬1)، كان منه قوله تعالى {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده. ويأخذ بالصدقات} [التوبة: 104] فالضمير (هو) أفاد معنى القصر، ولو حذف لكان القصر محتملا لا معينا، فإن قلت (أن الله يقبل التوبة) كان أخبارا بأن الله يقبل التوبة دون إفادة القصر. ونحوه قوله: {إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة} [السجدة: 25]، وقوله {ومكر أولئك هو يبور} [فاطر: 10]، وقوله {إنه هو يبديء ويعيد} [البروج: 13]، ونحوها فوجد الضمير ها هنا أفاد معنى القصر ولو حذف لكان محتملا. 3 - التوكيد: ولهذا سماه بعض الكوفيين دعامة، لأنه يدعم به الكلام، أي يقوي ويؤكد (¬2)، جاء في (الكشاف) في قوله تعالى {وأولئك هـ المفلحون} [البقرة: 5]. (وهم) فصل وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة، والتوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره. (¬3) قال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 100]. وقال: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم}. [التوبة: 72]. ¬

_ (¬1) هو رأي الجرجاني وجماعة - المغني 2/ 494 - 495، وفيه: وقد يستدل لقول الجرجاني بقوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي) فعطف (يهدي) على (الحق) الواقع خبرًا بعد الفصل أهـ. (¬2) المغني 2/ 496 (¬3) الكشاف 1/ 112

فانظر إلى الفرق بين الآيتين، فقد جاء بإحداهما بضمير الفصل دون الأخرى، وذلك أنه لما عدل عن قوله (رضي الله عنهم ورضوا عنه) إلى قوله (ورضوان من الله أكبر) فجاء بالجملة الإسمية الدالة على الثبوت، والتي هي أقوى من الفعلية ثم أخبر بأن رضوان الله أكبر من الجنات. وملذاتها، ناسب عظم ذلك المجيء بضمير الفصل فقال (ذلك هو الفوز العظيم). وقال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 120] وقال: {قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا اله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدي الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين} [الأنعام: 71]. وقال: {وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولاتؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} [آل عمران: 72 - 73]. فأنت ترى أنه في الآيتين الأوليين قدم (هدى الله) وجاء بضمير الفصل، وفي الثالثة قدم (الهدى). ولم يأت بضمير الفصل. ولعل السبب أن الآيتين الأوليين في الأديان، فالآية الأولى في اليهودية والنصرانية والثانية في الشرك فناسب الرد بتقديم (هدي الله) وهو (الإسلام) هنا فكأنه قال لهم: أن هدي الله، أي الإسلام، هو الهدى الكامل، الصحيح التام لهدايتكم، وما أنتم عليه، فناسب تقديمه، وحصر الهداية عليه، والمجيء بضمير الفصل توكيدا لهذا المعنى، وناسب هذا التوكيد والقصر زيادة (من) في الآية الأولى، وزيادة اللام في (لنسلم) في الثانية لتوكيد هذا المعنى. جاء في الكشاف في تفسير آية البقرة: يعني أن هدي الله الذي هو الإسلام، هو الهدى بالحق والذي يصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله

ليس وراءه هدى، وما تدعون إلى أتباعه ما هو بهدى، إنما هو هوى ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولئن أتبعت أهواءهم} أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع" (¬1). أما الآية الثالثة فهي ليست في الموازنة بين أهل الأديان، وإنما هي رد على تصرف سيء ومكر، إذ قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بما أنزل على محمد وجه النهار واكفروا آخره، وقولوا نحن آمنا به ظنا بأنه حق، ولكن استبان لنا أنه باطل، فرجعنا عنه إلى ديننا الذي هو الحق لعلهم يرجعون عن دينهم، فنزلت الآية ردا على مكرهم وكيدهم وإدعائهم الهدى، فقال تعالى: {قل إن الهدى هدى الله} أي أن الهدى أن يهديكم الله إلى الدين الصحيح، وإلى الحق وليس الهدى أن تعلموا مثل هذا المكر والتبييت، الهدى أن يشرح الله صدوركم لقبول الحق، ويفتح قلوبكم للخير، وليس الهدى ما تبيتون وما تنوون، فناسب هذا أن يقول: {قل إن الهدى هدى الله} وهو رد على تصرفهم وزعمهم، وتبيان للهدى الصحيح جاء في (الكشاف) في هذه الآية: " معناه أن الهدى هدي الله، من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان ذلك، ولم ينفع كيدك وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين (¬2). وقال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [الحج: 62]. وقال: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [لقمان: 30]. فأنت تلاحظ تشابه الآيتين إلا في وجود ضمير الفصل في آية الحج (وهو الباطل) وخلوها منه في آية لقمان (الباطل)، وسياق الآيتين يوضح ذلك، فآية الحج واقعة في سياق الصراع بعد ذكر الأمم السالفة وتكذيبهم لرسلهم بقوله تعالى: {والذين سعوا في ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 236، وانظر الكشاف 1/ 512 (¬2) الكشاف 1/ 329

آيتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم} [الحج: 51]، فهنا سعي لإطفاء نور الله، وقتل كلمة الحق، ثم يسترسل إلى أن يقول: {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين} [الحج: 58]، وهذا من نتائج الصراع، الهجرة من الأرض إلى أرض أخرى، والقتل والموت إلى أن ينتهي إلى الآية. فهنا أنصار الباطل ساعون لإطفاء نور الله معاجزون معاندون، ولا تجد مثل هذا في سورة لقمان، وإنما هو عرض لأصحاب الباطل من وجه آخر، ليس فيه هذا الصراع قال تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعون إلى عذاب السعير} [لقمان: 21] {ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولين سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} [لقمان: 23 - 25]. {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجي إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو الغني الكبير} [لقمان: 29 - 30]. فأنت ترى أن السياق مع أهل الباطل هنا يختلف، فهم في الصورة الأولى ساعون معاجزون معاندون مصارعون نتيجته هجرة المؤمنين، أو قتلهم، أو موتهم، فاحتاج الأمر إلى توكيد أن ما هم عليه هو الباطل لزيادة تثبيت المؤمنين. وفي الآية الثانية جدال ليس فيه صدام فلما كان الموقف مختلفا، اختلف التوكيد في الآيتين حسب ما اقتضاه السياق. وقال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة: 40].

فانظر كيف قال سبحانه {جعل كلمة الذين كفروا السفلى} ثم استأنف كلاما جديدا فقال {وكلمة الله هي العليا} فجاء بضمير الفصل مع الاستئناف، ولم يعطفها على كلمة الكفر، أي أن كلمة الله هي العليا بدون جعل جاعل، شأنها الارتفاع والعلو، وهي المرتفعة دوما بذاتها. وهو - أي ضمير الفصل - يفيد توكيد معاني القصر المتعددة التي يدخل عليها فهو يفيد: أ - توكيد القصر الحقيقي: فقد يكون الكلام دالا على القصر من دون ضمير الفصل فيأتي ضمير الفصل مؤكدا هذا المعنى قال تعالى: {إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]، فلو حذف الضمير لبقي معنى القصر، ولكنه جاء بالضمير توكيدا لهذا المعني، ومن ذلك قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون} [البقرة: 121]، وقوله: {ومن يتول الله ورسوله والذين أمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 56]، وقوله: {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} [المائدة: 117]، وقوله: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [النحل: 125] وقوله: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} [المؤمنون: 102]، {إن ربك هو القوي العزيز} [هود: 66]. ب - توكيد القصر الذي على جهة المبالغة: وذلك كأن تقول: زيد الشاعر فتقصر الشعر عليه مبالغة، كأن ما عداه ليس بشاعر، ثم تؤكد هذا المعنى فتقول: (زيد هو الشاعر) ـ، قال تعالى في المنافقين: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} [البقرة: 12]، وقال فيهم أيضا: {إلا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون}، [البقرة: 13]، ومن المعلوم أن هناك مفسدين آخرين، وهناك سفهاء آخرين، قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء: 5]، ولكنه قصر الأفساد والسفه عليهم مبالغة على معنى أنهم أولى من يسمى هذا الاسم، أو على أنهم كاملون في هاتين الصفتين.

وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44]، هذا القصر على جهة المبالغة قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} [النساء: 150 - 151]، فقصر الكفر على الأولين مبالغة. وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45]، وهذا القصر على جهة المبالغة أيضا كقوله تعالى: {ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة: 9]، وقوله: {يا أيها الذين أمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خير منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} [الحجرات: 11]، وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 47] وقال: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال اقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فأشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [آل عمران: 81 - 82]، وقال: {إن المنافقين هم الفاسقون} [التوبة: 67]. وقال: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا، وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4]. ولا يمكن أن يكون هذا كله قصرا حقيقيا: فهو قصر على جهة المبالغة أو على معنى الكمال في الصفة. ج - توكيد معنى المقايسة: وذلك كقولك الشاعر هو البحتري، لم ترد أن تقصر الشعر عليه، ولكن كأنك قلت هل سمعت بالشاعر وخبرت معرفته؟ فإن كنت قد عرفته حقا فهو البحتري، وتؤكد هذا المعنى فتقول: الاشعر هو البحتري قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك

هم المهتدون} [البقرة: 155 - 157]، فكأنه قال: هل سمعت بالمهتدين وخبرت حقيقتهم؟ أنهم هؤلاء. ونحوه قوله تعالى: {إنما يفتري الكذب الذي لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} [النحل: 105]، فالكاذبون كثيرون، ولكن هؤلاء أولى من يسمى بهذا الاسم فكأنه يقول: هل عرفت حقيقتهم؟ فهم هؤلاء. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 5]، ومعنى التعريف في (المفلحون) الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة، كما إذا بلغك أن إنسانا قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل: التائب أي والذي أخبرت بتوبته. أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين، وتحققوا ما هم، وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم لا يعدون تلك الحقيقة كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الأقدام؟ إن زيدا هو هو. (¬1) د - توكيد معنى الكمال: جاء في (التفسير الكبير) في قوله تعالى: {إنك أنت السميع العليم} [آل عمران: 35]، " فإن قيل: قوله: {إنك أنت السميع العليم} يفيد الحصر وليس الأمر، كذلك فإن غيره قد يكون سميعا قلنا: إنه سبحانه لكماله في هذه الصفة، كأنه هو المختص بها دون غيره. (¬2) وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى {وأولئك هم الكاذبون} [النحل: 105]، أي أولئك هم الكاذبون على الحقيقة، الكاملون في الكذب، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب، أو أولئك هم الذين عادتهم الكذب، لا يبالون به في كل شيء، لا تحجبهم عنه مروءة ولا دين. (¬3) وهذا النوع في الحقيقة من باب القصر الادعائي. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 112 - 114 (¬2) التفسير الكبير 4/ 65 (¬3) الكشاف 2/ 218

ضمير الشأن

ضمير الشأن من عادة العرب أنهم قد يقدمون على الجملة ضميرا تفسره الجملة، بعده يسمى ضمير الشأن، ويسميه الكوفيون ضمير المجهول، وذلك في مواضع التفخيم والتعظيم يقولون: (هو زيد منطلق) ومعنى: (هو): (زيد منطلق) أي معنى الضمير هو معنى الجملة فيكون المعنى هكذا: الشأن زيد منطلق، أو الأمر زيد منطلق: ويعني بالأمر ما بعده. جاء في (شرح التصريح): والجملة أما نفس المبتدأ في المعنى، فلا تحتاج لرابط يربطها بالمبتدأ .. نحو: (هو الله أحد) إذا قدر (هو) ضمير شأن، فهو مبتدأ (والله أحد) جملة خبره، وهي عينه في المعنى لأنها مفسرة له، والمفسر عين المفسر أي: الشأن الله أحد. ولا يكون ضمير الشأن لحاضر، وإنما يكون ضمير غيبة مفسرا بجملة بعده خبرية مصرح بجزءيها، فإن كان بلفظ التذكير، سمي ضمير الشأن، وإن كان بلفظ التأنيث، سمي ضمير القصة وقد يسمى بهما. (¬1) ولا يكون ذلك إلا في مواضع التفخيم، جاء في (شرح المفصل)، اعلم أنهم إذا أرادوا ذكر جملة من الجمل الإسمية، أو الفعلية فقد يقدمون قبلها ضميرا يكون كناية عن تلك الجملة، وتكون الجملة خبرا عن ذلك الضمير، وتفسيرا له ويوحدون الضمير لأنهم يريدون الأمر والحديث، لأن كل جملة شأن وحديث، ولا يفعلون ذلك إلا في مواضع التفخيم والتعظيم، وذلك قولك (هو زيد قائم) فهو ضمير لم يتقدمه ظاهر، إنما هو ضمير الشأن والحديث، وفسره ما بعده من الخبر وهو (زيد قائم) ولم يأت في هذه الجملة بعائد إلى المبتدأ، لأنها هو في المعنى ولذلك كانت مفسرة له، ويسميه الكوفيون الضمير المجهول، لأنه لم يتقدمه ما يعود إليه .. ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 162 - 163

ويجيء هذا الضمير مع العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر نحو إن وأخواتها وظن وأخواتها، وكان وأخواتها، وتعمل فيه هذه العوامل .. تقول إنه زيد ذاهب، فالهاء ضمير الأمر و (زيد ذاهب) في مواضع خبر الأمر. (¬1) وجاء في (شرح الرضى على الكافية): ويتقدم قبل الجملة ضمير غائب يسمى ضمير الشأن، يفسر بالجملة بعده، ويكون منفصلا، ومتصلا مستترا، وبارزا على حسب العوامل .. والمراد بهذا الضمير، الشأن والقصة، فيلزمه الأفراد والغيبة كالمعود إليه، أما مذكرا، وهو الأغلب، أو مؤنثا كما يجيء، وهذا الضمير كأنه راجع في الحقيقة إلى المسؤول عنه بسؤال مقدر تقول مثلا: (هو الأمير مقبل) كأنه سمع ضوضاء وجلبة فاستبهم الأمر فيسأل ما الشأن والقصة؟ فقلت: (هو الأمير مقبل). أي الشأن هذا. والقصد بهذا الإبهام، ثم التفسير، تعظيم الأمر وتفخيم الشأن، فعلى هذا لابد أن يكون مضمون الجملة المفسرة شيئا عظيما يعتني به، فلا يقال مثلا: هو الذباب يطير (¬2). وجاء في الطراز: إن ضمير الشأن والقصة على اختلاف أحواله، إنما يريد على جهة المبالغة في تعظيم تلك القصة، وتفخيم شأنها، وتحصيل البلاغة فيه، من جهة أضماره أولا وتفسيره ثانيا، لأن الشيء إذا كان مبهما فالنفوس متطلعة إلى فهمه ولها تشوق إليه (¬3). فهناك فرق في المعنى بين قولنا: زيد منطلق، وزيد هو منطلق، وهو زيد منطلق، فالجملة الأولى أخبار أولي، والثانية فيها معنى التخصيص، وليس في الثالثة معنى التخصيص، وإنما فيها معنى التفخيم والتعظيم. ¬

_ (¬1) شرح المفصل لابن يعيش 3/ 114 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 27 (¬3) الطراز 2/ 142، وانظر 2/ 78، شرح الرضي على الكافية 76، ودلائل الإعجاز 102، البرهان 2/ 410

تقول: أنا زيد، وأنا أنا زيد، وهو أنا زيد، فالأولى أخبار ابتدائي، والثانية توكيد لمن يشك في أنك زيد، وأما جملة (هو أنا زيد) فلتفخيم الأمر. تقول (هو) فتجعل السامع يذهب في الظن كل مذهب في هذا الضمير الذي لا يدري علام يعود وتجعله متشوقا لخبره ثم تأتي بجملة تفسره. وقد ذهب بعضهم إلى أن ضمير الشأن يفيد التوكيد إضافة إلى التفخيم (¬1) والذي يبدو لي أن الغرض الرئيس منه هو التفخيم. وتقول: (زيد الحاضر) و (زيد هو الحاضر) و (زيد زيد الحاضر) و (هو زيد الحاضر) فالجملة الأولى أخبار بالمعرفة على معنى القصر، والثانية لتوكيد القصر، والثالثة توكيد لمن شك في (زيد) أو ظن أنه انصرف ذهنه إلى غيره، فتكرر له زيدا لتزول هذه الاحتمالات. وأما الرابعة فلغير ذلك، أنها لتفخيم الأمر وتعظيمه والضمير (هو) في الجملة الرابعة غيره في الجملة الثانية وهو ليس زيدا. فهو في الجملة الثانية ضمير فصل يعود على الاسم السابق ويطابقه في التذكير والتأنيث والأفراد والتنثية والجمع والحضور والغيبة فتقول: إنني أنا السابق، زيد هو السابق، الرجلان هما السابقان، هند هي السابقة، الرجال هم السابقون إننا نحن السابقون، إنك أنت السابق، بخلاف ضمير الشأن الذي يكون بلفظ الأفراد والغيبة وإنما هو قد يؤنث لما بعده قال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار} [الحج: 46]، وقال: {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21]. وقال: {إنه لا يفلح الكافرون} [المؤمنون: 117]، ولا يدل الضمير على اسم بعينه بل على الجملة كما ترى في قوله: {إنه لا يفلح الظالمون} وغيرها، فلا يقصد بـ (هو) (زيد) وإنما يقصد به الأمر، ولذلك يصح أن تقول: (هو أنا حاضر)، ولا يصح أن تقول: (أنا هو حاضر) فلو كان الضمير يعود على الاسم بعده، لكان الكلام متناقضا إذ كيف يكون الغائب حاضرا متكلما؟ ¬

_ (¬1) دلائل الاعجاز 102

قال تعالى: {فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني أقم الصلاة لذكري} [طه: 11 - 14]. وقال: {فلما أتاها نودي من شاطيء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبراولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الأمين}. [القصص: 30 - 31]. وقال: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون} [النمل: 8 - 10]. فأنت ترى إنه قال في الآية الأولى (إنني أنا الله) بلفظ المتكلم، وفي الثانية (إني أنا الله) بلفظ المتكلم أيضا، وفي الثالثة (إنه أنا الله العزيز الحكيم) بلفظة ضمير الشأن. وأنت تلاحظ مقام التفخيم في الآية الثالثة من السياق (أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين) فهو مسبوق بالتعظيم والتنزيه مما ناسب ضمير الشأن. ولضمير الشأن إضافة إلى ما ذكرناه، وظيفة مهمة في الكلا، هي إدخال الحروف المشبهة بالفعل على الجمل الفعلية، ولولا هو ما أمكن ذلك وذلك نحو قوله تعالى: {فإنها لاتعمي الأبصار} [الحج: 46]، وقوله: {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21]، وقوله: {ياليتها كانت القاضية} [الحاقة: 27]، وقوله: {ويكأنه لا يفلح الكافرون} [القصص: 82]، فتكون الجملة الفعلية مؤكدة بأن وتكون متمناه ومترجاه، وغير ذلك قال الليث: " تقول: بلغني أن قد كان كذا وكذا، تخفف من أجل (كان) لأنها فعل. ولولا (قد) لم تحسن على حال من الفعل، حتى تعتمد على (ما) أو على (الهاء) كقولك (إنما كان غائبا) و (بلغني أنه كان أخو بكر غنيا) وكذلك (بلغني أنه كان كذا وكذا) تشددها إذا اعتمدت (¬1). ¬

_ (¬1) لسان العرب 16/ 170 - 171

عود الضمير

وجاء في التطور النحوي لباجشتراسر: ومن خصائص العربية إن مبتدأ الجملة الأسمية المركبة ربما كان ضميرا للغائب لا علاقة له بالجملة الخبرية، ولا راجع إليه فيها وهذا ما سماه النحويون ضمير الشأن نحو (إنه لا يفلح الظالمون) وأكثر ذلك بعد (إن) كما هو في هذا المثال أو بعد (أن). وفائدة هذا التركيب أنه يمكن الناطق من إدخال إن أو أن على الجمل الفعلية نحو (إنه لا يفلح الظالمون)، فهذا مما يشهد بمزية العربية شهادة مبينة، فغيرها من اللغات السامية قد يقدم أمثال إن على الجملة الفعلية، وإن كان موضعها أول الجملة الأسمية فقط. والعربية أعدمت الشواذ وأقصت قاعدة إلحاق إن وأخواتها بالجملة الاسمية فقط، وهي مع ذلك أخترعت وسيلة لقلب الجملة الفعلية إسمية بغير تغيير تركيبها، لكي يمكن إلحاق إن وأخواتها بالجمل الفعلية بواسطة لا مباشرة. (¬1) عود الضمير. وفيه مسائل أهمها: 1 - إن الأصل في الضمير أن يعود على الاسم المتقدم، نحو قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاون} [الشعراء: 224]، وقوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}. [البقرة: 124]. 2 - وقد يعود على متأخر في اللفظ، متقدم في الرتبة، وذلك نحو قوله تعالى: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} [طه: 67]، ونحو قولهم (في بيته يؤتى الحكم) فالضمير في الآية عاد على موسى، وهو متأخر لفظا متقدم رتبة وكذلك المثل. 3 - قد يستغني عن المفسر (¬2) في اللفظ بما يدل عليه حسا (¬3) وذلك نحو قوله تعالى: ¬

_ (¬1) التطور النحوي 91 (¬2) المفسر هو الاسم الذي يعود عليه الضمير (¬3) الهمع 1/ 65

{قال هي راودتني عن نفسي} [يوسف: 26]، وقوله: {وشهد شاهد من أهلها} [يوسف: 26]، فالضمير يعود على امرأة العزيز ولم يتقدم لها ذكر صريح فهو مدلول عليه حسا. وكقوله تعالى: {قالت إحداهما يأبت استأجره} [القصص: 26]، فالضمير يعود على موسى وذلك لأن الكلام يدور عليه وهو مدلول عليه بالحسن. 4 - قد يدل على المفسر العلم به (¬1) وأن لم يتقدم له ذكر نحو قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} فالضمير يعود على القرآن، وكقوله: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32]، يعني الشمس فهي مفهومة من السياق. وكقوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45]، أي على ظهر الأرض وذلك لأن الكلام على الناس والناس على الأرض. 5 - قد يتقدم معنى المفسر ولا يتقدم لفظه صراحة وذلك كقوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]، فالضمير (هو) يعود على العدل، ولم يتقدم له ذكر بل تقدم الفعل (اعدلوا) الذي يدل عليه. كقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء هو خير لكم} [البقرة: 271]، والمعنى: فاخفاؤها خير لكم. فالضمير (هو) يعود على الاخفاء ولم يتقدم ذكره بل تقدم فعله. وكقوله. إذا زجر السفيه جرى إليه. أي جرى إلى السفه (¬2). 6 - قد يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة، وذلك كضمير الشأن نحو: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1]، وكما إذا كان الضمير مجرورا برب، مفسرا بتمييز نحو (ربه رجلا أكرمت) وغير ذلك من المواضع (¬3) والقصد من هذا، هو التعظيم والتفخيم (¬4) في الغالب. ¬

_ (¬1) انظر الهمع 1/ 65، الرضي على الكافية 2/ 5 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 5 (¬3) انظر مغني اللبيب 2/ 489 (¬4) انظر الرضى على الكافية 2/ 5 - 6

7 - إذا تقدم شيئا أو أكثر مما يصلح للتفسير، فالأصل أن يعود الضمير على الأقرب نحو (جاء محمد وخالد فأكرمته) أي فأكرمت خالدًا وكقوله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل} [يونس: 5]، أي قدر القمر وكقوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم لا تسمعون} [الأنفال: 20]، فالضمير عاد على القريب وهو الرسول. (¬1) ويجوز أن يعود على الأول مع القرينة (¬2) وذلك كقوله تعالى {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} [الجمعة: 11]، فعاد على التجارة وأعاده الضمير على أحد المذكورين أنما يكون بحسب ما يقتضيه المقام فقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} [الجمعة: 11]، إنما أعاد الضمير فيه على التجارة، لأنها كانت سبب الانفضاض، وهو يخطب (¬3) وقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 45]، إنما أعاد الضمير فيه على الصلاة دون الصبر، وختم الآية بالكلام عليها لأن الكلام على الصلاة، فقد تقدم ذكر الصلاة بالمطالبة بها قال تعالى: {وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43]، بخلاف قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153]، فقد ختم الآية بالكلام على الصبر، وذلك لأن الكلام عليه والسياق يقتضيه فقد قال تعالى بعد هذه الآية: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 154 - 156]، فلما كان السياق في الموطن الأول عن الصلاة أعاد الضمير عليها وختم الآية بها. ولما كان السياق في الموطن الثاني عن الصبر ختم الآية بالكلام على الصابرين والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر البرهان 4/ 30 - 31، الاتقان 1/ 187 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 5 (¬3) البرهان 4/ 31

عود الضمير على الجمع

8 - إذا كان في الكلام مضاف ومضاف إليه، فالأصل أن يعود الضمير على المضاف نحو (جاء أخو خالد فاكرمته) أي فأكرمت الأخ وكقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34]، فالضمير عاد على المضاف. وقد يعود على المضاف إليه مع القرينة وذلك نحو قوله تعالى: {فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [غافر: 37]، فالضمير عائد على المضاف إليه وهو موسى. وكقوله تعالى: {واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون} [النحل: 114]. (¬1) عود الضمير على الجمع: الأصل في جمع العلاقات أن يعود الضمير عليه بصيغة الجمع ولا يعود عليه بغير ذلك إلا قليلا فيقال: الهندات ذهبن. قال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة: 233]، وقل أن يقال: الهندات ذهبت (¬2). وأما جمع غير العاقل فالغالب أن يعود عليه الضمير في جمع الكثرة بالأفراد وفي القلة بالجمع. (¬3) وجمع القلة يكون من الثلاثة إلى العشرة والكثرة ما زاد على العشرة تقول: (الأشجار سقطن) إذا كانت الأشجار قليلة وتقول (الأشجار سقطت) إذا كانت كثيرة جاء في الهمع: والأحسن في جمع المؤنث غير العاقل إن كان للكثرة أن يؤتى بالتاء وحدها في الرفع وهامع التاء في غيره. وإن كان للقلة أن يؤتى بالنون فالجذوع انكسرت وكسرتها أولى من انكسرن وكسرتهن والأجذاع بالعكس بالعكس (¬4). وهذا ما نطق به القرآن الكريم واستعمله العرب في الكثير من كلامهم. قال تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة: 36]. ¬

_ (¬1) انظر البرهان 4/ 39، الاتقان 1/ 185 (¬2) انظر الهمع 1/ 59 - 60 (¬3) انظر معترك الاقران 3/ 581، الهمع 1/ 59 (¬4) الهمع 1/ 59

فجعل ضمير الأشهر بالأفراد وهو الهاء وذلك لأنها أكثر من عشرة فقال (منها) وجعل ضمير الأشهر الحرم بالجمع لأنها أربعة فقال: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} (¬1). وقال: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق} [البقرة: 197]، فأعاد الضمير عليهن بالجمع لأنهن ثلاثة أشهر. وقال تعالى: {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وحعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا} [نوح: 15 - 16] فأعاد الضمير على السماوات بصيغة الجمع لأنهن سبع. ويدل على ذلك أيضا استعمال العرب للضمير فيما يؤرخون فإن " كلام العرب لما بين الثلاثة إلى العشرة تقول: لثلاث ليال خلون وثلاثة أيام خلون إلى العشرة. فإذا جزت العشرة قالوا: خلت ومضت. ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة (هن)، و (هؤلاء) فإذا جزت العشرة قالوا (هي وهذه) أرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير. (¬2) ويقولون: لأربع عشرة ليلة بقيت، ولثلاث عشرة ليلة بقيت، ولعشر بقين، ولتسع بقين وكذا ما بعده (¬3)، فيجلعون التاء للكثير والنون للقليل. قال الكسائي، كنت اتعجب من العرب تقول: لعشر مضين ولأحدى عشرة مضت (¬4). وذكر الفراء تفسيرا لهذه القاعدة فقلا: إن المميز مع جمع الكثرة وهو ما زاد على العشرة لما كان واحدا وحد الضمير، ومع القلة وهو العشرة وما دونها لما كان جمعا جمع الضمير. (¬5) ¬

_ (¬1) انظر درة الغواص 75/ 76، التفسير الكبير 16/ 54، الهمع 1/ 95 (¬2) معاني القرآن 1/ 435 (¬3) انظر الهمع: 2/ 152 درة الغواص 76075، ذيل فصيح ثعلب ص 3 (¬4) مجالس ثعلب 227 (¬5) معترك الاقران 3/ 581، البرهان 4/ 23

ومن الواضح أن العرب تستعمل الجمع للقلة والمفرد للكثرة في مواطن منها: 1 - تمييز العدد كما ذكر الفراء فإن العرب تستعمل الجمع مع القلة والمفرد مع الكثرة فيقال: خمسة رجال وعشرة نسوة، ويقال عشرون رجلا ومائة رجل وألف امرأة. 2 - الضمير في التاريخ وغيره كما ذكرنا، نحو (الجذوع انكسرت وانكسرن) ومنها ومنهن وخلت وخلون. 3 - صفة جمع مالا يعقل، فإن الأفراد يستعمل للكثرة والجمع للقلة، نحو أيام معدوات، وأيام معدودة فإن (معدودة) تدل على ان الأيام كثيرة و (معدودات) للقلة. ونحو أنهار جاريات وأنهار جارية، فإن (جارية) تدل على ان الأنهار كثيرة و (جاريات) تدل على أنها قليلة. جاء في (شرح الأشموني). والأفصح في جمع القلة مما لا يعقل، وفي جمع العاقل مطلقا المطابقة نحو: الأجذاع انكسرن ومنكسرات، والهندات انطلقن ومنطلقات. والأفصح في جمع الكثرة مما لا يعقل الأفراد نحو: الجذوع انكسرت ومنكسرة (¬1). وجاء في درة الغواص: وكذالك اختاروا أيضا أن الحقوا بصفة الجمع الكثير الهاء فقالوا (أعطيته دراهم كثيرة) و (اقمت اياما معدودة) والحقوا بصفة الجمع القليل الألف والتاء فقالوا: أياما معدوات وكسوته أثوابا رفيعات (¬2). 4 - إسم الإشارة لغير العاقل فهؤلاء للقلة (¬3)، و (هذه) للكثرة و (أولئك) للقلة و (تلك) للكثرة، جاء في (معاني القرآن) للفراء: ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة هن وهؤلاء فإذا جزت العشرة قالوا هي وهذه أرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير .. وقال الله تبارك وتعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك} [الإسراء: 36]. ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 18 - 19، وانظر درة الغواص ص 76 (¬2) درة الغواص 76 (¬3) استعمال (هؤلاء) لغير العاقل قليل والأكثر استعماله للعاقل انظر التصريح 1/ 127 - 128، حاشية يس على التصريح 1/ 127، الأشموني 1/ 139

نون الوقاية

لقلتهن، ولم يقل (تلك) ولو قيلت كان صوابا (¬1). وقد يعدل إلى غير هذا لضرب من البلاغة كتنزيل القلة منزلة الكثرة وبالعكس مما يليق به المقام، وذلك نحو قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدوات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة: 183 - 184]، فقال (أياما معدوات) لتقليلها مع أنها أكثر من عشرة، أي هي قليلة يسيرة بالنسبة إلى قدرتكم واستطاعتكم، ولذا قال بعدها {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. وهو من باب التلطف بعبادة المؤمنين. وهذا نظير ما نستعمله في كلامنا فنقول لواحد منا وقد أعددنا له امرا فيه شيء من الكلفة نريد أن نهونه عليه فنقول: هذا بالنسبة إليك سهل ميسور، ولا يمر وقت قليل إلا وأنت منجزة، وبالعكس في مقام التقليل من شأن المخاطب فنقول له: هذا فوق طاقتك، وأنت لا تستطيع مثل هذا. ولكل مقام مقال. نون الوقاية تلحق نون الوقاية قبل ياء المتكلم المنصوبة بواحد من ثلاثة: أحدها: الفعل سواء كان متصرفا أم جامدا نحو (أكرمني) و (ذهب الطلاب ما عداني) و (ما أفقرني إلى عفو الله). الثاني: اسم الفعل نحو (دراكني) بمعنى ادركني (وتراكني) بمعنى (اتركني) و (عليكني) بمعنى الزمني. الثالث: الحرف نحو: (إنني ولكنني) وهي جائزة الحذف والذكر مع إن وأن ولكن وكأن. ¬

_ (¬1) معاني القرآن 1/ 435

وتلحق أيضا قبل الياء المجرورة بمن وعن وقبل ما أضيف إليه لدن (¬1) نحو {قد بلغت من لدني عذرا} [الكهف: 76]. وقيل أنها سميت نون الوقاية لأنها تقي الفعل الكسر. (¬2) وقيل بل سميت بذلك لأنها تقي من التباس أمر المذكور بأمر المؤنث، لو قيل اكرمني، ومن التباس ياء المتكلم بياء المخاطبة فيه، ومن التباس الفعل بالاسم في نحو (ضربى) إذ الضرب اسم للفعل، وقد لحق الكسر الفعل في نحو اكرمي ولم يبال به. (¬3) ولا شك أن لنون الوقاية أكثر من وظيفة لغوية ذكر بعضها النحاة وأبرز وظائفها هي: 1 - إزالة اللبس بين أمر المخاطب وأمر المخاطبة في نحو: أكرمني وأكرمي، وأسمعني وأسعي، وأنصرني وانصري، فإن اكرمني أمر للمخاطب بإكرام المتكلم وأكرمي أمر للمخاطبة ولو حذفت نون الوقاية لالتبس أمر المخاطب بأمر المخاطبة. 2 - إزالة اللبس بين امر المخاطبة والفعل الماضي المتصل بياء المتكلم نحو: تداركي وتداركني، وتعاوري وتعاورني، وتحملي وتحملني، فإن تداركي أمر للمخاطبة وتداركني فعل ماض ولولا النون لالتبس الفعلان وكذلك ما بعده. بل إن النون هنا أزالت اللبس بين أمر المخاطب، وأمر المخاطبة، والفعل الماضي فإن تداراكي أمر للمخاطبة وتداركني، بسكون الكاف أمر للمخاطب، وتداركني بفتح الكاف فعل ماض ولولا النون لالتبست هذه الصيغ بعضها ببعض. 3 - إزالة اللبس بين الاسم والفعل في نحو: حجري وحجرني، ونابي، ونابني، وضربي وضربني، فإن الحجر في (حجري) اسم مضاف إلي ياء المتكلم، ونحوه نابي ¬

_ (¬1) انظر مغني اللبيب 3/ 344، الهمع 1/ 64، وانظر سيبويه 1/ 382 (¬2) سيبويه 1/ 386، الهمع 1/ 64 (¬3) الهمع 1/ 64، وانظر حاشية يس على التصريح 1/ 110

وضربي (¬1) وحجرني فعل بمعنى جيسني وكذلك نابني، وضربني، ولولا النون لالتبس الفعل بالاسم. 4 - إزالة اللبس بين اسم الفعل وغيره من الأسماء في نحو سماعني وسماعي، فإن سماعني اسم فعل أمر بمعنى أسمعني وسماعي مصدر للفعل سمع مضاف إلى ياء المتكلم، ونحو قطني وقطي، وقدني وقدي، بعنى يكفي، وحسب التي بمعنى يكفي تكون بالنون وهي اسم فعل، والتي بمعنى حسب هي اسم وتكون بغير نون. (¬2) 5 - إزالى اللبس بين حرف الجر والفعل، في نحو خلاي وخلاني، وعداي وعداني فإن التي بالنون فعل دون أختها. 6 - ثم هي تفيد زيادة التوكيد، في إن وأن ولكن وكأن نحو إني وإنني، وكأني وكأنني فقولك إنني مسافر غدا، اكد من قولك إني مسافر غدا، وسيأتي بيان ذلك في بابه من الأحرف المشبهة بالفعل، فتبين من ذلك إن لنون الوقاية وظيفة لغوية أهم من كونها تقي الفعل الكسر والله أعلم. ¬

_ (¬1) الضرب هو العسل الأبيض الغليظ. (¬2) انظر التصريح 1/ 113

العلم

العلم يطلق العلم على الجبل قال تعالى: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} [الرحمن: 24]، ويطلق على الراية وعلى العلامة، والظاهر أنه نقل إلى المصطلح النحوي من هذا المعنى، الأخير، لأن العلم علامة على مسماه (¬1) يميز به من غيره. أقسامه ينقسم العلم باعتبار النقل والارتجال إلى منقول ومرتجل. وباعتبار الأفراد والتراكيب إلى مفرد ومركب. وباعتبار الاسم وغيره إلى اسم وكنية ولقب. وباعتبار شيوعه وتخصصه إلى علم شخص وعلم جنس. 1 - المرتجل والمنقول: العلم المرتجل هو ما أطلق أول ما أطلق علما، ولم ينقل إلى العلمية من غيرها. وهو مأخوذ من قولهم: ارتجل الخطبة والقصيدة إذا أتى بها عن غيره فكرة وسابقة روية واشتقاقه من الرجل كأن الشعر والخطيب أنشأهما وهو على رجله في حال الانشاء. (¬2) والمرتجل على قسمين: أحدهما ما لم تقع له مادة مستعملة في الكلام العربي وذكروا من ذلك فقعسا، الثاني ما استعملت مادته، لكن لم تستعمل تلك الصيغة بخصوصها في غير العلمية، بل استعملت من أول الأمر علما، وهذا الثاني هو الكثير (¬3) في العلم المرتجل وذلك نحو (سعاد) فإن مادة (سعاد) وهي (سعد) موجودة في اللغة، ولكن كلمة (سعاد) لم تستعمل في غير العلم، ونحو (حمدان) فإن مادته اللغوية وهي (حمد) مستعملة في اللغة ولكن هذه اللفظة لم تستعمل في غير العلم فهو مرتجل. ¬

_ (¬1) انظر حاشة الصبيان 1/ 126، حاشية الخضري 1/ 12، ابن يعيش 1/ 27 (¬2) ابن يعيش 1/ 33، وانظر الرضي على الكافية 2/ 155 (¬3) التصريح 1/ 115، وانظر الرضي على الكافية 2/ 155

2 - الاسم والكنية واللقب

وأما المنقول فكثير، فقد يكون منقولا عن اسم جنس، نحو صخر وبحر، وقد يكون منقولا عن اسم مشتق نحو عامر وسليم وعباس، أو عن مصدر، نحو فضل وإقبال، أو عن غير ذلك. 2 - الاسم والكنية واللقب. ينقسم العلم إلى ثلاثة أقسام: الاسم والكنية واللقب. أما الاسم فهو ما أطلقه الأبوان ونحوهما ابتداء (¬1) نحو عمر وخالد، وعبد الله. والكنية هي ما صدر بأب، أو أم، أو أخ، أو أخت (¬2)، نحو أبي عبد الله وأم مازن. وربما أطلقت العلم ابتداء كنية كأن يسمى أب ابنه أبا اليقظان، أو أبا عبيدة: والكنية من كنيت أي سترت وعرضت كالكناية سواء لأنه يعرض بها عن الاسم. والكنية عند العرب يقصد بها التعظيم، والفرق بينها وبين اللقب معنى أن اللقب يمدح الملقب به او يذم، بمعنى ذلك اللفظ بخلاف الكنية فإنه لا يعظم المكني، بمعناها بل يعدم التصريح بالاسم فإن بعض النفوس تأنف من أن تخاطب باسمها. (¬3) وربما كانت الكنية مفيدة للمدح والذم باعتبار معناها، كأبي جهل وأبي لهب وأبي الفضل، وأما اللقب فهو ما أشعر بمدح أو ذم (¬4) فالمدح كزين العابدين والذم كأنف الناقة وقفة وقطنة. الاسم واللقب: إذا اجتمع الاسم واللقب، أخر اللقب عن الاسم نحو (خالد فقة)، وإذا كان اللقب أشهر من الاسم جاز البدء به قبل الاسم، نحو (المسيح عيسى بن مريم) فإن المسيح لا يقع على غير عيسى بن مريم، بخلاف (عيسى) فإنه يقع على عدد كثير ولذلك تقدم القاب الخلفاء لأنها أشهر من أسمائهم. (¬5) ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 1/ 7، 1/ 128 (¬2) ابن عقيل 1/ 62، الصبان 1/ 128 (¬3) الرضي على الكافية 2/ 156، وانظر ابن يعيش 1/ 27 (¬4) الرضي على الكافية 2/ 156، ابن عقيل 1/ 62 - 63 (¬5) التصريح 1/ 130 - 131، حاشية يس على التصريح 1/ 120

ثم إذا كان الاسم واللقب مفردين أو أولهما مفردًا، ولم يمنع مانع من الاضافة، وجبت إضافة الاسم إلى اللقب عند جمهور البصريين (¬1) فتقول فيمن اسمه (خالد) ولقبه (منشار) مثلا (خالد منشار). ويجوز عند الكوفيين مع الإضافة، والإتباع، والقطع، إلى الرفع والنصب (¬2)، فتقول عندهم: هذا خالد منشار - بالأضافة. وهذا خالد منشار - بالاتباع وهذا خالد منشارا - بالقطع. وهو الراجح فيما نرى. (¬3) وأما إذا لم يكونا مفردين أو كان الأول غير مفرد، أو كان مفردًا ولكنه ممتنع من الإضافة كأن يكون محلي بأل، امتنعت الإضافة وجاز لك في اللقب وجهان: الاتباع على البدلية أو عطف البيان. والقطع إلى الرفع على تقدير هو. أو القطع إلى النصب على التقدير أعني (¬4)، فنقول: مثلا أقبل عبد الله فخر الدين - بالاتباع. ومررت بعبد الله فخرُ الدين بالقطع إلى الرفع ومررت بعبد الله فخر َ الدين بالقطع إلى النصب ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 2/ 49، الرضي على الكافية 2/ 156 (¬2) انظر الأشموني 1/ 130 (¬3) انظر الرضي على الكافية 2/ 156، التصريح 1/ 122 (¬4) انظر التصريح 1/ 122، الرضي على الكافية 2/ 156

معنى الإضافة

الفرق بين هذه الأوجه: تقول فيمن اسمه (خالد) ولقبه (قوس): أقبل خالد قوس - بالإضافة. وأقبل خالد قوسٌ بالاتباع. ومررت بخالدٍ قوسٌ - بالقطع إلى الرفع. ومررت بخالدٍ قوسا بالقطع إلى النصب. فما الفرق بين هذه الأوجه في المعنى؟ 1 - معنى الإضافة: الذي يبدو أن إضافة الاسم إلى اللقب تفيد ان الاسم لا يتعين تماما، إلا بإضافته إلى لقبه، فهما معا يعينان الاسم بصورة محددة، فقولك: (خالد قوس) هو الذي يميز خالدا من غيره الذي قد يشترك معه في الاسم، فكأنك قلت: صاحب هذا اللقب كما تقول: خالدنا وخالدكم، وسعدنا وسعدكم، ولذلك إذا نكر اللقب أصبح الاسم نكرة، فإذا قلت (هذا خالد قفة) كان خالد معرفة لأن (قفة) - هو اللقب - معرفة، وإذا قلت (هذا خالد قفة) كان خالد نكرة لأن (قفة) - وهو لقبه نكرة، ويدل على تنكيره تنوينه كما تقول: رأيت إسماعيل وإسماعيلا آخر، فإن إسماعيل الأول معرفة، والثاني نكرة، أي رأيت شخصا من الشخوص اسمه إسماعيل. فمعنى (رأيت خالد قفة) رأيت خالدا الملقب بهذا الاسم. معنى رأيت خالد قفة، رأيت شخصا اسمه خالد، ولقبه قفة، وهذا الشخص لا يعرفه المخاطب، جاء في كتاب سيبويه، إذا لقبت مفردا بمفرد اضفته إلى الألقاب وهو قول أبي عمرو ويونس والخليل وذلك قولك: هذا سعيد كرز، وهذا قيس قفة قد جاء، وهذا زيد بطة، فإنما جعلت قفة معرفة لأنك أردت المعرفة، التي أردتها إذا قلت هذا قيسٌ فلو نونت قفة صار الاسم نكرة لأن المضاف إنما يكون معرفة ونكرة بالمضاف إليه. (¬1) ¬

_ (¬1) سيبويه 2/ 49

معنى القطع

وجاء في (شرح ابن يعيش): فإذا اضيف الاسم إلى اللقب صار كالاسم الواحد وسلب ما فيه من تعريف العلمية، كما إذا أضفته إلى غير اللقب نحو (زيدكم) فصار التعريف بالإضافة، وجعلت الألقاب معارف لأنها قد جرت مجرى الاعلام، وخرجت عن التعريف الذي كان لها بالألف واللام قبل التلقيب، كما أنا إذا قلنا (الشمس) كان معرفة بالألف واللام وإذا قلنا (عبد شمس) كان من قبيل الاعلام. قإن قيل: كيف جازت أضافة الاسم إلى اللقب وهما كشيء واحد وهل هو إلا إضافة الشيء إلى نفسه؟ فالجواب: إن العلم إذا أضيف إلى اللقب وابتزوا ما فيه من تعريف العلمية صار للمسمى لا غير، والمسمى يضاف إلى الاسم نحو ذات مرة وذا صباح. (¬1) وجاء فيه: فأما إضافة الاسم إلى اللقب نحو سعيد كرز، وقيس بطة، فذلك جائز غير ممتنع وإن كانا لعين واحدة، وذلك من قبل إنه لما اشتهر باللقب حتى صار هو الاعرفوصار الاسم مجهولا كأنه غير المسمى بانفراده اعتقد فيه التنكير، واضيف إلى اللقب للتعريف، وجعلوا الاسم مع اللقب بمنزلة ما أضيف ثم سمي به نحو عبد الله وعبد الدار، وكان اللقب أولى أن يضاف إليه لأنه صار أعرف (¬2). فالإضافة تفيد أن المضاف والمضاف إليه معا يعينان الاسم ويوضحانه. 2 - معنى القطع: يفيد القطع أن المسمى قد اشتهر باللقب المذكور، بحيث يعلمه كل أحد، فإذا قلت (رأيت عليا زين العابدين) علم من ذلك اشتهار علي بهذا اللقب شهرة لا تخفى على أحد. ولا يراد من اللقب المقطوع مجرد تمام توضيح العلم، لأن العلم إذا كان لا يتعين إلا باللقب، فإنه لا يجوز قطع لقبه لأنه لا قطع مع الحاجة، وهذا نظير الصفة المقطوعة، فإن النعت المقطوع، يفيد أن المنعوت أشتهر بهذه الخصلة، وأن المخاطب يعلم من ¬

_ (¬1) ابن يعيش 1/ 33 (¬2) ابن يعيش 3/ 9، وانظر الأصول لابن السراج 2/ 7

معنى الاتباع

اتصافه بها ما يعلمه المتكلم، ولا يصح القطع في النعوت، إذا كان المنعوت لا يتضح إلا بالنعت (¬1) كما سنوضحه في باب النعت. وللقطع دلالة أخرى هي الإشارة إلى معنى اللقب، وهو المدح، أو الذم، فإذا قلت (أقبل خالد سيف الله)، لم ترد تعريف العلم أو تخصيصه، بل الإشارة إلى مدحه أيضا، وقد ذكر هذا الرضي فقال: إن قطع اللقب إلى الرفع أو النصب، إنما هو لكونه متضمنا للمدح أو الذم. (¬2) فالقطع إذن يدل على أمرين: الأول: اشتهار العلم باللقب اشتهارا بينا بحيث لا يخف على أحد. الثاني: الألماح إلى معنى اللقب وهو المدح والذم. ثم إن القطع إما أن يكون إلى الرفع أو إلى النصب، فتقول مررت بخالد وسيف الله. بالنصب أو سيفُ الله، بالرفع، والقطع إلى الرفع أقوى من القطع إلى النصب، لأن القطع إلى الرفع بتقدير اسم مبتدأ، وأما القطع إلى النصب قد يكون بتقدير فعل، والاسم اقوى من الفعل وأثبت. فإذا كنت مادحا باللقب كنت بالقطع إلى الرفع أمدح، وإذا كنت ذامًا كنت بالقطع إلى الرفع أذم. فالقطع إلى الرفع يدل على زيادة اشتهار العلم بلقبه والزيادة في مدحه أو ذمه كما سنوضح ذلك في بابه. 2 - معنى الاتباع: وأما الأتباع فيراد به تمام التوضيح والتعيين. جاء في (شرح الرضي على الكافية) إن اللقب إنما يتبع الاسم عطف بيان لكونه أشهر. (¬3) ¬

_ (¬1) انظر الرضي على الكافية 1/ 346 (¬2) انظر الرضي على الكافية 1/ 312 - 313، 2/ 156 (¬3) الرضي على الكافية 2/ 156

وهذا نظير الصفة والموصوف، فإن الصفة إذا اتبعت لا تدل نصا على أن الصفة، عرف بها الموصوف، وأن المخاطب يعلمها كما يعلمها المتكلم، بل قد يؤتى بها لتوضيح الموصوف، ولولا هي لالتبس بشخص آخر فإن قولك (مررت بمحمد الخياط) قد يكون لفصل محمد هذا من شخص آخر اسمه محمد، وهو غير خياط، فلا يتعين محمد إلا بنعته، وفي مثل هذه الحال لا يجوز القطع، وكذلك اللقب فإنه قد لا يتضح العلم ويتميز من شخص آخر إلا بلقبه وفي هذه الحال لا يصح قطعه. ثم إن معنى المدح والذم في اللقب التابع قد يأتي من معنى اللقب اللغوي لا من قصد المدح والذم وإيضاح ذلك أنك تقول: (مررت بمحمدٍ الفقيه) إذا أردت تمييز محمد هذا من محمد آخر غير فقيه، فيكون الفقيه نعتا لغرض التوضيح، ولا يجوز قطعه لأنه لا يتعين إلا به، ثم إنك ههنا لم ترم إلى مدح محمد، بل أردت تمييزه، ولكن النعت فيه مدح محمد بطريقة غير مقصودة، وذلك بدلالة النعت اللغوية وهي الفقه، أما إذا قلت مررت بمحمد الفقيه، بالقطع فأنك أردت مدحه بصورة مباشرة بهذه الخصلة وجعلته مشهورا بها، وكذلك اللقب فإن القطع يرمي إلى الإشارة إلى المدح، والذم ويدل أيضا على اشتهاره بهذا اللقب. ولا يفهم من قولنا هذا أن الأتباع يفيد دائما أن الموصوف غير مشتهر بالصفة، أو أن الصفة تكون دوما للتوضيح والتمييز بين الأشخاص، بل يكون الموصوف مشهورًا بالصفة مع الأتباع، وقد يكون غير معروف به، وللنعت التابع أغراض أخرى غير التوضيح والتمييز بين المذكورين، كالمدح والذم، والتوكيد، وغير ذلك من الأغراض، مما سنوضحه في باب النعت، ولكنا نقول: أن القطع يفيد ذلك نصا بخلاف الأتباع فإنه قد يفيد وقد لا يفيده. يتبين من هذا: 1 - أن القطع يدل على أن العلم أشتهر باللقب أكثر من الأتباع. 2 - أن القطع يراد به الإشارة إلى معنى اللقب بصورة مقصودة وأما الأتباع فقد يراد به ذلك وقد يراد به غير ذلك كالتوضيح وغيره فلا يكون المدح هو القصد الأول.

3 - علم الشخص وعلم الجنس

3 - علم الشخص وعلم الجنس. العلم على قسمين: علم شخص، وعلم جنس. فعلم الشخص هو ما وضع لواحد من أفراد الجنس نحو أحمد وإبراهيم وفاطمة وبغداد والنيل. وعلم الجنس، هو ما وضع للجنس بأسره، كقولهم للأسد أسامة، أبو الحصين وثعالة للثعلب، فأسامة علم على كل أسد، وأبو الحصين وثعالة علم كل ثعلب. وربما لم يعرف للجنس من حيث الأحكام اللفظية فهو يصح الأبتداء به نحو (أسامة أشجع من الضبع) ويصح مجيء الحال منه نحو (هذا ثعالة مدبرا) ويمنع من الصرف إذا كان له سبب آخر من العلمية نحو أسامة وثعالة فهما ممنوعان من الصرف للعلمية وتاء التأنيث وغير ذلك من الأحكام (¬1). وأما من حيث المعنى فإن علم الجنس كالنكرة من حيث دلالته على أفراد الجنس عامة، فأسامة يطلق على كل أسد وثعالة يطلق على كل ثعلب. وفرقوا بين علم الجنس كأسامة، وأسم الجنس كأسد، بأن قالوا أن (أسامة) تعني كلمة (أسد) معرفة لا منكرة فهي بمعنى (الأسد)، لا بمعنى (أسد) فقولهم (أسامة أجرأ من ثعالة) معناه (الأسد أجرأ من الثعلب) وليس معناه (أسد أجرأ من ثعلب) فأسامة أذن كالمعرف بأل الجنسية، لأنها تطلق على الجس عموما، وربما أطلقت على واحد من أفراده فتقول (قتل أسامة) لأسد خاص يعرفه المخاطب. جاء في شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ لابن مالك، وقد وضعوا لبعض الأجناس أعلاما أعطوها في اللفظ ما للأعلام الشخصية .. ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 265، ابن يعيش 1/ 25

فمن ذلك قولهم للأسد أسامة، فإنهم يعنون به ما يعني بالأسد العام، إذا قيل (الأسد مخوف) أو بالأسد الخاص إذا قيل (قتل الأسد) لأسد معلوم. فأسامة صالح للمعنيين، إلا أن الأسد لا يدل على أحدهما إلا مقرونا بأل أو ما يقوم مقامها وأسامة يدل عليهما بنفسه. (¬1) إن علم الجنس كالمعرف بأل قد يكون للجنس كقولهم (الحصان أسرع من الحمار) وقد يكون للعهد كقولك (بعت الحصان) لحصان معهود معلوم، وكذلك علم الجنس غير إن الأصل في علم الجنس أن يكون للجنس عموما، وربما استعمل لواحد من أفراد الجنس، ولذلك قالوا أن اسم الجنس كأسد وحمار وثعلب إنما هو موضوع لأحد أفراد الجنس، وأما علم الجنس .. فهو موضوع لحقيقة الجنس، جاء في (شرح الأشموني) قال بعضهم والفرق بين أسد وأسامة أن أسدا موضوع للواحد من آحاد الجنس لا بعينه في أصل وضعه. وأسامة موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن. فإذا أطلقت أسدًا على واحد، أطلقته على أصل وضعه، وإذا أطلقت أسامة على واحد فإنما أردت الحقيقة. (¬2) وقد أوضح الفرق بينهما سيبويه فقال: " ومن ذلك ابن قترة، وهو ضرب من الحيات فكأنهم إذا قالوا (هذا ابن قترة) فقد قالوا هذا الحية الذي من أمره كذا وكذا، وإذا قالوا (بنات أوبر) فكأنهم قالوا هذا الضرب الذي من أمره كذا وكذا ومن الكمأة". (¬3) يريد بذلك أن يبين أن علم الجنس إنما يطلق على ما عرف واشتهر بأمر معين أو صفات معينة ويوضح ذلك قوله" فكأنهم قالوا هذا الضرب الذي من أمره كذا وكذا" أي هذا هو الحيوان المشهور بكذا وكذا. وكذا قولهم (هذا أسامة) فكأنهم قالوا هذا هو الحيوان المشهور المعروف بالجرأة، فهو - أي علم الجنس - يحيلك إلى ما تعرفه عن هذا الحيوان. ¬

_ (¬1) شرح عمدة الحافظ 140، وانظر الرضي على الكافية 2/ 149 (¬2) الأشموني 1/ 136 - 137، وانظر للتفريق بينهما الحمع 1/ 70 (¬3) سيبويه 264

استخلاص الأوصاف من الأعلام

استخلاص الأوصاف من الأعلام قد يشتهر علم من الأعلام بصفة من الصفات فيذكر بقصد استحضار صفته، لا بقصد ذكر المسمى وذلك كاشتهار حاتم بالجود، وفرعون بالتحبير، وقارون بالغنى، وعنترة بالشجاعة، فيقال (هو حاتم هذا العصر) أي هو جواد هذا العصر، ويقال: (هو فرعون الأمة) أي الظالم المتجبر فيها. والنحاة في نحو هذا على تأولين: الأول أن تقدر كلمة (مثل) فيكون المعنى في قولنا (هو حاتم جودا) هو مثل حاتم. الثاني: أن تستخلص الصفة التي اشتهر بها صاحب العلم فيقال: هو جواد أو هو ظالم. جاء في الخصائص في قول الشاعر: أنا أبو المنهال بعض الأحيان ... ليس علي حسبي بضؤلان يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون أراد: أنا مثل أبي المنهال .. والآخر أن يكون قد عرف من أبي المنهال هذا الغناء والنجدة، فإذا ذكر فكأنهما قد ذكرا فيصير معناه إلى أنه كأنه قال: أنا المغني في بعض الأحيان. أفلا تراك كيف انتزعت من علم الذي هو (أبو المنهال) معنى الصفة والفعلية .. وقد مر بهذا الموضع الطائي الكبير فأحسن فيه واستوفى معناه فقال: فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانية هند فقوله (كل غانية هند) متناه في معناه وآخذ لأقصى مداه. ألا ترى أنه كأنه قال: كل غانية غادرة أو قاطعة، أو خائنة أو نحو ذلك .. ومنه قول الآخر:

تنكيره

أن الذئاب قد اخضرت براثنها ... والناس كلهم بكر إذا شبعوا أي إذا شبعوا تعادوا وتغادروا لأن بكرا هكذا فعلها. (¬1) وجاء في شرح الرضى على الكافية في تأويل العلم بالنكرة، ولتأويله بالمنكر وجهان: أما أن يقدر مضاف هو مثل فلا يتعرف بالاضافة لتوغله في الأبهام .. وأما أن يجعل العلم لاستشهاره بتلك الخلة، كأنه اسم جنس موضوع لأفادة ذلك المعنى .. وهذا كما قالوا (لكل فرعون موسى) أي لكل جبار قهار فيصرف فرعون وموسى لتنكيرها بالمعنى المذكور. (¬2) والتقدير الثاني أرجح ألا ترى أنه لا يحسن تقدير (مثل) في كثير من التعبيرات فلا يقال في قولنا " هو حاتم هذا العصر " هو مثل حاتم هذا العصر، ولا في قولنا هو فرعون الأمة هو مثل فرعون الأمة، ولا في " لا عمر مثله " لا مثل عمر مثله. تنكيره قد ينكر العلم لأشتراك أكثر من واحد في اسمه، فيكون كسائر النكرات في قبوله أل والأضافة وغير ذلك ويدل على ذلك أمور أبرزها: 1 - تثنينه وجمعه: إذا ثني العلم أو جمع أصبح نكرة بعد أن كان معرفة ولهذا تدخل عليه الألف واللام فيقال (أقبل المحمدان) و (أقبل المحمدون) فإن قلت (أقبل محمدان) كان نكرة والمعنى أنه جاء رجلان اسم كل واحد منهما محمد، بخلاف قولك (جاء محمد) فإنه معرفة جاء في كتاب سيبويه " فإن قلت: هذان زيدان منطلقان، ¬

_ (¬1) الخصائص 3/ 270 - 272 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 283

وهذا عمران منطلقان، لم يكن هذا الكلام إلا نكرة من قبل أنك جعلته من أمة كل رجل منها زيد وعمرو، وليس كل واحد أولى به من الآخر .. ألا ترى أنك تقول: هذا زيدٌ من الزيدين أي هذا واحد من الزيدين فصار كقولك: هذا رجل من الرجال. وأما قولهم أعطيكم سنة العمرين فإنما أدخلت الألف واللام على عمرين وهما نكرة فصارا معرفة بالألف واللام" (¬1). 2 - تنوينه إذا كان لا يقبل التنوين كأن يكون مبنيا أو ممنوعا من الصرف، فإذا قلت (مررت بنفطويهٍ) كان نفطويه نكرة، أي مررت بشخص اسمه نفطويه بخلاف ما إذا قلت (مررت بنفطويه) بلا تنوين، ونحوه (أقبلت حذام وحذامٌ أخرى) فإن حذام المنونة نكرة. بخلاف غير المنونة ومعنى الكلام: أقبلت حذام وامرأة أخرى اسمها حذام، وكذا إذا قلت (أقبل إبراهيمٌ) جاء في شرح ابن يعيش: فإذا قلت: لقيت أحمدا، فقد أعلمته أنك مررت بالرجل الذي اسمه أحمد وبينك وبينه عهد فيه وتواضع. والتنوين هو الدال على ذلك (¬2). وليس معنى ذلك أن المنصرف لا ينكر، بل قد يكون نكرة ولكن المبني والممنوع من الصرف، يدل التنوين على تنكيرهما بخلاف المنصرف فإن التنوين لا يدل على ذلك وإنما يدل عليه السياق كما إذا قلت: رأيت محمدًا من المحمدين، ورأيت زيدًا من الزيدين (¬3)، وما من زيد كزيد بن ثابت (¬4). 3 - الإضافة: قد يشترك في الاسم أكثر من شخص فيكون نكرة، فلا يتميز إلا بالإضافة نحو رأيت خالدكم وهذا خالدنا قال الشاعر: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سُليم والأغرّ بن حاتم يزيد سليم سالم المال والفتى ... فتى الأزد للأموال غير مسالم ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 268، وانظر ابن يعيش 1/ 46 (¬2) ابن يعيش 9/ 29، وانظر الرضي على الكافية 2/ 143 (¬3) انظر سيبويه 1/ 268 (¬4) انظر الهمع 1/ 73

جاء في (شرح ابن يعيش): علم أن العلم الخاص لا يجوز إضافته ولا إدخال لام التعريف فيه لأستغنائه بتعريف العلمية عن تعريف آخر، إلا أنه ربما شورك في اسمه، أو اعتقد ذلك، فيخرج عن أن يكون معرفة ويصير من أمة كل واحد له مثل اسمه ويجري حينئذ مجرى الأسماء الشائعة، نحو رجل وفرس فحينئذ يجترأ على إضافته وأدخال الألف واللام عليه كما يفعل ذلك في الأسماء الشائعة: فالإضافة نحو قولك زيدكم وعمركم. وقد أنشدوا أبياتًا تشهد بصحة الاستعمال ومن ذلك قول الشاعر: علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يمان. (¬1) وذكر رضي الدين الأستراباذي أن العلم قد يضاف مع بقائه على تعريفه، نحو ربيعة الفرس، وزيد الخيل، جاء في شرح الرضي على الكافية: وعندي أنه يجوز إضافة العلم مع بقاء تعريفه إذ لا منع من اجتماع التعريفين كما ذكرنا في باب النداء، وذلك إذا أضيف العلم إلى ما هو متصف به معنى نحو (زيد الصدق) يجوز ذلك وأن لم يكن في الدنيا إلا زيد واحد ومثله قولهم: مضر الحمراء، وأنمار الشاء، وزيد الخيل، فإن الإضافة فيها ليست للإشتراك المتفق (¬2). وظاهر أن في الإضافة هذه معنى لا يؤديه الأفراد ففي الإضافة زيادة توضيح ألا ترى فرقا بين قولنا مضر، ومضر الحمراء، وزيد، وزيد الخيل، فإن الإضافة أكسبت العلم توضيحًا لا يؤديه القطع عن الإضافة كما هو ظاهر. صحيح أن الإضافة قد تكون لغير التعريف، وذلك كما إذا كان العلم لا يشاركه فيه غيره، نحو قولنا عراق الخير وبغداد الرشيد، وليس في الدنيا غير عراق واحد، وبغداد واحدة، فالإضافة ههنا ليست لغرض التعريف، بل لتخصيص المضاف بأمر من الأمور، فالإضافة في الأكثر تكون للتعريف وقد تكون لغير التعريف أيضًا. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 1/ 44، وانظر المقتضب 2/ 164 - 165 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 300

4 - التعريف بأل: وهذا لا يكون في المثنى والجمع فقط، بل قد يكون في المفرد أيضا كقولهم: " إذا ذكر جماعة اسم واحد منهم زيد فيقول المجيب: فما بين الزيد الأول والزيد الآخر؟ وهذا الزيد أشرف من ذلك الزيد". (¬1) وليس معنى ذلك أن كل ما دخل عليه (أل) من الأعلام هو نكرة بل ربما تدخل (أل) على العلم للأصل لا معرفة كما سنذكر ذاك. 5 - وقوعه بعدما يختص بالنكرات، كلا النافية للجنس، ومن الاستغراقية الزائدة، ورب وذلك نحو قولك (ما من خالد كخالد بن الوليد) و (لا عمر أفضل من عمر بن الخطاب) و (رب زيد أحسن من زيد) و (كم من هيثم مثل هيثمكم عندنا) جاء في (الهمع): " قد ينكر العلم تحقيقا نحو رأيت زيدا من الزيدين وما من زيد كزيد ابن ثابت، أو تقديرًا كقول أبي سفيان (لا قريش بعد اليوم) وقول بعض العرب (لا بصرة لكم) وحينئذ يثني ويجمع وتدخله أل ويضاف" (¬2). وجاء في (شرح الرضى على الكافية): " وقد ينكر العلم قليلا فأما أن يستعمل بعد على التنكير (¬3) نحو (رب زيد لقيته) وقولك (لكل فرعون موسى) لأن (رب) و (كل) من خواص النكرات. أو يعرف وذلك بأن يؤول بواحد من الجماعة المسماة به، فيدخل عليه اللام كقوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركًا ... شديدًا بأعباء الخلافة كأهله أو الإضافة نحو قوله: علا زيدنا يوم النقا رأس زيديكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يمان (¬4). ¬

_ (¬1) ابن يعيش 1/ 45 (¬2) الهمع 1/ 73 (¬3) كذا في المطبوع ولعل الأصل بعد علم التنكير؛ لأن رب وكلا من أعلام التنكير أي من دلالاته. (¬4) الرضى على الكافية 2/ 153

لمح الأصل

لمح الأصل قد تدخل (أل) على العلم المنقول للمح الأصل، ومعنى لمح الأصل، الإلتفات إلى المعنى الذي نقل عنه العلم، وذلك نحو قولك العباس، والحارث، والنعمان، والفضل، فالعباس يشير إلى معنى العبوس، والحارث إلى الحراثة، والنعمان إلى الدم، لأن النعمان هو الدم وهكذا. فقولك (جاء العباس) يشير إلى العلم لا إلى معناه، وأما قولك (جاء العباس) فإنه يشير إلى معنى العبوس كأنك قلت: جاء الذي يعبس كثيرًا، وقولك (أقبل حسن) لا تشير فيه إلى معنى العلم، وأما إذا قلت (أقبل الحسن) فإنك تشير إلى معنى العلم وهو الحسن وكذلك ما بعده. جاء في (شرح ابن عقيل): " وأشار بقوله " للمح ما قد كان عنه نقلا" إلى أن فائدة دخول الألف واللام الدلالة على الألتفات إلى ما نقلت عنه من صفة أو ما في معناها. وحاصله أنك إذا أردت بالمنقول من صفة، ونحوه إنما سمي به تفاؤلا بمعناه أتيت بالألف واللام للدلالة على ذلك، كقولك (الحرث) نظرًا إلى أنه إنما سمي به للتفاؤل وهو إنه يعيش ويحرث، وكذا كل ما دل على معنى، وهو مما يوصف به في الجملة، كفضل ونحوه. وأن لم تنظر إلى هذا ونظرت إلى كونه علما لم تدخل عليه الألف واللام بل تقول فضل وحارث ونعمان. فدخول الألف واللام أفاد معنى لا يستفاد بدونهما فليستا بزائدتين خلافا لمن زعم ذلك، وكذلك أيضا. ليس حذفهما وأثباتهما على السواء كما هو ظاهر كلام المصنف، بل الحذف والأثبات ينزل على الحالتين اللتين سبق ذكرهما، وهو أنه إذا لمح الأصل جيء بالألف واللام وأن لم يلمح لم يؤت بهما (¬1). والباب كله سماعي عند النحاة يقتصر على ما رود " فلا يجوز في نحو محمد وصالح ومعروف أن يقال فيها المحمد والصالح والمعروف حال العلمية لأنه لم يسمع (¬2). ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 86 - 87، وانظر التصريح 1/ 152 (¬2) التصريح 1/ 152، الأشموني 1/ 183

العلم بالغلبة

والذي يبدو لي أنه جائز في كل علم منقول إذا أردت لمح أصله، فتقول فيمن اسمه (صفوان) إذا أردت أن اسمه مطابق لمعناه: أقبل الصفوان بمعنى أقبل الضخر، وتقول فيمن اسمه (محمود) وقد حقق معنى اسمه، وأردت أن تلمح إلى ذلك (أقبل المحمود) أي الذي يحمده الناس، فإذا أردت لمح أصل المعنى، جاز ذلك في كل علم منقول اللهم إلا إذا كان منقولا عما لا يقبل أل كيزيد ويشكر (¬1)، فإنه لا يجوز أن تدخل عليه أل. وكذلك العلم المرتجل فإنه لا يجوز إدخال (أل) عليه لمحا للأصل لأنه ليس له أصل فيلمح. العلم بالغلبة قد يغلب المعرف بأل، أو المعرب بالإضافة على بعض المسمين به، فيصير علما له دون غيره، فإذا أطلق لم ينصرف الذهن إلى غيره، وذلك كالمدينة فإنها في الأصل معرف (مدينة) وهي اسم جنس يطلق على كل مدينة من مدن الأرض، ثم اختصت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرها من المدن، وكالأعشى فإنه في الأصل لكل من لا يبصر ليلا ثم غلب على أعشى همدان (¬2) " وكقولك " فلان بن الصعق والصعق في الأصل صفة تقع على كل من أصابه الصعق ولكنه غلب عليه حتى صار علما بمنزلة زيد وعمرو، وقولهم النجم صار علما للثريا (¬3). وكالجاحظ فإنه غلب على عمرو بن بحر دون غيره من الجحظة، والطبري فإنه غلب على محمد بن جرير دون غيره من أهل طبرية، والبخارى فإنه غلب على محمد بن إسماعيل دون غيره وهكذا. ومن المعرف بالإضافة نحو ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، فإنها غلبت على العبادلة دون غيرهم من إخواتهم (¬4)، ونحو ابن الناظم، فإنه أصبح علما على محمد بن محمد بن مالك النحوي دون غيره من أبناء نظمة الشعر. ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 183 (¬2) التصريح 1/ 153 (¬3) سيبويه 1/ 267 (¬4) ابن يعيش 1/ 40، التصريح 1/ 153

كنايات الأعلام

كنايات الأعلام يكنى عن أعلام الأناسي بفلان للمذكر، وفلانة للؤنث، قال تعالى: {ليتني لم اتخذ فلانا خليلا} [الفرقان: 28]، وقولهم أبو فلان وأم فلان كناية عن الكنى نحو أبي محمد وأم سليم، ولا يدخلهما الألف واللام. فإذا كنوا عن أعلام البهائم أدخلوا الألف واللام فقالوا: الفلان والفلانة. وهن وهنة، كنايتان عن اسم الجنس غير العلم، فهن بمعنى رجل، وهنة بمعنى امرأة تقول: يا هن اقبل ويا هنة أقبلي. (¬1) ففلان كناية عن العلم وهن كناية عن النكرة. الوصف بابن وابنة إذا وصف العلم بـ (ابن) مضافا إلى علم حذف تنوينه سواء كان العلم اسما، أم كنية، أم لقبا، فتقول (أقبل محمدُ بن سعيد) و (أقبل محمدُ بن أبي حفصة) و (أقبل محمدُ بن نور الدين) بحذف التنوين من محمد (¬2)، في كل هذه الجمل وتحذف ألف (ابن)، والحالة هذه خطأ (¬3). فإن لم يل كلمة (ابن) علم، أو لم تل علما بقي العلم على تنوينه، ولم تحذف ألف (ابن في الخط) فتقول: (أقبل محمدٌ العالم ابن سعيد) و (أقبل محمدٌ ابن العالم سعيد) و (أقبل محمدٌ ابن أخيك). فإن لم يوصف العلم بكلمة (ابن) لم يحذف التنوين، تقول إذا أخبرت (محمدٌ ابن سعيد)، وتقول: حسبت محمدًا ابن سعيد (¬4) وقد ذكروا أن سبب حذف التنوين هو أن ¬

_ (¬1) ابن يعيش 1/ 48 الرضي على الكافية 2/ 154، القاموس المحيط (هنو) 4/ 404 (¬2) انظر سيبويه 2/ 147، الرضي على الكافية 2/ 446، ابن يعيش 2/ 5 - 6 (¬3) الرضي على الكافية 2/ 446 - التصريح 2/ 170 (¬4) انظر الرضي على الكافية 2/ 446، ابن يعيش 2/ 6، التصريح 2/ 170

العرب جعلوا الإسمين كالاسم الواحد جاء في (شرح الرضى على الكافية) " أن التنوين إنما حذف في الموصوف لكونه مع الصفة كاسم واحد، والتنوين علامة التمام، وليست هذه العلة موجودة في المبتدأ مع خبره. (¬1) ومن هذا يتبين أن قولك (محمدُ بن سعيد) كالكلمة الواحدة ولا يتم الكلام به بخلاف قولك (محمدٌ ابن سعيد) فإنه جملة، وقد تم الكلام به وكذا قولك (حسبت محمدَ بن سعيد) فإنه ليس بجملة ولا يتم الكلام به حتى تقول مثلا: (حسبت محمد بن سعيد مسافرًا) بخلاف قولك (حسبت محمدًا ابن سعيد) فإنه جملة وتم الكلام به. وحكم (ابنة) كحكم (ابن) دون كلمة (بنت) فتقول (أقبلت هندُ ابنة عتبة) بحذف التنوين و (أقبلت هندٌ بنت عبتة) فيمن صرف هندًا، قال سيبويه لأنه في ابن وابنة يلتقي ساكنان: التنوين والباء دون بنت. (¬2) والذي يبدو لي أن ليست هذه هي العلة لأنه يلتقي الساكنان في غير الوصف، نحو (خالداٌ ابن سعيد) قال تعالى: {وقالت اليهود عزيز ابن الله} [التوبة: 30]، ولا يحذف التنوين، وإنما هو لجعل الاسمين كالاسم الواحد، كم أسلفنا ويدلك على ذلك حذف الألف من كلمة (ابن) وأما الحذف مع (ابنة) دون (بنت) فلأن (ابنة) تشاكل لفظ (ابن)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الرضى على الكافية 2/ 446، وانظر ابن يعيش 2/ 5 (¬2) انظر سيبويه 2/ 147 - 148، الرضي على الكافية 2/ 446، ا/151

اسم الإشارة

اسم الإشارة الأصل في أسماء الإشارة أن يشار بها إلى الأشياء المشاهدة المحسوسة، نحو (هذا الفتى أكبر من هذا) واستعماله في غير المشاهد وفي غير ما يدركه الحس مجاز لتنزيله المنزلة المحسوس المشاهد (¬1) وذلك نحو {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} [الزخرف: 72]، ونحو (أعجبني هذا الرأي) فالجنة غير مشاهدة والرأي غير محسوس ولا مشاهد. أغراض الإشارة أبرز أغراض الإشارة هي: 1 - تمييز الشيء المقصود أكمل تمييز بالإشارة المحسوسة إليه، نحو (أريد هذا) و (بكم ذاك)؟ 2 - تنزيل الأشياء المقعولة، أو غير المشاهدة منزلة الأشياء المحسوسة المشاهدة، نحو {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} [آل عمران: 175]، فالشيطان غير مشاهد ولا محسوس ولكن أشار إليه بقصد استحضار صفاته وعدواته للإنسان. ونحو {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186]، فأشار إلى الصبر والتقوى، وهما غير محسوسين. 3 - بيان حال المشار إليه في القرب والبعد، وذلك نحو قوله تعالى: {هذا الذي رزقنا من قبل} [البقرة: 25]، وقوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} [البقرة: 35]، فهذا للقرب: وأما البعد فنحو قوله تعالى {ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} [الأعراف: 22]، وقوله: {أكفاركم خيرٌ من أولئكم} [القمر: 43]. ¬

_ (¬1) انظر الرضى على الكافية 2/ 30، 33

4 - التعظيم: وقد يكون التعظيم بلفظ القريب والبعيد، فالقريب يراد به استحضار عظمة المشار إليه أمام القلوب والعيون، نحو قوله تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون} [الصافات: 61]، وقول الشاعر: هذا الذي للمتقين أمام والبعيد يراد به بعد منزلة المشار إليه وارتفاع مكانته نحو قوله تعالى {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 5]، وقوله {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 157]، وقوله {أولئك الذي هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90]. 5 - التحقير ويكون بلفظ القريب والبعيد (¬1) أيضا. فلفظ القريب يراد به استحضار ضعف المشار إليه وحقارته، وذلك نحو قوله تعالى: {وإذا رءاك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم} [الأنبياء: 36]، وقوله: {قال أرءيتك هذا الذي كرمت علي} [الإسراء: 62]، ونحوه أن تقول: (أيقدر هذا الصعلوك على شيء)؟ و (هل يصلح هذا الشيء؟ ). والبعد يقصد به بعده في الانحداد والانحطاط عن منزلة المشير أو الخاطب، نحو قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم} [البقرة: 16]، وقوله {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} [آل عمران: 175]. والناس قد تصف الشخص الساقط الحقير بالبعد، فيقولون (قاتل الله الأبعد) و (البعيد قال مثل هذا القول الرديء وفعل هذا الفعل الشنيع). 6 - التعريض بغباوة المخاطب ويعني ذلك أن المخاطب لا يتميز الشيء عنده، إلا بالحسن كأن تقول: هذا هو الشيء الذي لا أزال أذكره لك، هذا هو أنظره بعينك والمسه بيدك، وجعلوا منه قول الفرزدق. أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع (¬2) ¬

_ (¬1) انظر الإيضاح للقزويني 1/ 38 - 41 (¬2) انظر الإيضاح للقزويني 1/ 39

ألفاظ الإشارة

ألفاظ الإشارة ذا: وهو المفرد المذكر تلحقه هنا التنبيه في أوله فيكون للقرب نحو {هذا ما لدي عتيدٌ} [ق: 23]. وتلحقه كاف الخطاب في آخره فيكون للبعيد نحو {ذلك رجع بعيد} [ق: 63]. وأكثر النحاة على أن مراتب الإشارة ثلاث: القرب والوسط والبعد. فللقربى (ذا) وتلحقها ها التنبيه كثيرا، وللوسطى ذا مع الكاف أي (ذاك)، وللبعدى الكاف مع اللام أي ذلك. (¬1) وذهب آخرون إلى أن للإشارة مرتبتين فقط، قريبة ومتراخية، فإن أرادوا القرب جاؤا بذا، أو بهذا، وأن لم يريدوا القرب جاؤا بالكاف وحدها أو باللام معها فيقال: ذاك أو ذلك وقالوا أنه لا فرق بين ذاك وذلك وإنما هما لغتان فـ (ذلك) باللام لغة الحجاز و (ذاك) بلا لام لغة تميم (¬2)، ولم يذكر سيبويه إلا مرتبتين: القرب والتراخي فقال: " وذاك بمنزلة هذا إلا أنك إذا قلت: ذاك فأنت تنبهه لشيء متراخ" (¬3). وأنا أميل إلى ما ذهب إليه الجمهور، من أن مراتب الشارة ثلاث وذلك لأمور منها أن زيادة أحرف الكلمة توحي بزيادة التراخي، فذا للقرب وذاك للمتوسط، وذلك للبعد، ثم أن (ها) التنبيه قد تقترن بذي الكاف فيقال: هذاك كقوله: رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن يعيش 3/ 153، الهمع 1/ 76 (¬2) انظر ابن الناظم 32، الرضي على الكافية 2/ 34 (¬3) سيبويه 1/ 256

ذه وتلك

ولا تلحق ذا اللام (¬1) فلا يقال (هذلك) مما يدل على أن (ذلك) للبعد، لأن التنبيه والعبد يتنافيان، ولا مان من اقتران التنبيه بالمتوسط. ويجوز أن ينوب اسم الإشارة الدال على القرب عن الدال على البعد وبالعكس فتنوب هذا عن ذلك وذلك عن هذا (¬2)، وذلك لما ذكرناه من قصد التعظيم أو التحقير. وذكروا موضعا لا تجوز فيه نيابة هذا عن ذلك ولا ذلك عن هذا، وذلك أنك لو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذي تعرف: من هذا الذي معك؟ ولا يجوز ههنا، من ذلك لأنك تراه بعينه" (¬3). ذه وتلك: ويشار إلى المؤنث القريب بذي، وذه، وتي، وتا، وتلحقها ها التنبيه كثيرًا، فيقال: هذي وهذه وهاتي وهاتا قال تعالى: {هذه ناقة الله لكم آية} [الأعراف: 73]. ويشار إلى البعيد بتلك، قال تعالى {تلك إذا كرة خاسرة} [النازعات: 12]ـ وقال {ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} [الأعراف: 22]. وتكون للجمع أيضا نقول (هذه جذوع منكسرة) و (تلك النوافذ محطمة). وللمثنى المذكر ذان، والمؤنث تان، وتلحقهما ها التنبيه، فيكونان للقرب نحو هذين وهاتين قال تعالى: {إن هذا لساحرن} [طه: 63]، وقال: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} [القصص: 27] وللبعد ذانك وتانك قال تعالى: {فذانك برهانان من ربك} [القصص: 32]، ويقال (تانك الشجرتان مثمرتان). ¬

_ (¬1) انظر الهمع 1/ 76، الرضي على الكافية 2/ 32، الأشموني 1/ 144 (¬2) الرضى على الكافية 2/ 32، وانظر الهمع 1/ 77 (¬3) معاني القرآن للفراء 1/ 11

هنا وثم

وللجمع (أولاء) ممدودة أو مقصورة. وتلحقها ها التنبيه، فتكون للقرب نحو {ثم أنتم هؤلاء} [البقرة: 85]، وتلحقها الكاف، فتكون للبعد نحو {أولئك الذين هدى الله} [الأنعام: 90]، وأكثر ما تستعمل للعاقل، وقد تستعمل لغيره قليلا وذلك نحو قوله: (¬1) ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام ويراد به عند ذاك القلة فإذا أريدت الكثرة جيء بهذه أو تلك " قال الله تبارك وتعالى {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك} [الإسراء: 36]، لقلتهن، ولم يقل (تلك) ولو قيلت لكان صوابًا". (¬2) وهنا وثم: وهما ظرفان يشار بهما إلى المكان، ولا يشار بهما إلى غير المكان، أما أسماء الإشارة الأخرى، أعني ذا وما تفرع منها بها إلى المكان وغيره. (¬3) جاء في (حاشية الخضري): " واعلم أن المكان والزمان لا يشار إليهما من حيث كونهما ظرفين إلا بهذه الأدوات [هنا. ثم. هنا] فهي في محل نصب على الظرفية، أما من غير تلك الحثيثة فلا يشار بها بل بغيرها نحو هذا مكان طيب، وذاك زمان الربيع" (¬4). يعني إن المكان إذا كان ظرفا فيشار إليه بههنا، أو ثم، ولا يشار بغيرهما، فيقال (هنا أقام الجيش) ولا يقال (هذا أقام الجيش) إما إذا لم يكن المكان ظرفا، فيشار إليه بالأسماء الأخرى نحو (هذا مكان طيب) فهذا مبتدأ وليس ظرفا فإذا قلت (هنا مكان طيب) كان (هنا) ظرفا. ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن عقيل 1/ 68، حاشية الخضري 1/ 68 (¬2) معاني القرآن للفراء 1/ 435 (¬3) انظر شرح ابن يعيش 3/ 137، الرضي على الكافية 2/ 34 (¬4) حاشية الخضري 1/ 69

ها التنبيه

فهنا للقريب وقد تلحقها ها التنبيه فيقال ههنا، قال تعالى: {إنا ههنا قاعدون} [المائدة: 24]، وهناك للمتوسط، وهناك للبعيد نظير ذا، وذاك، وذلك، قال تعالى {هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} [الأحزاب: 11]، وذكروا أنه قد يراد بهنا وهنا الإشارة إلى الزمان (¬1) قال تعالى: {فإذا جاء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون} [غافر: 78]، أي في يوم القيامة. ويبدو لي أن الإشارة إلى المكان لا تفارقها، فقوله (وخسر هناك المبطلون) يختلف عن قولنا: وخسر عند ذاك المبطلون، أو يو ذاك ونحوه، فهناك أشارة إلى مكان القضاء لا إلى الزمان وحده. وأما ثم بفتح الثاء فإنها يشار بها إلى المكان البعيد (¬2) قال تعالى: {وأزلفنا ثم الآخرين} [الشعراء: 64]، أي هناك وقال: {مطاع ثم أمين} [التكوير: 21]، أي هناك في السماء. ومن الطرافة تقارب (ثُمَّ) العاطفة و (ثَمَّ) اسم الإشارة من حيث اللفظ والمعنى، فالعاطفة لتراخي المعطوف عن المعطوف عليه، وبالفتح لتراخي المشار إليه عن المشير أي بعده عنه ها التنبيه يجاء بـ (ها) التنبيه في أوائل أسماء الإشارة لتنبيه المخاطب على حضور المشار إليه وقربه وللمبالغة في إيضاحه، فيقال (هذا أخي) و (هؤلاء أصدقاؤنا) جاء في (شرح الرضي على الكافية): " فجيء في أوائلها بحروف ينبه المتكلم المخاطب حين يلتفت إليه وينظر إلى أي شيء يشير من الأشياء الحاضرة، فلا جرم لم يؤت بها إلا فيما يمكن مشاهدته وأبصاره من الحاضر والمتوسط، لا في البعيد الغائب، وكان مجيئها في الحاضر أكثر منه في المتوسط، فـ (هذا) أكثر استعمالا من (هذاك)، لأن تنبيه المخاطب ¬

_ (¬1) الرضى على الكافية 2/ 35 (¬2) المغني 1/ 119، ابن يعيش 3/ 138

لابصار الحاضر الذي يسهل ابصاره أولى من تنبيه لأبصار المتوسط الذي ربما يحول بينه وبينه حائل، ولم يدخل في البعيد الذي لا يمكن أبصاره، إذ لا ينبه العاقل أحدًا ليرى ما ليس في مرأى، فلذلك قالو لا يجتمع ها مع اللام (¬1) ". فلا يقال هذلك ولا هاتك. وإذا اجتمع الضمير واسم الإشارة فذكروا أن العرب تقد التنبيه على الضمير فتقول: ها أناذا، وها أنت ذا، وها نحن أولاء، قال سيبويه: " وزعم الخليل أن (ها) هنا هي التي مع (ذا)، إذا قلت هذا، وإنما أرادوا أن يقولوا هذا أنت، ولكنهم جعلوا (أنت) بين (ها) و (ذا)، وأرادوا أن يقولوا (أنا هذا) و (هذا أنا) فقدموا (ها) وصارت أنا بينهما". (¬2) وذكر أبو الخطاب الأخفش الأكبر ويونس أن العرب الموثوق بهم يقولون أنا هذا، وهذا أنا، وها أناذا. (¬3) وهذا لا شك فيه، فقد ورد في القرآن الكريم تقديم التنبيه على الضمير وتأخير الإشارة فقال: {فأنتم أولاء تحبونهم} [آل عمران: 119]، وورد دخوله على اسم الإشارة مع تأخيره عن الضمير، فقال: {ثم أنتم هؤلاء} [البقرة: 85]، وورد تكراره فمرة أدخله على الضمير، ومرة أدخله على اسم الإشارة فقال: {هأنتم هؤلاء} [آل عمران: 66]، ومرة جرد الضمير واسم الإشارة معا من التنبيه فقال: {هم أولاء} [طه: 84]. وههنا يحسن بيان سر هذا الاختلاف في التعبير، وأثر ذلك على المعنى، فما الفرق بين قولنا: أنت هذا، وهذا أنت، وها أنت ذا، وها أنت هذا، وأنت ذا؟ فنقول: أن تقديم الضمير أو الإشارة إنما هو بحسب الغرض والقصد وسيأتي بحث ذلك مفصلا في باب المبتدأ والخبر. ¬

_ (¬1) الرضى على الكافية 2/ 32، وانظر ابن يعيش 3/ 136، الهمع 1/ 76 (¬2) سيبويه 1/ 379 (¬3) سيبويه 1/ 379

هذا أنت

وكذلك التنبيه فإنه يؤتى به بحسب الحاجة، وفي المكان الذي يؤدي المعنى المقصود فقولك (هذا أنت) يختلف عن قولك (أنت هذا) وهكذا. وسأوضح ذلك بما يليق به المقام. هذا أنت: في هذه الجملة أخبار عن اسم الإشارة بالضمير بخلاف ما لو قلت (أنت هذا) فأن هذه الثانية أخبار عن الضمير باسم الأشارة. ونحوه في الأسماء الظاهرة أن تقول: (هذا خالد) و (خالد هذا) فالأولى في تقدير جواب عن سؤال: من هذا؟ فيقال: هذا خالد. والثانية في تقدير جواب عن سؤال: من خالد؟ وإيضاح ذلك أنك قد ترى شخصا منطلقا فتقول: من هذا؟ فيقال: هذا خالد. وقد تسأل عن خالد إذا كانت تعرف اسمه ولا تعرفه فتقول: من خالد؟ فيقال: خالد هذا. وقد ترى شخصا منطلقا ثم تأتي سائلا بعد: من هذا الشخص الذي كان منطلقا، أو من ذاك الشخص الذي كان منطلقا؟ فتقول: هذا أنا. أو ذلك أنا. أي الشخص الذي رأيته هو أنا. وقد يقال: من هذا الذي فعل كذا وكذا؟ وأنت ترى أن الذي فعله هو السائل وإنما يقولها متجاهلا فتقول له: هذا أنت أي هذا الشخص الذي ذكرته هو أنت. وقد يقال هذا التعبير على نحو آخر وذلك مثلا أنك رأيت شخصا منطلقا أو يفعل شيئا ولم تعرفه ثم رأيته بعد ذلك الانطلاق أو الفعل ورأيت هيئته فتقول: هذا أنت. على معنى هذا الشخص الذي رأيته قبل قليل هو أنت. جاء في (الكتاب): " وحدثنا يونس أيضا تصديقا لقول أبي الخطاب أن العرب تقول: (هذا أنت تقول كذا وكذا) لم يرد بقوله (هذا أنت) أن يعرفه نفسه كأنك تريد أن تعلمه أنه ليس غيره. هذا محال ولكنه أراد أن ينبه كأنه قال: الحاضر عندنا أنت، والحاضر القائل كذا وكذا أنت (¬1). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 379

أنت هذا

أنت هذا: وأما (أنت هذا) فهو أخبار عن الضمير واسم الإشارة، ومن ذلك أن تقول: أنت ذلك الرجل الكريم. أنت ذلك الشاعر الفحل. أنت ذلك الشخص الذي نعلم، مخبرا عن الضمير بما تعلم عنه. وتقول: (أنت هذا تفعل كذا وكذا) منكرا عليه فعله أو مستغربا منه. والمعنى أن المتوقع منك كان غير ذلك. ونحو ذلك أن تقول: (كنت قد أعنتك حين لم يكن لك معين وأخذت بيدك حين تنكر لك أهلك ثم أنت هذا تحاربني وتسعى في هلاكي) فأنت تعجب من فعله وتنكره لك إذا ينبغي أن يعرف لك فضلك وحسن صنيعك. وتقول: (كنت تفعل وتفعل فأمكن الله منك وأعطيت العهود والمواثيق على ألا تعود إلى ما كنت عليه ثم أنت هذا تعيث وتفسد) ومثل هذا قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم} [البقرة: 84 - 85]، ينكر عليهم فعلهم بعد إعطاء المواثيق، جاء في (الكشاف) في هذه الآية: ثم أنتم هؤلاء، استبعاد لما اسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم. والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت منه" (¬1). ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 225

ها أنت ذا وها أنا ذا

ها أنت ذا وها أنا ذا: ويستعمل هذا التعبير للأفصاح عن الشخص ومكانه، كأنه يقال: أين فلان؟ فيقال: ها أنا ذا وها وهو ذا، قال عنترة: أحولي تنقض استك مذرويها ... لتقتلني فها أنذا عمارا وقال الشاعر: أن الفتى من يقول ها أنذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي أي إن الفتى الحق من يفصح عن نفسه ومكانته هو، لا أن يدل على مكانة أبيه. جاء في (شرح السيرافي على الكتاب) " " إنما يقول القائل ها أنا ذا إذا طلب رجل لم يدر أحاضر هو أم غائب فقال المطلوب: ها أنا ذا أي الحاضر عندك أنا. وإنما يقع جوابا لقول القائل: أين من يقوم بالأمر؟ فيقول له الآخر: أنا ذا أو ها أنت ذا. أي أنا في الموضع الذي ألتمست فيه من التست. أو أنت في ذلك الموضع ولو ابتدا الإنسان على غير هذا الوجه فقال (هذا أنت) و (هذا أنا) يريد أن يعرفه نفسه، كان محالا لأنه إذا أشار له إلى نفسه، فالأخبار عنه ثابت لا فائدة فيه لأنك إنما تعلمه أنه ليس غيره، ولو قلت (ما زيد غير زيد) كان لغوا لا فائدة فيه". (¬1) وقد يقال " ها أنت ذا تعنيه ولا يعنيك " تخبره عن نفسه بحقيقة ربما كانت خافية عليه فتنبه عليها وتحذره أمره كما قال تعالى: {هأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم} [آل عمران: 119]. وأما موقع التنبيه ابتداء أو أخيرًا فله دلالته ايضا، فإن التنبيه يقدم أو يؤخر ويكرر بحسب الحاجة إليه، وقد يحذف إذا لم يكن له داع، فتقول (ها أنت ذا) مقدما التنبيه وتؤخره قائلا (أنت هذا)، والتنبيه في الخطاب الأول أهم، والقائل به أعني، تقول: (ها هو ذا) إذا أردت أن تنبه السامعين على المشار إليه قال تعالى {هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم}. ¬

_ (¬1) شرح السيرافي بهامش الكتاب 1/ 379

فقدم التنبيه لأنه تحذير لعباده المؤمنين على ما هم فيه، وأنهم ينبغي لهم أن يحذروا وينتبهوا. وقال: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} فأخر التنبيه لأنه أراد أن يحضر أنفسهم أمام أعينهم هم ليشهدوا أعمالهم وصفاتهم، أي أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون، بصورتكم الواضحة البينة التي لا تخفي، فهو لم يرد تخذيرهم من أمر كما كان في الآية الأولى. فالتنبيه في الأولى لتنبيه المؤمنين ولفت انتباهم إلى أمر قد يكونون غافلين عنه وأما الثانية فلا حضار صورتهم أمام أعينهم ليشاهدوها. وقد يتكرر التنبيه إذا استدعى الأمر زيادة التنبيه فيقال: ها أنت هذا تفعل كذا، وكذا إذا أنكرت عليه أنكارا شديدا ما لا يليق به، أو أردت الزيادة في تنبيه على أمر من الأمور وعند النحاة، إن ها التنبيه في نحو إنما كرر توكيدًا. (¬1) ومن ذلك قوله تعالى: {يأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم، والله يعلم وأنت لا تعلمون} [آل عمران: 65 - 66]. فأنت ترى أن يقرعهم ويزيد في تنبيههم ولومهم لأنهم جادلوا بالباطل وهم يعلمون، فكرر التنبيه مرة قبل الضمير ومرة قبل اسم الإشارة فقال: {هأنتم هؤلاء حاججتم}. ونحوه قوله تعالى: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم أذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطًا هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يقول عليهم وكيلا} [النساء: 107 - 109]، فكرر تنبيههم ولومهم ليتعظوا فلا يقفوا مثل هذا الموقف، وأنت ترى أن الموقف يتطلب الزيادة في تنبههم ووعظهم بخلاف قوله تعالى: {هأنتم أولاء تحبونهم} فإن الموقف لا يحتاج إلى زيادة ¬

_ (¬1) انظر الهمع 1/ 76، البحر المحيط 2/ 486، قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء)

كاف الخطاب

في التنبيه واللوم فإنه خطاب للمؤمنين قال تعالى: {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون يأيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} [آل عمران: 117 - 118]، فأنت أن الموقف مختلف عما في الآيتين السابقتين وهو ليس موقف تقريع ولوم كما كان. وقد لا يحتاج الموقف إلى التنبيه فلا يذكره وذلك نحو قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام مخاطبا ربه: {وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على اثري وعجلت إليك ربي لترضى} [طه: 83 - 84]، فلم يأت بالتنبيه لأنهم غير مشاهدين. فأنت ترى أن التنبيه يؤتى به في المكان المناسب بالقدر الذي يحتاج إليه، فقد يقدم او يؤخر، او يكرر، أو لا يذكر البتة، بحسب الحاجة إلى ذلك. كاف الخطاب تلحق اسم الإشارة كاف تسمى كاف الخطاب وفيها وجهان (¬1): مطابقة الكاف للمخاطب إفرادا، وتثنية وجمعا، تذكيرا وتأنيثا، فتقول: ذلك بفتح الكاف إذا كنت مخاطبا ذكرا وذلك بكسر الكاف لخطاب الأنثى، وذلكما وذلكم وذلكن وهكذا. قال تعالى: {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة} [الإسراء: 39]، وقال: {كذلك قال ربك} [مريم: 21]، قال: {ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} [الأعراف: 22]، وقال: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} [الأعراف: 141] وقال: {فذلكن الذي لمتنني فيه} [يوسف: 32]. والوجه الثاني إفراد الخطاب وتذكيره على كل حال فتقول: ذلك بفتح الكاف للمفرد والمثنى والجمع للمذكر والمؤنث، وقد استعملها القرآن الكريم أيضا فقال تعالى: ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 128

{فما جزاء من يفعل ذلك منكم} [البقرة: 85]، وقال: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} [البقرة: 219]، وقال مخاطبًا نساء النبي {وكان ذلك على الله يسيرًا} [الأحزاب: 30]. ومع أن الوجهين جائزان على سبيل السعة والكثرة، فالمتكلم البليغ لابد أن يرجح أحدهما على الآخر في موطن من مواطن الاستعمال لسبب يقتضيه المقام، فيستعمل الأفراد في موطن، والمطابقة في موطن آخر، بل أننا نرى في القرآن الكريم المطابقة والأفراد في الآية الواحدة أحيانا فقد قال تعالى: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر} [البقرة: 232]، فقد قال (ذلك) ثم قال (ذلكم). وقد ذكر بعض النحاة إن " لأفراد الكاف إذا خوطب به جماعة تأويلين: أحدهما أن يقبل بالخطاب على واحد من الجماعة لجلالته والمراد له ولهم، والثاني أن يخاطب الكل ويقدر اسم مفرد من أسماء الجموع يقع على الجماعة تقديره: ذلك يوعظ يا فريق ويا جمع" (¬1). وهناك أكثر من سبب بلاغي يدعو إلى المطابقة، أو إلى الأفراد، ومن هذه المواطن. 1 - ما ذكرناه آنفا من أنه قد يقصد أحد من الجماعة بالخطاب لجلالته والمراد له ولهم ويحتمل أن منه قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143]، وقوله: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} [البقرة: 191]، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه رأس الأمة وعليه يتنزل الوحي، والأمة مقصودة بالخطاب أيضًا. 2 - قد يراد بالمفرد مخاطب غير معين، وهذا كثير في اللغة فإنك قد تقول كلاما ولا تخاطب به معينًا، وإنما تقصد به كل سامع وذلك نحو قوله: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 76 - 77

فهنا المخاطب غير معين ومن ذلك قوله تعالى: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد} [ق: 19 - 20]، جاء في (البحر المحيط) في قوله تعالى: {ذلك يوعظ به من كان منك يؤمن بالله واليوم الآخر}: " خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وقيل لكل سامع". (¬1) 2 - وقيل قد يراد بإفراد الكاف البعد فقط دون الخطاب، وذلك أن الأصل في الكاف أن يؤتى بها للخطاب والبعد، وقد تعرى من قصد الخطاب، فيراد بها البعد وحده. وللكاف في ذلك نظائر نحو (إذا) فهي تكون ظرفية شرطية وقد تعري من الشرط فتكون ظرفية فقط. ونحو (ما) المصدرية الظرفية وقد تعرى عن الظرفية فتكون مصدرية فقط. فإذا جئت بالكاف مطابقًا أريد الخطاب قطعا إضافة إلى البعد جاء في (درة التنزيل) أن الكاف " لما قصد بها معنيان: الخطاب والتبعيد جاز أن يعري من أحدما وهو الخطاب ويقتصر على معنى التبعيد على حسب قصد القاصد. وإذا جاءت مثناة اللفظ أو مجموعة على حسب حال المخاطبين فهي على المعنيين". (¬2) والذي يبدو لي أن القول بانها ليست الخطاب واحد معين بل هي لكل سامع أولى من نزع معنى الخطاب عنها، لأنك أبقيت لها معناها الأول ولم تفسد المعنى. وما دام المعنى يحتمل ذلك كان بقاؤها على أصلها أولى والله أعلم. 4 - وقد يؤتى بالكاف مطابقًا إذا كان الأمر يعم الجميع على قدر واحد كما في قوله تعالى: {ذلكما مما علمني ربي} [يوسف: 37]، فالخطاب للفتيين السجينين مع يوسف عليه السلام، وقوله {فذلكن الذي لمتنني فيه} [يوسف: 32]، والخطاب موجه من امرأة العزيز للنسوة اللاتي نلن منها، وهو خطاب على قدم المساواة للجميع. ¬

_ (¬1) البحر المحيط 2/ 210 (¬2) درة التنزيل 50

5 - وقد جاءت الكاف مطابقة للجمع في القرآن الكريم إذا كان السياق يقتضي الإطالة والتوسع في الكلام وذلك نحو قوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} [الأنعام: 99]، بخلاف قوله تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [النحل: 12]، فجاء بالخطاب في الآية الأولى على صورة الجمع، لأن الموقف موقف إطالة وتوسع في الكلام بخلاف آية النحل. ونحوه قوله تعالى: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسك في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [التوبة: 41]، بخلاف قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]. فجمع في آية التوبة وأفرد في آية النساء ويوضح السياقان الفرق بينهما، فإن الكلام في سورة التوبة على الجهاد وهو يبدأ بقوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثقالتم إلى الأرض .. 38 .. 39 .. إلى الآية 49} بخلاف آية النساء فالمقام مقام إطالة وتوسع في التوبة فجاء بـ (ذلكم) فيها بخلاف آية النساء. وهناك سبب آخر لأفراد الخطاب في آية النساء، وهو أنه التفت إلى خطاب المفرد بعد هذه الآية فقال: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [النساء: 60]، بخلاف آية التوبة فإن الكلام فيها كله إلى المخاطبين ولم يلتفت إلى المخاطب المفرد. 6 - وقد استعمل القرآن الكريم مطابقة الجمع للزيادة في التوكيد، فإنه إذا كان موقفان وكان أحدهما أكد من الآخر جاء في الموطن المؤكد بمطابقة الجمع دون الآخر، وذلك نحو قوله تعالى: {ذلكم توعظون به} [المجادلة: 3]، وقوله: {ذلك يوعظ به من كان منكم

يؤمن بالله واليوم الآخر} [البقرة: 232]، فجاء في الآية الأولى بالجمع، وفي آية البقرة بالأفراد مع أن الخطاب للجميع في الآيتين وسبب ذلك - والله أعلم - أن الوعظ في آية المجادلة أشد وآكد، وهو في حكم الظهار وسبب نزول هذه الآيات حادثة الظهار التي وقعت لخولة بنت ثعلبة قال تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللآئي ولدنهن وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظهارون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكفرين عذاب أليم} [المجادلة: 1 - 4]، وآية البقرة في الطلاق قال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منك يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكي لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 232]. وإذا قرات السياقين رأيت أن التشديد كبير في سياق الظهار من مثل قوله: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} والطلب من قائله تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا، بخلاف الطلاق، ولذا أكد الواعظ فيه وشدد على منعه، فقال في الظهار {ذلكم توعظون به} وقال في الطلاق {ذلك يوعظ به}. ومن ذلك قوله تعالى {ذلكم أزكي لكم وأطهر}، [البقرة: 232]، وقوله: {ذلكم خير لكم وأطهر} [المجادلة: 12]، فجمع في آية البقرة وأفرد في سورة المجادلة وذلك لأن مقام التزكية في سورة البقرة آكد وأشد ويوضح ذلك السياقان. فإن الكلام في البقرة على ضمان حقوق المرأة وكبح جماح الرجل في العدوان عليها وهضم حقوقها، وهي أمور قلبية ويظهر ذلك في قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله} [البقرة: 288]، وقوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 299]، وقوله: {ولا تمسكوهن ضرارا

لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه، ولا تتخذوا آيات الله هزوا} [البقرة: 231]، وقوله: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 232]. وغير ذلك من الأمور القلبية التي مبعثها شدة الغضب، وحدته والرغبة في الانتقام، فأكد تزكية القلوب وطهارتها فقال: {ذلكم أزكى لكم وأطهر} في حين قال في سورة المجادلة: {يأيها الذين أمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم} [المجادلة: 12]. والفرق واضح بين المقامين، فإن الآيات الأولى في أمر إنساني عام، وحكم خالد باق في تطهير القلوب وزكاتها مما يشتعل فيها من نار الغضب، والحقد، والرغبة في الانتقام في حين أن المقام في آية المجادلة يتعلق بدفع صدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد نسخ هذا الحكم وشيكًا. فالفرق كبير بين المقامين والحكمين. فأنت ترى إنه لما كان (الوعظ) في آيات المجادلة أشد، وآكد، وأكدهـ، وجاء به بصورة الجمع بخلاف الوعظ في آية البقرة، ولما كانت الزكاة وتطهير القلوب في آية البقرة أشد وأكد جاء به بصورة الجمع بخلاف آية المجادلة، وهذا أمر دقيق جليل. 7 - وقد استعمل القرآن الكريم الخطاب بالجمع، وبالأفراد للتمييز بين مجموعتين، فقد تكون مجموعة أكبر من مجموعة فيستعمل لخطاب الجمع الكثير بصورة الجمع، وللقليل بصورة الأفراد، وذلك نحو ما مر في قوله تعالى: {ذلكم أزكي لكم وأطهر} [البقرة: 232]، وقوله: {ذلك خير لكم وأطهر} [المجادلة: 12]، فإن الآية الأولى لخطاب المؤمنين عامة وتكليفهم إلى قيام الساعة، وأما الآية الأخرى فلخطاب الصحابة وحدهم، ولا يشمل غيرهم من المسلمين ثم أنه حكم ما لبث أن نسخ، فجاء لما هو عام شامل بصيغة الجمع، ولما هو خاص بصيغة الأفراد. ونحوه قوله تعالى: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنةالله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكان وأضل عن سواء السبيل} [المائدة: 60]، وقوله: {قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير} [الحج: 72]

دخول كاف التشبيه على اسم الإشارة

فإن الجماعة الثانية أكبر من الأولى، لأنه لم يجعل من الكفرة كلهم قردة وخنازير ولكن الكفرة جميعهم يدخلون النار فلما كان الفريق الثاني أكبر وأعم جمع الخطاب والله أعلم. وعلى كل فالأمور التي يفرق السياق بينها لا تكاد تنحصر وإنما هذه أمثلة ضربتها للتدرج إلى ما فوقها. دخول كاف التشبيه على اسم الإشارة هكذا: هذا التعبير مركب من (ها) التنبيه، والكاف الذي يفيد التشبيه، (وذا) اسم الإشارة ومعناه: مثل هذا، وهو عند النحاة بمعنى (هكذا) إعرابا، ومعنى ـ غير ان كاف الجر قدمت في كهذا وقدم التنبيه في هكذا. وحقيقة الأمر أنهما لا يتطابقان في الاستعمال، ولا في المعنى مع أن مفردات تركيبهما واحدة. فمن الفرق بينهما أنه لا يذكر المشار إليه بعد (هكذا) بخلاف (كهذا) فتقول: هذا الطير كهذا الطير، وهذا الأمر كهذا الأمر، ولا تقول: هذا الطير هكذا الطير ولا هذا الأمر هكذا الأمر. ثم أن المعنى يختلف أيضا فإن قولك (أن الطير كهذا الطير) يفيد تشبيه طير بطير، وأما قولك (أن هذا الطير هكذا) فإن معناه إن هذا الطير على هذه الصورة، أو هو على هذه الحال، أو هذه الهيئة. وتقول: هكذا يفعل الأبطال، وهكذا يفعل الرجال، وهو تعبير يفيد التشبيه ومعناه هذه صورة فعل الرجال، ولا يجوز ذكر المشار إليه فلا يقال: هكذا الفعل يفعل الأبطال ولا هكذا الفعل، يفعل الرجال بخلاف ما لو قالت: هكذا يفعل الرجال، فإنه يصح ذكر المشار إليه بعد كهذا. وتقول: ما بال فلان يفعل كذا وكذا، ؟ فيقال: هو هكذا أي هذا شأنه وهذا أمره ولا تقول: هو كهذا.

كذلك

ثم أنت تدرك الفرق بينهما في المعنى أيضا فقولك: (هو كهذا) معناه أنه شبيه بهذا ولا يفيد (هو هكذا) هنا هذا المعنى. إن هكذا كالمصطلح يلزم صورة واحدة في التعبير فلا يصح تغير اسم الإشارة عن الأفراد والتذكير فلا يقال: هكذي ولا هكذين ولا هكأولاء تقول: مثلا: كانت أمها تقرأ وتؤلف وهكاذ هي ولا تقول: وهكذي هي. وتقول: وهكذا نحن وهكذا هما ولا تقول: وهكأولاء نحن بخلاف كهذا فإن اسم الإشارة يتغير بحسب المشار إليه فيقال: كهذه وكهذين وكهؤلاء. فهكذا، وكهذا لا يتطابقان وإن كانا أحيانا يتقاربان. كذلك: هذا التركيب يفيد التشبيه ومعناه (مثل ذلك) تقول (هذا الرجل كذلك الرجل) و (هذه المرأة كتلك المرأة) ثم إن المشار إليه قد يذكر كما مثلنا وقد يحذف وذلك نحو قوله تعالى: {بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون} [الشعراء: 74]، أي مثل ذلك الفعل يفعلون. وقد تكون بمعنى (أيضا) وذلك نحو قولك: (أنت ضربت خالدا وسرقت ماله كذلك) فلا أرى ههنا معنى للتشبيه، إذ لا يصح إن يراد، وسرقت ماله كذلك الضرب وإنما هو بمعنى أيضًا. ومن هذا فيما يبدو لي قوله تعالى: {إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين} [الدخان: 51 - 54]. فلا أرى في هذا المعنى للتشبيه وإنما المعنى كما يبدو، وزوجناهم بحور عين أيضًا، وإن كان المفسرون يرون إن المعنى على التشبيه، وإن المعنى يحتمل أن يكون: الأمر كذلك وزوجناهم بحور عين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الكشاف 3/ 111

وقد يحتمل المعنى في بعض التعبيرات التشبيه وغيره، وذلك نحو قولك (هو ضربة وكذلك توعده) فإنه يحتمل أن يراد: وتوعده مثل ذلك أي وتوعده ضربًا كذلك الضرب، فيكون المعنى على التشبيه، وقد يراد: ضربه وتوعده أيضا أي لم يكتف بضربه بل توعده مع ذلك. أن كذلك التي يراد بها التشبيه تطابق المشار إليه فتقول: هي كتلك وهما كهذين وهم كأولئك. أما التي بمعنى أيضا فهي تجمد على صورة واحدة وهي: أن يبقى اسم الإشارة بصورة الأفراد والتذكير فلا يقال: كتلك، ولا كأولئك، يقال: جاءت هند وجاءت اختها كذلك" ولا يصح أن يقال كتلك. وتقول: جاءت النساء وأطفالهن كذلك ولا يقال كأولئك، وليس بعدها مشار إليه فيذكر بخلاف التي تفيد التشبيه. والظاهر أن معناها القديم يفيد التشبيه لأن طبيعة تركيب العبارة تدل على ذلك ثم انتقل إلى معنى (أيضا) والتراكيب قد تنتقل معانيها كما ذكرنا في بحث الجملة. والذي سهل انتقال معناها إن كثيرا مما يفيد التشبيه تتضمن معنى (أيضا). وذلك كقولك فعل محمد كذلك الفعل، أي أن أحدا فعل فعلا معينًا، وأن محمدًا فعل أيضا فلا شبيها بفعله. وقولك " أكرمت محمدًا وخالدا كذلك"، والمعنى أنك أكرمت محمدًا، وأكرمت خالدًا، أيضا مثل أكرام محمد، ثم انتقل معنى التركيب في قسم من العبارات إلى معنى: أيضا، وأنفك عن معنى التشبيه الذي كان يلازمه والله أعلم.

المعرف بأل

المعرف بأل أغراض التعريف بأل: للتعريف بأل أغراض أهمها: 1 - تعيين واحد من أفراد الجنس كقولك (أقبل الرجل) و (أشتريت الكتاب) ولا تقول ذلك إلاإذا كان المخاطب يعرف الرجل، أما أن يبكون رآه أو جرى حديث عنه، أو نحو ذلك، ولا تقول ابتداء فلا تقول لمخاطبك (أقبل الرجل) وهو لا يعرفه، ولم يجر له سابق ذكر. وكذلك قولك (اشتريت الكتاب) فإنه لا يجوز أن تقول ذلك لمخاطبك إذا كان لا يعرف شيئا عن الكتاب، ولم يجر له ذكر جاء في (الكتاب) إن المعرف بأل: " إنما صار معرفة لأنك أردت بالألف واللام الشيء بعينه دون سائر أمته، لأنك إذا قلت (مررت برجلٍ) فإنك إنما زعمت أنك مررت بواحدٍ ممن يقع عليه هذا الاسم، لا تريد رجلا بعينه يعرفه المخاطب، وإذا أدخلت الألف واللام، فإنما تذكره رجلا قد عرفه فتقول: الرجل الذي من امره كذا وكذا ليتوهم الذي كان عهده بما تذكره من أمره" (¬1). 2 - بيان الجنس كقولك (الفهد أسرع من الذئب) فأنت لا تقصد بالفهد واحدًا بعينه من أفراد الجنس ولا الذئب وإنما قصدت أن تقول: هذا الجنس أسرع من هذا الجنس. وليس معناه أن كل فرد من أفراد الفهد أسرع من كل فرد من أفراد الذئب، بل ربما وجد من أفراد الذئب ما تفوق سرعته سرعة بعض أفراد الفهد. 3 - إستغراق كل أفراد الجنس وذلك نحو قوله تعالى {وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء: 28]، فلا يشذ واحد من أفراد الجنس من هذا الضعف البشري. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 220

4 - الإشارة إلى واحد مما عرفت حقيقته في الذهن من دون قصد إلى التعيين وهو نحو قولك (ذاهب إلى السوق واشتر لنا كذا وكذا) لمن لم يدخل المدينة إلا هذه المرة ولم ير سوقها من قبل. فأنت هنا لا تقصد سوقا بعينه. وكقوله تعالى: {وأخاف أن يأكله الذئب} [يوسف: 13] فإنه لا يقصد ذئبا بعينه بل واحدًا من أفراد الجنس مما استقر في الذهن معرفته. 5 - الدلالة على الكمال كقولك (هذا الرجل) و (هذا البطل) أي الكامل في هذا الوصف ومن ذلك قولنا (هذا الفتى كل الفتى) و (هذا الفتى حق الفتى) جاء في (الكتاب): " إذا قلت: (هذا الرجل)، فقد يكون أن تعني كماله ويكون أن تقول: (هذا الرجل) وأن تريد كل ذكر تكلم ومشى على رجلين فهو رجل". (¬1) وأنت تحس الفرق بين قولنا (هذا الرجل) و (هذا رجل) و (هذا البطل) و (هذا بطل) ففي التعريف من الدلالة على الكمال ما ليس في التنكير جاء في (دلائل الإعجاز): " ويبين ذلك أن تقول: (لك ف ي هذا غنى) فتنكر إذا أردت أن تجعل ذلك من بعض ما يستغني به. فإن قلت: (لك فيه الغنى) كان الظاهر أنك جعلت كل غناه به" (¬2). أي كما له، وأل ههنا تفيد الاستغراق. 6 - القصر حقيقة أو تجوزًا بقصد المبالغة فمن الأول قولك (المؤمنون هم الأعلون في الآخرة) وقوله تعالى (وذلك الفوز العظيم) [النساء: 13]. ومن الثاني قولك (الشاعر البحتري) وقولك (حاتم هو الجواد) فقد قصرت الشعر على البحتري والجود على حاتم فكأن ما عدا البحتري ليس بشاعر وما عدا حاتما ليس بجواد. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 263 (¬2) دلائل الإعجاز 224

7 - إيضاح ما لم يكن واضحًا للمخاطب وتبيينه له وذلك نحو قولك لمن سمع بالدلدل مثلا ولم يعرفه " هذا هو الدلدل" تحضره أمام عينيه أو تصفه له. وكقولك (هذا هو الماس) لمن سمع به ولم يره بإحضاره أمام عينيه أو بوصفه له كأنه يراه. وقد يدق التفريق بين النكرة والمعرف بأل في بعض التعبيرات فيحتاج إلى فضل نظر وزيادة تأمل وذلك نحو قوله تعالى {ويقتلون النبين بغير الحق} [البقرة: 61] وقوله: {ويقتلون الأنبياء بغير حق} [آل عمران: 112]، فعرف الحق في الأولى ونكره في الثانية. وكقوله تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} [البقرة: 234]، وقوله: {فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف} [البقرة: 240]. وقوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب} [الصف: 6]، وقوله: {ومن أظلم ممن افتر على الله كذبا} [هود: 18]، وغير ذلك من المواضع. والأصل الذي يرجع إليه للتفريق بين النكرة والمعرفة، أن المعرفة لما هو محدد معلوم بخلاف النكرة وإليك إيضاح ذلك فيما مر ذكره من الآيات: إن كلمة الحق المعرفة في آية البقرة، تدل على إنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير الحق الذي يدعو إلى القتل، والحق الذي يدعو إلى القتل معروف معلوم وأما النكرة فمعناها أنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق أصلا، لاحق يدعو إلى قتل ولا غيره، أي ليس هناك وجه من وجوه الحق يدعو إلى إيذاء الأنبياء، فضلا عن قتلهم، فكلمة (حق) ههنا نكرة عامة، وكلمة (الحق) معرفة معلومة. والقصد من التنكير الزيادة في ذمهم وتبشيع فعلهم أكثر مما في التعريف وذلك لأن التعريف معناه أنهم قتلوا الأنبياء بغير سبب يدعو إلى القتل، وأما التنكير فمعناه أنهم قتلوا الأنبياء بغير سبب أصلا لا سبب، يدعو إلى القتل ولا غيره، فمقام التشنيع والذم ههنا أكبر من ثم وكلاهما شنيع وذميم.

فجاء بالتنكير في مقام الزيادة في ذمهم وإليك سياق كل من الآيتين قال تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [البقرة: 61]، فعرف الحق فيها. وقال: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءو بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [آل عمران: 112]، فنكر الحق. ومن الواضح أن موطن الذم والتشنيع عليهم والعيب على فعلهم في آية آل عمران أكبر منه في آية البقرة، يدل على ذلك أمور منها: إنه في سورة البقرة جمع (الذلة والمسكنة) وأما آية آل عمران فقد أكد، وكرر، وعمم فقال {ضربت عليم الذلة أين ما ثقفوا} فجعلها عامة، ثم قال: {وضربت عليهم المسكنة} فأعاد الفعل، وحرف الجر للزيادة في التوكيد، فإن قولك (أنهاك عن الكبر وأنهاك عن الرياء) آكد من قولك (أنهاك عن الكبر والرياء). ثم إنه ذكر الجمع في آية البقرة بصورة القلة فقال {ويقتلون النبين} وذكره في آية آل عمران بصورة الكثرة، فقال: {ويقتلون الأنبياء} أي يقتلون العدد الكثير من الأنبياء بغير حق. فالتشنيع عليهم والعيب على فعلهم وذمهم في سورة آل عمران أشد، ومن هنا يتبين أن التعريف في آية البقرة أليق والتنكير في آية آل عمران أليق. وكذلك كلمتا (معروف) و (المعروف) اللتان وردتا في آيتي سورة البقرة 234، 240، قال تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} [البقرة: 234]، فعرف (المعروف).

وقال: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف} [البقرة: 240]، فنكره. وذكر أن المقصود بـ (المعروف) ههنا الزواج خاصة، وأما غير المعروف فيراد به ما لم ستنكر فعله من خروج أو تزين، ونحوه. جاء في درة التنزيل: للسائل أن يسأل فيقول: ما الفائدة التي أوجبت اختصاص المكان الأول بالتعريف والباء فقال (بالمعروف) والمكان الثاني بالتنكير ولفظة (من)؟ والجواب عن ذلك أن يقال: إن الأول تعلق بقوله: " والذين يتوفون .. بالمعروف" أي لا جناح عليكم في أن يفعلن في أنفسهن بأمر الله، وهو ما أباحه لهن من التزوج بعد انقضاء العدة، فـ (المعروف) ههنا أمر الله المشهور، وهو فعله وشرعه الذي شرعه، وبعث عليه عباده. والثاني المراد به فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من جملة الأفعال التي لهن أن يفعلن من تزوج أو قعود فالمعروف ههنا فعل من أفعالهن، يعرف في الدين جوازه وهو بعض ما لهن أن يفعلنه، ولهذا المعنى خص بلفظة (من) ونكر، فجاء المعروف في الأول معرف باللفظ لما أشرت إليه، وهو الوجه الذي دل الله عليه وأبانه فعرف، إذ كان معرفة مقصودًا نحوه وكذلك خص بالباء وهي للإلصاق والثاني كان وجها من الوجوه التي لهن أن يأتينه فأخرج مخرج النكرة لذلك" (¬1). ومثله الكذب وكذب فقد استعمل القرآن الكريم (الكذب) بالتعريف لما هو خاص بأمر معين (وكذبا) لما هو عام. قال تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من ¬

_ (¬1) درة التنزيل 52 - 53

بعد ذلك فأولئك هم الظالمون} [آل عمران: 93 - 94]، فجاء بالكذب ههنا معرفا لأنه مخصص بهذه المسألة أي مسألة الطعام. ومثله قوله تعالى: {قالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه هو الغني له ما في السماوت وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [يونس: 68 - 69]. فعرف الكذب لأنه مخصص بمسألة معينة وهي زعمهم اتخاذ الله ولدًا سبحانه. وقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون} [المائدة: 103]، فاستعمل (الكذب) معرفا لأنه مخصص بمسألة الأنعام. في حين، قال: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به، وهم على صلاتهم يحافظون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} [الأنعام: 92 - 63]، فالكذب ههنا عام ولم يخصص بمسألة معينة. ونحوه قوله تعالى: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آيتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآيتنا واستكبرا عنها أولئك اصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف: 35 - 36]. وقوله تعالى: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرون} [يونس: 16 - 17]. وقوله: {أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل} [الشورى: 24]. وقوله: {إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين} [المؤمنون: 38]. فأنت ترى انه استعمل المعرف لأمر مخصوص في حين استعمل المنكر لما هو عام.

أقسام أل

أقسام أل يقسم النحاة (أل) المعرفة على قسمين: عهدية وجنسية. أل العهدية: وهي تدخل على واحد من أفراد الجنس بعينه، نحو (بعت البستان واشتريت الدار) فأنت تقصد بالبستان، بستانا معينا يعرفه المخاطب وكذلك الدار. ومعنى العهد المعرفة ومنه قولهم: عهدي بموضع كذا (¬1) تقول: عهدي بك إنك تركت كذا وكذا أي معرفتي بك. وتقول: عهدتك تفعل كذا، أي عرفتك وهي على ثلاثة أنواع: 1 - العهد الذكري: وهو أن يتقدم لمصحوبها ذكر في اللفظ نحو (زارنا رجل فأكرمت الرجل) والمعنى إنك أكرمت الرجل الذي تقدم ذكره في العبارة ومنه قوله تعالى: {إنا أرسلنا إليكم رسولا شهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول} [المزمل: 15 - 16]، أي الرسول الذي تقدم ذكره بخلاف ما لو قلت: (زارني رجل فأكرمت رجلا) فإن ذلك يفيد أنك أكرمت رجلا غير الأول ففائدتها التنبيه على إن الثاني هو الأول إذ لو جيء به منكرًا لتوهم إنه غيره (¬2). 2 - العهد الذهني: وهو أن يتقدم لمصحوبها علم المخاطب به، وذلك كأن تقول لصاحبك (اشتريت الحصان) فلابد أن يكون للمخاطب علم المقصود أما أن يكون رآه أو سبق ذكره له. ومنه قوله تعالى: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [التوبة: 40]، فالغار معلوم وقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح: 18]، فالشجرة معلومة للمسلمين وإن لم يكن جرى لها ذكر في اللفظ. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط (عهد) 1/ 320 (¬2) انظر التصريح 1/ 149

أل الجنسية

3 - العهد الحضوري: وهو أن يكون مصحوبها حاضرًا مشاهدًا أو محسوسًا كأن تقول: (فاز هذا الغلام) وكقولك (اليوم نسافر) وتقول لشاتم رجل بحضرتك: لا تشتم الرجل ومنه قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]. (¬1) وقيل أنه يعرض في العهدية الغلبة، ولمح الأصل " فالتي للغلبة كالبيت للكعبة والنجم للثريا دخلت لتعريف العهد ثم حدثت الغلبة بعد ذلك، والتي للمح لم تدخل أولاً على الاسم للتعريف، لأن الاسم علم في الأصل، لكن لمح فيه معنى الوصف فسقط تعريف العلمية فيه، وإنما أنت تريد شخصا معلومًا فلم يكن بد من إدخال أل العهدية عليه لذلك" (¬2). أل الجنسية: وهي التي تدخل على الجنس، ولا يراد بها واحد معين من أفراد الجنس كما في العهدية، فإن أل العهدية يراد بمصحوبها واحد بعينه من أفراد الجنس كما ذكرنا، بخلاف (أل) هذه فإذا قلت مثلا (الغزال أسرع من الذئب) فأنت لا تقصد بع غزالا واحدًا معينا وكذا إذا قلت (الذئب مفترس) فأنت لا تريد واحدًا بعينه من أفراد الجنس بل كأنك تقول: هذا الجنس من الحيوان مفترس، فأل هذه تعرف الجنس بأسره وليست تعرف واحدًا بعينه من أفراد الجنس. وقسموا أل الجنسية على قسمين: 1 - أن تكون للاستغراق وهي على قسمين: الأولى وهي التي تفيد استغراق جميع أفراد الجنس، وهي التي تخلفها (كلّ) حقيقة وذلك نحو قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء: 28]، أي كلُّ إنسان بلا استثناء. ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 49 - 50، التصريح 1/ 149، الرضي على الكافية 2/ 147 (¬2) الهمع 1/ 79

وقولنا (خلق الله الإنسان من الطين) أي كل إنسان، وقولنا (الاس أثمن من الحصاة) فإن كل ماسة أثمنَ من كل حصاة. فأل ههنا استغرقت جميع أفراد الجنس. والأخرى وهي التي تفيد استغراق جميع خصائص الأفراد تجوزًا، مبالغة في المدح والذم فالمدح كقولك (هو الرجل علما) أي الكامل في هذه الصفة، ومعناه أنه اجتمع فيه ما تفرق في الجنس من هذه الصفة ونحوه (هو الشجاع) أي اجتمع فيه ما تفرق في الجنس من صفة الشجاعة وتسمى أل الكمالية. ومن الذم قولك (هو اللئيم) أي اجتمع فيه من هذه الصفة ما تفرق في غيره. 2 - أن تكون لتعريف الحقيقة وهي التي لا تخلفها كل وذلك نحو قولنا (خلق الله آدم من الطين) فليس المقصود إن الطين كله استغرق في خلق آدم، بل معناه إنه خلقه من هذا الجنس وكقوله تعالى: {وجلعنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30] أي من حقيقة الماء وليس المقصود استغراق الماء كله في خلق الأحياء (¬1). ونحو قولنا (الحصان أسرع من الثور) فهذا ليس على سبيل الاستغراق بل ربما وجد ثور أسرع من حصان ولكن هذه حقيقة عامة. وقد فرقوا بين المعرف بأل هذه واسم الجنس النكرة، فذهب قس إلى أن تعريف الجنس تعريف لفظي، وهو في معنى النكرة فقولك (خلق الله الإنسان من الطين) هو بمعنى خلق الله الإنسان من طين وقولك " هو ما يعطيني إلا التمرة أو التمرتين" هو بمعنى قولك " ما يعطيني إلا تمرة أو تمرتين". (¬2) وذهب قسم إلى إن الفرق بينهما هو فرق ما بين المقيد والمطلق، وذلك لأن المعرف بها يدل على الحقيقة بقيد حضورها في الذهن واسم الجنس النكرة يدل على مطلق الحقيقة لا باعتبار قيد. (¬3) ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 50، الهمع 1/ 79، التصريح 1/ 149 (¬2) انظر الرضي على الكافية 2/ 144 (¬3) انظر المغى 1/ 50 - 51، التصريح 1/ 149

والحق إن المعرف بأل الجنسية يختلف عن اسم الجنس النكرة، كما ذهب إليه القسم الثاني، وذلك أن المعرف بأل يقصد به استحضار الجنس وهيئته المعلومة في الذهن، فإذا قلت: (الأسد أجرأ من الثعلب) فكأنك قلت: الحيوان الذي أمره كذا أو المشهور بكذا أجرأ من الحيوان الذي من أمره كذا أو المعروف بكذا. ونحوه قولك (خلق الإنسان من الطين) فالطين ههنا جنس، وهو معروف بأل أي من هذه المادة المعروفة التي من أمرها كذا، فإذا قلت (من طين) كان المعنى أنه خلق من مادة هذا اسمها ولست تشير إلى استحضار صفاتها وإنما يكون عرضا غير مقصود. فتعريف الجنس القصد منه استحضار ما عرف عن الجنس في الذهن والتنكير ليس القصد منه ذلك جاء في (الكشاف) في قوله تعالى {الحمد لله رب العالمين} " وهو تعريف الجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو" (¬1). فأحالك إلى ما يعرفه الذهن عن حقيقة الحمد واستحضاره في الذهن فتعريف الجنس شبيه بعلم الجنس (¬2) الذي سبق أن ذكرناه في باب العلم فقولك (الأسد المفترس) يراد به ما يراد بقولك (أسامة متفرس) فالفرق بين المعرف بأل الجنسية واسم الجنس النكرة كالفرق بين أسامة وأسد وقد مرّ ذلك بما فيه الكفاية. وقد يشار بأل هذه إلى واحدٍ غير معين من الجنس المعروف المعلوم، كما مر في نحو قولنا (أدخل السوق) فإن هذا الجنس معلوم للمخاطب، غير أنه لا يراد واحد بعينه من هذا الجنس فأل هذه جنسية (¬3)، في حقيقتها، لأنه لا يراد بمدخولها شيء بعينه بل يراد به واحد من الجنس المعهود، فالجنس معهود معلوم وما دخلت عليه أل واحد غير معين من هذا الجنس ونحوه قوله: ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 40 (¬2) انظر حاشية الخضري 1/ 84، الأشموني 1/ 179 (¬3) انظر حاشية الخضري 1/ 84

ولقد أمرُّ على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمّت قلتُ لا يعنيني فالشاعر لا يريد لئيمًا بعينه بل يريد واحدًا غير معين من هذا الجنس المعلوم، فتعريف اللئيم ههنا يراد به الإشارة إلى استحضار خصائص هذا الجنس في الذهن بخلاف قولك (ولقد أمر على اللئيم) فلا يراد ههنا الإشارة إلى خصائص الجنس واستحضارها في الذهن جاء في (شرح الأشموني): " وقد يشار به إلى حصة غير معينة في الخارج بل في الذهن نحو قولك (ادخل السوق) حيث لا عهد بينك وبين مخاطبك في الخارج ومنه (وأخاف أن يأكله الذئب) والأداة فيه لتعريف العهد الذهني، ومدخولها أمر على اللئيم يسبني". (¬1) فذكر أن الأداة فيه لتعريف العهد الذهني، وهذا مذهب البيانيين، فقد ذهبوا إلى أنها للعهدالذهني " لعهدية الحقيقة التي لذلك البعض في الذهن، وأن كان هو مبهما (¬2) ". فهي إذن ليست للعهد الذهني الذي سبق أن أوضحناه، وإنما تفيد أنّ الجنس بأسره معهود. على أن بعضهم يذهب إلى أنّ (أل) في جميع أحوالها لتعريف العهد ويقسم المعهود إلى قسمين: معهود شخص ومعهود جنس. أما المعهود الشخصي فهو ما ذكرناه في باب أل العهدية وذلك أنها تدل على واحد بعينه من أفراد الجنس وأما معهود الجنس فهو ما أدرجناه في "أل" الجنسية وحجته في ذلك، أن الأجناس أمور معهودة في الأذهان معلومة للمخاطبين متميز بعضها عن بعض (¬3). ويبدو لي أن الخلاف لفظي بين الفريقين. ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 179 - 180 (¬2) حاشية الخضري 1/ 84 (¬3) انظر المغني 1/ 50

الاسم الموصول

الاسم الموصول الموصول في الأصل اسم مفعول، من وصل الشيء بغيره، إذا جعله من تمامه (¬1) وسميت الأسماء الموصولة بذلك، لأنها توصل بكلام بعدها هو من تمام معناها، وذلك إن الأسماء الموصولة أسماء ناقصة الدلالة لا يتضح معناها، إلا إذا وصلت بالصلة فإذا قلت (جاء الذي) أو (رأيت التي) لم يفهم المعنى المقصود، فإذا جئت بالصلة اتضح المعني المقصود، وذلك كأن تقول (جاء الذي ألقى الخطبة) أو (رأيت التي فازت في مسابقة الشعر). ومن ذلك يتبين إن الأسماء الموصولة معناها: الأسماء الموصولة بصلة. جاء في (شرح ابن يعيش): "معنى الموصول أن لا يتم بنفسه، ويفتقر إلى كلام بعده، تصله به ليتم اسما فإذا تم بعده كان حكمه حكم سائر الأسماء التامة، يجوز أن يقع فاعلا ومفعولا ومضافا إليه" (¬2)، وجاء فيه أيضا: "فالموصول وحده اسم ناقص أي ناقص الدلالة فإذا جئت بالصلة قيل موصول حينئذ" (¬3). أغراض التعريف بالاسم الموصول: للتعريف بالأسم الموصول أغراض أهمها: 1 - عدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة (¬4) كقولك (الذي كان معنا أمس رجل عالم) فالمخاطب لا يعرف من أحوال هذا الشخص إلا أنه كان معه أمس. 2 - الإبهام، وذلك إذا كنت تريد إبهام الذات أو الشيء عن السامعين، فتذكره لمخاطبك بصلة يعرفها هو ولا يعرفها الآخرون فتقول له (أن الذي كان معنا أمس سافر) أو (الذي كلمك في شأن فلان حضر). ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 130 (¬2) ابن يعيش 3/ 150 (¬3) ابن يعيش 3/ 150 (¬4) الإيضاح 1/ 36

3 - استهجان التصريح باسمه فيؤتى بالذي ونحوه موصولا بما صدر منه من فعل أو قول (¬1)، وذلك نحو قوله تعالى: {فبرأه الله مما قالوا} [الأحزاب: 69]، أي (آدر) فلم يذكر ذلك، وكقولك (لقد فعل فلان ما فعل) فلم تذكر الفعلة استهجانا لها. 4 - التعظيم وذلك بأن تذكره بصلته المعظمة كقوله تعالى: {تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى} [طه: 4]، وقوله: {والذي جاء بالصدق وصدق به} [الزمر: 33]. 5 - التحقير كقولك (هذا الذي شتم أباه) و (هذا الذي أهنته) ومثله قوله تعالى {كذلك قال الذي لا يعلمون مثل قولهم} [البقرة: 113]. 6 - التعريض بذكر الصلة كقوله تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} [التوبة: 49]، وقوله: {وفعلت فعلتك التي فعلت} [الشعراء: 19]، ونحو أن يقال لشخص: أنت كذاب، أنت خائن، فيرد عليه بقوله: أنا لست كذابا، ولا خائنا، ولكن الكذب الخائن هو الذي كنا نظن فيه خيرًا، فأودعنا عنده مالا وذهبنا فأنكره علينا، معرضا به. 7 - التفخيم كقوله تعالى: {فغشيهم من اليم ما غشيهم} [طه: 78]، (¬2) وقوله: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 10]. 8 - الاختصار نحو قوله تعالى: {لا تكونوا كالذين أذوا موسى} [الأحزاب: 69]، إذ لو عدد أسماء القائلين بذلك لطال (¬3)، ونحوه {قل لمن في أيديكم من الأسرى} [الأنفال: 70]، وكقوله: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} [البقرة: 27]، فإنه جاء به كذلك للإختصار. ¬

_ (¬1) معترك الأقران 3/ 589 (¬2) الإيضاح 1/ 36 (¬3) الإتقان 1/ 190، معترك الأقران 3/ 590

9 - إرادة العموم نحو قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت: 30]، (¬1) وقوله {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184]، وقوله: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء: 15]. 10 - أرادة واحد من الجنس غير معين وذلك كأن تقول: (أنت كالذي بني بنيانا حتى إذا أتمه وأكمله هدمه) فأنت لا تريد واحدًا بعينه من أفراد الجنس، بل أنت تفترض واحدًا هذا شأنه، ونحوه قوله تعالى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا} [النحل: 92]، وقوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17]، جاء في (دلائل الإعجاز) في (الذي: " يجيء كثيرًا على أنك تقدر شيئا في وهمك ثم تعبر عنه بالذي ومثال ذلك قوله: أخوك الذي أن تدعمه لملمة ... يجبك وأن تغضب إلى السيف يغضب. وقول الآخر: أخوك الذي إن ربته قال إنما ... أربت وإن عاتبته لان جانبه فهذا ونحوه على أنك قدرت إنسانًا هذه صفته، وهذا شأنه، وأحلت السامع على من يتعين في الوهم دون أن يكون قد عرف رجلا بهذه الصفة: فأعلمته أن المستحق لاسم الأخوة هو ذلك الذي عرفه. حتى كأنك قلت: أخوك زيد الذي عرفت أنك أن تدعه لملمة يجبك. ولكون هذا الجنس معهودًا من طريق الوهم والتخيل جرى على ما يوصف بالاستحالة كقولك للرجل وقد تمنى: هذا هو الذي لا يكون، وهذا ما لا يدخل في الوجود". (¬2) ¬

_ (¬1) الاتقان 1/ 190 معترك الاقران 3/ 589 (¬2) دلائل الإعجاز 143

صلة الموصول

صلة الموصول توصل الأسماء الموصولة عدا (أل) بجملة خبرية، وهذه الجملة قد يكون معهودًا معناها أي معلومة للمخاطب، وذلك نحو (قدم الذي أكرم خالدًا) ولا تقول ذلك إلا إذا كان المخاطب يعلم أن هناك شخصًا أكرم خالدًا، ونحو قوله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك} [الأحزاب: 37]، فالصلة معهودة للمخاطب معلومة عنده، والمخاطب هو الرسول صلى الله عليه وسلم. جاء في (شرح ابن يعيش): "وينبغي أن تكون الجملة التي تقع صلة معلومة عند المخاطب، لأن الغرض بها تعريف المذكور بما يعلمه المخاطب من حاله ليصح الأخبار عنه بعد ذلك .. فلذلك لا تقول (جاءني الذي قام) إلا لمن عرف قيامه وجهل مجيئه لأن جاء خبر وقام صلة، وكذلك لا تقول (أقبل الذي أبوه منطلق) إلا لمن عرف أنطلاقه وجهل أقباله" (¬1). فيكون الاسم الموصول ههنا كأل العهدية التي تعرف المفردات. وقد يراد به الجنس فلا تكون صلته معهودة وذلك نحو قوله تعالى: {واللآتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء: 15]، فليس المقصود بذلك نساء معلومات بل المقصود الجنس. وقوله: {الذين يأكلون الربى لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة: 275]، وقوله: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17] فيكون هنا الاسم الموصول كأل الجنسية، إلا أن (أل) تدخل على المفردات وهذا يدخل على الجمل. وقد يراد تعظيم الموصول فتبهم صلته فلا تكون معهودة ولا تفيد الجنس وذلك نحو قوله تعالى {فغشيهم من اليم ما غشيهم} [طه: 78]، وقوله: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 10]ـ، وقوله: ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 3/ 154، وانظر الرضي على الكافية 2/ 39 - 40، التصريح 1/ 140 - 141

الأسماء الموصولة

فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه. (¬1) وكذلك إذا أريد التحقير (¬2) نحو: لقد فعل ما فعل. فيتبين من هذا إن الإسم الموصول شبيه بأل المعرفة، فقد يكون للعهد وقد يكون للجنس غير أن (أل) تدخل على المفردات، والإسم الموصول يدخل على الجمل ولا يمكن التعريف بالجملة، إلا عن طريق الإسم الموصول. الأسماء الموصولة يقسم النحاة الأسماء الموصولة على قسمين: مختص ومشترك. (¬3) فالمختص ما استعمل لشيء واحد لا يتجاوز إلى غيره وهو "الذي، والتي" وما تفرع عنهما، فالذي للمفرد المذكر، والتي للمفردة المؤنثة، وهكذا ويسمى (النص) أيضًا. والمشترك هو ما كان لعدة معان بلفظ واحد كمن وما واي. فـ (من) مثلا تستعمل للمفرد، والمثني، والجمع المذكر، والمؤنث، فتقول: حضر من فاز، ومن فازا، ومن فازوا، ومن فازت، ومن فازتا، ومن فزن، فلفظ (من) اشترك في عدة معان. اشترك الآن لهذين القسمين: الذي: للمفرد المذكر، ويقول النحاة إن (الذي) وأخواته مما فيه أل، إنما وضع توصلا إلى وصف المعارف بالجمل (¬4) وذلك أنه لا يمكن أن تصف معرفة بالجملة، وإنما تصف بالجملة النكرة فتقول: (رأيت رجلا يضرب أخاه) فإذا أردت أن تصف المعرفة بالجملة ¬

_ (¬1) انظر الهمع 1/ 185، التصريح 1/ 140 (¬2) حاشية الصبان 1/ 3 (¬3) انظر التصريح 1/ 131 - 133 (¬4) الخصائص 1/ 321، الأشباء والنظائر 2/ 260

جئت بـ (الذي) فقلت: (رأيت الرجل الذي يضرب أخاه) فتوصلت بالذي إلى وصف الرجل بكونه يضرب أخاه، وذلك أن نعت المعرفة يكون بأل إذا كان اسما فتقول (أقبل الرجل الكريم) فوصفت الرجل بالكريم، وقد أدخلت (أل) عليه. ولما كان لا يمكن ادخال (أل) على الجمل جيء بالذي لتقوم مقام أل، فكما إنّ (أل) تدخل على المفرد وتؤثر فيه التعريف تدخل (الذي) على الجملة فهي أداة يتوصل بها إلى التعريف بالجملة على إن العامة لا يزالون عندنا يعرفون الجملة بأل، فيدخلونها عليها فيقولون (رأيت الرجل الهرب) و (اليعطي أحسن من اليأخذ) بمعنى رأيت الرجل الذي هرب، و (الذي يعطي أحسن من الذي يأخذ) وال ههنا موصولة، واصل التعبير عربي قديم. وكما إنّ (أل) تكون عهدية وجنسية، تكون "الذي" كذلك، فهي للعهد في قولك "سافر الذي كان معنا أمس" وهي للجنس، في قولهم "الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" جاء في "دلائل الإعجاز": "والقول المبين في ذلك أن يقال: إنه إنما احتلت (يعني الذي) حتى إذا كان قد عرف رجل بقصته وأمر جرى له، فتخصص بتلك القصة وبذلك الأمر عند السامع، ثم أريد القصد إليه ذكر (الذي). تفسير هذا أنك لا تصل (الذي) إلا بجملة من الكلام قد سبق من السامع علم بها، وأمر قد عرفه له، نحو أن ترى عنده رجلا ينشد شعرًا فتقول له من غد: ما فعل الرجل الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر؟ هذا حكم الجملة بعد (الذي) إذا أنت وصفت به شيئا، فكان معنى قولهم: إنه أجتلب ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل، إنه إنما جيء به ليفصل بين أن يراد ذكر الشيء بجملة قد عرفها السامع، وبين أن لا يكون الأمر كذلك .. وعلى الجملة فكل عاقل يعلم بون ما بين الخبر مع الذي، وبينها مع غير الذي، فليس من أحد به طرق إلا وهو لا يشك أن ليس المعنى في قولك (هذا الذي قدم رسولاً

اللذان

من الحضرة) كالمعنى إذا قلت (هذا الذي يسكن في محله كذا) كقولك (هذا يسكن محله كذا) وليس ذاك إلا إنك في قولك (هذا قدم رسولا من الحضرة) مبتديء خبرًا بأمر لم يبلغ السامع، ولم يبلغه ولم أصلا. وفي قولك (هذا الذي قدم رسولا) معلم في أمر قد بلغه أن هذا صاحبه. فلم يخل إذن من الذي بدأنا به في أمر الجملة مع (الذي) من أنه ينبغي أن تكون جملة قد سبق من السامع علم بها. فاعرفه" (¬1). ومن الواضح أن هذا الكل يخص العهدية. وقد ذكرنا أنها تكون غير عهدية أيضًا. اللذان: للمثنى المذكر قال تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فأذوهما} [النساء: 16]. الذين: لجماعة الذكور ويختص بالعقلاء قال تعالى: {والذين هم للزكاة فاعلون} [المؤمنون: 4]، في حين أن مفرده وهو (الذي) يكون للعاقل (¬2) وغيره تقول: (رأيت الرجل الذي زاركم) و (قرأت الكتاب الذي اشتريته منك). وقد تستعمل (الذين) لما ينزل منزلة العقلاء كقوله تعالى: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} [الأعراف: 194]، فنزل الأصنام لما عبدوها، منزلة من يعقل (¬3). الألى: تستعمل للجمع مطلقا عاقلا كان أو غيره (¬4) مذكرًا أو مؤنثا غير أن استعماله لجماعة الأناث قليل. تقول: (رأيت الألى هربوا) و (رأيت الألى هربن) قال الشاعر: وتبلى الألى يستلئمون على الألى ... تراهن يوم الروع كالحدأ القبل ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 154 - 156 (¬2) الأشموني 1/ 150، التصريح 1/ 132 (¬3) الهمع 1/ 83 (¬4) انظر ابن عقيل 1/ 72، حاشية الخضري 1/ 72

التي

فـ (الألى يستلئمون) هم الفرسان وهو عقلاء، و (الألى تراهن) هن الخيل، فاستعملها مرة للعقلاء، واستعملها مرة أخرى لغير العقلاء، وقال المجنون: محا حبها حب الألى كن قبلها ... وحلت مكانا لم حل من قبل فاستعمل (الألى) لجماعة الأناث. فالذين لجماعة الذكور العقلاء خاصة و (الألى) عامة للذكور والإناث، العقلاء وغيرهم. التي: للمفردة المؤنثة عاقلاً أو غيره تقول (أقبلت البنت التي ربحت الجائزة) وتقول: (بعت البقرة التي اشتريتها) قال تعالى: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142]. وتستعمل أيضًا لجماعة غير العقلاء نحو (بعت الكتب التي اشتريتها). قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء: 5]. ويبدو أنها تستعمل للكثرة في غير العاقل أما (اللاتي) فإنها تستعمل للقلة معه نظير ما مر في هي، وهن، وهذه وهؤلاء، تقول: " اشتريت الحقائب التي عرضتها في المعرض" و "اشتريت الحقائب اللاتي عرضتهن في المعرض" فالحقائب التي عرضتها أكثر عددا من الحقائب اللاتي عرضتهن. ويجوز استعمال أحدهما مكان الآخر لغرض بلاغي. اللتان: للمثنى المؤنث نحو (أقبلت البنتان اللتان القتا شعرًا في الحفل). اللاتي: وهي جمع التي وتكون للعاقل وغيره بخلاف (اللذين) فإنه مختص بالعقلاء خاصة، أو ما نزل منزلتهم كما ذكرنا، وذلك لشبهه بجمع المذكر السالم الذي هو مختص بالعقلاء،

اللائي

أو ما نزل منزلتهم. وأما (اللاتي) فإنه شبيه بلفظ جمع المؤنث السالم الذي يكون للعاقل وغيره فتقول: طالبات وشجرات. قال تعالى: {وأمهاتكم التي أرضعنكم} [النساء: 23]، وتقول: "اشتريت الكتب اللاتي كانت عند محمد". اللائي: استعملت لجمع (التي) أيضًا فتقول: عادت اللائي ذهبن، واستعمال اللائي قليل بالنسبة إلى استعمال اللاتي، وقد وردت اللائي للذكور قليلاً قال ابن مالك (واللاء كالذين نزرا واقعًا) قال الشاعر (¬1): فما آباؤنا بأمن منه ... علينا اللاء قد مهدوا الحجورا فالفرق بين اللاتي واللائي إن اللاتي مختصة بالأناث واللائي قد ترد للذكور قليلا. أل: ذهب الجمهور إلى أن (أل) الداخلة على الصفة الصريحة اسم موصول، ويعنون بالصفة الصريحة اسم الفاعل، واسم المفعول وقيل الصفة المشبهة أيضًا، وذلك نحو قولك (القادم خالد) أي الذي قدم خالد، وأجمعوا على أن الداخلة على اسم التفضيل ليست موصولة (¬2). واستدلوا على اسميتها بأمور أهمها: 1 - عود الضمير عليها في نحو (قد أفلح المتقى ربه) وهو أقوى ما يستندون إليه. 2 - إعمال اسم الفاعل واسم المفعول معها إذ لو كانت حرفا لمنعت من إعمال اسمى الفاعل والمفعول، وذلك لأن الحرفية مختصة بالأسماء فتبعد الوصف عن شبهة بالفعل كما يبعده التصغير والوصف فلا يعمل. ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 73 (¬2) انظر المغني 1/ 49، ابن عقيل 1/ 77

3 - دخولها على الفعل في نحو قوله: ما أنت بالحكم الترضى حكومته (¬1). وذهب الأخفش إلى أنها حرف تعريف (¬2). وهذا هو الراجح فيما نرى وذلك لما يأتي: 1 - إن الإعراب يتخطاها (¬3) ولو كانت اسما ما تخطاها الإعراب، فتقول (مررت بالضارب) و (جاء الضارب) فالأعراب يكون على (ضارب) لا على (أل). 2 - قولهم أنه لو كانت حرف تعريف لمنعت أعمال اسم الفاعل والمفعول، لأنها من خصائص الأسماء، كما يمنع التصغير والوصف أعمالهما باطل، وذلك لأن النداء لا يمنع من أعمال اسم الفاعل والمفعول، مع أنه من خصائص الأسماء فتقول يا طالعًا جبلا. 3 - استدلالهم بعود الضمير على أل في نحو (قد أفلح المقتي ربه) استدلال باطل، وذلك إنه إذا كان الضمير يعود على (إل) في الجملة السابقة فعلى من يعود في نحو قولنا (ما متق ربه مضيع) مما ليس فيه أل؟ فالضمير ههنا يعود على الموصوف المحذوف أو على المتقي نفسه وكذا في الجملة السابقة. ثم لماذا إذا قلنا (ما المتقي ربه مضيع) كان الضمير عائدًا على أل، وإذا حذفناها وقلنا (ما متق ربه مضيع) عاد على غير أل؟ ونحوه قولنا (ما المطيع خالقه خاسر) و (ما مطيع خالقه خاسر) فالضمير في الجملة الأولى يعود على ما يعود علىه في الجملة الثانية وليس فيها أل. ثم لماذا كان الضمير في قولنا (قد أفلح المتقى ربه) يعود على (أل) ولا يعود عليها في نحو قولنا (قدم القرشي نسبه) وقولنا (مررت بالأفضل أبوه) مما لا يعدونه اسمًا موصولاً؟ ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 49، الأشموني 1/ 156 (¬2) انظر المغني 1/ 49، الأشموني 1/ 156 (¬3) انظر الأشموني 1/ 157

من

فهذا كما هو ظاهر استدلال باطل، وأن الضمير لا يعود على أل، وإنما يعود على الموصوف المحذوف أو على الاسم المذكور. فأل حرف تعريف وليست اسما موصولا. نعم إن (أل) الداخلة على الفعل، أو الجملة الإسمية، نحو (ما أنت بالحكم الترضي حكومته) هي اسم موصول بمعنى الذي وليست حرفا، ولا داعي لجعل الداخلة على الاسم نفسها، بل هما أداتان مختلفان، ألا ترى إن كان التشبيه تكون مرة حرفا، وتكون مرة اسمًا وكذلك عن وعلى وهكذا الأمر ههنا. من: وتختص بأولى العلم سواء كانت موصولة، أو استفهامية، أم شرطية، أم غير ذلك، وذلك نحو قوله تعالى: {قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} [يوسف: 79]، وقوله: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} [هود: 112]، ولا يقع على غير العاقل إلا في مواضع: أحدهما أن ينزل غير العاقل منزلة العاقل، نحو قوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له} [الأحقاف: 5]، عبر عن الأصنام بـ (من) لتنزيلها منزلة العاقل لأنهم عبدوها. ونحوه قوله تعالى {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} [الإسراء: 67]، ومن ذلك قول عباس بن الأحنف: أسرب القطا هل من يعير جناحه ... لعلي إلى من قد هويت أطير الثاني أن يجتمع غير العاقل مع العاقل في عموم، وذلك نحو قوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [النحل: 17]، فإن (من لا يخلق) عام في العاقل وغيره، وقوله: {ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض} [النور: 41]، فاجتمع غير العاقل مع العاقل في التسبيح وعبر عن الجميع بـ (من).

ما

الثالث: أن يقترن غير العاقل مع العاقل في عموم فصل بمن، نحو قوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع} [النور: 45] (¬1). وهي تقع على المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، فمن استعمالها للمفرد قوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير} [يوسف: 72]، ولجماعة الذكور قوله تعالى {ومنهم من يستمعون إليك} [يونس: 42] وقوله: {فصعق من في السماوات ومن في الأرض} [الزمر: 68]، وللمفردة المؤنثة، قولك (نظرت إلى من أحببتها فوجدتها جديرة بالحب) ولجماعة الأناث قولك (جيء بمن أسرن كلهن). ما: وتقع على ذوات ما لا يعقل، وعلى صفات من يعقل، فمن الأول قولك (آكل ما تأكل) و (أعجبني ما قدمته لي) قال تعالى {وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا} [طه: 69]، فما في يمينه هي العصا، وما صنعوه هو أفاعيهم المتخيلة وهذا لغير العاقل. ومن الثاني قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى} [النساء: 3]، قالوا أي الطيب منهن، وقال: {والسماء وما بناها والأرضِ وما طحاها ونفسٍ وما سواها} [الشمس: 5 - 7]، أي والباني (¬2)، وكذا ما بعده، وقال: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} [الكافرون: 3]، أي معبودي. فالفرق بين ما، ومن، إن (من) مختصة بالعقلاء، ولا تنفرد لغير العقلاء، إلا على سبيل تنزيله منزلة العاقل. وأما (ما) فهي تقع لذوات ما لا يعقل، ولصفات العقلاء. ¬

_ (¬1) انظر الهمع 1/ 191، التصريح 1/ 133 - 134، الرضي على الكافية 2/ 61 (¬2) انظر ابن يعيش 1/ 145، الرضي على الكافية 2/ 161، المقتضب 2/ 52

ومن هذا يظهر إنّ (ما) أوسع استعمالاً مِنْ (مَنْ) وأكثر إبهامًا منها قال سيبويه: "ومن: وهي للمسألة عن الأناسيّ ويكون بها الجزاء للأناسي، وتكون بمنزلة الذي للأناسي. و (ما) مثلها إلا أن (ما) مثلها إلا أن (ما) مبهمة تقع على كل شيءٍ" (¬1). قالوا وبناء (ما) يوافق استعمالها المتسع فإن مدة الألف المتسعة في آخرها، تشاكل الأتساع في معناها، وأمّا (من) فهي مقيدة بالسكون، ولذا كان استعمالها مقيدًا بأولي العلم. جاء في (بدائع الفوائد) أن (ما) "لا تخلوا من الإبهام أبدًا، ولذلك كان في لفظها ألف آخرة لما في الألف من المد والاتساع، في هواء الفم، مشاكلة لإتساع معناها في الأجناس، فإذا أوقعوها على نوع بعينه، وخصوا به من يعقل، وقصروها عليه، أبدلوا الألف نونًا ساكنة فذهب امتداد الصوت فصار قصر اللفظ موازنًا لقصر المعنى" (¬2). ومعنى هذا إنّ (من) أصلها (ما) وهو الذي أيدته الدراسات الحديثة، جاء في (التطور النحوي) "إن (من) و (ما) أصلهما واحد يعني (ما) وألحقت بها النون، وهي من العناصر الأشارية أيضًا وأن لم توجد في العربية بين أسماء الإشارة، فتدل (ما) على الأشخاص إذا وقعت مع هذا الحرف اللاحق وعلى الأشياء إذا وقعت بدونه (¬3) ". و(ما) مثل (من) تقع على المفرد والمثنى والجمع نحو (أعجبني ما صنعته وما صنعتهما وما صنعتهن). ثم أن (ما) مع أنها اسم موصول يشترك في المفرد، والمثنى، والجمع، المذكر والمؤنث قد تشترك في أكثر من معنى في التعبير الواحد. فهي قد تحتمل الموصولية الإسمية والحرفية نحو قوله تعالى: {فننبئهم بما عملوا} [لقمان: 23]، فهذا يحتمل أن المعنى ننبئهم بعملهم، وبالذي عملوه. ¬

_ (¬1) سيبويه 2/ 309 (¬2) بدائع الفوائد 1/ 131 (¬3) التطور النحوي 55 - 56

وقد تحتمل الموصولية والاستفهامية نحو قوله تعالى: {قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حقٍ وإنك لتعلم ما نريد} [هود: 79]، فـ (ما) هنا تحتمل الموصولية الإسمية، أي الذي نريده، والحرفية أي إرادتنا، والاستفهامية. جاء في (البرهان): "أن وقعت بين فعلين سابقهما علم أو دراية أو نظر جاز فيها الخبر والاستفهام كقوله تعالى: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة: 33]، {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} [النحل: 19]، [وإنك لتعلم ما نريد]، [هود: 79]، {هل علمتم ما فعلتم} [يوسف: 89]، {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9]، {ولتنظر نفس ما قدمت} [الحشر: 18] " (¬1). وقد تحتمل الموصولة والنافية، نحو قولك (ما عندي ما تريده) فـ (ما) في الموضعين تحتمل النفي والموصولة، ونحوه قوله تعالى: {إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء} [العنكبوت: 42]، فـ (ما) استفهامية وتحتمل أن تكون نافية أيضًا (¬2). وقد تحتمل الموصولة والشرطية وذلك نحو قوله تعالى: {وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا} [آل عمران: 30] وقولك (ما أعطيتني أعطيتك). وقد تحتمل النكرة والمعرفة، فالمعرفة هي الموصولة والنكرة أن تكون بمعنى شيء نحو (أعطيته ما سُرّ به) أي شيئًا سُرّ به، أو الذي سرّ به وكقوله تعالى: {هذا ما لدي عتيد} [ق: 23]، فهذا يحتمل المعرفة والنكرة (¬3). وكذا (مَنْ) قد تحتمل أكثر من معنى، غير أنها أقل إبهامًا من (ما) فقد تحتمل الموصولة والإستفهامية في نحو قوله تعالى: {فسوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه} [هود: 39]. ¬

_ (¬1) البرهان 4/ 401 (¬2) دراسات لأسلوب القرآن الكريم 3/ 135 (¬3) البرهان 4/ 398

وتحتمل الشرطية والموصولة، في نحو قوله تعالى: {ومن دخله كان أمنا} [آل عمران: 97]. وتحتمل الموصولة والنكرة، في نحو قوله تعالى: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} [آل عمران: 152]. ومعنى (من) النكرة (أحد) كقولك (هل منكم من يساعدني؟ ) أي هل منكم أحد يساعدني؟ جاء في (دراسات لأسلوب القرآن الكريم): "تحتمل (من) أن تكون نكرة موصوفة واسم موصول في قوله تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا أتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق} [البقرة: 200] " (¬1). جاء في الكتاب: " (هذا باب ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفة) إذا بني علي ما قبله وبمنزلة في الاحتياج إلى الحشو ويكون نكرة بمنزلة رجل وذلك قولك (هذا من اعرف منطلقا) و (هذا من لا أعرف منطلقا) أي هذا الذي قد علمت أني لا أعرفه منطلقا، وهذا ما عندي مهينًا، وأعرف ولا أعرف وعندي حشو لهما يتمان به فيصيران اسمًا، كما كان (الذي) لا يتم إلا بحشوه. وقال الخليل: إن شئت جعلت (مَنْ) بمنزلة إنسان وجعلت (ما) بمنزلة شيء نكرتين ويصير (منطلق) صفة لمن و (مهين) صفة لـ (ما) .. ويقوي لي أيضأ أن (من) نكرة قول عمرو بن قميئة: يارُب من يبغض أذوادنا ... رحنا على بغضائه واغتدين ورب لا يكون ما بعدها إلا نكرة" (¬2). ¬

_ (¬1) دراسات لأسلوب القرآن الكريم 3/ 153 (¬2) سيبويه 1/ 269 - 370

الحمل على اللفظ والمعنى

الحمل على اللفظ والمعنى: مَنْ وما في اللفظ مفردان مذكران وقد عرفنا أنهما صالحان للمفرد، والمثنى، والجمع المذكر والمؤنث، فتقول: جاء من فاز، ومن فازت، ومن فازوا، ومن فزن، واشتريت ما باعه خالد، وما باعها، وما باعهن. ويجوز مراعاة لفظهما أعني الأفراد والتذكير كما يجوز مراعاة المعنى قال تعالى: {ومن الناس من يقول أمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8]، فقد أعاد الضمير على لفظ (من)، وهو الأفراد والتذكير فقال (من يقول) ثم أعاده فيما بعد على معناه، وهو الجمع فقال (وما هم بمؤمنين) فالمقصود بـ (مَنْ) في الآية الجمع، لكن حمل الكلام على لفظة في الأول ثم حمله على معناه فيما بعد. ونحوه قوله تعالى: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريمًا} [الأحزاب: 31]، فقد أعاد الضمير أولاً على لفظ (من)، وهو الأفراد، والتذكير، فقال (ومن يقنت) ثم أعاده على معناه وهو الإفراد، والتأنيث فيما بعد فقال (وتعمل صالحا نؤتها أجرها). غير أنه يجب مراعاة المعنى، إذا حصل لبس بمراعاة اللفظ فلا تقول (أعط من سألك) إذا كان السائل أنثى بل تقول (أعط من سألتك) لئلا يلتبس المذكر بالمؤنث، وتقول: (لقيت من أحبها) إذا كان المحبوب أنثى ولا تقول (من أحبه) إلا إذا كان هناك قرينة فإنه يجوز عند ذاك مراعاة اللفظ. وكذلك يجب مراعاة المعنى إذا حصل قبح بمراعاة اللفظ، وذلك كأن تقول (من هي كريمة سعاد) فإنه يقبح أن يقال (من هي كريم سعاد) لأنه يؤدي إلى الأخبار عن المؤنث بالمذكر وهذا لا يجوز لأن الخبر المشتق يطابق المبتدأ. وفيما عدا ذلك يوز مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، وقيل أن مراعاة اللفظ أحسن وأولى عند العرب. وإذا اجتمعت المراعاتان، فالأولى تقديم مراعاة اللفظ، ثم مراعاة المعنى كما هو شأن أكثر، ما ورد في القرآن الكريم، قال تعالى: {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} [الأنعام: 25]، فقد بدأ بالحمل على اللفظ

ثم حمل على المعنى" (¬1). علما بأنه ورد في القرآن الكريم مراعاة المعنى ابتداء أيضا وذلك نحو قوله {ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين} [الأنبياء: 82]، وقوله: {ومنهم من يستمعون إليك} [يونس: 42] (¬2). والخلاصة أنه يجوز مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، إلا إذا اقتضي الموطن مراعاة المعنى للبس أو قبح. غير أنه لا بد أن يكون في الكلام البليغ مرجح لمراعاة اللفظ أو مراعاة المعنى وأن كان الأصل الجواز. فقد راعى القرآن الكريم اللفظ مرة وراعى المعنى مرة قال تعالى: {منهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون} [يونس: 42 - 43]، فقال مرة (يستمعون) ومرة قال: (ينظر). وقال: {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي أذانهم وقرا} [الأنعام: 25]، فقال ههنا (يستمع إليك) وقال ثم (يستمعون إليك) فما السبب؟ وقال: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدًا فيها وله عذاب مهين} [النساء: 13 - 14]، فقال مرة (خالدًا فيها) ومرة قال (خالدين فيها) فما سبب ذلك؟ فلا بد في الكلام البليغ من سبب يدعو إلى ترجيح أحد التعبيرين على الآخر، وقد ذكروا في التفريق بين هذه الاستعمالات، وأمثالها أوجهًا، فمما ذكروه في التفريق بين الاستماعين المذكورين آنفا، إن قوله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنه} [الأنعام: 25]، بالأفراد إن الآية نزلت في بضعة رجال من قريش، وهم أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وعتبة وشيبة، وأمية، وأبي بن خلف، بخلاف آية يونس ¬

_ (¬1) انظر الرضى على الكافية 2/ 62، الهمع 1/ 87، معترك الأقران 3/ 582 (¬2) انظر دراسات لأسلوب القرآن الكريم 3/ 289

فإن المراد بهم جميع الكفار ممن يستمعون إليه، فوحد الاستماع في الأنعام لقلة المستمعين، وجمعه في يونس لكثرتهم ففرق بين الجمعين، فجعل الأفراد للقلة والجمع للكثرة ليوافق اللفظ المعنى (¬1). ونحوه قوله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا} [محمد: 16]، فجاء به بلفظ المفرد لأنهم بحضرته، بدليل قوله (حتى إذا خرجوا من عندك) أي هم قلة بخلاف آية يونس، فانظر أنه لما كان المستمعون في آية الأنعام وآية محمد قليلين، أفرد اللفظ ولما كانوا كثيرين في آية يونس حمل على المعنى فجمع. وأما أفراد النظر في قوله تعالى: (ومنهم من ينظر إليك) فهو للسبب نفسه، فإن المستمعين لما كانوا أكثر من الناظرين، لأنه يراد بالمستمعين جميع الكفار، كما ذكرنا جميع المستمعين، وأفرد الناظرين جاء في (روح المعاني): "ومنهم من يستمعون إليك: وجمع الضمير الراجع إليه رعاية لجانب المعنى، كما أفرد فيما بعد رعاية لجانب اللفظ ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناء على عدم توقف الاستماع على ما يتوقف عليه النظر من الشروط العادية أو العقلية" (¬2). وأما قوله تعالى: {يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} [النساء: 13] وقوله: {يدخله نارًا خالدا فيها} [النساء: 14]، فقالوا فيهما إنّ الحكمة في جمع الوصف أولا للأشعار بالاجتماع المستلزم لزيادة الأنس والسعادة عند أهل الجنة، فإن الوحدة لا تطاق، وأفرده لزيادة التعذيب عند أهل النار، فإنه تعذيب بالنار والوحدة جاء في (حاشية يس على التصريح) في هاتين الآيتين: "ولعل الحكمة في جمع الوصف أولاً بذلك، الاعتبار وإفراده ثانيا باعتبار اللفظ ما في صيغة الجمع من الأشعار بالاجتماع المستلزم للتأنس زيادة في النعيم، وما في الأفراد من الأشعار بالوحدة المستلزم للوحدة زيادة في التعذيب كما ذكره المولى أبو السعود". ¬

_ (¬1) انظر معترك الأقران 3/ 323 (¬2) روح المعاني 11/ 125

من وما والذي

وقيل: أنه "لما ذكر في الأول جنات متعددة لا جنة واحدة وقال (¬1) يدخله والضمير المنصوب في يدخله وإن كان مجموعًا في المعنى، فهو في اللفظ مفرد، من حيث هو مفرد والمفرد من حيث هو مفرد، لا يصح أن يكون في جنات متعددة معًا، فجاء خالدين لرفع هذا الإيهام اللفظي هو اعتبار لفظي ومناسبة لفظية وإن كان المعنى صحيحًا. أما الآية الثانية فذكر فيها نارًا مفردة فناسبها الأفراد في خالدًا" (¬2). وعلى كل فلابد من سب يدعو إلى ذلك. من وما والذي: إن كلا من (ما) و (من) و (الذي) اسم موصول، غير أنها لا تتطابق في المعنى والاستعمال، فقد عرفنا أن (من) غير (ما) وأنهما غير (الذي) وقد تستعمل (الذي) في تعبير لا تستعمل فيه من أو ما والعكس صحيح. 1 - فقد عرفنا إن (الذي) وضع وصلة لوصف المعارف بالجملة، فهو في الأصل صفة بخلاف من وما بخلاف من وما فإنهما لا يقعان صفة (¬3) لأن المراد بهما الذوات. وليس معنى قولنا السابق إن (ما) تقع على صفات من يعقل، أنها تقع نعتًا له، بل المعنى أنها تقع على ذات متصفة بوصف ما من صفات العقلاء، ولذا تقع (الذي) في تعبيرات لا يصح وقوع من وما فيها فلا يصح في قوله تعالى مثلا: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 40]، أن يقال: اذكروا نعمتي ما أنعمت عليكم ولا في قوله: {وفعلت فعلتك التي فعلت} [الشعراء: 19]، أن يقال: وفعلت فعلتك ما فعلت. 2 - إن كلا من (مَنْ) و (ما) اسم موصول مشترك في المفرد، والمثنى، والجمع، المذكر والمؤنث، بخلاف الذي فإنه مختص بالمفرد والمذكر. ¬

_ (¬1) كذا ولعل الأصل (قال) بحذف الواو (¬2) حاشية يس على التصريح 1/ 140 (¬3) حاشية الصبان 1/ 107

3 - إن (الذي) تستعمل لذوات غير العقلاء ولصفات العقلاء كما مر، فإذا أردنا لأمر بلاغي أن ننزل غير العاقل منزلة العاقل فلابد أن نضرب صفحًا عن استعمال (الذي) إلى (مَنْ) لأنّ (الذي) إذا استعملت في العاقل وغيره، كان استعمالها حقيقيًا، وكذا إذا أردنا أن ننزل العاقل منزلة غير العاقل استعملنا (ما) لا (الذي). تقول (مَنْ الذي كنت تكلمه؟ ) فيقول: (مَنْ كنت أكلمه حصاني). وتقول: (مَنْ الذي أنجاك؟ ) فيقول: (مَنْ أنجاني فرسي) فقد نزل حصانه منزلة العاقل باستعمال (مَنْ). وتقول لصاحبك (أتحدث إلى ما ترى) منزلاً العاقل منزلة غير العاقل، لأنه لا يفهم عنك شيئًا. ولا يتأتي هذا القصد باستعمال الذي. 4 - إنَ كلا من (ما) و (مَنْ) قد يحتمل أكثر مِنْ معني فقد تحتمل (مَنْ) الشرط والموصولية والاستفهام. وتحتمل (ما) الشرط والموصولية والاستفهام والنفي في كثير من التعبيرات بخلاف (الذي) التي هي نص في الموصولية. ومن هذا يتضح أن التعبير بـ (مَنْ) أو (ما) قد يكون محتملا عدة معان في آن واحدٍ بخلاف الذي. 5 - أن (الذي) اخص من (ما) و (مَنْ) لطبيعة اشتراكهما في أكثر من معنى، ومعنى (أخص) أنها أكثر تحديدًا ووضوحًا من ذينك، فهي على هذا أعرف منهما، لتحديد معناها ووضوحه: جاء في (حاشية الصبان) إن الموصول "أعرفه ما كان مختصًا ثم ما كان مشتركًا. ويظهر إن أعرف كل منهما ما كان معهودًا معينًا، ثم ما للاستغراق، ثم ما للجنس لمجيء الموصول للثلاثة كأل والإضافة" (1). وكذا استعملها القرآن الكريم.

قال تعالى: {ويقولون طاعةٌ فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون} [النساء: 81]، فقال (غير الذي تقول) ثم قال (والله يكتب ما يبتون) فجاء في أحد الموضعين بـ (الذي) والآخر بـ (ما) وذلك أن أحد الموضعين أعرف من الآخر فالذي يقوله أعرف مما يبتون لأن الأول معلوم عند المخاطب متفق عليه بخلاف ما يبيتون فإنه مجهول عنده إذ هو لا يدري ماذا يبتون فجاء للأخص المعلوم بالذي والآخر بما. وقال: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228]. وقال: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا} [البقرة: 229]. فجاء في الآية الأولى بالذي والثانية بـ (ما) لأن الأولى في حقوق النساء وواجباتهن، وهي معلومة والثانية في المهر وهو غير محدد، ولا معلوم، فجاء للمحدد المعلوم بـ (الذي) ولما هو عام بـ (ما). وقال: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97] وقال: {والذين أمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} [العنكبوت: 7]. فقد قال في آية النحل (بأحسن ما كانوا يعملون) وقال في آية العنكبوت (أحسن الذي كانوا يعملون) وكل منهما هو المناسب لموطنه. وذلك أن قوله (من عمل) عام لأن (مَنْ) شرطية وهي نكرة، فتشمل كل عامل وفسره بقوله: (من ذكر أو أنثى) وهو نكرة، ثم نكر العمل فقال (من عمل صالحا) فجعله عامًا أيضا ولذا جعل الجزاء عامًا فجاء بـ (ما) وقال (بأحسن ما كانوا يعملون). وأما آية العنكبوت فقد جاءت بـ (الذي) لا بـ (من) وهو اسم موصول معرفة، ثم عرف العمل الصالح فقال (وعملوا الصالحات) ولذا جعل الجزاء مخصصًا، فجاء بالذي

أي

فقال: (أحسن الذي كانوا يعملون) فجاء للعام بـ (ما) وللخاص بـ (الذي). ونظير هذا قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المقتون لهم ما يشاءون عند ربهم، ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} [الزمر: 33 - 35]. أي: وهي مبهمة ويتعين معناها بالمضاف إليه، فقد تستعمل للعاقل وغيره، فمن استعمالها للعاقل قوله تعالى: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} [مريم: 69]. ومن استعمالها لغير العاقل قولك (كل أي الطعام يعجبك). و(أيّ) تكون استفهامية، وشرطية، وصفة، وموصولة، ويتميز كل منها عن الآخر بالاستعمال فإذا قلت مثلا (علمت أيهم هو قائم) بنصب (أي) كانت موصولة لا غير، وإذا قلت (علمت أيهم هو قائم) بالرفع كانت (أي) استفهامًا، لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله. وتقول: (أيهم سألت أجابك) فإن قلتها بالرفع كانت موصولة وكان مفعول (سألت) محذوفا والتقدير (أيهم سألته أجابك) وحذف مفعول الصلة كثير، وفعل الصلة لا ينصب الموصول، وأن قلتها بالنصب كانت شرطًا. وقد تحتمل (أيّ) أكثر من معنى، فقد تحتمل الموصولة، والشرطية، في نحو قولنا (أيّ الرجال سألته أجابك). وتحتمل الموصولة والاستفهامية في نحو قولنا: (علمت أيهم قائم) ونحو قوله تعالى: {ولتعلمن أينا أشد عذابًا وأبقى} [طه: 71]. ثم إن أيا ملازمة للإضافة في كل أحوالها التي ذكرناها، فإن كانت موصولة أضيفت إلى المعرفة، وإن كانت صفة أضيفت إلى النكرة نحو (مررت برجل أي رجل) وإن كانت شرطية أو استفهامية صحت إضافتها إلى النكرة والمعرفة، وقد ينوي المضاف إليه نحو (مررت بأي هو أفضل).

ذا

وهي معربة بخلاف سائر الأسماء الموصولة الأخرى وتبنى في حالة واحدة، وذلك إذا أضيفت وحذف صدر صلتها نحو (احترام أيهم أكبر) قال الشاعر: إذا ما لقيت بني مالك ... فسلم على أيهم أفضل وبعض العرب يعربها مطلقا (¬1) فبناؤها في هذه الحالة لغة وأعرابها مطلقا لغة: ذا: وتكون اسمًا موصولا بعدما ومن الاستفهاميتين نحو قولك: ماذا فعلت ومن ذا قابلت أمحمد أم سعيد؟ بمعنى ما الذي فعلت؟ ومن الذي قابلت؟ (¬2) وسيرد لها مزيد من التفصيل في باب الاستفهام إن شاء الله تعالى: ذو: وترد اسما موصولا في لغة طيء يقولون: (هذا ذو قال ذاك) يريدون: هذا الذي قال ذاك (¬3). وبقية العرب لا يستعملونها لهذا المعنى. ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 397، الرضي على الكافية 3/ 64، ابن عقيل 1/ 79 (¬2) انظر سيبويه 1/ 404 (¬3) ابن يعيش 3/ 147

حذف الاسم الموصول

حذف الاسم الموصول يجوز حذف الاسم الموصول إذا علم وذلك إذا عطف على مثله وذلك نحو قوله تعالى: {أمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} [العنكبوت: 46]، أي والذي أنزل إليكم لأن المنزل إلينا ليس المنزل إليهم (¬1) وكقوله تعالى: {بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون} [البقرة: 116]، وقوله: {ولله يسجد من في السماوات اولأرض} [الرعد: 15]، فههنا اسم موصول مقدر لأن الذين في السماوات غير الذين في الأرض. وقد يتكرر الموصول، وذلك نحو قوله تعالى: {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض} [النحل: 49]، وقوله: {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض} [الجمعة: 1]. وليس كل عطف بلا ذكر للاسم الموصول معناه إن الموصول محذوف، وإنما تقدير ذلك يعود إلى المعنى، فليس في قوله تعالى: {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} [البقرة: 2 - 3]، اسم موصول محذوف لأن الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة هم صنف واحد وليسوا صنفين. ونحوه قوله تعالى: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30]، فليس في هذه الاية حذف، لأن المقصود بمن يفسد في الأرض ويسفك الدماء واحد، وهو الانسان. فالمعنى هو الذي يحدد ما إذا كان ثم حذف أولاً، فإذا امتنعت صحة المعنى بدون تقدير محذوف كان لابد من تقدير محذوف. ومن هذا يتبين إنه يجوز ذكر الاسم الموصول وحذفه، إذا قام دليل على حذفه، وقد ذكر القرآن الكريم، الاسم الموصول في مواطن، وحذفه في مواطن أخرى، فقد قال مرة: {له ما في السماوات وما في الأرض} [طه: 6]، وقال مرة أخرى: {له ما في السماوات ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 88 - 89

والأرض} [البقرة: 116]، وقال مرة: {والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض} [الحجرات: 16]، وقال مرة أخرى: {يعلم ما في السماوات والأرض} [العنكبوت: 52]، وقال مرة: {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض} [الحشر: 1]، وقال مرة أخرى: {سبح لله ما في السماوات والأرض} [الحديد: 1]ـ وهذا يقتضينا المساءلة عن سبب ذكر ما ذكر، وحذف ما حذف، إذ من المعلوم أنه لابد في الكلام البليغ من سبب للذكر والحذف. وذكر بعضهم أنه تأمل ما في التنزيل العزيز من قوله تعالى: {من في السماوات والأرض} و {من في السماوات ومن في الأرض} وقوله: {ما في السماوات والأرض} وقوله: {ما في السماوات وما في الأرض} فوجد "أنه حيث قصد التنصيص على الأفراد ذكر الموصول، والظرف ألا ترى إلى المقصود في سورة يونس (¬1) من نفي الشركاء الذين اتخذوهم في الأرض وإلى المقصود في آية الكرسي (¬2) من إحاطة الملك؟ وحيث قصد أمر آخر لم يذكر الموصول إلا مرة واحدة أشارة إلى قصد الجنس، وللإهتمام بما هو المقصود في تلك الآية، ألا ترى إلى سورة الرحمن (¬3)، المقصود منها علو قدرة الله تعالى وعلمه وشأنه وكونه مسؤولا ولم يقصد أفراد السائلين" (¬4). وهذا صحيح فإه إذا قصد التنصيص على الأفراد ذكر الموصول وذلك نحو قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوت ومن في الأرض إلا من شاء الله} [الزمر: 68]، فهنا قصد التنصيص على كل فرد من أفراد السماوات والأرض على وجه التخصيص فكرر (من) لذلك. ونحوه قوله تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله} [النمل: 87]. ¬

_ (¬1) يعني قوله تعالى: {ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} [يونس: 66] (¬2) يعني قوله تعالى: {له ما في السماوات وما في الأرض} [البقرة: 255] (¬3) يعني قوله تعالى: {يسئله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29] (¬4) البرهان 4/ 73 - 74

غير أن هذا واحد من الأسباب التي تدعو إلى تكرار الاسم الموصول، وليس هو السبب الوحيد، وهناك أسباب أخرى للتكرار منها: أنه إذا كان الموطن دالاً على التفصيل والإحاطة كرر الاسم الموصول بخلاف ما إذا كان الكلام مجملاً غير مفصل، وذلك نحو قوله تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعًا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكن من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [المجادلة: 6 - 7]. فكرر (ما) قائلا (يعلم ما في السموات وما في الأرض) وذلك لأن الموطن موطن إحاطة وتفصيل بخلاف قوله تعالى: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدًا يعلم ما في السماوات والأرض والذين أمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} [العنكبوت: 52]، فلم يكرر (ما) وأنت تحس الفرق واضحًا بين المواطنين، والسياقين، فإن في آية المجادلة من ذكر لسعة علم الله وشموله وإحاطته بالجزئيات والتفصيلات ما ليس في آية العنكبوت، فقد ذكر في آية المجادلة أنه لا يند عنه شيء ولا يغيب عنه مجلس قل أو كثر، ثم ينبيء الله أهله بكل ما قالوا وما تناجوا به أحصاه الله ونسوه، وهو بكل شيء عليم، فأنت ترى في آية المجادلة من التفصيل ما ليس في آية العنكبوت فلما فصل في آية المجادلة أعاد ذكر (ما)، ولما أجمل في العنكبوت أجمل في ذكر الموصول، فلم يعد ذكره. ومن ذلك قوله تعالى: {له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى} [طه: 6]، فكرر (ما) لأن الموطن موطن شمول، وإحاطة، وتفصيل، فقد ذكر إنّ له (ما في السماوات) و (ما في الأرض) و (ما بينهما) و (ما تحت الثرى) بخلاف قوله تعالى: {وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبًا أفغير الله تتقون} [النحل: 52]، فأنت ترى الفرق واضحًا بين السياقين في التفصيل، والإحاطة فكرر في موطن التفصيل وأجمل في موطن الإجمال.

ونحوه قوله تعالى: {الحد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير يعلم ما يلج في الأرض وما يخر منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور} [سبأ: 1 - 2]، فالتفصيل في هاتين الآيتين واضح ولذا كرر الاسم الموصول في كل موطن بخلاف قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون} [البقرة: 116]. ونحو ذلك قوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والأصال} [الرعد: 15]، فلم يكرر الموصول في حين قال: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} [الحج: 18]، فكرر (من) ههنا بخلاف الآية الأولى، ومقام التفصيل واضح في آية الحج فقد ذكر الشمس، والقمر والنجوم، والجبال، والشجر والدواب، وكثيرا من الناس، بخلاف آية الرعد، ففي مقام التفصيل كرر وفصل وفي مقام الإجمال أجمل وأوجز. وقد يكون أعاده ذكر الموصول لأمر آخر، وهو ذكر أمر يتعلق بصلته فمن الملاحظ مثلا في القرآن الكريم إنه إذا كرر الاسم الموصول فقال: {ما في السماوات وما في الأرض} فإنه يريد أن يخص أهل الأرض بذكر أمر من الأمور وإذا لم يكرر (ما) فإنه لا يريد أن يذكرهم بأمر خاص بهم. وهذا في آيات التسبيح خاصة نحو قوله تعالى: {سبح لله ما في السماوات والأرض} [الحديد: 1]، و {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض} [الحشر: 1]، فحيث كرر (ما) في آيات التسبيح فإنه ذكر أهل الأرض بعدها وحيث أجمل لم يذكرهم. وإليك أمثلة على ذلك: قال تعالى في سورة الحديد: {سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد: 1 - 4].

وقال في سورة الحشر: {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار} [الحشر: 1 - 2] فأنت ترى أنه في آيات الحديد لم يعقب التسبيح بالكلام على أهل الأرض بخلاف آية الحشر فقد قال بعدها {هو الذي أخرج الذين كفروا .. } ويستمر في ذكر أحوالهم. وبذلك على ذلك أنه في آخر سورة الحشر لم يكرر (ما) حين لم يذكر شيئا عن أهل الأرض بعد الآية فقد قال: {هو الله الخالق الباريء المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الحشر: 24]، فكرر في أول السورة وأجمل في آخرها لما ذكرناه والله أعلم ونحوه ما جاء في سورة الصف قال تعالى: {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا االله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب} [الحشر: 1 - 4]، ويمضى في الكلام على أهل الأرض، فكرر (ما) لأنه خص أهل الأرض بعدها بالذكر. ونحوه قوله تعالى: {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لقي ضلال مبين وآخرين منهم لما يحلقوا بهم وهو العزيز الحكيم} [الجمعة: 1 - 3]، ويمضى في الكلام على أهل الأرض ونحوه قوله تعالى: {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد هو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير} [التغابن: 1 - 2]، ويمضى في الكلام على أهل الأرض.

حذف الصلة

فكل موطن كرر فيه (ما) أعقبه بالكلام على أهل الأرض، في حين قال في سورة النور: {ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار} [النور: 41 - 44]. فلم يكرر (من) إذ لم يعقب التسبيح بالكلام على أهل الأرض. وهذه نماذج لأسباب الذكر والحذف، وليست حصرًا لأن مواطن الكلام لا تنحصر وإنما هي أمثلة يترقى بها إلى ما بعدها، فالمتكلم البليغ إذا فصل في موطن وأجمل في موطن فلا بد لذلك من سبب يقتضيه المقام. حذف الصلة يجوز قليلا حذف الصلة إذا علمت أو إذا أريد بها الإبهام فمن الأول قوله: نحن الالى فأجمع جمو ... عك ثم وجههم إلينا أي نحن الذين عرفوا بالشجاعة وعدم مبالاتهم بأعدائهم (¬1). وقوله: فإن أدع اللواتي من أناس ... أضاعوهن لا أدع الذي (¬2) ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 142، الهمع 1/ 89 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 67 - 68، وفي خزانة الأدب: لا أدع الدنيا 2/ 560

أي أن أدع هجو هؤلاء النساء الضعاف اللاتي أضاعهن الرجال، لا أدع هجو الرجال الذين أضاعوهن وذمهم على فعلهم (¬1). ومن الثاني قولهم (بعد اللتيا والتي) أي بعد الداهية التي وصلت إلى حد من العظم لا يمكن شرحه وتقاصرت العبارة عن كنهه (¬2) واللتيا هي الداهية العظيمة. فيجوز حذف الصلة إذا أردت إبهامها على السامع، ليذهب الذهن بها كل مذهب أو لأنك تدعي أن الصلة لعظمتها وفخامتها لا تدخل في حيز البيان ولا يحيط بها اللفظ. ¬

_ (¬1) خزانة الأدب ولب لسان العرب للبغدادي 2/ 560 (¬2) ابن يعيش 3/ 152، الرضي على الكافية 2/ 68، التصريح 1/ 142 - 143

المبتدأ والخبر

المبتدأ والخبر يحد النحاة المبتدأ بأنه الاسم العارى عن العوامل اللفظية غير الزائدة مخبرًا عنه أو وصفا رافعًا لمستغني به .. فالاسم يشمل الصريح والمؤول نحو: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 184]، والعارى عن العوامل اللفظية مخر لنحو الفاعل واسم كان، وغير الزائدة لإدخال نحو (بحسبك درهم) و {هل من خالق غير الله} [فاطر: 3] ومخبرا عنه أو وصفا مخرج لأسماء الأفعال والأسماء قبل التركيب. ورافعًا لمستغني به يشمل الفاعل نحو: أقائم الزيدان؟ ونائبه نحو أمضروب العبدان .. أي المبتدأ نوعان: مبتدأ له خبر، ومبتدأ له مرفوع أغني عن الخبر". (¬1) ومن هذا الحد نرى أن المبتدأ على قسمين: 1 - مبتدأ له خبر نحو: سعيد قائم. 2 - مبتدأ له مرفوع سد مسد الخبر مثل أقائم الزيدان؟ وأورد قسم من النحاة على هذا الحد أنه غير جامع، إذ لا يشمل نحو: (أقل رجل يقول ذلك) ولا (غير قائم الزيدان) فأن (أقل) مبتدأ ليس مخبرًا عنه، ولا وصفا رافعًا لأن جملة (يقول ذلك) صفة، و (غير) ليست وصفا ولا مبتدأ مخبرًا عنه (¬2). وعلى أي حال فهذا الضرب الأخير قليل واستعمالاته محدودة. ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 188 - 189، وانظر التصريح 1/ 154 - 155 (¬2) حاشية الصبان 1/ 189

التقديم والتأخير

التقديم والتأخير تقول العرب: يجتهد زيد، وزيد يجتهد، وزيد مجتهد، ومجتهد زيد، وزيد في الدار، وفي الدار زيد، فما الغرض من ذلك ومتى نقول هذا التعبير أو ذاك؟ لقد ذكرنا في بحث تأليف الجملة العربية إن الأصل في الجملة التي مسندها فعل أن يتقدم الفعل على المسند إليه نحو (يقوم زيد) فأن تقدم المسند إليه على الفعل نظرنا في سبب هذا التقديم، كما إن الأصل في الجملة التي مسندها اسم أن يتقدم المسند إليه على الاسم أو بتعبير آخر أن يتقدم المبتدأ على الخبر نحو: زيد قائم، فأن تقدم الخبر على المبتدأ نظرنا في سبب ذلك، وهذا الأخير هو ما يعنينا الآن في هذا البحث، فما أسباب تقديم الخبر على المبتدأ: 1 - تقديم الخبر المفرد على المبتدأ: الأصل كما ذكرنا قبل قليل أن يتقدم المبتدأ على الخبر (¬1) نحو (زيد قائم) و (أخوك نائم) و (محمد مسافر) فمتى نقول: قائم زيد ونائم أخوك ومسافر محمدٌ؟ إن تقدم الخبر على المبتدأ في نحو هذا إنما يكون لغرض من أغراض التقديم، وأشهر هذه الأعراض هي: 1 - التخصيص: إذا كان المخاطب خالي الذهن مما ستخبره، قدمت له المبتدأ فتقول: (زيد) و (محمد منطلق) فهذا إخبار أولى لا يعلمه السامع. ولكن إذا كان السامع يظن أن زيدًا قاعد لا قائم، انبغي أن تقدم له الخبر لإزالة الوهم من ذهنه فتقول له: قائم زيد. فجملة (زيد قائم) أخبار أولى ولكن جملة (قائم زيد) تصحيح للوهم الذي في ذهن المخاطب، إذ كان يظن أن زيدا قاعد فتقول له: (قائم زيد) أي لا قاعد. ¬

_ (¬1) الرضى على الكافية 1/ 93

جاء في (المثل السائر) في قولنا (زيد قائم) و (قائم زيد): "فقولك (قائم زيد) قد أثبت له القيام دون غيره وقولك (زيد قائم) أنت بالخيار في إثبات القيام له ونفيه عنه بأن تقول: ضارب أو جالس أو غير ذلك" (¬1). وجاء في (الإيضاح): "وأما تقديمه - يعني المسند - فأما لتخصيصه بالمسند إليه كقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين}، [الكافرون: 6]، وقولك (قائم هو) لمن يقول: زيد أما قائم أو قاعد فيردده بين القيام والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما، ومنه قولهم (تميمي أنا). وعليه قوله تعالى: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} [الصافات: 47]، أي بخلاف خمور الدنيا فأنها تغتال العقول ولهذا لم يقدم الظرف في قوله تعالى: {لا ريب فيه} [البقرة: 2]، لئلا يفيد ثبوت الريب في سائر كتب الله تعالى" (¬2). وجاء في (الطراز): "فقولنا زيد منطلق إخبار لمن يجهل انطلاقه، وقولنا (منطلق زيد) إخبار لمن يعرف زيدًا وينكر إنطلاقه فتقديه إهتمام بالتعريف بإنطلاقه" (¬3). وجاء فيه أيضا في تقديم خبر المبتدأ عليه في "نحو قولك: (قائم زيد)، في (زيد قائم) فأنت إذا أخرت الخبر فليس فيه إلا الأخبار بأن زيدًا قائم لا غير من غير تعرض لمعنى من المعاني البليغة بخلاف ما إذا قدمته وقلت: (قائم زيد)، فأنك تفيد بتقديمه أنه مختص بهذه الصفة من بين سائر صفاته في الأكل والضحك أو تفيد تخصيصه بالقيام دون غيره من سائر أمثاله وتفيد وجها آخر، وهو أنه يكون كلامًا مع من يعرف زيدًا وينكر قيامه فتقول: (قائم زيد)، ردًا لأنكار من ينكره" (¬4). ومن هذا الباب قوله تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء: 97] فقدم الخبر (شاخصة) على المبتدأ (أبصار) لقصد التخصيص جاء في (المثل السائر): "ومن غامض هذا الباب ¬

_ (¬1) المثل السائر 2/ 38 (¬2) الإيضاح 1/ 101 (¬3) الطراز 2/ 31 (¬4) الطراز 2/ 68

قوله تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا}، فإنه إنما قال ذلك ولم يقل: فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لأمرين: أحدهما: تخصيص الأبصار بالشخوص دون غيرها. أما الأول فلو قال: فإذا الأبصار الذين كفروا شاخصة لجاز أن يضع موضع شاخصة غيره فيقول: حائرة أو مطموسة أو غير ذلك فلما قدم الضمير أختص الشخوص بهم دون غيرهم. دل عليه بتقديم الضمير أولا ثم بصاحبه ثانيا" (¬1). وجاء في (الطراز): "ومن رائق ذلك وبديعه قوله تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} فإنما قدمه ولم يقل (أبصار الذين كفروا شاخصة) لأمرين: أما أولاً: فلأنه إنما قدم الضمير في قوله (هي) ليدل به على أنهم مختصون بالشخوص دون غيرهم من سائر أهل المحشر. أما ثانيا: فلأنه إذا قدم الخبر، أفادر إن الأبصار مختصة بالشخوص من سائر صفاتها من كونها حائرة، أو مطموسة أو مزورة إلى غير ذلك من صفات العذاب" (¬2). ومن هذا الباب قوله تعالى: {وظنوا أنهم مانعتهم حضونهم من الله} [الحشر: 2]، فقد قام الخبر (مانعتهم) على المبتدأ (حصونهم) لنحو هذا الغرض. جاء في (المثل السائر): في هذه الآية: "فأنه إنما قال ذلك ولم يقل: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم لأن في تقديم الخبر الذي هو (مانعتهم) على المبتدأ الذي هو (حصونهم) دليلا على فرط اعتقادهم في حصانتها وزيادة وثوقهم بمنعها أياهم. وفي تصويب ضميرهم اسما لأن إسناد الجملة إليه دليل على تقديرهم في أنفسهم أنهم في عزة وأمتناع لا يبالي معها بقصد قاصد ولا تعرض متعرض. وليس شيء من ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله " (¬3). ¬

_ (¬1) المثل السائر 2/ 43، وانظر البرهان 3/ 376 (¬2) الطراز 2/ 96 (¬3) المثل السائر 2/ 41، وانظر تفسير الكشاف 3/ 213

ب - تقديم الخبر الظرف والجار والمجرور

2 - الافتخار كقولهم: (تميمي أنا) فثمة فرق بين قولهم (أنا تميمي) و (تميمي أنا)، فالأولى أخبار عن نفسه، وأما الثانية فللفخر بنفسه، وقبيلته، جاء في (شرح الرضى على الكافية): "وإذا كان تقديم الخبر يفهم منه بمعنى لا يفهم بتأخيره، وجب التقديم نحو قولك (تميمي أنا) إذا كان المراد التفاخر بتميم، أو غير ذلك مما يقدم له الخبر" (¬1). 3 - التفاؤل أو التشاؤم كقولك: ناجح زيد ومقتول إبراهيم. إلى غير ذلك من أغراض التقديم الكثيرة، (¬2) وملاك ذلك أن العرب إنما يقدمون اللفظة لغرض الاهتمام وتتعدد صور هذا الاهتمام. قال سيبويه: "كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أعني، وأن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم" (¬3). وعلى هذا فأنّ قولَ النحاة: يجوز تقديم الخبر على المبتدأ كقولك (تميم أنا) و (مشنوء من يشنؤك (¬4)) ليس معناه أنك تقدم متى شئت ولكنك تقديم إذا اقتضى الأمر التقديم. وينبغي أن نعلم أنّ التعبير الواحد قد تختلف أغراضه بحسب المقام، فيكون مرة للاختصاص ويكون مرة أخرى للفخر فقد يمكن أن تقول (تميمي أنا) بقصد التخصيص كما يمكن أن تطلقه في مقام آخر بقصد الفخر والذي يعيّن ذلك إنما هو المقام. ب - تقديم الخبر الظرف والجار والمجرور: وهو كثير الشبه بالموضوع السابق. تقول: في الدار زيد وزيد في الدار، فما الغرض من ذلك؟ ¬

_ (¬1) شرح الرضى على الكافية 1/ 107 (¬2) انظر الإيضاح للقزويني 1/ 101، شرح المختصر للتفتازاني 70 (¬3) سيبويه 1/ 15 (¬4) المفصل 1/ 72

نحن نعلم أن المبتدأ إذا كان نكرة ليس لها مسوغ في الابتداء وجب تقديم الخبر الظرف أو الجار والمجرور فتقول: (في الدار رجل) فتقديم الخبر هنا واجب، وليس لأمر بلاغي، ولا يسأل عن الغرض من هذا التقديم وإنما يسأل عن سبب تقديمه إذا كان المبتدأ صالحًا لأن يبتدأ به نحو: في الدار أخوك. فالتعبير الطبيعي أن تقدم المبتدأ على الخبر، فتقول (زيد في الدار) فهذا إخبار أولى والمخاطب خالي الذهن، فإذا قلت (في الدار زيد) كان المعنى إن المخاطب ينكر أن يكون زيد في الدار، أو يظن أنه في المكتب مثلا فتقول له: في الدار زيد أي لا في المكتب. فهذا من باب الاختصاص. إن أهم غرض من أغراض تقديم الظرف، هو الاختصاص، والحصر، وذلك نحو قوله تعالى: {له الملك وله الحمد} [التغابن: 1] قُدَّم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اخصاص الملك والحمد بالله عز وجل لا بغيره (¬1) ولو قال (الملك له) لكان إخبارا بأن الملك له دون نفيه عن غيره فتقديم الظرف أفاد حصره عليه وإختصاصه به دون غيره. وتقديم الظرف للاختصاص لا ينحصر في باب المبتدأ والخبر بل أن تقديمه يفيد ذلك في غير هذا الباب جاء في (الطراز) في تقديم الظرف: "هو على وجهين: أحدهما أن يكون واردًا دلالة على الاختصاص، وهذا كقوله تعالى {ألا إلى الله تصير الأمور}، [الشورى: 53]، لأن المعنى أن الله تعالى مختص بصيرورة الأمور إليه دون غيره ونحو قوله تعالى: {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25 - 26]، وقوله تعالى: {له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير} [التغابن: 1]، فهذه الظروف لا وجه لتقديمها على عاملها إلا ما ذكرناه من الاخصاص. ¬

_ (¬1) الكشاف 3/ 236، المثل السائر 2/ 43

وثانيهما أن يكون تقديمه من أجل مراعاة المشاكلة لرؤوس الآي في التسجيع، وهذا كقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22 - 23]، ليطابق قوله (باسرة) و (فاقرة) ونحو قوله: {والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق} [القيامة: 29 - 30]. أما الوجه الثاني الذي ذكره فلا أراه كذلك بلا هو من باب الاختصاص أيضًاـ، ففي الآية الأولى تخصيص النظر إلى الرب سبحانه. وفي الآية الثانية تخصيص المساق إلى الرب سبحانه لا إلى غيره. وجاء في (البرهان): "لا تختص أفادة الحصر بتقديم الضمير المبتدأ، بل هو كذلك إذا تقدم الفاعل أو المفعول، أو الجار والمجرور المتعلقات بالفعل، ومن أمثلته قوله تعالى: {قل هو الرحمن أمنا به وعليه توكلنا} [الملك: 29] (¬1)، فإن الإيمان لما لم يكن منحصرًا في الإيمان بالله بل لابد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وغيره، مما يتوقف صحة الإيمان عليه، بخلاف التوكل، فإنه لا يكون إلا على الله، وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين قدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره، لأن غيره لا يملك ضرًا ولا نفعا فيتوكل عليه" (¬2). وجاء في (الاتقان): "كاد أهل البيان يطبقون على أن تقديم المعمول يفيد الحصر سواء كان مفعولاً أو ظرفاً أو مجرورًا ولهذا قيل في: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، معناه نخصك بالعبادة والاستعانة وفي {لإلى الله تحشرون} [آل عمران: 158]، معناه إليه لا إلى غيره" (¬3). وقد يقدم الخبر الظرف للتنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت كقوله: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الكبرى أجل من الدهر (¬4) ¬

_ (¬1) الطراز 2/ 70 - 71 (¬2) البرهان 2/ 414 (¬3) الاتقان 2/ 51 (¬4) الايضاح 1/ 101، شرح المختصر 70

فلو قلت: همم له لا منتهى لكبارها، لكان الجار والمجرور صفة لا خبرًا، لأن المبتدأ نكرة ويكون الخبر "لا منتهى لكبارها" ولكن الشاعر أراد أن يجعل (له) هو الخبر فقدمه على المبتدأ ليعلم أن هذا هو الخبر لا قوله (لا منتهى لكبارها). وقد يكون تقديمه لأمر يقتضيه المقام كقولك (زيد في الدار)، جوابًا عن سؤال (أين زيد؟ ) و (في الدار زيد) جوابًا عن سؤال (من في الدار)، فهذا ليس من باب الاختصاص أو غيره مما ذكرنا، وإنما قدمت الذي يعلمه المخاطب وأخرت الذي يجهله، ففي الأولى يجهل مكان زيد فأخبرت به، وفي الثانية يعلم أن في الدار أحدًا ولكنه يجهل من فيها فأخبرت بالذي يجهله، وابتدأت بما يعلم. فإن كان الكلام منفيًا، نحو (لا ريب فيه)، و (لا فيه ريب)، كان تأخير الظرف، يفيد نفي الشيء عن المذكور فقوله تعالى {لا ريب فيه} [البقرة: 2]، يفيد نفي الريب عن القرآن. وأما تقديم الظرف فهو يفيد النفي عن المذكور، إثباته لغيره، فلو قال (لا فيه ريب) لنفي الريب عن القرآن وأثبته في غيره، فيكون تعريضًا بالكتب الأخرى، جاء في المثل السائر: "وأما الثاني وهو تأخير الظرف وتقديمه في النفي فنحو قوله تعالى: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 1 - 2] وقوله تعالى: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} [الصافات: 47]، فإنه إنما أخر الظرف في الأول، لأن القصد في إيلاء حرف النفي الريب، نفي الريب عنه، وأثباته أنه حق، وصدق لا باطل وكذب كما كان المشركون يدعونه، ولو أولاه الظرف لقصد أن كتابًا آخر فيه الريب لا فيه كما قصد في قوله تعالى: {لا فيها غول} فتأخير الظرف يقتضي النفي أصلا، من غير تفضيل، وتقديمه يقتضي تفضيل المنفي عنه، وهو خمر الجنة على غيرها من خمور الدنيا، أي ليس فيها ما في غيرها من الغول، وهذا مثل قولنا "لا عيب في الدار" وقولنا: " لا فيها عيب"، فالأول نفي للعيب عن الدار فقط والثاني تفضيل لها على غيرها أي ليس فيها ما في غيرها من العيب" (¬1). ¬

_ (¬1) المثل السائر 2/ 44، وانظر الكشاف 1/ 87 - 88، البرهان 2/ 414

وتقول " لا ضرر عليك" فتنفي الضرر عنه من دون إثباته لشخص آخر، وتقول " لا عليك ضرر" فتنفيه عنه وتثبته لغيره أي كأنك قلت: ليس عليك الضرر وإنما على غيرك. جاء في (البرهان): "وأما تقديم الظرف ففيه تفصيل فإن كان في الإثبات دل على الاختصال كقوله تعالى: {ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 26]، .. وإن كان في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفي عنه كما في قوله تعالى: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} [الصافات: 47] (¬1). والصواب ما أثبتناه، وهو أن تأخير الظرف يفيد نفي الشيء عن المذكور، وتقديمه يفيد النفي عن المذكور، وإثباته لغيره، ولا يفيد دائمًا تفضيل المنفي عنه وإلا فقولك: "لا عندك صواب" ذم لا مدح. وربما قلت ألست تقول: إنه إذا تقدم الظرف وكان الاسم نكرة لم يسأل عن سبب تقديمه نحو: "في الدار رجل" فلماذا ذكرت هنا إن تقديمه لمعنى؟ والجواب واضح، وهو إنه إذا كان ذاك في حيز الإثبات لم يكن له غرض، لأن تقديمه واجب وأما إذا كان في حيز النفي، فليس الأمر كذلك، لأن النفي من مسوغات الابتداء بالنكرة، إذ إنه لا يجوز أن يبتدأ بالنكرة بعد النفي، نحو (ام رجل في الدار) ولذلك كان تقديم الظرف لغرض من الأغراض. والتحقيق أن التقديم إنما يكون للإهتمام والعناية بالمقتدم، سواء كان لغرض الحصر أم غيره قال الإمام عبد القاهر: "واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام، قال صاحب الكتاب وهو يذكر الفاعل والمفعول: كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعني وإن كانا جميعًا يهمانهم ويعنيانهم" (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان 3/ 236 (¬2) دلائل الإعجاز 84، وانظر كتاب سيبويه 1/ 15

حـ - تقديم المبتدأ على الفعل

حـ - تقديم المبتدأ على الفعل: الأصل في الجملة التي مسندها فعل أن يتقد الفعل على المسند إليه أو بتعبير آخر إن يتقدم الفعل على الفاعل - كما ذكرنا - فإن تقدم المسند إليه على الفعل نظر في سبب ذلك. فالأصل أن يكون الكلام نحو (قدم سعيد) فإن قيل (سعيد قدم) نظر في سبب ذلك، أو بتعبير الكوفيين نظر في سبب تقديم الفاعل على الفعل. ويذكر البلاغيون أغراضا لتقديم المسند إليه على الفعل أهمها: 1 - التخصيص أو الحصر: إذا قلت (أعانني سعيد) كان إخبارا ابتدائيًا، والمخاطب خالي الذهن، فإن قلت (سعيد أعانني)، فقد خصصت سعيدًا بالإعانة وقصرتها عليه وذلك بأن كان المخاطب يظن إن الذي أعانك خالد مثلا، فترد عليه بهذا القول قال عبد القاهر: " فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحديث عنه بفعل، فقدمت ذكره ثم بنيت الفعل عليه فقلت: زيد قد فعل، وأنا فعلت، وأنت فعلت، اقتضى ذلك أن يكون القصد إلى الفاعل إلا أن المعنى في هذا المقصد ينقسم قسمين: أحدهما جلي لا يشكل، وهو أن يكون الفعل فعلا قد أردت أن تنص فيه على واحد، فتجعله له، وتزعم أنه فاعله دون واحد آخر أو دون كل أحد. ومثال ذلك أن تقول أنا كتبت في معنى فلان وأنا شفعت في بابه، تريد أن تدعي الأنفراد بذلك والاستبداد به وتزيل الاشتباه فيه، وترد على من زعم أن ذلك كان من غيرك، أو أن غيرك قد كتب فيه كما كتبت. ومن البين في ذلك قولهم: أتعلمني بضب أنا حرشته" (¬1). ومنه قوله تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} [البقرة: 4]، أي هم أهل اليقين المختصون به، وكأن غيرهم ليس من أصحاب اليقين جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "وفي تقديم الآخرة وبناء (يوقنون) على (هم) تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 99، وانظر المختصر على تلخيص المفتاح 42، معترك الأقران 1/ 187، البرهان 3/ 236، نهاية الإيجاز للفخر الرازي 122

الآخر على خلاف حقيقته وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك" (¬1). 2 - تحقيق الأمر وإزالة الشك من ذهن السامع كقولك (هو يغيث الملهوف) لمن يظن أنه لا يفعل ذاك فأنت لا تريد أن تقصر أغاثة الملهوف عليه وتحصرها فيه، ولكنك أردت أن تزيل الشك من ذهن السامع، قال الإمام عبد القاهر: "والقسم الثاني أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى، ولكن على أنك أردت أن تحقق على السامع أنه قد فعل، وتمنعه من الشك فأنت لذلك تبدأ بذكره وتوقعه أولاً، ومن قبل أن تذكر الفعل في نفسه لكي تباعده بذلك من الشبهة وتمنعه من الإنكار أو من أن يظن بك الغلط أو التزيد ومثاله قولك: هو يعطي الجزيل، وهو يحب الثناء، لا تريد أن تزعم أنه ليس ههنا من يعطي الجزيل ويحب الثناء غيره، ولا أن تعرض بإنسان وتحطه عنه وتجعله لا يعطي ولا يرغب كما يرغب، ولكنك تريد أن تحقق على السامع أن إعطاء الجزيل وحب الثناء دأبه وأن تمكن ذلك في نفسه" (¬2). ثم قال: "ويشهد لما قلنا أن تقديم المحدث عنه يقضي تأكيد الخبر وتحقيقه له أنا إذا تأملنا وجدنا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر نحو أن يقول الرجل: ليس لي علم بالذي تقول فتقول له: أنت تعلم أن الأمر على ما أقول ولكنك تميل إلى خصمي .. أو يجيء فيما اعترض فيه شك، نحو أن يقول الرجل: كأنك لا تعلم ما صنع فلان ولم يبلغك، فيقول: أنا أعلم، ولكني إدارية. أو في تكذيب مدع كقوله عز وجل: {وإذا جاءوكم قالوا أمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} [المائدة: 61]، وذلك أن قولهم (آمنا) دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به، فالموضع موضع تكذيب. أو فيما القياس في مثله أن لا يكون كقوله تعالى: {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} [الفرقان: 3]. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 105 (¬2) دلائل الاعجاز 99، وانظر نهاية الإيجاز 122 - 123

وكذلك في كل شيء كان خبرًا على خلاف العادة وعما يستغرب من الأمر نحو أن تقول: ألا تعجب من فلان؟ يدعى العظيم وهو يعيا باليسير .. ومما يحسن ذلك فيه ويكثر الوعد والضمان كقول الرجل: أنا أعطيك، أنا أكفيك .. وذلك إن من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في تمام الوعد، وفي الوفاء به، فهو من أحوج شيء إلى التأكيد .. وكذلك يكثر في المدح كقولك: أنت تعطي الجزيل .. وكذلك المفتخر. ويزيدك بيانا أنه إذا كان الفعل مما لا شك فيه، ولا ينكر بحال لم يكد يجيء على هذا الوجه، ولكن يؤتي به غير مبني على اسم، فإذا أخبرت بالخروج مثلا عن رجل من عادته أن يخرج في كل غداة قلت. قد خرج، ولم تحتج إلى أن تقول: هو قد خرج. ذاك لأنه ليس بشيء يشك فيه السامع، فتحتاج إلى أن تحققه وإلى أن تقدم فيه ذكر المحدث عنه" (¬1). 3 - لتعجيل المسرة أو المساءة نحو (أبوك عاد) لمن كان أبوه غائبًا. "السفاح حضر". 4 - لإظهار تعظيمه أو تحقيره نحو قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15]. ونحو السلطان حضر، الغبي جاء. 5 - لغرابته نحو: المقعد مشى، الأخرس نطق. أو لغير ذلك (¬2). فإن كان المسند إليه نكرة وتقدم على الفعل كان المراد تخصيص الجنس، أو الواحد تقول: (حضر رجل) إذا كان المخاطب خالي الذهن فإن قلت: (رجل حضر) كان السامع يعلم أن حضورًا حصل، ولكنه يجهل جنس الحاضر، أو كان يظن أنه امرأة فيقال ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 102 - 104 (¬2) انظر المختصر على تلخيص المفتاح للفتازاني 41 - 42، الإيضاح 1/ 52 - 53، البرهان 3/ 235

له: رجل حضر أي لا امرأة. أو كان يظن أنه رجلان فيقال له: رجل حضر أي لا رجلان. جاء في (دلائل الإعجاز): "إذا قلت: أجاءك رجل؟ فأنت تريد أن تسأله: هل كان مجيء من أحد الرجال إليه؟ فإن قدمت الاسم فقلت: أرجل جاءك؟ فأنت تسأله عن جنس من جاءه أرجل هو أم امرأة؟ ويكون هذا منك إذا كنت علمت إنه قد أتاه آت ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي .. وإذا كان كذلك كان محالا أن تقدم اسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس .. وإذ قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في الاستفهام، فابن الخبر عليه فإذا قلت: (رجل جاءني) لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة، ويكون كلامك مع من عرف أن قد أتاك آت. فإن لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول: (جاءني رجل) فتقدم الفعل" (¬1). وجاء في (الإيضاح): "فإن بني الفعل على منكر أفاد ذلك تخصيص الجنس، أو الواحد بالفعل كقولك: رجل جاءني أي لا امرأة ولا رجلان. وذلك لأن أصل النكرة أن تكون للواحد من الجنس فيقع القصد بها تارة إلى الجنس فقط كما إذا كان المخاطب بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آت ولم يدر جنسه أرجل هو أو امرأة أو اعتقد انه امرأة. وتارة إلى الوحدة فقط، كما إذا عرف أن قد أتاك من هو من جنس الرجال، ولم يدر أرجل هو أم رجلان أو اعتقد أنه رجلان" (¬2). وجاء في (معترك الأقران): "أن يكون المسند إليه نكرة مثبتا نحو "رجل جاءني" فيفيد التحصيص أما بالجنس أي لا امرأة، أو الوحدة أي لا رجلان" (¬3). إلى غير ذلك كالتعجب، نحو قولهم: أخرس نطق سمكة طارت (¬4). وبالجملة فإنه يقدم للإهتمام والعناية به. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 109 (¬2) الإيضاح 1/ 59 (¬3) معترك الأقران 1/ 187 (¬4) الأشموني 1/ 206

فإن سبق المسند إليه حرف نفي كان المراد نفي الحدث عن المسند إليه، وإثباته لغيره. تقول: (ما تكلمت): فأنت نفيت التكلم عن نفسك ولم تثبته لغيرك أي أنت لم تتعرض لغيرك بسلب، أو إيجاب فإن قلت: (ما أنا تكلمت)، فأنت قد نفيت التكلم عن نفسك وأثبته لغيرك. فإن المخاطب يعلم أن شخصًا ما قد تكلم فكان يظنك أنت، فقلت له: ما أنا تكلمت. أي أن المتكلم غيري. جاء في (البرهان): "فإذا قلت: ما ضربت زيدًا كنت نافيًا للفعل الذي هو ضربك إياه وإذا قلت: ما أنا ضربته كنت نافيًا لفاعليتك للضرب. فإن قلت: الصورتان دلتا على نفي الضرب فما الفرق بينهما؟ قلت من وجهين: أحدهما أنّ الأولى نفت ضربًا خاصًا إياه، ولم تدل على وضع ضرب غيرك، ولا عدمه إذ نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، ولا ثبوته. والثانية نفت كونك ضربته ودلت على أن غيرك ضربه بالمفهوم" (¬1). وجاء في (معترك الأقران): "أن يلي المسند عليه حرف النفي فيفيده، نحو: (ما أنا قلت هذا) أي لم أقله مع إنّ غيري قاله" (¬2). ونحو ذلك الاستفهام فإن قلت: أضربت زيدًا؟ كان السؤال عن أصل الفعل أحصل منك أم لم يحصل؟ فإن قلت: أأنت ضربت زيدًا؟ كان السؤال عمن أوقع الفعل بزيد فالسائل يعلم أنّ الفعل قد وقع على زيد، ولكنه يسأل عن الفاعل له. جاء في (دلائل الإعجاز): "وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها وترك تقديمه. ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة، فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت: أفعلت؟ فبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده. وإذا قلت: أأنت فعلت؟ فبدأت بالاسم كان ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 277 (¬2) معترك الأقران 1/ 187

الشك في الفاعل من هو؟ وكان التردد فيه. ومثال ذلك أنك تقول: أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أقلت الشعرَ الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ تبدأ في هذا ونحوه بالفعل، لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه، لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل وانتفائه مجوز أن يكون قد كان، وأن يكون لم يكن، وتقول: أأنت بنيت هذه الدار؟ أأنت قلت هذا الشعر؟ أأنت كتبت هذا الكتاب؟ فتبدأ في ذلك كله بالاسم. ذلك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان، كيف وقد أشرت إلى الدار مبنية والشعر مقولاً والكتاب مكتوبًا؟ وإنما شككت في الفاعل من هو؟ فهذا من الفرق لا يدفعه دافع ولا يشك فيه شاكّ، ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر. فلو قلت: أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أأنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ خرجت من كلام الناس. وكذلك لو قلت: أبنيت هذه الدار؟ أقلت هذا الشعر؟ أكتبت هذا الكتاب؟ قلت ما ليس يقول" (¬1). وجاء في (الكشاف) في قوله: {أنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} [الفرقان: 17]، "فإن قلت: ما فائدة: (أنتم)، و (هم)، وهلا قيل: أضللتم عبادي هؤلاء أن هم ضلوا السبيل؟ قلت: ليس السؤال عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه فلابد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم إنه المسؤول عنه .. والمعنى أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق أم هم ضلوا عنه بأنفسهم" (¬2). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 86 - 88 (¬2) الكشاف 2/ 402 - 403

مثل وغير

مثل وغير: ومما استعمل مقدمًا بكثرة لفظتا (مثل) و (غير) إذا أريد بهما الكناية من غير تعريض تقول: (مثلك يرعى الحق والحرمة) فلا يقصد به إنسانًا غير المخاطب ولكنه عادل من الضمير إلى لفظة (مثل) لإفادة أن من كان مثله في المنزلة والصفة يفعل مثل هذا الفعل أو لا يفعله في نحو قولك (مثلك لا يقول هذا). وكذلك قوله (غيري يقول الباطل) وهو هنا لم يرد التعريض بأحد، وإنما صرف قول الباطل عن نفسه بلفظة (غير) والفرق بين قولك (أنا لا أقول الباطل) و (غيري يقول الباطل) أنك في الجملة الأولى نفيت الأمر عن نفسك مباشرة، وفي الثانية أسندت هذا الفعل إلى غيرك، ولا تقصد بـ (غير) إنسانًا معينًا فكأن معنى الجملة الثانية: إن الذي يغايريني فيخلقي وحالي، هو الذي يقول الباطل، فنفي الفعل عن نفسه بطريق غير مباشر. وقد التزمت العرب، أو كادت في مثل هذا التعبير تقديم (مثل) و (غير) فلا تقول (يرعى الحرمة مثلك) ولا (يقول الباطل غيري) بالقصد الذي ذكرناه. جاء في (دلائل الإعجاز): "ومما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم (مثل) و (غير) في نحو قوله: مثلك يثني المزن عن صوبه ... ويسترد الدمع عن غربه وقول الناس: مثلك رعى الحق والحرمة .. وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه بـ (مثل) إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الحال والصفة كان مقتضى القياس، وموجب العرف والعادة أن يفعل ما ذكر أو أن لا يفعل .. وكذلك حكم (غير) إذا سلك به هذا المسلك فقيل: غيري يفعل ذاك على معنى أني لم أفعله لا أن يومئ بـ (غير) إلى إنسان فيخبر عنه بأن يفعل كما قال: غيري بأكثر هذا الناس ينخدع وذلك أنه معلوم أنه لم يرد أن يعرض بواحد كان هناك فيستنقصه ويصفه بأنه مضعوف يغر ويخدع ..

المبتدأ الذي له مرفوع أغني عن الخبر

فأنت الآن إذا تصفحت الكلام وجدت هذين الأسمين يقدمان ابدا على الفعل، إذا نحي بهما هذا النحو الذي ذكرت لك ونرى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما، أفلا ترى أنك لو قلت: يثني المزن عن صوبه مثلك ورعي الحق والحرمة مثلك. وينخدع غيري بأكثر هذا الناس .. لرأيت كلامًا مقلوبًا عن جهته ومغيرًا عن صورته ورأيت اللفظ قد نبا عن معناه ورأيت الطبع يأبى بأن يرضاه" (¬1). المبتدأ الذي له مرفوع أغني عن الخبر هذا هو الضرب الثاني من المبتدأ وهو أن تكون المبتدأ وصفا اعتمد على نفي، أو استفهام واكتفي بمرفوعه (¬2) نحو (أقائم الزيدان)، ويبحث النحاة في هذا الموضوع صورًا متعددة للمبتدأ جاء في (التصريح): "وإذا رفع الوصوف ما بعده فله ثلاثة أحوال وجوب الخبرية وجواز الأمرين، وذلك إنه أن لم يطابق الوصف ما بعده تعينت ابتدائيه نحو (أقائم أخواك؟ ) فـ (قائم) مبتدأ و (أخواك) فاعله سد مسد خبره ولا يجوز أن يكون (أخواك) مبتدأ مؤخرًا و (قائم خبرًا مقدمًا لأنه لا يخبر عن المثنى بالمفرد. وأن طابقه، أي طابق الوصف ما بعده في غير الأفراد وهو التثينة والجع، تعينت خبريته نحو (أقائمان أخواك وأقائمون أخوتك؟ ) .. فالوصف فيهن خبر مقدم والمرفوع بعده مبتدأ مؤخر، ولا يجوز أن يكون الوصف فيهن مبتدأ والمرفوع فاعلاً سد مسد الخبر لأن الوصف إذا رفع ظاهرًا كان حكمه حكم الفعل في لزوم الأفراد على اللغة الفصحى .. وأن طابقه أي الوصف ما بعده في الأفراد .. احتملهما أي الإبتدائية والخبرية على السواء نحو: أقائم أخوك وأقائمة أختك؟ " (¬3). والخلاصة إن الصور المستعملة هي نحو هذه: ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 106 - 108، وانظر الإيضاح (¬2) انظر الأشموني 1/ 190 - 191 (¬3) التصريح 1/ 158، وانظر الأشموني 1/ 192 - 193، ابن الناظم 43

أقائم زيد، أقائم الزيدان، أقائمان الزيدان فما الفرق بين هذه الاستعمالات؟ 1 - أن جملة (أقائمان الزيدان) و (أقائمون الزيدون) مما طابق فيه الوصف ما بعده في المثى والجمع يكون الوصف فيها خبرًا مقدمًأ وما بعده مبتدأ مؤخرًا وهذا أصله: الزيدان قائمان والزيدون قائمون فقدم الخبر على المبتدأ لغرض من أغراض التقديم التي سبق أن ذكرناها كالاختصاص والافتخار والتفاؤل ونحوها. تقول: (الزيدان قائمان) إذا كان المخاطب خالي الذهن، فإن كان السامع يظن أنهما قاعدان لا قائمان، قدمت له الخبر وقلت: قائمان الزيدان. إلى غير ذلك من الأغراض التي بيناها. 2 - وأما جملة (أقائم الزيدان) مما لا يطابق الوصف فيه ما بعده فيعرب النحاة وإنما هذه الجملة هي أشبه شيء بالجملة الفعلية. والوصف في مكانه التعبيري، وهو واقع موقع الفعل كما تقول: قام الزيدان ويقوم الزيدان فهو ليس مقدمًا من تأخير، وإنما هو في مكانه وقد جيء به اسما للدلالة على الثبوت كما ذكرنا سابقًا. جاء في (شرح الرضى على الكافية) في هذا النوع من التعبير: "فقالوا أن خبره محذوف لسد فاعله مسد الخبر وليس بشيء بل لم يكن لهذا المبتدأ أصلا من خبر حتى يحذف ويسد غيره مسده، ولو تكلفت له تقدير خبر لم يتأت إذ هو في المعنى كالفعل، والفعل لا خبر له فمن ثم تم بفاعله كلامًا من بين جميع اسم الفاعل، والمفعول، والصفة المشبهة، ولهذا أيضًا لا يصغر، ولا يوصف ولا يعرف ولا يثني ولا يجمع إلا على لغة أكلوني البراغيث" (¬1). وقال ابن يعيش: "واعلم إن قولهم: أقائم الزيدان إنما أفاد نظرًا إلى المعنى إذ المعنى أيقوم الزيدان فتم الكلا به لأنه فعل وفاعل و (قائم) هنا اسم من جهة اللفظ وفعل من جهة المعنى .. ولو قلت: (قائم الزيدان) من غير استفهام لم يجز عند الأكثر وقد أجازه ابن السراج وهو مذهب سيبويه لتضمنه معى الفعل" (¬2). ¬

_ (¬1) الرضى على الكافية 1/ 92 (¬2) ابن يعيش 1/ 96

وأما قولك: (أقائم زيد) فيحتمل معنيين: المعنى الأول أن تقصد أنك قدمت الخبر كما مر في قولنا (قائم زيد). وأصل الكلام: (زيد قائم) فقدمنا الخبر لغرض من أغراض التقديم، كالتخصيص ونحوه وكما مر في قولنا (قائمان الزيدان) و (قائمون الزيدون) وكما قالوا: (تميمي أنا) ونحوها فهو من باب التقديم الذي سبق أن شرحناه. ويحتمل أن يكون نحو قولنا (أقائم الزيدان) أي ليس من باب تقديم الخبر على المبتدأ وإنما هو تعبير أشبه بالتعبير الفعلي فهو يشبه: قام زيد ويقوم زيد إلا إنه عدل به من الفعلي إلى الاسم للدلالة على الثبوت فإن أريد به هذا القصد وجب عند الجمهور سبقه بنفي أو استفهام، وأن أريد به التقديم لم يشترط ذلك وإنما يصح أن تقول: (قائم زيد). جاء في (كتاب سيبويه): "وزعم الخليل أنه يستقبح أن يقول: (قائم زيد)، وذلك إذا لم تجعل قائمًا مقدمًا مبنيًا على المبتدأ كما تؤخر وتقدم فتقول: ضرب زيدًا عمرو وعمرو على ضرب مرتفع. وكان الحد أن يكون مقدمًا ويكون زيدٌ مؤخرا وكذلك هذا الحد فيه أن يكون الابتداء فيه مقدمًا وهذا عربي جيد وذلك قولك: تميمي أنا ومشموء من يشنؤك ورجل عبد الله وخز صفتك فإذا لم يريدوا هذا المعنى وأرادوا أن يجعلوه فعلا كقوله (يقوم زيد) و (قام زيد) قبح لأنه اسم وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف أو جرى على اسم قد عمل فيه" (¬1). فهو - كما ترى - يقول أن هذا التعبير يحتمل معنيين أن يكون (قائم) مقدمًا مبنيًا على المبتدأ أي خبرًا مقدمًا فيكون هذا عربيًا جيدًا كقولك: تميمي أنا، ومشنوء من يشنؤك ورجل عبد الله. فإن لم يريدوا هذا وأرادوا أن يجعلوه فعلا كقوله: يقوم زيد وقام زيد قبح إلا بأن يتقدمه نفي أو استفهام أو أي مسوغ آخر. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 96

تعريف المبتدأ والخبر

تعريف المبتدأ والخبر الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة كما إنّ الأصل في الخبر أنْ يكون نكرة نحو: سعيد قائم ولكنهما قد يجيئان معرفتين نحو سعيدٌ القائم، والقائم سعيد، وإبراهيم أخوك، وأخوك إبراهيم، فأيّ منهما هو المبتدأ وما دلالة التعريف؟ 1 - اختلف النحاة في المعرفتين أيّهما المبتدأ وأيهما الخبر فقد جاء في (المغنى): "يجب الحكم بابتدائية المقدم من الأسمين في ثلاث مسائل: أحدها أن يكونا معرفتين تساوت رتبتهما نحو: " الله ربنا" أو اختلف نحو: "زيد الفاضل" و "الفاضل زيد" هذا هو المشهور، وقيل يجوز تقدير كل منهما مبتدأ وخبرًا مطلقا وقيل: المشتق خبر، وأن تقدم نحو: القائم زيد والتحقيق أن المبتدأ ما كان أعرف كزيد في المثال أو كان هو المعلوم عند المخاطب كأن يقول: من القائم؟ فتقول: زيدٌ القائم. فإن علمهما وجهل النسبة فالمقدم المبتدأ" (¬1). وجاء في (المفصل): "وقد يقع المبتدأ والخبر معرفتين معًا كقولك: (زيد المنطلق) و (الله إلهنا) و (محمد نبينا) ولا يجوز تقديم الخبر هنا بل أيهما قدمت فهو المبتدأ" (¬2). والتحقيق أن المبتدأ ما كان معلومًا عند المخاطب والمجهول هو الخبر. فتأتي بالأر الذي يعلمه المخاطب فتجعله مبتدأ ثم تأتي بالمجهول عنده فتجعله خبرًا عن المبتدأ. وذلك نحو أن يعرف المخاطب زيدًا ولكنه يجهل أنه أخوك وأردت أن تعرفه بأنه أخوك قلت له (زيدٌ أخي). وإذا عرف أن لك أخا، وعرف زيدًا ولكنه يجهل إنه أخوك، وأردت أن تعلمه بأن أخاك هو زيد قلت له: (أخي زيد) فكأن الأولى جواب عن سؤال: من زيد؟ والثاني جواب عن سؤال: مَنْ أخوك؟ ونحو هذا قولك (زيد القائم) و (القائم زيد) ¬

_ (¬1) مغني اللبيب 2/ 451 (¬2) المفصل 1/ 78 - 79

فإذا رأى شخص ما رجلاً قائمًا ولكنه يجهل أنه زيد وهو يعرف زيدًا في الأصل، فأردت أن تعرفه بأن القائم هو زيد قلت له: (القائم زيد)، وإذا كان لايعرف زيدًا في الأصل فأردت أن تعرفه له بأنه هو القائم قلت له: (زيد القائم). جاء في (الإيضاح): "قد يكون للشيء صفتان من صفات التعريف ويكون السامع عالمًا باتصافه بأحدهما دون الأخرى فإذا أردت أن تخبره بأنه متصف بالأخرى، تعمد إلى اللفظ الدال على الأولى وتجعله مبتدأ وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية، وتجعله خبرًا فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصافه بالثانية كما إذا كان السامع أخ يسمى زيدًا وهو يعرفه بعينه واسمه، ولكن لا يعرف أنه أخوه وأردت أن تعرفه أنه أخوه فتقول له (زيد أخوك) سواء عرف أن له أخا ولم يعرف أن زيدًا أخوه أو لم يعرف أن له أخا أصلا. وأن عرف أن له أخًا في الجملة وأردت أن تعينه عنده قلت: أخوك زيد. أما إذا لم يعرف أن له أخا أصلا، فلا يقال ذلك لامتناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطب أصلا فظهر الفرق بين قولنا (زيد أخوك) وقولنا (أخوك زيد). وكذا إذا عرف السامع إنسانًا يسمى زيدًا بعينه واسمه، وعرف أنه كان من إنسان انطلاق ولم يعرف أنه كان من زيد أو غيره فأردت أن تعرفه أن زيدًا هو ذلك المنطلق فتقول (زيد المنطلق)، وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق هو زيد، قلت (المنطلق زيد). وكذا إذا عرف السامع إنسانًا يسمى زيدًا بعينه وهو يعرف معنى جنس المنطلق، وأردت أن تعرفه أن زيدًا متصف به فتقول: (زيد المنطلق)، وأن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت: (المنطلق زيد). لا يقال: زيدٌ دال على الذات فهو متعين للابتداء تقدم أو تأخر، والمنطلق دال على أمر نسبي فهو متعين للخبرية تقدم أو تأخر، لأنا نقول (المنطلق) لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الإنطلاق، وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرًا، و (زيد) لا يجعل خبرًا إلا بمعنى صاحب اسم (زيد) وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ" (¬1). ¬

_ (¬1) الإيضاح 1/ 97 - 98، وانظر نهاية الإيجاز 44

وجاء في (شرح المختصر): "والضابط في التقديم إنّه إذا كان للشيء صفتان من صفات التعريف، وعرف السامع إتصافه بأحداهما دون الأخرى، فأيهما كان بحيث يعرف السامع اتصاف الذات به، وهو كالطالب بحسب زعمك أن تحكم عليه بالآخر فيجب أن تقدم اللفظ الدال عليه أن تحكم بثبوته للذات أو انتفائه عنه يجب أن تؤخر اللفظ الدال عليه وتجعله خبرًا. فإذا عرف السامع زيدًا بعينه واسمه، ولا يعرف اتصافه بأنه أخوه وأردت أن تعرفه ذاك قلت: زيد أخوك. وإذا عرف أخا ولا يعرفه على التعيين، وأردت أن تعينه عنده قلت (أخوك زيد) ولا يصح (زيد أخوك) ويظهر ذلك في نحو قولنا (رأيت أسودًا غابها الرماح)، ولا يصح: رماحها الغاب" (¬1)، لأن الأسود لابد لها من الغاب فيكون معلومًا (¬2). وجاء في (التصريح): "ويختلف المعنى باختلاف الغرض فإذا عرف السامع زيدًا بعينه ولا يعرف المخاطب اتصافه بأنه أخو المخاطب، وأردت أن تعرفه ذلك قلت: (زيد أخوك)، ولا يصح لك أن تقول: (أخوك زيد). وإذا عرف أخا له ولا يعرفه على التعيين باسمه وأردت أن تعينه عنده قلت: (أخوك زيد) ولا يصح لك أن تقول: زيد أخوك". (¬3) " ومن هنا اعتراض ابن الطراوة قول المتنبي: ثياب كريم ما يصون حسانها ... إذا أنشرت كان الهبات صوانها قال فذمه وهو يرى أنه مدحه، ألا يرى انه أثبت الصون ونفي الهبات كأنه قال: الذي يقوم لها مقام الهبات أن تصان، انتهى. وإيضاحه أن الواجب في مثل هذا كون الخبر ما يراد إثباته ولهذا قال عبد الملك بن مروان: كان عقوبتك عزلك، ولو قال: كان عزلك عقوبتك كان معاقبًا لا مغرورًا (¬4) ". ¬

_ (¬1) شرح المختصر للتفتازاني 68 (¬2) حاشية الصبان 1/ 209 - 210 (¬3) التصريح 1/ 171 - 172، وانظر ابن يعيش 1/ 98، حاشية الصبان 1/ 209 - 210، همع الهوامع 1/ 101 (¬4) حاشية التصريح 1/ 172

وذكر ابن الخباز إنّ الفرق بين قولنا زيد أخوك وأخوك زيد من وجهين: "أحدهما أن (زيد أخوك) تعريف للقرابة و (أخوك زيد) تعريف للاسم. والثاني أنّ (زيد أخوك) لا ينفي أن يكون له أخ غيره، لأنك أخبرت بالعام عن الخاص (وأخوك زيد) ينفي أن يكون له أخ غيره لأنك أخبرت بالخاص عن العام، وهذا ما يشير إليه الفقهاء في قولهم: زيد صديقي وصديقي زيد" (¬1). فأنت ترى إن تقديم إحدى المعرفتين على الأخرى يتبعه اختلاف في المعنى فقولك (زيد المنطلق) يختلف عن معنى (المنطلق زيد) قال تعالى: {موعدكم يوم الزينة} [طه: 59]، ولم يقل: (يوم الزينة موعدكم) فإنه لما كان الغرض تحديد الموعد أخر عنه بأجل جعله لهم فإن هذا جواب عن قولهم: {فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت} [طه: 58]، ونحوه قوله تعالى: {إن موعدهم الصبح} [هود: 81]، فهو أخبار عن الموعد ايضا. ومنه قوله: {قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون} [الحجر: 68]، فهو أخبار عن المشار إليهم ولو قال (إن ضيفي هؤلاء) لاختلف المعنى فكان الأولى جواب عن سؤال: من هؤلاء؟ والثاني جواب عن سؤال: من ضيفك؟ ونحوه قوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]، ولا يصح أن يقال: (وأمهاتهم أزواجه) كما لا يخفى. ونحوه قوله: {هذه بضاعتنا ردت إلينا} [يوسف: 65]، وقوله: {إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام: 25]، ولو عكس فقال (إن أساطير أولين إلا هذا) لتغير المعنى ونحو هذا قوله تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]، ولو قال: هل الإحسان إلا جزاء الإحسان لتغير المعنى، ولو كان معنى التقديم والتأخير في غير الحصر واحدًا ما اختلف معناه في الحصر. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر 2/ 236

2 - القصر الحقيقي: تقول (زيد منطلق)، وتقول (زيد المنطلق) فما الفرق بين التعبيرين؟ إن التعبير الأول يفيد ثبوت الإنطلاق لزيد من دون نفيه عن غيره، وأما التعبير الثاني فإنه يفيد قصر الإنطلاق على زيد دون غيره، وهذا حين يظن ظان أن المنطلق هو غير زيد كأن يظن أنه خالد أو سعيد، فقد عرف أن ثمة انطلاقا ولكنه كان يظن أن المنطلق غير زيد فقدمت زيدًا وقصرت الإنطلاق عليه دون غيره. جاء في (دلائل الإعجاز): "ومن فروق الإثبات أنك تقول: زيد منطلق، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، فيكون في كل واحد من هذه الأحوال غرض خاص، وفائدة لا تكون في الباقي وأنا أفسر لك ذلك: اعلم أنك إذا قلت: (زيد منطلق) كان كلامك مع من لم يعلم أن إنطلاقا كان لا من زيد، ولا من عمرو، فأنت تفيده ذلك ابتداء، وإذا قلت: (زيد المنطلق) كان كلامك مع من عرف أن إنطلاقا كان، إما من زيد، وأما من عمرو، فأنت تعلمه أنه كان زيد دون غيره. والنكتة أنك تثبت في الأول الذي اهو قولك (زيد منطلق) فعلا لم يعلم السامع من أصله أنه كان، وتثبت في الثاني الذي هو (زيد المنطلق) فعلا قد علم السامع أنه كان، ولكنه لم يعلمه لزيد، فأفدته ذلك فقد وافق الأول في المعنى الذي كان له الخبر خبرا، وهو إثبات المعنى للشيء وليس يقدح في ذلك أنك كنت قد علمت إن إنطلاقا كان من أحد الرجلين لأنك إذا لم تصل إلى القطع على أنه كان من زيد دون عمرو، كان حالك في الحاجة إلى من كان يثبته لزيد كحالك إذا لم تعلم أنه كان من أصله. وتمام التحقيق إن هذا كلام يكون معك، إذا كنت قد بلغت أنه كان من إنسان إنطلاق من موضع كذا، في وقت كذا، لغرض كذا فجوزت أن يكون ذلك كان من زيد، فإذا قيل لك (زيد المنطلق) صار الذي كان معلوًا على جهة الجواز، معلومًا على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيد هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمى فصلا، بين الجزءين فقالوا: زيد هو المنطلق" (¬1). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 136 - 137

وجاء في نهاية الإيجاز: "إذا قلنا: زيد منطلق أفاد ثبوت الإنطلاق لزيد .. وإذاا قلت: زيد المنطلق أو زيد هو المنطلق فاللام في الخبر تفيد انحصار الخبر به في المخبر عنه، مع قطع النظر عن كونه مساويا أو إخص منه" (¬1). وجاء في دلائل الإعجاز: "وأما قلونا: : (المنطلق زيد)، والفرق بينه وبين (زيد المنطلق)، فالقول في ذلك أنك وإن كنت ترى في الظاهر أنهما سواء من حيث كون الغرض في الحالين إثبات إنطلاق قد سبق المعلم به، لزيد فليس الأمر كذلك، بل بين اللكلامين فصل ظاهر. وبيانه أنك إذا قلت: (زيد المنطلق)، فأنت في حديث إنطلاق قد كان، وعرف السامع كونه إلا إنه لا يعلم أمن زيد كان أم عمرو؟ فإذا قلت: (زيد المنطلق)، أزلت عنه الشك وجعلته يقطع بأنه كان من زيد، بعد أن كان يرى ذلك على سبيل الجواز، وليس كذلك إذا قدمت (المنطلق) فقلت: (المنطلق زيد) بل يكون المعنى حينئذ على رأيت إنسانًا ينطلق بالبعد منك، فلم يثبت ولم تعلم أزيد هو أم عمرو، فقال لك صاحبك: (المنطلق زيد)، أي هذا الشخص الذي تراه من بعد هو زيد" (¬2). ومن هذا الضرب قوله تعالى: {إنك أنت الأعلى} [طه: 68]، جاء في (المثل السائر) في هذه الآية: "الأعلى: لام التعريف في قوله (الأعلى)، ولم يقل (أعلى)، ولا (عال)؛ لأنه لو قال ذلك لكان قد نكره وكان صالحا لك واحد من جنسه كقولك (رجل)، فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال. وإذا قلت (الرجل)، فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف وجعلته علمًا فيهم وكذلك جاء قوله تعالى: {إنك أنت الأعلى}. (¬3) ". ¬

_ (¬1) نهاية الإيجاز 42 - 43 (¬2) دلائل الإعجاز 144، وانظر شرخ المختصر 68، الإيضاح 1/ 98 - 99، معترك الأقران 1/ 88 (¬3) المثل السائر 2/ 21

ومما يدل على الاختصاص والقصر الحقيقي قوله تعالى: {وأنا التواب الرحيم} [البقرة: 160]، وقوله: {وهو العلى العظيم} [البقرة: 255]، وقوله: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء}، [آل عمران: 6]، وقوله: {هو الذي خلقكم من طين} [الأنعام: 2]، وقوله {وهو الذي خلق السماوات والأرض}. [الأنعام: 73]، وقوله: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} [الأنعام: 97]، وقوله: {هو الذي أيدك بنصره} [الأنفال: 62]، وقوله: {ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون} [المؤمنون: 103]، وقوله: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3]، وقوله: {والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة} [البلد: 19]، وقوله: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة: 89]، ونحوه كثير. 3 - القصر مبالغة: وذلك كأن تقول: "زيد الشجاع"، و "سعيد الشاعر"، و (محمد الأديب)، فكأنك قصرت الشجاعة على زيد والشعر على سعيد، والأدب على محمد، كما فعلت في (زيد المنطلق) إلا إنا لفرق بينهما أن ذلك قصر حقيقي، وهذا قصر مبالغة وادعاء جاء في (الطراز): "أن تقصد المبالغة في الخبر فتقصر جنس المعنى على المخبر عنه كقولك: زيد هو الجواد، وعمرو هو الشجاع، تريد إنه هو المختص بالمعنى دون غيره وأنت إذا قصدت هذا المعنى فلا يجوز العطف عليه على جهة الاشتراك، فلا يجوز أن تقول: زيد هو الجواد، وعمرو لأنه يبطل المعنى، ومن هذا قوله تعالى {والكافرون هم الظالمون} [البقرة: 254]، وقوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقًا}: [الأنفال: 4] يريد إنهم المختصون بهاتين الصفتين دون غيرهم". (¬1) وجاء في (دلائل الإعجاز): "أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة وذلك قولك: زيد هو الجواد وعمرو هو الشجاع تريد أنه الكامل إلا أنت تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود أو الشجاعة لم توجد إلا فيه" (¬2). ¬

_ (¬1) الطراز 2/ 21 (¬2) دلائل الإعجاز 138، وانظر دراية الإيجاز 42 - 43، معترك الأقران 1/ 188، شرح المختصر 68

وجاء في (الإيضاح) أن المعرف بلام الجنس قد يفيد القصر تحقيقا "وأما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه كقولك (عمرو الشجاع) أي الكامل في الشجاعة فتخرج الكلام في صورة توهم أن الشجاعة لم توجد إل فيه لعدم الاعتداد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال" (¬1). ومن هذا النوع قوله تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الرعد: 5]، هذا صنف من أصحاب النار، وهناك أصناف أخرى غيرهم، ، ولكن لكون إنكار اليوم الآخر كبيرة جعل منكريه هم أصحاب النار وقصرها عليهم مبالغة .. وقال تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} [النحل: 106 - 109]، فالغافلون كثيرون والذين طبع على قلوبهم من غير هؤلاء من غير أصناف والخاسرون غير هؤلاء كثير ولكن لعظم جرم هؤلاء حصرها عليهم مبالغة. 4 - قصر جنس المعنى على المبتدأ على دعوى إنه لا يوجد إلا منه وذلك حين يكون مقيدًا بحال، أو وقت، وذلك كقولك: هو النصير إذا عز النصير، جاء في (دلائل الأعجاز). " أن تقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه لأعلى معني المبالغة .. بل على دعوى أنه لا يوجد إلا منه ولا يكون ذلك إلا إذا قيدت المعنى بشيء يخصصه ويجعله في حكم نوع برأسه وذلك كنحو أن يقيد بالحال والوقت كقولك: ¬

_ (¬1) الإيضاح 1/ 98 - 199

هو الوفي حين لا تظن بنفس خيرًا" (¬1). 5 - أن تورده على وجه اتضح أمره وعرف فتقول: (سعيد الجواد) لا على وجه القصر وإنما على وجه أنّ هذا شائع معروف بين الناس، لا يخفى على أحد كقوله تعالى في المنافقين: {هم العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4]، فهذا ليس من باب القصر الحقيقي وإلا فقد ذكر القرآن اليهود وقال فيهم: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين أمنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82]، وإنما أورده على وجهٍ أتضح أمره وعرف شأنه، أي هم المتضح أمرهم المنكشف سرهم في العداوة وربما دل على كمالهم في العداوة. وعليه قول الخنساء: إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا "لم ترد أن ما عدا البكاء عليه فليس بحسن ولا جميل .. ولكنها أرادت أن تقره في جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد، ولا يشك فيه شاك. ومثله قول حسان: وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت خزوم ووالدك العبد ولو قال ووالدك عبد لم يكن قد جعل حاله في العبودية حالة ظاهرة متعارفة" (¬2). 6 - أن تورده على وجه ثبت عند المخاطب وعلمه أووجه تعلمه به وذلك نحو قولك (هو الشاعر) تقول هذا لأعلى وجه من الأوجه المذكورة وإنما كأنك تقول له: هل عرفت الشاعر وخبرت حقيقته وتمثلته في نفسك؟ فهذا هو. وهذا النوع على ضربين: أ - الإعتماد على المعرفة السابقة والعلم بالشيء كما ذكرت من قولنا (هو الشاعر) جاء في (دلائل الإعجاز): "واعلم أن للخبر المعرف بالألف واللام معنى غير ما ذكرت لك .. وذلك قولك هو البطل المحامي وهو المتقي المرتجي، وأنت لا تقصد شيئًا ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 138، وانظر الطراز 2/ 22، نهاية الإيجاز 42 - 43 (¬2) دلائل الإعجاز 140، وانظر الطراز 2/ 22، الإيضاح 1/ 98 - 99

مما تقدم .. ولكنك ترد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل المحامي وهل حصلت معنى هذه الصفة، وكيف ينبغي أن يكون الرجل، حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فإن كنت قتلته علمًا وتصورته حق تصوره فعليك صاحبك واشدد بد يدك فهو ضالتك وعنده بغيتك" (¬1). وجاء في (الطراز): "أن تقصد به مقصد التعريف بحيقة عقلها المخاطب في ذهنه لا في الخارج، أو توهمت إنه لم يعرفها فتقول له تصور كذا فإذا تصورته في نفسك فتأمل فلانًا فإنه يحصل ما تصورته على الكمال، ويأتيك به تامًا ومثاله قولنا: هو الحامي لكل حقيقة، وهو المرتجى لكل ملمة، هو الدافع لكل كريهة، كأنك قلت: هل تعقل الحامي والمرتجي وتسمع بهما؟ فإن كنت تعقل ذلك وتعرفه حقيقة معرفته فاعلم أنه فلان" (¬2). ومن هذا الضرب قوله تعالى: {قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} [البقرة: 25]، اعتمادًا على معرفتهم السابقة. وقوله: {ما جئتم به السحر} [يونس: 81]، وقوله: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس: 52]، وقوله: {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} [الأنعام: 101 - 102]، فبعد أن عرفهم بالله وصفاته التي يجلونها قال لهم: ذلكم الله ربكم. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 141 (¬2) دلائل الإعجاز 141

ومنه: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا} [الأنفال: 2]، ونحوه: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50]، ومنه: {إنما المؤمنون الذين أمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} [النور: 62]. ومنه: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان: 63]. وهذا من باب التعريف بالكلام. ومن التعريف في المقام قول امرأة العزيز للنسوة اللاتي لمنها في يوسف بعد أن أخرجته عليهن وقطعن أيديهن حين رأينه {فذالكن الذي لمتنني فيه} [يوسف: 32]، ومنه قوله تعالى: {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} [الأنبياء: 103]، ونحوه {هذا الذي كنتم تستعجلون} [الذاريات: 14]، وقوله: {هذه النار التي كنتم بها تكذبون} [الطور: 14]. 7 - الدلالة على الكمال: وذلك كقوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2]، أي الكتاب الكامل وكقوله تعالى: {وهو الحكيم الخبير} [الأنعام: 18]، أي الكامل فيهما وكقوله {وهو الحي} [غافر: 65]، ونحوه قوله تعالى: {وهو السميع العليم} [البقرة: 137]، و {هو السميع البصير} [الإسراء: 1]، ليس معنى ذلك أنه لا يسمع أحد غيره، ولا يعلم أحد غيره، ولا يبصر أحد غيره، بل سبحانه وصف الإنسان بالسمع والبصر فقال: {فجعلنه سمعيا بصيرا} [الإنسان: 2]، ووصفه بالعلم فقال: {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: 76]، بل معناه أن الله سبحانه هو الكامل في هذه الصفات. جاء في حاشية السيد الشريف الجرجاني على الكشاف: "أن الخبر المعرف بلام الجنس قد يقصده به تارة حصره على المبتدأ أما حقيقة أو ادعاء نحو (زيد الأمير)، إذا انحصرت الإمارة فيه أو كان كاملاً فيها كأنه قيل كل الأمير وجميع أفراده فيظهر الوجه في إفادة الجنس الحصر" (¬1)، وأحرى أن يدخل هذا الجنس في قصر المبالغة. ¬

_ (¬1) حاشية التعريف 1/ 113

إعادة المبتدأ

إعادة المبتدأ قد يعاد المبتدأ بلفظه وأكثر ما يقع ذلك في مقام التهويل والتفخيم تقول: زيدٌ ما زيد؟ أي أيّ شيء هو تفخيمًا له وتعظيمًا، قال تعالى: {الحاقة ما الحاقة} [الحاقة: 1 - 2]، وقال: {القارعة ما القارعة} [القارعة: 1 - 2]، تفخيمًا لأمرها وتهويلاً، وقال: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} [الواقعة: 27]، {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال} [الواقعة: 41]، تعظيمًا وتهويلا لأمرهم. جاء في (شرح الرضي على الكافية): "وأما وضع الظاهر مقام الضمير فإن كان في معرض التفخيم جاز قياسًا كقوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة} أي ما هي؟ وإن لم يكن فعند سيبويه يجوز في الشعر بشرط أن يكون بلفظ الأول قال: لعمرك ما معن بتارك حقه ... ولا منسيء معن ولا متيسر بجر (منسئ) فإذا رفعته فهو خبر مقدم على المبتدأ" (¬1). وجاء في (الخصائص): "إنما يعاد لفظ الأول في مواضع التعظيم والتفخيم" (¬2). وجاء فيه: "وأما قول ذي الرمة: ولا الخُرق منه يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ما هيا فيجوز أن تكون (هي)، الثانية فيه إعادة للفظ الأول كقوله عز وجل {القارعة ما القارعة} وهو الوجه. ¬

_ (¬1) الرضى على الكافية 1/ 98، وانظر حاشية يس على التصريح 1/ 165، حاشية الصبان 1/ 196، وانظر التصريح 1/ 166، الهمع 1/ 97 (¬2) الخصائص 3/ 54

ويجوز أن تكون (هي)، الثانية ضمير هي الأولى، كقولك: هي مررت بها، وإنما كان الوجه الأول لأنه إنّما يعاد لفظ الأول في مواضع التعظيم والتفخيم وهذا من مظانه" (¬1). وجاء في (الكشاف) في قولنا: زيد ما زيد: "جعلته لانقطاع قرينه، وعدم نظيره، كأنه شيء خفي عليك جنسه فأنت تسأل عن جنسه، وتفحص عن جوهره كما تقول: ما القول وما العنقاء؟ تريد أي شيء هو من الأشياء؟ هذا أصله ثم جرد للعبارة عن التفخيم" (¬2). وجاء في (التفسير الكبير) في قوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة} [الحاقة: 1 - 2]، " والأصل الحاقة ما هي؟ أي، أي شيء هي؟ تفخيمًا لشأنها، وتعظيمًا لهولها، فوضع الظاهر موضع المضمر، لأنه أهول لها ومثله قوله: {القارعة ما القارعة}. (¬3) وقد يكرر المبتدأ لقصد الدلالة على الشهرة، أو عدم التغير تقول: (زيدٌ زيد) أي هو على ما تعهد أي لم يتغير عن حاله الأولى، رفعة أو ضعة، ودناءة قال تعالى: {والسابقون السابقون} [الواقعة: 10]، جا في (الكشاف): " يريد والسابقون من عرفت حالهم، وبلغك وصفهم كقولهم: وعبد الله عبد الله. وقول أبي النجم: وشعري شعري. كأنه قال: وشعري ما انتهي إليك، وسمعت بفصاحته وبراعته" (¬4) قال سيبويه: "وتقول: (قد جربتك فوجدتك أنت أنت) فأنت الأولى مبتدأ والثانية مبنية عليها، كأنك قلت: (فوجدتك وجهك طليق)، والمعنى أنك أردت أن تقول: فوجدتك أنت الذي أعرف. ومثل ذلك (أنت أنت) و (أن فعلت هذا فأنت أنت) أي فأنت الذي أعرف أو أنت الجواد والجلد كما تقول (الناس الناس)، أي الناس بكل مكان، وعلى كل حال كما تعرف (¬5) ". ¬

_ (¬1) الخصائص 3/ 54 (¬2) الكشاف 3/ 403 (¬3) التفسير الكبير 30/ 102 (¬4) الكشاف 3/ 193 (¬5) سيبويه 1/ 381 - 382

قال ابن يعيش: "وأما قولهم: (أنت أنت)، فظاهر اللفظ فاسد، لأنه قد أخبر بما هو معلوم، وأنه قد اتحد الخبر والمخبر عنه لفظًا، ومعنى، وحكم الخبر أن يكون فيه من الفائدة ما ليس في المبتدأ. وإنما جاز ههنا، لأن المراد من التكرير بقوله (أنت أنت) أي أنت على ما عرفته من الوتيرة، والمنزلة لم تتغير. ومعنى تكرير الاسم بمنزلة أنت على ما عرفته. وهذا معنى يتضمن ما ليس في الجزء الأول، وعليه قول أبي النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري معناه وشعري، شعري المعروف الموصوف كما بلغت وعرفت وهذا قياس الباب" (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " الذي لا يغاير المبتدأ لفظًا يذكر للدلالة على الشهرة أو عدم التغير كقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري أي هو المشهور المعروف بنفسه، لا بشيء آخر كما يقال مثلا: شعري مليح، وتقول: (أنا أنا) أي ما تغيرت عما كنت قال: رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وانكرت الوجوه هم هم" (¬2). وجاء في (المثل السائر) في قول أبي تمام: لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتولت الأوطار " فقوله (لا أنت أنت ولا الديار ديار) من المليح النادر في هذا الموضع، لأنه هو هو والديار ديار، وإنما البواعث التي كانت تبعث على قضاء الأوطار زالت، فبقي ذلك الرجل وليس هو هو على الحقيقة، ولا الديار في عينه من الحسن تلك الديار، وعلى هذا ورد قول أبي الطيب المتنبي: ¬

_ (¬1) ابن يعيش 1/ 98 - 99 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 103

قبيلٌ أنت أنت وأنت منهم ... وجدك بشرٌ الملك الهمام فقولك (أنت أنت) من توكيد الضميرين المشار إليهما، وفائدته المبالغة في مدحه ولو مدحه بما شاء الله لما سد مسد، قوله (أنت أنت) أي أنك المشار إليه بالفضل، دون غيرك" (¬1). وجاء في (الخصائص) في قول الشاعر: أنا أبو النجم وشعري شعري وقوله: إذ الناس ناس والبلاد بغرة ... وإذ أم عمار صديقٌ مساعف وقوله: بلاد بها كنا وكنا نحلها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد " ألا ترى أن المعنى وشعري متناه في الجودة على ما تعرفه وكما بلغك، وقوله (إذ الناس ناس) أي إذ الناس أحرار والبلاد أحرار" (¬2). ¬

_ (¬1) المثل السائر 2/ 23 (¬2) الخصائص 3/ 337، وانظر 3/ 102 - 103، الكامل للمبرد 1/ 43، التفسير الكبير 26/ 48

المبتدأ النائب مناب الفعل

المبتدأ النائب مناب الفعل قد يعدل من الجملة الفعلية إلى الإسمية لقصد الدلالة على الثبوت ويكون المبتدأ نائبًا مناب الفعل، ولا نعنى أنه ينوب عنه في عمله، وإنما ينوب عنه في معناه، أو يشبهه في معناه إلا في الدلالة على الحدوث، فإنه يدل على الثبوت والفعل يدل على الحدوث تقول: أحمدُ الله - الحمد لله غفر الله لك - مغفرةٌ لك. رضي الله عنك - رضوان الله عليك. وقد يؤتى بالمصدر منصوبا نائبا مناب الفعل، وهو المفعول المطلق، تقول: (أحمد الله) ثم تحذف الفعل وتأتي بمصدره منصوبًا، نائبًا منابه فتقول: (حمدًا لله). وتقول: (أسلم عليك) ثم تحذف الفعل، وتأتي بمصدره منصوبًا نائبًا منابه فتقول: (سلاما عليك). وتقول: (سقاك الله)، ثم تحذف الفعل، وتأتي بمصدره منصوبًا نائبًا منابه، فتقول: (سقيا لك)، وتقول: (أشكر لك فعلك) ثم تحذف الفعل، وتأتي بمصدره منصوبًا منابه، فتقول: شكرًا لك. وهذه الجمل المبدوءه بمصادر منصوبة، كلها جمل فعلية لأنها منصوبة بفعل محذوف فإذا رفعت هذه المصادر صارت الجملة إسمية.

فعلية ... فعلية ... إسمية أحمد الله ... حمدًا لله ... الحمدُ لله أسلم عليك ... سلاما عليك ... سلامٌ عليك أشكر لك فعلك ... شكرا لك ... شكرٌ لك سقاك الله ... سقيا لك ... سقيٌ لك رعاك الله ... رعيا لك ... رعيٌ لك تبت يده ... تبًا له ... تب له ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... ويلا له ... ويلٌ له فمعنى (أحمد الله) و (حمدًا لله) واحد فكلتا الجملتين فعلية، وكلتاهما تدل على الحدوث والتجدد، ولكن في الجمل الثانية أختزل الفعل وفاعله، لأنه لا يتعقل غرض بذكرهما وجيء بمصدره الذي هو أقوى من الفعل: وأما الجمل الثالثة فهي جمل إسمية قال سيبويه في (باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعل إظهاره): "وذلك قولك سقيا ورعيا ونحو قولك: خيبة ودفرًا وجدعًا وعقرا وبؤسا وافة وتفة وبعدا وسحقًا ومن ذلك قولك: تعيسًا وتبًا وجوعا وجوسا .. وإنما ينتصب هذا وما أشبه إذا ذكر مذكور فدعوت له أو عليه على إضمار الفعل، كأنك قلت: سقاك الله سقيا ورعاك الله رعيًا .. وإنما اختزل الفعل ههنا لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل كما جعل: (الحذر) بدلا من (احذر)، وكذلك هذا كأنه بدل من سقاط الله ورعاك الله .. وما جاء منه لا يظهر له فعل فهو على هذا المثال نصب، كأنك جعلت بهرًا بدلاً من بهرك الله فهذا تمثيل ولا يتكلم به.

ومما يدل أيضًا على أنه على الفعل نُصب، أنك لم تذكر شيئًا من هذه المصادر لتبني عليه كلامًا، كما يبني على عبد الله إذا ابتدأته، وأنك لم تجعله مبنيًا على اسم مضمر في نيتك، ولكنه على دعائك له أو عليه .. وقد رفعت الشعراء بعض هذا، فجعلوه مبتدأ وجعلوا ما بعده مبنيًا عليه قال أبو زبيد: أقام وأقوى ذات يوم وخيبة ... لأول من يلقى وشر ميسر ومثله قول الشاعر: أهاجيتم حسان عند ذكائه ... فعيٌّ لأولادل الحِماس طويل وفيه المعنى الذي يكون في المنصوب، كما إنّ قولك: (رحمة الله عليه) فيه معنى الدعاء كأنه قال: رحمه الله .. من ذلك قولك حمدا وشكرًا لا كفرًا وعجبًا .. فإنما ينتصب هذا على إضمار الفعل كأنك قلت: أحمد الله حمدًا .. وإنما أختزل الفعل ههنا لأنهم جعلوا هذا بدلا من اللفظ بالفعل .. وقد جاء بعض هذا رفعًا يبتدأ ثم يبني عليه .. واعلم إن (الحمد لله) وأن ابتدأته، ففيه معنى المنصوب وهو بدل من اللفظ بقولك: أحمد لله" (¬1). والفرق بين الجملة الإسمية والفعلية، هو أنّ الفعلية تدل على الحدوث والتجدد والإسمية، تدل على الثبوت - كما ذكرنا - وإيضاح ذلك إن الفعل يدل على حدث مقرون بزمن، فإذا كان الفعل ماضيًا فقد انقضى تقول (حمدت الله) أي في الماضي، وإذا كان مضارعًا، فهو يدل على الحال، أو الاستقبال، تقول (أحمد الله) أي في الحال، أو في الاستقبال، وإما الاسم فهو غير متخصص بزمن، وإنما هو عام ثابت تقول (الحمد لله) ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 156 - 166

على قصد ثبوت الحمد له ودوامه غير مخصص بزمن معين، .. ومن ذلك قوله تعالى {قالوا سلاما قال سلام} [هود: 69]، فنبي الله إبراهيم عليه السلام حياهم، بتحية، خير من تحيتهم، أذهم حيوه بجملة فعلية، وهو حياهم بجملة إسمية دالة على الثبوت، قال ابن يعيش: "ألا ترى أنك إذا قلت: سلام عليك وويل له بالرفع كان معناه كمعناه منصوبا وإذا كان منصوبا كان منزلا منزلة الفعل فقولك (سلاما عليك) وويلا لك بمنزلة: سلم الله عليك وعذبك الله، فلما كان المعنى فيه ينزع إلى معنى الفعل لم يغير عن حاله، لأن مرتبة الفعل أن يكون مقدمًا" (¬1). وقال: "ومن ذلك قولهم: سلام عليك وويل له قال الله تعالى: {سلام عليك سأستغفر لك ربي} [مريم: 47]، و {ويل للمطففين} [المطففين: 1]، ومن ذلك (أمت في حجر لا فيك) ـ، فهذه الأسماء كلها إنما جاز الابتداء بها، لأنها ليست أخبارًا في المعنى إنما هي دعاء أو مسألة فهي في معنى الفعل كما لو كانت منصوبة، والتقدير ليسلم الله عليك وليلزمه الويل. وقولهم (أمت في حجر لا فيك) معناه: ليكن الأمت في الحجارة لا فيك، والأمت اختلاف انخفاض وارتفاع قال تعالى: {لا ترى فيها عوجا ولا أمتا} [طه: 107]، والمعنى أبقاك الله بعد فناء الحجارة، لأن الحجارة مما يوصف بالبقاء .. فلما كانت في معنى الفعل كانت مفيدة كما لو صرحت بالفعل. والفرق بين الرفع والنصب أنك إذا رفعت كأنك ابتدأت شيئا قد ثبت عندك واستقر وإذا نصبت كأنك تعمل في حال حديثك في إثباتها" (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): "سلام في قولك (سلام عليك)، بمعنى مصدر سلمك الله، أي جعلك سالمًا، فالأصل سلمك الله سلامًا ثم حذف الفعل لكثرة الاستعمال فبقي المصدر منصوبًا، وكان النصب يدل على الفعل، والفعل على الحدوث. فلما قصدوا دوام نزول سلام الله عليك واستمراره أزالوا النصب الدال على ¬

_ (¬1) ابن يعيش 1/ 93 (¬2) ابن يعيش 1/ 87

الحدوث، فرفعوا (سلام) وكذا أصل (ويل لك)، هلكت ويلا أي هلاكًا، فرفعوه بعد حذف الفعل نفضا لغبار معنى الحدوث" (¬1). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} [المرسلات: 15]، "فإن قلت: كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله تعالى {ويل يومئذ للمكذبين} قلت: هو في أصله مصدر منصوب ساد مسد فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه سلام عليكم" (¬2). قال الأشموني: " أصل (الحمد لله) أحمد أو حمدت حمدًا لله. فحذف الفعل اكتفاء بدلالة مصدره عليه ثم عدل إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبوت، ثم أدخلت عليه (أل) لقصد الاستغراق" (¬3). وقال الصبان تعليقا على هذا القول: " هذا يقتضي أنه لو لم يعدل إلى الرفع لانتفت الدلالة على الدوام، وهو كذلك كما صرح به الرضى في باب المبتدأ لأن بقاء النصب صريح في ملاحظة الفعل، وتقديره وهو يدل على التجدد فلا يستفاد الدوام إلا بالعدول إلى الرفع" (¬4). وعلى هذا وضعت قواعد فقهية، قال ابن عطية: " سبيل الواجبات الإتيان بالمصدر مرفوعًا كقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]، {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة: 178]. وسبيل المندوبات الإتيان به منصوبا كقوله تعالى: {فضرب الرقاب} [محمد: 4]، ولهذا اختلفوا هل كانت الوصية للزوجات واجبة لاختلاف القراءة في قوله (وصية لأزواجكم) بالرفع والنصب. ¬

_ (¬1) الرضى على الكافية 1/ 96 - 97 (¬2) الكشاف 3/ 302 (¬3) الأشموني 1/ 9 - 10 (¬4) حاشية الصبان 1/ 9 - 10

أنواع الخبر

قال أبو حيان: والأصل في هذه التفرقة قوله تعالى: {قالوا سلاما قال سلام} [هود: 69]، فإن الأول مندوب والثاني واجب. والنكتة في ذلك أن الجملة الإسمية أثبت وآكد من الفعلية" (¬1). أنواع الخبر يقسم النحاة الخبر إلى مفرد وجملة وأما شبه الجملة فيحلق تارة بالمفرد وتارة بالجملة بحسب التقدير، فما الفرق بين أضرب الخبر هذه؟ لقد مر الفرق بين قولنا: زيد قائم، وزيد يقوم، ويقوم زيد. وعرفنا أن الأصل في الجملة الدالة على الحدوث أن يتقدم الفعل فتقول (يقوم زيد) فإذا قدت زيدًا، كان ذلك لسبب من أسباب التقديم التي ذكرناها، كالتخصيص والاهتمام ونحوها. وأن الأصل في الجملة الدالة على الثبوت أن نأتي بالمبتدأ ثم الخبر فنقول (زيد قائم) وبهذا اتضح الفرق بين الخبر المفرد والأخبار بالجملة الفعلية. وأما الأخبار بالجملة الإسمية فهو واضح فأنت تقدم المبتدأ لتخبر عنه، لكن الخبر بدل أن يأتي مفردًا يأتي جملة أي يكون المسند جملة فتقول مثلا (إبراهيم أخوه قائم) فأخبرت عن إبراهيم بجملة إسمية، ويقال في هذه الجملة ما قيل في جملة المبتدأ والخبر. فإن قلنا (إبراهيم أخوه يعيله) كانت جملة الخبر من باب تقديم المسند إليه لغرض من أغراض التقديم، كالتخصيص ونحوها وإن قلت (إبراهيم قائم أخوه) كان في الخبر احتمالان، الأول إنه من باب الأخبار بالمفرد، ولكن أريدت الدلالة على الثبوت في نسبة القيام إلى الأخ. والثاني إنه من باب تقديم الخبر (قائم) على المبتدأ الثاني (أخوه) للأغراض التي سبق أن ذكرناها. ¬

_ (¬1) الإتقان 1/ 199

الخبر شبه الجملة: الخبر شبه الجملة هو الظرف والجار والمجرور، ويقدر النحاة لهما محذوفا يتعلقان به هو عند أكثرهم فعل (استقر) أو (كان) وعند قسم آخر اسم (كائن أو مستقر (¬1)) فإذا قلت: (سالم في الدار) قدروا له استقر في الدار، أو كائن، واختلفوا في الأولى منهما فالذي يقدر الفعل يقول: إنما يحسن تقدير الفعل لأنه أصل العمل، وهو هنا عامل في الظرف، أو في المجرور، والذي يقدر الاسم يرى أن الأصل في الخبر أن يكون مفردًا، وذهب قسم إلى أن هذا قسم قائم برأسه، ولا يتعلق بشيء (¬2). وقد رجح ابن هشام التقدير بحسب المعنى قال: " وأما في البواقي نحو " زيد في الدار " فيقدر كونا مطلقًا، وهو كائن، أو مستقر، أو مضارعها، إن اريد الحال، أو الاستقبال نحو (الصوم اليوم) أو في اليوم، والجزاء غدًا أو في الغد. ويقدر كان أو استقر، أو وصفهما إن أريد المضي، هذا هو الصواب، وقد أغفلوه مع قولهم في نحو (ضربي زيدًا قائمًا) إن التقدير (إذ كان) إن أريد المضي، أو (إذا كان) إن أريد المستقبل ولا فرق، وإذا جهلت المعنى فقدر الوصف فإنه صالح في الأزمنة كلها وإن كانت حقيقته الحال .. ولا يجوز تقدير الكون الخاص كقائم، وجالس، إلا الدليل" (¬3). وأرى أن الراجح في التقدير، إن إذا أريد الحدوث قدر فعل بحسب الزمن، وإذا أريد الثبوت قدر اسم فإذا قلت (القط النمر) قدرت اسمًا (كائن)، ولا تقدر فعلا ونحوه (الأرض كالكرة)، وتقول (الجنة تحت ظلال السيوف) وأرى أنه لا يصح تقدير فعل هنا فتقدير الفعل (استقرت) يعني أنها كانت على غير ذاك، فاستقرت الآن على هذا ولا يحسن تقدير (تكون أو تستقر) لما فيه من معنى الحدوث والتجدد، وإنما هذا أمر ثابت ¬

_ (¬1) الرضى على الكافية 1/ 99 (¬2) ابن عقيل 1/ 211 (¬3) المغني 2/ 448

فتقدر كائنة. ومثله (الحمد لله) فإنه لا يحسن تقدير استقر بل الأولى أن يقدر (كائن). وإذا قلنا (السفر غدًا) صح فيه تقدير (يكون) وهو الأولى، أو (كائن) إذا نويت ثبوته أي كأن هذا أمر منته ومفروغ منه كقوله تعالى: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 71 - 72]، فجاء باسم الفاعل الدال على الثبوت (خالق) في المستقبل. ويرى الكوفيون أن الخبر إذا كان عين الأول، ارتفع نحو (زيد قائم)، وإذا كان مخالفا له انتصب على الخلاف نحو (زيد أمامك) فزيد هو غير الإمام فالإمام جهة وزيد شخص جاء في (همع الهوامع) ذاكرًا رأي الكوفيين: "وإذا قلت: (زيد أخوك)، فالأخ هو زيد أو (زيد خلفك) فالخلف ليس بزيد فمخالفته له عملت النصب" (¬1)، ولا يحتاج عندهم إلى تقدير شيء" (¬2). ولسائل أن يسأل: ولم التقدير؟ أليس المعنى مفهومًا؟ أليس الأولى أن نأخذ برأي الكوفيين في عدم التعليق؟ وهل من الضروري أنه حين نقول: زيد في الدار أن نقدر كائن في الدار؟ أليس الكلام مفهومًا من غير ذلك؟ وهذا أمر يحتاج إلى شرح وتوضيح. وإذا قلت (زيد في الدار) فماذا يفهم من هذا الكلام؟ أيفهم أنه قائم في الدار أو جالس أو نائم أم يفهم مجرد الوجود في الدار بلا تخصيص لحالة؟ لا شك أن السامع يفهم مجرد الوجود فإذا أردت أمرًا بعينه فلابد أن تذكر المتعلق، ولا يجوز أن تحذفه إلا لقرينة فتقول: زيد جالس في الدار أو عامل في الدار أو نائم ونحو ذلك. فإذا قلت (زيد في الدار) قصدت الوجود المطلق فيه ولولا هذا التقدير لم يصح الكلام، وإلا فما معنى زيد في الدار؟ ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 98، وانظر التصريح 1/ 166، الانصاف في مسائل الخلاف - المسألة 29، الرضي على الكافية 1/ 98 (¬2) مغني اللبيب 2/ 433، الرضي على الكافية 1/ 98، التصريح 1/ 166

معنى (في الدار) داخل الدار، أو باطنه فهل زيد هو باطن الدار، أي فناؤه ورحبته؟ وتقول: (زيد على السطح) فما معنى هذا الكلام؟ معناه أنه موجود على السطح ولا بد من هذا القصد، ولولا هذا القصد لكان المعنى أن زيدًا (على السطح) أي هو الفوق والعلو، وهذا القصد لا يمكن ان يكون. وكذلك الظرف تقول: (زيد خلفك) والمعنى إنه موجود خلفك، وإلا فما يكون المعنى إن لم يكن هذا القصد؟ أنت أما أن تقصد إنه موجود خلفك، فتنصب الظرف على هذا التقدير، وأما أن تقصد إن زيدًا هو الخلف فترفع الخلف جاء في (همع الهوامع): "إذا قلت (ظهرك خلفك)، جاز رفع الخلف ونصبه، أما الرفع فلأن الخلف في المعنى الظهر وأما النصب فعلى الظرف وكذا ما أشبه ذلك، نحو (نعلك أسفلك)، قال تعالى: {والركب أسفل منكم} [الأنفال: 42]، قريء بالوجهين. فإن كان الظرف المخبر به غير متصرف تعين النصب، نحو: رأسك فوقك، ورجلاك تحتك، بالنصب لا غير، لأن فوق وتحت لا يستعملان إلا ظرفا وقيل يجوز الرفع فيما كان من الجسد كالمثالين المذكورين بخلاف ما ليس منه نحو: فوقك قلنسوتك وتحتك نعلاك" (¬1). قال سيبويه: " وأما دونك فإنه لا يرفع أبدًا، وإن قلت (هو دونك في الشرف) لأن هذا إنما هو مثل كما كان هذا مكان ذان في البدل مثلا .. وإن شئت قلت: (هو دونك)، إذا جعلت الأول الآخر ولم تجعله رجلا وقد يقولون: هو دون في غير الإضافة، أي هو دون من القوم وهذا ثوب دون إذا كان رديئًا .. وزعم يونس أن ناسًا من العرب يقولون: انصب للمنية تعتريهم ... رجالي أم هم درج السيول فجعلهم هو الدرج كما تقول: (زيد قصدك)، إذا جعلت القصد زيدًا وكما يجوز لك أن تقول: (عبد الله خلفُك) إذا جعلته هو الخلف. ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 100

وإن قلت: الليلة الهلال، واليوم القتال نصب، والتقدير والتأخير في ذلك سواء وإن شئت رفعت فجعلت الآخر الأول". (¬1) تقول: خلفَ زيد سعيدٌ، وتقول: خلفُ زيد قبيح، والفرق واضح بين الجملتين في المعنى. وتقول (أسفل الجبل محمد)، وتقول: (أسفلُ الجبل وعر)، فالجملة الأولى على نية الوجود، وليس الثانية كذلك. وكذلك تقول: (السفر غدًا) أي ثابت، أو كائن، ولا يصح أن ترفع غدًا، فتقول (السفر غدٌ)، لأن السفر ليس هو الغد، أي ليس هو اليوم، فالسفر حدث وغد هو زمن والسفر، إنما يكون في الزمن ويحصل فيه "فإن استغرق ذلك المعنى جميع الزمان، أو أكثره وكان الزمان نكرة رفع غالبا نحو: الصوم يوم، والسير شهر، إذا كان السير في أكثره، لأنه باستغراقه ايامه كأنه هو، ولا سيما مع التنكير المناسب للخبرية، ويجوز نصب هذا الزمان المنكر وجره بفي نحو: الصوم في يوم أو يومًا .. وإن كان الزمان معرفة نحو: الصوم يوم الجمعة لم يكن الرفع غالبا كما في الأول عند البصريين وأوجب الكوفيون النصب .. فإن وقع الفعل لا في أكثر الزمان سواء كان الزمان معرفا، أو منكرا فالأغلب نصبه أو جره بقي اتفاقا بين الفريقين نحو: الخروج يومًا أو في يوم والسير يوم الجمعة، أو في يوم الجمعة، وأما قوله تعالى: {الحج أشهرٌ معلوماتٌ} [البقرة: 197]، فلتأكيد أمر الحج دعاء الناس إلى الاستعداد له حتى كأن أفعال الحج مستغرقة لجميع الأشهر الثلاثة". (¬2) وربما كان ذاك على تقدير مضاف أي أشهر الحج أشهر معلومات، فيكون الإخبار بالشيء عن نفسه. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 204 - 208 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 100، الصبان 1/ 203

الإخبار بالمصدر عن اسم الذات

الإخبار بالمصدر عن اسم الذات المصدر هو الحدث المجرد فلا يخبر به عن اسم الذات فلا يصح أن تقول زيد انطلاق ومحمد ركض وخالد بكاء لأن زيدًا ليس انطلاقا، ومحمدًا ليس ركضا، وخالدا ليس بكاء، ولكن قد ورد في اللغة أخبار من هذا القبيل قال تعالى في ابن نوح: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} [هود: 46]، فقال عنه أنه عمل، فأخبر بالمصدر، عن الذات كما أخبر بالذات عن المصدر، في قوله تعالى: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة: 177]، وقالوا: رجل صوم، ورجل فطر، وإنما أنت سير، وقالت الخنساء تصف ناقتها: ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار فأخبرت عن الناقة بقولها (هي إقبال وإدبار) والإقبال والإدبار، لا يكونان خبرا عن الناقة وإنما هي مقبلة مدبرة، فما معنى هذا الإخبار وما الغرض منه؟ الغرض من هذا الإخبار هو المبالغة بجعل العين هو الحدث نفسه، أي أن ابنك يا نوح تحول إلى عمل غير صالح، ولم يبق فيه عنصر من عناصر الذات، والناقة تحولت إلى حدث مجرد من الذات فليس فيها ما يثقلها من عنصر الذات، وإنما هي تحولت إلى إقبال وإدبار، ومثل هذا الوصف بالمصدر نحو (أقبل رجلٌ عدلٌ). جاء في (الخصائص): "إذا وصف بالمصدر صار الموصوف كأنه في الحقيقة مخلوق من ذلك الفعل وذلك لكثرة تعاطيه له واعتياده إياه، ويدل على أن هذا معنى لهم ومتصور في نفوسهم قوله: ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل ... وضنت علينا والضنين من البخل أي كأنه مخلوق من البخل لكثرة ما يأتي به منه، ومنه قول الآخر: وهن من الأخلاق والولعان.

وقوله: وهن من الأخلاق بعدك والمطل وأصل هذا الباب عندي قول الله عز وجل: {خلق الإنسان من عجلٍ} [الأنبياء: 37]، .. وقولك رجل دنف، أقوى معنى لما ذكرناه من كونه كأنه مخلوق من ذلك الفعل: وهذا معنى لا تجده ولا تتمكن منه مع الصفة الصريحة". (¬1) وقال: "فإذا قيل (رجل عدل)، فكأنه وصف بجميع الجنس مبالغة كما تقول: استولى على الفضل، وحاز جميع الرياسة والنبل ولم يترك لأحد نصيبًا في الكرم والجود، ونحو ذلك، فوصف بالجنس أجمع تمكينًا لهذا الموضع وتوكيدًا. وقد ظهر منهم ما يؤيد هذا المعنى، ويشهد به، وذلك نحو قوله .. ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل ... وضنت علينا والضنين من البخل. فهذا كقولك: هو مجبول من الكرم، ومطين من الخير، وهي مخلوقة من البخل .. وأقوى التأويلين في قولها (فإنما هي إقبال وإدبار) أن يكون من هذا، أي كأنها مخلوقة من الإقبال والإدبار، لا على أن يكون من باب حذف المضاف أي ذات إقبال وذات إدبار. ويكفيك من هذا كله قول الله عز وجل {خلق الإنسان من عجل} وذلك لكثرة فعله إياه واعتياده له" (¬2). وقال: " قول الله سبحانه {إن أصبح ماؤكم غورًا} [الملك: 30]، أي غائرا ونحو قولها: فإنما هي إقبال وإدبار. وما كان مثله من قبل أن من وصف بالمصدر فقال: هذا رجل زور، وصوم، ونحو ذلك، فإنما ساغ ذلك له لأنه أراد المبالغة وأن يجعله هو نفس الحدث لكثرة ذلك منه" (¬3). ¬

_ (¬1) الخصائص 3/ 259 - 260 (¬2) الخصائص 3/ 202 - 203 (¬3) الخصائص 3/ 189

وجاء في (شرح الرضي على الكافية): "أو لكون واحد من المبتدأ والخبر معنى والآخر عينًا، ولزوم ذلك المعنى لتلك العين حتى صار كأنه هي، كقول الخنساء: ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار وقوله تعالى (ولكن البر من آمن)، وإن قدرنا المضاف في مثله في المبتدأ أي (لكن ذا البر من آمن)، وحالها إقبال أو في الخبر نحو: بر من آمن وذات إقبال أو جعلنا المصدر بمعنى الصفة نحو (ولكن البار) وهي مقبلة جاز لكنه يخلو من معنى المبالغة" (¬1). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {إنه عمل غير صالح} [هود: 46]، " وجعلت ذاته عملا غير صالح، مبالغة في ذمة كقوله (فإنما هي إقبال وإدبار) " (¬2). وجاء فيه في قوله تعالى: {وجاءو على قميصه بدم كذب} [يوسف: 18]، : "ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه، وكما يقال للكذاب هو الكذب بعينه والزور بذاته ونحوه: فهن به جود وأنتم بخل" (¬3). وتقول: زيد سيرا، وزيد قيامًا، بالنصب وليس في هذا مبالغة، وإنما هو إخبار طبيعي وتقدير الكلام: زيد يسير سيرا، ويقوم قياما فإن قلت: (زيدٌ سيرٌ) بالرفع كان مما نحن فيه وكان من المبالغة، فكأن زيدا هو السير، أي تحول إلى حدث مجرد. جاء في (الكتاب): "وذلك قولك (ما أنت إلا سيرا) و (ما أنت إلا الضرب الضربَ)، و (ما أنت إلا قتلا قتلا)، و (ما أنت إلا سير البريد سير البريد)، فكأ، هـ قال في هذا كله: ما أنت إلا تفعل فعلا، وما أنت إلا تفعل الفعل، ولكنهم حذفوا الفعل لما ذكرت لك .. وأعلم إن السير إذا كنت مخبرًا عنه في هذا الباب، فإنما تخبر بسير متصل بعضه ببعض في أي الأحوال كان، وأما قولك: (إنما أنت سيرٌ)، فإنما جعلته خبرًا لأنت ولم تضمر فعلا .. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 103 (¬2) الكشاف 3/ 101 (¬3) الكشاف 2/ 127، وانظر 1/ 270، التفسير الكبير 3/ 167

ومن ذلك قولك: (ما أنت إلا شرب الإبل) و (ما أنت إلا ضرب الناس) و (ما أنت إلا ضربا الناس)، وأما شرب الإبل فلا ينون، لأنه لم يشبهه بشرب الإبل ولأن الشرب ليس بفعل يقع منك على الإبل .. وإن شئت رفعت هذا كله، فجعلت الآخر هو الأول، فجاز على سعة الكلام، من ذلك قول الخنساء: ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار. فجعلها الإقبال والإدبار، فجاز على سعة الكلام، كقولك: نهارك صائم وليلك قائم" (¬1). وجاء نحو هذا في (المقتضب) قال: "زيد سيرا، وزيد أبدًا، قيامًا، وإنما جاز في الإضمار لأن المخاطب يعلم أن هذا لا يكون إلا بالفعل، وأن المصدر إنما يدل على فعله، فكأنك قلت: زيد يسير سيرا، وما أنت إلا تقوم قيامًا، وإن شئت قلت: زيد سير يا فتى، فهذا يجوز على وجهين: أحدهما: أن يكون زيد صاحب سير، فأقمت المضاف إليه مقام المضاف، لما يدل عليه كما قال الله عز وجل {وسئل القرية التي كنا فيها} [يوسف: 82]، إنما هو أهل القرية كما قال الشاعر: ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار أي ذات إقبال وإدبار. ويكون على أنه جعلها الإقبال والإدبار لكثرة ذلك منها" (¬2). والراجح أن هذا الضرب فيما أرى ليس من باب حذف المضاف، ولا من باب تأويل المصدر بالوصف، وإنما هو ضرب آخر من الكلام وافتنان فيه بقصد المبالغة. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 168 - 169 (¬2) المقتضب 3/ 230

الخبر النائب مناب الفعل

الخبر النائب مناب الفعل قد ينوب الخبر عن الفعل كما ينوب المبتدأ عنه، وقد ذكرنا ذلك قبلا. تقول: صبر جميل، وسمع، وطاعة، يعني لأصبر صبرا جميلا وأسمع وأطيع، وهذا يذكره النحاة في باب حذف المبتدأ وجوبا، ويقدرونه: صبري صبر جميل وأمري سمع ونحو ذلك. وإليك إيضاح ذلك: الفعل ... المصدر النائب عن فعله ... المصدر النائب عن فعله مخبرا عنه اصبر صبرا جميلا ... صبرا جميلا ... صبر جميل اطيعك ... طاعة لك ... طاعة لك اسمع يا سعيد ... سمعا يا سعيد ... سمع يا سعيد ارحم الفقراء ... رحمة بالفقراء ... رحمة بالفقراء أنت ترى أن الجمل الأولى مبدوءة بفعل، والجمل الثانية استغنينا فيها عن الفعل، وجئنا بمصدر منصوب نائب عن فعله، وفي هذه الحال يجب حذف الفعل، والمصدر هنا مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبا، فإنه من المعلوم إذا وقع المصدر بدلا من فعله حذف عامله وجوبا وهو مقيس في الأمر، والنهي والدعاء والخبر أحيانًا، وغير ذلك. (¬1) أما الجمل الثانية فهي كالثانية إلا أن المصادر مرفوعة، أي عدل بها من النصب إلى الرفع للدلالة على الثبوت والدوام، كما عرفنا سابقا غير أن المعنى العام واحد، وهو الأمر بالصبر والطاعة ونحوها. ¬

_ (¬1) انظر ابن عقيل 1/ 565

فالجملة الفعلية هي الأصل لما بعدها، والجمل الثانية مبدوءة بمصادر حذف فعلها وجوبا لأنها نابت منابه وتؤدي معناه، والجمل الثالثة مصادر حذف مبتدؤها وجوبا، وهي لا تحتاج إلى المبتدأ لأنها في معنى الفعل، وكما حذف الفعل وجوبا في هذه المصادر حذف المبتدأ وجوبا في هذا الخبر، الذي هو يشبه الفعل، فإن لم يكن المصدر المخبر به نائبا مناب فعله لم يحذف مبتدؤه وجوبا تقول مثلا: (صبري صبر جميل) إذا قصدت الأخبار عن صبرك بأنه صبر جميل، لا بقصد النيابة عن الفعل كما تقول: تمرك تمر جيد وعملي عمل عظيم. فإذا كان القصد النيابة عن الفعل، أي إصبر أو لأصبر حذف مبتدؤه وجوبا. وتقول: (سمعك سمع شديد) كما تقول (دارك دار واسعة) فإذا أردت النيابة عن الفعل قلت: سمع يا سعيد بمعنى اسمع للدلالة على الثبوت، وسمعا يا سعيد للدلالة على التجدد. قال تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {فصبر جميل والله المستعان} [يوسف: 18]، أي فلأصبر صبرا جميلا، قالها بالرفع ولم يقل صبرا جميلا بالنصب، لأنه أراد الدلالة على الثبوت والدوام، أي صبر دائم ثابت لأصير موقوت، فقد أمر نبي الله نفسه بالصبر لثابت الدائم، الصبر الطويل الذي لا ينقطع، وهذا المعنى لا يكون في النصب، تقول: صبرا يا فلان على هذه المسألة إذا كانت موقوتة، فإذا أردت الصبر الطويل الدائم قلت: صبرٌ يا فلان. جاء في كتاب سيويه: " فقالت: حنان ما أتى بك ههنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف لم ترد تحنن ولكنها قالت: أمرنا حنان أو ما يصيبنا حنان، وفي هذا المعنى كله معنى النصب .. ومثل ذلك قول الشاعر: يشكو إلي جملي طول السرى ... صبرٌ جميل فكلانا مبتلى

والنصب أكثر وأجود لأنه يأمره، ومثل الرفع: {فصبر جميل والله المستعان} كأنه يقول: الأمر صبر جميل. والذي يرفع عليه حنان وصبر وما أشبه ذلك لا يستعمل أظهاره، وترك أظهاره كترك أظهار ما ينصب فيه" (¬1). ولست أذهب إلى ما ذهب إليه سيبويه في أن النصب أكثر وأجود، وإنما هو أمر يعود إلى المعنى، فإن أراد الحدوث نصبه، وإن اراد الثبوت رفع كما علمت، وكما ذكر ذلك سيبويه نفسه في أكثر من مناسبة، جاء في (الكتاب): "وكذا إذا قلت: رأيت فيما يرى النائم كذا وكذا، فتقول: خيرا لنا وشرا لعدونا، فإذا نصب فعلى الفعل وأما الرفع فعلى أنه جعل ذلك أمرا ثابتا ولم يرد أن يحمله على الفعل (¬2) ". والرفع في القرآن كثير. وجاء في (التصريح) أنه يحذف المبتدأ وجوبًا إذا "أخبر عنه بمصدر جيء به .. بدلا .. من اللفظ بفعله أي بفعل المصدر، والمراد أنهم تلفطوا بالمصدر عوضا عن تلفظهم بالفعل، نحو: سمع وطاعة وقوله: فقالت: حنان ما أتى بك ههنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف. فسمع وحنان خبران لمبتدأين محذوفين وجوبًا، والتقدير أمري حنان، وأمري سمع وطاعة، وأصل هذه المصادر النصب بفعل محذوف وجوبا لأنها من المصادر التي جيء بها بدلا من اللفظ بأفعالها ولكنهم قصدوا الثبوت والدوام، فرفعوها، وجعلوها أخبارا عن مبتدءات محذوفة وجوبا حملا للرفع على النصب" (¬3). وفي (حاشية الصبان) في (سمع وطاعة): " الأصل أسمع سمعًا وأطيع طاعة حذف الفعل اكتفاء بدلالة مصدره عليه ثم عدل إلى الرفع لإفادة الدوام، وأوجبوا حذف المبتدأ ¬

_ (¬1) الكتاب 1/ 161 - 162 (¬2) سيبويه 1/ 137 (¬3) التصريح 1/ 177، وانظر الأشموني 1/ 221

إعطاء للحالة الفرعية حكم الحالة الأصلية التي هي حالة النصب إذ يجب فيها حذف الفعل" (¬1). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى {وقولوا حطة}، [البقرة: 58]، " وهي خبر مبتدأ محذوف، أي مسألتنا حطة، أو أمرك حطة والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله (صبر جميل فكلانا مبتلى) والأصل صبرًا على اصبر صبرا" (¬2). وقال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} [محمد: 4]، ولم يقل فضرب بالرفع لأن الضرب موقوت بالوقعة، وليس دائمًا ثابتا، ولذلك جاء بها على الحالة الأصلية. جاء في (معاني القرآن): "وأما قوله {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}، [البقرة: 178]، فإنه رفع وهو بمنزلة الأمر في الظاهر كما تقول: من لقي العدو فصبرا واحتسابا، فهذا نصب ورفعه جائز، وقوله تبارك وتعالى {فاتباع بالمعروف} رفع ونصبه جائز، وإنما كان الرفع فيه وجه الكلام، لأنها عامة فيمن فعل، ويراد بها من لم يفعل، فكأنه قال فالأمر فيها على هذا فيرفع، وينصب الفعل إذا كان أمرًا عند الشيء يقع ليس بدائم مثل قولك للرجل: إذا أخذت في عملك فجدا جدًا، وسيرا سيرا، نصبت لأنك لم تنو به العموم فيصير كالشيء الواجب على ما أتاه وفعله ... وأما قوله: {فضرب الرقاب} فإنه حثهم على القتل إذا لقوا العدو ولم يكن الحث كالشيء الذي يجب بفعل قبله، فلذلك نصب وهو بمنزلة قولك: إذا لقيتم العدو فتهليلا وتكبيرا وصدقا عند تلك الوقعة .. كأنه حث لهم" (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 1/ 221، وانظر الهمع 1/ 104، حاشية الخضري 1/ 109 (¬2) الكشاف 1/ 217 (¬3) معاني القرآن 1/ 109، وانظر 2/ 39

العموم في الخبر

العموم في الخبر لابد في جملة الخبر من رابط يربطها بالمبتدأ (¬1) وقد يكون الرابط ضميرا نحو (محمد أخوه مسافر) وقد يكون اسم إشارة نحو: {ولباس التقوى ذلك خير} [الأعراف: 26]، وقد يكون الرابط العموم ومعنى العموم أن يكون الخبر عامًا يدخل فيه المبتدأ. تقول مثلا: "الذي يعتدي على سعيد إنا سنعاقب الظالمين" ولم تقل: أنا سنعاقبه، وثمة فرق بين التعبيرين فإنك إذا قلت سنعاقبه انصرف العقاب عليه وحده. وأما قولك سنعاقب الظالمين فإن العقوبة تنصرب فيه إلى كل ظالم، ولم تختص بالمعتدي على سعيد وحده وبذلك يكون الكلام أوسع وأشمل. وتقول من ضرب زيدًا سنعاقبه، وهناك فرق بين القولين فقولك سنعاقبه يختص بمن ضرب زيدًا، دون غيره فليس هناك إشارة لمن ضرب خالدًا مثلا، أو لمن فعل فعله، فإذا قلت أنا للمعتدين بالمرصاد شمل كل معتد ودخل ضارب زيد في زمرة المعتدين. قال تعالى: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} [الأعراف: 170]، ولم يقل أجرهم فبالعدول إلى العموم أفاد فائدتين: أحداهما أن هذا الصنف هم من المصلحين. والأخرى أن الأجر لا يختص بهؤلاء الصنف من الناس، وإنما يشمل كل المصلحين فدخل فيه هؤلاء وغيرهم من الصلحين. قال ابن القيم في هذه الآية أنه "لم يقل أجرهم تعليقا لهذا الحكم بالوصف وهو كونهم مصلحين وليس في الضمير ما يدل على الوصف المذكور" (¬2). ¬

_ (¬1) إذا لم يكن الخبر عين المبتدأ نحو: (قولي: الله حسبي) فجملة الله حسببي هي قولي نفسه. (¬2) بدائع الفوائد 2/ 47 - 48

ونحو ذاك وقوله تعالى: {إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف: 30]، ولم يقل (أجرهم) وقوله: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98]، ولم يقل (له) للغرض نفسه. وشبيه بهذا الباب قوله تعالى: {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وأمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} [الأعراف: 153]، ولم يقل (لغفور رحيم لهم) فلم يخصص المغفرة والرحمة بهم بل جملها عامة مطلقة، ولم يواجههم بغفران ذنوبهم، وإنما ذكر صفة المغفرة والرحمة فعسى أن تنالهم، ففي حذف الضمير فائدتان: 1 - اتساع صفة المغفرة والرحمة ولم يقيدها بهم بل هي عامة شاملة. 2 - لم يواجههم صراحة بالمغفرة، وإنما ذكر صفة المغفرة والرحمة فعسى أن تنالهم وذلك ليبقوا في حالة طاعة وخشية من معصية.

تعدد الأخبار

تعدد الأخبار قد يتعدد الأخبار عن المبتدأ الواحد فيكون للمبتدأ خبران أو أكثر نحو قولهم (الرمان حلو حامض)، وكقوله تعالى: {وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد} [البروج: 14 - 15]، وهذه الأخبار قد تأتي متعاطفة بالواو، وقد تأتي غير متعاطفة، ويذكر النحاة لها من حيث اقترانها بالواو، أحوالاً ثلاثة: 1 - قسم يجب فيه ذكر الواو، وهو أن يتعدد الخبر لتعدد ما هو له، أو بعبارة أخرى أن تكون الأخبار متعددة لأن المخبر عنهم متعددون، كأن تقول: "بنوك كاتب وصائغ وفقيه" أي بعضهم كاتب، وبعضهم صائغ، وبعضهم فقيه. وهما عالم وجاهل، وبهذا حصل الفرق، "بين هذا النوع ونحو (هم سراة شعراء) لأن تعدد الخبر فيه، ليس لتعدد المبتدأ، لأن كلا من أفراد المبتدأ، فيه متصف بأنه سري شاعر بخلاف نحو بنوك كاتل وصائغ وفقيه فإنه لم يتصف كل من البنين بالأوصاف الثلاثة، بل اختص كل بوصف فتعدد الخبر لتعدد المبتدأ" (¬1). 2 - قسم يجب فيه ترك العطف وهو "ما تعدد في اللفظ دون المعنى، وضابطه أن لا يصدق الأخبار ببعضه عن المبتدأ، كقولهم (الرمان حلو حامض)، بمعنى مز، وزيد أعسر يسر بمعنى أضبط". فالخبر إنما يكون بمجموع الكلمتين، ولا يصح الاكتفاء بواحدة دون الأخرى، وقد ذهب بعض النحاة إلى أنه يجوز العطف في هذا القسم أيضًا (¬2). 3 - قسم يجوز فيه العطف وتركه كقولك: زيد كريم شجاع، وزيد كريم وشجاع (¬3). ¬

_ (¬1) الصبان 1/ 222 - 223 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 107 - 108 (¬3) ابن الناظم على الألفية 52 - 53، الأشموني 1/ 222 - 223، الهمع 1/ 108، الرضي على الكافية 1/ 107 - 108

الواو للاهتمام والتحقيق

وهذا القسم هو محل نظرنا. فما الفرق بين العطف وتركه؟ ما الفرق بين قولنا: (زيد كريم شجاع)، و (زيد كريم وشجاع)؟ يقول النحاة: "إذا تكررت النعوت لواحد فالأحسن أن تباعد معنى الصفات العطف نحو: {هو الأول والأخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3]، وغلا تركه نحو: {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم} [القلم: 10 - 13] (¬1). وقد جاء في (البرهان) في تعدد الصفات: " ومقتضااها ألا يعطف بعضها على بعض لإتحاد محلها، ولجريها مجرى الوصف في الصدق على ما صدق، ولذلك يقل عطف بعض صفات الله على بعض في التنزيل، وذلك كقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، [البقرة: 255]، وقوله: {الخالق الباريء المصور} [الحشر: 24]. وإنما عطف قوله: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} لأنها أسماء متضادة المعاني في موضوعها، فوقع الوهم بالعطف عمن يستبعد ذلك في ذات واحدة، لأن الشيء لا يكون ظاهرًا باطنا من وجه، وكان العطف فيه أحسن. ولذلك عطف (الناهون)، على (الآمرون) و (أبكارا) على (ثيبات) في قوله {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله} [التوبة: 112]، وقوله: {أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا} [التحريم: 5]، فجاء العطف لأنه لا يمكن اجتماعهما في محل واحد بخلاف ما قبله" (¬2). الواو للاهتمام والتحقيق: التحقيق في هذه المسألة أن الواو تدل على الاهتمام، وتحقيق الأمر ولذا عطف بها بين الصفات المتباعدة، قال تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن}، إذ يبعد في الذهن ¬

_ (¬1) الاتقان 2/ 70، وانظر معترك الأقران 1/ 353، البرهان 2/ 446 (¬2) البرهان 3/ 475، وانظر بدائع الفوائد 3/ 52 - 54، 1/ 189

اجتماع هذه الصفات المتباعدة المتناقضة في الظاهر في ذات واحدة، فجاء بالواو تحقيقا وتقريرا لهذه الأمر، تقول: (زيد شاعر فقيه) فإذا كان المخاطب يعجب من اجتماع هذين الوصفين فيه أولا يظن أن زيدا كذلك جئت بالواو. تقول مثلا لصاحبك: (زيد شاعر) فيقول: أهو شاعر؟ لا أعلم عنه ذاك، فتقول له: (وفقيه) فيعجب ويقول: (وفقيه أيضا) فتقول: (وطبيب). وهذا مكان الواو، لأن فيها اهتماما، وتحقيقا وتوكيدا، ولا يحسن ههنا ترك الواو، وبهذا يمكن ان نفهم كثيرا من التعبيرات، وسر الاتيان بالواو في الأخبار والأحوال والنعوت وغيرها، قال ابن القيم: "أن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم، وتقديره يكون في الكلام متضمنا لنوع من التأكيد من مزيد التقرير، وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة إلى ما نحن فيه إذا كان الرجل مثلا أربع صفات، هو عالم، وجواد، وشجاع، وغني، وكان المخاطب لا يعلم ذلك، أو لا يقر به، ويعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل، فإذا قلت: (زيد عالم) وكان ذهنه استبعد ذلك، فتقول (وجواد) أي وهو مع ذلك جواد، فإذا قدرت استبعاده لذلك قلت (وشجاع) أي وهو مع ذلك شجاع، وغنى فيكون في العطف مزيد تقرير وتوكيد لا يحصل بدونه تدرأ به توهم الإنكار". (¬1) قال تعالى: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} [التوبة: 112]، فأنت ترى أنه جاء مع الناهين عن المنكر بالواو، لزيادة الاهتما بهذه الخصلة، لأنها قد تؤدي إلى الاحتكاك والصدام. بخلاف الصفات الباقية وتحتاج إلى صبر وعناء، وحكمة ومشقة قال الامام الرازي: "في إدخال الواو على هؤلاء والناهون وذلك لأن كل ما سبق من الصفات عبادات يأتي بها الإنسان لنفسه، ولا تعلق لشيء منها بالغير. أما النهي عن المنكر فعبادة متعلقة بالغير، وهذا النهي يوجب ثوران الغضب، وظهور الخصومة، وربما أقدم ذلك المنهي على ضرب الناهي، وربما حاول قتله فكان النهي عن المنكر أصعب أقسام العبادات والطاعات، فأخل عليها الواو تنبيها على ما يحصل فيها من زيادة المشقة والمحنة" (¬2). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 1/ 191 (¬2) التفسير الكبير 16/ 205

قال تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون}، وقال: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم}، قال الإمام الرازي: "فأنت قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنها في قوله (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم)؟ قلت: الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية وإن زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف" (¬1). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجمًا بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} [الكهف: 22]، "فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولين؟ " قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة، وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن إتصافه بها أمر ثابت مستقر. وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا سبعة، وثامنهم كلبهم، قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرحموا بالظن كما غيرهم" (¬2). وجاء فيه في قوله تعالى: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17]، : "الواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها" (¬3). وانظر إلى الفرق بين قوله تعالى: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطياكم وسنزيد المحسنين} [البقرة: 58]. وقوله: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين} [الأعراف: 161]، فانظر كيف جاء في الآية الأولى بالواو الدالة على الاهتمام والتنويع بقوله (وسنزيد المحسنين)، ولم يأت بها في الثانية. ¬

_ (¬1) التفسير الكبير 24/ 170، وانظر الكشاف 2/ 187 (¬2) الكشاف 2/ 255، وانظر التفسير الكبير 21/ 105 - 106 (¬3) الكشاف 1/ 313

والمقام في كل آية من الآيتين يقتضي ذلك فبناء الفعل للمجول في الثانية (وإذ قيل لهم) بخلاف الأولى (وإذا قلنا) بإسناد الفعل إلى نفسه سبحانه، وقوله (اسكنوا هذه القرية وكلوا) أي أن الأكل مع السكن والاستقرار لا بمجرد الدخول كما في الأولى (ادخلوا فكلوا) وحذف (رغدا) من الثانية بخلاف الأولى، وقوله (نغفر لكم خطيئاتكم) والخطيئات جمع قلة بخلاف الأولى (نغفر لكم خطاياكم) والخطايا جمع كثرة ناسب ذلك حذف الواو الدالة على الاهتمام والتحقيق في الثانية بعكس الآية الأولى (¬1). ¬

_ (¬1) انظر معترك الأقران 1/ 87 - 88

الأفعال الناقصة (كان وأخواتها)

الأفعال الناقصة (كان وأخواتها) ذهب جمهور النحاة إلى أن هناك في العربية أفعالا تسمى أفعالا ناقصة وأشهرها: كان وظل، وأصبح وأضحى، أمسى بات، صار، ليس، مازال، ما برح، ما فتيء، ما انفك، ما دام. واختلفوا في سبب تسميتها ناقصة، فذهب أكثر النحاة إلى أنها سميت ناقصة، لأن سائر الأفعال تدل على الحدث والزمن، في حين أن هذه الأفعال لا تدل على الحدث، وإنما هي تدل على الزمن فقط فكانت ناقصة لتجردها من الحدث. وذهب آخرون إلى أنها سميت ناقصة، لأنها لا تكتفي بمرفوعها وإنما هي تفتقر إلى المنصوب أيضا، فتسمية هذه الأفعال كذلك لنقصانها عن بقية الأفعال، بالإفتقار إلى شيئين. (¬1) ونحو هنا لا نريد أن نبحث فكرة النقص والتمام، لأن الذي يعنينا في بحثنا هذا هو الاستعمال والمعنى، وهذا هو المقصد الأول من هذا البحث، وعلى آية حال لا شك أن هذه الأفعال تدخل كثيرا على اسم مرفوع ومنصوب، أصلهما عند الجمهور مبتدأ وخبر، وقد تكتفي بمرفوعها وتسمى حينئذ تامة. وهي لا تدخل على المبتدأ اللازم الصدر كأسماء الشرط والأستفهام والمقرون بلام الابتداء عدا ضمير الشأن، ولا تدخل على المبتدأ اللازم الحذف، كالمخبر عنه بنعت مقطوع، ولا ما لزم الابتداء كقولهم: أقل رجل يقول ذاك، ولله درك، وما التعجبية، وما تضمن معنى الدعاء كقولهم: سلام عليك وويل له، وكذا مصحوب لولا الامتناعية وإذا الفجائية. (¬2) ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 225، حاشية الصبان 1/ 225، أسرار العربية 133 - 134، التصريح 1/ 190، ابن يعيش 7/ 89، الرضي على الكافية 2/ 321 (¬2) التصريح 1/ 183 - 184، حاشية التصريح 1/ 183، حاشية الخضري على ابن عقيل 1/ 110، همع الهوامع 1/ 113، الرضي على الكافية 2/ 329

كان

كما لا تدخل على الخبر إذا كان جملة طلبية، فلا يقال (كان زيد أضربه)، وشرط ما تدخل عليه، صار وما بمعناها، ودام وزال، وأخواتها، زيادة على ما سبق، أن لا يكون خبره فعلا ماضيًا فلا يقال: (صار زيد علم)، وكذا البواقي لأنها تفهم الدوام على الفعل، واتصاله بزمن الأخبار، والماضي يفهم الانقطاع وهذا متفق عليه (¬1). كان ذهب أكثر النحاة إلى أن (كان) ليس فيها عنصر الحدث وإنما تجردت للزمن فقط، قال ابن يعيش "وأما كونها ناقصة فإن الفعل الحقيقي يدل على معنى وزمان نحو قولك (ضرب) فإنه يدل على ما مضى من الزمان فقط، و (يكون) تدل على ما أنت فيه، أو على ما يأتي من الزمان، فهي تدل على زمان فقط فلما نقصت دلالتها كانت ناقصة .. إلا أنها لما دخلت على المبتدأ والخبر، وأفادت الزمان في الخبر، صار الخبر كالعوض من الحدث فلذلك لا تتم الفائدة بمرفوعها، حتى تأتي بالمنصوب" (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): "وما قال بعضهم من أنها سميت ناقصة، لأنها تدل على الزمان دون المصدر ليس بشيء لأن (كان) في نحو: (كان زيد قائمًا)، يدل على الكون الذي هو الحصول المطلق، وخبره يدل على الكون المخصوص وهو كون القيام أي حصوله، فجيء أولا بلفظ دال على حصول ما، ثم عين بالخبر ذلك الحاصل، فكأنك قلت: حصل شيء، ثم قلت: حصل القيام، فالفائدة في إيراد مطلق الحصول أولا. ثم تخصيصه كالفائدة في ضمير الشأن على قبل (¬3) تعين الشأن .. مع فائدة أخرى ههنا وهي دلالته على تعيين زمان ذلك الحصول المقيد، ولو قلنا (قام زيد)، لم تحصل هاتان الفائدتان معًا فكان يدل على حصول حدث مطلق تقييده ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 184، همع الهوامع 1/ 113، الرضى على الكافية 2/ 329، حاشية الصبان 1/ 226، حاشية الخضري 1/ 110 (¬2) ابن يعيش 7/ 98 - 90، وانظر أسرار العربية 133 - 134 (¬3) ورد في طبعة أخرى بحذف (على) وهو الراجح

معانيها واستعمالاتها

في خبره، وخبره يدل على حدث معين واقع في زمان مطلق تقييده في كان، لكن دلالة (كان) على الحدث المطلق أي الكون، وضعية ودلالة الخبر على الزمان المطلق عقلية .. فمعنى (كان زيد قائمًا) إن زيدا متصف بصفة القيام، المتصف بصفة الكون، أي الحصول والوجود" (¬1). والحقيقة إنها تدل على الحدث الذي هو الكون، بدليل أنه يأتي منها المصدر واسم الفاعل قال الشاعر. وكونك إياه عليك يسير وقال وما كل من يبدي البشاشة كائنًا ... أخاك إذا لم تلفه لك منجدا والمصدر هو الحدث المجرد من الزمن، واسم الفاعل يدل على الحدث، وذات الفاعل فهي إذن تدل على الحدث وهو الكون معانيها واستعمالاتها (كان) فعل ماض ناقص، غير أنها لا تختص بالماضي فقط، بل قد تكون لغيره كما يرى قسم كبير من النحاة وأبرز معانيها التي تأتي إليها هي: 1 - الماضي المنقطع: وهو الغالب عليها كأن تقول: (كان عمر عادلا) و (كان خالد غنيا وأصبح فقيرًا) ومنه قوله تعلى: {كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا} [التوبة: 69]، وقوله: {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض} [النمل: 48] (¬2). ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 221 (¬2) الهمع 1/ 120، البرهان 4/ 127 - 122، الاتقان 1/ 168

والماضي المنقطع على ضربين: أ - ضرب يراد به الاتصاف بالحدث في الزمن الماضي على وجه الثبوت نحو (كان محمدًا شاعرا) و (كانوا أشد منكم قوة) أي متصفين بهذه الصفات على وجه الثبوت، وهذا إذا كان خبرها اسمًا. ب - وضرب يراد به أنه حصل مرة، ولم يكن وصفا ثابتًا، وذلك إذا كان خبرها فعلا ماضيًا، وذلك كقوله تعالى: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار} [الأحزاب: 15]، أي أحدثوا معه عهدا سابقا قال ابن يعيش: "لا يحسن وقوع الفعل الماضي في خبر (كان) لأن أحد اللفظين يغني عن الآخر" (¬1). وهذا مردود فقد ورد في القرآن ذلك في الشرط وغيره قال تعالى: {فلما رءا قميصه قد من دبر} [يوسف: 28]، وقال {إن كنت قلته فقد علمته} [المائدة: 116]، وقال: {تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر} [القمر: 14]، وقال: {فلولا كانت قرية أمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} [يونس: 98]. فإذا كان خبرها فعلا ماضيا، دل على أن الأمر حصل مرة فثمة فرق بين قولنا (كان محمد كاتبًا) وقولنا (كان محمد كتب في هذا الأمر) فالأول وصف دائم، والثاني لمن قام بالفعل مرة واحدة، ونحوه قولك (كان زيد فاجرًا) أي متصفا بالفجور. و (كان زيد فجر) أي حصل له ذلك مرة ومنه قوله: فاغفر له اللهم إن كان فجر ونحوه قولك: (كان زيد كاذبا) أي متصفا بالكذب و (كان زيد كذب) أي مرة. 2 - الماضي المتجدد والمعتاد: وذلك إذا كان خبرها فعلا مضارعًا وهو نوعان: ¬

_ (¬1) ابن يعيش 7/ 97

أ - الماضي المستمر وهو ما حدث مرة وكان مستمرا في حينه نحو (كنت اقرأ في كتابي فجاءني خالد) أي كنت مستمرًا على القراءة فجاءني خالد. ب - الماضي المعتاد أو الدلالة على العادة في الماضي، أي كان الفاعل يعتاد الفعل نحو (كان يقوم الليل) و (كان زيد يفعل هذا الأمر) قال تعالى: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون} [الذاريات: 17]، أي هذه عادتهم. وقال: {وكان يأمر أهله بالصلاة} [مريم: 55]، أي كان مستمرًا على ذلك وقال {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} [الأعراف: 137]. وقال: {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباءنا} [الأعراف: 70]. فهذه كلها تدل على الماضي المستمر أو العادة جاء في (البرهان): "ومن هذا الباب الحكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ (كان يصوم) و (كنا نفعل)، وهو عند أكثر الفقهاء والأصوليين يفيد الدوام، فإن عارضه ما يقتضي عدم الدوام مثل أن يروى (كان يمسح مرة)، ثم نقل عنه (أنه يمسح ثلاثا) فهذا من باب تخصيص العموم" (¬1). وقد تدل على الاعتياد في الماضي إذا كان خبرها شرطًا نحو قولنا: (كان محمد إذا سئل أعطى) ومنه قوله تعالى: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} [الصافات: 35]. 3 - توقع الحدوث في الماضي: تقول (كان محمد سيفعل هذا) أي كان متوقعًا منه الفعل في الماضي، أو بمعنى أنه كان ينوي فعله في الماضي جاء في (الخصائص): "كان زيد سيقوم أمس: أي كان متوقعًا منه القيام فيما مضى" (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان 4/ 125 (¬2) الخصائص 3/ 332

4 - الدوام والاستمرار بمعنى (لم يزل) وجعلوا منه قوله تعالى: {وكان الله غفورا رحيما} [النساء: 96]، وقوله: {وكنا بكل يء عالمين} [الأنبياء: 81]، أي لم نزل كذلك (¬1)، وقوله: {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11]، ونحوها جاء في (التسهيل): "وتختص كان بمرادفة (لم يزل) كثيرًا" (¬2). وجاء في (الهمع): "تختص كان بمرادفة لم يزل كثيرا، أي أنها تأتي دالة على الدوام وأن كان الأصل فيها أن يدل على حصول ما دخلت عليه، فيما مضى مع انقطاعه عند قوم وعليه الأكثر كما قال أبو حيان، أو سكوتها عن الانقطاع وعدمه عند آخرين وجزم به ابن مالك، ومن الدالة على الدوام الواردة في صفات الله تعالى نحو: {وكان الله سميعا بصيرا} [النساء: 134]، أي لم يزل متصفا بذلك" (¬3). وأنكر بعضهم مجيئها لهذا المعنى، قال الرضي: "وذهب بعضهم إلى أن (كان) يدل على استمرار مضمون الخبر في جيع زمن الماضي، وشبهته قوله تعالى: {وكان الله سميعًا بصيرا} وذهل أن الاستمرار مستفاد من قرينة وجوب كون سميعًا بصيرًا من لفظ (كان). ألا ترى أنه يجوز (كان زيدا نائمًا نصف ساعة فاستيقظ) وإذا قلت (كان زيدا ضاربًا) لم يستفد الاستمرار، وكان قياسًا ما قال أن يكون (كن)، و (يكون) أيضًا للاستمرار" (¬4). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]، "كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طاريء ومنه قوله تعالى: ¬

_ (¬1) الاتقان 1/ 168 البرهان 4/ 137، 121 (¬2) التسهيل 55 (¬3) الهمع 1/ 120 (¬4) الرضي على الكافية 2/ 324

{وكان الله غفورا رحيما}، ومنه قوله تعالى {كنتم خير أمة}، كأنه قيل: وجدتم خير أمة" (¬1). وجاء في (البرهان): "وقد اختلف النحاة وغيرهم في أنها تدل على الانقطاع على مذاهب: أحدها: أنها تفيد الانقطاع لأنه فعل يشعر بالتجديد. والثاني: لا تفيده بل تقتضي الدوام والاستمرار .. وقال الراغب في قوله تعالى {وكان الشيطان لربه كفورا} [الإسراء: 27]، نبه بقوله (كان) على أنه لم يزل منذ أوجد منطويا على الكفر. والثالث: أنه عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل عدم سابق، ولا على انقطاع طاريء، ومنه قوله تعالى {وكان الله غفورا رحيما} قاله الزمخشري في قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس} .. والصواب من هذه المقالات مقالة الزمخشري، وأنها تفيد اقتران معنى الجملة التي تليها بالزمن الماضي لا غير ولا دالة لها في نفسها على انقطاع ذلك المعنى، ولا بقائه، بل إن أفاد الكلام شيئا من ذلك كان لدليل آخر .. فحيث وقع الأخبار بـ (كان) عن صفة ذاتية (الله)، فالمراد الأخبار عن وجودها. وإنها لم تفارق ذاته، ولهذا يقررها بعضهم بما زال، فرارا مما يسبق إلى الوهم، إن كان يفيد انقطاع المخبر به عن الوجود لقولهم: دخل في خبر كان .. وحيث وقع الإخبار بها عن صفة فعلية، فالمراد تارة الأخبار عن قدرته عليها في الأزل نحو كان الله خالقا ورازقا ومحييا ومميتا، وتارة تحقيق نسبته إلىه نحو {وكنا فاعلين} [الأنبياء: 79]، وتارة ابتداء الفعل وانشاؤه نحو {وكنا نحن الوارثين} [القصص: 58] .. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 342

وحيث أخبر بها عن صفات الآدميين، فالمراد التنبيه على أنها فيه عزيزة وطبيعة مركوزة في نفسه نحو {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11]، {وإنه كان ظلومًا جهولا} [الأحزاب: 72]. وحيث أخبر بها عن أفعالهم دلت على اقتران مضمون الجملة، بالزمان نحو {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} [الأنبياء: 90] " (¬1). والذي أراه في نحو قوله تعالى: {إن الله كان سميعًا بصيرًا} [النساء: 58]، وقوله: {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11]، أن معناه أنه هذا كونه، أي إن الله كونه عليم حكيم، أي هذا وجوده وحقيقته وصفته، وإن الإنسان كونه عجول منذ خلق، وكذلك قوله: {وكان الإنسان قتورًا} [الإسراء: 100]، أي هذا كونه الذي وجد عليه وخلقته التي خلق عليها، وكذلك قوله: {إن الباطل كان زهوقا} [الإسراء: 81]، أي هذا شأنه وكونه منذ القدم. ونحو ذلك قوله تعالى {إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا} [النساء: 101] أي منذ القديم بخلاف قولنا (هم لكم عدو) فإنه ليس الوغول في القدم. وقد يأتي لمعنى آخر وذلك إن قوله تعالى: {إن الله كان عليمًا حكيمًا} [النساء: 11]، أي يعلم الأمر قبل وقوعه وهذا أكمل من العلم عند الوقوع أو بعده. قال تعالى: {وكنا بكل شيء عالمين} [الأنبياء: 81] وهذا فيما أرى أكمل من القول ونحن بكل شيء عالمون ذلك لأن هذا كان قبل وقوعه، فهو علم بما لم يقع بخلاف نحن عالمون فإنه ليس نصبا في ذلك، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر كنت تنهاه عنه فلم ينته، فجاءه منه سوء لم يكن في حسبانه: "أنا كنت عارفا بهذه النتيجة منذ زمن طويل وكنت أعلمها علم اليقين" لتدل على مقدار علمك وصدق ضنك البعيد في الزمن. قال تعالى {آباءكم وأبناءكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيمًا} [النساء: 11]، فجاء بـ (كان) ذلك أن الآية في مقام التشريع لأمر مجهول ¬

_ (¬1) البرهان 4/ 121 - 125

لا يعلم حقيقته البشر فإننا لا ندري من أقرب لنا نفعًا آباؤنا أو أبناؤنا. والمطلوب من الشارع أن يكون عارفًا بالأمر قبل وقوعه، حتى يكون تشريعه سليما صحيحا، ونحن لا نعلم بالشيء إلا بعد وقوعه أو بعد ظهور الأمارات الدالة عليه، ولكن الله عليم بذلك منذ الأزال فناسب أن يجيء بكان مقابل جهل الإنسان المستمر فإنه لما ذكر طبيعة الإنسان في الجهل بقوله: {آباؤك وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا} ناسب ذلك أن يجيء بعلم الله وحكمته القديمين فقال: {إن الله كان عليمًا حكيمًا}، والله أعلم. 5 - الدلالة على الحال، وجعل منه قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]، وقوله: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء: 103] (¬1)، ومنه قوله تعالى: {مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} [النمل: 20]، وقوله: {لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين} [يس: 70]، وقوله: {اما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبين} [الأحزاب: 40]. والذي أراه أنها بمعنى المضي فمعنى قوله: {كنت خير أمة}: "وجدتم خير أمة، وقيل كنتم في علم الله خير أمة، وقيل كنتم في الأمم مذكورين بأنك خير أمة موصوفين به" (¬2)، وقوله: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتا} أي فرضت عليهم أو كتبت عليهم كما قال تعالى: {يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183]، فهي مفروضة على المؤمنين منذ القديم. وكذلك البواقي. 6 - الإستقبال: وجعل منه قوله تعالى: {ويخافون يومًا كان شره مستطيرا} [الإنسان: 7] (¬3)، ونحوه قوله تعالى: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} [الإنسان: 5]، وقوله: {إن الإنسان أمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا} [الكهف: 107]. ¬

_ (¬1) الاتقان 1/ 168، البرهان 4/ 127 (¬2) الكشاف 1/ 342 (¬3) الاتقان 1/ 168، البرهان 4/ 127

والذي أراه في مثل هذا أنه من باب تنزيل المستقبل منزلة الماضي، لبيان أنه محقق الوقوع وأنه بمنزلة ما مضى وفرغ منه، وذلك نحو قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من السماوات ومن في الأرض}، [الزمر: 68]، وقوله: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} [الزمر: 73]، وهذا في القرآن كثير، فإن القرآن كثيرا ما يخبر عن المستقبل بلفظ الماضي لبيان أن هذا المستقبل بمنزلة ما مضى فكما أن الذي وقع وحصل لا شك فيه، فهذا كذلك. 7 - بمعنى صار: وجعلوا منه قوله تعالى: {وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا} [النبأ: 19 - 20]، وقوله: {وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة} [الواقعة: 5 - 7] (¬1). (جاء في شرح ابن يعيش): "والعرب تستعير هذه الأفعال فتوقع بعضها مكان بعض فأوقعوا (كان) هنا موقع (صار) لما بينهما من التقارب في المعنى لأن (كان) لما انقطع وانتقل من حال إلى حال، ألا تراك تقول: قد كنت غائبا وأنا الآن حاضر، فصار كذلك تفيد الانتقال من حال إلى حال، نحو قولك (صار زيد غنيا) أي أنتقل من حال إلى هذه الحال كما استعملوا (جاء) في معنى (صار) في قولهم: ما جاءت حاجتك؟ لأن (جاء) تفيد الحركة والانتقال كما كانت (صار) كذلك" (¬2). والذي أراه أنه ليست كان بمعنى صار، وإنما لها معنى أخر فإنك لو أبدلت (صار) بـ (كان) ما سدت مسدها، فإذا قلت بدل قوله تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت ورده كالدهاء} [الرحمن: 37]، فصارت وردة، أو بدل قوله تعالى: {وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا} فصارت أبوابًا وسرابًا لم تجد المعنى كما كان ثم. فإن المقصود بصار هو التحول والصيرورة وقد يكون هذا التحول بعد مدة كأن تقول: ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 230، الهمع 1/ 114، أسرار العربية 136 - 137، منثور الفوائد 111، الاتقان 1/ 168، البرهان 4/ 127 (¬2) ابن يعيش 7/ 102

صار الطين حجرًا وصار محمد شيخًا، فالصيروة قد تقتضي الزمن الطويل بخلاف (كان) فإنها تطوي الزمن فقوله تعالى {فكانت أبوابًا} أي كان هذا شأنها منذ الماضي وكأن هذا هو وجودها، ونحو {وبست الجبال بسًا. فكانت هباء منبثا} كأنه حالتها الجديدة حاصلة قبل النظر والمشاهدة، وكأنها هي هكذا منذ القدم. 8 - بمعنى ينبغي وبمعنى القدرة والاستطاعة نحو: (ما كان له أن يفعله) أي ما أنبغي له ذلك ونحوه قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله} [آل عمران: 79]، أي ما ينبغي له، وذلك بدلالة قوله تعالى: {ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} [الفرقان: 18]. وفي (الكشاف): " ما يكون لي: ما ينبغي لي " (¬1). وتأتي بمعنى القدرة والاستطاعة نحو قوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} [آل عمران: 145]، وقوله: {فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم ما أن تنبتوا شجرها} [النمل: 60]، أي لا تستطيعون ذلك. جاء في (الإتقان): "وترد (كان) بمعنى ينبغي نحو {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} [النور: 16] (¬2) ". جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا} [النساء: 92]. " وما كان لمؤمن: وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله، كقوله: {وما كان لنبي أن يغل} [آل عمران: 161]، [وما يكون لنا أن نعود فيها] [الأعراف: 89] (¬3) ". ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 491 (¬2) الاتقان 1/ 168، وانظر البرهان 4/ 311 (¬3) الكشاف 1/ 416

وجاء في (التفسير الكبير) للرازي في قوله تعالى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} [الأنفال: 67]، "ما كان: معناه النفي والتنزيه، أي ما يجب وما ينبغي أن يكون له المعنى المذكور ونظيره: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} [مريم: 35] (¬1) ". 9 - قد تقتصر على مرفوعها فتكون تامة بمعنى وجد ووقع كقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280]، وقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]، وكقولهم (المقدور كائن (¬2)) وكقوله: إذا كان الشتاء فأدفئوني ... فإن الشيخ يهجمه الشتاء قال سيبويه: "قد يكون لكان موضع آخر يقتصر على الفاعل فيه تقول: قد كان عبدُ الله أي قد خلق. وقد كان الأمر أي وقع الأمر (¬3) ". وتأتي كان بمعنى غزل، وبمعنى كفل يقال: كانت المرأة الصوف إذا غزلته، وكان فلان الصبي إذا كفله (¬4). 10 - قد يأتي زائدة نحو (ما كان أحسن زيدًا) وليس معنى الزيادة ألا يكون لها معنى البتة في الكلام، بل أنها لم يؤت بها للإسناد (¬5). وهي تزاد للدلالة على أحد غرضين: أ - الدلالة على الزمن نحو (ما كان أحسن زيدًا) فإنها تدل على الزمن الماضي جاء في (الكتاب): "وتقول ما كان أحسن زيدًا فتذكر كان لتدل أنه فيما مضى" (¬6). ¬

_ (¬1) التفسير الكبير 15/ 200 (¬2) شرح المفصل 1/ 97 (¬3) سيبويه 1/ 21 (¬4) الأشموني 1/ 236 (¬5) شرح قطر الندى 138، التصريح 1/ 1910 192 (¬6) سيبويه 1/ 37، وانظر ابن يعيش 1/ 98 - 99، الصبان 1/ 239 - 240

وبعض النحاة لا يسمى نحو هذا زائدًا جاء في (شرح الرضى على الكافية): "أعلم أن كان تزاد غير مفيدة لشيء إلا محض التأكيد .. وإما إذا دلت (كان) على الزمن الماضي ولم تعمل نحو (ما كان أحسن زيدًا) .. ففي تسميتها زيادة نظر لما ذكرنا إن الزائد من الكلام عندهم، لا يفيد إلا محض التأكيد، فالأولى أن يقال: سميت زيادة مجازًا لعدم عملها. وإنما جاز أن لا تعملها مع أنها غير زائدة، لأنها كانت تعمل لدلالتها على الحدث المطلق الذي كان الحدث المقيد في الخير يغني عنه لا لدلاتها على زمن الماضي لأن الفعل، إنما يطلب الفاعل والمفعول، لما يدل عليه من الحدث، لا للزمان، فجاز لك أن تجردها في بعض المواضع عن ذلك الحدث المطلق، لأغناء الخبر عنه فإذا جردتها لم يبق إلا الزمان، وهو لا يطلب مرفوعا ولا منصوبا فبقي كالظرف دالا على الزمان فقط، فلذا جاز وقوعه موقعًا لا يقع غيره فيه حتى الظرف تبيينا لإلحاقه بالظروف التي يتسع فيها فيقع بين ما التعجب وفعله وبين الجار والمجرور نحو: على كان المسومة، فثبت أن كان المفيدة للماضي التي لا تعمل مجردة عن الدلالة على الحدث المطلق" (¬1). وعلى أي حال فالخلاف فيما أراه لفظي، لأن كليهما يقول أنها ليست عاملة وإنما هي لمجرد الزمن. وأما قول الرضي "أن الزائد من الكلم عندهم لا يفيد إلا محض التأكيد"، ففيه نظر فمن المعلوم أن (من) الاستغراقية تزاد لا لمحض التأكيد، وإنما دفعًا لتوهم الوحدة نحو: هل جاءك رجل؟ لكان محتملاً في الجنس وفي الواحد. وكذلك قولهم (جئت بلا زاد) فـ (لا) زائدة بين العامل والمعمول وفيها معنى النفي وليست لمحض التأكيد. وهذا نحو ذاك. ب - أن تزاد لضرب من التأكيد وذلك كقول الشاعر: جياد بني أبي بكر تسامي ... على كان المسومة العراب ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 225

نفيها

فليس في هذا دلالة على الزمن وإنما أدخلت لضرب من التأكيد (¬1). جاء في (المقتضب) في قولنا: (أن زيدًا كان منطلق) أن كان زائدة مؤكدة للكلام (¬2). ونحوه قول بعض العرب: (ولدت فاطمة بنت الخرشب الكملة من بني عبس لم يوجد كان مثلهم) فإنها زيدت لتأكيد المضي. (¬3) ثم إن كان قد تزاد وحدها نحو (على كان المسومة العراب) أو تزاد مع مرفوعها نحو (وجيران لنا كانوا كرام) وهذا الأخير قريب الشبه بالغاء ظن مرفوعها في نحو قولنا: زيد ظننت قائم. ثم إن الأصل في زيادتها أن تزاد بلفظ الماضي وشذ زيادتها بلفظ المضارع، نحو قول أم عقيل: أنت تكون ماجد نبيل نفيها لا نريد أن نبحث ههنا كل حالات النفي، فإن هناك حالات تتعلق بعموم الأفعال، وإنما نريد ههنا أن نبحث أربعة استعمالات تتعلق بكان كثيرًا وهي: 1 - ما كان يفعل. 2 - كان لا يفعل. 3 - ما كان ليفعل (لام الجحود). 4 - ما كان له أن يفعل. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 1/ 100، الصبان 1/ 229 - 240، الرضي على الكافية 2/ 325 (¬2) المقتضب 4/ 116 - 117، وانظر الأصول لابن السراج 1/ 106 (¬3) التصريح 1/ 191 - 192

1 - ما كان يفعل

1 - ما كان يفعل نحو: ما كنت أكتب وما كنت أحفظ. تقول هذا التعبير لأحد معنيين: نفي الحدث في وقت مهين، كأن يقول لك صاحبك (مررت بك أمس وأظنك كنت تكتب) فتقول له: ما كنت أكتب، ولا تقول: كنت لا أكتب. وتقول: ما كنت أشرب الماء لمن ظن أنك كنت تفعل ذاك في وقت ما، ولا يصح أن تقول: كنت لا أشرب الماء. وتقول: (ما كنت أرد عليه) لمن ظن أنك كنت ترد على زيد في وقت ما، ولا تقول: كنت لا أرد عليه. والمعنى الثاني على نفي الحدث قبلا كأن تقول: (ما كنت أقرأ ولا أكتب) أي ما كنت أعرف القراءة والكتابة، ونحوها: (ما كنت أحفظ شعرًا) أي لم يتسن لي ذلك لأي سبب كان ونحو ذلك قوله تعالى: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48]. 2 - كان لا يفعل: أن النفي في هذا التعبير مسلط على (يفعل) وليس على الكون بخلاف (ما كان يفعل). ففي التعبير (كان لا يفعل) تثبت له عدم الفعل، وفي (ما كان يفعل) لا تثبت له الفعل. وهذا كما تقول (تثبت أنه لا يفعل) و (ما ثبت أنه يفعل) ففي العبارة الأولى تثبت له عدم الفعل، وفي الثانية تنفي ثبات الفعل، وبعبارة أخرى إن الأمر في العبارة الأولى ثبت، وفي الثانية لم يثبت. ونحو هذا قولك (زعمت أنه لا يقول الشعر) و (ما زعمت أنه يقول الشعر) ففي الجملة الأولى أثبت الزعم، أي إنه قال: هو لا يقول الشعر، وفي الثانية نفيت الزعم أصلا أي إنه لم يقل ذلك، ونحو هذا قولك (قلت أنه لا يحضر) و (ما قلت أنه يحضر) ففي الأولى قال، وفي الثانية لم يقل، وقولك (ظننت أنه لا يفعل) و (ما ظننت أنه يفعل) ففي الأولى ظن، وفي الثانية لم يظن. وأنت ترى الفرق واضحًا في نحو قولنا (ما كنت أنتظرك ولكن جئت من غير انتظار) وقولك (كنت لا أنتظرك) أي أنا أتعمد عدم انتظارك.

وتقول (ما كان يلتقي به) و (كان لا يلتقي به) ففي العبارة الثانية هو يتجنب الالتقاء به مع إمكانه ذلك، وفي الأولى نفيت الإلتقاء به، وقد يكون ذلك لأنه لم يتهيأ له فرصة لقاء، فالعبارة الثانية أفادت أنه كان يتعمد عدم اللقاء بخلاف الأولى. وتقول (ما كان يقرأ القرآن) وتقول (كان لا يقرأ القرآن) أي تعمد عدم قراءته، ففي الثانية من العمد والقصد على عدم الفعل ما ليس في الأولى، فقد يكون معنى الأولى أنه لم يكن يعرف قراءته وقد يحتمل غير ذلك، وأما في الثانية فقد أثبت أنه لا يريد قراءته. وبهذا يتضح أن ثمة فرقًا بين قوله تعالى: {وما كنت ترجوا أن يلقي إليك الكتاب} [القصص: 86]، وقوله: {إنهم كانوا لا يرجون حسابًا} [النبأ: 27] وقوله: {بل كانوا لا يرجون نشورا} [الفرقان: 40]، ففي الآية أولى أخبر الله عن حال رسوله قبل البعثة أنه لم يكن يفكر في الكتاب والوحي، بل لم يكن يعلم عنهما شيئا كقوله تعالى {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52]، ولم يكن يأمل أن ينزل عليه كتاب بخلاف الثانية، فإن الكفار كانوا لا يرجون اليوم الآخر عن أصرار أي يتجنبون الإيمان به وينكرونه، فالأولى حال غفلة كما قال تعالى: {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} [يوسف: 3]، والثانية حال إصرار وعمد. ثم أن التعبير بـ (كان لا يفعل) يفيد الدأب والعادة وذلك نحو ما جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسل أنه (كان لا يقوم من مصلاه حتى تطلع الشمس) أي كان هذا دأبه وعادته. ونحوه ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان لا يطرق أهله ليلا وكان يأتيهم غدوة أو عشية). ولذا كان النفي بـ (كان لا يفعل) أطول زمنًا وأدوم وأعم من (ما كان يفعل) فإذا قال لك شخص (كنت تحفظ شعرًا عند ما جئتك) وأردت أن تنفي قوله قلت (ما كنت أحفظ شعرًا عندما جئتني) أو (لم أكن أحفظ شعرًا عندما ما جئتني) ولا تقول: (كنت لا أحفظ شعرًا عندما جئتني) لأن (لا يفعل) يفيد الدأب والعادة والاستمرار، ولكن يصح أن تقول (كنت لا أحفظ شعرًا عندما تأتيني) أي كان هذا دأبي وعادتي. وإذا قيل لك كان يسبح حينما ناديته قلت ما كان يسبح حينما ناديته أو لم يكن يسبح ولا تقول: كان لا يسبح حينما ناديته.

وإذا قيل لك: (كان يقرأ حينما جئته) قلت: (ما كان يقرأ حينما جئته) ولا تقول (كان لا يقرأ حينما جئته) فدل على أن (كان لا يفعل) أعم من (ما كان يفعل) وأدوم. قال تعالى: {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعًا} [الكهف: 101]، وقال: {ما كانوا يستطيعون السمع} [هود: 20]. قيل ومعنى الآية الأولى أنهم "كانوا صمًا عنه إلا أنه أبلغ لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صح به هؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا إستطاعة بهم للسمع (¬1) " وهو نفي لسماعهم على أتم وجه (¬2). وأما معنى آية هود فإنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويستكرهونه إلى أقصى الغايات وهو نظير قول القائل: هذا الكلام لا أستطيع سمعه وهذا مما يمجه سمعي (¬3). فالصنف الثاني يسمع إلا أنه يكره أن يسمع هذا القول بخلاف الصنف الأول فإنه أصم لا يسمع. فعبر عن الصنف الأول بـ (كان لا يفعل) وهو يفيد عدم السماع على وجه الدوام والاستمرار، وعن الصنف الثاني بـ (ما كان يفعل). وهذا لايختص بكان وحدها بل قد يكون في غيرها أيضًا، وذلك نحو قول الربيع بن ضبع الفزاري: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أحمل رأس البعير أن نفرا أي أصبح هذا شأنه وأمره، بمعنى أصبح ضعيفا لا يقوى على حمل السلاح، ولو قال (ما أصبحت أحمل السلاح) لاحتمل أن يكون ذاك من باب التوقيت، أي لم يصبح يحمل السلاح هذا اليوم وربما حمله في وقت آخر، فاتضح ما قلناه. ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 272، وانظر البحر المحيط 6/ 165، التفسير الكبير 21/ 173 (¬2) روح المعاني 16/ 45 (¬3) انظر الكشاف 2/ 94، روح المعاني 12/ 32

3 - ما كان ليفعل

3 - ما كان ليفعل: (لام الجحود)، وهي اللام الداخلة بعد كون ناقص ماض لفظًا، أو معنى منفي بما، أو لم، أو إن. وهذا التعبير يستعمل لتأكيد النفي، وذلك إن إثباته (كان سيفعل)، وفي السين معنى التأكيد، قال تعالى: {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 137]، تقول: كان سيكتب، فإذا أردت نفيه قلت: ما كان ليكتب. جاء في (الكتاب): "واعلم أن اللام قد تجيء في موضع لا يجوز فيها الإظهار (يعني أن) وذلك: ما كان ليفعل فصارت (أن) ههنا بمنزلة الفعل في قولك: إياك وزيدًأ. وكأنك إذا مثلت قلت: ما كان زيد لأن يفعل، أي ما كان زيد لهذا الفعل، فهذا بمنزلته ودخل فيه معنى نفي (كان سيفعل) فإذا قال هذا. قلت: ما كان ليفعل كما كان (لن يفعل) نفيًا لسيفعل وصارت بدلا من اللفظ". (¬1) وجاء في (المغني) أن لام الجحود تفيد توكيد النفي، وهي الداخلة في اللفظ على الفعل مسبوقة بما كان أو بلم يكن .. ووجه التوكيد عند الكوفيين أن أصل (ما كان ليفعل) ما كان يفعل ثم أدخلت اللام زيادة لتقوية النفي، كما أدخلت الباء في (ما زيد بقائم) لذلك، فعندهم أنها حرف زائد مؤكد غير جار ولكنه ناصب .. ووجهه عند البصريين أن الأصل، ما كان قاصدًا للفعل ونفي القصد أبلغ من نفيه ولهذا كان قوله: يا عاذلي لا تردن ملامتي ... إن العواذل لسن لي بأمير ابلغ من (لا تلمنني) لأنه نهي عن السبب. وعلى هذا فهي عندهم حرف جر معد متعلق بخبر كان المحذوف والنصب بأن مضمرة وجوبًا". (¬2) وجاء في (شرح الرضي على الكافية): "والتي لتأكيد النفي تختص من حيث الاستعمال بخبر كان المنفية إذا كانت كانت ماضية لفظا نحو: {وما كان الله ليعذبهم} [الأنفال: 33]، أو معنى نحو: {لم يكن الله ليغفر لهم} [النساء: 137]، وكأن هذه اللام في ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 408، وانظر الأشباه والنظائر 2/ 252 (¬2) المغني 1/ 211، الأشموني 3/ 291، الصبان 3/ 293، حاشية الخضري 2/ 113، ابن الناظم 277، التصريح 2/ 235 - 236، حاشية الخضري .. الهع 2/ 7 - 8، منثور الفوائد 112

الأصل هي التي في نحو قولهم (أنت لهذه الخطة) أي مناسب لها وهي تليق بك. فمعنى (ما كنت لأفعل): ما كنت مناسبًا لفعله ولا يليق بي ذلك، ولا شك إن في هذا معنى التأكيد" (¬1). جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} [الأعراف: 43]، : "اللام لتوكيد النفي يعنون وما كان يستقيم أن نكون مهتدين لولا هداية الله وتوفيقه (¬2) ". وجاء فيه في قوله تعالى: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} [الأعراف: 101]، : "ومعنى اللام تأكيد النفي وأن الإيمان كان منافيًا لحالهم في التصميم على الكفر (¬3) ". وجاء في (التفسير الكبير) في قوله تعالى: {لم أكن لأسجد لبشر} [الحجر: 33]: "اللام في قوله (لأسجد) لتأكيد النفي ومعناه لا يصح أن أسجد لبشر (¬4) ". وعلى كلا الرأيين، فالنفي مؤكد في مثل هذا التعبير. فعند البصريين أن المعنى ما كان مريدًا للفعل، أو قاصدًا له، أو مقدرًا له، وهذا أبلغ من نفي الفعل نفسه، لأن نفي القصد أبلغ من نفي الفعل نفسه. وعند الكوفيين أن اللام زائدة لتوكيد النفي كالباء الزائدة في نحو (ما محمد بذاهب) وأصل الكلام عندهم ما كان يفعل. وأن لا أرى أن (ما كان ليفعل) أصله (ما كان يفعل) أو هما بمعنى واحد، فإن قوله تعالى مثلا: {قال لم أكن لأسجد لبشرٍ خلقته من صلصال من حمإ مسنون} [الحجر: 33]، ليس بمعنى (لم أكن أسجد) فالبشر لم يكن موجودًا قبل ذاك، فلا يصح هذا التقدير. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 207 - 271 (¬2) الكشاف 1/ 548 (¬3) الكشاف 1/ 564، وانظر 1/ 364 (¬4) التفسير الكبير 19/ 183

إضمارها

ونحوه قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143]، فلا يصح أن يقال هو بمعنى (ما كان الله يضيع إيمانكم) وقوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33] لا يصح أن يقال هو بمعنى (ما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) وقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [التوبة: 122]، ليس بمعنى (ما كان المؤمنون ينفرون كافة) فثمة فرق بعيد بين التعبيرين والقصدين، ولكن هو على معنى لم أكن فاعلا للسجود أو قاصدًا له، وكذلك في الآيات الأخرى، نحو (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي مريدًا لإضاعة الإيمان أو مريدًا للتعذيب ونحوها، فتقدير البصريين أقرب إلى المعنى فيما هو ظاهر. جاء في (البرهان): "إذا قلت: (ما كنت أضربك) بغير لام جاز أن يكون الضرب مما يجوز كونه فإذا قلت (ما كنت لأضربك) فاللام جعلت بمنزلة ما لا يكن أصلا" (¬1). 4 - ما كان له أن يفعل: ومعناها ما لا ينبغي ولا يصح كما مر شرح ذلك إضمارها 1 - إضمار (كان) وحدها: تضمر كان وحدها في نحو قولهم: (أما أنت منطلقا انطلقت) بفتح الهمزة، ولا كلام قبل حذفها كان: (لأن كنت منطلقا انطلقت)، وهذه اللام الداخلة على (أن) حرف جر يفيد التعليل وأن مصدرية ومعناه: انطلق لانطلاقك، وأصل الكلام: (انطلقت لأن كنت منطلقا) ثم قدم الجار والمجرور للاهتمام، فصار (لأن كنت منطلقا انطلقت). فحذف حرف الجر لأمن البس، وهو جائز قياسًا فصار (أن كنت منطلقا انطلقت) ثم حذفت (كان) اختصارا فصار الكلام (أن أنت منطلقا انطلقت) والضمير هو اسم كان الذي كان متصلا بها، ثم زيدت (ما) عوضا عن المحذوف، فصار (أن ما) ثم أدغمت النون في الميم فصار: أما أنت منطلقا انطلقت. والمصدر المؤول مفعول لأجله أو منصوب على نزع الخافض. ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 87

وهذا يمكن أن يحصل في كل موضع أريد فيه تعليل فعل بفعل (¬1). وذهب الكوفيون إلى أن (أن) المفتوحة هنا شرطية، ولذلك دخلت الفاء في جوابها في قول الشاعر: أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع قال أبو سعيد السيرافي: "اتفق الكوفيون والبصريون على وجوب حذف الفعل في نحو: (أما أنت منطلقا انطلقت) واختلفوا في المعنى، فالكوفيون يقولون هو بمعنى (إن) وإن (أن) المفتوحة فيها معنى (إن) التي للمجازاة ويحملون قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282]، عليه، والبصريون يقولون إنه على معنى التعليل أي: لأن كنت منطلقا انطلق معك وشبهوها بإذ. ولأجل أن الثاني استحق بالأول جاز دخول الفاء في الجواب" (¬2). وأما إذا كانت (إما) مكسورة فلا يجوز حذف الفعل بعدها، وهي شرط محض، قال سيبويه: "ومن ذلك قول العرب: أما أنت منطلقا انطلقت معك، وأما زيد ذاهبا ذهبت معه وقال الشاعر (العباس بن مرداس): أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع. فإنما هي (أن) ضمت إليها (ما) وهي (ما) التوكيد لزمت كراهية أن يجحفوا بها، لتكون عوضا من ذهاب الفعل .. فإن أظهرت الفعل قلت: (إما كنت منطلقا انطلقت) إنما تريد إن كنت منطلقا انطلقت، فحذفت الفعل لا يجوز ههنا، كما لم يجز ثم إظهاره لأن (أما) كثرت في كلامهم، واستعملت حتى صارت كالمثل المستعمل، وليس كل حرفٍ هكذا (¬3) ". ¬

_ (¬1) انظر شرح قطر الندى 139، التصريح 1/ 194 - 195، ابن عقيل 1/ 118، الأشموني 1/ 244 (¬2) حاشية على المفصل 1/ 214، حاشية الصبان 2/ 244 (¬3) سيبويه 1/ 147 - 148

وقال ابن يعيش: "ولا يجوز إظهار الفعل بعد (أما) هنا لما ذكرناه من كون (ما) نائبة عنه، وإن أظهرت الفعل لم تكن (إما) إلا مكسورة نحو قولك: (إما كنت منطلقا انطلقت معك)، فيكون شرطا محضا، ولا يجوز حذف الفعل بعد إما المكسورة، كما لم يجز إظهاره بعد أما المفتوحة وذلك أن (أما) المفتوحة كثر استعمالها حتى صارت كالمثل الذي لا يجوز تغييره" (¬1). وأرى إن ما ذهب إليه البصريون، من أن (أما) المفتوحة تفيد التعليل، أرجح إذهما تعبيران أحدهما يفيد التعليل، والآخر يفيد الشرط، فأنت تقول: (أحبه إن عدل) أي أحبه إن فعل ذلك في المستقبل. وتقول: "أحبه أن عدل" أي أحبه لكونه عدل في الماضي، أي أحبه لأنه عدل، فهنا تعلل أمرًا قد حصل وذلك أمر مشروط. فالعبارة بحذف الفعل، وفتح همزة (أن) تفيد التعليل وهي بكسر الهمزة وإبقاء الفعل تفيد الشرط. وأظن أن هذا أقرب إلى طبيعة اللغة، فالأصل أن يكون التعبيران المختلفان يؤديان معنيين مختلفين، ثم إن الأصل في (أن) المفتوحة أن تكون مصدرية لا شرطية. 2 - إضمارها مع اسمها: وقد تضمر كان مع اسمها اخصارا واعتمادا على فهم السامع ويكثر ذلك بعد إن ولو الشرطيتين، ومن ذلك قولهم (الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرًا، فخير وإن شرًا فشر) أي إن كانت أعمالهم خيرًا فجزاؤهم خير، وإن كانت شرًا فجزاؤهم شر، ومنه الحديث (التمس ولو خاتمًا من حديد) أي ولو كان الملتمس، وإن شئت أظهرت الفعل فتقول إن كانت خيرًا فجزاؤهم خير (¬2). ¬

_ (¬1) ابن يعيش 2/ 99 (¬2) انظر كتاب سيبويه 1/ 130، الأشموني 1/ 242، التصريح 193، ابن عقيل 1/ 117، الهمع 1/ 121 - 123، ابن الناظم 58

حذف نون كان المجزومة

حذف نون كان المجزومة يقول النحاة أن نون كان قد تحذف تخفيفا لكثرة الاستعمال، بشرط أن يكون الفعل مجزومًا بالسكون وألا يليه حرف ساكن. قال ابن عقيل: "حذفوا النون بعد ذلك لكثرة الاستعمال فقالوا (لم يك) وهو حذف جائز لا لازم، ومذهب سيبويه ومن تابعه أن هذه النون لا تحذف عند ملاقاة ساكن فلا نقول: لم يك الرجل قائمًا وأجاز ذلك يونس .. وأما إذا لاقت متحركًا فلا يخلو إما أن يكون ذلك المتحرك ضميرًا متصلا، أو لا فإن كان ضميرًا متصلا لم تحذف النون اتفاقًا" (¬1). وهذا الكلام صحيح غير أن البليغ لا يحذف لمجرد التخفيف، وإنما لغرض بلاغي يقتضيه المقام، نعم قد يضطر إلى ذلك في شعر أو نحوه، ولكن في اختيار الكلام لا يفعل ذلك لمجرد التخفيف. لقد حذفت النون من كان المجزومة سبع عشرة مرة في القرآن الكريم، ولم تحذف مع إمكان الحذف في سبعة وخمسين موطنًا، وما ذلك إلا لسبب بلاغي يقتضيه المقام قال تعالى: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [النحل: 127]. وقال: {ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون} [النمل: 70]، فمرة حذف ومرة أبقى. وقال: {فلا تك في مرية منه إنه الحق} [هود: 17]. وقال: {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه} [السجدة: 23]. فمرة حذف ومرة أبقى. وقال: {يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة} [لقمان: 16]. ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 118، وانظر التصريح 1/ 196، الهمع 1/ 122، الرضي على الكافية 2/ 333، ابن الناظم 59

فمرة حذف ومرة أبقى، وهكذا. وهذا لا يكون إلا لسبب. جاء في (البرهان): "ويلحق بهذا القسم النون الذي هو لام فعل فيحذف تنبيها على صغر مبدأ الشيء وحقارته، وأن منه ينشأ ويزيد إلى ما لا يحيط بعلمه غير الله مثل (ألم يك نطفة) [القيامة: 37]، حذفت النون تنبيها على مبتدأ الإنسان وصغر قدره بحسب ما يدرك هو من نفسه، ثم يترقى في أطوار التكوين {فإذا هو خصيم مبين} [يس: 77]، فهو حين كان نطفة ناقص الكون .. وكذلك: {وإن تك حسنة يضاعفها} [النساء: 40]، حذفت النون تنبيها على أنها وإن كانت صغيرة المقدار حقيرة في الاعتبار فإن إليه ترتيبها وتضاعيفها، ومثله {إن تك مثقال حبة من خردل} [لقمان: 16]، وكذلك: {أولم تك تأتيكم رسلكم} [غافر: 50]، جاءتهم الرسل من أقرب شيء في البيان الذي أقل من مبدأ فيه، وهو الحس إلى العقل إلى الذكر، ورقوهم من أخفض رتبة وهي الجهل، إلى أرفع درجة في العلم وهي اليقين وهذا بخلاف قوله تعالى: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} [المؤمنون: 105]، فإن كون تلاوة الآيات قد أكمل كونه وتم، وكذلك: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} [النساء: 97]، هذا قد تم تكوينه .. وكذلك: {فلم يك ينفعهم إيمانهم} [غافر: 85]، انتفى عن إيمانهم مبدأ الانتفاع وأقله ما انتفى أصله (¬1) ". إن أغراض الحذف متعددة يقتضيها المقام ومن ذلك على سبيل المثال: 1 - الإسراع: فإن المقام قد يقتضي الاسراع، ولا يقتضي الإطالة في الكلام شأن التحذير والإغراء، فكما لا تقول لمن كانت العقرب بقربه وهو عنها غافل: احذر العقرب أو عليك أن تحذر العقرب وإنما تسرع في تبليغه فتذكر المحذر منه بأسرع بيان قائلا: العقرب العقرب، وكذلك ههنا قد يقتضي المقام الإيجاز في الحديث، فتوجز في كل شيء حتى في حذف النون، فتقول لابنك الذي أدركه السفر العاجل مثلا: لا تك غافل أو ما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 407 - 404

2 - قد يكون الحذف إشارة إلى أن المتكلم لا يقوى على إتمام الكلام لما فيه من الضعف أو لرغبة عن الحديث، فيوجز في كلامه ما أمكنه ذلك، ولعل من ذلك قوله تعالى على لسان أهل النار: {لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 43 - 44]. 3 - النهي عن الشيء بقوة بحيث تطلب منه ألا يحصل من الفعل شيء كقوله تعالى: {ولا تك في ضيق مما يمكرون} [النحل: 127]. قال تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 126 - 128]. وقال في سورة النمل: {وقال الذين كفروا أءذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون} [النمل: 67 - 70]. فقال في الأولى (ولا تك في ضيق) وفي الثانية (ولا تكن) وذلك إن السياق مختلف في السورتين، فالآيات الأولى نزلت حين مثل المشركون بالمسلمين يوم أحد " بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيراهم فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به فرآه مبقور البطن، فقال: أما والله أحلف به لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك، فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده" (¬1). وأوصاه بالصبر ثم نهاه أن يكون في ضيق من مكرهم فقال له: (ولا تك في ضيق مما يمكرون) أي لا يكن في صدرك أضيق مهما قل. وهو تطمين من الله لرسوله وتطييب له مناسب لضخامة الأمر وبالغ الحزن، أو هو من باب تخفيف الأمر وتهوينه على المخاطب، فخفف الفعل بالحذف إشارة إلى تخفيف الأمر وتهوينه على النفس. ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 222، تفسير ابن كثير 2/ 592

أما الآيات الثانية فهي في سياق المحاجة في المعاد، وهو مما لا يحتاج إلى مثل هذا التصبير. وقال في سورة هود: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} [هود: 17]. وقال في السجدة: {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدي لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا} [السجدة: 23 - 24]. فقال في الأولى: (فلا تك في مرية) وقال في الثانية (فلا تكن) وأنت ترى أن السياق مختلف في الآيتين، فالأولى تثبت للرسول بقوة ونهيه عن الريب والمرية، فقد بدأ الكلام بقوله أنه كان على بينه من ربه، ثم يتلوه شاهد منه، ثم قبله كتاب موسى وختمه بقوله: أنه الحق من ربك فناسب ذلك أن يقال (فلا تك في مرية منه) بخلاف الآية الأخرى فإنها ليس فيها مثل هذه الدواعي كما هو ظاهر. 4 - وقد يكون الحذف للوغول في نفي حصول الشيء فإنك تحذف للتنبيه على أن فعل الوجود لم يتم فكيف بالشيء نفسه؟ وذلك نحو قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين} [النحل: 120]، أي البتة. وقوله: {أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} [مريم: 67]، وقد تقول: ألم يرد قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} [الإنسان: 1]، فلم يحذف، فما الفرق بين الموضعين ولو رجعت إلى السياق لتبين لك الفرق واضحًا بين المقامين، فالآية الأولى في مقام التذكير بقدرة الله تعالى قال تعالى: {ويقول الإنسان أءذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} [مريم: 66 - 67].

فالإنسان يعجب من الأحياء بعد الموت فيذكره ربه بقدرته وأنه خلقه من قبل، ولم يك شيئا، فالنشأة الأولى أصعب في حساب العقل، فناسب ذلك حذف النون فحذفها تنبيها على مقدار قدرة الخالق، وكيف أنشأ الإنسان من العدم، وليس المقام كذلك في سورة الإنسان. ومن هذا الباب قوله تعالى: {ولم أك بغيا} [مريم: 20] فهذا أبعد في نفي البغي من (لم أكن)، أي أن هذا لم يكن أصلا وليس له وجود فحذف الآخر يوحي، بأن فعل الوجود لم يتم فكيف بالشيء نفسه؟ وقد يكون الحذف ههنا للإسراع، إضافة إلى ذلك، فهذا القول على لسان مريم للملك الذي تمثل لها بشرًا سويا، فهي لا تريد أن تتبسط في الكلام مع رجل غرب في خلوة كهذه، وهو المناسب لمقام الحياء ههنا، وهذا الحذف يؤدي الغرضين معًا. ونحوه قوله تعالى: {لم يك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 43 - 44]، أي البتة لا في قليل ولا في كثير فحذف آخر الفعل تنبيها على ذلك، وقد يكون الحذف ههنا أيضا للعزوف عن الحديث أو لأن المتكلم لا يقوى على الكلام لما فيه من الضعف والإرهاق. 5 - قد يكون الحذف للتنبيه على مبدأ الشيء وحقارته - كما جاء في (البرهان) - وأنه في طور التكوين لم يكتمل بعد كما أن الفعل لم يكتمل قال تعالى: {ألم يك نطفة من مني يمنى} [القيامة: 37]. ومن هذا الباب قوله تعالى: {يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16]، فمرة جاء بالفعل بلا نون ومرة جاء بالنون وقد يبدو أن كلا الأمرين واحد، والحقيقة ليست كذلك فقد قال (إنها إن تك مثقال حبة من خردل) ولم يعين مكانها ثم عين مكانها فيما بعد، فقال (فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض)، فالأولى أبعد في الوجود أي هباءة تائهة لا مكان لها فحذف النون. إلى غير ذلك من الأغراض.

صار

صار إن معنى (صار) الإنتقال والتحول من حال إلى حال، تدخل على المبتدأ والخبر فتفيد هذا المعنى بعد إن لم يكن، نحو قولك (صار زيد عالمًا) أي أنتقل إلى هذه الحال، (¬1) و (صار زيد غنيا) أي "إن زيدا متصف بصفة الغنى المتصف بصفة الصيرورة، أي الحصول بعد أن لم يحصل) (¬2). وقد تأتي بمعنى جاء وانتقل، فتكون تامة، كقوله تعالى: {ألا إلى الله تصير الأمور}، [الشورى: 53]، ولم ترد صار صار في القرآن إلا في هذا الموضع، ولم تجيء فيه ناقصة. قال ابن يعيش: " وقد تستعمل بمعنى جاء فتتعدى بحرف الجر، وتفيد معنى الانتقال أيضا كقولك: صار زيد إلى عمرو، وكل حي صائر للزوال، فهذه ليست داخلة على جملة ألا تراك لو قلت: (زيد إلى عمرو) لم يكن كلامًا، وإنما استعمالها هنا بمعنى جاء كما استعملوا جاء بمعنى صار في قولهم: (ما جاءت حاجتك؟ )، أي صارت؟ ولذلك جاء مصدرها المصير كما قالوا المجيء، قال الله تعالى: {وإلى المصير} [الحج: 48] (¬3) ". وجاء في (الرضي على الكافية): ""قوله وصار للانتقال - هذا معناها إذا كانت تامة تقدم، ومعناها إذا كانت ناقصة: كان بعد أن لم يكن .. ومعنى يصير، يكون بعد أن لم يكن (¬4) ". وقد ذكر النحاة إن مثل صار في العل ما وافقها في المعنى من الأفعال، وهي: آض ورجع، وعاد، واستحال، وقعد، وحار، وارتد، وتحول، وغدا، وراح، وجاء في نحو ¬

_ (¬1) ابن يعيش 7/ 103، الأشموني 1/ 226 - 227 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 321 (¬3) ابن يعيش 7/ 103، الأشموني 1/ 336، التصريح 1/ 190، الرضي على الكافية 2/ 221 (¬4) الرضي على الكافية 2/ 226

ظل وبات

قولهم: ما جاءت حاجتك؟ أي ما صارت؟ (¬1). ولست أدري كيف يفسر معنى صار وأخواتها، من ذكر أن النقص في الأفعال، هو الدلالة على الزمن المجرد من الحدث. إن معنى صار هو التحول والانتقال، وهذا هو الحدث بعينه فقولك: (صار زيد عالمًا) معناه حدث له أمر وحصل لم يكن قبلا، فهي تدل على الحدث والزمن كسائر الأفعال. ظل وبات الأصل أن يستعمل (ظل) لإفادة الحكم في النهار و (بات) لإفادة الحكم في الليل تقول: (ظل أخوك يفعل كذا) إذا فعله نهارًا و (بات يفعل كذا) إذا فعله ليلا (¬2). وقد يخرجان عن هذا الأصل فيستعملان "استعمال كان وصار مع قطع النظر عن الأوقات الخاصة، فيقال: ظل كئيبا وبات حزينًا، وأن كان ذلك في النهار، لأنه لا يراد به زمان، ومنه قوله سبحانه {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا} [النحل: 58]، والمراد أنه يحدث به ذلك ويصير إليه عند البشارة وأن كلا ليلا" (¬3). والظاهر أن استعمال (بات) لتخصيص الفعل بالليل، أكثر من استعال (ظل) لتخصيص الفعل بالنهار. وقد وردت (ظل) في القرآن الكريم في ثمانية مواضع، ليس فيها موضع واحد تخصص الفعل فيه بالنهار، ما يدل على أن هذا الأصل قليل الاستعمال جدًا، قال تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم} [النحل: 58]. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 24، التسهيل 53، الرضي على الكافية 2/ 221 - 222، الأشموني 1/ 229، الهمع 1/ 112، حاشية الخضري 1/ 112 (¬2) ابن يعيش 7/ 105، درة الغواص 13 (¬3) ابن يعيش 7/ 106، الأشموني 1/ 226 - 230، التصريح 1/ 191، ابن عقيل 1/ 111، الرضي على الكافية 2/ 326، الهمع 1/ 114، حاشية الخضري 1/ 114 - 115

أصبح، أضحى، أمسى

وقال: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} [الشعراء: 4]، وقال: {وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا} [طه: 97]، وقال: {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا} [الحجر: 14 - 15]، وقال: {ولئن أرسلنا ريحا فراوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون} [الروم: 51]، وقال: {إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره} [الشورى: 33]، وقال: {قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين} [الشعراء: 71]. ووردت (بات) في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {والذين يبتون لربهم سجدًا وقياما} [الفرقان: 64]، وهو تخصيص الفعل بالليل. وقد يأتي هذان الفعلان تامين فيقال: ظل اليوم أي دام ظله، وبات زيد أي دخل في المبيت (¬1). أصبح، أضحى، أمسى 1 - الأصل في هذه الأفعال الثلاثة أن تفيد أتصاف المسند إليه بالحكم في أزمنتها فمعنى (أصبح) إتصافه به في الصباح، ومعنى (أضحى) إتصافه به في الضحى، و (أمسى) إتصافه به في المساء وذلك نحو قوله تعالى: {طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم} [القلم 19 - 20]، أي في وقت الصباح، وقوله: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} [هود: 67]، وقوله: {قال عما قليل ليصبحن نادمين} [المؤمنون: 40]. قال ابن يعيش: "قد استعملت هذه الأفعال على ثلاثة معان .. أحدها: أن تدخل على المبتدأ والخبر لإفادة زمانها في الخبر، فإذا قلت: أصبح زيد عالما وأمسى الأمير عادلا وأضحى أخوك مسرورا، فالمراد أن علم زيد اقترن بالصباح، وعدل الأمير اقترن بالمساء، وسرور الأخ اقترن بالضحى، فهي ككان في دخولها على المبتدأ، وأفادة زمانها للخبر، إلا أن أزمنة هذه الأشياء خاصة وزمان (كان) ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 235 - 236، التصريح 1/ 191

يعم هذه الأوقات وغيرها إلا أن (كان) لما انقطع، وهذه الأفعال زمانها غير منقطع ألا ترى انك تقول: أصبح زيدًا غنيا وهو غني وقت أخبارك غير منقطع" (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية) أن هذه الأفعال بمعنى "كان في الصبح وكان في المساء وكان في الضحى، فيقترن في هذا المعنى الأخير مضمون الجملة، أعني مصدر الخبر مضافا إلى الاسم بزماني الفعل أعنى الذي يدل عليه صيغته فمعنى أصبح زيدا أميرًا أن إمارة زيد مقترنة بالصبح في الزمن الماضي، ومعنى يصبح قائمًا أن قيامة مقترن بالصبح في الحال أو الاستقبال (¬2) ". 2 - قد تأتي بمعنى كان وصار من غير أن يقصد بها وقت مخصوص، كأن تقول: (أصبح أخوك عظيما) فهنا أصبح بمعنى صار من دون نظر إلى وقت الصباح، قال تعالى: {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} [المائدة: 52]، وقال: {فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6]. وقال: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [آل عمران: 103]. قال ابن يعيش: "الثالث أن تستعمل بمعنى كان وصار من غير أن يقصد بها إلى وقت مخصوص نحو قولك: أصبح زيد فقيرا وأمسى غنيا تريد أنه صار كذلك مع قطع النظر عن وقت مخصوص .. ومثله قول الآخر: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير أن نفرا" (¬3) ¬

_ (¬1) ابن يعيش 7/ 103، الأشموني 1/ 226، الرضي على الكافية 2/ 221، التصريح 1/ 190 - 191، ابن عقيل 1/ 11، حاشية الخضري 1/ 114 - 115 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 326 (¬3) ابن يعيش 7/ 104 - 105

وجاء في (شرح الرضي على الكافية) أن هذه الأفعال قد تأتي "بمعنى (صار) مطلقًا من غير اعتبار الأزمنة التي يدل عليها تركيب الفعل، أعني الصباح، والمساء، والضحى، بل باعتبار الزمن الذي يدل عليه صيغة الفعل أعنى الماضي والحال والاستقبال (¬1) ". والطريف في استعمال القرآن لأصبح أنها وردت فيه في ثمانية وعشرين موضعا، كلها في العقوبات والشر إلا في ثلاثة مواطن هي قوله تعالى {فأصبحتم بنعمته إخوانا} {آل عمران: 103} ـ، وقوله: {فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14]، وقوله: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير}. [الحج: 63]. قال تعالى: {فأصبح من النادمين} [المائدة: 31]، و {فأصبح من الخاسرين} [المائدة: 30]، و {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها} [الكهف: 42]، و {فأصبح هشيما تذروه الريح} [الكهف: 45]، و {فأصبح في المدينة خائفا يترقب} [القصص: 18]، و {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} [هود: 67]. ولم يرد (أمسى) ناقصا في القرآن الكريم وأما (أضحى) فلم يرد البتة. 3 - أن تكون تامة فتكفي بمرفوعها ويراد بها الدخول في هذه الأوقات فيقال: أصبحا أي دخلنا في وقت الصباح، وأضحينا أي دخلنا في وقت الضحى، وأمسينا أي دخلنا في المساء قال تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} [الروم: 17]. قال ابن يعيش: "والثاني أن تكون تامة تجتزيء بمرفوع، ولا تحتاج إلى منصوب كقولك: أصبحنا، وأمسنيا، واضحينا، أي دخلنا في هذه الأوقات، وصرنا فيها، ومنه قولهم: أفجرنا أي دخلنا في وقت الفجر" (¬2). ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 226، وانظر الأشموني 1/ 230، الهمع، 1/ 114، التصريح 1/ 190 - 191 (¬2) ابن يعيش 7/ 104، وانظر الرضي على الكافية 2/ 226، الأشموني 1/ 226، سيبويه 1/ 21

ما زال، ما برح، ما فتيء، ما أنفك

4 - وردت كل من أصبح وأمسى زائدة قليلا وهو مما لا يقاس عليه عند الجمهور وذلك نحو قولهم (ما أصبح أبردها وما أمسى أدفأها) وهما مفيدتان لهذين الوقتين (¬1). ما زال، ما برح، ما فتيء، ما أنفك. هذه الأفعال تفيد استمرار الفعل وإتصاله بزمن الأخبار، تقول (مازال زيد منطلقا) أي هو مستمر في الإنطلاق إلى زمن التكلم (¬2). جاء في (شرح الأشموني): "ومعنى الأربعة ملازمة الخبر المخبر عنه، على ما يقتضيه الحال نحو، ما زال زيد ضاحكا وما برح عمرو أزرق العينين (¬3) ". قال الصبان: "أي ملازمة جارية على ما يقتضيه الحال من الملازمة مدة قبول الخبر عنه للخبر سواء دام بدوامه نحو: مازال زيد أزرق العينين، مازال الله محسنًا أولا نحو: مازال زيد ضاحكًا" (¬4). وجاء في (شرح ابن يعيش): "أما ما في أوله منها حرف نفي نحو مازال وما برح وما انفك وما فتيء فهي ايضا كأخواتها تدخل على المبتدأ والخبر فترفع المبتدأ وتنصب الخبر كما أن (كان) كذلك فيقال: مازال زيد يفعل .. ومعناها على الإيجاب وأن كان في أولها حرف النفي وذلك ان هذه الأفعال معناها النفي، فزال، وبرح، وإنفك، وفتئ، كلها معناها خلاف الثبات، إلا ترى أن معنى زال، برح، فإذا دخل حرف النفي نفى البراح فعاد إلى الثبات وخلاف الزوال، فإذا قلت: (مازال زيد قائمًا)، فهو كلام معناه الأثبات، أي هو قائم وقيامه استمر فيما مضى من الزمان، فهو كلام معناه الإثبات ولهذا المعنى لم تدخل (إلا) على الخبر فلا يجوز: لم يزل زيد إلا قائمًا كما لم يجز: ثبت زيد إلا قائمًا" (¬5). ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 241 - 242 (¬2) ابن يعيش 7/ 106، الهمع 1/ 113، الرضي على الكافية 2/ 321 (¬3) الأشموني 1/ 227 (¬4) الصبان 1/ 227 (¬5) الصبان 1/ 227

وجاء في (شرح الرضى على الكافية): "وأصل ما زال وبرح وما فتيء وما أفتأ وما انفك أن تكون تامة بمعنى ما انفصل، فتعدى بمن إلى ما هو الآن مصدر خبرها فيقال في موضع (مازال زيد عالمًا) (مازال زيد من العلم) أي ما انفصل منه، لكنها جعلت بمعنى (كان) دائما فنصبت الخبر نصب كان وإنما جعلت بعناه لأنه إذا لم ينفصل شخص عن فعل كان فاعلا له دائمًا، وكذا أصل برح ورام، أن يكونا تامين، بمعنى زال عن مكانه فيتعديان بانفسهما وبمن نحو، برخت بابك، ومن بابك، ورمت بابك، ومن بابك، واصل (ونى) قصر فكان الأصل أن يعدي بفي نحو (ما وني زيد في القيام) فجعل الثلاثة بمعنى كان دائما، لأنه إذا كان لا ينفصل عن الفعل، ولا يقصر فيه يكون فاعلا له دائمًا، وإنما أفاد دخول النفي على النفي دوام الثبوت، لأن نفي النفي إثبات. وإذا قيدت نفي الشيء بزمان وجب أن يعم ذلك النفي جميع ذلك الزمان، بخلاف الإثبات، فإنك إذا قيدت إثبات الشيء بزمان لم يلزم استغراق الإثبات لذلك الزمان، إذا قلت، مثلا (ضرب زيد) كفى في صدق هذا القول وقوع الضرب في جزء من أجزاء الزمن الماضي، وأما قولك (ما ضرب) فإنه يفيد استغراق نفي الضرب بجميع أجزاء الزمن الماضي، وذلك لأنهم أرادوا أن يكون النفي والإثبات المقيدان بزمن واحد في طرفي نفيض، فلو جعل النفي كالإثبات مقيدًا بوقوعه أي وقوع النفي في جزء غير معين من أجزاء ذلك الزمان المخصوص، لم يكن يناقض ذلك الإثبات إذ يمكن كون الجزء الذي يقيد الإثبات به غير الجزء الذي يقيد به النفي فلا يتناقضان فاكتفى في الإثبات بوقوعه مطلقا ولو مرة وقصدوا في النفي الاستغراق، إذ استمرار الفعل أصعب، وأقل من استمرار الترك، فصار نحو ضرب كالموجبة الجزئية والسالبة الكلية اللتين تناقض أحداهما الأخرى. فتبين بهذا إن النفي يفيد التكرار على ما ذهب إليه اكثر الأصوليين فحصل من هذا كله إن نفي النفي يكون ايضا دائما، ونفي النفي يلزمه منه الإثبات فيلزم من نفي النفي إثبات، دائم وهو المقصود ..

وقد يستعمل بعض هذه الأفعال المصدرة بـ (ما) للنفي تامة نحو: ما برح من موضعه قال تعالى {فلن أبرح الأرض} [يوسف: 80]، و (ماوني في أمره) و (ما انفك من هذا الأمر) " (¬1). فهذه أذن افعال منفية تفيد الثبات والاستمرار، ومعناها مثبتة هو الترك والزوال، ونفيها نفي الترك والزوال، فيؤدي معناها الاستمرار والثبات. فأما زال: فمعناه ذهب وانفصل وترك وقد ورد لهذا الفعل ثلاثة أفعال مضارعة زال يزول ومعناه الذهاب والإضمحلال قال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا} [فاطر: 41]، أي أن تذهبا وتضمحلا. وزال يزيل يقال: زال الشيء يزيله زيلا إذا مازه (¬2) أي خلص شيئا من شيء وفصله عنه. وزال يزال وهذا الأخير هو الفعل الناقص وهي ذات معان متقاربة، كلها تفيد الذهاب والانفصال والترك، فزال معناه ذهب وترك وانفصل، وما زال معناه ما ذهب ما ترك وما انفصل، فإذا قلت (ما زال زيد قائمًا) كان معناه لم يترك القيام، وما انفصل عنه أي بقي مستمرا عليه، ومضارعه (لا يزال) ومعناه (يبقى) فمعنى (مازال المطر نازلا) بقي المطر نازلا. ومعنى لا يزال المطر نازلا، يبقى المطر نازلا، قال تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فمازلتم في شك مما جاءكم به} [غافر: 34]، أي بقيتم في شك وقال: {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه} [الحج: 55]، أي يبقون في مرية لا ينفكون عنها، ولا يتركونها. وقال: {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} [المائدة: 13]، أي ستستمر في الإطلاع على خائنة منهم. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 222 - 323 (¬2) لسان العرب (زول) و (زيل).

فثمة فرق بين قولنا (مازلت تطلع) وقولنا (لا تزال تطلع) فمعنى الأول: بقيت تطلع، ومعنى الثاني أنك ستستمر في الإطلاع في المستقبل. قال تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة: 217]، أي يبقون على ذلك مستمرين إلى أن يبلغوا قصدهم أن أمكن. ونحو ذلك قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود: 118 - 119]. ولا يفهم من قولنا إن (ما زال) بمعنى (بقي) و (لا يزال) بمعنى (يبقى) أنهما متطابقان في المعنى، فإنه لا يصح أبدال أحداهما بالآخر على وجه الدوام، وذلك أن (مازال) تفيد توقع التحول والإنقطاع بخلاف) بقي (فقولك (لا تزال صغيرًا) لا يطابق (تبقى صغيرًا) فإن في الجملة الأولى مظنة التحول بخلاف الثانية. وكذلك قولك (ما تزال طالبا تعتمد على أبيك) لا يطابق قولك (تبقى طالبا تعتمد على أبيك)، وكذلك في الماضي فقولك (ما زالت صغيرا) لا يطابق قولك (بقيت صغيرا) فإن الجملة الأولى تعني أنك في سن الصغر وإنك ستفارق هذه السن، وأما الجملة الثانية فتفيد أنك باق على الصغر على الرغ من كبر سنك. وأما برح فأصله ترك المكان وغادره، قال تعالى {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي} [يوسف: 80] أي لن أترك الأرض، ومنه البارحة لليلة الخالية، ومنه برح الخفاء أي ذهب. فبرح معناه ترك المكان وما برح معناه لم يترك المكان أي بقي فيه ولازمه، ثم نقل إلى الدوام والاستمرار في غيره. قال ابن يعيش: "وأما برح فهو بمعنى زال وجاوز ومنه قليل لليلة الخالية البارحة .. فقالوا ما برح يفعل بمعنى زال. وقد فرق بعضهم بين ما زال وما برح فقال: برح لا يستعمل في الكلام إلا ويراد به البراح من المكان فلابد من ذكر المكان معه أو تقديره، وذلك ضعيف لأنه قد جاء في غير المكان قال الله تعالى، {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين} [الكهف: 60]، فلا أبرح هذه لا يجوز أن يراد بها البراح من المكان

لأنه من المحال أن يبلغ مجمع البحرين وهو في مكانه لم يبرح منه وإذا ل يجز أن يراد بها البراح تعين أن يكون بمعنى لا أزال" (¬1). والصواب أن ذلك هو الكثير فيه وهو الأصل في استعماله قال تعالى: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي} [يوسف: 80]، وقال: {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [طه: 19]، وهذا القول في العجل الذي عبده بنو إسرائيل أي لا نترك مكاننا عاكفين على عبادته والعكوف يقتضي المكث في المكان والبقاء فيه. ومن ذلك قوله: فقلت يمين الله أبرح قاعدًا ... ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالي أي أبقى في مكاني قاعدًا وأبرح هنا معناه (لا أبرح). وقول عبد الله بن قيس الرقيات: والله أبرح في مقدمة ... أهدي الجيوش على شكتيه أي لا أترك مكاني في مقدمة العسكر مافتيء: معنى فتيء نسي يقال: فتئت عن الأمر إذا نسيته وانقدعت (¬2) ويأتي بمعنى سكن واطفأ (¬3). قال الفراء: فتأته عن الأمر سكنته وفتأت النار أطفأتها (¬4) فإذا قلت: ما فتيء كان معناه ما نسي أو ما سكن هذا أصلها ثم استعملت منفية لإفادة الدوام، فإذا قلت: ما فتئت أفعل كان المعنى: ما نسيت فعله أي أنا أفعله مستمرًا لم أنسه وما سكنت عن فعله ولك أكف عنه. ومنه قوله تعالى: {تالله تفتؤا تذكر يوسف} [يوسف: 85]، أي لا تنسى ¬

_ (¬1) ابن يعيش 7/ 108، وانظر القاموس المحيط (برج)، الأشموني 1/ 236، التسهيل 53 (¬2) لسان العرب فتأ 1/ 115 (¬3) التسهيل 53 (¬4) تاج العروس فتأ 1/ 95

ذكره على تقادم العهد، ولا تسكن نفسك ولا تطفيء ما في جوانحك من نار التعلق به. وهو أنسب فعل في هذا المقام لا يسد مسده مازال أو ما برح أو غيرهما وهو الموضع الوحيد الذي جاء فيه هذا الفعل في القرآن. ثمة فرق بين قولنا (لا تزال تذكر) و (لا تفتأ تذكر) فلا تفتأ معناه لا تنسى، ولا تسكن نفسك، ولا تطفيء نار جوانحك، كما تقول أن الهوى بين جنبي لا يسكن والنار لا تنطفيء. ما أنفك: يقال فك الشيء أي فصله والرهن خلصه والرقة أعتقها، والفك أن نفك الخلخال والرقبة. وفك الرقبة تخليصها من أسار الرق، وفك الرهن تخليصه من غلق الرهن. وفي النوادر: أفك الظبي من الحبالة إذا وقع فيه ثم انفلت. وكل مشتبكين فصلت أحدهما من الآخر فقد فككتهما (¬1). هو هذا الأصل في استعمال (فك) فهو من فك القيود والتخليص من الأسار والحبائل فإذا قلت: (ما أنفك) كان المعنى لم يخلص ولم ينفصل، ومن هنا استعملت في معنى الدوام والاستمرار. فإذا قلت: (ما أنفك محمد يفعل) كان معناه أنه لا يزال متصلا بالفعل متشبثًا به مرتبطًا به بقيد مغلق لم ينفك، جاء في (شرح ابن يعيش): "وأما أنفك من قولهم (ما أنفك يفعل) فهي أيضا بمعنى زال من قولك فككت الشيء من الشيء إذا خلصته منه، وكل مشتبكين فصلت أحدهما من الآخر فقد فككتهما، وفك الرقبة اعتقها ثم جردت من الدلالة على الحدث ثم أدخلت على المبتدأ والخبر كما فعل بكان" (¬2). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} [البينة: 1]، "وانفكاك الشيء من الشيء أن يزايله بعد التحامهبه كالعظم إذا أنفك من مفصله، والمعنى أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلا عند مجيء البينة" (¬3). ¬

_ (¬1) لسان العرب فكك، القاموس المحيط فك، الأشموني 1/ 236 (¬2) ابن يعيش 7/ 108 - 109 (¬3) الكشاف 3/ 352

ما دام

ما دام هذا الفعل هو (دام) الذي بمعنى استمر مسبوقًا بما المصدرية وليست (ما) ههنا نافية كما في الأفعال التي ذكرناها آنفا، ولذلك لا يكتفي به وإنما يحتاج إلى كلام معه يكون معه المصدر جملة تامة، لا تقول: (ما دام محمد حاضرًا) لأن المعنى لا يتم وإنما تقول: (لا أذهب ما دام محمد حاضرًا) و (ما) ههنا مصدرية ظرفية والمعنى: لا أذهب مدة دوام حضور محمد فعدم الذهاب موقت بدوام الحضور ولذا قالوا أنها تفيد التوقيت (¬1). قال ابن يعيش: "أما ما دام من قولك: ما دام زيد جالسًا فليست (ما) في أولها حرف نفي على حدها في ما زال وما برح إنما (اما) ههنا مع الفعل بتأويل المصدر، والمراد به الزمان. فإذا قلت: لا أكلمك ما دام زيد قاعدًا فالمراد دوام قعوده أي زمن دوامه .. ومما يدل على أن (ما) مع ما بعدها زمان أنها لا تقع أولاً فلا يقال: ما دام زيد قائمًا ويكون كلامًا ولابد أن يتقدمه ما يكون مظروفا وليس كذلك ما زال وأخواتها، فإنك تقول: (مازال زيد قائمًا) ويكون كلاما مفيد تامًا (وما) من قولك (ما دام) تقع لأزمة لابد منها، ولا يكون الفعل معها إلا ماضيًا. وليس كذلك ما زال فإنه يجوز أن يقع موقع (ما) غيرها من حروف النفي ويكون الفعل مع النافي ماضيًا ومضارعًا نحو مازال ولم يزل ولا يزال" (¬2). وقد تأتي مكتفية بمرفوعها فلا تحتاج إلى منصوب، وذلك كقوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} [هود: 107] (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ابن يعيش 7/ 11 (¬2) ابن يعيش 7/ 111 الأشموني 1/ 228 - 229، التصريح 1/ 186، ابن عقيل 1/ 111، الهمع 1/ 111، الرضي على الكافية 2/ 321، ابن الناظم 54 (¬3) انظر الأشموني 1/ 236

التقديم والتأخير

التقديم والتأخير الأصل في هذا الباب أن تأتي بالفعل الناقص فأسمه فخبره فنقول مثلا: (كان محمد قائمًا) شأن الفعل والفاعل والمفعول به، فإذا جاء على غير هذا التأليف كان ذلك لسبب يقتضيه المقام وذلك كأن تقول: (محمد كان قائمًا) أو (كان قائمًا محمد) أو (قائمًا كان محمد). 1 - فأما قولنا (كان محمد قائمًا) فيكون إذا كان المخاطب خالي الذهن. 2 - وأما قولنا (محمد كان قائمًا) فهو من باب تقديم المبتدأ على الخبر الفعلي للاختصاص والاهتمام، وذلك كأن يظن المخاطب أن زيدا كان القائم لا محمدا فترد عليه بقولك (محمد كان قائما) فالفرق بين قولنا (كان محمد قائمًا) و (محمد كان قائمًا) إن العبارة الأولى تكون إذا كان المخاطب خالي الذهن لا يعلم شيئا عن هذا الأمر، فإذا كان يعلم أن شخصا ما كان قائما ولكن ظنه خالدا صححت له وهمه، بتقديم المبتدأ على الخبر الفعلي فتقول له: محمد كان قائمًا. 3 - وأما قولنا (كان قائمًا محمد) فهو من باب تقديم الخبر على الاسم للعناية به والاهتمام وذلك كأن يكون محمد مريضًا لا يقوي على القيام لمدة ثم قام فتقدم الخبر على الاسم، وتقول: (كان قائمًا محمد)، لأن الخبر ههنا أولى بالاهتمام من الاسم. ونحوه أن تقول: (كان نائمًا خالد) وذلك إذا كان خالد لم يتمكن من النوم مثلا مدة لمرض أو نحوه. وهكذا تقدم الخبر على الاسم إذا كان المخاطب به أعني. 4 - وأما تقديم الخبر على (كان) نحو قولنا (قائمًا كان محمد) فهو من باب التخصيص وذلك إذا كان المخاطب يظن أن محمدًا كان قائمًا لا قائمًا، فتصحح له هذا الوهم وتقول أنه كان قائمًا لا قاعدًا.

ما يعرف به الاسم من الخبر

وقد يقدم الخبر للاهتمام والعناية لأن العرب يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم به أعني. ما يعرف به الاسم من الخبر إذا كان الاسم والخبر معرفتين، فإنك تأتي بالاسم الذي يعلمه المخاطب، وتجعله اسما للفعل الناقص، وتأتي بالذي يجهله فتجعله خبرًا له، كما مر في بحث المبتدأ والخبر، وذلك كأن يكون المخاطب سمع بمحمد وقد رأي رجلا منطلقا وأردت أن تعلمه بأن محمدًا هو المنطلق قلت له: (كان محمدٌ المنطلق)، وإذا كان رأي رجلا منطلقا ولم يعرف أنه محمد وأردت أن تعلمه بأن المنطلق هو محمد قلت له: (كان المنطلق محمدا). جاء في (مغني اللبيب): "أن يكونا معرفتين فإن كان المخاطب يعلم أحدهما دون الآخر فالمعلوم الاسم والمجهول الخبر، فيقال (كان زيد أخا عمرو) لمن علم زيدا وجهل أخوته فالمعلوم الاسم والمجهول الخبر، فيقال (كان زيد أخا عمرو)، لمن علم زيدا وجهل أخوته لعمرو، و (كان أخو عمرو زيدا) لمن يعلم أخا لعمرو ويجهل أن اسمه زيد، وأن كان يعلمهما ويجعل انتساب أحدهما إلى الآخر، فإن كان أحدهما أعرف فالمختار جعله الاسم فتقول: (كان زيد القائم) لمن كان قد سمع بزيد وسمع برجل قائم، فعرف كلا منهما بقلبه ولم يعلم أن أحدهما هو الآخر، ويجوز قليلا: كان القائم زيدًا" (¬1). والتحقيق ما ذكرناه أولا. فإن كان الاسم والخبر نكرتين فقد ذكر ابن هشام أنه إن "كان لكل منهما مسوغ للأخبار عنها، فأنت مخير فيما تجعله منهما الاسم وما تجعله الخبر فتقول: (كان خير من زيد شرا من عمرو) أو تعكس. وإن كان المسوغ لأحداهما فقط جعلتها الاسم نحو: كان خير من زيد امرأة" (¬2). ¬

_ (¬1) مغني اللبيب 2/ 452، وانظر الهمع 1/ 118 - 119 (¬2) مغني اللبيب 2/ 453

والذي نراه صوابًا في هذا أن المعنى هو الذي يعين الاسم من الخبر، فالذي أردت أن تخبر عنه تجعله إسمًا للفعل الناقص، والذي أردت أن تخبر به تجعله خبرًا، وليس لك أن تجعله أيا شئت منهما اسما أو خبرًا، وليس المعنى واحدًا، فإذا قلت مثلا (ذو دين متين، ذو عرض مصون) كان المعنى صحيحا ولكن إذا قلت (ذو عرض مصون، ذو دين متين) فليس القول على إطلاقه فقد يكون ذو العرض ليس ذا دين، فقد ثبت أن معنى الجملتين مختلف وهكذا لو أدخلت الفعل الناقص على الجملتين. ولو قلت (ما كان ذو دين متين إلا ذا عرض مصون) كان المعنى صحيحًا، ولكن لو قلت (ما كان ذو عرض مصون إلا ذا دين متين) لم يستقم القول فإن هذا القول ليس على إطلاقه، ولو كان معنى الجملتين واحدًا في ال حصر لكان معناهما في غير الحصر واحدًا. ولو قلت مثلا: (ما كان مثلك أحدٌ (¬1)) لكان المعنى: لا يشبهك أحد. ولو قلت (ما كان مثلك أحدًا) لكان المعنى: (ما كان مثلك إنسانًا) أي أن الذي يشبهك ليس إنسانًا "وذلك غير جائز إلا أن يراد به المثل على التعظيم لشأنه أو الوضع منه كقولهم: (ما أنت إلا شيطان) و (ما فلان إلا ملك) " (¬2). جاء في (كتاب سيبويه): "ولو قال: ما كان مثلك أحدًا أو ما كان زيد أحدا كان ناقضا لأنه قد علم أنه لا يكن زيد ولا مثله إلا من الناس". وإذا قلت: ما كان مثلك اليوم أحدٌ فإنه يكون غلا يكون في اليوم إنسان على حاله إلا أن تقول: ما كان زيدٌ أحدًا أي من الأحدين. وما كان مثلك أحدًا على وجه تصغيره فتصير كأنك قلت: ما ضرب زيد أحدًا وما قتل مثلك أحدًا" (¬3). ¬

_ (¬1) (مثل) نكرة موغلة بالإبهام لا تتعرف بالإضافة. (¬2) الجمل 60 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 37

ليس والمشبهات بها

ليس والمشبهات بها ليس: استعمل العرب (ليس) استعمال الأفعال الماضية مهما قيل في أصلها فقد قالوا: ليس ولسنا ولستم، وليسوا، وزيد ليس حاضرًا، ونحوها. وهي عند الجمهور فعل ماض ناقص، وذكر الخليل أن أصلها (لا أيس) طرحت الهمزة والزفت اللام بالياء، والدليل على ذلك قول العرب: (ائتني به من حيث أيس وليس) أي من حيث هو وليس هو. جاء في (القاموس المحيط): "ليس: كلمة نفي فعل ماض أصله ليس كفرح، فسكنت تخفيفا أو أصله (لا أيس)، طرحت الهمزة، والزفت اللام بالياء، والدليل قولهم: ائتني من حيث أيس وليس أي من حيث هو ولا هو، أو معناه لا وجد أو (أيس) موجود و (لا أيس) لا موجود فخففوا وإنما جاءت بمعنى لا التبرئة" (¬1). و(أيس) كلمة قد أميتت كانت تستعمل بمعنى الوجود، جاء في لسان العرب: "قال الليث: أيس كلمة قد أميتت إلا أن الخليل ذكر أن العرب تقول جيء به من حيث أيس وليس لم تستعمل أيس إلا في هذه الكلمة وإنما معناها كمعنى حيث هو في حال الكينونة والوجد وقال أن معنى (لا أيس) أي لا وجد" (¬2). وإذا كان ذلك كذلك و (ليس) مركبة من حرف نفي وأيس، الذي هو بمعنى الكينونة ومعناه الحرفي (لا وجد) كما مر، ثم استعمل في العربية على ما نرى. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط ليس 2/ 250، لسان العرب ليس 8/ 95، تفسير الرازي 5/ 38 - 39 (¬2) لسان العرب / ليس 7/ 317

جاء في كتاب (التطور النحوي): "وقد اشتقت العربية من (لا) أدوات أخرى للنفي لا توجد في سائر اللغات السامية إلا (ليس) فيقابلها في الآرامية (lait)، وهي مركبة من لا واسم معناه الوجود يحتمل أن يكون لفظة القديم (iitai) أو قريبا من ذلك، وهو (ies) في العبرية و (itai) في الآرمية العتيقة ويقاربها في الأكدية فعل وهو (isu) أي يملك الشيء وهو له فمعنى (lait) لا يوجد وهذا هو عين معنى (ليس) الأصلي، غير أن حروفها لا تتطابق تماما فأنا قد كنا بينا أن السين العربية لا يقابلها في اللغات السامية الشمالية إلا السين بينها أو الشين ولا يقابلها التاء أو الثاء وفي العبرية والآكدية الشين، لا التاء فكان يلزم أن تكون (lait) في العربية (laita) وقيام السين في ليس مقام التاء نقض لقوانين الأصوات السامية لابد له من سبب ولا نعرفه" (¬1). وهذا الفعل يستعمل في العربية لنفي الحال عند الإطلاق وإذا قيد فبحسب ذلك التقييد تقول: (ليس زيد قائمًا) أي الآن، وقال تعالى: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم} [هود: 8]، أي في المستقبل، وليس صحيحا ما ذهب إليه بعض النحاة من أنها لا تنفي إلا الحال (¬2). بل هي كذلك إذا طلقت كما ذكرنا فإذا قيدت فنفيها على حسب القيد (¬3). ومن استعمالاتها في غير الحاضر قولهم (ليس خلق الله مثله) فهي في هذا للماضي واسمها ضمير الشأن وقوله تعالى: {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} [البقرة: 267]، وهي هنا للاستقبال (¬4). ¬

_ (¬1) التطور النحوي 111 (¬2) انظر ابن يعيش 7/ 112، وانظر التطور النحوي 115 (¬3) الأشموني 1/ 227، الصبان 1/ 227، حاشية التصريح 1/ 183، ابن عقيل 1/ 11 - 112، حاشية الخضري 1/ 111 - 112 (¬4) الرضي على الكافية 2/ 328، شرح الألفية لابن الناظم 53، المغنى 1/ 293، الهمع 1/ 115، الصبان 1/ 227

ما

ما: أعملت (ما) عمل (ليس) في لغة أهل الحجاز، قال تعالى: {ما هذا بشرًا} [يوسف: 31] ولم تعملها تميم، ويذكر النحاة أوجه المشابهة بينهما فيقولون: إن كلتيهما تدخل على المبتدأ والخبر، وإن كانت (ما) لا تختص بالدخول على الجمل الإسمية، وكلتاهما لنفي الحال، ويقوي هذه المشابهة، بينهما دخول الباء في خيرها كما تدخل في خبر ليس. (¬1) وقد ذهب بعض النحاة إلى أن نفيها مختص بالحال (¬2)، والصحيح أنها كليس تنفي الحال عند الإطلاق وإذا قيدت فهي بحسب ذلك التقييد، قال تعالى: {وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 167]، وقال: {وما هم عنها بغائبين} [الإنفطار: 16]، وهي في ذلك للاستقبال (¬3). الفرق بين ما وليس: الذي يظهر لي أن (ليس) و (ما) ليستا متماثلتين في النفي تمامًا، بل بينهما أوجه شبه وأوجه مخالفة فهما أداتان تستعملان للنفي، وقد تعملان عملا واحدًا، وهما لنفي الحال عند الإطلاق، ولكن بينهما خلافا، وليس من حكمة العربية أن تجعل أداتين مختلفتين متشابهتين تمامًا في المعنى، ولابد أن يكون لكل واحدة منهما خصوصية ليست في الأخرى. فـ (ليس) فعل أو استعملت استعمال الأفعال (وما) حرف ولا يكون الفعل كالحرف والعربية كما يقول براجشتراسر تميل إلى التفريق والتخصيص (¬4). إن الذي يبدو لي أن (ما) أقوى في النفي من (ليس) والذي يدل على ذلك أمور منها: ¬

_ (¬1) أسرار العربية 143، ابن يعيش 1/ 108، المقتضب 4/ 188 (¬2) ابن يعيش 1/ 108 - 109* (¬3) ابن عقيل 1/ 119، الهمع 1/ 115 - 123، الرضي على الكافية 1/ 291، حاشية الصبان 1/ 247 (¬4) التطور النحوي 58 - 67

1 - استعملت العرب (ليس) استعمال الأفعال كما ذكرنا، فقالوا لست، وليسا، وليست وعلى هذا فالجملة المبدوءة بها فعلية، والجملة المنفية بـ (ما) إسمية، والجملة الإسمية أثبت من الجملة الفعلية. 2 - وردت (ليس) في القرآن الكريم في (41)، واحد وأربعين موطنًا، اسمها نكرة، لم تدخل (من) الزائدة المؤكدة على موطن واحد منها بل كلها مجردة منها، في حين وردت (ما) في القرآن في (91)، واحد وتسعين موطنًا مرفوعها نكرة، كلها دخلت عليها (من) الزائدة الدالة على الاستغراق والتوكيد، وذلك كقوله تعالى: {ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59]. قال تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} [الأنعام: 51] وقال: {وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} [الأنعام: 70]. وقال: {وليس له من دونه أولياء} [الأحقاف: 32]. في حين قال: {وما لهم من دونه من وال} [الرعد: 11]. وقال: {وما لكم من دون الله من ولي} [البقرة: 107، التوبة: 116، ـ العنكبوت: 22، الشورى: 31]. وقال: {مالك من الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 120، الرعد: 37]. فجرد اسم ليس من (من) وقرن اسم (ما) بها. وقال تعالى: {وما ليس لهم به علم} [الحج: 71]. وقال: {ما ليس لكم به علم} [النور: 15]، وانظر الإسراء: 36، لقمان: 15، غافر: 42. في حين قال: {مالهم بذلك من علم} [الزخرف: 20، الجاثية: 24]، وهذا كسابقه مما يدل على أن (ما) آكد وأقوى.

3 - ورد خبر (ما) مقترنا بالباء الزائدة الدالة على التوكيد في (76)، ستة وسبعين موطنًا وورد في ثالاثة مواطن فقط غير مؤكد الزائدة وهي قوله تعالى: {ما هذا بشرا} [يوسف: 31]، وقوله: {ماهن أمهاتهم} [المجادلة: 2]، وقوله: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 47]، في حين ورد خبر (ليس) في 23 ثلاثة وعشرين موطنًا مؤكدًا بالباء الزائدة، وفي خمسة مواطن مجردًا منها. 4 - أن الجمل التي تحتاج إلى توكيد كثير استعملها القرآن منفية بما، كقوله تعالى {مالكم من إله غيره} ولم يرد مثل هذا التعبير في القرآن منفيا بليس وهذا من أهم المواطن التي تحتاج إلى التوكيد لأنه في نفي الشرك. قال تعالى: {وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل} [الأنعام: 66]. وقال: {ولو شاء الله ما اشركوا وما جعلناك عليهم حفيظًا وما أنت عليهم بوكيل} [الأنعام: 107]. وقال: {إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدي فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل} [الزمر: 41]. وقال: {والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل} [الشورى: 6]. وقال: {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل} [يونس: 108]. فأنت ترى أنه في الآية الأولى قال: (قل لست عليكم بوكيل) وفي الآية الأخرى قال (وما أنت عليهم بوكيل) أو (وما أنا عليكم بوكيل) وذلك راجع إلى قوة النفي الذي يظهر من السياق، والذي هو أبين من أن يدل على مواطنه بخلاف استعمال ليس.

5 - والذي يدل على أنها تفيد التوكيد أنها تقع جوابًا للقسم نحو (والله ما زيد بحاضر) وذكر سيبويه أن قولهم (ما فعل) نفي لقولهم (لقد فعل) (¬1)، مما يدل على أن فيها توكيدا. جاء في (الإتقان): "ومقتضى كلام سيبويه أن فيها معنى التأكيد لأنه جعلها في النفي جوابًا لقد (¬2) فكما أن (قد) فيها معنى التأكيد فكذلك ما جعل جوابًا لها". (¬3) وجاء في (الأشباه والنظائر) إن النفي فيها آكد. (¬4) وقد وردت في القرآن الكريم في مواطن عدة جوابًا للقسم في الجمل الإسمية والفعلية قال تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 120]، وقال: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} [المائدة: 28]، وقال: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق} [الرعد: 37]، وقال: {ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 1 - 2]. ومن وردها في الجمل الفعلية قوله تعالى: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 22] وقوله: {يحلفون بالله ما قالوا} [التوبة: 74]، وقوله: {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى} [النجم: 1 - 2]. وجواب القسم فيه توكيد مثبًا كان أو منفيًا. ولم ترد (ليس) في القرآن الكريم جوابًا للقسم البتة فدل ذلك على أنها آكد من (ليس) في النفي. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 460 (¬2) في سيبويه أنها جواب للقد 1/ 460 (¬3) الاتقان 1/ 176 (¬4) الأشباه والنظائر 2/ 62، وانظر البرهان 2/ 417

وقد يعترض معترض على هذا الاستدلال بالقول أنه ربما دل وجود الباء الزائدة في خبر (ما) أكثر من (ليس) وغير ذلك مما ذكرته على ضعف (ما في التوكيد فاحتيج إلى توكيدها بما ذكرت بخلاف ليس). وهذا الاعتراض مردود فهو شبيه بقول من يقول إن القسم ضعيف، فاحتيج إلى تقوية جوابه بإن واللام، وأن الجملة المصدرة بإن ضعيفة بدليل أنها تقع جوابًا للقسم فقولنا (محمد حاضر) آكد من (أن محمدًا لحاضر) بدليل إن الجملة الأخيرة تقع جوابًا للقسم خلافا للأولى، أو يقول أن (إن) ضعيفة في التوكيد بدليل وقوع اللام في خبرها، أو يقول إن (نون التوكيد) ضعيفة ولذا تقع في جواب القسم، أو يقول إن (ما) الزائدة لا تفيد التوكيد بدليل اقترانها بنون التوكيد في الكلام كثيرًا، ومن المعلوم أن (ما) الزائدة بعد إن الشرطية يكثر توكيد شرطها بالنون وقد جاءت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة كذلك كقوله تعالى: {وإما تعرضن عنهم} [الإسراء: 28]، وقوله: {وإما ينسينك الشيطان} [الأنعام: 68]، و {وإما تخافن من قوم خيانة} [الأنفال: 58] و {فإما تثقفنهم في الحرب} [الأنفال: 57]، و {فإما ترين من البشر أحدًا} [مريم: 26]، ومع غير الشرط أيضا كقوله تعالى: {عما قليل ليصبحن نادمين} [المؤمنون: 40]. فالمعترض إما أن يسلب نون التوكيد توكيدها، وأما أن يسلب (ما) توكيدها، و (ما) هذه مؤكدة كما ذكر سيبويه (2/ 152، 2/ 305)، و (أن) مؤكدة كما ذكر سيبويه. قال سيبويه: "فإن إن حرف توكيد فلها لام كلام اليمين" (¬1). فإن حرف التوكيد قد يؤتى معه بمؤكد آخر لتقويته، وزيادة توكيده، كما ذكر سيبويه في (أن) وليس الأمر معكوسًا كما يظن ظان. ألا ترى إلى قوله تعالى: {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من ¬

_ (¬1) سيبويه 2/ 456

إن

شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين} [يس: 13 - 17]، أقول ألا ترى كيف أكد الكلام أولا، بأن دون اللام (أنا إليكم مرسلون) ثم لما اشتد التكذيب، احتاج الأمر إلى توكيد فقال (ربنا يعلم أنا إليكم لمرسلون فأكده بإن واللام؟ (¬1) فهل مثل ذاك وأظنه من الوضوح بمكان. إن: وإما (إن) فأنكر إعمالها جمهور البصريين وأجازه جماعة مستندين إلى طائفة من النصوص وقيل هي لغة أهل العالية (¬2) ومن ذلك قولهم: (إن أحد خيرا من أحد إلا بالعافية) وقوله: إن هو مستوليا على أحد ... إلا على أضعف المجانين ولم ترد معملة في القرآن الكريم في القراءة المشهورة. ويذكر لنا النحاة أنها بمنزلة (ما) في نفي الحال (¬3)، والصحيح أنها تأتي لغيره قال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} [فاطر: 41]. والذي يبدو أنها آكد من (ما) في النفي، كما تستعمل كثيرا في الإنكار قال تعالى على لسان النسوة في يوسف عليه السلام: (ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم) [يوسف: 31]، فنفي مرة بما ومرة بإن. ولما رأيت إثبات صورة الملك ليوسف، وهو أمر في حاجة إلى توكيد في النفي والإثبات قال (إن هذا إلا ملك كريم)، وقال: {ما هن أمهاتهم إن ¬

_ (¬1) انظر الأتقان 2/ 64 - 65 (¬2) الأشموني 1/ 255، التصريح 1/ 301، الغنى 1/ 23 - 24، ابن عقيل 1/ 121، 122، والعالية هي ما فوق نجد إلى أرض تهامة وإلى ما وراء مكة وما وإلاها التصريح 1/ 201 (¬3) المفصل 2/ 200، الهمع 1/ 124

لا

أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} [المجادلة: 2]، فنفي مرة بما ومرة بإن - فإنه لما أراد الإكار لى هؤلاء المظاهرين (¬1) من الرجال وأراد أن يرجعهم إلى حقيقة كأنهم جلهوها قال منكرًا عليهم (إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) وقال: {ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون} [يس: 15]، فإن نفي الثاني أقوى فجاء به بإن، فإن الأول إثبات البشرية والثاني الكذب، وهم بشر لا شك في ذلك فجاء به بما. والثاني إثبات الكذب للرسل عليهم السلام وإنكار أن يكونوا صادقين وهو يحتاج إلى توكيد أكثر فجاء به بأن. قال مجاهد: " كل شيء في القرآن (إن) فهو إنكار" (¬2)، وقال الراغب: " وأكثر ما يجيء يتعقبه (إلا) نحو {إن نظن إلا ظنا} [الجاثية: 32]، {إن هذا إلا قول البشر} [المدثر: 25]، {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 54]. (¬3) وقال برجشتر اسر: " وإن تكاد تطابق (ما) في وظيفتها وأكثر وقوعها قبل (إلا) للجناس بينهما نحو (إن الحكم إلا لله) [يوسف: 40] ". (¬4) وهذه الملاحظة جديرة بالانتباه وهي تؤيد ما ذهبنا إليه فإن القصر بالنفي (وإلا) يعطي النفي قوة وتوكيدًا، فلما كانت (إن) أكثر من (ما) في ذلك دل على أنها أقوى منها. لا: وهي أقدم أدوات النفي في العربية ويقابلها في الأكدية والآرامية (la) وفي العبرية (ةا) (¬5) وقد أنكر كثير من النحاة إعمال (لا) عمل ليس، وقال الآخرون هو قليل خاص بلغة أهل الحجاز، والغالب على خبرها أن يكون محذوفا، حتى قيل هو لازم الحذف ¬

_ (¬1) الظهار هو أن يقول الرجل لزوجه: أنت علي كظهر أمي فتحرم عليه وهي عادة جاهلية أبطلها الإسلام (¬2) الاتقان 1/ 155 (¬3) مفردات الراغب 27 (¬4) التطور النحوي 115 (¬5) التطور النحوي 110

لات

والصحيح جواز ذكره (¬1) إذا عُلم ووجوب ذكره إذا جهل، قال الشاعر: تعز فلا شيء على الأرض باقيًا ... ولا وزر مما قد قضى الله واقيًا. و(لا) هذه التي يقال عنها إنها تعمل عمل ليس، تنفي الجنس برجحان ويحتمل أن يكون نفيها للوحدة فإن قلت: (لا رجل حاضرًا) نفيت أن يكون أحد من جنس الرجال حاضرًا ويجوز أن يراد بذلك لا رجل واحد وهو امر مرجوح ولا فرق بين قولنا (لا رجل حاضر) و (لا رجل حاضرا) فإن كليهما لنفي الجنس، غير أن في الجملة الأولى هذا الاحتمال من وظن أن العاملة عمل ليس لا تكون إلا للوحدة كان غالطًا (¬2). لات: أن هذا الحرف من ابتداعات العربية، ولا يوجد له نظير في سائر اللغات السامية، كما هو مفهوم من قول براجشتراسر قال: "وقد اشتقت العربية من (لا) أدوات أخرى للنفي لا توجد في سائر اللغات السامية إلا ليس" (¬3) وقال: "فلات مقصورة على نفي وجود الحين نحو (لات حين مناص) ويقابل هذه العبارة في العبرية مثل (loetheasel hammiqne) أي لات حين جمع المال. فلات يقابلها (ةا) - المطابقة (لا) بدون التاء" (¬4). يرى الجمهور إن هذا الحرف مركب من (لا) النافية وتاء التأنيث، وهذه التاء لتأنيث الكلمة، ومثلها تاء ثمت وربت، وقيل دخلت للمبالغة في النفي كما قالوا علامة ونسابة. وذهب آخرون إلى أنها (لا) والتاء الزائدة في أول الحين، وقال آخرون هي فعل وهؤلاء على قولين أحدهما أنها في الأصل لات يليت بمعنى نقص، والآخر: أن أصلها ليس ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 253 - 254، التصريح 1/ 199، ابن عقيل 1/ 121 - 122، الهمع 1/ 125، المغني 1/ 239 - 240 (¬2) التصريح 1/ 199، الرضي على الكافية 1/ 120 (¬3) التطور النحوي 111 (¬4) التطور النحوي 115

الباء الزائدة

بكسر الياء فقلبت الياء ألفا لتحريكها وانفتاح ما قبلها وأبدلت السين تاء" (¬1). والذي نراه أنها (لا) زيدت عليها التاء لتخصيصها عنها بأحكام، فهي أكثر ما تستعمل في نفي الزمن قال الزمن {ولات حين مناص} [ص: 3]، وقيل: (ندم البغاة ولات ساعة مندم) وقال الآخر (طلبوا صلحنا ولات أوان) وقد تستعمل في غيره قليلا، نحو قوله: (يبغي جوارك لات مجير). وهي عند بعض العرب تستعمل حرفًا جارًا، لاسم الزمان خاصة كما أن منذ، ومذ كذلك (¬2). والزيادة على الكلمة لتخصيصها بأحكام ليست للأولى، كثيرة في اللغة فمن ذلك أن (إن) مثلا مختصة بالجمل الإسمية، فإذا دخلت عليها (ما) جعلتها صالحة للإسمية والفعلية. و(ذا) اسم إشارة للقريب، فإن دخلت عليها كاف الخطاب جعلتها للمتوسط (ذاك)، فإن دخلت عليها اللام كانت للبعيد (ذلك) ونحو هذا كثير، وجعلُ كل أداة من هذه الأدوات مختصة بشيء، هو الأقرب إلى طبيعة اللغة، لأن من حكمة العربية أن تكون الأدوات المختلفة تؤدي معاني مختلفة. الباء الزائدة: تدخل الباء الزائدة على أخبار ليس، وما، لا، وكان المنفية، لتأكيد النفي قال تعالى: {ومن الناس من يقول أمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8]. ويبدو أن العرب استعملت الباء لتأكيد النفي، كما استعملت اللام في تأكيد الأثبات ولذلك قالوا: قولك (ما زيد بمنطلق) جواب (أن زيدًا لمنطلق) كما هو رأي الكوفيين (¬3). ¬

_ (¬1) ابن يعيش 1/ 109، الأشموني 1/ 257، التصريح 1/ 199 - 200، الهمع 1/ 126، الرضي على الكافية 1/ 296، المغني 1/ 253 - 254، الاتقان 1/ 172 (¬2) التصريح 1/ 200 (¬3) التصريح 1/ 201، البرهان 2/ 417

قال سيبويه: "وقد تكون باء الإضافة بمنزلتها في التوكيد وذلك قولك: ما زيد بمنطلق، ولست بذاهب، أراد أن يكون مؤكدًا حيث نفي الانطلاق والذهاب" (¬1). ولاستعمالها لتأكيد النفي لم تدخل على الخبر المنتقض بالا (¬2). ويبدو أن استعمال الباء لتأكيد النفي أوسع من دائرة هذه الأدوات، فقد وردت لتأكيد النفي في باب ظن نحو: ما ظننته بخارج قال: دعاني أخي والخيل بيني وبينه ... فلما دعاني لم يجدني بقعدد ودخلت في خبر لا النافية للجنس، وجعلوا منه (لا خير بخير بعده النار) وزيدات في الحال المنفية نحو: فما رجعت بخائبة ركاب ... حكيم بن المسيب منتهاها كما زيدت في خبر (أن) بعد رأيت المنفية، قال تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر} [الأحقاف: 33] (¬3). وقال البصريون هي لرفع توهم الأثبات "فإن السامع قد لا يسمع أول الكلام (¬4) فإذا سمع الباء في الخبر، عرف أن الكلام منفي لأنها لا تزاد في الإيجاب. وواضح إن كلا التعليلين يؤدي إلى التوكيد فالأول ظاهر، وعلى قول البصريين نقول: لماذا أراد العربي أن يرفع توهم أرادة الإثبات في هذه الجمل دون غيرها، مما لم يذكر فيه الباء؟ ¬

_ (¬1) سيبويه 2/ 307، لسان العرب ليس 8/ 96 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 292 التصريح 1/ 250 (¬3) الرضي على الكافية 2/ 292، جواهر الأدب في معرفة كلام العرب 21 - 22، الأشموني 1/ 250 - 252 الصبان 1/ 250، التصريح 1/ 201 - 202، ابن عقيل 1/ 121، حاشية الخضري 1/ 121، الهمع 1/ 127، المغنى 106، البرهان 2/ 417 (¬4) التصريح 1/ 201، الصبان 1/ 250

العطف

لماذا لا يريد العربي أن يرفع توهم أرادة الأثبات في نحو قولهم: (ليس أخوك حاضرا) ويريد أن يرفع هذا التوهم في قولهم: ليس أخوك بحاضر؟ لماذا يريد العربي أن يعرف المخاطب إن هذا نفي، وإنه إذا كان ساهيًا ينبهه على ذلك في آخر الكلام، لو لم يرد أن يؤكد له النفي، وإن النفي ههنا له قيمته؟ فمآل تعليل البصريين يعود إلى التوكيد كما صرح به الكوفيون. العطف: لا نريد ههنا أن نبحث أحكام العطف، فإن لهذا البحث موضعًا غير هذا، ولكن نريد ههنا أن نبحث أحكامًا تخص موضوعنا الذي نحن فيه، فمن ذلك: 1 - العطف على المحل: تقول العرب: (ما محمد بكاتب ولا شاعرٍ) وتقول: (ما محمد بكاتب ولا شاعرًا) فهل ثمة فرق في المعنى بين القولين؟ جاء في كتاب سيبويه: " هذا باب ما تجريه على الموضع لا على الاسم الذي قبله وذلك قولك: " ليس زيد بجبان ولا بخيلا وما زيد بأخيك ولا صاحبك، والوجه فيه الجر لأنك تريد أن تشرك بين الخبرين وليس، ينقض إجراؤه عليه المعنى فإن يكون آخره على أوله أولى ليكون خالهما في الباء سواء كحالهما في غير الباء مع قربه منه .. ومما جاء في الشعر في الأجراء على الموضع، قول عقيبة الأسدي: معاوي أننا بشر فأسجح ... فلسنا بالبال ولا الحديدا (¬1) وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وإذا عطفت على خبر ما أو خبر ليس المجرور بالباء منفيًا نحو (ما زيد بقائم ولا قاعد)، جاز في المعطوف الجر حملاً على اللفظ والنصب على المحل قال: ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 33 - 34

معاوي أننا بشر فأسجح (¬1). والذي يبدو لي أن ثمة فرقًا في المعنى بين العطف على اللفظ، والعطف على المحل فإذا قلت: (ما محمد بكاتب ولا شاعر) كان المعطوف مؤكدًا، لأنه على أرادة الباء الزائدة للتوكيد. وإذا قلت (ما محمد بكاتب شاعرًا) كان المعطوف غير مؤكد، لأنه ليس على إرادة الباء، فيكون المعطوف عليه آكد في النفي من المعطوف، وهذا واضح، جاء في كتاب سيبويه: " وتقول: ما زيد كعمرو ولا شبيها به، وما عمرو كخالد ولا مفلحًا، النصب في هذا جيد لأنك إنما تريد ما هو مثل فلان ولا مفلحًا، هذا معنى الكلام، فإن أردت أن تقول: ولا بمنزلة من يشبهه جررت وذلك قولك: ما أنت كزيد ولا شبيه به، فإنما أردت ولا كشبيه به" (¬2). فإن النصب ليس على إرادة الكاف والجر على إرادته، وجاء فيه: "ما كان عبد الله منطلقا ولا زيد ذاهب إذا لم تجعله على كان وجعلته غير ذاهب الآن" (¬3). فأنت ترى إن الجملة المعطوفة كما يقول سيبويه على غير إرادة معنى (كان) أي على غير إرادة معنى المضي ولو قلت: ما كان عبد الله منطلقا ولا زيد ذاهبًا، لكانا بمعنى واحد أي على إرادة كان. وهذا مثل ذاك. وقد يقول قائل: كيف يمكن عطف ما هو أقل توكيدًا على المؤكد أو بالعكس؟ وهل يوافق هذا وظيفة العطف التي تفيد التشريك ولا سيما الواو؟ فإنه إذا كان الأول مؤكدًا كان الثاني مؤكدا بحكم العطف وإزالة هذه الشبهة نقول إن العطف لا يعني تمام التشريك، فالواو كما يقول النحاة (لمطلق الجمع) ولا تفيد التشريك التام، ولذا يعطف بها المنفي على المثبت تقول: ذهب ولم يعد، والإنشاء على الخير كقوله تعالى: {وأخرى تحبونها نصرٌ من الله وفتح قريب وبشر ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 293 (¬2) سيبويه 1/ 35 (¬3) سيبويه 1/ 29

المؤمنين} [الصف: 13]، وأجاز سيبويه (جاء زيد ومن عمرو العاقلان) (¬1)، وتعطف النهي على الأمر قال تعالى: {فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} [يونس: 89]. حتى إن جمهور البصريين قالوا إن واو المعية، وفاء السببية حرفا عطف في نحو (لا تأكل السمك وتشرب اللبن)، و (لا تقصر فتفشل) كما هو معلوم. ثم قد يعطف الاسم المشبه للفعل على الفعل وبالعكس، كقوله تعالى: {يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي} [الأنعام: 95]، وقوله: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} [الملك: 19]، ومن المسلمات الأولى إن الاسم غير الفعل في الدلالة ويذكر النحاة أن الاسم يدل على الثبوت، والفعل يدل على الحدوث، والتجدد، نحو قولك (زيد مطلع) و (زيد يطلع) والاسم أقوى وأثبت. وقال تعالى: {والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا} [العاديات: 1 - 3]، فعطف الفعل على الاسم، والعطوف عليه مقسم به، وليس كذلك المعطوف الفعلي، فإن حرف الجر لا يدخل على الفعل كما هو معلوم. ثم إن مما يبحثه النحاة، قولهم إن الفاء اختصت بعطف ما ليس صلة على الصلة، وتعطف ما لا يصلح أن يكون خبرًا على ما هو خبر، وما لا يصلح أن يكون حالا على ما هو حال، وما لا يصلح أن يكون نعتًا على ما هو نعت كقولهم (محمد يضحك فتبكي هند) وكقوله تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا} [فاطر: 9]، فعطف (تثير) وهو لا يصلح أن يكون صلة على (أرسل) الذي هو صلة. وقد شرك الرضي الواو في قسم من المواطن كقولك: (الذي تقوم القيامة ولا ينتبه أنت) (¬2). ¬

_ (¬1) المغني 2/ 482 (¬2) انظر الرضي على الكافية 1/ 254

2 - عطف الجملة على الجملة

وبعد ذلك ألسنا نقول: (أقبل محمد نفسه وخالد) فيكون المعطوف عليه مؤكدًا بخلاف المعطوف؟ ونقول: رأيت الطلاب كلهم لا بعضهم فيكون المعطوف والمعطوف عليه مختلفين من حيث التوكيد؟ ومن هنا جاء النظر في قراءة (إما يبلغان عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) بإثبات الألف في (يبلغان) واختلاف النحاة في إعراب (كلاهما) توكيدًا أولا مع أنها معطوفة على عير التوكيد. فاتضح بهذا ما قلناه. وهذا الذي ذكرناه إنما يكون في اختيار الكلام إما في الشرع فقد يضطر إلى ذلك الشاعر اضطرارا فإن للشعر لغته ولذلك كقول الشاعر: معاوي إننا بشر فأسجع ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا أديروها بني حرب عليكم ... ولا ترموا بها الغرض البعيدا 2 - عطف الجملة على الجملة، تقول: (ما كان زيد ذاهبًا ولا محمد حاضرا) فتشرك الجملة الثانية مع الأولى في النفي في المضي أي ولا كان محمد حاضرًا، فإن قلت (ولا محمد حاضر) لم تكن على إرادة المضي بل على إرادة الحال فهي غير مشتركة في المضي مع الجملة الأولى. جاء في (الكتاب)، "تقول: (ما عبد الله خارجًا ولا معن ذاهب) ترفعه على ألا تشرك الاسم الآخر في (ما) ولكن تبتدئه كما تقول: ما كان عبد الله منطلقا ولا زيد ذاهب، إذا لم تجعله على كان وجعلته غير ذاهب الآن. وكذلك (ليس) وإن شئت جعلتها (لا) التي يكون فيها الاشتراك فتنصب كما تقول في كان: ما كان زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا، وذلك قولك: ليس زيد ذاهبًا ولا أخوك منطلقا) وكذلك ما زيد ذاهبًا ولا معن خارجًا .. و(ما) يجوز فيها الوجهان، كما يجوز في (كان) إلا أنك إن حملته على الأول أو ابتدأت فالمعنى إنك تنفي شيئا غير كائن في حال حديثك. وكان الابتداء في (كان) أوضح لأن المعنى يكون على ما مضى وعلى ما هو الآن. وليس يمتنع أن يراد به الأول كما أردت في (كان).

وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " ما كان زيد قائما ولا قاعد غلامه فيكون من عطف إسمية على فعلية ويكون مضمون المعطوف عليه ههنا ماضيا لأن (ما كان) لنفي الماضي، ومضمون المعطوف حال لأنه ليس مبنيا على (ما كان) بل هو كقولك (غلامه قاعد) فظاهره الحال. وأما في (ما)، و (ليس) فمضمون المعطوف والمعطوف عليه حال رفعت الوصف الذي بعد حرف العطف أو نصبته، لأنه ما وليس للنفي المطلق فظاهرهما الحال. ونقول على هذا: (ما كان زيد قائمًا ولا عمرو قاعدًا أو قاعد) فإذا نصبت فالقيام والقعود منتفيان في الماضي، وإذا رفعت فالقيام منتف في الماضي والقعود في الحال. وأما في (ما زيد) أو (ليس زيد قائمًا ولا عمرو قاعدا أو قاعد) فالجملتان حاليتان رفعت قاعدًا أو نصبته" (¬1). والذي يبدو لي أن معنى النصب يختلف عن معنى الرفع في ليس وما أيضا، فقولك (ليس زيد قائما ولا عمرو قاعد) يختلف عن قولك (ولا عمرو قاعدا) وليسا متماثلين فنصب الخبر في المعطوف يقتضي أن المعنى على إرادة (ليس) ورفعه ليس على إرادتها فتكون جملة (ولا عمرو قاعدًا) في التقدير فعلية وجملة (ولا عمرو قاعد) إسمية والإسمية أثبت وآكد من الفعلية. وكذلك النفي بما، فإن نصب الخبر في المعطوف، إنما هو على إرادة (ما) أي أن النفي مقيد بهذا الحرف ومعناه، ورفعه ليس على تقدير ذلك بل هو لمطلق النفي وليس مقيدًا بما. ومما يدخل في هذا الباب قولهم (ما زيد قائما بل قاعد) أو (لكن قاعد) أي بل هو قاعد فليس النفي داخلا على ما بعد حرف العطف، بل إن ما بعد الحرف مثبت. وأجاز المبرد أن يقال: (ما زيد قائمًا بل قاعدًا) فيقتضي على هذا أن تكون الكلمة الثانية مشتركة ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 294

3 - العطف على المعنى

في النفي مع ما قبلها، أي على تقدير: بل ما هو قاعدا. جاء في (حاشية الصبان): "وأجاز المبرد كون (بل) ناقلة النفي إلى ما بعدها فعليه يجوز: ما زيد قائما بل قاعدًا بالنصب أي بل ما هو قاعدًا" (¬1). أي أضربت عن الأخبار الأول فأخبرت خبرا آخر وهو كقولك: (زيد قائم بل قاعد) أردت أن تخبر عن قيام زيد، ثم أضربت عن هذا فأخبرت عن قعوده وهو نحو قولك: أضرب زيدًا بل خالدًا أي بل أضرب خالدًا. 3 - العطف على المعنى: وهو ما يسميه النحاة العطف على التوهم نحو (ليس زيد قائمًا ولا قاعدٍ) وهو غير مقيس عند الجمهور جاء في التسهيل: " وقد يجر المعطوف على الخبر الصالح للباء مع سقوطها (¬2) " قال الدماميني: " وهذا هو المعروف بالعطف على التوهم والذي عليه الجمهور النحاة، أنه غير مقيس" (¬3). ومن ذلك قوله: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا قال سيبويه: " فجعلوا الكلام على شيء يقع هنا كثيرًا ومثله قول الأحوص: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها حملوه على ليسوا بمصلحين ولست بمدرك" (¬4). ويبدو أن هذا العطف على إرادة معنى مغاير للأول: فالمجرور أقوى من المنصوب وآكد لأنه على تقدير الباء فقولك: (ما زيد قائمًا ولا مسافر) يفيد أن نفي السفر آكد ولذلك جئت به مجرورا، وهو مقابل لقولنا: ما زيد بقائم ولا مسافرًا. ¬

_ (¬1) الصبان 1/ 250، التصريح 1/ 198 (¬2) التسهيل 58، الرضي على الكافية 1/ 293، حاشية الصبان 1/ 250 (¬3) حاشية الصبان 1/ 250 (¬4) سيبويه 1/ 154 - 155

أفعال الرجاء والمقاربة والشروع

أفعال الرجاء والمقاربة والشروع أفعال الرجاء يذكر النحاة أن أفعال الرجاء ثلاثة: عسى وحرى وأخلولق (¬1). عسى: استعملت (عسى) فعلا لرجاء حصول الفعل في المستقبل تقول: (عسى محمد أن يحج في العام القابل) جاء في (شرح الرضي على الكافية): " عسى لطمع حصول مضمونه مطلقا سواء ترجى حصوله عن قريب أو بعد مدة مديدة تقول: عسى زيد أن يخرج فهي بمعنى لعله يخرج ولا دنو في لعل اتفاقًا" (¬2). وقال ابن يعيش: "وهو فعل غير متصرف ومعناه المقاربة على سبيل الترجي، قال سيبويه: معناه الطمع والإشفاق أي طمع فيما يستقبل واشفاق أن لا يكون" (¬3). والكثير في خبرها أن يكون فعلا مضارعًا مقترنًا بأن، وذلك أنها لما كانت للاستقبال جاؤا بأن الدالة على الاستقبال، إذ لفظ المصدر لا يدل على زمان مخصوص، وأما لزوم (أن) الخبر فلما أريد من الدلالة على الاستقبال وصرف الكلام إليه لأن الفعل المجرد من (أن) يصلح للحال والاستقبال، و (أن) تخلصه للاستقبال، والذي يؤيد ذلك أن الغرض بـ (أن) الدلالة على الاستقبال لا غير. وأما قول الشاعر: عسى طيء من طيء بعد هذه ... ستطفيء غلات الكلى والجوانح ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 258، التصريح 1/ 203، ابن عقيل 1/ 123 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 333 (¬3) ابن يعيش 7/ 115

لما كانت السين كأن في الدلالة على الاستقبال وضعها موضعها وأن اختلفت من حيث أن الفعل لا يكون معها في تأويل المصدر" (¬1). وجاء في (أسرار العربية): "فإن قيل: فلم أدخلت في خبره (أن)؟ قيل: لأن (عسى) وضعت لمقارنة الاستقبال و (أن) إذا أدخلت على الفعل المضارع أخلصته للاستقبال، فلما كانت عسى موضوعة لمقارنة الاستقبال، و (أن) تخلص الفعل للاستقبال ألزموا الفعل الذي وضع لمقارنة الاستقبال (أن) التي هي علم الاستقبال" (¬2). ووقع النحاة في إشكال إعرابي في نحو قولنا (عسى زيد أن يذهب) فـ (أنْ) وما بعدها مصدر ولا يصح الإخبار بالمصدر عن الذات، إذ لا يصح أن يقال: عسى زيد ذهابًا. ولذلك اختلفوا على آراء عدة: فمنهم من ذهب إلى أنه على تقدير مضاف أي عسى حال زيد أن يقوم، أو عسى زيد ذا أن يقوم: قال الدماميني: وفي هذا العذر تكلف إذ لم يظهر المضاف الذي قدره يوما من الدهر لا في الاسم ولا في الخبر. (¬3) ومنهم من ذهب إلى أنه على سبيل المبالغة قال ابن الناظم: "فإن قلت: كيف جاز اقتران الخبر ههنا بأن المصدرية مع أنه يلزم منه الإخبار عن اسم العين بالمصدر؟ قلت: يجوز ذلك على المبالغة". (¬4) "وقيل: المصدر المؤول قد يصح حمله على الاسم من غير تأويل. وقيل: يقدر أن الإخبار إنما وقع أولاً بالفعل ثم جيء بأن، لتؤذن بالتراخي لقصد السبك .. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 7/ 118 (¬2) أسرار العربية 127، وانظر الصبان 1/ 260، الرضي على الكافية 2/ 388 (¬3) حاشية الصبان 1/ 260، حاشية الخضري 1/ 124 (¬4) ابن الناظم 62 - 63، الصبان 1/ 260

وقيل: المقرون بأن مفعول به على تضمين الفعل معنى قارب، أو على إسقاط الخافض على تضمينه معنى قرب. وقيل: بدل اشتمال من الفاعل على تضمينه معنى قرب. وعسى على هذين القولين تامة. وقيل: بدل اشتمال من المرفوع وسد هذا البدل مسد الجزءين" (¬1). والذي يبدو لي أن الرأي الراجح هو الذي يذهب إلى أن (أن) ليست مصدرية وإنما هي مؤذنة بتراخي الفعل أي جيء بها للدلالة على الاستقبال والدليل على ذلك: 1 - سقوط (أن) لضرورة أو لعدم إرادة تخصيص الفعل بالاستقبال كقوله: عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر ... بمنهمر جون الرباب سكوب وقول الآخر: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب 2 - مجيء خبرها وصفًا كقوله: أني عسيت صائما. 3 - دخول سين الاستقبال بدلا من (أن) في الخبر لأن كليهما للاستقبال كقوله: عسى طيء من طيء بعد هذه ... ستطفيء غلات الكلى والجوانح 4 - ليس ثمة ضرورة للقول بأن (أن) الناصبة للفعل مصدرية دائمًا، فقد تكون مصدرية وقد تكون غير ذاك، وعندنا في العربية نظائر لذلك فقد يختلف معنى الحرف الواحد فيكون مرة لشيء ومرة لغيره نحو (ما) المصدرية، فقد تكون مرة ظرفية مصدرية، وقد تكون مصدرية غير ظرفية، و (لو) الشرطية قد تكون مرة حرف امتناع لامتناع نحو (لو زارني لأكرمته) وقد تكون شرطية بمعنى (إن) ليس فيها الامتناع كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 1/ 260، الهمع 1/ 130، الرضي على الكافية 2/ 335، المغني 1/ 151 - 152

{ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} [لقمان: 27]، ونحو ذاك كثير، فلماذا يصر النحاة على أن (أن) الناصبة مصدرية ليس غير؟ ويمكن أن يقال أيضًا: ان الحروف المصدرية مهيئة لإقامة الجملة. مقام المفرد، فتهيئها لتكون فاعلة ومفعولة وغير ذلك نحو (سرني أن عدت) فقد يصح في المعنى أن تؤول بالمصدر، وأحيانًا لا يصح ذلك وفي كلتا الحالتين يراد معنى الجملة لا معنى المفرد. ألا ترى أنك تقدر (أن تصوم خير لك) و (أن صمت خير لك) تقديرًا واحدًا فتقول: (صيامك خير لك) مع أن الزمانين مختلفان. أو لا ترى أنك تقدر هذه الجمل كلها: سرني أن تعود سرني أن عدت سرني لو تعود سرني أنك عائد سرني أنك عدت سرني أنك تعود تقديرًا واحدا فتقول (سرني عودك) على ما فيها من اختلاف في الزمن والثبوت والحدوث؟ فمعنى المصدر المؤول يختلف عن معنى المصدر الصريح، لأن المصدر المؤول يراد منه معنى الجملة بخلاف المصدر الصريح. وربما لم يستقم التأويل بالمفرد كما أسلفنا، نحو قولك: (عسى أن يزورنا خالد) و (عسى الله أن يأتي بالفتح) و (حسبت أن خالدًا قادم) لأن المراد في الحقيقة معنى الجملة لا المفرد، ولا يشترط أن يؤدي المفرد معنى الجملة دائمًا.

حرى، أخلولق

استعمالاتها: استعملت (عسى) على ثلاثة أضرب: 1 - فعل ماض جامد، مسندًا إلى اسم ظاهر أو ضمير بارز، نحو {عسى ربك أن يرحمكم} [الإسراء: 8]، وعسيتما أن تفعلا، قال تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض} [محمد: 22]. 2 - فعل ماض جامد مسندًا إلى أن والفعل، نحو: (عسى أن يقوم زيد) قال تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} [البقرة: 216]، وهو ههنا فعل تام كما يقول النحاة أي عسى قيام زيد بمعنى قرب قيام زيد ولا يصح أن يقال: عسى قيام زيد. ويقال في (أن) هنا ما قلناه ثم. 3 - حرف شبيه بلعل يدخل على الضمير فينصبه نحو قولهم: عساك أن تفعل جاء في (الكتاب): "وأ/اقولهم عساك فالكاف منصوبة قال الراجز وهو رؤبة: يا أبتا علك أو عساكا. والدليل على أنها منصوبة أنك إذا عنيت كانت علامتك (ني) قال عمران بن حطان: ولي نفس أقول لها إذا ما ... تنازعني لعلي أو عساني فلو كانت الكاف مجرورة لقال (عساي) ولكنهم جعلوها بمنزلة (لعل) في هذا الموضع" (¬1). حرى، أخلولق: وهما فعلان شبيهان بعسى في المعنى، والعمل، تقول: حرى زيد أن يفعل، وأخلولق أن يفعل: فمعنى (حرى) صار خليقا وجديرًا بالأمر تقول: هو حري بأن يفعل، وحريٌ بأن ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 388، وانظر 1/ 477، ابن يعيش 7/ 122

أفعال المقاربة

يفعل وحر بأن يفعل، أي جدير بالفعل. وأما (اخلولق) فو أفعوعل من الفعل (خلق)، .. ومعنى (خلق) صار خليقا أي جديرا تقول: هو خليق بهذا الأمر أي جدير، جاء في (الرضي على الكافية): "ومعناهما صار حريا وحرى، أي جديرا، وصار خليقا، وأصلهما حرى بأن يفعل، واخلولق بأن يقوم، فحذف حرف الجر كما هو القياس مع أن وأن" (¬1). تقول: حرى زيد أن يفعل، أي صار جديرا بالفعل، واخلولق سعيد أن يسود أي صار جديرا بالسيادة. وخبرهما كخبر عسى، فعل مضارع غير أنه مقترن أن وجوبًا فلا يجرد منها وذلك لأن هذين الفعلين للاستقبال دائمًا، فلزم لذلك اقتران خبرهما بأن جاء في (التصريح): "لأن الفعل المترجي وقوعه، قد يتراخى حصوله فاحتيج إلى (أن) المشعرة بالاستقبال" (¬2). أفعال المقاربة: أفعال المقاربة هي: كاد وكرب وأوشك (¬3). كاد: تستعمل (كاد) لمقاربة حصول الفعلن أي قارب الحصول ولم يحصل، تقول: (كاد زيد يغرق) أي أشرف عليه، وهي أقرب من (عسى) إلى الحصول "ألا ترى أنك لا تقول: كاد زيد يدخل المدينة، إلا وقد شارفها وقد يجوز أن تقول: عسى زيد أن يحج وهو لم يبرح من منزله" (¬4). ¬

_ (¬1) الرضى على الكافية 2/ 337، وانظر القاموس المحيط (خلق) (الحارية). (¬2) التصريح 1/ 206 - 203، وانظر الأشموني 1/ 261، ابن عقيل 1/ 126 (¬3) الأشموني 1/ 258، التصريح 1/ 203، ابن عقيل 1/ 123 (¬4) الجمل للزجاجي 210

وجاء في (المفصل): ""والفصل بين معني عسى وكاد إن (عسى) لمقاربة الأمر على سبيل الرجاء والطمع تقول: عسى الله أن يشفي مريضي، تريد أن قرب شفائه مرجو من عند الله مطموع فيه، و (كاد) لمقاربته على سبيل الوجود والحصول تقول: كادت الشمس تغرب تريد أن قربها من الغروب قد حصل (¬1) ". وخبرها فعل مضارع غير مقترن بأن في الغالب وذلك لقربها من الوقوع، بخلاف عسى فناسب ذلك أن يجرد من (أن) لأن (أنْ) للدلالة على الاستقبال كما ذكرنا، وقد يراد بها تنفيس الوقت وتبعيد المقاربة فيجاء بأن في خبرها فقولك (كاد زيد أن يموت) أبعد عن الحصول من قولك (كاد زيد يموت) والجملة الثانية أقرب إلى وقوع الفعل ولذلك جردت من (أن). قال ابن يعيش: "من أفعال المقاربة (كاد) تقول: كاد زيد يفعل أي قارب الفعل ولم يفعل إلا أن كاد أبلغ في المقاربة من عسى فإذا قلت: (كاد زيد يفعل) فالمراد قرب وقوعه في الحال إلا أنه لم يقع بعد لأنك لا تقوله إلا لمن هو على حد الفعل كالداخل فيه لا زمان بينه وبين دخوله قال الله تعالى: {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} [النور: 43]، ومن كلام العرب: كاد النعام يطير .. واشترطوا أن يكون الخبر فعلا لأنهم أرادوا قرب وقوع الفعل فأتوا بلفظ الفعل ليكون أدل على الغرض وجرد ذلك الفعل من (أن) لأنهم أرادوا قرب وقوعه في الحال و (أن) تصرف الكلام إلى الاستقبال فلم يأتوا بها لتدافع المعنيين، ولما كان الخبر فعلا محضًا مجردا من (أن)، قدروه باسم الفاعل لأن الفعل يقع في الخبر موقع اسم الفاعل، نحو زيد يقوم والمراد قائم" (¬2). وقال: "إن الأصل في (عسى) أن يكون في خبرها (أن) لما فيها من الطمع والإشفاق وهما معنيان يقتضيان الإستقبال و (أن) مؤذنة بالاستقبال، واصل (كاد) أن لا يكون في ¬

_ (¬1) المفصل 2/ 164 (¬2) ابن يعيش 7/ 119، وانظر التصريح 1/ 207، درة الغواص 91، الرضي على الكافية 2/ 338

خبرها (أن) لأن المراد بها قرب حصول الفعل في الحال إلا أنه قد تشبه عسى بكاد فينزع من خبرها أن .. وقد تشبه كاد بعسى فيشفع خبرها بأن، فيقال: (كاد زيد أن يقوم)، وقد جاء في الحديث (كاد الفقر أن يكون كفرًا). فحملوا كل واحد من الفعلين على الآخر، لتقارب معنييهما وطريق الحمل والمقاربة أن (عسى) معناها الاستقبال، وقد يكون بعض المستقبل أقرب إلى الحال من بعض فإذا قال: (عسى زيد يقوم) فكأنه قرب حتى أشبه قرب (كاد)، وإذا أدخلوا (أن) في خبر كاد فكأنه بعد عن الحال حتى أشبه (عسى) ومن قال: (عسى زيد يفعل) فقد أجرى عسى مجرى (كاد) ويجعل الفعل موضع الخبر كأنه قال: (عسى زيد فاعلا)، وقد صرح الراجز عند الضرورة بذلك فقال: أكثرت في العذل ملحًا دائمًا ... لا تكثرن أني عسيت صائمًا. (¬1) " وجاء في (أسرار العربية): "فإن قيل: ولم كان الاختيار مع (كاد) حذف (أن) وهي كعسى في المقاربة؟ قيل: هما وإن اشتركا في الدلالة على المقاربة، إلا أن كاد أبلغ في تقريب الشيء من الحال وعسى أذهب في الاستقبال، ألا ترى أنك لو قلت: (كاد زيد يذهب بعد عام) لم يجز لأ (كاد) توجب أن يكون الفعل شديد القرب من الحال، ولو قلت: (عسى الله أن يدخلني الجنة برحمته) لكان جائزًا وإن لم يكن شديد القرب من الحال، فلما كانت (كاد) أبلغ في تقريب الشيء من الحال حذف معها (أن) التي هي علم الاستقبال ولما كانت (عسى) اذهب في الاستقبال أتي معها بأن التي هي علم الاستقبال" (¬2). ¬

_ (¬1) ابن يعيش 7/ 121 - 122 (¬2) أسرار العربية 129

نفيها

نفيها: ذهب قسم من النحاة إلى أن (كاد) إثباتها نفي، ونفيها إثبات، فإن قلت: (كاد يفعل) فمعناه: (لم يفعل) وإن قلت: (ما كاد يفعل) فمعناه أنه فعله بعد جهد، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71]. وقيل هي إثباتها إثبات، ونفيها نفي، فإن معنى (كاد) مقاربة الفعل، فإذا قلت (كاد يفعل) فإنك أثبت المقاربة ولم تثبت الفعل، وإذا قلت (ما كاد يفعل) فإنك تنفي مقاربة الفعل أي لم يقارب الفعل، أي لم يفعله ولم يقرب من فعله، فهم متفقون في معنى الإثبات مختلفون في معنى النفي. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {يتجرعه ولا يكاد يسيغه} [إبراهيم: 17]. "يتجرعه يتكلف جرعه (ولا يكاد يسيغه) دخل كاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون إلا ساعة كقوله: (لم يكد يراها) أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها" (¬1). وجاء فيه في قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} [النور: 40]، "مبالغة في لم يرها أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها ومثله قول ذي الرمة: إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح أي لم يقرب من البراح فماله يبرح؟ " (¬2). وجاء في (الكامل) للمبرد في قوله تعالى {إذا أخرج يده لم يكد يراها}: "أي لم يقرب من رؤيتها وإيضاحه لم يرها ولم يكد (¬3) ". ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 175 (¬2) الكشاف 1/ 391 (¬3) الكامل 1/ 167

وجاء في (الأشموني): "وإذا قال (لم يكد يبكي) فمعناه لم يقارب البكاء فمقاربة البكاء منتفية ونفس البكاء منتف انتفاء أبعد من انتفائه عند ثبوت المقاربة .. وكذا قوله تعالى: {إذ أخرج يده لم يكد يراها} هو أبلغ في نفي الرؤية بخلاف من لم يقارب. وأما قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} فكلام تضمن كلامين كل واحد منهما في وقت غير وقت الآخر، والتقدير فذبحوها بعد أن كانوا بعداء من ذبحها غير مقاربين له" (¬1). وجاء في (دلائل الإعجاز): "وروى عن عنبسة أنه قال قدم ذو الرمة الكوفة فوقف يشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها: هي البرء والأسقام والهم والمنى ... وموت الهوى في القلب مني المبرح وكان الهوى بالنأي يمحي فيمحي ... وحبك عندي يستجد ويربح إذا غير النأي المحبيبن لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح قال: فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة: يا غيلان أراه قدبرح: قال فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويتفكر ثم قال: إذا غير النأي المحبين لم أجد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح قال: فلما انصرفت حدثت أبي قال: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله تعالى: {ظلمت بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها}. واعلم أن سبب الشبهة في ذلك أنه قد جرى العرف أن يقال: ما كاد يفعل، ولم يكد يفعل، في فعل قد فعل، على معنى أنه لم يفعل إلا بعد الجهد، وبعد أن كان بعيدًا في الظن أن يفعله كقوله تعالى {فذبحوها وما كادوا يفعلون} فلما كان مجيء النفي في (كاد) ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 268 - 269، الهمع 1/ 132، الرضي على الكافية 2/ 338 - 340، المغني 2/ 662، المقتضب 2/ 75، حاشية الخضري 1/ 125، التفسير القيم 383 وما بعدها، البرهان 4/ 136 - 137

على هذا السبيل توهم ابن شبرمة أنه إذا قال: لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح فقد زعم أن الهوى قد برح، ووقعه لذي الرمة مثل هذا الظن. وليس الأمر كما ظناه، فإن الذي يقتضيه اللفظ لم يكن من أصله، ولا قارب أن يكون، ولا ظن أنه يكون، وكيف بالشك في ذلك وقد علمنا أن (كاد) موضوع لأن يدل على شدة قرب الفعل من الوقوع، وعلى أنه قد شارف الوجود وإذا كان كذلك، كان محالا أن يوجب نفيه وجود الفعل، لأنه يؤدي إلى أن يوجب نفي مقاربة الفعل الوجود وجوده وأن يكون قولك: ما قارب أن مقتضيا على البت وأنه قد فعل. (¬1) ". وقال ابن يعيش في قوله تعالى {إذا أخرج يده لم يكد يراها}: " قد اضطربت آراء الجماعة في هذه الآية، فمنهم من نظر إلى المعنى، وأعرض عن اللفظ، وذلك أنه حمل الكلام على نفي المقاربة، لأن كاد معناها قارب، فصار التقدير لم يقارب رؤيتها، وهو اختيار الزمخشري، والذي شجعهم على لك ما تضمنته الآية من المبالة، بقوله: {ظلمات بعضها فوق بعض} .. والذي أراه أن المعنى أنه يراها بعد اجتهاد ويأس من رؤيتها، والذي يدل على ذلك قول تأبط شرًا: فأبت إلى فهم وما كدت آئبا والمراد ما كدت أؤوب كما يقال: سلمت وما كدت أسلم، ألا ترى أن المعنى أنه آب إلى فهم، وهي قبيلة، ثم أخبر أن ذلك بعد أن كاد لا يؤوب، وعلة ذلك أن (كاد) دخلت لإفادة معنى المقاربة في الخبر، كما دخلت (كان) لإفادة الزمان في الخبر، فإذا دخل النفي على كاد قبلها، كان، أو بعدها لم يكن، إلا لنفي الخبر كأنك قلت: إذا أخرج يده يكاد لا يراها فكاد هذه إذا استعملت بلفظ الإيجاب كان الفعل غير واقع، وإذا اقترن بها حرف النفي كان الفعل الذي بعدها قد وقع". ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 212 - 213

هذا مقتضى اللفظ فيها، وعليه المعنى والقاطع في هذا قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} وقد فعلوا الذبح بلا ريب" (¬1). والذي يبدو لي، أن الرأي الذي ذكره ابن يعيش أرجح بدلالة قوله تعالى: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} [الزخرف: 52]، وهذا الكلام على لسان فرعون في موسى عليه السلام ولا شك أن موسي كان يبين بدلالة المحاجات المتعددة التي يذكرها القرآن مع فرعون، ولو ذهبنا إلى الرأي الأول لكان عليه السلام أبكم لا يبين ولا يقارب الإبانة. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجًا على أن تجعل بينا وبينهم سدا، ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما} [الكهف: 93 - 95]، وهذه المحاورة تدل على أنهم يفقهون ولكن بصعوبة (¬2) وليس معنى الآية (لا يكادون يفقهون قولا) أنهم لا يفقهون ولا يقاربون الفقه، وإلا فما هذا الكلام والمحاورة بينهما؟ ويدل على ذلك قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} فإنهم فعلوا الذبح. ويمكن الجمع بين الرأيين بالقول إن الأصل ما ذكرناه، ويمكن أن يراد المعنى الأول بالقرائن وذلك كقوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} وقوله (ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه) فإن هاتين الآيتين يمكن حملهما على الوجه الأول، كما يمكن حملهما على الوجه الذي رجحناه. وليست دلالة الجملة الواحدة على معنيين متغايرين أمرًا غريبا في اللغة فقد ذكر البيانيون أن كلمة (كل) مثلا: "إذا وقعت في حيز النفي موجهاً إلى الشمول خاصة وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد كقولك (ما جاء كل القوم ولم آخذ كل الدرهم) أي جاء بعض القوم وأخذت بعض الدراهم. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 7/ 124 - 125 (¬2) انظر رسالة ابن كمال باشا في تحقيق معنى (كاد).

أوشك

وإن وقع النفي في حيزها اقتضى السلب عن كل فرد، كقوله عليه الصلاة والسلام لما قال له ذو اليدين: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ : (كل ذلك لم يكن). قال ابن هشام: " وقد يشكل على قولهم في القسم الأول قوله تعالى: {والله لا يحب كل مختال فخور} [الحديد: 23] .. والجواب عن الآية أن دلالة المفهوم إنما يعول عليها عند عدم المعارض، وهو هنا موجود إذ دل الدليل على تحريم الاختيال والفخر مطلقًا" (¬1). ونحو ذلك قوله: " على لا حب لا يهتدي لمناره " إذ يحتمل القول أن يكون المعنى أن له منارًا لا يهتدي إليه كما يحتمل أن يكون أنه ليس له منار فيهتدي إليه. وهذا مثل ذاك. والذي يدل على لك ما ذكره الفراء من أن العرب تجعل (لا يكاد) فيما قد فعل وفيما لم يفعل. جاء في (معاني القرآن) في قوله (ولا يكاد يسيغه): "فهو يسيغه. والعرب قد تجعل (لا يكاد) فيما قد فعل وفيما لم يفعل، فأما ما قد فعل فهو بين هنا من ذلك لأن الله عز وجل يقول لما جعله لهم طعامًا: {إن شجرت الزقوم، طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون} فهذا أيضًا عذاب في بطونهم يسيغونه. وأما ما دخلت فيه كاد ولم يفعل فقولك في الكلام: (ما اتيته ولاكدت). وقول الله عز وجل في النور: {إذا أخرج يده لم يكد يرها} فهذا عندنا والله أعلم أنه لا يراها، وقد قال ذلك بعض الفقهاء لأنها لا ترى فيما هو دون هذا من الظلمات وكيف بظلمات قد وصفت بأشد الوصف" (¬2). أوشك: معنى أوشك في الأصل أسرع، واشتقاقه من وشك الأمر، ككرم بمعنى سرع والوشيك السريع، ويوشك يسرع، وقد يستعمل على الأصل فيقال: أوشك فلان في السير أي أسرع (¬3). ¬

_ (¬1) مغني اللبيب 1/ 200 - 201 (¬2) معاني القرآن 2/ 71 - 72 (¬3) القاموس المحيط (وشك) درة الغواص 90، الرضي على الكافية 2/ 337

كرب

والكثير في خبرها أن يقترن بأن، لأنها أبعد في الاستقبال من كاد و " لأنها موضوعة للإسراع المفضي إلى القرب، بخلاف كاد وكرب فللقرب، فلهذا اختصت عنها بغلبة الاقتران بأن" (¬1). جاء في (التصريح): "قال الشاطبي: والصحيح ما ذكره السلوبين وتلامذته ابن الضائع والأبدي وابن أبي الربيع، إن أوشك من قسم عسى الذي هو للرجاء. قال ابن الضائع: والدليل على ذلك أنك تقول: عسى زيد أن يحج ويوشك زيد أن يحج ولم يخرج من بلده ولا تقول: كاد زيد يحج إلا وقد أشرف عليه ولا يقال ذلك وهو في بلده. انتهى كلام الشاطبي. وأما إذا جعلت للمقاربة كما ذهب إليه الموضح تبعًا للناظم وابنه، فيشكل كون الغالب معها الاقتران كالاقتران الغالب في عسى" (¬2). وقد تشبه يكاد فيراد بها القرب فيجرد خبرها من (أن). كرب: معنى (كرب) دنا وقرب ومصدره كروب يقال: كربت الشمس دنت للغروب. والأكراب الأسراع، وخذ رجليك بأكراب، إذا أمر بالسرعة أي أعجل وأسرع. وكربه الغم فاكترب فهو مكروب والكرب الحزن والغم الذي يأخذ بالنفس، وكربت القيد إذا ضيقته على المقيد، والمكرب من الخيل الشديد الخلق والأسر. والمكرب من المفاصل الممتليء عصبًا والشديد الأسر من حبل أو بناء أو مفصل. وكارب الشيء قاربه (¬3) والمكابرة المقاربة. فكرب وقرب متشابهان لفظًا ومعنى. ¬

_ (¬1) انظر رسالة ابن كمال باشا في تحقيق معنى كاد. (¬2) التصريح 1/ 206 (¬3) لسان العرب كرب القاموس المحيط، كرب، الرضي على الكافية 2/ 337

هلهل

فمعنى (كرب يفعل) (قرب يفعل) أو دنا من الفعل بإسراع، فهو بمعنى (كاد) إلا أن فيه معنى آخر وهو الشدة والإسراع في الفعل، بخلاف كاد فإن فيها معنى المقاربة حسب. وخبره قليل الاقتران بأن مثل كاد (¬1) وذلك لشدة قربه من الوقوع، جاء في (شرح الرضي على الكافية): "وإذا حذفت (أن) من أخبار هذه الأفعال الثلاثة فإما أن يقدر مع المحذوف .. وأما أن يحذف رأسًا بلا تقدير لها لاستعمال كاد وكرب وأوشك لشدة دلالتها على مقاربة الفعل استعمال كان" (¬2). وقد يصحبه معنى الكرب وهو الغم والحزن أيضا كقوله: كرب القلب من جواه يذوب فإن فيه إضافة إلى المقاربة معنى الغم والحزن، وقد وفق الشاعر لاختيار هذه اللفظة في هذا الموطن فقد جمع المقاربة، والحزن، في لفظ واحد. هلهل: هذا الفعل يذكره قسم من النحاة مع أفعال الشروع، مع أنه من أفعال المقاربة .. جاء في (لسان العرب): "وهلهل يدركه أي كاد يدركه والهلهلة الانتظار والتأني" (¬3). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): "وأما هلهل فإنما ألزم تجريد خبره من (أن) مع أنه بمعنى كاد لا بمعنى (طفق) لأن المبالغة في القرب فيه أكثر، ومثل هذا التركيب يدل على المبالغة كزلزل، وصرصر، فكأنه للمبالغة في القرب لاحق بالأفعال الدالة على الشروع فاستعمل خبره بغير أن" (¬4). ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 262، ابن عقيل 1/ 126، حاشية الخضري 1/ 125 - 126 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 337 (¬3) لسان العرب (هلل)، القاموس المحيط (الهلال)، الرضي على الكافية 2/ 337 (¬4) الرضي على الكافية 2/ 328

أفعال الشروع

فهلهل أذن من أفعال المقاربة وهو أقرب إلى الشروع من (كاد)، ولشدة مقاربته حصوله الفعل، امتنعت في خبره (أن) كأفعال الشروع، وفيه انتظار وتأن مع هذا القرب. أفعال الشروع وهي الدالة على البدء بالفعل والقيام به، وهي كثيرة أشهرها أخذ، وأنشأ، وجعل، وطفق، وقام، وهب، وعلق. فأخذ: أصله أخذ الشيء. أي حازه لنفسه وأمسكه، وأخذ في الفعل أي بدأ يفعله فعندما تقول: (أخذ يفعل) كان المعنى كإنما حاز الفعل لنفسه وأخذه فهو يفعله. وأما جعل وأنشأ فأصل معناهما أوجد قال تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها} [الأنعام: 97]، وقال: {أنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون} [الواقعة: 72]، لكن في (أنشأ) خصوصية أن فيها معنى التربية والتنشئة يقال: نشأ ينشأ أي ربا وشب. فإاذ قلت (جعل يفعل) كان المعنى، كأنه أوجد الفعل يفعله. وإذا قلت (أنشأ يفعل) كان المعنى، كأنه أوجده وهو يربيه وينشئه، أي هو مستمر عليه وعلى نمائه. وأما قام فهو من القيام ضد الجلوس، وقد يأتي بمعنى العزم وقد يأتي بمعنى المحافظة والإصلاح، كقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} [النساء: 34]، ويقال: قام بالفعل أي فعله. فإذا قلت (قام يفعله) كان المعنى كأنك قلت نهض به، فهو عليه قدير وأنه محافظ على هذا الفعل فهو يفعله. وأصل طفق: من طفق الموضع أي لزمه، فإذا قلت (طفق يفعل) كان المعنى أنه لزم الفعل وواصله واستمر عليه، قال تعالى: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} [طه: 121] أي لازما هذا الفعل وواصلاه.

هب

وأما هب فهو من هبت الريح هبوبًا وهبيبا، أي ثارت وهاجت، وهبت الناقة في سيرها أسرعت، والهباب نشاط كل شيء وسرعته، فإذا قلت (هب يفعل) كان المعنى أنه ثار ثوران الريح مسرعًا نشيطا. وأما علق فهو من علق بالشيء علقا وعلقه، أي نشب فيه. وفي الحديث: فعلقت الاعراب به أي نشبوا وتعلقوا، والعلاقة الهوى، والحب اللازم للقلب، وعلقت هي بقلبي تشبثت به، والعلق أيضا الخصومة والمحبة اللازمتان، والذي تعلق به البكرة والحبل المعلق. ومن هنا جاء معنى الشروع فإذا قلت (علق يفعل) كان المعنى أنه تعلق بالفعل وتشبث به، كما يعلق الشيء بالشيء، فهو يفعله مستمرًا عليه ملازمًا له (¬1). وخبر أفعال الشروع فعل مضارع مجرد من (أن) وجوبًا لما بينهما من المنافاة، فإن (أن) للاستقبال وأفعال الشروع للحال (¬2). جاء في (شرح الرضي على الكافية): "وإنما الزم كون أخبار أفعال الشروع فعلا مضارعًا مجردًا عن (أن) دون الاسم، والماضي والمضارع، المقترن بأن لأن المضارع المجرد عن علامات الاستقبال ظاهر في الحال، يدل على كونه مشتغلا به، دون الماضي، بدليل أنك إذا قلت: كان زيد وقت الزوال قائمًا لم يدل على حدوث القيام في ذلك الوقت، ومن حيث ظهوره في الحال يدل على كونه مشتغلا به دون الماضي بدليل أنك إذا قلت: كان زيد وقت الزوال قام، دل على أنه كان فرغ من القيام في ذلك الوقت، وإذا قلت: كان زيد وقت الزوال يقوم، دل على اشتغاله بالقيام في ذلك الوقت مع حدوث القيام" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر لسان العرب والقاموس المحيط مادة أخذ، جعل، أنشأ، قام، طفق، هب، علق (¬2) ابن عقيل 1/ 126، الأشموني 1/ 262 التصريح 1/ 203 - 206، ابن الناظم 63 (¬3) الرضي على الكافية 2/ 338

الأحرف المشبهة بالفعل

الأحرف المشبهة بالفعل أطلق النحاة اسم (الأحرف المشبهة بالفعل) على بضعة أحرف ينتصب بعدها المبتدأ ويرتفع الخبر وهي: إن وأن وليت، ولعل، ولكن وكأن. ويمسي النحاة المبتدأ المنتصب بعدها اسمها. والخبر خبرها، نحو (أن الله غفور رحيم) وليس من شأننا الآن أن نبحث سبب هذه التسمية وأوجه شبهها بالفعل، فإن النحاة يذكرون ذلك في مواطنه. وظاهرة نصب الاسم بعد إن قديمة قال براجشتراستر: "ومبتدأ الجملة الإسمية منصوب بعد إن وأخواتها، وكثرة ذلك من خصائص العربية، مع كون أصله ساميًا شائعًا في غير العربية أيضا، ومما يدل على إن (أن) وهي أقدم لكل كانت تعمل النصب في الأصل كما تعمله في العربية" (¬1). والأحرف المشبهة بالفعل لا تدخل على كل مبتدأ وخبر، فإن من المبتدأ ما لا تدخل عليه، كالمبتدأ المحذوف، كقولك (الحمد لله الحميدُ) برفع الحميد، على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والواجب الابتداء كطوبى للمؤمن وأيمن الله، والواجب التصدير غير ضمير الشأن كأي، وكم ومن الاستفهامية والشرطية نحو من عندكم؟ ومن الخبر ما لا تدخل عليه، كالطلبي، والإنشائي، نحو (زيد أضربه) وأين محمد؟ ويستثنى النحاة من الجمل الطلبية الجملة الدعائية الواقعة خبرًا، لأن المفتوحة المخففة نحو (والخامسة أن غضب الله) في قراءة من قرأ بتخفيف النون بعدها جملة فعلية (¬2). ¬

_ (¬1) التطوير النحوي 91 (¬2) انظر التصريح 1/ 210، حاشية الصبان 1/ 269، حاشية الخضري 1/ 129، الهمع 1/ 135، التسهيل 61

إن

معانيها: إن تأتي (إن) لمعان عدة أشهرها: 1 - التوكيد وهو الأصل فيها، ويدور معها حيث وردت قال تعالى: {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} [يوسف: 51]، فانظر كيف جاء بالجملة الأولى غير مؤكدة (أنا راودته)، والثانية مؤكدة وسر ذلك والله أعلم، أن هذا على لسان امرأة العزيز، وقد فعلت فعلا لا يليق بالنساء، وهي الآن في موطن إقرار بالذنب واعتراف بالخطأ فذكرت ما صدر عنها غير مؤكدة إذ لا يحسن في مثل هذا الفعل التوكيد، وهي تريد أن تفر منه وتتوارى من فعلتها، وقد أنكرت فيما مضى أن تكون قد صنعته بخلاف نسبة الصدق إلى سيدنا يوسف عليه السلام، فجاءت به مؤكدًا بإن واللام. والدليل على انها تأتي للتوكيد، أنها يجاب بها القسم قال تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحج: 72]، وقال: {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم} [المائدة: 53]، وقال: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 21]، وقال: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم} [التوبة: 56]، وقال: {قل إي وربي إنه لحق} [يونس: 53]. قال ابن يعيش: "فأما فائدتهما - يعني إن وأن، فالتأكيد لمضمون الجملة، فإن قول القائل إن زيدًا قائم ناب مناب تكرير الجملة مرتين إلا أن قولك (إن زيدًا قائم) أوجز من قولك (زيد قائم زيد قائم)، مع حصول الغرض من التأكيد. فإن أدخلت اللام وقلت: (إن زيدا لقائم) ازداد معنى التأكيد، وكأنه بمنزلة تكرار اللفظ ثلاث مرات" (¬1). أما ما ذكره ابن يعيش من أن (إن) نائبة مناب تكرير الجملة مرتين، وهي مع اللام مناب تكريرها ثلاث مرات، فلا أظن أنه يعني إن تكرير الجملة (وإن) بمنزلة واحدة، ¬

_ (¬1) ابن يعيش 8/ 59، وانظر الأشباه والنظائر 1/ 29

وهما متماثلان. وإن - عناه فليس بصحيح، فإن تكرير الجملة من التوكيد اللفظي، والتوكيد اللفظي له أغراض منها إنه يرفع توهم السهو من المتكلم، فإن المخاطب قد يظن أن المتكلم عندما ذكر زيدًا أو عليًا كان ساهيًا أو غافلا، فتكرير الاسم يرفع هذا الظن. ومن أغراضه أيضًا أن يرفع توهم الغفلة عن المخاطب كان غافلا لم يسمع الجملة أو لم يسمع الكلمة فيكررها له دفعًا لذلك وفي هذين الموطنين لا يجدي التوكيد المعنوي ولا التوكيد بإن أو غيرها وإنما الذي يجدي ههنا التوكيد اللفظي فقط. وجاء في (الهمع): "فإن للتأكيد ولذا أجيب بها القسم كما يجاب باللام في قولك (والله لزيد قائم)، وزعم ثعلب أن الفراء قال: (إنّ) مقررة لقسم متروك استغنى عنه بها والتقدير: والله إن زيدًا لقائم" (¬1). وقال ابن الناظم: (إن) "لتوكيد الحكم ونفي الشك فيه أو الإنكار له" (¬2). وجاء في (التصريح): "وهما - يعني إنّ وأنّ" - لتوكيد النسبة بين الجزءين ونفي الشك عنها ونفي الإنكار لها بحسب العلم بالنسبة، والتردد فيها والإنكار لها، فإن كان المخاطب عالما بالنسبة فهما لمجرد توكيد النسبة، وإن كان مترددا فيها فهما لنفي الشك عنها، وإن كان منكرا لها فهما لنفي الإنكار لها. فالتوكيد لنفي الشك عنها مستحسن، ولنفي الإنكار واجب ولغيرهما لا ولا" (¬3). ويرى عبد القاهر إن الأصل في (إنّ) أن تكون للجواب، يقول: "فالذي يدل على أن لها أصلا في الجواب أنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كانت جوابا للقسم نحو (والله إن زيدًا منطلق) وامتنعوا من أن يقولوا (والله زيد منطلق)، ثم أنا إذا استقرينا الكلام، وجدنا الأمر بينا في الكثير من مواقعها، أنه يقصد بها إلى الجواب ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 133 (¬2) شرح ألفية ابن مالك 65 (¬3) التصريح 1/ 211، وانظر سيبويه 1/ 121، التسهيل 61، المقرب 1/ 106، الأشموني 1/ 270، ابن عقيل 1/ 128، شرح قطر الندى 148

كقوله تعالى: {ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض} [الكهف: 83 - 84]، .. وكقوله تعالى: {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} [الشعراء: 216]، .. وقوله: {وقل إني أنا النذير المبين} [الحجر: 89]، وأشباه ذلك مما يعلم به أنه كلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا وناظروا فيه .. ثم إن الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه البناء هو الذي دوّن في الكتب من أنها للتأكيد. وإذا كان قد ثبت ذلك فإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه البتة ولا يكون قد عقد في نفسه إن الذي تزعم أنه كائن غير كائن، وأن الذي تزعم أنه لم يكن كائن فأنت لا تحتاج إلى (إن) وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظن في الخلاف، وعقد قلب على نفي ما تثبت، أو إثبات ما تنفي، ولذلك تراها تزداد حسنا إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله في الظن، وبشيء قد جرت عادة الناس بخلافه كقول أبي نواس: عليك باليأس من الناس ... أن غنى نفسك في اليأس ومن لطيف مواقعها أن يدعى على المخاطب ظن لم يظنه ولكن يراد التهكم به وإن يقال: أن حالك والذي صنعته يقتضي أن تكون قد ظننت ذلك ومثال ذلك قول الأول: جاء شقيق عارضًا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح يقول: إن مجيئه هكذا مدلا بنفسه وبشجاعته، قد وضع رمحه عرضًا، دليل على إعجاب شديد وعلى اعتقاد منه أنه لا يقوم له أحد حتى كأن ليس مع أحد منا رمح يدفعه وكأنا كلنا عزل. وإذا كان كذلك، وجب إذا قيل أنها جواب سائل أن يشترط فيه، أن يكون للسائل ظن في المسؤول عنه، على خلاف ما أنت تجيبه به فأما أن يجعل مجرد الجواب أصلا فيه فلا" (¬1). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 249 - 251

وقيل هي آكد من اللام (¬1) ولفظها وثقلها يوحي بذلك، وهي قريبة الشبه بنون التوكيد الثقيلة التي تؤكد الفعل غير أنها مسبوقة بالهمزة. ومن أوجه الشبه بينهما أن كلتيهما للتوكيد، وأن نون التوكيد يفتح معها الفعل وهذه تنصب معها الاسم، وأنها تخفف كما تخفف تلك. 2 - الربط: قد تأتي (إن) لربط الكلام بعضه ببعض، فلا يحسن سقوطها منه وإن اسقطتها رأيت الكلام مختلا غير ملتئم، وذلك نحو قوله تعالى {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 32]، وقوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]، فأنت لو أسقطتها لوجدت الكلام مختلا نابيًا. وانظر إلى قوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 109]، وقوله: {فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} [النساء: 11]، وقوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة: 51]، وقوله: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم: 34]، وجرب أن تسقط (إن) فستجد الكلام نابيًا غير ملتئم ولا مرتبط. قال عبد القاهر في قول الشاعر: بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير واعلم أن من شأن (إن) إذا جاءت على هذا الوجه، أن تغني غناء الفاء العاطفة مثلا، وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرًا عجبًا، فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعًا موصولا معًا. أفلا ترى أنك لو أسقطت (إن) من قوله (إن ذاك النجاح في التبكير) لم تر الكلام يلتئم، ولرأيت الجملة الثانية لا تتصل بالأولى، ولا تكون منها بسبيل حتى تجي بالفاء فتقول: بكرا صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير، ومثله قول بعض العرب: ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 405، معترك الأقران 1/ 609، الاتقان 1/ 156

فغنها وهي لك الفداء ... إن غناء الإبل الحداء فانظر إلى (إن غناء الإبل الحداء) وإلى ملاءمته الكلام قبله، وحسن تشبثه وإلى حسن تعطف الكلام الأول عليه، ثم انظر إذا تركت (إن) فقلت: فغنها وهي لك الفداء غناء الإبل الحداء كيف تكون الصورة وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر .. حتى تجتلب الفاء فتقول: فغنها وهي لك الفداء فغناء الإبل الحداء. ثم تعلم أن ليست الألفة بينهما من جنس ما كان، وأن قد ذهبت الأنسة التي كانت تجد والحسن الذي كنت ترى" (¬1). وقال: "واعلم أن الذي قلنا في (إن) من أنها تدخل على الجملة، من شأنها إذا هي أسقطت منها أن يحتاج فيها إلى الفاء، لا يطرد في كل شيء، وكل موضع، بل يكون في موضع دون موضع، وفي حال دون حال، فإنك قد تراها قد دخلت على الجملة ليست هي مما يقتضي الفاء، وذلك فيما لا يحصى كقوله تعالى: {إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون} [الدخان: 51 - 52]، وذاك إن قبله: {إن هذا ما كنتم به تمترون} [الدخان: 50]، ومعلوم أنك لو قلت: إن هذا ما كنتم به تمترون فالمقتون في جنات وعيون لم يكن كلامًا" (¬2). 3 - التعليل: وقد تأتي (إن) للتعليل وذلك نحو تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} [البقرة: 168]، وقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} [البقرة: 173]، وقوله: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [المائدة: 87]، {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195]، وكقوله: {ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين} [المائدة: 28]، وقوله: {وصل عليهم إن صلوتك سكن لهم} [التوبة: 103]، وقوله: {ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس: 81]. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 211 - 212، وانظر 243 (¬2) دلائل الإعجاز 248

فأنت ترى أن (إن) في هذه المواطن تفيد التعليل. جاء في (الاتقان): "الثاني: التلعيل أثبته ابن جني وأهل البيان، ومثلوه بنحو {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} [المزمل 30]، و {وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم} .. وهو نوع من التأكيد" (¬1). وقال سيبويه: "تقول: جئتك أنك تريد المعروف إنما تريد لأنك تريد المعروف ولكنك حذفت اللام ههنا كما تحذفها من المصدر إذا قلت: وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما أي لأدخاره .. ولو قلت: جئتك إنك تحب المعروف مبتدأ، كان جيدًا. . واعلم أن العرب تنشد هذا البيت على وجهين، على أرادة اللام، وعلى الابتداء، قال الفرزدق: منعت تميمًا منك إني أنا ابنها ... وشاعرها المعروف عند المواسم وسمعنا من العرب من يقول إني أنا ابنها. وتقول لبيك إن الحمد، والنعمة لك، وإن شئت قلت: أن (¬2) ". وجاء في (حاشية يس) في قولهم (لبيك إن الحمد والنعمة لك): "واعلم أن النووي وكثيرا من الحنفية عللوا كون الكسر أجود بإن من كسر (أن) قال: الحمد والنعمة لك على كل حال، ومن فتحها قال: لبيك بهذا السبب أهـ." وحاصله ان الكسر يحصل به عموم استحقاقه تعالى الحمد والنعمة، سواء وجدت تلبية أم لا بخلاف الفتح، فإن فيه ضعفا من حيث تعليل التلبية باستحقاق ما ذكر، ¬

_ (¬1) الاتقان 1/ 156، وانظر البرهان 2/ 406، 407، معترك الأقران 1/ 609 - 610 (¬2) سيبويه 1/ 464 - 465

كونه غير مناسب لخصوصها، ومن حيث إبهامه قصر استحقاق ما ذكر على التلبية .. وظاهره تسليم كلام الفقهاء أن المكسورة هنا ليست للتعليل، وهو خلاف ما ذكره النحاة هنا فإن كلامهم صريح في أنها للتعليل" (¬1). والذي يبدو لي أنّ ما ذهب إليه النووي أرجح فإن التعليل بـ (إن) لا يماثل التعليل بـ (أن) فإن التعليل بأن المفتوحة إنما هو على إرادة اللام، قال سيبويه في (جئتك أنك تريد المعروف) أي لأنك تريد المعروف، فالتعليل ههنا مقيد بعامله مقصور عليه، أي إنما حصل هذا لهذا، بخلاف التعليل بإن المكسورة فإنه تعليل واسع وحكم عام مستأنف، غير مقيد بالعامل. فهي في الحقيقة ليست للتعليل المحض كـ (أن) وإنما هي حكم عام، وكلام مستأنف فيه تعليل، يشمل ما ذكر وما لم يذكر. والذي يوضح ذلك أن الكلام مع أن المفتوحة هو جملة واحدة بخلاف المكسورة فقولك (لا تضرب محمدًا أنه عونك) جملة واحدة أي لأنه عونك، وقولك (لا تضرب محمدًا إنه عونك) جملتان الأولى (لا تضرب محمدًا) والأخرى (إنه عونك) فكأنه لما نهاه عن ضرب محمد قال له: ولماذا تنهاني؟ فإجابه إنه عونك. فقد ابتدأت كلاما جديدًا. وانظر إلى هاتين الجملتين: (جئت أنك صرت أميرا) بالفتح (وجئت إنك صرت أميرًا) بالكسر، تجد ما ذكرناه واضحًا. جاء في (التصريح) في مواطن كسر وفتح إن: "الثالث أن تقع في موضع التعليل نحو أنه هو البر الرحيم من قوله تعالى: {إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم}، [فاطر: 28]، قرأ نافع والكسائي بالفتح على تقدير لام العلة أي لأنه، وحرف الجر إذا دخل على (أن) لفظا أو تقديرا فتح همزتها، فهو تعليل أفرادي. وقرأ الباقون من السبعة بالكسر، على أنه تعليل مستأنف بياني فهو في المعنى ¬

_ (¬1) حاشية يس على التصريح 1/ 219

جواب سؤال مقدر تضمنه ما قبله، فكأنهم لما قالوا: أنا كنا من قبل ندعوه قيل لهم: لم فعلتم ذلك؟ فقالوا: إنه هو البر الرحيم. فهو تعليل جملي مثل (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) بكسر (أن) على أنه تعليل مستأنف. ومثله في الجواز الوجهين (لبيك أن الحمد والنعمة لك) يروى بكسر أن وفتحها، فالفتح على تقدير لام العلة، والكسر على أنه تعليل مستأنف وهو أرجح، لأن الكلام حيئنذ جملتان لا جملة واحدة. وتكثير الجمل في مقام التعظيم مطلوب، قاله الموضح في شرح بانت سعاد (¬1) ". أنَّ: لـ (أنَّ) معانٍ وغايات في الكلام مرتبطة لا يكاد ينفك أحدها عن الآخر، فإن أهم وظيفة لها أنها توقع الجملة موقع المفرد، فتهيئها لتكون فاعلة، ومفعولة ومبتدأ ومجرورة ونحو ذلك. وذلك نحو أن تقول: يعجبني أنك فزت، وأخشى أنك لا تعود، وأرغب في أنك تكون معنا. ولا يتم الكلام بها إلا مع ضميم معها، بخلاف (إنّ) المكسورة، فقولك (إنك فائز) كلام تام بخلاف (أنك فائز) فإنه جزء من كلام، وهو لا يؤدي معنى يحسن السكوت عليه. قال ابن يعيش: وكذلك أن المفتوحة تفيد معنى التأكيد كالمكسورة، إلا أن المكسورة الجملة معها على استقلالها بفائدتها، ولذلك يحسن السكون عليها، لأن الجملة عبارة عن كل كلام تام قائم بنفسه، مفيد لمعناه فلا فرق بين قولك: (إن زيدًا قائم) وبين قولك (زيد قائم) إلا معنى التأكيد ويؤيد عندك أن الجملة بعد دخول (إن) عليها على استقلالها بفائدتها أنها تقع في الصلة، كما كانت كذلك قبل، نحو قولك: (جاءني الذي أنه عالم) قال الله تعالى: {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة} [القصص: 76]، وليست (أنّ) المفتوحة كذلك، بل تقلب معنى الجملة إلى ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 218

الأفراد، وتصير في مذهب المصدر المؤكد ولولا إرادة التأكيد لكان المصدر أحق بالموضع، وكنت تقول مكاني: بلغني أن زيدًا قائم بلغني قيام زيد. والذي يدلك على إن (أن) المفتوحة في معنى المصدر، وإنها تقع موقع المفردات، إنها تفتقر في انعقادها جملة إلى شيء يكون معها، ويضم إليها لأنها مع ما بعدها من منصوبها ومرفوعها بمنزلة الاسم الموصول، فلا يكون كلاما مع الصلة إلا شيء آخر من خبر يأتي به أو نحو ذلك، فكذلك أن المفتوحة لأنها في مذهب الموصول إلا أنها نفسها ليست اسما كما كانت الذي كذلك، إلا ترى أنها تفتقر في صلتها إلى عائد كما تفتقر في الأسماء الموصولة إلى ذلك " (¬1). وجاء في (كتاب شرح المقدمة الكافية) لابن الحاجب: "وأما أن المفتوحة فهي مع جملتها في حكم المفرد ألا ترى أنك إذا قلت: (زيد قائم) ثم أدخلت المكسورة، كانت على حالها في استقلالها بفائدتها، لو أدخلت المفتوحة صارت الجملة معها بتأويل مصدر من خبرها، أو ما في حكم، فافتقرت إلى جزء أخر تكون به كلامًا نحو (أعجبني أن زيدًا منطلق)، فتكون فاعلة (وكرهت أن زيدًا منطلق) فتكون مفعولا .. ومن ثمة وجب الكسر في موضع الجمل والفتح في موضع المفرد، يعني ومن أجل إن المكسورة تبقى معها الجملة على فائدتها، والمفتوحة تقبلها إلى حكم المفرد، وجب الكسر في موضع الجمل، والفتح في موضع المفرد، من حيث كان ذلك معناهما" (¬2). قال سيبويه: "أما أن فهي اسم، وما عملت فيه صلة لها، كما أن الفعل صلة لأن الخفيفة، وتكون (أن) اسما ألا ترى أنك تقول: (قد عرفت أنك منطلق)، فأنت في موضع اسم منصوب، كأنك قلت قد عرفت ذاك، وتقول: (بلغني أنك منطلق) فإنك في موضع اسم مرفوع كأنك قلت: بلغني ذاك. فـ (أن) الأسماء التي تعمل فيها صلة لها، كما إن (أن) الأفعال التي تعمل فيها صلة لها" (¬3). ¬

_ (¬1) ابن يعيش 8/ 59 (¬2) شرح المقدمة الكافية 123 (¬3) سيبويه 1/ 461

وهي في ذلك تلتقي مع سائر الأحرف المصدرية، فإن من أهم وظائف الحرف المصدري أن يوقع الجملة موقع المفرد، ثم إن الحرف المصدري يجعل ما بعده في حكم المصدر (¬1)، والمصدر معنى ذهني غير متشخص فـ (أن) على هذا تجعل الأمر معنويًا ذهنيا، فثمة فرق بين قولك: أرى محمدًا واقفًا وأرى أن محمدًا واقف، فالأول موقف متشخص ورأى بصرية، والثاني موقف عقلي ورأي عقلية، أي أرى أنه فاعل ذلك وأحبسه. ونحو ذلك قوله تعالى: {ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق} [إبراهيم: 16]، فهذه رؤية بالتدبر والتفكر، ونحوه قوله تعالى: {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره} [الحج: 65]. فهذه كلها رؤية بالتدبر والتفكر وأظنك ترى الفرق واضحا بين ما ذكرت من الآيات ونحو قوله تعالى {أرنا الله جهرة} [النساء: 153]، و {حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55]، و {أو نرى ربنا} [الفرقان: 21]، وقوله: {قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} [الأعراف: 143]. ولم يرد فعل الرؤية في القرآن الكريم معجي إلى اسم الله تعالى في غير هذه المواطن التي ذكرتها، وأنت ترى الفرق واضحا بين المعنيين والقصدين فـ (أن) كما ذكرت تحول الأمر إلى ذهني. وأنت تلاحظ الفرق جليا بين قولنا (سمعتك تقول الشعر) و (سمعت أنك تقول الشعر) ففي العبارة الأولى أنت سمعته هو يقول الشعر، وأما في الثانية فهو قد سمع هذا الأمر عنك ولم يسمعك تقوله. فـ (أن) إذن تحول المحسوس إلى معقول، والمتشخص إلى ذهني، ولذا يصح أن تقول: (ظننت محمدًا إنه عاقل) ولا يصح أن تقول (ظننت محمدًا أنه عاقل) بالفتح، فإنه لا يخبر بالذهني عن المتشخص، فإن المعني يكون منزلة ظننت محمدًا عاقلا، وهذا لا يصح. ¬

_ (¬1) أقول في حكم المصدر ولا أقول (مصدرا) لأنه قد يصعب التأويل في بعض المواطن إلا بتكلف

جاء في (كتاب الأصول) لابن السراج: "أن المفتوحة الألف مع ما بعدها بتأويل المصدر، وهي تجعل الكلام شأنا وقصة وحديثا، ألا ترى إنك إذا قلت: (علمت أنك منطلق) فإنما هو علمت انطلاقك فكأنك قلت: علمت الحديث ويقول: القائل: ما الخبر؟ فيقول المجيب: الخبر أن الأمير قادم .. والموضع التي تقع فيها أن المفتوحة، لا تقع فيها إن المكسورة، فمتى وجدتها يقعان في موقع واحد فاعلم أن المعنى والتأويل مختلف" (¬1). واختلف في كون (أن) مؤكدة أولاً، فذهب أكثر النحاة إلى أنها مؤكدة مثل: إن وأنها فرع عليها (¬2). واستشكله بعضهم قال: "لأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك لم يفد توكيدًا، ويقال: التوكيد للمصدر المنحل، لأن محلها مع ما بعدها المفرد، وبهذا يفرق بينها وبين (إن) المكسورة فإن التأكيد في المكسورة للإسناد، وهذه لأحد الطرفين" (¬3). وهنا شبهة أثارها بعض المحدثين في دلالتها على التوكيد، قالوا لو كانت تدل على التوكيد لوقعت في جواب القسم مثل (إن). وهذه الشبهة مردودة من ناحيتين: الأولى: إن مجيئها للتوكيد لا يعني أن تشبه (أنّ) من جميع الأوجه، فنحن نعلم أن (اللام) للتوكيد، و (أن) للتوكيد، وهناك خلاف بينهما في الاستعمال بل إن (أن) المخففة من الثقيلة قد تختلف معها في بعض الأحكام فيجوز في (أن) أن يكون خبرها ¬

_ (¬1) الأصول 1/ 322 - 323 (¬2) المغنى 1/ 39، جواهر الأدب في معرفة كلام العرب 207، ابن يعيش 8/ 59، المقرب 1/ 106، ابن الناظم 65، الأشموني 1/ 270، ابن عقيل 1/ 128، التصريح 1/ 211، شرح قطر الندى 148 (¬3) البرهان 2/ 407، الاتقان 1/ 156، معترك الاقران 1/ 610، وانظر الخلاف في فرعيته وأصل كل واحد منهما في شرح المعنى للدماميني 1/ 86، الهمع 1/ 128

جملة دعائية بخلاف الثقيلة كما هو معلوم (¬1). ومن المعلوم (إن) نون التوكيد الخفيفة لا تقع في بعض مواطن الثقيلة، ولها أحكام خاصة بها. والناحية الأخرى إن (أن) كما ذكرنا تحول الجملة إلى مفرد في المعنى هو المصدر، والقسم يجاب بجملة لا بمفرد، ولذلك لا يجاب بها القسم، ومع ذلك أجاز بعض النحاة أن يجاب بها القسم (¬2). والصواب أنها تدل على التوكيد إضافة إلى ما ذكرناه من المعاني، فقولك (علمت أن محمدًا قائم) آكد من قولك (علمت محمدًا قائمًا) إضافة إلى إيقاع الجملة المؤكدة موقع المفرد، أي علمت هذا الأمر، قال تعالى: {يأيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10]، ولم يقل: فإن علمتم إنهن مؤمنات، لأن الإيمان أمر قلبي لا يطلع على حقيقته إلا الله، ولذلك قال (الله أعلم بإيمانهن) فاكتفى بالأمارات والدلالات الظاهرة التي تدل على الإيمان، ولم يؤكده بأن لأنه لا سبيل إلى اليقين القاطع. وقال: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} [الأنفال: 66]، فجاء بأن لأنه علم مؤكد. وقال: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 22 - 23]، فقال: (ولو علم الله فيهم خيرا)، أي ولو علم فيهم جانبًا ضعيفا من الخير غير محقق، ولا متيقن لأسمعهم، أي أن هؤلاء ليس فيهم شيء من الخير المحتمل، بل المحقق، ولا لم يأت بأن والله أعلم. ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 139 (¬2) الهمع 1/ 137

وقال على لسان يوسف عليه السلام لإخوته: {ألا ترون أني أوف الكيل وأنا خير المنزلين} [يوسف: 59]، فقال أولا (أني أوفي الكيل) على التوكيد بأن ثم قال (وأنا خير المنزلين) على غير سبيل التوكيد، وذلك الله أعلم أنه في الحكم الأول متأكد من أنه يوفي الكيل، تأكدا لا شك فيه لأن هذا أمر يستطيع الجزم به بخلاف ما بعده (وأنا خير المنزلين) فإن هذا الحكم ليس بمنزلة الأول في التحقيق والتيقن، فجاء به غير مؤكد فخالف بين التعبيرين لاختلاف الحكين. ومما يدل على أنها للتوكيد، أن القرآن الكري، إذا قرن الظن بها أفاد اليقين - كما يقول النحاة - فحيث اقترنت به في القرآن الكريم أفاد الظن معنى العلم واليقين، قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة: 45 - 46]، وقال: {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}. [البقرة: 249]. وقال: {إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية} [الحاقة: 20 - 21]، فإن الظن قد يلحق بالعلم واليقين، وقد يكون للرجحان فقط كقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: 230]، فلم يأت بأن ههنا لأنه ليس المقصود بالظن ههنا اليقين، بل الرجحان فقط فهو ليس بمنزلة ما مر من الآيات. فدل ذلك على ما ذكرناه. وقد تأتي (أن) بمعنى (لعل) بل هي لغة في (لعل) كما يذكر النحاة (¬1). قال سيبويه في قوله تعالى: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} [الأنعام: 109]. "وأهل المدينة يقولون أنها فقال الخليل هي بمنزلة قول العرب (ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا) أي لعلك" (¬2). ¬

_ (¬1) التسهيل 66، المغنى 1/ 40، الهمع 1/ 134، الاتقان 1/ 156 (¬2) سيبويه 1/ 463

فتح وكسر إن

وقال ابن يعيش: "وقد تستعمل (أن) المفتوحة بمعنى (لعل) يقال: (ايت السوق أنك تشتري لنا كذا) أي لعلك. وقيل في قوله تعالى: {وما يشعركم أنها إذ جاءت لا يؤمنون} على لعلها، ويؤيد ذلك قراءة أبي (لعلها) كأنه أبهم أمرهم فلم يخبر عنهم بالإيمان ولا غيره، ولا يحسن تعليق (أن) بـ (يشعركم) لأنه يصير كالعذر لهم قال حطائط بن يعفر: أريني جوادًا مات هزلا لأنني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا قال المرزوقي: هو بمعنى (لعل) وقد روي: لعلني أرى ما ترين" (¬1). فتح وكسر إن: يذكر النحاة إن لأن ثلاثة أحوال: وجوب الكسر، ووجوب الفتح، وجواز الأمرين. وضابط ذلك إنه يتعين المكسورة، حيث لا يجوز أن يسد المصدر مسدها، ومسد معموليها، وتتعين المفتوحة حيث يجب ذلك، ويجوز الأمران إن صح الاعتباران (¬2). وكل الأمور التي يذكرها النحاة في مواطن الوجوب والجواز، إنما هي تفسير لهذا الضابط، وإيضاح ذلك أن (إن) المكسورة لا تغير معنى الجملة، وإنما تفيد توكيدها، وأما المفتوحة فهي تهيء الجملة لأن تقع موقع المفرد وتجعل ما دخلت عليه غير تام الفائدة بعد أن كان مفيدًا قبل دخولها - كما سبق أن ذكرنا - فأنت تقول: (محمد قائم) وتقول: (أن محمدًا قائم) وكلتا الجملتين تامة المعنى، إما إذا قلت (أن محمدا قائم) بالفتح فهي ليست تامة المعنى، وإنما وقعت الجملة موقع المفرد، فمتى كان الكلام لا يحتمل الإفراد وإنما هو موطن الجملة تعين كسر (إن)، ومتى كان الكلام لا يحتمل الجملة وإنما هو موطن المفرد تعين الفتح، ومتى جاز الاعتباران جاز الوجهان، ¬

_ (¬1) ابن يعيش 8/ 78 - 79 (¬2) انظر التصريح 1/ 314 - 315، ابن عقيل 1/ 130 - 131، حاشية الحضري 1/ 130

جاء في (المفصل): "والذي يميز بين موقعيهما أن ما كان مظنة للجملة وقعت فيه المكسورة كقولك مفتتحا: (إن زيدًا منطلق) .. وما كان مظنة للمفرد، وقعت فيه المفتوحة، نحو مكان الفاعل والمجرور .. وكذلك (ظننت أنك ذاهب) على حذف ثاني المفعولين، والأصل ظننت ذهابك حاصلا .. ومن المواضع ما يحتمل المفرد والجملة، فيجوز إيقاع أيتهما شئت" (¬1). تقول: (إن الله سميع الدعاء) فهي هنا واجبة الكسر، وتقول: (يسرني أنك عائد) فهي هنا واجبة الفتح، لأنه موطن المفرد فقط وهو الفاعل، وتقول: (حلفت أنك مسافر وإنك مسافر) هنا يجوز الأمران ولكل معنى. فإذا أردت حلفت على هذا الأمر أي حلفت على سفرك فتحت وإن أردت أن هذا جواب الحلف كما تقول: والله إنك مسافر كسرت. وهذا ملاك الأمر. فليس معنى الفتح والكسر واحدا في المواضع التي يجوز فيها الوجهان، وإنما المعنى مختلف جاء في (الأصول): "والمواضع التي تقع فيها (أن) المفتوحة لا تقع فيها (إن) المكسورة فمتى وجدتهما يقعان في موقع واحد فاعلم أن المعنى والتأويل مختلف" (¬2). قال سيبويه: "وتقول (أما في الدار فإنك قائم)، لا يجوز فيه إلا (إن) جعل الكلام قصة وحديثا ولم ترد أن تخبر أن في الدار حديثه، ولكنك أردت أن تقول: أما في الدار فإنت قائم، فمن ثم لم تقل (أن). وإن أردت أن تقول: أما في الدار فحديثك، وخبرك قلت: إما في الدار فإنك منطلق أي هذه القصة" (¬3). وقال: "وسمعت من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرك به: ¬

_ (¬1) ابن يعيش 8/ 60 - 61 (¬2) الأصول 1/ 323 (¬3) سيبويه 1/ 470

وكنت أرى زيدًأ كما قيل سيدًا ... إذا به عبد القفا واللهازم فحال (إذا) ههنا كحالها إذا قلت: إذا هو عبد القفا واللهازم، وإنما جاءت (إن) ههنا لأنك هذا المعنى أردت"، كما أردت في حتى معنى هو منطلق، ولو قلت: مررت فإذا أنه عبد، تريد مررت به فإذا العبودية واللؤم كأنك قلت: مررت فإذا أمره العبودية واللؤم ثم وضعت (أن) في هذا الموضع جاز" (¬1). وجاء في (المقتضب): "تقول: (قد قاله القوم حتى إن زيدًا يقوله)، و (قد شربوا حتى إن أحدهم يجر بطنه) لأنه موضع ابتداء ألا ترى أنك تقول: قد قاله القوم حتى زيد يقوله. ولو قلت في هذا الموضع (أن) كان محالا، لأن (أن) مصدر ينبيء عن قصة فلو كان قد قاله القوم حتى قول زيد كان محالا. ولكن لو قلت: بلغني حديثك حتى إنك تظلم الناس كان من مواضع (أن) المفتوحة لأن المعنى بلغني أمرك حتى ظلمك الناس، وإنما يصلح هذا ويفسد بالمعنى" (¬2). وجاء في حاشية يس على التصريح: " قال الدنوشري: قال ابن الصائغ، في قوله: (سألت عنه فإذا أنه عبد) فمن فتح أراد العبودية ومن كسر أراد العبد نفسه، وتقدير الفتح مشاهدة نفس المعنى الذي هو الخدمة وتقدير الكسر مشاهدة الشخص نفسه على غير صفة ففتحت موضع المفرد، وكسرت موضع الجملة" (¬3). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): "ونقول أما في الدار فإنك قائم بالكسر، إذا قصدت أن قيام المخاطب حاصل في الدار. وأما إن أردت أن في الدار هذا الحديث، وهذا الخبر فإنه يجب الفتح" (¬4). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 472 (¬2) المقتضب 2/ 350 (¬3) حاشية يس 1/ 218 (¬4) الرضي على الكافية 2/ 290 وانظر ابن الناظم، 67 - 68، الأشموني =

وهذا سؤال قد يعرض في هذا الباب وهو: هل يسد المصدر الصريح مسد المصدر المؤول ويقوم مقامه دومًا؟ والذي هو ظاهر في هذا الباب أن المصدر الصريح غير المؤول وليسا متطابقين، فإن الإسناد حاصل في المصدر المؤول، ولكن أقيم هذا الإسناد مقام المفرد. إن المصدر المؤول أصله جملة تامة، بخلاف الصريح فإنه كلمة، ولذا قد يقع المصدر المؤول في مواطن لا يقع فيها المصدر الصريح، ولو حاولت إيقاع المصدر الصريح مكان المصدر المؤول، لأختل الكلام وذلك نحو أن تقول: ظننت أن سعيدًا حاضر أو تقول: (ليت أن سعيدًا غني) قال الشاعر: تعلقت ليلى وهي ذات مؤاصد ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم. صغيرين نرعى البهم ياليت أننا ... إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم ففي مثل هذه المواطن لا يصح وضع المصدر الصريح مكان المؤول لفساد المعنى واختلاله، إلا بتكلف وتقدير محذوف لا موجب له، والمعنى تام بدونه. أن قسمًا من النحاة يقدرون في نحو ذلك: ظننت حضور سعيد حاصلا، وليت غني سعيد ثابت، وهذا فاسد ويظهر فساده عند أظهاره المحذوف مع المصدر المؤول، فلو قلت: ظننت أن سعيدًا حاضر حاصل، وليت أن سعيدًا غني ثابت لكان واضح الفساد، ولم يقله أحد من العرب. جاء في (المقتضب): "فإذا قلت: (ظننت أن زيدًا منطلق) لم تحتج إلى مفعول ثان لأنك قد أتيت بذكر زيد في الصلة، لأن المعنى: ظننت انطلاقا من زيد، فلذلك استغنيت" (¬1). ¬

_ = 1/ 276 - 278، التصريح 1/ 218 - 220، حاشية الخضري 1/ 133، شذور الذهب 206 - 207 (¬1) المقتضب 2/ 341، وانظر سيبويه 1/ 461، 462

ليت

ليت: للتمني والتمني يكون في المستحيل نحو (ليت الشباب يعود)، وفي الممكن غير المتوقع نحو (ليت سعيدًا يسافر معنا)، فإن كان متوقعًا دخل في الترجى. ولا يكون في الواجب حصوله كأن تقول: ليت غدا آت فإن غدًا واجب المجيء (¬1). ليت شعري: من الاستعمالات الشائعة في العربية (ليت شعري) نحو: ليت شعري هل أعود إلى الأهل؟ والشعر ههنا معناه الشعور والفطنة، والخبر عند الجمهور محذوف وجوبًا إذا أردف باستفهام كما مثلنا أي ليت شعري حاصل (¬2). وذهب بعضهم إلى أن جملة الاستفهام هي الخبر، ورده النحاة بأنه يؤدي إلى الأخبار بالجملة الطلبية وإلى خلو المخبر بها عن الرابط (¬3). والحقيقة إنه لا يمكن أن تكون جملة الإستفهام خبرا عن الشعر، لأنه لا رابط يربطها بالمبتدأ، ولابد من الرابط فإنه لا يصح أن يقال: شعري هل محمد حاضر، لأنك بينا تتحدث عن شعرك تقطع الكلام، ولا تخبر عنه وتستأنف كلامًا جديدًا هو (هل محمد حاضر) وهو نظير قولك: أخوك هل خالد عندكم؟ وهو غير مقبول. والصحيح إنه من باب حذف الخبر وجوبا، لأنه كون عام مفهوم من السياق، أي ليت أدراكي حاصل أو ثابت أو كائن، ونحو ذلك. وهو نظير ما بعد لو نحو قوله تعالى: {لولا أنتم لكنا مؤمنين} [سبأ: 31]. ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 271، المغني 1/ 285، ابن عقيل 1/ 129، ابن يعيش 8/ 84، التصريح 1/ 212 - 213، الصبان 1/ 271 (¬2) الرضى على الكافية 2/ 401، الهمع 1/ 136، التسهيل 62 (¬3) الهمع 1/ 136

لعل

والعرب تحذف الكلمة إذا كان ذكرها يؤدي إلى العبث، لوضوحها وظهورها ولا يزيد المخاطب شيئا كالخبر بعد لولا، إذا كان كونا عامًا ونحو: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحجر: 72] فإنه لا فائدة من أن تقول: لعمرك قسمي لأنه واضح أنه قسم ولا يفيد المخاطب ذكره ونحو ذلك. لعل: هي لتوقع شيء محبوب أو مكروه فتوقع المحبوب يسمى ترجيا وإطماعا، وتوقع المكروه يسمى أشفاقا، فالترجي نحو قوله تعالى: {لعلكم تفلحون} [البقرة: 189]، والإشفاق نحو (لعله يهينك) (¬1). والترجي لا يكون إلا في المكن، وأما قوله تعالى على لسان فرعون: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى} [غافر: 36 - 37]، فهو في باب الجهل أو من باب السخرية (¬2). والفرق بين تمنى الممكن وترجيه، أن المترجي متوقع حصوله بخلاف المتمني، فإنه غير متوقع (¬3) الحصول، فالفرق بين قولك: ليت زيدا يأتينا، ولعل زيدًا يأتينا أن الأولى تمن وقائله غير متوقع لحصوله، بخلاف الثانية فإنه متوقع لمجيئه. وقيل قد تتجرد (لعل) لمطلق التوقع، ولا تختص بكونه محبوبًا أو مكروهًا، وجعل منه قوله تعالى: {فعللك تارك بعض ما يوحي إليك} [هود: 12]، جاء في (حاشية على الكشاف) للسيد الجرجاني: "هي موضوعة لإنشاء توقع أمر إما مرغوب ويسمى ترجيًا: أو مرهوب ويسمى إشفاقا .. وقد يكون من غيرها ممن له نوع تعلق بالكلام، ¬

_ (¬1) ابن الناظم 65، ابن عقيل، المغني 1/ 287، الكاشف 1/ 277، المقرب 1/ 106، الهمع 1/ 134، الأشموني 1/ 371، التصريح 1/ 213، الصبان 1/ 271 (¬2) انظر المغني 1/ 287، التصريح 1/ 213 (¬3) حاشية الخضري 1/ 129

كأنها جردت لمطلق التوقع، كما في قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} على أحد الوجهين وهو إنك قد بلغت من التهالك على إيمانهم مبلغًا يرجون، أن تترك بعض ما يوحى إليك" (¬1). وقيل إنها تأتي للتعليل، وجلعوا منه قوله تعالى: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44]، ومن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء، ويصرفه للمخاطبين، أي اذهبا على رجائكما (¬2). جاء في (التصريح): "قال الأخفش والكسائي: وتأتي لعل للتعليل نحو ما قال الأخفش: يقول الرجل لصاحبه: افرغ عملك لعلنا نتغدى واعمل عملك لعلك تأخذ أجرك أي للنتغدى ولتأخذ. انتهى ومنه أي من التعليل (لعله يتذكر)، قال في المغنى: ومن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء ويصرفه للمخاطبين أي اذهبا على رجائكما" (¬3). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {لعلكم تتقون} [البقرة: 21]، " ولعل للترجي، أو الإشفاق تقول: لعل زيدا يكرمني ولعله يهينني وقال الله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى} {لعل الساعة قريب} [الشورى: 17]، ألا ترى إلى قوله: {والذين أمنوا مشفقون منها} [الشورى: 18]، وقد جاء على سبيل الأطماع في مواضع من القرآن، ولكن لأنه أطماع من كريم رحيم إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة، لجرى أطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به. قال من قال إن لعل بمعنى (كي). ولعل لا تكون بمعنى كي ولكن الحقيقة ما ألقيت إليك. وأيضا فمن ديدن الملوك وما عليه أوضاع أمرهم ورسومهم، أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها، على أن يقولوا عسى، ولعل، ¬

_ (¬1) حاشية على الكشاف 1/ 177 (¬2) المغني 1/ 288، ابن يعيش 8/ 85، التسهيل 61، الهمع 1/ 134، الأشموني 1/ 271 (¬3) التصريح 1/ 213

ونحوها من الكلمات، أو يخيلوا أخالة أو يظفر منهم بالزمرة، أو الابتسامة، أو النظرة الحلوة، فإذا عثر على شيء من ذلك منهم لم يبق للطالب ما عندهم شك في النجاح والفوز بالمطلوب فعلى مثله ورد كلا مالك ذي العز والكبرياء، أو يجيء على طريق الأطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد، كقوله: {يا أيها الذين أمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم} [التحريم: 8]. فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم" (¬1). وقيل تأتي للاستفهام، وأثبته الكوفيون، وجعلوا منه قوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق: 1]، وحديث: (لعلنا أعجلناك) (¬2). جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وقيل إن لعل تجيء للاستفهام تقول: لعل زيدا قائم أي هل هو كذلك" (¬3). وقيل تأتي للتشبيه، وجعلوا منه قوله تعالى: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} [الشعراء: 129]، يعني كأنكم (¬4). وقيل هي كلمة شك جاء في (لسان العرب): "قال الجوهري: لعل كلمة شك .. وهي كلمة رجاء، وطمع، وشك، وقد جاءت في القرآن بمعنى كي (¬5) ". والبصريون يرجعون كل هذه المعاني إلى الترجي والإشفاق (¬6)، وهو الصحيح فإنها للتوقع مطلقا ويمكن رجع كل ما ذكر إلى هذا المعنى من ترج أو إشفاق فنحو قوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} وقوله: {وما يدريك لعله يزكى} [عبس: 3]. ¬

_ (¬1) الكشاف 177 - 178 (¬2) المغنى 1/ 288، التسهيل 61، الهمع 1/ 134 (¬3) الرضي على الكافية 2/ 384 (¬4) الاتقان 1/ 172 (¬5) لسان العرب لعل 14/ 128، وانظر الهمع 1/ 124 (¬6) الهمع 1/ 134

لكن

من باب الترجي. وحديث (لعلنا أعجلناك) من باب الاشفاق، أي اشفق من أن يكون أعدله. وقوله تعالى: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} أي تفعلون فعل من يرجو الخلود ويتوقعه. ولو أردنا تجزئة المعاني، لأمكننا توسعة ذلك إلى أكثر مما قيل. لكن: المشهور إن (لكن) للاستدراك واختلف في تفسير الاستدراك. فقيل: " وتعقيب الكلام برفع ما يتوهم عدم ثبوته أو نفيه كقولك: ما زيد شجاعا ولكنه كريم، فإنك لما نفيت الشجاعة عنه، أوهم ذلك نفي الكريم لأنهما كالمتضايفين، فلما أردت رفع هذا الإيهام عقبت الكلام بلكن مع مصحوبها" (¬1). وقيل: هو مخالفة حكم ما بعد لكن لحكم ما قبلها (¬2)، قيل: " ولذلك لابد أن يتقدها كلام ملفوظ به، أو مقدر ولابد أن يكون نقيضا لما بعده، أو ضدًا له، أو خلافا على رأي نحو (ما هذا ساكن لكنه متحرك) و (ما هذا أسود لكنه أبيض)، وما هذا قائم لكنه شارب". (¬3) وقيل تأتي للتوكيد على قلة نحو: (لو جاء زيد لأكرمته لكنه لم يجيء) إذ عدم المجيء معلوم من لو ألا متناعية (¬4). وقيل هي لتوكيد دائما مثل (أن) ويصحب التوكيد معنى الاستدراك (¬5). والصواب أن الأصل فيها أن تكون للاستدراك وقد تكون للتحقيق. فهي للاستدراك ¬

_ (¬1) ابن الناظم 65، التصريح 1/ 211 - 212، الصبان 1/ 270 (¬2) المغنى 1/ 290، 291، الصبان 1/ 270 (¬3) الهمع 1/ 132 - 133، وانظر حاشية الخضري 1/ 129 (¬4) المغنى 1/ 290 - 291، والتصريح 1/ 211 - 212، الأشموني 1/ 270، الصبان 1/ 270، الهمع 1/ 132 - 133، حاشية الخضري 1/ 129 (¬5) المغنى 1/ 290 - 291، البرهان 2/ 408

كأن

في نحو قولك (سعيد حاضر لكن أخاه غائب) و (الشمس مشرقة لكن الجو بارد) وهي كذلك في كل ما خالف ما بعدها حكم ما قبلها. أما إذا لم يخالف ما بعد حكم، حكم ما قبلها فتكون للتوكيد نحو (ما زيد نائم لكنه مستيقظ) وكذلك نحو (لو جاءني علي لأكرمته، لكنه لم يجيء). واختلف في كونها مركبة أو مفردة، فهي عند البصريين مفردة غير مركبة، وقال الكوفيون: هي مركبة من لا وإن المكسورة، والكاف الزائدة بينهما لا للتشبيه، وحذفت الهمزة تخفيفا بعد نقل حركتها إلى الكاف، وأصلها لا كان (¬1). وقال برجشتراسر إن "لكن مركبة من لا وكن المقابلة لـ ken العبرية و ken" الآرمية التي معناها هكذا معني (لاكن) ليس كذا" (¬2). وهذا الكلام في لكن الساكنة كما هو واضح فإذا كانت (لكنْ) مركبة فلكن مثلها ولا تختلف عنها إلا بتثقيل النون وهما بمعنى واحد. كأن: للتشبيه وهي مؤلفة على رأي النحويين من كاف التشبيه، وأن قال سيبويه: " سألت الخليل عن (كأن) فزعم أنها (أن) لحقتها الكاف للتشبيه ولكنها صارت مع (أن) بمنزلة كلمة واحدة وهي نحو كأي رجلا ونحو له كذا وكذا درهما" (¬3). وقال ابن يعيش: "وأما كأن فحرف معناه التشبيه، وهو مركب من كاف التشبيه وأن، فأصل قولك: (كأن زيدًا الأسد) أن زيدًا كالأسد، فالكاف هنا تشبيه صريح، وهي في موضع الخبر تتعلق بمحذوف تقديره، أن زيدًا كائن كالأسد، ثم أرداوا الاهتمام بالتشبيه ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 212، حاشية يس 1/ 212، الرضي على الكافية 2/ 399، الهمع 1/ 133 (¬2) التطور النحوي 119 (¬3) سيبويه 1/ 474، وانظر ابن الناظم 65، الصبان 1/ 270، الأشموني 1/ 271 - 272، المغني 1/ 191

الذي عقدوا عليه الجملة فأزلوا الكاف من وسط الجملة وقدموها إلى أولها لأفراط عنايتهم بالتشبيه، فلما أدخلوها على أن وجب فتحها لأن المكسورة لا تقع عليها حروف الجر ولا تكون إلا أولا، وبقي معنى التشبيه الذي كان فيها متأخرة فصار اللفظ: كأن زيدًا أسد إلا أن الكاف لا تتعلق الآن بفعل، ولا معنى فعل، لأنها أزيلت عن الموضع الذي كان يمكن أن تتعلق فيه بمحذوف، وقدمت إلى أول الجملة، فزال ما كان لها من التعلق بخبر أن المحذوف .. فإن قيل: فما الفرق بين الأصل والفرع في كأن؟ قيل: التشبيه في الفرع أقعد منه في الأصل، وذلك إذا قلت: زيد كالأسد بنيت كلامك على اليقين ثم طرأ التشبيه بعد فسرى من الآخر إلى الأول وليس كذلك في الفرع الذي هو قولك (كأن زيدا أسد) لأنك بنيت كلامك من أوله على التشبيه" (¬1). وجاء في (التصريح): "وهو للتشبيه المؤكد بفتح الكاف .. نحو كأن زيدًا أسد، أو حمار مما الخبر فيه أرفع من الاسم أو أخفض منه، ففيه تشبيه مؤكد بكأن، لأنه مركب من الكاف المفيدة للتشبيه وأن المفيدة للتوكيد والأصل: إن زيدًا كالأسد، أو كالحمار فقدمت الكاف على (أن) ليدل أول الكلام على التشبيه من أول وهلة، وفتحت همزة أن وصاروا كلمة واحدة ولهذا لا تتعلق الكاف بشيء" (¬2). والتشبيه بكأن أبلغ من التشبيه بالكاف جاء في (دلائل الإعجاز): "أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد فتقول: (زيد كالأسد)، ثم تريد هذا المعنى بعينه فتقول: كأن زيدا الأسد، فتفيد تشبيهه أيضا بالأسد، إلا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأول، وهي أن تجعله من فرط شجاعته وقوة قلبه وأنه لا يروعه شيء، بحيث لا يتميز عن الأسد ولا يقصر عنه، حين يتوهم أنه أسد في صورة آدمي" (¬3). ¬

_ (¬1) ابن يعيش 8/ 91 - 92، وانظر الرضي على الكافية 2/ 398 (¬2) التصريح 1/ 212، الاتقان 1/ 168 (¬3) دلائل الإعجاز 199

وجاء في (البرهان): "وقال الإمام في نهاية الإيجاز: اشترك الكاف وكأن في الدلالة على التشبيه وكأن أبلغ. وبذلك جزم حازم في (منهج البلغاء) وقال: وهي إنما تستعمل حيث يقوي الشبه حتى يكاد الرائي يشك في أن المشبه هو المشبه به، أو غيره ولذلك قالت بلقيس: (كأنه هو) (¬1) ". وربما كان أصل (كأن) ما ذكره النحاة ولكن التعبيرين أعني الأصل والفرع لا يزالان مستعملين. فنحن لا نزال نقول: (كأنه الأسد)، و (أنه كالأسد)، وهذا التعبيران غير متماثلين في الاستعمال ولا في المعنى. ومن أوجه الخلاف بينهما على سبيل المثال: 1 - إن (كأن) يمكن أن تقع خبرا لأن فتقول (أنها كأنها البدر) و (أن محمدًا كأنه بحر) وليس هذا التعبير بمعنى: أنها أنها كالبدر ولا: أن محمدًا أنه كبحر. فالفرع يختلف اختلافا بينا عن الأصل. 2 - إن التشبيه بكأن يمكن أن يقع على الفعل نحو (كأنك تسعى إلى مأدبة) وكقوله تعالى: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف: 35]. ومثل هذا التعبير لا يمكن أن يؤدي بإن والكاف فلا تقول: إنك كتسعى إلى مأدبة: وكذلك الآية. 3 - ومن أوجه الفرق بين التعبيرين إن المشبه به الداخلة عليه الكاف قلما يكون نكرة فلا يحسن أن يقال: أنه كأسد أو كبدر بل هو، أما أن يعرف أو يخصص فيقال: أنه كالبدر أو كبدر التمام أو كبدر مكتمل ونحو ذاك. وأما خبر (كأن) فلا يقبح كونه نكرة تقول: كأنها قمر. قال النابغة: كأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب 4 - تقع اللام في خبر (إن) مثل: (إنه لكالبحر) ولا تقع في خبر كأنّ. ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 407 408، الاتقان 1/ 168

5 - هناك تعبيرات خاصة بكأن لا يصح استعمال إن والكاف فيها، نحو قولهم (كأنك بالشتاء مقبل) و (كأنك بالثلج وقد ذاب). فأنت ترى إنه لا يصح استعمال أن والكاف في نحو هذا. 6 - هناك تعبيرات تستعمل فيها (كأن) ولو استعملنا بدلها أن والكاف لتغير معنى الكلام أو لتقطعت أواصره، وذلك كقوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظله} [الأعراف: 171]، فأنت ترى إننا لو أعدنا هذا التعبير إلى الأصل الذي يدعيه النحاة وقلنا: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم أنه كظله) لانفصل الكلام بعضه من بعض، ولتقطعت وشائجه بخلاف التعبير الأول إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف بينهما. ويمكن أن يقال أن الفرع لا ينبغي أن يشابه الأصل في كل شيء. وعند البصريين إن (كأن) لا تكون لغير التشبيه (¬1). وقال الزجاج: "هي للتشبيه إذا كان خبرها جامدًا نحو (كأن زيدًا أسد) وللشك إذا كان صفة مشتقة نحو (كأنك قائم) لأن الخبر هو الاسم، والشيء لا يشبه بنفسه، والأولى أن يقال: هي للتشبيه أيضا والمعنى: كأنك شخص قائم حتى يتغاير الاسم والخبر حقيقة فيصح تشبيه أحدهما بالآخر إلا أنه لما حذف الموصوف وأقيم الوصف مقامه وجعل الاس بسبب التشبيه كأنه الخبر بعينه صار الضمير في الخبر يعود إلى الاسم لا إلى الموصوف المقدر فلهذا تقول: كأني أمشى وكأنك تمشي، والأصل، كأني رجل يمشي وكأنك رجل يمشي" (¬2). وقيد البطليوسي: "كونها للتشبيه بما إذا كان خبرها اسما أرفع من اسمها أو أحط وليس صفة من صفاته نحو، كأن زيدًا ملك وكأن زيدًا حمار. فإن كان خبرها فعلا أو ظرفا أو جارا ومجرورا أو صفة من صفات اسمها كانت للظن نحو كأن زيدًا قام ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 133 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 283

أو عندك أو في الدار لأن زيدا نفس القائم ونفس المستقر والشيء لا يشبه بنفسه" (¬1). والصواب أنها للتشبيه أيضا إما على تقدير محذوف كما ذكر الرضي وإما على تشبيه شيء في حالة بنفسه في حالة أخرى. جاء في (الهمع): "وزعم الكوفيون والزجاجي أنها إذا كان خبرها اسما جامدًا كانت للتشبيه نحو (كأن زيدا أسد)، وإذا كان مشتقا كانت للشك بمنزلة ظننت وتوهمت نحو (كأن زيدا قائم) لأن الشيء لا يشبه بنفسه، وأجيب بأن الشيء يشبه في حالة ما به في حالة أخرى، فكأنك شبهت زيدًا وهو غير قائم به قائما، أو التقدير كأن هيئة قائم، ووافق الكوفيون على ذلك ابن الطراوة وابن السيد" (¬2). وأرى أن هذا أرجح مما ذهب إليه الرضي لعدم التقدير والتغيير فعندما تقول: كأنك تمشي فأنت شبهت المخاطب في حالة غير المشي به في حالة المشي، أي شبهت زيدًا وهو في حالة به في حالة أخرى. وهي ليست في نحو ذلك للظن فهناك فرق بين الظن والتشبيه فإن الظان وقع في نفسه هذا الأمر وتصوره على ما ذكر والمشبه يعلم حقيقة الأمر، فعندما تقول (كأن زيدًا يمشى) أنت تعلم أنه لا يمشي وإنما هو مشبه لشخص يمشي، وأن حالته تشبه حالة شخص يمشي بخلاف قولك: (ظننت زيدًا يمشي) فإن المتكلم ظن ذلك واعتقده في قلبه وتصوره حقيقة وليس كذلك المشبه وإلا لم يقل: كأن. وقيل هي للتقريب في نحو قولك: كأنك بالدنيا لم تكن، وكأنك بالآخرة لم تزل وكأنك بالليل قد أقبل، وكأنك بالفرج آت (¬3). وأبو علي الفارسي يرى في مثله أن الكاف حرف خطاب، والباء زائدة في اسم كأن فيكون المعنى، كأن الدنيا لم تكن فيبقي كأن للتشبيه، وقال ابن عمرون: " المتصل بكأن ¬

_ (¬1) الصبان 1/ 272، حاشية الخضري 1/ 128، التصريح 1/ 212، المغنى 1/ 192 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 383 (¬3) الهمع 1/ 123، المغنى 1/ 192، حاشية الخضري 1/ 128 - 129

اسمها والظرف خبرها والجملة بعده حال بدليل قولهم: كأنك بالشمس وقد طلعت" (¬1). قال الرضي: " والأولى أن تقول ببقاء كأن على معنى التشبيه وأن لا تحكم بزيادة شيء وتقول: التقدير كأنك تبصر بالدنيا أي تشاهدها من قوله تعالى: {فبصرت به عن جنب} [القصص: 11]، والجملة بعد المجرور بالباء حال أي كأنك تبصر الدنيا وتشاهدها غير كائنة، ألا ترى إلى قولهم: كأني بالليل وقد أقبل وكأني بزيد وهو ملك. والباء لا تدخل الجمل إلا إذا كانت أخبارًا لهذه الحروف" (¬2). ورأي الرضي فيما أرى أرجح مما ذهب إليه أبو علي لأنك تقول: (كأني بك تقول الشعر)، وليس ههنا حرف خطاب، ويضعفه زيادة الاسم، وأرجح مما ذهب إليه ابن عمرون فإن المعنى بعيد على تقديره. ولم أر رأيا مقبولا موافقا للمعنى في قولهم (كأنك بالشتاء مقبل) مما كان فيه الخبر اسما. والذي أراه في نحو ذلك أن الأصل " كأنك بالشتاء وهو مقبل " على تقدير: كأنك تبصر بالشتاء وهو مقبل، وجملة (هو مقبل) حالية فحذف منها المبتدأ وواو الحال، وبقي الخبر فصار على ما ذكر. وهو الموافق للمعنى. ونظير هذا الحذف وأن لم يكن من هذا الباب قيل في قولهم (أنت أعلم ومالك) فإن أولى ما قيل فيه أن الأصل: (أنت أعلم بمالك فأنت ومالك) فحذف ما حذف، حتى صار كما ترى. وقيل هي للتحقيق في نحو قوله: فأصبح بطن مكة مقشعرًا ... كأن الأرض ليس بها هشام أي أن الأرض ليس بها هشام لأنه قد مات ورثاه بذلك. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 193، الرضي على الكافية 2/ 383 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 383

وخرجه ابن مالك على أن الكاف للتعليل كاللام أي لأن الأرض (¬1). وجاء في (التصريح) أنها تفيد التشبيه "فإن الأرض ليس بها هشام حقيقة بل هو فيها مدفون" (¬2). وذكر السيوطي أن هذا من باب تجاهل العارف كقوله: أيا شجر الخابور مالك مورقًا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف (¬3) وهو أرجح مما ذهبوا إليه وفيه أبقاء كأن على معناها. قيل: وقد تكون للجحد قال الكسائي: "قد تكون كأن بمعنى الجحد كقولك: (كأنك أميرنا فتأمرنا) معناه لست أميرنا، قال: وكأن أخرى بمعنى التمني كقولك (كأنك بي قد قلت الشعر فأجيده) معناه ليتني قد قلت الشعر فأجيده، ولذلك نصب فأجيده" (¬4). والصواب أنها لا تكون للنفي بل هي على معناها فقوله: كأنك أميرنا فتأمرنا معناه أنت متشبه بالأمير فتفعل ذلك ومعنى النفي متأت من التشبيه، فأنت حين تشبه شيئًا بشيء تنفي أن يكون الأول الثاني والألم تشبهه به. فقولك: (كأنها بدر) معناه أنها ليست بدرًا وإنما هي شبيهة بالبدر. وكذلك هي لا تكون للتمني وما ذكره الكسائي في قوله (كأنك بي قد قلت الشعر فأجيده) هو من باب ما خرجه الرضي، أي كأنك تبصر بي قد قلت الشعر. وقيل تأتي بمعنى العلم نحو قولك (كأن الله يفعل ما يشاء) (¬5). ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 133، وانظر المغنى 1/ 192 (¬2) التصريح 1/ 212 (¬3) الهمع 1/ 133، وانظر حاشية الثمني على المغنى 2/ 21 (¬4) لسان العرب (اذن) 16/ 173، وانظر التصريح 1/ 212 (¬5) لسان العرب (اذن) 16/ 173

لام الابتداء

والأولى أن تكون على بابها، وقائل هذا كأنه كان غافلا عن ذلك، ومنه على ما رأي قوله تعالى: {ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر} [القصص: 82]، فقائل هذا كأنه كان غافلا عن هذه الحقيقة، جاهلا بها فقد كان يتمني أن يكون له مثل ما آوتي قارون، فلما خسف الله بقارون انتفضت هذه الحقيقة في ذهنه، وصحا من غفلته، فقال ذلك، فقد كان يجهل سر أفعال الخالق، فلما بدا له ما بدا، بدأ يفسر الأمر على ما ظهر له، ولم يقطع بذلك فكأنه قال: يخيل إلي ويبدو وتتشبه أفعال الخالق على هذه الشاكلة فكأنه قال: كأن ربنا يفعل على هذه الشاكلة والله أعلم. قيل: "وقد تدخل كأن في التنبيه والإنكار والتعجب تقول: فعلت كذا وكذا كأني لا أعلم، وفعلتم كذا كأن الله لا يعلم ما تفعلون (¬1) ". وهي في ذلك على بابها وقد خرجت إلى ما خرجت إليه فقولك: فعلت كذا وكذا، كأني لا أعلم معناه أنك فعلت ذلك وشبهتني بمن لا يعلم. لام الابتداء: قد تدخل على المبتدأ، والفعل المضارع، وبعض المواطن الأخرى، لام تسمى لام الابتداء نحو: (لمحمد قائم) وهي تفيد التوكيد قال تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} [البقرة: 221]. وقال: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الأخرة خير، ولنعم دار المتقين} [النحل: 30]. ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 133

وقال: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} [الأنعام: 32]. فأكد كل ذلك باللام في حين قال: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} [الأعراف: 169]، فلم يؤكده باللام. وسر ذلك والله أعلم، أن السياق في آيات الأنعام والنحل هو عن الدار الآخرة، وليس كذلك السياق في آيات الأعراف. قال تعالى في سورة الأنعام: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ولا نكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهي يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}. [الأنعام]. فأنت ترى أن الكلام على الدار الآخرة، وليس الأمر كذلك في آيات الأعراف، بل هو في العقوبات الدنيوية لبني إسرائيل، قال تعالى: {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} [الأعراف: 164 - 169]، فلما كان الكلام في آيات الأنعام على الدار الآخرة

أكدها باللام، ولما كان الكلام في آيات الأعراف على عقوبات الدنيا، لم يؤكد الآخرة باللام بل أكد سرعة العقاب لأنه عاجلهم به في الدنيا فقال (إن ربك لسريع العقاب). وكذلك آية النحل، فالسياق فيها يتحدث عن الدار الآخرة، قال تعالى: {ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركاءي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعلمون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين، وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل: 27 - 32]. فأنت ترى أن الكلام على الدار الآخرة فأكدها باللام بخلاف آية الأعراف، والذي يدل على أنها للتوكيد، أنها يتلقى بها القسم مثل أن، قال تعالى {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة: 107]. وقال: {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون} [آل عمران: 157]. وقال: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل: 126]. وقد أطبق النحاة على أنها للتوكيد قال ابن يعيش: "اعلم أن هذه اللام أكثر اللامات تصرفا ومعناها التوكيد، وهو تحقيق معنى الجملة وإزالة الشك" (¬1). وعند الكوفيين أن هذه اللام هي لام القسم، وليس عندهم لام ابتداء فقولك (لمحمد قائم) إنما هو جواب قسم مقدر كأنك قلت: والله لمحمد قائم. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 9/ 25، 8/ 63، وانظر الرضي على الكافية 2/ 393، المغنى (1/ 328)، الهمع 1/ 139، الأشموني 1/ 279، التصريح 1/ 221

جاء في (شرح الرضي على الكافية): "ومذهب الكوفيين أن اللام في مثل لزيد قائم، جواب القسم أيضا، والقسم قبله مقدر فعلى هذا ليس عندهم لام الابتداء" (¬1). وعلى كلا الرأيين هي للتوكيد. وهذه اللام لتوكيد الإثبات كما إن الباء في نحو قولك (ما محمد بحاضر) لتوكيد النفي فلا تقول: إن محمد لما حاضر، ولا لما أخوك قائم "وذلك لأن اللام للتقرير والإثبات وحرف النفي للدفع والإزالة فبينهما في ظاهر الأمر تناقض" (¬2). قال الزمخشري في كشافه القديم: " الباء في خبر (ما) و (ليس) لتأكيد النفي كما أن اللام لتأكيد الإيجاب" (¬3). " وقد ذهب معاذ الهراء وثعلب إلى أنها جيء بها إزاء الباء في خبر (ما) فقولك: (إن زيدًا منطلق) جواب (ما زيد منطلقا)، و (إن زيدًا لمنطلق) جواب: ما زيد بمنطلق" (¬4). وقال أكثر النحاة إنها إذا دخلت على الفعل المضارع، خلصته للحال بعد أن كان يحتمل الحال والاستقبال، فإنك إذا قلت: (إن أخاك ليسعى في الخير) دل على أنه يفعل ذلك في الحال، " وذهب آخرون إلى أنها لا تقصره على أحد الزمانين، بل هو مبهم فيهما على ما كان واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة} [النحل: 124]، فلو كانت اللام تقصره للحال كان محالا. وهو الاختيار عندنا فعلى هذا يجوز أن نقول: إن زيدًا لسوف يقوم الآن، لأن اللام تدل على الحال كما يدل عليه الآن" (¬5). ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 374 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 375، وانظر ابن الناظم 69، الهمع 1/ 140، الأشموني 1/ 281، الصبان 1/ 279 - 281، حاشية الخضري 1/ 134 (¬3) الاتقان 2/ 65 (¬4) الهمع 1/ 140 (¬5) ابن يعيش 9/ 26، وانظر المغني 1/ 228

إن واللام

قال ابن القيم: "ولقائل أن يقول: التخلص إنما يكون باللام المجردة، وإما إذا اقترن بالفعل قرينة تخلصه للاستقبال لم تكن للحال وهذا كسوف كما في قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5]، فلولا هذه القرائن لتخلص للحال" (¬1). والذي يبدو لي أنها على الحال كثيرا، وقد تخرج إلى غيره بدلالة القرائن وذلك نحو قوله تعالى {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة} [النحل: 124]، وفي غير المضارع قوله: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} [الكهف: 8]. وجاء في (الكتاب): " وقد يستقيم في الكلام (إن زيدا ليضرب وليذهب) ولم يقع ضرب والأكثر على ألسنتهم كما خبرتك في اليمين، فمن ثم ألزموا النون في اليمين لئلا يلتبس بما هو واقع قال الله عز وجل إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة" (¬2). إن واللام: وقد يقول قائل أن كلا من إن واللام يفيد التوكيد فهل ثمة فرق بينهما؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إن النحاة اختلفوا في ذلك فقد ذهب بعض النحاة أنه لا فرق بينهما في المعنى، قال الرضي: " وكان حقها - أي اللام - أن تدخل في أول الكلام ولكن لما كان معناها هو معنى (إن) سواء، أعني التأكيد والتحقيق، وكلاهما حرف ابتداء كرهوا اجتماعهما فأخروا اللام وصدروا (إن) لكونها عاملة" (¬3). وقال الكسائي: إنْ اللام لتوكيد الخبر، وإنّ لتوكيد الاسم (¬4) والبصريون على إنها لتوكيد الجملة بأسرها (¬5). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 4/ 192 (¬2) سيبويه 1/ 456 (¬3) الرضي على الكافية 2/ 393 (¬4) الهمع 1/ 140، البرهان 2/ 409، الاتقان 2/ 65، معترك الاقران 1/ 336 - 337 (¬5) الهمع 1/ 140، وانظر ابن يعيش 9/ 25، المغني 1/ 328

ولست أدري أيعني الكسائي أن هذا الفرق إنما يكون عند اجتماعهما، أو يكون ذلك مطلقا؟ كما لست أدري من أين له هذا الفرق واللام قد تدخل على المبتدأ نحو (لمحمد حاضر) وعلى اسم إن وخبرها نحو {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [الأعراف: 167]، و {إن لنا لأجرا} [الأعراف: 113]، فمن أين له أن اللام تؤكد الخبر بخلاف إن؟ وذهب بعض النحاة إلى أن التأكيد بـ (إن) أقوى من التأكيد باللام (¬1)، والظاهر أن بينهما خلافا في الاستعمال، ولا يصح أن نبدل أحداهما بالأخرى على وجه الدوام. 1 - فقد ذكرنا إنّ (إنّ) قد تأتي لربط الكلام بعضه ببعض، ولا يحسن الكلام بدونها وذلك كقوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 109]، وقوله: {فانتظروا إني معكم من المنتظرين} [الأعراف: 71]، وقوله {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها} [الكهف: 29]، فلا يحسن في مثل هذه المواطن حذف إن، كما لا يحسن إبدال اللام بها إذ لا يسد اللام مسد إن في مثل هذه المواطن. 2 - وقد ذكرنا أيضا إن (إن) تفيد التعليل كما في قوله تعالى: {وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم} [التوبة: 103]، وقوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} [البقرة: 168]، وقوله: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء: 32]. ولا يحسن في مثل هذه المواطن إبدال اللام بها. 3 - إن (إن) مختصة بتوكيد الجمل الإسمية، ولا تدخل على الأفعال بخلاف اللام فإنها تدخل على الجمل الإسمية، والفعلية، كقولك (ليقوم زيد) و {ولنعم دار المتقين} [النحل: 30]. ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 405، الاتقان 1/ 156، الأشباه والنظائر 2/ 65

4 - الذي يبدو لي أن الأصل في اللام، أن يؤتي بها في مواطن الرد والإنكار وفي مواطن الجواب، أو ما ينزل منزلة ذلك، كقوله تعالى على لسان أخوة يوسف {ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين} [يوسف: 8]، منكرين على أبيهم هذا الأمر، بخلاف (إن) فإنها لعموم التوكيد. فإنك تأتي باللام إذا كنت رادا على المخاطب كلامه أو تصوره، أو منكرًا عليه وذلك كأن يقول قائل: (رأيت سعيدا أكرم الخلق) فيرد عليه آخر قائلا: (لمحمد أكرم منه). ويقول قائل: (إن خالدا سيهين إبراهيم) فتقول: (لإبراهيم أعز من ذلك) قال تعالى: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة: 107]، فهذا رد شهادة الشاهدين الأولين. وقال: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45]، فأنت ترى إنه علل ذلك بقوله (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) ثم رد على من يتصور أن هذا هو كل المقصود بقوله (ولذكر الله أكبر). ونحو ذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} [البقرة: 221]، فإنه بعد أن نهى عن نكاح المشركات، قد يظن ظان أن جمال المرأة وما إلى ذلك مما يعجب الرجال سوى الإيمان، داع إلى تفضيلها فرد ذلك بقوله (ولأمة مؤمنة .. ) وكذلك بعد أن نهى عن أنكاح المشركين، قد يظن أن سمت الرجل ومكانته وغير ذلك مما هو مرغوب فيه سوى الإيمان، مما يدعو إلى تفضيله فرد هذا الظن بقوله: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم}. والذي يدل على ذلك ويوضح الفرق بينهما أن كل ما ورد في القرآن الكريم من مبتدأ دخلت عليه لام الابتداء، أو القسم مما كان خبره مفردا، أعني ليس جملة، جيء بخبره اسم تفضيل ولم يرد غير ذلك وقد ورد ذلك في (23)، ثلاثة وعشرين موطنا قال تعالى: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} [البقرة: 221]. ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم. [البقرة: 221].

{فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهاتهما} [المائدة: 107]، {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون} [آل عمران: 157]. {وللدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} [الأنعام: 32]. {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة: 108]. {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57]. {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله} [الحشر: 13]. {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45]، إلى غير ذلك من المواطن. ووجه الاستدلال في هذا أننا نرى فرقا بين قولنا (محمد كريم) و (محمد أكرم ممن ذكرت) فإن العبارة الثانية إنما هي رد للأولى، وجواب عليها بخلاف (إن) التي قد تخرج عن هذا الأصل ولذلك جاء خبرها في القرآن عامًا قال تعالى: {إن الله واسع عليم} [البقرة: 115]، وقال: {إنه لكم عدو مبين} [البقرة: 168]. ولسنا نعني بقولنا هذا أن اللام لا تجاب، إلا باسم التفضيل كما لا نعنى أن (إن) لا تكون للجواب والرد ولكنا نقول: أن الأصل في اللام أن تكون للرد والإنكار وما ورد من الشواهد القرآنية الكثيرة يؤيد ذلك بخلاف (أن) فإنها قد تكون لمجرد التوكيد. جاء في (البرهان): "قال - يعني عبد القاهر الجرجاني -: " وأكثر مواقع (إن) بحكم الاستقراء هو الجواب، لكن بشرط أن يكون للسائل فيه ظن بخلاف ما أنت تجيبه به، فأما أن تجعل مرد الجواب أصلا فيها، فلا لأنه يؤدي إلى قولك: (صالح) في جواب: كيف زيد؟ حتى تقول: أنه صالح ولا قائل به". بخلاف اللام فإنه لا يلحظ فيها غير أصل الجواب" (¬1). ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 405 - 406، وانظر دلائل الإعجاز 251

اجتماع إن واللام

اجتماع إن واللام: ذكرنا فيما سبق أن كلا من (إن) واللام يفيد التوكيد، فاجتماعهما يؤدي ولا شك إلى الزيادة في التوكيد، وهو أقوى من التوكيد بإن وحدها، أو باللام وحدها، قال تعالى: {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعل إنا إليكم لمرسولن وما علينا إلا البلاغ المبين} [يس: 13 - 17]. فانت ترى أنه في المرة الأولى قالوا (إنا إليكم مرسلون) بدون اللام، غير أنهم لما أوغلوا في تكذيبهم جاؤا باللام مع (إن) زيادة في التوكيد (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فأكد بالقسم وإن واللام وإسمية الجملة لمبالغة المخاطبين في الإنكار حيث قالوا: (ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن انتم إلا تكذبون). وقد يؤكد بها والمخاطب به غير منكر جريه على مقتضى أقراره، فينزل منزلة المنكر وقد يترك التأكيد وهو معه منكر لأن معه إدلة ظاهرة لو تأملها لرجع عن إنكاره" (¬1). وقال تعالى: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [الأنعام: 165]. وقال: {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [الأعراف: 167]، فجاء في الآية الأولى بإن دون اللام (سريع العقاب) وفي الثانية بأن واللام (لسريع العقاب): "والفرق بين هذه الآية وآية الأنعام، حيث أتى هنا باللام فقال (سريع العقاب) دون هناك، إن اللام تفيد التوكيد فأفادت هنا تأكيد سرعة العقاب، لأن العقاب المذكور هنا عقاب عاجل، وهو عقاب بني إسرائل بالذل والنقمة، وإداء الجزية بعد المسخ لأنه في سياق قوله: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} فتأكيد السرعة أفاد بيان التعجيل، وهو مناسب بخلاف العقاب المذكور، في سورة الأنعام فإنه آجل بدليل قوله: {ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} فاكتفى فيه بتأكيد (إن) ¬

_ (¬1) الاتقان 2/ 64 - 65، وانظر الايضاح 1/ 18

ولما اختصت آية الأعراف بزيادة العذاب عاجلا اختصت بزيادة التأكيد" (¬1). ومما يوضح أيضا قوله تعالى: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة: 107]، وقوله: {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم} [المائدة: 52]، فأنت ترى أن جواب القسم الأول تلقى باللام وحدها، والثاني تلقى بأن واللام، وذلك لاختلاف القسمين، فإن في الثانية مبالغة في القسم بخلاف الأولى، ويدلك على ذلك قوله تعالى (جهد إيمانهم) فلما بالغوا في القسم بالغوا في التوكيد بخلاف القسم الأول. يتضح من هذا أن التوكيد على درجات، ويؤتي به على قدر المقام فقد يكون المخاطب خالي الذهن، والكلام ليس فيه ما يدعو إلى الإنكار والتردد، فلا يؤكد الكلام عند هذا فإن مترددا أكد الكلام بحسب هذا التردد، جاء في (الإيضاح): "فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه، استغني عن مؤكدات الحكم كقولك: جاء زيد وعمر وذاهب فيتمكن في ذهنه لمصادفته إياه خاليا. وإن كان مقصور الطرفين مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبًا له حسن تقويته بمؤكد كقولك: لزيد عارف أو إن زيدًا عارف. وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار، فتقول (أني صادق) لمن ينكر صدقك ولا يبالغ في إنكاره، و (إني لصادق) لمن يبالغ في إنكاره" (¬2). وجاء في (دلائل الإعجاز): " روي عن ابن الأنباري أنه قال: ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له: إني لأجد في كلام العرب حشوا، فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: عبد الله قائم. ثم يقولون إن عبد الله قائم. ثم يقولون: إن عبد الله لقائم. فالألفاظ متكررة والمعنى واحد. ¬

_ (¬1) البرهان 4/ 65 - 66 (¬2) الايضاح 1/ 18، البرهان 2/ 390 - 391، ابن يعيش 8/ 63

زيادة (ما) بعد الأحرف المشبهة بالفعل

فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فقولهم: عبد الله قائم، إخبار عن قيامه، وقولهم: إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل. وقولهم: إن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر قيامه، فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني. قال فما أحار المتفلسف جوابًا" (¬1). فإجتماع إن واللام يكون عند المبالغة في التوكيد، وذلك عندما يكون المخاطب منكرا أو منزلا هذه المنزلة. زيادة (ما) بعد الأحرف المشبهة بالفعل: تزاد (ما) بعد الأحرف المشبهة بالفعل، كما تزاد بعد طائفة غير قليلة من الكلم، فهي تزاد بعد طائفة من الحروف والأسماء والأفعال، وهي في كل ذلك إما أن تكون كافة عن العمل أو غير كافة، فمن مجيئها كافة قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، و (صوا كما رأيتموني أصلي) {وربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} [الحجر: 2]، و (قلما يسافر خالد). ومن مجيئها غير كافة قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159]، و (ليتما زيدا قائم بالأمر) و (غضبت من غير ما جرم) و {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110]. وهناك فرق رئيس بين (ما) الكافة، و (ما) الزائدة غير الكافة أينما كانت، فإن (ما) الكافة مهيئة لإدخال الكلمة على ما لم تكن تدخل عليه. فالأحرف المشبهة بالفعل مثلا مختصة بالجمل الإسمية، فإن دخلت عليها (ما) هذه وسعت دائرة استعمالها فأدخلتها على الجمل الفعلية أيضا، تقول: (إن محمدا قائم) فإن دخلت (ما) عليها قلت: (إنما محمد قائم) و (إنما يقوم محمد) فهي توسع دائرة التوكيد والترجي والتشبيه، ونحو (لعلما يحضر زيد) و {كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} [الأنفال: 6]، وفي غير ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 242

الأحرف المشبهة بالفعل أيضا نحو {ربما يود الذين كفروا} [الحجر: 2]، و (صلوا كما رأيتموني أصلي) فبعد أن كانت (رب) منحصرة في دائرة ضيقة من الاستعمال وهو الاسم النكرة نحو (رب ليل كأنه الصبح في الحسن) هيأتها (ما) الكافة للدخول على ما لم تكن تدخل عليه من اسم معرفة، أو جملة فعلية فتوسع معنى التقليل الذي كان منحصرًا في دائرة معينة، وكذلك التشبيه بالكاف، فبعد أن كان منحصرًا بالأسماء الظاهرة اتسع بدخول (ما) عليه، ونحو ذلك: (قل وطال وكثر) فتقول: قلما وطالما وكثرما. وأما غير الكافة فهي لا تغير الاستعمال، وإنما تبقيه على حاله وتؤكد المعنى نحو قوله تعالى {مما خطيئاتهم أغرقوا} [نوح: 25]، و (ماوي يار بتما غارة) و (ليتما زيدا حاضرا). هذا هو الفارق الرئيس بين (ما) الكافة وغير الكافة، وقد ذكرت أمور أخرى نوردها في مواطنها. قال ابن يعيش: " قد زيدت (ما) في الكلام على ضربين: كافة وغير كافة إن تكف ما تدخل عليه عما كان يحدث فيه قبل دخولهما من العمل، وقد دخلت كافة على الكلم الثلاث: الحرف والاسم والفعل. أما دخولها على الحرف للكف، على ضربين: أحدهما أن تدخل عليه فتمنعه العمل الذي كان له قبل، وتدخل على ما كان دخل عليه قبل الكف غير عامل فيه، نحو قوله تعالى: {إنما الله إله واحد} [النساء: 171]. والآخر أن تدخل على الحرف وتكفه عن عمله وتهيئه للدخول على ما لم يكن عليه قبل الكف، وذلك نحو قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]. الثاني: استعمالها زائدة مؤكدة غير كافة، وذلك على ضربين: أحدهما أن تكون عوضًا من محذوف نحو (أما أنت ذا نفر). والآخر: أن تكون مؤكدة لا غير ..

إنما وأنما

والضرب الثاني وهو أن تزاد لمجرد التأكيد غير لازمة للكلمة فهو كثير في التنزيل والشعر، وسائر الكلام من ذلك قوله "غضبت من غير ما جرم" .. وقيل (إنما زيدا منطلق) فيجوز في (إنّ) الأعمال والإلغاء فمن ألغي ورفع وقال (إنما زيد منطلق) كانت (ما) كافة .. ومن أعملها وقال: (إنما زيدا منطلق) كانت ملغاة والمراد بها التأكيد" (¬1). أما بالنسبة لزيادة (ما) مع الأحرف المشبهة بالفعل، فهي تدخل عليها في الغالب كافة لها، ويذكر النحاة أنها تدخل عليها غير كافة أيضا (¬2) فإن كانت كافة لها كانت مهيئة لدخولها على ما لم تكن تدخل عليه وإن كانت زائدة غير كافة كانت مؤكدة كما سبق أن ذكرنا. تقول: إنما محمدا قائم، ولعلما بكرا جالس، وليتما أخاك معنا، فإن (ما) ههنا لم تزل اختصاصها بالأسماء، وإنما هي مؤكدة وإليك تفصيل ذلك: إنما وأنما: تدخل (ما) على إن فتكفها عن العمل وتهيئها للدخول على ما لم تكن تدخل عليه من جمل فعلية، واختلف في (ما) الداخلة على الأحرف المشبهة بالفعل فزعم "ابن درستويه وبعض الكوفيين أن (ما) مع هذه الحروف اسم مبهم بمنزلة ضمير الشأن في التفخيم والإبهام، وفي أن الجملة بعده مفسرة له ومخبر بها عنه، ويرده أنها لا تصلح للابتداء بها ولا لدخول ناسخ غير إن وأخواتها" (¬3). "وزعم جماعة من الأصوليين والبيانيين إن (ما) الكافة التي مع (إنّ) نافية وأن ذلك سبب إفادتها للحصر قالوا لأن (أن) للإثبات و (ما) للنفي، فلا يجوز أن يتوجها معًا إلى شيء واحد لأنه تناقض .. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 8/ 131 - 133، وانظر الرضي على الكافية 2/ 426، بدائع الفوائد 1/ 144 (¬2) انظر الرضي على الكافية 2/ 385 - 386، الهمع 1/ 143 - 144، التسهيل 65، ابن يعيش 8/ 57، الأشموني 1/ 284، حاشية الخضري 1/ 136، الأصول لابن السراج 1/ 281 (¬3) المغنى 1/ 307، الهمع 1/ 144، الرضي على الكافية 2/ 385 - 386

وهذا البحث مبني على مقدمتين باطلتين بإجماع النحويين، إذ ليست (إن) للإثبات وإنما هي لتوكيد الكلام إثباتا كان مثل (إن زيدا قائم) أو نفيًا مثل (إن زيدًا ليس بقائم) ومنه: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} [يونس: 44]. وليست (ما) للنفي بل هي بمنزلتها في أخواتها ليتما، ولعلما، ولكنما، وكأنما" (¬1). والجمهور على أنها زائدة كافة، مهيئة لدخول ما لم تكن تدخل عليه، وإن (إنما) تفيد الحصر وذكر أبو حيان وطائفة يسيرة أنها لا تفيد الحصر (¬2). والصواب رأي الجمهور وأنها تفيد الحصر، قال تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [البقرة: 168 - 169]، أي لا يأمركم إلا بذاك ولا يأمر بالخير، وقال: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نار وسيصلون سعيرا} [النساء: 10]، وقال: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد} [النساء: 171]، أي ما هو إلا إله واحد، ويدل على ذلك قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد} [المائدة: 73]، وقال: {قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} [الأنعام: 19]، وقال: {إنما الغيب لله} [يونس: 20]، أي ما الغيب إلا الله، ويدل على قوله تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65]، وقال: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: 60]، وهي حصر في هذه الأقسام لا تتعداهم. جاء في (لسان العرب): " ومعنى (إنما) إثبات لما يذكر بعدها، ونفي لما سواه كقوله (إنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي) المعنى: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو من هو مثلي .. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 308 - 309، الاتقان 2/ 49 - 50، التفسير الكبير 16/ 105 (¬2) الهمع 1/ 144، الاتقان 2/ 49، 50، وانظر التصريح 1/ 225

وإن زدت على (إن) (ما) صار للتعيين كقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} لأنه يوجب إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه" (¬1). واستدل أبو علي الفارسي على أنها للحصر بنحو قولهم: (إنما يفعل هذا أنا) ولو لم تكن للنفي والإثبات لم يصح هذا لأنك تقول (أفعل هذا) ولا تقول: (يفعل هذا انا) و (إنما) ههنا بمنزلة النفي وإلا فكأنك قلت: ما يفعل هذا إلا أنا. جاء في (دلائل الإعجاز): "قال الشيخ أبو علي في الشيرازيات: يقول ناس من النحويين في نحو قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأعراف: 33]، إن المعنى ما حرم ربي إلا الفواحش: قال واصبت ما يدل على صحة قولهم في هذا وهو قول الفرزدق: أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي فليس يخلو هذا الكلام من أن يكون موجبًا أو منفيا، فلو كان المراد به الإيجاب لم يستقم ألا ترى أنك لا تقول: يدافع أنا ولا يقاتل أنا وإنما تقول: أدافع وأقاتل إلا أن المعنى لما كان: ما يدافع إلا أنا فصلت الضمير كما تفصله مع النفي، إذا الحقت معه (إلا) حملا على المعنى" (¬2). وجاء في (الإتقان): "الجمهور على أنها للحصر .. واستدل مثبتوه بأمور منها قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة} [البقرة: 173]، بالنصب فإن معناه ما حرم عليكم إلا الميتة لأنه المطابق في المعنى لقراءة الرفع فإنها للقصير .. ومنها قوله تعالى: {قال إنما العلم عند الله} [الأحقاف: 23]، {قال إنما يأتيكم به الله} [هود: 33]، {قل إنما علمها عند ربي} [الأعراف: 187]، فإنه إنما تحصل مطابقة الجواب، إذا كانت (إنما) لحصر ليكون معناها لا آتيكم به إنما يأتي به الله، ولا أعلمها إنما يعلمها الله، وكذا قوله: ¬

_ (¬1) لسان العرب (إذن) 16/ 173 - 174 (¬2) دلائل الإعجاز 255 - 253

{ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} [الشورى: 41]، إلى قوله: {إنما السبيل على الذين يستئذنوك وهم أغنياء} [التوبة: 93] (¬1). لا يستقيم المعنى في هذه الآيات ونحوها إلا بالحصر" (¬2). و(إنما) مثلها في إفادة القصر، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {قل إنما يوحى إلي أنما إلاهكم إله واحد} [الأنبياء: 108] (¬3). وقال تعالى: {واعلموا أنما أموالكم وأولادك فتنة وأن الله عنده أجر عظيم} [الأنفال: 28]، فمرة قال (إنما) ومرة قال (أن) وسر ذلك أن (إنما) للحصر، أي ليست الأموال والأولاد إلا للفتنة، والاختبار لإظهار الصلحاء من غيرهم، ثم قال (وأن الله عنده أجر عظيم)، ولم يقل (إنما) لأنه لا موجب للحصر فإن الله عنده أجر عظيم، وعقاب أليم. وقال: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو} [هود: 14]، أي لم ينزل إلا بعلم الله. وقال: {فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} [المائدة: 92]، أي ليس عليه إلا البلاغ. قيل والفرق بين إنما والنفي والاستثناء في القصر، أن (إنما) تستعمل لما ينكر المخاطب ولا يدفع صحته. قال عبد القاهر: " اعلم أن موضوع (إنما) على أن تجيء خبرا لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما ينزل هذه المنزلة. تفسير ذلك أنك تقول للرجل: إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم، لا تقوله لمن يجعل ذلك ويدفع صحته ولكن لمن يعلمه، ويقر به إلا أنك تريد أن تنبهه للذي عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب، ومثله قول الآخر: ¬

_ (¬1) وأما بعد آية الشورى المذكورة فهو قوله تعالى {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} [الشورى: 42] (¬2) الاتقان 2/ 49 (¬3) الصبان 1/ 283

إنما أنت والد والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولاد وأما مثال ما ينزل هذه المنزلة فكقوله: إنما مصعب شهاب من الله ... تجلب عن وجهه الظلماء ادعى في كون الممدوح بهذه الصفة أنه أمر ظاهر معلوم للجميع .. أما الخبر بالنفي والإثبات نحو (ما هذا إلا كذا وأن هو إلا كذا) فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه. فإذا قلت: ما هو إلا مصيب أو ما هو إلا مخطيء قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته" (¬1). وجاء فيه: "ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن اليهود {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة: 11]، دخلت (إنما) لتدل على أنهم حين أدعوا لأنفسهم أنهم مصلحون، أظهروا أنهم يدعون في ذلك أمرًا ظاهرًا معلومًا. ولذلك أكد الأمر في تكذيبهم والرد عليهم، فجمع بين (إلا) الذي هو للتنبيه وبين (إن) الذي هو للتأكيد فقيل: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} [البقرة: 12] (¬2)." وجاء في الكشاف في قوله تعالى (إنما نحن مصحلون): " وإنما لقصر الحكم على شيء كقولك (إنما ينطلق زيد) أو لقصر الشيء على حكم كقولك (إنما زيد كاتب) ومعنى (إنما نحن مصلحون) إن صفة المصلحين خلصت لهم، وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجود الفساد". قالوا: وأحسن ما يستعمل (إنما) هو في مواقع التعريض نحو {إنما يتذكر أولوا الألباب} [الرعد: 19] (¬3)، معرضا بأهل الجهل، ونحو ذلك أن تكون في مقام الثناء على أحد بالفهم وبعد الإدراك والتعريض بآخر بأنه ليس عنده هذا الفهم والبعد في الإدراك فتقول: (إنما يعلم هذا اللبيب). ¬

_ (¬1) دلائل الاعجاز 254 - 255، وانظر شرح المختصر للتفتازاني 86 - 87 (¬2) دلائل الاعجاز 274 (¬3) الكشاف 1/ 137 - 138

جاء في (دلائل الإعجاز): " ثم أعلم أنك إذا استقريت وجدتها أقوى ما تكون وأعلق ما ترى بالقلب إذا كان لا يراد بالكلام بعدها نفس معناه ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه نحو أنا نعلم أن ليس الغرض من قوله تعالى: {إنما يتذكر أولوا الألباب} أن يعلم السامعون ظاهر معناه ولكن أن يذم الكفار وأن يقال: إنهم من فرط العناد، ومن غلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل .. ثم إن العجب في أن هذا التعريض الذي ذكرت لك لا يحصل من دون (إنما)، فلو قلت: يتذكر أولو الألباب لم يدل على ما دل عليه في الآية .. وإذا اسقطت من الكلام فقيل (يتذكر أولو الألباب) كان مجرد وصف لأولى الألباب، بأنهم يتذكرون ولم يكن فيه معنى نفي للتذكر ممن ليس منهم .. فالتعريض بمثل هذا أعني بأن يقول (يتذكر أولوا الألباب) بإسقاط (إنما) يقع إذن أن وقع بمدح إنسان بالتيقظ وبأنه فعل ما فعل، وتنبه لما تنبه لعقله ولحسن تمييزه، كما يقال: كذلك يفعل العاقل وهكذا يفعل الكريم" (¬1). قال ابن يعيش: " ومعناها التقليل فإذا قلت: إنما زيد بزاز، فأنت تقلل أمره وذلك أنك تسلبه ما يدعي عليه غير البز، ولذلك قال سيبويه في " إنما سرت حتى أدخلها" أنك تقلل" (¬2). وجاء في (الأصول): "والفرق بين إن وإنما في المعنى أن (إنما) تجيء لتحقير الحبر قال سيبويه: تقول: إنما سرت حتى أدخلها إذا كنت محتقرًا لسيرك إلى الدخول" (¬3). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 272 - 273، وانظر شرح المختصر 87 (¬2) ابن يعيش 8/ 56 (¬3) الأصول 1/ 283 - 284، وانظر الكتاب 1/ 415

كأنما

والحقيقة أنها ليست للتقليل ولكن هذا من باب قصر الموصوف على صفة فداء معنى التقليل من هنا، وذلك كأن تقول (ما محمد إلا شاعر) فقد قصرت محمدًا على صفة واحدة هي الشعر، ونفيت عنه الصفات الأخرى كأن يكون كاتبًا أو فقهيًا بعكس ما لو قلت (ما شاعر إلا محمد) فإنك تكون قد قصرت الشعر على محمد، وكأن من عداه ليس بشاعر ولم تنف عنه الصفات الأخرى، وهو ثناء ومدح بعكس الأولى. فإن لم تكن (ما) كافة، فهي زائدة لغرض الزيادة في التوكيد، وليس فيها معنى الحصر نحو (إنما محمدًا حاضر). كأنما: تزاد (ما) الكافة بعد (كأن) فتكفها، وتهيئها للدخول على الجملة الفعلية، وتوسع دائرة التشبيه بها بعد أن كانت مقصورة على الجمل الإسمية، وذلك كقوله تعالى: {كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} [الأنفال: 6]، وقوله: {كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما} [يونس: 27]، وذلك يكون بحسب الغرض من التشبيه، إذ قد يكون الغرض الاهتمام بالمشبه، وقد يكون الغرض الاهتمام بذكر الحالة المشبه بها، دون الاهتمام بالمشبه لأنه لا يتعلق بذكره غرض، ومن ذلك على سبيل المثال أن تقول (كأن محمدًا شد في قرن) و (كأنما شد محمد في قرن) فأنت ترى أن ثمة فرقا بين التعبيرين، فقد قدم (محمد) على الفعل في الجملة الأولى للعناية والاهتمام به، بخلاف الثانية فإن الاهتمام إنما هو بالحالة الفعلية المشبه بها لا المشبه. قال تعالى: {أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} [المائدة: 32]، ولم يقل (فكأنه قتل الناس) لأن الغرض إنما هو بيان شناعة الفعل، أيا كان الفاعل فجيء به على ما ترى. أما إذا وليتها جملة إسمية نحو قولك (كأنما خالد أسد) فالذي يظهر أن القصد منها إنما هو قصر المشبه به معين، وهو مقتضي قول النحاة وذلك إن النحاة يقولون إن أصل (كأن خالدا أسد) (أن خالدًا كأسد) فقدمت الكاف لقصد العناية بالتشبيه،

ليتما

وعلى هذا نقول: أن أصل (كأنما خالد أسد) (إنما خالد كأسد) و (إنما) تفيد الحصر فقدمت الكاف لفرط العناية بالتشبيه فصارت (كأنما خالد أسد) وبقي معنى الحصر في الجملة أي اقتصر على شبهه بالأسد فهو رد على من يقول هو كالنمر مثلا أي هو كالأسد لا كالنمر. فإن لم تكن (ما) كافة كانت زائدة، لغرض القوة في التشبيه، وتأكيده وذلك نحو قولك (كأنك محمدًا أسد) كما مر في (إنما). ليتما: أكثر النحاة على أن (ما) لا تزيل اختصاص (ليت) من الجمل الإسمية، وأنه يجوز إعمال ليت مع (ما) وإهمالها تقول: ليتما محمدا حاضر وليتما محمدٌ حاضر (¬1). وذهب آخرون إلى أنها إذا كفت " قد تدخل على الجمل الفعلية " (¬2). نحو: ليتما يحضر أخوك. والذي يبدو لي أن (ليت) كأخواتها إذا دخلت عليها (ما) الكافة استعملت لأحد غرضين: التهيئة للدخول على الجمل الفعلية قليلا، أو تكون لغرض قصر التمنى فأنت إذا قلت: (ليت الشباب يعود) تمنيت عود الشباب، فإن قلت: (ليتما الشباب يعود) قصرت تمنيك على هذا الأمر. فإن لم تكن (ما) كافة كانت زائدة لغرض توكيد التمني وتقويته، بدون قصر، وذلك نحو قولك (ليتما الشباب يعود). ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 143، سيبويه 1/ 282، ابن الناظم 70، الأشموني 1/ 283 - 284 (¬2) الهمع 1/ 143، الرضي على الكافية 2/ 385

لعلما ولكنما

لعلما ولكنما: وحكم لعل ولكن لا يختلف عن حكم أخواتهما السابقات، فإن كففتهما بـ (ما) استعملتا لأحد غرضين: التهيئة للدخول على الجمل الفعلية وتوسيع دائرة الترجي والاستدراك نحو قولك (لعلما يحضر أخوك) وقولك (أنا لا أسعى إلى هذا ولكنما أسعى إلى المجد)، فالعناية منصبة ههنا على ترجي الفعل واستدركه لا على الشخص المترجى أو المستدرك، بخلاف ما لو قلت مثلا (ولكني أسعى) فإن العناية ستكون منصبة على المتكلم، لا على الأمر المستدرك. والغرض الآخر هو الدلالة على حصر الترجي والاستدراك، تقول: (لعلما سعيد فائز) فأنت ههنا تقصر ترجيك على هذا بخلاف ما لو قلت: لعل سعيدا فائز، إذ ليس ههنا حصر للترجي، وكذلك بالنسبة للاستدراك. فإن لم تكن (ما) كافة كانت مؤكدة للترجي والاستدراك. والخلاصة مما مر: إن (ما) تدخل على الأحرف المشبهة بالفعل، ولها حالتان: 1 - الكف عن العمل ولها غرضان: الأول: التهيئة وتوسيع دائرة الاستعمال بعد أن كان استعمالها مقيدًا بنوع من الجمل فيطلق الترجي والتمني، والتشبيه، والاستدراك، بعد أن كان مقيدًا وذلك بدخولها على الجمل الفعلية. والغرض الثاني أنها تفيد الحصر، ولا يقتصر الحصر على (إنما وأنما) بل قد يكون أيضا في التمني والترجي والتشبيه والاستدراك كما مر. 2 - عدم الكف: وعند ذلك يبقى كل حرف على معناه واستعماله ويكون الغرض توكيد معنى ذلك الحرف وتقويته. وبقاء الجملة على ما هو عليه من دون تغيير يدل على أن المعنى لم يتغير وإنما أريد تقوية هذا المعنى وتوكيده.

العطف على اسم أن بالرفع

العطف على اسم أن بالرفع: ورد في اللغة رفع المعطوف على اسم أن وقد جاء ذلك في القرآن الكريم وغيره قال تعالى: {إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [المائدة: 69]، وقال: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة: 3]، برفع كلمة (رسول)، وقال جرير: إن الخلافة والنبوة فيهم ... والمكرمات وسادة أطهار برفع المكرمات وسادة. وقال بشر بن أبي حازم: وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق وقال الآخر: فمن يك أمس بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب إلى غير ذلك من النصوص. وألحقت بأن أن ولكن فيما تقدم من جواز العطف بالرفع، من دون ليت ولعل وكأن وذلك كقول الشاعر: وما قصرت بي في التسامي خؤولة ... ولكن عمي الطيب الأصل والخال (¬1) واختلف النحاة في تخريج ذلك فذهب بعضهم إلى أنه معطوف على اسم أن باعتبار محله قبل دخول أن (¬2). ¬

_ (¬1) الأشموني 1/ 287، ابن يعيش 8/ 68، الرضي على الكافية 2/ 392 (¬2) المقتضب 4/ 111، الكامل 1/ 276، ابن الناظم 70، ابن عقيل 1/ 136 - 137، التصريح 1/ 226 - 227، الصبان 1/ 284

قال ابن يعيش: "ويجوز الرفع بالعطف على موضع أن لأنها في موضع ابتداء وتحقيق وذلك أنها لما دخلت على المبتدأ والخبر لتحقيق مؤداه وتأكيده من غير أن تغير معنى الابتداء صار المبتدأ كالملفوظ به وصار (إن زيدًا قائم) و (زيد قائم) في المعنى واحدًا فجاز لذلك الأمران: النصب والرفع. فالنصب على اللفظ والرفع على المعنى" (¬1). وذهب بعضهم إلى أنه مرفوع على الابتداء وخبره محذوف والجملة ابتدائية عطفت على محل ما قبلها من الابتداء أو هو معطوف على الضمير في الخبر (¬2). وقيل: الواو اعتراضية - جاء في (شرح الرضي على الكافية) في قوله تعالى (أن الله برئ من المشركين ورسوله): "فتقول أن قوله تعالى (ورسوله) عطف على الضمير في (بريء) .. أو نقول: رسوله مبتدأ خبره محذوف، أي ورسوله كذلك والواو اعتراضية لا عاطفة. ونقول في قوله: وإلا فاعلموا إنا وأنتم ... وبغاة ما بقينا في شقاق إن (ما بقينا في شقاق) خبر (إنا) وقوله (وأنتم بغاة) جملة إعتراضية لكن لا يتم لنا مثل هذا في قوله: ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم ... ولا أنني بالمشي في القيد أخرق. بعد قوله: فلا تحسبن أني تخشعت بعدكم ... لشيء ولا أني من الموت أفرق لأن قوله (ولا إنني بالمشي في القيد أخرق) عطف على (أني تخشعت) فلو جعلنا قوله (ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم) جملة اعتراضية لكان (لا) داخلة على معرفة بلا تكرير ولا يجوز ذلك إلا عند المبرد ولو روى (ولا أنني بالمشي في القيد) بالكسرة لارتفع ¬

_ (¬1) ابن يعيش 1/ 226 - 227، وانظر سيبويه 1/ 285 (¬2) سيبويه 1/ 285، المقتضب 4/ 112، الكامل 1/ 276، ابن عقيل 1/ 136 - 137، الأشموني 1/ 284 - 285، التصريح 1/ 226 - 227

الإشكال وكان قوله (ولا أنا ممن يزدهيه) مستأنفا و (لا) مكررة" (¬1). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله}: "والصابئون: رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها، كأنه قيل: أن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك .. فإن قلت: فقوله (والصابئون) معطوف لابد له من معطوف عليه، فما هو؟ قلت: هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله (إن الذين آمنوا إلخ) ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها. فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة فما فائدة هذا التقديم؟ قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فما الظن بغيرهم؟ وذلك إن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبأوا عن الأديان كلها أي خرجوا .. ومجرى هذه الجملة مجرى الأعتراض في الكلام" (¬2). وجاء في (التفسير الكبير) في هذه الاية: " والصابئون كذلك فحذف خبره والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو ان الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالا فكأنه قيل: كل هؤلاء الفرق أن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأزل ذنبهم حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضا كذلك" (¬3). وجاء في (الانتصاف من الكشاف): " ولكن ثم سؤال متوجه وهو أن يقال: لو عطف الصابئين ونصبه، كما قرأ ابن كثير لأفاد ايضا دخولهم في جملة المتوب عليهم ولفهم من تقديم ذكرهم على النصارى ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين، وهم أوغل الناس في الكفر يتاب عليهم، فما الظن بالنصارى ولكان الكلام جملة واحدة بليغًا ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 391 - 392، وانظر حاشية التصريح 1/ 227 (¬2) الكشاف 1/ 474، انظر ابن الناظم 70 (¬3) التفسير الكبير 11/ 51

مختصرًا والعطف أفرادي، فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين؟ وهل يمتاز بفائدة على النصب والعطف الإفرادي.؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض، عطف المفردات وهذا الصنف من جملتها والخبر عنها واحدًا، وأما الرفع فينقطع عن العطف الإفرادي وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به، ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل تقديره مثلا (والصابئون كذلك) فيجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف، وملحق بها وهو بهذه المثابة لأنه لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر" (¬1). والذي يبدو لي في هذا الأمر أن ثمة فرقًا في المعنى بين الرفع والنصب، فإن العطف بالنصب على تقدير إرادة (إن) والعطف بالرفع يكون على غير إرادة (أن)، ومعنى هذا أن العطف بالرفع غير مؤكد، فعلى هذا يكون المعطوف في قولك (إن محمدا مسافر وخالدا) مؤكدا، بخلاف ما لو قلت (إن محمدا مسافر وخالد) فإن المعطوف غير مؤكد. وهذا شبيه بما مر في قولنا (ليس محمد بجبان ولا بخيل، ولا بخيلا) في بحث (ليس والمشبهات بها). وهذا المعنى حام حوله النحاة ولم يذكروه صراحة فهم حين يقولون أنه معطوف على اسم (إن) قبل دخولها، يعنون إنه معطوف على غير إرادة التوكيد، أي أن المعطوف عليه مؤكد بخلاف المعطوف، وقد رأيت قبل قليل في كلام المفسرين في قوله تعالى: {إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين} ما يشير إلى أن كلمة (الصابئون) خولف حكمها عن أخواتها، لأن هذه الفرقة أبعد ضلالا من الآخرين، فجاءت أقل توكيدا من أخواتها. ¬

_ (¬1) الانتصاف من الكشاف 1/ 474

وما ذكره الرضي من كونها اعتراضية، يشير إلى ذلك أيضا، فإن الجملة الإعتراضية ليست من صميم الجملة المعقود بها الكلام، وإنما هي تبع .. فالنحاة يدركون أن هذا المعطوف يختلف عن العطوف عليه في الحكم. والذي يدل على ذلك اشراكهم (لكن) مع (إن) في هذا الحكم دون سائر أخواتها لأن (لكن) لا تغير معنى الابتداء بخلاف (ليت ولعل وكأن) حيث لا يجوز مع هذه الثلاث إلا النصب لزوال معنى الابتداء بها (¬1). وإيضاح ذلك أن معنى قولك (محمد مسافر) و (أن محمدًا مسافر) واحد غير أن في الجملة الثانية توكيدًا فإن (إن) لا تغير معنى الجملة بخلاف ليت ولعل، وكأن. فهناك فرق بين قولنا (ليت محمدًا معنا وخالد) بالرفع لأن الكلام مقصود به التمنى، ورفع المعطوف يدل أنه على غير نية (ليت) أي ليس داخلا في التمني فلا يكون لذكره معنى ويكون ضربًا من العبث، وكذلك لو قلت (لعل أخاك معنا وخالد) إذ معنى ذلك أن خالدا غير داخل في الترجي، لأنه ليس على تقدير (لعل) فلا يكون لذكره معنى وكذلك بالنسبة لكأن، بخلاف (أن) فإنها تؤكد معنى الابتداء، وزوالها لا يزيل معنى الابتداء وهذا ظاهر. جاء في (المغني): " ومن ثم أجمعوا على جواز (زيد قائم وعمرو وإن زيدًا قائم وعمرو) وعلى منع (ليت زيدا قائم وعمرو) وكذا في لعل وكأن لأن الخبر المذكور متمني أو مترجي أو مشبه به والخبر المحذوف ليس كذلك، لأنه خبر المبتدأ" (¬2). وجاء في (التصريح): " ويعطف بالرفع على محل أسماء هذه الأحرف بشرطين: استكمال الخبر، وكون العامل أن أو إن أو لكن مما لا يغير معنى الجملة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الأشموني 1/ 287، التصريح 1/ 226 - 227، سيبويه 1/ 286، التسهيل 66 (¬2) المغنى 2/ 606 (¬3) التصريح 1/ 226 - 227

وجاء في (كتاب سيبويه): واعلم أن لعل وكأن وليت ثلاثتهن يجوز فيهن جميع ما جاز في أن إلا إنه لا يرفع بعدهن شيء على الابتداء، ومن ثم اختار الناس (ليت زيدًا منطلق وعمرا) وقبح عندهم أن يحملوا (عمرا) على المضمر، حتى يقولوا (هم) ولم تكن ليت واجبة ولا لعل ولا كأن فقبح عندهم أن يدخلوا الواجب في موضع التمني، فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس على معناه بمنزلة (أن) و (لكن) بمنزلة إن " (¬1). وأنت لو استقريت ما ورد في القرآن الكريم لوجدت المعنى على ما ذكرت قال تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة: 3]، برفع (رسوله) معطوفة على لفظ الجلالة المنصوب، وسر ذلك أن براءة الرسول تابعة لبراءة الرب سبحانه فهي أقل توكيدًا منها وليستا بمنزلة واحدة، لأن الأصل براءة الله سبحانه، أما براءة الرسول فهي براءة تبعية ولذلك وردت كذلك، والله أعلم. ونحوه ما جاء في قوله تعالى: {إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين} ذلك أن الصابئين لما كانوا أبعد المذكورين ضلالا كما ذكر المفسرون خولف في توكيدهم فكانوا اقل توكيدًا. وقد تقول: لقد ورد مثل هذا التعبير في سورة البقرة فلم يجيء بالرفع فما الفرق؟ وها أنا أذكر ذلك موضحا الفرق: 1 - جاء في سورة المائدة 69: {إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. 2 - وجاء في سورة البقرة 262: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 286

فأنت ترى إنه في آية المائدة رفع الصابئين وقدمهم على النصارى، وفي آية البقرة نصبهم وأخرهم عن الملل الأخرى. وسر ذلك أنه في آية المائدة رفعهم لأنهم أبعد المذكورين ضلالا، فكان توكيدهم أقل من غيرهم، وأما تقديمهم على النصاري فلأن الكلام فيما بعد هذه الآية على ذم عقيدة النصارى وتسفيه عقيدة التثليث، فكأن النصارى لم يؤمنوا بالله حقا وإنما هم من صنف المشركين ويبدأ الكلام عليهم بقوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم. ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أني يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) [المائدة: 72 - 77]. فقدم الصابئين عليهم وهو المناسب للمقام، وليس نحو هذا الأمر موجودا في آية البقرة فجرت الآية على نسق واحد، فأخر الصابئين وجعلهم في مكانهم بعد الملل. وقد جرير: إن الخلافة والنبوة فيهم ... والمكرمات وسادة أطهار ففصل بين الخلافة والنبوة من جهة، والمكرمات والسادة الأطهار من جهة أخرى. فجعل الفريق الثاني أقل رتبة من النبوة والخلافة، بحذف توكيده ولم يجعل الكلام بمنزلة واحدة، واحسب أن جريرا وفق في هذا، مختارا كان أو مضطرا. وهذا الذي ذكرناه هو ما يقتضيه القياس ويؤيده الاستعمال والله أعلم

تخفيفها

تخفيفها: تخفف إن وان ولكن وكأن فتكون لها أحكام خاصة بها وإليك تفصيل ذلك: إنّ: إذا خففت إن المكسورة الهمزة بطل اختصاصها بالأسماء، وجاز فيها إذا دخلت على الجملة الأسمية وجهان: الأهمال، والأعمال، تقول (إن محمدا منطلق) و (إن محمد لمنطلق) قال تعالى: {إن هذان لساحران} [طه: 63]، فإن دخلت على الجمل الفعلية أهملت وجوبا، وتلزمها اللام عند الإهمال فرقا بينها وبين إن النافية قال تعالى: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقون} [الأعراف: 102]، وقال: {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} [يوسف: 3]، إلا إذا كان الخبر منفيا فيجيب حينذاك ترك اللام نحو قولك (إن خالد لن ينام) ومنه قوله: إن الحق لا يخفى على ذي بصيرة وقد يستغنى عنها إذا كانت هناك قرينة معنوية تشير إلى معناها كقول الطرماح: أنا ابن أباة الضيم من آل مالك ... وإن مالك كانت كرام المعادن فإن معنى البيت واضح في مدح (مالك) و (إن) هنا بمعنى إن وليست نافية (¬1). والكثير في (إن) المخففة إذا دخلت على جملة فعلية أن يكون فعلها من الأفعال الناسخة كقوله تعالى {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم} [القلم: 51]، وقوله: {وإن نظنك لمن الكاذبين} [الشعراء: 186]، وربما دخلت على غيره كقوله: شلت يمينك أن قتلت لمسلما ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 283، المقتضب 1/ 50، 2/ 363، التسهيل 65، ابن الناظم 72، ابن يعيش 8/ 71 - 72، الأشموني 1/ 289، الهمع 1/ 141، التصريح 1/ 230 - 231

وأجاز الكوفيون والأخفش وقوع أي فعل بعدها، قال ابن مالك: "ويقاس على نحو (إن قتلت لمسلما) وفاقا للكوفيين والأخفش" (¬1). ومذهب الكوفيين أن (إن) لا تخفف وإن الخفيفة هذه " إنما هي حرف ثاني الوضع وهي النافية فلا عمل لها البتة، ولا توكيد فيها واللام بعدها للإيجاب بمعنى إلا " (¬2). فقولك (إن محمد قائم) معناه: ما محمد إلا قائم. ويردهم أنها أعملت مع التخفيف قال سيبويه: " وحدثنا من نثق به انه سمع من العرب من يقول إن عمرا لمنطلق، وأهل المدينة يقرؤون {وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم} [هود: 111]، يخففون وينصبون كما كما قالوا: كأن ثدييه حقان" (¬3). وذهب الفراء إلى أن (إن) المخففة بمنلزة (قد) إلا أن (قد) تختص بالأفعال و (إن) تدخل عليها وعلى الأسماء (¬4). وجاء في (فقه اللغة) للثعالبي أن (إن الخفيفة بمعنى (لقد) كما قال جل ذكره {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} [يونس: 29]، أي ولقد كنا". (¬5) وجاء في (لسان العرب) عن أبي زيد: "قال: وتجيء (إن) في موضع (لقد) ضرب قوله تعالى: {إن كان وعد ربنا لمفعولا} [الإسراء: 108]، المعنى: لقد كان من غير شك من القوم ومثله {وإن كادوا ليفتنوك} [الإسراء: 73]، و {وإن كادوا ليستفزونك} [الإسراء: 76] " (¬6). ¬

_ (¬1) التسهيل 65، وانظر ابن يعيش 8/ 71 - 72 (¬2) التسهيل 65 المغنى 1/ 37، ابن يعيش 8/ 71 - 72، الرضي على الكافية 2/ 397، الهمع 1/ 142، التصريح 1/ 231 - 232، شرح الدماميني على المغني 1/ 52 (¬3) سيبويه 1/ 283، وانظر المغنى 1/ 24، 37، الرضي على الكافية 2/ 397 (¬4) الهمع 1/ 142 (¬5) فقه اللغة 532، وانظر تأويل مشكل القرآن (419) (¬6) لسان العرب (إنْ) 16/ 176

وأظن أن المقصود بقولهم أنها بمعنى (قد) أنها تفيد توكيد الجمل الفعلية إذا دخلت عليها لا أنها بمعنى (قد) تماما وذلك لأنها تختلف عنها. فإن (قد) فيها معنى تقريب الفعل والتوقع، وإما أن هذه فلمخص التوكيد ليس فيها توقع أو تقريب. ثم إن الأكثر في (قد) إذا دخلت على المضارع أن تفيد التقليل بخلاف هذه التي لاتفيد غير التوكيد وذلك كقوله تعالى: {وإن يكاد الذي كفروا ليزلقونك بأبصارهم} [القلم: 51]. قال الليث: " إذا وقعت إن على الأسماء والصفات (¬1) فهي مشدودة، وإذا وقعت على فعل أو حرف لا يتمكن في صفة أو تصريف فخففها، تقول: بلغني أن قد كان كذا، وكذا وتخفف من أجل (كان) لأنها فعل .. وهي مع الصفات مشددة إن لك وأن فيها وأن بك وأشباهها" (¬2). وجاء في (التفسير الكبير) في (إن) هذه أنها " تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة (إن) المشددة كقولك: إن زيدًا لقائم، قال الله تعالى: {إن كل نفس لما عليها حافظ} [الطارق: 4]، وقال: {إن كان وعد ربك لمفعولا} ومثله في القرآن كثير. والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل، وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها والفرق بينها وبين التي للجحد" (¬3). والذي يبدو لي أن (إنْ) المخففة هذه تختلف عن الثقيلة في توكيدها واستعمالها. أما من حيث الاستعمال فهي تدخل على الجمل الفعلية والإسمية وذلك أنه قد يراد توكيد الحدث الفعلي فيؤتي بأن المخففة بخلاف (إنّ) التي لا تؤكد إلا الجمل الإسمية وذلك كقولك (أن كنا لفاعلين) و (أنا كنا فاعلين) فأنت تلحظ أن الأولى أكدت الحدث ¬

_ (¬1) المقصود بالصفات هنا حروف الجر وهو مصطلح كوفي. (¬2) لسان العرب (إذن) 16/ 170 - 171 (¬3) التفسير الكبير 4/ 118

الفعلي بخلاف الثانية فإن الاهتمام منصب على فاعل الحدث، وصاحبه لأعلى الحدث الفعلي. إن (إنْ) المخففة تمكننا من إيقاع الجملة الفعلية في حيز التوكيد، كما تفعل (إنّ) مع الجمل الإسمية ولذلك هي تختلف عنها في استعمالها، وذلك بحسب الحاجة والقصد، فإن كنت ترمي إلى توكيد الحدث الفعلي، جئت بإن، وإن أردت توكيد الجملة الإسمية جئت بإن. أما من حيث التوكيد فالذي يبدو لي أنها أقل توكيدًا من الثقيلة، والذي يدل على ذلك أمور منها: 1 - أن تخفيف نونها يشير إلى تخفيف توكيدها مشبهة في ذلك نون التوكيد الخفيفة. وقد ذكر النحاة أن نون التوكيد الثقيلة آكد من الخفيفة، وهذه نظيرة تلك. 2 - أنك لو لاحظت - مثلا - التعبيرين، أن كنت لفاعلا وإني كنت فاعلا، و (أن كنتم لمسرفون) و (أنكم كنتم مسرفين) لوجدت الفرق واضحا بينهما من حيث التوكيد فأنت تجد ضميرا واحدا مع الخفيفة هو (التاء) في الجملة الأولى (وتم) في الجملة الثانية في حين أنك تجد مع الثقيلة ضميرين هما: الياء والتاء في الجملة الأولى (كم) و (تم) في الجملة الثانية فالإسناد حصل مرتين مع الثقيلة بخلاف الخفيفة وذلك يشير إلى قوة التوكيد في الثقيلة كما هو واضح. 3 - والذي يدل على أن الثقيلة آكد من الخفيفة استعمالها القرآني. قال تعالى في سورة يوسف {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} [يوسف: 91 - 92]، وقال: {قالوا يا آبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} [يوسف: 97 - 98].

فأنت ترى إن أخوة يوسف قالوا لأخيهم (وإن كنا لخاطئين) بإن المخففة، وقالوا لأبيهم (إنا كنا خاطئين) بالثقيلة. وقد يتبادر إلى الذهن، إن هذا يدل على عكس ما ذهبنا إليه فإنهم مع من أساؤا إليه إساءة مباشرة جاؤا بالمخففة، ومع أبيهم جاؤا بالثقيلة، فكيف يدل هذا على صحة ما ذهبنا إليه؟ وللجواب عن ذلك نقول: إن أخوة يوسف لما رأوا أباهم، وما حل به من جراء فعلتهم من الوهن واللوعة وحرقة الفؤاد وذهاب عينيه من الحزن، دعاهم ذلك إلى توكيد الاعتذار والاعتراف بالخطيئة بخلاف حالة أخيهم، فإن الله أكرمه بعدهم وبوأه مكانة عالية ومكن له في الأرض، وكأن فعلتهم تلك عادة عليه بالخير والرفعة بعكس ما جرت على أبيهم فهناك فرق بين الحالتين فكان الشعور بالخطيئة مع والدهم أكبر وأعظم فقالوا ما قالوا. والذي يدل على ذلك السياق القرآني فإن يوسف دعا لهم بالمغفرة، من دون أن يسألوها منه قال {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}. وأما أبوهم فلم يستغفر لهم من طلبهم الاستغفار منه، وإنما وعدهم بالاستغفار: {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} فوعدهم بالاستغفار في المستقبل ثم انظر كيف جاء بـ (سوف) لا بالسين، و (سوف) أبعد في الاستقبال من السين مما يدل على عمق الأثر في نفسه. ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الأعراف: {وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون} [65 - 69].

وقوله في سورة الشعراء: {قالوا إنما أنت من المسخرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون، فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذا يوم عظيم} [185 - 189]. فأنت ترى أنه قال في سياق آيات الأعراف: {وإنا لنظنك من الكاذبين}. وفي سياق آيات الشعراء: {وإن نظنك لمن الكاذبين}. ويظهر سياق الآيات أن التكذيب في آيات الأعراف أشد منه في آيات الشعراء، والذي يوضح ذلك أه في آيات الأعراف قال: {قال الملأ الذين كفروا من قومه} بخلاف آيات الشعراء فإنه قال: {قالوا إنما أنت من المسحرين}. وأنت ترى الفرق بين القائلين، ففي الآيات الأولى قول الملأ الذين كفروا، والقائلون في الآيات الثانية مختلطون فإن فيهم الشديد التكذيب والقليل والأمعة والخائف فهو تكذيب مختلط لا يصل إلى تكذيب الذي كفروا خصوصا. والذي يدل على ذلك قوله تعالى بعد آيات الشعراء: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} أي أن فيهم قلة مؤمنة فهو نسب الكلام في آيات الشعراء إلى أصحاب الأيكة عموما بخلاف آيات الأعراف فإنه نسب الكلام إلى الذين كفروا خاصة. ثم انظر إلى السياق مرة أخرى وكيف تعقب الرسول كلام قومه بعد كل من الآيتين يتبين لك ما ذكرته واضحًا، فإن هودا عليه السلام رد على قومه بآيات عدة (قال يا قوم ليس بي سفاهة .. إلخ) بخلاف آية الشعراء فإنه لم يزد على قوله (قال ربي أعلم بما تعملون). ومن هنا يتبين الفرق واضحًا بين التعبيرين، فدل ذلك على أن (إنّ) الثقيلة آكد من الخفيفة.

أن: تخفف (أنّ) كما تخفف (إنّ)، وعند الجمهور أنها إذا خففت لا تلغى، ولا يظهر اسمها إلا للضرورة كقول الشاعر: فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ... فراقك لم أبخل وأنت صديق ولا يجيء خبرها إلا جملة واسمها ضمير الشأن محذوف، وذلك نحو قولك: علمت أن سوف يحضر سعيد والتقدير (أنه). (¬1) جاء في (الكتاب): " ومن ذلك والخامسة أن غضبُ الله عليها فكأنه قال: أنه غضبُ الله عليها لا تخففها في الكلام أبدًا وبعدها الأسماء، إلا وأنت تريد الثقيلة مضمرًا فيها الاسم .. والدليل على أنهم إنما يخففون على إضمار الهاء، أنك تستقبح قد عرفت أن يقول ذاك حتى تقول (أن لا) أو تدخل سوف أو السين أو قد، ولو كانت بمنزلة حروف الابتداء لذكرت الفعل مرفوعا بعدها، كما تذكره بعد هذه الحروف كما تقول: إنما تقول ولكن تقول" (¬2). ومذهب الكوفين أنها لا تعمل شيئا. (¬3) والصواب أنها قد تعمل وقد ورد شيء من ذلك كما ذكرنا في قوله (فلو أنك). ويذكر النحاة وجه الاختلاف بينها وبين أن الخفيفة الناصبة للأفعال بأن (أنْ) المخففة من الثقيلة تفيد التحقيق، واليقين، بخلاف الناصبة فإنها لا تدل على اليقين. ¬

_ (¬1) التسهيل 65 - 66، ابن الناظم 72، المغنى 1/ 31، ابن يعيش 8/ 72 - 73، ابن عقيل 1/ 139، التصريح 1/ 222 (¬2) سيبويه 1/ 480 - 481 (¬3) المغنى 1/ 31، الهمع 1/ 142

جاء في (الكتاب): " وذلك قولك: قد علمت أن لا يقولُ ذاك وقد تيقنت أن لا تفعلُ ذاك كأنه قال: أنه لا يقول وأنك لا تفعل .. وليست (أنْ) التي تنصب الأفعال تقع في هذا الموضع لأن ذا موضع يقين وإيجاب. فأما ظننت، وحسبت، وخلت، ورأيت فإنّ (أنْ) تكون فيها على وجهين: على أنها تكون (أنْ) التي تنصب الفعل، وتكون الثقيلة فإذا رفعت قلت: قد حسبت أن لا يقولُ ذاك ورأي أن سيفعل ذاك ولا تدخل هذه السين في الفعل ههنا حتى تكون أنه .. وإنما حسنت (أنه) ههنا لأنه قد أثبت هذا في ظنك كما أثبته في علمك وأنك أدخلته في ظنك على أنه ثابت الآن كما كان في العلم ولولا ذلك لم يحس (أنك) ههنا ولا (أنه) فجرى الظن مجرى اليقين لأنه نفيه. وأن شئت نصبت، فجعلتهن بمنزلة خشيت، وخفت، فتقول: ظننت أن لا تفعل ذاك، ونظير ذاك (تظن أن يفعل بها فاقرة) [القيامة: 25]، و {إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: 230]، ولو قال رجل: أخشى أن لا تفعل ذاك يريد، أن يخبر إنه يخشى أمرا قد استقر عنده أنه كائن جاز وليس وجه الكلام .. وتقول: ما علمت إلا أن تقوم وما أعلم إلا أن تأتيه إذا لم ترد أن تخبر أنك قد علمت شيئا كائنا البتة، ولكنك تكلمت به على وجه الإشارة، كما تقول: أرى من الرأي أن تقوم. فأنت لا تخبر أن قيامًا قد ثبت كائنا أو يكون فيما يستقبل البتة فكأنه قال: لو قمتم، فلو أراد غير هذا المعنى لقال: ما علمت إلا أن سيقومون" (¬1). فهنا جاءت الناصبة مع العلم كما ذكر سيبويه، لأنه ليس المقصود بها اليقين، والتحقيق وإنما هو بمعنى قولك: أن تقوم خير لك في رأيي. وجاء في (المقتضب): " أما ما كان من العلم فإن (أن) لا تكون بعده إلا ثقيلة لأنه شيء قد ثبت واستقر وذلك قولك، قد علمت أن زيدًا منطلق. فإن خففت فعلى إرادة. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 481 - 482

التثقيل والإضمار تقول: قد علمت أن سيقوم زيد، تريد أنه سيقوم زيد، قال الله عز وجل: {علم أن سيكون منكم مرضى} [المزمل 20]، لأنه شيء قد استقر. ألا ترى أنه لا يصلح (علمت أن يقوم زيد) لأن (أن) الخفيفة إنما تكون لما لم يثبت نحو: خفت أن تقوم يا فتى وأرجو أن تذهب إلى زيد، لأنه شيء لم يستقر. فكل ما كان من الرجاء والخوف فهذا مجازه. فأما الأفعال التي تشترك فيها الخفيفة والثقيلة فما كان من الظن. فأما وقوع الثقيلة فعلى أنه قد استقر في ظنك كما استقر الأول في علمك وذلك قولك: ظننت أنك تقوم وحسبت أنك منطلق. وأما النصب فعلى شيء لم يستقر فقد دخل في باب رجوت وخفت بهذا المعنى (¬1) " وجاء في المغنى: أن تكون مخففة من الثقيلة فتقع بعد فعل اليقين، أو ما نزل منزلته نحو {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا} [طه: 89] (¬2). وجاء في حاشية الشمني على المغني بيان المقصود بقول المغنى (أو ما نزل منزلته) قال: " وأما المنزل منزلته فهو الظن بتأويل أن يكون غالبا مقاربًا للعلم (¬3) ". وجاء في (كتاب الجمل) للزجاجي: " تقول: أريد أن تقوم وأحب أن تخرج .. فتنصب الفعل بأن وكذلك إن كان قبلها الأفعال التي تطلب الاستقبال نصبت بها الفعل. فإن وقعت قبلها الأفعال التي تدل على إثبات الحال والتحقيق ارتفع الفعل ههنا وكانت مخففة من الثقيلة كقولك: علمت أن تقومُ ترفع الفعل لا غير لأن العلم لما قد تيقن وأن ههنا مخففة من الثقيلة المشددة .. ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 7، وانظر 2/ 30، التسهيل 228 (¬2) المغنى 1/ 30 (¬3) حاشية الشمني 1/ 65

فإن وقع قبلها الظن جاز فيما بعد (أن) الرفع، كقولك: (ظننت أن لا تقوم) بالنصب إذا لم ترد تحقيق الظن و (ظننت أن لا تقوم) بالرفع إذا أردت به معنى (علمت) لأن الظن في كلام العرب قد يكون بمعنى العلم، قال الله جل وعز: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46] (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): أن (أنْ) التي ليست بعد العلم ولا ما يؤدي معناه، ولا ما يؤدي معنى القول، ولا بعد الظن، فهي مصدرية لا غير سواء كانت بعد فعل الترقب كحسبت وطمعت ورجوت وأردت أو بعد غيره من الأفعال كقوله تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه} [الشعراء: 197]، وأعجبني أن قمت .. أو لا بعد فعل كقوله تعالى {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء} [الحشر: 3]. والتي بعد العلم مخففة لا غير، وكذا التي بعد ما يؤدي معنى العلم، إن لم يكن فيه معنى القول، كتحققت ونظرت، وانكشف وظهر، وإن كان فيه معنى القول، كأمر، ونزل وأوحي، ونادي، فإن فيها معنى اعلم وقال معًا" (¬2). وجاء في (المغني) في أن الناصبة: " أن تكون حرفا مصدريا ناصبا للمضارع، وتقع في موضعين: أحدهما في الابتداء فتكون في موضع رفع نحو {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 184]. والثاني بعد لفظ دال على معنى غير اليقين" (¬3). فاتضح بهذا أن (أنْ) المخففة من الثقيلة إنما هي تفيد التحقيق واليقين بخلاف الناصبة للأفعال. ¬

_ (¬1) الجمل 206 - 207، وانظر ابن يعيش 8/ 77 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 259 (¬3) المغنى 1/ 27 - 28، وانظر الهمع 2/ 2

وهناك فرق آخر بين المخففة وأن الناصبة للأفعال، وهو أن الناصبة تكون للاستقبال كقولك (أرغب في أن تزورني) وأما المخففة فإنها غير مقيدة بزمن فقد تكون للمضي كقوله تعالى: {ونعلم أن قد صدقتنا} [المائدة: 113]، والحال، كقوله تعالى: {أفلا يرون الا يرجع إليهم قولا} [طه: 89]، و (أشهد أن لا إله إلا الله)، والاستقبال كقوله تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى} [المزمل: 20]. والذي يبدو أنّ (أنْ) تخفف للأغراض الآتية: 1 - إيقاع الجملة موقع المصدر سواء كانت إسمية، أم فعلية. وهذا فارق رئيس بين الثقيلة والمخففة، فإن الثقيلة مختصة بإيقاع الجملة الإسمية موقع المصدر، أما المخففة فإنها توقع الجمل الإسمية والفعلية موقع المصدر، فالإسمية كقوله تعالى {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} [التوبة: 118] وقوله: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو} [هود: 14]، والفعلية كقوله: {ونعلم أن قد صدقتنا} [المائدة: 113]، وقوله: {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} [الجن: 16]، وذلك بحسب الحاجة والقصد فإن أردت إقامة الجملة الإسمية مقام المصدر جئت بالثقيلة أو بالخفيفة، مع بعض اختلاف بينهما فقد تدخل الخفيفة على ما لا تدخل عليه الثقيلة من الجمل الإسمية، كقوله تعالى {فاعلموا إنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو} فقد أوقعت الجملة المنفية بلا النافية للجنس موقع المصدر ولا يصح للثقيلة أن تباشر مثل هذه الجمل، والنحاة يقدرون ضمير الشأن في نحو هذا. وأن أردت إقامة الجملة الفعلية مقام المصدر جئت بالمخففة كقوله تعالى: {علم ان سيكون منكم مرضى} [المزمل: 20]. وهي في ذلك غير عاملة، فيما أرى نظيرة (إنْ) ولا موجب لتقدير ضمير الشأن فكما أنّ (إنْ) إذا خففت وقعت بعدها الجمل الفعلية والإسمية فهذه نظيرتها، وقد اختلف حكمها بعد تخفيضها عن الثقيلة ولذلك هي تدخل بعد تخفيفها على جمل إنشائية

مصدرة بنهي أو دعاء، مما لا يصلح أن لا يكون خبرًا للثقيلة كقوله تعالى: {ألا تعلوا علي واتوني مسلمين} [النمل: 31]، وقوله: {والخامسة أن غضب الله عليها} [النور: 9]، في قراءة من قرأ بالفعل وقولهم (اما أن جزاك الله خيرا) مما يدل على أنها اختلفت عن الثقيلة في بعض أحكامها قال الليث: "إذا وقعت (أن) على الأسماء والصفات فهي مشددة، وإذا وقعت على فعل أو حرف لا يتمكن في صفة أو تصريف فخففها، تقول: بلغني أن قد كان كذا وكذا وتخفف من أجل (كان) لأنها فعل ولولا (قد) لم تحسن على حال من الفعل، حتى تعتمد على (ما) أو على الهاء كقولك: إنما كان زيد غائبا وبلغني أنه كان أخو بكر غنيا وكذلك بلغني أنه كان كذا وكذا تشددها إذا اعتمدت، ومن ذلك قولك: أن رب رجل فتخفف، فإذا اعتمدت قلت: أنه رب رجل شددت، وهي مع الصفات مشددة، أن لك وأن فيها وأن بك وأشباهها" (¬1). 2 - إنها تؤكد الجمل الفعلية والإسمية بخلاف الثقيلة، فإنها مختصة بتأكيد الجمل الإسمية والذي يدل على أنها للتأكيد ما سبق أن ذكرناه من اقتران أفعال العلم واليقين بها أو ما نزل منزلته كقوله: {علم أن سيكون منكم مرضى} [المزمل: 20]، مما يشاركها في التحقق. وهذا سيكون بحسب الحاجة والقصد فإن الاهتمام في الكلام قد يكون منصبا على صاحب الحدث فيؤتى بأن الثقيلة في الغالب، وقد يراد بالكلام توكيد الحدث الفعلي فيجاء بالمخففة، وذلك كقوله تعالى: {ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق} [إبراهيم: 19]، وقوله {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} [الجن: 16]، فإن الأولى ثقيلة أكدت صاحب الحدث فإن الكلام على الله تعالى. والثانية أكدت الحدث الفعلي وأوقعته موقع المفرد. وهي في ذلك نظيرة (إنّ) تؤكد الحدث الفعلي والجمل الإسمية، إذا خففت كما أسلفنا. ¬

_ (¬1) لسان العرب (إذن) 16/ 170 - 171

3 - إنّ (أنّ) الثقيلة آكد من الخفيفة وما ذكرناه من الحجج في أن المخففة ينطبق عليها. قال تعالى في سورة الأعراف: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين} [148] وقال في سورة طه: {فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى أفلا يرون أال يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} [طه: 88 - 89]. فأنت ترى أنه جاء مرة بأن الثقيلة ومرة جاء بأن المخففة ولو رجعت إلى سياق الآيتين لبان الفرق بينهما، فإن آيات الأعراف تذكر قصة بني إسرائيل وعصيانهم لربهم ومخالفتهم لموسى عليه السلام، بخلاف سورة طه فإنه ليس السياق في ذاك وإنما هو في نجاة بني إسرائيل من فرعون وفرق بين السياقين، فقد بدأت قصى بني إسرائيل في سورة الأعراف بعد قوله تعالى: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} [الأعراف: 102]. وقال في سورة طه: {يابني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى} [طه: 80]. فلذا جاءت (أنّ) ثقلة في سورة الأعراف مخففة في سورة طه، لأن الثقيلة آكد من الخفيفة، وذلك يتناسب مع مقام التبكيت في الأعراف بخلاف سورة طه، والله أعلم. كأن: تخفف (كأن) ويكون حكمها في العمل كحكم أن المفتوحة، ويكون خبرها جملة إسمية أو فعلية فصلت بلم أو قد، فمن مجيئه جملة إسمية قوله: ووجه مشرق اللون ... كأن ثدياه حقان ونحو قولك: كأن محمد قائم. ومن مجيئه جملة فعلية قوله تعالى: {كأن لم تغن بالأمس} [يونس: 24].

وقال الشاعر: أفد الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد ويقدر اسمها في كل ما مر ضمير الشأن أي كأنه. وقد يرد مفردًا كقوله: كأن وريديه رشاء خلب. وورد: كأن ثدييه حقان (¬1). وتخفف كأن لغرضين فيما أرى: 1 - أن تدخل على الجملة الفعلية إضافة إلى الإسمية، بعد أن كانت مقصورة على الجمل الإسمية، وذلك إنما يكون بحسب الغرض، فإن كانت العناية منصبة على المسند إليه (المشبه) جيء بها مشددة في الأكثر كقوله تعالى: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف: 35]، وقد تكون العناية منصبة على الحالة التشبيهية، لا على المشبه، فيؤتى بها مخففة، كقوله تعالى: {فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس} [يونس: 24]. وكقول الشاعر: كأن لم يكن بين الحجن إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر فهناك فرق بين أن تقول (كأن أنيسا لم يكن بين الحجون إلى الصفا) وقولك (كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس) فأنت في الثانية تقصد إلى الحالة التشبيهية الفعلية، بخلاف الأولى فأنك عمدت إلى لفظ المشبه وقدمته للاهتمام والعناية. وكذلك قوله تعالى: {فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس} ولم يقل (كأنها) لأنه ¬

_ (¬1) التسهيل 66، ابن الناظم 73، ابن يعيش 8/ 82، ابن عقيل 1/ 140 - 141، الأشموني 1/ 293 - 294، التصريح 1/ 234 - 235

ليس المقصود ذكر المشبه بل المقصود ذكر الحالة التشبيهية فطوى ذكر المشبه. إن المقصود بالآية الكريمة هو الموازنة بين حالتين حالة الماضي وحالة الحاضر وهذا لا يتعلق بلفظ المشبه كثيرًا. ولذا - فيما أرى - لا موجب لتقدير ضمير الشأن بل هي داخلة على الجملة الفعلية نظيرة (أنْ). 2 - أنّ الثقيلة آكد في التشبيه من المخففة، فإن (كأن) كما سبق أن ذكرنا للتشبيه المؤكد وتخفيفها يؤدي إلى تخفيف التوكيد، وما ذكرناه في (أن) يستأنس به ههنا وبخاصة إذا علمنا أن رأي الجمهور أن أصلها (أنّ) قدمت عليها الكاف للعناية. لكنّ: تخفف (لكنّ) فتهمل وجوبًا عند الجمهور، وذكر عن يونس والأخفش جواز إعمالها قياسا على (إنْ). وتدخل على الجمل الإسمية والفعلية. إذا خففت. تقول: جاء محمد لكن أخوه غائب، وجا محمد لكن غاب أخوه، قال تعالى: {ولكن كانوا هم الظالمين} [الزخرف: 76] (¬1). والذي يظهر أن المخففة تستعمل لغرضين كأخواتها السابقات: 1 - الدخول على الجمل الفعلية إضافة إلى الإسمية، فبعد أن كان الاستدراك منحصرًا بالجمل الإسمية اتسع بالتخفيف وشمل الجمل الفعلية أيضا وهذا - كما ذكرنا سابقا - يكون بحسب القصد من الكلام. ثم أن الخفيفة قد تدخل على المفردات، نحو: ما جاء محمد لكن خالد، وما رأيت محمدًا لكن خالدا، وهذه عند الجمهور خفيفة بأصل الوضع، وليست مخففة من الثقيلة (¬2) فالمخففة حرف ابتداء وهي التي تدخل على الجمل والخفيفة حرف عطف وهي التي تدخل على المفردات. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 292، الهمع 1/ 143، التصريح 1/ 235، حاشية الخضري 1/ 141، لسان العرب (لكن) 17/ 277 (¬2) المغني 1/ 292

والذي أراه أن (لكنْ) الخفيفة والمخففة إنما هي حرف واحد، معناه الاستدراك يدخل على المفردات، والجمل إسمية كانت أو فعلية بخلاف الثقيلة، التي هي مختصة باستدراك الجمل الإسمية. 2 - تخفيف الاستدرك فإن الثقيلة آكد من الخفيفة، كما سبق أن ذكرنا في أخواتها. يتنبي مما مر أن ما يخفف من الأحرف المشبهة بالفعل، إنما يخفف لغرضين. 1 - إيقاع معانيها على الجمل الفعلية إضافة إلى الإسمية. 2 - تخفيف التوكيد فإن المثقلة آكد من المخففة في كل ما مر والله أعلم. ذكر النون مع ياء المتكلم وضمير المتكلمين. يقال (إنّي) و (أنّني) و (أنّا) و (أنّنا) قال تعالى: {فانتظروا إني معك من المنتظرين} [الأعراف: 71]. وقال: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} [هود: ؟ ؟ ] وقال: {إنا لا نضيع أجر المصلحين: } [الأعراف: 170]. وقال: {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} [طه: 45]. فهل هناك من غرض لغوي أو بلاغي في ذكر النون أو حذفها؟ يجوز النحاة الذكر والحذف في ذلك، ولم يذكروا لذلك غرضا لغويا أو بلاغيا. وأنا لا أظن أن البليغ يرجح استعمالا على استعمال بلا سبب، بل لابد لذلك من سبب، وقد وقع الاستعمالان في كتاب الله (إني أنني) و (إنا وإننا). والذي يبدو إن ذكر النون إنما يكون لغرض الزيادة في التوكيد (وإنني) آكد من (إني) و (إننا) آكد من (إنا) وذلك إن اجتماع ثلاث نونات يزيد في التأكيد. قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا يقوم إني بريء مما تشركون} [الأنعام: 78].

وقال على لسانه أيضا: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} [الزخرف: 26 - 27]. فمرة قال (إني) ومرة قال (إنني) وأنت ترى الفرق بين المقامين، فإن إبراهيم عليه السلام في آية الأنعام في مقام الحيرة والبحث عن الحقيقة لا يعرف ربه على وجه التحقيق فقد ظن ان الكوكب ربه، ثم القمر، ثم الشمس، ثم أعلن البراءة من كل ذلك. أما في آية الزخرف فهو في مقام التبليغ فقد أصبح نبيا مرسلا من ربه، أعلن حربه على الشرك، وأعلن البراءة مما يعبد قومه فهناك فرق بين المقامين والبراءتين، ولذا جاء بالآية الأولى - بـ (إني) وفي الثانية بـ (إنني) لأنه في مقام أكثر توكيدًا. ثم انظر الفرق بين التعبيرين فقد قال في الآية الأولى (بريء) وفي الثانية (براء) فإن البراءة في آية الزخرف أشد وقد جاء بها على صيغة المصدر، وهو المناسب لزيادة النون بخلاف الأولى فحصل التوكيد في آية الزخرف من جهتين: زيادة النون والعدول إلى المصدر بخلاف آية الأنعام: ونحو ذلك ما جاء في سورة طه قال تعالى: {فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وانا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 11 - 14]. فأنت ترى أنه مرة قال (إني) ومرة قال (إنني) بزيادة النون، والسياق يظهر الفرق بينهما فإن في الثانية زيادة توكيد لأنه في مقام إعلامه بالنبوة، وتكليفه بالرسالة وأنت ترى الفرق بين المقامين: المقام الأول (إني أنا ربك فاخلع نعليك) والثانية (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني) فاقتضى ذلك التفريق بين المقامين. ونحو ذلك (إنا) و (أننا) قال تعالى {إنا ههنا قاعدون} وقال {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا ربنا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 45 - 46]. فمرة قال (إنا) ومرة قال (إننا) والفرق بين المقامين ظاهر، ففي آية طه كان الخوف شديدا من فرعون فقال (إننا) ولذا أجابهم بالتأكيد نفسه (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) بإثبات النون لتأكيد المعية ربطا للقلب ودفعا للخوف.

والذي يدل على ما قلناه أن نون التوكيد قد تلحق بإن إذا اتصلت بضمير المتكلم، أو ضمير المتكلمين في بعض اللغات السامية، جاء في (التطور النحوي): " وفي العبرية تلحق بها - أي أنا - الضمائر على الطريقة التي تلحق بمضارع الفعل وأمره نحو hinnenni أي إنني والنون الثانية من enni هي نون الضمير المنصوب، والأولى هي نون التأكيد المستعملة في المضارع والأمر، مثل liqtlenni وتوجد في hinnennu أي إننا أيضا" (¬1). وربما كان لإلحاقها غرض آخر، هو مراعاة مقام الإطالة، فقد يقتضي المقام الإطالة والتفصيل فيؤتى بها وقد يقتضي الإيجاز فلا تلحق، ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى على لسان ثمود: {قالو يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} [هود: 62]. وقوله: {ألم يأتكم نبؤأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} [إبراهيم: 9]. ففي آية هود قال (إننا) وفي آية إبراهيم قال (إنا) والسياق يظهر الفرق بين المقامين فآيات هود تذكر تفاصيل الأقوام البائدة وقصصهم واحدة واحدة، قصة قوم نوح، وقوم هود وقوم صالح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، ومدين وقصة موسى مع فرعون، بخلاف آية إبراهيم فإنها بيان لموقف الأمم من الرسل عموما على وجه الإجمال لا على وجه التفصيل، وأوجز في مقام الإيجاز، وفي (معترك الأقران): إن إثبات النون في قوله تعالى {وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} [هود: 62]، إنما هو للتأكيد (¬2). ¬

_ (¬1) التطور النحوي 91 (¬2) معترك الأقران 3/ 357

لا النافية للجنس

لا النافية للجنس تدخل (لا) النافية للجنس على النكرة فتنفيها نفيا عامًا، ويكون الاسم بعدها مبنيا على الفتح أو منصوبًا قال تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2]، وهي - كما يقول النحاة - تدخل على المبتدأ والخبر، وتعمل في المبتدأ النصب، بشرط أن يكون نكرة وأن يكون المقصود بها النفي العام، وأن لا تتكرر، فإن تكررت لم يتعين أعمالها وإنما جاز. وأن لا يكون مفصولا بينها وبين إسمها بفاصل، وإلا أهملت وجوبًا وذلك نحو قوله تعالى: {لا فيها غول} [الصافات: 47]. ويذكرون شرطًا آخر، هو أن لا تكون النكرة معمولة لغير (لا) بخلاف نحو (جئت بلا زاد) فإن النكرة معمولة للباء وهي مجرورة به (¬1). وهذا الشرط الأخير غريب فإنهم يقولون أنها تدخل على المبتدأ والخبر، أي تدخل على الجمل (وبلا زاد) ليست جملة هي مفرد والمعنى جئت بغير زاد، فهذا الشرط فيه نظر وعند الكوفيين أن (لا) هنا اسم بمعنى (غير) والمعنى جئت بغير زاد، وما بعدها مجرور بالإضافة (¬2). وهذا القول أقرب إلى المعنى. وقد دخلت على العلم وذلك نحو قولهم (قضية ولا أبا حسن لها) وقولهم (لا بصرة لكم) وقوله: لا هيثم الليلة للمطي والنحاة يؤولون العلم هنا بالنكرة، وهم في ذلك على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 144 - 145، التصريح 1/ 237، ابن الناظم 74، الأشموني 1/ 253 (¬2) التصريح 1/ 237

فمنهم من ذهب إلى أن التقدير: ولا مسمى بأبي حسن، فقولهم (قضية ولا أبا حسن لها) معناه عندهم: ولا مسمى بأبي حسن. (¬1) والقول الثاني على تقدير (مثل) أي ولا أبي حسن، لها " كأنه نفي منكورين كلهم في صفة علي، أي لا فاضل، ولا قاضي مثل أبي الحسن، فالمراد بالنفي هنا العموم والتنكير لا نفي هؤلاء المعرفين .. ليس المعنى على نفي كل من اسمه هيثم، أو أمية، أو علي، وإنما المراد نفي منكورين كلهم في صفة هؤلاء، فالعلم إذا اشتهر بمعنى من المعاني ينزل منزلة الجنس الدال على ذلك المعنى (¬2) ". وهذا التقدير وأن كان سليما من حيث الدلالة على المعنى ضعيف من أكثر من وجه من ذلك: إن العرب التزمت تجريد الاسم الداخلة عليه (لا) من (أل) فلا تقول (ولا أبا الحسن) ولا (لا البصرة) أو (لا الصعق) بل لابد من تجريده من أل (¬3) " ولو كانت إضافة (مثل) منوية لم يحتج إلى ذلك الإلتزام (¬4) " لأن (مثلا) لا تخرج عن التنكير. ومن ناحية أخرى أن العرب أخبروا عن الاسم المذكور بـ (مثل) قال الشاعر: بكيت على زيد ولا زيد مثله ... بريء من الحمى سليم الجوانح فلو كانت إضافة (مثل) منوية لكان التقدير: ولا مثل زيد مثله وهو فاسد (¬5). والقول الثالث: أن يستخلص من العلم معنى الوصف الذي اشتهر به ذلك العلم فيكون هو المنفي، فقولك (لا حاتم اليوم) معناه لا كريم، وقوله (لا هيثم الليلة للمطي). ¬

_ (¬1) انظر حاشية ابن عقيل 1/ 141 (¬2) انظر حاشية الخضري 1/ 141، حاشية الصبان 2/ 5 (¬3) شرح ابن يعيش 2/ 104، وانظر سيبويه 1/ 354 - 355 (¬4) انظر الرضي على الكافية 1/ 382 (¬5) حاشية الصبان 2/ 4 - 5

الفرق بينها وبين لا المشبهة بليس

معناه لا سائق، وقولهم (قضية ولا أبا حسن لها) معناه لا فيصل لها وهكذا، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأما أن يجعل العلم لاشتهاره بتلك الخلة كأنه اسم جنس موضوع لإفادة ذلك المعنى، لأن معنى (قضية ولا أبا حسن لها) لا فيصل لها .. فصار اسمه رضي الله عنه كالجنس المفيد لمعنى الفصل والقطع، كلفظ الفيصل وعلى هذا يمكن وصفه بالمنكر، وهذا كما قالوا (لكل فرعون موسى) أي لكل جبار قهار، فيصرف فرعون وموسى لتنكيرهما بالمعنى المذكور" (¬1). وهذا القول أقربها إلى الصواب. الفرق بينها وبين لا المشبهة بليس: يذكر النحاة أن (لا) هذه نص في نفي الجنس، ولا يراد بها نفي الوحدة فحين تقول (لا رجل ههنا) نفيت أن يكون أحد من جنس الرجال هناك، وقد استغرقت في نفيك جنس الرجال عامة بخلاف قولك (لا رجل ههنا) فإنها محتملة لنفي الجنس، ولنفي الوحدة وليست نصا في أحدهما، وقد وهم من قال أنها لا تنفي إلا الوحدة بل هي لنفي الجنس برجحان، فأنت إذا قلت (لا رجل ههنا) احتمل أن تكون نفيت جنس الرجال، كما احتمل أن تكون نفيت واحدًا من هذا الجنس، فيصح أن تقول (لا رجل ههنا بل رجلان) ولا يصح ذلك في لا النافية للجنس، وذلك أن لا النافية للجنس جواب لـ (هل من) فقولك (لا رجل) جواب في التقدير لـ (هل رجلٌ)، فأنت إذا سألت: هل من رجل؟ كان الجواب: (لا رجل) بالفتح، وإذا سألت: هل رجل؟ كان الجواب: (لا رجلٌ) بالرفع، والفرق بين التعبيرين أن ما فيه (من) هو نص في السؤال عن الجنس، وما ليس فيه (من) يحتمل أن يكون السؤال عن الجنس وعن الوحدة فجوابها كذلك. جاء في (شرح الرضي على الكافية): "والحق أن نقول أن مبني لتضمنه لمن الاستغراقية وذلك لأن قولك (لا رجل) نص في نفي الجنس بمنزلة (لا من رجل) ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 283، وانظر المقتضب 4/ 362 - 363

بخلاف (لا رجل في الدار ولا أمراة) فإنه وإن كان النكرة في سياق، النفي تفيد العموم لكن لانصا بل هو الظاهر كما أن (ما جاءني من رجل) نص في الاستغراق بخلاف (ما جاءني رجل) إذ يجوز أن يقال (لا رجل في الدار بل رجلان) و (ما جاءني رجل بل رجلان) ولا يجوز: (لا رجل في الدار - بالفتح - بل رجلان) و (ما جاءني من رجل بل رجلان) للزوم التناقض، فلما أرادوا التنصيص على الاستغراق، ضمنوا النكرة معنى (من) فبنوها" (¬1). وجاء في (الكتاب): " فـ (لا) لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب فيما زعم الخليل لقوله (هل من عبد أو جارية) فصار الجواب نكرة كما إنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة " (¬2). وقال السيرافي: " لما كان (لا رجل في الدار) نفيا عامًا، كانت المسألة عنه مسألة عامة ولا يتحقق لها العموم إلا بإدخال (مِنْ) وذلك أنه لو قال في مسألة: (هل رجل في الدار) جاز أن يكون سائلا عن رجل واحد كما تقول: هل عبد الله في الدار؟ فالذي يوجب عموم المسألة دخول (من) لأنها لاتدخل إلا على واحد منكور في معنى الجنس" (¬3). وجاء في (المغني): " إذا قيل (لا رجل في الدار) بالفتح تعين كونها نافية ويقال في توكيده (بل امرأة) وأن قيل بالرفع، تعين كونها عاملة عمل ليس وامتنع أن تكون مهملة وإلا تكررت كما سيأتي. واحتمل أن تكون لنفي الجنس وأن تكون لنفي الوحدة، ويقال في توكيده على الأول (بل امرأة) وعلى الثاني (بل رجلان أو رجال). وغلط كثير من الناس فزعموا أن العامة عمل ليس لا تكون إلا نافية للوحدة، ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 279، وانظر ابن يعيش 1/ 150، والأشموني 2/ 5 - 6، المقتضب 4/ 357، أسرار العربية 246، التصريح 1/ 238 - 240 حاشية الخضري 1/ 42 (¬2) سيبويه 1/ 345 (¬3) شرح السيرافي بهامش الكتاب 1/ 345

ويرد عليهم نحو قوله: تعز فلا شيء على الأرض باقيًا ... ولا وزر مما قد قضى الله واقيا" (¬1). فاتضح بها أن (لا) التي للجنس من التعبيرات النصية، وأن المشبه بليس من التعبيرات الإحتمالية، فنحن نعلم أن عندنا في العربية صنفين من العبيرات، تعبيرات نصية تؤدي معنى واحدا لا تحتمل غيره، وتعبيرات إحتمالية تحتمل أكثر من معنى. فمن التعبيرات النصية نحو قولك (ما جاءني من رجل) وهو نص في نفي الجنس، وقولك (أنا مكرم سعيدا) وهو نص في زمن الحال أو الاستقبال و (اشتريت قدحا ماء) وهو نص في أن المشتري هو الماء لا القدح، بخلاف قولك (ما جاءني رجل) و (أنا مكرم سعيد) و (اشتريت قدح ماء) فإن هذه من التعبيرات الإحتمالية فالأول يحتمل نفي الجنس والوحدة، والثاني يحتمل فعل ذلك في المضي والحال والاستقبال، والثالث أنك اشتريت القدح كما يحتمل أنك اشتريت الماء. ويذكر النحاة أن هذا الفرق بين (لا) النافية للجنس والمشبهة بليس إنما يكون في المفرد فقط ولا يكون في المثنى والجمع فقولك (لا رجلين في الدار) مطابق في المعنى لقولك (لا رجلان في الدار) جاء في (حاشية الصبان) أن "لا العاملة عمل (ان) إنما تكون نصا في نفي الجنس إذا كان اسمها مفردا فإن كان مثني نحو (لا رجلين) أو جمعا نحو (لا رجال) كانت محتملة لنفي الجنس ولنفي قيد إلا ثنينة أو الجمعية كما أوضحه السعد في مطوله. وأما لا العاملة عمل ليس، فإنها عند إفراد اسمها لنفي الجنس ظهورا لعموم النكرة مطلقا، في سياق النفي ولنفي وحدة مدخولها المفرد بمرجوحية، فتحتاج إلى قرينة ولهذا يجوز بعدها أن تقول بل رجلان أو رجال، فإن ثني اسمها أو جمع، كانت في الاحتمال مثل لا العاملة عمل إن إذا ثني اسمها أو جمع، فالاختلاف بين العامة عمل إن ¬

_ (¬1) المغني 1/ 240، الأشموني 2/ 3، جواهر الأدب 134 - 135

الفرق بين (لا) و (ما)

والعاملة عمل ليس إنما هو عند إفراد الاسم". (¬1) وفي هذا القول نظر فإنه ليس على إطلاقه، فلا يصح في نحو قوله: تعز فلا الفين بالعيش متعًا. فهناك فرق بين هذا القول وقولك (تعز فلا إلفان بالعيش متعا)، فإن الأولى نص في النفي المطلق، بخلاف الثانية فإنها تحتمل النفي العام، وتحتمل نفي إلفين فقط، أي لا إلفان بل أكثر. وكذلك لو قلت: (لا زوجين مفترقان) فإنك نفيت هذا الأمر نفيًا عامًا بخلاف ما لو قلت: (لا زوجان مفترقين) فإنه يحتم أن يكون نفيًا عاما كالأول ويحتمل أن يكون لا زوجان بل أكثر. ويرده كذلك نحو قوله تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} [التوبة: 12]، فلا يصح في نحو هذا أن يقال: أن لهم يمينا أو يمينين بل هو واضح في النفي العام. الفرق بين (لا) و (ما): يقال: (لا رجل في الدار) ويقال: (ما من رجل في الدار) فما الفرق بينهما؟ إن كلا التعبيرين نص في نفي الجنس فهل من فرق بينهما؟ الظاهر إن بينهما فرقا في المعنى والاستعمال، فإن (لا) جواب لسؤال حاصل أو مقدر هو (هل من) كما ذكرنا، أما (ما) فهي رد على قول أو ما نزل هذه المنزلة، وإيضاح ذلك أنك تقول: (ما من رجل في الدار) لمن قال (أن في الدار لرجلا) رادا كلامه. وتقول (لا رجل في الدار) لمن سأل عن وجود أحد من الرجالة فيه. فالجواب بـ (لا) يكون إعلاما للمخاطب بما لم يكن يعلم، أو ما نزل هذه المنزلة، أما (ما) فهي رد على قول وتصحيح ظن. ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 2/ 2، حاشية الخضري 1/ 141، وانظر مختصر المعاني للتفتازاني 35

قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد} [المائدة: 73]. فقد رد على قولهم (إن الله ثالث ثلاثة) بـ (ما) وقال: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم، فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق، وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم} [آل عمران: 59 - 62]. وقال: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8]. وقال: {ويستذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة} [الأحزاب: 13]، وقال: {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} [آل عمران: 78]. وقال: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} [التوبة: 56]. فأنت ترى في ذلك كله إنه رد على أقوالهم بـ (ما). وقال: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} [البقرة: 256]، وقال: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2]. وقال: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19]. وقال: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} [التوبة: 12]، وأنت ترى الفرق بين التعبيرين واضحًا فإن (لا) أعلام للمخاطب و (لا) رد على قول، أو ظن أو ما كان منزلا هذه المنزلة كما ذكرنا. ويختلفان أيضا من ناحية الاستعمال، فإنه يستطاع نفي الجنس بـ (ما) متصلة بمنفيها أو منفصلة عنه، ولا ينفي الجنس بـ (لا) نصا إلا متصلة به قال تعالى: {فما لنا من شافعين} [الشعراء: 100]، وقال: {ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59].

تقديم خبرها على اسمها

ولا يقال (لا في الدار رجل) بالفتح فـ (ما) أوسع استعمالا في هذه الناحية وذلك لأن (لا) تركبت مع منفيها فأصبحتا كالكلمة الواحدة، ولذلك لا يصح الفصل بينهما، فإن فصلت بينهما وجب أهمالها وتكرارها، وتخلف التنصيص على الجنس، وذلك كقوله تعالى: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} [الصافات: 47]. وقد تقول: أليس قوله تعالى (لا فيها غول) نصًا في نفي الجنس؟ والجواب أن نفي الجنس ههنا متعين، لأن المقام يدل عليه، ولكن يصح أن يراد في تعبير آخر مثله نفي الواحد، ونفي الجنس، كأن تقول (لا فيها رجل ولا امرأة) بخلاف ما لو جاء بعدها مفتوحًا أو منصوبًا، فإنه لا يصح إرادة الواحد البتة، وفي غير القرآن يمكن أن يراد بالتعبير (لا فيها غول) نفي الجنس والوحدة، ولكن هنا دل المقام على أن ذلك لنفي الجنس. وانت إذا أردت نفي الغول الواحد تعين أن تقول ذلك بالرفع. إن المقصود بقولنا أن (لا) الناصبة تنفي الجنس، إنها لا تحتمل الوحدة البتة، وأما المشبهة بليس فإنها قد تنفي الجنس وقد يتعين في بعض التعبيرات ذلك، إذا كان المقام يقتضيه، ولكن يصح أن يراد في التعبير نفسه نفي الوحدة في مقام آخر. تقديم خبرها على اسمها: ذكرنا إنه لا يصح أن يتقدم خبر (لا) على اسمها مع بقائها نصا، في نفي الجنس، فلا تقول: (لا في الصف طالب) وإنما تقول إذا أردت التنصيص على الجنس مع التقديم (ما في الصف من طالب). فإن قدمت خبر (لا) على اسمها وب الاهمال والتكرار كقولك (لا في الصف طالب ولا طالبة) ثم إن المعنى يختلف. فإنك تقول مثلا (لا عاصم لك) والمعنى نفي العاصم له مطلقا من دون أن تتعرض لغيره فإن قدمت الخبر وقلت (لا لك عاصم ولا ملجأ) كان المعنى نفي العاصم له

وإثباته لغيره، أي ليس لك عاصم وإنما هو لغيرك، جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {لا ريب فيه}: " فإن قلت: فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله (لا فيها غول)؟ قلت: لأن القصد في إيلاء الريب حرف النفي نفي الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق، لا باطل وكذب كما كان المشركون يدعونه، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد وهو أن كتابًا آخر فيه الريب لا فيه كما قصد في قوله (لا فيها غول) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة" (¬1). وجاء في (البرهان): " إذا قلنا: (لا عيب في الدار) كان معناه نفي العيب في الدار، وإذا قلنا (لا في الدار عيب) كان معناه أنها تفضل على غيرها بعدم العيب" (¬2). وتقول: (لا ضعف فيك) والمعنى أنك نفيت عنه الضعف ولم تثبته لغيره. فإن قلت: (لا فيك ضعف ولا خور) كان المعنى أنك نفيت عنه الضعف، وأثبته لشخص آخر معرضا بذلك الشخص. فإن أردت التنصيص على الجنس مع التقديم جئت بما ومن كقوله تعالى {يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم} [غافر: 33]، فإنه نفي العاصم لهم وأثبته لغيرهم ممن آمن بالرسل، قال تعالى: {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله مالكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير} [الشورى: 47]، فأنت ترى أنه نفي أولاً بـ (لا) نفيا عامًا (لا مرد له من الله)، ثم قدم الخبر، ونفي بما (مالكم من ملجأ يومئذ ومالكم من نكير) وذلك أنه أراد نفي الملجأ لهم وإثباته لغيرهم، أي ليس لكم الملجأ وإنما لغيركم فقدم الجار والمجرور للتخصيص، وذلك كما تقول: (ما مررت بمحمد) و (ما محمد مررت) فأنت في الأولى نفيت المرور بمحمد، ولم تثبته لغيره، وفي الثانية نفيت المرور بمحمد وأثبته لغيره أي أنني لم أمر بمحمد ولكني مررت بغيره ولا يقال ذلك بـ (لا) مع إرادة التنصيص على الجنس. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 87 - 88 (¬2) البرهان 3/ 237

اسم لا

اسم لا: يقسم النحاة اسم (لا) على ثلاثة أقسام: مفرد نحو (لا رجل في الدار)، ومضاف نحو (لا صاحب بر ممقوت)، وشبيه بالمضاف وهو العامل فيما بعده نحو: لا كريما أبوه حاضر ولا طالعا جبلا ظاهر. والمفرد عند الجمهور مبني، والمضاف والشبيه بالمضاف معربان منصوبان (¬1) أما المضاف فهو واضح، ولكن قد يلتبس أحيانا المفرد بالشبيه بالمضاف، والتفريق بينهما يكون بترك البناء في الشبيه بالمضاف، والمعنى هو الحاكم. تقول: (لا كريم أبوه حاضر) و (لا كريما أبوه حاضر) والمعنى مختلف فالأولى تنفي حضور أبي الكريم أي ليس هناك كريم حضر أبوه، و (حاضر) خبر عن الأب، أما الثانية فمعناها أنه ليس كريم الأب حاضرًا فـ (حاضر) خبر (لا) والكرم للأب لا للابن. وتقول أيضًا: (لا قاتل في الدار) و (لا قاتلا في الدار) والمعنى مختلف، فمعنى الأولى أنه ليس في الدار قاتل، أي لا يوجد فيه شخص حصل منه قتل سواء حصل منه القتل في الدار أم في الخارج. أما الثانية فمعناها أن الذي قتل في الدار غير موجود، فأنت تنفي وجود قاتل أوقع قتله في الدار، جاء في (شرح الرضي على الكافية): (وتقول: (لا مصليا في الجامع)، إذا نفيت في الوجود من يوقع صلاته في الجامع، أي ليس في الوجود من يصلي في الجامع ويجوز أن يكون مستقرا في الجامع من يصلي في غيره. وإذا قلت: (لا مصلي في الجامع) فالمعنى ليس في الجامع مصل، سواء صلى في الجامع أو في غيره" (¬2). ¬

_ (¬1) المقتضب 4/ 357، أسرار العربية 246، ابن الناظم 74، الأشموني 2/ 5 - 6، التصريح 1/ 238 - 240، حاشية الخضري 1/ 142 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 280

العطف على اسم (لا)

وجاء في (الكتاب): " وقال الخليل كذلك: (لا آمرًا بالمعروف لك) إذا جعلت (بالمعروف) من تمام الاسم وجعلته متصلا به كأنك قلت لا أمرًا معروفا لك. وأن قلت (لا آمرا بمعروف) فكأنك جئت (بمعروف) بعدما بنيت على الأول كلاما كقولك (لا آمرا في الدار يوم الجمعة) وإن شئت جعلته كأنك قلت (لا آمرا يوم الجمعة فيها) فيصير المبني على الأول مؤخرا ويكون الملغى مقدما .. وإن شئت قلت (لا آمرا يوم الجمعة إذا نفيت الأمرين يوم الجمعة لا من سواهم من الآمرين، فإذا قلت: (لا امر يوم الجمعة) فأنت تنفي الآمرين كلهم، ثم اعلمت في أي حين) (¬1). وجاء في (المقتضب): " ومما لا يكون معها اسما واحدا ما وصل بغيره نحو قولك: (لا خيرا من زيد لك) و (لا آمرا بالمعروف لك) تثبت التنوين لأنه ليس منتهى الاسم لأن ما بعده من تمامه فصار بمنزلة حرف من حروف الاسم. ولو قلت: (لا خير عند زيد) و (لا آمرَ عنده) لم يكن إلا بحذف التنوين، لأنك لم تصله بما يكمله اسما ولكنه اسم تام فجعلته مع (لا) اسمًا واحدًا. وتقول: (لا آمر يوم الجمعة لك) إذا نفيت جميع الآمرين، وزعمت أنهم ليسوا له يوم الجمعة. فإن أردت أن تنفي آمرا يوم الجمعة قلت (لا آمرا يوم الجمعة لك) جعلت يوم الجمعة من تمام الاسم" (¬2). العطف على اسم (لا): يذكر النحاة أوجها متعددة في المعطوف على اسم (لا) النافية للجنس، فهم يجوزون أن تقول مثلا: لا رجل ولا امرأة (بفتح المعطوف). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 350 (¬2) المقتضب 4/ 365

لا رجل ولا امرأةٌ (بالرفع) لا رجلَ لوا امرأةً (بالنصب). هذا إذا كان المعطوف عليه مبنيا وكذلك إذا كان منصوبًا نحو: لاغلام رجل ولا امرأة. لا غلام رجلٍ ولا امرأةٌ لا غلامَ رجلٍ ولا امرأةٌ. فإن كان المعطوف عليه مرفوعا لم يجز النصب تقول: لا رجلٌ ولا امرأة (بفتح المعطوف). لا رجلٌ ولا امرأةٌ (برفعهما) هذا إذا تكررت (لا) فإن لم تتكرر لم يجز بناء المعطوف، تقول: لا رجلَ وامرأةً (بالنصب). لا رجلَ وامرأةٌ (بالرفع). ولا تقول: لا رجلَ وامرأة (بالفتح) (¬1). أن المفهوم من قول النحاة في جواز الأوجه أن للمتكلم أن يقول ذلك متى شاء أي إن يقول مثلا: لا رجل ولا امرأة، ولا رجلَ ولا امرأةً، أو لا رجلَ ولا امرأةً، أو لا رجلَ وامرأةً غير ذلك متى أراد دون تقييد. والحق أنه مقيد بالمعنى فإن أراد معنى معينا التزم أن يقول تعبيرا خاصا به لا يحق له العدول عنه، فإن أراد التنصيص على الجنس جاء بالناصبة وإن أراد التنصيص على الوحدة جاء بالرافعة وإن أراد غير ذلك جاء به على حسب المعنى. ¬

_ (¬1) انظر المقتضب 4/ 367 - 368، سيبويه 1/ 352 - 1/ 349، ابن الناظم 75، ابن عقيل 1/ 144، الرضي على الكافية 1/ 284 - 285، الأشموني 2/ 13، الهمع 2/ 143، التصريح 1/ 242

1 - رفع المتعاطفين

جاء في (حاشية يس على التصريح): "قال الدنوشري: تجويز النحاة الخمسة، الأوجه المذكورة الظاهر أنه بحسب قصد المتكلم واحتمال التركيب لذلك، وإلا فالظاهر أنه إذا قصد نفي الجنس وجب فتح الثاني والأول وإذا أريد نفي الوحدة لم يجز الفتح ولعل هذا مرادهم (¬1) ". وإليك إيضاح ذلك: 1 - رفع المتعاطفين: تقول: (لا رجلٌ ولا امرأةٌ في الدار) قال تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال} [إبراهيم: 31]، وقال: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 277]. والنحاة على أن هذا جواب لقولك (أرجلٌ أم امرأة في الدار؟ ) فتجيب (لا رجلٌ ولا امرأةٌ في الدار). قال سيبويه: " هذا باب ما لا تغير فيه الأسماء عن حالها التي كانت عليه قبل أن تدخل لا ": " ولا يجوز ذلك إلا أن تعيد لا الثانية من قبل أنه جواب لقوله: أغلامٌ عندك أم جارية إذا ادعيت أن أحدهما عنده، فلا يحسن إلا أن تعيد (لا) كما إنه لا يحسن إذا أردت المعنى الذي تكون فيه أم إلا أن تذكرها مع اسم بعدها" (¬2). هذا إذا كررت (لا) فإن لم تكرر (لا) فقلت: (لا رجلٌ وامرأةٌ في الدار) احتمل أن يكون المعنى كما ذكرنا في لا رجل ولا امرأة، كما احتمل أن يكون نفيا للجمع بينهما أي قد يكون الرجل وحده موجودا وقد تكون المرأة وحدها موجودة، ولكن ليسا موجودين معًا، وهذا كما قالوا في قولهم (ما جاء زيد وعمرو) و (ما جاء زيد ولا عمرو) قال ابن هشام: " وكذلك (لا) المقترنة بالعاطف في نحو (ما جاءني زيد ولا عمرو) ويسمونها زائدة وليست بزائدة البتة، ألا ترى أنه إذا قيل: (ما جاءني زيد وعمرو) ¬

_ (¬1) حاشية يس 1/ 240 (¬2) سيبويه 1/ 354 - 356، المقتضب 4/ 359

2 - بناء المتعاطفين

احتمل أن المراد نفي مجيء كل منهما على كل حال وإن يراد نفي اجتماعهما في وقت المجيء، فإذا جيء بـ (لا) صار الكلام نصًا في المعنى الأول" (¬1). وقد يحتمل هذا التعبير معنى آخر غير العطف فقولك (لا رجلٌ وامرأة في الدار) يحتمل أن يكون النفي للرجل فقط، وإثبات وجود امرأة في الدار، والواو استئنافية أي ليس رجل موجودا وإنما فيه امرأة. ويحتل أن تكون الواو حالية، أي لا رجل في حالة وجود امرأة في الدار، إلا ان احتمال الأخير فيه ضعف عند النحاة، بسبب حذف العامل المعنوي والصواب عندهم أن يقال: لا رجل في الدار وامرأة فيه. 2 - بناء المتعاطفين: تقول: (لا رجلَ ولا امرأة َ في الدار)، وهو نص في نفي الجنس أي ليس فيها أحد من هذين الجنسين البتة قال ابن يعيش: " فإن كررتها وأردت إعمالها على هذا الوجه جاز فقلت: (لا رجلَ ولا امرأة) ويكون جواب هل من رجل ومن امرأة" (¬2). والنحاة لا يجوزون في ذلك إلا تكرار (لا)، فلا يصح قولك (لا رجلَ وامرأةَ) بفتح المعطوف. (¬3) ومنعهم قائم على أن سبب البناء عندهم تركيب (لا) مع اسمها كتركيب خمسة عشر، وواو العطف تمنع ذلك. والذي أراه جواز ذلك وقد حكاه الأخفش، (¬4) ومعناه محتمل لأن يكون كالأول وهو نفي وجود هذين الجنسين، سواء كانا مجتمعين أم مفردين كما يحتمل أن يكون وجود الجنسين مجتمعين، فقد يكون فيها جنس الرجال وحده أو جنس النساء وحده، كما مر في قولنا (لا رجلٌ وامرأةٌ) فالنفي يكون عن اجتماع الجنسين. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 245 (¬2) ابن يعيش 2/ 111 (¬3) ابن الناظم 76، الأشموني 2/ 13، التصريح 1/ 244 (¬4) ابن الناظم 76، الأشموني 2/ 13

3 - بناء الأول ورفع الثاني

3 - بناء الأول ورفع الثاني: تقول: (لا رجل ولا امرأة في الدار) فتكون الأولى نصا في نفي الجنس، والثانية محتملة للجنس والوحدة ليس فيها نصوصية على الاستغراق. قال الرضي: "و (لا) في الجمع الغيت فلم يبق فيها النصوصية على الاستغراق" (¬1) يشير إلى أحوال الرفع كلها. ويبدو أن لـ (لا) الناصبة دلالة أخرى هي توكيد النفي، وذلك إنها متضمنة معنى (من) الاستغراقية دون الأخرى، وقد ذكر النحاة ذلك فقد قالوا أن (لا) العامة عمل (أن) لتوكيد النفي وهي نظيرة (أن) في توكيد الإيجاب (¬2). ويدل على ذلك قوله تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [يونس: 61]. وقوله: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [سبأ: 3]. فأنت ترى إنه قال في آية يونس (ولا أصغر من ذلك ولا أكبرَ) بالنصب، وقال في سورة سبأ (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) بالرفع. والنفي في سورة يونس أقوى وآكد، ويدل على ذلك قوله (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة) بزيادة (من) بخلاف سورة سبأ التي قال فيها (لا يعزب عنه مثقال ذرة) بدون (من)، فجاء بـ (لا) النافية للجنس مجانسة لقوة النفي وتوكيده في آية يونس بخلافها في آية سيأ، وهو المتناسب مع السياق، وذلك إن الكلام في سورة يونس على مقدار علم الله وإحاطته بالغيب، وإطلاعه على افعال خلقه، أينما كانوا، فناسب هذه التأكيدات ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 285 (¬2) ابن الناظم 74، الهمع 1/ 144، التصريح 1/ 235، الاتقان 2/ 64، جواهر الأدب 135

والاستغراق الدالة عليه من ولا النافية للجنس بخلاف سورة سبأ التي كان الكلام فيها على الساعة. فإذا أريد تأكيد منفي وإعطاؤه أهمية، جيء بـ (لا) الاستغراقية دون المنفي الآخر وذلك كأن تقول: (لاعدوان ولا إكراهٌ) أو تقول: (لا عدوانَ ولامسٌ بسوء) و (لا قتلَ ولا إيذاءٌ) فأنت تؤكد أحد المنفيات دون الآخر بحسب قصد المتكلم، وجعلوا من هذا الضرب قراءة من قرأ (لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) جاء في (التفسير الكبير): "أما الذين قرأوا الأولين بالرفع مع التنوين والثالث بالنصب (¬1)، فذلك يدل على أن الاهتمام بنفي الجدال أشد من الاهتمام بنفي الرفث، والفسوق، وذلك لأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة والجدال مشتمل على ذلك" (¬2). وقد يكون الاختلاف سببه اختلاف المعاني كأن تكون واحدة للنفي والأخرى للنهي. جاء في (الكشاف) في هذه القراءة: " وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأولين بالرفع، والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهي كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الاخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج. وذلك أن قريشًا كانت تخالف سائر العرب، فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة، وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد ورد الوقوف إلى عرفة، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج، واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه) وإنه لم يذكر الجدال" (¬3). فجعلوا التعبيرين الأولين للنهي، والثالث للنفي، فخالف ما بين ذلك للإشارة إلى اختلاف المعاني. ¬

_ (¬1) كذا والأولى أن يقول: بالفتح (¬2) التفسير الكبير 5/ 179 (¬3) الكشاف 1/ 263 - 264، بديع القرآن 338 - 339، التفسير الكبير 5/ 179

4 - بناء الأول ونصب الثاني

ويمكن أن يكون لمثل هذا التعبير معنى آخر، وذلك كأن تقول: (لا رجلَ ولا امرأةٌ في الدار) تعني بذلك إنه ليس هناك رجل في حالة عدم وجود امرأة في الدار، فتكون الجملة المنفية حالية. ومن ذلك أن تقول: (لا غنى ولا مالٌ موفور) و (لا خلقَ ولا دينٌ للإنسان) أي لا غنى في حالة عدم المال، ولا خلق في حالة عدم الدين والواو للحال. أما مع عدم تكرار (لا) نحو (لا رجلَ وامرأةٌ في الدار) فإن المعنى يحتمل أن يكون كما مر في التكرار كما يحتمل أن يكون القصد أن تنفي وجود الرجل، وتثبت وجود المرأة في الدار، فالواو استئنافية، أو حالية لا رجل في هذه الحالة، ونحو ذلك أن تقول: (لا فقرَ ولا قناعةٌ عندك) أي لا فقر في حالة وجود القناعة، والواو حالية. ويضعف الدلالة على الحال ما ذكرناه سابقًا من حذف العامل المعنوي. 4 - بناء الأول ونصب الثاني: تقول: (لا رجلَ ولا امرأةً في الدار)، وعند النحاة أن هذا أضعف الوجوه وعند يونس وجماعة من النحويين إنه مختص بالضرورة كتنوين المنادي المفرد" (¬1). وعند الزمخشري أنه منصوب على تقدير فعل محذوف جاء في (شرح المفصل): قال صاحب الكتاب: وأما قوله (لا نسب اليوم ولا خلةً) فعلى إضمار فعل كأنه قال: (ولا أرى خلة) كما قال الخليل في قوله (ألا رجلا جزاه الله خيرًا) كأنه قال: ألا تُرونني رجلاً" (¬2). وعلى هذا يكون ما بعد (لا) جملة فعلية دالة على الحدوث والتجدد بخلاف الأولى، فقولك (لا رجلَ ولا امرأة جملتان الأولى جملة إسمية وهي (لا رجلَ)، والثانية جملة فعلية دالة على الحدوث والتجدد، وهي (لا امرأةً)، والجملة الأولى أقوى نفيًا وآكد. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 2/ 101، التصريح 2/ 242 (¬2) ابن يعيش 2/ 101

وعند جمهرة النحاة أن (لا) الثانية زائدة لتوكيد النفي، دخولها كخروجها، ومعنى الجملة عند ذكرها وعدمه سواء فقولك (لا رجلَ ولا امرأةً) أو (لا رجلَ ولا امرأةً) واحد في المعنى غير أن لا الثانية زائدة لتوكيد النفي. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " والثاني فتح الأول ونصب الثاني على أن تكون (لا) الثانية زائدة لتأكيد نفي الأول كما في قولك: (ما جاءني زيد ولا عمرو) فكأنت قلت: لا حول وقوة كقوله: فلا أب وابنا مثل مروان وابنه على ما يجيء" (¬1). وجاء في شرح ابن يعيش: " أما قوله: لا نسب اليوم ولا خلةً ... اتسع الخرق على الراقع البيت لأنس بن العباس والكلام في نصب الخلة وتنوينها يحتمل أمرين: أحدهما أن لا تكون (لا) مزيدة لتأكيد النفي، دخولها كخروجها فنصب الثاني ونونته بالعطف على الأول بالواو وحدها، واعتمد بـ (لا) الأولى على النفي، وجعل الثانية مؤكدة للجحد كما يكون كذلك في (ليس) إذا قلت (ليس لك غلام ولا جارية)، فيكون في الحكم كقوله: ولا أب وابنا مثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا" (¬2). والتخريج الثاني هو تخريج الزمخشري الذي ذكرناه. فعلى هذا يكون قولك (لا رجلَ ولا امرأة) بمعنى (لا رجل وامرأة)، وفي هذا نظر إذ هم نظروها بقولهم (ما جاءني زيد ولا عمرو)، وقد ذكرنا إن هذا يختلف عن قولنا ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 284 (¬2) ابن يعيش 2/ 101 التصريح 1/ 242، سيبويه 1/ 349، ابن الناظم 75

5 - رفع الأول ونصب الثاني

(ما جاءني زيد وعمرو) فإن الثانية تحتمل نفي مجيء كل منهما، وتحتمل نفي اجتماعهما في المجيء، بخلاف قولنا (ما جاءني زيد ولا عمرو) فإنها لا تحتمل إلا نفي مجيئهما مجتمعين أو منفردين. 5 - رفع الأول ونصب الثاني: نحو قولك (لا رجلٌ ولا امرأة ً حاضران) وقد منعه النحاة، وجاء في (حاشية الخضري) أنه إذا كان على تقدير محذوف كما فعل الزمخشري جاز (¬1). والذي أرى في هذا أنه يجوز ذلك، إن أردنا نفي المعية كأن تقول: (لا تعذيبٌ وسلبا) و (لا تعذيب ولا سلبا) والواو تفيد المصاحبة في الحالتين كما مر بنا آنفا. نعت اسم لا: يجوز النحاة في نعت اسم (لا) إذا كان مبنيا وكان النعت مفردا متصلا بالمنعوت ثلاثة أوجه: بناءه على الفتح ونصبه ورفعه. فتقول: لا رجل ظريف، ولا رجلَ ظريفًا، ولا رجلَ ظريفٌ. " وأن فصل النعت عن اسم (لا) تعذر بناؤه على الفتح، لزوال التركيب بالفصل، وجاز فيه النصب نحو (لا رجل فيها ظريفا) والرفع أيضا نحو (لا رجل فيها ظريف)، وكذلك أن كان النعت غير مفرد تقول: لا رجل قبيحأ فعله عندك ولا رجلَ قبيحٌ فعله عندك. ولا يجوز: لا رجل قبيح فعله عندك" (¬2). فإن لم يكن اسم (لا) مبنيا تعذر بناء الصفة أيضا وجاز فيها وجهان: الرفع والنصب تقول: لا صاحب بر ممقوتٌ أو ممقوتًا (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية الخضري 1/ 145 (¬2) ابن الناظم 76 (¬3) الأشموني 2/ 12 - 13، التصريح 1/ 243 - 244، ابن يعيش 2/ 109

وقد يقول قائل: هل هذه التعبيرات كلها بمعنى واحد؟ أي هل معنى: لا رجل ظريفَ ولا رجل ظريفا، ولا رجل ظريفٌ واحد؟ إن النحاة أجازوا أن تقال هذه الأوجه، من دون أن يبينوا ما إذا كان هناك اختلاف في معاني هذه التعبيرات، وإنما هم عللوا سبب هذه الاختلافات فقالوا إن البناء على أن الصفة ركبت مع الموصوف كتركيب خمسة عشر، والنصب على اتباع الصفة لمحل اسم لا، والرفع على اتباعها لمحل (لا) مع اسمها (¬1). وقال سيبويه: " اعلم أنك إذا وصفت المنفي، فإن شئت نونت صفة المنفي، وهو اكثر في الكلام، وإن شئت لم تنون قولك: لا غلام ظريفا لك ولا غلام ظريف لك. فأما الذين نونوا فإنهم جعلوا الاسم و (لا) بمنزلة اسم واحد وجعلوا صفة المنصوب في هذا الموضع بمنزلته في غير المنفي. وأما الذين قالوا لا غلامَ ظريف لك فإنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحدة" (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): "وإنما جاز بناء النعت المذكور مع انفصاله عن (لا) التي هي سبب البناء، إذ بها يقوم معنى الاستغراق الموجب، لتضمن (من) لاجتماع ثلاثة أشياء فيه: أحدها كونه في المعنى هو المبني الذي وليها أعني اسم (لا) وفي اللفظ متصلا به. والثاني كون النفي في المعنى داخلا فيه، لأن المنفي في قولك: لا رجل ظريف هو الظرافة لا الرجل فكأن (لا) دخلت عليه، فكأنك قلت (لا ظريف) فلذا لم يبن صفة المنادى في نحو (يا زيد الظريف) لن النداء متعلق بالموصوف. ¬

_ (¬1) ابن الناظم 76 (¬2) سيبويه 1/ 351

والثالث قربه من (لا) التي هي سبب البناء إذ الفاصل بينهما ليس إلا واحدا هو هو" (¬1). والذي يبدو لي أن لكل تعبير معنى، وليس من حكمة العربية أن تجعل تعبيرات مختلفة ذات دلالة على معنى متحد. أما البناء فهو كما قال النحاة إن الصفة والموصوف أصبحتا كالكلمة الواحدة، وقد وقع النفي عليهما معا، فالمنفي في قولنا (لا رجل ظريف) كما يقول الرضي هو الظرافة لا الرجل فكأنه (لا) دخلت عليه فكأنك قلت: لا ظريف. فالنفي هو الاستغراق الرجل المتصف بهذه الصفة لا للرجل على وجه العموم، فكأنه قال: لا من رجل لا من ظريف. وأما النصب - فيما أرى - فعلى تقدير فعل محذوف، فإن قلت: (لا رجلَ ظريفا) كان التقدير: لا رجل أعني ظريفا. أي نفيت جنس الرجال على وجه العموم أولا، ثم بدا لك أن تبين للمخاطب أن ذلك ليس على وجه العموم، فاستأنفت أخبارا ثانيا فقلت (أعني ظريفا). وجملة (أعني) استئنافية لا محل لها من الاعراب، وهو نظير ما قال الخليل في قولهم (يا زيد الطويل) بالنصب. جاء في (الكتاب): " قلت: أرأيت قولهم يا زيد الطويل علام نصبوا (الطويل) قال: نصب لأنه صفة لمنصوب، وقال: وإن شئت كان نصبا على (أعني) " (¬2). وأما الرفع فعلى القطع وتقدير مبتدأ محذوف فقولك (لا رجلَ ظريف) تقديره (هو ظريف) والجملة استئنافية أيضا. جاء في (حاشية الصبان) في قولهم. لا غلام سفر ماهرٌ فيها: " قوله ماهرٌ فيها بالرفع على القطع، قيل أو بالعطف على محل (لا) مع اسمها" (¬3). ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 286 (¬2) سيبويه 1/ 303 (¬3) حاشية الصبان 2/ 13

لا جرم

وقد تسأل: وهل ثمة فرق في المعنى بين رفع ونصب الصفة؟ وأظن الجواب قد اتضح فإن الرفع على تقدير أن النعت جزء من جملة إسمية (هو ظريف)، والنصب على تقدير أنه جزء من جملة فعلية (أعني ظريفا) ونحن نعلم إن الاسم أثبت وأقوى من الفعل لأن الفعل يدل على الحدوث والتجدد، والاسم يدل على الثبوت فقولك (محمد حافظ) أقوى وأثبت من (يحفظ محمد) و (سعيد مجتهد) أثبت من (يجتهد سعيد). فتبين من هذا إن البناء على تقدير من الاستغراقية، وإن النعت المبني جزء من الجملة المنفية بخلاف المرفوع والمنصوب، فإنهما أخبار ثان وهما جزء من جملة مستأنفة غير الجملة المنفية الأولى. لا جرم: الجرم القطع، وجرمه يجرمه جرما قطعه، ولا جرم قيل معناه لابد ولا محالة وقيل معناه حقا (¬1)، وقيل غير ذلك. فقد ذهب سيبويه إلى أن (لا) صلة أي زائدة و (جرم) فعل ماض جاء في (الكتاب): " وأما قوله عز وجل {لا جرم أن لهم النار} [النحل: 62] فإن (جرم) عملت فيها لأنها فعل ومعناها: لقد حق أن لهم النار ولقد استحق أن لهم النار. وقول المفسرين معناها حقا إن لهم النار يدلك أنها بمنزلة هذا الفعل إذا مثلت. فجرم قد عملت في (أن) عملها في قول الفزاري: ولقد ظعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أي أحقت فزارة" (¬2). وذهب الخليل إلى أن (لا) رد لما قبلها من الكلام و (جرم) فعل ماض. ¬

_ (¬1) لسان العرب جرم (¬2) سيبويه 1/ 469

جاء في (الكتاب): " فزعم الخليل أن لا جرم إنما تكون جوابا لما قبلها من الكلام، يقول الرجل: كان كذا وكذا وفعلوا كذا وكذا فتقول: لا جرم أنهم سيندمون وأنه سيكون كذا وكذا" (¬1). وجاء في (لسان العرب): " وقال غير الفراء: حقيقة معنى (لا جرم) أن (لا) نفي ههنا لما ظنوا أنه ينفعهم فرد عليهم فقيل: لا ينفعهم ذلك، ثم ابتدأ فقال: جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون أي كسب ذلك العمل لهم الخسران" (¬2). وعند الفراء أنها بمعنى لابد ولا محالة ثم كثر استعمال العرب إياها حتى صارت بمعنى حقا. جاء في (معاني القرآن): " لا جرم أنهم: كلمة كانت في الأصل بمنزلة (لابد أنك قائم) و (لا محالة أنك ذاهب) فجرت على ذلك وكثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة حقا، ألا ترى أن العرب تقول: لا جرم لآتينك، لا جرم قد احسنت، وكذلك فسرها المفسرون بمعنى الحق" (¬3). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): "وقال الفراء هي أي (لا جرم) كلمة كانت في الأصل بمعنى لابد ولا محالة لأنه يروى عن العرب لا جُرْم والفَعْل والفَعَل يشتركان في أل مصادر كالرُّشد والرَشَد والبُخْل والبَخَل. والجَرْم القطع أي لا قطع من هذا كما أن (لا بد) بمعنى (لا قطع) فكثرت وجرت على ذلك، حتى صارت بمعنى القسم للتأكيد الذي فيها فلذلك تجاب بما يجاب به القسم، فيقال لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحست ولا جرم إنك قائم، فمن فتح فللنظر إلى أصل (لا جرم) كما تقول: لا بد أن تفعل كذا، ولا محالة أنك تفعل كذا أي من أن تفعل، ومَنْ كسر فلمعنى القسم العارض في لا جرم" (¬4). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 469 (¬2) لسان العرب /جرم (¬3) معاني القرآن للفراء 2/ 389 (¬4) الرضي على الكافية 2/ 389

ومن الصعب البت بترجيح أحد الأقوال على ما عداه، غير أن الذي تميل إليه نفسي ترجيح قول الفراء لأكثر من سبب من ذلك: 1 - ما ذكره النحاه من أن همزة (أن) بعد لا جرم يجوز فيها الفتح والكسر (¬1). تقول: (لا جرم أنه سيعود) و (لا جرم أنه سيعود) والفتح أشهر، فلو كانت فعلا لامتنع الكسر لأن الفعل يبقى عند ذاك بلا فاعل. وقيل أن الفتح والكسر لغتان جاء في (الهمع): وبعض العرب أجرها مجرى اليمين فكسر (أن) بعدها" (¬2)، وعلى أية حال فإنه يستأنس باللغة الثانية على ما ذكرناه. 2 - ما روي عن العرب من أنهم يقولون أيضا (لا جُرْم) بالضم (¬3)، والجُرْم مصدر فيستدل من هذا أن الجَرَم مصدر أيضا. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " يروي عن العرب لا جرم والفعل والفعل يشتركان في المصادر كالرُّشْد، والرشَد، والبُخْل، والبَخَل (¬4). ويضعفه أن العرب تقول أيضا (لا جَرُم) ككرُم، مما يقوي فعليتها، غير أن صاحب التاج عد هذا مصدرا أيضا فقال: " ويقال أيضا لا جرُم ككرم، ولا جرم بالضم كل ذلك أي لابد أو معناه حقا أو لا محالة، أو هذا أصله ثم كثر استعمالهم إياه حتى تحول إلى معنى القسم" (¬5). 3 - ما ورد عن العرب أنْ (لا جرم) تنزل منزلة اليمين فتقول: لا جرم لآتينك، لا جرم قد أحسنت " وفي حديث قيس بن عاصم: لا جرم لأفلن حدها" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر الرضي على الكافية 2/ 389، شرح الأشموني 1/ 379 (¬2) همع الهوامع 1/ 138 (¬3) تاج العروس جرم / 8/ 325 (¬4) الرضي على الكافية 2/ 389 (¬5) تاج العروس /جرم / 8/ 325 (¬6) لسان العرب / جرم / وانظر معاني القرآن للفراء 2/ 8

لا سيما

4 - ما ذكره قسم من اللغويين والمفسرين أن معناها حقا (¬1). 5 - لا أرى في نفسي اطمئنانا إلى أن (لا) زائدة في (لا جرم) وبخاصة إنه يمكن حملها على غير الزائدة، وذلك إذا جعلت نافية للجنس. ولذلك وغيره أراني أميل إلى ما رآه الفراء، والله أعلم. لا سيما: سي اسم بمعنى (مثل) يقال: هو سيك أي مثلك: وهو ليس لك بسي، أي هو ليس نظيرا لك، ويقولون: (لا سي لمن فعل ذلك) (¬2) أي لا مثل له. و(لا سيما) تعبير معناه (لا مثل) فقولك (أحب أصدقائي ولا سيما محمد) معناه (ولا مثل محمد) أي أن محبتك له تفوق محبتك لأصدقائك الآخرين، جاء في (كتاب سيبويه): " وسألت الخليل عن قول العرب (ولا سيما زيد) فزعم أنه مثل قولك (ولا مثل زيد) و (ما) لغو" (¬3). ومن هذا يتبين أن (لا سيما) تعبير يراد به أن ما بعده منبه على أولويته بالحكم، فقولك (أحب العلماء ولا سيما العاملين) معناه أن العاملين من العلماء أولى بمحبتك من تقدمهم جاء في (التسهيل): " والمذكور بعد لا سيما منبه على أولويته بالحكم" (¬4). وجاء في (تاج العروس) أن (لا) و (سيما) " تركبا وصارا كالكلمة الواحدة وتساق لترجيح ما بعدها على ما قبلها، فيكون كالمخرج عن مساواته إلى التفضيل" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 469، معاني القرآن 2/ 8، لسان العرب/ جرم (¬2) لسان العرب / سي (¬3) سيبويه 1/ 350 (¬4) التسهيل 107، وانظر الرضي على الكافية 1/ 270 (¬5) تاج العروس 10/ 188

وقد يقع بعدها الشرط والظرف وغيرهما فتكون بمعنى خصوصا (¬1) تقول: (أن فلانا كريم ولا سيما أن أتيته صبحا) أي وخصوصا أن أتيته صبحا. ويقال (تستحب الصدقة في شهر رمضان ولا سيما في العشر الأواخر) أي وخصوصا في العشر الأواخر. وهذا المعنى لا يختلف عن المعنى الذي ذكرناه لها آنفا، فإن معناها البتة تخصيص ما بعدها بالأولوية فقولك (أحب أصدقائي ولا سيما محمد) معناه وخصوصا محمدًا. غير إن الذي دعا النحاة إلى ذكر هذا المعنى، إنهم لم يروا أحيانا اسما بعدها منبها على أولويته فذكروا لها هذا المعنى. فإنه لا يستقيم أن يقولوا في نحو (أحب الشعر ولا سيما إن كان رقيقا) أن المعنى (ولا مثل إن كان رقيقا) فقالوا إن معناه: وخصوصا إن كان رقيقا، بل أعربوها كذلك. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وقد يحذف ما بعد لا سيما على جعله بمعنى خصوصا فيكون منصوب المحل على أنه مفعول مطلق" (¬2). وذكر أن لا سيما باق "على نصبه الذي كان له في الأصل حين كان اسم، لا التبرئة مع كونه منصوب المحل على المصدر لقيامه مقام خصوصا" (¬3). وذكر بعضهم إن " في قولهم (أن فلانا كريم لا سيما إن أتيته قاعدا) ما ههنا عوضا عن المضاف إليه، أي ولا مثله إن أتيته قاعدا" (¬4)، وقيل أيضا إن (ما) كافة عن الإضافة (¬5). وأرى إن عد (ما) كافة عن الإضافة أولى، لأن ذلك لا يخرج لا سيما عن حقيقتها اللغوية، والمعنوية، بخلاف أعرابها مفعولا مطلقا فإن فيه بعدا إعرابيا حيث واقع (لا) مع اسمها مفعولا مطلقا. ¬

_ (¬1) انظر: الرضي على الكافية 1/ 271 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 271 (¬3) الرضي على الكافية 1/ 271 (¬4) الرضي على الكافية 1/ 271، وانظر لسان العرب / سيّ (¬5) انظر: الهمع 1/ 234

وذهب بعض النحاة إلى أن (لا سيما) كلمة يستثنى بها (¬1). والصحيح أنها لا يستثني بها، لأن ما بعدها داخل في حكم ما قبلها بل هو أولى مما قبله بالدخول. جاء في (الهمع): " والصحيح انها لا تعد من أدوات الاستثناء لأنه مشارك لهم في القيام [يعني: في قام القوم لا سيما زيد]، وليس تأكيد القيام في حقه يخرجه عن أن يكون قائما. ومما يبطل ذلك دخول الواو عليها وعدم صلاحية (إلا) مكانها بخلاف سائر الأدوات، فالمذكور بعدها ليس مستثني بل منبه على أولويته بالحكم المنسوب لما قبلها (¬2). أن (لا سيما) كما هو ظاهر قول النحاة جملة مؤلفة من لا واسمها وخبرها محذوف يقدره النحاة (موجود) (¬3)، غير أنها لا تستقل بالاستعمال، فلا يقال (لا سيما خالد) مع أن المعنى مكتل، وهو (لا مثل خالد)، وسبب ذلك أنها - كما ذكرنا - تستعمل لبيان أولوية ما بعدها على ما قبلها، ولذلك لا تستقل بالكلام. ويأتي بعدها الاسم مجرورا، أو مرفوعا، كما ذكر سيبويه تقول " أحب العلماء ولا سيما محمودٍ أو لا سيما محمودٌ". فالجر على ان (ما) زائدة مؤكدة ومحمود مضاف إليه، فهي مزيدة بين المضاف والمضاف إليه، كما زيدت في قوله تعالى {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على} [القصص: 28] (¬4)، وقولهم: (غضبت من غير ما جرمٍ). وذكر سيبويه أن زيادتها لازمة، لا يجوز حذفها إذ قد يكون الشيء زائدًا لازما قال: " ومثل ذلك: ولا سيما زيدٍ فرب توكيد لازمٌ حتى يصير كأنه من الكلمة" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ابن يعيش 2/ 285، الهمع 1/ 234 (¬2) الهمع 1/ 234 (¬3) الرضي على الكافية 1/ 271، حاشية الخضري 1/ 81 (¬4) المغنى 1/ 40، الهمع 1/ 234، سيبويه 1/ 350 (¬5) سيبويه 1/ 298

وذكر غيره انها ليست لازمة جاء في (الهمع): "وزيادة (ما) بين المضافين مسموعة ويجوز حذفها نحو (لا سي زيد) نص عليه سيبويه، وزعم ابن هشام الخضراوي أنها زائدة لازمة لا تحذف وليس كما قال" (¬1). والصواب: ما أثبتناه فإن سيبويه نص على أنها لازمة. والرفع على أن (ما) موصولة أو نكرة موصوفة والتقدير: ولا مثل الذي هو محمود أولا، مثل شخص هو محمود، ويضعفه إطلاق (ما) من يعقل، وحذف العائد المرفوع وجوبًا مع عدم الطول (¬2) فإنه لا يقال. ولا سي من محمود. والفرق بين معنى الرفع والجر، أن معنى الجر في قولك (أحب العلماء ولا سيما محمود): أحب العلماء ولا مثل محمود (وما) زائدة تفيد التوكيد. وإذا جاز حذفها كما ذكر بعض النحاة فإن التعبير بـ (ما) آكد لأن الأحرف الزائدة غالبا ما يؤتى بها للتوكيد، وقد ذكر ذلك سيبويه فإنه عدها زائدة مؤكدة، قال: " ومثل ذلك (ولا سيما زيد) فرب توكيد لازم حتى يصير كأنه من الكلمة". وأما الرفع فإنه أقوي من الجر كما هو ظاهر قول النحاة وكما هو ظاهر كلام الخليل جاء في (الكتاب): " وسألت الخليل عن قرب العرب (ولا سيما زيد) فزعم أنه مثل قولك (ولا مثل زيد) و (ما) لغو. وقال: ولا سيما زيدٌ كقولهم: دع ما زيدٌ (¬3) ". وأنت ترى الفرق واضحا بين الجر والرفع، ففي قوله (دع ما زيد) من الأولوية والتفضيل والترجيح ما ليس في الإضافة المباشرة. وهذا ظاهر كلام النحاة أيضا سواء قدرة (ما) اسما موصولا أم نكرة موصوفة، فإن فيها من الإيضاح بعد الإبهام ما ليس في الإضافة فإن قولك (ولا سيما محمودٌ) معناه كما يقول النحاة: (ولا مثل الذي هو محمود) فهذا إيضاحٌ بعد الإبهام بخلاف ما لو قلت: ولا مثل محمود. فدل ذلك على أن الرفع أقوى في الترجيح والتنبيه على أولويته من الجر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 234 (¬2) المغني 1/ 140، الأشموني 2/ 167 (¬3) سيبويه 1/ 298

ظن وأخواتها

ظن وأخواتها تدخل ظن وأخواتها على المبتدأ والخبر فتنصبهما مفعولين - كما هو رأي الجمهور - تقول: ظننت عليا أخاك، جاء في (الكتاب): " هذا باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحد المفعولين دون الآخر، وذلك قولك: حسب عبد الله زيدًا بكرا وظن عمرو خالدا أباك، وخال عبد الله زيدا أخاك ومثل ذلك، رأى عبد الله زيدا صاحبنا ووجد عبد الله زيدا ذا الحفاظ، وإنما منعك أن تقتصر على أحد المفعولين ها هنا إنك إنما أردت أن تبين ما استقر عندك من حال المفعول الأول يقينا كان أو شكا، وذكرت الأول لتعلم الذي تضيف إليه ما استقر له عندك من هو قانما ذكرت ظننت ونحوه لتجعل خبر المفعول الأول يقينا أو شكا، ولم ترد أن تجعل الأول فيه الشك أو تعتمد عليه بالتيقن (¬1) ". وجاء في (شرح الألفية) لابن الناظم: " من الأفعال أفعال واقعة معانيها على مضمون الجمل، فتدخل على المبتدأ والخبر بعد أخذها الفاعل فتنصبها مفعولين" (¬2). وقيل أن المنصوب الثاني حال ويرده قولك (حسب عبد الله زيدا بكرا) إذ لا يمكن أن يكون (بكرا) حالا كما هو ظاهر. ويقسم النحاة هذه الأفعال على قسمين: 1 - أفعال القلوب نحو علم وظن وحسب. 2 - افعال التحويل أو التصيير نحو جعل واتخذ وترك. ¬

_ (¬1) سيبويه: 1/ 18 (¬2) ابن الناظم 78

أفعال القلوب

أفعال القلوب إن أفعال القلوب سميت كذلك لأنها أفعال قلبية باطنة لا ظاهرة حسية مثل ضرب وأكل ومشى. وهذه الأفعال منها ما هو لازم كقولك: جَبُن خالد وفرح ورغب، ومنها ما هو متعد وهو قسمان: منها ما يتعدى إلى واحد نحو كرهت خالدا وخفت الله، ومنها ما يتعدى إلى مفعولين (¬1)، وهذا القسم هو المقصود في هذا الباب. اختصت أفعال القلوب: " بجوار أعمالها في ضميرين متصلين لمسمى واحد فاعلا والآخر مفعولا نحو ظننتني .. الحق بأفعال هذا الباب في ذلك رأي البصرية والحلمية بكثرة، وعدم، وفقد، ووجد بقلة، كقول الشاعر: ولقد أراني للرماح دريئة وقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36]. وحكى الفراء: " عدمتني، وفقدتني، ووجدتني، وذلك على سبيل المجاز لا الحقيقة" (¬2)، ولا يقال: " ضربتني اتفاقا، لئلا يكون الفاعل مفعولا، بل ضرت نفسي وظلمت نفسي ليتغاير اللفظان" (¬3). وقد قسم النحاة هذه الأفعال على قسمين: 1 - أفعال دالة على اليقين، نحو علم، ورأي، ووجد، ودرى. 2 - أفعال دالة على الرجحان، نحو ظن، وخال، وحسب، وزعم (¬4). وقد صنفت تصنيفا آخر لا يختلف عما ذكرت (¬5). ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 150 (¬2) الهمع 1/ 156، ابن يعيش: 7/ 88 - 89 (¬3) حاشية الخضري: 1/ 151 (¬4) ابن عقيل: 1/ 148 (¬5) انظر الأشموني: 2/ 24، حاشية الخضري 1/ 148

1 - أفعال اليقين

معانيها 1 - أفعال اليقين. علم: وهو فعل يفيد اليقين، نحو قوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} [الأنفال: 66]، وكقولك: (علمت محمدا مسافرا). وقيل تأتي للرجحان قليلا، كقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن} [الممتحنة: 10]، لأنه لا سبيل إلى اليقين، فهي هنا بمعنى ظن (¬1). والحق أنها للعلم لا للظن، فهناك فرق بين الظن والعلم، فقولك (ظننته مؤمنا) يختلف عن قولك (علمته مؤمنا) فإن الظن قد يكون بورود الأمر على الخاطر، وقد يكون بلا سبب يرجحه أو يكون السبب ضعيفا، بخلاف العلم، فإنه يكون بعد التثبت والاطلاع، ولذا جاء هذا القول بعد قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10]. علم وعرف: يقول النحاة إنه إذا جاءت علم بمعنى عرف، تعدت إلى مفعول واحد جاء في (الكتاب): "وقد يكون علمت بمنزلة عرفت، لا تريد إلا علم الأول، فمن ذلك قوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} " [البقرة: 65]، وقال سبحانه: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال: 60]، فهي ههنا بمنزلة عرفت (¬2). ¬

_ (¬1) الأشموني 2/ 20، التصريح 1/ 248، حاشية الخضري 1/ 148 (¬2) سيبويه: 1/ 18، المتقضب 3/ 189، اسرار العربية 157، ابن عقيل: 1/ 153

وقال ابن الناظم: " فإنها - أي علم - تكون لإدراك مضمون الجملة، فتنصب مفعولين وتكون لإدراك المفرد وهو العرفان، فتنصب مفعولا واحدًا كما تنصبه عرف .. قال (¬1): {لا تعلمهم نحن نعلمهم} [التوبة: 101]. وقد تقول: وهل هناك فرق في المعنى بين علم وعرف؟ والجواب أن النحاة اختلفوا في ذلك، فقد ذهب بعضهم إلى أنه لا فرق بينهما. قال الرضي: " ولا يتوهم أن بين علمت وعرفت فرقا معنويا كما قال بعضهم، فإن معنى (علمت أن زيدًا قائمًا) و (عرفت أن زيدًا قائم) واحد، إلا أن (عرف) لا ينصب جزءي الإسمية كما ينصب (علم)، لا لفرق معنوي بينهما بل هو موكول إلى اختيار العرب، فإنهم قد يخصون أحد المتساويين في المعنى، بحكم لفظي دون الآخر (¬2). وقيل إن بينهما فرقا في العلم يتعلق بالصفات والمعرفة بالذوات. جاء في (منثور الفوائد): (علمت) إذا كانت بمعنى (عرفت) تعدت إلى مفعول واحد، وإذا كانت لغير ذلك تعدت إلى مفعولين، وبيان ذلك أنك إذا قلت (عرفت زيدًا) فالمعنى إنك عرفت ذاته، ولم ترد أنك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا المعنى لم يتجاوز مفعولا لأن العلم والمعرفة تناولا الشيء نفسه ولم يقصد غير ذلك. وإذا قلت: علمت زيدًا قائمًا لم يكن المقصود أن العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصفة (¬3). وجاء في (حاشية الخضري) أن العلم " يتعلق بصفة الشيء وحكمه وبالكليات، والمعرفة بالجزئيات وبالذات فمعنى علمت زيدًا قائمًا علمت اتصافه بالقيام، ومعنى. (عرفته) عرفت ذاته" (¬4). وجاء في _ (حاشية الصبان): " فمعنى (علمت أن زيدًا قائم) علمت اتصاف زيد بالقيام لا علمت حقيقة القيام المضاف إلى زيد في نفسه ومعنى ¬

_ (¬1) ابن الناظم 89 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 307 (¬3) منثور الفوائد (2 ب) (¬4) حاشية الخضري 1/ 153

درى

(عرفت أن زيدًا قائم) عرفت القيام في نفسه لا اتصاف زيد به. وبين المعنيين فرق ظاهر (¬1). والصحيح أن بينهما فرقا كما قال أكثر النحاة، فإن العلم يتعلق بالصفات، والمعرفة تتعلق بالذوات، فهناك فرق بين قولك (علمت خالدا طالبا)، و (عرفت خالدا طالبا) فإن معنى الأولى علمت اتصاف خالد بصفة الطالبية أما عبارة (عرفت خالدا طالبا) فمعناها عرفت خالدا وهو طالب أي عرفت حين كان طالبا والفرق بينهما ظاهر. وقد تقول: وهل تأتي (علم) بمعنى (عرف)؟ وهل قوله تعالى (لا تعلمهم) معناه: لا تعرفهم؟ الذي يبدو أن المعنى مختلف. فقولك (لا تعرفهم) معناه لا تعرف ذواتهم، وأعيانهم أما قوله (لا تعلمهم)، فمعناه لا تعلم اتصافهم بهذه الخصلة، وهو قد يعرف ذواتهم وأشخاصهم. وكذلك قوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} [البقرة: 65]، فليس معناه (عرفتم) لأنهم لا يعرفونهم، وبينهم القرون المتطاولة، ولكن معناه أنكم علمتم أمرهم وحالهم، وفرق بين المعنيين. درى: يستعمل (دري) بمعنى (علم) (¬2) قال تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9]، وأكثر ما يستعمل دري معدي بالباء، نحو (دريت بخالد) فإن دخلت عليه الهمزة تعدي لآخر بنفسه، كما في قوله تعالى: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به} [يونس: 16] (¬3). قال أبو حيان: ولم يعد أصحابنا: (درى) فيما يتعدى إلى مفعولين (¬4) وقد ورد هذا ¬

_ (¬1) حاشية الصبان: 2/ 23 (¬2) الرضي على الكافية: 2/ 307، الأشموني 2/ 23 (¬3) حاشية الخضري 1/ 149، الأشموني 2/ 23، الهمع 1/ 149، حاشية الصبان 2/ 23، ابن الناظم 78 (¬4) حاشية الخضري 1/ 149، وانظر الأشموني 2/ 23

الفعل في القرآن الكريم في اثنى عشر موطنا ولم ينصب مفعولا، وقد ورد في المواطن كلها معلقا كقوله تعالى: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} [الأنبياء: 109]، وقوله: {ولم أدر ما حسابيه} [الحاقة: 26]، إلا في موطن واحد يحتمل التعليق وغيره، وذلك قوله تعالى {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} والراجح أنه معلق. وقد تقول ما الفرق بين علم ودري؟ جاء في (تاج العروس) إنه قيل: " إن الدراية أخص من العلم كما في التوشيح وغيره. وقيل أن (دري) يكون فيما سبقه شك قال أبو علي، أو علمته بضرب من الحيلة ولذا لا يطلق على الله تعالى (¬1). والذي أراه أن الدراية تكون بعد الجهل بالشيء ولذا لا تستعمل في حق الله تعالى: (وعلم) أعم من ذلك، فقد يستعمل في ذلك غيره. ومما يدل على اختلافهما أنه لا يجوز وضع أحدهما مكان الآخر، وذلك نحو قوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10]، فإنه لا يصح أن يقال (فإن دريتموهن مؤمنات)، وقوله: {وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون} [البقرة: 230]، وقوله {واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة: 194]، وقوله {واعلموا أن فيكم رسول الله} [الحجرات: 7]، فأنت ترى أنه لا يحسن إبدال فعل الدراية بفعل العلم في مثل هذه المواطن مما يدل على أن الفعلين مختلفان. فالدراية كما ذكرنا تكون بعد الجهل، وفي الغالب تكون بإخبار، أو بما هو بمنزلة الأخبار كأن تعلم الأمر بضرب من الحيلة والتوسل، وذلك كأن يفعل شخص أمورا لا تعلمها ثم تحاول الإطلاع عليها بوسيلة ما، فتطلع على ذلك فتقول: قد دريت بما يفعل فلان. ¬

_ (¬1) تاج العروس (درى) 10/ 126

تعلم

تعلم: وهو بمعنى (أعلم) وليس أمرا للفعل (تعلم) الذي منه تعلمت النحو والفقه مثاله: تعلم شفاء النفس قهر عدوها ... فبالغ بلطف في التحيل والمكر وهو فعل لا يتصرف (¬1). أما (تعلم) في نحو: تعلم ما ينفعك فهو متصرف، وهناك فرق بين الفعلين، فعندما تقول (تعلم النحو) يكون المعنى خذ بأسباب العلم من الدرس والتحصيل. وتقول: تعلم أن الله يمهل الظالم ولا يهمله، ومعناه: اعلم ذلك. وليس المقصود به ما في الفعل الأول. جاء في (حاشية الخضري) في الفرق بين الفعلين أن الذي في نحو: تعلم الفقه " أمر بتحصيل العلم في المستقبل بتعاطي اسبابه، والأولى أمر بتحصيله في الحال بما يذكر من المتعلقات. والكثير المشهور دخولها علة أن وصلتها فتسد مسد مفعوليها كقوله: فقلت تعلم أن للصيد غرة ... والإتضيعها فإنك خاتلة وفي حديث الدجال: تعلموا أن ربكم ليس بأعور" (¬2). وقيل ورد الفعل الماضي لتعلم " قال يعقوب: تعلمت أن زيدًا خارج، بمعنى علمت" (¬3). ويظهر أن بين (تعلم) و (اعلم) فرقا، فإن المقصود بقولك: (تعلم) تلق ما أخبرك به كما يتلقى المتعلم العلم عن استاذه واحرص على معرفته كما يحرص المتعلم على ما يتعلمه، ففي هذا الفعل مبالغة ليست في (إعلم). ¬

_ (¬1) ابن عقيل: 1/ 148 - 149، ابن الناظم 78، الرضي على الكافية 2/ 307 (¬2) حاشية الخضري 1/ 149، الأشموني 2/ 24، حاشية الصبان 2/ 24، التصريح 1/ 247 (¬3) التصريح 1/ 247، الهمع 1/ 149

وجد

وجد: وهو من أفعال اليقين بمعنى (علم) قال تعالى: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} [الأعراف: 102]، وهذا الفعل منقول من وجد الشيء ولقيه وأصله في الأمور الحسية، ثم نقل معناه إلى الأمور القلبية فعندما تقول: (وجدت الظلم وخيم العاقبة) كان معناه أنك وجدت هذا الأمر وأصبته كما تصاب الأمور المحسوسة ليس في ذلك شك، فنقل من هذا المعنى المادي إلى الأمر المعنوي، ولما كان وجدان الشيء ولقيه أمرا يقينا، كان الأمر العقلي بمنزلته. جاء في (التصريح): "وإنما ساغ مجيء وجد للعلم، لأن من وجد الشيء على حقيقته فقد علمه" (¬1). رأى: وهو من أفعال اليقين أيضا بعنى (علم) (¬2) نحو: (رأيت الحق منتصرًا) فإن كان الفعل بصريا لا قلبيا تعدي إلى واحد نحو (رأيت سعيدًا). ورأي الحلمية كالقلبية تتعدي إلى اثنين كقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36]، وهذا الفعل منقول من الرؤية البصرية فأنت إذا رأيت شيئا فقد تيقنت منه وعلمته، ثم نقل من هذا المعنى إلى الأمور القلبية فإذا قلت مثلا: (رأيت الباطل زهوقا) كان المعني كأنك رأيت هذا الأمر بعينك، فكما أنه ليس في الرؤية العينية شك، كان هذا بمنزلته. ويقول النحاة أنه يأتي بمعنى (ظن) أيضا، وجعلوا منه قوله تعالى {إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبا} [المعارج: 6 - 7]، أي إنهم يظنون البعث بعيدًا أي ممتنعًا (¬3). ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 247 (¬2) ابن عقيل 1/ 148، الأشموني 2/ 19، حاشية الخضري 1/ 148 (¬3) الصبان 2/ 19 - 20، ابن الناظم 79

أرى

والصواب: أنها بمعناها فمعنى أنهم يرون البعث بعيدًا أنهم يرونه كذا في اعتقادهم. والإنسان قد يعتقد رأيا ضالا ويرى إنه عين الصواب. ويدافع عنه ويموت في سبيله، فهم يرونه ممتنعا في حقيقته أولا. جاء في (شرح الرضي على الكافية) أن رأي " للاعتقاد الجازم في شيء أنه على صفة معينة سواء كان مطابقا أولا. فإذا كان بالمعنى المذكور وليته الاسمية المجردة عن (إن) نصب جزءيها نحو (رأيت زيدا غنيا) سواء كان في نفس الأمر غنيا أو لا، قال تعالى {يرونه بعيدا} وهو غير مطابق، و (نراه قريبا) وهو مطابق" (¬1). أرى: وقد استعمل (أرى) مبنيا للمجهول بمعنى الظن، كما يقول النحاة، ولم يستعمل بمعنى العلم (¬2) كأن تقول: أرى الأمر مضاعا. والذي يبدو لي أنها بمعناها وأنها مبنية للمجهول، وأن الفرق بين قولك (أرى الأمر مضاعا) بالبناء للمعلوم وقولك (أرى الأمر مضاعا) بالبناء للمجهول، إن المبني للمعلوم أنك ترى هذا الأمر بنفسك، وإن هذا الأمر بمنزلة ما تراه بعينك. أما قولك (أرى الأمر مضاعا) فكأن هناك من يريد هذا الأمر، ولست تراه، أي لم تتبينه تبين الأمر الأول، ومن هنا جاء معنى الظن الذي يذكره النحاة. ألم تر؟ تستعمل العرب هذا التعبير بمعنيين: أحدهما هو السؤال عن الرؤية البصرية أو القلبية كأن تقول: ألم تر خالدا اليوم؟ أو تقول: ألم تر الأمر كما رأيته؟ والآخر بمعنى: (ألم تعلم) و (ألم ينته علمك) وهي كلمة تقولها العرب عند التعجيب قال تعالى: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله} [النحل: 79]، وقال: {أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} [الشعراء: 7]. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 307 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 307، حاشية الصبان 2/ 19، حاشية التصريح 1/ 248

فهناك فرق بين القول (ألم يروا الطير مسخرات) و (ألم يروا إلى الطير مسخرات) فالرؤية الأولى رؤية بصرية، والثانية نظر عقلي وتفكري، أي ألم تر، فتمتد بك الرؤية إلى ما ذكرت لك من الأحوال، فتعجب من هذا الصنع الخلاق؟ ونحو قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة} [النساء: 77]، أي ألم تعجب من حالهم؟ فهناك فرق بين قولك (ألم تر الذين قيل لهم) وهذا القول. فالأولى رؤية بصرية، والثانية نظر تفكري، ودعوة إلى العجب من أمرهم، ونحوه قوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} [الفرقان: 45]، وقوله: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} [الفجر: 6]. جاء في (شرح الرضي على الكافية): "وقوله: {ألم تر إلى الذين خرجوا} [البقرة: 243]، متضمن معنى الإنتهاء أي ألم ينته علمك إلى حالهم؟ " (¬1). وجاء في (لسان العرب): " وقوله عز وجل: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيب من الكتاب يدعون إلى كتاب} [آل عمران: 23]، قيل معناه: ألم تعلم؟ أي لم ينته علمك إلى هؤلاء؟ ومعناه: أعرفهم .. وقال بعضهم: (ألم تر) ألم تخبر، وتأويله سؤال فيه إعلام، وتأويله أعلن قصتهم، وقد تكرر في الحديث: ألم تر إلى فلان وألم تر إلى كذا، وهي كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء، وعند تنبيه المخاطب كقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم} {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} [آل عمران: 23]، أي لم تعجب لفعلهم وألم ينته شأنهم إليك (¬2). وجاء في (البرهان): " وأما قوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} فدخلها معنى التعجب كأنه قيل: الم تعجب إلى كذا، فتعدت بإلى كأنه لم تنظر، ودخلت (إلى) بمعنى العجب، وعلق الفعل على جملة الاستفهام" (¬3). ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 307 (¬2) لسان العرب / رأى 19/ 12 (¬3) البرهان 4/ 151

أرأيت

أرأيت: لهذا التعبير معنيان: الأول أن تسأل عن الرؤية البصرية أو القلبية، كأن تقول: أرأيت سعيدًا اليوم؟ أو تقول: أرأيت الأمر كما أخبرتك؟ والثاني: أن يكون بمعنى (أخبرني)، وذلك نحو قوله تعالى {قل أريئتم إن اخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به} [الأنعام: 46]، وقوله: {قال يقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} [هود: 28]. ومعنى هذا الفعل منقول من الرؤية إلى معنى الأخبار، فقولك مثلا: أرأيت إن أصبحت أميرًا ماذا أنت فاعل؟ معناه: أنظرت في هذا الأمر؟ فأنت تستخيره عما سألته عنه. جاء في (شرح الرضي على الكافية): "وأما قولهم: (أرأيت زيدًا ما صنع) بمعنى (أخبرني) فليس من هذا الباب حتى يجوز الرفع في زيد بل النصب واجب فيه. ومعنى (أرأيت) أخبر، وهو منقول من (رأيت) بمعنى (أبصرت) أو (عرفت)، كأنه قيل: أأبصرته وشاهدت حاله العجيبة، أو أعرفتها أخبرني عنها، فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة. وقد يؤتى بعده بالمنصوب الذي كان مفعولا به لرأيت نحو. أرأيت سعيدًا ما صنع. وقد يحذف نحو: {أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله} (¬1) [الأنعام: 40]. " ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 312، البرهان 4/ 150

أرأيتك

أرأيتك: وقد يؤتى بالكاف بعد التاء، فيقال: أرأيتك، ولهذا الفعل معنيان واستعمالان: أحدهما: " أن يسأل الرجلُ الرجلَ، أرأيت زيدًا بعينك، فههذ مهموزة، فإذا أوقعتها على على الرجل منه قلت: أرأيتك على غير هذه الحال، يريد هل رأيت نفسك على غير هذه الحالة، ثم تثني، وتجمع، فتقول لرجلين أرأيتكما، وللقوم أرأيتموكم، وللنون أرأيتن كن، وللمرأة أرأيتك بخفض التاء، ولا يجوز إلا ذلك (¬1). والمعنى الآخر أن يكون بمعنى (أخبرني)، كما مر في (أرأيت) إلا أنه زيدت الكاف عليها لتوكيد الخطاب، والكاف هنا حرف يتصرف على حسب المخاطب، أما التاء فتبقي على حالها مفردة مفتوحة تقول: أرأيتك يا سعيد، ؟ أرأيتكما يا طالبان؟ ارأيتكم يا طلاب؟ أرأيتك يا طالبة؟ قال تعالى: {قل أريتكم إن أتاكم عذاب الله} [الأنعام: 40]. جاء في (لسان العرب): " والمعنى الآخر أن تقول (أرأيتك) وأنت تقول: أخبرني فتهمزها وتنصب التاء منها، وتترك الهمز إن شئت وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء موحدة مفتوحة للواحد، والواحدة، والجميع في مؤنثه ومذكره فتقول للمراة: أرأيتك زيدا هل خرج؟ وللنسوة أرأيتكن زيدا ما فعل؟ وإنما تركت العرب التاء واحدة، لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعًا. قال: ونحو ذلك قال الزجاج في جميع ما قال. قم قال: واختلف النحويوين في هذه الكاف التي في أرأيتكم .. والذي يذهب إليه النحويون في هذه الكاف التي في أرأيتكم .. والذي يذهب إليه النحويون الموثوق بعلمهم، أن الكاف لا موضع لها، وإنما المعنى أرأيت زيدًا ما حاله وإنما الكاف زيادة في بيان الخطاب، وهي المعتمد عليها في الخطاب، فتقول للواحد المذكر أرأيتك زيدا ما حاله؟ بفتح التاء والكاف، وتقول في المؤنث: أرأيتَكِ زيدًا ما حاله يا امرأة؟ فتح التاء على أصل الخطاب المذكر، وتكسر الكاف لأنها قد صارت آخر ما في الكلمة والمنبئة عن الخطاب. ¬

_ (¬1) لسان العرب 19/ 5، وانظر الرضي على الكافية 2/ 312

فإن عديت الفاعل إلى المفعول في هذا الباب، صارت الكاف مفعولة تقول: رأيتني عالما بفلان، فإذا سألت عن هذا الشرط، قلت للرجل: أرأيتك عالما بفلان، وللإثنين أرأيتما كما عالمين بفلان، وللجميع أرأيتموكم لأن هذا في تأويل: أرأيتم أنفسكم. . قال ابن بري: وإذا جات أرأيتكما وأرأيتكم بمعنى أخبرني، كانت التاء موحدة فإن كانت بمعنى العلم ثنيت، وجمعت، قلت: أرأيتكما خارجين وأرأيتموكم خارجين؟ (¬1) وقد زيدت الكاف - كما ذكرنا - لتوكيد الخطاب وذلك كأن يكون المخاطب غافلا، أو كان الأمر يوجب زيادة التنبيه، قال تعالى: {قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون. هل أريتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون} [الأنعام: 46 - 47]. فأنت ترى أنه قال مرة (أرأيتم)، ومرة (أرأيتكم) وذلك يعود إلى سببين والله أعلم. الأول: أنه قال في الآية الأولى {أريتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم} فاحتاجوا بعد إلى زيادة في التنبيه والخطاب، وذلك إن فاقد السمع والبصر، والمختوم على قلبه، به حاجة إلى زيادة خطاب وتنبيه، أكثر من السوي، فقال فيما بعد (أرأيتكم). والسبب الثاني: أن الآية الثانية أشد من الآية الأولى تنكيلا وعذابا، فإن فيها عذاب الله الذي هو أشد من أخذ السمع والبصر، فاحتاج الموقف إلى تنبيه أكثر وزيادة حذر وحيطة فجاء بكاف الخطاب. وقد تقول: ولم قال الله تعالى في سورة يونس: {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرون} [يونس: 10]، ولم يقل (أرأيتكم) كما قال في الآية السابقة أو كما في آية أخرى من سورة الإنعام فقد قال: {قل أريتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} [الأنعام: 40]، والآيات متشابهة، والموقف واحد؟ . ¬

_ (¬1) لسان العرب / رأى/ 19/ 6

والحقيقة أن الموقف مختلف، والسياق غير متفق، فإنه لا ينبغي أن ينظر إلى الآيات مجردة، بل تؤخذ في مواطنها وسياقها، وهكذا ينبغي أن ينظر إلى كل نص أدبي، فإن اللغة ليست جملا مفردة بل هي مواقف ومواطن، وقد تصلح جملة في موطن، ولا تصلح في موطن آخر. وإليك إيضاح الفرق بين الآيتين: قال تعالى في سورة الأنعام: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشاء يجعله على صراط مستقيم. قل أريتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} [الأنعام: 39 - 40]. فأنت ترى إنه وصف الذين كذبوا بآيات الله بالصم والبكم، وإنهم في الظلمات فاحتاجوا إلى زيادة تنبيه وخطاب ليسمعوا وليعوا، وهذا شبيه بالموقف الذي سبق أن ذكرناه آنفا في قوله تعالى: {قل أريتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم} بخلاف سورة يونس التي ليس فيها هذا الأمر، جاء في (البرهان): " وأما أرأيتك فقد وقعت هذه اللفظة في سورة الأنعام في موضعين، وغيرها وليس لها في العربية نظير، لأنه جمع فيها بين علامتي خطاب وهما التاء والكاف، والتاء اسم بخلاف الكاف فإنها عند البصريين حرف يفيد الخطاب، والجمع بينهما يدل على أن ذلك تنبيها على مبناها عليه من مرتبة، وهو ذكر الإستبعاد بالهلاك، وليس فيما سواها ما يدل على ذلك، فاكتفى بخطاب واحد. قال أبو جعفر بن الزبير: الإتيان بأداة الخطاب بعد الضمير المفيد لذلك، تأكيد باستحكام غفلته، كما تحرك النائم باليد، والمفرط الغفلة، باليد واللسان، ولهذا حذفت الكاف في آية يونس (¬1)، لأنه لم يتقدم قبلها ذكر صمم ولا بكم يوجب تأكيد الخطاب، وقد تقدم قبلها قوله: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار} إلى (¬2) فحصل تحريكهم وتنبيهم بما لم يبق بعده إلا التذكير بعذابهم أهـ (¬3)). ¬

_ (¬1) يشير إلى الآية التي ذكرناها آنفا وهي قوله تعالى {قل أريتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا} (¬2) بياض في الأصل. (¬3) البرهان 4/ 151، 152

2 - أفعال الرجحان

2 - أفعال الرجحان ظن: الظن "التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم .. وقال الراغب: الظن اسم لما يحصل من أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت لم تجاوز حد الوهم. ومتى قوي أو تصور بصورة القوي، استعمل معه أن المشددة او المخففة، ومتى ضعف استعمل معه أن المختصة بالمعدومين من القول والفعل (¬1) ". وجاء في (لسان العرب) إنه جاء في المحكم أن الظن " شك ويقين، إلا إنه ليس بيقين عيان، إنما هو يقين تدبر. فأما يقين العيان فلا يقالا فيه إلا علم (¬2) ". وجاء ف (الاقتضاب) لابن السيد البطليوسي: "قال السيرافي: لا يستعمل الظن بمعنى العلم إلا في الأشياء الغائبة عن مشاهدة الحواس لها، لا يقال ظننت الحائط مبنيا وأنت تشاهدة (¬3) ". وجاء في (الهمع): " ما استعمل في الأمرين، الظن واليقين وهو أربعة أفعال، أحدهما (ظن) فمن استعمالها بمعنى الظن {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32]، وبمعنى اليقين: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46]. وزعم أبو بكر محمد بن عبد الله بن ميمون العبدري، أن استعمالها بمعنى العلم غير مشهور في كلام العرب، وأبقى الآية ونحوها على باب الظن، لأن المؤمنين، حتى الصديقين، مازالوا وجلين خائفين النفاق على أنفسهم، وزعم الفراء أن الظن يكون شكا ويقينا وكذبا أيضا، وأكثر البصريين ينكرون الثالث" (¬4). ¬

_ (¬1) تاج العروس / ظن، 9/ 217، وانظر البرهان 4/ 157 (¬2) لسان العرب: - ظن، 17/ 142 (¬3) الاقتضاب في شرح أدب الكاتب 109 (¬4) همع الهوامع 1/ 149

وجاء في (البرهان): "إن كل ظن يتصل بعد (أنْ) الخفيفة فهو شك كقوله {إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: 230]، وقوله: {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول} [الفتح: 12]، وكل ظن يتصل بعد (أنّ) المشددة فالمراد به اليقين كقوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} [الحاقة: 20]، {ظن أنه الفراق} [القيامة: 28]. والمعنى فيه: إن المشددة للتأكيد فدخلت على اليقين، وإن الخفيفة بخلافها فدخلت في الشك، مثال الأول، قوله سبحانه وتعالى: {وعلم أن فيكم ضعفا} [الأنفال: 66]، ذكره بـ (أنّ) وقوله: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19]. ومثال الثاني: {وحسبوا أن لا تكون فتنة} [التوبة: 71]، والحسبان الشك فإن قيل: يرد على هذا الضابط قوله: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} [التوبة: 118]، قيل لأنها اتصلت بالفعل (¬1) ". وعند النحاة أنها للظن في الظاهر مع احتمال اليقين في بعض المواضع (¬2)، وجاء في (شرح المفصل) لابن يعيش: "وقد يقوي الراجح في نظر المتكلم فيذهب بها مذهب اليقين، فتجري مجرى علمت، فتقتضي مفعولين أيضا من ذلك قوله تعالى: {ورءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف: 53]، فالظن ههنا يقين، لأن ذلك الحين ليس حين شك، ومنه قول الشاعر: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد والمراد اعملوا ذلك وتيقنوه لأنه إخراجه مخرج الوعيد ولا يحصل ذلك إلا مع اليقين (¬3) ". ¬

_ (¬1) البرهان 4/ 156 - 157، وفي الاتقان 1/ 164، وأجيب بأنها هنا اتصلت بالاسم وهو ملجأ، وفي الأمثلة السابقة اتصلت بالفعل، ذكره في البرهان، وهو أصح من نص البرهان المذكور. (¬2) الرضي 1/ 248، أسرار العربية 156 (¬3) ابن يعيش 7/ 81

يتبين مما ذكرنا أن خلاصة آراء أهل اللغة في الظن ما يأتي: 1 - أنه للشك وهو الأصل فيه، وقد يستعمل لليقين قليلا. 2 - أنه ليس يقين عيان، وإنما هو يقين تدبر، كما جاء في المحكم. 3 - أنه لا يستعمل بمعنى العلم، كما ذكر أبو بكر العبدري. 4 - أنه يكون شكا، ويقينا، وكذبا. 5 - أن كل ظن استعمل، بعده أن المشددة، أو المخففة منها، فالمراد به اليقين. 6 - ان كل ظن استعمل بعده أن المخففة فهو شك. 7 - أن كل ظن استعمل معه (أن) المختصة بالمعدومين من القول والفعل وهي الناصبة للأفعال، يفيد الشك. والحقيقة أن في كثير مما ذكر نظرا، فما ذكره ابن السيد في المحكم إنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبر يرده قوله تعالى: {ورءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف: 53]، وهذا يقين عيان. وما ذهب إليه بعضهم من أن كل ظن ورد بعده أن المشددة أو المخففة منها فالمراد به اليقين فهذا غالب لا مطرد ومن غير الغالب قوله تعالى: {وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك} [يوسف: 42]، وقوله: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم} [الأعراف: 171]، وقوله: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} [الأنبياء: 87] وما ذهب إليه بعضهم من أن كل ظن استعمل معه (أن) الخفيفة فهو شك، مردود بقوله تعالى: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} [التوبة: 118]، وقوله: {وأنا ظننا أن لن تعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا} [الجن: 12].

حسب

وأما قوله إن كل ظن دخلت عليه أن الناصبة للفعل فهو شك فيرده قوله تعالى: {ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة} [القيامة: 24 - 25]، وهذا موطن يقين لا موطن شك. يظهر مما مر أن الأصل في الظن، أن يكون شكًا وذلك قوله تعالى: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32]، وهذا الظن يتردد بين القوة والضعف، فقد يكون ضعيفا قريبا من الوهم، وقد يقوى حتى يقرب من اليقين، بل يكون يقينا كما يقول النحاة، وذلك نحو قوله تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} [الحاقة: 20]، وقوله: {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [البقرة: 249]. والذي يبدو لي أن ابقاءها على معناها ما أمكن أولى، وما ذكر من معاني اليقين يمكن تأويله فقوله تعال - مثلا {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} يمكن أن يكون معناه: الذين وظنوا أنفسهم على الثبات في ساحة القتال وظنوا أنهم سيلاقون ربهم في هذه الوقعة، وقوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} يعني إني ملاقيه على هذا الحال وهي حال السعادة، وهذا موطن الظن لا العلم، وقوله: {ورءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف: 53]، بمعنى أنهم لم ييأسوا من أن يخفف الله عنهم، ولكن الظن الراجح أنهم سيواقعون النار، وقوله: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} [التوبة: 118]، بمعنى انهم يطمعون في رحمة الله والتوبة عليهم، وهذا موطن ظن لا يقين، ونحوه ما ذكره في بقية الآيات وغيرها. وأظنك تحس الفرق بين كلمتي ظن وعلم في مثل هذه المواطن. حسب: يراد به الاعتقاد الراجح ومعناه الظن - كما يقول النحاة - نحو: حسبت زيدا صاحبك وكقوله تعالى: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} [البقرة: 273]، وقد يستعمل لليقين قليلا كقوله:

حسبت التقى والجود خير تجارة ... رباحا إذ ما المرء أصبح ثاقلا (¬1) ويبدو أن بين حسب وظن فرقًا، فإن (حسب) القلبي، منقول من (حسب) الحسي الذي منه الحساب، ومنه حسب (¬2) الدراهم أي عدها. فإن (حسب) في قولك (حسبت محمدًا صاحبك)، فيه معنى الحساب، أي حسب ذلك وانتهى إلى ما انتهى إليه، وليس هذا الفعل مطابقا للظن تماما، فهناك فرق بين قولك (تحسبهم جميعا)، و (تظنهم جميعا) فإن قولك (تحسبهم جميعا) إنما يكون بعد مراقبة أحوالهم، فكأنك أجريت عملية حساب، فأدي حسابك إلى ذلك بخلاف قولك (أظنهم). فالحسبان قائم على الحساب والنظر العقلي، بخلاف الظن الذي يدخل الذهن ويلابسه لادنى سبب قال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا .. الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [الكهف: 103 - 104]، وقال: {وحسبوا أن لا تكون فتنة} [المائدة: 71]، أي كان هذا في حسابهم. ثم انظر إلى قوله: {وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك} [يوسف: 42]، ولم يقل (حسب) لأنه ظن بناه على رؤيا وليس في ذلك عمل حسابي. ثم الا ترى إنه لا يحسن أن تقوم إحدى الكلمتين مقام الأخرى أحيانا، وذلك نحو قوله تعالى {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين} [النور: 12]، وقوله: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحى وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية: 24]، وقوله: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} [آل عمران: 154]، وقوله: {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} [الأحزاب: 10]، وقوله: {قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن لا ظنا وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32]. ¬

_ (¬1) الأشموني 2/ 21، التصريح 1/ 249، ابن عقيل 1/ 149، الرضي على الكافية 2/ 316 (¬2) حسب الدراهم مفتوح العين في الماضي مضمومها في المضارع.

خال

وقوله: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا} [يونس: 36]، وقوله: {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء} [الفتح: 6]، وقوله: {يا أيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12]. ألا ترى أنه لا يحسن ههنا وضع الحسبان؟ فدل ذلك على ما ذهبنا إليه. خال: قالوا هو بمعنى (الظن) يراد به الاعتقاد الراجح كقولك: خلت سعيدًا أخاك، وقد يأتي لليقين بمعنى (علم) كقوله: دعاني الغواني عمهن وخلتني ... لي اسم فلا ادعى به وهو أول (¬1) وهذا الفعل ليس بمعنى الظن تماما، وإنما هناك اختلاف بينهما، فـ (خال) مشتق من الخيال (¬2)، والخيال يأتي لمعان قال الراغب: " أصل الخيال القوة المجردة كالصورة المتصورة في المنام، وفي المرأة، وفي القلب، ثم استعمل في صورة كل أمر متصور، وفي كل دقيق يجري مجرى الخيال. قال: والخيال قوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة، بحيث يشاهدها الحس المشترك كلما التفت إليه (¬3). " والخيال حيال الطائر، يرتفع في السماء فينظر إلى ظل نفسه فيرى أنه صيد، فينقض عليه، ولا يجد شيئا وهو خاطف ظله .. وتخيل الشيء له تشبه .. والخيال والخيالة ما تشابه لك في اليقظة والحلم من صورة .. وربما مر بك الشيء يشبه الظل، فهو خيال يقال تخيل لي خياله .. وخيل إليه أنه كذا على ما لم يسم فاعله من التخييل والوهم (¬4) ". ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 149، الأشموني 2/ 20، ابن الناظم 79 (¬2) الهمع 1/ 150 (¬3) تاج العروس 7/ 314 (¬4) لسان العرب 13/ 244 - 245

زعم

فمن هذه الكلمة (الخيال) اشتقت كلمة (خال) وقالوا: تخيل فقولهم (من يسمع يخل) مثلا معناه إنه من يسمع شيئا عن الناس استبد به الخيال، وذهب في ذلك مبلغا ليس له حدود. وقولك (خلت سعيدًا أخاك) معناه أن هذا ما في خيالي أو هذا ما يخيل إلي. وعلى ذلك هو أضعف في الرجحان من (حسب)، لأنه قائم على التخيل في حين أن (حسب) مأخوذة من الحسبان الذي فيه معنى الحساب كما سبق ذكره. زعم: الزعم هو القول بأن الشيء على صفة قولا غير مستند إلى وثوق (¬1) فقد يكون حقا وباطلا (¬2) ومن استعماله في التحقيق قول أبي طالب: ودعوتني وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا (¬3) وأكثر ما يقع الزعم على الباطل (¬4) قال تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلي وربي لتبعثن} [التغابن: 7]، وقال: {بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا} [الكهف: 48]. قال الليث: " سمعت أهل العربية يقولون: إذا قيل ذكر فلان كذا وكذا فإنما يقول ذلك لأمر يستيقن أنه حق، وإذا شك فيه فلم يدر لعله كذب، أو باطل، قيل زعم فلان (¬5) ". عدّ: يقول النحاة هو بمعنى (ظن) وذلك نحو قوله: فلا تعدد المولى شريك في الغنى ... ولكنما المولى شريكك في العدم (¬6) ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 307 - 308 (¬2) لسان العرب (زعم) 15/ 156، وانظر حاشية الخضري 1/ 150 (¬3) حاشية الخضري 1/ 1050، وانظر الرضي على الكافية 2/ 307 - 308.) (¬4) الهمع 1/ 148 (¬5) لسان العرب 15/ 156 (¬6) الهمع 1/ 148، ابن عقيل 1/ 150

حجا

وفي شرح الرضي أنه لاعتقاد كون الشيء على صفة، اعتقادا غير مطابق نحو قولك: كنت اعده فقيرا فبان غنيا (¬1). وهذا الفعل منقول من (عد) المحسوس الذي هو بمعنى الإحصاء، نحو قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل: 18]، إلى المعنى القلبي، فعندما تقول: (كنت أعده فقيرا) يكون المعنى إني كنت أحصيه في جملة الفقراء. حجا: قيل هو بمعنى (ظن) وذلك نحو قول الشاعر: قد كنت أحجو أبا عمرو أخاثقة ... حتى ألمت بنا يوما ملمات (¬2) وهذا الفعل مأخوذ من (الحجا) وهو العقل والفطنة فإذا قلت: أحجو به خيرا أو قلت: حجوتك منجدا كان لمعنى أن هذا ما هداني إليه عقلي، وحجاي فقد يكون صحيحا وقد يكون غير ذلك. هب: وهو فعل أمر لا يتصرف بمعنى أحسب وظن. تقول: هبني فعلت هذا الأمر أي احسبني واعددني. وهو غير (هب) الذي ماضيه (وهب) من الهبة. جاء في (لسان العرب): " تقول: هب زيدا منطلقا بمعنى إحسب، يتعدى إلى مفعولين، ولا يستعمل منه ماض ولا مستقبل في هذا المعنى. ابن سيده وهبني فعلت ذلك أي احسبني واعددني ولا يقال: هب أني ولا يقال في الواجب (وهبتك فعلت ذلك) لأنها كلمة وضعت للأمر (¬3). ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 307 (¬2) الأشموني 2/ 23، ابن عقيل 1/ 150، حاشية الخضري 1/ 150، حاشية التصريح 1/ 248، الهم 1/ 148 (¬3) لسان العرب - ظن 2/ 304، وانظر الأشموني 2/ 24، حاشية الصبان 2/ 24 =

تقول

تقول: قد تقع الجملة بعد القول ويراد بها لفظها، تقول: قال محمد: "خالد مسافر" أي تلفظ بهذا الكلام - وهذه الجملة تسمى محكية. وقد يراد بها معناها، لا نص الفاظها، فيكون القول بمعنى الظن، ويصبح فعل القول قلبيا، لأنه صار بمعنى الظن، وعند ذلك ينصب المبتدأ والخبر، كما ينصبهما ظن فقولك: (قلت: خالد مسافر) معناه إني قلت هذه الكلمات بألفاظها. ومعنى قولك (قلت خالدا مسافرا)، عند من يجيز ذلك - ظننت خالدا مسافرا، وليس المعنى إني تلفظت بهذه الكلمات، وبتعبير آخر إني ذكرت معنى الجملة لا لفظها، فلا يكون النصب إلا بعد إجراء القول مجرى الظن، وإما الرفع فعلى كونه بمعنى التلفظ (¬1). قال ابن يعيش: " وقد يجرون القول مجرى الظن، فيعملون عمله فإذا دخل على المبتدأ والخبر نصبهما، لأن القول يدخل على جملة مفيدة فيتصورها القلب ويترجح عنده وذلك هو الظن والاعتقاد والعبارة باللسان عنه هو القول، فأجروا العبارات على حسب المعبر عنه ألا ترى أنه يقال: هذا قول فلان ومذهب فلان. وما تقول في مسألة كذا ومعناه: ما ظنك وما اعتقادك؟ فمنهم من يعمله عمل الظن مطلقا نحو: قال زيد عمرا منطلقا ويقول زيد عمرا منطلقا من غير اشتراط شيء، كما أن الظن كذلك، وهي لغة بني سليم ومنهم من يشترط (¬2). وعند عامة العرب أنه لا يجري القول مجرى الظن، إلا بشروط هي: كون الفعل مضارعا، وإن يكن مسبوقا باستفهام، وألا يفصل بين الاستفهام وفعل القول بفاصل، وذلك نحو قولك: أتقول خالدا منطلقا؟ ¬

_ ، حاشية التصريح 1/ 248، حاشية الخضري 1/ 150، ابن عقيل 1/ 150 (¬1) ابن عقيل 1/ 155، حاشية الخضري 1/ 156، الاشموني 2/ 36 - 38، سيبويه 1/ 62 - 63، ابن الناظم 84، التصريح 1/ 261 (¬2) ابن يعيش 7/ 79

ومذهب سليم إجراء القول مجرى الظن مطلقا، سواء وجدت هذه الشروط أم لا (¬1). يقول النحاة: " فإذا اجتمعت الشروط المذكورة جاز نصب المبتدأ والخبر مفعولين نحو: اتقول زيدًا منطلقا؟ وجاز رفعها على الحكاية، نحو: أتقول: زيد منطلق (¬2)؟ " وليس معنى هذا القول أن لك أن تقول أية عبارة متى شئت، وإنما ذلك بحسب القصد والمعنى، فإن قصدت التلفظ بالعبارة نفسها، فليس ذلك إلا أن ترفع، وأن أردت معنى الظن أي أردت ذكر معنى الجملة لا لفظها، فليس لك إلا أن تنصب فقولك: (أتقول: زيد منطلق) معناه أتتلفظ بهذه العبارة؟ وقولك: (أتقول زيدا منطلقا) معناه أتظن هذا الأمر؟ . وهناك فرق بين المعنيين. وكذلك ما يذكر بالنسبة إلى لغة سليم، من أنهم يجرون القول مجرى الظن مطلقا، ليس معناه أنهم يجرون لك من دون نظر إلى المعنى، بل لا ينصبون إلا إذا أرادوا معنى الظن وقصدوا معنى الجملة فإن قصدوا التلفظ بها لم يكن إلا الرفع (¬3). ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 156، الأشموني 2/ 36 - 38، سيبويه 1/ 62 - 63 (¬2) ابن عقيل 1/ 156 (¬3) حاشية الصبان 2/ 37

أفعال التحويل

أفعال التحويل جعل: وهو من أفعال القلوب والتحويل فمن مجيئه من أفعال القلوب قوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا} [الزخرف: 19]، أي ظنوهم واعتقدوهم (¬1). ومن مجيئة للتحويل والتصيير، قوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} [الفرقان: 23]. وأصل الجعل حسي، تقول: جعل الشيء يجعله جعلا أي وضعه وجعله، صنعه وجعله صيره قال سيبويه: جعلت متاعك بعضه فوق بعض ألقيته وقال مرة عملته .. وجعل الطين خزفا والقبيح حسنا صيره إياه (¬2). ثم نقل إلى معنى الظن والاعتقاد، فإذا قلت: (جعل البصرة بغداد) كأن المعنى كأنه فعل ذلك، ولما كان هذا لا يكون، لأن البصرة لا تكون بغداد، فهم من ذلك أنه أريد الظن، وكذلك إذا قلت (جعل عليا أخاك)، كان المعنى كأنه فعل ذلك، ولما كان هذا لا يكون لأن الرجل لا يكون اخا بالجعل، فهم منه أنه قصد الظن. وهذا الاستعمال لا يزال جاريا عند العامة، تقول العامة: فلان لا يدري ما يقول جعل خالدا أخي ومحمدا عمي، ويقولون أيضا: سوى خالد أخي (وسوى) بمعنى جعل عندهم، فنقل هذا الفعل من المعنى الحسي إلى المعنى القلبي. ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 150 (¬2) لسان العرب - جعل، 13/ 116 - 117

اتخذ وتخذ

اتخذ وتخذ: وهما من أفعال التحويل والتصبير قال تعالى: {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله} [المجادلة: 16]، وتقول: (تخذت دارك سكنا لي) وقريء لتخذت عليه أجرا. وهذان الفعلان بمعنى واحد، وقيل بل هما في الأصل من مادة واحدة، فقد ذهب قسم من اللغويين إلى أن (تخذ) مبني من (أخذ)، جاء في (لسان العرب): " والاتخاذ افتعال ايضا من الأخذ إلا أنه ادغم بعد تليين الهمزة وابدال التاء ثم لما كثر استعماله على لفظ الافتعال، توهموا أن التاء أصلية فبنوا منه، فعل يفعل، قالوا تخذ يتخذ، وقريء لتخذت عليه أجرًا .. الليث: يقال: اتخذ فلان مالا يتخذه اتخاذا وتخذ يتخذ تخذا، وتخذت مالا أي كسبته الزمت التاء الحرف كأنها أصلية، قال الله عز وجل: {لو شئت لتخذت عليه أجرًا} قال الفراء: قرأ مجاهد لتخذت .. وأصلها افتعلت (¬1). وذهب آخرون إلى أنها مادتين مختلفتين (¬2). ويبدو لي أن الرأي الأول أرجح، وله نظائر في اللغة فإن التوهم موجود في اللغة فقد همز العرب (مصائب)، و (منائر) توهما أن (مصيبة) مثل (صحيفة)، و (منارة) مثل رسالة فكما همزوا صحائف، همزوا أيضا منائر وليست ياء (مصيبة) زائدة كياء (صحيفة) (¬3). وقال بعض العرب (مالك الموت) يعني ملك الموت توهما منه أن كلمة (ملك) من (ملك يملك)، وهو في حقيقته من (لأك) (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب (أخذ) 5/ 4 (¬2) لسان العرب (تخذ) 5/ 9 - 10 (¬3) الخصائص 3/ 377 (¬4) الخصائص 3/ 273 - 274

ترك

وفي النحو باب يسمى العطف على التوهم، قال أبو علي الفارسي: " إنما دخل هذا النحو في كلامهم، لأنه ليست لهم أصول يراجعونها ولا قوانين يعتصمون بها، وإنما تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به فربما استواهم الشيء فزاغوا به عن القصد " (¬1). ترك: وأصل ترك كونه " بمعنى طرح وخلي، فلها مفعول واحد ضمن معنى صير فتعدي لاثنين نحو {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} [البقرة: 17]، قال الشاعر: وربيته حتى إذا ما تركته ... أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه صير: وهو فعل من (صار) ويقال أصار أيضا: جاء في (الهمع): " صير وأصار المنقولان من صار، إحدى أخوات كان بالتضعيف والهمز (¬2) " نحو صيرت الطين إبريقًا. رد: الرد صرف الشيء ورجعه إليه (¬3) تقول: رددت الصبي إلى أهله، ثم ضمن معنى التصيير كقوله: رمى الحدثات نسوة أل حرب ... بمقدار سمدن سمودا فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا (¬4). ¬

_ (¬1) الخصائص 3/ 273 (¬2) الهمع 1/ 150، التسهيل 71، ابن عقيل 1/ 150 (¬3) لسان العرب (ردد) 4/ 152 (¬4) ابن عقيل 1/ 150، الأشموني 2/ 62

وهب

وهب: وأصله من الهبة، ثم ضمن معنى التصيير وذلك نحو قولهم: وهبني الله فداك. ومعنى هذا القول أن جعله فداء محبوب لديه، وهو بمنزلة الهبة، فدعا لنفسه أن يجعل الله فداء له. " وهو بهذا المعنى لازم المضي لجريان كالمثل" (¬1). الالغاء الالغاء " هو ترك العمل لفظا ومعنى لا لمانع نحو زيد ظننت قائم، فليس لـ (ظننت) عمل في (زيد قائم) لا في المعنى ولا في اللفظ" والالغاء يكون في الأفعال القلبية المتصرفة أما غير المتصرفة فلا يكون فيها تعليق ولا الغاء، وكذلك أفعال التحويل نحو صير وأحوالها (¬2). ويجوز الفاء الافعال القلبية المتصرفة " إذا وقعت في غير الابتداء، كما إذا وقعت وسطا نحو: (زيد ظننت قائم)، أو آخرا نحو: (زيد قائم ظننت)، وإذا توسطت، فقيل الأعمال، والالغاء سيان، وقيل الأعمال أحسن من الالغاء، وإن تأخرت فالالغاء أحسن" (¬3). إذا لم يؤكد العامل بمصدر منصوب، كزيدا قائما ظننت ظنا، وإلا قبح الالغاء، إذ التوكيد دليل الاعتناء بالعامل، والالغاء ظاهر في عدمه، فبينهما شبه التنافي (¬4)، وبشرط أن لا يكون العامل منفيا، فلو نفي تعين الاعمال قائما لم أظن، لأن الغاءه حينئذ يوهم أن ما قبله مثبت، فيتناقض نفي الفعل بعده، لتوجهه في المعنى إلى المفعولين (¬5). ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 252، حاشية الخضري 1/ 150، ابن عقيل 1/ 150 (¬2) ابن عقيل 1/ 152 (¬3) ابن عقيل 1/ 152، ابن يعيش 7/ 85 (¬4) حاشية الخضري 1/ 152، حاشية الصبان 2/ 27، ابن الناظم 81 (¬5) حاشية الخضري 1/ 152، حاشية الصبان 2/ 27، حاشية يس 1/ 253

أما إذا تقدم الفعل فيجب الأعمال ويمتنع الالغاء عند البصريين (¬1). إن قول النحاة أنه يجوز الغاء الفعل إذا توسط أو تأخر، قد يفهم منه أنه يسوغ ذلك متى شاء المتكلم، دون نظر إلى المعنى. والحق أن معنى الإلغاء غير معنى الأعمال، والمتكلم مقيد بالمعنى، فليس له أن يعمل أو يلغي من دون نظر إلى القصد والمعنى. إن معنى الأعمال أن الكلام مبني على الظن، تقدم الفعل أو تأخر، ومعنى الالغاء أن الكلام مبني على اليقين، ثم أدركك الشك فيما بعد، فقولك (محمدا قائما ظننت) مبني على الشك ابتداء، وقولك (محمد قائم ظننت) مبني على اليقين فإن بنيت كلامك على الظن، نصبت، تقدم الفعل أو تأخر، وإن بنيته على اليقين، رفعت. جاء في (الكتاب): "فإن الغيت قلت: عبد الله اظن ذاهب وهذا - إخاك - أخوك. وفيها - أرى - أبوك. وكلما اردت الالغاء فالتأخير أقوى وكل عربي جيد .. وإنما كان التأخير اقوى لأنه إنما يجيء بالشك بعدما يمضي كلامه على اليقين، أو بعدما يبتديء، وهو يريد اليقين ثم يدركه الشك كما تقول: عبد الله صاحب ذلك بلغني، وكما قال: من يقول ذلك تدري. فأخر مالم يعمل في أول كلامه، وإنما جعل ذلك فيما بلغه بعدما مضى كلامه على اليقين وفيما يدري. فإذا ابتدأ كلامه على ما في نيته من الشك أعمل الفعل، قدم أو آخر، كما قال: زيدا رأيت ورأيت زيدا. وكلما طال الكلام ضعف التأخير أذا أعملت. وذلك قولك (زيدا أخاك أظن) فهذا ضعيف، كما يضعف: زيدا قائما ضربت" (¬2). وجاء في (الهمع): "فإن بدأت لتخبر بالشك أعملت على كل حال، وإن بدأت وأنت تريد اليقين ثم أدركك الشك، رفعت بكل حال" (¬3). ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 152، ابن يعيش 7/ 85، المقتضب 2/ 11 (¬2) سيبويه 1/ 61 (¬3) الهمع 1/ 153، وانظر أسرار العربية 160 - 161، المقتضب 2/ 11

وجاء في (حاشية يس على التصريح): "وإن كان المتقدم ما يصلح أن يكون معمولا لهذه الأفعال نحو: أين تظن زيدا قائمًا؟ أو متى تظن زيدا قائما؟ فإن جعلتهما معمولين لـ (قائم) فأنت بالخيار، إن شئت أعملت لبنائك الكلام على الظن، وإن شئت ألغيت ولم تبن الكلام على الظن، فقلت أولا (زيد قائم) ثم اعترضت بالظن بين (متى) و (زيد) وإن جعلت (أين) و (متى) معمولين لتظن، لم يجز إلا الأعمال" (¬1). فاتضح بها أن معنى الأعمال غير معنى الالغاء. وأما قول سيبويه إنه " كلما طال الكلام ضعف التأخير إذا اعملت، وذلك قولك زيدا أخاك أظن، فهذا ضعيف، كما يضعف (زيدا قائما ضربت) ففيه نظر، لأن الكلام إنما يكون تأليفه بحسب القصد والمعنى، وليس فيما ذكر ضعف، وتقديم المفعول إنما يكون للاهتمام والحصر، وايضاح ذلك أنك تقول: 1 - ظننت محمدا قائما - تقول هذه العبارة إذا كان المخاطب خالي الذهن من الخبر فأخبرته بما في ذهنك. 2 - محمد ظننت قائما - تقول هذه العبارة إذا كان المخاطب يعتقد أنك تظن خالدا قائما لا محمدا، فقدمت له (محمدا) لإزالة الوهم من ذهنه. 3 - محمد قائم ظننت - تقول هذه العبارة إذا كان المخاطب يعتقد أنك تظن أن خالدا جالس- فهنا حصل الوهم من ناحيتين: من ناحية الشخص، والوصف، فقدمتها لازالة الوهم. فالفرق بين هذه العبارة، وما قبلها أن الشك في الأولى كان في الشخص لا في الوصف فقدمت الشخص، وفي الأخيرة كان الشك في الشخص، والوصف، فقدمتهما لإفادة الحصر والاهتمام. ¬

_ (¬1) حاشية يس على التصريح 1/ 253

أما الأولى فالمخاطب فيها خالي الذهن، لا يعلم شيئا عن الخبر، فجئته بالتعبير الطبيعي وهو الفعل، ثم المفعول الأول، ثم الثاني. 4 - محمدٌ - ظننت قائم، تقول هذه العبارة إذا بنيت كلامك على اليقين فإنك أردت أن تخبر أن محمدا قائم، ثم اعترضك الظن، وأنت تتكلم، فقلت ما قلت. فجملة (ظننت) ههنا اعتراضية لا محل لها من الإعراب. فهناك فرق بين هذه العبارة وقولنا (محمد ظننت قائمًا) كما هو واضح، أن قولنا (محمد ظننت قائمًا) جملة واحدة وقولنا (محمد ظننت قائم) جملتان: الجملة المعقول عليها الكلام وهي (محمد قائم) والجملة الاعتراضية التي اعترضت بين المبتدأ والخبر وهي (ظننت)، وهذا نظير قول من يقول: خالد غفر الله له مسيء، فالكلام معقود بقولنا (خالد مسيء) واعترض المتكلم بقوله: غفر الله له ولذا يقع الفعل الملغي شأن الجمل الاعتراضية بين الفعل ومرفوعه، كقولك ضرب أحسب زيدٌ ومنه قوله: شجاك أظن ربع الظاعنينا ... ولم تعبأ بقول العاذلينا وبين معمولي (إن) نحو: أن سعيدا أحسب مسافر، وبين سوف ومصحوبها نحو: أسوف أحسب يحضر محمود قال الشاعر: وما أدري وسوف أخاك أدري وبين المعطوف والمعطوف عليه نحو: جاء محمد وأحسب خالد وغير ذلك (¬1). 5 - محمدٌ قائم ظننت، تقول هذه العبارة إذا بنيت كلامك على اليقين وأمضيت كلامك على ذلك، أي أردت أن تخبر بقيام محمد من دون (ظن)، فأخبرت بذذلك وقلت (محمد قائم)، ثم أدركك الظن في الآخر، فاستأنفت كلاما جديدًا وقلت: ظننت. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية: 2/ 310، المغنى: 2/ 386 - 387، الهمع 1/ 153

التعليق

فهناك فرق بين قولك (محمد قائما ظننت) و (محمد قائم ظننت) كما أوضحناه. ففي النصب يكون الكلام في جملة واحدة، وقد بني الكلام على الظن، وفي الرفع يكون الكلام جملتين، وقد بني على اليقين، الجملة الأولى (محمد قائم)، والجملة الثانية (ظننت)، وهي من الجمل الإستئنافية التي لا محل لها من الإعراب. جاء في (المغني) في الجملة المستأنفة: "ومنه جملة العامل الملغي لتأخره نحو (زيد قائم أظن). فأما العامل الملغي لتوسطه نحو (زيد أظن قائم) فجملته أيضا لا محل لها إلا أنها من باب جمل الإعتراض" (¬1). ولذا لا يصح توكيد الفعل الملغي بمصدر منصوب " لأن التوكيد دليل الاعتناء بالفعل والإلغاء ظاهر في عدمه " كما أسلفنا، إذ كيف يؤكد الظن والكلام غير معقود عليه؟ بخلاف الفعل العامل، فإن الكلام مبني عليه ولذا جاز توكيده. التعليق التعليق " مأخوذ من قولهم (امرأة معلقة) أي مفقودة الزوج، تكون كالشيء المعلق لا مع الزوج لفقدانه، ولا بلا زوج لتجويزها وجوده، فلا تقدر على التزوج. فالفعل المعلق ممنوع من العمل لفظا عامل معنى وتقديرا" (¬2). فالتعليق في النحو إبطال العمل لفظا لا محلا لمجيء ماله صدر الكلام بعده (¬3). كما النافية، ولام الابتداء، والاستفهام، تقول: علمت ما محمدا مسافرا، وعلمت لمحمد مسافر، وعلمت أيهم أبوك (¬4). ¬

_ (¬1) المغني 2/ 382 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 311 (¬3) التصريح 1/ 254، الأشموني 2/ 29، حاشية الخضري 1/ 152 (¬4) ابن عقيل 1/ 153، الأشموني 2/ 29 - 31، التصريح 1/ 254 - 256

وهو مختص بالأفعال القلبية التصرفة (¬1). وقد تشاركها أفعال أخرى قليلة، كقوله تعالى: {فلينظر أيها أزكى طعامًا} [الكهف: 19]، و (سل أيهم قام)، برفع أي، أما إذا قلت (سل أيهم قام) بنصب (أي) فالفعل ليس معلقًا. والفرق بين الجملتين إن (أي) الأولى استفهامية والمعنى: سل الناس عمن قام. وبالنصب تكون (أي) موصولة، والمعنى سل القائم. ونحو ذلك إن تقول: (سل من قام) فإنه يحتمل التعليق وغيره، فإنه يحتمل أن تكون (من) موصولة والمعنى: سل الذي قام والفعل غير معلق، ويحتمل أن تكون (من) استفهامية والمعنى: سل الناس عمن قام، والفعل يكون عند ذلك معلقا. جاء في (شرح الرضي على الكافية): "واعلم أنك إذا قلت: علمت من قام وجعلت (من) أما موصولة أو موصوفة فالمعنى عرفت ذات القائم بعد أن لم أعرفها. وإن جعلتها استفهامية فليس في الكلام دلالة على هذا المعنى، بل المعنى علمت أي شخص حصل منه القيام وربما كنت تعرف قبل ذلك ذات القائم وإنه زيدا مثلا، وذلك لأن كلمة الاستفهام يستحيل كونها مفعولا لما تقدم لفظه عليها، لاقتضائها صدر الكلام فيكون مفعول علمت إذن مضمون الجملة، وهو قيام الشخص المستفهم عنه أعني زيدا. وأما إن كانت موصولة أو موصوفة فالعلم واقع عليها فكأنك قلت: علمت زيدًا الذي قام" (¬2) وذكر الأستاذ إبراهيم مصطفى إن الأدوات التي تعلق الفعل عن العمل تدل على أن الكلام الثاني مستقل عن الأول قال: " وما الأدوات التي عدها النحاة معلقه للفعل عن العمل، إلا دلائل على ان الكلام الثاني مستقل، يقصد إلى الإخبار به، فيذكر ما معه ما يشهد ابتداء الكلام واستئنافه وأنه لم يجيء بمنزلة اللاحق وإن جاء في اللفظ متأخرًا" (¬3). ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 151 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 312 - 313 (¬3) إحياء النحو 149

وهذا وهم ظاهر فيما يبدو، لأن ما بعده الأداة مرتبط ارتباطا وثيقا بما قبله، وليس مستقلا عنه وإنك لو فصلته عنه لتفكك الكلام، وما استفهام، ففي قوله تعالى مثلا {فلينظر أيها أزكي طعامًا} [الكهف: 19]، جملة (أيها أزكي طعامًا) مرتبطة ارتباطا تاما بقوله (فلينظر) وإن قطعتها عنه لم تجد المعنى يستقيم، فماذا ينظر، إذا لم يكن القصد ربط النظر بالطعام؟ وكذلك قوله تعالى: {سيعلمون غدا من الكذاب الأشر} [القمر: 26]، فقوله (من الكذاب)، مرتبط ارتباطا كلاما بقوله (سيعلمون) وإلا فماذا سيعلمون؟ ومما يدل على ارتباط ما قبل الأداة بما بعدها، جواز العطف على محل الجملة المعلقة، كما في قول كثير: وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتى تولت فقوله (موجعات القلب) عطف على محل (ما البكا)، ولذلك انتصب وهو دلالة قاطعة على ارتباط المعلق بالفعل، وإلا لم ينتصب المعطوف. قال الأستاذ: محمد أحمد عرفة: " ولو تأملت ما بين أيدينا من أمثلة التعليق في كلام الله عز وجل، وكلام العرب، لوجدت النظم يقتضي من جهة المعنى أن يكون الفعل متعلقا بما قبله، وأن يكون ما بعد أدوات التعليق متعلقا بالفعل، فيكون تاليا في المعنى كما هو تال في اللفظ ولا يجوز أن يكون مبتدأ به عن استقلال. قال الله تعالى: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا. ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} [الكهف: 11 - 12]. ففي الآية أداة من أدوات التعليق وهي (أي) علقت (نعلم) عن العمل، ومساق النظم يقتضي أن تكون (أي الحزبين أحصى) متعلقة بنعلم، متأخرة عنها في المعنى، ولا يجوز أن تكون مستقلة عنها، مبتدأ بها في المعنى، ذاك لأنه بدأ فذكر أنه أنامهم سنين، ثم بعثهم لعلة وهي أن يعلم، وماذا يعلم؟ يعلم شيئا خاصًا وهو: من منهم أحصى أمدا لما لبثوا؟

العطف على الجملة المتعلقة

هذا سياق الكلام ونظمه فلو ذهبت تقطع (أيهم أحصى) عن (نعلم)، وتجعلها مقدمة في المعنى، غير تابعة لنعلم، بل مقدمة عنه، فككت الآية وقطعت ما بينها من أواصر، لا يتم المعنى إلا بها، لأنه يصير المعنى ثم بعثناهم لأيهم أحصى لما لبثوا أمدا نعلم وهذا كلام مفكك لا معنى له يجب تنزيه كلام الله عن أن يحمل عليه .. قال الشاعر: وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتى تولت نظم البيت يقتضي أن يكون (البكا) متعلقا بما أدري، متأخرا عنه في المعنى، ولا يجوز أن يكون متقدما في المعنى، ذاك لأنه بدأ فبين إنه ما كان يدري قبل عزة، وها هو الذي لا يدريه؟ هو شيء خاص وهو: ما البكا وموجعات القلب. فلو ذهبت تقدم (ما البكا) وتؤخر (أدري قبل عزة) جئت بالمحال، ذلك لأنه يكون: وما كنت ما البكا أدري قبل عزة. وأغلب أمثلة التعليق تأتي في هذه الإحالة التي ذكرناها" (¬1). العطف على الجملة المتعلقة: التعليق كما ذكرناه إبطال العمل لفظا لا محل، فمحل الجملة المعلق عنها الفعل، النصب - كما يقول النحاة - ولذا جاز العطف على محل الجملة، تقول: ظننت لمحمد مسافر وعليا حاضرا قال كثير: وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجغات القلب حتى تولت فعطف (موجعات) بالنصب على محل قوله (ما البكا) كما يجوز العطف مراعاة للفظ نحو قولك علمت لمحمدٌ مسافر وعلى حاضر (¬2). وههنا قد يعرض سؤال وهو: هل معنى النصب والرفع واحد؟ هل معنى قولك (علمت لمحمدٌ مسافر وخالدً راجع) مماثل لقولك: (علمت لمحمدٌ مسافرٌ وخالدًا راجعًا)؟ ¬

_ (¬1) النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة 207 - 208 (¬2) التصريح 1/ 257، الرضي على الكافية 2/ 309 - 311، ابن عقيل 1/ 151، الأشموني 2/ 32

إن النحاة صرحوا بجواز الوجهين من دون أن يشيروا إلى اختلاف المعنى، والذي يبدو لي أن بين الوجهين فرقا. وإيضاح ذلك أن لام الابتداء تفيد التوكيد، فقولك (علمت لمحمد مسافر) آكد من قولك (علمت محمدا مسافرا) جاء في (كتاب سيبويه): "ومن ذلك قد علمت لعبد الله خير منك، فهذه اللام تمنع العمل كما تمنع الف الاستفهام، لأنها إنما هي لام الابتداء وإنما أدخلت عليه (علمت) لتؤكد، وتجعله يقينا قد علمته، ولا تحيل على علم غيرك" (¬1). فدخول اللام أفاد معنى التوكيد وجعلها في التأكيد بمنزلة جواب القسم، بل هي عند الكوفيين لا القسم، والقسم مقدر، (¬2) فإذا عطفت بالرفع، كان المعنى على تقدير اللام فتكون بمنزلة ما قبلها في التوكيد، وإذا نصبت لم يكن المعنى على تقدير اللام، فكانت الجملة المعطوف غير مؤكدة، فقولك (خالد راجع) في (علمت لمحمد مسافر وخالد راجع) مؤكدة بمنزلة المعطوف عليه. أما قولك (علمت لمحمد مسافرٌ وخالدًا راجعًا) فإن الجملة الأولى فيه مؤكدة بخلاف الإسميين المنصوبين، وكذلك في الاستفهام نحو قوله: وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتى تولت فالرفع يكون على تقدير الاستفهام والمعنى: ولا أدري ما موجعات القلب، أما النصب فليس على تقدير الاستفهام، وإنما المعنى وما كنت أدري موجعات القلب. وكذلك لو قلت: (علمت أمحمد حاضر وخالدا غائبا) فإن قولك (علمت أمحمد حاضر) معناه: علمت أهو حاضر أم غائب، ولم تخبر عنه بل تركته لعلمك، وقولك (وخالدا غائبا)، معناه: وعلمت خالدا غائبا، فقد أخبرت عن غياب خالد، ولم تخبر عن حضور محمد. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 120 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 374

ظننته لا يفعل وما ظننته يفعل

ولو عطفت بالرفع فقلت (علمت أمحمدٌ حاضرٌ وخالدٌ غائبٌ) لكانت الجملة المعطوفة داخلة في الاستفهام، ولكان معنى الجملتين واحدًا. وكذلك بالنسبة للنفي فلو قلت: (علمت ما محمدٌ حاضرٌ وخالدًا مسافرًا) لكان المعنى أن جملة (ما محمدٌ حاضرٌ) منفية، و (خالدا مسافرا) مثبتة أي وعلمت خالدا مسافرا وهذا نظير قولنا: (علمت خالدا مسافر وما محمد حاضر) فالأولى مثبته، والثانية منفية. فإن قلت (وخالد مسافر) كانت الجملة منفية عطفا على الأولى أي: وما خالد مسافر. وقد تقول: وما الفرق بين قولنا (علمت ما محمدٌ حاضرٌ ولا خالدٌ مسافرٌ) وقولنا (ولا خالدا مسافرًا)؟ والجواب إن الرفع يدل على التشريك في الحكم، فحكم الجملة الثانية بمنزلة الأولى في النفي. أما النصب فيدل على أن (لا) غير معلقة، فإن (لا) على قسمين: معلقة، وهي الواقعة في جواب القسم تقديرا، وهذه لها صدر الكلام، وغير معلقة وهي غير الواقعة في جواب القسم (¬1)، فقولك (ولا خالدا مسافرا) واقع بعد (لا) التي ليست في تقدير جواب القسم، ومعنى ذلك أنها أقل توكيدا لأن جواب القسم آكد من غيره، كما هو معلوم. ظننته لا يفعل وما ظننته يفعل: تقول (ظننته لا يفعل) وتقول (ما ظننته يفعل) قال تعالى {وظنوا ما لهم من محيص} [فصلت: 48]، وقال: {ما ظنتم أن يخرجوا} [الحشر: 2]، والفرق بين التعبيرين، أن قولك (ظننته لا يفعل) إثبات للظن، وقولك (ما ظننته يفعل) نفي له. وإيضاح ذلك أنك تقول (ما ظننت محمدًا خصما) فقد نفيت أن تكون ظننت ذلك. وأما قولك (ظننت ما محمد خصم)، فإنه يثبت الظن، وقد أخبرت أنه دار الأمر في ذهنك وترجح عندك أنه ليس خصما. ¬

_ (¬1) ابن الناظم 81 - 82، الأشموني 2/ 30، التصريح 1/ 255 - 256، حاشية الخضري 1/ 153

الذكر والحذف

ومما يوضح ذلك إنك تقول (ما زعمت محمدًا شاعرا) وتقول (زعمت ما محمد شاعر) فالأولى نفي للزعم، أي لم تزعم هذا الأمر ولم تقله. وأما الثانية فهي إثبات للزعم وإثبات انك عرضت لهذا الأمر وذكرت انه ليس بشاعر. ويوضحه أيضا أنك تقول (ما قلت: محمد مقصر) وتقول: (قلت ما محمد مقصر) فالأولى نفي للقول، والثانية إثبات له. ففي الأولى ذكرت أنك لم تقل هذا الشيء، وفي الثانية إثبات للقول، وإن قلت: ما محمدٌ مقصرٌ. الذكر والحذف يكون الذكر والحذف تبعا لغرض المتكلم، فقد يكون الغرض إثبات وقوع الحدث دون نسبته إلى شخص معين، وذلك كما تقول في غير هذا الباب: حصل لغط، ووقع سهو، ووقعت ريبة، وحدث شك، وتقول في هذا الباب: وقع ظن وحصل علم في هذه المسألة، وقد يكون الغرض إثبات الظن، أو العلم لشخص، فتقول: فلان يظن وهو يعلم وكقولهم (من يسمع يخل) قال تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]، وقال: {وإن هم إلا يظنون} [البقرة: 78]. وههنا يكون الفعل منزلا منزلة القاصر فلا يقدر له مفعول. جاء في (التصريح): " هذا الخلاف في الحذف وعدمه، مجرد اصطلاح عند النحويين وليس من الحذف في شيء عند البيانيين، لأن غرض المتكلم يختلف في إفادة المخاطب، لأنه تارة يقصد مجرد وقوع الحدث من غير تعلق بمفعول، فيسند الفعل إلى مصدر فيقول: وقع ظن أو علم، وتارة يقصد نسبته إلى فاعله من غير تعلق بمفعول فيقول: فلان يظن أو يعلم، فينزل الفعل في هاتين الحالتين منزلة القاصر، وحينئذ، فلا يقال أنه حذف منه شيء كما لا يقال في القاصر أنه حذف منه شيء.

وأما إذا لم ينزل منزلة القاصر فلا بد من ذكرهما، لأن الغرض معلق بإفادتهما" (¬1). وجاء في (كتاب سيبويه): " وأما ظننت ذاك فإنما جاز السكوت عليه، لأنك تقول (ظننت) فتقتصر، كما تقول (ذهبت) ثم تعمله في الظن، كما تعمل ذهبت في الذهاب فـ (ذاك) ههنا هو الظن، كأنك تقول قلت: ظننت ذلك الظن" (¬2). وقد ذهب قسم من النحاة إلى أنه لا يجوز الحذف اقتصارا في هذا الباب، لأن الانسان لا يخلو من علم، أو ظن، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " اعلم أن حذف المفعولين معا في باب أعطيت يجوز بلا قرينة دالة على تعيينها فتحذفهما نسيا منسيا، تقول: فلان يعطي ويكسو إذ يستفاد من مثله فائدة من دون المفعولين بخلاف مفعولي باب (علمت) و (ظننت) لعدم الفائدة، لأن المعلوم أن الإنسان لا يخلو في الأغلب من عدم أو ظن، فلا فائدة في ذكرها من دون المفعولين، وأما مع قيام القرينة فلا باس بحذفها، نحو (من يسمع يخل) أي يخل مسموعه صادقا" (¬3). وجاء في (حاشية الصبان): "ينبغي أن محل امتناع الحذف، إذا أريد الاخبار بحصول مطلق ظن أو علم أما إذا أريد ظننت ظنا عجيبا، أو عظيما، أو نحو ذلك، أو أريد إعلام السامع بتجدد الظن، أو العلم، أو إيهام المظنون، أو المعلوم لنكتة فينبغي الجواز .. ومما يجوز الحذف أيضا تقييد الفعل بظرف، أو جار ومجرور، نحو ظننت في الدار، أو ظننت ذلك، لحصول الفائدة حيئنذ" (¬4). والذي أراه أنه يجوز الحذف اقتصارا كما سبق أن ذكرنا. وقد يكون غرض المتكلم ذكر الفعل ومتعلقاته، فيذكر الفعل ومفعوليه ظننت محمدا مسافرا. قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10]، ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 260 - 261، وانظر المغنى 2/ 612 (¬2) سيبويه 1/ 18 - 19 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 309 (¬4) حاشية الصبان 2/ 34، وانظر ابن الناظم 83

الفاعل

وهنا يجب ذكر المفعولين، ولا يجوز حذفهما، أو حذف أحدهما إلا لقرينة، وذلك نحو قوله تعالى: {أين شركاءي الذين كنتم تزعمون} [القصص: 62]، أي تزعمونهم شركاي، وكقولك: أتظن أحدا قائما؟ فيقال: أظن خالدا، والتقدير (قائما). جاء في (شرح ابن الناظم): "يجوز في هذا الباب حذف المفعولين والاقتصار على أحدهما، أما حذف المفعولين فجائز إذا دل عليهما دليل كقوله تعالى: {أين شركاءي الذين كنتم تزعمون}، تقديره: الذين كنتم تزعمونهم شركاء .. وأما الاقتصار على أحد المفعولين فجائز إذا دل على الحذف دليل" (¬1). وذلك يعود إلى غرض المتكلم. الفاعل حده: الفاعل لغة من أوجد الفعل، واصطلاحا ما أسند إليه عامل مقدم عليه على جهة وقوعه منه أو قيامه به. فالعامل يشمل الفعل، نحو قام زيد، وما ضمن معناه، كالمصدر واسم الفاعل، والصفة المشبهة، وأمثلة المبالغة، واسم الفعل، والظرف، والمجرور. وقولهم على جهة وقوعه منه، نحو ضرب زيد، وقيامه به كلمات زيد (¬2). وجاء في (شرح الأشموني): " الفاعل في عرف النحاة هو الاسم الذي أسند إليه فعل تام، أصلي الصيغة، أو مؤول به" (¬3). ¬

_ (¬1) ابن الناظم 83، وانظر التصريح 1/ 258 - 260، ابن عقيل 1/ 154 (¬2) انظر الهمع 1/ 159، التصريح 1/ 367 - 368 (¬3) الأشموني 2/ 42 - 43، ابن عقيل 1/ 158، وانظر حاشية الصبان 2/ 42، حاشية الخضري 1/ 158

تأخيره عن عامله

فالفاعل في عرف النحاة ليس مختصا بمن أوجد الفعل، بل قد يكون ذلك وقد يكون من كان الفعل حديثا عنه، سواء قام بالفعل أم لم يقم، نحو (مات زيد) وانكسر القلم، ووعر الطريق. قال ابن السراج: " الاسم الذي يرتفع بأنه فاعل هو الذي بنيته على الفعل الذي بني للفاعل ويجعل الفعل حديثا عنه مقدما قبله، كان فاعلا في الحقيقة أو لم يكن، كقولك جاء زيد ومات عمروـ، وما أشبه ذلك, ومعنى قولي بنيته على الفعل الذي بني للفاعل، أي ذكرت الفعل قبل الاسم لأنك لو أتيت بالفعل بعد الاسم، لارتفع الاسم بالابتداء (¬1). تأخيره عن عامله: يشترط جمهور النحاة أن يكون الفاعل متأخرا عن عامله، ولا يصح تقديمه عليه فقولنا (سعد حضر) ليس (سعد) فيه فاعلا في اصطلاح النحاة بل هو مبتدأ (¬2). وأجاز الكوفيون أن يتقدم الفاعل على فعله، فإن (سعدا) في الجملة السابقة فاعل للفعل عندهم (¬3). ويثير المعارضون لهم إشكالات متعددة في شأن تقديم الفاعل على الفعل، منها أنه لو كان يصح تقديم الفاعل لصح أن نقول: المحمدان حضر، والمحمدون حضر، لأن أصله حضر المحمدان، وحضر المحمدون، ومنها أن الفاعل يكون مرفوعا - كما هو معلوم - فقولنا (محمد حضر) فاعل على رأي الكوفيين، فلو أدخلنا (أن) لا تنصب الفاعل وقلنا (إن محمدا حاضر)، ثم أن الاسم أصبح معمولا، لأن وبقي الفعل بلا فاعل، ومنها انك تقول (عبد الله قام) وليس في الفعل ضمير على رأي الكوفيين، لأن الاسم المتقدم فاعله ثم تقول: (رأيت عبد الله قام) فيكون عبد الله مفعولا به، فلا يكون للفعل ¬

_ (¬1) الأصول في النحو: 1/ 81 (¬2) انظر المقتضب 4/ 128، الأصول 1/ 81، ابن عقيل 1/ 161، الأشموني 2/ 45، التصريح 1/ 270، ابن الناظم 87، الهمع 1/ 159 (¬3) انظر ابن عقيل 1/ 161، الصبان 2/ 45

(قام) فاعل أو تضطر إلى تقدير الضمير، فتعود إلى قول البصريين، ومنها أنك تقول: (عبد الله هل قام) فلا يكون عبد الله فاعلا لقام، لأن الاستفهام يمنع أن يعمل ما بعده فيما قبله، إلى غير ذلك (¬1). وهذا خلاف في الأمور الإصطلاحية، وفيما أرى كان ينبغي أن تبحث هذه المسألة على غير هذه الشاكلة، وهو أن يبحث في الخلاف المعنوي بين هذين التعبيرين فيقال مثلا: تقول العرب: حضر سعد، وسعد، فما الفرق بين هذين التعبيرين؟ ولإيضاح ذلك نقول: إن الأصل في الجملة التي مسندها فعل أن يتقدم الفعل، فإن تقدم المسند إليه نظر في سبب ذلك فالأصل أن يقال نحو (حضر سعدٌ) و (قدم خالدٌ) فإن قيل (سعد حضر) و (خالد قدم) نظر في سبب تقديم المسند إليه، والفرق بين التعبيرن أنك قلت: (حضر سعد) قلت ذلك والمخاطب خالي الذهن، ليس في ذهنه شيء عن هذه المسألة فأخبرته أخبارا ابتدائيا، وأما إذا قلت (سعد حضر) فقدمت الفاعل فلا يكون ذلك إلا لغرض، ومن هذه الأغراض: 1 - إزالة الوهم من ذهن المخاطب، وذلك أنه قد يكون المخاطب يظن أن الذي حضر هو خالد لا سعد، فتقدم له الفاعل لإزالة هذا الوهم من ذهنه، فالسامع في الجملة الأولى لا يعلم شيئا عن الأمر، وفي جملة التقديم يعلم أن شخصا ما حضر، ولكن يظنه خالدا لا سعدا. فهو يعلم الحكم لكنه لا يعلم صاحبه بخلاف الجملة الأولى، فإنه لا يعلم أصل المسألة. 2 - القصر والتخصيص: أي تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي تقول مثلا: محمد سعي في حاجتك، وخالد أنجز هذا الأمر، أي ليس غيره، فإن قولك (سعي محمدٌ في حاجتك) يفيد أن محمدٌ كان من الساعين فيها، ولا يمنع أن يكون سعي فيها غيره، ¬

_ (¬1) انظر المقتضب 4/ 128، ابن عقيل 1/ 161

ولكن قولك (محمدٌ سعي في حاجتك) قصرت فيه السعي على محمد دون غيره، جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} [البقرة: 4]، " وفي تقديم الآخرة وبناء يوقنون على (وهم) تعريض بأهل الكتاب، وبما كانوا عليه من إثبات امر الآخرة على خلاف حقيقته، وإن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وإن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك (¬1). 3 - لتعجيل المسرة نحو: الحبيب حضر، البركة حلت، الجيش انتصر، أو لتعجيل الساءة نحو: السفاك حضر، المحذور وقع، الأمر انتشر. 4 - للتعظيم نحو: الملك أعطاني الجائزة، القائد منح محمدا وساما. أو التحقير نحو: الكناس أهان سعيدا، الحوذي ضرب خالدا. 5 - للتعجب والغرابة نحو: المقعد مشي، والأخرس نطق. 6 - تحقيق الأمر وإزالة الشك من ذهن المخاطب كأن تقول: هو يعلم إنه الأمر على ما قلت لك، وإذا كان المخاطب ينفي أن يكون المتحدث عنه عالما بالأمر، فتقدم المسند إليه لإفادة هذا الأمر وتحقيقه. وأنت ترى فرقا بين قولنا: (محمد تكفل بهذا الأمر) وقولنا (تكفل محمد بهذا الأمر) ففي تقديم المسند إليه من التحقيق والتأكيد ما لا يخفى. جاء في (دلائل الإعجاز): "ويشهد لما قلنا إن تقديم المحدث عنه يقتضي تأكيد الخبر، وتحقيقه له، أنا إذا تأملنا وجدنا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار منكر، نحو أن يقول الرجل: ليس لي علم بالذي تقول فتقول له: أنت تعلم إن الأمر على ما أقول ولكنك تميل إلى خصمي .. أو يجيء فيما اعترض فيك شك، نحو أن يقول الرجل: كأنك لا تعلم ما صنع فلان ولم يبلغك فيقول: أنا أعلم ولكني إدارية. أو في تكذيب مدع كقوله عز وجل: {وإذا جاءوكم قالوا أمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} [المائدة: 61]، وذلك إن قولهم (آمنا) دعوى منهم، إنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 105

فالموضع موضع تكذيب، أو فيما القياس في مثله أن لا يكون كقوله تعالى: {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} [الفرقان: 3]، وكذلك في كل شيء كان خبرا على خلاف العادة، وعما كان يستغرب من الأمر نحو أن تقول: ألا تعجب من فلان يدعي العظيم وهو يعني (¬1) باليسير. ومما يحسن ذلك فيه، ويكثر الوعد والضمان، كقول الرجل: انا أعطيك، أنا أكفيك .. وذلك أن من شأن من تعده وتضمن له، أن يعترضه الشك في تمام الوعد، وفي الوفاء به فهو أحوج شيء إلى التأكيد. وكذلك يكثر في المدح كقولك: أنتَ تعطي الجزيل .. وكذلك المتفخر. ويزيدك بيانه أنه إذا كان الفعل مما لا شك فيه، ولا ينكر بحال لم يكد يجيء على هذا الوجه، ولكن يؤتى به غير مبني على اسم، فإذا أخبرت بالخروج مثلا عن رجل من عادته أن يخرج في كل غداة قلت: قد خرج ولم تحتج إلى أن تقول: هو قد خرج ذاك لأنه ليس بشيء يشك فيه السامع فتحتاج أن تحققه وإلى أن تقدمه فيه ذكر المحدث عنه (¬2). 7 - قصد الجنس وهذا يكون في النكرات إذا تقدمت نحو: رجل حضر وأما قولك (حضرني رجل) فإنه يحتمل الجنس الواحد. ونحوه قولك (جاءني طالب) أي واحد من الطلاب ويحتمل أيضا الإخبار عن جنس من جاءك. وأما قولك: (طالب جاءني) فإنك تخبر به إن الذي جاءك هو من جنس الطلاب، لا من غيرهم، فإن السامع يعلم أن أحدًا جاءك لكنه لا يعلم جنسه، أو يظن أنه طالبة مثلا، جاء في (دلائل الإعجاز): " إذا قلت: أجاءك رجل؟ فأنت ترى أن تسأل: هل كان مجيء من أحد من الرجال إليه؟ فإن قدمت الاسم فقلت أرجل جاءك؟ فأنت تسأله عن جنس من جاء، أرجلٌ وأمرأة؟ ويكون هذا منك إذا كنت عملت أنه قد أتاه آت، ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي .. وإذا كان كذلك كان محالا أن تقدم الاسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس .. ¬

_ (¬1) كذا في المطبوع ولعل الأصل: يعيا. (¬2) دلائل الإعجاز 102 - 104

وإذ قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في الاستفهام، فإن الخبر عليه، فإذا قلت: (رجل جاءني) لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة، ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت، فإن لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول: (جاءني رجل) فتقدم الفعل (¬1). 8 - ويتضح الفرق بين التقديم والتأخير في النفي والاستفهام، فلو قلت مثلا (ما سعى محمد في حاجتك) لكنت نفيت السعي عن محمد ولم تثبته لغيره، ولو قلت: (ما محمد سعى في حاجتك) لكان المعنى أنك نفيت السعي عن محمد وأثبته لغيره، أي ليس محمد هو الساعي في حاجتك ولكن الذي سعى غيره، ولذا لا يصح أن تقول: (ما محمد سعى في حاجتك ولا غيره) لأنه تناقض فإنك بقولك (ما محمد سعى في حاجتك) أثبت السعي لغيره أي لم يسع محمد، ولكن سعى غيره، فكيف تقول بعد: ولا غيره؟ بخلاف ما لو قلت: (ما سعى محمد في حاجتك ولا غيره) فإنك نفيت السعي أصلا. جاء في (البرهان): "فإذا قلت: ما ضربت زيدًا كنت نافيا للفعل الذي هو ضربك إياه. وإذا قلت: (ما أنا ضربته) كنت نافيا لفاعليتك للضرب. فإن قلت: الصورتان دلتا على نفي الضرب فما الفرق بينهما؟ قلت من وجهين: أحدهما ان الأولى نفي ضربا خاصا وهو ضربك إياه، ولم تدل على وقوع ضرب غيرك ولا عدمه، إذ نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ولا ثبوته. والثانية نفت كونك ضربته ودلت على أن غيرك ضربه بالمفهوم" (¬2). ونحو هذا أن تقول: (أأعطاك محمد الكتاب)؟ فأنت تسأل أحصلَ هذا الأمر، أي هل حصل إعطاء؟ ولو قلت (أمحمدٌ أعطاك الكتاب) لكان السؤال عمن أعطاك الكتاب أهو محمد؟ فالإعطاء قد حصل في الجملة الثانية أي أن السائل يعلم أن شخصا أعطاه الكتاب، ولكن عنده شك في المعطي، فسأل عنه أهو محمد. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 109 (¬2) البرهان 2/ 375

ونحوه أن تقول: أضرب محمد خالدا؟ وأمحمد ضرب خالدا؟ ففي الجملة الأولى حصل الشك في الضرب، وأما في الثانية فإن الضرب قد حصل، ولكن السؤال عن الضارب، جاء في (دلائل الإعجاز): " وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها وترك تقديمه. ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة، فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت: أفعلت؟ فبدأت بالفعل، كان الشك في الفعل نفسه وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده، وإذا قلت: أانت فعلت؟ فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو؟ وكان التردد فيه، ومثال ذلك أنك تقول: أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه، ؟ تبدأ في هذا ونحوه بالفعل، لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه، لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل وانتفائه، مجوز أن يكون قد كان وأن يكون لم يكن وتقول: أأنت قلت هذا الشعر؟ أأنت كتبت هذا الكتاب؟ فتبدأ في ذلك كله بالاسم، ذلك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان، كيف وقد أشرت إلى الدار مبنية، والشعر، مقولا، والكتاب مكتوبا؟ وإنما شككت في الفاعل من هو؟ فهذا من الفرق لا يدفعه دافع ولا يشك فيه شاك، ولا يخفي فساد أحدهما في موضع الآخر، فلو قلت: أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أأنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ خرجت من كلام الناس وكذلك لو قلت: أبنيت هذه الدار؟ أقلت هذا الشعر؟ أكتبت هذا الكتاب؟ قلت ما ليس بقول" (¬1). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} [الفرقان: 17]، "والمعنى أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ " (¬2). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 86 - 88 (¬2) الكشاف 2/ 403

إضمار الفعل

وقال: " فإن قلت: ما فائدة (أنتم) و (هم) وهلا قيل أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل؟ قلت: ليس السؤال عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب وإنما هو عن متوليه فلابد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه مسؤول عنه" (¬1) إلى غير ذلك من الأغراض (¬2) التي مناطها على الاهتمام والعناية. إضمار الفعل: الأصل أن يذكر فعل الفاعل نحو أقبل خالد، وقد يضمر إذا دلت علي القرينة كأن تقول من زاركم؟ فيقال: إبراهيم. أي زارنا. قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25]، أي خلقهن الله. قال ابن يعيش: "اعلم أن الفاعل قد ينكر وفعله الرافع له محذوف لأمر يدل عليه، وذلك أن الإنسان قد يرى مضروبا أو مقتولا ولا يعلم من أوقع به ذلك الفعل من الضرب أو القتل، وكل واحد منهما يقتضي فاعلا في الجملة فيسأل عن الفاعل فيقول: من ضربه؟ أو من قتله؟ فيقول المسؤول: زيدٌ أو عمرو يريد ضربة زيد أو قتله عمرو، فيرتفع الاسم بذلك الفعل المقدر.، وإن لم ينطق به لأن السائل لم يشك في الفعل، وإنما يشك في فاعله، ولو أظهره فقال: ضربه زيدًا لكان أجود شيء، وصار ذكر الفعل كالتأكيد" (¬3). ومن إضمار الفعل ما يذكره النحاة في نحو قراءة من قرأ (يسبح له فيها بالغدو والأصال رجال) بفتح الباء، إذ يقدرون فعلا يدل عليه الأول، كأنه قيل من يسبحه؟ فيقتل يسبحه رجال، وكقول الشاعر: ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 402 (¬2) انظر الإيضاح 1/ 52، 53، 59، البرهان 2/ 329، المختصر على تلخيص المفتاح 41 - 42، معترك الإقتران 1/ 187 (¬3) ابن يعيش 1/ 80

ببناء الفعل للمجهول ورفع (ضارع) على الفاعلية، فإنه لما قال (ليبك يزيد) كأن قائلا قال: من يبكيه؟ فأجابه: ضارع لخصومة أي يبكيه ضارع (¬1) " وعلى هذا تقول: أكل الخبز زيد، وركب الفرس محمدٌ فترفع زيدًا ومحمدًا بفعل ثان يدل عليه الأول .. ونحوه قول الآخر: أسقى الإله عدواتِ الوادي ... وجوزه كل ملث غادي كل أجش حالك السواد لأنه، إذا أسقاها الله كل ملث، فقد سقاها ذلك الأجش (¬2) وجعل جمهور النحاة من إضمار الفعل نحو قوله تعالى: {إذا السماء انشقت} [الإنشقاق: 1]، وقوله: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمةِ ربي} [الإسراء: 100]، وقولهم (لو ذات سوار لطمتني) فهم يرون أن الفعل محذوف وجوبا يفسره المذكور، والتقدير إذا انشقت السماء انشقت، وإن استجارك أحد استجارك، وقل لو تملكون تملكون، ولو لطمتني ذات سوار لطمتني. وذكر أنه عند الكوفيين فاعل مقدم، ومبتدأ عند الأخفش (¬3). وفي رأي الجمهور نظر، فإنه إذا قدر فعل بعد الأداة لم يكن ثمة معنى للتقديم، وأصبح معنى قولنا (إذا جاء محمد فأكرمه)، و (إذا محمد جاءك فأكرمه) واحدا، ولم يفد التقديم شيئا إلا ما يذكرونه من أن التفسير أفاد الفعل قوة وتأكيدًا. والذي أراه - وهو ما ينسجم مع طبيعة التعبير العربي- أن معنى التقديم غير معنى التأخير، وأن ما قدم من نحو هذا، فإنما يقدم لغرض من أغراض التقديم التي أشرنا إلي طرف منهما. ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 145، المقتضب 3/ 283، الأشموني 2/ 48، ابن الناظم 89، ابن يعيش 1/ 80، التصريح 1/ 273 - 275، الهمع 1/ 160 (¬2) الخصائص 2/ 424 - 425 (¬3) انظر المقتضب 3/ 77، ابن يعيش 1/ 80 - 82، ابن عقيل 1/ 162

فقد يكون التقديم للقصر كقولك (إذا محمد جاءك فأكرمه) فهناك فرق بين قولك (إذا جاء محمد فأكرمه) و (إذا محمد جاءك فأكرمه)، ففي الجملة الأولى تأمر المخاطب بإكرام محمد، ولم تنهه عن إكرام غيره. وأما قولك (إذا محمد جاءك فأكرمه) فإنه يدل على قصر الاكرام على محمد دون غيره، وهو نظير قولك (أكرم محمدًا) و (محمدًا أكرم) فالأولى أمر بإكرام محمد دون إشارة إلى غيره، والثانية تخصيص محمد بالإكرام وقصره عليه، جاء في (الكشاف) في قوله تعالى {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق}: " وتقديره لو تملكون .. فأما يقتضيه علم البيان، فهو أن (تملكون) فيه دلالة على الاختصاص وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ، ونحوه قول حاتم: (لو ذات سوار لطمتني) وقوله المتلمس: ولو غير أخوالي أرادوا نقيضتي وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر (¬1). والزمخشري مع وقوعه على المعنى الصحيح تابع الجمهور في التقدير ههنا، علمًا بأنه إذا كان الكلام دالا على الاختصاص، دل بحكم ذلك على أن المسند إليه مقدم على فعله، وليس كا ذهب إليه الجمهور. وقد يكون التقديم للتهويل كقوله تعالى: {إذا السماء انفطرت. وإذا الكواكب انتثرت. وإذا البحار فجرت} [الإنفطار: 1 - 3]، وكقوله: {إذا الشمس كورت} [التكوير: 1]، فإن في تقديم المسند إليه تهويلا لا تجده في التأخير، ألا ترى أن السماء لم يسبق لها أن انفطرت، ولا الكواكب انتثرت، ولا البحار فجرت، ولا الشمس كورت، فهذه الإجرام مستقرة على عادتها الدهور المتطاولة والاحقاب المتوالية حتى ذهب بعض الناس إلى أنها على حالها ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 247، وانظر التفسير الكبير 21/ 63، الإيضاح 1/ 82

تقديم المفعول على الفاعل

منذ الأزل، وستبقي كذلك أبدًا، ولذلك قدمها إشارة إلى الهول العظيم والحدث الجسيم الذي يصيب هذه الأجرام، ألا ترى إلى قوله تعالى مثلا: {إذا زلزت الأرض زلزالها} [الزلزلة: 1]، كيف أخر المسند، لأن الزلزلة معهودة، مستمرة الحصول، بخلاف ما سبق ونحوه قوله تعالى: {فإذا برق البصر. وخسف القمر}، [القيامة: 7 - 8]، ولم يقل (وإذا القمر خسف) لأن خسوف القمر معتاد الحصول، ونحوه بريق البصر، وقد يكون لغير ذلك من أغراض التقديم التي ذكرنا طرفا منها. وأظن أن تفسير مثل هذا وبيان معناه، أولى من ذكر الخلاف الذي لا طائل تحته، فيحس دارس العربية أن لهذا غرضا يرمي إليه المتكلم فيراعيه هو في كلامه، بخلاف ما يذكر من خلافات وأعاريب وتقديرات سمجة، نحو إذا انشقت السماء، وإذا انفجرت البحار فجرت مما يتنزع عنه الكلام البليغ، ولا يهضمه العقل، وينبو عنه الذوق. تقديم المفعول على الفاعل: الأصل أن يتقدم الفاعل على المفعول نحو قولك (أكرم خالد سعيدًا) فهذا التعبير هو التعبير الطبيعي في اللغة، ويقال والمخاطب خالي الذهن. فإن حصل أي تغيير في هذه الصورة فإنما يحصل لغرض، وذلك كأن تقول: خالد أكرم سعيدًا بتقديم المسند إليه، كما أسلفنا أو أكرم سعيدا خالد خالد بتقديم المفعول به على الفاعل، أو سعيدا أكرم خالد بتقديم المفعول به على الفعل، والذي يعنينا هنا تقديم المفعول به على الفاعل. يذكر النحاة أن الأصل أن يلي الفاعل الفعل (¬1)، ويجوز تقديم المفعول على الفاعل إلا إذا حصل لبس، فإنه عند ذلك يجب الابقاء على الأصل، وذلك كأن يخفى الأعراب ولا قرينة، نحو ضرب موسى عيسى، وأكرم هذا ذاك، وأكرم أخي صديقي، وأهان هذا من زاركم. فإن المتقدم هو الفاعل، فإن كانت هناك قرينة جاز التقديم، نحو أكل الكمثري موسى، وضرب ليلى عيسى. ¬

_ (¬1) الجمل للزجاجي 24، ابن عقيل 1/ 165، ابن الناظم 91، الرضي على الكافية 1/ 75، الأشموني 2/ 55، الهمع 1/ 161، التصريح 1/ 281

كما يجب تقديم الفاعل على المفعول في الحصر نحو: إنما أكرم خالد محمدًا، لأنه لو تأخر لانقلب المعنى. (¬1) وهناك مواطن لوجوب تقديم المفعول على الفاعل ليس هذا موطن ذكرها، وإنما الذي يعنينا هنا مواطن جواز تقديم المفعول على الفاعل، لأنه موطن التعرف، لأنه موطن التصرف، وأما مواطن الوجوب فهي لازمة ليس فيها تصرف. إن مدار المفعول على الفاعل في اللغة إنما يدور على الاهتمام والعناية كسائر مواطن التقديم قال سيبويه: " وإن قدمت المفعول، وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول، وذلك قوله: ضرب زيدا عبد الله، لأنك إنما أردت به مؤخرا ما أردت به مقدما، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه، وإن كان مؤخرا وهو عربي جيد كثير، كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعني وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم (¬2). فمدار الأمر إذن هو الاهتمام والعناية وإن كان موطن الاهتمام مختلفا بحسب المقام قال تعالى: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} {آل عمران: 140}، فأنت ترى ههنا أنه قدم المفعول (القوم) على الفاعل (قرح)، وذلك هو الوجه هنا. أن هذه الآية نزلت في معركة أحد التي أصاب المسلمين فيها أذى شديد، وقتل فيها من قتل، من المسلمين، وشج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله هذه الآيات يواسيهم ويمسح عنهم الحزن الذي أصابهم، قال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوح قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين أمنوا ويتخذ منكم شهداء} [آل عمران: 139 - 140] , ¬

_ (¬1) انظر ابن عقيل 1/ 165، ابن الناظ 92، حاشية الخضري 1/ 165، الأشموني 2/ 55 - 56، حاشية الصبان 2/ 55 - 56، التصريح 1/ 281، الهمع 1/ 161 (¬2) سيبويه 1/ 14 - 15

فأخبرهم أن القرح والأذى لم يصبهم وحدهم إنما أصاب أعداءهم أيضا وقدم العدو لأنه هو الذي يعني المسلمين ههنا، إذ ليس المهم القرح، وإنما المهم من أصاب، فقدم القوم لأن أصابه هؤلاء بأعينهم هو الذي يواسي المسلمين ويخفف عنهم الحزن. ومن هذا الباب قوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفي الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} [الأنفال: 50]، قدم المفعول به (الذين كفروا) على الفاعل لأن السياق على الذين كفروا، وتغليظ عقوبة الكفر وبيان عاقبة الكافرين قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [الأنفال: 30]، {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله} [الأنفال: 36]، {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39]، {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غز هؤلاء دينهم} [الأنفال: 49]، {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} [الأنفال: 50]. فإن المراد بيان حال هؤلاء عند الاحتضار، ولم يقدم الملائكة لأنه لا يتعلق غرض بذكرهم، فإن الملائكة يتوفي بني آدم جميعا، مؤمنهم وكافرهم قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} [السجدة: 11]. إن الغرض ههنا كما ذكرت، بيان احتضار الكافر وإنه ليس كاحتضار المؤمن، وإنه يلقى عذابا ومشقة في احتضاره، وإنه يبدأ صب العذاب عليه حين التوفي، فالمقصود هنا تشنيع حالة الكفر وبيان غلظ عقوبة الكافرين فقدم الذين كفروا، ولو قدم الملائكة في هذا الموطن لم يفد هذا المعنى. وقد تقول: ألم يقدم الله تعالى المفعول به في قوله: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} [السجدة: 11]، وقوله: {توفته رسلنا} [الأنعام: 61]، والجواب، إن هذا من مواطن وجوب تقديم المفعول به، لأنه ضمير واجب الاتصال كما هو معلوم، ولا يصح تأخيره كما تقول: أكرمك محمد ولا تقول: أكرم محمدٌ إياك، وكلامنا فيما كان مجال للتصرف والاختيار.

ومن هذا الباب قوله تعالى: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين} [هود: 67]، وهو نظير ما مر لأن الكلام على الذين ظلموا وعاقبتهم، وهذا بخلاف قوله تعالى {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء: 105]، {كذبت ثمود المرسلين} [الشعراء: 141]، فإنه أخذ يسرد أحوال هؤلاء المكذبين ثم عاقبتهم، فكان المناسب تقديمهم، وكذلك قوله {وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} [الرعد: 11]، فإن المراد بيان أن إرادة الله لا تقهر ولا تغلب، ولا راد لها فإذا أراد الله امرا أنفذه، فالمناسب هنا تقديم الفاعل (الله)، ثم إن السياق، في بيان قدرة الله تعالى وبالغ علمه وقوته: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون. وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وإن تعجب فعجب قولهم أذنا كنا ترابا أءنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب، ويقول الذي كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد. الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا اراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال، هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشيء السحاب الثقال} [الرعد: 2 - 12].

ألا ترى كيف أن المناسب هنا تقديم الفاعل المريد، الذي لا يرد حكمه، ولا يقوم لأمره شيء؟ وقد أوضح عبد القاهر شيئا من هذا فقال: " واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام، قال صاحب الكتاب وهو يذكر الفاعل والمفعول: كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم بشأنه أعني، وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم ولم يذكر في ذلك مثالا. وقال النحويون: أن معنى ذلك أنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما، أن يقع بإنسان بعينه، ولا يبالون من أوقعه كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيث ويفسد ويكثر به الأذى، إنهم يريدون قتله، ولا يبالون من كان القتل منه، ولا يعنيهم منه شيء. فإذا قتل وأراد مريد الاخبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي، فيقول (قتل الخارجي زيد) ولا يقول (قتل زيد الخارجي) لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له (زيد) جدوى وفائدة، فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم، ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه، متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد، وأنهم قد كفوا وتخلصوا منه. ثم قالوا فإن كان رجل ليس له بأس، ولا يقدر فيه أن يقتل فقتل رجلا وأراد المخبر أن يخبر بذلك فإنه يقدم ذكر القاتل فيقول: قتل زيد رجلا. ذلك لأن الذي يعينه، ويعني الناس من شأن هذا القتل طرافته، وموضع الندرة فيه، وبعده كان من الظن. ومعلوم انه لم يكن نادرا وبعيدا من حيث كان واقعا بالذي وقع به، ولكن من حيث الذي كان واقعا من الذي وقع منه (¬1). وإليك مثلا آخر يوضح الفرق بين هذه التعبيرات تقول: أعان محمد خالدًا، ومحمد أعان خالدًا. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 84 - 85

تذكير الفعل وتأنيثه

وأعان خالدًا محمدٌ، وخالدًا أعان محمدٌ. فالتعبير الأول (أعان محمد خالدا) تقوله والمخاطب خالي الذهن، فأخبرته إخبارا ابتدائيا. والتعبير الثاني (محمد أعان خالدا) يقال إذا كان المخاطب يعلم أن شخصا ما أعان خالدا، ولكنه يظن أنه سعيدا مثلا، لا محمد فتقدم له المسند إليه لتزيل هذا الوهم، أو تقوله بقصد الحصر أو لشيء من الأعراض التي سبق ذكرها. والتعبير الآخر (أعان خالدا محمد) يقال إذا كان الخاطب يعنيه أمر خالد، كأن يكون أخاه أو صديقه فيهمه أمر المعان لا المعين، إذ المهم أن يكون خالد هو المعان لا من أعانه فأخر الفاعل، وقدم المفعول لذلك. وقولنا (خالدا أعان محمد) يقال بقصد الحصر، أي أن محمدا لم يعن غير خالد، كقوله تعالى: {إياك نعبد} [الفاتحة: 5]، أو يقال بقصد إزالة الوهم من ذهن المخاطب، إذا كان السامع يعلم أن محمدًا أعان شخصا ولكنه يظن إنه سعيد لا خالد، فقدم المفعول لإزالة هذا الوهم. أو لغير ذلك من الأغراض التي سبق أن أشرنا إليها. تذكير الفعل وتأنيثه (¬1): يذكر النحاة أن تاء التأنيث تلزم الفعل في موضعين: أحدهما أن يسند الفعل إلى ضمير مؤنث متصل سواء كان المؤنث حقيقا أم مجازيا، نحو هند قامت والشمس طلعت وهند تقوم والشمس تطلع، ولا تقول قام ولا طلع. فإن كان الضمير منفصلا لم يؤت بالتاء نحو هند ما قام إلا هي. والآخر أن يكون الفاعل ظاهرا حقيقي التأنيث (¬2) غير مفصول عن الفعل، ¬

_ (¬1) من المعلوم أن الفعل لا يتصف بتذكير ولا تأنيث وإنما تقول هذا تجوزا. (¬2) المؤنث الحقيق هو ما كان له مذكر من جنسه أو كما يقول النحاة هو ما كان له فرج ويكون في الإنسان والحقيقي ولا يكون في غيرهما نحو فاطمة وليس نحو ثمرة ولا مدرسة.

نحو قامت هند، أما المجازي التأنيث فلا تلزمه التاء نحو طلعت الشمس وطلع الشمس، فإن فصل بين الفعل وفاعله المؤنث الحقيقي بغير (إلا) جاز إثبات التاء وحذفها والأجود الإثبات، فتقول: أتي خالدا سلمى، والأجود أتت. فإن فصل بين الفعل والفاعل المؤنث بـ (إلا) لم يجز إثبات التاء عند الجمهور، فتقول ما قام إلا هند، ولا يجوز ما قامت إلا هند (¬1). أما بالنسبة إلى الجمع فإنه يدل إذا أسند الفعل إلى جمع مذكر سالم فحكم الفعل فيه كحكمه مع واحده فتقول: حضر المحمدون، ولا تقول حضرت المحمدون. وما عدا هذا الجمع فيجوز فيه إثبات التاء وحذفها، قال تعالى {قالت الأعراب أمنا} [الحجرات: 14]، {وقال نسوة في المدينة} [يوسف: 30]، وتقول: (قامت الطالبات) و (قام الطالبات)، وفي التعبير الأخير خلاف، فإن البصريين يذهبون إلى وجوب تأنيث جمع المؤنث السالم الحقيقي التأنيث، ونحو طالبات لا كظلمات وثمرات وأما التذكير في قوله تعالى: {إذا جاءك المؤمنات} [الممتحنة: 12]، فللفصل بالكاف (¬2). والذي يهمنا من هذا موطن الجواز لا موطن الوجوب، فإن النحاة يذكرون - كما أسلفنا - إنه إذا كان الفصل بين الفعل وفاعله المؤنث الحقيقي بغير (إلا) جاز إثبات التاء وحذفها، والأجود الإثبات فتقول: أتي القاضي بنت الواقف والأجود أتت (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ابن عقيل 1/ 162 - 163، حاشية الخضري 1/ 162، المقتضب 2/ 146، 148، 338، ابن الناظم 90، الأشموني 2/ 50 - 53، الهمع 2/ 171، التصريح 1/ 277، 279، سيبويه 1/ 235 (¬2) التسهيل 75، ابن عقيل 1/ 164، حاشية الخضري 1/ 164، الأشموني 2/ 54، التصريح 1/ 280، ابن الناظم 91، الهمع 2/ 171 (¬3) انظر ابن عقيل 1/ 163

وقال سيبويه: " وقال بعض العرب: قال فلانة، وكلما طال الكلام فهو أحسن، نحو قولك حضر القاضي امرأة، لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل" (¬1). والذي أراه أن هذا الكلام ليس على إطلاقه وإنما الذي يقرره المعنى، فليس إثبات التاء في الحقيقي التأنيث أجود، ولا إذا طال الكلام كان الحذف أجمل، سواء كان المؤنث حقيقيا أم مجازيا ودليلنا على ذلك كلام الله تعالى. قال تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه} [البقرة: 275]. وقال: {قد جاءتكم موعظة} [يونس: 56]، فذكر الفعل في الأولى مع أن الفصل أقل، لأنه بالهاء وأنث في الثانية مع أن الفصل أكثر لأنه بـ _ (كم). وقال: {من بعد ما جاءتهم البينات} [البقرة: 253]، وقال: {من بعد ما جاءهم البينات} [البقرة: 105]، فمره أنث ومرة ذكر والفصل واحد. وقال: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} {هود: 67}. وقال: {وأخذت الذين ظلموا الصيحة} [هود: 94]، فمره أنث، ومره ذكر، والفصل واحد. وقال: {أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} [الممتحنة: 10]. فحذف التاء مع أنه حقيقي التأنيث. وعلى قول النحاة يكون هذا خلاف الأجود. فالحق أن المعنى هو الحاكم في كل ذلك، فمرة يكون التأنيث أجود، ومرة يكون التذكير أجود، بحسب القصد والسياق، طال الفصل أم قصر. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 235

فقد تقصد باللفظ المؤنث معنى مذكر، فتذكر الفعل له، وقد تقصد باللفظ المذكر معنى المؤنث، فتستعمله استعمال المؤنث، حملا على المعنى، جاء في (الخصائص): فمن تذكير المؤنث قوله: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها ذهب بالأرض إلى الموضع والمكان .. وكذلك قوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه} لأن الموعظة والوعظ واحد .. وعليه قول الخطيئة: ثلاثة أنفس وثلاث ذود ... لقد جار الزمان على عيالي ذهب بالنفس أي الإنسان، فذكر. وتذكير المؤنث واسع جدا، لأنه رد فرع إلى أصل، لكن تأنيث المذكر أذهب في التناكر والاغراب .. وأنشدوا: أتهجر بيتا بالحجاز تلفعت ... به الخوف والأعداء من كل جانب ذهب بالخوف إلى المخافة .. وقال: يا أيها الراكب المزجي مطيتة ... سائل بني أسد ما هذه الصوت ذهب إلى تأنيث الاستغاثة، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو، أنه سمع رجلا من أهل اليمن يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول: جاءته كتابي؟ فقال: نعم أليس بصحيفة! قلت: فما اللغوب؟ قال: الأحمق (¬1). ¬

_ (¬1) الخصائص 2/ 411، 416

والحمل على المعنى مدار كثير من أحوال التذكير والتأنيث في القرآن الكريم، ولقد يكون، لغرض آخر، كتنزيل المذكر منزلة المؤنث وبالعكس، أو لغير ذلك من الأغراض ومما ورد في القرآن الكريم من هذا الباب تذكير وتأنيث (الشفاعة) فقد ورد معها الفعل مؤنثا حيثما وردت إلا في موطن واحد. قال تعالى: {ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة} [البقرة: 123]، وقال: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48]، وقال {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن} [طه: 109]، وقال: {ولا تنفع الشفاعة عنده} [سبأ: 23]، وقال: {إن يردن الرحمن بض لا تغني عني شفاعتهم شيئا} [يس: 23]. وقال: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا} [النجم: 26]. أما الموطن الذي ورد بتذكيرها فهو قوله تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} [البقرة: 48]، وسبب ذلك، والله أعلم أن الآيات التي وردت بتأنيث الشفاعة هي بمعناها لمؤنث، أما الآية التي وردت بتذكيرها فمعنى الشفاعة فيها هو (الشفيع) أو على معنى (ولا يقبل منها طلب شفاعة) ويدلك قوله تعالى ههنا (ولا يقبل منها)، بخلاف الآيات الآخرى التي فيها (لا تنفع)، و (لا تغني)، مما يدل على الشفاعة في الآيات السابقة بمعناها دون الأخرى، لأن الكافرين لا يشفعون لأنفسهم وإنما يطلبون الشفاعة من غيرهم لهم، أي يطلبون شفيعا يشفع لهم عند ربهم. ومعلوم أن الشفيع يشفع لغيره لا لنفسه (¬1). فمعني الشفاعة هنا إذن (الشفيع) أو (ذو الشفاعة) أو طلب الشفاعة، بخلاف ما ورد في الآيات الأخرى ولذلك ذكرها. ¬

_ (¬1) انظر لسان العرب (شفع) 10/ 50، تاج العروس (شفع) 5/ 400

ومن ذلك ما جاء فيه تذكير وتأنيث الموعظة. فقد استعملت فاعلة في موطنين مرة مذكرا مرة مؤنثا قال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وامره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 275]. فاستعملها مذكرة وذلك لأنها بمعنى (النهي) ألا ترى إلى قوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} أي جاءه نهي فانتهى، وإلا فالموعظة ليست نهيا، فقط، بل هي أوامر ونواه فالموعظة هنا معناها النهي عن الربا ولذلك ذكرها. وقال: {هو يحي ويميت وإليه ترجعون. يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور} {يونس: 56 - 57}. فاستعمالها مؤنثة لأنها بمعناها، وليس بمعنى مذكر. ومن ذلك ما جاء فيه من تذكير وتأنيث (الضلالة) فقد استعملها فاعلة في موطنين مرة مذكرة، ومرة مؤنثة، قال تعالى: {كما بدأكم تعودون. فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون} [الأعراف: 29 - 30]. وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدي الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} [النحل: 36]. ذكر الضلالة في آية الأعراف، لأنها بمعنى العذاب، لأن الكلام في الآخرة فإن المعنى: تعودون كما بدأكم أي يعيدكم كما أنشأكم فريقين، فريقا هداه الله وفريقا حق عليه العذاب، كما قال تعالى في موطن آخر {وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18]، لأن الآخرة ليست مقام ضلال، فإن الأمر انتهي وانكشف والغطاء، واتضح ما كان مستورا خفيا، وبان ما كان يذكره رسل الله، وكأن المعنى (وفريقا حق عليه مؤدى الضلالة) ومؤدى الضلالة العذاب.

أما في آية النحل/ فالضلالة بمعناها فأنثها لذلك، وهي في الدنيا وليست في الآخرة، ألا ترى إلى قوله تعالى فيما بعد {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} بخلاف الآية الأولى. ومن ذلك استعمال القرآن (العاقبة) مذكرة، حيث وقعت بمعنى العذاب قال تعالى: {كيف كان عاقبة المكذبين} [الأنعام: 11]. {كيف كان عاقبة المكذبين} [النحل: 36] {كيف كان عاقبة الكذبين} [آل عمران: 137]، {كيف كان عاقبة المجرمين} [الأعراف: 84]. {كيف كان عاقبة المجرمين} [النمل: 69]، {كيف كان عاقبة المفسدين} [الأعراف: 85]، {كيف عاقبة المفسدين} [النمل: 14]، {كيف كان عاقبة الظالمين} [يونس: 39]، {كيف كان عاقبة الظالمين} [القصص: 40]، {كيف كان عاقبة المنذرين} [يونس: 73] {كيف كان عاقبة المنذرين} [الصافات: 73]. {كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين} [النمل: 51]. وغير ذلك ولم ترد في القرآن مؤنثة، إلا في موطنين، هما قوله: {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} [الأنعام: 135]، وقوله: {وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكلم له عاقبة الدار} [القصص: 37]. وهما ليسا بمعنى العذاب كما هو ظاهر، بل معناهما (الجنة)، قال الزمخشري: " عاقبة الدار: العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها" (¬1). فأنثها لذلك فحيث ذكر العاقبة كانت بمعنى العذاب، وحيث أنثها كانت بمعنى الجنة. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 529

ومن ذلك تذكير وتأنيث (البينة) فقد استعملها مذكرة، كما استعملها مؤنثة قال تعالى: {وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه اولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} [طه: 133]. وقال: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون، أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين. أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} [الأنعام: 155 - 157]. فقد أنث البينة في آية طه، لأنها بمعناها، أو هي بمعنى الآية والعلامة. وذكر الثانية لأنها بمعنى الكتاب، والكتاب مذكر ألا ترى إلى السياق: وهذا كتاب. إلى أن يقول: {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم} أي جاءكم ما كنتم تتمنون وتطلبون، وهو الكتاب. ونحوه تذكير وتأنيث (البينات) فقد أنثها حيث كانت بمعنى العلامات الدالة على النبوات قال تعالى: {ياأيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم، هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر وإلى الله ترجع الأمور، سل بني اسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} [البقرة: 208 - 211]، أنث البينات لأنها بمعنى الآيات أي العلامات المظهرة للنبوات والدلائل إلا ترى بعدها قوله (هل ينظرون إلا .. ) وقوله (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة) فأنث لأنها بمعنى العلامات الدالة على النبوات. وقال: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات} [البقرة: 253]. والبينات هنا أيضا بمعنى المعجزات، والآيات الدالة على النبوات، الا ترى إلى قوله تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وآيدناه بروح القدس}.

وقال: {يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات} [النساء: 153]. وهي هنا أيضا بمعنى الآيات الدالة على النبوات والمعجزات، وذلك ظاهر، ألا تراها منتظمة مع سأله أهل الكتاب من الآيات؟ ثم إن اتخاذ العجل كان بعد ظهور الآيات مع السحرة، وانفلاق البحر، وغرق فرعون، وغيرها من الآيات. في حين استعملها مذكرة في قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران: 102 - 105]. وذلك لأنها بمعنى الأمر والنهي، أو بمعنى الدين أو حبل الله، وليس بمعنى الآيات الدالة على النبوات، ألا تراها منتظمة في سياق الأمر والنهي، وليس في ساق الآيات والمعجزات؟ فحيث كانت بمعناها المؤنث انثت وحيث كانت بمعنى المذكر ذكرت. ومن ذلك تأنيث وتذكير (الصيحة) فقال في قوم صالح {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} [هود: 67]، بالتذكير، وقال في قوم شعيب: {وأخذت الذين ظلموا الصيحة} [هود: 94]، بالتأنيث وقد ذكر السهيلي أن " الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي، إذ كانت منتظمة بقوله سبحانه وتعالى {ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز} فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي وعن العذاب المذكور في الآية فقوي التذكير بخلاف قصة شعيب فإنه لم يذكر فيها ذلك" (¬1). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 1/ 126، البرهان 3/ 368

وقال ابن القيم: " وعندي فيه جواب أحسن من هذا إن شاء الله، وهو أن الصيحة يراد بها لمصدر بمعنى الصياح، فيحسن فيها التذكير، ويراد بها الواحدة من المصدر فيكون التأنيث أحسن. وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة في اللفظ: أحدها الرجفة في قوله في (الأعراف): {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} [الأعراف: 78] (¬1) ". الثاني: الظلة: {فأخذهم عذاب الظلة} [الشعراء: 189]. الثالث: الصيحة: {وأخذت الذين ظلموا الصيحة} وجمع لهم بين الثلاثة فإن الرجفة بدأت بهم فاصحروا إلى الفضاء خوفا من سقوط الأبنية عليهم فصهرتهم الشمس بحرها، ورفعت لهم الظلة فأهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس، فنزل عليهم من العذاب وفيه الصيحة، فكان ذكر الصيحة مع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصياح، وكأن ذكر التاء والله أعلم (¬2). قال أبو البقاء: " وقد يترجح أحد المتساويين في نفس الأمر مع جواز الآخر كما في قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14]، {وقال نسوة في المدينة} [يوسف: 30]، تنزيلا لهم منزلة الإناث في نقصان العقل إذ لو كملت عقولهم لدخل الإيمان في قلوبهم، ألا ترى ان النسوة لما وصفوا زليخا بالضلال المبين، وذلك من شأن العقل التام نزلن الذكور (¬3) ". وذكر الفراء أن تذكير الفعل في قوله تعالى: {وقال نسوة} ونحوه يدل على القلة بخلاف التأنيث. قال: " {وقال نسوة في المدينة} [يوسف: 30]، فذكر الفعل لقلة النسوة .. ومنه قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} [التوبة: 5]، ولم يقل انسلخت ¬

_ (¬1) والصواب (في درهم). (¬2) بدائع الفوائد 1/ 126، وانظر البرهان 3/ 368، تسهيل السبيل (¬3) الكليات 328

وكل صواب. وقال الله تبارك وتعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك} [الإسراء: 36]، لقلتهن ولم يقل (تلك)، ولو قيلت كان صوابا" (¬1). والذي يبدو صواب هذا القول، فقد استعمل القرآن التأنيث أحيانا للدلالة على الكثرة بخلاف التذكير، قال تعالى: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسول من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} [آل عمران: 183]. فقال {قد جاءكم رسل} تذكير الفعل، وقال: {ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق، ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون} [الأعراف: 43] فأنث الفعل، والفرق واضح بين الأمرين، فإن الأولى خطاب لبني إسرائيل فقال لهم {قد جاءكم رسل} والثانية في رسل الله جميعا، لأن الكلام على لسان أهل الجنة في الآخرة، فالرسل في الآية الثانية أكثر عددا مما في الآية الأولىى، فأنث الفعل للكثرة وذكره للقلة، وقال أيضا {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذي نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} [الأعراف: 53]. وهذه الآية نظيرة الآية السابقة فإن الكلام في الآخرة أيضا، فأنث الرسل للدلالة على الكثرة والله أعلم. وهذا ميدان واسع نكتفي منه بما ذكرنا. ¬

_ (¬1) معاني القرآن 1/ 435

الفاعل المفسر بالتمييز

الفاعل المفسر بالتمييز يضمر الفاعل أحيانا ويفسر بالتمييز نحو قوله تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} [الكهف: 5]، أي ما أكبرها كلمة وكقولك (بلغت خطبة ألقاها خطيب اليوم) أي ما أبلغها خطبة، ويقدر النحاة الفاعل ضميرا مستترا يفسره التمييز المذكور، ففي الآية يقدره النحاة كبرة الكلمة كلمة، وفي المثال يقدرونه: بلغت الخطبة خطبة. ويفيد إضمار الفاعل وتفسيره بالتمييز، أن الفعل خرج من الخبر إلى معنى آخر، كالتعجب، أو إلى المدح، والذم، فقولك (بلغت خطبة ألفاها خطيب اليوم) يفيد التعجب كما ذكرنا، أو يفيد المدح كقولك (نعم الخطبة)، ولو صرحت بالفاعل فقلت (بلغت خطبة) أو (بلغت الخطبة) لاحتمل ذلك الأخبار، أي أخبرت أن خطبة بليغة ألقاها الخطيب واحتمل الإنشاء على معنى التعجب، أو إنشاء المدح والذم. وسيأتي مزيد لهذا البيان في باب المدح والذم إن شاء الله تعالى، وقد يفيد الاستغناء بالتمييز عن الفاعل أن الفعل خرج إلى النهي، وذلك كما في فاعل (كفى) المفسر بالتمييز نحو (كفى إذلالا) و (كفى إرهاقا) و (كفى تعنتا)، والمقصود بهذا طلب الكف عن التمييز والانتهاء عنه، أي إنته عن الإذلال، والإرهاق، والتعنت/، ولذا لا يقال: كفى قلما ولا كفى شجرة لأنه لا يطلب الكف عن القلم والشجرة، أما إذا قلت (كفى الإذلال والإرهاق) فإنه يحتمل هذا المعنى، وهو طلب الكف عن الفاعل، ويحتمل الأخبار بأن هذا الأمر كفى عن غيره، كأن تقول: (كفى العلم أهل الفضل) أي كفاهم عن غيرهم، فهم قد اكتفوا به، ولا تقول (كفى علما أهل الفضل) على هذا المعنى، بل على معنى طلب الكف عن العلم، ويكون أهل الفضل منادي. ويصح أن تقول (كفى قلمٌ) و (كفى كتابٌ) على معنى الإخبار، بأن القلم كان كافيا وكذلك الكتاب. والخلاصة أن التمييز الذي يفسر الفاعل، ينقل الفعل من دلالة الأخبار إلى دلالة الإنشاء.

نائب الفاعل

نائب الفاعل قد يترك الفاعل ويؤتى بما ينوب عنه لأغراض متعددة، منها - كما يقول النحاة - لفظي كالسجع نحو قولهم (من طابت سريرته حمدت سيرته) ولإقامة النظم (¬1) كقوله: علقتها عرضا وعلقت رجلا ... غيري، وعلق أخري ذلك الرجل ومعنوي كأن يحذف للجهل به، كقولك (سُرق المتاع)، و (كسر الباب)، إذا لم تعلم فاعله. أو للعلم به فقد يكون معلومًا للمخاطب، فلا تكذهر له، كقولك (خلق الإنسان عجولا) أي خلق الله الإنسان. وقد يحذف لأنه لا يتعلق غرض بذكره، وذلك نحو قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]، فإنه لا يتعلق غرض بذكر المحصر، إذ لو ذكر فاعلا بعينه لتوهم أن هذا الحكم مختص بهذا الفاعل دون غيره، وكقوله تعالى: {أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} [البقرة: 108]، وقوله: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} [البقرة: 246]، فإن الحكم لا يتغير بذكر المخرج، ونحوه قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء: 86]، فإنه حذف الفاعل لأنه لا يتعلق غرض بذكره. ومثله قوله {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 140]، وقوله: {إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها} [النساء: 140]، وقوله {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء: 148]. أيا كان الظالم وقوله: {وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب} [المائدة: 3]، أيا كان الذابح وقوله: {فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما} [المائدة: 107]، ، أيا كان العاثر. ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 161 - 162، التصريح 1/ 286، الأشموني 2/ 61، الصبان 2/ 61، حاشية الخضري 1/ 167

ففي هذه المواطن حذف الفاعل، لأنه لا يتعلق بذكره غرض. جاء في (التصريح): " أو لغرض معنوي - أي يحذف الفاعل - كأن لا يتعلق بذكره غرض أي قصد، نحو (فإن احصرتم) (وإذا حييتم) {إذا قيل لكم تفسحوا} [المجادلة: 11]، إذ ليس الغرض من هذه الأفعال إسنادها إلى فاعل مخصوص، بل إلى أي فاعل كان" (¬1). وقد يحذف للخوف منه كأن تقول (هدم البناء)، وأنت تعلم الفاعل، فلا تذكره خوفا من أن ينالك بأذى، ومثله (كسر الباب)، و (سرق الكتاب). أو للخوف عليه، فتستر ذكره، لئلا يناله أذى، نحو قولك (قتل خالد)، ولم تذكر فاعله خوفا من أن يؤخذ بقولك. أو تقصد إبهامه، فلا يريد المتكلم إظهاره، كقولك (تصدق على مسكين) و (أهين متكبر) فلا تريد إظهار الفاعل بقصد التواضع مثلا، أو لغرض آخر، أو للتحقير كقولك (عمل الكنيف وكنس السوق). أو للتعظيم نحو (خلق الخنزير، ) فتستر ذكره بجنب ذكر الخنزير تعظيما له (¬2) وكقوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلغي ماءك وياسماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر} [هود: 44]، فإن في ستره تعظيما للفاعل الذي يأمر السماء والأرض من وراء حجاب فيطاع. والتعظيم قد يكون بذكر الفاعل، وقد يكون بتركه، فمما يكون بذكر الفاعل نحو قوله تعالى: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله} [النساء: 88]، فإنه لا يحسن هنا حذف الفاعل فإنه لو قال: (أتريدون أن تهدوا من أضل) بالبناء للمجهول لكان من الممكن أن يقال: نعم: فإن مهمة الأنبياء والرسل والمصلحين هداية الضال، ولكن لما قيل {أتريدون أن تهدوا من أضل} علم أن المقصود أن هؤلاء باقون على ضلالهم، وأنه لا يقدر أحد أن ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 286 (¬2) انظر حاشية الخضري 1/ 167، الأشموني 2/ 61، حاشية الصبان 2/ 61، الهمع 1/ 161، ابن الناظم 93، ابن يعيش 7/ 69

يغير ما أراد الله، فإذا أضله الله فمن يستطيع هدايته غيره سبحانه؟ بخلاف ما لو قبل (من اضل). وهناك خط واضح وظاهرة بينة في التعبير القرآني، وهي أن الله سبحانه يذكر نفسه تنزيها لها عن فعل الشر وإرادة السوء، فإنه مثلا عندما يذكر النعم ينسبها إليه، ولم يبن فعل النعمة للمجهول، لأن النعمة خير وتفضل منه، قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3]، وقال: {قد أنعم الله علي} [النساء: 72]، وقال: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين} [النساء: 69]، وقال: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونا بجانبه، وإذا مسه الشر كان يؤوسا} [الإسراء: 83]، ففي النعمة أظهر نفسه فقال (أنعمنا) وفي الشر قال (مسه الشر) ولم يقل (مسسناه بالشر) وقال: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7]، وقال: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه} [الزخرف: 59]، وقال: {الذي خلقني فهو يهدين، والذين هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 78 - 80]. فأنت ترى أن نسب الخير إلى ربه فقال: {والذي هو يطعمني ويسقين} ونسب السوء إلى نفسه، فقال: {وإذا مرضت فهو يشفين} ولم يقل وإذا أمرضني فنسب المرض إلى نفسه، والشفاء إلى الله تعالى. وقال: {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} [الجن: 10]، فبني الشر للمجهول (أشر أريد) ونسب الخير والرشد إلى الرب سبحانه (أريد بهم ربهم رشدا). ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم في قصة موسى والرجل الصالح. قال {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما، وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغها أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن امري} [الكهف: 79 - 82].

فقال في خرق السفينة: {فأردت أن أعيبها} وقال في قتل الغلام: {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة واقرب رحما} وقال في إقامة الجدار {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما}. وهذا داخل فيما ذكرناه من هذه الظاهرة، فإنه نسب العيب إلى نفسه ولم ينسبه إلى الله تعالى تنزيها له، فقال {فأردت أن أعيبها} (¬1) اما في قتل الغلام فجاء في بالضمير مشتركا لأن العمل مشترك فإن فيه قتل غلام وهو في ظاهر الأمر شر، وإبدال خير منه وهو خير فجاء بالضمير المشترك للعمل المشترك ثم قال: {يبدلهما ربهما خيرا منه} فأسند الإبدال إلى الله وحده. وأما إقامة الجدار فعمل كله خير فأسنده إلى الله سبحانه فقال: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما}. ومن ذلك قوله تعالى {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7]، فأسند تزيين الإيمان في القلوب إلى ذاته سبحانه. وقال: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة} [آل عمران: 14]، فبني تزين حب الشهوات للمجهول، ولم ينسبه إلى نفسه، وقال: {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} [الصافات: 6]. وقال: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5]. وقال: {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين} [الحجر: 16]. فأسند هذا التزيين الحسن إلى ذاته. وقال: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين أمنوا} [البقرة: 212]، وقال: {بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل} [الرعد: 33]، وقال: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} [الأنعام: 122]. ¬

_ (¬1) انظر بدائع الفوائد 2/ 18 - 19، التفسير القيم 12 - 13، 555 - 556

وقال: {أفمن زين له سوء عمله فرءه حسنا} [فاطر: 8]، وقال: {وكذلك زين لفرعون سوء عمله، وصد عن السبيل} [غافر: 37]، وقال: {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء} [الفتح: 12]. فأنت ترى تزيين الخير إلى نفسه، وتزيين القبيح يبنيهل للمجهول، أو ينسبه إلى الشيطان كقوله تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم} [الأنفال: 48]، وقال: {وزين لهم الشيطان أعمالهم} [العنكبوت: 38]. وقد تجد في القرآن نحو (زينا لهم أعمالهم) لغرض إقامة العقيدة الصحيحة، ولبيان أن كل ذلك بأمر الله، ولكن لا تجد فيه، نحو {زينا لهم سوء أعمالهم} بذكر السوء بل لا تجده إلا مبنيا للمجهول، والفرق ظاهر بين الأمرين. ومن هذا الباب ما نراه في القرآن الكريم في الذين أوتوا الكتاب فإنه على العموم، إذا كان المقام مقام مدح وثناء، أظهر ذاته ونسب إتيان الكتاب إلى نفسه، فيقول: {آتيناهم الكتاب}، وإذا كان المقام مقام ذم وتقريع قال: {أوتوا الكتاب} ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} [البقرة: 53]. وقوله: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين} [الجاثية: 16]. وقوله: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} [البقرة: 121]. وقوله: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} [البقرة: 146]. وقوله: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام: 89]. وقوله: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} [الأنعام: 411].

وقوله: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} [الرعد: 36]. وقوله: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا} [القصص: 52 - 53]. وقوله: {وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به} [العنكبوت: 47]. وقوله: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} [النساء: 54]، فأنت ترى أنه أسند لاتيان إلى نفسه في مقام المدح والثناء، في حين قال: {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم} [البقرة: 101]. وقال: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون، ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} [البقرة: 144 - 145]. وقال: {وما اختلف الذين اوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19]. وقال: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب لله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} [آل عمران: 23]. وقال: {يا أيها الذين أمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران: 100]. وقال: {ولتسمعن من الذين آوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} [آل عمران: 186]. وقال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا} [آل عمران: 187].

وقال: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل} [النساء: 44]. وقال: {يا أيها الذين آوتوا الكتاب أمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت} [النساء: 47]. وقال: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين أمنوا سبيلا} [النساء: 51]. وقال: {يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء} [المائدة: 57]. وقال: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]. وقال: {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم} [الحديد: 16]، وغير ذلك من الآيات: فأنت ترى في مقام الذم يبني فعل الإيتاء للمجهول. ومن هذا الباب قوله تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا}. [الأعراف: 137]. وقوله: {ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولى الألباب} [غافر: 53 - 54]. بإسناد الأمر إلى ذاته في مقام المدح، في حين قال: {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} [الشوري: 14]، وقال: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} [الجمعة: 5]، في مقام الذم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر التفسير القيم 555 - 556

فأنت ترى أن الله سبحانه يذكر ذاته في خير العام، وينسبه إلى نفسه بخلاف الشر. والسوء، قال ابن القيم: " إن افعال الإحسان والرحمة، والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى، / فيذكر فاعلها منسوبه إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف الفاعل وبني الفعل معها للمفعول، أدبا في الخطاب، وإضافته إلى الله أشرف قسمى أفعاله، فمنه هذه الآية يعني: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم} فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه، ولم يحذف فاعلها .. ومنه قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم} [البقرة: 187]. فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال: {وأحل الله البيع وحرم الربوا} [البقرة: 275]. لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه، ألا يقترن بالتصريح بالفاعل (¬1) وكلام ابن القيم فيه صحة كثيرة غير أن قوله "فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف الفاعل وبني الفعل معا للمفعول"، فيه نظر، فليس هذا الكلام على إطلاقه، بل أسند الله مثل هذا الأمر إلى نفسه في مواطن عديدة، وذلك نحو قوله تعالى: {فدمرناها تدميرا} [الإسراء: 16]، وقوله: {فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير، فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة}، [الحج: 44 - 45]، وقوله: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما}. [الفرقان: 37]. فإن إهلاك المفسدين وتدمير الظالمين والبطش بهم من الخير العام. وليس من الخير المطلق أن يترك الفسد يعيث في الأرض، يسفك الدماء بل البطش به وعقوبته وإزالته واستئصاله من أكبر الخير، ولذلك قد يظهر الله فيه نفسه، وذلك نحو ما مر ونحو قوله: {دمر الله عليكم وللكافرين أمثالها} [محمد: 10]، وقوله: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود. مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} [هود: 72 - 83]. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 2/ 18 - 19

ما ينوب عن الفاعل

فإن في نسبة الأمر إليه في عقوبة هؤلاء وإزالتهم وإنزال بالغ نقمته عليهم، ما لا يخفى من الخبر. والأمر حسب السياق فقد يقتضي السياق هذا وقد يقتضي ذاك. ما ينوب عن الفاعل 1 - يذكر النحاة أنه إذا بني الفعل المتعدي إلى مفعولين للمجهول، وكان من باب (أعطي) جاز إقامة الأول مقام الفاعل وكذلك الثاني تقول: منع خالد الخير ومنع الخير خالدًا، وأعطي محمد دينارا، وأعطي دينار محمدًا، إلا إذا حصل لبس فإنه عند ذاك يتعين إقامة الأول، نحو أعطيت زيدًا عمرا فيقال: أعطي زيد عمرا. ومذهب الكوفيين، أنه إذا كان الأول معرفة والثاني نكرة تعين إقامة الأول فتقول: أعطي زيدٌ درهما ولا يجوز عندهم إقامة الثاني فلا تقولك أعطي درهم زيدا (¬1). ورأي الجمهور أرجح، لأنه لا مانع من أن يكون الفاعل نكرة، من كون المفعول معرفة فلا مانع أن تقول ضرب رجل محمدا، وكذلك ما ينوب عنه. وما ذكره النحاه في إنابة أي المفعولين صحيح، غير أنه ينبغي أن لا ننسي أن ذلك بحسب المعنى، فقد تنيب الأول أو الثاني بحسب ما ترمي إليه من غرض، فإنك تقيم مقام الفاعل ما كان أولى بالعناية والإهتمام، فإذا قلت مثلا: (أعطي محمد دينارا) كان اهتمامك منصبا على (محمد) والحديث يدور عنه، وإذا قلت: (أعطي دينار محمدا) كان الحديث منصبا على الدينار وذلك كأن يكون قليلا أو كثيرا أو لغير ذلك. ونحو ذلك أن تقول: (أعطي محمدٌ الجائزة) إذا كان الاهتمام منصبا على أخذ الجائزة. وتقول: ¬

_ (¬1) انظر ابن عقيل 1/ 171، الأشموني 2/ 68 - 69، الهمع 1/ 162، التصريح 1/ 292

(أعطيت الجائزة محمدا) إذا كان الاهتمام منصبا على الجائزة لا على الآخذ، فإذا كانت حصلت منافسة بين أقران مثلا، لنيل جائزة وكان الناس مهتمين بهؤلاء الأقران معنيين بأمرهم، فشخص يرى أنه سيأخذ محمد، والآخر خالد، وهكذا ولا يهمهم أمر الجائزة بقدر ما يهمهم صاحبها قلت: أعطي محمدٌ الجائزة. وإذا كان لناس معنيين بأمر الجائزة، لأنها جائزة فريدة ثمينة. ولا يهمهم آخرها قلت: أعطيت الجائزة محمدًا. فجعلتها هي المتحدث عنه. ونحو ذلك أن تقول: (أعطي محمد الكتاب) إذا كان يعينك شأن الآخذ، أو تقول: أعطني الكتاب محمدًا، إذا كان يعنيك شأن الكتاب. أما إذا كان الفعل من باب ظن وأخواتها، أو كان متعديا إلى ثلاثة مفاعيل فالأشهر عند النحويين أنه يجب إقامة المفعول الأول، يمتنع إقامة الثاني، أو الثالث، فتقول: (ظن محمد قائمًا) ولا تقول: (ظن محمد قائم) (¬1) وذهب قوله إلى أنه لا يتعين إقامة الأول لكن يشترط أن لا يحصل لبس فتقول: ظن زيد قائم قال ابن يعيش: " إن المفاعيل متساوية في صحة بناء الفعل لما لم يسم فاعله، وإقامة أي المفاعيل شئت مقام الفاعل .. إلا ما استثناه وهو المفعول الثاني في باب علمت والثالث في باب أعملت لأن المفعول الثاني في باب، علمت قد يكون جملة من حيث كان في الأصل خبر المبتدأ. (¬2) 2 - فإن كان هناك مفعول به، ومصدر وظرف، وجار ومجرور، فالذي عليه جمهور النحاة أنه يتعين إقامة المفعول به مقام الفاعل، تقول: ضُرب خالد ضربا شديدا، يوم الخميس. ولا يجوز إقامه غيره فلا تقول: ضُرب خالدًا في بيته. ومذهب الكوفيين أنه يجوز إقامة غيره مع وجوده فتقول ضرب ضربٌ شديدٌ زيدًا واستدلوا لذلك بقراءة أبي جعفر - وهو من العشرة - (ليجزي قوما بما كانوا يكسبون). (¬3) ¬

_ (¬1) انظر ابن عقيل 1/ 172، الأشموني 2/ 69، الهمع 1/ 162، التصريح (¬2) 1/ 292، 293، ابن يعيش 7/ 72 (¬3) ابن عقيل 1/ 171، الأشموني 2/ 67 - 68، التصريح 1/ 290 - 291

وذهب بعض النحاة إلى أن الأحق بالنيابة ما كان أهم في الكلام، مفعولا أو غيره، فمثلا إذا كان المقصود الأصلي وقوع الضرب أمام الأمير، أقيم ظرف المكان مقام الفاعل مع وجود المفعول به (¬1). وهو ما نراه الصواب فإن المعنى هو الحاكم في مثل ذلك. 3 - فإن لم يكن هناك مفعول به وكان في الجملة ظرف متصرف مختص (¬2)، أومصدر متصرف مختص، أو جار ومجرور صالح للنيابة أقيم أحدها مقام الفاعل فتقول: سير يومان، وأنطلق انطلاق شديد، وجلس في القاعة (¬3) وإذا اجتمعت هذه الثلاثة الصدر، والظرف، والمجرور، فالذي عليه الأكثرون أنها متساوية في النيابة، ولا يفضل بعضها بعضا، تقول: جلس في الدار جلوسا طويلا يوم الجمعة، إذا جعلت المجرور هو النائب، أو تقول: جلس في الدار جلوس طويل يوم الجمعة، أو جلس يوم الجمعة في الدار جلوسا طويلا (¬4). والحق أن يقال أنه ينوب عن الفاعل ما كان أهم وأدخل في عناية المتكلم، فإذا كان المجرور هو المهم أنيب، وإذا كان المصدر هو المهم أنيب وإذا كان الظرف هو المهم أنيب، قال الرضي: " والأولى أن يقال كل ما كان أدخل عناية المتكلم واهتمامه بذكره ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 2/ 68، حاشية الخضري 1/ 171 (¬2) الظرف المتصرف هو ما يفارق النصب على الظرفية أو الظرفية والجر بمن فيكون مبتدأ وخبرا فاعلا وغيره نحو يوم وليلة لا نحو ما عند. أما المختص فهو ما خصص بإضافة أو وصف أو تعريف ونحو ذلك من المخصصات، أما المصدر المتصرف فهو ما يقارق النصب على المصدرية فيكون مبتدأ وفاعلا ونحو ذلك كانطلاق واجتهاد لا نحو سبحان ومعاذ أما المختص فما ليس لمجرد التأكيد بل يكون مخصصا بإضافة أو وصف أو يكون معددا ونحو ذلك, (¬3) انظر ابن عقيل 1/ 169، حاشية الخضري 1/ 170، الأشموني 2/ 64، حاشية الصبان 2/ 64، التصريح 1/ 287 - 290، الهمع 1/ 162 - 163، سيبويه 1/ 117 (¬4) الهمع 1/ 163، ابن يعيش 7/ 73، الرضي على الكافية 1/ 190

وتخصيص الفعل، به فهو أولى بالنيابة (¬1). وإيضاح هذا الأمر أن المتكلم قد يعنيه ذكر الحدث مع ما ارتبط به من مجرور، أو ظرف، دون أن يعينه ما وراء ذلك فيقتصر عليه، فيقول مثلا: جلس في الدار واقتتل يوم الخميس. قال تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله} [الزمر: 68]، فإن المهم هو المجرور، ونحو قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48]، وقوله: {لا يقضي عليهم فيموتوا} [فاطر: 36]، ونحوه {اجتمع يوم الخميس} إذا لم يعنك من اجتمع. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المصدر فتقول: (انطلق انطلاق شدي). وقد يعنيه عدة أمور بعضها أهم من بعض، فيجعل مدار حديثه ما كان أدخل في عنايته وذلك نحو قوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} [الحاقة: 13]، فالمصدر الدال على المرة هنا هو الأهم، لا المجرور كما في الآيات السابقة، ولذلك أنابه عن الفاعل. ومما يدل على أن الاهتمام منصب على المصدر الدال على المرة قوله تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} [الحاقة: 14]، فقد جاء بالمصدر الدال على المرة أيضا. وقد يجري الفعل المتعدي في ذلك مجرى اللازم، إذا لم يتعلق غرض بذكر مرفوعه نحو قولك: (أكرم في الحفل)، و (حفظ في الدار) إذا لم يعنك ما أكرم، ولا ما حفظ، جاء في (المفصل): " إن قصدت الإقتصار على ذكر المدفوع إليه والمبلوغ به قلت: دفع إلى زيد وبلغ بعطائك" (¬2). وقد يعينك ذكر أحد المفعولين درن الآخر ولا يعنيك ذكر الفاعل أيضا فتنيب عن الفاعل المفعول الذي يعنيك فتقول مثلا (أكرم خالد) إذا لم يكن يعنيك من أكرمه، ولا ما أكرم، وتقول (منحت الشهادات في الحفل) إذا لم يكن يعنيك المانح، ولا من منح، ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 91 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 91

فعل وانفعل

وقد يعنيك ذكرهما كليهما، فتنيب ما كان ادخل في عنايتك، فتقول (أكر خالد مالا كثيرا) وقد يعنيك ذكر الفاعل أيضا، فتقول: (أكرم محمود خالدا مالا كثيرا) بالبناء للفاعل وهكذا فعل وانفعل ويرى قسم المعنيين بهذا العلم أن معنى (فعل) و (انفعل) واحدُ، وأن (الزجاجة) في قولنا (كسرت الزجاجة) فاعل، كما في (انكسرت الزجاجة) أو نقول إن كليهما نائب فاعل. والظاهر أن الأمر على خلاف ذلك ففي (فُعل) دافع خارجي بخلاف (انفعل) الذي يبدو فيه الفعل كأنه حصل ذاتيا. ألا تحس أن ثمة فرقا بين قوله تعالى: {وغيض الماء وقضي الأمر} [هود: 44]، وقوله (انغاض الماء وانقضي الأمر؟ ) ففي الأولى تحس كأن هناك يدا خفية غاضت الماء بخلاف انغاض، وكأن هناك قاضيا قضي الأمر وحسمه، بخلاف (انقضى الأمر) فإنه كأنه تصرم من نفسه. ثم انظر إلى قوله تعالى: {وإذا البحار فجرت} [الإنفطار: 3]، وإلى قوله: {اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثتنا عشرة عينا} [البقرة: 60]. فإن انفجار الماء من الصخرة حدث ذاتيا، بخلاف قوله (فجرت) الذي يفيد أن مفجرًا فجرها، ألا ترى فرقا بين قولك (انفجر الماء من الصخرة)، و (فجر الماء من الصخرة)؟ فأنت تفهم أن الانفجار في الأولى حصل ذاتيا، وفي الثانية حصل بمفجر خارجي. ثم ألا تحس فرقا بين قولك (فرط العقد)، و (انفرط العقد)، وقولك (بعث إليه)؟ فإن قولك (بُعث) يفيد أن هناك باعثا بعث، وأما انبعث فهو انبعاث داخلي من النفس، قال تعالى: {إذ انبعث أشقها} [الشمس: 12]، أي ذهب من نفسه، بخلاف قوله تعالى:

المفعول به

{ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [الشمس: 100] فالموتى يبعثون، ولا ينبعثون من أنفسهم. ومثله الفرق بين: اندفع إليه، ودفع إليه، وانفصل وفصل، وانشطر، وشُطر، وانقسم، وقُسم. صحيح أن قسما من اللغات السامية استعملت (انفعل) للمبني للمجهول (¬1)، ولكن العربية لها صيغة أخرى هي صيغة (فُعل)، والعربية تميل إلى التخصيص، فلا تجعل صيغتين بمعنى واحد، كما هو واضح في استعمالاتها، وقد خصت كل صيغة باستعمال، ومعنى. ألا ترى أنه يمكن أن يكتفي بالفعل اللازم المبني للمجهول، والجار والمجرور فيقال: (جُلس في الحديقة)، و (ذُهب إلى خالد)، ولا يمكن أن يستعمل نحو هذا الاستعمال في (انفعل) مما يدل على اختلاف بينهما؟ فهناك فرق ظاهر بين الصيغتين كما هو مبين. المفعول به. يقول النحويون أن المفعول به " هو الذي يقع عليه فعل الفاعل، في مثل قولك: ضرب زيد عمرا وبلغت البلد (¬2) قيل: " والأقرب في رسم المفعول به أن يقال: هو ما يصح أن يعبر عنه باسم مفعول غير مقيد، مضمون من عامله المثبت أو المجعول مثبتاً" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر جداول تصريفات الفعل في (فقه اللغات السامية لبروكلمان من ص 126 - 132، ترجمة رمضان عبد التواب، وانظر الحقائق التاريخية وأثرها في النظم اللغوية الوصفة لعبد الرحمن أيوب ص 33 مطبوع بالآلة الكاتبة. (¬2) ابن يعيش 1/ 124 (¬3) الرضي على الكافية 1/ 136

تقديم المفعول به

وتفسير ذلك أنك تستطيع أن تصوغ معه من فعل (¬1) المفعول به، اسم مفعول غير مقيد بحرف جر، أو غيره نحو قولنا (أكرمت محمدا) فإنك تستطيع أن تقول (محمد مكرم) و (نصرت سعيدا) فتقول (سعيد منصور) و (خلق الله السماوات) فتقول (السماوات مخلوقة) بخلاف قولنا مثلا (انطلق انطلاقا)، فلا يصح أن يقال (الإنطلاق منطلق)، و (خرجت صباحا) فلا يقال (الصباح مخروج) بل نقيده بحرف جر، فنقول (الصباح مخروج فيه). وعلى أي حال فحد المفعول ورسمه لا يهماننا كثيرا في هذا البحث، وإنما الذي يهمنا ماله علاقة بالمعنى، كالتقديم والتأخير، والذكر والحذف، ونحو ذلك، وإنما ذكرت هذا الضابط لأنه حصل وهم عند قسم من النحاة في إدخال قسم من المفعول به، في المفعول المطلق. تقديم المفعول به. الأصل في الجمل التي تحتوي مفعولا به أن يؤتى بالفعل، فالفاعل، فالمفعول به (¬2). وذلك نحو ينصر الله المجاهدين، ولا يعدل عن مثل هذا التعبير، إلا لسبب فيقدم المفعول به على الفاعل نحو (ينصر المجاهدين الله) أو يقدم المفعول به على الفعل نحو (المجاهدين ينصر الله). وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما يتعدى المفعولين، فإن الأصل أن يتقدم الفعل ففاعله ثم المفعول الأول الذي هو الفاعل في المعنى - كما يقول النحاة - ثم المفعول الثاني (¬3) ¬

_ (¬1) تقصد بفعل المفعول هنا فعل الفاعل سواء كان بصيغة الفعل أم بأية صيغة أخرى نحو هو مكرم خالدا أو ضارب سعيدا. (¬2) ابن الناظم 91، ابن عقيل 1/ 165، الرضي على الكافية 1/ 75، الأشموني 2/ 55، التصريح 1/ 161 (¬3) ابن عقيل 1/ 181، الأشموني 2/ 92، التصريح 1/ 314

نحو (ألزم سعيدٌ محمدا الأمر) فمحمد هو المفعول الأول، وهو الفاعل في المعنى، لأنه هو الذي التزم بالأمر، و (الأمر) المفعول الثاني، ونحو (ألبس خالدٌ سعدا ثوبا) فسعد هو المفعول الأول، وهو الفاعل في المعنى، لأنه هو اللابس وثوبا مفعول ثان (¬1). ولا يعدل عن هذا التعبير إلا لسبب نحو: الزم سعدا الأمر محمدا، وألبس خالد ثوبا سعدا. وتتلخص صور التقديم فيما يتعدي إلى واحد بما يأتي: 1 - أن يتقدم الفاعل على المفعول، نحو (يجعل الناس العلماء) وهذا في الحقيقة ليس من باب تقديم ما يستحق التأخير، بل هو التعبير الطبيعي كما ذكرت. 2 - أن يتقدم المفعول على الفاعل نحو: نصر أخاك محمود. 3 - أن يتقدم المفعول على الفعل نحو: أخاك نصر محمود. أما صور ما يتعدى إلى مفعولين، فكثيرة أذكرها باختصار. 1 - أن يتقدم الفعل والفاعل ثم المفعول الأول (الفاعل في المعنى)، ثم المفعول الثاني وذلك نحو (منح خالد سعيدا دارا) وهذا هو التعبير الطبيعي الذي ليس فيه تقديم ما يستحق التأخير. 2 - أن يتقدم المفعول الثاني على الأول نحو (منح خالدا دارا سعيدا). 3 - أن يتقدم المفعولان ويتأخر الفاعل نحو (منح سعيدا دارا خالد) و (منح دارا سعيدا خالد) وتحت هذا صورتان - كما ترى - تقديم المفعول الأول، وتقديم المفعول الثاني. 4 - أن يتقدم أحد المفعولين على الفاعل، ويتأخر الثاني عنه، نحو (منح سعيدا خالدٌ دارا) و (منح دارا خالد سعيدًا). 5 - أن يتقدم المفعولان على الفعل والفاعل، نحو (سعيدا دارا منح خالد) و (دارا سعيدا منح خالد) وتحت هذا صورتان كما ترى. ¬

_ (¬1) نترك صور وجوب تقديم الفاعل على المفعول أو المفعول على الفاعل وغير ذلك من أوجه الوجوب لأنها لا تعنينا هنا لأن المتكلم ليس له أن يتصرف في هذا الضرب لأن الذي يعنينا أوجه الجواز لأنه يمكن التصرف فيها حسب المقتضى.

6 - أن يتقدم أحد المفعولين على الفعل ويتأخر الثاني على الفعل والفاعل، نحو (سعيدا منح خالد دارا) و (دارا منح خالد سعيدا). 7 - أن يتقدم أحد المفعولين على الفعل ويتقدم الآخر على الفاعل، نحو (سعيدا منح دارا خالد) و (دارا منح سعيدا خالد). ولا شك أن كل عدول من التعبير الطبيعي الذي هو الأول يصحبه عدول من معنى إلى معنى. ونحن سنذكر أوجها من هذه الصور لنستعين بها على بقية الوجوه وهذه كلها هي جزء من موضوع رئيس هو موضوع التقديم والتأخير الذي يشمل المفعول وغيره ولكني آثرت أن أبحثها مجزأة على أبواب النحو لأنه يعسر أحيانا على بعض الناس أن يجري القاعدة العامة على الجزئيات. 1 - تقديم الفاعل على المفعول به: نحو (أكرم خالد الزائرين) وهو التعبير الطبيعي، وهو ليس من باب تقدي ما حقه التاخير كما ذكرنا، يقول المتكلم إذا كان المخاطب خالي الذهن لا يعلم المسألة، فتفيده بها كلها وهي بجزيئاتها إخبار جديد وكأن هذا النوع من الجمل إنما هو جواب سؤال: ماذا حدث؟ فتخبره بما حدث. 2 - تقديم المفعول على الفاعل: وذلك كقوله تعالى: {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه} [الروم: 33]، وقوله: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون} [المؤمنون: 99]. وهذه المسألة ذكرناها في باب الفاعل وبينا الغرض من التقديم فلا داعي لإعادة القول فيها. 3 - تقديم المفعول على الفعل: وذلك كقوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، وكقولك (محمدا أكرمت) وله أغراض أهمها: 1 - الاختصاص: وهو أبرز غرض في تقديم المفعول بل في عموم مسائل التقديم. فقوله تعالى (إياك نعبد) معناه نخصك بالعبادة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5 - 6]، كيف قدم

المفعول في العبادة والاستعانة، لا نعبد أحدا إلا إياك، ولا نستعين أحدا إلا إياك، ولا يصح ذلك في طلب الهداية إذ لا يصح، أن تقول (إيانا اهدنا) لأن المعنى سيكون خصا بالهداية، أي اهدنا دون غيرنا بخلاف (إهدنا)، فإن المعنى نسألك الهداية لنا لا قصر الهداية علينا. وهو كما تقول: أكرم محمدا، ومحمدا أكرم، وأعطنا، وإيانا أعط، فإن معنى قولك (أكرم محمدا) أن تطلب لمحمد الإكرام من المخاطب، ولا تطلب حصر الإكرام به، أما (محمد أكرم) فمعناه خص محمدا بالكرم، وكذلك (أعطنا) و (إيانا أعط) جاء في (الكشاف): في قوله تعالى {إياك نعبد وإياك نستعين} " تقديم المفعول لقصد الإختصاص كقوله تعالى: {قل افغير الله تأمروني أعبد} [الزمر: 64]، {قل أغير الله أبغي ربا} [الأنعام: 164]، والمعنى نخصك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة" (¬1). وجاء في (المثل السائر): " فإن في قولك (زيدا ضربت) تخصيصا له بالضرب دون غيره، وذلك بخلاف قولك (ضربت زيدا) لأنك إذا قدمت الفعل كنت بالخيار في إيقاعه على أي مفعول شئت، بأن تقول: ضربت خالدا أو بكرا أو غيرهما، وإذا أخرته لزم الاختصاص للمفعول (¬2). وكذلك الأمر في النفي نحو قولك: ما شتمت خالدا وما خالدا شتمت، فإنك في الجملة الأولى نفيت الشتم عن خالد ولم تثبته لغيره فقد تكون شتمت غيره أو لا تكون. أما قولك (ما خالدا شتمت) فإن معناه انك نفيت الشتم عن خالد، وأثبت وقوعه على غيره. ولذا لا يصح أن تقول (ما شتمت خالدا ولا غيره)، ولا يصح أن تقول: (ما خالدا شتمت ولا غيره) لأنه تناقض، إذ قولك (ما خالدا شتمت) معنا شتمت غيره، فكيف يصح أن تقول: (ولا غيره)؟ ¬

_ (¬1) المثل السائر 1/ 48 - 49 (¬2) المثل السائر 2/ 217، وانظر البرهان 3/ 236

جاء في (دلائل الإعجاز): " ويجيء لك هذا الفرق على وجه في تقديم المفعول وتأخيره، فإذا قلت: ما ضربت زيدا فقدمت الفعل، كان المعنى انك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد، ولم تعرض في أمر غيره لنفي ولا إثبات وتركته مبهما محتملا. وإذا قلت: ما زيدا ضربت فقدمت المفعول كان المعنى على أن ضربا وقع منك على إنسان، وظن أن ذلك الإنسان زيد فنفيت أن يكون معناه إياه. فلك أن تقول في الوجه الأول: (ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس)، وليس لك في الوجه الثاني، فلو قلت، ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس كان فاسدا. ومما ينبغي أن تعمله أنه يصح لك أن تقول: (ما ضربت زيدا ولكنه أكرمته) فتعقب الفعل المنفي بإثبات فعل هو وضده، ولا يصح أن تقول: ما زيدا ضربت ولكن أكرمته، وذاك أنك لم ترد أن تقول: لم يكن الفعل هذا، ولكن ذاك، ولكنك أردت أنه لم يكن المفعول هذا، ولكن ذاك، فالواجب إذن أن تقول ما زيدا ضربت ولكن عمرا (¬1). جاء في (الهمع) أنه: " إذا قدم المفعول أفاد الاختصاص عند الجمهور، نحو {إياك نعبد وإياك نستعين} أي لا غيرك (بل الله فاعبد) [الزمر: 66]، أي لا غيره. وخالف في ذلك ابن الحاجب، ووافقه أبو حيان فقالا: الاختصاص الذي يتوهمه كثير من الناس من تقدم المفعول وهم (¬2). والحق أن تقديم المفعول قد يفيد الاختصاص، والحصر. بل هو غالب كما ذكرنا، وذلك كقوله تعالى: {واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} [البقرة: 172]، وكقوله تعالى: {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} [الزمر: 66]، لكن ليس معنى ذلك أن التقديم لا يفيد إلا الاختصاص، فقد يتقدم المفعول لغير الاختصاص، جاء في (البرهان): ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 98، وانظر نهاية الإيجاز للرازي 121، والإيضاح 1/ 110 - 111 (¬2) الهمع 1/ 166

" ما ذكرناه من ان تقديم المعمول يفيد الاختصاص، فهمه الشيخ أبو حيان في كلام الزمخشري وغيره والذي عليه محققو البيان أن ذلك غالب لا لازم بدليل قوله تعالى: {كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل} (¬1) [الأنعام: 84]. وهو الصواب فقد يكون التقديم لغير ذلك كرد الخطأ، وغيره. 2 - رد الخطأ في التعيين جاء في (الإيضاح): " وأما تقديم مفعوله ونحوه فلرد الخطأ في التعيين، كقولك (زيدا عرفت) لمن اعتقد أنك عرفت إنسانا وأنه غير زيد، وأصاب في الأول دون الثاني. وتقول لتأكيده وتقريره. زيدا عرفت لا غيره (¬2). وإيضاح ذلك أنك تقول: (محمدا أكرم خالد) ومعنى هذا أما أن يكون أن خالدا خص محمدا بالاكرام كما - ذكرنا في (التخصيص) - أو قد يكون لغرض آخر وهو رد الخطأ والمعنى أن المخاطب كان يظن أن خالدا أكرم سعيدا مثلا، فتقول له: محمد أكرم خالدا أي أن خالد أكرم محمدا لا سعيدا. 3 - وقد يكون للتعجب كقولك (دينار أعطي خالد) إذا كانت مثل هذه الحادثة مستغربه، كان يكون أكبر من أن يعطيه خالد، أو أقل فيكون مثار تعجب. 4 - او للمدح والثناء كما قال تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل} [الأنعام: 84]، وقال: {وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين} [الأنعام: 86]. فهذا ليس من باب التخصيص والحصر، إذ ليس معناه ما هدينا إلا نوحا من قبل وإنما هو من باب المدح والثناء، وكذلك قوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين} [الأنبياء: 72]. 5 - أو للعناية بالمتقدم لأهميته كقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4]. ¬

_ (¬1) البرهان 3/ 237 (¬2) الإيضاح 1/ 110 - 111

6 - أو للحذر منه كقوله {والرجز فاهجر} [المدثر: 5]. 7 - أو لتعظيمه كقولك لمن سأل الله: عظيما سألت. 8 - أو للتوجيه والإرشاد كقوله تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر} [الضحى: 9 - 10]، فهذا ليس من باب الحصر كما هو واضح، إذ المعنى على الحصر يكون أنه منهي عن قهر اليتيم دون غيره أي يباح له ان يقهر غير اليتيم، وأن ينهر غير السائل وهو غير مراد. إلى غير ذلك من الاغراض التي تعلم من مواطن القول. وهذا الأمر جار في نفسه فيما يتعدى إلى مفعولين، فقد ذكرنا في أول البحث أن الأصل أن يتقدم الفعل، فالفاعل ثم المفعول الأول الذي هو الفاعل في المعنى، ثم المفعول الثاني، نحو (منح سعيدا خالدا ارضا) ويقال هذا إذا كان المخاطب خالي الذهن لا يعلم شيئا عن الموضوع بجملته. وقد يتقدم المفعول الثاني على الأول لغرض بلاغي يقتضيه المقام، نحو (منح سعيدا أرضا خالدا) إذا كان الاهتمام منصبا على الأرض لا على الأخذ، ونحوه قوله تعالى {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب} [غافر: 53]. وقوله: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [فاطر: 32]، ففي الآية الأولى قدم بني (اسرائيل) وهو المفعول الأول على (الكتاب) وفي آية فاطر قدم الكتاب على الذين اصطفينا من عبادنا، ولذلك سبب واضح يتبين من سياق الآيتين، ففي آية فاطر الكلام جار على الكتاب، ولذلك قدمه قال تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله واقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور} [فاطر: 29]. {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير} [فاطر: 31] {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} {فاطر: 32}. فناسب تقديم الكتاب.

أما في سورة غافر فالكلام على حملة الكتاب، فلذلك قدمهم قال تعالى {قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعوا الكافرين إلا في ضلال} [غافر: 50]، {إنا للنصر رسلنا والذين أمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51]، {ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب} [غافر: 53]، فناسب كما ترى ان يتقدم الحملة على الكتاب بخلاف الآية الأولى كما هو واضح. وكذلك بالنسبة إلى تقديم المفعولين أو أحدهما على الفعل، فقد يقدم للتخصيص، أو لغرض من الأغراض التي سبق أن ذكرناها، وذلك نحو: - خالد منح سعيد أرضا، المعنى أن سعيدا خص خالدا بذلك، ولم يمنح غيره أو للرد على المخاطب إذا كان يظن أن سعيدا منح أرصا محمدا، فأزال الوهم من ذهنه، والمخاطب في هذه الجملة يعلم جانبا من الحدث فهو يعلم أن سعيدا منح ارضا وإنما حصل الوهم في الشخص الممنوح، وكان هذا جواب سؤال، من منح سعيدا أرضأ؟ - أرضا منح سعيدا، المعنى أن سعيدا خص خالدا بالأرض لا بشيء آخر، ولازالة الوهم من ذهن المخاطب الذي كان يظن أنه منح خالدا نقودا فقدمها لإزالة الوهم، والمخاطب في هذا يعلم أن سعيدا منح خالدا شيئا ولكن الوهم حصل في الشيء الممنوح وكأن هذا جواب عن سؤال: ماذا منح سعيد خالدا؟ - خالدا أرضا منح سعيد، المعنى أن سعيدا خص خالدا بأرض، أي لم يمنح غيره سعيد، ولم يمنح غير أرض أو لازالة الوهم إذا كان المخاطب يظن أن سعيدا منح محمدا نقودا مثلا فهنا حصل الوهم في الشخص الممنوح والشيء الممنوح فقدم المفعولين لازالة الوهم وهنا المخاطب يعلم ان سعيدا منح شيئا ما ولكن لا يعلم الشخص الممنوح ولا الشيء. وهكذا القياس، وكل ما تقدمه فهو الأهم بقصد التخصيص، أو بقصد آخر يستدعيه المقام.

الحذف

الحذف حذف المفعول به على ضربين: 1 - أن يحذف من الكلام لفظا لكنه مراد معنى وتقديرا وهو الذي يمسيه النحويون: (الحذف اختصارا) ولا يحذف إلا لديل ولذلك نحو قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11]، أي من خلقته لأن الاسم الموصول لابد له من عائد، وكقوله: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 40]، أي أنعمتها ومن هذا الحذف قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} [البقرة 23]، أي فإن لم تفعلوا الاتيان ولن تفعلوه، وقد حذف للعلم به لأنه مر ذكره ونحوه قوله تعالى: {والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} [الأحزاب: 35]. ومن هذا الباب نحو قوله تعالى: {وأضل فرعون قومه وما هدى} [طه: 79]، أي وما هداهم غير أن الحذف هنا له غرض لطيف علاوة على الإيجاز وذلك أنه أخرجه مخرج العموم أي أن فرعون لا يتصف بصفة الهداية البتة وذلك أنه لو قال (وما هداهم) لكان عدم الهداية مقيدا بقومه إذ يحتمل أنه هدي غيرهم لكنه قال (وما هدي) أي ما هدي أحدا. ومثله قوله تعالى: {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [طه: 122]، أي وهداه غير أنه اخرجه مخرج العموم فلم يقصر الهداية على آدم عليه السلام. ويذكر النحاة أن المفعول قد يحذف لتناسب الفواصل كقوله تعالى: {ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى: 3]، أي وما قلاك، غير أنني أرى لهذا الحذف غرضا بديعا وسرا لطيفا علاوة على ما ذكروه، وهو أن الحذف ههنا للاكرام والتعظيم وذلك أنه تعالى لم يرد أن يواجهه بالقلي فيقول (وما قلاك) وإنما اكتفي بالمفعول السابق أكراما لرسول الله من أن يناله الفعل. ونحو هذا يجري في كلامنا كأن يقول أحد لآخر بلغني عنك أنك شتمت وقلت وقلت، فيقول: لا والله ما شتمت ولا قلت، فحذف المفعول من الفعلين تعظيما له من أن يناله الفعل.

قالوا وقد يحذف المفعول لاحتقاره، نحو: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21]، قالوا أي الكافرين، وأرى أن حذفه علاوة على هذا لاخراجه مخرج العموم فالغلبة عامة له وإن كان المقصود بها الكافرين. أو للاستهجان، كقول عائشة رضي الله عنها (ما رأيت منه ولا رأى مني) أي العورة. أو للجهل به في نحو قولك (ولدت فلانة) وأنت لا تدري ما ولدت، إلى غير ذلك من الأغراض (¬1). 2 - ان لا يذكر المفعول (¬2)، وهو غير مراد هو الذي يسميه النحويون (الحذف اقتصارا). والحقيقة أن هذا ليس من باب الحذف، بل هو أن تقتصر على الحدث وصاحبه من إرادة المفعول، وليس له تقدير ولا نية، وذلك بحسب الحاجة والقصد، فقد تكون الحاجة إلى أن تذكر مفعولين، كقوله تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1]، وكقوله: {آتيناه رحمة من عندنا} [الكهف: 65]، وكقوله هو يكرم السائلين الدنانير ويطعم المحتاجين القوت، ويمنح طلاب العلم الكتب، فقيدت الاكرام والاطعام والمنح بالمعطي والمعطي له. وقد يتعلق الغرض بذكر مفعول واحد، وذلك نحو قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5]، فقد ذكر مفعولا واحد لأنه هو الذي تعلق الغرض بذكره ولم يذكر ما سيعطيه، لأنه لا يتعلق غرض بذكره. ومن هذا الباب قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} [المائدة: 55]، وقوله: {الذي يؤتي ماله يتزكى} [الليل: 18]، فلم يذكر لمن يؤتون الزكاة، لأنه لا يتعلق. ¬

_ (¬1) انظر الأشموني 2/ 93 - 94، الصبان: 2/ 94، الهمع 1/ 167، التصريح 1/ 314، البرهان 3/ 162 (¬2) آثرت هذا التعبير هنا على تعبير (حذف المفعول) لأن قولهم (الحذف) مشعر بأن أصله الذكر والحذف طاريء في حين أن الأصل هنا عدم الذكر.

غرض بذكرهم فإنه أراد أن يصف المؤمنين بإيتاء الزكاة. ونحو هذا أن تقول (هو يطعم اللحم ويكرم الدنانير) فقد ذكرت أنه متصف بصفة إطعام اللحم وإكرام الدنانير، ولم يتعلق غرض بذكر آكل اللحم وآخذ الدنانير، بل أردت أن تقول أن هذه صفته وخصلته، وأنه مختص بهذا النوع من الاطعام والاكرام، فإن قلت (هو يكرم السائلين ويطعم الجائين) قيدته بالصنف الذي يكرمه ويطعمه أي هو متصف بهذه الخصلة وهي إكرام السائلين وإطعام الجائعين ولم ترد أن تذكر ماذا يكرم أو يطعم. وقد يراد مجرد الحدث مسندا إلى فاعله دون تعلقه بشيء آخر فلا تذكر له مفعولا كأن تقول (هو يكرم ويطعم) أي هو متصف بهذه الخصلة ولا تريد ان تذكر ماذا يكرم أو من يكرم ولا ماذا يطعم أو من يطعم، ومثله أن تقول (قد وقع منك ما يؤذي) أي يؤذي إلى الإيذاء فأخرجته مخرج العموم، ولو قلت (ما يؤذيني) لكنت قيدت الإيذاء بك، وهناك فرق بين التعبيرين كما هو ظاهر، فالأولى الإيذاء فيه عام، والثاني مقيد وما يؤذيك ربما لا يؤذي غيرك، فإذا أردت أن ما وقع منه يؤدي إلى الإيذاء عموما، أي مما يتأذى به الخلق لم تذكر المفعول، وإن أردت أن ما وقع منه يؤذي واحدًا أو صنفا بعينه، ذكرت ذلك الصنف الواحد. ومن هذا الباب قوله تعالى: {فأما من أعطي واتقى، وصدق بالحسنى} [الليل: 5 - 6]، ولم يذكر من اعطى ولا ما أعطى، وإنما أراد ان يصفهم بصفة العطاء والتقوى، ونحوه قوله تعالى: {لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52]، أي لا يتصف بالنسيان، الا ترى لو قلت: (هو لا ينسى المواعيد) لكنت قيدت عدم النسيان بالمواعيد، وقد ينسى غيرها بخلاف ما لو قلت (هو لا ينسى) أي غير متصف بالنسيان، ومثله قوله تعالى: {ليس علىكم جناح أن تأكلوا جميعا أو اشتاتا} [النور: 61]، فلم يذكر مفعولا لفعل الأكل لأنه لا يتعلق غرض بذكره، ولو ذكره لكان السامع يحسب أن عدم الجناح من حيث أكل ذلك الشيء بعينه فلو قال مثلا (ليس عليكم جناح أن تأكلوا اللحم جميعا أو أشتاتا) لفهم منه أنه لو أكل غير اللحم لكان عليه جناح، ومثله قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم

الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، [البقرة: 187]، وقوله: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} [الفرقان: 67]، فلم يذكر ماذا ينفقون، وقوله: {هو يطعم ولا يطعم} [الأنعام: 14]، أي متصف بصفة الإطعام، دون تقييد بصنف معين ولا طعام معين. ومن هذا الباب قوله: {هو الذي يحيى ويميت} [غافر: 68]، وقوله: {وأنه أضحك وأبكى، وأنه أمات وأحيا} [النجم: 43 - 44]، أي متصف بصفة الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء، ومنه قوله {لم يلد ولم يولد} [الإخلاص: 3]، فلم يذكر ما يلد ولو ذكر لفسد المعنى. فالمفعول في مثل هذه التعبيرات غير مراد ولا يصح تقديره ولو كان الفعل متعديا في الأصل، لأن تقدير، أي مفعول مفسد للمعنى، فهذا إنما يكون بحسب قصد المتكلم - كما أسلفنا - فقد يقصد إلى أنه يخبر بمجرد الحدث أو أن يخبر بالحدث، منسوبا إلى فاعله، أو أن يخبر بالحدث وقع عليه. جاء في (دلائل الإعجاز): " إذا اريد الإخبار بوقوع الضرب ووجوده في الجملة من غير أن تنسب إلى فاعل، أو مفعول أو يتعرض لبيان ذلك، فالعبارة فيه أن يقال: كان ضرب، أو وقع، ضرب أو وجد ضرب، وما شاكل ذلك من الفاظ تفيد الوجود المجرد في الشيء. وإذ قد عرفت الجملة فاعلم أن أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدية، فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعول به فإذا كان الأمر كذلك، كان الفعل المتعدي كغير المتعدي مثلا في أنك لا ترى له مفعولا لا لفظا ولا تقديرا، ومثال ذلك في قول الناس: فلان يحل ويعقد، ويأمر وينهى، ويضر وينفع وكقولهم: هو يعطي ويجزل، ويقري ويضيف المعنى في جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق وعلى الجملة، من غير أن يتعرض لحديث المفعول، حتى كأنك قلت: صار إليه الحل والعقد صار بحيث يكون منه حل، وعقد، وأمر، ونهي، وضر، ونفع وعلى هذا القياس.

وعلى ذلك قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9]، هل يستوي من له علم ولا علم له، من غير أن يقصد النص على معلوم، وكذلك قوله {وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا} [النجم: 43 - 44]، المعنى هو الذين منه الإحياء والإماتة .. ألا ترى أنك إذا قلت (هو يعطي الدنانير) كان المعنى على أنك قصدت ان تعلم السامع ان الدنانير تدخل في عطائه وأنه يعطيها خصوصا دون غيرها وكأن غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء نفسه (¬1). وجاء فيه: " وإن أردت أن تزداد تبيينها لهذا الأصل - أعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله، ولا يدخله شوب، فانظر إلى قوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وابونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل} [القصص: 23 - 24]. ففيها حذف مفعول في اربعة مواضع، إذ المعنى وجد عليه أمة الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما وقالتا لا نسقي غنمنا فسقي لهما غنهما. ثم أنه لا يخفي على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره ويؤتى بالفعل مطلقا، وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي، ومن المرأتين ذود. وأنهما قالتها: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وانه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقى. فأما ما كان المسقي أغنما أم أبلا غير ذلك، فخارج عن الغرض، موهم خلافه. وذاك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما، ولم ينكر الذود من حيث هو ذود، بل من حيث هو منع غنم، حتى لو كان مكان الغنم ابل، لم ينكر الذود، كما إنك إذا قلت: مالك تمنع أخاك.؟ كنت منكرا المنع، لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ" (¬2). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 118 - 119 (¬2) دلائل الإعجاز 124 - 125

وجاء في (المغني): " جرت عادة النحويين أن يقولوا: يحذف المفعول اختصارا واقتصارا. ويريدون بالاختصار الحذف لدليل، وبالاقتصار الحذف لغير دليل، ويمثلونه بنحو {كلوا واشربوا} [الطور: 19]، أي أقعوا هذين الفعلين وقول العرب فيما يتعدى إلى اثنين (من يسمع يخل) أي تكن منه خيلة. والتحقيق أن يقال أنه تارة يتعلق الغرض بالإعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه عليه، فيحاء بمصدره مسندا، إلى فعل كون عام، فيقال: حصل حرق أو نهب. وتارة يتعلق بالإعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل فيقتصر عليهما، ولا يذكر المفعول، ولا ينوي إذا المنوي كالثابت، ولا يسمى محذوفا لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة مالا مفعول له، ومنه {ربي الذي يحيى ويميت} [البقرة: 258]، {هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون}، {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31]، {وإذا رأيت ثم} [الإنسان: 20]، إذ المعنى ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة، وهل يستوي من يتصف بالعلم، ومن ينتفي عنه العلم، وأوقعوا الأكل والشرب، وذورا الإسراف، وإذا حصلت منك رؤية هنالك. وتارة يقصد إسناد الفعل إلى فاعله، وتعليقه بمفعوله، فيذكران نحو: {لا تأكلوا الربا} [آل عمران: 130]. {ولا تقربوا الزنا} [الإسراء: 32]، وقولك ما أحسن زيدا، وهذا النوع إذا لم يذكر مفعوله قيل محذوف نحو: {ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى: 3] وقد يكون في اللفظ ما يستدعه فيحصل الجزم بوجوب تقديره، نحو {أهذا الذي بعث الله رسولا} [الفرقان: 41]، (وكلا وعد الله الحسنى) حميت حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح (¬1) وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} [البقرة: 17] ¬

_ (¬1) المغني 2/ 611 - 612

حذف مفعول فعل المشيئة

" والمفعول الساقط من لا يبصرون من قبيل المتروك المطروح الذي لا يلتفت إلي اخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأن الفعل غير متعد أصلا نحو (يعمهون) في قوله: {ويذرهم في طغيانهم يعمهون} (¬1). [الأعراف: 186]. حذف مفعول فعل المشيئة: حذف مفعول فعل المشيئة كثير في كلام العرب، وقد ذكر النحويون والبيانيون نحو قوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بمسعهم وأبصارهم} [البقرة: 20]، وقوله: {ولو شاء ربك ما فعلوه} [الأنعام: 112]، والتقدير: لو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم، ولو شاء ربك أن لا يفعلوه ما فعلوه، ولا يكاد يذكر المفعول إلا إذا كان أمرا عظيما أو غريبًا كأن تقول: (لو شاء أن يبني قصرا من ذهب لفعل)، جاء في (دلائل الإعجاز): " وإذا استقريت الأمر وجدت الأمر كذلك أبدًا، متى كان مفعول المشيئة أمرا عظيما أو بديعا غريبا كان الأحس أن يذكر ولا يضمر، يقول الرجل يحبر عن عزة نفسه: لو شئت أن أراد على الأمير رددت، ولو شئت أن ألقي الخليفة كل يوم لقيت، فإذا لم يكن مما يكبره السامع فالحذف كقولك: لو شئت خرجت، ولو شئت قمت، ولو شئت أنصفت، ولو شئت لقلت، وفي التنزيل: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الأعراف: 186]. وكذا الحكم في غيره من حروف المجازاة تقول: إن شئت قلت: وإن اردت دفعت قال الله تعالى: {فإن يشأ الله يختم على قلبك} [الشورى: 24]، وقال عز اسمه {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} (¬2) [الأنعام: 39]. وجاء في (الكشاف): في قوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} [البقرة: 20]، "ومفعول (شاء) محذوف لأن الجواب يدل عليه، والمعنى ولو شاء الله ان يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها. ولقد تكاثر هذا الحذف في شاء، وأراد لا يكاد يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله: ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 155 (¬2) دلائل الإعجاز 127

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... [عليه ولكن ساحة الصبر أوسع] وقوله تعالى: {لو أردنا أن نتحذ لهوا لاتخذناه من لدنا} [الأنبياء: 130]. و {لو أراد الله أن يتخذ ولدا} (¬1) [الزمر: 4] قالوا وأكثر ما يقع ذلك بعد أداة الشرط، لأن مفعول المشيئة مذكور في جوابها (¬2). واشترط بعض النحاة لحذفه دخول أداة الشرط على الفعل (¬3). ويجدر بنا هنا أن ننبه على أمرين: 1 - اشتراط الحذف بدخول أداة الشرط، كما ذهب إليه بعض النحاة. 2 - إدخال أفعال الإدارة مع افعال المشيئة في هذا الحذف، فقد ذهب أهل البيان أن افعال المشيئة والإرادة مشتركة في هذا الأمر كما صرح به الزمخشري في النص الذي نقلناه آنفا (¬4). اما بالنسبة إلى الأمر الأول وهو اشتراط الحذف بدخول اداة الشرط كما هو ذهب إليه ابن النحوية محمد بن يعقوب فهو غير صحيح، بل ورد الحذف كثيرا من غير دخول أداة شرط وذلك نحو قوله تعالى: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} [آل عمران: 6]، أي كيف يشاء أن يصوركم، وقوله: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة: 64]، وقوله: {وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء} [الزمر: 74]، وقوله: {في أي صورة ما شاء ركبك} [الإنفطار: 8]، وقوله: {فكلما من حيث شئتما} [الأعراف: 18]، وقوله {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} [الأنعام: 111] إلى غير ذلك من الآيات. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 170 - 171 (¬2) معترك الاقران 1/ 308 (¬3) البرهان 3/ 168 (¬4) الكشاف 1/ 170 - 171، وانظر معترك الاقران 1/ 308، البرهان 3/ 167 - 168، الطراز 2/ 104

وبهذا يتضح أن اشتراط هذا الشرط غير صحيح. ومما ورد مذكورا معه مفعول المشيئة، قوله تعالى: {قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا} [الفرقان: 57]، وقوله: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} [المدثر: 37]، وقوله: {إلا أن يشاء ربي شيئا} [الأنعام: 80]. أما بالنسبة إلى الأمر الثاني، وهو إخال أفعال الإرادة مع افعال المشيئة، فإنه - وإن كان مقبولا في القياس لم أجد ما يؤيده في القرآن الكريم، على كثرة ما ورد من هذا الفعل فيه، فقد ورد هذا الفعل مقتضيا للمفعول به في (136) مائة وستة وثلاثين موطنا، من القرآن الكريم ولم يحذف مفعوله في واحد منها، إلا في عائد الأصل، كقولك تعالى {إن ربك فعال لما يريد} [هود: 107]، {وإنك لتعلم ما نريد} [هود: 79]، وهذا غير مختص بفعل دون فعل كما هو معلوم، فحذف عائد الصلة المنصوب كثير في عموم الأفعال كقوله تعالى: {أهذا الذي بعث الله رسولا} [الفرقان: 41]، أي بعثه، وقوله {ذرني ومن خلقت وحيدًا} [المدثر: 11]. وهذا الحذف في عائد الصلة ورد في فعل الإرادة في سبعة مواطن، وفي (129) مائة وتسعة وعشرين موطنا من فعل الإرادة لم يحذف في واحد منها، وذلك كقوله تعالى {وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له} [الرعد: 11]. وقوله: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} [الكهف: 82]، {قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة} [الأحزاب: 33]، {لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى ما يخلق ما يشاء} [الزمر: 4]، إلى غير ذلك من الآيات، فلا يصح فيما أرى أن يجعل الإرادة نظيرا لفعل المشيئة في حذف مفعوله، فالفرق بينهما ظاهر في الاستعمال والله أعلم.

التحذير والإغراء

التحذير والإغراء التحذير تنبيه المخاطب على أمر مكره ليجتنبه (¬1) وهو على ضربين: 1 - ذكر المحذر مع المحذر منه، نحو (إياك والغيبة) و (يدك والنار) فالمحذر في الأولى (إياك) وفي الثانية (يدك)، والمحذر منه (الغيبة)، و (النار) في المثالين. 2 - ذكر المحذر منه مكررا أو غير مكرر نحو، النار النار، الأسد (¬2). 1 - ذكر المحذر مع المحذر منه: المحذر إما أن يكون بـ (إيا) للمخاطب، وإما يكون بالأسماء المضافة إلى ضمير المخاطب نحو: يدك ونفسك، ورجلك، وعينك، ثم يؤتى بالمحذر منه تاليا للواو، أو (من) نحو (إياكم والكذب)، و (إياكم من الكذب)، و (رأسك والحجر، أو من الحجر)، ولا يجوز عند سيبويه والجمهور حذف الواو (من) فلا يصح عندهم أن يقال (إياك خالدا) ولا (رأسك الجدار)، وأجازه قسم من النحاة (¬3). وأما نحو (إياك أن تفعل) فجاز لصلاحية تقدير (من) (¬4)، قال سيبويه " واعلم أنه لا يجوز ان تقول: إياك زيدا، كما إنه لا يجوز أن تقول رأسك الجدار، حتى تقول: من الجدار، أو الجدار، وكذلك أن تفعل، إذا أردت إياك والفعل، فإذا قلت (إياك أن تفعل) تريد إياك اعظ مخافة أن تفعل، أو من أجل أن تفعل، جاز، لأنك لا تريد أن تضمه إلى الاسم الأول، كأنك قلت: إياك نح لمكان كذا وكذا. ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 192، الأشموني 3/ 188 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 195 (¬3) سيبويه 1/ 140 - 141، المقتضب 3/ 23، الأشموني 3/ 193، التصريح 2/ 192، حاشية يس على التصريح 2/ 193 (¬4) الأشموني 3/ 189، التصريح 2/ 193

ولو قلت (إياك الأسد) تريد من الأسد لم يجز، كما جاز في (أن) إلا أنهم زعموا أن ابن أبي إسحاق هذا البيت في شعر: إياك إياك المراء فإنه ... إلى الشر دعاء وللشر جالب كأنه قال (إياك)، ثم اضمر بعد إياك فعلا آخر، فقال: إتق المراء (¬1). وعلى هذا فأساليب التحذير من هذا القسم، هي ما يأتي: 1 - إياك والكذب. 2 - إياك من الكذب. 3 - إياك أن تكذب 4 - رأسك والحجر 5 - رأسك من الحجر وهذه متفق على صحتها 6 - أياك الكذب 7 - رأسك الحجر عند قسم من النحاة. فاللفظة الأولى من هذه الجملة محذر، والثانية محذر منه فـ (إياك) و (رأسك) محذر، و (الكذب) و (الحجر) محذر منه. وتسميه نحو (رأسك) و (يدك) محذرا تجوز، والحقيقة إنه محذر لأجله، وإنما المحذر المخاطب. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 140 - 141

وعند النحاة أن التحذير لا يكون للمتكلم، ولا الغائب، مع ورود نصوص قليلة بذلك نحو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لتذك لكم الأسل والرماح والسهام وإياي وأن يحذف أحدكم الأرنب)، وقول زياد: (إياي ودعوة الجاهلية) وقوله أيضا: (إياي ودلج الليل) وقولهم: (إذ بلغ الرجل الستين فإياه وايا الشواب) (¬1). جاء في كتاب سيبويه: "ومن ذلك أيضا قولك (إياك والأسد)، و (إياي والشر)، كأنه قال (إياك فاتقين والأسد) وكأنه قال: (إياي لاتقين والشر) فإياك متقي، والأسد والشر، متقيان، فكلاهما مفعول ومفعول منه، ومثله (إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب)، ومثله (إياك وإياه) و (إياي وإياه) كأنه قال: إياك باعد، وإياه أونح. ورغم أن بعضهم يقال له (إياك) فيقول: إياي، كأنه قال: إياي أحفظ وأحذر، وحذفوا الفعل في (إياك) لكثرة استعمالهم إياه في الكلام، فصار بدلا من الفعل .. فكأنه قال: إحذر الأسد، ولكن لابد من الواوـ، لأنه اسم مضموم إلى آخر" (¬2). فذكر سيبويه إنه ورد تحذير الإنسان لنفسه لأتق، لأحذر، وتحذير المتكلم لنفسه على ضربين: إما أن يكون المقصود به المخاطب، مع وروده بأسلوب تحذير النفس، وهو نحو قول عمر رضي الله عنه (وإياك وأن يحذف أحدكم الأرنب) أي احذروني في أن يحذف أحدكم الأرنب، وهو إن كان أخرجه مخرج التحذير للنفس فإن المقصود به المخاطب وهو نظير قولك (لا ارينك هنا بعد اليوم) فهو وإن كان بإسلوب النهي للمتكلم إلا أن المقصود به المخاطب، ومنه قول زياد الذي ذكرته آنفا، وفي الحديث (إياي والتشادق) وهو من هذا الباب. ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 193 - 194، الرضي على الكافية 1/ 196، الهمع 1/ 169 - 170 (¬2) سيبويه 1/ 138

حذف فعله

وإما أن يكون المقصود به المتكلم نفسه وهو ما ذكره سيبويه في نحو قولهم (إياي والشر) أي لأحذر الشر فهو يحذر نفسه منه. قال الرضي: " وقوله عمر رضي الله تعالى عنه لجماعة (إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب بالعصا، وليذك لكم الأسل والرماح) يحتمل أمر المتكلم أي لأبعد نفسي عن مشاهدة حذف الأرنب، وأمر المخاطب أي بعدوني عن مشاهدة حذفه" (¬1). وظاهر أن الكثير والشائع في التحذير أن يكون للمخاطب، ويصح أن يكون للمتكلم والغائب على قلة. 2 - ذكر المحذر منه مكرر أو غير مكرر: وذلك نحو النار، العقرب العقرب، الكذب والخيانة، فهذه ألفاظ محذر منها وردت مكررة وغير مكررة. حذف فعله: ذهب النحاة إلى أنه إذا كان أسلوب التحذير بـ (إيا) ففعله واجب الحذف مطلقا. سواء كررت أم لم تكرر، تقول: (إياك والكذب)، ولا يصح أن تقول: (إياك احذر والكذب) أو احذرك والكذب، وكذلك إذا كان بغير (إيا) إذا كان مكررا أو معطوفا نحو: النار النار، والكذب والخيانة، فإنه لا يصح أن تقول: إحذر النار النار، واحذر الكذب والخيانة (¬2) وأجاز بعضهم إظهار الفعل معه، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأجاز قوم ظهور الفعل مع هذا القسم نحو احذر الأسد الأسد وإياك إياك احذر، نظرا إلى تكرير المعمول للتأكيد لا يوجب حذف العامل، كقوله تعالى: {إذا دكت الأرض دكا دكا} [الفجر: 21]. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 196 (¬2) التصريح 2/ 192، ابن عقيل 2/ 87، حاشية الخضري 2/ 88، سيبويه 1/ 138 - 139

وإذا لم يكرر المعمول جاز إظهار عاملة اتفاقا (¬1). وفي هذه المسألة بحث، فإنه عند جمهور النحاة أن حذف الفعل واجب في نحو قولك (إياك من المراء) و (إياك من الكذب) وفي نحو (الكذب والخيانة)، ولكن ألا يصح أن نقول: احذر من المراء، واحذر الكذب والخيانة؟ ألا يصح أن نقول: (احذرك من هذا الأمر) و (أحذرك العقوق والظلم)؟ إن هذه التعبيرات صحيحة بلا شك، وإذا حذفنا الفعل من هذه الجمل كانت من الجمل الواجبة حذف الفعل عند النحاة، فمثلا قولنا (احذرك من المراء) إذا حذفنا الفعل منه، كان (إياك من المراء) و (احذر من هذا الأمر) إذا حذفنا الفعل منه كان (إياك من هذا الأمر)، وإذا حذفنا الفعل من قولنا (احذرك الكذب والخيانة) قلنا (الكذب والخيانة)، فإذا كانت هذه الجمل مع ذكر الفعل صحيحة، فلماذا يقول النحاة أن الحذف واجب؟ أنه يصح أن تقول (احذرك من هذا الأمر) و (إياك من هذا الأمر) قال تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا} [النور: 17]، فذكر فعل التحذير (يعظ) ولو حذفه لكان القول (إياكم ان تعوداو لمثله ابدا) وقال {إني اعظك ان تكون من الجاهلين} [هود: 46]، فذكر فعل التحذير، ولو حذفه لقال: (إياك أن تكون من الجاهلين)، قال: {واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام} [النساء: 1]، ولو حذفه لقال: (الله والأرحام) .. وقال: (قل أطيعوا الله والرسول) [آل عمران: 32]، ولو حذف فعل الأغراء لكان القول (الله والرسول). وقال {وأوفوا الكيل والميزان} [الأنعام: 152]، ولو حذف فعل الإغراء لقال: الكيل والميزان. فهذه كلها من أساليب التحذير والإغراء الواجبة حذف الفعل عند النحاة، وقد ذكر الفعل معها فكيف يفسر قول النحاة بوجوب الحذف، مع أن الذكر وارد في القرآن الكريم وفي غيره؟ ¬

_ (¬1) الرضي 1/ 196، وانظر سيبويه 1/ 139، التصريح 2/ 195

ولا يذهب ذاهب إلى أن هناك فعلا بعينه، وهو الذي يلزم تقديره، بل كل ما يؤدي المعنى صح تقديره، قال سيبويه: (هذا باب ما جرى منه على الأمر والتحذير) " وذلك قولك إذا كنت تحذر: (إياك) كأنك قلت: إياك نح، وإياك باعد، وإياك اتق، وما أشبه ذا (¬1). وجاء فيه: " فإذا قلت: (إياك أن تفعل)، تريد إياك أعظ مخافة أن تفعل، أو من أجل أن تفعل جاز (¬2) ". فقدر (أعظ) الذي ذكره القرآن الكريم. قال الحفيد: " والحق أن يقال: لا يقتصر على تقدير باعد ولا على تقدير (احذر) بل الواجب تقدير ما يؤدي الغرض، إذ المقدر ليس أمرا متعبدا به لا يعدل عنه" (¬3). ونعود إلى سؤالنا وهو: ما معنى قول النحاة أن الحذف واجب، في نحو قولك: (إياك أن تكذب) مع أنه يصح ان نذكر الفعل ونقول: أحذرك أن تكذب؟ والجواب أن (إيا) في هذا الباب كناية عن المنع والتحذير، والتبعيد عن الشيء معناها (بعد) او باعد، أو احذر أو احفظ نفسك، أو ق نفسك، ونحو ذلك من معنى التحذير، والكاف للخطاب، وهي بمعنى فعل التخذير نائبة عنه، وتسد مسده، وقد ذكر ذلك سيبويه، قال: وإياك بدل من اللفظ بالفعل، كما كانت المصادر كذلك، نحو: الحذر الحذر (¬4). وقال ابن كيسان: وقد تكون إيا بمعنى التحذير (¬5). ولو قال قائل هي اسم فعل بمعنى بعد، أو احذر، ونحو ذلك، كما قالوا في ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 138 (¬2) سيويه 1/ 140 (¬3) حاشية الصبان 3/ 189، حاشية الخضري 2/ 88، وانظر ابن يعيش 2/ 25 (¬4) سيبويه 1/ 139، وانظر لسان العرب - ايا 20/ 323 (¬5) لسان العرب ايا 20/ 326

(دونك) بمعنى (خذ) و (رويد زيدا) بمعنى أمهله، و (عليك) بمعنى إلزم، و (إليك) بمعنى تنح لكان في قوله وجاهة. وهي من حيث ذكر الفعل وعدمه نظيرة المصدر النائب عن فعل الأمر، في نحو قولنا (إقدامنا يا سعيد) فمعنى (إقداما) هنا معني فعل الأمر (إقدم) والنحاة يقدرون فعلا محذوفا واجب الحذف في نحو هذا، وهو هنا (أقدم) مع أنه يصح أن يقال: (أقدم اقداما يا سعيد) قال تعالى: {فاصبر صبرا جميلا} [المعارج /: 5]، وقال: {اهجرهم هجرا جميلا} [المزمل: 10]، وهو كما ترى نظير مسألتنا في التخذير. يقول النحاة في التخذير: إياك من الكذب، الفعل واجب الحذب، وتقديره احذر، أو احفظ علما بأنه يصح أن نقول: احذرك من الكذب. ويقولون في باب المفعول المطلق، اقداما يا سعيد، الفعل واجب الحذف، وتقديره اقدم مع أنه يصح أن نقول: أقدم إقداما يا سعيد. فما تفسير هذا الأمر. في مسألة المفعول المطلق إذا قلنا (إقداما يا سعيد) كان المصدر نائبا عن فعل الأمر ومعناه (أقدم يا سعيد) ولكن إذا قلنا (أقدم إقداما يا سعيد) تغير المعنى، وكان المصدر مؤكدا، وليس نائبا عن فعل الأمر. وكذلك إذا قلت (صبرا جميلا يا فلان) فمعناه (إصبر) ولكن إذا قلت (إصبر صبرا جميلا) تغير المعنى، واصبح المصدر مبينا للنوع فقط، فإنه يصح ان تقول: (صبرا جميلا) وفعله واجب الحذف عند النحاة، ومعناه الأمر وهو نائب عن فعله، ويصح أن تقول (اصبر صبرا جميلا) لكن ليس بالمعنى الأول، فهنا صبرا ليست نائبة عن فعل الأمر، ولا بمعنى الأمر، وإنما هي ههنا مبنية فحسب، فالنحاة يقدرون في صبرا جميلا إصبر محذوفا وجوبا لضرورة تمشية الصناعة الإعرابية لأن كل منصوب لابد له من ناصب عندهم، ولو ذكرته لصح، لكن ليس بالمعنى الأول كما أوضحت.

وكذلك الأمر في التحذير فـ (إياك) في التحذير نائبة عن فعل التبعيد، والمنع، والتحذير ويقدرون لها فعلا معناه (احذر)، ونحو ولكن لو أظهرته لتغير المعنى، ولأصبح التحذير بالفعل المذكر لا بإياك، فلو قلت: (إياك من الكذب) كان التحذير بإياك وحده، ولو قلت (احذرك من الكذب) لكان التحذير بالفعل (احذر) لا بالضمير، وكذلك لو قلت (إياك احذر من الكذب) كان التحذير بالفعل لا بـ (إيا) وقدمت الضمير للاختصاص، وعند ذلك لا يكون (إيا) كناية التبعيد والمنع، ولا نائبا عن فعل التحذير، وإذا قلت (احذك إياك أن تفعل) كانت (إيا) ليست تحذيرا، وإنما هي بدل من ضمير الخطاب على رأي الجمهور، أو توكيد له على رأي آخرين، فأنت لا تذكر الفعل إذا كانت (إيا) تقوم مقام فعل التحذير ولو ذكرت الفعل كانت ضمير نصب غير مكني به عن التحذير. والذي يدل على أن (إيا) في التحذير ليست مثلها في غير التحذير، ان بعض العرب قد تغير في (إياك) التي للتحذير، وتتصرف فيها بخلاف التي لغير التحذير، فتقول: (إياك) بفتح الهمزة، و (هياك) بإبدال الهمزة هاء، وذلك في التحذير فقط، جاء في (لسان العرب): " ومنهم من يجعل التحذير وغير التحذير مكسورا، ومنهم من ينصب في التحذير ويكسر ما سوى ذلك للتفرقة .. ، قال الفراء: والعرب تقول (هياك وزيدا) إذا نهوك، قال: ولا يقولون هياك ضرب" (¬1). إنها طريقة من طرائق التعبير في المنع والتبعيد، إنك كما تقول في الأمر: قم بالواجب، وقياما بالواجب. اصبر على الحق، وصبرا على الحق، فتأمرة مرة بالفعل، ومره بالمصدر، وكما تقول: إلزم نفسك، وعليك نفسك خذ الكتاب ودونك الكتاب. فتأمره مرة بالفعل، ومرة باسمه، كذلك تقول: ¬

_ (¬1) لسان العرب (هيا) 20/ 325

أعظك أن تجهل، وإياك أن تجهل. فالأول تحذير بالفعل، والثاني تحذير بالاسم، أو بالكناية. ثم إن التحذير بـ (إيّا) هو منع عام بصيغة التبعيد المطلق، في حين ان التحذير بالفعل مقيد بمعنى ذلك الفعل فقولك (احذر) مقيد بمعنى فعل التحذير، و (أعظك) مراد منه الوعظ و (أنهاك) مراد به معنى النهي وهكذا. وأما ما كان بغير (إيا) من المكرر والمعطوف، فحذف فعله واجب عند الأكثرين، وأما ما لم يكن مكررا فذكر فعله جائز كما سبق أن ذكرنا. قالت سيبويه: " وإنما حذفوا الفعل في هذه الأشياء حين ثنوا (¬1) لكثرتها في كلامهم واستغناء بما يرون من الحال وبما جرى من الذكر، وصار المفعول الأول بدلا من اللفظ بالفعل حين صار عندهم مثل إياك .. ولو قلت (نفسك) أو رأسك، او الجدار كان إظهار الفعل جائزا نحو قولك اتق رأسك أو احفظ نفسك، واتق الجدار فلما ثنيت صار بمنزلة إياك (¬2) ". وذكر غيره أن سبب الحذف هو أن الوقت يضيق عن ذكر غير المحذوف منه قال الرضي: " وحكمة اختصاص وجوب الحذف بالمحذر منه المكرر، وكون (¬3) تكريره دالا على مقارية المحذر منه للمحذر بحيث يضيق الوقت إلا عن ذكر المحذر منه على أبلغ ما يمكن، وذلك بتكريره، ولا يتسع لذكر العامل مع هذا المكرر وإذا لم يكن الاسم جاز إظهار العالم اتفاقا (¬4). وقال: وإنما وجب الحذف في الأول والثاني [أي ما كان بذكر المحذر، والمحذر ¬

_ (¬1) المعنى حين كرروا. (¬2) 155 سيبويه 1/ 138 - 139 (¬3) الراجح فيما يبدو زيادة الواو (¬4) الرضي على الكافية 1/ 196

ومنه وما كان بذكر المحذر منه ومكررا] لأن القصد .. أن يفرغ المتكلم سريعا من لفظ التحذير حتى يأخذ المخاطب حذره من ذلك المحذور، وذلك لأنه لا يستعمل هذه الألفاظ إذا إذا شارف المكروه أن يرهق" (¬1). وجاء في (ملا جامي) في التحذير: " وإنما وجب حذف الفعل فيه لضيق الوقت عن ذكره" (¬2) وفي حاشية ملا جامي: " في كلا قسمي (¬3).التخذير ضيق وقت، وهو أضيق من القسم الثاني منه، ولهذا لا يذكر إلا المحذر منه" ((¬4) وجاء في (الإتقان) للسيوطي إن من دواعي الحذف " التنبيه على ان الزمان يتقاصر على الاتيان بالمحذوف، وأن الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهم، وهذه هي فائدة باب التحذير والاغراء". (¬5) والأمر عندي فيه تفصيل وهو أنه ليس كل مكرر واجب الحذف، ولا كل مفرد جائز الحذف، وإنما الأمر يعود على القصد والمعنى والمقام، فإذا كان ذكر اللفظ من المحذر والمحذر منه نائبا عن فعل التحذير مفهوما منه التحذير بما يرى من الحال، وكان المقام يضيق عن ذكر الفعل حذف فعله، ولا يذكر وكان المذكور يقوم مقام فعل التحذير، كما في (أيا) سواء كان مكررا، ام غير مكرر وإلا جاز ذكره. وإيضاح ذلك أنك تقول لصاحبك (إحذر زيدا) ثم ترى أنه لم يسمع كلمة (زيد) أو ذهب إلى خالد، فتؤكد زيدا وهذه من فوائد التوكيد اللفظي، فتقول: (إحذر زيدا زيدا) فإذا كان زيدا قريبا منه، وهو له عدو ينوي قتله، وكان الوقت يضيق عن ذكر غير المحذر قلت: زيدا زيدا زيدا، ليست نائبة عن فعل التحذير بخلاف الثانية فإنها نائبة عنه ومفهمة معناه. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 197 (¬2) ملا جامي 128 (¬3) القسم الأول ما ذكر فيه المحذر نحو الأسد الأسد، والقسم الثاني ما ذكر فيه المحذر والمحذر منه نحو إياك والأسد ويدك والنار. (¬4) حاشية ملا جامي 128 (¬5) الاتقان 2/ 57، معترك الأقران 1/ 305

قال تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء: 1]، فذكر فعل التحذير لأن لفظ الجلالة لم يقم مقام التحذير، ولأن هناك سعة من الوقت ولو حذف لقال (الله والأرحام). وعلى مقتضي قول النحاة أن هذا واجبة الحذف، لأنها معطوفة، والحق ما ذكرت، وهو أنه إذا كان المذكور مفيدًا للتحذير من مجرد ذكره، وأنه نائب عن فعل التحذير وكان الزمان يتقاصر عن ذكر الفعل حذف وجوبا، نحو (الحية والعقرب)، وإن لم يكن كذلك ذكرت، فتقول: (احذر الحية والعقرب) وهذا كما يكون في المكرر والمعطوف يكون في المفرد. ومثله الإغراء قال تعالى: {قل أطيعوا الله والرسول} {آل عمران: 23}، فذكر فعل الإغراء مع العطف لأن الاسم المذكور. لم يقم مقام فعل الإغراء. وقال: {وأوفوا الكيل والميزان} [الأنعام: 152] فذكر الفعل لما ذكرت. وخلاصة الأمر في هذا الباب أن لك أن تقول: إياك أن تفعل واحذرك ان تفعل وإياك أحذر أن تفعل واحذرك إياك أن تفعل، فكل ذلك جائز ولكل قصد ومعنى، فإذا ذكرت إياك وحده كان مفيدا للتحذير بنفسه، وإذا ذكرت أي فعل معه كان التحذير بذلك لا بـ (إيا). ولك أن تقول (الكذب) و (الكذب الكذب) و (الكذب والخيانة) و (رأسك والحائط) ولك أن تقول: (احذر الكذب) و (احذر الكذب الكذب) و (احذر الكذب والخيانة) و (امنع رأسك والجدار) فيكون التحذير في الجمل الأولى بما ذكرت من المحذر والمحذر منه، وفي الثانية يكون التحذير بالفعل، وإذا ذكرت الفعل معها لم تكن هذه نائبة عن فعل التحذير، ولا مفيدة له، بل يكون التحذير بما ذكرت من الفعل. ففي كل هذه المسائل يجوز ذكر الفعل وعدمه، ولكن إذا أردت التحذير بالاسم نيابة عن الفعل حذفت الفعل ولم تذكره، وإذا اردت التحذير بالفعل ذكرت الفعل وخرجت الأسماء عن كونها للتحذير.

الواو في التحذير

الواو في التحذير: قد تدخل الواو على المحذر منه مع ذكر المحذر وبدونه وذلك نحو قولنا: (إياك والمراء) و (يدك والنار) و (الكذب والخيانة) فما هذه الواو؟ ذهب النحاة إلى أن هذه الواو عاطفة وتكلفوا لذلك تقديرات نذكر أشهرها بإيجاز: ا 1 - إياك والمراء: ذهب النحاة إلى أن الواو في نحو هذا عاطفة ثم اختلفوا في التقدير فذهب السيرافي وكثيرون إلى أن ما بعد الواو (المحذر منه) معطوف على ما قبله (المحذر) والتقدير عندهم: احذر نفسك أن تدنو من المراء والمراء أن يدنو منك، فحذف ما حذف من الأفعال والحروف، والأسماء إلى أن صار (إياك والمراء) وهو عندهم من عطف المفردات، واعتراض بأن (إياك) محذر و (المراء) محذر منه، فكيف نعطف محذرا على محذر منه، والعطف يقتضي المشاركة في المعنى؟ جاء في (حاشية الصبان): " فإن قلت: المعطوف في حكم المعطوف عليه، وإياك محذر والأسد محذر منه، وهما متخالفان فكيف جاز العطف؟ فالجواب أنه لا يجب مشاركة الاسم المعطوف عليه، إلا في الجهة التي انتسب بها المعطوف عليه إلى عامله وهي هنا كونه مفعولا به أي مباعدا وكذا الاسم مباعدا، إذ المعنى إياك باعد وباعد الأسد (¬1) ". وذهب ابن طاهر وابن خروف إلى أن ما بعد الواو منصوب بفعل آخر محذوف، والتقدير إياك بعد من الشر، واحذر الشر فيكون الكلام جملتين (¬2). وهو تكلف فإنك إذا قلت إياك باعد من الشر كان تحذيرا من الشر، فلا داعي لأن يقول: واحذر الشر. ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 3/ 188، وانظر التصريح 2/ 193 (¬2) الهمع 1/ 169، التصريح 2/ 193

واختار ابن مالك قولا ثالثا، وهو أن يكون معطوفا، عطف مفرد على مفرد، على التقدير (اتق تلاقي نفسك والمراء) فحذف الفعل، ثم حذف المضاف (تلاقي)، وأقيم المضاف إليه مقامه فصار (نفسك والمراء) ثم حذف المضاف (نفس) واقيم المضاف إليه مقامه، وهي الكاف ثم حول ضمير الجر، إلى ضمير نصب منفصل فصار (إياك والمراء) (¬1). وهي تكلف واضح تبدو فيه كثرة الحذف بدون موجب، وذلك في الآراء كلها. والراجح في مثل هذا أن تكون الواو للمعية، والمعنى إياك وممارسة المراء، أو التلبس به او مصاحبته ونحو ذلك، ولا داعي لهذه التقديرات المتكلفة. قال ابن مالك في التسهيل: (ولا يعطف في هذا الباب إلا بالواو، وكون ما يليها مفعولا معه جائز (¬2)) وجاء في شرح الرضي على الكافية: ولا يمتنع أن يدعى أن الواو التي في المحذر بمعنى مع (¬3). وهو فيما نرى ليس جائزا فقط بل هو الراجح الذي يؤدي المعنى بدون تكلف، ولا كثرة حذف. 2 - رأسك والحائط: وهي كالتي قبلها والواو عندهم للعطف، والتقدير قِ رأسك واحذر الحائط، فيكون الكلام جملتين، ويذكرون وجوها أخرى مشابهة كما مر في (إياك والمراء) (¬4)، وهي في جملتها تقديرات متكلفة مقاربة لما ذكرناه في العبارة السابقة، والراجح أن تكون أيضا للمعية، أي احفظ رأسك من الحائط، ومصاحبته، ونحو (يدك والنار) أي يحذره أن تمس يده النار وتصاحبها. ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 193 (¬2) التسهيل 193 (¬3) الرضي 1/ 198، وانظر الأشموني 3/ 191، حاشية الخضري 2/ 88 (¬4) الأشموني 3/ 190، وانظر الصبان 3/ 190

الإغراء

وقد تكون هذه العبارة لمعنى آخر غير التحذير على تقدير دع رأسك والحائط، وخله وإياه أي إضرب رأسك بالحائط إن شئت، ويدك والنار أي دع يدك والنار، جاء في (كتاب سيبويه): " ومن ذلك رأسه والحائط، كأنه قال خل أو دع رأسه من الحائط، فالرأس مفعول والحائط مفعول معه، فانتصبا جميعا، ومن ذلك قولهم شأنك والحج كأنه قال: عليك شأنك من الحج (¬1) ". وهذه ليس من التحذير وليس مما نحن فيه. 3 - الكذب والخيانة: يجوز أن تكون الواو عاطفة أي إحذر الكذب والخيانة، بل هو الراجح أن يكون الثاني مفعولا معه أي إحذر الكذب مصاحبا الخيانة، وهو مرجوح هنا لأن النهي يكون عن المصاحبة، ولو فعل أحدهما ما كان بمحذور، وهذا المعنى غير مراد، ولو قلت (الأكل والضحك) لكانت المعية راجحة لأنها نهي عن المصاحبة، والجمع بينهما. الإغراء تنبيه المخاطب عن امر محمود ليفعله، نحو المروءة والنجدة، وأخاك والإحسان إليه، وإخاك أخاك، ولا يكون بـ (إيّا) لأنها خاصة بالتحذير، وتقدير فعله عند النحاة (إلزم). وحكم الاسم المنصوب في الاغراء حكمه في التحذير (¬2)، ونقول فيه وفي واوه ما قلنا في التحذير. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 138 (¬2) التصريح 2/ 195، وانظر ابن عقيل 2/ 89، الرضي على الكافية 1/ 198

الاختصاص (الاختصاص في الأصل مصدر اختصصته بكذا، أي خصصته به، وفي الاصطلاح تخصيص حكم علق بضمير ما تأخر عنه، من اسم ظاهر معروف (¬1)). والنحاة يخصون في هذا المصطلح بما يقع بعد ضمير المتكلم، أو المتكلم المشارك معه غيره من اسم ظاهر معرفة موضحا لذلك الضمير ومبينا له نحو (نحن المسلمين نفي بالعهود) و (علي خالد يعتمد). ولا يصح أن يوضح الضمير في هذا الباب نكرة، ولا اسم مبهم، فلا يصح أن يبين باسم إشارة ونحوه من المبهمات، قال سيبويه: (واعلم إنه لا يجوز لك أن تبهم في هذا الباب فتقول (إني هذا أفعل كذا وكذا) ولكن تقول (إني زيدا أفعل) ولا يجوز أن تذكر إلا اسما معروفا، لأن الأسماء إنما تذكر هنا توكيد وتوضيحا للمضمر، وتذكيرا فإذا ابهمت فقد جئت بما هو أشكل من الضمير، ولو جاز هذا لجازت النكرة فقلت، أنا قومها فليس هذا من مواضع النكرة، والمبهم، ولكن هذا موضع بيان كما كانت الندبة موضع بيان، فقبح إذا ذكروا توكيدا لما يعظمون أمره أن يذكروه مبهما (¬2)). وإيضاح ذلك أن الضمائر قد تحتاج إلى إيضاح لأنها كنايات عن المتكلم، والمخاطب والغائب، ولذلك سميت (ضمائر)، فالضمير فعيل بمعنى (مفعل) أي مضمر من (أضمر) وأضمر أخفي، وأضمر خيرا أو شرا أي أخفي ذلك في نفسه، قالوا وسمي ضميرا لأنه يستتر أي يخفي، وأرى أنه سمي ضميرا لأنه يستر تحته الاسم الصريح، ويخفي كما مر بيان ذلك، فإذا قلت (أنا) فأنت لم تصرح باسمك، وإنما أخفيته تحت الضمير. ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 190 (¬2) سيبويه 1/ 328، وانظر التصريح 2/ 190

والغرض الأساسي من الاختصاص توضيح الضمير المتقدم، وتبيينه ولذلك لا يجوز هنا أن تذكر إلا اسما معرفا كما قال سيبويه، فلا يصح أن نأتي باسم الإشارة، ولا موصول لأنها كنايات أيضا وليست تصريحا وإذا جئت بها فقد جئت بما هو اشكل. من المضمر فلو قلت (إني هذا أفعل وأفعل) لم يكن (هذا) تبيننا للضمير، ولا توضيحا له. وكذلك لا يصح أن تاتي بنكرة، فلا تقول (أنا معشرا نفعل كذا وكذا) لأن الضمير معرفة والنكرة أعلم منه، فلم تبينه وإنما جئت بما هو اغمض منه وأخفي، ولم توضح المقصود بخلاف ما لو قلت: (إنا معشر العراقيين أو معشر الأدباء) ونحو ذلك. فالاختصاص يراد به توضيخ الضمير المذكور وتخصيصه، وتخليصه من غيره، وتمييزه عنه، والباعث عليه فخر، نحو (علي أيها الكريم يعتمد) ونحو (بنا تميما يكشف الضباب) أو تواضح، نحو (أنا المسكين محتاج إلى أعانتك) أو بيان المقصود، نحو (إنا معاشر الأنبياء لا نورث) ونحو (نحن الطلبة نريد حقوقنا) (¬1). والأصل في أن يكون للمتكلم كما ذكرت، فلا يقع بعد ضمير غائب، فلا يقال: (بهم معشر العرب ختمت المكارم)، ولا بعد اسم ظاهر نحو (بزيد العالم يقتدي) ويقل بعد ضمير الخطاب نحو (بك الله نرجو الفضل (¬2)). ومن هنا يتبين أن المقصود به المتكلم، فقولك (علي أيها الكريم يعتمد) المقصود بالكريم هو المتكلم، وقولك (إنا أيها الراحل أحل عنك ما تريد)، الراحل فيه هو المتكلم وليس المخاطب، فأن قصد المخاطب فهو نداء وليس اختصاصا. ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 190، الأشموني 3/ 185، الرضي على الكافية 1/ 174 (¬2) التصريح 2/ 191، الهمع 1/ 170

أسلوبه أسلوب الاختصاص على ضربين: 1 - ان يكون بـ (أي) مبنية على الضم متلوة بـ (ها) مثلها في نداء المحلى بأل وتستعمل للمحلى بأل نحو (علي أيها الكريم يعتمد) و (أنا أيها الراحل أحمل عنك ما تريد). 2 - أن يكون بغير (أي) مضافا او معرفا بأل أو علما منصوبا نحو قوله: إنا بني منقر قوم ذوو حسب ... فينا سراة بني سعد وناديها وقوله: أنا بني نهشل لا ندعي لأب ... عنه ولا هو بالابناء يشيرنا وقولهم (نحن العرب أقرب الناس لضيف) وقوله (بنا تميما يكشف الضباب)، وهو منصوب عند النحاة، بفعل تقديره أعني أو أخص، قال سيبويه: "وذلك قولنا أنا معشر العرب نفعل كذا وكذا، كأنه قال اعني، ولكنه فعل لا يظهر ولا يستعمل كما لم يكن ذلك في النداء، لأنهم اكتفوا بعلم المخاطب، وأنهم لا يريدون ان يحملوا الكلام على أوله، ولكن ما بعده محمول على أوله" (¬1). وقد أوضح سيبويه أن العرب في الاختصاص لا يريدون ان يحملوا الكلام على أوله، ولكن ما بعده محمول على أوله، وذلك نحو قوله (أنا بني منقر قوم ذوو حسب) فإنه لم يرد أن يخبر بأنهم بنو منقر، وإنما أراد أن يخبر بأنهم قوم ذوو حسب، وأوضح المقصود بالضمير فقال (أنا بني منقر) أي أعني بني منقر. ولو رفع فقال (إنا بنو منقر) لكان المعنى أنه أراد أن يخبر عنه نفسه وجماعته بأنهم بنو منقر. وكذلك لو قلت (نحن الطلبة نريد حقوقنا) فأنت لم ترد أن تخبر عنك بأنكم طلبة وإنما أردت أن تخبر بأنكم تريدون ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 327

حقوقكم ثم بينت من أنتم؟ ونحو لو قلت (أنا خالدا اقوم بهذا الأمر) فإنك لم ترد أن تخبر عن نفسك بأنك خالد، وإنما أردت أن تخبر بأنك تقوم بالأمر ثم بنيت نفسك. وجملة الإختصاص في نحو (علي يعتمد أيها الرجل) يقدرها النحاة حالا أي أي مخصوصا، قال ابن الناظم: " ومن ذلك الاختصاص لأنه خبر يستعمل بلفظ النداء كقولهم: (اللهم اغفر لنا أيتها العصابة) و (نحن نفعل كذا أيها القوم) و (أنا أفعل كذا أيها الرجل) يراد بهذا النوع من الكلام الإختصاص على معنى، اللهم اغفر لنا متخصصين من بين العصائب، ونحن نفعل كذا مخصوصين من بين الأقوام، وأنا أفعل كذا مخصوصا من بين الرجال (¬1). وفي نحو (علي خالد يعتمد) يعربونها إعتراضية (¬2)، وهو الراجح فيما أرى في كل أساليب الاختصاص، لأنه ليس القصد من نحو قولك (نحن أيها الطلبة نريد حقوقنا) إنك تريدون حقوقكم حال كونك خصوصين من بين الطلبة، بل ذكرت أنكم تريدون حقوقك وقد بينت من أنتم، وهو نظير قولك (نحن الطلبة نريد حقوقنا)، فلماذا تكون جملة الاختصاص ههنا اعتراضية وهناك حالية؟ الفرق بينه وبين النداء: ذهب الأخفش إلى أن الاختصاص نداء قال: " ولا ينكر أن ينادي الإنسان نفسه ألا ترى أن عمر قال: كل الناس أفقه منك يا عمر (¬3) ". ونظرة إلى طبيعة المنادي واستعماله، وإلى طبيعة الاختصاص واستعماله، توضح الفرق بينهما. ¬

_ (¬1) ابن الناظم 247، وانظر حاشية يس على التصريح 2/ 190، حاشية الخضري 2/ 87، الر ... ضي على الكافية 1/ 174 (¬2) المغني 2/ 387، حاشية يس 2/ 190 (¬3) الهمع 1/ 170، التصريح 2/ 190

1 - فالغرض من الاختصاص كما أوضحنا توضيح الضمير المتقدم، وتبيينه، وتمييزه، من غير أما النداء فإنه طلب الإقبال بحرف النداء، فأنت حين تقول (نحن العرب أقري الناس ضيفا)، لا تنادي العرب إنما تبين بذكرهم الضمير (نحن)، وكذلك حين تقول (علي خالد يعتمد) لم تناد نفسك، وإنما أوضحت الضير المتقدم، ولذلك لا يؤتى بـ (يا النداء) في الاختصص، لأنه ليس لغرض أن تنبه أحدا وتدعوه إليك، قال ابن يعيش: " والفرق بين هذا الاختصاص واختصاصا النداء، أنك في النداء تختص واحدا من الجماعة ليعطف عليك، عند توهم غفلة عنك، وفي هذا الباب تختصه بفعل يعمل فيه النصب، تقصد به الاختصاص على سبيل الافتخار، والتفصيل له، والاسم المنصوب في هذا الباب لابد أن يتقدم ذكره (¬1). وجاء في (المقتضب): "اللهم اغفر لنا أيتها العصابة فأجروا حرف النداء على العصابة، وليست مدعوة لأن فيها الاختصاص الذي في النداء، وإنما حق النداء أن تعطف به المخاطب عليك ثم تخبره أو تأمره، أو تسأله، أو غير ذلك مما توقعه إليه، فهو مختص من غيره في قولك يا زيد ويا رجال. فإذا قلت: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، فأنت لم تدع العصابة ولكنك اختصصتها من غيرها كما تختص المدعو فجرى عليها اسم النداء، أعني (أيها) لمساواتها إياه في الاختصاص .. وعلى هذا تقول: على المضارب الوضعية أيها الرجل، ولا يجوز أن تقول يا أيها الرجل، ولا يا أيتها العصابة لأنك لا تنبه إنسانا، إنما تختص، و (يا) إنما هي زجر وتنبيه (¬2) ". أما قول الأخفش انه لا ينكر أن ينادي نفسه كقول عمر (كل الناس أفقه منك يا عمر) فهذا صحيح فإن الإنسان قد يجرد من شخصه شخصا آخر فيخاطبه، كأن يقول الإنسان مخاطبا نفسه: يا نفس لما فعلت كذا وكذا؟ وماذا حملك على هذا يا فلان؟ فهذا نداء وليس الغرض منه توضيح الضمير، وتمييزه من غيره، فإنه يخاطب نفسه فلا يحتاج إلى إيضاح، وليس هناك موطن إبهام بخلاف الاختصاص فإنه يخاطب غيره موضحا نفسه. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 2/ 18 (¬2) المقتضب 3/ 298 - 299

ثم ألا ترى إنه جاء بـ (يا) النداء، في قوله (يا عمر) مما يدل على أنه نداء حقا، بخلاف الاختصاص الذي لا يؤتى فيه بحرف النداء البته. 2 - ومما يبين الفرق بينهما أن الاسم المنصوب على الاختصاص، لا يكون نكرة ولا اسم إشارة ولا ضميرا ولا موصولا، بخلاف المنادى، فإنه يكون نكرة، ومعرفة، مبهما وغير مبهم، فإنك تقول: يا هذا، يا مارا أنجدني، ويا من يعز علينا أن نفارقهم. 3 - ثم أن الاختصاص لا يقع في اول الكلام، بل في إثنائه، وذلك لأن الغرض منه توضيح الضمير المتقدم، أما النداء فإنه يقع أولا ومتوسطا وآخرا. 4 - لابد أن يقدم على المختص ذكر له، وهو ضميره المتقدم بخلاف النداء. 5 - الأصل في النداء أن يكون للمخاطب، والأصل في الاختصاص أن يكون للمتكلم. 6 - المفرد منه منصوب بخلاف المنادى، وذلك كقوله: (بنا تميما يكشف الضباب) وتقول (علي خالد يعتمد) أما المنادى في نحو هذا فإنه يكون مبنيا على ما يرفع به. 7 - يصح أن يكون الاسم المختص المعرف بأل منصوبا بدون (أي)، كقولهم (نحن العرب أقرى الناس لضيف) و (نحن العلماء ورثة الانبياء) ولا يصح أن يكون منادى لأن المحلي بأل لا ينادي إلا بأي (¬1)، إلى غير ذلك من الفروق. فاتضح بهذا أن المختص ليس منادى. الفرق بينه وبين المقطوع: يقدر النحاة للاسم المنصوب على الاختصاص فعلا تقديره اعني، أو أخص وقد قدره سيبويه بأعني قال: " وذلك قوله: (إنا معشر العرب نفعل كذا وكذا) كأنه قال أعني، ولكنه فعل لا يظهر ولا يستعمل". ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 328، التصريح 2/ 191، الأشموني 3/ 185، الهمع 1/ 171

وتقدير الفعل أعني أو أخص لا يختص بهذا الباب، فإنا نلحظ هذا التقدير في الأسماء المقطوعة في المدح، والشتم، وغيرهما، نحو مررت بمحمد الكريم، وكقوله تعالى: {وامرأته حمالة الحطب} [المسد: 4]، أي اعني وأخص، فهل هذا داخل في باب الاختصاص الذي أوردناه أو ليس إياه؟ جاء في (شرح الرضي على الكافية): " قالوا وإن كان الاختصاص باللام أو الإضافة بعد ضمير الغائب نحو مررت به الفاسق، أو بعد الظاهر نحو الحمد لله الحميد، أو كان المختص منكرا، فليس من هذا الباب بل هو منصوب أما على المدح، نحو الحمد لله الحميد، او الذم نحو (وامرأته حمالة الحطب) أو الترحم نحو قوله: ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالي. بفعل لا يظهر وهو اعني أو أخص في الجميع، أو مدح او ذم أوترحم كل في موضعه، هذا ما قيل، ولو قيل في الجميع بالنقل من النداء لم يبعد، لأن في الجميع معنى الاختصاص، فنكون قد أجرينا هذا الباب مجرى واحدا" (¬1). وأرى أن بينهما فرقا، أما النداء فقد ذكرنا فيه ما فيه الكفاية، فيما أحسب، وأما المقطوع فهناك خلاف فيما بينهما، أذكر طرفا منه: 1 - قال ابن يعيش موضحا الفرق بينهما: " ونصب هذه الأسماء كنصب ما ينتصب على التعظيم والشتم، بإضمار أريد، أو أعني، أو أختص فالاختصاص نوع من التعظيم والشتم، فهو أخص منهما لأنه يكون للحاضر، نحو المتكلم، والمخاطب وسائر التعظيم والشتم يكون للحاضر والغائب. وهذا الضرب من الاختصاص يراد به تخصيص المذكور بالفعل، وتخليصه من غيره على سبيل الفخر والتعظيم، وسائر التعظيم والشتم ليس المراد منه التخصيص والتخليص من موصوف آخر، وإنما المراد المدح أو الذم، فمن ذلك الحمد لله الحميد، والملك لله أهل الملك. ¬

_ (¬1) الرضي 1/ 175

وكل ذلك نصب على المدح ولم ترد ان تفصله من غيره (¬1). فالغرض - كما اسلفنا - من الاختصاص تبيين الضمير وتخليصه من غيره، بخلاف النعت المقطوع. 2 - ذكرنا أن الغرض من الاختصاص هو توضيح الضمير المتقدم، وتبيينه باسم علم أو باسم معرفة غير مبهم كقولك (علي خالدا يعتمد). وكقولك (نحن العراقيين نجل المخلصين) أما الغرض من النعت المقطوع فإنه بيان أن الموصوف بالصفة المقطوعة معلوم بهذه الصفة، مشهور بها، يعلمها المخاطب كما يعلمها المتكلم، فإذا قلت (مررت بمحمد الكريم) وقطعت، كان المعنى مررت بمحمد المعروف بخصلة الكرم المشتهر بها، في حين لبس الأمر كذلك في الاختصاص، فلو قلت (نحن الطلبة نريد حقوقنا) كان المقصود بيان الضمير، وتوضيحه وليس المقصود بيان أن المخاطب يعلم الخصلة معينه، كما يعلم المتكلم. 3 - ثم أن المقطع قد يكون إلى الرفع، أو النصب، فقد يقطع من المنصوب، إلى الرفع ومع المرفوع إلى النصب، ومع المجرور إلى الرفع، او النصب، كقولك مررت بمحمد الكريم أو الكريم، وتقول: رأيت خالدا الكريم واقبل سليم البائس، في حين أن الاختصاص لا يكون إلا نصبا نحو (أنا بني نهشل لا ندعي لأب) فدل على أن هذا غير ذاك. 4 - قد يقع القطع في العطف كقوله تعالى: {الموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} [البقرة: 177]، فقطع إلى النصب في العطف، وكقوله: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما} [النساء: 162]. فقطع إلى النصب وهذا لا يكون في الاختصاص. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 2/ 19

5 - ثم إن القطع قد يكون في النكرات كقولك (مررت برجل طويل كريما) وكقوله: ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالي أما الاختصاص فلا يكون إلا في المعارف فالغرض مختلف من كل قسم، كما أن الإسلوب مختلف فيهما، ولذلك لا أرى ضرورة دمجها. وسيأتي بشأن القطع تفصيل في مكانه إن شاء الله تعالى.

الاشتغال

الاشتغال معناه: الاشتغال عند النحاة هو كل اسم بعده فعل أو ما يشبه الفعل، كاسم الفاعل، واسم المفعول، اشتغل عنه بضميره أو بمتعلقه، لو سلط عليه هو أو مناسبه لنصبه (¬1). ومعنى ذلك أن يتقدم اسم، ويتأخر عنه فعل، او اسم فاعل أو نحوهما، فينصب ذلك الفعل ضمير ولو لم يشتغل بضميره لنصبه، نحو (خالدا أكرمت)، و (خالدا أنا مكرمه)، فالفعل أكرم نصب ضمير خالد، واسم الفاعل اشتغل بضمير خالد، ولو لم يكن هذا الضمير موجودا لنصبا الاسم المتقدم. والاشتغال له صوره منها ما ذكرت ومنها أن يشتغل متعلقه نحو: خالدا أكرمت أخاه وسعيدا ضربت صديقه. وقد يكون الفعل يصح تسلطه على الاسم المتقدم بنفسه، كما ذكرت وقد يكون لا يصح تسلطه عليه بنفسه نحو خالدا سلمت عليه وأخاك مررت به، وكقوله تعالى {والظالمين أعد لهم عذابا أليما} [الإنسان: 31]، فـ (أعد) متسلط على (عذاب)، ولا يصح أن يتسلط على (الظالمين) بنفسه هنا. ولابد في الاشتغال من ضمير يعود على الاسم المتقدم كما رأيت، وهذا الضمير قد يكون منصوبا بالفعل المتقدم نحو (خالدا أكرمته) وقد يكون مجرورا بحرف جر، نحو (خالدا سلمت عليه) ونحو قوله تعالى: {والظالمين أعد لهم عذابا أليما} [الإنسان: 31]، وقد يكون مضافًا إليه نحو (خالدا أكرمت أخاه) ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 175، ابن عقيل 1/ 173، التصريح 1/ 296، حاشية الخضري 1/ 177، الأشموني 2/ 83 - 84

ناصبه

وهناك صور أخرى وكلها تجتمع في عود الضمير على الاسم المتقدم (¬1). ناصبه: اختلف النحويون في ناصب الاسم المشغول عنه فذهب جمهور النحويين البصريين إلى أن ناصبه فعل مضمر وجوبا مماثل للفعل المذكور في نحو (خالدا أكرمته) أي أكرمت خالدا أكرمته، ويناسبه في المعنى في نحو (خالدا سلمت عليه) والتقدير: حييت خالدا سلمت عليه، و (خالدا ضربت أخاه) والتقدير أهنت خالدا ضربت أخاه، قال سيبويه: " وإن شئت قلت (زيدا ضربت) وإنما نصبه على إضمار فعل هذا تفسير كأنك قلت: ضربت زيدا ضربته، إلا أنهم لا يظهرون هذا الفعل استغناء بتفسيره، فالاسم هنا مبني على المضمر. فإن قلت (زيد مررت به) فهو من النصب أبعد من ذلك .. وإن شئت قلت: (زيدًا مررت به) تريد أن تفسر له مضمرا كأنك قلت، إذا مثلت: جعلت زيدًا على طريقي مررت به .. وإذا قلت: (زيد لقاك اخاه) فهو كذلك وإن شئت نصبت لأنه إذا وقع على شيء من سببه، فكانك قد وقع به، والدليل على ذلك أن الرجل يقول: أهنت زيدا باهانتك أخاه وأكرمته بإكرامه أخاه" (¬2). وذهب الكسائي إلى أن نصب الاسم المتقدم بالفعل المتأخر، وأن الضمير ملغي، وذهب الفراء إلى أن الاسم والضمير منصوبان بالفعل المذكور، لأنهما في المعنى لشيء واحد. ويرد عليهما نحو (سعيدا مررت به) فإن الفعل (مر) لا يصح أن ينصب الاسم المتقدم كما لا يصح أن يلغي الضمير المجرور لأن الفعل لا يتعدى إليه إلا بالحرف، ونحو (زيدا هدمت داره) و (خالدا خطت قميصا له) فإنه لا يصح تسلط الفعل على الاسم المنصوب قبله (¬3). ¬

_ (¬1) انظر التصريح 1/ 306 (¬2) سيبويه 1/ 42 - 43، وانظر ابن عقيل 1/ 173، حاشية الخضري 1/ 173 - 174، التصريح 1/ 307، الأشموني 2/ 73، الرضي على الكافية 1/ 176 (¬3) انظر التصريح 1/ 297، الهمع 2/ 114، ابن عقيل 1/ 173 - 174، حاشية الخضري 1/ 174

وهذا التقدير دعت إليه صنعة الإعراب لأن كل منصوب، لابد له من ناصب عند النحاة ولما لم يجدوا ناصبا للاسم المتقدم، اضطروا إلى التقدير. إن التقديم الذي ذهب إليه النحاة في هذا الباب مفسد للمعنى، مفسد للجملة فإن الجملة تتمزق، وتنحل بتقديرنا (أكرمت خالدا أكرمته)، و (سررت خالدا أحببت رجلا يحبه) وبنحو ذلك من التقديرات. وما ذهب إليه الفراء مقبول في نحو (خالدا أكرمته) غير مقبول، في نحو (خالدا سلمت عليه) و (محمدا خطت قميصا له) وكذلك ما ذهب إليه الكسائي. فتقدير الجمهور متمش مع الصنعة الإعرابية إلا أنه مفسد للمعنى، مفسد للجملة وما ذهب إليه الفراء والكسائي مفسد للصنعة الإعرابية ولا يستقيم في كثير من التعبيرات. ونحن هنا لا تعنينا تقديرات النحاة واختلافاتها، وإنما الذي يعنينا هو المعنى وإنما ذكرت هذه التقديرات، لأنها تترتب عليها أمور ذات علاقة بالمعنى - كما سنرى -. وحقيقة الأمر فيما نرى أنه ليس ثمة اشتغال ولا مشغول عنه بهذا المعنى، وإنما هو اسلوب خاص يؤدي غرضا معينا في اللغة ومما يدل على ذلك قولهم (محمدا سلمت عليه) و (خالدا أكرمت أخاه) و (سعيد انطلقت مع أخيه) فأي اشتغال في هذا الأمر؟ وهل يمكن تسليط الفعل على الاسم المنصوب المتقدم فإن الفعل قد يكون لازما كما نرى. وأما على رأي الكسائي والفراء فليس ثمة اشتغال أصلا، وإذا كان نرغب في الابقاء على اصطلاح الاشتغال والمشغول عنه فإنا نقصد به معنى آخر سنذكره، لا ما ذكره القوم. أما فيما يخص الإعراب فإنه يمكن أن يعرب الاسم المتقدم مشغولا عنه منصوبا ولا داعي لأنه نذكر له ناصبا لأن التقديم الناصب مبني على نظرية العامل التي لا موجب لها، فإنه يمكن أن يقال أن الفاعل، في العربية مرفوع، والمفعول به منصوب، والمبتدا مرفوع والمشغول عنه منصوب، وهكذا ولا داعي للسؤال عن العامل الذي أحدث هذا وإذا كان لابد من الجواب، فالعرب هم الذين فعلوا هذا وأحدثوه.

أقسامه

أقسامه: يذكر النحاة في هذا الباب خمسة أقسام: 1 - ما يجب فيه النصب. 2 - ما يجب فيه الرفع. 3 - ما يجوز فيه الامران والرفع أرجح. 4 - ما يجوز فيه الأمران والنصب أرجح. 5 - ما يجوز فيه الأمران على السواء (¬1). أما ما لا يجب فيه الرفع فليس من باب الاشتغال لأنه لم ينطبق معنى الاشتغال عليه، وذلك أنهم قالوا أنه لو فرغ الفعل من الضمير لنصب الاسم وذلك ممتنع، من وجوب الرفع نحو (خرجت وإذا أخوك يضربه خالد (¬2)). وأما مسألة وجوب النصب فالأمر فيها كما ذكره النحاة. وأما مسألة جواز الأمرين مع الترجيح أو بدون ترجيح ففيها نظر فيما نرى، وذلك أننا نعتقد أن لكل وجه معنى لا يؤديه الوجه الآخر، فمعنى النصب غير معنى الرفع، فإن أردت معنى معينا، وجب عليك أن تقول تعبيرا معينا. أنه لا يصح أن تقول (محمدٌ أكرمته) كما يصح أن تقول (محمدًا أكرمته)، ولكن هل هما بمعنى واحد؟ هذا ما لا يكون، أن (محمدا) في قولك (محمدا أكرمته) فضلة، و (محمد) في (محمد أكرمته) عمدة فهل تكون الفضلة كالعمدة؟ كيف يمكن أن يكون ذاك؟ أنه كان المأمول أن يقول النحاة: ورد عن العرب قولهم (محمد أكرمته) وهو بمعنى كذا، و (محمدًا أكرمته) وهو بمعنى كذا فإن اردت المعنى الفلاني تعين الرفع وإن أردت. ¬

_ (¬1) انظر ابن عقيل 1/ 174، الأشموني 2/ 73 - 75 (¬2) التصريح 1/ 203

هل يفيد الاشتغال تخصيصا أو تأكيدا؟

المعنى الآخر تعين النصب، وكل ترجيح من دون النظر إلى المعنى ترجيح باطل لا يقوم على الأساس. ولذلك ينبغي أن يعالج موضوع الاشتغال على غير الشاكلة، التي عالجها النحاة. هل يفيد الاشتغال تخصيصا أو تأكيدا؟ ذهب البيانيون إلى أن الاشتغال قد يفيد تخصيصا أو توكيدا، وذلك بحسب تقدير الفعل المحذوف، فإذا قدرنا الفعل المحذوف بعد الاسم المنصوب، أفاد تخصيصا وإذا قدرنا الفعل المحذوف قبل الاسم المنصوب أفاد توكيدا، وذلك نحو قولك (محمدًا أكرمته) فإن قدرت (محمد أكرمت أكرمته) أفاد تخصيصا، لأن المفعول إذا تقدم على فعله، أفاد تخصيصا كما مر في بحث المفعول، وأن قدرت (أكرمت محمدا أكرمته) أفاد توكيدا، وذلك لتكرير اللفظ، جاء في (الإيضاح: ) " وأما نحو قولك (زيدا عرفته) فإن المفسر المحذوف قبل المنصوب أي عرفت زيدا عرفته فهو من باب التوكيد أعنى تكرير اللفظ وأن قدر بعده (زيدا عرفت عرفته) أفاد التخصيص (¬1) ". وجاء في (شرح المختصر) للتفتازاني: " وأما نحو (زيدا عرفته) فتأكيد أن قدر المحذوف المفسر بالفعل المذكور قبل المنصوب، أي عرفت زيدا عرفته، وإلا أي وأن لم يقدر المفسر قبل المنصوب، بل بعده فتخصيص أي زيدا عرفت عرفته، لأن المحذوف المقدر كالمذكور، فالتقديم عليه كالتقديم على المذكور .. فنحو (زيدا عرفته) محتمل للمعنيين: التخصيص والتأكيد، فالرجوع في التعيين إلى القرائن وعند قيام القرينة على أنه للتخصيص يكون أوكد من قولنا (زيدا عرفت) لما فيه من التكرار" (¬2). وذهب النحويون إلى أنه يجب تقدير المفسر قبل الاسم المنصوب، جاء في (المغنى) فيجب أن يقدر المفسر في نحو (زيدا رأيته) مقدما عليه. ¬

_ (¬1) الإيضاح 1/ 110 - 111 (¬2) شرح المختصر 76

وجوز البيانيون تقديره مؤخرا عنه وقالوا: لأنه يفيد الاختصاص حينئذ وليس كما توهموا" (¬1). وجاء في (التصريح): "وجميع ما يقدر في هذا الباب يقدر متقدما على الاسم المنصوب إلا أن يمنع مانع من حصر أو غيره فيقدر متأخرا عنه (¬2) " فلا يفيد تخصيصا عند النحاة. والذي أراه في هذا الباب أن الاشتغال لا يفيد تخصيصا، ولا توكيدا وإنما هو إسلوب خاص يؤدي غرضا معينا لأنه ليس معنى: (خالدا أكرمت) كمعنى (خالداً أكرمته). ولا معنى (على محمد سلمت) كمعنى (محمدا سلمت عليه). فمعنى (خالدا أكرمت) خصصته بالكرم، وأما (خالدا أكرمته) فتفيد إكرام خالد، لا تخصيصه بالاكرام، وقد قدمته للعناية، وكذلك قولك (على محمد سلمت) و (محمدا سلمت عليه) فالأولى تفيد التخصيص، بخلاف الثانية فإنك قدمت الاسم للاهتمام به. واي تخصيص في نحو قولك (محمدا رأيت رجلا يحبه) و (خالدا أهنت أخاه)؟ وهل في قوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} [النحل: 5]. وقوله: {ولوطا آتيناه حكما وعلما} [الأنبياء: 74]، تخصيص؟ وأي دليل على أن الفعل متأخر عن الاسم، وهو لم يظهر البته؟ وهو لا يفيد توكيدا أيضا إذ لو كان توكيدا لجاز ذكره بل لوجب ذكره، عند بعض النحاة لأن الحذف ينافي التوكيد، فلا مانع في التوكيد من أن تقول (أكرمت محمدا أكرمت محمدا) و (أكرمت محمدا أكرمته) فتعيد الضمير على الاسم المتقدم. إن الاشتغال تعبير خاص وأسلوب معين له غرض معين كما ذكرت. ¬

_ (¬1) المغني 2/ 613، وانظر معترك الاقتران 1/ 306، الهمع: 2/ 114 (¬2) التصريح 1/ 307، وانظر المغنى 2/ 613، حاشية يس 1/ 307 لتوضيح الموانع.

الفرق بين الرفع والنصب

الفرق بين الرفع والنصب: 1 - تقول خالدا أكرمت، وخالدٌ أكرمته، فما الفرق بين التعبيرين؟ قال تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء} [النحل: 5]، بالنصب، وقال: {والشعراء يتبعهم الغاوون} [الشعراء: 224]، بالرفع فلم ذاك وما وجه الاختلاف بينهما؟ أنه يصح من حيث التركيب النحوي، أن تقال كل جملة من الجملة التي ذكرناها بالرفع وبالنصب، ولكن هل تكون بمعنى واحد؟ نحن ذكرنا رأي النحاة في ذلك، وذكرنا أن عندهم ترجيحات لا تقوم على أساس، فما حقيقة هذا الأمر؟ من الواضح أن المتحدث عنه في نحو قولك (محمد أكرمته) هو محمد، وفي محمدًا أكرمته، هو المتكلم وكذلك في نحو قولك (زيد سلمت عليه) الاخبار فيه عن زيد وفي (زيدا سلمت عليه)، الاخبار عن المتكلم، جاء في (الإيضاح في علل النحو: ) " قال ابو العباس: الفرق بين (ضربت زيدا) و (زيد ضربته) إنك إذا قلت (ضربت زيدا) فإنما أردت أن تخبر عن نفسك، وتثبت أين وقع فعلك، وإذا قلت (زيد ضربته) فإنما أردت ان تخبر عن زيد" (¬1). ولكنك قدمت (زيدا) في قولك (زيدًا ضربته) للاهتمام به، والحديث عنه غير أنه حديث لا يرقي إلى درجة العمدة. وبتعبير آخر أنت قدمت المنصوب في الاشتغال للحديث عنه بدرجة أقل من المبتدأ، لأن المبتدأ متحدث عنه، والحديث يدور عليه أساسا بخلاف المشغول عنه، فإن الحديث يدور على غيره أساسا، فالفرق بين ولنا (محمدا اكرمته) و (محمد أكرمته) أنك بالرفع جعلت مدار الحديث محمدا، وجعلت أخبارك عنه وهو مدار الاهتمام. أما الأولى فقد قدمت فيها محمدا للاهتمام، قدمته لتتحدث عنه بدرجة أقل من العمدة، فإن الإخبار عن المتكلم، ولكن قد يقتضي السياق أن تخص محمدا بحديث، وأما (محمدًا أكرمت) فللاختصاص. ¬

_ (¬1) الإيضاح في علل النحو 136 - 137

ونحوه: محمدٌ سلمت عليه. ومحمدٌ سلمت عليه ففي الأولى المتحدث عنه محمدٌ، والجملة الصغرى إخبار عنه، وإما في الثانية فقد قدمته للاهتمام به وجئت بالضمير في (عليه) لإرادة الإخبار عنه بصورة ثانوية، وإنما الحديث على المتكلم. إن المشغول عنه على صورة المبتدأ من حيث إرادة الحديث عنه، ولذا لابد له في الجملة المتأخرة عنه من ضمير يربطها بالاسم المتقدم، كالمبتدأ الذي لابد له من رابط يربط جملة الخبر به، ليصح الحديث عنه ولكن الفرق بينهما أن الحديث في الابتداء يدور أساسا على المبتدأ، بخلاف الاشتغال الذي يدور فيه الحديث على شيئين: أمر أساسي وهو المسند إليه، وأمر دونه وهو المنصوب المتقدم. وبهذا نستطيع أن نقول أن الاشتغال مرحلة دون المبتدأ، وفوق المفعول، إذ هو متحدث عنه من جهة لكنه لا يرقي إلى درجة المبتدأ، فيكون معنى الاشتغال على هذا أنه إنما جيء بالاسم المنصوب، المتقدم لارادة الحديث عنه، ثم شغل عنه بالحديث عن المسند إليه فهو إسلوب على صورة المبتدأ والخبر. وإليك مثلا يوضح الفرق بين المشغول عنه والمبتدأ .. إن المبتدأ - كما ذكرنا - هو المتحدث عنه، أما في باب الاشتغال، فالمسند إليه هو المتحدث عنه، وقد قدم المشغول عنه للتحدث عنه بصورة ثانوية، لا كالمبتدأ تقول: (الظالم يكرهه الناس ويحتقرونه في أنفسهم، ثقيل عليهم مبغض إلى قلوبهم، أما العادل فإن الناس يحبونه ويحترمونه) فأنت تلاحظ أن الكلام على الظالم فترفعه وتقول: (ألا ترى إلى ربك وعقابه، وأنه إذا أمهل لا يهمل، عاقب الكافر، والظالم أهلكه، والمستعبد أذلة وقهره، والباطل أزاله) فإن الكلام على الله سبحانه، وقدم ما قدم

للاهتمام، فنصب الظام والمستبعد والباطل. وهذا وجه الكلام: ولو نظرنا في الآيات القرآنية الكريمة لوجدنا مصداق ذلك. قال تعالى: {والأرض ممدناها وألقينا فيها رواسي} بالنصب ولو رجعنا إلى السياق لوضح السبب، وإليك السياق: {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزينها للناظرين. وحفظناها من كل شيطان رجيم، إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين} [الحج: 16 - 20]. فالكلام إنما هو على الله الذي جعل في السماء بروجا وزينها، ومد الأرض وألقى فيها رواسي وأنبت فيها من كل شيء، وجعل فيها المعايش. فالكلام - كما ترى - على الله تعالى لا على الأرض ولكن قدم الأرض للاهتمام بها من بين ما ذكر، والحديث عنها من بين ما عدد فقال (والأرض مددناها .. إلخ) فإنه وإن كان الكلام في الأصل يدور على الله تعالى، وقدرته، خص الأرض بالاهتمام فقدمها، والكلام فيها قبل وبعد على الله تعالى، ولو رفع (الأرض) لكان الحديث يدور عنها والإسناد إليها والسياق غير ذلك. وإليك مثالا آخر يوضح ذلك، قوله تعالى {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} [الحجر: 27]، بالنصب فلم يرفع؟ إن السياق يوضح ذلك. إن الكلام على الله تعالى وهو في سياق الآيات التي سردناها آنفا، قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون. والجان خلقناه من قبل من نار السموم. وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، قال يإبليس مالك ألا تكون مع الساجدين. قال لم اكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين. قال رب فانظرني إلى يوم

يبعثون. قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم، قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين. قال هذا صراط على مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 26 - 42]. فالكلام على الله تعالى وخلقه، لكنه أراد أن يفرد الجان بحديث، فقدمه وأعاد عليه الضمير للكلام عليه، وقد تقول: ولم لم يقدم الإنسان، وقد ذكر الإنسان أيضا؟ والجواب أنه وإن ذكر الإنسان فإن مدار الحديث في هذه الآيات عن الجن فالكلام على إبليس ومجادلته ربه. فأنت ترى أنه قدم الأرض في الآيات الأول، لأن الحديث عليها أهم، وقدم الجان لأن القصد يتعلق بذكرهم. وإليك مثالا آخر، قال تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} [النحل: 5]، فإنه نصب (الأنعام) ول يرفعها، والسياق يوضح سبب ذلك قال تعالى: {خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين. والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} [النحل: 3 - 8]، فأنت ترى أن الكلام على الله تعالى، ولكنه قدم الانعام للاهتمام بها، والحديث عنها من بين ما ذكر، فقد ذكر خلقه السماوات والأرض والإنسان، والأنعام، والخيل، والبغال، والحمير، ولكن أكثر الحديث في هذه الآيات عن الأنعام، فقدمها للحديث عنها والاهتام بها في هذا المجال. وقال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} [الإسراء: 13]، فنصب (كل) ولم يرفعها وذلك لأن الكلام إنما هو على الله، وقدم (كل إنسان) للاهتمام، وهذا سياق الآيات يوضح ذلك: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا. وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا} [الإسراء: 12 - 13].

في حين قال: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بها رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور: 2 - 3]. فرفع، لأن الكلام على الزاني والزانية. ومثله قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} [المائدة: 38]، لأن الكلام عليهما. وقال: {والشعراء يتبعهم الغاوون} [الشعراء: 224]، برفع الشعراء لأن الكلام عليهم ولو نصب لكان الكلام على الغاوين والسياق يوضح ذلك قال تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وانهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين أمنوا وعلموا الصالحات} [الشعراء: 224 - 227]. وقال تعالى: {والسماء رفعها ووضع الميزان} [الرحمن: 55]، فنصب السماء لأن الكلام على الله تعالى فبدأ السورة بقوله: {الرحمن. علم القرآن، خلق الإنسان. علمه البيان. الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان، والأرض وضعها للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام. والحب ذو العصف والريحان} [الرحمن: 1 - 12]. فالكلا على الله، الرحمن الخالق، لا على السماء والأرض، ولكن قدمهما للاهتمام بهما. وقال تعالى: {والظالمين أعد لهم عذابا أليما} فنصب لأن الكلام على الله تعالى، المجازي، المحسن بالاحسان، والمسيء بالإساءة، قال تعالى: {نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا، إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما. يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما} [الإنسان: 28 - 31].

وقال (والأرض بعد ذلك دحاها) بالنصب لأن الكلام على الله تعالى قال تعالى: {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسوها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها، متاعا لكم ولأنعامكم} [النازعات: 27 - 33]. فالكلام على الله ونعمه، من خلق السماء ودحو الأرض، وإخراج الماء والمرعى وإرساء الجبال. وأظن أنه اتضح الفرق بين المشغول عنه والمبتدأ اتضاحا لاغموض فيه. 2 - وينصب الاسم إذا خيف في الرفع أن يلتبس الفعل بالصفة، وذلك نحو قوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] قال السيرافي ما ملخصه: " فإن قال قائل: قد زعمتم أن نحو: (إني زيد كلمته) الاختيار فيه الرفع، لأن الجملة في موضع الخبر، فلم اختير النصب في (إنا كل شيء خلقناه بقدر) وكلام الله تعالى أولى بالاختيار؟ فالجواب أن في النصب هنا دلالة على معنى ليس في الرفع، فإن التقدير على النصب أنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، فهو يوجب العموم، وإذا رفع فليس فيه عموم إذ يجوز أن يكون (خلقناه) نعتا لشيء، وبقدر خبرا لكل، ولا يكون فيه دلالة على خلق الأشياء كلها، بل إنما يدل على أن ما خلقه منها، خلقه بقدر (¬1). وإيضاح ذلك أن رفع (كل) يدل على معنيين: أما أن يكون خلقناه خبرا عن كل فيكون المعنى: إنا خلقنا كل شيء بقدر، وإما أن يكون خلقناه صفة لكل، والخبر بقدر فيكون المعنى: كل شيء مخلوق لنا، بقدر، ومقتضي ذلك أن هناك خالقا مع الله سبحانه فما خلقه الله خلقه بقدر، وما خلقه غيره قد يكون ليس مخلوقا بقدر، تعالى الله عن ذلك. ¬

_ (¬1) شرح أبي سعيد السيرافي بهامش كتاب سيبويه 1/ 74، وانظر التصريح 1/ 302، الأشموني 2/ 80، الهمع 1/ 113

ونحوه أن نقول (كل رجل أكرمته هنا) فبالنصب يكون المعنى: أكرمت كل رجل هنا، وبالرفع له معنيان: أما أن يكون كمعنى النصب، والخبر (اكرمته)، وأما أن يكون المعنى: كل رجل مكرم من قبلي هنا، فالخبر (هنا) و (أكرمته) نعت، أي قد يكون في المكان رجال لم تكرهم ولكن كل من أكرمتهم هنا. قال الرضي: " إذا أردت أن تخبر أن كل واحد من مماليك اشتريته بعشرين دينارا وأنك لم تملك أحدا منه إلا بشرائك بهذا الثمن، فقتل (كل واحد من مماليكي اشتريته بعشرين دينارا) بنصب (كل) فهو نص في المعنى المقصود لأن التقدير اشتريت كل واحد من مماليكي بعشرين. وإما إن رفعت (كل) فيحتمل أن يكون (اشتريته) خبرا له، وقولك (بعشرين) متعلقا به، أي كل واحد منهم مشترى بعشرين وهو المعنى المقصود. ويحتمل أن يكون (اشتريته) صفة لـ (كل واحد)، وقولك (بعشرين) هو الخبر، أي كل من اشتريته من المماليك، فهو بعشرين. فالمبتدأ إذن على التقدير الأول أعم، لأن قولك: كل واحد من مماليكي عم من اشتريته ومن اشترى لك، ومن حصل لك منهم بغير المشتري، من وجوه التملكات والمبتدأ على الثاني لا يقع إلا على من اشتريته أنت. فرفعه إذن مطرق لاحتمال الوجه الثاني، الذي هو غير مقصود ومخالف للوجه الأول. إذ ربما يكون ذلك على الوجه الثاني، منهم من اشتراه لك غيرك بعشرين، أو بأقل منها، أو بأكثر، وربما يكون أيضا لك منهم جماعة بالهبة، والوراثة أو غير ذلك، وكل هذا خلاف مقصودك فالنصب إذن أولى لكونه نصا في المعنى المقصود، والرفع محتمل له ولغيره (¬1). ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 189

فالأمر بحسب المعنى، فإذا أردت التنصيص على أن الفعل ليس صفة نصبت المتقدم، وإذا أردت الاحتمال رفعت، كما أنه إذا أردت التنصيص على أن الفعل صفة رفعت الاسم المتقدم، وذلك كقوله تعالى: {وكل شيء فعلوه في الزبر} [القمر: 52]، جا في (معاني القرآن) للفراء: " وأما قوله وكل شيء فعلوه في الزبر، فلا يكون إلا رفعا لأن المعنى- والله أعلم - كل فعلهم في الزبر مكتوب، فهو مرفوع بفي (¬1). وفعلوه صلة لشيء، ولو كانت في صلة فعلوه في مثل هذا من الكلام، جاز رفع كل ونصبها كما تقول: وكل رجل ضربوه في الدار، فإن أردت ضربوا كل رجل في الدار رفعت ونصبت وأن أردت: وكل من ضربوه هو في الدار رفعت " (¬2). وإيضاح ذلك أن المعنى لا يحتمل النصب، لأن في النصب يكون المعنى: (فعلوا كل شيء في الزبر) والمعنى ليس عليه، وإنما أن ما فعلوه مثبت في الزبر، فـ (فعلوه) صفة لشيء، و (في الزبر) خبر، والمعنى أن الشيء الذي فعلوه هو مثبت في الزبر، والنصب لا يؤدي هذا المعنى. وهذا القسم عند النحاة مما يترجح فيه النصب على الرفع (¬3)، والصواب أن هذا القسم ليس مما يترجح فيه النصب على الرفع، وإنما هو بحسب القصد فإذا أردت التنصيص على أن الفعل ليس صفة نصبت وجوبا، كما مر قوله تعالى (إنا كل شيء خلقناه بقدر) ونحوه من الأمثلة، وإن أردت التنصيص على أنه صفة رفعت وجوبا، وكذلك إذا أردت احتمال الوجهين فهو ليس من باب الجواز، وإنا هو من باب الوجوب بحسب المعنى، كما أوضحت. 3 - وقال قسم من النحاة أنه يختار الرفع في الاسم المنظور فيه إلى العموم، نحو قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2]، وقوله: {والسارق والسارقة فاقعوا أيديهما} [المائدة: 38]. ¬

_ (¬1) هذا على مذهب الكوفيين الذين يقولون أن المبتدأ يرفعه الخبر والخبر يرفعه المبتدأ (¬2) معاني القرآن 2/ 95 - 96 (¬3) التصريح 1/ 302، الهمع 1/ 113، الأشموني 2/ 80

لشبهه بالشرط في العموم والبهام. ويختار النصب في الاسم المنظور فيه إلى الخصوص بالأمر، كزيدا أضربه لعدم مشابهته للشرط (¬1). جاء في (معاني القرآن) للفراء: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " مرفوعان بما عاد من ذكرهما. والنصب فيهما جائز كما يجوز: أزيد ضربته، وأزيدا ضربته، إنما تختار العرب الرفع في (السارق والسارقة) لأنهما غير موقتين فوجها توجيه الجزاء، كقولك، من سرق فاقطعوا يده فـ (من) لايكون إلا رفعا، ولو أردت سارقا بعينه أو سارقة بعينها، كان النصب وجه الكلام (¬2). وجاء في (التفسير الكبير) للرازي: " اختيار الفراء أن الرفع اولى من النصب، لأن الألف واللام في قوله (والسارق والسارقة) يقومان مقام (الذي)، فصار التقدير: الذي سرق فاقطعوا يده، وعلى هذا التقدير حسن إدخال حرف الفاء على الخبر، لأنه صار جزاء، وأيضا النصب إنما يحسن إذا أردت سارقا بعينه أو سارقة بعينها، فأما إذا أردت توجيه هذا الجزاء على كل من أتى بهذا الفعل، فالرفع أولى، وهذا القول هو الذي اختاره الزجاج وهو المعتمد (¬3). وإيضاح ذلك أن الاسم المرفوع هنا أشبه اسم الشرط في العموم، بدليل وقوع الفاء في خبره، وعند قسم من النحاة أنه لا يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها، ولا يفسر عاملا في الاشتغال (¬4). وعند بعضهم أنه لا يعمل الجواب في الشرط (¬5)، فإذا أردت به التعيين جئت به منصوبا، فالسارق في النصب معلوم، أي من قد سرق في حين أن الرفع يدل على شبهه بالشرط فهو سار على كل سارق. ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 299 (¬2) معاني القرآن 1/ 306، 1/ 242 (¬3) التفسير الكبير 10/ 223 (¬4) حاشية الصبان 2/ 84 - 85 (¬5) حاشية الصبان 2/ 77

وعلى مقتضى هذا ينبغي أن تقول (الضيف أكرمه) بالنصب إذا كان الضيف معينا، والضيف أكرمه، بالرفع إذا كان الضيف غير معين، أي لا يراد به ضيف مخصوص، وأن تقول (العالم احترمه) إذا كان عالما معينا من بين العلماء، والعالم احترمه إذا لم يكن عالما معينا، بل كل من اتسم بسمة العلم. وأرى أن في هذا نظرا فإنه لا يح أن تقول بالرفع والنصب للمعلوم وغير المعلوم فإنك تقول (أكرم الضيف) سواء كان ضيفا معينا، أم غير معين، فقد يكون القول للتعليم والتوجيه، ونحوه (احترم العالم) وهذا هو تقدير الاشتغال عند النحاة: أكرم الضيف أكرمه، وأحترم العالم أحترمه. وإنما الأمر كما سبق أن أسلفنا في القاعدة العامة في الفرق بين الاشتغال والابتداء، إذا أردت الاخبار عن الاسم المتقدم والإسناد إليه رفعت، وإن لم ترد نصبت وقدمته للاهتمام. وأما الايتان فقد ذكرت الأمر فيهما، وهو إرادة الأخبار عن الاسمين المرفوعين، والله أعلم. وإما تعين العموم فبسبب الفاء الواقعة في الخبر لأنها اشبهت فاء الجزاء، والجزاء يراد به العموم وهو نظير قولك (الفائز فاعطه جائزة) والمعنى من يفز فأعطه جائزة، و (الفائز أعطه جائزة) وهو على معنيين، أما أن يكون كمعنى الأولى، وأما أن نقصد به فائزا معينا والفاء عينت قصد العموم. ونحوه أن تقول: الذي يدخل الدار فله مكافأة. الذي يدخل الدار له مكافأة. فبوجود الفاء تترتب المكافأة على دخول الدار، أي من يدخل الدار فله مكافأة فسبب المكافأة دخول الدار، فأشبه الموصول الشرط، وأريد به العموم.

وبغير الفاء تكون الجملة ذات احتمالين أما أن تكون كمعنى الأولى، وإما أن لا تترتب المكافأة على دخول الدار، وإنما هي لشخص معين يدخل الدار، فكأنك قلت: انظر إلى ذلك الذي يدخل الدار أن له مكافأة، فلم يعط الكافأة بسبب دخول الدار، وإنما أردت أن تعرفه للمخاطب بالصلة كما تقول (الذي يمسى رسب) فالرسوب لم يترتب على المشي ولا بسببه، فالذي عين قصد العموم هو الفاء وليس الرفع، ولو كان حق العام الرفع وحق الخاص النصب، لكان الراجح في قوله تعالى (والأنعام خلقها) الرفع لأنها ليست إنعاما خاصة، بل هي عموم الأنعام، ونحوه قوله تعالى {وكل شيء فصلناه تفصيلا} [الإسراء: 12]، وقوله: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه}، وقوله: {والظالمين أعد لهم عذابا أليما} [الإنسان: 32]، وقوله {والجبال أرساها} [النازعات: 32]، فقد وردت كلها بالنصب وهي كلها للعموم. وكانت ينبغي النصب في قوله تعالى: {النار وعدها الله الذين كفروا} [الحج: 72]، وقوله: {جنات عدن يدخلونها} [الرعد: 23]، وقد وردتا بالرفع وهما معلومتان، وإنما الأمر كما ذكرت، والله أعلم.

التنازع

التنازع ورد عن العرب نحو قولهم (حضر واستمع خالد) و (أعظمت وأكرمت عليا) ونحوه (أكرمني وأكرمت سالما) وهذا ما يسميه النحويون باب التنازع. وسبب تسميته بذلك أن النحاة رأوا أن العالمين يتنازعان معمولا واحدا كما يقولون. ففي الجملة طلب كل من الفعلين (حضر) و (استمع) الفاعل خالدا، ولما لا يمكن أن يكون الفعل بلا فاعل، كما أنه لا يمكن أن يكون الاسم فاعلا للفعلين معا، قالوا تنازع الفعلان على هذا الفعل كل منهما يطلبه. ومثل ذلك ما جاء في الجملة الثانية (أعظمت وأكرمت عليا) فكل من الفعلين أعظم وأكرم يطلب عليا والمعنى اعظمت عليا وأكرمت عليا. أما في الجملة الثانية فالمعنى أكرمني سالم، وأكرمت سالما، فأضمر الفاعل استغناء عنه بالمفعول، فالفعل الأول طالب للفاعل والثاني طالب للمفعول، ولا يمكن أن يكون سالم معمولا لهما لأنه لا ينبغي أن يكون فاعلا ومفعولا في آن واحد، أي مرفوعا ومنصوبا وهذا لا يكون. قال ابن يعيش: " اعلم أنك إذا ذكرت فعلين أو نحوهما من الأسماء العاملة، ووجهتهما إلى مفعول واحد نحو (ضربني وضربت زيدا) فأن كل واحد من الفعلين موجه إلى زيد من وجهة المعنى إذ كان فاعلا للاول، ومفعولا للثاني، ولم يجز أن يعملا فيه لأن الاسم الواحد لا يكون مرفوعا ومنصوبا في حال واحدة (¬1). من هذه الفكرة التي تقول أنه لا بد لكل فعل من فاعل، وأن المعمول لا يمكن ان يعمل فيه عاملان، ذهب النحاة إلى توجيه هذا الاسلوب توجيها خاصا، فقالوا أنه لا بد أن يكون من الفعلين عاملا فاضمروا وقدروا ما لم يكن مذكورا. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 1/ 77

ثم أن النحاة انقسموا على قسمين: قسم ذهب إلى أن الأولى هو إعمال الأول لسبقه وهم الكوفيون، وقسم ذهب إلى أن الثاني أولى بالعمل لقربه من المعمول وهم البصريون. وأيضا لو أعلمت الأول في العطف نحو (جاء ورجع خالد) لفصلت بين العامل ومعموله بأجنبي، ولعطفت على الشيء، وقد بقيت منه بقية، أي عطفت على بعض الجملة قبل أن تتم، وكلاهما خلاف الأصل (¬1). وأجمعوا على جواز إعمال أيهما شئت، ولكن الاختلاف في الأولى منها (¬2)، فإن أعملت الأول أضمرت في الثاني كل ما يحتاج إليه من مرفوع، ومنصوب، ومجرور، وإذا أعملت الثاني أضمرت في الأول المرفوع، والمنصوب: العمدة، ولا يضمر غير ذلك (¬3)، تقول: (قام وقعدا المحمدان) على إعمال الأول في الاسم الظاهر والثاني في ضميره، أي قام المحمدان وقعدا. وتقول: (قاما وقعدا المحمدان) على إعمال الثاني، فأضمرت في الأول الفاعل. قال الشاعر: جفوني ولم أجف الإخلاء إنني ... لغير جميل من خليلي مهمل وقال: هوينني وهويت الغانيات إلى ... أن شبت فانصرفت عنهن آمالي على أعمال الثاني في الاسم الظاهر والأول في الضمير (¬4). ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 83 (¬2) ابن يعيش 1/ 77، شرح شذور الذهب 499، وانظر سيبويه 1 (¬3) انظر شرح قطر الندى 376، الرضي على الكافية 1/ 84 - 85، ابن يعيش 1/ 78، الهمع 2/ 110، الأشموني. (¬4) الأشموني 2/ 104

وكلهم يجيز (قام وقعد المحمدان) بإفراد الفعلين على إضمار فاعل الفعل الأول على رأي سيبويه والبصريين وتقديره مفردا، وهو ضعيف عندهم، أو حذف الفاعل الول على رأي الكسائي، أو جعل الفاعل للفعلين معا على رأي الفراء (¬1). قال الشاعر: تعفق بالأرض لها وأرداها ... رجال فبذت نبلهم وكليب وتقول: (أكرمت وأعظمته سعيدا) بأعمال الأول في الاسم الظاهر وقد أضمرت في الثاني ما يحتاجه كأنك قلت: أكرمت سعيدا وأعظمته. وتقول: أكرمني وأكرمته سعيد، على أعمال الأول في الاسم الظاهر، وتسليط الثاني على ضميره على معنى (أكرمني سعيد وأكرمته). وتقول: (اكرمني وأكرمت سعيدا) على اعمال الثاني في الاسم الظاهر، والفاعل مضمر في الأول. قال الفرزدق: ولكن نصفا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم وقال طفيل الغنوي: وكمتا مدماة كأن متونها ... رى فوقها واستشعرت لون مذهب وقال رجل من باهلة: ولقد أرى تغن به سيفانة ... تصبي الحليم ومثلها أصباه ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 41، والأشموني 2/ 102 - 104، ابن يعيش 1/ 77، الرضي على الكافية 1/ 84

قال سيبويه: " فالفعل الأول في كل هذا معمل في المعنى غير معمل في اللفظ والآخر معمل في اللفظ والمعنى" (¬1). ومن أعمال الأول قول عمر بن أبي ربيعة: إذا هي لم تستك بعود أراكة ... تنخل فاستاكت به عود اسحل وقول المرار الأسدي فرد على الفؤاد هوى عميدا ... وسوئل لو يبين لنا السؤال وقد نغني بها ونرى عصورا ... بها يقتدننا الخرد الخدالا (¬2) فأعمل الأول في الاسم الظاهر، واضمر في الثاني. وإعمال الثاني هو الأولى عند الجمهور، وبه ورد القرآن الكريم، قال تعالى: {آتوني أفرغ عليه قطرا} [] الكهف: 69، لو أعمل الأول لقال (افرغه عليه (¬3))، قال سيبويه: " وقد يجوز (ضربت وضربني زيدا). ومثل ذلك في الجواز (ضربني وضربت قومك) والوجه أن تقول (ضربوني وضربت قومك) فتحمله على الآخر" (¬4). يتضح من هذا أن لك أن تعمل الأول، أو الثاني ولكن الاختلاف في الأولى منهما، ونحن هنا لا يعنينا العمل، أو أن هناك تنازعا حقا، وإنما يعنينا هذا الإسلوب ومعناه. إننا لا نعتقد أن تعبيرا ههنا أولى من تعبير، وإنما هو بحسب القصد والمعنى، والراجح فيما نرى أنه ينبغي أن ينظر إلى هذا الإسلوب في ضوء قاعدتين. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 39 (¬2) سيبويه 1/ 78 (¬3) ابن يعيش 1/ 78 (¬4) سيبويه 1/ 41

1 - ما أعملته في الاسم الظاهر أهم عندك مما أعملته في ضميره، لأن الاسم الظاهر أقوى من الضمير. 2 - ما ذكرته وصرحت به أهم مما حذفته. وإيضاح ذلك أنك تقول (أغضبت واهنت سعيدا) و (أغضبت وأهنته سعيدا) والفرق بينهما، أن الاهتمام في التعبير الأول بالإهانة، ولذا جعلت لها الاسم وحذفت مفعول الأول، وأما في قولك (أغضتب وأهنته سعيدا) فإن الاهتمام فيه بالاغضاب لأنك أعملته في الاسم الظاهر، وأما الإهانة فقد أعملتها في ضميره، والاسم الظاهر أقوى من الضمير (¬1). قال تعالى في السد الذي صنعه ذو القرنين {آتوني أفرغ عليه قطرا} [الكهف: 96]. فإن الاهتمام بالافراغ أكبر من الايتاء، فأن المقصد من الايتاء بالقطر هو إفراغه، فأعمل الافراغ في صريح اللفط لأنه هو المقصود، فجعل (القطر) معمولا للإفراغ ولو جعله للاول لقال (آتوني أفرغه عليه قطرا). وقال في أصحاب اليمين: {هاؤم اقرءوا كتابيه} [الحاقة: 19]، جعل (الكتاب) مفعولا ولم يجعله لاسم الفعل لأن القراءة والاطلاع على الكتاب أهم من مجرد المناولة، لأن فيه فلاحة وفوزه، أما المناولة فلقصد القراءة وإطلاعهم عليه. ولو أعمل المناولة فيه لقال (هاؤم اقرؤوه كتابيه) فيكون عند ذلك أعمل المناولة في الظاهر والقراءة في الضمير وهو خلاف المقصود. وتقول: (حضروا واستمع الرجال) فالاهتمام ههنا بالاستماع لأنك أسندته إلى الاسم الظاهر، أما الحضور فقد أسندته إلى الضمير، والظاهر أقوى من الضمير، ولو قلت (حضروا واستمعوا الرجال) لكان اهتمامك بالحضور أشد وكنت بشأنه أعني. ¬

_ (¬1) المغني 2/ 446، 497

وتقول أيضا (حضر واستمع الرجال) بإفراد الفعلين على ضعف في رأي الجمهور، ومعناه على مقتضى البصرين كمعنى (حضروا واستمع الرجال) لأن الأول أعملته في الضمير المفرد، والثاني أعملته في الاسم الظاهر. والذي يبدو لي أن اهتمام المتكلم بالحدثين سواء من حيث الاسناد مختلف من حيث التقديم والتأخير، فإنك تقدم حدثا آخر لملحظ معين، فقد يكون ذلك لتقده في الزمن، أو السبب أو الرتبة، او غير ذلك تقول (استيقظ وأفطر المسافرون) فالاستيقاظ مقدم على الافطار لأنه قبله في الزمن، وتقول: (أقبل ليدرس الطلاب) فالاقبال مقدم على الدرس لأنه سبب له، ونحوه (رسب فبكى الطالبان) فالرسوب سبب البكاء وهو قبله. وتقول: (اغتاب وبهت المتحدثون) فقدت الغيبة على البهتان، بادئا بما هو أقل وزرا وأهون ذنبا ونحو (همزونم الرجلان) أو لغير ذلك، من الملاحظ والأغراض. وتقول: (أكرمني وأكرمت محمدًا) و (أكرمت وأكرمني محمدٌ) فما ذكرته وصرحت به أهم عندك مما حذفته ودللت عليه بالآخر، وإيضاح ذلك أنك في الأولى ذكرت نفسك وذكرت الشخص الذي أكرمته صريحا ظاهرا فأخبارك عن إكرامك محمدا أهم عندك من إكرام محمد لك، ولذا سترت فاعل من أكرمك وأظهرت نفسك وأما الثاني فبالعكس، فإن العناية بمن اكرمك، لا بمن أكرمته، ولذا أظهرت مفعول اكرامه، وحذفت مفعول اكرامك. جاء في (دلائل الإعجاز): " فانظر إلى بيت البحتري: قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مثلا المعنى: قد طلبا لك مثلا ثم حذف لأن ذكره في الثاني يدل عليه، ثم إن في المجيء به كذلك من الحسن والمزية والمروعة ما لا يخفيى، ولو أنه قال: طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده، لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئا.

وسبب ذلك أن الذي هو الأصل في المدح والغرض بالحقيقة، هو نفي الوجود عن المثل فأما الطلب فكالشيء يذكر ليبني عليه الغرض، ويؤكد به أمره. وإذا كان هذا كذلك فلو أنه قال: قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده، لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل، وأوقعه على ضميره ولن تبلغ الكناية مبلغ الصريح أبدًا. وإذا قد عرفت هذا فإن هذا المعنى بعينه قد أوجب في بيت ذي الرمة أن يضع اللفظ على عكس ما وضعه البحتري، فيعمل الأول من الفعلين، وذلك قوله: ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيما أن يكون اصاب مالا أعمل (لم أمدح) الذي هو الأول في صريح لفظ (اللئيم) وأرضى الذي هو الثاني في ضميره، وذلك لأن إيقاع نفي المدح عن اللئيم صريحا والمجيء به مكشوفا ظاهرا هو الواجب من حيث كان أصل الغرض، وكان الارضاء تعليلا له. ولو أنه قال: ولم أمدح لأرضى بشعري لئيما لكان يكون قد أبهم الأمر فيما هو الأصل، وأبانه فيما ليس بالأصل. فاعرفه. ولهذا الذي ذكرنا من أن للتصريح عملا لا يكون مثل ذلك العمل للكناية، كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} [الإسراء: 105]، وقوله {قل هو الله أحد. الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2]، من الحسن والبهجة ومن الفخامة والنبل ما لا يخفى موضعه على بصير، وكان لو ترك فيه الإضهار إلى الإضمار، فقيل: وبالحق أنزلناه وبه نزل وقل هو الله هو الصمد، لعدمت الذي أنت واجده الآن (¬1). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 129 - 131

المفعول المطلق

المفعول المطلق سمى المفعول المطلق بذلك لأنه مطلق القيود، أي غير مقيد، بخلاف المفعولات الأخرى، فإنها مقيدة بحروف الجر ونحوها، فالمفعول به مقيد بالباء، أي الذي فعل به فعل، والمفعول فيه مقيد بفي، أي الذي حصل فيه الفعل، والمفعول معه مقيد بالمصاحبة، والمفعول له أي الذي فعل لأجله الفعل، أما المفعول المطلق فهو غير مقيد، بخلاف غيره من المفعولات. قال ابن عقيل: " وسمي مفعولا مطلقا لصدق المفعول عليه، غير مقيد بحرف جر، ونحوه، بخلاف غيره من المفعولات، فإنه لا يقع عليه اسم المفعول إلا مقيدا كالمفعول به، والمفعول فيه، والمفعول معه، والمفعول له (¬1) ". وهو الفعول الحقيقي الذي أحدثه الفاعل، فإذا قلت (مشى محمد) دل ذلك على أن المشي أحدثه محمد، وأنه مفعول له، فأن قلت (مشيا) فقد ذكرت المصدر الذي دل عليه الفعل. قال ابن يعيش، أعلم أن المصدر هو المفعول الحقيقي لأن الفاعل يحدثه ويخرجه من العدم إلى الوجود، وصيغة الفعل تدل عليه، والأفعال كلها متعدية إليه، سواء كان يتعدى الفاعل او لم يتعده، نحو ضربت زيدا ضربا وقام زيدا قياما، وليس كذلك غيره من المفعولين ألا ترى أن زيدا من قولك: ضربت زيدا ليس مفعولا لك على الحقيقة، وإنما هو مفعول الله سبحانه، وإنما قيل له مفعول على المعنى، أن فعلك وقع به (¬2) ". أنواعه: ذهب النحاة إلى أن أنواع المفعول المطلق ثلاثة: ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 186، وانظر الرضي على الكافية 1/ 122، الأشموني 2/ 110 (¬2) ابن يعيش 1/ 110، وانظر الرضي على الكافية 1/ 121

1 - المؤكد لعامله. 2 - المبين لنوعه. 3 - المبين لعدده (¬1). 1 - المؤكد لعامله: يسمى النحاة المفعول المطلق في نحو (قمت بالأر قيامًا) مؤكدًا لعامله. والعامل هنا الفعل. والحقيقة أنه في نحو هذا مؤكد لمصدر الفعل لا للفعل، لأن الفعل ما دل على حدث مقترن بزمن، أما المصدر فهو الحدث المجرد، فعندنا تقول: (قمت قياما) تكون قد أكدت الحدث وحده، ولم تؤكد الحدث والزمن جميعا، فالمتكلم قد يحتاج إلى توكيد الفعل كله فيكرره فيقول قام قام محمد، فيكون قد آكد الحدث والزمن، وقد يحتاج إلى توكيد الحدث فقط يقول: قام محمدا قياما، وقد يؤكد الزمن الذي تضمنه الفعل دون الحدث فيأتي بالظرف المؤكد فيقول (قام محمد حينا) فـ (حينا) مؤكد للزمن الذي تضمنه الفعل (قام)، لأن القيام لابد أن يكون في حين، ونحو قوله تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1]، لأن الإسراء لا يكون إلا في الليل. فهذا القسم من المفعول المطلق إذن مؤكد لمصدر عامله سواء، كان فعلا أم وصفا نحو (محمد قائم قياما)، فالمفعول المطلق مؤكد لمصدر الوصف، لا للوصف الذي يدل على الحدث والذات، ولو أردت توكيد الوصف لقلت (محمد قائم قائم)، ولا يؤكد إلا إذا كان مصدرا نحو عجبت من ضربك خالدا ضربا. قال الرضي: " المراد بتأكيد المصدر الذي هو مضمون الفعل بلا زيادة شيء عليه من وصف أو عدد وهو في الحقيقة تأكيد لذلك المصدر المضمون، لكنهم سموه تأكيدا للفعل توسعًا، فقولك (ضربت) بمعنى أحدثت ضربا، فلما ذكرت بعده (ضربا) صار بمنزلة قولك: أحدثت ضربا ضربا. ¬

_ (¬1) انظر ابن عقيل 1/ 187، الأشوني 2/ 112 التصريح: 1/ 323 - 324

فظهر أنه تأكيد للمصدر المضمون وحده، لا للاخبار والزمان اللذذين تضمنها الفعل (¬1). وذهب بعضهم إلى أن المصدر المؤكد " عوض عن تكرار الفعل مرتين. فقولك (ضربت ضربا) بمنزلة قولك (ضربت ضربت) ثم عدلوا من ذلك، واعتاضوا عن الجملة بالمفرد" (¬2). وهذا ليس بسديد ولو كان أمر كذلك لألغى التوكيد اللفظي. أن العرب قد تكرر الفعل مرتين إذا أردت ذلك وقد تأتي بالمصدر المؤكد، إذا أرادت فهذا تعبير وذاك تعبير، وكل يؤدي غرضا ومعنى. أن ثمة فرقا في المعنى بين قولنا (تحدث تحدث محمد) و (تحدث محمد تحدثا) فإن قولنا (تحدث تحدث محمد) إنما كرر الفعل فيه لأن المتكلم قد يظن أن المخاطب لم يسمع الكلمة الأولى. أو انصرف ذهنه إلى فعل آخر فتعيد له الكلمة لتزيل ذلك عنه، أما قولنا (تحدث محمد تحدثا) فلإزالة الوهم من أن الفاعل لم يفعل ذلك، وإنما فعل ملازمه او فعلا قريبا منه، فإذا قلت مثلا (ركض الرجل) فقد ينصرف الذهن إلى أنه أسرع في المشي وقد جعلت المشي ركضا تجوزا، فإذا قلت: (ركضا) فقد أزلت التجوز الذي قد ينصرف إليه ذهن السامع. وقررت أنه قام بالحدث حقا. 2 - المبين للنوع. ويقصد به المبين لنوع العامل نحو انطلقت انطلاقا سريعا، وانطلاق السهم. وادرجوا تحت هذا القسم ما ينوب عن المصدر من كلية المصدر، وبعضيته، ونوعه وصفته، وهيئته، ومرادفه، وضميره، والإشارة إليه، ووقعته وآلته، وعدده، ونحوها (¬3). ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 122، وانظر حاشية الخضري 1/ 186 (¬2) البرهان 2/ 392 (¬3) انظر الأشموني 2/ 112 - 114

3 - المبين للعدد: ويقصد به عدد العامل سواء كان العدد معلومًا، أو مبهما، فالأولى نحو: ضربته ضربتين والثاني نحو ضربته ضربات. وفي هذا التقسيم نظر - فيما نرى - لأنه لم يستوف أقسام المفعول المطلق، أولا، ولأنه لو اقتصرنا على هذه الأقسام لأوقعنا ذلك في إشكالات لا مفر منها. من ذلك على سبيل المثال قولهم: (أنت ابني حقا) و (له على الف دينار اعترافا) فهذا في أي قسم من الأقسام التي ذكرها النحاة يدرج؟ أهو يدرج في المؤكد لعامله، وهذا لا يمكن، لأن حذف عامل المؤكد ممتنع كما يقول النحاة، وهو ليس مبينا للنوع ولا للعدد. وقد جعل النحاة هذا من المؤكد لنفسه، أو المؤكد لغيره، أفالمؤكد لنفسه أو لغيره غير المؤكد لعامله، أم هو نفسه؟ فإن كان غيره كان صنفا آخر، وإن كان إياه نفسه، فقد انتقض الحكم القائل بعدم جواز حذف عامل المؤكد. ونحو قولهم: خالد سيرا، وخالدا سيرا سيرا، مما لا يصح أن يكون المصدر فيه خبرا عن المبتدأ، وهو ما قال فيه ابن مالك: كذا مكرر وذو حصر ورد ... نائب فعل لاسم عين استند فهم يقولون إننا إذا كررنا المصدر في نحو هذا، كان الحذف واجبا وإن لم نكرره كان الحذف جائزا، ففي قولنا (خالد سيرا) يكون ذكر العامل وحذفه جائزين، فأصل خالد سيرا، هو خالد يسير سيرا، ولكنا لو قلنا لأحد من المنتسبين إلى هذا العلم: أحذف العامل يسير، من هذا الجملة لقال لنا، هذا متنع لأنه لا يجوز حذف عامل المؤكد، وهذا تناقض - كما ترى - فهو يقولون: هو جائز الحذف وهم يمنعون حذفه. فنحن أما أن نقول هذا قسم آخر، أو أن نبطل قاعدة عدم جواز حذف عامل المؤكد. وغير ذلك وغيره.

إن أقسام المفعول المطلق ثلاثة فيما أرى وهي: 1 - المفعول المطلق المؤكد. 2 - المبين. 3 - النائب عن الفعل. 1 - المفعول المطلق المؤكد ولا أعني به المؤكد لعامله فحسب، كما يقول النحاة بل هو اوسع من ذلك، فيه المؤكد لمصدر عامله كما ذكرت، نحو (انطلقت انطلاقا) ويدخل فيه غيره من المؤكد لمضمون الجملة، وهو ما يسميه النحاة المؤكد لنفسه، والمؤكد لغيره، نحو (أنت ابني حقا) ونحو قوله تعالى: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متعا بالمعروف حقا على المحسنين} [البقرة: 236]، فإنه حين أمر بالتمتيع علم أن ذلك حق لهن، وأكد ذلك بقوله: {حقا على المحسنين}. ونحو قوله: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: 241]، فإنه لما ذكر أن للمطلقات أن يمتعن بالمعروف، علم أن ذلك حق لهن وقد اكد مضمون الجملة بقوله: {حقا على المتقين} فهذا توكيد لمضمون الجملة، ونحوه قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان} [التوبة: 111]، فلما ذكر ان الله ضمن للمجاهدين في سبيله الجنة، علم أن هذا وعد منه وقد اكد بقوله: {وعدا عليه حقا}، ونحو قوله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء} [النمل: 88]، فالجبال كما نعلم من صنع الله وأمد هذا الأمر بقوله: {صنع الله}. ونحوه قوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} [آل عمران: 145]، فلما ذكر أن النفس لا تموت إلا بإذن الله، علم أن ذلك بأجل منه، وقد أكده بقوله {كتابا مؤجلا} ونحوه قوله تعالى: {آلم، غلبت الروم في أدنى الأرض

وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} [الروم: 1 - 4]، فلما ذكر أنهم سيغلبون في بضع سنين، علم أن هذا وعد منه وقد أكده بقوله: {وعد الله لا يخلف الله وعده} [الروم: 6]، ونحوه. قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك .. } [النساء: 11]، فعلم بهذا أن هذا فرض افترضه علينا في المواريث وقد أكده بقوله: {فريضة من الله}. فهذه وأمثالها مؤكدة لمضمون الجملة، وليست مؤكدة لعاملها، إذ لو كانت مؤكدة لعاملها ما جاز حذفه، لأن حذف عامل المؤكد ممتنع عند النحاة. فهذا إذن ليس مؤكدا لعامله، ولا مبينا للنوع، ولا للعدد، وإنما هو قسم برأسه يفيد التوكيد والمصدر المؤكد على هذا هو كل مصدر فضلة غير تابع، دل على معنى ما تقدمه من مفرد أو جملة. 2 - المبين: قسم النحاة المصدر المبين إلى مصدر مبين لنوع عامله، ومبين لعدده، كما ذكرنا. والحق أن التبيين، لايختص بهذين القسمين، بل يكون مبينا لهما ولغيرهما، فقد يكون المصدر مبينا للنوع والعدد، وقد يكون مبينا للمقدار ايضا، وإن كثيرا مما أدرجه النحاة في المبين للنوع ليس كذلك، وإنما هو مبين للمقدار. فمن المبين للمقدار قولنا (أنا لا أظلمك ذرة من الظلم أو مثقالا من الظلم) فهذا بيان للوزن وهو تعبير مجازي، فإن المصدر لا يوزن، وإنما يقصد به بيان المقدار، ويحتمل أن يكون منه قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40]، وذلك أن المعنى يحتمل أن يكون المراد: لا يظلم مثقال ذرة من العمل أو نحو ذلك، فإذا كان المثقال يعود على الظلم كان إعرابه مفعولا مطلقا، وإذا لم يعد على المصدر كان مفعولا به.

فإذا كان بالمعنى الأول كان المفعول المطلق مبينا للمقدار، وليس مبينا للنوع، ولا العدد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" فقوله: (رضا نفسه) ليس مبينا لنوع عامله المقدر، وهو (اسبح)، ولا لعدده، وإنما المعنى مقدار ذلك. ثم إن قوله (زنة عرشة) في أي قسم من الأقسام التي ذكرها النحاة يسلك؟ أنك إذا قلت (سبحان الله عدد الرمال وزنة الجبال) فهل يكون (زنة الجبال) مبينا لنوع العامل؟ إنه إذا كان قولك (عدد الرمال) مبينا لعدد العامل فإن قولك (وزنة الجبال) يكون مبينا لوزن العامل. ومن هذا القسم فيما أرى ما كان دالا على كلية المصدر، وبعضيته، نحو ضربته كل الضرب، وضربته بعض الضرب، وشيئا من الضرب، وجزءا منه ونصيبا منه) فهذا ليس مبينا لنوع الضرب، ولا لعدده، وإنما هو لبيان مقدار الضرب، ومنه قوله تعالى: {ولا يظلمون فتيلا} [النساء: 49]. فقوله (فتيلا) ليس مؤكدا لعامله، ولا مبينا لنوعه، ولا لعدده، بل المقصود أنهم لا يظلون ظلما وإن كان قليلا فهو مبين لمقدار العامل. إن النحاة يجعلون هذا من المبين للنوع، وأحسب أن في هذا بعدا فقولك (ضربت كل الضرب) يختلف عن قولك (ضربت ضربا شديدا مبرحا) فالأولى بيان لكمية الضرب، لا لنوعه، بخلاف الجملة الأخرى، فإنها مبينة لنوع الضرب، وكذلك لو قلت: (ضربت جزءا من الضرب أو نصيبا منه) فإنها مبينة لمقدار الضرب لا لنوعه. إن النحاة يلحون على تقسيمهم المذكور، ولا يحاولون أن يجدوا عنه معدلا، ولو كان فيه تعسف وبعد، ألا ترى أن بعض النحاة يجعل (العدد) من المبين للنوع ففي قوله تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4]، يجعل العدد (ثمانين) من المبين للنوع ولا يجعله نائبا عن المبين للعدد (¬1)، فأي تعسف أبعد من هذا؟ ¬

_ (¬1) انظر الأشموني 2/ 112 - 114

بل أنه لا داعي لذكر جزئيات المبين - فيما أرى - بل الأولى أن يكتفي بإطلاق التبيين فيقال: (المصدر المبين) فقد يكون المصدر مبينا للنوع، وقد يكون مبينا للعدد وقد يكون مبينا للمقدار، وقد يكون مبينا لغير ذلك، فإنه يبدو لي أن نيابة الآلة عن مصدر المفعول المطلق لا تدخل في بيان نوع الفعل ولا مقداره، فإذا قلت (طعنه سكينا)، و (ضربه سوطا) فهذا بيان لنوع الآلة التي استعملت في الفعل وليست بيانا لنوع الفعل: قد تثور شبهة في نفسك وهي أن الأمثلة التي ذكرتها آنفا كلها من باب النيابة عن المصدر وليست مصادر، وهذا لا يضير فإن النحاة يحددون انواع المفعول المطلق بهذه الأنواع الثلاثة سواء كان مصدرا أو نائبا عنه، ولا يخرج النائب عندهم عن الأنواع التي ذكروها في انواع المفعول المطلق كما هو موضح في كتب النحو. 3 - النائب عن الفعل: وهو قسم مستقل برأسه، وليس مؤكدا او مبينا للنوع كما يذهب النحاة، وذلك نحو (إقداما يا سعيد) فإن معناه الأمر، أي أقدم، ولو قيل (إقدم إقداما يا سعيد) لم يفد المصدر معنى الأمر، وإنما يفيد التوكيد. أي حذف عالم مؤكد ممتنع عند النحاة قال ابن مالك: وحذف عامل المؤكد امتنع ... وفي سواه لدليل متسع قيل لأنه مسوق لتقوية عامله وتقرير معناه، والحذف ينافي ذلك (¬1). ومعنى التقوية تثبيت معناه في النفس لتكريره، والمقصود بتقرير المعنى رفع توهم المجاز عنه (¬2)، أي يراد به معناه الحقيقي. ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 189، الأشموني 2/ 115 (¬2) حاشية الصبان 2/ 115

وقد ذهب ابن الناظم إلى أنه يجوز حذف عامل بعض المصدر المؤكد قال: يجوز حذف عامل المصدر إذا دل عليه دليل، كما يجوز حذف عامل المفعول به وغيره، ولا فرق بين أن يكون المصدر مؤكدا أو مبينا. والذي ذكره الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب، وفي غيره أن المصدر المؤكد لا يجوز حذف عامله. قال في (شرح الكافية) لأن المصدر المؤكد يقصد به تقوية عامله وتقرير معناه وحذف مناف لذلك فلم يجز، فإن أراد أن المصدر المؤكد يقصد به تقويه عامله وتقرير معناه دائما، فلا شك أن حذفه مناف لذلك القصد، ولكنه ممنوع ولا دليل عليه، وإن أراد أن المصدر المؤكد قد يقصد به التقوية والتقرير، وقد يقصد به مجرد التقرير، فمسلم، ولكن لا نسلم أن الحذف مناف لذلك القصد، لأنه جاز أن يقرر معنى العامل المذكور بتوكيده بالمصدر، لأن يجوز أن يقرر معنى العامل المحذوف لدلالة قرينة عليه. أحق وأولى. ولو لم يكن معنا ما يدفع هذا القياس لكان دفعه بالسماع كفاية فإنهم يحذفون عامل المؤكد حذفا جائزا، إذا كان خبرا عن اسم عين في غير تكرير، ولا حصر، نحو أنت أسيرا وميرا، وحذفا واجبا في مواضع يأتي ذكرها نحو سقيا، ورعيا، وحمدا، وشكرا، ولا كفرا (¬1). وقد رد ابن عقيل عليه بقوله إن نحو " ضربا زيدا، ليس من التأكيد في شيء، بل هو أمر خال من التأكيد بمثابة اضرب زيدا ... وكذلك جميع الأمثلة التي ذكرها ليست من باب التوكيد في شيء، لأن المصدر فيها نائب مناب العامل، دال على ما يدل عليه، وهو عوض عنه، ويدل على ذلك عدم جواز الجمع بينهما، ولا شيء من المؤكدات يمنع الجمع بينهما وبين المؤكد. ¬

_ (¬1) ابن الناظم 109 - 110

ومما يدل أيضا على أن (ضربا زيدا) ونحوه، ليست من المصدر المؤكد لعامله، أن المصدر لا خلاف في انه لا يعمل، واختلفوا في المصدر الواقع موقع الفعل (¬1). وجاء في (حاشية الخضري) ان نحو (ضربا زيدا) قسم برأسه، وليس مؤكدا " فالمصدر إما مؤكد، او نوعي أو عددي، أو بدل من فعله، ولا ضرر في زيادة ذلك" (¬2). أن قول ابن الناظم أن المؤكد قد يقصد به التقوية والتقرير، فلا يحذف عامله، وقد يقصد به التقرير فقط، فيجوز عند ذاك حذف عامله فيه نظر، فمن يقول أن ((اعترافا)) في قولك (له علي دينار اعترافا) مثلا لا يراد به التقوية إذا ذهبنا أنه مؤكد لعامله، كما ذهب إليه ابن الناظم؟ وأن قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: 241]، لا يراد به تقوية العامل، وتقرير معناه، وأي دليل على ذلك؟ وكذلك قوله {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان} [التوبة: 111]، فاخراج هذا من أن يراد به التقوية فيه نظر. وهذا عندنا من المؤكد لممضون الجملة - كما مر. أن قول ابن الناظم أنه قد يقصد بالمصدر المؤكد التقرير فقط مردود، يرده قوله تعالى {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا} [النمل: 50]، فهو لم يرفع المجاز، فإن قوله تعالى (مكرنا مكرا) مجاز. جاء في (البرهان): " قال ابن الدهان: ومما يدل على ان التأكيد لا يرفع المجاز قول الشاعر: ¬

_ (¬1) ابن عقيل 1/ 189 (¬2) حاشية الخضري 1/ 189

قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج ... ويوم اللوى حتى قسرت الهوى قسرا قلت: وكذا قوله: ومكروا مكرا، ومكرنا مكرا (¬1). وجاء (حاشية الصبان): " وقوله، وتقرير معناه أي رفع توهم المجاز عنه لا يؤكد، نقله الزركشي، في البحر المحيط في الأصول ونقض بقوله (ومكرنا مكرا) وقول الشاعر: وعجبت عجيجا من جذام المطارف (¬2) وأجيب بأنه يرفع فيما يحتمل الحقيقة والمجاز، كقتلت قتلا لا فيما هو مجاز لا غير، كذا في القسطلاني على البخاري، فالمتعين للمجاز يؤكد كما في الآية والبيت. فقولهم: المجاز لا يؤكد، ليس على إطلاقه (¬3). أنه لابد من إضافة قسم آخر إلى ما ذكره النحاة وهو النائب عن الفعل، يختلف عنها في المعنى والحكم. إن النائب عن فعله يحذف عامله جوازا، ووجوبا عند النحاة، أما الؤكد فلا يجوز حذف عامله فنحو قولنا (إكراما الضيف) لا يجوز أن يكون مؤكدا لحذف فعله، فتعين أن يكون نائبا عن فعله وهو غير المؤكد. ما ينوب عن المصدر: ينوب عن المصدر ما يدل عليه نحو، كلية المصدر، وبعضيته، ونوعه، وصفته، وهيئته، ومرادفه، وضميره، والإشارة إليه، واسم المصدر، وملاقيه في الاشتقاق، وغيرها (¬4). ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 393 (¬2) لأن المطارف وهي الثياب لا تصيح. (¬3) حاشية الصبان 2/ 115 (¬4) انظر الأشموني 2/ 112 - 113، التصريح 1/ 325 - 328، الصبان 2/ 112 - 114، حاشية الخضري 1/ 188

وذلك لأداء معان لا يؤديها مصدر الفعل أحيانا. فقد يراد بالنيابة الدلالة على الكلية والجزئية نحو (فلا تميلوا كل الميل) [النساء: 129]، (ضربته بعض الضرب)، ويسير الضرب وشطر الضرب لأن المصدر لا يدل بنفسه على الكلية، والجزئية، لأن المقصود به الجنس، وهو يدل على القليل والكثير كالماء والخل، والتراب، والعسل فيؤتى بما يدل على الجزئية والكلية، ليفيد ذاك. وقد يراد الدلالة على الآلة والعدد، ونحو ذلك. إن أهم أغراض النيابة التوسع في المعنى، فالإتيان بنائب المصدر قد يوسع المعنى توسيعا لا يؤديه ذكر المصدر، وذلك كالمجيء بصفة المصدر بدلا منه، فإنك إذا حذفت المصدر وجئت بصفته فربما احتمل معنى جديدا، لم يكن ذكره المصدر يفيده، ولا يحتمله، وذلك نحو قوله تعالى: {واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار} [آل عمران: 41]، فهنا تحتمل كلمة (كثير) أن يراد بها الدلالة على المصدر، أي ذكرا كثيرا، ويحتمل أن يراد بها الدلالة على الوقت، أي زمنا كثيرا. فهذا تعبير يحتمل معنيين في آن واحد بخلاف ما لو ذكرت الموصوف، فإنه لا يدل إلا على معنى واحد. وقد يكون المعنيان مطلوبين، أي ذكرا كثيرا، زمنا كثيرا فتكسبهما بالحذف، فيكون الحذف قد أدى معنيين في آن واحد، وهذا توسع في التعبير وزيادة في المعنى. ومثله قوله تعالى: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} [التوبة: 82]، فأنت ترى أنه إذا قال ضحكا قليلا وبكاء كثيرا كان نصا على الضحك والبكاء. وإذا قال زمنا قليلا أو كثيرا كان نصا على الزمن، في حين أنه لما حذف الموصوف احتمل معنيين: المصدرية أي ضحكا قليلا، والزمن أي زمنا قليلا وقد يكون المعنيان مرادين في آن واحد فكسبهما من أيسر طيق وأوجز تعبير، فبدل أن يقول: فليضحكوا ضحكا قليلا وقتا قليلا، وليبكوا بكاء كثيرا وقتا كثيرا قال: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} فأدى المعنيين معًا.

وقد يكتسب بحذف الموصوف معنى المفعولية والمصدرية، كأن تقول: هو لا يفقه إلا قليلا قال تعالى: {بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا} [الفتح: 15]، فقد يحتمل أن يراد بـ (قليل) المفعولية، أي إلا قليلا من الأمور، وقد يحتمل المصدرية، أي فقها قليلا، وقد جمع المعنيين بحذف الموصوف أي لا يفقهون إلا قليلا من الأمور فقها قليلا والله أعلم. فإن أريد التنصيص على المصدرية، جيء بالمصدرية، كقوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا} [الأحزاب: 41 - 42]. وربما لا يؤدي ذكر المصدر إلا مجرد التوكيد لا التنصيص كأن تقول (نمت عميقا) فأنت هنا ذكرت الصفة، ولو قلت: (نمت نوما عميقا) لكان أفاد التوكيد، إضافة إلى الوصف، ونحوه أن تقول: (أهجر جميلا واصبر جميلا) فهنا حذفت المصدر وجئت بصفته، لأن الغرض تعلق بذكر الصفة، أما المصدر فإنه مفهوم، ولو ذكرته لأفاد ذكره التوكيد، كما في (نمت عميقا). وقد يؤدي مثل هذا التوسع الذي ذكرناه أن تأتي باسم جامد بدل المصدر، كقوله تعالى: {ولا يظلمون فتيلا} [النساء: 49]، فقد يراد بالفتيل هنا معناه الحقيقي وهو مقدار فتيل، والفتيل الخيط الذي في شق النواة فيكون مفعولا به، وقد يكون المقصود، ولا يظلمون ظلما مقدار فتيل، أي ظلما قليلا، فيكون المراد بالفتيل المصدر، فيكون مفعولا مطلقا، هذا توسع في المعنى، فقد كسبنا معنى المفعولية والمصدرية في آن واحد، فالظلم ههنا منفي من جهتين: المصدرية والمادية. ومثله قوله تعالى: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا}. [آل عمران: 116]، فقد يكون المعنى لن تغني عنهم ولا أولادهم من الله إغناء، ولو قل فيكون المراد بـ (شيء) المصدر، وقد يكون المراد بالشيء الشيء المادي. ونحوه: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} [يونس: 44]، فقد يكون الشيء كناية عن الظلم فيكون المعنى أن الله لا يظلم الناس ظلما، وإن قل فيكون مفعولا مطلقا، وقد يكون

(شيء) هنا شيئا ماديا، فيكون مفعولا به، والمعنيان مرادان والله أعلم. ومنه قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} [البقرة: 245]، فقد يراد به ما يقرض فيكون مفعولا به، وقد يراد به إقراضا حسنا، فيكون مفعولا مطلقا، وقد كسب المعنيين في هذا التعبير. ومثله قوله تعالى: {ولا تشركوا به شيئا} [النساء: 36]، فقد يكون الشيء كناية عن الشرك، أي لا تشركوا به شيئا من الشرك، وإن قل، وقد يراد بالشيء المخلوقات مما يعبد من دون الله، والمعنيان مرادان، والله أعلم. وقد يتسع به أكثر من هذا فيؤدي أكثر من معنيين، وذلك نحو قوله تعالى: {وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} [النساء: 160]، فهنا يحتمل أن يكون المراد بـ (كثير) المصدر أي صدا كثيرا، ويحتمل أن يراد به الوقت، أي وقتا كثيرا، ويحتمل أن يراد الخلق أي خلقا كثيرا، فجمعت ثلاثة معان في آن واحد، وهو توسع في التعبير كثير. وقد يكون التوسع على نحو آخر، وذلك أن يؤتي بملاقي الفعل في الاشتقاق فنكتسب معنيين وذلك نحو قوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا} [المزمل: 8]، فقد جاء بالفعل (تبتل) لكن لم يجيء بمصدره، وإنما جاء بمصدر (بتل)، فمن المعلوم أن صدر تبتل هو التبتل كتعلم تعلم، أما التبتيل فهو مصدر (بتل) مثل علم تعليم، فجاء بالفعل (تبتل) ولكن لم يجيء بمصدره، وإنما جاء بمصدر فعل آخر، فجمع معنيين في آن واحد. وتوضيح ذلك أن تبتل على وزن (تفعل) وهو يفيد التدرج. والتكلف، نحو تحسي الماء، أي شربه حسوة حسوة، وتجرع الدواء أي شربه جرعة جرعة، ونحوه تحسس وتجسس ونحو مشي وتمشى، أي تدرج في المشى، وخطا وتخطى. أما (فعل) فيفيد التكثير وذلك نحو كسر وكسر، فكسر يفيد التكثير والمبالغة تقول: كسرت القلم وكسرته، ففي كسرته تكثير، ومثله قطع اللحم وقطعه، فالتقطيع يفيد التكثير، ونحو ذبح، فجاء بالفعل الدال على التدرج والتكلف، وهو (تبتل) والمصدر

الدال على التكثير وهو (تبتيل) فجمع المعنيين: التدرج والتكثير. ولو نظرت إلى هذه الآية لرأيتها مصوغة صياغة فنية عالية، فالتبتل معناه الانقطاع إلى الله في العبادة، والعبادة تأتي في بالتدرج وحمل النفس، وتكلف مشاقها فجاء بالفعل الدال على التدرج أولا، ثم جاء بالمصدر الدال على الكثير ومعنى ذلك أبدا بالتدرج وانته بالكثرة، وهو توجيه تربوي سليم، ولو عكس فجاء بالفعل الدال على الكثرة اولا ثم جاء بعده بالمصدر الدال على التدرج لم يفد هذه الفائدة. ولو قال: (تبتل تبتيلا) لم يزد على معنى التدرج، ولو قال (بتل نفسك إليه تبتيلا) ما زاد على معنى الكثرة، ولكن اراد المعنيين فجاء بالفعل من صيغة، والمصدر من صيغة أخرى فجمعهما، فهو بدل أن يقول: (وتبتل إليه تبتلا وبتل إليه تبتيلا) أخذ فعلا لمعنى آخر فجمعهما ثم قدم التدرج على الكثرة. وهناك أمر فني آخر جميل، وهو أنه جاء بما يدل على التدرج بصيغة الفعل، لأن الفعل يدل على التجدد والحدوث، وجاء بما يدل على الكثرة بالمصدر، لأن الاسم فيه مبالغة وثبوت. وفمن المعلوم أن الفعل يدل على التجدد والحدوث والاسم يدل على الثبوت نحو يتعلم، ومتعلم ويحفظ وحافظ فجاء لمعنى التدرج بصيغة الفعل الدالة على التجدد والحدوث، وجاء لمعنى الكثرة بصيغة المصدر الدالة على الثبوت والمبالغة، لأنها الحالة الثابتة لمرادة في العبادة، أما حالة التدرج فهي حالة موقوتة يراد منها الانتقال لا الاستمرار، والاستقرار لكل معنى بما يناسبه. جاء في (التفسير القيم) في قوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا}: "ومصدر تبتل إليه تبتل كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر فعل لسر لطيف. فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدرج والتكلف، والتعمل والتكثير والمبالغة، فأتى بالفعل الدال على احدهما وبالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل: بتل نفسك إلى تبتيلا وتبتل إليه تبتلا ففهم المعنيان من الفعل ومصدره، وهذا كثير في القرآن وهو من حسن الاختصار والإيجاز" (¬1). ¬

_ (¬1) التفسير القيم 501 - 502

ومثله قوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتا} [نوح: 17]، أي أنبتكم فنبتم نباتا (¬1). أي طاوعتم أمر ربكم ولو قال (إنباتا) لما زاد على المعنى، ونحوه أن تقول: (اخرجته خروجا) أي أخرجته فخرج خروجا فكسبنا المعنيين في آن واحد، الاخراج والخروج. ونحو أن تقول: أدبته تأدبا أي أدبته فتأدب تأدبا، أي قبل التأدب. ومنه قوله تعالى في مريم عليها السلام {وأنبتها نباتا حسنا} [آل عمران: 37]، ولم يقل (إنباتا لأنه لو قال (إنباتا) لم يجعل لها فضلا، لأنه لم يزد على معنى الإنبات، وإنما قال (نباتا حسنا) على معنى أنها قبلت الانبات فنبتت نباتا حسنا، فجعل لها في معدنها الكريم، وشخصها الطاهر قبولا لذلك الانبات واستجابة له، ولو قال (إنباتا) لجردها من هذا المعنى، والله أعلم. ومنه قوله تعالى: {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} [النساء: 60]، والقياس أن يضلهم أضلالا بعيدا، لأن مصدر (أضل) الإضلال، أما الضلال فهو مصدر (ضل)، قال تعالى: {فقد ضل ضلال بعيدا} [النساء: 116]، والمعنى أن يضلهم فيضلوا ضلالا بعيدا، وقد جمع المعنيين: الإضلال والضلال في آن واحد، والمعنى أن الشيطان يريد أن يضلهم ثم يريدهم بعد ذلك أن يضلوا هم بأنفسهم، فالشيطان يبدأ المرحلة وهو يتمونها، فهو يريد منهم المشاركة في أن يبتدعوا الضلال ويذهبوا فيه كل مذهب. يريد أن يطمئن أنهم يقومون مهمته هو. والقاعدة أنه ما أختلف فيه لفظ الفعل عن لفظ المفعول المطلق فالمراد زيادة المعنى بجمع معنيين أو أكثر ما وسعت ذلك اللغة واتسع المقام. ¬

_ (¬1) التفسير الكبير 30/ 140، الهمع 1/ 186، ابن يعيش 1/ 111

حذف الفعل

حذف الفعل ذهب النحاة إلى أنه لا يجوز حذف عامل المصدر المؤكد، وذلك لأنه جيء به لتقوية المؤكد وتقرير معناه، والحذف ينافي ذلك - كما أسلفنا. وأما فعل المصدر المبين للنوع والعدد، فجائز الحذف، لدليل حالي أو مقالي كأن يقال: ألم تهن المقصر؟ فتقول: بلى إهانة بالغة أو أهانات متعددة، وكقولك لمن تراه ينوي السفر: سفرًا قاصدًا، ولمن قدم قدوما مباركا، ولمن عاد من حج، حجا مبرورا، ونحو ذلك (¬1). المصدر النائب عن الفعل. 1 - النائب عن فعل الأمر والدعاء: يذكر النحاة أنه يحذف فعل المصدر وجوبا إذا وقع المصدر بدلا من فعله، وهو مقيس في الأمر والنهي والدعاء، مثل قياما لا قعودا، وصبرا جميلا، وسقيا لك، بمعنى قم لا تقعد واقدم، واصبر صبرا جميلا، وسقاك الله (¬2). وهنا قد يعرض سؤال وهو أنه لا يصح أنه يقال: قم قياما وأقدم إقداما واصبر صبرا جميلا؟ إنه جائز بلا شك، قال تعالى: {فاصبر صبرا جميلا} [المعارج: 5]، وقال: {واهجرهم هجرا جميلا} [المزمل: 10]، إذن فلماذا يقول النحاة: إن هذا محذوف الفعل وجوبا، وهو كما نرى جائز؟ ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 329، الأشموني 2/ 116 (¬2) ابن عقيل 1/ 190، التصريح 1/ 331، الأشموني 2/ 116 - 117

والحقيقة أنه يمكن أن يقال (صبرا جميلا) كما يقال (اصبر صبرا جميلا) ويقال (إقداما في المعركة) كما يقال (أقدم في المعركة إقداما) ولكن ليس القولان بمعنى واحد، فهناك فرق بين قولنا (إقداما) وقولنا (أقدم إقداما) و (صبرا جميلا) و (اصبر صبرا جميلا) إن قولنا: (إقداما يا فلان) معنى الصدر فيه معنى الأمر، ولكن إذا قلنا (أقدم إقداما يا فلان) كان المصدر مؤكدا للفعل، وليس دالا على الأمر، وكذلك إذا قلنا (صبرا جميلا) كان معنى المصدر فيه (إصبر) لكن إذا قلنا (اصبر صبرا جميلا) كان المصدر مبينا للنوع، وليس نائبا عن فعل الأمر، ولا يؤدي معناه، فإنه يحق لك أن تقول العبارتين، ولكن كلا بمعنى، فإذا أردت أن ينوب المصدر عن فعل الأمر جئت بالمصدر فقط، وإذا لم ترد ذلك وإنما أردت أن يكون الصدر مؤكدا أو مبينا اتيت بعامله. وهذا الأمر نفسه جار في الدعاء، تقول: سقيا لك ورعيا له، وتقول: سقاك الله سقيا ورعاك الله رعيا، فالمصدر في التعبيرين الأخيرين لا يراد به الدعاء، وإنما هو مؤكد للفعل، فإذا أردت أن يكون المصدر نفسه للدعاء جئت بالمصدر بلا فعل، جاء في (الكتاب): " هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره، وذلك قولك سقيا ورعيا، ونحو قولك: خيبة، ودفرا، وجدعا، وعقرا، وبؤسا، وافة وتفة، وبعدا وسحقا، ومن ذلك قولك: تعسا وتبا وجوعا وجوسا .. وإنما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكر مذكور فدعوت له، أو عليه على إضمار الفعل، كأك قلت: سقاك الله سقيا ورعاك رعيا .. وإنما اختزل الفعل هنا لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل، كما جعل الحذر بدلا من احذر، وكذلك هذا كأنه بدل من سقاك الله، ورعاك الله .. وما جاء منه لا يظهر له فعل فهو على هذا المثال نصب، كأنك جعلت بهرًا بدلاً من بهرك الله، فهذا تمثيل ولا يتكلم به" (¬1). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 156 - 157، وانظر ابن يعيش 1/ 114، 120

فاتضح بهذا أن المصدر المؤكد غير النائب كل يؤدي معنى، ووظيفتها مختلفة في الجملة. وقد تقول: وما الفرق بين قولنا: إصبر يا خالد .. وصبرا يا خالد سقاك الله .. وسقيا لك والجواب عن ذلك أن صبرا مصدر واصبر فعل، والمصدر أقوى وأثبت من الفعل: ثم أن المصدر هو الحدث المجرد، والفعل هو الحدث المقترن بالزمن، فأنت حين تأمر بالمصدر فقد امرت بالحدث المجرد، وهو آكد من الفعل لمجيئنا بالحدث وحده، وذكر الرضي أنه حذف إبانة لقصد الدوام واللزوم، بحذف ما هو موضوع للحدث والتجدد، أي الفعل، في نحو حمدا لك، وشكرا لك، وعجبا منك، ومعاذ الله وسبحان الله (¬1). ولعله يقصد إلى أنه أدوم من الفعل، وأثبت منه، أما الرفع فإنه أدوم منهما وأثبت، وهو نظير الفعل، واسم الفاعل، والصفة المشبهة، فاسم الفاعل أثبت من الفعل، والصفة المشبهة أثبت من اسم الفاعل، نحو ساد سائد وسيد. ثم أن الفعل قد يكون بصيغ متعددة، فقد يكون ماضيا ومضارعا، وأمرا، نحو قولك سقاك الله، ويرعاك الله، فإذا جئت بالمصدر فقلت: سقيا لك، ورعيا لك، فقد جئت بالحدث بلا دلالة على زمن. ثم أن الفعل لابد له من فاعل، غير أنه قد يكون الغرض لا يتعلق بذكر الفاعل وإنما يتعلق بالحدث المأمور به، أو المدعو به، وهو المصدر، نحو سقيا لك، وسقاك الله، فإذا قلت: سقاك الله وسقتك الغوادي، فقد ذكرت الفاعل، لأنه تعلق غرض بذكره، ونحوه إذا قلت قوما وقوموا، وقمن، وربما لم يتعلق غرض بذكره، فلا تأتي به، ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 125

نحو قوله تعالى: {والذين كفروا فتعسا لهم} [محمد: 8]، فهو دعاء بالتعس غير مقيد بزمن، ولا بفاعل معين، بل هو تعس عام، ونحو قوله تعالى: {وقيل بعدا للقوم الظالمين} [هود: 44]، فهذا دعاء بالهلاك غير مقيد بزمن ولا بفاعل. جاء في (الأشباه والنظائر) أن الحدث على ثلاثة أضرب، ضرب يحتاج إلى الاخبار عن فاعله، وإلى اختلاف أحوال الحدث فيشتق منه الفعل، دلالة على كون الفاعل مخبرا عنه وتختلف أبنيته دلالة على اختلاف أحوال الحدث. وضرب يحتاج إلى الإخبار عن فاعله على الإطلاق، من غير تقييد بوقت، ولا حال فيشتق منه الفعل ولا تختلف أبنيته. وضرب لا يحتاج إلى الخبار عن فاعله، لكن يحتاج إلى ذكره خاصة على الإطلاق مضافا إلى ما بعده نحو (سبحان الله)، فإنه ينبيء عن العظمة والتنزيه، فوقع القصد إلى ذكره مجردا من التقييدات بالزمان، أو بالأحوال، ولذلك وجب نصبه، كما يجب كل مقصود إليه بالذكر نحو: إياك وويله، وويحه، وهما مصدران لم يشتق منهما فعل، حيث لم يحتج إلى الأخبار عن فاعلهما ولا إلى تخصيصها بزمن، ونصبها كنصبه لأنه مقصود إليه (¬1). وأما رفع المصادر هذه فدلالة على الثبوت والاستقرار كما سبق تفصيله في باب المبتدأ والخبر، تقول (صبرا جميلا) إذا أمرت بالصبر، فإن قلت (صبر جميل) كان امرا بالصبر الدائم الطويل، وهو بمعنى المصدر المنصوب إلا أنه أثبت وأدوم، وكما أن المصدر المنصوب إلا أنه أثبت وأدوم، وكما أن المصدر المنصوب للدلالة على الأمر لا فعل له، فالمرفوع لا مبتدأ له. قال ابو البقاء: " والرفع في باب المصادر التي أصلها النيابة عن افعال يدل على الثبوت والاستقرار، بخلاف النصب فلا يدل إلا على التحدث والحدوث المستفاد من عامله ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر 1/ 60 - 61

الذي هو الفعل، فإنه موضوع للدلالة عليه" (¬1). إن المصدر المنصوب يدل على التوقيت، والمرفوع يدل على العموم والثبوت، جاء في (معاني القرآن) للفراء: " وأما قوله تعالى: {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة: 178]، فإنه رفع، وهو بمنزلة الأمر في الظاهر، كما تقول: من لقي العدو فصبرا واحتسابا، فهذا نصبه ورفعه جائز، وإنما كن الرفع وجه الكلام لأنه عامة فيمن فعل، ويراد بها من لم يفعل، فكأنه قال: فالأمر فيها على هذا فيرفع، وينصب الفعل إذا كان أمرا عند الشيء يقع ليس بدائع، مثل قولك للرجل: إذا أخذت في عملك فجدا جدا وسير سيرا، نصبت لأنك لم تنو به العموم، فيصير كالشيء الواجب على من أتاه وفعله، ... وأما قوله: {فضرب الرقاب} [محمد: 4]، فإنه حثهم على القتل إذا لقوا العدو ولم يكن الحث كالشيء الذي يجب بفعل قبله فلذلك نصب وهو بمنزلة قولك: إذا لقيتم العدو فتهليلا وتكبيرا وصدقا عند تلك الوقعة .. كأنه حث لهم (¬2). ونحو قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]، فرفع إمساكا وتسريحًا للدلالة على الدوام، وعلى أنها ليست حالة موقوتة. ويذكر النحاة فرقا آخر بين المرفوع والمنصوب، هو أن المرفوع قد يفيد أن الشيء قد حصل وثبت واستقر، بخلاف المنصوب نحو رحمة الله له، وويل له، بمعنى حصل له هذا، وثبت أما إذا قلت رحمة له وويلا، فأنت تدعو له أو عليه، ولم يحصل ذلك بعد جاء في (كتاب سيبويه): " هذا باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء، وذلك قولك: سلام عليك، ولبيك، وخير بين يديك وويل لك، وويح لك، وويس لك، وويلة لك، وعولة لك، وخير له، وشر له، ولعنة الله على الكافرين، فهذه الحروف كلها مبتدأة مبني عليها ما بعدها، والمعنى فيهن أنك ابتدأت شيئا قد ثبت عندك، ولست في حال حديث تعمل في إثباتها وتزجيتها، وفيما ذلك ¬

_ (¬1) كليات أبي البقاء 328 (¬2) معاني القرآن 1/ 109، وانظر أيضا 2/ 39

2 - المصدر الذي لا يصح الإخبار به عن المبتدأ

المعنى كما أن حسبك فيه معنى النهي، وكما أن رحمة الله عليه في معنى رحمة الله، فهذا المعنى فيها، ولم تجعل بمنزلة الحروف التي إذا ذكرتها كنت في حال ذكرك إياها تعمل في إثباتها وتزجيتها (¬1). وجاء في (المقتضب): "وإنما تنظر في هذه المصادر إلى معانيها، فإن كان الموضع بعدها أمرًا أو دعاء لم يكن إلا نصبا، وإن كان لما قدم قد استقر، لم يكن إلا رفعا، وإن كان لهما جميعا كان النصب والرفع (¬2) ". وأما إنه إذا كان أمرا أو دعاء لم يكن إلا نصبا، ففيه نظر، فإنه يجوز أن يكون أمرا وهو مرفوع، ودعاء وهو رفع على قصد إرادة الثبوت كما ذكرنا. وجاء في (شرح ابن يعيش): "أن الفرق بين النصب والرفع، أنك إذا رفعتها فكأنك ابتدأت شيئا قد ثبت عندك، واستقر، وفيها ذلك المعنى أعني الدعاء، كما أن حسبك فيه معنى النهي، وإذا نصبت كنت ترجاه في حال حديثك وتعمل في إثباته" (¬3). وما ذكرناه في الفرق بين الرفع والنصب يجري عاما على المصادر المرفوعة والمنصوبة في هذا الباب، سواء كان مقصودا بها الانشاء أم الخبر. 2 - المصدر الذي لا يصح الإخبار به عن المبتدأ: يذكر النحاة أن من مواطن حذف الفعل وجوبا، وقوع المصدر نائبا عن فعل أسند لاسم عين مكررا، أو محصورا، نحو محمد سيرا سيرا، وما محمد إلا سيرا (¬4) أو مستفهما عنه أو معطوفا عليه نحو أأنت سيرا، وأنت أكلا وشربا (¬5)، فإن لم يكن مكررا ولا محصورا، ولا نحوهما، جاز ذكر الفعل وعدمه، نحو أنت سيرا (¬6). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 166 (¬2) القتضب 3/ 221 - 222 (¬3) ابن يعيش 1/ 122 (¬4) ابن عقيل 1/ 192، الأشموني 2/ 118 (¬5) التصريح 1/ 332، وانظر حاشية الخضري 1/ 192 (¬6) ابن عقيل 1/ 192

أما اشتراط أن المصدر نائب عن فعل أسند لاسم عين، فغير سديد لأنه يجب أن يكون ذاك، وإنما الذي يجب هو أن يكون المصدر لا يصح الإخبار به عن المبتدأ، سواء كان اسم معنى، أم اسم ذات، نحو المنون تقريعًا تقريعا، وما الدهر إلا تقلبا (¬1). والإمتحان اقترابا اقترابا، والخوف انتشارا انتشارا، وهذه ليست أسماء أعيان. وأما اشتراط التكرار لوجوب الحذف، فلا أراه سديدا أيضا، لأن قولك (محمد سيرا) أصله عند النحاة (محمد سيرا سيرا) حذف فعله جوازا، فأصبح (محمد سيرا غير أن النحاة لا يجيزون حذف الفعل، من نحو قولنا (محمد يسير سيرا) لأنه مؤكد وهذا تناقض، فمرة يقولون هو ممتنع الحذف، ومرة يقولون هو جائز الحذف، والصواب فيما نرى أن هذا الصدر نائب عن الفعل وليس مؤكدا، وأنه واجب الحذف لا جائزه، لأنه لو ذكر لأصبح مؤكدا لا نائبا، ومثله المكرر فإنه يصح أن نقول (محمد يسير سيرا سيرا)، ولكن المصدر هنا مؤكد، والثاني توكيد له، وتكرر التوكيد غير عزيز في اللغة، قال تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} [الحجر: 30]، وقال: {كلا إذا دكت الأرض دكا دكا} [الفجر: 21]، وليس المصدر هنا أعني في قولنا (محمد يسير سيرا سيرا) نائب عن الفعل، بخلاف قولنا (محمد سيرا سيرا) فهذا تعبير وذاك تعبير، وليسا متماثلين ولا يؤديان غرضا واحدا. ولا يصح رفع المصدر في نحو هذا، إلا على ضرب من التجوز والمبالغة، فإنه لا يصح أن نقول (محمدٌ سيرٌ) لأنك تجعل بذاك محمدا سيرا، وهو ليس كذلك. إن ذلك لا يجوز في التعبير الحقيقي، وإنما يجوز على ضرب من التجوز، كما قالت الخنساء تصف ناقتها (فإنما هي إقبال وإدبار) فجعلتها إقبالا وادبارا لكثرة ما وقع ذلك منهما. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 128

فإذا قلت (محمد سير)، فقد جعلت محمدا سيرا، لكثرة ما وقع ذلك منه، أي تحول إلى سير وهو تجوز ومبالغة. وأما النصب على معنى هو يسير سيرا، ولكن حذف الفعل وأنيب المصدر عنه، وجعلته بدلا منه لإرادة الحدث المجرد، فبالنصب يكون التعبير حقيقا، وبالرفع ويكون مجازا. إننا نقول (محمد سيرا) بحذف الفاعل إذا كان الحدث مستمرا متصلا، أي إذا كان متصفا بالسير الطويل، قال سيبويه: واعلم أن السير إذا كان مخبرا عنه في هذا الباب [يعني: في نحو ما أنت إلا سيرا، وأنت سيرا سيرا]، فإنما تخبر بسير متصل بعضه ببعض في أي الأحوال كان، وأما قولك (إنما أنت سيرٌ) فإنما جعلته خبرا لأنت، ولم تضمر فعلا .. وإن شئت رفعت هذا كله، فجعلت الآخر هو الأول فجاز على سعة الكلام من ذلك قول الخنساء: ترتفع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ فجعلها الإقبال والإدبار فجاز على سعة الكلام كقولك نهارك صائم وليلك قائم (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وإنما وجب حذف الفعل، لأن المقصود من مثل هذا الحصر أو التكرير وصف الشيء بدوام حصول الفعل منه، ولزومه، ووضع الفعل على الحدث والتجدد، وإن كان يستعمل المضارع في بعض المواضع للدوام أيضا، نحو قولك: زيد يؤوي الطريد ويؤمن الخائف، والله يقبض ويبسط، وذلك أيضا لمشابهته لاسم الفعل الذي لا دلالة فيه وضعا على الزمان، فلما كان المراد التنصيص على الدوام واللزوم، لم يستعمل العامل أصلا لكونه أما فعلا، وهو موضوع على التجدد أو اسم الفاعل وهو من العمل كالفعل بمشابهته، فصار العامل لازم الحذف، فإن أرادوا زيادة المبالغة جعلوا المصدر نفسه خبرا عنه، نحو (زيد سير سير)، و (ما زيد إلا سيرا)، كما ذكرنا في المبتدأ في قولنا (فإنما هي إقبال وإدبار) فيمنحي إذن عن الكلام ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 168 - 169، وانظر ابن يعيش 1/ 115

3 - المصدر التشبيهي

معنى الحدوث أصلا لعدم صريح الفعل، وعدم المفعول المطلق الدال عليه، ولمثل هذا المعنى أعني زيادة المبالغة في الدوام رفعوا بعض المصادر المنصوبة .. تبيينا لمعنى الدوام قال: عجبت لتلك قضية وإقامتي ... فيكم على تلك القضية أعجب (¬1) 3 - المصدر التشبيهي: ذهب النحاة إلى أن المصدر التشبيهي مما يجب فيه حذف فعله، نحو (له صراخ صرخ الثكلي) بتقدير يصرخ، وذلك إذا كان المصدر التشبيهي من الأفعال الظاهرة واقعا بعد جملة فيها الفاعل في المعنى، وفيها معنى المصدر، وليس فيها ما يصحل للعمل (¬2). أما العمل فلسنا بصدده، ولكن إذا جارينا النحاة في ذلك، فإن المصدر الأول يصلح للعمل في الثاني في هذا الموطن. إن النحاة يقولون أن المصدر الأول لا يصلح أن يعمل في الثاني لأنه لا يصح أن يحل محله فعل مع حرف مصدري، ولا هو نائب عن الفعل، وإن المصدر لا يعمل إلا إذا كان نائبا عن فعله، أو مقدرا بالحرف المصدري، وهذا ليس منه (¬3). ومن المعلوم أن اشتراط ذلك في عمل المصدر غالب لا لازم، فإنه يصح أن يقال (ضربي العبد مسيئا) ويصح أن يقال (إن أكرامك خالدًا حسنٌ وإهانتك سعيدًا قبيح)، فقد عمل المصدر فيما بعده وهو ليس واحدًا من الضربين، وعلى ذلك يجوز النصب بالمصدر الذي قبله (¬4). ¬

_ (¬1) الرضي 1/ 128 - 129 (¬2) انظر ابن عقيل 1/ 193، حاشية الخضري 1/ 193، الأشموني 2/ 120، التصريح 1/ 333، حاشية يس 1/ 333 - 334 (¬3) التصريح 1/ 333، حاشية الخضري 1/ 193 (¬4) انظر حاشية الخضري 1/ 193، الرضي على الكافية 1/ 130، ابن يعيش 1/ 115

ويجوز مع توفر الشروط رفع الثاني بدلا مما قبله، أو صفة له، أو على أنه خبر المبتدأ محذوف فتقول: (له صراخ صراخ الثكلي) واختلف في الراجح منهما فقيل: إن الرفع مرجوح لأن الثاني ليس هو الأول، والنصب السالم من هذا المجاز، وذهب ابن عصفور إلى أنها متكافئان لأن في النصب التقدير، والأصل عدمه (¬1).". وفي هذا الترجيح نظر لأن معنى الرفع غير معنى النصب، وأنت تعبر بحسب المعنى الذي تريد فلا تكافؤ ولا ترجيح. إن معنى النصب في نحو قولك (له بكاء بكاءَ الثكلي) أنك مررت به وهو يبكي، وكذلك (له قفز قفز الأرنب) معناه أنك مررت به وهو يقفز، أي يقوم بالعمل بخلاف الرفع، فإنه ليس معناه ذلك، وإنما أردت التشبيه، لا أنه يقوم به في اثناء مرورك، فكانك قلت (قفزه قفز الأرنب)، أي أردت أن تخبر عن قفزه. أنك إذا قلت (له بكاء بكاءُ الثكلى) بالرفع، إذا كان المعنى أنك وصفت بكاءه، بذلك، وهو أمر قد علمته قبل أن تخبر عنه بهذا الخبر، وليس المعنى أنه كان يبكي في اثناء مرورك به، جاء في (كتاب سيبويه): " هذا باب ما ينتصب فيه المصدر المشبه به على إضمار الفعل المتروك إظهاره، وذلك قولك: مررت فإذا له صوت صوت حمار، ومررت به فإذا صراخ صراخَ الثكلى .. فإنما انتصب هذا لانك مررت به في حال تصويت، ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأول وبدلا منه، ولكن لما قلت: له صوت، علم أنه قد كان، ثم عمل فصار قولك (له صوت) بمنزلة قولك فإذا هو يصوت، فحملت الثاني على المعنى (¬2) وجاء فيه أيضا: " هذا باب من يختار فيه الرفع: وذلك قولك، له علم علم الفقهاء وله رأيٌ رأيُ الأصلاء، وإنما كان الرفع في هذا الوجه، لأن هذه خصال تذكرها في الرجل كالحلم، والعقل، والفضل ولم ترد أن تخبر بأنك مررت برجل في حال تعلم، ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 334، حاشية الخضري 1/ 193 (¬2) سيبويه 1/ 177

4 - المصادر المثناة

ولا تفهم، ولكنك أردت أن تذكر الرجل بفضل فيه، وأن تجعل ذلك خصلة قد استكملها كقولك، له حسبٌ حسبُ الصالحين، لأن هذه الأشياء وما يشبهها صارت تحلية عند الناس، وعلامات وعلى هذا الوجه رفع الصوت. وإن شئت نصبت فقلت له علم علم الفقاء، كأنك مررت به في حال تعلم، وتفقه، وكأنه لم يستكمل أن يقال له عالم .. وإذا قلت له صوتٌ صوتَ حمار، فإنما أخبر أنه مر هو يصوت صوت حمار، وإذا قال: له علمٌ علمُ الفقهاء، فهو يخبر عما قد استقر فيه قبل رؤيته، وقبل سمعه منه، أو رآه يتعلم فاستدل بحست تعلمه على ما عنده من العلم، ولم يرد أن يخبر أنه إنما بدأ في علاج العلم في حال لقيه إياه، لأن هذا ليس مما يثني به، وإنما الثناء في هذا الموضع أن يخبر بما استقر فيه، ولا أن يخبر أن أمثل شيء كا ممه النعلم في حال لقائه (¬1). وهو - كما ترى - لا يخرج عن القاعدة التي ذكرناها في أن المصادر المرفوعه تدل على الثبوت، والمنصوبة تدل على الحدوث، فبالرفع يكون المعنى أن حالته الثابتة كذلك فبكاؤه كذلك وقفزه كذلك، وأما النصب فلبيان حالة موقوته. 4 - المصادر المثناة: وردت مصادر منصوبة بصورة المثنى، مضافة إلى الضمير نحو لبيك وسعديك وحذاريك، ودواليك، وهذه المصادر وإن كانت بصورة المثنى لا يراد منها التثنية، وإنما يراد بها التكثير قال سيبويه: هذا باب من يجيء من المصادر مثنى منتصبا، على إضمار الفعل المتروك إظهاره: وذلك قولك حنانيك كأنه قال تحننا بعد تحنن، كأنه يسترحمه ليرحمه ولكنهم حذفوا الفعل، لأنه صار بدلا منه ولا يكون هذا مثنى إلا في حال إضافة .. ومثل ذلك لبيك وسعديك .. ومثل ذلك حذاريك، كأنه قال ليكن منك حذر بعد حذر كأنه قال ليكن منك حذر بعد حذر كأنه اراد بقولك لبيك وسعديك إجابة بعد إجابة، كأنه يقول كلما أجبتك في ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 181 - 182

5 - بقية المصادر

أمرا، فإنا في الأمر الآخر مجيب، وكأن هذه التثنية أشد توكيدًا" (¬1). وقال: " حدثنا أبو الخطاب أنه يقال للرجل المداوم على الشيء لا يفرقه، ولا يقلع عنه، قد ألب فلان على كذا وكذا، ويقالك قد أسعد فلان فلان على أمره وساعده، والألباب والمساعدة دنو ومتابعة، إذا ألب على الشيء فهو لا يفارقه، وإذا أسعده فقد تابعه، فكأنك إذا قال الرجل للرجل يا فلان، فقال لبيك وسعديك، فقد قال قربا منك ومتابعة لك. فهذا تمثيل وإن كان لا يستعمل في الكلام" (¬2). وهذه المصادر هي مصادر مسموعة لا يصح القياس عليها فلا تقول مثلا: (اعانتيك) بمعنى إعانة بعد إعانة، ولا (حضوريك) بمعنى حضورا بعد حضور، ولا نحو ذلك، وإنما هي أشبه بالتعبيرات الاصطلاحية، ولا يذكر معها الفعل لكون الكلام مما يستحسن الفراغ منه بسرعة (¬3) ولأن الكلام لا يقتضي إلا ذكر الحدث، ولا يقتضي ذكر الفاعل، ولا زمن كما أسلفنا. ولو تأت هذه المصادر إلا منصوبة في كلام العرب. 5 - بقية المصادر. أما بقية المصادر النائبة عن عاملها كالواقعة بعد الاستفهام التوبيخي، وما وقع تفصيلا لعاقبة ما تقدمه، والمؤكد لنفسه، أو لغيره، فإنه يصح رفعها ونصبها، نحو: له علي ألف اعترافٌ واعترفا، وافعل ذلك وكرامةٌ أو كرامةً (¬4). فالنصب على إرادة معنى الحدوث والتجدد والرفع على إرادة معنى الثبوت، كما أسلفنا. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 174 - 175 (¬2) سيبويه 1/ 176 - 177، وانظر ابن يعيش 1/ 118 - 119 (¬3) الرضي على الكافية 1/ 125 (¬4) حاشية الصبان 2/ 117، حاشية الخضري 1/ 190

المفعول فيه وهو المسمى ظرفا

المفعول فيه وهو المسمى ظرفا. يسمى النحاة البصريون المفعول فيه ظرفا، والظرف هو الوعاء التي توضع فيه الأشياء كالجراب، والعدل والأواني، وتسمى " ظرفا لأنه أوعية لما يجعل فيها، وقيل للأزمنة والأمكنة ظروف لأن الأفعال توجد فيها فصارت كالأوعية لها (¬1). وهي تسمية مجازية، وذلك لأن الظرف في الحقيقة هو الوعاء ذو الحدود، المتناهي الأطراف، كالقارورة، والزير، والحب، وسائر الآنية، وليس هذا كذلك، فإن كلمة فوق، وتحت، وزمن، وحين، ليس لها حدود متناهية كالظروف الحقيقة، وإنما سميت بذلك لأن الأحداث تكون فيها، وهي تحتويها كما تكون الأشياء في الآنية، ويسميه الفراء محلا والكسائي وأصحابه صفة، ولعله باعتبار الكينونة فيه (¬2)، أي أن الشيء قد يكون متصفا بالفوقية والتحتية والبينية، وهي صفة له. فإن قلت: (هو فوقك) فقد اتصف بالفوقية، و (اقبل خلفك) أي اتصف بالخلفية وهكذا. حده: الظرف عند النحاة زمان، أو مكان ضمن معنى الظرفية باطراد، أو اسم عرضت دلالته على أحدهما، أو اسم جار مجراه (¬3). ويقصدون بالاسم الذي عرضت دلالته على إحداهما ما ينوب عن الزمان والمكان من مصدر او عدد او غيرهما، وبالاسم الجاري مجراه ألفاظا مسموعة، وتوسعوا فيها نحو قولك (أحقا أنك ذاهب) فحقا هنا جارية مجرى الظرف عند الجمهور. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 2/ 41 (¬2) التصريح 1/ 337، حاشية الصبان 2/ 125، حاشية الخضري 1/ 196 (¬3) انظر التصريح 1/ 337، الأشموني 2/ 125 - 126، ابن عقيل: 1/ 196

تضمن الظرف معنى في: لا يسمى النحاة اسم الزمان ولا المكان ظرفا، حتى يتضمن معنى (في) الظرفية، وذلك نحو (سرت يمينك) فالسير كان في جهة اليمين، ونحو (قدمت صباح اليوم)، فالقدو كان في الصباح، أي كان اليمين ظرفا للسير احتواه كاحتواء الوعاء للماء، والصباح كان ظرفا للقدوم أي وقع كما تحتوي الآنية ما فيها. فإن لم يتضمن معنى (في) فلا يسميه النحاة ظرفا وذلك نحو قوله تعالى {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} [البقرة: 48]، فـ (يوما) ليس ظرفا لأن الإتقاء ليس واقعا فيه بل هو قبله، فكيف يكون ظرفا للاتقاء، وهو لم يقع فيه؟ ونحوه قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} [مريم: 39]، فيوم الحسرة وهو يوم القيامة ليس ظرفا، لأن الإنذار ليس في يوم القيامة، وإنما هو قبل يوم القيامة، فلا يكون ظرفا له بل هو مفعول به، ونحوه لو قلت (أخاف يوم القيامة) فهو مفعول به، لا ظرف، لأن الخوف ليس واقعا في يوم القيامة بل قبله، فلو قلت (أخاف أعمالي يوم القيامة) كان ظرفا لأن الخوف واقع فيه، ونحوه لو قلت: (أتذكر يوم سافرنا قبل عامين) كان اليوم مفعولا به وليس ظرفا لأن الذكر واقع بعد يوم السفر لا فيه. ولو قلت (اذكرني يوم سفرك) كان ظرفا، ونحوه قوله تعالى: {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26]، فالنسيان ليس في الحسبان بل قبله، فهو ليس ظرفا له. ونحوه أن تقول (نسيت يوم السفر)، فهو ليس ظرفا، ولكن لو قلت (نسيت الكتاب يوم السفر) كان ظرفا لأن النسيان وقع في يوم السفر. ومما لا يتضمن معنى (في) قولك (يومنا مشرق)، فإنك لم تذكر حدثا وقع فيه، وإنما هو مبتدأ، ونحوه أن تقول (ذهب وقت الشباب بما فيه) فإنه فاعل وليس متضمنا معنى (في) لأن الوقت هو الذي ذهب، لا أن شيئا ذهب فيه، جاء في (التصريح): "وخرج عن الحد .. نحو {يخافون يوما} [النور: 37]، من أسماء الزمان نحو {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124]، من أسماء المكان فإن (يوما) و (حيث) وإن كانا من

أسماء الزمان والمكان، فليسا ظرفين فإنهما ليسا على معنى (في) إذ ليس المراد أن الخوف واقع في ذلك اليوم، والعلم واقع في ذلك المكان، وإنما المراد أنهم يخافون نفس اليوم، وإن الله يعلم نفس المكان المستحق لوضع الرسالة، فانتصابهما على المفعول به، لأن الفعل واقع عليهما لا فيهما (¬1). وجاء في (المقتضب): "اعلم أن كل ظرف متمكن فالاخبار عنه جائز، وذلك قولك إذا قال قائل (زيد خلفك) أخبر عن (خلف) قلت: (الذي زيد فيه خلفك)، فترفعه لأنه اسم وقد خرج من أن يكون ظرفا، وإنما يكون ظرفا إذا تضمن شيئا نحو (زيد خلفك) لأن المعنى: زيد مستقر في هذا الوضع، والخلف مفعول فيه، فإن قلت (خلفك واسع) لم يكن ظرفا. ورفعت لأنك عنه تخبر" (¬2). وجاء في (الكتاب): "هذا باب من ينتصب من الأماكن والوقت، وذلك لأنها ظروف تقع فيها الأشياء وتكون فيها، فانتصب لأنه موقوع فيها ومكون فيها، وعمل فيها ما قبلها .. وكذلك يعمل فيها ما بعدها وما قبلها" (¬3). فإن صرح بـ (في) لم يسم ظرفا في الاصطلاح نحو (نحن في وقت طيب) و (جئت في الساعة الثالثة) ومعنى التضمن أن يكون الحرف مقدرا في الكلام، وإن لم يصح التصريح به أحيانا (¬4). فقد يمتنع التصريح بـ (في) وهو مع ذلك متضمن معنى (في) عند النحاة وذلك نحو قبل، وبعد، ومع، وإذا وفوق وتحت وإذ، فأنت تقول (الكتاب فوق المنضدة) ولا يصح أن تقول (في فوق المنضدة) ولكن المعنى أنه جاء في الزمان الذي سبق مجيء محمد، أو الذي بعده، وأن الكتاب حال في هذا المكان، فـ (قبل محمد) احتوي المجي، وكان ظرفا له لأن الحدث وقع فيه، و (فوق منضدة) احتوى الكتاب، وقد حل فيه، وهكذا. ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 399، وانظر الأشموني 2/ 126، ابن عقيل 1/ 196 (¬2) المقتضب 3/ 102 (¬3) سيبويه 1/ 201، انظر 1/ 114 (¬4) انظر "حاشية الخضري" 1/ 196

ولا بد أن يذكروا أنه فضلة وإلا فنحو (انْطُلقَ يومان) و (سوفر يومُ الخميس) متضمن معنى (في) وليس ظرفا وإنما هو نائب فاعل. ومعنى الاطراد هو ان تتعدي إليه سائر الأفعال، مع بقاء تضمنه لذلك الحرف (¬1). وإيضاح ذلك أنك تقول: (جلست فوق المنضدة) و (نمت فوق السرير) و (أكلت فوق السطح) و (بعت الحاجة فوق الحصان) و (صببت الماء فوق رأسه) فأنا نجد أن كلمة (فوق) تعدت إليها أفعال متعددة، وقد بقيت متضمن لمعنى (في)، بخلاف قولك (دخلت البيت) فالمعنى دخلت في البيت فـ (البيت) هنا متضمن معنى (في)، ولكنه غير مطرد في سائر الأفعال، فلا تقول (بعت البيت) بمعنى بعت في البيت ولا (أكلت البيت) بمعنى أكلت في البيت ولا (نمت البيت) بمعنى نمت في البيت، ولا (قرأت البيت) بعنى قرأت في البيت (¬2)، فالبيت لا يسمى ظرفا لأنه لا يتضمن معنى (في) باطراد أي في جميع الأفعال. وعلى هذا يلزم إخراج أسماء المقادير من الظرفية، كالفرسخ والميل، فإنهما لا يطرد تعدي الأفعال إليها، وإنما تتعدى إليها أفعال السير خصوصا (¬3). فإنك تقول (سرت ميلا) و (ركضت فرسخا) ولا تقول (بعت ميلا) ولا (جلست ميلا) ولا (نسيت ميلا). كما يلزم أن يخرج نحو (جلست مجلس محمد) أي ما صيغ من أسماء المكان والزمان، فإنها لا تنصب على الظرفية إلا إذا تعدي إليها ما اجتمع معها من مادتها (¬4)، فلا يقال: (نمت مجلس محمد)، ولا (أكلت مجلس محمد) وهما مستثنيان عند النحاة. ¬

_ (¬1) حاشية الخضري 1/ 196، الأشموني 2/ 126 (¬2) انظر الأشموني 2/ 126 (¬3) حاشية يس على التصريح 1/ 240 (¬4) انظر حاشية الصبان 2/ 126

ونعود إلى تضمن الظرف معنى (في) فقد ذكرنا أن الظرف عند النحاة ما تضمن معنى (في) باطراد، وفي هذا نظر، فإن من الظرف ما لا يتضمن معنى (في) بل إذا قدرت هذا الحرف معه تغير المعنى وذلك نحو قوله: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} [البقرة: 96]، فإنه لا يصح أن تقول: يعمر في ألف سنة، لأن المعنى إنما هو يعمر ألف سنة، لا في ألف سنة، والفرق واضح بين المعنيين فإنك إذا قلت (عمرت الدار في سنتين) كان المعنى قد أنه استغرق لتعميرها مدة سنتين، وأما يعمر ألف سنة فمعناه يبقى ألف سنة، ونحو قوله تعالى: {قال قائل منهم كم لبثم قالوا لبثنا يوما او بعض يوم} [الكهف: 19]، فليس المعنى أنه لبث في يوم أو في بعض يوم، ومثله أن تقول (جلست في القاعة خمسين دقيقة) فلا يصح أن يقال (في خمسين) وتقول: (سرت خمسة أميال) ولا يصح في خمسة اميال، ونحو أن تقول (فعلت هذا سبعة أيام) و (فعلت هذا في سبعة أيام) فإن معنى الجملة الأولى انني كررت الفعل سبعة أيام، ومعنى الثانية انه استغرق فعله سبعة أيام. ونحو قوله تعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: : 20]، وقوله: {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون} [فصلت 38]، فالأولى معناها يسبحون الأبد لا ينقطعون ولا يفترون، والثانية معناها أنهم يسبحون في هذين الوقتين كما تقول (أنام في الليل والنهار) أي في هذين الوقتين وأدرس في الليل والنهار، أي في هذين الوقتين، وليس التدريس مستمرا لا يفتر بحلاف قولك: أدرس الليل والنهار، فإن معناه الاستمرار، فإن الأولى جواب لمتى، والثانية جواب لكم، وما كان جواب (كم) لا يكون العمل فيه إلا متصلا بخلاف (متى) (¬1). فليس الظرف إذن ما يتضمن (في) باطراد فحسب، فهذا النوع واحد من الظرف، وإنما الظرف على ثلاثة أقسام فما أرى: 1 - معنى (في) أي ما حل فيه الحدث، وذلك نحو جئت يوم الخميس وسافرت يوم الجمعة. ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 110

2 - ما دل على مدة أو مقدار زمان الحدث، أو مكانه وذلك نحو {سخرها عليهم سبع ليال} [الحاقة: 7]، {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} [البقرة: 96]. وسرت يومين، وسرت ميلين، وفسح له مد البصر، وانتظرني صلاة ركعتين أي مقدار زمان ذلك، أو مكانه. 3 - ما دل على عدد أزمنة الحدث، أو أمكنته نحو أن تقول (فعلت هذا سبعة أيام) أي تكرر الحدث في سبعة أيام فهذا ليس مبينا لمدة الحدث وإنما لعدد أزمنة الحدث، ونحو (جلست خمسة مجالس) أي تكرر الحدث في خمسة أمكنة، قال تعالى: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} [الجن: 9]. والذي ينطبق عليه حد النحاة هو القسم الأول، وأما الثاني والثالث لا ينطبق عليها الحد، ولذا نرى أن الأولى أن يحد الظرف بما يأتي: " اسم فضلة يدل على زمان، أو مكان وقوع الحدث، أو مقدارهما أو عددهما". فحد النحاة لا يشمل إلا ثلث المفعول فيه وهو القسم الأول. وعند الكوفيين، أن ما يكون العمل في جميعه، نحو {سخرها عليه سبع ليال} [الحاقة: 7]، ونحو (جلست خمسين دقيقة) ليس ظرفا، وإنما هو ينتصب انتصاب المشبه بالمفعول " لأن الظرف عندهم ما انتصب على تقدير (في) وإذا عم الفعل الظرف لم يتقدر عندهم فيه (في) لأن (في) يقتضي عنده التبعيض، وإنما جعلوه مشبها بالمفعول لا مفعولا لأنهم رأوه ينتصب بعد الأفعال اللازمة، قال أبو حيان، وما ذهبوا إليه باطل لأنهم بنوه على أن (في) تقتضي التبعيض، وإنما هي للوعاء قال تعالى {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات} [فصلت: 16]، فأدخل (في) على الأيا والفعل واقع في جميعها بدليل {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما} وقال: {فترى القوم فيها صرعى} فأدخل (في) على ضمير الأيام والليالي، مع أن الرؤية متصلة في جميعها (¬1). ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 198

ويمكن رد أبي حيان بأن الآية ذكرت الأيام منكرة والأيام النحسات كثيرة وأيام عاد منها فتكون للتبعيض. ويرد الكوفيون بنحو قولنا (بنيت الدار في سبعة ايام) وقولنا (فعلت هذا في ساعتين) فإنها تفيد الاستغراق لا التبعيض، ومنه قوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} [الأعراف: 54] ونرى أن تسمية هذا الباب بـ (الزمان والمكان) أولى من تسمية الظرف لما ذكر في أول الباب. وقد يرعض سؤال في هذا المجال فيقال: قد نصرح بـ (في) أحيانًا وقد نسقطها في التعبير الواحد نحو (حضر ليلا) و (حضر في ليل) فهل هناك من فرق بينهما وسنجمل طرفا من الاختلاف بينهما، وإن كنا قد ذكرنا قبل قليل طرفا من الخلاف بين التصريح بـ (في) وعدمه: 1 - إن (في) تفيد الحلول نصا وحذفها ليس فيه تنصيص على الحلول، تقول: هو في السوق، والزيت في القارورة، وأكلت في الإناء فجعلت (في) هذه المحال ظروفا لما فيها، ولو حذفتها لم يفهم المعنى، فهي تجعل ما لا يصلح أن يكون ظرفا اصطلاحا صالحا للظرفية. ونحوه أن تقول: (نحن في وقت طيب) و (نحن في زمن كله خير) ولا يصح إسقاطها فلا يصح ان تقول: (نحن وقتا طيبا وزمنا كله خير) لأنه ليس فيه تنصيص على الحلول. 2 - قد يفيد ذكرها استمرار الحدث طوال الزمان المذكور، بخلاف حذفها نحو قولنا (فعلت هذا في سبعة ايام) و (فعلت هذا سبعة أيام) فإن ذكرها أفاد حلول الحدث في هذه الأزمنة، أي استغراق الحدث سبعة أيام، وأما حذفها فليس فيه هذا المعنى، بل المعنى الحدث تكرر في سبعة أيام.

3 - قد يفيد ذكرها النص على توقيت الحدث وإما عدم الذكر فقد يفيد استمرار الحدث وعدم انقطاعه فالأول جوا (متى) والثاني جواب (كم). وإيضاح ذلك أن الظرف على ضربين: ما يصلح أن يكون جوابا لكم، وما يصلح أن يكون جوابا لمتى. فما كان جوابا لكم استغرقه الحدث، أن إمكن ذلك " كما إذا قيل لك: كم سرت؟ فقلت شهرا. استغرق السير جميع الشهر ليله ونهاره، إلا أن تقصد المبالغة والتجوز وكذلك إذا قلت: شهر رمضان فإن لم يمكن استغراق الجميع، استغرق منه ما أمكن، كما تقول: شهرا في جواب كم صمت؟ وكم سريت؟ فالأول يعم جميع أيامه، والثاني جميع لياليه (¬1). وجاء في (الهمع): " ما صلح أن يقع جوابا لكم، ولا يصلح أن يكون جوابا لمتى، هو ما كان موقتا غير معرف ولا مخصص بصفة، نحو ثلاثة أيام، ويومين فإنه يصلح أن يكون جواب (كم سرت؟ ) فهذا النوع يكون الفعل في جميعه، إما تعميما وإما تقسيطا، فإذا قلت: سرت يومين، أو ثلاثة أيام، فالسير واقع في اليومين: أو في الثلاثة من الأول إلى الآخر وقد يكون في كل واحد من اليومين أو الثلاثة وإن لم يعم من أول اليوم إلى آخره، ومن التعميم صمت ثلاثة أيام، ومن التقسيط: أذنت ثلاثة أيام، ومن الصالح لهما تهجدت ثلاث ليال، ولا يجوز أن يكون الفعل في أحد الأيام أو الليالي .. وما صلح أن تقع جوابًا لمتى، فإن كان اسم شهر غير مضاف إليه لفظة شهر، فكذلك يكون الفعل واقعا في جميعه تعميما، أو تقسيطا، نحو سرت المحرم، وسرت صفر يحتمل الأمرين .. وإن كان غير اسم شهر، فالعمل مخصوص ببعضه، نحو متى قدمت؟ فيقال: يوم الجمعة فيكون القدوم في بعضه، وكذا إن كان اسم شهر مضافا إليه لفظ شهر، ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 201

فإنه يجوز أن يكون في بعضه، وفي جميعه نحو قدم زيد شهر رمضان، وصمت شهر رمضان .. وكذلك إذا كان جواب متى، الأبد، والدهر، والليل والنهار، مقرونة بالألف واللام فإنها مثل (رمضان) إذا لم يضف إليه شهر، يكون للتعميم، نحو سير عليه الليل والنهار والدهر والأبد ولا يقال: لقيته الليل والنهار، وأنت تريد لقاءه في ساعة من الساعات، ولا لقيته الدهر والأبد وأنت تريد يومًا فيه، فإن قصدت المبالغة جاز إطلاقه على غير العام، نحو سير عليه الأبد تريد المبالغة مجازا لا تعميم السير في جميع الأبد. وما سوى ما ذكر من جواب متى، إعلام الشهور غير المضاف إليها شهر، والأبد ونحوه، وذلك نحو اليوم والليلة، ويوم كذا، وليلة كذا، وأسماء الأيام، وأشباه ذلك يجوز فيه التعميم والتبعيض، إن صلح له، فالأول نحو قام زيد اليوم، والثاني نحو لقيت زيدا اليوم، وتجعلونها نحو سار زيد اليوم (¬1). وجاء في (كتاب سيبويه): " ومما لا يكون العمل فيه من الظرف إلا متصلا في الظرف كله قولك سير عليه الدهر، والليل والنهار والأبد وهذا جواب لقوله: كم سير عليه؟ إذا جعله ظرفا لأنه يريد في كم سير عليه؟ فتقول مجيبا له: الليل والنهار، والأبد على معنى في الليل والنهار والأبد، ويدلك على أنه لا يجوز أن يجعل العمل في يوم دون الأيام، وفي ساعة دون الساعات، أنك لا تقول: لقيته الدهر، والأبد وأنت تريد يوما منه بعينه، ولا لقيته الليل وأنت تريد لقاءه في ساعة دون الساعات وكذلك النهار إلا أن تريد سير عليه الدهر أجمع، والليل كله على التكثير .. وإنما جاء هذا على جواب كم، لأنه حمله على عدة الأيام والليالي" (¬2). ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 197 - 198 (¬2) سيبويه 1/ 110 - 111، وانظر الأصول لابن السراج 1/ 229

وأما ما كان جوابا لمتى، فالمراد به التوقيت قال سيبويه: " وأما متى فإنما تريد بها أن يوقت لك وقتا ولا تريد بها عددا فإنما الجواب فيه: اليوم أو يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا، أو الآن، أو حينئذ، وأشباه هذا" (¬1). وقال: " هذا باب وقوع الاسم ظروفا، وتصحيح اللفظ على المعنى، فمن ذلك قولك: متى يسار عليه؟ وهو يجعله ظرفا فيقول: اليوم، او غدا، أو بعد غدا، أو يوم الجعة: وتقول: متى سير عليه؟ فيقول أمس وأول من أمس، فيكون ظرفا، على أنه يكون السير في ساعة دون سائر ساعات اليوم، أو حين دون سائر أحيان اليوم. ويكون أيضا على أنه يكون السير في اليوم كله لأنك قد تقول: سير عليه في اليوم، ويسار في يوم الجمعة، والسير كان فيه كله" (¬2). فما كان جوابا لمتى، أفاد التوقيت نحو (وصلت إلى البيت صباح الجمعة)، ولا يراد به الاستمرار، أما إذا كان الحدث صالحا للاستمرار، فهو أمر يعود إلى الحدث نفسه، لا إلى التوقيت. والخلاصة أن من الجمل ما يقع جوابا لكم فقط، نحو قولك: (سرت شهرا) والمراد به استغراق الحدث ما أمكن، ومنها ما يقع جوابا لمتى فقط، نحو (وصلت يوم الجمعة أو في يوم الجمعة) ويراد به التوقيت فقط. ومنها ما يصلح أن يقع جوابا لهما، نحو قولك (سرت المحرم) و (سرت يوم الجمعة) فإن قدرتها جوابا لمتى فقد أردت بها ذكر الوقت فقط، ولا يهمنا تطاول الحدث وانقطاعه، وإن كان جوابا لكم فالمراد به تعيين مدة السير، لا وقته وهو هنا استغراق الوقت فإن ذكرت (في) فقد نصصت على التوقيت نحو: سرت يوم الجمعة. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 111 (¬2) سيبويه 1/ 110

4 - إن ذكرها يفيد عدم تعيين الزمن في قسم من التعبيرات، وحذفها يفيد التعيين وذلك نحو قولك: جئت صباحا، ومساء، وليلا وعشاء، فإن هذا لا يقال إلا إذا كان الوقت معينا. فتقول (جئت صباحا) إذا أردت صباح يومك بعينه، أو صباح يوم آخر بعينه، فإذا قلت (خرجت في صباح اليوم) كان اليوم غير معين. جاء في (كتاب سيبويه): " ومثل ذلك صيد عليه صباحًا، ومساء، وعشية، وعشاء إذا أردت عشاء يومك، ومساء، ليلتك لأنهم لم يستعملوه على هذا المعنى إلا ظرفا .. وكذلك سير عليه ليلا ونهارا إذا أردت ليل ليلتك ونهار نهارك" (¬1). وجاء في (الأمالي الشجرية): " القسم الثالث وهو الذي ينصرف ولا يتصرف أسماء أوقات الزموها الظرفية، فلم يرفعوها ولم يجروها، وهي صباح، وعشاء، وضحوة، وعتمة، تقول: خرجت عتمة، وخرج زيد ضحوة، وعشاء إذا أردت ضحوة يومك، أو يوم غيره بعينه وكذلك تريد عتمة ليلتك، أو ليلة بعينها. فلو رفعت شيئا من هذا أو خفضته فقلت: سير على عتمة، أو ضحوة، أو خرجت في عتمة، ولم يجز لأنهم لم يرفعوه ولم يجروه" (¬2). 5 - إن حذفها قد يفيد اقتران الحدث بالظرف، وذكرها يدل على حلول الحدث في الظرف، وذلك نحو قولك (عشنا زمنا طيبا) و (عشنا في زمن طيب) فالأول يدل على اقتران الحدث بالظرف، أي هم عاشوا الزمن الطيب، والثاني قد يفيد ذاك وقد يكون لمعنى آخر، هو أن الزمن الذي عاشوا فيه كان طيبا وإن لم يقترن خصوص عيشهم بالطيب، ونحوه أن نقول: (صمنا في أيام ضاحكة أياما باكية) فهذا يدل على أنه اقترن صومهم بزمن البكاء، ولكن عموم الزمن كان ضاحكا، كما تقول: (عشنا في وقت سعيد أياما دامية) فقد اقترن عيشهم بالزمن الدامي، وإن كان الزمن العام سعيدا. 6 - قد يكون ذكرها للتنصيص على الظرفية، وذلك إذا كان حذفها يؤدي إلى احتمال ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 115، وانظر الأصول 1/ 230، الهمع 1/ 196 (¬2) الأمالي الشجرية 2/ 251

ما ينصب على الظرفية

المفعولية والظرفية، نحو قولك (قد أنسى يوم السفر) فهذا يحتمل أنك تنسى اليوم نفسه فيكون مفعولا به، ويحتمل أن يحصل النسيان عندك في يوم السفر، فيكون ظرفا له، فإن أردت التنصيص على الظرفية قلت (قد أنسى في يوم السفر). ما ينصب على الظرفية: اسم المكان لا يقبل النصب على الظرفية من أسماء المكان إلا ثلاثة أقسام هي: 1 - المبهم: كالجهات، نحو فوق، وتحت ويمين وشمال والمراد بالمبهم هنا ما ليس له حدود محصورة، فعندما تقول: (هو فوقك) ليس للفوق حدود، فهو يمتد من رأسك إلى أعلى، فالسقف فوقنا، والسماء فوقنا، قال تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنينها} [ق: 6]، وقال: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} [الملك: 19]، ثم هذه الجهات نسبية، فما يكون فوقا لك، قد يكون تحتا لشيء آخر، وما يكون يمينا لك قد يكون شمالا لشيء آخر، وما يكون أماما لك قد يكون وراء لشيء آخر، تختلف باختلاف الكائن (¬1). جاء في (التصريح): " قال أبو البقاء في شرح لمع ابن جني: الابهام يحصل في المكان من وجهين: أحدهما أن لا يلزم مسماه، ألا ترى أن خلفك قدام لغيرك وقد تتحول عن تلك الجهة فيصير ما كان خلفك جهة أخرى لك، لأن الجهات تختلف باختلاف الكائن في المكان فهي جهات له وليس كل واحدة منهما حقيقة منفردة. والوجه الثاني أن هذه الجهات لا أمد لها معلوم، فخلفك اسم لما وراء ظهرك إلى آخر الدنيا" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر حاشية الخضري 1/ 198، الأشموني 2/ 129، ابن يعيش 2/ 43 (¬2) التصريح 1/ 341

فنحو فوق محمد، ويمين سعيد، وإمام خالد، مبهمة ولا تكون مختصة بسبب الإضافة بل هي مع إضافتها مبهمة لما ذكرنا. أما المختص أو المحدود، فهو ماله حدود محصورة ونهايات مضبوطة كالدار والسوق فلا تكون ظروفا، فلا يصح أن تقول: نمت البيت، وبعت السوق، بل لابد أن تأتي بفي، ومن المختص جوف الدار، وداخل المسجد، وخارج البيت، فهذه مختصة، لأن لها حدودا ونهايات، فلا تقع ظروفا، فلا تقول هو داخل المسجد، ولا خارج البيت، بل يلزم أن تقول: هو في داخل المسجد، وفي جوف البيت (¬1). 2 - المقادير: نحو ميل وفرسخ، فهي عند الجمهور مبهمة، وعند بعضهم ليست مبهمة لأنها معلومة المقدار (¬2). والصواب أنها شبه مبهمة، فهي معلومة المقدار، غير أنها تشبه المبهم في عدم التعيين وذلك إن الميل مثلا، يختلف مكان بدئه ونهايته وجهته (¬3). فهو ليس كالدار، والمدرسة، والمسجد، فإن لها حدودا معلومة، ونهايات محصورة، ولا كالجهات، لأنها لا تنتهي فأنت تبدأ بالمقدار، من أي مكان، وإلى أية جهة، فقد تبدأ به من هنا، أو هناك، وإلى جهة اليمين، أو اليسار أو الأعلى، غير أن مسافته مضبوطة محدودة، ولذا فهو شبه مبهم. 3 - أسماء المكان بشرط أن يكون الواقع فيها من لفظها، نحو جلست مجلس خالد وقعدت مقعد سعيد، فلو كان الواقع فيها من غير لفظها تعين جرها بفي، نحو نمت في مجلس خالد، وبعت في مقعد سعيد (¬4). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 204، المقتضب 3/ 348 - 349 (¬2) انظر ابن عقيل 1/ 198 (¬3) انظر حاشية الخضري 1/ 198، حاشية الصبان 2/ 129 (¬4) ابن عقيل 1/ 198، التصريح 1/ 341، الأشموني 2/ 128، حاشية الخضري 1/ 197

وهذه الأماكن مختصة معلومة، لأنها معلومة محدودة غير أن العرب أجرتها مجرى غير المختص، وشذ هو منى منزلة الشغاف، ومناط الثريا ومقعد الأزار، وتعبيرات أخرى قليلة (¬1). اسم الزمان: اما إسم الزمان فإنه يقبل النصب على الظرفية، مبهما كان أو غير مبهم، فالزمان المبهم ما دل على زمان غير مقدر، ولا حد له يحصره، نحو حين، وزمن، ومدة، ووقت، وانتصابه على أنه ظرف مؤكد للزمن الذي تضمنه الفعل، نحو (سرت حينا) ومدة فالسير لا يكون إلا في مدة، ونحو قوله تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} [الإسراء: 1]، وقوله {فأسر بعبادي ليلا} [الدخان: 23]، لأن الإسراء لا يكون إلا في الليل (¬2). وقد ذكرنا في باب المفعول المطلق، أن المفعول المطلق المؤكد، إنما هو مؤكد لمصدر الفاعل، وإن من الظرف ما يكون مؤكدا للزمن الذي تضمنه الفعل. أما المختص من الزمان فماله نهاية تحصره، بأن يكون معلوم الوقت، أو المقدار، سواء كان معرفة، أم نكرة نحو يوم وليلة وشهر ويوم وجمعة والصيف والشتاء، نحو سرت يوما أو يومين، وصمت يوم الخميس، وقمت ليلة القدر. وقد يكون مقدرا غير معلوم، نحو سرت زمنا طويلا، وزمنا قليلا (¬3) وقد يكون اللفظ الواحد مرة مختصا، ومرة مبهما، بحسب القصد فمثلا (يوم) إذا أريد به المدة المعلومة، كان مختصا نحو صمت يوما، وسرت يوما، وقد يكون مبهما وذلك إذا لم يرد به المدة المعلومة، نحو خرجت يوما إلى البصرة، ونحو ليلة وساعة ولحظة، ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 205 - 206، التصريح 1/ 134 - 342، ابن عقيل 1/ 198 (¬2) انظر سيبويه 1/ 195 حاشية الخضري 1/ 197، الصبان 2/ 128 (¬3) انظر الهمع 1/ 496، حاشية الخضري 1/ 197، الرضي على الكافية 1/ 99

ما ينوب عن الظرف

كقولك (نمت ليلة) و (خرجت ليلة)، فالأولى مختصة والثانية مبهمة، وكلاهما يقبل النصب على الظرفية الزمانية. ما ينوب عن الظرف: مما ينوب عن الظرف صفته نحو: {ومن كفر فأمتعه قليلا} [البقرة: 126]، أي زمنا قليلا ويحتمل أن يكون المعنى تمتيعا قليلا، فيكون نائبا عن المصدر وهو ما يفيد معنيين كما ذكرنا في حث المفعول المطلق، ونحوه جلست شرقي الدار أي مكانا شرقي الدار. ومما ينوب عنه العدد، نحو قوله تعالى: {بل لبثت مائة عام} [البقرة: 259]، ونحو (سرت عشرين يوما) وسرت خمسة أميال، كما ينوب عنه كلية الظرف وجزئيته، ونحو مشيت كل اليوم، وجميع اليوم، وكل المسافة، وجميع الميل نحو (لبثنا يوما أو بعض يوم) [الكهف]: وسرت بعض الميل، وجزءا من الميل (¬1) واسم الإشارة نحو جئت هذا الوقت، وخرج محمد هذه الساعة، وسرت هذه المسافة. والمصدر قد ينوب عن الزمان، وشرطه افهام وقت أو مقدار، فالأول نحو (جئت طلوع الشمس، وصلاة العصر) أي وقت طلوع الشمس، ووقت صلاة العصر. والثاني نحو (انتظرته حلب ناقة)، وصلاة ركعتين، أي مقدار حلب ناقة، ومقدار صلاة ركعتين، وينوب عن ظرف المكان مفهما مكانا أو مقدرا (¬2). نحو جلست قربك، أي مكان قربك، وفسح له مد البصر، أي مقدار مد البصر، وركضت رمية سهم، أي مقدار رمية سهم. وهو في ظرف الزمان أكثر. وقد يقام اسم عين مقامه، على تقدير مضاف محذوف نحو (لا أكلمك القارظين) أي مدة غيبتها، والقارضان رجلان خرجا يجنيان القرظ، ولم يعودا فضرب بهما المثل. ¬

_ (¬1) الأشموني 2/ 123 - 134، التصريح 1/ 328 (¬2) انظر الأشوني: 2/ 132، حاشية الخضري 1/ 200 التصريح 1/ 238، الرضي على الكافية 1/ 205

ونحو لا آتيك الفرقدين أي مدة بقائهما (¬1). وذكروا أنه تنوب عن ظرف الزمان، ألفاظ مسموعة توسعوا فيها، نحو: أحقا أنك ذاهب؟ وذهب المبرد إلى أن حقا مصدر والصدر الؤول فاعله (¬2)، وإليه أميل. الظرف التصرف وغير المتصرف: ينقسم اسم الزمان والمكان إلى متصرف وغير متصرف، فالمتصرف من ظروف الزمان أو المكان ما استعمل ظرفا وغير ظرف، كيوم ومكان، فإن كل واحد منهما يستعمل ظرفا نحو سرت يوما، وجلست مكانا ويستعمل مبتدأ نحو يوم الجمعة يوم مبارك ومكانك حسن، وفاعلا نحو جاء يوم الجمعة وارتفع كانك (¬3). وغير المتصرف ما لا يستعل إلا ظرفا أولا يفارق الظرفية إلا إلى الجر بمن فمن غير المتصرف قط وعوض، وذات يوم، وذات ليلة من ذلك سحر، إذا أردت به سحر يوم بعينه تقول: (خرجت يوم الجمعة سحر) فإن لم ترده من يوم بعينه، فهو متصرف قال تعالى {إلا آل لوط نجيناهم بسحر} [القمر: 34]، ومثله صباحا ومساء وعشية، وعشاء، وليلا ونهارا إذا أردت صباح يومك، ومساءه وعشيته، وعشاءه وليله ونهاره أو يوما آخر بعينه تقول: جئت يوم السبت عشاء، فلا يكون إلا ظرفا، وجئت يوم الخميس صباحا أو مساء أو ليلا قال تعالى: {وجاءوا أباهم عشاء يبكون} [يوسف: 16]، أي في عشاء ذلك اليوم الذي خرجوا فيه، فهذا لا يكون إلا ظرفا، فلا يصح أن تقول: هذا صباح مشرق، وهذا ليل طويل، وأقبل أخوك بليل، وهو يؤذن بليل، قال سيبويه: " ومثل ذلك صيد عليه صباحا ومساء، وعشية وعشاء، إذا أردت عشاء يومك، ومساء ليلتك، لأنهم لم يستعملوه على هذا المعنى إلا ظرفا .. وكذلك سير عليه ليلا ونهارا إذا أردت ليل ليلتك ونهار نهارك" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر الرضي 1/ 205، التصريح 1/ 238، حاشية الخضري 1/ 200، ابن ناظم 115 (¬2) الأشموني 2/ 133 - 134، التصريح 1/ 338، حاشية الخضري 1/ 200 (¬3) ابن عقيل 1/ 199، وانظر التصريح 1/ 342، الأشموني 2/ 131 - 132 (¬4) سيبويه 2/ 41 - 42، الهمع 1/ 196، الرضي على الكافية 1/ 203 - 204

وقال: " وتقول سير عليه ضحوة من الضحوات، إذا لم تعن ضحوة يومك، لأنهما بمنزلة قولك ساعة من الساعات، وكذلك قولك: سير عليه عتمة من الليل، لأنك تقول: أتانا بعدما ذهبت عتمة من الليل" (¬1). أولا يفارقها إلا الجر بمن في الأكثر، نحو عند، ولدن، وقبل، وبعد، وفوق، وتحت (¬2) نحو قوله تعالى: {آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} [الكهف: 65]، وقد تجر (متى) بإلى، وحتى، وتنجر (أين) بإلى، ومن مع عدم تصرفهما. وربما وقعت بعض الظروف ذات التصرف الناقص مفعولا به، ومضافا إليه نحو (إذ)، قال تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض}، [الأنفال: 26] وقال: {بعد إذ أنزلت إليك} [القصص: 87]، ونه يومئذ وحينئذ (¬3). " واختلف في (من) الداخلة على قبل، وبعد، فقال الجمهور: لابتداء الغاية ورد بأنها لا تدخل عندهم على الزمان .. وأجيب بأنهما غير متأصلين في الظرفية، وإنما هما في الأصل صفتان للزمان، وزعم ابن مالك أنها زائدة، وذلك مبني على قول الأخفش في عدم الإشتراط لزيادتها" (¬4). وجاء في (لسان العرب): " قال الجوهري: وقد تدخل (من) توكيدا لغويا قال الأخفش ومنه قوله تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} (¬5) [الزمر: 75]. وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " ومن الداخلة على الظروف غير المتصرفة أكثره بمعنى (في) نحو جئت من قبلك، ومن بعدك .. وأما نحو جئت من عندك ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 112 (¬2) جاء في حاشية التصريح 1/ 199: " أجاز بعضهم تصرفهما في نحو فوقك رأسك وتحتك رجلاك بالرفع على الابتداء والخبر بخلاف فوقك قلنسوتك وتحت نعلك فالبنصب للفرق بين الرأس والرجل وغيرهما لكن المسموع نصبهما في ذلك كما حكاه الأخفش". (¬3) انظر الرضي على الكافية 1/ 202، التصريح 342، الأشموني 2/ 131 - 132 (¬4) المغني 1/ 325 - 326، وانظر التصريح 1/ 342، الهمع 2/ 36 (¬5) لسان العرب 17/ 310 (من)

{هب لي من لدنك} [آل عمران: 38]، فلا ابتداء الغاية" (¬1). ومن هذه يتبين أن هناك ثلاثة آراء في (من) الداخلة على بعض من الظروف غير المتصرفة: 1 - أنها لابتداء الغاية. 2 - أنها بعنى في. 3 - زائدة التوكيد والذي يبدو لي أن الأمر هو الراجح، وليست بمعنى (في)، لأن الأصل عدم النيابة، وليست بزائدة لأن الأصل عدم الزيادة، وإذا أمكن عدم إخراجها من معناها الذي وضعت له فهو الأولى، ولا تصرف عن معناها الأساسي إلا إذا تعذر إبقاؤها عليه. وأرى أنه يمكن الإبقاء على معنى الابتداء في هذه الظروف، ولكن قد يتضح معنى الابتداء نحو قوله تعالى: {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [المائدة: 66]، و (انطلقت من تحت الشجرة) فإنه لا يصح في نحو ذلك أن تكون بمعنى (في)، ولا زائدة لأن المعنى يكون على ذلك (لأكلوا من فوقهم وتحت أرجلهم) [المائدة: 66]، و (انطلقت من تحت الشجرة)، فإنه لا يصح في نحو ذلك أن تكون بمعنى (في)، ولا زائدة لأن المعنى يكون على ذلك (لأكلوا من فوقهم وتحت ارجلهم) وهو ممتنع، وكذلك قولنا (انطلقت من تحت الشجرة)، وذلك لأن مبدأ الإنطلاق من هذا المكان، والمعنى يتغير بتقديرها بـ (في) أو بجعلها زائدة. وأحيانا يدق المعنى حتى يحتاج إلى غوص واستخراج، وفي نحو هذا يحصل الخلاف، ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: {والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا} [النحل: 16]. وقوله: {ومنكم من يتوفي ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا بهيج} [الحج: 5]. ¬

_ (¬1) الرضي 1/ 202

فالأولى بدون (من) والثانية بمن، وقد يبدو ان (من) ههنا زائدة زيادة ظاهرة، ولكن لدي التدقيق يتبين أنها ليست زائدة، ومن مقارنة السياقين يتبين ذلك. قال تعالى في سورة النحل: {وأوحي ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناء إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا إن الله عليم قدير} [النحل: 68 - 70]. وقال في سورة الحج: {يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفي ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبت من كل زوج بهيج} [الحج: 5]. فأنت ترى أن الآية الثانية رد على من هو في ريب من البعث، وإيضاح بالغ قدرة الله له وكيف أنه خلقه من التراب بشرا فطوره إلى أن يرد إلى أرذل العمل فيجهل من بعد العلم، إلى غير ذلك، من مظاهر قدرة الله، فذكر (من) هنا بخلاف آية النحل لسر لطيف وهو أن قوله (لكيلا يعلم من بعد علمه شيئا) معناه أنه الجهل يبدأ من بعد العلم بلا مهلة، فهناك حالة علم تبدأ منها حالة الجهل التام، أما قوله (بعد علم) فيحتمل الزمن القريب والبعيد، فهو كقولك جئت بعد خالد، يحتمل الزمن القريب، والبعيد وأما من فقد أفادت الابتداء، أي يبدأ الجهل المباشر بعد العلم، بلا مهلة ولا فاصل، وهو أدل على قدرة الله وذلك لأنه انتقال مباشر من العلم إلى الجهل، أما قوله (بعد علم) فيحتمل أن مرت عليه مدة طويلة من غياب بعض المعلومات ونسيانها إلى الجهل، فمعنى (من بعد علم) أنه قادر على أن يغير بأقرب وقت من حال إلى حال، وهو المناسب لمقام تبيان القدرة لمنكري البعث.

ومن قال بالزيادة للتوكيد، لأن المقام مقام توكيد، فقوله ليس بمطرح، لكن الأولى عدم إخراجها عن معناها ما أمكن. ومثله قوله تعالى: {يحي الأرض بعد موتها} [الحديد: 17]، وقوله: {فأحيا به الأرض من بعد موتها} [العنكبوت: 63]. إن آيات وردت من دون (من) في مواطن عدة من القرآن وبـ (من) في موطن واحد ويتضح من السياق سبب ذلك. قال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة: 164]. وقال: {والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لأية لقوم يسمعون} [النحل: 65]. وقال: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحي تظهرون، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} [الروم: 17/ 19]. وقال: {ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [الروم: 24]. وقال: {فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير} [الروم: 50]، وقال: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} [فاطر: 9].

وقال: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين. وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصرف الرياح آيات لقوم يعقلون} [الجاثية: 3 - 5]. وقال: {اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون} [الحديد: 17]. في حين قال: {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقلون الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون} [العنكبوت: 63]. فأنت ترى أنه لم يذكر (من) في ثمانية مواط وذكرها في موطن واحد، والسبب واضح وهو أن الآية في سورة العنكبوت تدور حول المشركين الذين يشركون بالله، ويعبدون معه آلهة أخرى، وهي تعجيب من عقولهم، وإظهار لمقدار تفكيرهم وباطلهم، فهم يعبدون آلهة من الحجر، أو من غيره في حين لو سألتهم: {من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} [العنكبوت: 61]، ولئن سألتهم من نزل السماء ماء فأحيا به الأرض ليقولن الله. فهذا السياق يختلف عن كل ما سبق وهو نظير ما مر في منكري البعث، فأدخل (من) في هذا الموطن للدلالة على مقدار قدره الله وعظمها، وذلك أن قوله (أحيا الأرض بعد موتها) يعني في الزمن الذي هو بعد الموت، وهو يحتمل الزمن القريب والبعيد، أي يحصل الأحياء بعد إنزال الماء، وقد يطول الزمن بعده أو يقصر، كما ذكرنا في (بعد علم). ولكن قوله (أحيا الأرض بعد موتها) معناه، يكون الاحياء بعد الموت بلا مهلة ولا فاصل، ومعنى ذلك أن الله قادر على أن يحيى الميت فورا بلا مهلة، فهو لا يحتاج إلى زمن لاحيائه، وهو أدل على قدرة الله وإن كان كلاهما من قدرة الله وحده، وقد جاء بمن في هذا المقام للدلالة على أنهم يشاهدون ذلك، ويقرون أن الله يحيى الأرض من الموت، بلا مهلة، ومع ذلك يعبدون غيره.

وهو نظير ما سبق فهي ليست زائدة للتوكيد، ولكن لمعنى الابتداء، ولو قال قائل أنها هنا أدخلت توكيدا لأن المقام مقام توكيد، لكان في قوله مندوحة، ولكن فالأولى ابقاؤها على معناه الذي أوضحناه. ومثله قوله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109]. وقوله: {يا أيها الذين أمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران: 100]. ففي الآية الأولى ذكر (من) وفي آية آل عمران لم يذكرها وذلك أنه ذكر في الآية الأولى أن كثيرا من الكفار يتمنون لو أنهم ردوا المسلمين من بعد الإيمان كافرين، أي بلا مهلة، حسدا من عند أنفسهم، فهم يتمنون الاسراع في تفكيرهم، وأن ينقلوهم من حالة الإيمان إلى حالة الكفر فورا، في حين أن آية آل عمران تحذير للمسلمين من إطاعة الكافرين، لأنهم ينفثون فيهم أوهامهم وضلالهم، شيئا فشيئا، حتى يردوهم بعد الإيمان كافرين وليس معناه أنهم ينقلونهم فورا من الإيمان إلى الكفر، ولكن معناه أنهم يضلونهم شيئا فشيئا حتى يخرجوا الإيمان من قلوبهم. فالأولى مقام تمن، والثانية مقام التحذير من الإضلال. ومن هذا الباب قوله تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} [البقرة: 55 - 56]، أي لم يتركهم مدة طويلة ميتين، ثم قال: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون. ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} [البقرة: 63 - 64].

وقال: {وإذ أخذ الله ميثاق النبين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، ولتنصرنه قال اقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين. فمن تولى بعد لك فأولئك هم الفاسقون} [آل عمران: 18 - 82]. والفرق واضح وذلك أن آية البقرة في بني إسرائيل، وتعداد نعمه عليهم، وعصيانهم مع ظهور الآيات البينات، فقد قال تعالى: {وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} [البقرة: 15]، فهم بعد أن فرق بهم البحر وأغرق آل فرعون اتخذوا العجل، بلا مدة فاصلة، فجاء بمن قال (من بعده) ولم يقل (بعده)، ثم عفا عنهم من بعد ذلك، ثم إنهم قال لموسى إنهم لن يؤمنوا بعد كل ذلك حتى يروا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فأماتهم، ثم بعثهم، من بعد الموت، ثم رفع فوقهم الطور، ثم تولوا من بعد ذلك فجأة، فما أقسى قلوبهم وما أضلهم، وهذا دليل على تقلب قلوبهم، وتمكن الضلال من نفوسهم، يعصون بعد الآيات فجأة. وليس الأمر كذلك في آية آل عمران، لأن الكلام مع النبيين، وليس المقام مقام تبكيت ولا أنهم يتولون مباشرة من بعد الميثاق، وإنما هو مقام ترهيب وتوعد لمن تولى بعد الميثاق، والفرق واضح بين المقامين. ونحو ذلك قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7]، وقوله: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجال نوحي إليهم فسئلوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43]. فلم يذكر (من) في آية الأنبياء، وذكرها في آية النحل، وسر ذلك أن (من) تفيد الابتداء كما ذكرنا، أي أن الأمر كذلك ابتداء من قبلك إلى القديم، بخلاف أية الأنبياء فهي ليست لهذا المعنى، والذي يدل على ذلك سياق الآيتين.

جاء في النحل: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} [النحل: 26]. وقال: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباءنا ولا حرمنا من دونه من شيء، كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين. ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}. [النحل: 33 - 36]. فهذا يدل على أن هذا شأن القرى من رسلهم منذ القديم، ثم قال: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسن ولآجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} [النحل: 41]، أي هاجروا من بعد الظلم، فلم يكن فاصل بين الظلم والهجرة، ولو قال (بعد ما ظلموا) لاحتمل أن ثم مدة ليس فيها ظلم لأنه بعد الظلم قد يحتمل الطول والقصر بخلاف قوله (من بعد ما ظلموا). ثم قال: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم .. } أي هذا هو الشأن منذ القديم ابتداء من قبلك إلى الأقدم ثم قال {أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون} [النحل: 45]، وهو فعل مشابهة لفعل الذين من قبلهم (قد مكر الذين من قبلهم) فهو خط واحد من الأول إلى الآخر. وأما سورة الأنبياء فليس فيها مثل هذا المعنى ولا القصد أن هذا شأنهم من القديم وإليك الآيات: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون، قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع

العليم، بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون، ما أمنت قبلهم من قرة أهلكنها أفهم يؤمنون} [الأنبياء: 1 - 6]. فلم يذكر (من) لعدم إرادة الابتداء وإنما هو إخبار أن الذين قبلهم لو يؤمنوا ثم قال: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7]، فاتضح الفرق بين السياقين. وأظن الآن أنه اتضح الفرق بين ذكر (من) وعدمه في مواطن قد يبدو ان الفرق فيها غير ظاهر. فـ (من) تدل على الابتداء، قال تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ويجعلون له أندادا ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها} [فصلت: 9 - 10]، ولم تق (فوقها) لأن كلمة (فوق) تحتمل المسافة القريبة والبعيدة قال تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم} [ق: 6]، وقال: {ورفعنا فوقكم الطور} [البقرة: 63]. وقال: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} [الملك: 19]. ونحو ذلك قوله تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} [الزمر: 75] , وقد جعل الأخفش (من) فيه زائدة، وهي ليست زائدة، ولكنها للابتداء والله أعلم، وذلك أن المعنى أن صفوف الملائكة تبدأ مباشرة من حول العرش، ولو قال (حول العرش) لاحتمل المسافة القريبة والبعيدة، في حين أن (من) أفادت أن الصفوف تبدأ مباشرة من حول العرش. ونحوه قوله تعالى: {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} [الزمر: 16]، ولم يقل (فوقهم) أي أن الظلل تكون ابتداء من فوقهم، ومن تحت أرجلهم بلا فاصل بينها وبينهم، بخلاف ما لو قال فوقهم وتحتهم، لأن ذلك يحتمل المسافة القريبة والبعيدة، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراد كلامه.

الظروف المركبة

الظروف المركبة: من الظروف غير المتصرفة، الظروف المركبة نحو صباح مساء، وليل نهار، ويوم يوم، وحين حين، نحو هو يزورنا صباح مساء، ومعنى (صباح مساء) كل صباح ومساء، وهي مبنية على فتح الجزءين، جاء في (الهمع): " الحق بالممنوع التصرف في التزام النصب على الظرفية ما لم يضف مركب الأحيان، كفلان يزورنا صباح مساء، ويوم يوم أي كل صباح ومساء، وكل يوم .. وقال: آت الرزق يوم يوم فأجمل ... طلبا وابغ للقيامة زادا وهي مبني حينئذ لتضمنه معنى حرف العطف، كخمسة عشر، بخلاف ما إذا أضيف الصدر إلى العجز، فإنه يتصرف فيقع ظرفا وغير ظرف كقوله: ولولا يوم يوم ما أردنا وكذا إذا لم يركب بل عطف نحو فلان يتعاهدنا صباحا ومساء (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وقد استعمل جوازا كخمسة عشر مبنية الجزءين ظروف كيوم يوم، وصباح مساء، وحين حين .. ويجوز أيضا إضافة الصدر من هذه الظروف والأحوال إلى العجز .. إذ يحتمل أن يكون كلها بتقدير حروف العطف وأن لا تكون فإذا قدرنها قلنا أن معنى لقيته يوم يوم وصباح مساء وحين حين أي يوما فيوما وصباحا فمساء وحينا فحينا أي كل يوم وكل صباح، ومساء وكل حين، والفاء يؤدي معنى هذا العموم، كما في قولك انتظرته ساعة ساعة، أي في كل ساعة، إذ فائدة الفاء التعقيب، فيكون المعنى يوما فيوما عقيبة بلا فصل إلى مالا يتناهي .. وإن لم تقدر حرف العطف قلنا أن المعنى يوما بعد يوم، وصباحا بعد مساء، وحينا بعد حين" (¬2). ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 196 - 197 (¬2) الرضي 2/ 101 - 102

وجاء في (الكتاب): "ومثل ذلك أنه ليسار عليه صباح مساء، إنما معناه صباحا، ومساء وليس يريد بقوله صباحا ومساء، وصباحا واحدا، ومساء واحدا، ولكنه يريد صباح أيامه ومساءها (¬1) ". وذهب الحريري في (درة الغواص) إلى أن معنى الإضافة غير معنى التركيب، فقولك: هو يزورنا صباح مساء، معناه أنه يزورنا في الصباح، وأما في قولك: صباح مساء فمعناه هو يزورنا صباحا ومساء، جاء في (درة الغواص): " ومن ذلك أنهم لا يفرقون بين قولهم (زيد يأتينا صباح مساء) على الإضافة، ويأتينا (صباح مساء) على التركيب، وبينهما فرق يختلف المعنى فيه، وهو أن المراد به مع الإضافة أنه يأتي في الصباح وحده، إذ تقدير الكلام يأتينا في صباح مساء، والمراد عند تركيب الإسمين وبنيتهما على الفتح أنه يأتي في الصباح والمساء، وكان الأصل: هو يأتينا صباحا ومساء، فحذفت الواو العاطفة، وركب الاسمان وبنيا على الفتح. لأنه أخف الحركات كما فعل في العدد المركب من أحد عشر إلى تسعة عشر" (¬2). وعند الجمهور أن المعنى في التركيب والإضافة والعطف واحد (¬3). وجاء في (الهمع): أن ابن بري رد على الحريري زعمه هذا (بأن هذا الفرق لم يقله أحد، بل صرح السيرافي بأن (سير عليه صباح مساء) و (صباح مساءِ) و (صباحا ومساء) معناهن واحد، ثم قال: وليس (سير عليه صباح مساء) مثل قولك (ضربت غلامَ زيدٍ) في أن السير لا يكون إلا في الصباح، كما شهر أن الضرب لا يقع إلا بالأول وهو الغلام دون الثاني، لأنك إذا لم ترد أن السير وقع فيهما لم يكن في مجيئك بالمساء فائدة، وهذا نص واضح" (¬4). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 116 (¬2) درة الغواص 193 (¬3) حاشية الصبان 2/ 132 (¬4) الهمع 1/ 197

طائفة من الظروف

والصواب أن الإضافة والتركيب لغتان فمن العرب من يقولها بالتركيب، ومنهم من يقولها بالإضافة والمعنى واحد، لأن الاختلاف في اللغات لا يدل حتا على الاختلاف في المعنى جاء في (كتاب سيبويه): " وأما يوم يوم، وصباح مساء، وبيت بيت، وبين بين، فإن العرب تختلف في ذلك، يجعله بعضهم بمنزلة اسم واحد، وبعضهم يضيف الأول إلى الاخر ولا يجعله اسما واحد" (¬1). ولو كان التعبيران من لغة واحدة لكان القياس ما قاله الحريري، ويكون القصد آنذاك الاهتمام بالمضاف إليه، فإن قلت مثلا: لقد زارنا صباح مساء كان المساء مهتما به، أي زارنا في صباح مساؤه عظيم، أو نحو ذلك، كما تقول: جاءنا في صباح مساء حافل بالبشر. واإلإضافة لا تفيد التكرار نصا، كما يفيده التركيب، لأن القياس أن يكون المضاف هو المقصود بالظرفية. أما العطف فيختلف عن التركيب إذ التركيب يفيد التكرار أما العطف فهو يحتمل التكرار وعدمه فمن الأول قوله تعالى: {قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا. فلم يزدهم دعاءي إلا فرارا} [نوح: 5 - 6]، وقوله: {وسبحوه بكرة وأصيلا} [الأحزاب: 42]، أي كل بكرة وأصيل، ومن عدم التكرار قولك (كلمته صباحا ومساء) فهو يحتمل التكرار وعدمه، أي في صباح واحد ومساء واحد. طائفة من الظروف هذه طائفة من الظروف نشرحها بصورة موجزة إكمالا للفائدة: الآن: اسم لزم الحال، وهو الذي يقع في كلام المتكلم الفاصل بين ما مضى وما هو آت وهو مبني على الفتح (¬2)، وهو من آن الشي أينا بمعنى (حان)، فمنى (الآن) هذا الحين ¬

_ (¬1) سيبويه 2/ 53 (¬2) انظر ابن يعيش 4/ 103، لسان العرب (ابن) 16/ 183

إذ

وهو ملازم للألف واللازم، وفي سبب بنائه، وفي الألف واللام الداخلة عليه كلام لسنا بصدده هنا (¬1). إذ: وهي ظروف للمضي في أصل وضعها، نحو: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [التوبة: 40]. وقال قسم من النحاة أنها قد تقع للاستقبال، خلافا للجمور، قال تعالى: {يومئذ تحدث أخبارها} [الزلزلة: 4]، وقال: {فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 70 - 71]. وقد تكون للتعليل، نحو قوله تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39]، أي ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، لأجل ظلمكم في الدنيا. وترد للمفاجأة وهي الواقعة بعد بنا وبينما، كقوله: فبينما العسر إذ دارت مياسر (¬2). والأولى حرفيتها في المعنيين الأخيرين. وهي تدل على الجملة الإسمية والفعلية، نحو قوله تعالى: {إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه} [التوبة: 40]، وقد تختلف الجملة المضاف إليها، فيؤتى بالتنوين عوضا عنها نحو (يومئذ تحدث أخبارها). ¬

_ (¬1) انظر لسان العرب 16/ 183 الأشموني: 1/ 181، حاشية الصبان: 1/ 181 (¬2) انظر مغني اللبيب 1/ 80 - 81، الهمع: 1/ 204، الرضي على الكافية: 2/ 129

إذا

إذا: وهي في الغالب تكون " ظرفا للمستقبل مضمنة معنى الشرط، وتختص بالدخول على الجملة الفعلية .. قيل وقد تخرج عن كل من الظرفية والاستقبال ومنعى الشرط" (¬1). فمن خروجها عن الظرفية ووقوعها مفوعلا به قوله (ص) لعائشة: " أني لأعلم إذا كنت راضية عني وإذا كنت علي غضبى" وذلك أنه يعلم زمن الرضا، والغضب لا أنه يعام شيئا حل في زمن الرضا والغضب والجمهور، على أنها لا تخرج عن الظرفية. وقد تخرج عن الاستقبال فتستعمل للمضي كقوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالو لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} [آل عمران: 156]. " لأن قالوا ماض فيستحيل أن يكون زمانه مستقبلا، ومثله قوله تعالى: {حتى إذا أتوا علي واد النمل} [النمل: 18]، {حتى إذا جاءوك يجادلونك} [الأنعام: 25]، {حتى إذا بلغ بين السدين} [الكهف: 93]، {حتى إذا ساوي بين الصدفين} [الكهف: 96]، {حتى إذا جعله نارا} [الكهف: 96]، {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انقضوا إليها} [الجمعة: 11]، لأن الانفضاض واقع في الماضي. وتجيء للحال كقوله تعالى: {والنجم إذا هوى} [النجم: 1]، {واليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} [الليل: 1 - 2]، وتستعمل أيضا للاستمرار كقوله: {وإذا لقوا الذين أمنوا قالوا أمنا} [البقرة: 14]، وقوله {لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض} فهذا فيما مضى لكن دخلت (إذا) لتدل على أن هذا شأنهم أبدا ومستمر فيما سيأتي كما في قوله: وندمان يزيد الكأس طيبيا ... سقيت إذا تغورت النجوم (¬2) ¬

_ (¬1) مغني اللبيب 1/ 92 - 93 (¬2) البرهان 4/ 190

ومن ذلك قوله تعالى: {وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 155 - 156]. وهذه حالة مستمرة. وقوله: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل} [البقرة: 205]، وقوله: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} [البقرة: 206]. وقوله: {وإذا لقوكم قالوا أمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} [آل عمران: 119]. وقوله: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما} [يونس: 12]، وهذه حال الإنسان على وجه الاستمرار. ونحوه: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا} [الإسراء: 83]، وقوله: {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها} [النور: 36]. وقد ذكر الفراء أنها تجيء للدوام والدأب فقال: " وأما قول الكميت: ماذاق بوس معيشة ونعيمها ... فيما مضى أحد إذا لم يعشق إنما أراد: لم يذقها فيما مضى ولن يذقها فيما يستقبل إذا كان لم يعشق. وتقول (ما هلك امرؤ عرف قدره) فلو ادخلت في هذا (إذا) كانت أجود من إذ لأنك لم تخبر بذلك عن واحد فيمون باذا وإنما جعلته كالدأب فجرى الماضي والمستقبل. ومن ذلك أن يقول الرجل للرجل: (كنت صابرا إذا ضربتك) لأن المعنى: كنت كلما ضربت تصبر، فإذا قلت: كنت صابرا إذا ضربت فإنما أخبرته عن صبره في ضرب واحد" (¬1). ¬

_ (¬1) معاني القرآن 1/ 244، وانظر بحث الشرط بأن وإذا في القرآن الكريم للدكتور على فوده، بمجلة كلية الآداب بجامعة الرياض - المجلد الرابع - السنة السابعة (1395 - 1396 هـ/ 1975 - 1976 م) ص 66، وانظر الرضي على الكافية 1/ 113

أمس

وقد تتجرد للظرفية، فلا تتضمن معن الشرط نحو قوله تعالى: {والليل إذا يغشى} [الليل: 1] {والضحى والليل إذا سجى} [الضحى: 1 - 2]. وسيأتي في شأنهما تفصيل في بحث الشرط بإذن الله تعالى. أمس: وهو اسم لليوم الذي قبل يومك، وهو معرفة مبنية على الكسر عند الحجازيين، والتميميون يمنعوها من الصرف " فإن نكر أمس كقولك (كل غد يصير أمسا) و (كل أمس يصير أول من أمس) أو أضيف أمسنا، أو أدخله اللام نحو (ذهب الأس) بما فيه أعرب اتفاقا" (¬1). وإذا اقترن (أمس) بأل العهدية " فهو لليوم الماضي المعهود بين المتخاطبين، وليه يومك أم لا، وإذا نون كان صادقا على كل أمس" (¬2). فالفرق بين قولك (فعلت هذا أمس) وقولك (فعلت هذا بالأمس) أن الأول قصدت به أنك في اليوم لذي قبل يومك، وأما الثاني فمعناه أنك فعلته في اليوم المعهود بينك وبين المخاطب، أي اليوم الذي يعلمه المخاطب، سواء كان اليوم الذي يليه يومك أما ما قبله. ومنه قوله تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس} [يونس: 24]، أي الأمس الذي أزينت فيه وليس معناه التنصيص على اليوم الذي قبل يومك. أيان: ظرف زمان مبهم بمعنى (متى) وهو مختص بالأمور العظام، وفيما يراد تفخيم أمره نحو قوله تعالى: {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها} [النازعات: 42]، وقوله: {يسئل أيان يوم القيامة} [القيامة: 6]، ولا يقال: أيان نمت " وتختص إيان في الاستفهام بالمستقبل، ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 141 (¬2) حاشية الصبان 1/ 63

بين بينا بينما

بخلاف متى، فإنه يستعمل في الماضي والمستقبل" (¬1) ولفظها يوحي بالاستبطاء، فقوله تعالى: {أيان مرساها} [النازعات: 42]، يوحي أنهم يستبطئون يومها ونحوه: {يسئل أيان يوم القيامة} [القيامة: 6]. بين بينا بينما: أصل (بين) أن تكون ظرفا للمكان، وقد تكون للزمان، وذلك بحسب ما تضاف إليه، فمن ورودها ظرفا للمكان، قوله تعالى: {أجعل بينكم وبينهم ردما} [الكهف: 95]، ومن ورودها للزمان قولهم (بين المغرب والعشاء يفعل الله ما يشاء (¬2)) جاء في (شرح لرضي على الكافية): " وأصل (بين) أن يكون مصدرا بمعنى الفراق، فتقدير (جلست بينكما) أي مكان فراقكما. وتقدير (فعلت بين خروجكم ودخولك) أي زمان فراق خروجك ودخولك فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (¬3) " وإذا لحقتها الألف أو (ما) أضيف إلى الجمل، لا تكون عند ذاك إلا للزمان وذلك نحو قوله: فبينا نسوس المرء والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف وقوله: وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير وقد تضاف (بينا) إلى مصدر كقوله: بينا تعنقه الكماة وروعه ... يوما أتيح له جريء سلفع (¬4) وقد تلقى بينا وبينما، بإذ وإذا اللتين للمفاجأة كما مر في البيتين. ¬

_ (¬1) انظر ابن يعيش 4/ 106، والرضي على الكافية 2/ 130 (¬2) انظر الهمع 1/ 211 (¬3) انظر الرضي 1/ 211 (¬4) الهمع 1/ 211، وانظر درة الغوص 64 الرضي على الكافية 2/ 129

حيث

جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وإنما رتب بينا وبينما وكلما مع جملتيها ترتيب كلمات الشرط مع الشرط والجزاء، لما ذكرت من بيان لزوم مضمون الثانية للأولى لزوم الجزاء للشرط ولهذا أدخل إذا وإذ للمفاجأة في جواب بينا وبينما، ليدلا على اقتران مضمون الأولى بالثاني مفاجأة بلا تراخ فيكون آكد في معنى اللزوم" (¬1). وجاء فيه أيضا: " وقد تقع إذ وإذا في جواب بينا وبينما، وكلتاهما إذن للمفاجأة والأغلب في مجيء (إذ) في جواب بينما و (إذا) في جواب (بينما) قال: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن منهم سوقة نتنصف ولا يجيء بعد (إذ) الفاجأة إلا الفعل الماضي، وبعد (إذا) المفاجأة إلا الإسمية. وكان الأصمعي لا يستفصح إلا تركهما في جواب بينا، وبينما لكثرة مجيء جوابها بدونهما، والكثرة لا تدل على ان المكثور غير فصيح بل تدل على أن الأكثر أفصح (¬2) ". حيث: ظرف مكان مبني على الضم، ولا يستعمل إلا مضافا إلى الجمل، إسمية كانت أو فعلية نحو: {فكلا من حيث شئتما} [الأعراف: 19]، و (جلست حيث الهواء طيب) واجلس حيث الماء أي وفير أو موجود، وقد ترد للزمان كقوله: للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه ويصح أن تكون للمكان ههنا أيضا. وقد تقع مفعولا به، نحو قوله: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124]ـ إذ المقصود - والله أعلم - أنه يعلم مكان المستحق لوضع الرسالة، لا أنه يعلم شيئا في المكان (¬3). ¬

_ (¬1) الرضي 2/ 28 - 129 (¬2) الرضي 2/ 126، وانظر الغواص 36 - 64 (¬3) الهمع 1/ 212، المغني 1/ 131 - 132

دون

دون: تكون (دون) ظرفا وغير ظرف، فهي غير ظرفية بمعنى حقير، وخسيس، ومسترذل، يقال ثوب دون أي حقير. ورجل دون أي مسترذل ليس بلا حق هو دونك أي حقيرك. جاء في (المختص): " دون تقصير عن الغاية. وتمكن ولما اقتضي التقصير، وصفوا به ما ليس برفيع فقال: رجل دون وثوب دون" (¬1). ومعناها ظرفية إفادة التقريب، يقال هذا دون ذلك أي أقرب منه (¬2) فلا تتصرف عند الجمهور جاء في (الهمع): " من الظروف المبنية في بعض الأحوال دون .. وهو للمكان تقول: قعد زيد دون عمرو، أي في مكان منخفض عن مكانه، وهو ممنوع التصرف عند سيبويه وجمهور البصريين. وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه يتصرف لكن بقلة وخرج عليه (ومنادون ذلك (¬3)) (¬4). " وقال بعض النحويين: لدون تسعة معان تكون بمعنى قبل، وبعنى أمام، وبمعنى وراء بمعنى تحت، وبمعنى فوق، وبمعنى الساقط من الناس، وغيرهم، وبمعنى الشريف، وبمعنى الأمر، وبمعنى الوعيد، وبمعنى الإغراء. فأما دون بمعنى قبل فكقولك: دون النهر قتال، ودون قتل الأسد أهوال، أي ما قبل أن تصل إلى ذلك. ودون بمعنى وراء كقولك: هذا أمير على ما دون جيحون، أي ما على ما وراءه، ما وراءه، والوعيد كقولك: دونك صراعي ودونك فتمرس بي. وفي الأمر دونك الدرهم أي أخذه. ¬

_ (¬1) المخصص 14/ 60، لسان العرب 17/ 21 (¬2) لسان العرب 17/ 21 (¬3) الجن 11 (¬4) الهمع 1/ 213، وانظر سيبويه 1/ 204

وفي الإغراء دونك أي الزم زيدا في حفظه. وبمعنى تحت كقولك: دون قدمك خذ عدوك، أي تحت قدمك، وبمعنى فوق كقولك: إن فلانا لشريف، فجيب آخر فيقول: ودون ذلك، أي فوق ذلك (¬1). وجاء في (الرضي على الكافية): " وقد يدخل (دون) التي بمعنى (قدام) معنيان آخران هي في أحدهما متصرفة وذلك معنى أسفل، نحو أنت دون زيد، إذا كان لزيد مرتبة عالية وللمخاطب مرتبة تحتها، فيوصل إلى المخاطب قبل الوصول إلى زيد، ويتصرف فيها بهذا المعنى نحو هذا الشيء، دون أي خسيس. ومعناها الآخر (غير)، ولا يتصرف بهذا المعنى، وذلك نحو قوله تعالى: {آتخذ من دونه إلهة} (¬2) [يس: 23]. وقوله: {ويعلمون عملا دون ذلك} [الأنبياء: 82]، وقوله: {إلهين من دون الله} [المائدة: 116]. وجاء في (البرهان): " وقد تكون صفة لا بمعنى رديء، ولكن على معناه من الظرفية نحو: رأيت رجلا دونك .. ومنه الدون للحقير ويستعمل للتفاوت في الحال، نحو زيد دون عمرو، أي في الشرف والعلم. واتسع فيه فاستعمل في تجاوز حد إلى حد، نحو قوله تعالى: {أولياء من دون المؤمنين} [آل عمران: 28]، أي لا يتجاوزون ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين" (¬3). يتبين من هذا أنها تكون وصفا بمعنى الحقير، وظرفا لمعان عدة يجمعها التقريب واسما بمعنى غير واغراء وأمرا. ¬

_ (¬1) لسان العرب 17/ 23 (¬2) الرضي 1/ 205 (¬3) البرهان 4/ 275 - 276

ريثما

ريثما: ريث مصدر راث يريث إذا أبطأ، وقد استعمل بمعنى الزمان، وقد تليه (ما) زائدة، أو مصدرية. " وإذا استعمل في معنى الزمان جاز أن يضاف إلى الفعل فتقول: أتيتك ريث قام زيد، أي قدر بطء قيام زيد، فلما خرجت إلى ظروف، الزمان جاز فيها ما جاز في الزمان" (¬1). سحر: وهو ظرف غير متصرف إذا أريد به سحر يوم بعينه، ومتصرف إذا نكر أو حلي بأل. تقول: (خرجت يوم الخميس سحر) وقال تعالى: {إلا آل لوط نجيناهم بسحر} [القمر: 34]. وإذا قصد به التعيين كان ممنوعا من الصرف، وإن لم يقصد به التعيين صرفته، ويجر بالكسر إذا حلي بأل شأن الممنوع من الصرف، تقول: جاء بالسحر وسمعت صوتا بالسحر وهرب سحرًا (¬2). عند: ظرف مكان أو زمان تقول: عندك مال، وأقبل عند الليل، وهي تفيد أقصى نهايات القرب قال الليث: " عند حرف صفة يكون موضعا لغيره، ولفظه نصب، لأنه ظرف لغيره وهو في التقريب شبه اللزق" (¬3). وجاء في (الهمع) أنها " لبيان كون مظروفها حاضرا حسا أو معنى أو قريبا حسا أو عنى فالأول نحو: {فلما رءاه مستقرا عنده} (¬4) [النمل: 40]، والثاني نحو: {قال الذي ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 213 (¬2) انظر ابن يعيش 2/ 41 - 42، الرضي على الكافية 140 (¬3) لسان العرب (عند) 4/ 303 (¬4) لسان العرب (عند) 4/ 303

عوض

عنده علم من الكتاب} [النمل: 40]، والثالث نحو: {عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى} [النجم: 14 - 15]، والرابع نحو: {وعند مليك مقتدر} [القمر: 55]، {رب ابن لي عندك بيتا ي الجنة} [التحريم: 11]، {وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} [ص: 47]، {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل: 96] (¬1) وقال سيبويه: "وقالوا: عندك، تحذره شيئا بين يديه، أو تأمره أن يتقدم وهو من أسماء الفعل لا يتهدى، وقالوا أنت عندي ذاهب أي في ظني". وهي لا تفرق النصب على الظرفية إل إلى الجر بمن قال تعالى {آتيناه رحمة من عندنا} [الكهف: 65]. عوض: وهو اسم للزمان والدهر وخصص بالمستقبل، كما أن قط للماضي. وهو من لفظ العوض وسمي الزمان عوضا لأنه كلما مضى جزء منه عوض جزء آخر، فصار الثاني كالعوض من الأول، وهو لاستغراق المستقبل مثل (ابدا) إلا أنه يكاد يكون مختصا بالنفي. تقول: لا أكلمه عوض، ولا تقول: ما كلمته عوض بل تقول: ما كلمته قط. وهو مبني على الضم فإن أضفته أعربته تقول: لا أفعله عوض العائضين أي دهر الداهرين. ومعنى الداهر والعائض الذي يبقى على وجه الدهر، فكان لمعنى: ما بقي في الدهر داهر. ويقال: افعل من ذي عوض، كما يقال من ذي أنف، فيما يستقبل، وأكثر ما يستعمل عوض مع القسم كقوله: رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا نتفرق ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 202، المغنى: 1/ 155 - 156

غدوة

غدوة: ظرف زمان ووقته من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وهو ممنوع من الصرف إذا كان معينا أي من يوم بعينه، كأن تقول: (آتيه يوم الجمعة غدوة) فإن نكرت صرفت، تقول: سير عليه غدوة من الغدوات. ومثله بكرة وهو من طلوع الشمس إلى الضحى (¬1). قال تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} [مريم: 62]. جاء في (المقتضب): " أما غدوة وبكرة فاسمان متمكنان معرفة لا ينصرفان لأجل التأنيث تقول: سير عليه بكرة يا فتى وغدوة، إذا أقمت (بكرة) مقام الفاعل وإن أردت نصبه على الظرف فكذلك تقول (سير عليه بكرة يا فتى وغدوة يا فتى). وإنما صار معرفة لأنك بنيت غدوة اسما لوقت بعينه، وبكرة في معناها. ألا ترى أنك تقول: هذه غداة طيبة، وجئتك غداة طيبة، ولا تقول على هذا: جئتك غدوة طيبة، ولكن تقول: آتيتك يوم الجمعة غدوة يا فتى، فإن نكرت صرفت، فقلت: سير عليه غدوة من الغدوات وبكرة من البكر (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " غدوت وبكرة غير منصرفين اتفاقا وإن لم تكونا معينتين لكونهما من أعلام الجنس كأسامة تقول في التعيين: آتيتك اليوم غدوة، أو بكرة/ وفي غير التعيين لقيته العام الأول، أو يوما من الأيام غدوة، أو بكرة، فتمنع واحدا من الجنس غير معين .. وإذا لم يقصد تعيينهما جاز أيضا تنوينهما اتفاقا، قال تعالى: {ولقد صبحهم بكرة} [القمر: 38]، وإذا قلت: كل غدوة أو بكرة، أو رب غدوة وبكرة، فهما منونتان لا غير، لأن كلا ورب من خواص النكرات (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 2/ 132، لسان العرب (غدا) 19/ 352 (¬2) المقتضب 4/ 354 (¬3) الرضي على الكافية 1/ 204

قط

قط: ظرف لاستغراق ما مضى من الزمان، وهو بفتح القاف وتشديد الطاء مبني على الضم. قال الليث: " وأما قط فإنه هو الأبد الماضي" (¬1). وهو يختص بالنفي أو شبهه تقول: ما فعلته قط، وهل فعلته قط؟ ولا تقول: لا أفعله قط، بل لا أفعله عوض وأبدا. واشتقاقه من القط أي القطع وقططته أي قطعته " فمعنى ما فعلته قط، ما فعلته فيما انقطع من عمري، لأن الماضي منقطع عن الحال والاستقبال. وبنيت لتضمنها معنى مذ وإلى، إذ المعنى مذ أن خلقت، أو مذ خلقت إلى الآن (¬2). لدن. هو بمعنى (عند) إلا أنه أقرب مكانا من عند اخص منه، فإن (عند) تقع على المكان وغيره تقول: لي عند فلان مال أي في ذمته ولا يقال في ذلك لدن" (¬3). وهو مثل (عند) يكون اسما لمكان الحضور أو زمانه، غير أنه ملازم لابتداء، الغايات الزمنية والمكانية، و (عد) غير ملازمة لمبدأ الغايات تقول: جلست عنده، ولا تقول، جلست لدنه، لأن ليس في هذا التعبير مبدأ غاية. وتقلو: جئت من عنده ومن لدنه، قال تعالى: {قد بلغت من لدني عذرا} [الكهف: 76]، جاء في (التسهيل) أن (لدن) لأول غايات، زمان أو مكان (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب (9/ 257)، وانظر المغنى (1/ 175) (¬2) المغنى 1/ 175، وانظر لسان العرب 9/ 255، الرضي على الكافية، حاشية الصبان 2/ 131 (¬3) التسهيل: 97 (¬4) التسهيل: 97

ولذا كان معناه في الحقيقة هو (من عند) لا (عند) جاء في (شرح الرضي على الكافية): "ولدى بمعنى (لدن) إلا أنّ (لدن) ولغاتها المذكورة يلزمها معنى الابتداء، فلهذا يلزمها (من) أما ظاهرة وهو الأغلب، أو مقدرة فهي بمعنى: من عند" (¬1). إن الغالب في (لدن) أن تكون مجرورة بمن، ولم ترد في القرآن إلا كذلك لملازمتها لابتداء الغايات وقد تضاف إلى الجمل بخلاف (عند) قال الشاعر: صريع غوان راقهن ورقنه ... لدن شب حتى شاب سود الذوائب ولا تقع عمدة أي لا تقع خبرا ولا نحوه، فلا تقول: الكتاب من لدنك بخلاف (عند) تقول: الكتاب عندك (¬2). قال أبو سعيد السيرافي: " لدن إنما تضاف إلى ما بعده من زمان متصل به أو مكان إذا اقترن بها (إلى) كقولك: جلست من لدن صلاة العصر إلى وقت المغرب" (¬3). وجاء في (حاشية التصريح): " وقال بعضهم (لدن) أبلغ من (عند) قال تعالى: {لينذر بأسا شديدا من لدنه} (¬4) [الكهف: 2]. ونود تعقيبا على هذا القول أن نخص (لدن) بزيادة تفصيل فنقول: أن لفظ (لدن) مشابه للفظ (اللدن) المأخوذ من اللدانة واللدونة. و(اللدن) اللين من كل شيء من عود، أو حبل، أو خلق، وامرأة لدنة، ريا الشباب ناعمة، وتلدن في الأمر، تلبث وتمكث، ولم يثر ولم ينبعث عليه، والتلدن والتمكث (¬5). فاللدونة الليونة واللدن اللين. ¬

_ (¬1) الرضي 2/ 138 (¬2) انظر التصريح 2/ 45 - 47، الأشموني 1/ 264، الرضي على الكافية 2/ 137 - 138، المغني 1/ 156، الهمع 1/ 215 (¬3) حاشية ابن يعيش رقم (1) ج 4/ 101 (¬4) حاشية التصريح 2/ 45 (¬5) لسان العرب (لدن) 14/ 267 - 268

وقد ورد كلمة (لدن) الظرفية في القرآن الكريم سبع عشر مرة، كلها في الرحمة، والحنان، والخير، واللين، ونحوه، وهو استعمال قريب لمعنى الليونة، وأحيانا لمعنى التلبث وهو استعمال طريف، اعني إكساء معنى (لدن) الظرفية معنى اللدونة. قال تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} [آل عمران: 8]. وقال: {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء} [آل عمران: 38]. وقال: {إذ أوي الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا} [الكهف: 10]، وقال: {فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} [الكهف: 65]، وقال: {وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا} [مريم: 13]. وقال موسى للرجال الصالح: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا} [الكهف: 76]، ولم يأت بعند وهي هنا كما تفيد معنى الظرفية، تفيد معنى التمكث والتلبث، وليس في (عند) هذا المعنى فكأنه قال: قد بلغت العذر في تمكثك وصبرك علي، وتلبثك على إلحاحي في السؤال وهو استعمال رفيع. وقد تقول: الم يرد قوله تعالى: {لينذر بأسا شديدا من لدنه} [الكهف: 2]، وهذا ليس في اللين والرحمة؟ فأقول أن هذا هو الموطن الوحيد الذي اقترن به البأس فيه والشدة بلدن، ومع ذلك هو في الرحمة، والنص يوضح ذلك، قال تعالى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا} [الكهف: 1 - 3]، فهذا الكلام هو في القرآن الكريم الذي هو خير، ورحمة، منذرا ومبشرا، والخير يكون فيهما جميعًا.

لدى

ثم أنه لما كانت (لدن) أخص من (عند) لكونها أقرب مكانا منهما، كانت أبلغ من (عند) لأنها مبدأ المكان والزمان، ولم تستعمل (لدن) في القرآن الكريم، إلا مع الله نحو قوله {من لدن حكيم خبير} [هود: 1]، {من لدن حكيم عليم} [النمل: 6]، {من لدنا أجرا عظيما} [النساء: 67]، {رزقا من لدنا} [النساء: 57]. {من لدنك سلطانا نصيرا} [الإسراء: 80]، إلا في موطن واحد هو قوله: {قد بلغت من لدني عذرا} [الكهف: 76]. فهي أبلغ من (عند) لأنها الصق، وقد استعملت في القرآن الكريم في خصوصيات الألطاف، والتعليم والرحمة والإلهية، وبموازنة ذلك بين واستعمال (عند) يتضح الأمر. لدى: وهي بمعنى (عند) لا بمعني (لدن)، تلازم ابتداء الغاية المكانية والزمانية، ولذا كثر جرها بمن، أما لدي فلا تستعمل مجرورة بمن، وذكروا أن الفرق بينهما وبين وعند أن (عند) تكون ظرفا للاعيان، والمعاني .. و (لدى) لا تكون ظرفا للمعاني، بل للاعيان خاصة، يقال: عندي هذا القول صواب، ولا يجوز لدي، ذكره ابن الشجري في أماليه ومبرمان في حواشيه، .. وأنك تقول (عندي مال) وإن كان غائبا، ولا تقول (لدى مال) إلا إذا كان حاضرًا" (¬1). وجاء في (شرح الرضي): " وأما (لدى) فهو بمعنى (عند)، ولا يلزمه معنى الابتداء و (عند) اعم تصرفا من (لدي)، لأن (عند) تستعمل في الحاضر القريب، وفيما هو حرزك، وإن كان بعيدًا بخلاف (لدي)، فإنه لا يستعمل في البعيد" (¬2). ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 302، المعنى 1/ 156، ابن يعيش 4/ 100، الأمالي الشجرية 11/ 224 (¬2) الرضي على الكافية 2/ 138

مع

مع: " اسم لمكان الاجتماع أو وقته، (زيد مع عمرو)، و (جئت مع العصر) ويدل على اسميتها تنوينها في قولك: معا (¬1) ". وجاء في (لسان العرب): " مع بتحريك العين كلمة تضي الشيء إلى الشيء وهو اسم معناه الصحبة" (¬2). وقد تنون فيقال معا نحو جاؤوني معا، وهما معا في الدار " والفرق بين قولنا معا وفعلنا جميعا أن معنا يفيد الاجتماع في حال، الفعل وجميعا بمعنى (كلنا) سواء اجتمعوا أولا" (¬3). وسط: بسكون السين ظرف بمعنى (بين)، يقال: (جلست وسط القوم) بالتسكين، أما وسط بفتح فهو اسم، تقول: ضربت وسطه، جاء في (المقتضب): " وتقول: وسط رأسك دهن يا فتى، لأنك خبرت أنه استقر في ذلك الموضع، فأسكنت السين ونصبت لأنه ظرف. وتقول: وسط رأسك صلب لأنه اسم غير ظرف وتقول: ضربت وسطه لأنه المفعول بعينه. وتقول حفرت وسط الدار بئرا إذا جعلت الوسط كله بئرا، كقولك خرب وسط الدار" (¬4). ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 217 (¬2) لسان العرب 1/ 217، وانظر تاج العروس 5/ 514 (¬3) المقتضب 4/ 314 - 342 (¬4) لسان العرب (وسط) 9/ 305، الهمع: 1/ 201

وجاء في (لسان العرب): " وسَط الشيء ما بين طرفيه .. فإذا سكنت السين من وسط صار ظرفا .. ويقال: جلست وسْط القوم بالتسكين لأنه ظرف، وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم .. وكل موضع صلح فيه (بين)، فهو وسط، وإن لم يصلح فيه (بين) فهو وسط بالتحريك .. فإن قلت: قد ينتصب الوسط كما ينتصب الوسط كقولهم: جلست وسط الدار .. الجواب أن نصب الوسط على الظرف، إنما جاء على جهة الاتساع والخروج عن الأصل" (¬1). وقال الفراء: " إذا أحسنت فيه (بين) كان ظرفا نحو قعد وسط القوم، وإن لم تحسن فاسم احتجم وسطه رأسه، ويجوز في كل منهما التسكين والتحريك لكون السكون أحسن في الظرف والتحريك أحسن في الاسم" (¬2). ¬

_ (¬1) لسان العرب (وسط) 9/ 305، وانظر الهمع 1/ 201 (¬2) الهمع 1/ 201، حاشية الصبان 2/ 131

المفعول له

المفعول له المفعول له أو المفعول لأجله مصطلح بصري، وهو عندهم ما أفاد تعليلا من المصادر بشروط، معينه نحو قوله {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} [البقرة: 19]، جاء في (الكتاب): " هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه عذر) لوقوع الأمر فانتصب لأنه مرفوع لهن ولأنه تفسير لما قبله لم كان، وليس بصفة لما قبله ولا منه .. وذلك قولك: فعلت ذاك حذار الشر، وفعلت ذاك مخافة فلان، وادخار فلان، وقال الشاعر وهو حاتم بن عبد الله الطائي: واعفر عوراء الكريم ادخاره ... وأصفح عن شتم اللئيم تكرما وفعلت ذلك أجل كذا وكذا، فهذا كله ينتصب لأنه مفعول له، كأنه قيل: لم فعلت كذا وكذا؟ فقال لكذا وكذا ولكنه لما طرح اللام عمل فيه ما قبله (¬1). وعند الكوفيين والزجاج هو مفعول مطلق الفعل، ، محذوف عند الزجاج، وللفعل المذكور عند الكوفيين (¬2). فنحو (جئتك إكراما لك) تقديره عند الزجاج: جئتك اكرام اكراما لك، وعند الكوفيين أن معنى جئتك هنا أكرمتك. ويقول الجرمي: "أن ما يسمى مفعولا له منتصب نصب المصادر، التي تكون حالا فيلزم تنكيره ويقدر، نحو قوله تعالى (حذر الموت) متحاذرين" (¬3). والذي يبدو أن رأي البصريين ارجح، وأقرب إلى طبيعة اللغة، وإن كان المعنى في قسم من التعبيرات يحتمل رأي الكوفيين وغيرهم، وذلك من وجوه عدة منها: ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 184 - 186 (¬2) انظر الرضي على الكافية 1/ 207 - 208، الهمع 194 - 195، التصريح 1/ 337، حاشية الصبان 2/ 122، حاشية الخضري 1/ 194 (¬3) الرضي 1/ 208

1 - أنه يصح بلا خلاف أن أقول (فعلت ذلك ابتغاء مرضاة الله) جوابا عن سؤال لما فعلت ذاك؟ فهنا أفدت التعليل والسبب قال تعالى: {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم} [الأعراف: 164]، فهنا بين علة الوعظ وسببه. في حين أن المفعول المطلق والحال ليسا لبيان العلة فالمفعول المطلق يكون لبيان التوكيد ولبيان النوع والعدد عند النحاة وهذا ليس واحدا منها، والحال مبنية للهيئة ومؤكدة وهذا عذر وسبب. فالمفعول له يؤدي غرضا مغايرا لغرض الحال والمفعول المطلق. أنه قد يصح تقديره بالحال أو بالمفعول المطلق لكن لمعنى سيختلف وذلك نحو قولك (جئت طمعا في رضاك) فإن قدرته (طامعا) كان حالا وإن قدرته (أطمع طمعا) كان مفعولا مطلق وإن أردت العلة والسبب كان مفعولا له ولكل معنى. 2 - العطف على العلة الصحيحة وذلك نحو قوله تعالى {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [النحل: 64]، فهنا ذكر علة إنزال الكتاب باللام فقال: {لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} وهذه علة لا حال ولا مفعولية مطلقة ثم عطف عليها بقوله (وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) فهو إذن علة مثله وسبب لا حال ولا مفعول مطلق لأنه لا يصح عطف الحال على ما ليس حالا ولا عطف المفعول الملطق على ما ليس مفعولا مطلقا. ومثله قوله تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين أمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} [النحل: 102] فهي مثل الأولى. 3 - إن القول برأي الكوفيين يفضي إلى أخراج الأفعال من معانيها إلى معان أخرى قد تكون بعيدة عنها من دون موجب وذلك نحو قولنا (قلت ذاك خوفا منه) فيكون القول عندهم بمعنى الخوف في حين أن القول حسي والخوف قلبي. ونحو قوله: {وما اختلف فيه إلا الذي أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم} [البقرة: 213]، فيكون الاختلاف بمنى البغي. ونحو قوله: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس} [البقرة: 264].

حده

فيكون الإنفاق بمعنى الطلوع وبمعنى الكره، ونحو قوله: {هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا} [الرعد: 12]، فتكون رؤية البرق بمعنى الخوف والطمع. ويفضي هذا الرأي إلى أن يكون للفعل الواحد معان متعددة متناقضة، وذلك نحو (قلت هذا خوفا منك) و (قلت هذا إظهارا للحق) و (قلت هذا إكراما له) وقلت هذا تحقيرا له، وقلت هذا إطفاء لنار الفتنة. وقلت هذا تملقا، وقلت هذا طمعا في خيره، وغيره ذلك فيكون معنى (قلت) على هذا: خفت، وأظهرت الحق، وأكرمت، وحقرت، وأطفأت نار الفتنة، وتملقت، وطمعت، وغير ذلك وهي معان متعددة متغايرة، ولا موجب لهذا كله. حده: يحد النحاة المفعول له بأنه: المصدر الفضلة المعلل لحدث شاركه في الزمان والفاعل" (¬1). وعلى هذا فالمفعول له هو ما اجتمع فيه اربعة شروط وقيل خمسة: 1 - أن يكون مصدرا. 2 - أن يكون مذكورا للتعليل. 3 - أن يشارك الحدث في الزمان، ونحو قوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} [البقرة: 19]، فزمن جعل الأصابع هو زمن الحذر، ولا يصح أن تقول: خرجت اليوم مخاصمة خالد غدا. 4 - أن يشاركه في الفاعل أي يكون فاعل الحدث والمصدر واحدا، نحو (قتله عدوانا) ففاعل القتل والعدوان واحد، ولا يصح أن تقول: (جاء خالد اكرام محمد له)، لأن فاعلي المجيء والاكرام مختلفان (¬2). ¬

_ (¬1) شذور الذهب 284، وانظر ابن عقيل 1/ 194، الرضي 1/ 208 (¬2) انظر ابن عقيل 1/ 194، شذور الذهب 284، ابن يعيش 2/ 53، التصريح 1/ 334 - 336، الأشموني 2/ 122 - 123

5 - أن يكون قلبيا فلا يصح أن تقول: (جئت قتلا للكافر) لأن القتل ليس قلبيا (¬1). فإن فقد شرط أو كثر من هذه الشروط جر بحرف التعليل، فمثال ما لم يكن مصدرا قوله تعالى: {وإذ استسقي موسى لقومه} [البقرة: 60]، وقوله: {والأنعام خلقها لكم} [النحل: 5]، و {كذلك سخرها لكم} [الحج: 36]، ومثال المختلف مع عاملة في الوقت (جئت اليوم للاكرام غدا) والمختلف في الفاعل نحو (جاء خالد لاكرام سعيد له). والفاقد للقلبية نحو قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} [الأنعام: 151]، لأن الملاقي حسي ونحو (جئتك لحراثة الأرض) (¬2). والذي يبدو لي أنه لا يشترط في المفعول له إلا كونه مصدرا، فضلة، مفيدا للتعليل، أما الشروط الأخرى ففيها نظر، جاء في (الهمع): " وشرط بعض المتأخرين فيه، أن يكون من أفعال النفس الباطنة .. وشرط الأعلم والمتأخرون مشاركته في الوقت والفاعل، نحو ضربت انبي تأديبا .. ولم يشترط ذلك سيبويه ولا أحد من المتقدمين، فيجوز عندهم: أكرمتك أمس طمعا غدا في معروفك، وجئت حذر زيد، ومنه: {يريكم البرق خوفا وطمعا}، ففاعل الإرادة هو الله، والخوف والطمع من الخلق (¬3). ولا أرى سببا مقبولا في منع نحو (قصدت مكة أداء لفريضة الحج) فزمن القصد غير زمن أداء الفريضة، قال تعالى: {وأنزل التوراة والإنجيل. من قبل هدى للناس} [آل عمران: 3 - 4]، ومن المعلوم أن هداية الناس ليست مقارنة لوقت الانزال، وإنما هي بعده. فالتوراة أنزلت على سيدنا موسى (ع) ثم أصبحت بعد هداية للناس وكذلك الإنجيل فزمن الانزال غير زمن الهداية. ¬

_ (¬1) انظر الرضي 1/ 209، الهمع 1/ 194، الأشموني 2/ 122، حاشية الخضري 1/ 194 (¬2) انظر ابن يعيش 2/ 53، ابن عقيل 1/ 194، التصريح 1/ 335 - 336 (¬3) الهمع 1/ 194

ومثله قوله تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين أمنوا وهدى وبشري للمسلمين} [النحل: 102]، فالتثبيت والهداية والبشري بعد التنزيل لاوقته. وقد ذهب أبو علي إلى إجازة عدم المقارنة في الزمان (¬1). وأما المشاركة في الفاعل فليست ضرورية، وهو الذي ذهب إليه ابن خروف " تمسكا بقوله تعالى: {يريكم البرق خوفا وطمعا} [الرعد: 12]، إذ أن فاعل الإرادة هو الله والخوف من المخاطبين" (¬2). وقد جعل النحاة على تأويل الخوف والطمع بالإخافة والإطماع، أو تأويل (يريكم البرق) بيجعلكم ترون، وهو تأويل بعيد دعت إليه قاعدتهم، ولم تدع إليه ضرورة تعبير. ومن عدم الاتحاد في الفاعل أيضا قوله تعالى: {فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا، استكبارا في الأرض ومكر السيء} [فاطر: 42 - 43]، ففاعل زيادة النفور النذير، وفاعل الاستكبار الكفار، فالفاعل مختلف، وقال: {تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر} [القمر: 14]، ففاعل الجري السفينة، وفاعل الجزاء هو الله، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وبعض النحاة لا يشترط تشاركهما في الفاعل، وهو الذي يقوي في ظني وإن كان الأغلب هو الأول والدليل على جواز عدم التشارك قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في نهج البلاغة (فأعطاه الله النظرة استحقاقا للسخطة واستتماما للبلبة) والمستحق للسخطة إبليس، والمعطي للنظرة هو الله تعالى، لا يجوز أن يكون (استحقاقا) حالا من المفعول لأن (استتماما) إذن يكون حال المفعول وكذا قول العجاج: يركب كل عاقر جمهور ... مخافة وزعل المحبور والهول من تهور الهبور ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 209 (¬2) حاشية الخضري 1/ 194، وانظر الأشموني 2/ 122، التصريح 1/ 334 - 335

فإن الهول بمعنى الافزاع، لا الفزع، والثور ليس بمفزع بل هو فزع (¬1). ولا يشترط كذلك أن يكون قلبيا فيما ارى، وإن كان الكثير أن يكون قلبيا فإنه لا مانع من أن تقول: (فعلت هذا اطفاء لنار الفتنة) وهو غير قلبي، كما لا يمنع أن تقول: (فعلت هذا اطفاء لنار الفتنة)، وهو غير قلبي، كما لا يمنع أن تقول (فعلت هذا عملا بنصيحتك) وفرض الله الجهاد محقا للظلم، وازهاقا للباطل ونشرا للخير، واستئصالا للفساد، واخطب كل يوم في داري تمرينا للساني، وتعويدا له على الأداء السليم. وهذه كلها ليست قلبية: قال تعالى: {وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله} [الأنعام: 140]، والافتراء ليس قلبيا. وقال: {فاتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا} [يونس: 90]، وقال: {أولم نمكن لهم حرما أمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا} [القصص: 57]. وقال: {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} [الزخرف: 58]، وقال: {ما زادهم إلا نفورا، استكبارا في الأرض ومكر السييء} [فاطر: 42]. فهذه كلها من المفعول لأجله وهي ليست قليلة، ونحو ذلك قول الكميت: طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ... ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب جاء في شرح الرضي على الكافية: أن ذلك أي كونه قلبيا ينتقض بجواز نحو جئتك اصطلاحا لأمرك وضربته تأديبا اتفاقا. فإن قال هو بتقدير حذف مضاف أي إرادة إصلاح وإرادة تأديب، قلنا فجوز أيضا جئتك اكرامك لي وجئتك اليوم اكراما لك غدا، بتقدير المضاف المذكو بل جوز جئتك سمنا ولبنا فظهر أن المفعول له هو الظاهر لا المقدر المضاف" (¬2). ¬

_ (¬1) الرضي 1/ 209 (¬2) الرضي 1/ 209

وأما إذا كان المفعول لأجله مصدرا مؤولا فلا يشترط فيه شيء من ذلك، قال تعالى {ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} [التوبة: 2]، فـ (أن صدوكم) مفعول لأجله، والتقدير لأن صدوكم، والفاعل مختلف ففاعل (يجرمنكم) هو (الشنان) أي البغض، وفاعل الصد هم الكفار، والصدر ليس قلبيا، وقال: {وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل: 15]، ففاعل الإلقاء هو الله، وفاعل الميد هي الأرض، والميد ليس قلبيا، والزمن مختلف فخلق الجبال قبل خلق البشر، وقال {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]، وقال: } عبس وتولى، أن جاءه الأعمى {[عبس: 1 - 2]، فهذه كلها الفاعل فيها مختلف، وهي ليست قلبية، وقد يكون الزمن أيضا نحو (اكرمته اليوم أن اكرمني أمس) وهذا ليس قلبيا، والفاعل والزمن مختلفان، وهو الذي نرجحه في المصدر الصريح أيضا، جاء في الهمع: ولا يتعين الجر مع أن وأن وإن كانا غير مصدرين لأنهما يقدران بالمصدر، وإن لم يتحد فيهما الفاعل او الوقت، لأن حرف الجر يحذف معهما كثيرا نحوا ازورك أن تحسن إلي، أو أنك تحسن إلي (¬1) ". ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 195

التعليل

التعليل التعليل في المفعول له على ضربين: الضرب الأول ما يكون علة يراد تحصيلها، أي أن العلة ليست موجودة في أثناء الفعل وإنما هي غاية مرادة، وذلك نحوك (ضربت ابني تأديبا)، أي لأجل التأديب، فالتأديب علة حاملة على الضرب، وهي ليست موجودة في أثناء الضرب، بل يراد تحصيلها به، وهذا كما تقول في تعبير آخر: (جئت لأستفيد) أي الذي حملك على المجيء بل مطلوب تحقيقها. والضرب الثاني أن تكون علة موجودة وهي كانت السبب في دفع الفاعل إلى الفعل، وهي حاصلة ولا يراد تحصيلها، وذلك نحو قولك (قعد جبنا) فالجبن كان سببا في القعود والجب حاصل ولا يراد تحصيلة، ومثله (عقن اصبعه ندما) أي عض اصبعه من الندم، فالندم كان سببا في حصول العض، وهو حاصل ولا يراد تحصيله ومثله: قتل نفسا نفسا (¬1). جاء في (ملا جامي): " المفعول له هو ما فعل لأجله، أي لقصد تحصيله، أو بسبب وجوده .. فعل " (¬2). وقد علق عليه المحشي بقوله: " أراد أن المفعول له قسمان، قسم يفعل لأجل تحصيله، ويكون غرضا ومقصودا من الفعل، يحصل منه فيترتب عليه، بكون علة بحسب التعقل، ومعلولا بحسب الخارج. وقسم يفعل لفعل لأجل وجوده، وبكونه محصولا وموجودا، قبل الفعل وهو العلة يكون على في الخارج كقولك: قعدت عن الحرب جبنا، فإن الجبن علة مؤثرة للقعود موجودة قبله (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الرضي 1/ 207، الصبان 2/ 122، حاشية يس على التصريح 1/ 335 (¬2) ملا جامي 133 (¬3) حاشية على ملا جامي رقم 7/ 133

المفعول له المنصوب والمجرور

المفعول له المنصوب والمجرور: المفعول له في الاصطلاح هو المنصوب، نحو (جئت رغبة في الخير) أما المجرور نحو (جئت لرغبة في الخير) فلا يسمى مفعولا له اصطلاحا، وإن كان الجر هو الأصل عند النحاة. إن النحاة يرون الأصل هو المجرور بحرف التعليل، وذلك نحو (جئت لطمع في نائلك) ثم اسقط حرف الجر الذي يفيد التعليل توسعا، فأصبح التعبير (جئت طمعا في نائلك) وعلى هذا فالمفعول له منصوب بنزع الخافض (¬1). وهنا قد يعرض سؤالك وهو: هل هناك فرق في المعنى بين إظهار حرف التعليل وإسقاطه؟ هل هناك فرق في المعنى بين قولنا (دعوته طمعا في رضاه) و (دعوته لطمع في رضاه). لقد سبق أن ذكرنا أنه لا يعد من تعبير إلى تعبير، إلا يصحبه عدول من معنى إلى معنى، ولذا كان لابد من الاختلاف بين معني التعبيرين ومن أوجه الخلاف بينهما: 1 - أن المجيء بحرف الجر هو نص في التعليل بخلاف اسقاطه فإنه لا يكون نصا في التعليل، بل هو محتمل له، وللحالية أو لغيرهما، وذلك نحو قولك (جئت لرغبة في الخير) فهذا نص في التعليل أما إذا قلت (جئت رغبة في الخير) فهذا يحتمل التعليل ويحتمل الحالة أي جئت راغبا في الخير ويحتمل المفعولية المطلقة، أي جئت مجيء رغبة فالأول تعبير، والثاني تعبير احتمالي، وقد سبق أن ذكرنا أن التعبير في العربية على ضربين: قطعي أو نصي، وتعبير احتمالي. وهو بحسب القصد فإذا أردت التنصيص على العلة، جئت بحرف العلة وإن أردت التوسع في المعنى أسقطت الحرف فتكسب أكثر من معنى، فإذا قلت مثلا (ينفق ماله ¬

_ (¬1) انظر حاشية يس على التصريح 1/ 336، حاشية الخضري 1/ 194، حاشية الصبان 2/ 122، الهمع 1/ 194 - 195، التصريح 1/ 337

لمراءاة الناس) جعلت المراءاة علة، وإذا قلت (ينفق ماله رئاء) أفدت ثلاثة معان في آن واحد وهي العلة كما ذكرت أي ينفق ماله للمراءاة، والحالية أي ينفق ماله مرائيا، والمفعولية المطلقة، أي ينفق ماله انفاق رئاء أو يرائي رئاء، جاء في (المغني) في (ما يحتمل المصدرية، والحالية، والمفعول لأجلة): من ذلك {يريكم البرق خوفا وطمعا} أي فتخافون خوفا تطعمون طمعا، وابن مالك يمنع حذف عامل المصدر المؤكد إلا فيما استثنى أو خائفين، وطامعين أو لأجل الخوف والطمع .. وتقول (جاء زيد رغبة) أي يرغب رغبة أو مجيء رغبة أو راغبا للرغبة" (¬1). ومنه قوله تعالى: {وادعوه خوفا وطمعًا} [الأعراف: 56]، فإنه يحتمل المفعول له، أي للخوف والطمع ويحتمل الحالية أي ادعوه خائفين وطامعين ويحتمل المفعولية المطلقة أي ادعوه دعاء خوف وطمع، وهذه المعاني كلها مرادة والله أعلم، فإنه أراد ادعوه للخوف وأنتم في حالة خوف، ودعاء خوف، وهو اتساع كبير فبدل أن يقول ثلاثة تعبيرات مختلفة قال تعبيرا واحدا جمعها كلها. بخلاف ما لو قال (ادعوه للخوف والطمع) فإنه يكون للتعليل فقط. وبهذا نرى أن المعنى اتسع اتساعا كبيرا باسقاط حرف الجر. 2 - أن الأصل في اتيان المفعول له منصوبا، أن يدل على حصول العلة وحدوثها أما إذا جئت بالحرف فإنه قد يفيد الحصول وعدمه، ومن ذلك على سبيل المثال قولك (فعل ذلك عدوانا) و (فعل ذلك للعدوان) فإن الأولى معناها أن العدوان حصل، أما قولك (فعله لعدوان) فقد يحتمل وقوع العدوان، ويحتمل أيضا أنه أراد أنه فعله تمهيدا لعدوان أو سببا لايقاع عدوان فيما بعد، وعلى هذا المعنى الأخير فالعدوان لم يقع بعد، ألا ترى أنه يصح أن تقول: فعل ذلك لعدوان يبيته. ولا يصح مثل ذلك في المنصوب. ¬

_ (¬1) المغني: 2/ 651 - 562، وانظر التفسير القيم 256 - 258

ونحوه قوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [النمل: 14]، فالظلم حاصل، ولو قال لظلم وعلو لاحتمل المعنى، أن هذا الجحود إنما هو تمهيد لظلم وعلو سيقعان. ونحوه أن تقول (فعلت هذا اختبارا له، ولا ختبار له) فالجملة الأولى أفادت أن الاختبار حصل، أما الثانية فتحتمل ذلك، وتحتمل أنه فعله لاختبار سيجريه عليه، ألا ترى أنه يصح أن تصرح بذلك، فتقول: فعلت هذا لاختبار أجريته عليه، وفعلت هذا لاختبار سأجريه عليه. ولا يصح ذلك في المنصوب. وهذا مرتبط إلى حد كبير باتحاد المفعول له مع فعله في الزمن. وقد تقلو: أنك ذكرت قبل قليل أن المفعول له المنصوب لا يشترط اتحاده مع فعله في الزمن. فنقول: نحن منعنا قولهم أنه لا ينصب، إلا إذا اتفقنا في الزمن فنحن نجيز النصب مع اختلاف الزمانين بالدليل. فإن لم يكن هناك دليل على اختلافهما في الزمان، تعين أنه مقارن له، فالأصل في النصب أن يكون مقارنا لفعله، إلا إذا دل دليل على خلاف ذلك، أما الجر بالحرف فهو يحتمل الاختلاف والاتحاد في الزمان ابتداء. 3 - في حالة النصب تكون العلة محدودة معلومة بخلاف الجر، وذلك على سبيل المثال قولك (فعله عدوانا) و (فعله لعدوان) فالعدوان الأول معلوم وهو محدود بالفعل المذكور، أما إذا قلت (لعدوان) فهو يحتمل أنه فعل ذلك لقصد عدوان بعد، وأنا لا نعلم مدى العدوان المتوقع، ومثله (ضربك ظلما) و (ضربك لظلم) فإن مدى الظلم في الأول محدود بالضرب وأما الثانية فقد يحتمل غير ذلك كأن يكون ضربه لقصد ظلم سيوقعه به فإنا لا نعلم مدى الظلم الذي سيحلقه به. وفي هذا شبيه بما مر في الظرف في نحو (جئت صباحا) و (جئت في الصباح) ففي حالة النصب يكون الصباح معينا أي صباح يوم بعينه، وفي الثانية يكون الصباح غير معين ففي كلا التعبيرين أفاد النصب التعيين بخلاف المجرور.

4 - في حالة النصب يكون فاعل الحدث والعلة واحدًا، ما لم يدل على خلاف ذلك وأما في حالة الجر فإنه يحتمل الاتحاد في الفاعل وعدمه ابتداء، وقد مر بنا أن النحاة اشترطوا للنصب الاتحاد في الفاعل وذلك. نحو أن تقول (حرم هذا على الله) و (حرم هذا الافتراء على الله) فالأولى نص على أن المحرم هو المفتري، وأما الثانية فتحتمل أن المحرم غير المفتري أي حرم هذا لافتراء افتراه شخص آخر فأخبره أن هذا حرام. ونحوه أن تقول: (عرضت له عدوانا) فالعارض والمعتدي واحد، ولو قال (عرضت له لعدوان) لاحتمل أن يكون العدوان من شخص آخر أو من جهة أخرى. ولا يراد على هذا ما رددناه على النحاة من اشتراط الاتحاد في الفاعل لصحة النصب. فإنا نقول: أن الأصل في النصب هو الاتحاد في الفاعل، إلا إذا دل دليل على غير ذلك فإن لم يدل دليل على أن الفاعل مختلف تعين اتحادهما فيه، أما الجر فهو يحتمل المخالفة ابتداء. إننا نجيز أن يختلف الفاعلان في النصب بالقرائن، ولكن إذا لم تكن هناك قرينة تدل على اختلاف الفاعلين تعين أن الفاعل واحد بخلاف الجر المحتمل للاختلاف ابتداء. فالأصل في النصب الاتحاد في الفاعل ما لم يدل دليل على اختلافهما بخلاف الجر، وهو نظير ما ذكرناه في الاختلاف في الزمان. 5 - إن ذكر الحرف أوسع في إفادة التعليل من عدمه، فهو يوقع للعلية ما لا يصلح أن يقع بدونه، وذلك كأن تكون العلة ليست مصدرًا نحو قوله تعالى: {كذلك سخرنها لكم لعلكم تشكرون} [الحج: 36] وقوله: {والأرض وضعها للأنام} [الرحمن: 10]، {والأنعام خلقها لكم فيها دفء} [النحل: 5]، أو لإرداة تعيين زمان لا يؤديه المصدر نحو {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله} [الأنعام: 151]، ونحوه: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} [آل عمران: 152]،

فزمن الأول ماض، وزمن الثاني حال أو استقبال، علاوة على أنه يؤتى بالحرف في كل ما جاز نصبه نحو (فعلت هذا ابتغاء مرضاة الله) أو لابتغاء مرضاة الله. فهو أوسع استعمالا وتعليلا من النصب. 6 - قد يؤتى بالحرف لإرادة معنى لا يؤديه النزع، ولارادة معنى خاص به لا يؤديه حرف آخر، فإن لكل حرف من حروف التعليل معنى خاصا به، وإن كانت كلها تفيد التعليل ولذا لا يصح أن نجعل حرفا مكان آخر دوما فلا يصح مثلا في قوله تعالى {سخرها لكم} [الحج: 37]، أن يقال سخرها بكم، وسخرها فيكم بقصد التعليل. ولا يصح في قوله تعالى {والأرض وضعها للأنام} [الرحمن: 10]، أن يقال: والأرض وضعها على الأنام، أو في الأنام، أو بالأنام، لارادة معنى التعليل، وإن كانت الباء قد تأتي للتعليل وفي وعلى وغيرها. تقول: هجاه ظلما، وهجاه لظلم وهجاه بظلم، فإن معنى الأولى كما مر أن الظلم كان سببا للهجاء، والظلم والهجاء متحدان في الوقت، والفاعل كما أن الظلم محدود بالهجاء - وأما (هجاه لظلم) فتحتمل عدة معان منها أنه هجاه لظلمه أن الهاجي ظالم للمهجو، وتحتمل أنه هجاه لظلم وقع من المهجو، أي أن المهجو ظلم فهجاه الشاعر لظلمه، وتحتل أنه هجاه لإرادة ظلم سيوقعه به أي الظلم لم يقع بعد. وأما قولنا (هجاه بظلم) فمعناه أن سبب الهجاء هو الظلم من المجهو، فالهجاء مقابل للظلم الذي فعله المهجو. ونحوه: بظلم فعل هذا، ولظلم فعل هذا، فالأولى فيها الظلم حاصل، وفي الثانية قد يكون حاصلا وقد يكون متوقعا. ونحو ذلك أن تقول: لم فعلت هذا؟ وبم فعلت هذا؟

فإن الأولى استفسار عن علة الفعل، والثانية سؤال عن المقابل الذي دعاك إلى الفعل لأن العلية بالباء إنما هي مقابل لشيء حصل، أي حصل هذا بهذا، قال تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} [البقرة: 88]، وقال: {فبما رحمة من الله لنت لهم} {آل عمران: 159}، و {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 39]، أما اللام فقد تكون لما لم يقع، ولما نحو (جئت للاستفادة) فالاستفادة مطلوب تحصيلها، وقد تكون الاستفادة حاصلة. وتقول: أرسلته اختبارا له، أو باختباره، فالأولى تفيد أنه أرسله للاختبار، وأن وقت الارسال هو وقت الاختبار، وأن المرسل هو المختبر. وأما الثانية فتفيد أن سبب الارسال هو الاختبار، وقد يكون الاختبار لم يقع بعد وقد يكون فاعل الاختبار شخصا آخر. وتقول: أرسلته لتجربته وأرسلت بتجربته، فقد تفيد الأولى أنه أرسله ليجربه، والثانية تفيد أنه أرسله لأنه مجرب. وكذلك (من) التي تفيد الابتداء مع التعليل، تقول (عض أصبعه ندما) أي من الندم، ومعنى عص أصبعه من الندم أن الندم كان مبدءا للعض، وعلة له ولا يحسن أن تقول: عض أصبعه بالندم لأنك لا تريد أن تقابله به. فالباء في الغالب تفيد المقابلة مع التعليل، و (من) تفيد الابتداء مع التعليل، و (في) تفيد الظرفية مع التعليل، و (الكاف) تفيد التشبيه مع التعليل، ونحو ذلك. فكل حرف خصوصية في التعليل لا يشركه الآخر فيها، وإن كنت ترى أنه يصح أن تجعل حرفا مكان آخر في تعبير ما، فذلك لأن التعبير يحتمل أداء عدة معان، لا لأن الحرف كان بمعنى الحرف الآخر. ولنا عودة إلى هذا، في بحث حروف الجر بإذن الله.

المفعول معه

المفعول معه حده: يحد النحاة المفعول معه، بأنه" اسم فضلة بعد واو أريد بها التنصيص على المعية مسبوقة بفعل، أو فيه حروفه ومعناه (¬1) " نحو سرت والشارع. ومن هذا يتبين أن المفعول معه ما اجتمع فيه ثلاثة أمور: 1 - أن يكون اسما نحو (جئت والليل) فيخرجون بهذا نحو (لا تأكل السمك وتشرب اللبن) و (لا تأكل وتضحك) بنصب الفعل لأنه ليس اسما، والحقيقة هو اسم لأنهم يجعلون صبه بأن المصدرية بعد الواو فكان ينبغي ادخاله في المفعول معه، وهو أولى من عد الواو عاطفة والمصدر المؤول معطوفا، على المصدر المتصيد بمعنى: لا يكن منك أكل وضحك كما ذهب إليه الجمهور. وكونه مفعولا معه ذهب إليه بعض النحاة (¬2). 2 - أن يكون واقعا بعد جملة فيها فعل، أو ما فيه معنى الفعل، وحروفه نحو (أنا سائر والطريق) فـ (سائر) فيه معنى الفعل وحروفه. وفي هذا الشرط نظر، فقد ورد المفعول معه مع غير الفعل، ومع غير ما فيه معنى الفعل وحروفه نحو قوله: إذا كات الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند فليس (حسبك) فعلا ولا فيه حروف الفعل، وقوله: فقدني وإياهم فإن الق بعضهم ... يكونوا كتعجيل السنام المسرهد ونحو قولك (مالك وخالد؟ ) قال المسكين الدرامي: ¬

_ (¬1) شرح قطر الندى 323، وانظر الأشموني 2/ 134 - 135، التصريح 1/ 342 (¬2) حاشية الصبان 2/ 135

معنى المصاحبة

فمالك والتلدد حول نجد ... وقد غصت تهامة بالرجال ونحو (ما شأنك ومحمدا؟ ) و (كيف أنت والنحو؟ ) و (ما أنت وسعيدا؟ ) ولا داعي للتقديرات المتكلفة. 3 - أن يكون واقعا بعد الواو الدالة على المصاحبة، وهي التي تفيد التنصيص على المعية. فالمفعول معه في الحقيقة هو " اسم فضلة تال لواو المصاحبة". معنى المصاحبة: يعني النحاة بالمصاحبة أو بالتنصيص على المعية، مصاحبة ما بعد الواو لما قبلها في وقت واحد، سواء اشتركا في الحكم ام لا ن فقولك (جئت ومحمدا) معناه أنكما جئتما في وقت واحد، وهذا هو الفرق بين واو المعية وواو العطف، فواو العطف تقتضي التشريك في الحكم سواء اقترن معه بالزمان أم لم يقترن، وأما واو المعية فتفيد الاقتران بالزمان سواء اشترك بالحكم أم لا. وايضاح ذلك أنك حين تقول (جاء محمدًا وخالدًا) بالنصب فقد اردت التنصيص على المصاحبة أي أنهما جاءا في وقت واحد، وإن قلت (جاء محمد وخالد) فقد أفدت اشتركا في المجيء ولم تنص على أنهما جاءا في وقت واحد، فبالعطف يحتمل أنهما جاءا معا، ويحتمل أن محمدًا جاء قبل خالد ويحتمل أن خالدا جاء قبل محمد بخلاف المعية ولهذا لا يصح أن يقال (جاء محمد وخالدا قبله أو بعده) لأن المعية ستكون مفقودة وإنما هذا متعين للعطف. فإذا أردت التنصيص على المصاحبة نصبت، وإن لم ترد التنصيص على ذلك عطفت. وقد يقع بعد الواو ما لا يصح اشتراكه في الحكم مع ما قبلها نحو (سرت والجدار) و (مشت والطريق) فهذا معية لا عطف، لأنه لا يصح أن يشترك الجدار والاسم السابق في السير، ولا في الطريق مع ما قبله في المشي.

فالمعية هي المصاحبة سواء اشتركا في الحكم ام لم يشتركا، والعطف هو الاشتراك في الحكم سواء تصاحبا أم لا. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " ويعني بالمصاحبة كونه مشاركا لذلك المعمول في ذلك الفعل في وقت واحد فـ (زيد) في (سرت وزيدا) مشاركة للمتكلم في السير وقت واحد، أي وقع سيرهما معا. وفي قولك (سرت أنا وزيد) بالعطف يشاركه في السير لكن لا يلزم كون السيرين في وقت واحد .. وإنما يعدل ما بعده عن العطف إلى النصب نصبا على المعنى المراد من المصاحبة، لأن العطف في (جاءني زيد وعمرو) يحتمل تصاحب الرجلين في المجيء، ويحتمل حصول مجيء أحدهما قبل الآخر. والنصب نصب على المصاحبة وفي قولك (ضربت زيدا وعمرا) لا يمكن التنصيص بالنصب على المصاحبة لكون النصب في العطف الذي هو الأصل أظهر (¬1). وجاء في (حاشية الصبان) أن التنصيص على المصاحبة معناه: " مقارنته له في الزمان سواء اشتركتا في الحكم كجئت وزيدا أولا كاستوى الماء والخشبة وبذلك فارقتا واو العطف فإنها تقتضي المشاركة في الحكم، ولا تقتضي المقارنة في الزمان .. فلو لم يمكن التنصيص بها على المصاحبة لنصب ما قبلها وصحة تسلك العامل على ما بعدها كما في ضربت زيدا وعمرا كانت للعطف اتفاقا قاله الدماميني" (¬2). أما قولهم أن نحو (ضربت زيدا وعمرا) للعطف لا للمعية ففيه فهذا مما يحتمل المصاحبة وعدمها فهو من التعبيرات الاحتمالية التي سبق أن أشرنا إليها في نحو (جئت إكراما لك) فـ (اكراما) يحتمل المفعول لأجله والحالية. فالأولى أن يقال: أنه إذا أريد معنى الصحابة فهو مفعول معه وإلا فهو معطوف. ويبدو لي أن معنى المصاحبة أوسع مما ذكره النحاة، فهي لا تنحصر في الاقتران بالزمان فقط وإنما هي لعموم الاقتران، ومن ذلك على سبيل المثال أن تقول (سرت ¬

_ (¬1) الرضي 210 (¬2) الصبان 2/ 134

المعية والعطف

والشارع) فليس في هذا اقتران زماني بل هو اقتران مكاني، وقد يكون لغير ذلك نحو (مالك وخالدا) و (كيف أنت وخالدا) و (رأسك والحائط) و (شأنك والمال) و (إياك والكذب وإياك والمراء) فإن هذا مما صح أن يكون مفعولا معه عند النحاة (¬1) كما أسلفنا. فهذا ليس اقتران زمان أو مكان، وإنما هو لعموم المصاحبة. المعية والعطف: يذهب النحاة إلى أن العطف أرجح من المعية إذا أمكن بلا ضعف، نحو: جاء محمد وخالد، وكيف أنت سعيد؟ وإذا ضعف العطف رجح النصب على لمعي نحو: جئت وخالدا، وإذا امتنع العطف وجبت المعية، وإذا تعين العطف امتنعت المعية، وعلى هذا فهم يقسمون الاسم الواقع بعد الواو أقساما هي: 1 - وجوب العطف نحو: جاء محمد وخالد قبله، ونحو (كل رجل وعمله) لعدم الصاحبة في الأولى، ولعدم تقدم جملة على الواو في الثانية، وأجاز بعضهم نصب الثانية مطلقا (¬2). 2 - وجوب المعية وذلك إذا كان العطف ممتنعا نحو (قمت وطلوع الشمس) لأنه لا يصح اشتراك ما بعد الواو مع قبلها في الحكم. 3 - جواز الأمرين مع رجحان العطف، نحو (جاء محمد وخالد) و (كيف أنت ومحمد؟ ) و (ما أنت وسعيد) وذلك لأن الطف جائز بلا ضعف، قال ابن مالك. والعطف أن يمكن بلا ضعف أحق ... والنصب مختار لدى ضعف النسق ¬

_ (¬1) انظر التسهيل 193، الرضي 1/ 198، الأشموني 3/ 191 (¬2) الصبان 2/ 135، الرضي 1/ 214، الهمع 1/ 221، حاشية الخضري 1/ 200

4 - جواز الأمرين مع رجحان المعية، نحو (جئت ومحمد) و (اذهب وعمرا) لأن العطف على ضمير الرفع المتصل لا يقوى إلا من الفصل، وجعل ابن هاشم منه نحو (كن أنت وزيدا كالأخ) قال: " وذلك لأنك لو عطفت على الضمير في (كن) لزم أن يكون زيد مأمورا، وأنت لا تريد أن تأمره، وإنما أن تأمرماخاطبك بأن يكون معه كالأخ" (¬1). 5 - ما يجوز فيه الأمران على السواء نحو (رأسك والحائط، جاء في (الهمع): " ما يجوز فيه العطف والمفعول معه على سواء، وذلك إذا أكد ضمير الرفع المتصل نحو: ما صنعت أنت وأباك؟ ونحو رأسه والحائط أي خل أودع، وشأنك والحج أي عليك بمعنى الزم، وامرءا ونفسه أي دع، وذلك مقيس في كل متعاطفين على إضمار فعل لا يظهر، فالمعية في ذلك والعطف جائزان، والفرق بينهما من جهة المعنى أن المعية يفهم منها الكون في حي واحد دون العطف، لاحتماله مع ذلك التقدم والتأخير" (¬2). 6 - امتناع الأمرين نحو قوله: علفتها تبنا وماء وباردا وقوله: إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا فإن العطف ممتنع لأن الماء لا يشارك التبن، في العلف إذ لا يسمى الماء علفا، فلا يقال علفتها ماء، والمعية ممتنعة لانتفاء المصاحبة فإنه لابد من تقدم أحدهما. وكذلك بالنسبة لقوله (وزججن الحواجب والعيونا) فإن العيون لا تشارك الحواجب في التزجيج لأن التزجيج هو التدقيق الطويل، كما أنه لا فائدة في الاخبار بمصاحبة العيون للحواجب لأنها مصاحبة لها دوما، فأما أن يؤول الفعل الأول بفعل مناسب نحو (أنلتها) في البيت الأول نحو (زين) في البيت الثاني أو يقدر عامل محذوف، نحو: ¬

_ (¬1) شرح قطر الندى 232 - 233 (¬2) الهمع 1/ 222

سقيتها ماء باردا وكحلن العيونا (¬1). وفي هذا التقسيم نظر فإنه ليس عندنا جواز أمرين مع الترجيح، أو بدون ترجيح، وإنما ذلك بحسب المعنى، والقصد فإن قصد التنصيص على المصاحبة نصب، وإن لم يقصد عطف، ففي قولك (جاء محمد وخالد) لا يكون العطف أرجح وإنما هو بحسب المعنى والقصد، فإن أراد أنهما اشتركا في الجيء من دون نظر إلى المصاحبة عطف. وكذلك ليس قولك (كيف أنت ومحمد) بالرفع ارجح من النصب، وإنا هو بحسب المعنى فإن قصدت السؤال عنه وعن محمد، أي كيف أنت، وكيف محمد، عطفت لا غير، وأن إردت السؤال عن العلاقة ببينهما نصبت لا غير. وكذلك نحو قوله (جئت ومحمدا) فليس النصب فيه ارجح، وإنما هو بحسب القصد كما ذكرت. وأما قوله (كن أنت وزيدا كالأخ) فهذا مما لا يجوز فيه لعطف لأنك لا تأمر زيدا بشيء فتجويز ابن هشام العطف أمر غريب. ومثله قول الشاعر فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال فهذا مما لا يجوز فيه العطف لأنك لا تأمر بني أبيهم بشيء، قال أبو البقاء: " كان ينبغي من النصب يجب إذ ليس المعنى أنه أمر بني أبيهم بشي، بل أمرهم بموافقة بني أبيهم ويدل على ذلك أنه أكد الضمير بقوله أنتم، ولو كان المانع من الرفع كون المعطوف عليه مضمرا لجاز هنا" (¬2). وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما يجوز فيه الوجهان على السواء، في نحو ذكر السيوطي في (الهمع) نحو (ما صنعت أت وأباك) ونحوه (رأسه والحائط) مع أنه ذكر الفرق بينهما من جهة المعنى والحق أنه إذا أراد التنصيص على المعية معه لا غير، وإلا كان معطوفا. ¬

_ (¬1) انظر الأشموني 2/ 138، التصريح 1/ 344 - 346، سيبويه 1/ 156 (¬2) التصريح 1/ 345

فليس إذن هناك، وجه أرجح من وجه، وإنما هو بحسب القصد، جاء في (شرح الرضي على الكافية) في نحو قولهم (ما لزيد وعمرو وما شأن زيد وعمرو): " قال المصنف: العطف واجب فيه إذ هو الأصل فلا يصار إلى غيره لغير ضرورة، وليس بشيء لأن النص على المصاحبة هو الداعي إلى النصب، وقد يكون الداعي إلى النصب ضروريا، ولو سلمنا أنه ليس بضروري قلنا: لم لا يجوز مخالفة الأصل لداع وإن لم يكن ضروريا؟ وقال غيره: العطف هو المختار مع جواز النصب، والأولى أن يقال أن قصد النصب على المصاحبة وجب النصب وإلا فلا .. والثاني نحو مالك وزيدا، وما شأنك بجعل الضمير مكان الظاهر المجرور .. فقال المصنف ههنا أنه يتعين النصب نظرا إلى لزوم التكلف في العطف، وقال الأندلسي: يجوز العطف على ضعف أن لم يقصد النص على المصاحبة وهو اولى" (¬1). وجاء في (حاشية التصريح) في قولنا (جاء زيد وعمر): " قال الحفيد: اعلم ان معنى الرفع والنصب مختلف لأنه مع النصب يكون جاءا معا وفي الرفع يحتمل أن يكونا جاءا معا أو مفردين والثاني قبل الأول، أو بالعكس فكيف يحكم برجحان الرفع مع اختلاف المعنى. والذي يظهر أن قصد المعية نصبا نصبت لا غير، وإن لم يقصد المعية نصا رفع لاغير" (¬2). وهذا ملاك الأمر. وأما القسم الأخير وهو امتناع العطف والعية، فهو على كلا التقديرين يكون من العطف. فإن ضمنت الفعل معنى فعل آخر، كانت الواو عاطفة وإن قدرت فعلا بعد الواو كانت الواو عاطفة جملة على جملة. ¬

_ (¬1) الرضي 1/ 212 (¬2) حاشية التصريح 1/ 344 - 345، وانظر الصبان 2/ 138، حاشية الخضري 1/ 201 - 202

الواو ومع

الواو ومع: يذكر النحاة أن الواو في نحو (سرت ومحمد) بمعنى مع. فهل من فرق بين قولنا (سرت ومحمدا) و (سرت مع محمد)؟ أو بعبارة أخرى هل هناك فرق بين واو المعية ومع؟ 1 - أن الفارق الرئيس بين واو المعية ومع، أن مع مكان أو زمان، فالأول نحو جئت مع سعيد، وأنا معك، والثاني نحو: جئت مع الغروب، بل الأكثر أن تكون للمكان، وقد وردت في القرآن الكريم في (160) مائة وستين موطنا كلها للمكان، أما الواو فهي حرف يفيد المصاحبة والاقتران، وليس مكانا أو زمان ولذا قد يختلفان في المعنى وفي ورودهما في التعبير، ومن ذلك على سبيل لمثال قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} [هود: 112]، فهناك فرق بين قولك (ومن تاب معك)، وقولنا ومن تاب ياك، فمعنى من تاب معك، هنا من تاب كائنا معك، أو صائرا، معك فهي مكان ولو أبدل الواو بهذا لتغير المعنى، فلو قال: ومن تاب وإياك، لكان المعنى أنكما اقترنتما في التوبة أي تبتما في وقت واحد، وقد تحتمل مع معنى الواو أيضا إلا أنها هنا لا يراد بها إلا المكان لا الاقتران. ومثله قوله: {التي هاجرن معك} الأحزاب: 50]، والمعنى هاجرن كائنات معك، أو صائرات معك، ولو قال (هاجرن وإياك) لا تختلف المعنى، فقولنا (هاجرن وإياك) معناه انكم اقترنتم في الهجرة أو تصاحبتم في الهجرة أي في وقت واحد. ومن المعلوم أنه لا يصح القول هاجرن وإياك، لأنهن لم يحصبنه في الهجرة، وإنما صحبه أبو بكر فقط. ومع ذلك فإن مع تحتمل معنى الواو، إلا أنها هنا لا تحتمل إلا ما ذكرنا فقولنا هاجرن معك يحتمل معنيين: الصحبة في الهجرة أي الاقتران، ويحتمل أنهن هاجرن صائرات معك، أما الواو فلا تحتمل المعنى الأول. ومثله قوله تعالى: {وتوفنا مع الأبرار} {آل عمران: 193}، أي توفنا داخلين مع الأبرار، ولا تصلح الواو هنا، فلو قلنا (توفنا والابرار) لكان المعنى أنهم يقترنون في

الوفاة أي يتوفون في وقت واحد وليس هذا المقصود. ومثله قوله تعالى: {وأسلمت مع سلمان لله رب العالمين} [النمل: 44]، أي كائنة مع سليمان، أو صائرة معه، ولا تصلح الواو هنا لو قال (وأسلمت وسلمان) لكان لمعنى أنهما اقترنا في دخول الاسلام أي دخلا في الاسلام في وقت واحد، وهي غير صحيح لأن سليمان سبقهما في الإسلام. ومثله قوله تعالى: {فالذين أمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه اولئك هم المفلحون} [الأعراف: 157] فلا يصح أن يقال: (اتبعوا النور الذي أنزل واياه) لأنهما لم يشتركا في الإنزال، ولم يتقرنا فيه فإن الرسول لم ينزل أصلا. ومثله قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25]، فلا يصح أن يقول (أنزلنا وإياهم الكتاب) لأنهم لم يقترنوا في الإنزال، فإن الرسل لم تنزل. فتبين من هذا أن الواو لمجرد الاقتران والاصطحاب بخلاف مع التي هي مكان او زمان، تقول: إياك والمراء، فهذا مفعول معه، ولا يصح أن يقال (إياك مع المراء) لأن المراد تحذيره من المراء. 2 - ولكون (مع) مكانا أو زمانا صح الاخبار بها، ولا يخبر بالواو تقول (إن الله مع الصابرين) ولا تقول إن الله والصابرين، وتقول السفر مع سعيد، ولا تقول السفر وسعيدا. فالواو حرف يفيد الاقتران، فلا يتم المعنى إلا بالخبر فلو قلت (السفر وسعيدا) لم يتم المعنى. 3 - قد تكون مع للمساعدة والإعانة نحو: {إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153]، ونحوه: {إنني معكما أسمع وارى} [طه: 46]، ولا تكون الواو لهذا المعنى.

ومع ذلك فهما متقاربان فإن (مع) اسم للصحبة والاجتماع، ولكنهما ليسا متمالين تماما، جا في (التطور النحوي): وأن أن القدماء من النحويين أصابوا في رأيهم أن الواو في مثل (ما أنت والكلام) تؤدي معنى (مع) وتعمل النصب، وفي تسيتهم إياها واو المعية، مع أن أصلها وأصل عملها غامض جدا .. وواو المعية تستعمل في الجمل الكاملة أيضا نحو (استوي الماء والخشبة) أي كان كان سطح الماء في مستوي الخشبة، فمعنى الواو في هذا المثال، وفي أكثر الأمثلة الفصيحة، لا يطابق معنى (مع) تمام بل هو أخص منه كأنه الواو ترمز إلى شيء من تأثير الاسم السابق لهما، فيما بعده أو التأثير به" (¬1). ¬

_ (¬1) التطور النحوي 85

المستثنى

المستثنى يحد النحاة الاستثناء بأنه" هو الاخراج بإلا أو إحدى أخواتها لما كان داخلا أو منزلا منزلة الداخل (¬1) " والاستثناء كما هو ظاهر من الحد له أدوات نحو إلا وغير، وسوى وخلا وعدا، وحاشا، وغيرهما، وأهم أدوات الاستثناء هي إلا. و (إلا) أداة سامية استعملها الآراميون والسريان جاء في (التطور النحوي): و (إلا) تطابق الآرامية elle غير أن ella لم تبتعد عن أصلها ابتعاد (إلا) عنه، بيد ان السريانين قد يجمعون بين ellu وبين en أصلها، ولم تفعل العرب ذلك (¬2) .. غير أن العربية اتسعت فيه وفي أدواته اتساعا لا تماثله فيه سائر اللغات السامية جاء في (التطور النحوي): " وقد وضعت العربية القواعد الدقيقة للاستثناء وأكثرت من حروفه وفرقت بينها في بعض الأحوال فصار الاستثناء فيها بابا مستقلا بنفسه، لا يماثلها فيه أحد سائر اللغات السامية" (¬3). الاستثناء بإلا وأقسامه: ينقسم الاستثناء بإلا إلى، تام ومفرغ، وينقسم التام إلى متصل، ومنقطع. الاستثناء التام: الاستثناء التام هو ما ذكر فيه المستثني منه نحو حضر الرجال إلا عليا. وهو على قسمين: متصل، ومنقطع. ¬

_ (¬1) الأشموني 2/ 141 وانظر الهمع 1/ 222، التصريح 1/ 346، التسهيل 101 (¬2) التطور النحوي 117 (¬3) التطور النحوي 117

1 - الاستثناء المتصل: وهو ما كان المستثنى فيه بعضا من المستثنى منه، نحو سافر الرجال إلا سعيدا، فسعيد مستثنى متصل لأنه بعض الرجال، ونجح الممتحنون إلا خالدا فخالد مستثنى متصل لأنه بعض الممتحنين. 2 - الاستثناء المنقطع: وهو ما كان فيه المستثنى ليس بعضا من المستثنى منه، كقوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} [الحجر: 30 - 31]، فإبليس ليس من الملائكة، بل هو من الجن قال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجد لادم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50]، والجن ليسوا من الملائكة، بدليل قوله تعالى: {يوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة اهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم يهم مؤمنون} [سبأ: 40 - 41]، فهو إذن استثناء منقطع. ومثله قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما} [الواقعة: 25 - 26]، فقوله (قيلا سلاما سلاما) ليس من اللغو ولا من التأثيم لأن اللغو السقط، ومالا يعتد به من كلام وغيره، ومثله قوله تعالى: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} [النساء: 157]، والظن ليس علما، ونحو (حضر الطلاب إلا البواب)، فالبواب ليس من الطلاب. ولا يشترط في المستثنى المنقطع أن يكون جنسه مغايرا لجنس المستثنى منه، كما في (جاءت النساء إلا نعجة) و (حضر القوم إلا حمارا) بل المنقطع ما كان فيه المستثنى ليس بعضا من المستثنى منه، سواء كانت المغيرة بالجنس أم بالنوع، أم بغيرهما فقولك حضر الطلاب إلا البواب، استثنا منقطع وإن كانوا جميعا من جنس واحد، وقولك حضر إخواتك إلا أخا سعيد، وأقبل بنوك إلا ابن محمد، منقطع وإن كانوا جميعا من نوع واحد وذلك لأن البواب ليس من بعض الطلاب وابن محمد ليس بعضا من بنيك (¬1). ¬

_ (¬1) انظر حاشية الصبان 2/ 142

الاستثناء المفرغ

الاستثناء المفرغ: وهو ما لم يذكر فيه المستثنى منه، نحو (ما حضر إلا سالم) وكقوله تعالى: {إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام: 25]، ولا يكون هذا الاستثناء عند اكثر النحاة إلا في الموجب، وهو المسبوق بنفي، أو نهي، أو استفهام نحو: {هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: 3]، و (لا تضرب إلا المقصر)، ولا يجوز وقوعه في الموجب، فلا يصح أن تقول (حضر إلا خالد) لأن المعنى حضر جميع الناس إلا خالدا، وهو باطل (¬1). فإذا استقام المعنى في الإيجاب صح وذلك كأن تكون هناك قرينة على إرادة جماعة مخصوصة، فنقول (قام إلا محمد) إذا كنت تستثنى محمدا من جماعة مخصوصة، وتقول (قرات إلا يوم الخميس) إذا خصصت يوم الخميس من اسبوع معين، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " ويمكن أن يقع في بعض المواضع على بعض معين من الجنس المعلوم، دخول لمستثنى فيه دليل كما أنه إذا قيل لك (ما لقيت صناع البلد) فتقول (لقيت إلا فلانا) لكن الأغلب عدم التفريغ في الموجب (¬2). فنقول في الإيجاب (يعلم تعالى الأقدم العالم أو حدوث ذاته) وقال تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله} [الأنفال: 16]، فهذا الاستثناء مفرغ من الإيجاب (¬3). لأن المعنى مستقيم وقد يفرغ في الإيجاب لقصد المبالغة كأن تقول: (ضربني إلا محمد) والمراد كل من يتصور منه الضرب من معارفك، أو المقصود منه المبالغة في غلو المجتمعين على ضربك" (¬4). ويجوز التفريغ في موجب مؤول بالنفي (¬5) كقوله تعالى: {فأبى أثكر الناس إلا ¬

_ (¬1) انظر الهمع: 1/ 223، التصريح 1/ 348 (¬2) الرضي 1/ 255، وانظر ملا جاي 168، حاشية الصبان 2/ 150 (¬3) انظر الرضي 1/ 255 (¬4) ملا جامي 169 (¬5) البرهان 4/ 241

القصر في الاستثناء المفرغ

كفورا} [الفرقان: 50]، وقوله: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} [التوبة: 32]، وكقوله تعالى: {عاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} [يوسف: 79]، فهذا استثناء مفرغ لأن معناه لا نأخذ، إلا من وجدنا متاعنا عنده. القصر في الاستثناء المفرغ: الاستثناء المفرغ يفيد القصر، فإذا قلت (ما حضر إلا خالد) فقد نفيت الحضور كله، إلا حضور خالد بخلاف ما لو قلت (حضر خالد) فإنه يجوز أن يكون حضر معه غيره، جاء في (المقتضب): " وإنما احتجت إلى النفي والاستثناء لأنك إذا قلت (جاءن زيد) فقد يجوز أن يكون معه غيره، فإذا قلت (ما جاءني إلا زيد) نفيت المجيء كله إلا مجيئه (¬1). وقال ابن يعيش: " وفائدة الاستنثاء في قولك: ما قام إلا زيد إثبات القيام له، ونفيه عمن سواه، ولو قلت (قام زيد) لا غير لم يكن فيه دلالة على نفيه عن غيره" (¬2). والحقيقة أن (إلا) سواء كانت في التفريغ أم في غيره تفيد الاختصاص، فإذا قلت: (قام الرجال إلا خالدا) فقد أثبت القيام لجميع الرجال، ونفيته عن خالد حصرا، وإذا قلت (ما قام إلا خالد) فقد نفيت القيام عن كل أحد وأثبته لخالد حصرا، قال الرماني: " معنى (إلا) اللازم لها الاختصاص بالشيء دون غيره، فإذا قلت (جاءني القوم إلا زيدا) فقد اختصصت زيدا بأنه لم يجيء ولذا قلت (ما جاءني إلا زيدا) فقد اختصصته بالمجيء، وإذا قلت (ما جاءني إلا زيد) فقد اختصصت هذه الحال دون غيرها من المشيء والعدو ونحوه" (¬3). غير أن القصر في التفريغ أعم وأشمل، وذلك إذا قلت (ما حضر الرجال إلا خالدا) فقد استثنيت حضور خالد من الرجال، وقد يكون أطفال أو نساء فإن قلت: (ما حضر إلا خالد) فقد نفيت كل حضور غير حضوره، ولذا لا يصح أن نقول (حضر إلا خالدا) ¬

_ (¬1) انظر الرضي 1/ 255، التصيح 1/ 349، الأشموني 2/ 144 (¬2) المقتضب 4/ 389 (¬3) البرهان 4/ 241

لأنه على ذلك يكون معناه أنه حضر كل من يمكن حضوره في الدنيا من رجال ونساء وأطفال وغيرهم، إلا خالدا، وهو غير صحيح، فإنه يمكن أن لا يجيئك إلا واحد، ولكن يمتنع أن يأتيك أهل الدنيا كلهم إلا واحدا. فالقصر في التفريغ اعم وأشمل. والقصر له اساليب وأدوات، فقد يكون القصر بـ (إنما) نحو (إنما أنتَ مبطل). وقد يكون بالنفي والاستثناء نحو (ما أنت إلا شاعرٌ). وقد يكون بحرف العطف، نحو: {أقبل محمد لا خالد)، وقد يكون بتقديم ما حقه التأخير نحو: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، و (محمد أكرمت). وقد مر (القصر) بـ (إنما) في الأحراف المشبة بالفعل، ومر القصر بالتقديم في المبتدأ والخبر وفي المفعول به، وقد عرفنا أن القصر بإنما يكون لما هو ظاهر مما لا ينكره المخاطب، أو ما نزل هذه المنزلة نحو (إنما هو أخاك) {إنما نح مصلحون} [البقرة: 11]، ويحسن وقوعها في التعريض كقوله تعالى: {إنما يتذكر أولوا الألباب} [الرعد: 19]. وأما القصر بالفي والاستثناء فإنما يكون لما ينكره المخاطب كأن تقول (ما ضر به إلا قاسم) إذا كان المخاطب ينكر أن يكون الضارب قاسمًا جاء في (نهاية الإيجاز) أن قولهم ما هو إلا كذاب، وإن هو إلا كذاب إنما يستعمل في الأمر الذي ينكره المخاطب، أو ما ينزل هذه المنزلة وإذا كان كذلك فلا يصح استعمال هذه العبارة في الأمر الظاهر، فلا تقول للرجل الذي ترققه على أخيه، وتنبهه للذي يجب عليه من صلة الرحم (ما هو إلا أخوك). مثال الأول إذا رأيت شخصا من بعيد فقلت (ما هو إلا زيد) لم تقله إلا وصاحبك يتوهم أنه غير زيد ويجد في إنكار أنه زيد" (¬1). ¬

_ (¬1) نهاية الإيجاز (152)، وانظر الإيضاح 123، شرخ المختصر 85

وأما القصر بالعطف نحو (جاء محمد لا خالد) فإنما يكون بين أمرين، أو أمور تثبت بعضها منها، وتنفي بعضا فقولك (جاء محمد لا خالد) إنما ثبت فيه المجيء لمحمد ونفيته عن خالد، وأما قولك (ما جاء إلا خالد) فقد أثبت في المجيء لخالد ونفيته عمن سواه، فالقصر عن طريق النفي والاستثاء أعم، فالبعطف تذكر أمورًا معينة، يكون الاثبات لبعضها والنفي لبعضها الآخر، فقولك (أكرمت محمدا لا سعدا) إنما ذكرت فيه شخصين فقط، أثبت الاكرام لأحدهما ونفيته عن الاخر، بخلاف قولك (ما أكرمت إلا محمدا) فقد نفيت الاكرام عن كل شخص إلا محمدا، فالقصر عن طريق النفي والاستثناء أعم وأشم. وأما القصر بالتقديم فقد يكون لغير إنكار، أو دفع لإرادة تخصيص المتقدم بالحكم وقد يكون السامع لا ينكر هذا الأمر، كأن تقول (خالدا أكرمته) أي خصصته بالكرم والمخاطب لا ينكر هذا ولا يدفعه، قال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] وقال: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87]، فهذا لا يحسن المجيء بالنفي وإلا وإن كان المعنى على القصر، وذلك أن المعنى أنكم من الرسل على طريقتين أما أن تقتلوهم وإما أن تكذبوهم وهم لا ينكرون ذلك بما يقرونه، فهم خصوا فريقا بالتكذيب، وخصوا فريقا بالقتل. ونحو قوله تعالى: {أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتسون ما تشركون} [الأنعام: 40 - 41]، فهم يقرون أنهم إذا أصابهم الضر خصوا ربهم بالدعاء، ونسوا ما يشركون. وقد يكون الأمر يجهله المخاطب، وذلك كقوله (هو لانفسه ينصر ولا ابنه يزجر) أي هو لا يقدر أن يخص نفسه بنصر، ولا ابنه بزجر، وتقول (هو نفسه يظلم وصديقه يحرم). وقد يكون التقديم لغرض التوجيه والتعليم، وليس من باب الرد على فعل أو اعتقاد، أي أن هذا الأمر ينبغي أن يكون مخصوصا بالمتقدم، وذلك كقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:

{وربك فكبر} [المدثر: 3]، أي خص ربك بالتكبير فهذا من باب التوجيه. والتعليم، وليس ردا على فعل أو اعتقاد بخلاف القصر بالاستثناء الذي فيه رد على إنكار وفيه قوة وتأكيد، وقد جاءه التوكيد والقوة من الرد على الإنكار. لأن المنكر يحتاج إلى قوة وتأكيد في الرد عليه ولذا يؤتى به في المواقف التي يحتاج إلى تأكيد كبير أو إلى رد على إنكار قال تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله} [البقرة: 83]، فجاء به في مقام التوكيد والتغليظ وهو أخذ العهود المواثيق، وقال: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} [هود: 88]، وهو على لسان شعيب عليه السلام، بعد أن أنكر عليه قوما قائلين: {قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد} [هود: 87]، فرد على إنكارهم بالنفي والاستثناء، ومنه قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام ناعيا على الشرك وأهله: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله امر ألا تعبدون إلا إياه} [يوسف: 39 - 40]، فانظر كيف جاء بالحصر على طريقة النفي والاستثناء منكرا عليهم شركهم: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتوها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} [يوسف: 40]. وقد يكون التقديم لغير إرادة القصر بل لمجرد الاهتمام بخلاف الاستثناء المفرغ الذي لا يكون إلا للعصر وذلك نحو قوله تعالى: {ونوحا هدينا من قبل} [الأنعام: 84]، فإنه ليس معناه لم نهد إلا نوحا، ونحو قوله تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر: وأما السائل فلا تنهر} [الضحى: 9 - 10]، فإنه ليس على معنى القصر، وذلك لأنه على القصر يكون المعنى أنه منهي عن قهر اليتيم دون غيره من الخلق، فإنه يجوز له أن يقهر غير اليتيم، وينهر غير السائل، وهذا المعنى غير مراد، وإنما قدم ما قدم للاهتمام، وذلك لأن اليتيم ضعيف وأنه مظنة للقهر، وكذلك السائل فقدمهما للاهتمام بأمرها.

أحكام المستثنى الاعرابية

وعلى هذا فالحصر بالنفي و (إلا) يكون لما ينكره المخاطب، ويدفعه وأما الحصر بالتقديم فيكون لأغراض منها: 1 - إرادة تخيص المتقدم بحكم مما لا ينكره الخاطب. 2 - تخصيص المتقدم بحكم يجهله المخاطب. 3 - التخصيص لغرض التوجيه والتعليم. 4 - التقديم للاهتمام لا الحصر. أحكام المستثنى الاعرابية: ومن المعلوم أنه إذا كان الاستثناء تاما وكان موجبًا فالمستثنى منصوب وجوبا نحو: (حضر الرجال إلا خالدا) قال تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا} [البقرة: 249]. أما إذا لم يكن موجبا فإن كان مفرغا فالمستثنى بحسب ما يستحق من الإعراب، نحو (ما حضر إلا خالد) و (ما أكرمت إلا محمدا) و (مامررت إلا بخالد) وإن كان مفرغا وهو غير موجب، فإن كان الاستثناء متصلا فالأرجح الاتباع، ويجوز النصب نحو (ما حضر الرجال إلا خالد) ويجوز (إلا خالدا)، وإن كان منقطعا فالنصب واجب عند الحجازيين، راجح عند التميمين، تقول: (ما حضر الطلاب إلا البواب) بالنصب قال تعالى: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} [النساء: 157]، فالنصب فهو منصوب وجوبا في لغة الحجاز أما في لغة تميم فالنصب راجح ويجوز الاتباع عندهم على البدلية، فإن لم تصح البدلية وجب النصب أيضا عند بني تميم، نحو (ما زاد هذا المال إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر) (¬1) ويبدو أن اختيار النصب في المنقطع أو إيجابه على لغتي أهل الحجاز وتميم إنما هو عائد إلى التساهل في الابدال وعدمه، وذلك أن الحجاز يبين كما يبدو متشددون في ¬

_ (¬1) انظر التصريح 1/ 352 الأشموني 2/ 148، الهمع 1/ 225

الإبدال من المنقطع، فيمنعون الاتباع، وأما التميميون فقد يتسامحون فيه، ولذا كان النصب عندهم راجح على الأصل، فإذا أرادوا التجوز اتبعوا، فإن تعذر الابدال وجب النصب وامتنع الاتباع عند الجميع، جاء في (كتاب سيبويه): " هذا باب ما يختار فيه النصب لأن الآخر ليس من نوع الأول " وهو لغة أهل الحجاز وذلك قولك ما فيها أحد إلا حمارا، جاؤا به على المعنى ولكن حمارا وكرهوا ان يبدلوا الآخر من الأول فيصير كأنه من نوعه .. وأما بنو تميم فيقولون: (لا أحد فيها إلا حمار) أرادوا ليس فيها إلا حمار ولكنه ذكر أحد توكيدا، لأن يعلم أن ليس فيها آدمي ثم إبدل. . ومثل ذلك قوله (مالي عتاب إلا السيف) جعله عتابه كما انك تقول (ما أنت إلا سير) إذا جعلته هو السير وعلى هذا أنشدت بنو تميم قول النابغة الذبياني: يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد وقفت فيها أصيلانا اسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا أواري لأيا ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد وأهل الحجاز ينصبون. ومن ذلك من المصادر (ماله عليه بسلطان إلا التكلف) لأن التكلف ليس من سلطان .. وأما بنو تميم فيرفعون هذا كله يجعلون اتباع الظن علمهم، وحسن الظن علمه والتكلف سلطانه (¬1) وجاء في (شرح التصريح): " فإنه تارة يمكن التسليط العامل على المستثنى وتارة لا يمكن، فإن لم يمكن تسليط العامل على الستثنى، وجب النصب في المستثنى اتفاقا من الحجازيين والتميميين نحو (ما زاد هذا المال إلا ما نقص). . وإن أمكن تسليطه أي ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 363

العامل على المستثنى نحو (ما قام القوم إلا حمارا) إذ يصح أن يقال (قام حمار) فالحجازيون يوجبون النصب لأنه لا يصح فيه الإبدال حقيقة .. وبنو تميم ترجحه وتجيز الاتباع" (¬1). وفي ترجيح النحاة وجها على وجه في المتصل نظر، وظاهر كلام سيبويه ان الاتباع والنصب في المتصل لغتان جاء في (كتاب سيبويه): (هذا باب ما يكون فيه المستثنى فيه بدلا مما نفي عنه دا أدخل فيه) وذلك قولك (ما أتانا أحد إلا زيد) و (ما مررت بأحد إلا عمرو) و (ما رأيت أحدا إلا عمرا) جعلت المستثنى بدلا من الأول، فكأك قلت (ما مررت إلا بزيد) و (ما أتاني إلا زيد) وما لقيت إلا زيدا، كما أنك إذا قلت (مررت برجل زيد) فكأنك قلت (مررت بزيد) فهذا وجه الكلام أن تجعل المستثنى بدلا من الذي قبله لأنك تدخله فيما أخرجت منه الأول .. ومن قال (ما أتاني القوم إلا اباك) لأنه بمنزلة قوله (أتاني القوم إلا أباك) فإنه ينبغي له أن يقول (ما فعلوه إلا قليلا منهم) (¬2). وجاء فيه: " هذا باب النصب فيما يكون مستثنى بدلا" حدثنا بذلك يونس وعيسى جميعا أن بعض العرب الموثوق بعربيته يقول: (مامررت باحد إلا زيدا، وما أتاني أحدٌ إلا زيدا) وعلى هذا (ما رأيت أحدا إلا زيدا) فتنصب (زيدا) على غير رأيت، وذلك أنك لم تجعل الآخر من الأول ولكنك جعلته منقطعا مما عمل في الأول" (¬3). إن النحاة يعللون كلا من الاتباع والنصب. فالاتباع يكون على البدلية، والبدل على نية إحلال محل الأول، والمبدل منه على نيه السقوط، فإذا قلت (ما قام أحد إلا خالد) فرفعت فكأنك قلت (ما قام إلا خالد) لأن أحدا على نية السقوط، هو عند النحاة بمنزلة ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 352 - 353، وانظر الأشموني 2/ 148، ابن يعيش 2/ 81، الهمع 1/ 225 (¬2) سيبويه 1/ 360 (¬3) سيبويه 1/ 363

ما ليس منه في الكلام. وإذا نصبت جعلت اعتماد كلامك على النفي، فكأنك قلت (ما قام أحدٌ) ثم استثنيت. جاء في (الأصول): " فإذا قلت (ما قام أحد إلا زيدا) فإنما رفعت لأنك قدرت إبدال (زيد) من (أحد) فكأنك قلت: (ما قام إلا زيد) وكذلك البدل من المنصوب، والمخفوض تقول: (ما ضربت أحد إلا زيدا) و (ما مررت بأحد إلا زيد) فالمبدل منه بمنزلة ما ليس منه في الكلام، وهذا يبين في باب البدل. فإن لم تقدر البدل وجعلت قولك: (ما قام أحدٌ) كلاما تاما لا ينوي فيه الإبدال من (أحد) نصبت فقلت: ما قام أحدٌ إلا زيدا (¬1). وذكر ابن يعيش أن " الفرق بين البدل والنصب في قولك ما قام أحد إلا زيد أنك إذا نصبت جعلت معتمد الكلام النفي، وصار المستثنى فضلة فتنصبه كما تنصب المفعول به، وإذا أبدلته منه كان معتمد الكلام، إيجاب القيام لزيد وكان ذكر الأول كالتوطئة" (¬2). وعلى هذا يكون الفرق بين البدل والنصب أنك إذا قلت: (ما قام أحد إلا زيدا) بالرفع كأن المعنى (ما قام إلا زيدٌ) أي ان القصد اثبات القيام لزيد، وذكرت ما قبله توطئه له وتمهيدا لأن البدل أهم من المبدل منه، لأن المبدل مه على نية الطرح عند النحاة، وإذا قلت: (ما قام أحد إلا زيدا) كان المعنى: ما قام أحد أي أردت أن تنفي القيام عن كل أحد وهذا هو المهم عندك ثم استثنيت (زيدا) لأنه خرج عن الإجماع لا لأنه هو الأهم. فالمهم في النصب هو الإخبار بالنفي، والمهم في الاتباع هو الاخبار بالإيجاب. وفي هذا التعليل نظر فإنه على ما ذهب إليه النحاة يكون الاستثناء التام كالمفرغ، وذلك أن معنى (ما جاء الرجال إلا خالدا) كمعنى (ما جاء إلا خالد) عندهم لأن البدل ¬

_ (¬1) الأصول في النحو 1/ 344، وانظر المقتضب 4/ 394، الكامل للمبرد 2/ 432، حاشية الصبان 2/ 143 - 144 (¬2) ابن يعيش 2/ 87

على نية السقوط فيكون مفيدا للقصر كالفرغ، وفي هذا نظر فإن المعنى فيهما مختلف، فإنك إذا قلت (لم يزرني أصدقائي إلا خالد) جعلت خالدا من أصدقائك وقد استثنيته منهم، وقد يكون زارك أحدٌ من غير أصدقائك فإن قلت (لم يزرني إلا خالد) دل على أنه لم يزرك أحد من أصدقائك أو من غيرهم، إلا خالد فالمبدل منه له معنى وفائدة. وكذلك لو قلت (لم يحضر الطلاب إلا سعيد) جعلت (سعيدا) من الطلاب، وقد يكون حضر واحد أو أكثر من غير الطلاب مع سعيد، كالأساتذة أو البوابين، إلا أنه لم يحضر من الطلاب إلا سعيد. ولكن لو قلت (لم يحضر إلا سعيد) نفيت الحضور عن كل واحد إلا عن سعيد، فلم يحضر أحد من الناس إلا سعيد، ونحوه أن تقول (ما حضر الفائزون إلا محمدٌ)، فمحمدٌ وحده هو الحاضر من الفائزين، وقد يكون حضر معه غيره من غير الفائزين كالمشاهدين ولكن لو قلت (ما حضر إلا محمد) دل على أنه ل يحضر أحد البته إلا محمد. وعلى هذا فرأي النحاة أن البدل على نية احلاله محل المبدل منه، وإن المبدل منه على نية السقوط، فيه نظر، فإن المعنى يختلف إذا ذكر المبدل منه، وإذا فرغ الاستثناء، وعلى ذلك فهذا الفرق غير وارد. إن الفرق بين الاتباع والنصب من أوجه منها: 1 - إن الاتباع يدل حتما على أن المستثنى بعض من المستثنى منه، بخلاف النصب فإنه من المتحمل أن يكون بعضا منهم، وأن لا يكون فإنك إذا قلت (ما حضر الطلاب إلا سعيدٌ) بالرفع كان سعيد من الطلاب حتما، وإذ قلت (ما حضر الطلابُ إلا سعيدا) احتمل أن يكون (سعيد) من الطلاب، وأن لا يكون منهم، وذلك بأن يكون موظفا، أو بوابا فيكون منقطعا، وبهذا نعلم أن الاتباع يدل قطعا على أنه أنه إما متصل أما النصب فإنه تعبير احتمالي أي يحتمل الاتصال والانقطاع. 2 - قد يراد بالنصب البعد عن المستثنى منه جنسا أو نوعا أو غيرهما، أو التبعيد عنه، أي تنزيله منزلة البعيد بخلاف الاتباع فإنه يراد به الالصاق، فإن أردت إبعاد محمد عن

الفائزين قلت (ما حضر الفائزون إلا محمد) فإنك هنا بعدته عنهم، وقد يكون البعد حقيقة أو تجوزا، فقد تنصب لقصد التبعيد من المستثنى منه، بأن تجعله ليس بعضا منه، وإن كان منه حقيقة بخلاف الاتباع فإنه يراد به الالصاق بالمستثنى منه، فإن تعذر جعله بعضا منه ولو تجوزا وجب النصب عند بني تميم وغيرهم. وقد مر بنا أن بني تميم يقولون (مالي عتاب إلا السيف) يجعلون السيف عتابه ويقولون (ماله عليه سلطان إلا التكلف) ونحو ذلك (¬1). فهم إذا تجوزوا فجعلوا السيف عتابا، وإلا واري أحدا والتكلف سلطانا، اتبعوا وإن أرادوا التبعيد من ذلك قطعوا. وهذا ملاك الأمر وهو أن العرب إذا أردوا الصاق المستثنى بالمستثنى منه، أتبعوا وإن أرادوا التبعيد نصبوا. فإن امتنع جعله بعضا منه قطعوا، نحو مازاد هذا المال لا ما تنقص) وعلى هذا تقول (ما جاءني الطلاب إلا خالد) إذا جعلت خالدا بعض الطلاب فإن قلت (خالدا) أبعدته منهم وإن كان طالبا حقا، وذلك لأن تقصيره وعدم انتظامه وقلة معرفته جعلك تسلكه في عداد غير الطلبة وهذا المعنى تجوزي فنى. 3 - قد يؤتى بالنصب لرد لكلام سابق وذلك كأن يقول قائل (قام القوم إلا محمدا) فتجيب (ما قام إلا محمدا) وليس معنى الجملة الأخيرة إثبات القيام لمحمد، وإنما نفي الجملة كلها أي أن قولك (قام القوم إلا محمدا) غير صحيح، فقد يكون ليس هو المخالف الوحيد أو أن محمدًا قام مع من قام ونحو ذلك. وهو هنا واجب النصب، ولا يصح فيه الرفع فإنك إن رفعت أثبت القيام لمحمدٍ، وحده جاء في (الأصول): " والقياس عندي إذا قال قائل: قام القوم إلا أباك، فنفيت في هذا الكلام أن تقول: (ما قام القوم إلا أباك) لأن حق حرف النفي أن ينفي الكلام الموجب بحاله وهيئته، فأما إن كان لم يقصد إلى نفي هذا الكلام الموجب بتمامه وبنى ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 364 - 365

كلامه على البدل قال: ما قام القوم إلا أبوك " (¬1). وعند ابن مالك إن النصب مختار في نحو هذا (¬2). والصواب في مثل هذا وجوب النصب، لأن الرفع يعني إثبات القيام له. 4 - اختار قسم من النحاة ومنهم ابن مالك النصب في المتراخي نحو: ما ثبت أحد في الحرب ثباتا نفع الناس إلا زيدا، لأنه ضعف التشاكل بالبدل، لطول الفصل بين البدل والمبدل منه (¬3). وفي هذا نظر فإن الاعراب ليس أمرا لفظيا، بل هو أمر معنوي فالاعراب إنما هو إعراب عن المعنى، ولذا لا نعتقد بصحة ما اختاره ابن مالك، قال أبو حيان ردا على ابن مالك بقوله: " وهذا الذي ذكره لم يذكره أصحابنا" (¬4). 5 - يحتمل في الاتباع ان تكون إلا وصفا بمعنى غير، وليست للاستثناء، وذلك إذا كان الموصوف منكرا أو شبهه، وهو المعرف بأل الجنسية، جمعا او واحدا في معنى الجمع، فلو قلت (ما حضر الرجال إلا خالدٌ) احتمل أن يكون المعنى ما حضر الرجال الذين هم غير خالد، وهذا لا يختصر بغير الموجب بل يكون في الموجب أيضا فلو قلت (حضر العاملون إلا الخاملون) كان المعنى: حضر العاملون غير الخاملين أي الذي ليسوا خاملين (¬5)، ولو نصب كان استثناء نصا. ¬

_ (¬1) الأصول في النحو 1/ 344 (¬2) التسهيل 102، وانظر الهمع 1/ 224، التصريح 1/ 349 (¬3) الهمع 1/ 224، التصريح 1/ 349 (¬4) الهمع 1/ 224 (¬5) انظر الأصول 1/ 347، ابن يعيش 2/ 89

إلا الوصفية

إلا الوصفية: ذكرنا قبيل قليل أن (إلا) قد تأتي صفة بمعنى (غير)، كما أن (غيرا) قد تأتي بمعنى (إلا) فنقول (اقبل رجال إلا سعيد) أي غير سعيد، والعنى اقبل رجال مغايرون لسعيد قال ابن يعيش: " وقد حملوا (إلا) على (غير) في الوصفية، فوصفوا بها وجعلوها وما بعدها تحلية للمذكور بالغايرة، وأنه ليس إياه أو من صفته كصفته، ولا يراد بها اخراج الثاني مما دخل في الأول، فتقول (جاءني القوم إلا زيدا) فيجوز نصبه على الاستثناء ورفعه على الصفة للقوم، وذا قلت: (ما أتاني أحد إلا زيدا) جاز أن يكون إلا وما بعدها بدلا من أحد، وجاز أن يكون صفة بمعنى (غير) قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]، والمراد غير الله فهذا لا يكون إلا وصفا، ولا يجوز أن يكون بدلا يراد به الاستثناء" (¬1). وأكثر النحاة على انه يشترط لأن تكون وصفا، شرطان هما: 1 - أن يكون موصوفها جمعا منكرا أو شبهه وذلك كقوله تعالى: {لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]، والمعنى غير الله، ولا يصح أن تكون ها هنا استثناء، لأن المعنى على الاستثناء " لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا، وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا (¬2) " وهذا باطل. وشبه المنكر أن يكون معرفا بأل الجنسية لأن الجنسية قريبة من النكرة بخلاف العهدية فتقول (أقبل الرجال إلا المقعدون) أي غير وفي الأثر: (الناس هلكى إلا العالمون) وأجاز بعضهم أن يوصف بها المعرف بأل العهدية (¬3). 2 - فإن لم يكن جمعا فواحد في معنى الجمع وذلك كان تقول (ما أقبل أحد خالدٌ) أي غير خالد، وأجاز سيبويه ان يوصف بها كل نكرة وذلك كقولك: ¬

_ (¬1) ابن يعيش 2/ 89، وانظر شرح الدماميني على المغنى 1/ 153 (¬2) الهمع 1/ 329 (¬3) سيبويه 1/ 307، وانظر الهمع 1/ 229

(لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا (¬1)) ومعنى ذلك أنه لا يجوز أن تقع صفة إلا في الموضع الذي يجوز أن تكون فيه استثناء فلا يجوز أن تقول (اقبل) إلا لئيم بمعنى غير لئيم (¬2)، ولك أن تقول: (عندي درهم إلا دانقٌ) لأنه لا يجوز أن تقول (عندي درهما إلا دانقا) ويمتنع: عندي درهم إلا جيد. ومعنى (عندي درهم إلا دانق) بالاتباع: عندي درهم كامل، أي عندي دره وليس دانقا، والدرهم ليس دانقا، وعلى الاستثناء يكون المعنى: عدي درهم إلا سدسا لأن الدانق سدس درهم (¬3). وذكر صاحب المغنى أن النحويين قالوا: " إذا قيل: (له عندي عشرة إلا درهما) فقد اقر له بتسعة، فإن قال (إلا درهم) فقد أقر له بعشرة، وسره أن المعنى حينئذ عشرة موصوفة بأنها غير درهم. وكل عشرة فهي موصوفة بذلك، فالصفة هنا مؤكدة صالحة للاسقاط مثلها في (نفخة واحدة (¬4)) والمعنى عندي عشرة وليس درهما. وجاء في (الأصول) أنه: " إذا قال القائل: الذي له عندي مائة درهم إلا درهين فقد أقر بثمانية وتسعين، وإذا قال: الذي له عندي مائة إلا درهما فقد أقر بمائة لأن العنى: له عندي مائة غير درهين، وكذا لو قال: له علي مائة ألف كان له مائة" (¬5). وهذا واضح فإنه إذا قال: له عندي مائة إلا درهمان، كان المعنى له عندي مائة وليس درهين بخلاف الاستثناء. ¬

_ (¬1) انظر ابن يعيش 2/ 90 الأصول 1/ 348، الرضي على الكافية 1/ 268 (¬2) انظر الأشموني 2/ 156، الصبان 2/ 156 (¬3) المغني 1/ 71 (¬4) الأصول 1/ 371 - 372 (¬5) انظر المفصل 1/ 200، الرضي على الكافية 1/ 367، حاشية الخضري 1/ 208

غير

غير (غير) كلمة تفيد المغايرة، وأصلها أن تكون تفيد مغايرة مجرورها لموصوفها، أما ذاتا أو صفة. فالمغايرة بالذات نحو (محمدٌ غيرُ إبراهيم) و (مررت برجلٍ غير علي). فشخص محمد غيرُ شخص إبراهيم، وكذلك شخص الرجل الذي مررت به غير شخص علي. والمغايرة بالصفة نحو قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله} [النساء: 95] بالرفع على أنه صفة للقاعدين، وكقوله: {نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} [فاطر: 38]، وهذا درهم غير جيد، ومررت برجل غير طويل (¬1). و(غير) من مبتدعات العربية لا تشاركها اللغات السامية فيها (¬2). ولكونها تفيد المغايرة حملت على (إلا) في الاستثناء، فأصيح يستثني بها وذلك لأن الاستثناء مغايرة أيضا ولكن هناك فرق بين مغايرة (غير) ومغايرة (إلا)، وذلك أن (غيرا) كما ذكرنا تفيد المغايرة ذاتا أو صفة، بغض النظر عن الاثبات والنفي، وإما (إلا) فتفيد المغايرة نفيا وإثباتا بغض النظر عن المغايرة بالذات أو الصفة فتقول، حضر الرجال إلا خالدا. فهنا أفادت (إلا) المغايرة بالإثبات والنفي، فالرجال حضروا وخالد لم يحضر، بغض النظر عن الصفة أو الذات، كما حملت (إلا) على (غير) فأصبحت صفة تفيد المغايرة بالذات أو بالصفة، جاء في (حاشية الخضري): " واعلم أن أصل (غير) كونها صفة مفيدة لمغايرة مجرورها لموصوفها ذاتا أو صفة .. وأما (إلا) فأصلها مغايرة ما بعدها لما قبلها نفيا وإثباتا، فلما اتفقا في مطلق المغايرة حملت (غير) على (إلا) في الاستثناء بها أي في المغايرة نفيا وإثباتا، بلا نظر لمغايرة ذات أو صفة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر المفصل 1/ 200، الرضي على الكافية 1/ 267، حاشية الخضري 1/ 208 (¬2) التطور النحوي 99 (¬3) حاشية الخضري 1/ 208، وانظر الرضي 1/ 267

الاستثناء بغير وإلا

الاستثناء بغير وإلا: عرفنا أن الأصل في (غيير) أن تفيد المغايرة، وليس الأصل فيها أن تكون للاستثناء بخلاف (إلا)، ولذلك تستعمل غير في مواطن لا تصلح فيها (إلا) إذ لا تفيد الاستثناء كأن تقول (خالد غير لئيم) ونحو قوله: غير مأسوف على زمن ... ينقضي بالهم والحزن وقوله تعالى: {ويقتلون الأنبياء بغير حق} [آل عمران: 122]، وقوله: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} [الروم: 29]، وقوله: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد} [ق: 31]، فـ (غير) هنا تفيد المغايرة ولا تفيد الاستثناء، ولا يصح استعمال (إلا) في موطنها. وقد تحمل (غير) على (إلا) الاستثناء كقولك (أقبل الرجال غير عباس)، وهي تأخذ حكم الاسم الواقع بعد إلا. قال سيبويه: " وكل موضع جاز فيه الاستثناء بالإجاز بغير وجرى مجري الاسم الذي بعد (إلا) لأنه اسم بمنزلته وفيه معنى إلا " (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية) أن غيرا الاستثنائية تقع " في جميع مواقع (إلا) في المفرغ وغيره، والموجب وغيره، والمنقطع وغيره مؤخرا عن المستثنى منه ومقدما عليه، وبالجملة في جميع محاله إلا أنه لا يدخل على الجملة كالاعتذار لتعذر الإضافة إليها" (¬2). ومثل الجملة الجار والمجرور فإن غيرا لا تدخل عليه قوله تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} [الغاشية: 6]، فلا يصح أن يقال (غير من ضريع)، لأن غيرا تلزم الإضافة، معنى دون لفظ، ولا (من غير ضريع)، لأن المعنى يتغير، ولذلك لا تدخل (غير) على الجار والمجرور. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 374، وانظر الأصول 1/ 347 (¬2) الرضي 1/ 267

وتقول (ما جائت إلا طلبا للعلم) فلا يصح وضع (غير) ههنا لأن المفعول له، لا يكون إلا مصدرا و (غير) ليست مصدرا. وعلى أي حال ففي الأكثر أن تقع في مواقع (إلا). إن غيرا وإن دخلت معنى الاستثناء، قد تحمل معها معناها الخاص بها أحيانا، فلا تطابق (إلا) تماما فقولك (ما قام إلا محمد) و (ما قام غير محمد) ليسا متطابقين في المعنى تماما، فإنك في الجملة الأولى أثبت القيام لمحمد وحده، ونفيته عمن عداه، وأما الثانية فتحتمل هذا المعنى وتحتمل معنى آخر، وهو أن (غير محمد لم يقم) فيكون نفي القيام عن غير محمد وسكت عن محمد. ومعنى ذلك أن ما بعد (إلا) هو المقصود بالاستثناء، وهو الذي يدور عليه الحكم أما في (غير) فإن الكلام قد يدور على ما بعد غير، وقد يدور على (غير) نفسها، لا على المجرور بها، فقوله تعالى مثلا: {وما أضلنا إلا المجرون} [الشعراء: 99]، معناه أن المجرمين هم الذين أضلوهم، ولو قال (وما أضلنا غير المجرمين) لاحتمل المعنى السابق ولاحتمل معنى آخر، وهو أن غير المجرمين لم يضلونا أي نفي الضلال عن غير المجرمين أما بالنسبة إلى المجرمين فلم يتعرض لهم. وكقوله تعالى: {ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} [نوح: 24]، فإنه طلب أن يزيدهم الضلال ولا يزيدهم شيئا آخر غير الضلال ولو قال: (ولا تزد الظالمين غير ضلال) لاحتل أن يكون المعنى كالمعنى السابق ولاحتمل معنى آخر وهو أنه طلب إلا يزيديهم غير الضلال أما الضلا فمسكوت عنه. ونحوه أن تقول (لا يدخل الجنة إلا المسلم) وأن تقول (لا يدخل الجنة غير المسلم) فالجملة الثانية قد تكون بمعنى الأولى، وقد تكون لمعنى آخر، وهو أن غير المسلم لا يدخل الجنة، وليس في هذا المعنى حصر، ومثله قوله تعالى: {ولا تقولوا على الله إلا الحق} [النساء: 171]، وقولك (ولا تقولوا على الله غير الحق) فالثانية قد تكون بمعنى الأولى، وقد تكون لمعنى آخر وهو النهي عن قول غير الحق، أما الحق فمسكوت عنه وهو كما تقول: إن لم تقل الحق فلا تقل غير الحق، أي اسكت.

ونحوه أن تقول (لا تعبد إلا الله) و (لا تعبد غير الله) فالمطلوب في الأولى عبادة الله وحده، والثانية قد تكون بمعنى الأولى وقد تكون لمعنى آخر، وهو النهي عن عبادة غير الله، وغير الله الصنم والحجر وغيرهما، فكأنه قال في الجملة الثانية: لا تعبد الصنم لا تعبد الحجر لا تعبد الشجر ونحوه، فالأولى طلب العبادة لله وحده، والثانية نهي عن عبادة غير الله، وعبادة الله مفهومه من المخالفة. جاء في (الإيضاح): " واعلم أن حكم (غير) حكم (إلا) في إفادة القصرين، أي قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف" (¬1). والحقيقة أنها لا تفيد ما تفيده (إلا) تماما فـ (إلاّ) تفيد القصر نصًا، أما (غير) فتفيد القصر تضمنا، فقولك (لا تعبد إلا الله) أفاد الحكم، وهو الأمر بعبادة الله نصا صريحا، وأما قولك (لا تعبد غير الله) فهو نهي عن عبادة غير الله، ومضمونه الأمر بعبادة الله. إن قولك (ما دخلها إلا خائفا) يختلف عن قولك (ما دخلها غير خائف) ففي الجملة الأولى أثبت الدخول له خائفا، وفي الثانية نفيد الدخول غير خائف، أما الدخول خائفا فقد سكت عنه وهو مفهوم من مضمون الجملة، جاء في (شرح ابن يعيش): " فأصل (غير) أن يكون وصفا والاستثناء فيه عارض معار من (إلا) ويوضح ذلك ويؤكده، أن كل موضع يكون فيه (غير) استثناء يجوز أن يكون صفة، وليس كل موضع يكون فيه صفة يجوز أن يكون استثناء، وذلك نحو قولك (عندي مائة غير درهم) إذا نصبت كانت استثناء، وكنت مخبرا، ان عندك تسعة وتسعين درهما، وإذا رفعت كنت قد وصفته بأنه مغاير لها، وتقول عندي درهم غير زائف، ورجل غير عاقل، فهذا لا يكون فيه (غير) إلا وصفا لا غير، لأن الزائف ليس بعضا للدرهم، لا العاقل بعض الرجل. والفرق بين (غير) إذا كانت صفة وبينها إذا كانت استثناء، أنها إذا كانت صفة لم توجب للإسم الذي وصفته بها شيئا، ولم تنف عنه شيئا لأنه مذكور على سبيل التعريف فإذا قلت: (جاءني رجلٌ غيرُ زيد) فقد وصفته بالمغايرة له وعدم المماثلة، ولم تنف عن ¬

_ (¬1) الإيضاح 130

زيد المجيء وإنما كان قبلها إيحاب فما بعدها نفي وإذا كان قبلها نفي فما بعدها إيجاب لأنها ههنا محمولة على (إلا) فكان حكها كحكمه" (¬1). ثم أنه يجوز التفريغ في (غير) في الإثبات، ولا يجوز في (إلا) تقول (قام غير محمد) ولا يجوز أن تقول (قام إلا محمد) وذلك لأن غيرا وإن كانت تعني كل ما عدا المذكور في الوجود- قد تعين أيضا بها شخصا معينا غير محمد، أو شخوصا معينين، فقولك (قام غيرُ محمد) يحتمل أن يكون معناه: قام خالد، أما الاستثناء بإلا، فيفيد في نحو هذا، ما عدا محمدًا من الناس، ولا تعني به شخصا معينا أو شخوصا معينين، ولذا لا يصح (قام إلا محمد) لأنه يثبت القيام لجميع الناس دون محمد. ولذا فهي لا تطابق (إلا) تماما في الاستثناء. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 2/ 88

سوى

سوى ذهب جمهور البصريين إلى أن (سوى) ظرف، وأنها لا تخرج عن الظرفية، ومعناها (مكان) فإذا قلت: (جاءني القوم سواك) كان المعنى جاءني القوم مكانك، وبدلك، ثم دخلها معنى الاستثناء، جاء في (كتاب سيبويه): " وأما أتاني القوم سواك، فزعم الخليل أن هذا كقولك: أتاني القوم مكانك، وما أتاني أحدٌ مكانك إلا أن في سواك معنى الاستثناء" (¬1). قالوا والدليل على أنها ظرف أنها تكون صلة تقول: مررت بمن سواك (¬2) وأن العامل يتخاطاها ويعمل فيما بعدها كقول لبيد: وابذل سوام المال إ ... ن سواءها دهما وجونا ولا يكون ذلك في شيء من الأسماء إلا ما كان ظرفا (¬3). وهذان الدليلان لا يدلان إلا على أنها تقع ظرفا، ولايدلان على أنها ملازمة للظرفية فإنه من المعلوم أن ثمة ظروفا متصرفة تقع ظرفا، وتخرج عن الظرفية، كقولك (جلست مكانك) و (عظم مكانك). وفي الدليل تخريج آخر (¬4). وذهب أبو القاسم الزجاجي، وابن مالك إلى أنها ليست ظرفا، بل هى كغير مطلقا ويتفرد بلزوم الإضافة لفظا، بوقوعه صلة دون شيء قبله" (¬5). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 377، وانظر الأصول 1/ 349 - 350، المقتضب 4/ 349، الأشموني 2/ 159 - 160، التصريح 1/ 362 (¬2) سيبويه 1/ 203، الأشموني 2/ 160، التصريح 1/ 362، الرضي على الكافية 1/ 270 (¬3) ابن يعيش 2/ 83 (¬4) انظر حاشية الصبان 2/ 160 (¬5) التسهيل 107، انظر الهمع 1/ 201، التصريح 1/ 362

قال ابن مالك في الألفية: ولسوى سوى سواء اجعلا ... على الأصح ما لغير جعلا وذهب الكوفيون وآخرون إلى أنها تستعمل ظرفا، وغير ظرف، فمن استعمالها ظرفا قولهم (جاءني الذي سواك) ومن استعمالها غير ظرف بل اسما بمعنى (غير) قوله صلى الله عليه وسلم: " دعوت ربي ألا يسلط علي أمتى عدوا من سوى أنفسها" وقوله: " ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود" وقول الشاعر: ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا وهو كثير نثرا وشعرا (¬1). قال الرضي: " إنما انتصب (سوى) لأنه في الأصل صفة ظرف مكان، وهو (مكانا) قال تعالى: {مكانا سوى} [طه: 58]، أي مستويا ثم حذف الموصوف، وأقيم الصفة مقامه مع قطع النظر عن معنى الوصف، أي معنى الاستواء الذي كان في سوى فصار سوى بمعنى مكانا فقط، ثم استعمل (سوى) استعمال لفظ (مكان) لما قام مقامه في إفادة معنى البدل، تقول (أنت لي مكانا عمرو) أي لأن البدل ساد مسد المبدل منه، وكائن مكانه ثم استعمل بمعنى البدل في الاستثناء لأنك قلت: (جاءني القوم بدل زيد) أفاد زيدا لم يأتك فجرد عن معنى البدلية أيضا لمطلق معنى الاستثناء. فسوى في الأصل مكان مستو، ثم صار بمعنى مكان، ثم بمعنى بدل، ثم بمعنى الاستثناء" (¬2). والحق أنها ليست كغير مطلقا، فإنه يصح أن تقول (مررت برجل غير لئيم) ولا يصح أن نقول (سوى لئيم) قال تعالى: {إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين} [المائدة: 5]، وقال: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} [الروم: 29]. وقال: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد} [ق: 31]، ولا تحسن (سوى) في هذا ونحوه. ¬

_ (¬1) انظر الأشموني 2/ 158، ابن عقيل 1/ 209، التصريح 1/ 362، الهمع 201 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 269 - 270

إن (غيرا) من المغايرة و (سوى) من المساواة كما هو ظاهر من لفظها، فقولهم (مكان سوى) معناه مكان مستو، أي متساو ليس بعضه أعلى من بعض. ويكون (سوى) بمعنى العدل ومنه قولهم: هذا يساوي درهما، أي يعادل قيمته درهما (¬1). وهذا يساوي ذلك. فإذا قلت (مررت برجال سوى سعيد) كان المعنى أنهم يسدون ويقومون مقامه، أي يساوونه. جاء في (المقتضب): " أنك إذا قلت (عندي رجل سوى زيد)، فمعناه عندي رجل مكان زيد، أي يسد مسده ويغني غناءه " (¬2) فسوف تختلف عن غير. إن قولك جاءني رجل غير زيد، يختلف عن جاءني رجل سوى زيد، في أصل المعنى، وذلك أن معنى الأولى: جاءني رجل ليس زيدا، أي مغايرا لزيد، ومعنى الثانية: جاءني رجل مساو لزيد، أي يقوم مقامه ويغني غناءه، ثم دخلها معنى المغايرة، لأن في (سوى) مغايرة من وجه، وذلك أن قولك (مررت برجل سوى زيد) معناه برجل غير رجل. إلا أنه يماثله فهو رجل آخر غير زيد، فهما متشابهان من وجه، مختلفان من وجه آخر ثم دخلهما معنى الاستثناء. ولذا كان الراجح عندنا أنها تكون ظرفا، وغير ظرف، وليس أصلها أن تكون ظرفا بل معنى الظرفية منقول إليها، وذلك أن قولك (جاءني رجل سوى زيد) معناه يقوم مقامه ويسد مسده، ويكون مكانه وبدله، ومن هنا دخلها معنى الظرفية. كما أنه ليس الكثير فيها أن تقع ظرفا، بل الكثير فيها أن تقع غير ظرف، وقد تقع ظرفا، وتقع استثناء وغير استثناء من دون النظر إلى معنى المساواة الذي هو أصل معناها، بل انمحى عنها معنى المساواة وبقي فيها معنى المغايرة، وهذا كثير في اللغة فقط تنمحي عن الكلة دلالتها الأولى، ويبقي ملازمها أو جانب من جوانب المعنى فقط، ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس 10/ 188 (¬2) المقتضب 4/ 349

ليس ولا يكون

فمن ذلك في لغتنا الدارجة (العلوة) مثلا فهي الأصل للمكان المرتفع من العلو، توضع فيه الخضروات، والحبوب ونحوها لغرض بيعها، ثم انمحي عن المكان معنى العلو، وأصبحت تطلق على مكان بيع هذه الأشياء، وإن لم يكن مرتفعا بل وإن كان منخفضا، ومنه قولنا في الدراجة (نتسوق) أي ندخل السوق للشراء ثم أصبحت بمعنى الشراء، وإن لم يكن من السوق، ومنه في العربية (رفع عقيرته) وأصله أن رجلا رفع رجله المقطوعة وصاح بأعلى صوته، ثم انمحى عنه رفع الرجل المقطوعة وبقي المصاحب له، وهو الصياح فصاح بمعنى (صاح) وهكذا أمر سوى. ليس ولا يكون أستُعمل كل من (ليس) و (لا يكون) للاستثناء، نحو (أقبل الرجال ليس محمدا) و (أقبلت النساء لا يكون هندا) وفي الحديث: ما أنهر الدم فكلوا ليس السن والظفر. وهذان الفعلان إذا استعملا في الاستثناء كانا بلفظ واحد، هو الافراد والتذكير، (ليس) و (لا يكون) فلا يؤنثان ولا يسندان إلى اسم ظاهر ولا إلى الضمير بارز فتقول (أقبل النساء ليس فاطمة ولا يكون فاطمة) و (اقبل الرجال ليس محمدا، ولا يكون محمدا) ولا تقول: (ليست فاطمة) و (ولا تكون (¬1))، ولا ليسوا ولا يكونوا، ولا يسبق (يكون) غير (لا) من حروف النفي، وهما لا يطابقان (إلا) في الاستعمال، ولا في المعنى. أما من حيث الاستعمال، فإنه لا يصح في المستثنى بهما الاتباع فلا تقول في (ما حضر الطلاب إلا سعيدا) (ما حضر الطلاب ليس سعيد) بالاتباع، ولا في (ما مررت بالطلاب إلا سعيد) (ما مررت بالطلاب ليس سعيد ولا يكون سعيدٍ). ولا يستعملان في الاستثناء المفرغ فلا تقول: (ما حضر ليس محمدٌ) كما تقول: (ما حضر إلا محمدٌ). ¬

_ (¬1) انظر الهمع 1/ 233

تقول: (ما مررت إلا بخالد) ولا تقول: (ليس بخالد)، وتقول: (لا تزده إلا عذابا) ولا تقول: (ليس عذابا) وتقول: (ما جئت إلا طلبا للعلم)، ولا تقول: (ليس طلبا للعلم). قال بعضهم: ولا يستعملان في المنقطع (¬1)، فلا تقول: (أقبل القوم ليس بعيرا) ومثلها: لا يكون. وأما من حيث المعنى فإنهما لا يطابقان (إلا) أيضا، وذلك أنهما في الأصل للنفي، تقول: (ليس الإيمان بالتمنى)، وتقول: (لا يكون البغل مهرا) ثم تضمنها معنى الاستثناء كما مر في (غير) التي معناها المغايرة، وهما يحملان هذا المعنى معهما، جاء في (كليات أبي البقاء) أن الاستثناء بليس، ولا يكون فيه معنى النفي (¬2)، فإذا قلت: (حضر الطلاب ليس خالدا) كان المعنى قريبا من قولك (حضر الطلاب وليس خالدا) فهما في الأصل رد على كلام سابق، كأن قائلا قال: (حضر خالد لا الطلاب) فقيل له: (حضر الطلاب ليس خالدا) ثم تضمنها معنى الاستثناء، غير أنهما يحملان معهما معنى التفي. فالاستثناء بليس ولا يكون رد على كلام سابق حقيقة، أو تجوزا، ونفي لما تصوره المخاطب، ففي قولك (حضر الطلاب ليس سعيدا) كأن المخاطب تصور أن سعيدا هو الذي حضر، فنفيت ذلك عنه، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " يطبع المؤمن على كل خلق" كأن المخاطب تصور ايضا أنه يطبع على الكذب والخيانة، فنفي ذلك عنه قال: (ليس الكذب والخيانة) أي ليس من خلق المؤمن الكذب والخيانة. فهما للنفي وقد تضمنا معنى الاستثناء. ¬

_ (¬1) انظر الهمع 1/ 223 (¬2) الكليات 67

خلا وعدا

خلا وعدا خلا: خلا في الأصل فعل لازم تقول: خلا المكان، والشيء يخلو خلوا، إذا لم يكن فيه أحدٌ. وخلت الدار إذا لم يبق فيهما أحد، وخلا إذا تبرأ من ذنب قرف به. وقد استعمل معدى فقالوا: افعل كذا، وخلاك ذم، أي سقط عندك الذم (¬1). وقال بعضهم: خلا مصدر أيضا (¬2). جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأما خلا فهو في الأصل لازم، يتعدى إلى المفعول بمن، نحو خلت الدار من الأنيس، وقد تضمن معنى (جاوز) فيتعدى بنفسه كقولهم: (إفعل هذا وخلاك ذم) وألزموها هذا التضمين في باب الاستثناء، ليكون ما بعدها في صورة المستثنى بإلا التي هي أم الباب، ولهذا الغرض التزموا إضمار فاعله، وفاعل عدا، ولم يظهر معهما (قد) مع كونهما في محل النصب على الحال، ولهذا أوجبوا إضمار إسمي ليس ولا يكون" (¬3). فهو إذن فعل متصرف من الخلو، ضمن معنى الاستثناء فجمد على صورة واحدة، كما فعل بليس ولا يكون. وهو في الأصل فعل لازم، ثم استعمل متعديا في بعض التعبيرات، وفي الاستثناء، ليكون المستثى به على صورة المستثنى بإلا. وبعض العرب يجر المستثنى به، فالنصب لغة والجر لغة أخرى، قال سيبويه: " وبعض العرب يقول: ما أتاني القوم، خلا عبد الله، فجعلوا خلا بمنزلة حاشا، فإذا قلت ¬

_ (¬1) انظر لسان العرب 18/ 260 - 266، تاج العروس 10/ 118 - 119 (¬2) تاج العروس 10/ 119 (¬3) شرح الرضي 1/ 249 - 250

(ما خلا) فليس فيه إلا النصب لأن (ما) اسم، ولا تكون صلتها إلا الفعل هنا" (¬1). فمن نصب بها من العرب أبقاها على فعليتها، ومن جر بها أجراها مجرى الحروف لجمودها ولا يستنكر أن تكون الكلمة الواحدة مرة فعلا، ومرة حرفا، ولا مرة اسما ومرة حرفا، مثل علي، وعن. جاء في (المقتضب): " وقد تكون خلا حرف خفض فتقول: جاءني القوم خلا زيد. فإن قلت: فكيف يكون حرف خفض، وفعلا على لفظ واحد. فإن ذلك كثير منه حاشا .. ومثل ذلك (على) تكون حرف خفض على حد قولك: (على زيد ردهم) وتكون فعلا نحو قولك: علا زيدٌ الدابة" (¬2). ويحتمل أن تكون مصدرا إذا جروا ما بدعها فإن قلت: ولم تحتمل أن تكون حرف استثناء إذا نصب ما بعدها؟ والجواب ذلك أنها لا يصح التفريغ بعدها، ولو كانت حرفا كـ (إلا) لصح التفريغ بعدها، فإنه يصح أن تقول (ما حضر إلا محمد) على أنه فاعل حضر، ولا يصح أن تقول (ما حضر خلا محمدٌ). ونقول: (ما محمد إلا رسولٌ) على أنه خبر محمد، ولا يصح (ما محمد خلا رسول). وتدخل (إلا) على الفعل، قال تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} [الأنعام: 59]، ولا يصح خلا يعلمها. وتقول: (ما كنت إلا أقوم بواجبي) ولا يصح في نحو ذلك (خلا)، ولو كانت حرفا لم يكن هناك مانع من ذلك، غير أنه لأنها فعل تعذر التفريغ، فيبقي الفعل الأول بلا فاعل ويقي المبتدأ بلا خبر وهكذا، وامتنع دخولها على الفعل أيضا. وقد تسبقها (ما) المصدرية فينتصب ما بعدها، فتقول: (جاء القوم ما خلا محمدًا)، ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 377 (¬2) المقتضب 4/ 426 وانظر ابن يعيش 2/ 77

ويكون معناها عند ذاك بمعنى الجر، إذا عددنا (خلا) مصدرًا وهو مما يقوي مصدريتها. فقولك (جاء الرجال خلا محمد) معناه في الأصل: خلا مجيئهم من محمد، أو خلا الرجال من محمد، ثم ضمن معنى الاستثناء. وقولك (جاء الرجال ما خلا محمدًا) معناه جاؤا خلوهم من محمد، ومعناه وقت خلوهم أو خالين من محمد، بمعنى الظرف، أو الحال (¬1). وفي هذين الظرف والحال معنى الاستثناء (¬2). وقولك (جاء الرجال خلا محمد) معناه جاؤا خلو محمد من المجيء، أو خلوهم من محمد إذا عددنا (خلا) مصدرا، وهذا معنى (جاء الرجال ما خلا محمد). أما من ذهب إلى أنها حرف جر فقد تصور أن هذا اللفظة انمحت عنها كل دلالة على الفعلية، ولم يبق فيها إلا معنى الخلو، نظير قولك (محمد علا السطح)، و (محمد على السطح) فقد انحى من (على) كل معنى للفعلية، ولم يبق فيها إلا دلالة العلو، وكما تحول المنصوب بـ (علا) إلى المجرور بـ (على) تحول المنصوب بـ (خلا) الفعلية إلى مجرور بخلا الحرفية. وينبني على القول بالفعلية والحرفية أمر آخر، وهو أن الكلام من النصب جملتان ومن الجر جملة واحدة، فقولك (جاء الرجال خلا محمدا) متألف من جملتين: الأولى (جاء الرجال) والثانية: (خلا محمدًا) وهي جملة حالية أو استئنافية. وقولك (جاء الرجال خلا محمد) جملة واحدة، ومعنى ذلك أنك أنت أردت في حالة النصب الإخبار بجملتين: الأولى جاء الرجال، ثم بدا لك أن تخبر أخبارا أخرى، وهو (خلا محمدا) تكمل فيها المعنى، او أردت ان تخبر عن حالة مجيء الرجال، بأنه خال من محمد وهو إخبار واحد مقيد. ¬

_ (¬1) انظر التصريح 1/ 364، الأشموني 2/ 164، ابن يعيش 2/ 78، المغنى 1/ 134 (¬2) التصريح 1/ 364

حاشا

ولا بد أن كل واحد من المتملكين بهذا التعبير أو ذاك، كان يلحظ ملحظًا معينا فأخبر بهذه الصورة أو تلك، والله أعلم. عدا: وأما عدا ففعل متعد بمعنى جاوز تقول: عدا الأمر يعدوه وتعداه كلاهما تجاوزه، وعدا طوره، وقدره، جاوزه .. ويقال ما يعدو فلان أمرك أي ما يجاوزه، والتعدي مجاوزة الشيء إلى غير .. يقال تعديت الحق واعتديته وعدوته، أي جاوزته .. وعدي عن الأمر جاوزه إلى غير وتركه وعد عنا حاجتك، أي اطلبها عند غيرنا، فإنا لا نقدر لك عليها (¬1). فإن قلت (جاء الرجال عدا سعيدا) كان المعنى أنهم تجاوزوا سعيدا، فلم يأت معهم أو تجاوز مجيئهم سعيدًا. ومثله أن تقول: أنت تعديت سعيدا فجئت إلي، أي تجاوزته فلم تأته. وكذلك قولك (رأيت عدا خالدا)، معناه تجاوزت رؤيتي سعيدًا، أي لم تقع رؤيتي عليه، ثم ضمن معنى الاستثناء. ولم يحك سيبويه الجر بها، وقد حكاه أبو الحسن الأخفش (¬2)، وعلى حكاية الأخفش يكون الجر بعدها لغة. وقد تسبقها (ما) المصدرية، فتقول: (رأيت الناس ما عدا محمدا) أي مجاوزة رؤيتي محمدًا، أي وقت المجاوزة، أو متجاوزا محمدا، فيكون تأويل ذلك كما مر في (خلا). حاشا حاشا كلمة تفيد التنزيه في كل معانيها، وأصلها من الحشا والحاشية وهو الناحية والطرف، قال الفارسي: " وهو فاعل من الحشا الذي هو الناحية، أي صار في ناحية، أي بُعد مما رُمي به، وتنحى عنه، فلم يغشه، ولم يلابسه (¬3) ". ¬

_ (¬1) لسان العرب 19/ 259 - 265، تاج العروس 10/ 237، وانظر المقتضب 4/ 426 (¬2) انظر الرضي 1/ 249 - 250، ابن يعيش 2/ 77 (¬3) البرهان 4/ 271، وانظر ابن يعيش 2/ 85، وانظر لسان العرب 18/ 197 - 198

وقولهم حاشا لله، معناه تنزيها لله من كل سوء، وهي في الاستثناء كذلك، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وإذا استعمل حاشا في الاستثناء، وفي غيره معناه تنزيه الذي بعده من سوء ذكر في غيره، أو فيه، فلا يستثنى به إلا في هذا النوع، وربما أرادوا تنزيه شخص من سوء، فيبتدئون بتنزيه الله سبحانه وتعالى من السوء، ثم يبرئون ذلك الشخص مما يصحبه، فيكون آكد، وأبلغ قال تعالى: {فلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء} (¬1) [يوسف: 15]. وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى (حاشا لله): " حاشا كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء، تقول: أساء القوم حاشا زيد .. وهي حرف من حروف الجر، فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى حاشا الله، براءة الله، وتنزيه الله" (¬2). وجاء في (ملا جامي) أن معناها " تبرئة المسثنى عما نسب إلى المستثني منه، نحو ضرب القوم عمرا حاشا زيد، أي برأه الله عن ضرب عمرو". (¬3) وذا ينبغي استعمالها في مواطن التنزيه، فلا يحسن أن نقول (قام القوم حاشا زيد) لأن القيام ليس من المواطن التي يتنزه منها إلا إذا كان قياما إلى سوء. جاء في (الكليات) أن (حاشا) " كلمة استعملت للاستثناء فيما ينزه عن المستثنى منه، كقولك (ضربت القوم حاشا زيدا)، ولذلك لم يحسن (صلى الناس حاشا زيدا) لفوات معنى التنزيه" (¬4). ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 266 (¬2) الكشاف 2/ 134 (¬3) ملا جامي 175 (¬4) الكليات 167، وانظر حاشية الخضري 1/ 211

الحال

الحال حقيقتها: الحال وصف أو ما قام مقامه، فضلة مسوق لبيان الهيئة، أو للتوكيد. ومن هذا يتبين أن الحال على قسمين: مبينة للهيئة وتسمى مؤسسة، وسميت كذلك لأنها تؤسس معنى جديدا، يستفاد بذكرها نحو: رجع خالد خائبا. وحال مؤكد وهي التي يستفاد معناها مما قبلها، نحو: {وليتم مدبرين} [التوبة: 25]، فمعنى (مدبرين) مستفاد من (وليتم)، وكلامنا الآن على الأولى. الحال المؤسسة: هي التي تبين هيئة صاحبها عند وقوع الحدث غالبا فإذا قلت: (أقبل الطالب سابقا) كان المعنى أنه سابق في وقت الاقبال، وهذا فرق ما بين الحال والصفة فإنك إذا قلت: (أقبل الطالب السابق) لم ينص قولك هذا على أنه سابق في أثناء الإقبال، بل قد يكون ممن اتصف بالسبق فيما مضى. ومثله أن تقول: (أقبل الرجال الحافظ) أي من اتصف بالحفظ، فإن قلت (أقبل الرجل حافظا) كان المعنى أنه حافظ في إقباله هذا وقد يكون لم يحفظ قبل ذلك، ونحوه أن تقول: (أقبل الطالب المقصر)، و (أقبل الطالب مقصرا) فقوله (أقبل الطالب المقصر) معناه أنه اتصف بالتقصير، وإن لم يكن في إقباله هذا مقصرًا، واما قولك (أقبل الطالب مقصرا) فمعناه أنه مقصر في إقباله هذا، وقد يكون في وصفه العام غير مقصر، وتقول: هذا الرجل المقريء، وأقبل الرجل المقريء، أي من اتصف بالاقراء، وقد تشير إليه وهو ماش، أما إذا قلت: (هذا الرجل مقرئا) فإنك لا تشير إليه إلا وهو في حال إقراء، وتقول: (أقبل الفرس السابق)، و (هذا الفرس السابق) وقد يكون غير سابق في أثناء

الإشارة، بل قد يكون مربوطا أو ماشيا، فإن قلت: (هذا الفرس سابقا) أو (أقبل الفرس سابقا) فإنه يتعين أن لا تقوله، إلا وهو سابق في أثناء الإشارة أو الإقبال. وقد يؤتى بالصفة لتفرق بين إسمين مشتركين في اللفظ، أما الحال فهي زيادة في الفائدة جاء في (كتاب الأصول): " والفرق بين الحال وبين الصفة [أن الصفة] تفرق بين اسمين مشتركين في اللفظ، والحال زيادة في الفائدة والخبر، وإن لم يكن للاسم مشارك في لفظه. ألا ترى أنك إذا قلت: (مررت بزيد القائم) فأنت لا تقول ذلك إلا وفي الناس رجل آخر اسمه زيد، وهو غير قائم، ففصلت بالقائم بينه وبين من له هذا الاسم، وليس بالقائم، وتقول: (مررت بالفرزدق قائما) وإن لم يكن أحد اسمه الفرزدق غيره، فقولك (قائما) إنما ضممت به إلى الأخبار بالمرور، خبرا آخر متصلا به مفيدا. فهذا فرق بين الصفة والحال، وهو أن الصفة لا تكون إلا لاسم مشترك فيه لمعنيين او لمعان، والحال قد تكون للإسم المشترك والإسم المفرد (¬1). أما قوله: " أن الصفة لا تكون إلا لاسم مشترك" ففيه نظر فللصفة أغراض متعددة، وقد تكون لغير المشترك نحو (باسم الله الرحمن) و (باسم الله العظيم) فليس (الله) اسما مشتركا. وسيأتي بيان هذا الأمر في بابه، إن شاء الله تعالى: وقال المبرد: " فإذا قلت: (جاءني زيدٌ ماشيا) لم يكن نعتا لأنك لو قلت: (جاءني زيد الماشي) لكان معناه المعروف بالمشي، وكان جاريا على زيد لأنه تحلية له، وتبين أنه زيد المعروف بهذه السمة، ليفصل ممن اسمه مثل اسمه بهذا الوصف. فإذا قلت: (جاءني زيد ماشيا) لم ترد أنه يعرف بأنه ماش، ولكن خبرت بأن مجيئه وقع في هذه الحال، ولم يدلل كلامك على ما هو فيه قبل هذه الحالة أو بعدها" (¬2). ¬

_ (¬1) الأصول 1/ 259، وانظر المقتضب 2/ 166، الفروق اللغوية 19، ابن يعيش 2/ 57 (¬2) المقتضب 4/ 300

ونحو هذا في الخبر أيضا تقول: (علي في الدار مقرئا) و (علي في الدار مقريء) فإن معنى الأولى يفيد أنه يقوم بالإقراء في الدار وقت الإخبار، وأما الرفع فعلى معنى أنه يقوم بالإقراء في الدار لا أنه الآن في الدار يقوم بالإقراء، وإنما إذا اقرأ يقريء في الدار وربما لم يكن في الدار الآن. وتقول: (هذا أخوك قائم بالسقي) على معنى أنه يقوم بالسقي أي متول، وإن لم يكن يقوم بالسقي وقت الإشارة، ولكن إذا قلت (هذا أخوك قائما بالسقي) كان المعنى أنه في وقت الإشارة كان يقوم بالسقي، ولا تقوله إلا إذا كان يقوم بالسقي وقت الإشارة إليه، وربما لم يكن يقوم به قبل ذلك. وتقول: (هذا خالد مجتهد) أي هو ممن اتصف بالاجتهاد، وإن لم يبذل الجهد في وقت الإشارة إليه، فهذا خبر كأنك قلت (هذا مجتهد)، فإن قلت (هذا خالد مجتهدا) كان المعنى أنه كان يجتهد في أثناء الإشارة إليه، ولا تقول إلا إذا كان ذلك. جاء في (كتاب سيبويه): " وأما قوله من ذا خير منك فهو على قوله: من ذا الذي هو خير منك، لأنك لم ترد أن تشير أو توميء إلى إنسان قد استبان لك فضله على المسؤول فيعلمكه ولكنك أردت: من ذا الذي هو أفضل منك؟ فإن أومأت إلى إنسان قد استبان لك فضله عليه فأردت أن يعلمكه نصبت خيرا منك كما قلت: من ذا قائمًا؟ كأنك قلت إنما أريد أن أسألك عن هذا الذي قد صار في حال قد فضلك بها، ونصبه كنصب ما شأنك قائما؟ (¬1). وجاء في (كتاب الأصول): " والحال إنما هي هيئة الفاعل، أو المفعول، أو صفته، في وقت ذلك الفعل المخبر به عنه، ولا يجوز أن تكون تلك الصفة إلا صفة متصفة غير ملازمة، ولا يجوز أن تكون خلقة، ولا يجوز أن تقول: جاءني زيد أحمر، ولا أحول (¬2)، ولا جاءني عمرو طويلا، فإن قلت متطاولا، أو متحاولا، جاز لأن ذلك شيء يفعله، ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 248 (¬2) في الأصل المنشور (أخوك) والصواب ما أثبتناه.

وليس بخلقه" (¬1). وهذا شأن أكثر الحال، وقد تكون الحال لازمة كما سترى. أما بالنسبة للحال من حيث الزمن، فإن النحاة يقسمونها على ثلاثة أقسام: الحال المقارنة: وهي التي زمنها زمن عاملها، وهي الغالبة نحو (أقبل أخوك ضاحكًا) فالضحك مقارن للإقبال. والمقدرة: وهي المستقبلة وهي التي يكون وقوعها بعد زمن عاملها، وذلك نحو قوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون} [الفتح: 27]، فكل من (محلقين) و (مقصرين) حال مستقبلة، لأن الحلق، والتقصير بعد الدخول وليسا مقارنين له (¬2). وكقوله تعالى: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها} [التوبة: 58]، وذلك نحو أن الخلود بعد الوعيد وليس مقارنا له، وكقوله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} [الصافات: 112]، وذلك أن نبوة إسحاق بعد التبشير وليست مقارنة له، فإن التبشير به قبل أن إسحاق (ع). ومثله قوله تعالى: {أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} [آل عمران: 39] فهذه كلها أحوال مستقبلة، لأن زمنها بعد التبشير. والمحكية: وهي الماضية قالوا وهي نحو (جاء زيد أمس راكبا (¬3)) وأنكرها بعض النحاة وذلك أنها مقارنة لعاملها، فالركوب مقارن للمجيء. ولعل من المحكية أن تقول (هذا مؤذ صغيرا وكبيرا) و (هذه تلسع صغيرةً وكبيرةً) إذا قلتها وهما كبيران، فتكون كل من (صغيرٍ) و (صغيرةٍ) حالا محكية. ¬

_ (¬1) الأصول 1/ 258 - 259، وانظر ابن يعيش 2/ 55 (¬2) الأشموني 2/ 193، حاشية الصبان 2/ 194 (¬3) التصريح 1/ 387

المنتقلة واللازمة

المنتقلة واللازمة: الأصل في الحال أن تكون منتقلة، أي تلازم صاحبها، وذلك نحو (جاء أخوك غاضبا)، فالغضب يتحول، وقد تكون ملازمة لا تنفك عن صاحبها، ويذكر النحاة لذلك مواطن منها: 1 - أن يكون عاملها مشعرًا بالحدوث كقوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء: 28]، ومعنى ذلك أن يكون عاملها، وهو الفعل أو غيره، يدل على أن صاحبها جاء إلى الوجود لأول مرة، وحدث بعد أن لم يكن، فكلمة (خلق) تدل على أن الإنسان جاء إلى الوجود لأول مرة فـ (ضعيفا) حال لازمة إذ لا ينفك الضعف عن الإنسان ونحوه قوله تعالى: {قالت رب إني وضعتها أنثى} [آل عمران: 36]، فأنثى حال لازمة ونحو قولك (ولدته أزرق العينين أفطس الأنف) أو (وضعته صغير العينين، كبير الأذنين)، واسع الفم، أو حو (ولد أعمى) فكل تلك أحوال لازمة لا تنفك عن صاحبها، ويدل عاملها على الحدوث أي مجيء، بعد ان لم يكن. وليس معنى ذلك أن كل عامل يدل على الحدوث تكون حاله لازمة، وإنما هو أمر يعود إلى المعنى، فإذا قلت مثلا (ولدته باكيا) أو (وضعته مغمض العين) أو (وضعته باسطا كفيه) دل على أن هذه ليست أحوالا لازمة، وإنما منتقلة ومرد ذلك إلى المعنى. ومعنى الضابط أن الحال قد تأتي لازمة في هذا الموطن، وليس معناه أن كل حال تأتي في هذه المواطن تكون لازمة. 2 - أن تكون مؤكدة بأنواعها نحو قوله تعالى: {ولي مدبرا} [القصص: 31]. فـ (مدبرًا) حال مؤكدة لعاملها (ولي) وهي بمعناه، إذ معنى (ولى) و (أدبر) واحد. والحق أن هذه ليست ملازمة لصاحبها ملازمة قولنا (ولد أعمى) أو (ولد دميما) بل هي ملازمة لعاملها، فهو مدبر ما دام موليا، فالحال موجودة ما دام العامل موجودا، ونحو (عاث في الأرض فاسدًا) لأن الإفساد ملازم للعيث.

الحال الجامدة

وقد يكون العامل غير ملازم، فتنقضي الحال بانتقضائه، فمتى انتهى توليه انتهى إدباره، ومتى انتهى عيثه انتهى إفساده، فهذه الحال ليست ثابتة ثبوت الأولى. 3 - أن تكون الحال جامدة غير مؤولة بالمشتق، نحو (هذا حطبك رمادا) و (هذا طحينك خبزا) ولس كل جامد غير مؤول بالمشتق حالا لازمة، ففي قولك (هذا تمرك بسرا) الحال غير لازمة، وفي قولك (هذا ذهبك خاتما) الحال غير لازمة، ومرد ذلك إلى المعنى. 4 - في أمثلة مسموعة كقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط} [آل عمران: 18]، فإن قيام ربنا بالقسط لا ينفك عنه، وكقوله تعالى: {أن الله يبشرك بيجيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} [اآل عمران: 39]، فهذه أحوال لازمة لصاحبها، وكقوله تعالى: {فجزاؤه جهنم خالد فيها} [المائدة: 93]، فالخلود ملازم له، لا ينفك عنه، وكقوله تعالى: {وهذا صراط ربك مستقيما} [الأنعام: 126]، فالاستقامة ملازمة لصراط الله سبحانه، والحق أن مرد اللزوم والانتقال إلى المعنى لا إلى موطن معن. الحال الجامدة: الأصل في الحال أن تكون وصفا، والمقصود بالوصف اسم الفاعل، واسم المفعول، وصيغ المبالغة، والصفة المشبهة، واسم التفضيل، وقد تكون اسما جامدًا، وذلك في مواضع منها: 1 - أن تكون الحال دالة على سعر نحو: اشتريت الكتب كتابا بنصف دينار، وبعت الدار ذراعا بدينار، واشتريت العسل حقه بعشرة دراهم. 2 - أن تكون الحال دالة على تقسيط النحو: وضعت كتبي كتابا عند كل واحدـ، دفعت الزكاة عن كل أربعين دينارا. 3 - الحال الدالة على تفاعل نحو بعته يدا بيد، وكلمته فاه إلى فمي.

4 - الحال الدالة على التشبيه نحو بدت قمرًا، وتلفتت ظبيا. 5 - الحال المواطئة، وهي الموصوفة ومعتمد الكلام على الصفة التي بعدها، نحو قوله تعالى: {وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا} [طه: 113]. وقوله: {فتمثل لها بشرًا سويا} [مريم: 17] وفي رأينا أن لكيتهما أعني الحال والصفة، معتمدة. 6 - الحال الدالة على ترتيب نحو (ادخلوا رجلا رجلا) و (قرأت الكتاب كلمة كلمة) و (حفظت القصيدة بيتا بيتا) " وضابطه أن تأتي للتفصيل بعد ذكر المجموع بجزئه مكررا" (¬1). وفي نصب الثاني من المكرر خلاف، فقد ذهب الزجاج إلى أن الاسم الأول حال والثاني توكيد له، وفي نصب الثاني على التوكيد نظر، لأنه لو كان توكيدًا لأدى ما أداه الأول (¬2). وايضاح ذلك أن التوكيد يؤدي ما أداه المؤكد، فلو قلت (أقبل محمد) كان (محمد) الثاني هو الأول، ولو قلت (اشتريت حصانا حصانا) كان الحصان الثاني هو الأول وليست هذه الحال كذلك، فإنك لو قلت (أقبل الرجال صفا صفا) احتمل كلامك معنيين فإنه إذا كان الرجال أقبلوا صفا واحدا، كانت (صفا) الثانية تأكيدًا لأنها لم تزد على معنى الأولى. وإذا أقبلوا صفوفا فليست بتأكيد. وإذا قلت (شربت الدواء جرعة جرعة) فإن كنت شربته جرعة واحدة كانت الثانية تأكيدًا لأنك لم تزد على معنى الأولى. وإن كنت شربته جرعة واحدة كانت الثانية تأكيدًا، لأنك لم تزد على معنى الأولى، وإن كنت شربته جرعة بعد جرعة لم تكن توكيدًا. وقد يمتنع إعراب المكرر إذا كان المعنى لا يحتمله، وذلك قولك (أقبل الطلاب فردًا ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 225 (¬2) انظر الهمع 1/ 238

فردًا) فهنا يمتنع التوكيد، لأنه لا يمكن أن يكون الطلاب فردا واحدا، وكذلك لو قلت (حفظت القصيدة بيتا بيتا) فإنه لا يمكن أن تكون القصيدة بيتا واحدا، وكذلك نحو (قرأت الكتاب كلمة كلمة) فإنه يمتنع أن تقول (قرأت الكتاب كلمة)، ولذلك كان هذا الاعراب فيه نظر وإنما هو بحسب المعنى، فقد يحتمل في بعض التعبيرات أن يكون توكيدا وربما لم يحتمل وكل له معنى. وذهب بعضهم إلى أنها عطف بتقدير الفاء، أو ثم، فقولك (حضروا رجلا رجلا) معناه: حضروا رجلا فرجلا أو رجلا ثم رجلا (¬1)، جاء في (الهمع): " ولو ذهب ذاهب إلى أن النصب إنما هو بالعطف على تقدير حذف الفاء، أي رجلا فرجلا، وبابا فبابا لكان وجها حسنا عاريًا عن التكلف، لأن المعنى: ادخلوا رجلا بعد رجل، وعلمته الحساب بابًا بعد باب" (¬2). وأرى في هذا التقدير نظرًا أيضا، فالفاء تفيد الترتيب والتعقيب، و (ثم) تفيد الترتيب والتراخي، فقولك (حضروا رجلا فرجلا) معناه حضر الرجل بعد الآخر بلا مهلة، وإن قلت (ثم) كان المعنى حضر الرجل بعد الآخر وبين كل رجل وآخر مهلة، وهذا المعنى غير مراد، فإن العرب لو أرادت الترتيب والتعقيب لجاءت بالفاء، ولو أرادت التراخي لجاءت بثم، ولكنها أرادت أنهم دخلوا رجلا بعد الآخر، فقد يكون دخل بعضهم بعد الآخر بلا مهلة، وقد يكون دخل بعضهم بمهلة، فإن قدرت أحد الحرفين تعين أحد المعنيين. وقد يعسر التقدير أحيانا، أو يمتنع، وذلك نحو (قرأت الكتاب كلمة كلمة) فإنه على تقدير الفاء، يكون المعنى أنك قرأت الكتاب كله كلمة بعد أخرى بلا مهلة حتى أنهيته. وقد يكون الكتاب كبيرا يستعرق شهورا، فإنه يعسر أن تكون قرأت الكتاب بلا مهلة، كلمة بعد كلمة حتى أنهيته. ¬

_ (¬1) حاشية الخضري 1/ 213، وانظر الهمع 1/ 238، الرضي على الكافية 1/ 225 (¬2) الهمع 1/ 238

وتقدير (ثم) أبعد، إذ المعنى يكون على ذلك أنه قرأ كلمة، ثم جعل لنفسه مهلة ليقرأ بعدها كلمة أخرى، وهكذا فيكون تراخ بعد كل كلمة وهذا لا يكون، فإن قلت: قرأته حرفا حرفا كان أبعد، إذ المعنى على هذا أنك قرأت حرفا ثم تركت القراءة وعدت فيما بعد لتقرأ الحرف الثاي وهكذا، فإذا قرأت كلمة (طمأنينة) مثلا، قرأت الطاء أولا، ثم تركت القراءة وعدت فيما بعد لتقرأ الميم، حتى إذا قرأتها تركت القراءة وهكذا، حتى تنهى الكلمة وهذا ممتنع. فإنه إذا صح تقدير الفاء، أو ثم في تعبير، فإنه لا يصح في تعبير آخر، ثم إن التقدير يقيد المعنى بنحو معين، ولما كانت العرب لا يريدون هذا النحو المعين، أطلقوا. وذهب الجمهور إلى أن الكلمة الأولى حال أولي، والكلمة الثاني حال ثانية، قيل وهو المختار (¬1). وهو ليس مختارا فيما أرى، وذلك أن في نحو قولك (أقبل محمد راكضا ضاحكا) حالين، ولكل حال معنى، يمكن أن يستغني الكلا بها، فراكضا حال، وضاحكا حال أخرى ولكن في نحو قولك (اقبلوا رجلا رجلا) لا يتم المعنى إلا بذكر الكلمتين معا، ولا تؤدي الكلمة وحدها معنى فإنه لا يصح أن تقول (أقبلوا رجلا) وتسكت. والاختيار فيما نرى أن يكون مجموع الكلمتين حالا واحدة، لأن مجموع الكلمتين يفيد معنى الترتيب، وهذا اختيار أبي حيان وجماعة. جاء في (الهمع): " وقال أبو حيان: الذي أختاره، أن كليهما منصوب بالعامل السابق، لأن مجموعهما هو الحال لا أحدهما، ومتى اختلف بالوصفية أو غيرهما لم يكن له مدخل في الحالية، إذ الحالية مستفادة منهما فصارا يعطيان معنى الفرد، فأعطيا إعرابه وهو النصب" (¬2). ثم إن التركيب غير عزيز في اللغة، لا في المبنيات ولا في العربات، فمن المركب ¬

_ (¬1) حاشية الخضري 1/ 213 (¬2) الهمع 1/ 237، التصريح 1/ 370

المبني الأحوال المركبة، كقولهم (تفرقوا شذر مذر) و (هو جاري بيت بيت) أي ملاصقا، وكالظروف المركبة نحو صباح مساء، وبين بين. ومن المركب المعرب، المركب المزجي، نحو بعلبك، وحضر موت، فلا ينكر أن يكون مجموع الكلمتين يؤدي معنى واحدا، أو يعرب إعرابا واحدا. 7 - الدالة على طور فيه تفضيل، وذلك أن يفضل الشيء في حال على نفسه، أو على غيره في حال أخري، نحو (الذهب قلادة أجمل منه خاتما) و (الذهب قلادة اجمل من الفضة قلادة) و (تمرك بسرا اطيب مه رطبا). فقد فضلت الذهب حال كونه قلادة، عليه حال كونه خاتمًا، وفضلت الذهب حال كونه قلادة، على الفضة حال كونها قلادة، وفضلت التمر حال كونه بسرا، عليه حال كونه رطبا جاء في (المقتضب): " ومثل ذلك هذا قولك (هذا بسرا اطيب منه تمرا) فإن او مأت إليه وهو بسر تريد: هذا إذا صار بسرا أطيب منه إذا صار تمرا، وإن أومأت إليه وهو تمر قلت: هذا بسرا أطيب منه تمرا، أي هذا إذ كان بسرا أطيب منه إذ صار تمرا، فإنما على هذا يوجه لأن الانتقال فيه موجود. فإن أومأت إلى عنب قلت: هذا عنب أطيب منه بسر، ولم يجزإلا الرفع لأنه لا ينتقل فتقول: هذا عنب أطيب منه بسر تريد، هذا عنب البسر أطيب منه" (¬1). وجاء في (شرح ابن يعيش): " وهذا إنما يكون فيما يتحول من نوع إلى نوع آخر، نحو (هذا عنبا أطيب منه زبيبا) لأن العنب يتحول زبيبا، ولو قلت (هذا عنبا أطيب منه تمرا) لم يجز لأن العنب لا يتحول تمرا، وإذا كان كذلك لم يجز فيه إلا الرفع فتقول: (هذا عنب أطيب منه تمر) فيكون (هذا) مبتدأ و (عنب) الخبر، و (أطيب منه) مبتدأ آخر و (تمر) الخبر، والجملة الثانية في موضع صفة لعنب فاعرفه" (¬2). ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 251، وانظر سيبويه 1/ 199، ابن يعيش 2/ 60 (¬2) ابن يعيش 2/ 61، وانظر الأصول 1/ 266 - 267

وقوع المصدر حالا

والفرق واضح بين المعنيين، فإنك إذا قلت (هذا بسرا أطيب منه رطبا) فقد فضلت الشيء على نفسه، أي هذا عند ما كان بسرا أطيب منه عندما رطبا أو عندما يكون. وأما إذا قلت (هذا بسر أطيب منه عنب) كان المعنى أن هذا بسر يفضله العنب. وتقول في غير الجامدة (محمد شاعرا أحسن منه كاتبا) أي محمد حال كونه شاعرا خير منه حال كونه كاتبا، وتقول (محمد شاعر أحسن منه كاتب) أي أن محمدا شاعرا يفضله كاتب، فأحسن مبتدأ آخر وكاتب خبر له، وهذا الجملة صفة. 8 - المصدر نحو (أقبل أخوك ركضا) و (قدم الجيش زحفا) فركضا وزحفا حالان جامدان لأنهما مصدران وليسا وصفين. إلى غير ذلك من المواطن. وقوع المصدر حالا: وقد يقع المصدر حالا وقد استعملت العرب ذلك كثيرا، ومه قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال: 15]، أي زاحفين وقوله: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} [البقرة: 274]، أي مسرين ومعلنين، قوله: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} [آل عمران: 83]، أي طائعا وكارها وقوله: {وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115]، أي صادقة وعادلة، وقوله: {حملته أمه كرها ووضعته كرها} [الأحقاف: 15]، أي كارهة، ونحو قولك (أقبل علي ركضا) و (قتله صبرا) و (طلع بغتة) و (كلمته مشافهة) ونحو ذلك (¬1)، وهو ليس بمقيس عند النحاة على كثرته (¬2)، وعند المبرد هو مقيس فيما كانت الحال فيه نوعا من عاملها، فإن قلت (أقبل ركضا) جاز لأن الركض نوع من الاقبال، ولو قلت (جاء بكاء وضحكا) لم يجز لأن البكاء والضحك ليسا نوعا من المجيء، قال المبرد في (المقتصب): " ولو قلت: (جئته إعطاء) لم يجز، لأن الاعطاء ليس من المجيء، ولكن (جئته سعيا) فهذا جيد لأن ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 186، ابن يعيش 2/ 59، المقتضب 3/ 234، الهع 1/ 238 (¬2) انظر سيويه 1/ 186، ابن يعيش 2/ 59، الرضي على الكافية 1/ 228

المجيء يكون سعيا، قال الله عز وجل: {ثم ادعوهن يأتينك سعيا} (¬1) [البقرة: 260]. ورأي المبرد أسوغ من رأي النحاة، وذلك لأنه كثير والكثرة تخول القايس عليها. وقد يعرض هذا السؤال وهو: لم يعدل العرب عن الوصف إلى المصدر أحيايا؟ وهل لذلك غرض؟ الحق أنه لا يعدل من تعبير إلى تعبير إلا يصحبه عدول من معنى إلى معنى، فقولك (أقبل ركضا) وإن كان في التأويل (أقبل راكضا) لا يطابقه في المعنى. وإنما يعدا من الوصف إلى المصدر لغرضين: الأول: المبالغة، فإن المصدر هو الحدث المجرد، والوصف هو الحدث مع الذات، فـ (ساعيا) في قولك (اقبل أخوك ساعيا) يدل على الحدث وذات الفاعل، أما المصدر فهو الحدث المجرد من الذات والزمن، ولذا يمتنع الأخبار بالمصدر عن (الذات، لا تقول (محمد سعيٌ) ولا (هو ركضٌ) بل تقول (محمد ساعٍ)، و (هو راكض). فإن قلت (أقبل أخوك سعيا) كان المعنى أن أخاك تحول إلى سعي، ولم يبق فيه شيء من عنصر الذات، لم يبق فيه ما يثقله من عنصر المادة بل تحول إلى حدث مجرد وهذا مبالغة، وكذلك قولك (أقبل ركضا) معناه أنه تحول إلى الركض عند إقباله، ومثله قوله تعالى: {ثم ادعوهن يأتينك سعيا} فقد قال (سعيا) ولم يقل (ساعيات) والسياق يوضح ذلك قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا، واعلم أن الله عزيز حكيم} [البقرة: 260]. إن الأثر يقول أن الله تعالى أمر سيدنا إبراهيم (ع) أن يأخذ أربعة من الطير، فيذبحهن ويقطع أوصالهن، ويدقهن جميعا، حتى يكن عجينة واحدة، مختلطة متماثلة ثم أمره أن يجزيء هذا الكتلة المتماثلة إلى أربعة أجزاء، ثم يجعل على كل جبل جزءا. ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 234

في منطقنا ومنطق العقل أنه إذا قطع الرأس فحسب، وبقيت الأعضاء سليمة على وضعها كانت إعادة الحياة إليه مستحيلة فكيف إذا تمزقت الأعضاء، وتهشمت العظام، ودق اللحم والعظم والريش، واختلطت أجزاء الطيور بعضها ببعض حتى أصبحت عجينة واحدة متماثلة؟ إن أعادة الحياة إلى هذه أعسر وأعسر، فهذه الحالة في أقصى حالات الهمود والسكون وآناها عن الحياة والحركة، ثم قال له: ادعهن، فإنهن يأتينك سعيا، أي يتحولن إلى سعي، يتحولن من أقصي الهمود إلى أقصى الحركة، ولم يقل (ساعيات)، أي لم يكن فيهن ما يثقلهن من عنصر المادة، ففي التعبير بالمصدر مبالغة لا تكون في الوصف. ولذا يمنع النحاة قياس وقوع المصدر حالا، قالوا لأنه يلزم الاخبار بالمعنى عن الذات. قال ابن الناظم: "ومقتضى هذا أن لا يكون المصدر حالا، لئلا يلزم الاخبار بمعنى عن عين" (¬1). والحق أنه إذا أراد المبالغة فلا مانع من ذلك، بل ينبغي أن يقوله في موطنه فهذا تعبير، والوصف تعبير آخر. وقوع المصدر حالا تعبير مجازي، أما الوصف فهو تعبير حقيقي، وكلاهما مراد وله موطنه. الثاني: التوسع في المعنى وذلك أنك إذا عبرت بالوصف فقد أردت معى واحدا فإذا قلت (جاء خالد ماشيا) كان (ماشيا) حالا، ليس غير، ولكن إذا عبرت بالمصدر اتسع المعنى، وكسبت أكثر من قصد وغرض، فقد تكسب معنى المصدرية والحالية، كقولك (اقبل راكضا) فهذا يحتمل المفعولية المطلقة، أي يركض ركضا أو اقبال ركض، أيا كان التقدير ويحتمل الحالية فقد كسبت معنيين: وأنت تريدهما معا، قال ابن القيم. ¬

_ (¬1) ابن الناظم 132

تنكير صاحب الحال

" وبالجملة فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال، بل الاتيان بالحال ههنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر، مع زيادة فائدة الحال، فهو أتم معنى ولا تنافي بينهما" (¬1). وقد يحتمل الحالية، والمفعولية لأجله، والمفعولية المطلقة (¬2) فتكسب ثلاثة أغراض في تعبير واحد منه قوله تعالى: {وادعوه خوفا وطمعا} [الأعراف: 56]. فلو قال (ادعوه خائفين وطامعين) لكان المعنى واحدا هو الحالية، ولكن بعدو له إلى المصدر اتسع المعنى، وأصبح يؤدي ثلاثة معان في آن واحد، وهي الحالية أي خائفن. والمفعول لأجله، أي للخوف والطمع، والمفعولية المطلقة أي تخافون خوفا، وتطمعون طمعا، أو دعاء خوف، وطمع، وهذه المعاني كلها مرادة، فإننا يبغي أن ندعو ربنا ونحن في حالة خوف، وطمع وندعوه للخوف والطمع، وندعوه ونحن نخاف خوفا، ونطمع طمعا، فجمعها ربنا في تعبير واحد، بعدوله من الوصف إلى المصدر فهو بدل أن يقول: ادعوه خائفين، وطامعين وادعوه للخوف، والطمع وادعوه دعاء خوف، وطمع، أو تخافون خوفا، وتطمعون طمعا، جمعها كلها بهذا التعبير القصير، فقال: {وادعوه خوفا وطمعا}. تنكير صاحب الحال: ذهب جمهور النحاة إلى أن صاحب الحال يكون معرفة، ولا يأتي نكرة إلا بمسوغن ومن هذه المسوغات: 1 - تقديم الحال على صاحبها النكرة، نحو: (أقبل حافظا رجل) فأصل الكلا (اقبل رجل حافظ) فـ (حافظ) نعت، ثم قدت الصفة على صاحبها، فنتصبت على الحال، لأنه لا يجوز أن تتقدم الصفة على الموصوف، قالو وسبب ذلك أن تقدم الحال يؤمن التباس الحال بالصفة وأما إذا تأخر نحو (جاءني رجل راكبا) فقد يتشبه في حال انتصاب ذي الحال بالوصف نحو (رأيت رجلا راكبا) فطرد المنع رفعا وجرًا" (¬3). ¬

_ (¬1) التفسير القيم 285 (¬2) انظر الغني 2/ 561 - 562، وانظر التفسير القيم 256 - 258 (¬3) الرضي على الكافية 1/ 220 - 221

وجاء في (الكليات) لأبي البقاء: " كل صفة نكرة قدمت على الموصوف انقلبت حالا. ففارقها لفظ الصفة لامعناها، لأن الحال صفة في المعنى" (¬1). 2 - أن يكون مسبوقا بنفي، أو شبه النفي، نحو (ما أقبل طالب مقصرا) و (لا يأتيني طالب مقصرا) و (هل جاءني طالب مقصرا) ومنه قول الشاعر: لا يركنن أحد إلى الأحجام ... يوم الوغي متخوفا لحمام فمتخوفا حال من (أحد) وهو نكرة والمسوغ النهي. 3 - أن تكون النكرة مخصصة بإضافة، أو وصف، كقولنا (أقبل رجل علم حافظا) و (قدم طفل صغير باكيا). وغير ذلك من المسوغات (¬2). قال أبو سعيد السيرافي: " الحال من المعرفة كالحال من الكرة فيما يوجبه العامل غير أن الحال من النكرة تنوب عن معناها الصفة، والصفة مشاكلة للفظ الأول، فيكون أولى من الحال المخالفة للفظ الأول، وذلك قولك (جاءني رجل راكب) في حال مجيئه وأما المعرفة فإن فائدة الحال فيها غير فائدة الصفة، فإذا قلت: جاءني زيد أمس راكبا فالركوب في حال مجيئة، لا في حال أخبارك" (¬3). ومن هذه الحال نفهم أن الحال بمعنى الصفة، فإذا تأخرت كانت نعتا، نحو (أقبل طالب مقصر) وإذا تقدمت أصبحت نحو (أقبل مقصرا طالب)، وإذا الكلام منفيا، كانت حالا وإن كان مثبتا صارت صفة، وكذلك باقي المسوغات. وفي هذا الكلام نظر، أي نظر. فإن الحال غير الصفة، والحال لها معنى والصفة لها معنى آخر، فقولك (أقبل رجل ¬

_ (¬1) الكليات 220 (¬2) انظر ابن عقيل 1/ 215 - 216، الهمع 1/ 240، التصريح 1/ 375 - 378 (¬3) شرح أبي عقيل بهامش كتاب سيبويه 1/ 272

حافظ) معناه متصف بالحفظ، كما تقول (أقبل رجل مقريء) أي متصف بالإقراء، ولكن إذا قلت (أقبل حافظا رجل) كان المعنى أنه حافظ في إقباله هذا، تقول (في الدار رجل مقريء) أي متصف بالإقراء، وليس معناه أنه يقوم الآن بالإقراء، فإن قلت (في الدار مقرئا رجل) تعين أنه بالاقراء حال كونه في الدار، ولا تقوله إلا إذا كان يقوم بالاقراء. وتقول (أقبل طالب مهمل) أي متصف بالإهمال، كما تقول (هذا طالب مهمل) فإن قلت (أقبل مهملا طالب) كان المعنى أنه مهمل في إقباله هذا، وليس ذلك سمته العام. وكذلك بالنسبة للمسوغات الأخرى. فإنه يصح أن تقول (ما أقبل طالب مقصر) وتقول (ما أقبل طالب مقصرا) لوجود المسوغ وهو النفي، ولكن هل المعنى واحد؟ كلا! فإن قولك (ما أقبل طالب مقصر) معناه أنه لم يقبل طالب متصف بالتقصير، وأما قولك (ما أقبل طالب مقصرا) فمعناه نفي التقصير عنه في إقباله هذا، وقد يكون قبل هذا مقصرا، ومتصفا به نحو (لا يأت طالب مهمل) و (لا يأت طالب مهملا) فالأولى نهي عن اتيان طالب متصف بالاهمال، والثانية معناه النهي عن الاهمال في هذا المجيء، وانظر إلى قول قطري: لا يركنن أحد إلى الاحجام ... يوم الوغي متخوفا لحمام فإنه لم يقل (متخوف) لأن المعنى يمنع من ذلك، فإنه إذا قال (متخوف) فمعناه أن التخوف وضعه العام. فكيف ينهاه عن الإحجام إذا كان متخوفا؟ ولكن قال (متخوفا)، لأنه أراد ان لا يتخوف يوم الوغي، وفرق بين المعيين. وكذلك قولك (جاءني طالب صغير مقصرا) و (مقصر) فبالاتباع يكون سمته العام التقصير وفي النصب يكون مقصرا في مجيئه هذا. ونحن نرى أن لا داعي لهذه المسوغات، وإنما المسوغ المعنى، فمعنى الحال غير معنى الصفة، فإن أردت الحالية نصبت وإن أردت الصفة اتبعت، وقد ذهب الخليل وسيبويه إلى أنه يجوز الحال من النكرة بلا مسوغ من هذه المسوغات، جاء في

(الكتاب): " وقد يجوز نصبه على النصب (هذا رجل منطلقا) وهو قول عيسى، وزعم الخليل أن هذا جائز ونصبه كنصبه في المعرفة، جعله حالا ولم يجعله وصفا، ومثل ذلك (مررت برجل قائما) إذا جعلت المرور به في حال قيام، وقد يجوز على هذا (فيها رجل قائما)، وهو قول الخليل، ومثل ذلك (عليه مائة بيضا) والرفع الوجه، و (عليه مائة عينا) والرفع الوجه" (¬1). وهذا هو الحق فيما نرى فإن المعنى هو المسوغ غير أننا لا نوافق سيبويه. في قوله (والرفع الوجه) لأنه يكون عند ذاك صفة، والحال في المعنى غير الصفة، كما أوضحنا. فإن قلت: أن هذا يتضح في المرفوع والمجرور، لا يتضح في المنصوب، فإنه يتبين النعت من الحال في قولك (أقبل طالب مقصر)، و (أقبل طالب مقصرا)، ولكن كيف يتبين ذلك في النصب؟ كيف نميز الحال من النعت في نحو قولك (رأيت طالبا مقصرا) كما ذكر الرضي؟ فوجود المسوغ ضروري لمعرفة الحال من النعت. وهذا كلام مردود، فإننا لا نستطيع أيضا أن نميز الحال، من النعت إذا كان صاحب الحال منصوبا مع وجود المسوغ، كيف نميز بين الحال والصفة في قولنا: (ما رأيت طالب مقصرا) و (هل رأيت طالب مقصرا) و (رأيت طالب علم مقصرا)، ففي هذه الجمل مسوغات هذه النفي والاستفهام، والاضافة أفكلمة (مقصر) هنا نعت أم هي حال؟ هل الفرق المسوغ بين الحال والنعت؟ إن وجود المسوغ وعدمه سواء. إن قولك (رأيت طالبا مقصرا) و (ما رأيت طالبا مقصرا) سواء في الإبهام، وهي مع وجود المسوغ يمكن أن تعرف حالا، كما تعرف تعتا فليكن كذلك مع عدمه. إن هذه الجملة من الجمل الاحتمالية، فتقول أن هذه الكلمة تحتمل الحالية، وعليه يكون معناه كذا، وتحتمل النعت وعليه يكون معناها كذا. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 272

تقديم الحال

أما تقديم الحال على صاحبها النكرة فليس لتسويغ الحالية، وإنما هو لغرض من أغراض التقديم، وهو الاهتمام، فإنك تقول (جاءني طالب مقصرا) فإن اهتممت بالحال قلت (جاءني مقصرا طالب) كما هو معلوم من أغراض التقديم. تقديم الحال: إن التعبير الطبيعي هو أن يتقدم الفعل ثم صاحب الحال ثم الحال، فتقول (حضر محمد ماشيا). فإن كان السامع يعنيه مشي محمد وذلك كأن يكون محمد مكسور الساق أو حصل له مرض أقعده عن المشي قدمت ما هو أهم، وأنت بشأنه اعني، لأن العرب يقدمون ما هو اهم، لهم وهم ببيانه أعني، كما يقول سيبويه فتقول: (حضر ماشيا محمد) ونحوه أن تقول (أقبل مضروبا خالد) وذلك إذا كان ضرب خالد أهم. فإن كان السامع يظن أن محمدًا حضر راكبا لا ماشيا، قدمت الحال على فعلها لإزالة الوهم من ذهنه ولإرادة معنى التخصيص، فتقول (ماشيا قدم محمد) أي لم يقدم على الحال غيرها، فهو لم يقدم راكبا مثلا. وهذا شأن التقديم عموما، فإنك تقدم لغرض من الأغراض، فقد يكون ذلك للتعجب والتفاؤل والتشاؤم والتهويل والتخصيص وغير ذلك من الاغراض التي ذكرناها في أكثر من موضع، جاء في (شرح المختصر للتفتازاني): " ومثل (زيدا عرفت) في إفادة الاختصاص قولك (بزيد مررت) .. أمن اعتقد أنك مررت بإنسان وأنه غير زيد، وكذلك يوم الجمعة سرت، وفي المسجد صليت، وتأديبا ضربته، وماشيا حججت، والتخصيص لازم للتقديم غالبا " (¬1). ¬

_ (¬1) شرح المختصر 76 - 77

الحال الجملة تقع الحال جملة كما تقع مفردا، تقول (أقبل أخوك يضحك) و (أقبل أخوك وهو يضحك) كما تقول: (أقبل ضاحكا) ويشترط النحاة أن تكون جملة الحال خبرية خالية من دليل استقبال أو تعجب (¬1)، فلا يصح أن تقع الجملة الإنشائية حالا، فلا تقول: (أقبل محمد وهل هو راكض؟ )، على أنها حال، كما لا يصح عند النحاة أن تكون الجملة المصدرة بدليل استقبال حالا فلا تقول (حضر محمد سيكتب) على أنها حال، وقوله تعالى: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [الصافات: 99]، ليست الجملة (سيهدين) فيه حالا. جاء في (شرح الرضي): " ويشترط في المضارع الواقع حالا خلوه من حروف الاستقبال، كالسين ولن ونحوهما، ولك أن الحال الذي نحن في بابه، والحال الذي يدل عليه المضارع، وإن تباينا حقيقة لأن في قولك مثلا (اضرب زيدا غدا يركب) لفظ (يركب) حال بأحد المعنيين، غير حال بالآخرة، لأنه ليس في زمان المتكلم، لكنهم التزموا تجريد صدر هذه الجملة، أي المصدرة بالمضارع من علم الاستقبال، لتناقض الحال والاستقبال في الظاهر وإن لم يكن التناقض ههنا حقيقيا" (¬2). وهذا التعليل غير مقبول، وذلك أنه إذا أقر النحاة أن تكون هناك حال مقدرة، وهي التي يكون وقوعها بعد وقوع عاملها، فلا داعي لهذا الشرط، لأن المصدرة بدليل استقبال، ليست إلا كذلك قال تعالى: {أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدنا وحصورا ونبيا من الصالحين} [آل عمران: 39]، وهذه الأحوال مقدرة لأنها بعد التبشير، ولذا ترى أن كل ما احتمل أن يكون حالا في المعنى مما صدر بدليل استقبال، صح أن يكون كذلك، وذلك نحو (عرفت محمدا إن تستعنه أعانك) فجملة الشرط حال، وهي مصدرة بدليل استقبال، وتقول (مالك لا تذهب)؟ و (لا) عند النحاة تفيد الاستقبال وإن كان لنا فيها رأي آخر قال تعالى: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه} [يس: 22]، فجملة (لا أعبد) حالية، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 266، التصريح 389 - 391 (¬2) الرضي على الكافية 1/ 230، وانظر الأصول 1/ 261 - 262

واو الحال

واو الحال: قد تقع قبل قسم من الجمل الحالية واو تسمى واو الحال، وجوبا أو جوازا، نحو (أقبل محمد أخوه معه)، و (أقبل محمد وأخوه معه) فما فائدة هذه الواو؟ وهل تؤدي معنى خاصا بها؟ وما الفرق بين الجملتين السابقتين. ونحوهما في المعنى؟ إن الواو في العموم تفيد الاجتماع، جاء في (المخصص): " فالواو إذا لم يكن بدلا من الحرف الجار لزمته الدلالة على الاجتماع، كلزوم الفاء الدلالة على الاتباع، وهي مع ذلك تجيء على ضربين: أحدهما: أن تأتي دالة على الاجتماع، متعرية من معنى العطف، في نحو ما حكاه النحويون من قولهم (ما فعلت وأباك؟ ). والآخر أن تأتي عاطفة مع دلالتها على الاجتماع، في نحو (مررت بزيد وعمرو) فهذا الضرب يوافق الأول في الدلالة على الجمع، ويفارقه في العطف، لأن الواو هناك لم تدخل الاسم الآخر في إعراب الاول، كما فعلت ذلك في الباب الثاني، فإذا كان ذلك علم أن المعنى الذي يخص به بالواو الاجتماع. وقد تجيء الواو غير عاطفة على غير هذا الوجه، في نحو قوله تعالى: {يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} [آل عمران: 154]، فهي لغير العطف في هذا الموضع أيضا، وذلك أن الجملة التي بعدها غير داخلة في اعراف الاسم الذي قبلها ولا هي معطوفة على الجملة التي قبلها، وإنما الكلام مجوعه في موضع نصب بوقوعه موقع الحال فهذا ما ينبئك عن استحكام الواو في الدلالة على الاجتماع، إذ كان حكم الحال أن تكون مصاحبة لذي الحال" (¬1). وهذا صحيح، فالواو العاطفة لمطلق الجمع، وهي تفيد التشريك في الحكم، نحو (حضر محمد وخالد) والواو التي ينتصب الاسم بعدها تفيد المعية والمصاحبة، ¬

_ (¬1) المخصص 14/ 47 - 48

وهو اجتماع أيضا، نحو (جئت والليل)، والتي ينتصب بعدها الفعل المضارع تفيد المصاحبة، وهو اجتماع أيضا، نحو (لا تأكل ولا تتكلم) والحالية تفيد مصاحبة، ما بعدها لما قبلها نحو (جئت والشمس طالعة) أي مصاحبة طلوع الشمس، ولذا عدها بعض النحاة للمعية (¬1) لأنها تفيد المصاحبة، والجملة بعدها مفعول معه. والاستئنافية تفيد الجمع في ذكر حكمين أو أكثر، نحو (لا تأكل وتشرب) بضم الباء، أي أنت منهي عن الأكل، مباح لك الشرب فقد جمع بين حكمين. وهي تفيد الجمع ضميرا، نحو إذهبوا وقوموا، وحرفا نحو (مدرسون وقائمون) فالواو على العموم تفيد الاجتماع. وذكر عبد القاهر الجرجاني، أن الواو الحال يؤتى بها لقصد استئناف حال أخرى تضمها إلى ما قبلها، جاء في (دلائل الإعجاز): " فاعلم أن كل جملة وقعت حالا ثم امتنعت من الواو، فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها، فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد وكل جملة جاءت حالا ثم اقتضت الواو، فذاك لأنك مستأنف بها خبرا، وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأول في الإثبات. تفسير هذا أنك قلت: (جاءني زيد يسرع) كان بمنزلة قولك (جاءني زيد مسرعا) في أنك تثتب مجيئا فيه إسراع، وتصل أحد المعنيين بالآخر، وتجعل الكلام خبرا واحدا، وتريد أن تقول: جاءني كذلك وجاءني بهذه الهيئة، وهكذا قوله: وقد علوت قتود الرحل يسفعني ... يوم قديديمة الجوزاء مسموم. كأنه قلت: وقد علوت قتود الرحل بارزا للشمس ضاحيا. وإذا قلت: (جاءني وغلامه يسعي بين يديه) و (رأيت زيدا وسيفه على كتفه) كان المعنى على أنك بدأت فأثبت المجيء والرؤية، ثم استأنفت خبرًا، وابتدأت اثباتا ثانيا لسعي على أنك بدأت فأثبت المجيء والرؤية، ثم استأنفت خبرا، وابتدأت إثباتا ثانيا لسعي الغلام بين يديه، ولكون السيف على كتفه. ولما كان المعنى على استئناف الاثبات ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 465 - 466، الهمع 1/ 220

احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى، فجيء بالواو كما جيء بها في قولك (زيد منطلق وعمرو ذهاب)، و (العلم حسن والجهل قبيح)، وتسميتنا لها واو لحال لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضم جملة إلى جملة" (¬1). وجاء في (الطراز): أن الواو إذا كانت محذوفة فهي في حكم التكملة والتتمة لما قبلها تنزل منزلة الجزء منها، .. وإذا كانت الواو موجودة كانت في حكم الاستقلال بنفسها" (¬2). وذهب بعضهم إلى أنها لتأكيد الالتصاق جاء في (حاشية الشمني على المغنى): " وقال نجم الدين سعيد .. الواو أكدت الالتصاق، باعتبار أنها من أصلها للجمع المناسب للالصاق". (¬3) وجاء في (كليات أبي البقاء): " وقالوا إذا دخلت على الشرط بعد تقدم الجزاء يراد به تأكيد الوقوع بالكلام الأول وتحقيقه كقولهم (أكرم أخاك وإن عاداك) أي أكرمه بكل حال. وقد تزاد الواو بعد إلا لتأكيد الحكم المطلوب إثباته، إذا كان في محل الرد والانكار، كما في قوله (ما من أحد إلا وله طمع أو حسد) (¬4).". وأصل هذا القول ما قاله الزمخشري في قوله تعالى: " وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} [الحجر: 4]، قال: " ولها كتاب جملة واقعة صفة لقرية، والقياس لا يتوسط الواو بينهما، كما في قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون} [الشعراء: 208] وإنما يتوسط لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كا يقال في الحال (جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب) " (¬5). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 164 - 165 (¬2) الطراز 2/ 111 (¬3) حاشية الشمني على المغنى 2/ 11 (¬4) كليات ابي البقاء 367 (¬5) الكشاف 2/ 187

وقال نحو هذا القول في قوله تعالى: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} [الكهف: 22]، قال: " فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة، ولم دخلت عليها دون الأوليين؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك (جاءني رجل ومعه آخر) و (مررت بزيد وفي يده سيف) ومنه قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن إتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كما غيرهم" (¬1). فقد ذكر أن لها فائدتين: الأولى تأكيد الالتصاق، والثانية أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر. والجمهور ينكرون مجيء الجملة جملة، الصفة بعد هذه الواو (¬2)، ويعدون هذه الواو واو الحال، جاء في (المغنى): " الواو الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوقها بموصوفها، وإفادتها ان اتصافه بها أمر ثابت، وهذه الواو أثبتها الزمخشري ومن قلده وحملوا على ذلك مواضع الواو فيها كلها واو الحال". (¬3) وعند سيبويه هي بمعنى (إذا) أي للزمن الماضي، جاء في (كتاب سيبويه): " وأما قوله عز وجل {يغشى طائفة منكم وطائفة قد اهمتهم أنفسهم} [آل عمران: 154]، فإنما وجهوه على أنه يغشى طائفة منكم، وطائفة في هذه الحال، كأنه قال (إذ طائفة في هذه الحال)، فإنا جعله وقتا، ولم يرد أن يجعلها واو عطف، إنما هي واو الابتداء" (¬4). ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 225، وانظر 2/ 387، في قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذورن} (¬2) انظر حاشية يس على التصريح 1/ 377، الصبان 2/ 175، الأشموني 2/ 176 (¬3) المغنى 2/ 364، التصريح 1/ 377 (¬4) سيبويه 1/ 47، وانظر المقتضب 4/ 125

وقد سماها بعضهم واو الوقت، جاء في (كتاب الأصول): " وإذا ذكرت (أن) بعد واو الوقت كسرت، لأنه موضع ابتداء، نحو قولك (رأيته شابًا وأنه يومئذ يفخر (¬1)). وبعضهم ذكر واو الحال وواو الوقت، على أنها واوان مختلفان، جاء في (لسان العرب): " ومنها واوات الحال، كقولك (أتيته والشمس طالعة)، أي في حال طلوعها، قال تعالى: {إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48]. ومنها واو الوقت، كقولك (اعمل وأنت صحيح) أي في وقت صحتك، والآن وأنت فارغ، فهذه واو الوقت، وهي قريبة من واو الحال" (¬2). وهما بمعني واحد كما واضح وليستا مختلفتين. وذهب بعضهم إلى صرف كلام سيبويه وتأويله عن معناه، جاء في (الهمع): " وقدرها سيبويه والأقدمون بإذ، ولا يريدون أنها بمعنى (إذ) إذ لا يرادف الحرف الاسم، بل أنها وما بعدها قيد للفعل السابق، كما أن (إذ) كذلك" (¬3) وكلام السيوطي فيه نظر ظاهر كلام سيبويه أنها بمعنى (إذ) قال: " كأنه قال إذ طائفة في هذه الحال فإنما جعله وقتا" وكما ذكر المبرد، وابن السراج، وغيرهما وسموها واو الوقت، لأنها تفيد التوقيت، والجملة بعدها جارية مجرى عن الراجع إلى ذي الحال، إجراء لها مجرى الظرف، لانعقاد الشبه بين الحال وبينه، تقول (أتيتك وزيد قائم) و (لقيتك والجيش قادم)، قال: وقد اغتدى والطير في وكناتها" (¬4). جاء في (المغني): " ومما يشكل قولهم في نحو (جاء زيد والشمس طالعة) أن الجملة الإسمية حال، مع أنها لا تنحل إلى مفرد ولا تبين هيئة فاعل، ولا مفعول ولا هي حال مؤكدة. ¬

_ (¬1) الأصول 1/ 321 (¬2) لسان العرب 20/ 380، وانظر تاج العروس 10/ 452 (¬3) الهمع 1/ 247 (¬4) ابن يعيش 2/ 68، وانظر كليات أبي البقاء 140

فقال ابن جني: تأويلها جاء زيد طالعة الشمس عند مجيئه، يعني فهي كالحال، والنعت السببين، كمررت بالدار قائمًا سكانها، وبرجل قائم غلمانه. وقال ابن عمرون: وهي مؤولة بقولك مبكرا ونحوه. وقال صدر الأفاضل تلميذ الزمخشري إنما الجملة مفعول معه، وأثبت مجيء المفعول معه جملة، وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} [لقمان: 27]، في قراءة من رفع البحر، هو كقوله: وقد اغتدى والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل و(جئت والجيش مصطف)، ونحوهما من الأحوال التي حكمها حكم الظرف، فلذلك عريت عن ضمير ذي الحال" (¬1). والتحقيق أن واو الحال تفيد الوقت كثيرا، وهي بمعنى (إذ) الظرفية غالبا، وايضاح ذلك أنك تقول: (ما بالك تركض)؟ و (ما بالك راكضا)؟ فأنت تسأل عن سبب ركضه، وتقول: (ما بالك وأنت تركض؟ ) فأنت تسأله عن شيء حدث له، وهو يركض كأنك قلت: ما بالك حين تركض؟ وتقول: (مالك تسكت؟ ) و (مالك ساكتا؟ ) فهذه سؤالان عن سبب سكوته وتقول: مالك وأنت ساكت؟ فهذا السؤال عن شيء حدث له وهو ساكت كأنه قال: ما حصل لك حي كنت ساكتا؟ وتقول: (لماذا جئتنا هاربا؟ ) ولماذا جئتنا وأنت هارب؟ فالأولى سؤال عن سبب مجيئه هاربا، أي سؤال عن سبب الهرب، والثانية سؤال عن سبب المجيء مع أنه هارب، أي لماذا جئت وهذه حالك؟ وتقول: (كيف وصلت ليس لك مال؟ ) و (كيف وصلت وليس لك مال؟ ) فالأولى ¬

_ (¬1) المغني 2/ 465 - 466

سؤال عن سبب فقدان المال، والثانية سؤال له أنه كيف وصل وهذه حالة، أي كيف وصل مع أنه ليس له مال؟ كما تقولك لماذا جئت وأنت مريض؟ أي وهذه حالك. فحاله المعلومة في الثانية عدم المال. جاء في (كتاب سيبويه): " وبعض العرب يقول: (كلمته فوه إلى في) كأنه يقول (كلمته وفوه إلى في) أي كلمته وهذه حاله. فالرفع على قوله: كلمته وهذه حاله، والنصب على قوله، كلمته في هذه الحال، فانتصب لأنه حال وقع فيه الفعل. وأما (يدا بيد) فليس فيه إلا النصب، لأنه يحسن أن تقول (بايعته ويد بيد) ولم يرد أن يخبر أنه بايعه ويده في يده ولكنه أراد أن يقول: بايعته بالتعجيل، ولا يبالي أقريبا كان أم بعيدا. وإذا قال: (كلمته فوه إلى في) فإنما يريد أن يخبر عن قربه، وأنه شافهه، لم يكن بينهما أحدٌ" (¬1). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {أتمدونني بمال فما آتاني الله خيرٌ مما أتاكم} [النمل: 36]، " فإن قلت: ما الفرق بين قولك: (أتدني بامل، وأنا أغني منك؟ ) وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته فقد جعلت مخاطبي عالما بزيادتي عليه في الغني واليسارن وهو مع ذلك يمدني بالمال، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفيت عليه حالي، فأنا أخبره بالساعة بما لا أحتاج إلى إمداده، كأني أقول له: أنكر عليك ما فعلت فإنني غني منه" (¬2). فجعل الواو للحال المعلومة. قال تعالى: {فما لكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88]، ولو قال: (فما لكم في ¬

_ (¬1) سيبويه: 1/ 195 - 196، وانظر المقتضب 3/ 226 (¬2) الكشاف 2/ 452

المنافقين وأنتم فئتان) لتغير المعنى، فالأولى سؤال عن سبب انقسامهم فئتين، والثانية سؤال عما حصل لهم في أمر المنافقين عندما كانوا فئتين. وتقول (بعثه قائدا عليهم) أي جعله قائدًا عليهم، كما قال تعالى: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} [البقرة: 247]، ولو قال: (بعثه وهو ملك) لكان المعنى أنه بعثه عندما كان ملكا، أي كان ملكا قبل أن يبعث عليهم، ونحوه إذا قلت (بعثه وهو قادئد) فمعناه أنه أرسله حين كان قائدا، فالقيادة حالة المستقرة، ولو قال (بعثه قائدا) لكان المعنى أنه جعله قائدا عليهم، ولم تكن تلك حاله المستقرة قبل بعثه. جاء في (الأصول) أن الرجل: إذا قال: بعتك هذا الطعام مكيلا، وهذا الثوب مقصورا فعليه أن يسلمه إليه مكيلا ومقصورا. وإذا قال: (بعتك وهو مكيل) فإنما باعه شيئا موصوفا بالكيل ولم يتضمنه البيع" (¬1). فجعل الكيل قبل البيع. قال تعالى: {فقعوا له ساجدين} [ص: 72]، ولو قال: (فقعوا له وأنتم ساجدون) لاحتمل أن يكون أمرًا بوقوعهم، حين يكونون ساجدين، فالسجود حالهم المستقرة قبل الوقوع وهذا غير جائز. ومثله قوله تعالى: {يخرون للأذقان سجدا} [الإسراء: 107]، ولو قال (وهم سجد) لاحتمل المعنى أنهم يخرون للأذقان، حين يكونون سجدا، أي وهذه حالهم. وهذا غير مراد إذ كيف يخرون للأذقان حين يكونون ساجدين؟ وقال تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا} [الفرقان: 73]، ولم يقل (لم يخروا عليها وهم صم وعميان) لأن المعنى يكون عند ذاك، أن حالهم المستقرة الصم والعمى. ¬

_ (¬1) الأصول 2/ 49 - 50

وقال تعالى على لسان سليمان (ع) " {ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} [النمل: 37]، وقال: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} [آل عمران: 123]. فالأولى (أذلة) بدون واو لأن الذلة سيكون مقارنا للخروج، ولم يكونوا قبل ذلك أذلة، أما الثانية فمعناها أنه نصرهم وهذه حالهم المستقرة، أي كانوا أذلة قبل النصر، أي نصرك إذ كنت أذلة أي حين كنتم أذلة. فالواو تكون لما قد استقر، ولذا لا تكون الجملة المسبوقة بالواو مقدرة، أي مستقبلة قال تعالى: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها} [التوبة: 68]، فـ (خالدين) حال مستقبلة، فالخولد يكون بعد الوعد، لا مقارنا له، ولو قال (وعدهم وهم خالدون) لكان المعنى أن الوعد حصل حين خلودهم. وقال: {وبشرناه بإسحاق نبينا من الصالحين} [الصافات: 112]، فـ (نبيا) حال مقدرة لأنها بعد البشرى، ولو قال (وهو نبي) لكان المعنى أنه بشره بإسحاق، حين كان اسحاق نبيا وهو مستحيل فالمسبوقة بالواو لا تكون مقدرة. ثن أن واو الحال ليست بمعنى (إذ) دوما، بل هو الغالب كما ذكرنا، فقد تكون الجملة قبلها مستقبلة، فتمتنع أن تكون بمعنى (إذ)، لأن (إذ) للمضي في الغالب، وذلك نحو (سأجيئك والليل ساج) أي وقت الليل ساج، فهي بمعنى (وقت)، وهذا الوقت قد يكون ماضيا وقد يكون غيره، بحسب الجملة. وأما قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} [الحجر: 4]، فليست فيه الجملة بعد الواو صفة، بل الواو واو الحال، بخلاف (لها منذرون) في قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذورن} [الشعراء: 208]، فإنها تحتمل الوصفية والحالية، فقد يؤتى بالواو للفصل بين الحال والنعت، ولكن قصد، فأنت تقول (ما مررت برجل إلا له مال) و (ما مررت برجل إلا وله مال) فمعنى الأولى أنك إذا مررت برجل ذي مال، أي غني وإنك لم تمر إلا برجل غني.

أما الثانية فمعناها أنك لم تمر برجل إلا حين يكون له مال، أي لم تمر به في وقت لم يكن له مال. فالأولى نعت، وهي صفة عام، أما الثانية فهي حال منتقلة، كما مر في قولنا (ما جاءني طالب مقصر) و (ما جاءني طالب مقصرًا). ونحوه أن تقول (مررت برجلٍ أخوه منطلق) و (مررت برجل وأخوه منطلق) فمعنى الأولى أنك مررت برجل منطلق الأخ، وانطلاقه قد يكون قبل المرور، وأما الثانية فمعنها أنك مررت به في هذا الوقت. وتقول (مررت برجل فرسه سابق) و (مررت برجل وفرسه سابق) فالأولى قد يكون فيها السبق قبل المرور، والثانية مررت به في هذا الوقت. وتقول: (مررت برجل أخوه مقريء) و (مررت برجل وأخوه مقريء) فإن معنى الأولى أنك وصفت الرجل بأن أخاه مقريء، ولا يشترط أنك مررت به في وقت الاقراء، فقد يكون الأخ غير مقريء في وقت المرور، وأما الثانية فإنها تفيد أنك مررت به في حين أن أخاه يقوم بالاقراء فعلا، فالأولى وصف عام والثانية حال. وتقول ما مررت برجل إلا أخوه مقرئ، أي ما مررت برجل إلا أنه موصوف بأن أخاه مقريء، وتقول: ما مررت برجل إلا وأخوه مقريء، أي ما مررت به إلا في حال الاقراء. فمعنى: قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون} إننا لم نهلك إلا قرية منذرة ولم يأت بالواو، لأن المعنى عند ذاك يكون أنه لم يهلك قرية، إلا وهذه حالها، أي لم يهلك قرية إلا وقت إندارهم، في حين أنه عند الاهلاك يخرج الرسل والمؤمنون بهم من القري ويتركونها فلا يكونون فيها عند اهلاكها، كما في قوم لوط وغيرهم، فلو قال (ولها منذرون) لكان المعنى أنهم فيها وقت الاهلاك كما أوضحنا، بخلاف آية الحجر فإن الأجل حال وقت الاهلاك حاق عليهم مصاحب لاهلاكهم. يتبين من هذا أن واو الحال تدخل لأغراض منها:

1 - أنها تكون بمعنى (إذ) أي للوقت الماضي، كقوله تعالى: {إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48]، ونحو (ما بالك وأنت راكض) أي حين كنت راكضا. 2 - أنها تكون للوقت غير الماضي أيضا نحو (سأزورك والقمر طالع). 3 - قد يؤتي بها للدلالة على إن الحال بعدها أمر ظاهر ومعلوم نحو (كيف تعطيني وأنا منك) قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} [البقرة: 214]، أي حسبتم أن تدخلوا الجنة: ولم تكن هذه حالكم الظاهرة؟ 4 - قد يؤتي بها للدلالة على أن ما بعدها مستقر قبل الحدث المصاحب لها نحو: (بعثه وهو ملك) ومنه قوله تعالى: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} [البقرة: 264] فالاخراج استقر وحدث قبل القتال. 5 - قد يؤتى بها للاهتمام نحو (عبر النهر ولم يحرك يده) و (قفز خمسة أمتار وعلى ظهره حمل وبيده ثقل و (دخل على الأمير وبيده سيفه). 6 - قد يؤتى بها للفصل بين الحال والنعت نحو (رأيتك رجلا عنده مال) و (رأيت رجلا وعنده مال) و) رأيت رجلا فرسه سابق (، و (رأيت رجلا وفرسه سابق). 7 - قد يؤتى بها لإزالة التنصيص على الاستئناف، كقولك (أقبل أخوك هو فرح) و (أقبل أخوك وهو فرح) فالأولى استئناف أخبار جديد نصا، والثانية أزالت فيها الواو التنصيص على الاستئناف، فكان ما بعدها يحتمل الحالية وهو الظاهر، ويحتمل الاستئناف أيضا. قال تعالى: {كما أخرج ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} [الأنفال: 5]، ولو حذفت الواو لكان اسئتنافا نصا، فذكر الواو أزال التنصيص على الاستئناف، وأصبحت الجملة تحتمل الحالية وهو الظاهر وتحتمل الاستئناف أيضا. نقول: (هو يحرف القول وأنه يعلم بذلك) فالواو تحتمل الحالية والاستئنافية، وحذفها ينص على الاستئناف

الحال المؤكدة

وتقول (لم يدخلها وهو يطمع) و (لم ياتني وهو طامع) فهذه تحتمل الحال، أي لم يدخلها طامعا، وإنما دخلها غير طامع، وتحتمل الاستئناف، فيكون المعنى أنه لم يدخلها ولكنه يطمع في الدخول، وحذفها ينص على الاستئناف. 8 - أن يؤتى بها للتنصيص على إرادة الحال لا التعليل، وذلك كقولك (جئته أنه أمير) و (جئته وأنه أمير) فالأول تعليل لملجيء، والثانية معناها جئته وهذه حاله، أي وقت هو أمير، قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]، ولو قال (ما كان الله ليعذبهم أنك فيهم) لكان المقصود به التعليل، أي بيان السبب، إلى غير ذلك من الأغراض. الحال المؤكدة تنقسم الحال إلى مؤسسة، وهي المبينة للهيئة، نحو أقبل أخوك ضاحكا، ومؤكدة وهي التي يستفاد معناها مما قبلها نحو (ولي مدبرا). وتقسم المؤكدة على ثلاثة أقسام: المؤكدة لعاملها وهي التي تكون بمعنى عاملها، سواء خالفته في اللفظ، أو وافقته، نحو قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [البقرة: 60]، لأن العثي هو الفساد، وكقوله تعالى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} [النحل: 92]، فنقض الغزل جعله أنكاثا، وكقوله تعالى: {ويوم يبعث حيا} [مريم: 15]، وقوله: {وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا} [النساء: 79] فمعنى أرسلناك أنك رسول. والمؤكدة لصاحبها كقوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا أدخلوا في السلم كافة} [البقرة: 208]، فكافة حال مؤكدة للضمير في (ادخلوا) وقوله: {ولو شاء ربك لأن من في الأرض كلهم جميعا} [يونس: 99]، فجميعا حال مؤكدة لـ (من). وقوله: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة} [النحل: 25]، أي جميعها. والمؤكدة لمضمون الجملة وهي التي يستفاد معناها من مضمون الجملة قبلها نحو (هو

المتبني شاعرا) فالمتنبي مشهور بالشعر، معروف به، فقولك (شاعرًا) يؤكد مضمون الجملة قبله. ونحو (هم حاتم جوادا) فإن حاتما مشهور بالجود، و (محمد أبوك عطوفا) لأن من لوزام الأبوة العطف. وليست الحال المؤكدة نحو (أنا أخوك منطلقا) لأنه ليس من لوزام الأخوة الانطلاق وللحال المؤكدة لمضمون الجملة أغراض وشروط، فمن أغراضها أن تكون لبيان اليقين نحو هو خالد معلومًا، وهو أخوك معروفا، وهو الحق صادقا. وللفخر نحو (أنا أبوك كريما) و (أنا خالد مقداما) وللتعظيم نحو (هو ربنا منعما) و (هو استاذنا عالما). وللتحقير نحو (هو سالم ذليلا) وهو الجاني مقهورا. وللتصاغر: نحو أنا عبدك فقير إليك، وأنا عبد الله آكلا كما يأكل العبيد. وللوعيد نحو: أنا سعيد قائلا، وأنا عباس متمكنا منك (¬1). وللترحم نحو (هو المسكين مرحوما) وهو خالد بائسا. وللذم نحو (هو العاصي مطرودا من رحمة ربه) و (هو زيد سارقا) وللأطماع نحو (هو ربنا غافرا لمن يتوب). إلى غير ذلك من الأغراض. وللحال المؤكدة لمضمون الجملة شروط يذكرها النحاة هي: أن تكون الجملة إسمية وجزءاها اسمان معرفتان جامدان (¬2) قالو وكونها معرفة الجزءين لأنه لا يؤكد إلا المعرفة، وكون جزءيها اسمين جامدين لأنه ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 256 - 257، المقتضب 4/ 311، التسهيل 112، ابن يعيش 2/ 64 - 65، الهمع 1/ 245، الرضي 1/ 233، التصريح 1/ 387 (¬2) التسهيل 112 الهمع 1/ 245، التصريح 1/ 387، الأشموني 2/ 185، 186

إذا كان أحد الجزءين مشتقا، أو في حكمة، كان عاملا في الحال (¬1)، فلا تكون مؤكدة لمضمون الجملة. وإيضاح ذلك أنك إذا قلت (هو حاتم جوادا) لم يكن في الجملة ما يصلح العمل في الحال وإنما عامله محذوف وجوبا تقديره (أحقه) عند الكثيرين، فإن كان أحد الجزئين فعلا أو اسما مشتقا كان هو العامل في الحال فتكون الحال مبنية أو مؤكدة لعاملها، وذلك نحو (هو القادم فرحا) و (هو القادر مستطيعا) فـ (القادم) مشتق، وهو العامل في (فرح) فهي حال مؤسسة، و (القادر) اسم مشتق، وهو العامل في (مستطيع) وهي حال مؤكدة لعاملها لأنها بمعناه. وفي هذه الشورط نظر فيما أرى. فإنه لا داعي لاشتراط أن يكون الاسمان جامدين، فالحال المؤكدة لمضمون الجملة قد تكون مع الأسماء الجامدة والمشتقة، وذلك بحسب دلالتها، وذلك نحو أن تقول: (هو الجاني مقهورا) فهذه الحال تحتمل معنيين: إما ان يكون المعنى، أن الجاني مقهور مغلوب، أمره منهزم النفس، وهذا من لوازم الجناية، فتكون الحال مؤكدة لمضمون الجملة كما تقول (هو أخوك عطوفا)، وإما أن يكون المعنى، هو الذي جنى مقهورا أي هو الذي جنى ف حالة قهره فتكون مبينة. فإن أردت المعنى الأولى كانت لمضمون الجملة و (الجاني) اسم مشتق. ونحوه (هو المنتصر فرحا) فالمنتصر مشتق، و (فرحا) حال مؤكدة، وذلك لأن من لوزام الانتصار الفرح، فإن جعلت (المنتصر) عاملا في الحال كان المعنى هو الذي انتصر في حال فرحه، فإن أردت هذا المعنى كانت مبينة، وإن أردت أن شأن المنتصر أن يكون فرحا كانت حالا مؤكدة لمضمون الجملة. ¬

_ (¬1) الأشموني 2/ 185 - 186

ومثله (هو المجرم مأخوذا بجرمه) والمجرم مشتق وهذه حال مؤكدة لمضمون الجملة وليست مبينة، لأنها لو كانت مبينة لكان معناه أنه إجرام حال كونه مأخوذا بجرمه، وهذا معنى بعيد. ومثله (هو المسكين مرحوما) والمسكين مشتق (ومرحوما) حال مؤكدة، وذلك أن من لوزام المسكنة رحمة الناس، وإذا جعلت (المسكين) عاملا كان المعنى: هو الذي أصبح مسكينا في حال رحمة الناس له، وهذا لا يصح. ونحوه (هو البائس مكروبا) و (الكاذب مبغوضا) و (هو الظالم مكروها) و (هو العادل محبوبا) و (هو الثمل خائر القوى) وهذه كلها أسماء مشتقة، والحال فيها مؤكدة لمضمون الجملة كما هو واضح. كما أنه لا داعي لاشتراط التعريف، وإن قولهم (لا يؤكد إلا المعرفة) باطل، لأن هذا رأي البصريين في التوكيد المعنوي الذي هو تابع، نحو (أقبل محمد نفسه)، وهذا ليس منه فنحن نقول (ما ولي رجل منا مدبرا) فنكون قد اكدنا العامل وصاحب الحال نكرة، ولم يمنع التنكير من التوكيد، ونقول (قضيت ستة أيام كاملة) فـ (كاملة) تحتمل الحالية، وهي عند ذاك مؤكدة لصاحبها وهو نكرة. كما أنه يصح توكيد النكرة توكيدا لفظيا نحو (حضر رجل رجل) ولم يمنعها التنكير من التوكيد. والحق فيما نرى أنه يصح أن تقع الحال المؤكدة لمضمون الجملة بعد نكرة، وذلك نحو قولك (هو رجل صدق معلوما) و (خالد رجل سوء معروفا) و (محمد رجل عدل معروفا) فكل من (معلوما) و (معروفا) حال مؤكدة لمضمون الجملة، ورجل صدق ورجل سوء نكرتان لأنهما مضافتان إلى نكرة، و (رجل عدل) نكرة موصوفة، وهذه كلها تعبيرات فصيحة.

جاء في (كتاب سيبويه): " ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه أمر قول العرب (هو رجل صدق معلوما ذاك) و (هو رجل صدق معروفا ذاك) و (هو رجل صدق بينا ذاك) كأنه قال: هذا رجل صدق معروفا صلاحه" (¬1). فالأحوال في هذه الجمل مؤكدة لمضمون الجملة، كما هو واضح، مع أن أحد الجزءين نكرة. وليس من شأننا في هذا البحث النظر في العوامل، إلا بقدر ما يتعلق بالمعنى. وعلى هذا ففي عامل هذه الحال الذي يقدره النحاة نظر من حيث المعنى، وذلك أن كثيرا من النحاة ذهبوا إلى أن عاملها محذوف وجوبا تقديره (أحقه)، فالعامل في قولك (محمد أخوك عطوفا) محذوفة تقديره (أحقه عطوفا) ومعنى أحقه، أثبته، وأعرفه، وهذا لا يصح لأن قولك (أعرفه عطوفا) معناه أعرفه في حال عطفه، وهذا المعنى غير مراد، لأنه لا معنى لقولك: محمد أخوك أعرفه في حالة عطفه، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " واختلف في العامل في المؤكدة التي بعد الإسمية فقال سيبويه: العامل مقدر الجملة تقديره زيد أبوك أحقه عطوفا، يقال حققت الأمر أي تحققته وعرفته، أي أتحققه وأثبته عطوفا. وفيه نظر إذ لا معنى لقولك تيقنت الأب وعرفته في حال كونه عطوفا، وإن أراد أن المعنى اعلمه عطوفا فهو مفعول ثان لاحال. وقال الزجاجي: العامل هو الخبر لكوه مؤولا بمسمى نحو: أنا حاتم سخيا، وليس بشيء لأنه لم يكن سخيا وقت تسميته بحاتم، ولا يقصد القائل بهذا اللفظ هذا المعنى، وأيضا لا يطرد ذلك في نحو: {هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} [هود: 64]، وغير ذلك مما ليس الخبر فيه علمًا" (¬2). ولا داعي إلى تقدير عامل فيما نرى. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 263 (¬2) الرضي 1/ 233

التمييز

التمييز حقيقته: التمييز عند النحاة هو اسم نكرة متضمن معنى (من) لبيان ما قبله من إبهام ذات أو نسبة (¬1). أما كون التمييز نكرة فهي مسألة خلافية، فالجمهور على أنه كذلك، وذهب قسم من النحاة إلى جواز تعريفه، مستشهدين بقول الشاعر: صددت وطبت النفس يا قيس عن عمرو وبنحو (محمد حسن وجهه) بنصب الوجه، والجمهور على زيادة (أل) في (النفس) وأن الوجه ليس تمييزا وإنما هو شبيه بالمفعول به (¬2). والظاهر أن التنكير هو الغالب، وهو الأصل وقد يرد معرفة في تعبيرات قليلة. وأما تضمنه معنى (من) فليس المقصود أنه يقبل دخول (من) عليه، فمن التمييز ما يقبل دخول (من)، كما في نحو قولك (لله دره فارسا)، و (لله دره من فارس)، و (هذا ثوب حريرًا) و (هذا ثوب من حرير) ومنه ما لا تدخل عليه (من) نحو (أقبل خمسة عشر من رجل) ونحو (حسن محمد خلقا) فلا تقول فه (حسن محمد من خلق) وإنما التضمن أمر يعود إلى المعنى فمعنى (أقبل خمسة عشر رجلا) أقبل خمسة عشر من الرجال، ومعنى (حسن محمد من خلقا) حسن محمد من جهة خلقه. وهذا فرق ما بينه وبين الحال، فإن التمييز على تقدير (من) البيانية وهو يزل الابهام عن الذات أو النسبة، أما الحال فهي لبيان الهيئة، تقول (عندي رطل عسلا) فقد أزالت ¬

_ (¬1) حاشية يس على التصريح 1/ 394 (¬2) انظر التصريح 1/ 394

كلمة (عسل) الإبهام عن المقدار قبله، وهو على معنى (عندي رطل من عسل) وتقول (أقبل سالم مكتئبا) فقد بينت كلمة (كتئب) هيئة سالم. وتقول: (هو أحسنهم كاتبا) وتعني بهذا التعبير أحد المعنيين: فهو إما أن يكون هو أحسنهم إذا كتب، أي أحسنهم في حال الكتابة فتكون حالا، وإما أن يكون المعنى أن كاتبه أحسن من كتابهم فيكون تمييزا، فإذا أردت الهيئة كانت حالا، وإن أردت المعنى الآخر كانت تمييزا. وتقول: (ما أحسنه متحدثا) وقد تقصد بهذا أن تتعجب من حسنه، إذا تحدث، أي في حال التحدث فتكون حالا، وإما أن تقصد هو من أحسن المتحدثين كأنك قلت: ما أحسنته من متحدث، فتكون تمييزا بمعنى هو متحدث حسن. وتقول: (كرم محمد أخا) فإن كنت تعني أن أخا محمد هو الذي كرم، كانت (أخا) تمييزا، وإن كانت تعني أن محمدًا كرم عندما صار أخا، كانت (أخا) حالا. جاء في (المغنى): " ما يحتمل الحالية والتمييز: من ذلك (كرم زيد ضيفا) إن قدرت أن الضيف غير زيد، فهو تمييز محول عن الفاعل، يمتنع أن تدخل عليه من، وإن قدر نفسه احتمل الحال والتمييز، وعند قصد التمييز فالأحسن إدخال من" (¬1). وجاء في الكامل في قول الشاعر: لا تطلب خؤولة في تغلب ... فالزنجُ أكرم منهم أخوالا " أخوالا منصوب على الحال، ومن زعم أنه تمييز فقد اخطأ" (¬2). وكلام المبرد صحيح، وذلك لأنه لم يقصد أن أخوال الزنج أكرم منهم، وإنما قصد أن الزنج إذا كانوا أخوالا أكرم من تغلب، إذا كانوا أخوالا. أي أن الزنج في هذه الحال أكرم من تغلب في مثلها، ولذا قال (لا تطلبن خؤولة في تغلب). ¬

_ (¬1) مغني اللبيب 2/ 563، 2/ 463، وانظر الهمع 1/ 252 (¬2) الكامل 2/ 413

وجاء في (شرح الرضي) إن نحو لله درك، أو در زيد فارسًا، وكفي زيد شجاعا، أن الأكثرين قالوا فيها " هي تمييز وقال بعضهم: هي حال، أي ما أعجبه في حال فروسيته. ورجح المصنف الأول، قال: لأن المعنى مدحه مطلقا بالفروسية، فإذا جعل حالا اختص المدح وتقيد بحال فروسيته، وأنا لا أرى بينهما فرقا، لأن معنى التمييز عنده ما أحسن فروسيته، فلا يمدحه في غير حال الفروسية، إلا بها وهذا المعنى هو المستفاد من (ما أحسنه في حال فروسيته) وتصريحهم بمن في لله درك من فارس دليل على أنه تمييز" (¬1). ونحن لا نوافق الرضي فيما ذهب إليه فإن ثمة فرقا في المعنى بينهما إذا جعلت حالا او جعلت تمييزا. فإنك إذا قلت (ما أحسن زيدا فارسا) فقد تقصد بذاك أنك تمدحه في حال فروسيته كما تقول: (ما أكرم زيدا فارسا، وما أبخله راجلا) أي هو كريم عندما يركب الفرس بخيل عندما يترجل، أي هو كريم في هذه الحال، بخيل في حال أخري، فهذا حال لا غير. وهذا نظير قول القائل لمعبد بن طوق العنبري، وكان قد تكلم وهو قائم فأحسن، فلما جلس تتعتع: (ما أظرفك قائما وأموقك قاعدا (¬2)). وهو من الوضوح بمكان. وإن قصدت (ما أحسن زيدا من فارس) أي هو فارس حسن، لا إنه حسن في حال الفروسية، كان تمييزا بمعنى هو من أحسن الفرسان، فهناك فرق بين المعنيين. ونحوه ما ذكره ابن هشام في المنصوب بعد (حبذا) قال: " واختلف في المنصوب بعد (حبذا) فقال الأخفش والفارسي والربعي: حال مطلقا، وأبو عمرو بن العلاء: تمييز مطلقا، وقيل الجامد تمييز، والمشتق حال. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 1/ 241 (¬2) انظر البيان والتبين 2/ 413

نوعا التمييز

وقيل: الجامد تمييز والمشتق أن أريد تقييد المدح به كقوله: يا حبذا المال مبذولا بلا سرف فحال وإلا فتمييز نحو حبذا راكبا زيد" (¬1). والحق أنه لا يحسن أن ينص على أنه حال ليس غير، أو تمييز ليس غير، وإنما هو بحسب المعنى، فقد يقصد به التمييز، وقد يقصد به الحال، والمعنى مختلف. فإذا قلت مثلا (حبذا هند صامتة ولا حبذا هند متكلمة) فإنك تريد بذاك مدح هند في حال الصمت، ولذا تكون (صامتة) حالا، وكذا (متكلمة) وكذا (حبذا أخوك راكبا) إذا أردت مدحه في حال الركوب، فإن قصدت حبذا أخوك من راكب أي هو راكب حسن كان تمييزا. نوعا التمييز: مر بنا في حد التمييز أن التمييز يذكر لبيان ما قبله من إبهام ذات، أو نسبة، وهذا يدل على أن التمييز قسمان: مبين إبهام ذات، ومبين إبهام نسبة. 1 - المبين إبهام ذات: هو الواقع بعد المقادير وشبهها، وبعد الإعداد، وبعدما هو فرع له. والمقادير هي الوزن، والمساحة، والكيل، تقول: (اشتريت أقة عسلا) و (زرعت فدانا شعيرا) و (اشتريت صاعا حنطة ولترا نفطا). والمقصود بالمقادير، ماله مقدار معلوم متفق عليه، فالأقة مثلا لها وزن معين، ومثلها في وقتنا (الكيلو) والفدان له مساحة معينة محدودة، ومثله الميل والمتر، والصاع له سعة معينة، ومثله اللتر في عصرنا. والمقصود بشبه المقدار، ما ليس له مقدار معين، معلوم فليس له وزن محدود، أو مساحة محدودة، أو كيل محدود، وذلك نحو القدح، والحُب، والدن والنحي، وهو ¬

_ (¬1) المغني 2/ 463

2 - المبين إبهام نسبة

الظرف. فالقدح يكون صغيرا وكبيرا. وكذلك الحب والدنـ، تقول (عندي حب عسلا) فالحب شبه مقدار لأنه ليس له سعة متفق عليها، فقد يكون صغيرا وكبيرا نحو القدح والدن. وأما العدد فليس مقدارا عند كثير من النحاة، وذلك لأن المقادير تقع تمييزا له تقول: اشتريت اثنى عشر مثقالا ذهبا وأحد عشر لترا نفطا، فالوزن وقع تمييزا للعدد في الأولى، والكيل وقع تميبزا له في الثانية. ولأنه يقال عندي مقدار رطل حنطة، ولا يقال عندي مقدار عشرين رجلا (¬1). وسواء كان هذا أم ذاك، فتمييز العدد من تمييز الذات. والقسم الآخر أن يقع بعد ما هو فرع له، وذلك نحو (اشتريت خاتما ذهبا) و (عندي بابٌ ساجًا) و (قميص كتانا) أي خاتم من ذهب، وباب من ساج، وقميص من كتاب. فالخاتم فرع من ذهب، والذهب أصل له، والباب فرع من الساج، والساج أصل له، وكذلك ما بعده. 2 - المبين إبهام نسبة: وهو ما يبين إجمال نسبة شيء إلى شيء، وذلك نحو (حسن محمد خلقا) و (غزر أخوك علما) و (الفضة أنقي بياضا) و (الذهب أغلى ثمنا). فخلقا بين نسبة الحسن إلى محمد، فليس محمد مبهما، وإنما حسن محمد هو المبهم من أية جهة فهو فميز بالخلق، وكذلك غزاره أخيك ونقاء الفضة فهذا نسبة، وبعضهم يسميه مبينا لإبهام جملة، والصواب ما ذكرناه (¬2)، لأنه قد تكون النسبة غير جملة، وذلك كأن تقول (عجبت من غزارة أخيك علما) و (عجبت من حسن محمد خلقا) فغزارة أخيك ليست جملة، وكذلك حسن محمد. فتمييز الذات أو تمييز المفرد يزيل إبهاما وقع في ذات، أو مفرد، فقولك (عندي مثقال ذهبا) أزالت فيه كلمة (ذهب) الإبهام عن الوزن وحده، وقولك (في الصف ¬

_ (¬1) التصريح 1/ 396 (¬2) الصبان 2/ 194 - 195، وانظر الأشموني 2/ 194

الغرض من التحويل

عشرون طالبة) ميزت فيه كلمة (طالبة) العدد وحده، أي زالت الإبهام الواقع في العدد، فهذا يسمى تمييز ذات أو تمييز مفرد. وأما نحو (غزر محمد علما) فلا يزيل إبهامًا وقع في كلمة، فهو لا يزيل الإبهام عن (محمد) وإنما يزيل الإبهام عن غزارة محمد، فهذا يسمى تمييز نسبة. وأكثر ما يكون تمييز النسبة محول عن فاعل، أو عن مفعول، وقيل عن غرهما أيضا وذلك نحو (غرز أخوك علما) والأصل (غرز علم أخيك) فحول الفاعل إلى تمييز، ونحو (أشعلت البيت نارا) والأصل (أشعلت نار البيت) فحول المفعول إلى تمييز، وقد يكون غير محول (¬1) نحو (ما أحس محمد فارسًا) و (ما أكرمه رجلا). الغرض من التحويل: وقد تقول: ما الغرض من تحول الفاعل أو المفعول إلى تمييز؟ وهل هناك اختلاف في المعنى بين قولنا (حسن محمد خلقا) و (حسن خلق محمد) مثلا؟ والجواب أنه لا يعدل من تعبير إلى تعبير، إلا يصحبه عدول من معنى إلى معنى كما ذكرنا في أكثر من مناسبة. وأنه يعدل من الفاعل أو المفعول إلى التمييز لقصد الاتساع والشمول والمبالغة، وذلك نحو قولك (فاحت الحديقة عطرا) ونحو قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيبا} [مريم: 4]، والأصل فاح عطر الحديقة، غير أن بينهما فرقا في المعنى، فقولك (فاح عطر الحديقة) معناه أن عطرًا في الحديقة فاح، وأما قولك (فاحت الحديقة عطرا) فمعناه أن الحديقة امتلأت عطرا ونحوه قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيبا} قالوا أصله (اشتعل شيب الرأس)، إلا أن هناك شيبا في الرأس متفرقا اشتغل، وأما قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيبا} فمعناه أن الرأس قد امتلأت بالشيب، ومثله (اضطرمت نار البيت) و (اضطرم البيت نارا) جاء في (دلائل الإعجاز): " ووازن هذا أنك تقول (اشتعل ¬

_ (¬1) انظر قطر الندى 377، التصريح 1/ 397 - 398

البيت نارا) فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول، وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه، وتقول: (اشتعلت النار في البيت) فلا يفيد ذلك بل يقتضي أكثر من وقوعها فيه وإصابتها جانبا منها، فأما الشمول وأن تكون قد استولت على البيت وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة. ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل: {وفجرنا الأرض عيونا} [النجم: 12]، التفجير للعيون في المعنى أوقع على الأرض في اللفظ، كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس. وقد حصل بذلك من معنى الشمول ههنا مثل الذي حصل هناك، وأنه قد أفاد أن الأرض قد كانت صارت عيونا كلها، وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها، ولو أجرى اللفظ على ظاهرة فقيل: وفجرنا عيون الأرض أو العيون في الأرض لم يفد ذلك ولم يدل عليه ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض، وتبجس من أماكن منها" (¬1). ومثله نحو (طاب محمد نفسا) و (حسن أخوك خلقا، وهو قريب من معنى الأولى في إفادة الشمول، فهناك فرق بين قولك (طابت نفس محمد) و (طابت محمد نفسا) ففي الأول اسندت الطيب إلى النفس مباشرة، وفي الثانية أسندته إلى محمد كله ثم خصصت النفس بالذكر فقد مدحته مرتين، مدحته كله بقولك (طاب محمد) ويدخل في ذلك نفسه، ثم خصصت النفس بالذكر فكنت تمدحه مرتين جاء في (شرح ابن يعيش) في نحو طاب زيد نفسا وتصبب عرقا، وتفقأ شحما أنه " لا يوصف زيد بالطيب، والتصبب والتفقؤ فعلم بذلك أن المراد المجاز، وذلك أنه في الحقيقة لشيء من سببه، وإنما أسند إليه مبالغة وتأكيدًا، ومعنى المبالغة أن الفعل كان مسندًا إلى جزء منه فصار مسندًا إلى الجميع، وهو أبلغ في المعنى، والتأكيد أنه لما كان يفهم منه السناد إلى ما هو أن تطيب نفسه بأن تنبسط ولا تنقبض، وأن يطيب لسانه بأن يعذب كلامه، وأن يطيب قلبه بأن ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 80، وانظر الكشاف 3/ 183، قوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيونا}.

أسلوب التمييز ومعناه

يصفو انجلاؤه، تبين المراد من ذلك بالنكرة التي هي فاعل في المعنى، فقيل طاب زيد، نفسا. وكذا الباقي" (¬1). وجاء في (الأشموني) في التمييز المحول عن فاعل، أنه " قد حول الإسناد عنه إلى غيره لقصد المباللغة" (¬2). وجاء في (حاشية الصبان) تعليقا على كلام الأشموني: " قوله لقصد المبالغة أي في إسناد الطيب لزيد، فإنه يفيد قبل التخصيص بالتمييز، أنه طاب من جميع الوجوه، فالمبالغة من حيث أول الكلام" (¬3). ثم إن هذا تفصيل بعد الإجمال، ومعنى ذلك أنك أسندت الطيب إلى زيد جملة ثم فصلت فيما بعد جهة الطيب، والنفس تتشوق إلى الإيضاح بعد الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال. جاء في (حاشية الصبان): " أنه إنما عدل عن هذا الأصل ليكون فيه إجمال، ثم تفصيل فيكون أوقع في النفس لأن الآتي بعد الطلب أعز من المنساق بلا طلب" (¬4). أسلوب التمييز ومعناه ذكرناه قبل قليل إسلوب التمييز المحول والغرض من تحويله، والآن نذكر أمورا أخرى بإسلوب التمييز إن التمييز في الكلام يأتي على صور مختلفة، فقد يأتي منصوبا نحو (عندي نسيجٌ حريرا) وقد يأتي مع (من) كقولك (عندي نسيج من حرير)، وقد نضيف المميز نحو (هذا ننسيج حرير) وقد نتبع التمييز المميز، كقولك (هذا نسيجٌ حريرٌ) فهل هناك فرق بين هذه التعبيرات؟ ¬

_ (¬1) ابن يعيش 2/ 75 (¬2) الأشموني 2/ 200 - 201 (¬3) حاشية الصبان 2/ 201 (¬4) حاشية الصبان 2/ 195، وانظر حاشية الخضري 1/ 223

معنى النصب والجر

تقول: عندي خاتمٌ ذهبا وعندي خاتمُ ذهبٍ. وعندي خاتٌم من ذهبٌ وعندي خاتمٌ ذهبٌ وتقول: اشتريت قدحا ماء. واشتريت قدح ماءٍ، وتقول: ما أحسنه خطيبًا. وما أحسنه من خطيب، ولله دره كاتبا والله دره من كاتب. فما الفرق بين هذه التعبيرات في المعنى؟ لاشك أن لكل تعبير معنى يختلف عن التعبير الآخر فما معنى كل تعبير وما الفرق بينه وبين التعبيرات الأخرى؟ معنى النصب والجر: تقول (عندي حُبٌ عسلاً) و (حُبُّ عسلٍ) و (قدحٌ ماءً) و (قدحُ ماءٍ) فما الفرق بينهما؟

والجواب أنك إذا قلته بالنصب، تعين أن عندك التمييز، فقولك (عندي حبٌّ عسلاً) معناه أن عندك عسلا مقدار حب، وقولك (عندي قدحٌ ماءً) بالنصب معناه أن عندك ماء مقدار قدح. أما الجر فيحتمل معنيين: الأول: أن عندك التمييز كالأول، أي عندك عسل مقدار حب، وماء مقدار قدح. والثاني: أن عندك الإناء أي عندك الحب وليس عندك العسل، وعندك القدح وليس عندك الماء. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " فهذه المقادير إذا نصبت عنها التمييز أردت بها المقدرات، لا المقادير، لأن قولك (عندي عشرون درهما) و (ذراع ثوبا) و (رطل زيتا) المراد بعشرين هو الدراهم، لا مجرد العدد، وبذراع المذروع، لا ما يذرع به، وبرطل الموزون لا ما يوزن به، وكذا في غيرهما" (¬1). وجاء في (شرح الأشموني): " النصب في نحو ذنوب ماء، وحب عسلا، أولى من الجر لأن النصب يدل على المتكلم أراد عنده ما يملأ الوعاء الذكور من الجنس، وأما الجر فيحتمل أن يكون مراده ذلك، وأن يكون مراده بيان أن عنده الوعاء الصالح لذلك" (¬2). وجاء في (الأصول): " وتقول (عندي زق عسل سمنا) تضيف الأول وتنصب الثاني تريد مقدار زق عسل سمنا، ولا يجوز عندي ملء زق عسلا سمنا، إلا في بدل الغلط خاصة لأنه لا يكون عندك ملء زق سمنا، وملؤه عسلا" (¬3). وذلك أنك إذا نصبت عسلا، تعين أن عندك ملء الزرق عسلا، فكيف تقول سمنا؟ أو ¬

_ (¬1) الرضي 1/ 235 - 236 (¬2) الأشموني 2/ 197، وانظر حاشية الصبان 2/ 197 (¬3) الأصول 1/ 390

يعني أن الزق مملوء بالعسل والسمن مخلوطين، جاء في (الهمع): " وإذا كان المقدار مخلوطا من الجنسين، فقال الفراء لا يجوز عطف أحدهما على الآخر، بل تقول (عندى رطل سمنا عسلا) إذا أردت أن عندك من السمن والعسل مقدار رطل، لأن تفسير الرطل ليس للسمن وحده، ولا للعسل وحده، وإنما هو مجموعهما فجعل سمنا عسلا اسما للمجموع على حد قولهم (هذا حلو حامض)، وذهب غيره إلى العطف بالواو .. وقال بعض المغاربة: الأمران سائغان، العطف وتركه" (¬1). فإن أردت الآلة تعين الجر بالإضافة، ولا يصح النصب فإذا أردت أن عندك القدح الذي هو للماء قلت (عندي قدح ماء) بالجر، ولا يصح النصب، جاء في (الهمع): " والمقادير إذا أريد بها الآلآت التي يقع بها التقدير، لا يجوز إلا إضافتها نحو عندي منو اسمين، وقفيز بر، وذراع ثوب، يريد الرطلين اللذين يوزن بها السمن، والمكيال يكال به البر، والآلة التي يذرع بها الثوب، وإضافة هذا النوع على معنى اللام لا على معنى من" (¬2). وقد تقول: هذا واضح في المقادير وشبهها، فيكف يكون المعنى، في نحو (عندي خاتم ذهبا) و (عندي خاتم ذهب) وعندي نسيج حريرا، ونسيج حرير؟ وقد قال الرضي أن المعنى فيهما سواء، قال الرضي: ويدخل فيه [يعني التمييز] المضاف إليه في نحو خاتم فضة، كما يدخل فيه إذا انتصب، لأن معنى النصب والجر سواء" (¬3). والحق أن المعنى مختلف أيضا من وجوه عدة، وليس كما قال الرضي. ومن هذه الأوجه أن النصب يكون إيضاحا بعد الإبهام، وهو أوقع في النفس كما ذكرنا. وإيضاح ذلك أنك تقول (عندي خاتم ذهبا) بالنصب (وعندي خاتم ذهب) بالإضافة فبالنصب يكون الكلام قد تم بكلمة (خاتم) المنونة، ثم جئت بعدها بما يفسر الخاتم فكأنك أخبرت بخبرين: الأول (عندي خاتم) حتى إذا انصرف الذهن عن الكلام، ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 250 - 251 (¬2) الهمع 1/ 250، وانظر الصبان 2/ 196، حاشية الخضري 1/ 224 (¬3) الرضي على الكافية 1/ 234

وظن المخاطب أنه تم، قلت (ذهبا) بخلاف قولك (عندي خاتم ذهب) فإن الكلام جعلته سردا واحدا فلم يتم بكلمة (خاتم)، بل أن السامع ينتظر بقية الكلام، فالتمييز في الأولى منتصب بعد تمام الكلام، وهذا يكون إذ أردت إبهام الأمر على السامع أولا، ثم إيضاحه فيما بعد إذا أردت أن المقام يستدعي ذلك، كأن يكون الخاتم من نوع ثمني، أو من معدن نادر يستدعي الإبهام، أو هو عند شخص غير متوقع أن يكون عنده هذا الخاتم، أو لغير ذلك من الملاحظ فتبهم الأمر عليه، ثم توضح له، وهذا المعنى غير موجود في الإضافة. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وقيل أن الأصل في التمييز أن يكون موصوفا بما انتصب عنه سواء، كان مفردا أو عن نسبة، وكان الأصل (عندي خل راقود) و (رجلٌ مثله) و (سمن منوان) وكذا كان الأصل في (طالب زيد نفسا) لزيد نفس طابت، وإنما خولف بها لغرض الإبهام أولا، ليكون أوقع في النفس لأنه يتشوق النفس إلى معرفة ما أبهم عليها، وأيضا إذا فسرته بعد الإبهام فقد ذكرته إجمالا وتفصيلا وتقديمه مما يخل بهذا المعنى، فلما كان تقديمه يتضمن إبطال الغرض من جعله تمييزا لم يستقم" (¬1). وجاء في (حاشية الصبان): " وإنما عدل هذا الأصل ليكون فيه إجمال ثم تفصيل فيكون اوقع في النفس، لأن الآتي بعد الطلب أعز من المنساق بلا طلب" (¬2). وقد يختلف المعنى بين النصب والجر من وجه آخر، وذلك نحو أن تقول (هذا مقص حديد) و (هذا مقص حديدا) فقولك هذا مقص حديد، بالإضافة، يحتمل أن المقص من حديد، ويحتمل أنه مقص للحديد، أي يقص الحديد، كما تقول هذا منشار خشب أي ينشر الخشب، مع أنه حديد بلا خلاف ما لو قلت هذا منشار خشبا، فإنه يعني أنه من خشب، ونحوه أن تقول (هذه مسامير حديد، مسامير حديدا) فقولك (مسامير حديد) بالاضافة يحتمل أنها من الحديد، ويحتمل أنها للحديد، كما تقول (هذه مسامير ¬

_ (¬1) الرضي 1/ 242 - 342 (¬2) حاشية الصبان 2/ 195، وانظر حاشية الخضري 1/ 223، الطراز 2/ 78 - 79

معنى الاتباع

خشب ومسامير اسمنت) أي للخشب والسمنت. ونحوه (عندي محفظة ذهب وهبا) فبالجر يحتمل أن عندك محفظة تحفظ بها الذهب ويحتمل أنها من ذهب، بخلاف قولك (ذهبا) فإن معناه أنها من الذهب، أو عندك ملؤها ذهبا. وقد يأتي النصب لمعنى آخر، فتقول (عندي خاتم ذهبا) بمعنى عندك من الذهب مقدار خاتم. وهذا المعنى لا يأتي في الجر. معنى الاتباع: قد تقول: (هذا خاتم ذهب) و (قماش صوف) و (باب ساج) بالاتباع، فما الفرق بينه وبين ما ذكرنا من الجر والنصب؟ الأشهر في مثل هذا أن لا يراد بيان الجنس، وإنما هو للتشبيه، فقولك (خاتم ذهب) معناه أنه مثل الذهب، وكذلك (قماش صوف) أي شبيه بالصوف، وكذلك (باب ساج) لأنه لا يوصف بالجواهر، وهذا رأي كثير من النحاه، جاء في (المقتضب): " وكان سيبويه يقول: جيد أن تقول: (هذا خاتمك حديدا) و (هذا سرجك خزا) ولا تقول على النعت: هذا خاتم حديد، إلا مستكرها إلا أن تريد البدل، وذلك لأن حديدا وفضة وما أشبه ذلك من جواهر، فلا ينعت بها لأن النعت تحلية، وإنما يكون هذا نعتا مستكرها إذا أردت التمثيل. وتقول: هذا خاتم مثل الحديد، أي في لونه وصلابته، وهذا رجل أسد أي شديد فإن أردت السبع بعينه لم تقل: مررت برجل أسد أبوه هذا خطا" (¬1). وجاء فيه أيضا: " فإن اعتل بقوله: مررت برجل فضة خاتمه، ومررت برجل أسد أبوه على قبحه فيما ذكره، وبعده فإن هذا في قولك فضة خاتمة غير جائز، إلا أن تريد شبيه بالفضة ويكون الخاتم غير فضة .. ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 272، وانظر ابن يعيش 3/ 49

وعلى هذا مررت برجل أسد لأنه وضعه في موضع شديد أبوه، ألا ترى أن سيبويه لم يجز مررت بدابة أسد أبوها، إذا أراد السبع بعينه، فإذا أراد الشدة جاز على ما وصفت" (¬1). وجاء في منثور الفوائد: " يقول مررت بدار ساج بابها، إن أردت الساج بعينه لم يجز فيه إلا الرفع وإن اردت الصلابة جاز الجر" (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية) " قال سيبويه: يستكره نحو خاتم طين وصفة خز، وخاتم حديد، وباب ساج في الشعر ايضا. قال السيرافي: إذا قلت: مررت بسرج خز صفته، وبصحيفة طين خاتمها، وبرجل فضة حلية سيفه، وبدار ساج بابها، وأردت حقيقة هذه الأشياء لم يجز فيها غير الرفع، فيكون قولك بداية أسد أبوها، وأنت تريد بالأسد السبع بعينه لأن هذه جواهر. فلا يجوز أن ينعت بها. قال وإن أردت المماثلة والحمل على المعنى جاز، هذا كلامه. قلت: وما ذكره خلاف ظاهر لأن المعنى فضة حلية سيفه، أنها فضة حقيقة، وكذا في طين خاتمها، لكنه جوز على قبح الوصف بالجواهر على المعنى بتأويل معمول من طين ومعمول من فضة .. وإن اريد التشبيه كان معنى بسرج خز صفته، أي بسرج لين صفته كالخز، وليس بخز وكذا فضة حلية سيفه، أي مشرقة وإن لم يكن فضة" (¬3). والحق أنهما لغتان، فاللغة الشهيرة أنك عندما تقول (عندي خاتم ذهب) ونحوه بالاتباع، لا تقصد بذلك بيان الجنس، وعند آخرين أنه قد يقصد به الجنس، جاء في (كتاب سيبويه) " هذا باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة " وذلك قولك هذا راقود خلا وعليه نحي سمنا، وإن شئت قلت راقود خل، وراقود من خل، وإنما فررت إلى النصب في هذا الباب، كما فررت إلى الرفع في قولك بصحيفة طين خاتمها، لأن الطين اسم وليس مما يوصف به، ولكنه يضاف إليه ما كان فهكذا مجرى هذا وما أشبهه. ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 259 (¬2) منثور الفوائد 15/أ (¬3) الرضي 1/ 335، وانظر شرح السيرافي بهامش الكتاب 1/ 228

المجرور بمن

ومن قال مررت بصحيفة طين خاتمها، قال: هذا راقود خل، وهذا صفة خز، وهذا قبيح أجري على غير وجهه" (¬1). بل ذكر يونس أنه لم يسمع الوصف بالجوهر من ثقة، جاء في (كتاب سيبويه): " هذا باب ما يكون من الأسماء صفة مفردا، وليس بفاعل، ولا صفة تشبه بالفاعل، كالحسن وأشباهه) وذلك قولك مررت بحية ذراع طولها، ومررت بثوب سبع طوله ومررت برجل مائة أبله، فهذه تكون صفات .. ولا تقول: مررت بذراع طوله، وبعض العرب يجره، كما يجر الخز حين يقول مررت برجل حز صفته، ومنهم من يجره، وهو قليل، كما تقول مررت برجل أسد ابوه إذا كنت تريد أن تجعله شديدا، ومررت برجل مثل الأسد أبوه، إذا كنت تشبهه فإن قلت (مررت بدابة أسد ابوها) فهو رفع لأنك إنما تخبر أن أباها هذا السبع، فإن قلت (مررت برجل أسد أبوه) على هذا المعنى، رفعت إلا أنك لا تجعل أباه خلقه كخلقته الأسد، ولا صورته هذا لا يكون ولكنه يجيء كالمثل، ومن قال: مررت برجل أسد ابوه قال: مررت برجل مائة ابله وزعم يونس أنه لم يسمعه من ثقة" (¬2). فتبين من هذا أن معنى النصب يختلف عن معنى الاتباع، فإن النصب لا يراد به التشبيه بخلاف الاتباع، فإن الأشهر فيه أن لا يقصد به بيان الجنس، بل التشبيه، وقد يقصد به بيان الجنس قليلا على الجمع بين اللغتين. المجرور بمن: تقول (عندي خاتم من ذهب) و (عندي خاتم ذهبا) و (هذا خاتمك ذهبا) و (هذا خاتمك من ذهب) و (ما أكرمه فارسا) و (ما أكرمه من فارس) فما الفرق بينهما؟ الظاهر أن (من) يؤتى بها للتنصيص على التمييز، أما النصب فقد يحتمل التمييز ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 274 (¬2) سيبويه 1/ 230 - 231

وغيره أحيانًا، وذلك نحو قولك (ما أحسنه خطيبا) و (ما أحسنه من خطيب) فقولك (خطيبا) يحتمل الحال والتمييز، أما (من) فقد نصبت على التمييز. وتقول: (كفى به شاعرًا) فهذا يحتمل التمييز والحال، فإذا قلت (من شاعر) تعين انه تمييز، ومعنى الحال الدلالة على الهيئة كما قلنا بخلاف التمييز. وتقول (ما أشجعه فارسًا وما أجبنه رجلا) أي هو شجاع في هذه الحال، جبان في حال أخرى، فإذا قلت (ما أشجعه من فارس) كان المعنى أنه فارس شجاع. وتقول (عندي خاتم ذهبا) فهذا يحتمل أن عندك خاتما من الذهب، ويحتمل أن عندك ذهبا مقدار خاتم فإذا قلت (من ذهب) تعين جنس الخاتم. وتقول (هذا خاتمك ذهبا) فهو يحتمل أن جنسه من ذهب، ويحتمل أن خاتمك الآن هو في حال ذهب، أي غير مصوغ، كما تقول (هذا حطبك رمادا) و (هذا خاتمك قرطا) أي أصبح قرطا، فإن قلت (هذا خاتمك من ذهب تعين أنك تريد الجنس). جاء في (الأصول): " فأما قولهم: حسبك بزيد رجلا، وأكرم به فارسا، وما أشبه ذلك ثم تقول: حسبك به من رجل وأكرم به من فارس، ولله دره من شاعر، وأنت لا تقول: عشرون من درهم، ولا هو افره منك من عبد، فالفصل بينهما أن الأول كان يلتبس فيه التمييز بحال فأدخلت (من) لتخلصه للتمييز لا ترى انك لو قلت: أكرم به فارسا، وحسبك به خطيبا لجاز أن تعني في هذه الحال؟ وكذلك إذا قلت: كم ضربت رجلا؟ لم يدر السامع أردت: كم مرة ضربت رجلا واحدا، أم كم ضربت من رجل، فدخول (من) قد أزال الشك" (¬1). وجاء في (كتاب سيبويه): " هذا باب ما ينتصب انتصاب الاسم بعد المقادير " وذلك قولك ويحه رجلا، ولله دره رجلا، وحسبك به رجلا، وما أشبه ذلك، وإن شئت قلت: ¬

_ (¬1) الأصول 1/ 273 - 274، وانظر ابن يعيش 2/ 73

ويحه من رجل، وحسبك به من رجل، ولله دره من رجل، فتدخل (من) ههنا كدخولها في (كم) توكيدا وانتصب الرجل، لأنه ليس من الكلام الأول" (¬1). ولعله يقصد بقوله أنها دخلت توكيدا، أنها دخلت لقصد النص على التمييز، فإن عرفت المجرور بمن احتمل معنى آخر، وهو ان تكون (ال) للعهد، فقولك (هذا خاتم من ذهب) يحتمل أن يكون المعنى أن جنس الخاتم من الذهب، ويحتمل أن يكون من الذهب المعهود بينكما، أي أن هناك ذهبا معهودا، فتقول: هذا الخاتم من ذلك الذهب. وعلى هذا فقولك: (عندي منشار حديدا) يعني أن جنسه من الحديد، ويحتمل أن يكون عندك حديد بمقدار منشار، فإن قلت: (هذا منشارك حديدا) احتمل أن يكون المنشار في حال حديد أي المنشار الآن في حال حديد، وليس في هيئة منشار. وقولك: (عندي منشار حديد) يحتمل أن يكون المعنى أنه لنشر الحديد، لا لنشر الخشب مثلا، كما يحتمل أن يكون جنسه من الحديد. وقولك (عندي منشار حديد) يحتمل أن يكون أنه كمنشار قوي كالحديد، أو يشبه الحديد، وهو الراجح، أو من حديد على اللغة الأخرى. وقولك: (عندي منشار من حديد) يتعين أن يكون جنسه من الحديد: وقولك: (عندي منشار من الحديد) يحتمل أن يكون جنسه من الحديد، ويحتمل أن يكون عنده منشار من الحديد المعروف عند المخاطب، أي أن هناك حديدا معينا، وهذا منشار منه. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 299، وانظر المقتضب 3/ 35

التمييز بعد اسم التفضيل

التمييز بعد اسم التفضيل: إن التمييز بعد اسم التفضيل إذا كان فاعلا في المعنى، تعين نصبه وإن لم يكن فاعلا في المعنى تعين جره بالإضافة، وذلك نحو قولك (محمد أوسع دارا) فـ (دارا) فاعل في المعنى، وذلك أن معناه: محمد وسع داره. وعلامة الفاعل في المعنى أن يصلح فاعلا عند جعل أفعل التفضيل فعلا له، وعلامته الأخرى أن لا يكون المفضل بعضا من التمييز، فإن كان المفضل بعضا من التمييز لم يكن فاعلا في المعنى، فقولك (محمد أوسع دارا) ليس فيه محمد بعضا من الدار، والمقصود بالبعض هنا الجنس أو النوع. ومثال ما ليس فاعلا في المعنى (محمد أكرم رجل) فلا يصح أن تقول (محمد كرم رجله) كما أن المفضل بعض من التمييز، وليس مغايرا له ولذا وجب جره بالإضافة. فإن كان اسم التفضيل مضافا إلى غير التمييز، وجب نصب التمييز، نحو (محمد أكرم الناس رجلا). وعلى هذا فمعنى الجر غير النصب، فإن قولك (محمد أحسن كاتبا) معناه إذا قصدت به التمييز إن كاتب محمد أحسن من غيره، وإن قلت (محمد أحسن كاتب) كان المعنى أن محمدا هو الكاتب، وهو أحسن من غيره. وتقول (هو أفره عبدا) إذا كان عبده فارها، فإن قلت (هو أفره عبدٍ)، كان المعنى، أنه عبد فاره. جاء في الأصول أن " نحو قولك (زيد أفرههم عبدا) و (هو أحسنهم وجهًا (¬1))، فالفاره في الحقيقة هو العبد، والحسن هو الوجه. إلا أن قولك أفره وأحسن في اللفظ لزيد، وفيه ضميره والعبد غير زيد والوجه بعضه .. فإذا قلت (أنت أفره عبدٍ في الناس) فمعناه أنت أفره من كل عبد، إذا أفردوا عبدا عبدًا، كما تقول (¬2): هذا خير اثنين في الناس، أي إذا كان لناس اثنيت اثنين" (¬3). ¬

_ (¬1) لعل الأصل (زيد أفره عبدا) و (هو أحسن وجها) بلا إضافة. (¬2) لعل الأصل (هذان) أو (هما). (¬3) الأصول 1/ 268 - 269، وانظر 1/ 272 - 273

وجاء في (شرح الرضي): " واعلم أنه لو قيل: أن أفعل التفضيل إذا أضيف إلي الشيء فالذي يجري عليه أفعل التفضيل بعض المضاف إليه، نحو (هذا الثوب أحسن ثوب) وإن نصبت ما بعده على التمييز، فالمنصوب سبب لمن جرى عليه أفعل، ومتعلقة نحو (زيد أحسن منك ثوبا)، ففي قولك (زيد أفره عبد) زيد هو العبد، وفي قولك (زيد أفره منك عبدًا) زيد هو مولى العبد. أقول: وليس هذا بمطرد، ألا ترى أنك تقول: هو أشجع الناس رجلا، وهما خير الناس اثنين على ما أورده سيبويه، أي هو أشجع رجل في الناس، وهما خير اثنين في الناس والمنصوب على التمييز هو من جرى عليه أفعل لا سببه، والدليل على أنه تمييز قولك (هو أشجع الناس من رجل) و (هما خير الناس من اثنين) كما تقول: حسبك بزيد رجلا ومن رجل، قال الله تعالى: {فالله خير حافظا} [يوسف: 64]، انتصب (حافظا) على التمييز أي خير من حافظ، فهو والجر سواء، نحو حافظ وخير حافظا، فهو حافظ في الوجهين" (¬1). أما قوله (وليس هذا بمطرد) فغير وارد لما ذكره أنه إذا أضيف اسم التفضيل إلى غير التمييز وجب نصب التمييز. وأما قوله أن معنى (فالله خير حافظا) و (خير حافظٍ) بالجر سواء، ففيه نظر ذلك لأن المعنى مختلف فيما يظهر. ذلك أن المعنى بالنصب يحتمل معنيين: الحال والتمييز، كما تقول (هو أكرم أبا) و (هو أفضل كاتبا) فهذا يحتمل، أي هو أحسن في هذه الحال. ويحتمل التمييز: ومعنى التمييز في النصب غير معناه في الجر، وذلك أن المعنى في النصب على إرادة التفضيل المقارن بمن، فـ (من) مقدرة أن لم تذكر فقولك (محمد أكرم أبا) معناه أنك تريد أن تفضله على واحد أو أكثر، أي منك أو نكم. وأما قولك (محمد ¬

_ (¬1) الرضي 1/ 243

أكرم أب) فليس فيه هذا المعنى إذ ليس فيه التفضيل المقارن، بل يراد به التفضيل العام ولذا لا يجوز ذكر (من) معه، وعلى هذا فالنصب يختلف عن الجر من نواح عدة أهمها: 1 - النصب يحتمل الحال والتمييز، بخلاف الجر. 2 - النصب على إرادة التفضيل المقارن بمن، بخلاف الجر. 3 - النصب يدل على أن المنصوب فاعل في المعنى، بخلاف الجر. 4 - النصب يدل على أن التمييز مغايرة للمفضل، بخلاف الجر. والآية هذه يحكيها الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام لابنائه، إذ طلبوا منه أن يرسل معهم أخاهم من أبيهم، وقد كانوا فرطوا في يوسف من قبل، قال تعالى: {قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خيرٌ حافظا وهو أرحم الراحمين} [يوسف: 64]، فكأنه تعريض بحفظهم، أي لم يستطيعوا حفظ يوسف، فلعلهم لا يستطيعون حفظ الآخر أيضا، فالمعنى أن الله خيرٌ حافظًا منك. ولا يتأتي هذا المعنى في الجر، إذ لا يراد به المقارنة بمن هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن النصب يدل على الفاعلية، وأنه مغاير للمفضل أي أن الحافظ الذي يجعله الله خيرا منكم، كما قال تعالى: {ويرسل عليكم حفظه} [الأنعام: 61]، وقال: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظوه من أمر الله} [الرعد: 11]، فالحافظ هنا من يرسله الله من حفظة، كما تقول (هو أحسن عبدًا) أي عبده أحسن من عبدك، وكما تقول (هو أحسن ولدا) أي ولده أحسن من ولدك. (وهو أنشط عاملا) أي عامله أنشط من عاملك، و (هو خير حافظا) أي حافظه خير منكم بخلاف الجر، فإنه يكون هو الحافظ، كما تقول (هو أحسن رجل وأنشط عامل) فحافظ الله خير منهم، فليست المقارنة بينهم وبين الله، وإنما المقارنة بينهم وبين حفظة الله ولا يتأتي هذا المعنى في الجر. ويحتمل أن تكون حالا أيضا بمرجوحية، والله أعلم.

تمييز العدد

تمييز العدد لا نريد ههنا أن نبحث شأن العدد مع المعدود فإن لهذا موضعه الخاص به، وإنما أن نبحث ههنا تمييز العدد. إن وضع العدد مع المعدود في العربية لا يجري على نسق واحد فهو يختلف في الاعداد من الثلاثة إلى العشرة، عنه في الاعداد المركبة والمعطوفة، ويختلف في المائة والألف عنهما، وإليك إيضاح ذلك: 1 - تمييز العدد من ثلاثة إلى عشرة: إن المعدود بعد العدد من ثلاثة إلى عشرة يكون جمعا مجرورا بالإضافة، نحو قوله تعالى: {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيامٍ حسوما} [الحاقة: 7]، ونحوه (أقبل خمسة رجال). وقد تحتمل الإضافة معنى آخر، هو معنى التملك وشبهه، تقول (هذه خمسة محمد) أي ملكه، وتقول (هذه خمسة رجال) أي ملكهم، وتقول (هذه خمستكم، وهذه خمسة رجال آخرين) فلا يراد بالمضاف إليه المعدود. فالمضاف إليه قد يراد به المعدود، وهو الظاهر، وقد يراد به الإضافة على غير هذا المعنى. وقد يكون المعدود تابعًا للعدد، فتقول: (أقبل خمسةٌ رجالٌ) و (حضر ثمانية أطفال) وهو بدل أو عطف بيان (¬1). وقد يأتي منصوب نحو (أقبل خمسة رجالا)، وهو يحتمل الحالية والتمييز، فمعنى الحال أنهم جاؤا في هذه الحال، كما تقول (أقبل أربعةٌ صغارا) أي في حال صغرهم، ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 17، حاشية الخضري 2/ 135

وكما تقول (أقبل أربعةٌ راكبين) أي في هذه الحال. وقد يراد به التمييز وهو قليل، قال سيبويه ومعناهما عند ذاك واحد، قال: " لأنه لو جاز في الكلام او اضطر شاعر فقال: ثلاثة أبوابا كان معناه ثلاثة أبواب، وقال يزيد بن ضبة: إذا عاش الفتى مائتين عاما ... فقد ذهب المسرة والفتاء (¬1). 2 - تمييز العدد من أحد عشر إلى تسعة وتسعين: إن المعدود يكون مع هذا العدد مفردًا منصوبًا، نحو قوله تعالى: {فانفجرت منه اثتنا عشرة عينا} [البقرة: 60]، وقوله: {له تسع وتسعون نعجة} [ص: 23] وقد يقع بعده الاسم جمعا منصوبا، نحو (أقبل خمسة عشر رجالا)، على الحال أو التمييز، فمعنى الحال أنهم جاؤا في هذه الحال، كما تقول (أقبل خمسة عشر راكبين) أي في هذه الحال. وقد يراد به التمييز على معنى الجماعات، وذلك أنك عندما تقول (أقبل خمسة عشر رجالا) يكون المعنى أقبل خمس عشرة جماعة، كل جماعة هي رجال. تقول (عندي عشرون سمكة) أي عشرون واحدة، فإن قلت (عشرون سمكا) كان المعنى أن عندك عشرين نوعا منه أو عشرين مجموعة، قال ابن يعيش: " فإن قلت: عندي عشرون رجالا، كنت قد أخبرت أن عندك عشرين، كل واحد منهم جماعة رجال (¬2). وقال ابن الناظم: " وقد تميز بجمع صادق على واحد منها، فيقال (عندي عشرون دراهم) على معنى عشرون شيئا، كل واحد منها دراهم، ومنه قوله تعالى: {وقطعناهم في اثنتى عشرة أسباطا أمما} [الأعراف: 160]، والمعنى والله أعلم، وقطعناهم اثنتي ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 293 (¬2) ابن يعيش 6/ 21

عشرة، فرقة كل فرقة منهم أسباط" (¬1). وقد يقع الجمع تابعا للعدد فتقول (أقبل خمسة عشر رجالٌ) و (أقبل عشرون أولادٌ) على البدل. وقد يكون ما بعد مجرورا على الإضافة بمعنى الملك ونحوه، تقول (هذه خمسة عشرك) وخمسة عشر محمدٍ أي له وهذه خمسة عشر رجل آخر، جاء في (شرح ابن يعيش): " فإن أضفته إلى مالكه، وقلت (هذا أحد عشرك وخمسة عشرك) جاء لأن الإضافة إلى المالك ليست لازمة كلزوم المميز" (¬2). وجاء في (التصريح): " يجوز في العدد المركب غير اثنى عشر، واثنتي عشرة أن يضاف إلى مستحق المعدود فيستغني عن التمييز نحو هذه أحد عشر زيد" (¬3). وتحذف النون من ألفاظ العقود عند الإضافة فتقول (هذه عشروك)، و (رأيت أربعيك) جاء في (المقتضب): " اعلم انك إذا أضفت عددا حذفت منه النون والتنوين أي ذلك كان فيه فتقول: هذه عشروك وثلاثوك، وأربعوك، ورأيت ثلاثيك، وأربعيك، وهذه مائتك وألفك" (¬4). 2 - تمييز المائة والألف. إن المعدود بعد المائة والألف يكون مفردًا مجرورا بالإضافة نحو قوله تعالى: {لبثت مائة عام} [البقرة: 259]، وقوله: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} [العنكبوت: 14] ¬

_ (¬1) ابن الناظم 302 (¬2) ابن يعيش 6/ 20، وانظر المقتضب 2/ 178 (¬3) التصريح 2/ 275، وانظر الرضي 1/ 236، ملا جامي 155 (¬4) المقتضب 2/ 178، وانظر ابن يعيش 6/ 21

وقد تكون الإضافة على معنى الملك، ونحوه، تقول: (هذه مائة محمد) و (هذه مائة رجل) و (ألف رجل) وهذه مائتك وتلك مائة رجل آخر. وقد يكون الإسم تابعا على البدلية، نحو (أقبل مائة رجلٌ)، وقد يقع بعدها الاسم منصوبا على الحال أو التمييز، فالحال نحو (أقبل مائة فرسانا ومائة مشاة) أي مائة في حال ركوب على الخيل، ومائة في حال مشي، كما تقول (أقبل ألف راكبين) أي في حال ركوب. وتقول في التمييز (أقبل مائة رجلا) على معنى جماعات أي مائة جماعة، وكل جماعة هي رجال، كما في نحو (أقبل خمسة عشر رجالا) و (عندي عشرون سمكا). جاء في (شرح ابن يعيش): " وأما قوله تعالى: {ثلاث مائة سنين} [الكهف: 25]، فإن سنين نصب على البدل من ثلاثمائة، وليس بتمييز، وكذلك قوله: {اثنتي عشرة أسباطا أمما} [الأعراف: 160]، نصب أسباطا على البدل .. وهذا رأي أبي إسحاق الزجاج قال: ولا يجوز أن يكون تمييزا لأنه لو كان تمييزا لوجب أن يكون أقل ما لبثوا تسعمائة سنة، لأن المفسر يكون لكل واحد من العدد، وكل واحد سنون، وهو جمع، والجمع أقل ما يكون ثلاثة فيكونون قد لبثوا تسعمائة سنة وأجاز الفراء أن يكون (سنين) تمييزا" (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " قال الزجاج لو انتصب سنين على التمييز لوجب أن يكونوا لبثوا تسعمائة سنة ووجهه أنه فهم أن مميز المائة واحد من مائة، كقولك مائة رجل، فرجل واحد من المائة، فلو كان (سنين) تمييزا لكان واحد من ثلاثمائة. وأقل السنين ثلاثة فكان كأنه قال: ثلاثمائة ثلاث سنين، فتكون تسعمائة، قال المصنف، وهذا يطرد في قوله تعالى: {اثنتي عشرة أسباطا} [الأعراف: 160]، فلو كانوا تمييزا لكانوا ستة وثلاثين على رأيه .. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 6/ 24

ومما ذكره الزجاج غير لازم، وذلك لأن الذي ذكره مخصوص بأن يكون المميز مفردا أما إذا كان جمعا فالقصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعا في نحو ثلاثة أثواب" (¬1). ومن هذا يتبين: 1 - أن الجر يحتمل الإضافة بمعنى الملك ونحوه، إضافة إلى قصد إرادةا لمعدود في قسم من العدد. 2 - أن المفرد المنصوب يقصد به التمييز. 3 - ان الجمع المنصوب يحتمل الحال والتمييز، والتمييز على معنى الجماعات والأنواع. 4 - التبعية على معنى البدل. ثم أن (مائة) تقع بعد العدد من ثلاثة إلى تسعة، مفردة مجرورة، فيقال ثلاثمائة وأربعمائة والقياس ثلاث مئات، وأربع مئات. إلا أن العرب قد تستعمل الجمع قليلا، فتقول ثلاث مئات، وثلاث مئين، وقد يستعمل الجمع لقصد آخر، فيقال هذه ثلاث مئات، وهذه أربع مئات، بمعنى هذه أربع مجموعات كل مجموعة مائة، ولو قلت هذه أربعمائة، لاحتمل أن يكون المقصود أن المجموع أربعمائة وليست كل مجموعة على حده هي مائة. وقال: كم مائة عندك؟ فتقول: عندي أربع مئات. ولو قال: عندي أربعمائة لاحتمل المعنى أن عندك أربعمائة مائة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 173

كم

كم وهي كناية عن العدد المبهم، تقع على القليل منه، والمتوسط، والكثير، وهي على قسمين: (¬1). 1 - استفهامية. 2 - خبرية. كم الاستفهامية: يسأل بها عن كمية الشيء، (¬2) وتميزها يكون مفردا منصوبا (¬3)، تقول: (كم رجلا عندك؟ ) و (كم درهما لك؟ ) تسأله عن عدد الرجال والدراهم. وقد يأتي بعدها الاسم جمعا منصوبا، نحو (كم لك غلمانا؟ ) و (كم عندك رجالا؟ ) على معنى الحال (¬4).، أو الجماعات كما مر في العدد. فمعنى الحال: كم لك في حالة الغلمان، وكم عنك في حال الرجال؟ ومعنى التمييز يكون على إرادة الجماعات، فإذا قلت (كم رجالا عندك؟ ) كان المعنى كم جماعة من الرجال عندك؟ جاء في (شرح الرضي): " ولا يكون مميز كم الاستفهامية مجموعا كمميز المرتبة الوسطى خلافا للكوفيين، وعلى ما أجاز السيرافي في العدد (عشرون غلمانا لك) إذا أردت طوائف من الغلمان، ينبغي جوازكم غلمانا لك بهذا المعنى. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 4/ 125 (¬2) شرح قطر الندى 336 (¬3) ابن يعيش 4/ 126 (¬4) انظر سيبويه 1/ 292، وهامش سيبويه 1/ 293، ابن يعيش 4/ 129، الرضي 2/ 108

كم الخبرية

وقال البصريون: لو جاءهم نحوكم غلمانا لك؟ فالمنصوب حالا لا تمييز، والتمييز محذوف أي كم نفسا لك في حال كونهم غلمانا" (¬1). وجاء في (الهمع) أن " كم الاستفهامية لا تفسر بالجمع، إنما هو بشرط أن يكون السؤال عن عدد الأشخاص، وأما إن كان السؤال عن الجماعات، فيسوغ تمييزها بالجمع، لأنه إذ ذاك بمنزلة المفرد، وذلك نحو (كم رجالا عندك)، تريدكم جمعا من الرجال إذا اردت أن تسأل عن عدد اصناف القوم الذين عنده، لا عن مبلغ اشخاصهم، ويسوغ باسم الجنس نحو (كم بطا عندك) تريدكم صنفا من البط عندك" (¬2). كم الخبرية: وكم الخبرية تكون بمعنى (كثير)، ويستعملها من يرد الافتخا والتكثير (¬3). وسميت خبرية لأنها لا تحتمل الصدق والكذب بخلاف الاستفهامية (¬4)، وذلك أنك إذا قلت (كم رجل أكرمت) كنت قد أخبرته بأنك أكرمت رجالا كثيرين، وهذا يحتمل الصدق والكذب، وإن قلت (كم رجلا أكرمت) كان السؤال عن عدد الرجال الذين أكرمتهم، وهذا لا يحتمل الصدق والكذب. قال ابن يعيش: (فإن أردت الخبر خفضت (رجلا) وقلت (بكم رجلٍ مررت) والفرق بينهما انه في الاستفهام يسأل عن عدد من مر بهم من الرجال، وفي الثاني يخبر أنه مر بكثير من الرجال فالمسألة الأولى تقتضي جوابا والثانية لا تقتضي جوابا (¬5). ¬

_ (¬1) الرضي على الكافية 2/ 108 (¬2) الهمع 1/ 254 (¬3) شرح قطر الندي 336، شرح شذور الذهب 546، التصريح 2/ 279 (¬4) انظر الصبان 4/ 79، الأشموني 4/ 84، حاشية الخضري 2/ 140، التصريح 2/ 280 (¬5) ابن يعيش 4/ 128

وتمييز (كم) الخبرية يكون مفردا مجرورا أو جمعًا مجرورا تقول (كم رجلٍ أكرمت! ) و (كم رجالٍ أكرمت! ). قالوا والأفراد أكثر في الاستعمال، وأبلغ في المعنى من الجمع (¬1)، فقولك (كم رجل أكرمت) أبلغ في المعنى، وأكثر في العدد من (كم رجالٍ أكرمت)، وذلك لأن المفرد المجرور يقع تمييزا للمائة، والألف، فتقول (مائة رجل) و (ألف رجلٍ) أما الجمع المجرور فيقع تمييزا للعدد من الثلاثة إلى العشرة، أي للقلة نحو ثلاثة رجال، وعشرة رجال. قالوا وقد يراد بالجمع معنى الجماعة كما مر في (كم) الاستفهامية، والعدد، جاء في (الهمع): (وقيل يكون الجمع على معنى الواحد فإذا قلت (كم رجال) كأنك قلت: كم جماعة من الرجال) (¬2). فإن فصل بين (كم الخبرية ومميزها بفعل متعد، وجب الاتيان بمن لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك الفعل المتعدي، نحو قوله تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون} [الدخان: 25]، و {كم أهلكنا من قرية} (¬3)، [القصص: 58]. وجاء في (الأصول): (فإن قلت: كم ضريت رجلا؟ لم يدر السامع أردت: كم مرة ضربت رجلا واحدًا أم كم ضربت من رجل؟ فدخول (من) قد أزال الشك) (¬4). فإن رفعت بعد (كم) تغير المعنى، فإذا قلت (كم رجلا لك قال الحق) بالنصب كان استفهاما من عدد الرجال الذين قالوا الحق. وإن جررت كان المعنى أن كثيرا من الرجال قالوا الحق. ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 280 (¬2) الهمع 1/ 254 - 255 (¬3) الرضي على الكافية 2/ 108 (¬4) الأصول 1/ 273

وإن رفعت كان المعنى (كم قالوا الحق رجلٌ لك) أي كم مرة قال الحق رجلك؟ فالرجل هنا واحد بخلاف النصب والجر، جاء في (المقتضب): " واعلم أن هذا البيت ينشد على ثلاثة أوجه، وهو: كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت علي عشاري فإذا قلت: كم عمةٍ، فعلى معنى رب وإذا قلت: كم عمةً، فعلى الاستفهام وإذا قلت: كم عمةٌ أوقعت (كم) على الزمان، فقلت: كم يوما عمةٌ، وخالةٌ لك قد حلبت على عشاري، وكم مرة (¬1)، نحو ذلك. فإذا قلت: كم عمةٍ فلم تقصد إلى واحدة، وكذلك إذا نصبت، وإن رفعت لم تكن إلا واحدة لأن التمييز يقع واحدة في موضع الجميع، وكذلك ما كان في معنى (رب)، لأنك إذ قلت: رب رجل رأيته لم تعن واحدا، وإذا قلت: كم رجلا عندك فإنما تسأل أعشرون، أم ثلاثون ونحو ذلك. فإن قلت: كم درهمٌ عندك؟ فإنما تعني: كم دانقا هذا الدرهم الذي أسألك عنه؟ فالدرهم واحد مقصود قصده بعينه، لأنه خبر وليس بتمييز، وكذلك: كم جاءني صاحبك؟ إنما تريد: كم مرة جاءني صاحبك" (¬2). وجاء في (شرح ابن يعيش) في هذا البيت: " فالرفع على أنه مبتدأ، وحسن الابتداء به حيث وصف بالجار والمجرور، وهو (لك)، وقوله: (قد حلبت على عشاري) في موضع الخبر، وتكون (كم) واقعة على الحلبات، فتكون مصدرا، والتقدير كم مرة أو حلبة عمة لك قد حلبت على عشاري، ويجوز أن تكون (كم) واقعة على الظرف، فيكون التقدير كم يوما أو شهرا أو نحوهما من الأزمنة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر سيبويه 1/ 259 (¬2) المقتضب 3/ 58 - 59، وانظر الأصول 1/ 388 (¬3) ابن يعيش 4/ 133 - 134، وانظر المقتضب 3/ 64

كأين

كأين كأين مركبة عند أكثر النحاة من كاف التشبيه، واي الاستفهامية المنونة، ثم حصل لهما بالتركيب معنى ثالث، لم يكن لكل واحد، منهما في حال الإفراد (¬1). وقيل بل هي اسم بسيط غير مركب، ويدل على ذلك تلاعب العرب بها في اللغات المتعددة، فتقول: كأين، كائن، وكأي، وكيي، وغير ذلك. (¬2). وهي تفيد التكثير مثل كم الخبرية، وقد وردت للاستفهام قليلا واستدل له بقول أبي ابن كعب لابن مسعود: " كأين تقرأ سورة الأحزاب أية". فقال: " ثلاثا وسبعين". (¬3). وتمييزها مفرد لم يرد إلا كذلك (¬4). بخلاف تمييز كم الخبرية، فإنه يأتي مفردا أو جمعا كما ذكرنا. وأكثر العرب لا يتكلمون بها إلا مع (من)، ولم ترد في القرآن إلا كذلك، قال تعالى {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير} [آل عمران: 146]، جاء في (كتاب سيبويه): " فإنما ألزموها (من) لأنها توكيد، فجعلت كأنها شيء يتم به الكلام، وصار كالمثل .. وقال إن جرها احد من العرب فعسى أن يجرها بإضار من" (¬5). ¬

_ (¬1) ابن يعيش 4/ 134 - 135 الرضي 2/ 105، سيبوي 1/ 296، الهمع 2/ 75، الأشموني 4/ 85 - 86، الصبان 4/ 86، التصريح 2/ 281، المغنى 1/ 186 (¬2) الهمع 2/ 76، وانظر ابن يعيش 4/ 136 (¬3) ابن يعيش 4/ 134 - 135، المغنى 1/ 186، الهمع 2/ 76، الأشموني 4/ 85 - 86، التصريح 2/ 281 (¬4) الهمع 1/ 255، الأشموني 4/ 86، المغنى 1/ 186 (¬5) سيبويه 1/ 296، وانظر ابن يعيش 4/ 136

والذي يبدو لي أنها تستعمل في مواطن التفخيم والتعظيم. إضافة إلى الكثير ويدل على ذلك الاستعمال القرآني لها .. جاء في (سورة الأعراف): {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون} [الأعراف: 4]. وجاء في (سورة الحج): {فكأين من قرية أهلكناها هي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد} [الحج: 45]. فجاء في الأولى بكم، وفي الثانية بكأين، والسياق يوضح الفرق بين الاستعمالين. قال تعالى في سورة الأعراف: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون، من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون .. كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين} [الأعراف: 3 - 5]. وجاء في (سورة الحج): {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور. وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير، فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد، أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذن يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور} [الحج: 39 - 46]. فأنت ترى أن هذه الآية في سياق آيات المظلومين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق وقد أذن لهم بالقتال، وفيه التأسي بما وقع للطوائف المؤمنة من قبل، فقد كذبهم قومهم واوذوا، فأملي ربك للكافرين ثم أخذهم أخذة قاصمة. ثم قال بعد ذلك: " فكأين من

قرية أهلكناها وهي ظالمة .. " فهذا موطن تفخيم، كأنه قال: وكم من قرية أية قرية، كما تقول: مررت برجل أي رجل، ووجود (أي) المبهمة يشعر بهذا المعنى، والتفخيم هنا لله الذي أخذ مثل هذه القرى المتجبرة العاتية الظالمة، كما قال: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم} [محمد: 13]، وكما قال: {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا} [الطلاق: 8]. وليس السياق في الأعراف على هذا كما هو ظاهر. ومثله قوله تعالى: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في بيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} [آل عمران: 146]ـ فهذا موطن تفخيم ومواطن تأسيه للرسول والجماعة المؤمنة، لما حصل لهم في معركة أحد، فإن مثل هذا حصل لمن قبلهم من المؤمنين، قال تعالى: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين أمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين أمنوا ويمحق الكافرين. ام حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين، ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأين مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين. وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} [آل عمران: 140 - 146]. فهذا موطن تفخيم وتأسية، وهكذا شأن كل ما ورد بكأين، فإن موطه التفخيم زيادة على التكثير. قال تعالى: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف: 105]، أي وكم من آية تدعو إلى التامل والإيمان يمرون عليها وهم معرضون عنها، وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت

لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون. وما أكثر الناس ولو حصرت بمؤمنين} [يوسف: 102 - 103]. أي أن هذه القصص من أنباء الغيب، لا تعلمها أنت ولا قومك، كما يعرف الجميع وهو دليل ظاهر على نبوتك، ولكن مع ذلك لم يؤمنوا، وهذا شأنهم مع آيات الله الكونية في السماء والأرض. {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف: 105]. فهذا موطن تفخيم وتعظيم. وقال تعالى: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} [العنكبوت: 60]. وهذا موطن تفخيم وتعظيم لربنا سبحانه، إذ ان هناك دواب ضعيفة لا تحمل رزقها، يوصل الله إليها رزقها في مكانها، بل أنه قدم رزقها علينا، نحن أولى القوة والبأس والحيلة والعقل والتدبر والضرب في الأرض، فقال (الله يرزقها وإياكم)، والله أعلم.

كذا

كذا وهي كلمة مركبة من كاف التشبيه و (ذا) اسم الإشارة غير أنه " انخلع من (ذا) معنى الإشارة ومن الكاف معنى التشبيه، بدلالة أنك لست تشير إلى شيء، ولا تشبه شيئا بشيء، وإنما يكني بها عن العدد، ما فتنزلت الكاف في هذا الموطن منزلة الزائدة اللازمة" (¬1). و(ذا) في الأصل إشارة إلى ما في ذهن المتكلم من العدد، أو غير العدد غير أنها بتركيبها أصبحت كلمة واحدة، غير أن الإشارة إلى ما في الذهن لا تزال قائمة، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأما بناء كذا فلأنه في الأصل (ذا) المقصود به الإشارة دخل عليه كاف التشبيه، وكان (ذا) مشارا به إلى عدد معين في ذهن المتكلم، مبهم عند السامع، ثم صار المجموع بمعنى (كم) وانمحي عن الجزءين معنى التشبيه والإشارة .. فصار الكلمتين ككلمة واحدة، ولذا تقول: أن كذا مالك، برفع مالك على أنه خبر إن (¬2). فهيي بعد التركيب كلمة واحدة مكنى بها عن العدد (¬3). قال سيبويه: " وذلك قولك له كذا وكذا درهما، وهو مبهم في الأشياء بمنزلة كم وهو كناية بمنزلة (فلان) إذا كنيت به في الأسماء وكقولك: كان في أمر ذية وذية، وذيت وذيت، وكيت وكيت (¬4). وتميزها يجب نصبه، فلا يصح جره بمن اتفاقا، ولا بالإضافة عند الجمهور وأكثر ما تستعمل معطوفا عليها نحو: عندي كذا وكذا درهما، وذكر ابن خروف أنهم لم يقولوا ¬

_ (¬1) درة الغواص 99 (¬2) الرضي 2/ 105 (¬3) انظر المغنى 1/ 187، الأشموني 4/ 87 (¬4) سيبويه 1/ 297

كذا درهما ولا كذا كذا درهما بدون عطف (¬1). وذهب الكوفيون إلى أنه يجوز (أن يقال كذا ثوب، وكذا أثوابا، قياسا على العدد الصريح، ولهذا قال فقاؤهم أنه يلزم بقول القائل (له عندي كذا درهم) مائة، وبقوله (كذا دراهم) ثلاثة، وبقوله: (كذا كذا درهما) أحد عشر، وبقوله (كذا درهما) عشرون، وبقوله (كذا وكذا درهما) أحد وعشرون، حملا على المحقق من نظائرهن من العدد الصريح. ووافقهم على هذه التفاصيل غير مسألتي الإضافة المبرد والأخفش وابن كيسان، والسيرافي وابن عصفور (¬2). وقال بعض النحاة أن هذا خروج عن لغة العرب، لأنه لم يرد مميز (كذا) في كلامهم مجرورا (¬3). وقد ترد كذا على غير هذا الوجه، فقد تأتي كناية عن غير العدد، فقد تأتي كناية عن القول، وعن المكان، وعن الزمان، وغير ذلك، فمن ذلك أن يقال: قلت له كذا، (¬4).وكقولهم: (أما بمكان كذا وكذا وجذ؟ )، ومنه الحديث: يقال للعبد يوم القيامة: أتذكر يوم كذا وكذا (¬5). وقد ترد (كذا) على وجه آخر، وهو أن تكون كلمتين باقيتين على أصلهما من التشبيه والإشارة، نحو (هذا أمر خالدٍ، وكذا أمر علي) أي ومثله، ونحو قولهم (رأيت خالدًا كريما وكذا ومحمدًا) (¬6). ¬

_ (¬1) الأشموني 4/ 86 وانظر المغني 1/ 188 (¬2) المغنى 1/ 188، الأشموني 4/ 86 - 87، منثور الفوائد 118 (¬3) الرضي 2/ 113 (¬4) الرضي 2/ 105 (¬5) المغنى 1/ 187، الأشموني 4/ 87 (¬6) المغني 1/ 187، الأشموني 4/ 88

حروف الجر

حروف الجر وتسمى أيضًا حروف الإضافة، قالوا سميت بذلك؛ لأنها تضيف معاني الأفعال إلى الأسماء - أي توصلها إليها، ويسميها الكوفيون أيضًا حروف الصفات؛ لأنها تحدث صفة في الاسم كالظرفية (¬1) والبعضية والاستعلاء ونحوها من الصفات. قالوا إنما سميت حروف الجر؛ لأنها تجر معاني الأفعال إلى الأسماء، أي توصلها إليها (¬2). والأظهر أنها سميت بذلك، لأن الأسماء تأتي بعدها مجرورة كما سميت حروف النصب والجزم لأن الأفعال تأتي بعدها منصوبة أو مجزومة (¬3). ومعنى الجر هو جر الفك الأسفل إلى أسفل، إذ من المعلوم أن تسمية الحركات الضمة والفتحة، والكسرة، وتسمية حالاتها الإعرابية من رفع، ونصب، وجر، إنما هو قائم على أوصاف حركات الفم. فالضمة إنما سميت كذلك لأنها تكون بانضمام الشفتين، وسميت الحالة رفعا لأنك إذا ضممت الشفتين ارتفعتا. وأما الفتحة فسميت كذلك لأنها تحدث بفتح الفم، وسميت الحالة نصبًا، لأن الانتصاب هو القيام والوقوف، وبحصول هذه الحركة ينتصب الفم، أي يقف. وأما الجر فهو جر الفك الأسفل إلى أسفل، وتسمى الحركة كسرة. وأما السكون فهو عدم الحركة، فإذا قطعت الحركة كان الحرف ساكنا، وسميت الحالة الإعرابية جزمًا، لأن الجزم هو القطع لأنك بتسكينك الحرف تقطع الحركة عنه. ¬

_ (¬1) انظر ابن يعيش 8/ 7، الرضي على الكافية 2/ 354، التصريح 2/ 2 (¬2) الرضي 2/ 354، حاشية التصريح 2/ 2، الصبان 2/ 203 (¬3) الرضي 2/ 354، حاشية التصريح 2/ 2، الصبان 2/ 203

نيابة حروف الجر بعضها عن بعض

جاء في (شرح الرضي على الكافية): "وإنما قيل لعلم الفاعل رفع، لأنك إذا ضممت الشفتين لإخراج هذه الحركة، ارتفعتا عن مكانهما، فالرفع من لوزام مثل هذا الضم وتوابعه .. وكذلك نصب الفم تابع لفتحه، كأن الفم كان شيئا ساقطًا فنصبته، أي أقمته بفتحك إياه، فسمى حركة البناء فتحا وحركة الإعراب نصبًا. وأما جر الفك الأسفل إلى أسف وخفضه، فهو ككسر الشيء، إذ المكسور يسقط ويهوي إلى أسفل فسمى حركة الإعراب جرًا، أو خفضًا وحركة البناء كسرًا .. ثم الجزم بمعنى القطع، والوقف والسكون بمعنى واحد، والحرف الجازم كالشيء القاطع للحركة أو الحرف فسمى الإعرابي جزمًا، والبنائي وقفًا أو سكونا" (¬1). فالجر إذن هو جر الفك الأسفل إلى أسفل وسميت حروف الجر كذلك، لأن الاسم يأتي بعدها مجرورًا، ويسميها الكوفيون حروف الخفض، وهي المعنى نفسه فإن هذا خفض الفك الأسفل. وعلى أية حال فهو اصطلاح ولا مشاحة في الإصطلاح. نيابة حروف الجر بعضها عن بعض ذهب جمهور الكوفيين إلى أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، فقد تأتي (من) بمعني (على)، كقوله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا} [الأنبياء: 77]، وقد تأتي بمعنى (عن) كقوله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا} [ق: 22]. وقد تأتي (الباء) بمعنى (عن) كقوله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع} [المعارج: 1]، وقد تأتي بمعنى (من)، كقوله تعالى: {عينا يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6]. وقد تأتي (على) بمعنى (في)، كقوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} [القصص: 15]، وقد تأتي بمعنى (عن) كقول الشاعر: ¬

_ (¬1) الرضي 1/ 24

إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه. ومذهب جمهور البصريين أن حروف الجر لا ينوب بعضها عن بعض، إلا شذوذا أما قياسًا فلا. وما أوهم ذلك فهو مؤول، أما على التضمين، أو على المجاز، كما في قوله تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} [طه: 71]، فإن الكوفيين ذهبوا إلى أن (في) بمعنى (على)، وذهب البصريون إلى أنه ليس بمعنى (على) ولكن شبه المصلوب لتمكنه من الجذع بالحال في الشيء فهو من باب المجاز. وأما عن شذوذ إنابة كلمة عن أخرى (¬1). قالو ولا تصح إنابة حرف عن حرف كما لا تنوب حروف النصب والجزم عن بعضها (¬2). ثم لو كان ذلك قياسًا لصح أن تقول (سرت إلى زيد) وأنت تريد (معه) وأن تقول (زيد في الفرس) وأنت تريد عليه، وأن تقول (رويت الحديث بزيد) وأنت تريد عنه، ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش (¬3). والحق أن الأصل في حروف الجر أن لا ينوب بعضها عن بعض، بل الأصل أن لكل حرف معناه واستعماله، ولكن قد يقترب معنيان أو أكثر من معاني الحروف، فتتعاور الحروف على هذا المعنى. وإيضاح ذلك أن حرف الجر في العربية قد يستعمل لأكثر من معنى، (من) مثلا تستعمل لابتداء الغاية، وللتبعيض، ولبيان الجنس، وللتعليل وغيرها. ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 111، التصريح 2/ 4 - 6، حاشية الخضري 1/ 228 - 229 (¬2) المغني 1/ 111، حاشية الخضري 1/ 228 (¬3) الخصائص 2/ 308، وانظر الفروق اللغوية 13 - 14، ابن يعيش 8/ 15

و (الباء) تستعمل للالصاق، والاستعانة والتعويض والتعليل وغيرها. و(اللام) للملك والاستحقاق، ولانتهاء الغاية، والتعليل وغيرها، و (في) للظرفية والتعليل، وغير ذلك من المعاني. وقد تقترب المعاني من بعضها، أو يتوسع في استعمال المعنى، فيستعمل بعضها في معنى بعض، أو قريب منه، فمثلا قد يتوسع في معنى الالصاق بالباء، فيستعمل للظرفية فتقول: أقمت بالبلد وفي البلد، ولكن يبقى لكل حرف معناه واستعماله المتفرد به، ولا يتماثلان تمامًا. وقد يتسع المتكلم في كلامه العادي غير المتعمل، أو المقصود، فيوقع الحروف بعضها موقع بعض من دون قصد إلى معنى معين، أو اختلاف ما، فنحن نقول في الدارجة (رحت له) و (رحت عليه) وهو محض أداء معنى عام، لا يقصد المتكلم فرقا بين له، وعليه. ونقول في الدارجة (رحت عَ الشط) أي على الشط أي النهر، و (رحت للشط) ولا فرق بينهما في ذهن المتكلم سوى أداء المعنى العام. ونقول في الدارجة (جه علي وكلمني) ونقول (جاني) والمعنى جاء إلي، وجاءني، ولا يقصد المتكلم فرقا بين الاستعمالين. فالمتكلم غير المتعمل يتكلم غالبا بأقرب شيء إلى لسانه، مما يؤدي المعنى. فالحروف كما نرى في العامية قد ينوب بعضها عن بعض، في الاستعمال، فنستعمل (على) لانتهاء الغاية، وكذلك اللام و (إلى) بلا نظر إلى فرق في المعنى. ولا يصح أن نقول أنه لو كانت (على) تنوب عن (إلى) أو تستعمل بمعنى (إلى) لصحت نيابتها عنها دومًا، فنقول (وضعت الكتاب إلى الرف) بمعنى: على الرف، فإن اللغة العامية وإن كانت توقع الحروف، بعضها موقع بعض، أو تستعمل للمعنى الواحد أكثر من حرف واحد، لا توقع الحرف موقع الحرف الآخر باطراد، فإنه يبقى

لعلى استعمالها ولـ (إلى) استعمالها، وللام استعمالها الخاص بها، وهكذا بقية الحروف كما قلنا في (وضعت الكتاب ع الرف) ولا يقولون إلى الرف، وللرف. وهكذا شأن المتكلمين العرب الأوائل، فإن المتكلم غير المتعمل قد يوقع حرفا موقع حرف آخر في معنى ما، فيقول ذهبت له، وإليه، ومررت به، وعليه، كما نقول الآن في لغتنا الدارجة (مريت بيه) و (مريت عليه) بمعنى (مررت به) أو عليه، من دون نظر إلى معنى معين، أو إلى فرق معين بين التعبيرين. ومن هنا نرى استعمال الحرف لأكثر من معنى، وأداء المعنى الواحد بأكثر من حرف. والشاعر أيضا قد يضطره شعره فيستعمل هذا الاستعمال من دونما حرج، أو نظر إلى فرق بين استعمال حرف دون دون آخر فإن هذا سائغ دائر في بيئته. ثم إن النيابة قياسية عند المتكلم بها في معنى معين يتعاور عليه حرفان أو أكثر، لا في استعمال الحرف مكان آخر على وجه العموم. ومن هنا يتبين لنا أنه لا مكان للرد الذي رد به قسم من النحاة، أنه لو كان يستعمل الحرف مكان حرف آخر لصح أن يقال (سرت إلى زيد) وأنت تريد معه، وأن تقول (زيد في الفرس) وأنت تريد عليه، جاء في (الأصول): " واعلم أن العرب تتسع فيها فتقيم بعضها مقام بعض إذا تقاربت المعاني، فمن ذلك (الباء) تقول: (فلان بمكة وفي مكة) وإنما جازا معًا لأنك إذا قلت: فلان بموضع كذا وكذا، فقد خبرت عن اتصاله والتصاقه بذلك الموضع، وإذا قلت في موضع كذا فقد خبرت بـ (في) عن احتوائه إياه وإحاطته به. فإذا تقارب الحرفان، فإن هذا التقارب يصلح للمعاقبة وإذا تباين معناها لم يجز. ألا ترى أن رجلا لو قال مررت في زيد، أو كتبت إلى القلم، لم يكن هذا يلتبس به، فهذا حقيقة تعاقب حروف الخفض، فمتى لم يتقارب المعنى لم يجز" (¬1). ¬

_ (¬1) الأصول لابن السراج 1/ 505 - 506

وجاء في (الخصائص) في (باب استعمال الحروف بعضها مكان بعض): " وذلك أنهم يقولون إن (إلى) تكون بمعنى (مع) ويحتجون لذلك بقول الله سبحانه: {من أنصاري إلى الله} [الصف: 14]، أي: مع الله، ويقولون إن (في) تكون بمعنى (على) يحتجون بقوله عز اسمه: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} [طه: 71]، أي عليها .. وغير ذلك مما يوردونه. ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، لكنا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع على حسب الأحوال الداعية إليه والمسوغة له، فأما في كل موضع، وعلى كل حال فلا. ألا ترى أنك إن أخذت بظاهر هذا القول غفلا، هكذا لا مقيدًا لزمك عليه أن تقول (سرت إلى زيد) وأنت تريد معه، وأن تقول: (زيد في الفرس) وأنت تريد عليه، و (زيد في عمرو) وأنت تريد عليه في العداوة، وأن تقول: (رويت الحديث بزيد) وأنت تريد عنه ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش" (¬1). فالأمر كما ذكره ابن جني وكما أوضحناه، ليس المقصود به النيابة المطلقة. وهذا كله في الكلام الفصيح. غير أن هذا بعض اختلاف في الكلام الذي يتعمله صاحبه، ويتفنن فيه، فإنه في الكلام الفني قد يختار المتكلم حرفا على حرف، أو لفظًا على لفظ، لأداء معنى معين، أو لدلالة معينة، وربما لم يستعمل الحرفين في معنى واحد، كما يستعمل المتحدثون في أمورهم اليومية، أو قد يكون المعنى الذي يستعمله في حرفٍ، مختلفا عن مشابهه الذي يستعل في حرف آخر، فالظرفية التي يستعملها بالباء تختلف عن الظرفية التي يستعملها بـ (في) والتعليل الذي يستعمله باللام، يختلف عن التعليل الذي يستعمله بالياء، وهكذا. ¬

_ (¬1) الخصائص 2/ 307 - 308

أو قد يخص الحرف باستعمال معين أو بدلالة معينة، مما استعملته اللغة وهذا واضح في الاستعمال القرآني، فقد يخص اللفظ باستعمال معين، فإنه مثلا خص لفظ (العيون) بالعيون الجارية (والأعين) خصها بمعنى الباصرة، أو بمعنى الرعاية، قال تعالى: {تجري بأعيننا} [القمر: 14] وخص لفظ (الصوم)، بمعنى الصمت، و (الصيام) بالعبادة المعروفة وغير ذلك من الاختصاصات. وهذا الاستعمال الفني هو الذي يدفع اللغة إلى إمام فيجعلها أكثر دقة، وتخصصا، وغناء ونماء لا الاستعمال العامي الساذج غير المخصص ولا الدقيق. ونعود إلى نيابة الحروف، فنقول ما سبق أن قلناه: أن الأصل ألا نتوب حروف الجر بعضها عن بعض، بل إبقاؤها على أصل معناها ما أمكن، فإن لم يكن ذلك ففي الاتساع وعدم التكلف مندوحة، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " واعلم أنه إذا أمكن في كل حرف يتوهم خروجه عن أصله، وكونه بمعنى كلمة أخرى أو زيادته أن يبقى على أصل معناه الموضوع هو له، ويضمن فعله المعدي به معنى من المعاني، يستقيم به الكلام فهو الأولى بل الواجب" (¬1). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 382

التضمين

التضمين ذكرنا أنه قد ينوب حرفُ عن حرفٍ لأداء معنى معين، ولكن الأصل عدم النيابة بل إبقاء الحرف على أصل معناه. ولسنا نذهب مذهب من يجعل نيابة الحروف عن بعضها هي الأصل، وأن الحرف الواحد يقع بمعنى عدة حروف بصورة مطردة. فـ (من) مثلا تأتي عندهم بمعنى على، وبمعنى عن وبمعنى في، وبمعنى الباء، وبمعنى عند. و(الباء) تأتي بمعنى من، وبمعنى عن، وبمعنى علي، وبمعنى إلى، وبمعنى مع، و (إلى) تأتي بمعنى اللام، وفي ومن، وعند، وغير ذلك والصواب أن كثيرًا منه او أكثره خارج على التضمين. ومعنى (التضمين) إشراب لفظ معنى لفظ فيعطونه حكمه، وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين كقولهم (سمع الله لمن حمده) أي استجاب فعدى (يسمع) باللام وإنما أصله أن يتعدي بنفسه مثل {يوم يسمعون الصيحة بالحق} [ق: 42]، وكقول الفرزدق: كيف تراني قالبًا مجني ... قد قتل الله زيادًا عني أي صرفه عني بالقتل (¬1). وجاء في (حاشية السيد الجرجاني على الكشاف): " التضمين أن تقصد بلفظ فعل معناه الحقيقي ويلاحظ معه معنى فعل آخر يناسبه، ويدل عليه بذكر شيء من متعلقاته، كقوله (أحمد إليك فلانا) لاحظت فيه مع الحمد معنى الانهاء، ودللت عليهب ذكر صلته، أعني (إلى) أي أنهي حمده إليك. ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 686 - 686

وفائدة التضمين إعطاء مجموع المعنيين فالفعلان مقصودان معًا قصدًا وتبعًا" (¬1). وجاء في الكشاف في قوله تعالى: {ولا تعد عيناك عنهم} [الكهف: 28]، " يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره .. وإنما عدي بـ (عن) لتضمن (عدا) معنى (نبا) و (علا) في قولك نبت عنه عينه، وعلت عنه عينه، إذا اقتحمته ولم تعلق به. فإن قلت: أي غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل: ولا تعدهم عيناك، أو لا تعل عيناك عنهم قلت: الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم، ونحوه قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2]، أي ولا تضموها إليها آكلين لها (¬2). وجاء في (الخصائص): اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف، والآخر بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين، موقع صاحبه إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه وذلك كقول الله عز اسمه: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة: 187]، وأنت لا تقول رفثت إلى المرأة، وإنما تقول رفثت بها، لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الافضاء وكنت تعدي أفضيت بـ (إلى) كقولك (أفضيت إلى المرأة) جئت بـ (إلى) مع الرفث، إيذانا وإشعارا إنه بمعناه" (¬3). وجاء في (أمالي ابن الشجري) في قوله تعالى: {من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24]، أن الجاري على ألسنتهم ظفرت به وأظفرني الله به، ولكن جاء أظفركم عليهم محمولا على أظهركم عليهم (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية الجرجاني 1/ 97 (¬2) الكشاف 2/ 257 (¬3) الخصائص 2/ 308 (¬4) أمالي ابن الشجري 1/ 148

فللتضمين غرض بلاغي لطيف، وهو الجمع بين معنيين بأخصر أسلوب، وذلك بذكر فعل وذكر حرف جر يستعمل مع فعل آخر، فنكسب بذلك معنيين: معنى الفعل الأول ومعنى الفعل الثاني، وذلك نحو قوله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا} [الأنبياء: 77]، فقد ذهب قوم إلى أن (من) ههنا بمعنى (على)، وهذا فيه نظر، فإن هناك فرقا في المعنى بين قولك (نصره منه) و (نصره عليه) فالصر عليه يعني التمكن منه والاستعلاء عليه والغلبة، قال تعالى: {ويخزهم وينصركم عليهم} [التوبة 14]، وقال: {فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 286]، أي مكنا منهم، وليس هذا معنى نصره منه. أما (نصرناه منهم) فإنه بمعنى نجيناه منهم، أو منعناه منهم، قال تعالى: {ويقوم من ينصرني من الله إن طردتهم} [هود: 30]، فليس المعنى من ينصرني على الله، بل من ينجيني ويمنعني منه؟ وقد تقول: ما الفرق بين قولنا {ونجيناه من القوم} وقولنا {نصرناه من القوم} والجواب أن النتيجة تتعلق بالناجي فقط، فعندما تقول {نجيته منهم} كان المعنى أنك خلصته منهم، ولم تذكر أنك تعرضت للآخرين بشيء، كما تقول (أنجيته من الغرق) ولا تقول (نصرته من الغرق)، لأن الغرق ليس شيئا ينتصف منه. أما النصر منه ففيه جانبان في الغالب: جانب الناجي، وجانب الذين نجي منهم، فعندما تقول (نصرته منهم) كان المعنى أنك نجيته وعاقبت أولئك، أو أخذت له حقه منهم. وهذه فائدة التضمين ففيه كسب معنيين في تعبير واحد معنى الفعل المذكور والفعل والمحذوف الذي ذكر شيء من متعلقاته. وللتضمين صور أخرى، فقد يضمن فعل متعد معني فعل لازم كقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} [النور: 63]، فإن (خالف) فعل متعد يقال: (خالفت أمره) ولا يقال: (خالفت عن أمره)، ولكن ضمن معنى الابتعاد والخروج، والانحراف، كأنه قال: فليحذر الذين يبتعدون عن أمره، أو ينحرفون عن أمره.

وقد يضمن فعل لازم معنى فعل متعد، كقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح} [البقرة: 235]، لأن (عزم) فعل لازم، وقد ضمن معنى (ولا تنووا) (¬1). والعدول إلى طريقة ما في التعبير بأقصر طريق، ظاهرة من ظواهر العربية، من ذلك ما مر في المفعول المطلق من ذكر فعل وذكر مصدر فعل آخر، يلاقيه في الاشتقاق معه، كما في قوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا} [المزمل: 8]، فقد جمع معني: التبتل والتتيل، أي التدرج والكثرة في آن واحد، ومنه ما ذكرناه في قوله تعالى: {وادعوه خوفا وطمعا} [الأعراف: 56]، فقد كسبنا باستعمال المصدر بدلا من اسم الفاعل معنى الحالية، والمفعول لأجله، والمفعولية المطلقة، بخلاف ما لو قال (أدعوه خائفين) فإنه ليس فيه إلا معنى الحالية، كما مر ذكر ذلك مفصلا. أما من حيث قياسية التضمين وعدمها، فأمثل ما نذكره في هذا الباب قرار المجمع اللغوي القاهرى في دور انعقاده الأول وهو: " التضمين أن يؤدي فعل أو ما في معناه في التعبير مؤدي فعل آخر، أو ما في معناه فيعطي حكمه في التعدية واللزوم. ومجمع اللغة العربية يرى أنه قياسي لا سماعي، بشروط ثلاثة: الأول: تحقيق المناسبة بين الفعلين. الثاني: وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس. الثالث: ملاءمة التضمين للذوق العربي. ويوصي المجمع ألا يلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغي (¬2). ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي 2/ 302، المغنى 2/ 521 (¬2) النحو الوافي 2/ 463

معاني حروف الجر

معاني حروف الجر إلى الأصل في (إلى) أن تكون لإنتهاء الغاية تقول: (جئت إليك) أي نهاية مجيئي إليك. قال تعالى: {والأمر إليك} [النمل: 33]، أي منته إليك قال سيبويه: وأما إلى فمنتهى الابتداء الغاية تقول من كذا إلى كذا (¬1). وجاء في (المقتضب): " وأما إلى فإنما هي للمنتهى ألا ترى أنك تقول: ذهبت إلى زيد وسرت إلى عبد الله ووكلتك إلى الله" (¬2). وإذا دلت قرينة على عدم دخول ما بعدها فيما قبلها، كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187]، فإن الليل لا يدخل في الصيام، أو على الدخول كقولك (قرأت القرآن من أوله إلى آخره) فإنه آخر القرآن داخل في القراءة، وكقولك (صمت رمضان من أوله إلى آخره) فإن آخره داخل في الصيام فهو كذلك وإلا فإن الأكثر عدم دخول ما بعدها فيما قبلها، لأن الأكثر عدم الدخول فيما دلت عليه القرائن (¬3). جاء في (شرح الرضي على الكافية): " والأكثر عدم دخول حدي الابتداء والانتهاء في المحدود، فإذا قلت: اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع، فالموضوعات لا يدخلان ظاهرا في الشري، ويجوز دخولهما فيه مع القرينة" (¬4). وذكر النحاة لها معاني ترجع في حقيقتها إلى معنى الانتهاء منها: المعية: وقد جعلوا منها قوله تعالى: {من أنصاري إلى الله} [الصف: 14] ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 310 (¬2) المقتضب 4/ 139 (¬3) المغني 1/ 74 (¬4) شرح الرضي 2/ 359

والتحقيق إنها بمعنى الانتهاء، أي من يضيف نصرته إياي إلى نصرة الله (¬1). تقول: (من ينصرني إلى خالد) أي من يضيف نصرته إلى نصرة خالد، وهي قريبة المعنى من (من) غير أنها تختلف عنها، فأنت تقول (من ينصرني مع خالد) وقد تريد بذلك من يضيف نصرته إلى نصرة خالد، أي أن يتصاحبا في نصرته، أو تريد أن خالدا مطلوب أن ينصر معك، والمعنى من ينصرني وخالدا، أي من ينصرني وينصر خالدا؟ ويحتمل قولك (من ينصرني إلى خالد) معنى آخر هو (من ينصرني حتى أصل إلى خالد) كما تقول: (من ينجيني إلى خالد)؟ و (من يمنعني إلى خالد)؟ إي ينتهي المنع إلى خالد. وعلى هذا يكون معنى الآية: من أنصاري حتى ننتهي إلى الله؟ وتحتمل معنى آخر هو (من أنصاري في دعوتي إلى الله) وذكر انها تكون بمعنى (في) وجعلوا منه قوله: فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب. أي في الناس. قيل والأولى أن تكون على بابها على تضمين معنى مبغض إلى الناس. قيل: ولو صح مجيء (إلى) بمعنى (في) لجاز (زيد إلى الكوفة (¬2).) بمعنى في الكوفة. وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " والوجه أنها بمعناها وذلك لأن معنى (مطلي به القار أجرب) مكره مبغض، والتكريه يعدي بـ (إلى). قال تعالى: {وكره إليكم الكفر} [الحجرات: 7]، حملا على التحبيب المضمن معنى الإمالة، قال تعالى: {حبب إليكم الإيمان} [الحجرات: 7] (¬3). ¬

_ (¬1) شرح الدماميني على المغني 1/ 162، وانظر الخصائص 2/ 309 (¬2) الغني 1/ 75 (¬3) شرح الرضي 2/ 359

وهو أولى من الرأي الأول، فإن هناك فرقًا بين قولك: كأنني في الناس مطلي به القار أجرب)، وقولك (كأنني إلى الناس مطلي به القار أجرب) فـ (في) لا تدل إلا على أنه بينهم على هذه الحال، أما الثانية فمعناها أنني أبدو إليهم كأنني كذلك، وينظرون إلى كأنني كذلك، ففيها معنى النفرة. فأنت تقول (هي فيهن فحمة) بمعنى أنها بينهن كالفحمة وليس فيه أنهن يبغضنها، فإذا قلت: (هي إليهن فحمة) كان المعنى أنها تبدو لهن كالفحمة، أي يرينها غير جميلة، أو بمعنى أنها بالنسبة إليهن كالفحمة، أي إذا قيست إليهن كانت كالفحمة، وكذلك قولك (هي إليه شمس) أي تبدو إليه كذلك أي يراها جميلة أو على معنى أنها إذا قيست إليه كانت كالشمس. قيل وقد تأتي بمعنى (من) كقوله: تقول وقد عاليت بالكور فوقها ... أيسقي فلا يروى لي ابن أحمرا أي مني (¬1). وقيل بل المعنى (فلا يروى طوؤه إليّ) (¬2). أي يبقى ظامئا إليها فلا يروى، وهو أولى وذلك أنك تقول (هو لا يروى من هذا الماء) أي أنه لا يرويه بمعنى أنه مهما شرب منه فلا يزال غير مرتو. أما قولك (ولا يروى إلى هذا الماء) ففيه معنى الشوق إليه، تقول (هو لا يروي من ماء البحر) بمعنى أن ماء البحر لا يروى الظمآن، وأنه كلما شرب منه إزداد ظمأ وطلبا للماء، ولا تقول (هو لا يروى إلى ماء البحر) لأن المعنى عند ذاك يكون: هو لهِفٌ إلى هذا الماء متشوق إليه، لا ينقطع ظمؤه إليه ولا لهفته له. وأصل المعنى هو الانتهاء، تقول (ملت إليه) و (ملت منه) ففي الأول يكون المعنى نهاية الميل إليه أي أحببته، وتقول (ملت إلى هذا المكان) أي عرجت عليه. أما (ملت منه) فمعناه أن مبتدأ الميل كان منه، وملت عنه أي انحرفت عنه ¬

_ (¬1) المغني 1/ 75 (¬2) شرح الدماميني على المغنى 1/ 163

الباء

وتقول (ظمئت إليه) أي كان الظمأ منتهيا إليه بمعنى أردته. وتقول: (لا أظمأ إليه) أي أريده و (لا أظمأ منه) أي يأتي منه ظمأ إلي كما تقول: أنا لا أظمأ من الطعام الملح، ولا أظمأ من السمك، أي لا يكون سببا في ظمئي وهكذا بقية معاني هذا الحرف، فإنها لا تكون تخرج عن معنى الانتهاء والأولى كما ذكرنا إبقاء الحرف على اصل معناه ما أمكن. الباء معنى الباء الرئيس هو الالصاق، وما ذكر لها من معاني أخرى تحمل هذا المعنى، قال سيبويه: " وباء الجر إنما هي للالزاق والاختلاط، وذلك قولك خرجت بزيد ودخلت به وضربته بالسوط، ألزقت ضربك إياه بالسوط. فما اتسع من هذا في الكلام فهذا أصله (¬1). قيل: ولا يفارقها هذا المعنى (¬2). والالصاق حقيقي ومجازي، فمن الالصاق الحقيقي. قولك (أمسكت بمحمد) " إذا قبضت على شيء من جسمه، أو على ما يحبسه من يد، أو ثوب، أو نحوه. ولو قلت (أمسكته) احتمل ذلك، وأن تكون منعته من التصرف (¬3). ومنه قولك تعلقت به، وتشبثت به، والتصقت به. ومن الالصاق المجازي قولك (بخل به) أي إلتصق بخله به، وتعلق به إذا كان التعلق معنويا، ورأفت به أي ألتصقت رأفتك به ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 304 (¬2) المغني 1/ 101 (¬3) المغني 1/ 101، شرح ابن يعيش 2/ 22

ومن التوسع في الالصاق قولك (مررت به) بمعنى الصقت مروري بمكان يقرب منه (¬1). وليس على معنى انك الصقت نفسك به في مرورك، قال تعالى: {وإذا مروا بهم يتغامزون} [المطففين: 30]، أي قريبًا منهم. ومن معانيها الاستعانة، نحو قطعت بالسكين وكتبت القلم (¬2). ومنه قوله تعالى: {واستعيوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]، وفيها معنى الالصاق كما هو بين. ومنها المصاحبة، ، كقوله تعالى: {دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} [المائدة: 61]، واشترى الدار بآلاتها، وفيها معنى الالصاق والاختلاط ومن قوله تعالى: {اهبط بسلام} [هود: 48] (¬3). قالوا وللتعدية نحو ذهبت به، ودخلت به، وخرجت به، قالوا هي في معنى أذهبته وأدخلته، وأخرجته (¬4). وذهب قوم إلى أن بين التعديتين فرقا فإنك إذا قلت (ذهبت بزيد) كنت مصاحبا له في الذهاب (¬5). جاء في الكشاف: " فإن قلت: أي فرق بين تعدية (ذهب) بالباء وبينها بالهمزة؟ قلت: إذا عدي بالباء فمعناه الأخذ والاستصحاب، كقوله تعالى: {فلما ذهبوا به} [يوسف: 15]، وأما الأذهاب فكا لإزالة" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 101 (¬2) الأصول 1/ 53، المقتضب 1/ 39، شرح ابن يعيش 2/ 22 (¬3) المغنى 1/ 103، شرح الرضي 2/ 363، شرح ابن يعيش 2/ 22 (¬4) المغنى 1/ 102 (¬5) المغني 1/ 102 (¬6) الكشاف 1/ 388، وانظر التفسير الكبير 2/ 76

وهو الصواب فيما نرى، فإنك إذا قلت (أدخلت محمدا على الأمير) جاز أنك دخلت معه وجاز أنك لم تدخل معه، وأما قولك: (دخلت به) ففيها معنى المصاحبة، ومنه قول الأستاذ (أدخلت الطالب الصف) أو (أخرجته منه) فهو يحتمل الدخول معه، وعدم الدخول، وأما قولك (دخلت به) و (خرجت به)، فليس فيه إلا معنى المصاحبة. ومنها الظرفية (¬1). كقوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} [البلد: 1 - 2]، وقوله: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} [الأنفال: 42]، وقوله: {ومن هو مستخف بالليل وسارب النهار} [الرعد: 10]، وقوله: {إنك بالواد المقدس طوى} [طه: 12]، وقوله: {نجيناهم بسحر} [القمر: 34]. وفيها معنى الالصاق كما سنوضح ذلك في الفرق بين ظرفيه الباء وظرفيه (في). ومنها المقابلة، والعوض، كقوله تعالى: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة: 61]، ونحو (اشتريته به) و (بدلته به)، وقوله تعالى: {اشتروا الحياة الدينا بالآخرة} [البقرة: 86]، واشتريته بألف (¬2). وتكون الباء مع الذاهب، وفيها معنى الالصاق كأن الذي هو خير كان معهم فأخذوا مكانه الذي هو أدنى، ونحوه قولك (اشتريته بمائة) فالثمن كان معك فدفعته وأخذت بدله ما اشتريته، وقوله تعالى: {اشتروا الحياة الدينا بالآخرة} [البقرة: 86]، فكان الآخرة كانت معهم قريبة منهم، وفي متناول أيديهم، ولكن أعطوها واشتروا بها الدنيا، وفيها كلها معنى الالصاق واضح. ومنها البدل كقوله: فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانًا وركبانا ¬

_ (¬1) المغني 1/ 104، شرح الرضي على الكافية 2/ 363 (¬2) المغني 1/ 104، شرح الرضي 2/ 363

وقوله صلى الله عليه وسلم: ما يسرني بها حمر النعم " أي بدلها (¬1). وهو قريب من المعنى السابق. ومنها السببية، كقوله تعالى: {إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} [البقرة: 54] (¬2).، وقوله: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 13]، وسنبحث معنى السببية بالباء واللام وغيرهما في مكان لاحق من هذا الباب. قالوا ومن معانيها المجاوزة، كـ (عن) وجعلوا منه قوله: {سأل سائل بعذاب واقع} [المعارج: 1]، بدليل قوله تعالى: {يسئلون عن أنبائكم} [الأحزاب: 20]، قوله: {الرحمن فسئل به خبيرا} [الفرقان: 59]. جاء في (المخصص): " فمهما رأيت الباء بعدما سألت، أو ساءلت، أو ما تصرف منهما فاعلم أنها موضوعة موضع عن (¬3). وجعلوا منه في غير السؤال قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} [الحديد: 12]، وقوله: {ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25] (¬4). وأنكر البصريون هذا المعنى. أما ما قاله صاحب المخصص من أن كل باء بعد سأل وما تصرف منه بمعنى (عن) ففيه نظر، فقوله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع} [المعارج: 1]، ليس بمعنى عن عذاب، فهناك فرق بين سأل به وسأل عنه، ولا مجال للاستدلال بقوله تعالى: {يسئلون عن أنبائكم} [الأحزاب: 20] و {يسئلونك عن الساعة} [النازعات: 42]، ونحو ذلك فإن المعنى مختلف. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 104 (¬2) المغنى 1/ 103 (¬3) المخصص 14/ 65 (¬4) انظر المغني 1/ 104، شرح ابن عقيل 1/ 131، الهمع 2/ 22

فإن السائل في قوله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع} لم يأل عن العذاب وموعده كما سأل عن الساعة وعن الأنباء، وسبب نزول الآية أن النضر بن الحارث قال: {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] (¬1). فأنزل الله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع} أي دعا بالعذاب لنفسه، وطلبه لها، ولم يسأل عن العذاب وموعده، فـ (سأل به) معناه (دعا به وطلبه) جاء في (الكشاف) في هذه الأية: " ضمن (سأل) معنى (دعا) فعدي تعديته كأنه قيل دعا داع بعذاب واقع من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى: {يدعون فيها بكل فاكهة} [الدخان: 55] (¬2). وأما سأل عنه فمعناه بحث عنه، جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {الرحمن فسئل به خبيرا} [الفرقان: 59]، " فسأل به كقوله اهتم به واعتني به واشتغل به، وسأل عنه كقلك بحث عنه وفتش عنه ونقر عنه" (¬3). وأما قوله تعالى: {الرحمن فسئل به خبيرا} فيحتمل ان المعنى فاسأل خبيرا به، أي سل " عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته" (¬4). وأما قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيدهم وبأيمانهم} فليس على معنى المجاوزة والله أعلم لأن معنى (عن ايمانهم) مبتعد عن أيمانهم، وليس هناك دليل عليه في هذه الآية، بل الأقرب أن النور قريب من اليمين أو مختلط باليمين، لا مبتعد عنها، كما في قوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى} [طه: 17]. وأما قوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمم} [الفرقان: 25]، فليس على المجاوزة أيضا والله أعلم، فإن هناك فرقا بين قولك (انشقت التربة عن النبتة) و (انشقت التربة بالنبتة) ¬

_ (¬1) الكشاف 3/ 267 (¬2) الكشاف 3/ 267 (¬3) الكشاف 2/ 413 (¬4) الكشاف 2/ 413

فمعنى الأول، أنها انكشفت عن النبتة، ومعنى الثاني أنها انشقت بسببها، قال تعالى: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعا} [ق: 44]، أي تنكشف عنهم فإنهم كانوا تحتها فتشق عنهم، وليس ذلك معنى (تشقق بهم) فأنت إذا قلت (تشقق بهم) فهو إما بسببهم، وأما أن تنشق وهم بها، تقول (أنشقت به الأرض)، و (انشقت عنه الأرض) فانشقت عنه إذا كان تحتها، وانشقت به إذا كان عليها، فقولك (تشقق السماء عن الغمام) معناه: أن الغمام كان داخلا في السماء، وكانت السماء تعطيه وتحجبه، كما تقول (انشقت عنه الأرض) وأما قولك (انشقت به السماء) فمعناه أن الغمام عليها وتتشقق بوجوده، كما تقول انشقت به الأرض، والمعنى - والله أعلم - أنها تشقق ممتلئة بالغمام، وذهب الزمخشري إلى أنها بمنزلتها في شققت السنام بالشفرة على ان الغمام جعل كالآلة التي يشق بها (¬1). والمعنى ما ذكرته والله أعلم. قالوا وتكون بمعنى على وجعلوا منه قوله تعالى: {من إن تأمنه بقنطار} [آل عمران: 75]، بدليل قوله تعالى: {هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل} [يوسف: 64]، وقول الشاعر: أرب يبول الثعلبان برأسه. بدليل تمامه: لقد هان من بالت عليه الثعالب (¬2). والحق أن المعنى مختلف، فقولك (امنته به) يختلف عن قولك (امنته عليه) فقولك (لا آمنه عليك)، معناه لا آمنه أن يحيف عليك أو يهجم عليك أو يتعدى عليك وما إلى ذلك ففيه معنى الاستعلاء والتسلط والعدوان. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 104، وانظر الكشاف 2/ 406 (¬2) المغني 1/ 140 - 105

وأما قولك (لا آمنه بدرهم) فمعناه لا آمنه من أن يتصرف به، أو يعبث به، لأن (على) تفيد الاستعلاء، و (الباء) تفيد الالصاق، والمعنى انه لا يلتصق أمنه بدرهم، بل ستفارقه أمانته ويتصرف به. فأمنه عليه تستعمل للهجوم والاعتداء، وأمنه به تستعمل للتصرف كما ذكرنا، تقول: لا آمن عليك الذئاب، ولا آمن غوائل الطريق، ولا تقول: لا آمن بك الذئاب. ولذلك - والله أعلم - استعمل القرآن (أمنه عليه) مع الأشخاص، و (أمنه به) مع الأمواللأ. فقال: {قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف} [يوسف: 11]، وقال: {هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل} [يوسف: 64]، وقال في الأموال: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقناطر يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} [آل عمران: 75]، لأن في الأولى معنى العدوان، وفي الثانية معنى التصرف، وإن كان يجوز أن يقال (لا آمنه على هذا المال) بمعنى التسلط عليه والاستحواذ، وقيل إن معنى قولك أمنتك بدينار، أي وثقت بك فيه، وقولك: (أمنت عليه) أي جعلتك أمينا عليه، وحافظًا له" (¬1). وأما البيت فإنه كما ذكرنا قد يوقع الشاعر حرفا موقع حرف آخرـ ومع ذلك فالمعنى محتمل المغايرة فقوله: (أرب يبول الثعلبان برأسه) كأنه جعل رأسه وعاء بال فيه. وقوله: (لقد هان من بالت عليه الثعالب) معناه: من علته الثعالب ببولها من فوق إلى أسفل فكسته إياه. قالوا وللتبعيض بمعنى (من) وجعلوا منه قوله تعالى: {عينا يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6] (¬2).، أي منها، وقيل بل ضمن شرب معنى روي (¬3). ¬

_ (¬1) التفسير الكبير 8/ 100 (¬2) المغني 1/ 105، الهمع 2/ 21 (¬3) المغني 1/ 105

وفيها معنى آخر، وهو أن الباء تفيد الالصاق، فقولك (يشربون بالعين) معناه أنهم يكونون بها، كما تقول (أقمنا بالعين وأكلنا وشربنا بها) أي هم قريبون من العين يشربون منها، بخلاف قولك (يشربون منها) فإنه ليس فيه نص على معنى القرب من العين، فقولك (اكلت من تفاح بستانك) لا يدل دلالة قاطعة على أنك كنت بالبستان، بل ربما حمل إليك. فقوله (يشرب بها) يدل على أنهم نازلون بالعين، يشربون منها، فهو يدل على القرب والشرب، فالتمتع حاصل بلذتي النظر والشراب بخلاف الأولى، جاء في (البرهان) أن " العين ههنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء لا إلى الماء نفسه نحو (نزلت بعين) فصار كقوله: مكانا يشرب به" (¬1). قالوا: وقد تأتي للغاية بمعنى إلى، نحو قوله تعالى: {وقد أحسن بي} [يوسف: 100]، قالوا: هي بمعنى إلي، وقيل بل ضمن (أحسن) معنى (لطف) أي لطف بي (¬2). وثمة فرق بين أحسن إليه، وأحسن به، فإن معنى (أحسن إليه) قدم إليه إحسانا، أو صنع له إحسانا، أما (أحسن به) فمعناه وضع إحسانه به، ومن ذلك أنك تقول: أحسنت بهذا الأمر وأحسنت بعملك أي الصقت إحسانك بعملك ووضعته به، ولا تقول: أحسنت إلى عملك، ولا أحسنت إلى هذا الأمر إلا على معنى آخر، وهو أنك قدمت إليه إحسانا وهو معنى مجازي. فإن الإحسان في (أحسن به) ألصق إذ إن فيه معنى الرعاية واللطف، قال تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} [القصص: 77]، وقال على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: {وقد أحسن بي} [يوسف: 100]، ففي الثانية إحسان خاص يختلف عن الأول، فإن الآية الأولى في عموم الخلق، وإحسان الله إلى الخلق إحسان عام يشترك فيه سيدنا يوسف ¬

_ (¬1) البرهان 3/ 338 - 339 (¬2) المغنى 1/ 106

وبقية الخلق، أما قوله: (وقد أحسن بي) فإن فيه إحسانا خالصا ألصق من الأول إذ أخرجه من السجن وبوأه مكانة عالية وجاء إليه بأهله وما إلى ذلك من العناية الربانية واللطف. وتأتي للقسم قال تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم} [الواقعة: 75]، وللقسم موضع خاص به نبحثه فيه بإذن الله. وتأتي للتجرد نحو قولهم (رأيت بمحمدٍ أسدًا) قالوا: أي برؤيته (¬1). جاء في (جواهر الأدب) أن الباء تأتي للتجريد وهي التي تثبت لمدخولها صفة عظيمة، أما مدخا أو ذما نحو (لقتي بزيد بحرا) وبعمرو أسدًا وبخالد سفيها، ومنه قوله: لقيت به يوم العريكة فارسا ... على أدهم كالليل صبحه الفجر كأن الباء تجرد مصحوبها عن غير هذه الصفة، مثبتة لها إياها كأنه منطبع، ومنجبل عليها أي ليست صفته إلا البحرية في الجود، والفروسية في الشجاعة " (¬2). وفي (شرح الدماميني على المغنى): أن في باء التجريد قولين أحدهما أنها للسبية كما قال المصنف فجردت من زيد أسدًا مبالغة في كمال شجاعته، حيث بلغ أن ينتزع منه أسد .. والثاني أنها للظرفية، أي لقيت في زيد الأسد كذا قال الشيخ بهاء الدين السبكي قلت وقد عدوا مثل قوله: وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغي ... بمستلئم مثل العتيق المرجل من التجريد والباء فيه للمصاحبة. (¬3). وكونها للظرفية أظهر فيما يبدو لي، وذلك أن قولك (رأيت بخالد أسدًا) معناه حل به أسد، كما تقول حل بالمكان ونزل به، فقد جردت خالدًا من شخصه وجعلت بدله أسدًا، وهي على معنى الالصاق. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 363 (¬2) جواهر الأدب 19 (¬3) شرح الدماميني على المغني 1/ 216

وتأتي زائدة وذكروا لها مواطن، ومن مواطن زيادتها، زيادتها في: فاعل فعل التعجب، نحو: أكرم بخالد، وهذه فيها خلاف، ومواطنها التعجب وستبحث في موطنها. ومنها زيادتها في فاعل (كفى) نحو: {وكفي بالله شهيدًا} [النساء: 79]، و {وكفي بالله حسيبا} [الأحزاب: 39]، وهذه الزيادة غالبة، قال الزجاج: " دخلت لتضمن كفى معنى اكتفن وهو من الحسن بمكان .. ويوجب قولهم: (كفى بهند) بترك التاء .. ولا تزاد في فاعل كفى التي بمعنى أجزأ، أو أغنى، ولا التي بمعنى وقى. والأولى متعدية لواحد كقوله: قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل والثانية متعدية لاثنين، كقوله تعالى: {وكفي الله المؤمنين القتال} [الأحزاب: 25] {فسيكفيكهم الله} [البقرة: 137] (¬1). وعلى هذا هي لا تزاد في فاعل كفى باطراد، فلا تزاد في نحو قولك (يكفيني قليل من الماء) ولا في نحو (كفاني محمد هذا الأمر) ولا نحو (كفاك علم محمد) وإنما تزاد لتضمن كفى معنى اكتف، كما قال الزجاج على معنى هو يكفيك عن غيره. واكثر ما يكون ذلك لدلالة على التعجب، نحو (كفي به فارسا)، و (كفى به شاعرًا) والتعجب قد يؤتي معه بالباء نحو: أكرم به ونحو: ناهيك به رجلا، بمعنى هو يكفيك عن غيره، وللمدح والذم نحو: (كفاك به رجلا) وفيه معنى التعجب، جاء في معاني القرآن للفراء: وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه، ألا ترى أنك تقول: كفاك به، ونهاك به، وأكرم به رجلا وبئس به رجلا، ونعم به رجلا، وطاب بطعامك طعاما، وجاد بثوبك ثوبا، ولو لم يكن مدحا أو ذما لم يجز دخولها، ألا ترى أن الذي يقول: قام أخوك أو قعد أخوك لا يجوز له أن يقول: ¬

_ (¬1) المغني 1/ 106 - 107

قام بأخيك ولا قعد بأخيك إلا أن يريد قام به غيره وقعد به" (¬1). وزيدت في مفعول كفى للدلالة على هذه المعاني، نحو (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع) أي ليكتف بهذا الاثم وكقول الشاعر: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكون أمانيا ومن مواطن زيادتها زيادتها في المبتدأ، وذلك نحو (ناهيك بمحمد) فـ (محمد) مبتدأ والمعنى: ينهاك محمد على طلب غيره لما فيه من الكفاية. جاء في (حاشية التصريح): " قال الدنوشري: من المبتدأ المقرون بالحرف الزائد قولهم (ناهيك بزيد) فزيد مبتدأ مؤخر، وناهيك خبر مقدم، والمعنى أن زيدًا ناهيك عن غيره لما فيه من الكفاية (¬2). وهذا المعنى قريب من المعنى السابق الذي ذكرناه في كفى قالوا: ومن زيادتها في المبتدأ، نحو قولهم: خرجت فإذا بمحمد، وهو المبتدأ الواقع بعد إذا الفجائية (¬3). والحق أنها ليست زائدة، وليس دخولها كخروجها، فهناك فرق بين قولك (خرجت وإذا بمحمد) وقولك (خرجت وإذا محمد)، وقولك (خرجت وإذا بأخيك يركض) و (خرجت وإذا أخوك يركض). فإن أصل الجملة الأولى فيما ارى: خرجت وإذا أنا بمحمد، وخرجت وإذا أنا بأخيك يركض، فهي ليست زائدة، والخبر محذوف، وتقدير الكلام: وإذا أنا أُبصر بمحمد أو بأخيك، أو افجأ به، أو ملتق به ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) معاني القرآن 2/ 119 - 120 (¬2) حاشية التصريح 1/ 156 (¬3) المغني 1/ 109

وتقول: (خرجت وإذا بدوي عظيم) تقدير الكلام، وإذا أنا بدوي، والخبر محذوف وتقديره وإذا أنا افجأ بدوي، أو محس بدوي، ونحو ذلك. جاء في (التطور النحوي): " وقد يدخل على الاسم التالي لا ذا الباء نحو (بينما هو يسير إذا برهج) ومعنى الباء هنا يتضح من مثل (فلما توسطت الدرب، إذا أنا بصوت عظيم) أي أنا شاعر بصوت عظيم، غير أنه لا لزوم لتقدير ضمير في (إذا برهج) بل معناه إذا شعور برهج، فهي من أشباه الجملة أيضا، ليست جملة كاملة" (¬1). قالوا ومنها زيادتها في المبتدأ الواقع بعد (كيف)، نحو: كيف بك إذا كان كذا (¬2). وعلى هذا يكون المعنى: كيف أنت؟ والحق أنها ليست زائدة أيضا، تقول: كيف بك إذا نجح الطلاب وأنت راسب؟ وتقدير الكلام: كيف تبصر بنفسك، وكيف تحس بنفسك، وكيف تشعر بنفسك، وكيف يبلغ بك الأمر، وما إلى ذلك من معان، ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول: كيف بك؟ وتسكيت حتى تذكر أمرًا بعده، في حين تقول: كيف أنت؟ وتسكت. فالمعنى مختلف وهي ليست زائدة. جاء في (التطور النحوي): " ومن الروابط بين المبتدأ والخبر الباء، وهي تلحق بالخبر وأكثر ذلك عند النفي، نحو {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]، وقد تلحق بالمبتدأ نحو كيف به، أي كيف هو، غير أن بين الاثنين فرقا والتقدير الأقرب إلى معنى (كيف به) هو كيف به الحال، فيظهر أن (كيف به) ليست في الأصل بجملة إسمية كاملة مبتدؤها ضمير الغائب، بل هي من أشباه الجمل المذكورة آنفا (¬3). ومنها زيادتها في الخبر المنفي، نحو (ما أخوك بحاضر)، و {أليس الله بكاف عبده} [الزمر: 36]، وهي تفيد توكيد النفي، وقد مر ذكرها في (كان وأخواتها). ¬

_ (¬1) التطور النحوي 82 (¬2) المغني 1/ 109 (¬3) التطور النحوي 89

ومنها زيادتها في التوكيد بالنفس والعين (¬1).، تقول: أقبل محمد نفسه، وأقبل محمد بنفسه، ولها دلالة لا تظهر في الحذف تقول (أقبل الرجل نفسه)، و (أقبل الرجل نفسه) فقولك (أقبل الرجل نفسه) معناه أنه هو الذي جاء وليس غيره، وأما قولك (أقبل الرجل بنفسه) فهو - وإن كان فيه الدلالة على أنه هو الذي جاء - يحمل معنى آخر وهو أنه لم ينب أحدًا عنه وقد كان متوقعًا أن ينيب عنه أحد غلمانه مثلا، ففيه معنى الاهتمام والتعظيم للرجل. وتقول (فعليه رئيس النجارين بنفسه) على معنى أنه لم يكلف أحد صناعه، ففيه الدلالة على الاهتمام والتعظيم. وتقول (جاءني الأمير نفسه) و (جاءني الأمير بنفسه) وتقول (لا أفعله حتى يأتي سعيد بنفسه) وذلك إذا كان يندر حضوره، بأن تكون له منزلة ومكانة، أو لغير ذلك، أو لأن الأمر مهم يستدعي حضوره بنفسه. وعلى هذا فالباء يؤتى بها للاهتمام والتعظيم، فقولك (اشتريت السوار بنفسي) فيه الدلالة على تعظيمك الأمر والاهتمام به. ونستعمل معها في العامية تعبيرات أخرى تحمل الدلالة نفسها، فنقول مثلا: (لا أفعله حتى يأتي برجله) وفيها كلها معنى الاهتمام، وأحسبها في الفصيحة كذلك. وسيأتي في شأنها مزيد بحث في باب التوكيد إن شاء الله. ومنها زيادتها في المفعول، نحو قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]، وقيل بل ضمن (تلقوا) معنى (تفضوا) وقيل: " المراد (ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم) فحذف المفعول به، والباء للآلة، كما في قولك (كتبت بالقلم)، أو المراد بسبب أيديكم، كما يقال لا تفسد أمرك برأيك (¬2). ¬

_ (¬1) المغني 1/ 110 - 111 (¬2) المغني 1/ 109

وكل ذلك أولى من جعلها زائدة. قيل: " وتزاد قياسًا في مفعول علمت، وعرفت وجهلت وسمعت، وتيقنت، وأحسست وقولهم (سمعت بزيد وعلمت به) أي بحال زيد على حذف المضاف (¬1). قيل ومنه قوله تعالى: {ألم يعلم بأن الله يرى} [العلق: 14]، قالوا: الباء فيه زائدة لقوله تعالى {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} [النور: 25] (¬2). والصواب أن هناك فرقا بين قولك علمته، وعلمت به، فقولك (علمته) معنى علمت الأمر بنفسه، أما (علمت به) فالمعنى علمت بحاله، فقوله تعالى: {ألم يعلم بأن الله يرى} لا يطابق (ألم يعلم أن الله يرى) فمعنى الثانية ألم يعلم رؤية الله، ومعنى الأولى ألم يعلم بهذا الأمر؟ ألم يخبر به؟ ألم يسمع بهذا الأمر سماع علم ونحو ذلك. جاء في (درة التنزيل) للخطيب الإسكافي في قوله تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [الأنعام: 117]، وقوله: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [القلم: 7]. للسائل أن يسأل عن الفرق بين اللفظين وحذف الباء وإثباتها، وهل كان يصح اللفظ الذي ههنا، هناك، وإن الذي هناك هنا.؟ والجواب أن يقالأ: إن مكان كل واحد يقتضي ما وقع فيه، وبين اللفظين فرق في المعنى يوجب اختصاص اللفظ الذي جاء له، فقوله (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) معناه: الله يعلم أي المأمورين يضل عن سبيله، أزيد ام عمرو؟ وهذا المعنى يقتضي ما تقدم هذه الآية وما جاء بعدها مما تعلق بها، فالذي قبلها: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116]، أي: إن تطع الكفار يضلوك عن طاعة الله وعبادته. ثم أخبر أنه يعلم من الذي يغوونه ويضلونه، ومن الذي لا يتمكنون من إضلاله .. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 363 (¬2) شرح ابن يعيش 8/ 24

التاء

وأما قوله: {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله} فمعناه عني معنى ما في الآية الأولى أي: الله أعلم بأحوال من ضل كيف كان ابتداء ضلاله، وما يكون من مآله أيصر على باطله، أم يرجع عنه إلى حقه (¬1). وعلى هذا فهي ليست زائدة تؤدي معنى زئدا، فقولك (عرفت أخاك) يختلف عن قولك (عرفت بأخيك) فعرفت أخاك معناه عرفت شخصه أو حقيقته. و(عرفت بأخيك) معناه أنك عرفت حاله، كأن يكون هناك أمر حصل له من ربح أو خسارة أو مرض أو تقدم وما إلى ذلك، وليس معناه أنك عرفت شخصه. وكذلك قولك (سمعته) و (سمعت به) فقولك (سمعت خالدا) يتعلق بالمسموع من صوته وحركته، وأما (سمعت به) فمعناه أنك سمعت بحاله من تقدم وتأخر، أو كسب وخسارة أو هدى وضلال، وما إلى ذلك. وهكذا بقية ما يذكره النحاة، والأصل أنه أدى إذا الحرف معنى زائدًا لا يفهم من حذفه فليس زائدًا. التاء التاء حرف قسم وهو مختص بلفظ الله تعالى، ولا يكاد يذكر مع غيره إلا نادرًا، قال تعالى {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57]، وقال: {تالله تفتؤا تذكر يوسف} [يوسف: 85]، وفيها معنى التعجب، جاء في (الكتاب): " والحلف توكيد وقد تقول تالله وفيها معنى التعجب" (¬2). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض} [يوسف: 73]، " تالله قسم فيه معنى التعجب، مما أضيف إليهم" (¬3). ¬

_ (¬1) درة التنزيل 128 - 129 (¬2) كتاب سيبويه 2/ 144، وانظر المقتضب 4/ 175، وشرح ابن يعيش 8/ 34 (¬3) الكشاف 2/ 147

حتى

وجاء فيه في قوله تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57]: " إن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده، وتأتيه، لأن ذلك كان امرًا مقنوطا منه لصعوبته وتعذره" (¬1). وللقسم موطن خاص يعالج فيه بإذن الله حتى حتى حرف غاية وتكون حرف جر، ومجرورها على ضربين: الضرب الأول: أن يكون مجرورها داخلا في حكم ما قبلها، أي يكون مشاركًا لما قبلها في الحك، كقولك (ضربت القوم حتى خالد) فخالد مضروب، وكقولك (قرأت القرآن حتى سورة الناس) فسورة الناس مقروءة، وهي هنا بمعنى العاطفة، ولذا يصح العطف بها فتقول (ضربت القوم حتى خالدًا) و (قرأت القرآن حتى سورة الناس) بالنصب. والضرب الثاني: أن لا يكون مجرورها داخلا في حكم ما قبلها، بل ينتهي الأمر عنده كأن تقول (صمت رمضان حتى يوم الفطر) فيوم الفطر ليس داخلا في الصوم، بل انتهى الأمر عنده، وهذا الضرب لا يجوز فيه العطف، فلا تقول (صمت رمضان حتى يوم الفطر) لأنه لم يشاركه في الحكم فكيف تعطفه عليه (¬2). وأكثر ما يكون مجرورها مذكورا لتحقير أو تعظيم، أو قوة أضعف، فقولك مثلا (ضربت القوم حتى خالد) لابد فيه أن يكون خالد أرفعهم أو أوضعهم، وإلا فلا معنى لذكره، جاء في (الأصول) وإنما يذكر - يعني مجرورها - لتحقير أو تعظيم، أو قوة أو ضعف، وذلك قولك (ضربت القوم حتى زيد) فزيد من القوم وانتهى الضرب به، فهو مضروب مفعول، ولا يخلو أن يكون أحقر من ضربت، أو أعظمهم شأنا، وإلا فلا معنى لذكره (¬3). ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 331 (¬2) انظر الأصول 1/ 516 - 519 (¬3) الأصول 1/ 516، وانظر شرح ابن يعيش 8/ 16

فإن لم يكن مجرورها كذلك، أي لا يفيد تعظيما أو تحقيرًا وجب كونه آخر الاجزاء حسا أو ملاقيًا له (¬1).، وذلك قولك (قرأت القرآن حتى سورة الناس) فسورة الناس آخر القرآن وهي آخر ما قرأ، و (صمت رمضان حتى يوم الفطر) يوم الفطر ملاق للآخر. وهي حرف غاية، إلا ان استعمالها في الغاية يختلف عن (إلى) فإن (إلى) أمكن (¬2). في الغاية من (حتى) وأعم، وإيضاح ذلك أن (إلى) تستعمل لعموم الغايات، سواء كانت آخر جزء من الشيء أم لا، فتقول: (نمت إلى آخر الليل، ونمت إلى الصباح، ونمت إلى ثلث الليل، ونمت إلى منتصب الليل) وقرأت الكتاب إلى آخره، وقرأته إلى نصفه، وقراته إلى ثلثه). وأما (حتى) فلا تستعمل إلا لما كان آخرا أو متصلا به، فتقول: (نمت حتى آخر الليل) و (نمت حتى الصباح) لأن آخر الليل هو آخر جزء من الليل، والصباح ملاق لآخره، أي متصل بآخره، ولا يجوز أن تقلو (نمت حتى منتصف الليل) و (نمت حتى ثلثه) لأن منتصف الليل ليس آخر الليل وكذلك ثلثه. فـ (حتى) تستعمل غاية لآخر الأمر، ولفظها يوحي بهذا المعنى، فإن لفظها يبدو أنها من (الحت) ومعنى (الحت) الاستئصال والإزالة والخلوص إلى النهاية، أي الوصول إلى نهاية الأمر، جاء في (لسان العرب) الحت فركك الشيء اليابس عن الثوب ونحوه، يحته حتا فركه وقشره فانحت وتحات .. وفي الحديث أنه قال لامرأة سألته عن الدم يصيب ثوبها فقال: حتيه ولو بضلع، معناه حكيه وأزيليه .. والحت والقشر سواء .. قال شمر: (تركتهم حتا فتا بتا) إذا استأصلتهم .. وحت الله ما له حتا، أذهبه فأفقره على المثل .. وقال بعضهم: (حتى) (فَعْلَى) من الحتّ وهو الفراغ من الشيء، مثل (شتى) من الشت. قال الأزهري: وليس هذا القول مما يعرج عليه، لأنها لو كانت فعلى من الحت كانت الإمالة جائزة، ولكنها حرف أداة، وليست باسم ولا فعل. ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 361 (¬2) الهمع 2/ 22

وقال الجوهري: حتى فعلى (¬1). أما قول الأزهري أنها لو كانت (فَعلى) من الحث كانت الأمالة جائزة فهو مردود، فإن أمالتها محكية (¬2).، ويمكن أن يقال إنها أخذت من الحت فجمدتـ، فكانت حرفا أو كالحرف فلا تمال، وواضح أن بين اللفظتين (حتى) والحت تقاربا لفظيا ومعنويا. ويترجح عندي أنها من لفظ الحث ثم جمدت، مثل على اصلها من لفظ العلو ثم جمدت. والاختلاف الآخر بين استعمال (إلى) و (حتى) في الغاية، أن (حتى) تفيد تقضي الفعل قبلها شيئا فشيئا إلى الغاية - وهذا معنى الحت - و (إلى) ليست كذلك ولذا يجوز أن تقول (كتبت إلى زيد) ولا يجوز أن تقول: (كتبت حتى زيد) (¬3)، لأن الكتابة لا تنقضي شيئا فشيئا حتى تصل إلى زيد، ويقال: أنا إلى عمرو ولا يقال: أنا حتى عمرو، لما ذكرنا (¬4). والاختلاف الآخر بينهما أن (حتى) لا يقابل بها ابتداء الغاية، يقال (سرت من البصرة حتى الكوفة) بل يقال: إلى الكوفة، قالوا: وذلك لضعف (حتى) في الغاية (¬5). فـ (إلى) أوسع وأعم في استعمال الغاية من (حتى) ولذا تستعمل في عموم الغايات بخلاف (حتى). جاء في (كتاب سيبويه): ويقول الرجل: إنما أنا إليك، أي أنما أنت غايتي ولا تكون (حتى) ههنا فهذا أمر (إلى) وأصله وإن اتسعت. وهي أعم في الكلام من (حتى) تقول: (قمت إليه) فجعلته منتهاك من مكانك ولا تقول: حتاه (¬6). ¬

_ (¬1) لسان العرب 2/ 326 - 328 (¬2) الهمع 2/ 23، شرح الأشموني 4/ 232، حاشية الخضري 2/ 182 (¬3) المغنى 1/ 124، وانظر الهمع 2/ 22 (¬4) المغنى 1/ 124 (¬5) المغنى 1/ 124، الهمع 2/ 22، 23 (¬6) كتاب سيبويه: 2/ 310

رب

أما دخول ما بعدها في حكم ما قبلها فالأكثر فيه الدخول إلا إذا كانت هناك قرينة تدل على خلاف ذلك (¬1). فقولك (أكلت السمكة حتى رأسها) الرأس مأكول، وقولك (أنه ليصوم الأيام حتى يوم الفطر) يوم الفطر غير داخل في الصوم. رب ذهب سيبويه إلى أن (رب) بمعنى (كم) الخبرية، أي أنها تفيد التكثير، جاء في الكتاب، واعلم أن كم في الخبر بمنزلة اسم يتصرف في الكلام غير منون .. والمعنى معنى (رب) وذلك قولك (كم غلام لك قد ذهب) .. واعلم أن (كم) في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه (رب) لأن المعنى واحد، إلا أن (كم) اسم و (رب) غير اسم بمنزلة من (¬2). وذهب أكثر النحاة إلى أنها حرف يفيد التقليل، جاء في (المقتضب): " ورب معناها الشيء يقع قليلا" (¬3). وذهب آخرون إلى أنها تفيد التكثير كثيرا، والتقليل قليلا، جاء في المغنى: وليس معناها التقليل دائما خلافا للأكثرين، ولا التكثير دائما خلافا لابن درستويه وجماعة بل تردد للتكثير كثيرا، وللتقليل قليلا. فمن الأول {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} [الحجر: 2]، وفي الحديث (يارب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) .. ومن الثاني قول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) المغني 1/ 124، الهمع 2/ 22 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 293 - 291 (¬3) المقتضب 4/ 139، وانظر الأصول 1/ 507، شرح ابن يعيش 8/ 26، المغنى 1/ 134

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامي عصمة للأرامل (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): ووضع (رب) للتقليل، تقول في جواب من قال (ما لقيت رجلا): (رب رجل لقيت) أي لا تنكر لقائي للرجال بالمرة فإني لقيت منهم شيئا وإن كان قليلا .. هذا الذي ذكرنا من التقليل أصلها، ثم تستعمل في معنى التكثير، حتى صارت في معنى التكثير كالحقيقة، وفي التقليل كالمجاز المحتاج إلى القرينة، وذلك نحو قوله: رب هيضل جب لففت بهيضل وقوله: ماوي ياربتما غارة ... شعواء كاللذعة بالميسم (¬2). ويبدو لي أنها لفظة وضعت اول ما وضعت للدلالة على الجماعة، قليلة كانت أو كثيرة، ثم كثر استعمالها في التقليل، بل في أقل القليل أيضا، وهو الواحد وقد تستعمل للتكثير ايضا، والذي يدل على ذلك لفظها، فهي كما يبدو لي مأخوذة من الربة والربة الفرقة من الناس، قيل هي عشرة آلاف ونحوها، والجمع ربب .. الربة وهي الجماعة (¬3). ويتضح معناها من القرائن، فمن استعمالها في التكثير قوله صلى الله عليه وسلم: (يارب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) وذلك لأن أهل الضلال أكثر من أهل الحق قال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103]، وقال: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116]، ومن استعمالها في الواحد قول الشاعر ألا رب مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان ¬

_ (¬1) المغني 1/ 134 - 135 (¬2) شرح الرضي 2/ 365 (¬3) لسان العرب 1/ 391 - 392

والأول هو عيسى، والثاني هو آدم عليهما السلام. ونظيرها في دلالة اللفظ الواحد على معنيين متقابلين (قد) الداخلة على المضارع فأصلها للدلالة على التقليل، كقولك (قد يشفي المريض) و (قد يصدق الكذوب) وقد تدل على التحقيق، كقوله تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} [الأحزاب: 18]، وقوله {قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة: 144]، ويميز بينهما القرائن. قالوا وهي جواب لكلام ظاهر أو مقدر، فأنت لا تقول ابتداء (رب رجل أكرمت) وإنما هو رد على كلام قيل لك (ما أكرمت رجلا) أو قدرت ذلك، أي كأنه قيل لك ذلك، قال ابن السراج، والنحويون كالمجتمعين على أن (رب) جواب، إنما تقول (رب رجل عالم) لمن قال [ما] (¬1). رأيت رجلا عالما، أو قدرت ذلك فيه، فتقول (رب رجل عالم) تريد: رب رجل عالم قد رأيت .. وكذلك إذا قال (رب رجل جاءني فأكرمته وأكرمته) فههنا فعل أيضا محذوف، فكأنه قال له قائل، ما جاءك رجل فأكرمته وأكرمته، أي قد كنت فعلت ذاك .. فإذا قال: ما أحسنت إلي، قلت: رب إحسان قد تقدم إليك منى (¬2). وليست كذلك دومًا فيما أرى، بل قد ترد لمجرد ذكر الأمر من غير رد أو تقدير رد، وذلك كقوله (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ورب مبلغ أوعى من سامع، ورب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، ورب هيجا هي خير من دعه. ويارب أم وطفل حين بينهما ... كما تفرق أرواح وأبدان ¬

_ (¬1) سقطت (ما) من الكتاب المحقق ويدل عليها ما بعدها وكلام النحاة الآخرين: انظر شرح ابن يعيش 8/ 27، شرح الرضي على الكافية 2/ 365 (¬2) الأصول 1/ 508، وانظر شرح ابن يعيش 8/ 27، شرح الرضي 2/ 365

ربه

ربّه: قد تدخل العرب (ربّ) على ضمير الغيبة وتفسره بالتمييز، فتقول (ربه رجلا أكرمت). وهذا الضمير عند الجمهور لا يكون إلا مفردًا مذكرًا مفسرًا بتمييز مطابق للمعنى، فتقول (ربه رجلين أكرمت) و (ربه رجالا أكرمت) و (ربه امرأة أكرمت) و (ربه نساء أكرمت) قال الشاعر: ربه فتية دعوت إلى ما ... يورث المجد دائمًا فأجابوا وأجاز الكوفيون مطابقة الضمير للتمييز فتقول (ربه رجلا) و (ربهما رجلين) و (ربهم رجالا) و (ربها امرأة) و (ربهن نساء) وغير ذلك (¬1). قال ابن السراج: " من وحد فلأنه كناية عن مجهول، ومن لم يوحد فلأنه رد كلام، كأنه قال: مالك جوار؟ فقال: ربهن جوار قد ملكت" (¬2). وهذا الضمير يؤتى عند إرادة التفخيم والتعظيم، فيضمرون قبل الذكر، قال ابن يعيش: " وهذا إنما يفعلونه عند إرادة تعظيم الأمر وتفخيمه، فيكنون عن الاسم قبل جري ذكره ثم يفسرونه بظاهر بعد البيان" (¬3). وجاء في (الهمع): إن قولك (ربه رجلا) " بمنزلة رب رجل عظيم لا أقدر على وصفه" (¬4). وجاء في (شرح الرضي على الكافية) أن هذا الضمير إنما يؤتي به في الأغلب "فيما فيه معنى المبالغة والتفخيم كمواضع التعجب نحو ياله رجلا، ويالها قصة، ويا لك ليلا .. ومن هذا الباب أي الذي فيه التفخيم (ربه رجلا لقيته) إذ هو جواب في التقدير لمن قال (ما لقيت رجلا) فكأنه قيل: لقيت رجلا وأي رجل ردًا عليه (¬5). ¬

_ (¬1) الأصول 1/ 515، الهمع 2/ 27 (¬2) الأصول 1/ 515 (¬3) شرح ابن يعيش 8/ 28 (¬4) الهمع 2/ 27 (¬5) شرح الرضي 1/ 237

حذفها

ونحوه أن تقول: (ربه رجلا أنفذت) إذا كان الشخص الذي انقذته له مكانة كبيرة فانقاذ قائد الجيس في ساحة القتال مثلا أكبر من إنقاذ جندي، ففي الحالة الأولى تقول (ربه أنقذت)، وفي الثانية تقول: (رب رجل أنقذت). أو تكون الحالة التي أنقذته فيها تستدعي مثلا هذا التفخيم، فإنك إذا كنت في برية مثلا ومعك من الماء والزاد ما يكفي ورأيت رجلا يقتله الظمأ فسقيته مما عندك من الماء، فإنك أنقذته ولا شك. وإذا مررت بدار تحيط بها النار من جوانبها وسمعت أصوات استغاثة في داخلها والناس وقوف لا يعرفون ما يصنعون، ثم أنت اقتحمت النار وأخرجت من فيها، فهذا انقاذ أيضا ن ولكن هناك فرق بين الإنقاذين، فإن في الثانية مجازفة بحياتك ما ليس في الأولى فتقول في الحالة الأولى (رب رجل أنقذت) وتقول في الثانية: (ربه رجلا أنقذت) وهكذا. حذفها: يذكر النحاة أن (رب) تحذف بعد الواو، والفاء وبل، وحذفها بعد الواو أكثر كقوله: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي وبعد الفاء أقل نحو: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول وبعد بل أقل نحو: بل بلد ملء الفجاج قتمه ... لا يشترى كتانه وجهرمه وبغير ذلك نادر نحو: رسم دار وقفت في طلله ... كدت أقضي الحياة من جلله

وعند البصريين أن الواو للعطف، والجر بـ (رب) محذوفة لا بالواو، قال سيبويه: وحذفوه - يعني حرف الجر - تخفيفا وهم ينوونه كما حذف (رب) في قوله: وجداء ما يرجى بها ذو قرابة ... لعطف وما يخشى السماة ريببها إنما يريدون رب جداء (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأما الواو فللعطف أيضا عند سيبويه وليس بجارة، فإن لم تكن في أول القصيدة والرجز كقوله: وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها يتنبل فكونها للعطف ظاهر، وإن كانت في أولهما كقوله: وقاتم الأعمال خاوي المخترق فإنه يقدر معطوفا عليه كأنه قال: " رب هول أقدمت عليه وقاتم الأعمال" وعند الكوفيين والمبرد أنها كات حرف عطف، ثم صارت قائمة مقام (رب) جارة بنفسها لصيرورتها بمعنى رب .. ولو كانت للعطف لجاز إظهار (رب) بعدها، كما جاز بعد الفاء وبل، فهذه الواو عندهم كانت حرف عطف قياسا على الفاء، وبل، ولكنها صارت بمعني رب فجرت كما تجر، ومع ذلك لا يجوز دخول حرف العطف عليها في وسط الكلام نحو ووليلة نحس، ولا فوليلة نحس اعتبارا لاصلها، بخلاف واو القسم فإنها لم تكن في الأصل واو العطف، فلذا جاز دخول واو العطف، والفاء وثم نحو والله، وفوالله وثم والله (¬2). وجاء في (الأصول): " وقال بعض النحويين إن الواو التي تكون في النكرات ليست بخلاف من (رب) ولا (كم)، وإنما تكون مع حروف الاستفهام فتقول: وكم قد رأيت وكيف تكفرون، يدل على التعجب، ثم تسقط (كم) وتترك الواو ولا تدخل مع رب ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 144، وانظر الأصول 1/ 513 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 369 - 370

ولو كانت خلفا من (كم) لجاز ان يدخل عليها النسق، كما فعل بواو اليمين، وهي عندي واو العطف وهذا أيضا مما يدل على أن رب جواب وعطف على كلام (¬1). والذي يبدو من استعمالها أنها لا تطابق (رب)، وأن الجر ليس بـ (رب) المحذوفة ولا هي عاطفة، بل هي حرف خاص له استعماله ويدل على ذلك أمور منها: 1 - انها لا يصح إبدالها بـ (رب) أو إظهار (رب) معها، فإنك تحس أن المعنى يختلف وذلك نحو قول الشاعر: ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل فلا يحسن أن يقال فيه (ويوم لك منهن صالح) وكذلك نحو قوله (رب مبلغ أوعى من سامع) وقوله (رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) و (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) و (رب أخ لك لم تلده أمك) و (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) فأنت ترى أنه لا يصح إبدالها بـ (رب) فلا تقول: وكاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، ولا وحامل فقه .. إلى آخره، ولو كانت بمعناها أو خلفا منها لصح إبدالها بها. 2 - قد يراد بمجرور (رب) العموم، ولا يدل على شيء معين، وأما المجرور بعد الواو فلا بد فيه أن يكون مخصوصا، فقوله (رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) لا يدل على كاسية معينة، بل هو دال على العموم، وقوله: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) لا يراد به حامل فقه معين، وإنما يدل على العموم، ومثله: رب مبلغ أوعى من سامع، ورب أخ لك لم تلده أمك، بخلاف الواو فإنها تدل على أمر معين حصل، فقوله: ودار نداي عطلوها وأدلجوا، الكلام فيه على دار معينة. ¬

_ (¬1) الأصول 1/ 512 - 513

وقوله: (وصدر أراح الليل عازب همه) يعني فيه صدره. وقوله: (وأطلس عسال وما كان صاحبا) يصف به ذئبا معينا. وقوله: (وبيضة خدر لا يرام خباؤها) يريد به امرأة معينة. فأنت تذكر مع الواو أمرًا معينا بخلاف (رب) التي قد يراد بها العموم ولو صح في النثر أن تقول (ومبلغ أوعى من سامع) (¬1). كما قيل: (رب مبلغ أوعى من سامع) لكان المعنى أنك تقصد مبلغا معيا والكلام لم يتم بعد. ولو صح القول وكاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، لكان المعنى أنك تقصد به امرأة معينة بخلاف (رب)، وكذلك لو صح أن تقول (وأخ لك لم تلده أمك) لكنت تقصد به شخصا معينا، ثم تحس أن الكلام لم يتم بعد، فكأن المعنى بالواو: أخبرك عن دار، وأخبرك عن أطلس عسال، وأذكر لك كذا. ولقد لمح هذا المعنى برجشتراسر فقال: " والواو قد تعمل الجر أيضا وهي واو (رب) نحو: : وكأس شربت أي رب كأس شربت. غير أن معناها ليس معنى رب في كثير من الحالات، نحو: وتاجر فاجر جاء الاله به، أي أعرف تاجرا فاجرا أو أذكره. وأصل هذه الواو غامض جدًا (¬2). ¬

_ (¬1) إن هذه الواو لم ترد إلا في الشعر بخلاف (ربّ) فإنها وردت كثيرًا في الشعر والنثر - انظر الرضي 2/ 369 (¬2) التطور النحوي 85 - 86

3 - رب في الغالب تدل على التقليل، وقد يراد بها التكثير كما مر بنا، في حين أن الواو تدل على واحد، وحتى إذا كانت رب تفيد الواحد، يبقى المعنى مختلفا فقول الشاعر: ألا رب مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان لا يصح فيه إبدال الواو بها فنقول (ومولود ليس له أب) فنحن نحس أن الكلام غير تام ولا بد أن نذكر شيئا آخر يتعلق بهما. 4 - ليس الكلام مع الواو ردا على كلام، ولا تقديرا له بل هو إخبار ابتدائي بخلاف (رب) فإن الكثير منها أن تكون ردا على كلام كما ذكرنا، فقوله: وأطلس عسال وما كان صاحبا ... دعوت بناري موهنا فأتاني اخبار ابتدائي وكذلك قوله: وصدر اراح الليل عازب همه 5 - ثم إن هذه الواو ليست عاطفة، كما ذهب إليه البصريون، ولا أصلها عاطفة، كما ذهب إليه الكوفيون لأنها قد يبتدأ الشعر بها كقوله: وقاتم الأعماق خاوي المخترق وقوله: وليل كأن الصبح في إخرياته أما قولهم إنه يقدر معطوف عليه كأنه قال (رب هول أقدمت عليه وقاتم الاعماق) فهو تكلف، لأن الأمر يتعلق بذكر أمر معين وحده، وربما لم يقع قبله مثله، فمن المحتمل أنه لم يقع قبل الحادثة التي وصفها الشاعر بقوله: ودار ندامي عطلوها وأدلجوا

ما يصح عطفه عليها فالعطف تكلف ظاهر، ثم إنه لا يصح العطف على كلام مقدر ليس عليه دليل، فلا يصح أن تقول ابتداء (ولا أعود) على تقدير (سأسافر ولا أعود). وأما قول الرضي أنها إن لم تكن في أول القصيدة فكونها للعطف ظاهر، فليس الأمر فيه كذلك، بل قد يؤتى بها في أثناء القصيدة وليس هناك أثر للعطف كقوله: وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل فهذا ليس معطوفا على كلام سابق، وهو مما يؤيد ما ذهبنا إليه، ولو كانت لم تقع في أثناء القصيدة، إلا معطوفة على كلام فيه (رب) لكان لهم فيه حجة. أما قولهم أنها لو لم تكن عاطفة لجاز دخول حرف العطف عليها كواو القسم، فنحن نقول ووالله، وفوالله، وثم والله فهذا مردود، فإن ثمة أكثر من واو لا تدخل عليها حروف العطف، مع أنها ليست عاطفة، منها واو الاستئناف، كقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85]، وكقولك (بضاعتك رديئة وهي عليك مردودة) وواو الاعتراض كقوله: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان. وواو المعية في نحو (سرت والجدار)، وواو الحال (نحو رأيتك وأنت مسرع) فهي إذن حرف خاص ذو دلالة معينة، يختلف عن حرف العطف، وعن (رب) وليس بمعنى واحد منهما كما ذكرنا. 6 - قد يكون فيها معنى التعجب، والتفخيم، كما ذهب إليه قسم من النحويين كقوله: وليل يقول الناس من ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها وقوله: وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها يتنبل إن هذه الواو تعطي الجملة معنى لا يؤدي بالحذف فلو حذفت الواو من قوله: وصدر أراح الليل عازب همه ... تداعي عليه الهم من كل جانب

وقلت: (صدر أراح عازب همه) لتغير المعنى، وصار الكلام مبهما عامًا غير مراد منه صدر معين، ويصبح الكلام لا فائدة فيه، وكذلك وقوله: (وأطلس عسال) وقوله: (وليلة نحس يصطلي القوس ربها) فلو قلت: (ليلة نحس يصطلي القوس ربها) لكان الكلا عاما، فالواو تؤدي معنى خاصا لا يؤدي بحذفها كما ذكرت. وأما الفاء، وبل، فالأظهر أن بعدهما (رب) محذوفة، ولذا يصح إظهار (رب) بعدهما (¬1).، والمعنى لا يتغير وذلك كقوله: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فإنه يصح القول (رب مثلك حبلى قد طرقت موضع) وقد تكون الفاء هذه واقعة في جواب الشرط كقوله: وإن أهلك فذي حنق لظاه ... علي يكاد يلتهب التهابا والمعنى: فرب ذي حنق. وكذلك (بل) قال الرضي: " وأما الفاء وبل فلا خلاف عندهم أن الجر ليس بهما بل بـ (رب) المقدرة بعدهما، لأن (بل) حرف عطف بها على ما قبلها، والفاء جواب الشرط (¬2)." يعني في البيت السابق. على على للاستعلاء، حقيقيا كان أم مجازيا، ولفظها يدل على ذلك، فهي من العلو، جاء في المقتضب، " على تكون حرف خفض على حد قولك: على زيد درهم، وتكون فعلا نحو قولك: (علا زيدٌ الدابة) و (على زيد ثوب) و (علا زيدًا ثوب) والمعنى قريب (¬3). ¬

_ (¬1) الرضي 2/ 369 (¬2) شرح الرضي 2/ 369 (¬3) المقتضب 4/ 426

فمن الاستعلاء الحقيقي قولك: (هو على الجبل) و (حمله على ظهره)، ومن الاستعلاء المجازي قولهم: (عليه دين) كأن الدين علاه وركبه، ولذا تقول العرب: ركبتني ديون " كأنه يحمل ثقل الدين على عنقه أو على ظهره، ومنه على قضاء الصلاة وعليه القصاص لأن الحقوق كأنه راكبة لمن تلزمه" (¬1). وتقول: (هو عليهم أمير) لاستعلائة عليهم من جهة الأمر (¬2).، فإن أمره أعلى وأنقذ من امرهم. جاء في (كتاب سيبويه): " أما علي فاستعلاء الشيء تقول: هذا على ظهر الجبل وهي على رأسه .. وتقول عليه مال، وهذا كالمثل كما يثبت الشيء على المكان كذلك يثبت هذا عليه فقد يتسع هذا في الكلام ويجيء كالمثل (¬3). قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء} [النساء: 34]، أي يتولون أمرهن، وفيه معنى الاستعلاء، فإن العرب تقول: (قام عليه) بمعنى تولى أمره، وتقول (قام به) بمعنى فعله. قال تعالى: {كونوا قوامين بالقسط} [النساء: 135]، وتقول (قام له) أي لأجله، قال تعالى: {يأيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط} [المائدة: 8]، وتقول (قام عنه) بمعنى إنصرف عنه، وتقول (قام إليه) بمعنى (قام ذاهبا إليه) ففي (على) معنى الاستعلاء. وتقول العرب (أنت على ضلال) و (أنت في ضلال) فمعنى (في ضلال) أنه ساقط في الضلال سقوطه في اللجة، أو أن الضلال احتواه احتواء الظرف على ما في داخله، ومعنى (على ضلال) أنه اتخذ الضلال مركبا يقوده إلى كل سوء. جاء في (تفسير الرازي) في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5]، " معنى الاستعلاء في قوله (على هدى) بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلي الشيء وركبه. ونظيره (فلان على الحق أو على الحق ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 379، وانظر المقتضب 1/ 46 (¬2) شرح ابن يعيش 8/ 38 (¬3) كتاب سيبويه 2/ 310

أو على الباطل) وقد صرحوا به في قوله: جعل الغواية مركبا، وامتطى الجهل " (¬1). وتستعمل العرب (على) للأفعال الشاقة المستثقلة، قال ابن جني: " وقد يستعمل (على) في الأفعال الشاقة المستقلة، تقول: قد سرنا عشرا وبقيت علينا ليلتان، وقد حفظت القرآن وبقيت علي منه سورتان .. وإنما اطردت (على) في هذه الأفعال حيث كانت على في الأصل للاستعلاء، والتفرع، فلما كانت هذه الأحوال كلفا ومشاق تخفض الإنسان وتضعه وتعلوه وتتفرعه، حتى يخنع لها ويخضع لها يتسداه، كان ذلك من مواضع (علي)، ألا تراهم يقولون: هذا لك وهذا عليك، فتستعمل الام تؤثره (على) فيما تكرهه" (¬2). قالوا: وقد تأتي لمعانٍ أخرى، منها: المصحابة كـ (مع) نحو قوله تعالى: {وآتي المال على حبه} [البقرة: 177]، أي مع حب المال، ونحو (فلان على جلالته يقول كذا) أي معها (¬3). والظاهر أنها للاستعلاء وليست بمعنى (مع) تمامًا، فقوله (على حبه) قد يفيد أنه مستعل على حبه أو أنه يؤتى المال مع إنطواء قلبه على حبه، فحب المال في القلب، والقلب منطو عليه وهي حالة تختلف عن المصاحبة، فانطواء القلب على الشيء أنشد من مصاحبته له. ونقول (هو ينفق على شحه)، و (هو ينفق مع شحه) والمعنى مختلف، فمعنى (على شحه) قد يفيد أنه مستعل على شحه، أو على معنى أنه ينفق مع إنطواء قلبه على الشح وهو غير المصاحبة. وأما قولهم (هو على جلالته) فمعناه: أنه يلزمها لزوم الراكب لمركوبه من قولهم: ركبته الديون أي لزمته" (¬4). ¬

_ (¬1) التفسير الكبير 2/ 33 (¬2) لسان العرب 19/ 321 (¬3) المغنى 1/ 143، شرح الرضي 2/ 379 (¬4) شرح الرضي 2/ 379

والمجاوزة كعن كقوله: إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها. " أي عني. ويحتمل أن (رضي) ضمن معنى (عطف) .. وقال: في ليلة لا نرى بها أحدا ... يحكي علينا إلا كواكبها أي عنا وقد يقال ضمن يحكي معنى ينم (¬1). قالوا ومن استعمالها في المجاوزة أنها " تختص بتعدية بعد، وخفي، وتعذر، واستحال، وغضب ورضي وحرم ونحوها، قال في الاغراب لذلك اشتركت هي وعن في تعدية كثير من هذا الباب" (¬2). والحق أنها تختلف في ذلك عن (عن) فقولك (بعد عنه) يختلف عن قولك (بعد عليه) فقولك (بعد خالد عنا) معناه أنه ابتعد بشخصه عنا، وأما (بعد عليه) ففيه معنى المشقة عليه. قال تعالى: {ولكن بعدت عليهم الشقة} [التوبة: 42]، فقد يكون الشيء بعيدًا عنك وليس بعيدا عليك، وتقول (بعدت على الطريق) بمعنى أنه من الصعوبة أن يصل إليه كما تقول: عسر عليه، وصعب عليه، فهو من الأفعال الشاقة التي أشار إليها ابن جني. وتقول: ليس عليك ببعيد أن تفعل كذا، وليس على الله ببعيد أن يغير الأمور، ولا تقول في نحو هذا بعيد عنه. وكذلك خفي عليه وخفي عنه، فخفي عنه يستعمل في الأمور المادية، قال الشاعر: وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب ¬

_ (¬1) 1/ 143 (¬2) جواهر الأدب 222

وتقول: خفيت عنا المدينة. وأما (خفي عليه) فيستعمل في الأمور المعنوية، تقول (لا يخفي عليك هذا الأمر) بمعنى أنت مطلع عليه، قال تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} [آل عمران: 5]، أي لا يند عنه. وقال: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا} [فصلت: 40]، وأما تعذر عليه واستحال عليه فلما فيهما من معنى الكلفة والمشقة، أي: يشق عليه ويصعب. وأما غضب عليه فليس فيه مجاوزة، بل معناه أنه أنزل غضبه عليه وأحل غضبه عليه، والعرب تقول: صب جام غضبه عليه. و (رضي عليه) بمعنى عطف عليه، أو بمعنى أحل عليه رضوانه، كما جاء في الأثر فاليوم أحل عليهم رضواني وأما رضي عنه فمعناه تجاوز عنه بالرضا. وأما حرمه، عليه فلما فيه من معنى العهد والالتزام، كما تقول: علي عهد الله وعلي يمين الله، وفي الحديث القدسي (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (¬1).) ثم إن فيه استعلاء، فإن الذي بيده التحريم مستعل لأنه بيده ذلك الأمر. وللتعليل كـ (اللام) نحو {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]، أي: لهدايته إياكم (¬2). وسنبحث التعليل في موطن لاحق. وللظرفية كقوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} [القصص: 15]، وقولهم: كان ذلك على عهد فلان، أي في عهده (¬3)، وسنبحث ذلك في موطن لاحق. ولموافقة (من)، وجعلوا منه قوله تعالى: {إذا اكتالوا على الناس يستوفون}. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم باب تحريم الظلم 8/ 17 (¬2) المغنى 1/ 143 (¬3) المغني 1/ 144، لسان العرب 19/ 322 - 323

[المطففين: 2] (¬1). وقيل بل هو متضمن معنى التسلط على الناس والتحكم، أي تسلطوا عليهم بالاكتيال (¬2). والظاهر أنه هو الصواب، لأن هناك فرقا بين قولك: اكتال منه، واكتال عليه، فاكتال منه لا يفيد أنه ظلمه حقه، وهضمه ماله، بخلاف اكتال عليه، فإن فيه معنى التسلط والاستعلاء وهذا في المطففين قال تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [المطففين: 1 - 3]، فهم إذا أخذوا منهم، اخذوا أكثر من حقهم، وإذا أعطوهم أعطوهم أقل من حقهم، ففيه إذن معنى التحكم، والجور، والظلم، وهو أبلغ من (من) ها، وليست بمعنى (من) ولا تفيد (من) هذا المعنى. ثم انظر إلى التعبير اللطيف الآخر بعده، وهو قوله: (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) ولم يقل كالوا لهم أو وزنوا لهم، وكلاهما جائز، ولكن في حذف اللام معنى لا يؤديه ذكره قالوا، وذلك أن اللام تفيد الاستحقاق، وهم لم يعطوهم حقهم فحذف اللام الدالة على الاستحقاق إشارة إلى أنهم منعوهم حقوقهم. وتأتي للاستدراك والاضراب كقولك: فلان لا يدخل الجنة لسوء صنيعه على أنه لا ييأس من رحمة الله .. وقوله: بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد ثم قال: علي أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود (¬3). وتأتي اسما بمعنى فوق إذا دخلت عليها (من) كقولك سقط من على السطح ¬

_ (¬1) المغني 1/ 145 (¬2) انظر شرح الدماميني على المغنى 1/ 289 (¬3) المغنى 1/ 145

عن

قال الشاعر: غدت من عليه تنفض الطل بعدما ... رأت حاجب الشمس استوى فترفعا (¬1). وليست هي بمعنى (فوق) تمامًا وإنما هي قريبة من معناها، فأنت تقول: (سقطت الصورة من على الحائط) وليست هي فوق الحائط، وإنما هي معلقة عليه. وتقول: سقط من عليه الثوب، والثوب ليس فوقه وإنما هو محتويه، فإن قلت سقط من فوقه احتمل أن يكون الثوب فوق رأسه فسقط واحتمل أن يكون في مكان أعلى من رأسه فسقط. وتقول: أمررت يدي فوق المنضدة، ولا يشترط في ذلك أنك لامست المنضدة، فقد تكون لامستها، وربما لم تكن لامستها، وتقول: أمررت يدي على المنضدة ومن على المنضدة، ومعنى ذلك أنك لامستها. عن عن تفيد المجاوزة، ومعنى المجاوزة الابتعاد. تقول: إنصرف عنه أي تركه بخلاف انصرف إليه، فإن معناه ذهب إليه، ووضعه عنه، بمعنى رفعه عنه بعد أن كان عليه. قال تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157]، بخلاف وضعه عليه، وتقول انتقل عنه، وابتعدد عنه، ونأى عنه، وانحرف عنه، كلها تفيد المجاوزة، وتقول عدل عنه، ومال عنه، أي ابتعد عنه بخلاف عدل إليه، ومال إليه، وتقول: (رغبت عنه) إذا ابتعدت رغبتك عنه وجاوزت. وتقول (رغبت فيه) إذا حلت رغبتك فيه، أي أردته. ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 38 - 39

وتقول (جلس عن يمينه) بمعنى جلس مبتعدا عن بدنه من جهة اليمين، أي لم يلتصق ببدنه جاء في (الكتاب): "وتقول جلس عن يمينه فجعله متراخيا عن بدنه وجعله في المكان الذي بحيال يمينه (¬1). ويحتمل قولنا (جلس عن يمينه) معنى آخر فقد تقول (جلس يمينه) و (جلس عن يمينه) فقولنا (جلس يمينه) بمعنى جلس في جهة اليمين، وأما جلس عن يمينه فيحتمل أن يكون معناه أنه منحرف عن جهة اليمين، فلو قعد جماعة كل منهم عن جهة اليمين كان الجلوس قوسا أو منحرفا إلى جهة أخرى، ولو قلت (جلسوا يمينه) لكان المعنى أنهم جلسوا في خط مستقيم من جهة اليمين. جاء في (الكتاب): " وأما عن، فلما عدا الشيء، وذلك قولك: أطعمه عن جوع، جعل الجوع منصرفا تاركا له، قد جاوزه، وقال قد سقاه عن العيمة وكساه عن العري، جعلهما قد تراخيا عنه .. وتقول أخذت عنه حديثا أي عدا منه إلى حديث. وقد تقع (من) موقعها أيضا تقول: أطعمه من جوع، وكساه من عري، وسقاه من العيمة" (¬2). والحق أن المعنى مختلف، بين قولك أطعمه عن جوع وأطعمه من جوع، فقولك (أطعمه عن جوع)، بمعنى أبعد الجوع عنه بالطعام، وقولك كساه من عري معناه أبعد العري عنه بالكسوة، وأما قولك (أطعمه من جوع) فمعناه أن ابتداء الأطعام كان من الجوع جاء في (شرح ابن يعيش): وتقول (أطعمه من جوع، وعن جوع) فإذا جئت بـ (من) كانت لابتداء الغاية، لأن الجوع ابتداء الاطعام، وإذا جئت بـ (عن) فالمعنى أن الاطعام صرف الجوع لأن (عن) لما عدا الشيء" (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 308، وانظر التفسير الكبير للرازي 14/ 42، قوله تعالى: {وعن أيمانهم وعن شمائلهم}. (¬2) كتاب سيبويه 2/ 308 (¬3) شرح ابن يعيش 8/ 41 - 42

فمعنى (أطعمه من جوعٍ) أنه كان جائعا فأطعمه، وليس معناه أنما أبعد الجوع عنه، فقد يكون أطعمه ولم يشبعه أي لم يبعد الجوع عنه، وسقاه ولم يروه، أي لم يبعد الظمأ عنه، ولكن المعنى أنه كان ظامئا فسقاه، أي: ابتداء السقي كان من حالة الظمأ، أي أول ما نزل الماء نزل على ظمأ، فالظمأ كان ابتداء للسقي وليس معناه أبعد الظمأ عنه. وذكروا لها معاني أخرى، منها: البدل، نحو قوله تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} [البقرة: 48]، وفي الحديث (صومي عن أمك) (¬1). وتقول: تكلم خالد عن القوم، أي: بدلهم. وفي هذا معنى المجاوزة أيضا فمعنى الحديث: ارفعي الصوم عن أمك بصيامك إذ إن أمها كانت مدينة لله يصوم فقال: ارفعي هذا الدين عنها. وكذلك الآية فإن معناها أنه لا يحتمل أحد عن أحد شيئا من الوزر، أو العذاب أي لا يبعده عنه، وكذلك قولك (تكمل خالد عن القوم) فإن معناه أبعد الكلام عنهم وتكلم هو، ففيها معنى المجاوزة. والاستعلاء نحو قوله تعالى: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه} [محمد: 38]، أي على نفسه، وقيل بل هي على بابها والمعنى يبعد الخير عن نفسه بالخبل (¬2). وهو أولى وذلك أن ثمة فرقا بين قولك (يبخل على نفسه) و (يبخل عن نفسه) فقولك (يبخل على نفسه) معناه أن عاقبة بخله تعود عليه، كقوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286]، لما كانت العاقبة سوء جيء بـ (على)، وكقوله تعالى: {إنما بغيكم على أنفسكم} [يونس: 23]. ويحتمل معنى آخر، هو أنه لا ينفق على نفسه، أي يثقلها بالبخل، فكأنه البخل حمل يعلوه، وأما بخله عن نفسه فمعناه أنه يبخل منصرفا عن نفسه، أي منصرفا عن مصلحة نفسه مبتعدا عنها فإن البخل في الحقيقة ابتعاد عن مصلحة النفس، فكأنه يبتعد عن نفسه بالبخل بخلاف الانفاق فإنه لها. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 147 (¬2) التصريح 2/ 15

قيل ومن هذا المعنى قوله تعالى: {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي} [ص: 32]، أي قدمته عليه، وقيل هي على بابها وتعلقها بحال محذوفة، أي منصرفا عن ذكر ربي (¬1). والتعليل نحو: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه} [التوبة: 114]، ونحو (وما نحن بتاريكي آلهتنا عن قولك) [هود: 53]، ويجوز أن يكون حالا .. أي ما نتركها صادرين عن قولك (¬2). ومرادفة بعد نحو: {عما قليل ليصبحن نادمين} [المؤمنون: 40] (¬3). وفيها معنى المجاوزة، أي بعد مرور وقت قليل. والظرفية كقوله: وآس سراة الحي حيث لقيتهم ... ولا تك عن حمل الرباعة وانيا والرباعة نجوم الحمالة، ، قيل لأن (وني) لا يتعدي إلا بـ (في) بدليل: {ولا تنيا في ذكري} [طه: 42] والظاهر أن معنى (وني عن) جاوزه ولم يدخل فيه، ووني فيه دخل فيه وفتر" (¬4). ومرادفة الباء نحو: {وما ينطق عن الهوى} [النجم: 3]، والظاهر أنها على حقيقتها، وأن المعنى: وما يصدر قوله عن هوى (¬5). قالوا: وتأتي إسمًا بمعنى جانب وذلك إذا دخلت عليها (من) كقولك: (جئته من عن يمينه) (¬6)، والمعنى جئته من جانب يمينه أو من جهة يمينه. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 147 (¬2) المغني 1/ 148 (¬3) المغني 1/ 148 (¬4) المغني 1/ 148 (¬5) المغني 1/ 148 (¬6) كتاب سيبويه 2/ 309، المغني 1/ 149، ابن يعيش 8/ 41

في

والحقيقة أن معنى (جئته من عن يمينه) أن مبتدأ المجيء كان منحرفًا عن اليمين بخلاف قولك: (جئته عن يمينه) فإن معناه أن المجيء كان منحرفًا عن اليمين، وليس معناه أن مبتدأ المجيء كان منحرفا عن جهة اليمين، فقد يكون مبتدأ المجيء من جهة اليمين ثم انحرفت. فنحن نقول: جئته عن يمينه وجئته من يمينه وجئته من عن يمينه. فمعنى (جئته عن يمينه) أنك جئت منحرفا عن يمينه. ومعنى (جئته من يمينه) أنك جئت من هذه الجهة، وأن ابتداء مجيئك كان من جهة اليمين. و(جئته من عن يمينه) معناه أن ابتداء مجيئك، كان منحرفا عن جهة اليمين. فليست (عن) الإسمية بمعنى (جانب) بل هي الجانب المنحرف. وقولك (جلست عن يمينه) معناه جلست متراخيا عن بدنه. و(جلست من عن يمينه) معناه أن جلوسي كان من الجهة المنحرفة ع يمينه. و(جلست يمينه) معناه جلست في جهة يمينه. في (في) تفيد الظرفية، مكانية أو زمانية، فمن الظرفية المكانية قولهم: (الدراهم في الكيس) و (هو في الدار)، ومن الظرفية الزمانية قولك: (جئت في يوم الجمعة) قال تعالى: {ولقد علمتم الذني اعتدوا منكم في السبت} [البقرة: 65]. وهذه الظرفية حقيقة، وقد تكون الظرفية مجازية، نحو (سأمشي في حاجتك) و (سأنظر في أمرك) جعلت الحاجة مكانًا للمشي والأمر محلا للنظر.

جاء في (كتاب سيبويه): وأما (في) فهي للوعاء، تقول: (هو في الجراب) و (في الكيس) و (هو في بطن أمه)، وكذلك هو في الغُل، لأنه جعله إذ أدخله فيه كالوعاء له وكذلك هو في الغل، لأنه جعله إذ ادخله فيه كالوعاء له، وكذلك هو القبة، وفي الدار. وإن اتسعت في الكلام فهي على هذا وإنما تكون كالمثل يجاء به يقارب الشيء، وليس مثله (¬1). وجاء في (المقتضب): وأما (في) فهي للدعاء نحو زيد في الدار .. وقد يتسع القول في هذه الحروف، وإن اكن ما بدأنا به الأصل نحو قولك: زيد ينظر في العلم فصيرت العل بمنزلة المتضمن، وإنما هو كقولك: قد دخل عبد الله في العلم وخرج مما يملك. ومثل ذلك (في يد زيد الضيعة النفيسة)، وإنما قيل ذلك لأن ما كان محيطًا به ملكه بمنزلة ما أحيطت به يده (¬2). فمعنى (في) الظرفية وإن اتسعت في الكلام فهي على ذلك كما ذكر سيبويه. وقد ذكروا لها معاني هي في الحقيقة توسع في معنى الظرفية، منها أن تكون: بمعنى الباء كقوله: ويركب يوم الروع منا فوارس ... بصيرون في طعن الأباهر واللي (¬3). قيل: والأولى أن يكون بمعناها أي لهم بصارة وحذق في هذا الشأن (¬4)، ونحو قوله: نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر قيل: والأولى أن تكون بمعناها أيضًا، وذلك أن الشاعر جعل أثمانها ظرفًا للشرب والقمار مجازًا (¬5). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 308، وانظر الأصول 1/ 503 (¬2) المقتضب 4/ 139 (¬3) المغنى 1/ 168 (¬4) شرح الرضي على الكافية 2/ 362 (¬5) نفس المصدر 2/ 363

وبمعنى (مع) نحو قوله: {ادخلوا في أمم} [الأعراف: 38]، أي: مع أمم. وقيل: بل التقدير ادخلوا في جملة أمم فحذف المضاف (¬1). وهو أولى، فهناك فرق بين قوله دخل معهم، ودخل فيهم، فمعنى (دخل فيهم) أنه أصبح من جملتهم، ومعنى (دخل معهم) أنه مصاحب لهم، وليس منهم. يقال (اذهب في الناس وتسمع الخبر) أي: ادخل فيهم. ثم ألا ترى أنك تقول (ذهب خالد مع القوم) وإن كان منعزلا عنهم غير مختلط بهم، ولا تقول (ذهب فيهم) إلا إذا دخل في جملتهم، وانغمر في مجموعهم؟ والدليل على أنها بمعناها وليست بمعنى (مع) أنه لا يصح أن تقول (إذهب في خالد) ولا (ادخل فيه) كما تقول (اذهب مع خالد وادخل معه) لأن خالدًا لا يكون ظرفا لك بخلاف (اذهب في القوم وادخل فيهم) فإن القوم يكونون كالظرف له يحتوونه. وبمعنى (إلى)، وجعلوا منه قوله تعالى: {فردوا أيديهم في أفواههم} [إبراهيم: 9]، قالوا هي بمعنى إلى (¬2). وقيل بل الأولى أن تكون بمعناها والمراد التمكن. (¬3). وبمعنى (على) نحو قوله تعالى: {ولأصلبنك في جذوع النخل} [طه: 71]، وقد مر القول فيها. والتعليل نحو قوله تعالى: {لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم} [النور 14]، وفي الحديث (إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) (¬4). ¬

_ (¬1) المغني 1/ 168 (¬2) المغني 1/ 169 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 362 (¬4) المغنى 1/ 168

الكاف

الكاف الكاف تفيد التشبيه نحو: (هو كالبحر جودًا) وهي (كالبدر)، وما ذكر لها من معان أخرى ترجع في حقيقتها إلى معنى التشبيه. فما ذكر لها من معان: التعليل: واستدل مثبتو ذلك بقوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198] قالوا أي لهدايته إياكم، وأنكره الأكثرون (¬1). وهي للتشبيه فيما أرى، ونحن نستعمل مثل هذا التعبير في كلامنا الدارج فنقول (أحسن إلى فلان مثلما أحسن إليك) و (اصنع له خيرا مثل ما صنع إليك) و (اذكره مثلما ذكرك) أي اصنع مثل فعله، وقابله بمثل ما فعل، واعمل مشابهًا لعمله، ونحو ذلك. والاستعلاء: مثل قولهم: (كن كما أنت) والمعنى كن على ما أنت عليه. وكونها للتشبيه ظاهر، أي كن مثلما أنت عليه الآن لا تغير، أي لتشبه حالتك في المستقبل حالتك الآن (¬2). وزائدة تفيد التوكيد، وجعلوا منه قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشوري: 11]، قال الأكثرون: " التقدير ليس شيء مثله إذ لو لم تقدر زائدة صار المعنى ليس شيء مثل مثله فيلزم المحال، وهو إثبات المثل، وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل" (¬3). وجاء في (شرح الرضي على الكافية) أنه" يحكم بزيادتها عند دخولها على (مثل) في نحو (ليس كمثله شيء) أو دخول مثل عليه كقوله (فأصبحوا مثل كعصف مأكول) إذ الغض أنه لا يشبه بالمشبه، فلا بد من زيادة إحدى أداتي التشبيه، وزيادة ما هو حرف أولى (¬4). ¬

_ (¬1) المغني 1/ 176 (¬2) المغني 1/ 176، وانظر حاشية الصبان 2/ 225 (¬3) المغني 1/ 179، وانظر لسان العرب 14/ 132، المقتضب 4/ 418 (¬4) شرح الرضي 2/ 380

وذهب قوم إلى أنها ليست زائدة في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} بل هي نفي الشيء بنفي ملازمه، كقولهم (على لا حب لا يهتدى بمناره) أي ليس له منار فيهتدى به وليس معناه أن له منارا لا يهتدى به، وقولهم: (ولا ترى الضب بها ينجحر) أي ليس بها ضب فينجحر، وعلى هذا يكون معنى الآية: ليس له مثل فيشبه به، جاء في (شرح الرضي على الكافية): ويجوز في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} أن لا يحكم بزيادة الكاف، بل تكون على طريقة قوله: (ولا ترى الضب بها ينجحر) وقولك: (ليس لأخي زيد أخ) أعني نفي الشيء بنفي لازمه، لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم، فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه لأنه لابد لأخي زيد من أخ هو زيد، فنفيت هذا اللازم، والمراد نفي الملزوم أي ليس لزيد أخ، إذ لو كان أخ لكان لذلك الأخ أخ، هو زيد، فكذا ههنا نفيت أن يكون لمثل الله مثل، والمراد نفي مثله تعالى، إذ لو كان له مثل، لكان هو تعالى مثله (¬1). وذهب قوم في تخريج الآية الى تلمس فرق بين كاف التشبيه ومثل. جاء في (الفروق اللغوية): الفرق بين كاف التشبيه وبين المثل، أن الشيء يشبه بالشيء من وجه واحد لا يكون مثله في الحقيقة، إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته، فكان قوله تعالى لما قال {ليس كمثله شيء} أفاد أنه لا شبه له ولا مثل، ولو كان قوله تعالى: {ليس كمثله شيء}، نفيا أن يكون لمثله مثيل لكان قولنا (ليس كمثل زيد رجل) مناقضة، لأن زيدًا مثل من هو مثله، والتشبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض وبالمثل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض، تقول (ليس كزيد رجل) أي في بعض صفاته لأنه كل أحد مثله في الذات، وفلان كالأسد في الشجاعة دون الهيئة، وغيرها من صفاته. وتقول السواد عرض كالبياض ولا تقول مثل البياض (¬2). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 380 - 381 (¬2) الفروق اللغوية 128

ويبدو أن كلام أبي هلال ليس دقيقا، فالتشبيه بمثل يكون في الذات والصفات فإنك تقول: (ليس مثل المتنبي شاعر) ولا شك أن كل الشعراء مثله في ذاته، وتقول: ليس كالمتنبي شاعر. والعرب تقول هي مثل الشمس، ومثل البدر. قال الشاعر: مه عاذلي فهائمًا لن أبرحا ... بمثل أو أحسن من شمس الضحى. ولا شك أن ذات الإنسان لا تماثل ذات الشمس، وإنما هو تشبيه بصفة الحسن والجمال. غير أن التشبيه بمثل أقرب من الكاف فقولك (هي مثل البدر) أقرب في الشبه من (هي كالبدر) لأنك في الأولى تدعى المماثلة، والمماثلة أقرب من عموم الشبه. وعلى هذا يمكن أن يقال إنه جاء بالكاف ومثل، لنفي المماثلة والشبه كليهما ولو جاء بالكاف وحده لكان نفيا للمشابهة فقط، ولو جاء بمثل لكان نفيا للمماثلة فجاء بهما لنفي المشابهة القريبة والبعيدة. والذي يبدو لي أن الكاف ليس زائدة، بل هي على معناها، وإيضاح ذلك أنك تقول (هي مثل البدر) و (هي كمثل البدر) فقولك (هي مثل البدر) أقرب في الشبه إلى البدر من كمثل البدر، وذلك لمجيئك في الثانية بأداتي تشبيه: الكاف ومثل، وإذا حذفت أداة التشبيه كان الشبه أقرب. فلو قلت (هي البدر) لكان أقرب كما هو معلوم لأنك تدعي أنها البدر وليست شبيهة به. فقولك (هي البدر) أقرب في الشبه من (هي كالبدر أو مثل البدر). وقولك (هي مثل البدر) أقرب إلى الشبه من قولك (هي كمثل البدر) فإنك في الأخيرة أبعده الشبه بذكر أداتين للتشبيه، فلو قال تعال (ليس مثله شيء) لكان ينفي ذا الشبه القريب أو المثل القريب. ولكنه قال (ليس كمثله شيء) مريدًا بذلك نفي المشابهة ولو من وجه بعيد على معنى أنه لا يشبهه شيء ولو من وجه بعيد.

ولا يقال إن ذلك يثبت المثل فإننا نقول في كلامنا (ليس كمثل خالد رجل) على معنى لا يشبهه رجل، ولو كان ذلك يثبت المثل، لكان قولنا متناقضا، كما قال أبو هلال العسكري لأن خالدا مثل من يشبهه، فكيف ننفي وجود مثله وهو موجود؟ وإنما الأمر كما ذكرنا والله أعلم، أراد بذلك نفي الشبه من جميع الوجوه، ولو كان من وجه بعيد. وأما قول الرضي إنه يحكم بزيادتها عند دخولها على (مثل) أو دخول (مثل) عليها فليس الأمر فيه كما ذكر، وإنما هو لقصد تبعيد المشبه عن المشبه به. ونحوه ما ذكر في قول الشاعر (فأصبحوا مثل كعصف مأكول) فإن الكاف فيهل يست زائدة، وإنما تشبيه بمشبه وإيضاح ذلك - إذا لم نقل إنه جاء بالكاف ومثل لإقامة الوزن - أنه لم يرد أن يقول (فأصبحوا مثل عصف مأكول) وإنما يريد أن يشبههم بحالة من شبه بالعصف المأكول، وهم أصحاب الفيل، فأصحاب الفيل كما أخبر ربنا جعلهم كعصف مأكول، وحالة هؤلاء الذين ذكرهم الشاعر أصبحت كحالة أولئك فقال (مثل كصعف مأكول). وجعلوا من زيادتها قول الشاعر (لواحق الأقراب فيها كالمقق) (¬1). والمقق هو الطول لأنا نقول فيها طول ولا نقول: فيها كالطول، وهذه الزيادة سماعية عند النحاة. والذي أراه أنها ليست زائدة بل هي على معناها أيضا، ونحن نستعمل هذا في لغتنا الدارجة فنقول: هذا القميص بيه مثل الطول وأرى بيه مثل القصر، والمعنى أنه ليس فيه طول واضح أو قصر واضح، وإنما هو كأنما فيه طول. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 380

اللام

وتأتي الكاف اسمًا بمعنى مثل كما في قوله: أتنتهون ولي ينهى ذوي شطط ... كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل للإسناد إليه، وقوله: (يضحكن عن كالبرد المنهم) لدخول حرف الجر عليه (¬1). وهي ليست بمعنى (مثل) تمامًا، وإنما هي أقل منها درجة في التشبيه، فقولك (يضحكم عن مثل البرد) أقرب إلى المشبه به من الكاف كما ذكرنا فكذلك حالها في الإسمية. اللام معنى اللام الاختصاص، أما بالملكية نحو الدار لخالد، أو بغيرها نحو الجل للفرس (¬2). وذكر سيبويه أن معناها الملك والاستحقاق (¬3). وفصل المتأخرون فذكروا لها معاني يرجع اكثر إلى الاختصاص أو الاستحقاق، فما ذكر لها من معان: الملك نحو: له دار و {لله ما في السماوات وما في الأرض} [البقرة: 284]. وشبه الملك نحو (الباب للدار) و (الغلاف للكتاب) لأن الكتاب والدار لا يملكان. والتمليك نحو (وهبت لك مالا). وشبه التمليك نحو (فهب لي من لدنك وليا) [مريم: 5]، لأن الولي وهو الولد لا يملك حقيقة، وكلها تفيد الاختصاص. ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 380، وانظر المغنى 1/ 180، شرح ابن يعيش 8/ 42 - 43 (¬2) شرح الرضي 2/ 364 (¬3) كتاب سيبويه 2/ 304، وانظر شرح ابن يعيش 8/ 25

وأن تكون بمعنى من، نحو (سمعت له صراخًا) (¬1). والظاهر أنها للاختصاص. والتبليغ وهي الجارة لاسم السامع لقول أو ما في معناه، نحو قلت له وأذنت له وفسرت له (¬2). وهي للاختصاص أيضا. والتعليل: كقوله تعالى: {إنما نطعمكم لوجه الله} [الإنسان: 9]، وجئت للاستفادة، وهي تفيد الاختصاص أيضا إذ الأطعام مختص بذلك، والمجيء مختص بذلك (¬3). وموافقه إلى نحو قوله تعالى: {بأن ربك أوحي لها} [الزلزلة: 5]، والظاهر أنها للاختصاص أيضا، ونحو قوله تعالى: {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم: 42]، وهو للتعليل كما تقول (أنا أعدك لذلك اليوم)، وأدخرك له، أي لأجله. وذكروا منه قوله تعالى: {كل يجري لأجل مسمى} [الرعد: 2]، بدليل قوله تعالى: {كل يجري إلى أجل مسمى} [لقمان: 29]. والظاهر أن ما ورد باللام بفيد التعليل، بمعنى كل يجري لبلوغ الأجل، أي كل يجري لهذه الغاية كما تقول: كلهم يجري لوصول الهدف ولبلوغه، وأما ما جاء بـ (إلى) فهو يفيد الانتهاء. جاء في (درة التنزيل): قوله تعالى: {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير} [لقمان: 29]. وقال في سورة الزمر: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} [الزمر: 5]. للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في سورة لقمان، بقوله {كل يجري لأجل مسمى} وما سواه إنما هو {يجري لأجل مسمى}. ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 208 - 209، 213 (¬2) المغنى 1/ 213 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 364

والجواب أن يقال: أن معنى قوله: {يجري لأجل مسمى} يجري لبلوغ أجل مسمى، وقوله: {يجري لأجل مسمى} معناه لا يزال جاريا، حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المسمى له. وإنما خص ما في سورة لقمان بـ (إلى) التي للانتهاء واللام، تؤدي نحو معناها لأنها تدل على أن جريها لبلوغ الأجل المسمى، لأن الآيات التي تكتنفها آيات منبهة على النهاية والحشر والإعادة، فقبلها {ما خلقك ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} وبعدها {يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده} فكان المعنى: كل يجري إلى ذلك الوقت وهو الوقت الذي تكور فيه الشمس، وتنكدر فيه النجوم، كما أخبر الله تعالى. وسائر المواضع التي ذكرت فيها اللام إنما هي في الإخبار عن ابتداء الخلق، وهو قوله: {خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها} التي تكتنفها في ذكر ابتداء خلق السماوات والأرض وابتداء جري الكواكب، وهي إذ ذاك تجري لبلوغ الغاية، وكذلك قوله في سورة الملائكة إنما هو في ذكر النعم التي بدأ بها في البر والبحر إذ يقول: {وما يستوي البحران} إلى قوله {ولعلكم تشكرون يولج الليل في النها ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجل مسمى ذلك الله ربك له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} [فاطر: 12 - 13]، فاختص ما عند ذكر النهاية بحرفها واختص ما عند الابتداء بالحرف الدال على العلة التي يقع الفعل من أجلها (¬1). وبمعنى على نحو قوله: {يخرون للأذقان سجدا} [الإسراء: 107]، وقوله: {وإن اسألتم فلها} [الإسراء: 7] (¬2). ¬

_ (¬1) درة التنزيل 374 - 375 (¬2) المغنى 1/ 212

أما قوله (يخرون للأذقان) فليس المعنى - والله أعلم - على الأذقان لأن هناك فرقًا بين قولك خر على وجهه وخر لوجهه، فخر على وجهه معناه سقط على وجهه، وأما خر لذقنه فمعناه: أنه خر حتى بلغ في ذلك الذقن. أو الاختصاص، أي: حتى خص ذقنه بذلك. وقوله: (وإن اسأتم فلها) معناه أنكم تسيئوا لأحد وإنما أساءتكم أي خصصتم أنفسكم بالإساءة، جاء في (الكشاف) في تفسير هذه الآية: أي الإحسان والإساءة كلاهما مختص بأنفسكم لا يتعدي النفع والضرر إلى غيركم. وعن على رضي الله عنه: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلاها (¬1). ومنه قوله تعالى: {دعانا لجنبه} [يونس: 12]، قالوا بمعنى على جنبه. ولا ارى أنها بمعنى (على) بل هي للاختصاص، وإيضاح ذلك أن (على) وردت في القرآن مع الجنب مرتين قال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياا وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} [آل عمران: 190 - 191]. وقال: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} [النساء: 103]، فجاء بلفظ (على) في هاتين الآيتين. وجاء باللام في هذه الآية: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائمًا} [يونس: 12]. وسر ذلك والله أعلم، أنه إذا مس الإنسان الضر دعا ربه ملازما لجنبه، أو قاعدا أو قائمًا، فإن الإنسان إذا مسه الضر أكثر ما يلازم جنبه، ثم القعود، ثم القيام، فذكر هذه الحالات بحسب الترتيب فقال (لجنبه او قاعدا أو قائمًا) في حين آخر ذكر الجنب في غير هؤلاء فقال {الذين يذكرن الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} [آل عمران: 191]، ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 225

وقال: {فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} [النساء: 103]، وقال: {فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} فقد القيام في حالة العافية، ثم القعود ثم الاضطجاع، على الجنب فخالف بين حالتي الضر والعافية، فقدم الجنب في حالة الضر وآخر القيام، وقدم القيام في حالة العافية وأخر الاضطجاع على الجنب. وجاء باللام الدالة على الاختصاص في حالة الضر، بمعنى ملازما لجنبه، وجاء بـ (على) الدالة على الاستعلاء في حالة العافية بمعنى مضطجع على جنبه. وبمعنى (في) نحو قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} [الأنبياء: 47]، والراجح أنها للتعليل، أي لأجل ذلك اليوم او للاختصاص، ونحو قولهم (مضى لسبيله) (¬1). قالوا: أي في سبيله. ويبدو أن هناك فرقا بين قولنا: مضى لسبيله ومضى في سبيله، فإن قولك مضيت في سبيل وامضى في سبيلك معناه سر في الطريق التي أنت سائر فيها. وأما قولك (امض لسبيلك) فمعناه: امض للطريق التي تريدها كما تقول: اذهب، له وامض لعملك أي لأجله. وبمعنى (عند) كقولهم (كتبته لخمس خلون) (¬2). أي عند خمس وهي ليست كذلك إذ إنه لم يكتبها عند هذه الخمس بل عند مضيها وقيل هي بمعنى بعد (¬3). وهو أولى، غير أن هناك فرقا بين قولك (لخمس خلون) و (بعد خمس) فقولك بعد خمس لا يتعين فيه أنه اليوم السادس، بل ما بعد الخمس يحتمل السادس والسابع والعاشر وغيرهن، لأن ذلك كله بعد كما تقول: تعال بعد منتصف الشهر، وتعالى بعد العيد، وتعال بعد رمضان. كل ذلك يحتمل المباشرة وغيرها. فنحن نقول (محمد بعد عيسى) وبينهما قرون. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 212 - 213 (¬2) المغني 1/ 213 (¬3) شرح الرضي 2/ 365

وأما قوله (لخمس خلون) فيتعين أنه كتب بعدهن بلا فاصل أي في اليوم السالدس وهي للاختصاص كما يبدو. وكذلك قوله (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فإنها ليست بمعنى (بعد) تمامًا، كما يقول النحاة (¬1). فإن كلمة (بعد) تحتمل المدة القصيرة والطويلة بخلاف اللام. فالظاهر أنها للاختصاص. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وقيل تجيء بمعنى في، وبمعنى بعد، وبمعنى قبل في قوله تعالى: {جامع الناس ليوم} [آل عمران: 9]، أي في يوم وكتبته لثلاث خلون، أي بعد ثلاث بقين، أي قبل، والأولى بقاء الثلاثة على الاختصاص (¬2). والصيرورة وتسمى لام العاقبة والمآل نحو: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} [القصص: 8]، فإنهم لم يلتقطوه لذلك وإنما آل الأمر إلى ذلك، وأنكر البصريون هذه اللام (¬3). وقال الزمخشري إن التعليل فيها وارد على طريق المجاز جاء في (الكشاف) في تفسيره هذه الآية " ليكون هي لام (كي) التي معناها التعليل كقولك (جئتك لتكرمني) سواء بسواء ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة، لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا ولكن المحبة والتبني، غير أن ذلك لما كان داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا ولكن المحبة والتبني، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل لأجله وهو الاكرام الذي هو نتيجة المجيء والتأدب، الذي هو ثمرة الضرب في قولك ضربته ليتأدب. وتحريره أن هذه اللام حكمها حكم الأسد، حيث استعيرت لما يشبه التعليل كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد (¬4). ¬

_ (¬1) المغنى 1/ 213 (¬2) شرح الرضي 2/ 365، وانظر حاشية الشمنى على المغنى 2/ 31 (¬3) المغنى 1/ 214 (¬4) الكشاف 2/ 466

وقال الرضي إنها فرع لام الاختصاص (¬1). والتعجب، نحو يا للماء ويا للعشب إذا تعجبوا من كثرتهما، ونحو: لله دره فارسًا (¬2). وقد يكون مع التعجب القسم، نحو (الله لا يؤخر الأجل)، ويعنون بذلك الأمر العظيم " الذي يستحق أن يتعجب منه فلا يقال: لله لقد قام زيد، بل يستعمل في الأمور العظام نحو لله لتبعثن (¬3). وزائدة وهي أنواع منها: اللام المعترضة بين الفعل المعتدي مفعوله كقوله: وملكت ما بين العراق ويثرب ... ملكا أجار لمسلم ومعاهد (¬4). والمعنى أجاز مسلما ومعاهدا، وهي ليست قياسية فليس لك أن تقول: ضربت لخالد وأكرمت لمحمد، وهي زائدة للاختصاص. واختلف في اللام في نحو: {يريد الله ليبين لكم}، [النساء: 26]، ونحو: {وأمرنا لنسلم لرب العالمين} [الأنعام: 71]، فقيل زائدة داخلة على مفعول الإرادة والأمر، والمعنى، يريد الله أن يبين لكم، وأمرنا أن نسلم لرب العالمين. وقيل: بل اللام في نحو هذا للتعليل. والتقدير مثلا يريد الله إنزال هذه الآيات ليبين لكم. وعند سيبويه والخليل أن التقدير إرادتي للتبيين أي أن المجرور باللا خبر لمبتدأ هو مصدر مقدر من الفعل (¬5). جاء في (كتاب سيبويه): " وسألته عن معنى قوله: أريد لأن ¬

_ (¬1) شرح الرضي (2/ 364) (¬2) المغنى 1/ 214 - 215 (¬3) شرح الرضي 2/ 365 (¬4) المغنى 1/ 215 (¬5) انظر المغني 1/ 216، المتقضب 2/ 36، التفسير الكبير 10/ 66، قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم}.

تفعل فقال: إنما يريد أن يقول إرادتي لهذا كما قال عز وجل {وأمرت لأن أكون أول المسلمين} [الزمر: 12]، إنما هو أمرت لهذا (¬1). والراجح فيما أرى أن اللام في نحو هذا داخلة على المفعول وهي زائدة زيادة قياسية في مفعول هذين الفعلين، والغرض منها توكيد الاختصاص، ودخول اللام على المفعول له نظائر في الساميات كما سنذكر في خاتمة هذا الحرف. تقول: (أريد لأنسى ذكرها) بمعنى أريد أن أنسى ذكرها، وتقول: (اريد لأذهب إليه) على معنى أريد أن أذهب إليه. قال تعالى في سورة التوبة: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} [التوبة: 55]. وقال في سورة التوبة أيضا: {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله ان يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} [التوبة: 85]. فجاء في الآية الأولى باللام (ليعذبهم بها) ولم يأت في الآية الثانية: {إنما يريد الله أن يعذبهم بها} وزيادة اللام في الأولى يقتضيه السياق، وذلك أنها في سياق إنفاق الأموال والخطاب للمنافقين. قال تعالى: {قل أنفقوا طوعا أو كرهًا لن يتقبل منكم إنكم كنتم قومٍا فاسقين} [التوبة: 53]، {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا ياتون الصلاة إلا وهم كسالي ولا يفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54]، فلا تعجبك أموالهم ولا اولادهم .. ، وبعدها: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} وبعدها: {إنما الصدقات للفقراء .. }. فالسياق في انفاق الأموال والكلام على المنافقين وأموالهم، ثم وجه الخطاب للرسول قائلا: {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها} فزاد (لا) النافية توكيدا (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) وزاد اللام في (ليعذبهم) لزيادة الاختصاص وتوكيده. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 479

في حين أن السياق مختلف في الآية الأخرى، قال تعالى: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدًا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} [التوبة: 83]، {ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} [التوبة: 84]، {ولا تعجبك اموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدينا} فسياق الآيات الأولى في إنفاق الأموال، فأكد ذلك زيادة (لا) واللام ولما اختلف السياق في الآيات الأخرى خالف في التعبير، فلم يذكر (لا) ولا اللام، لأن المقام لا يقتضي التوكيد ههنا. ومثل ذلك قوله تعالى في سورة التوبة: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} [التوبة: 32]. وقوله في سورة الصف: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} [الصف: 8]. فقال في آية التوبة (يريدون أن يطفئوا) وقال في آية الصف (يريدون ليطفئوا) بزيادة اللام في المفعول للتوكيد، وذلك أن السياق مختلف في الآيتين، فالسياق في سورة الصف في تكذيب النصارى للبشارات بمجيء محمد: {وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد، فلما جاءهم بالبينات قالو هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} [الصف: 6 - 8]. ونور الله هو الإسلام فتكذيب النصارى للبشارة الواردة في كتبهم، القصد منه إطفاء نور الله فجاء باللام الدالة على التوكيد. وأما في آية التوبة فالسياق مختلف، وقد ذكرت الآية في سياق آخر لا يحتاج إلى مثل هذا التوكيد قال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن

الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} [التوبة: 30 - 32]. فالسياق في آيات الصف متجه إلى النبوة ومحاولة تكذيبها فجاء باللام، واسياق في آيات التوبة في النعي على معتقدات اليهود والنصارى في عزير والمسيح والأحبار والرهبان، فجاء باللام الزائدة في الآية الأولى لأن الكلام على نبوة محمد والإسلام ولم يأت بها في الآية الثانية لأن السياق مختلف. ثم ألا ترى من ناخية ثانية انه في موطن الرد على اليهود والنصارى في شركهم بالله جاء باللام، لأن الأمر يقتضي التوكيد فقال: {وما أمروا إلا لبعبدوا إلها وحدا}. فانظر كيف جاء باللام الزائدة للاختصاص في قوله: {يريدون أ، يطفئوا نور الله}، وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا}، لأن السياق يقتضي ذلك وحذفها في الموطن الذي لا يقتضيه؟ ومن اللام الزائدة اللام التي يسميها النحاة لام التقوية " وهي المزيدة لتقوية عامل ضعف أما بتأخره نحو: {هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} [الأعراف: 154]، ونحو: {إن كنتم للرءيا تعبرون} [يوسف: 43]، أو يكون فرعا في العمل نحو: {مصدقا لما معهم} [البقرة: 91]، {فعال لما يريد} [البروج: 16]، {نزاعة للشوى} [المعارج: 16] (¬1). فهم يرون أنها لتقوية العامل الذي ضعف بتأخره، لأن أقوى حالات العمل أن يتقد العامل، أو ضعف بكونه فرعا لأنهم يرون أن الأصل أقوى من الفرع، كأن يكون اسم فاعل أو صيغة مبالغة. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 217، شرح الرضي 2/ 364

على

وهذا فيما أرى كلام لا حقيقة تحته، فإن اللام للتقوية ولكن ليست لتقوية العامل الضعيف بل لتقوية الاختصاص وتوكيدهن فإنك تقول (أكرمت محمدًا) فإذا أردت التخصيص قلت (محمدًا أكرمت) بتقديم المفعول، فإذا أردت زيادة التخصيص وتوكيده جئت باللام الدالة على الاختصاص فتقول (لمحمد أكرمت). قال تعالى: {للذين هم لربهم يرهبون} أي: يخصونه بالرهبة، وذهب بعضهم إلى أنها لام التعليل (¬1). وهو أقرب من القول بأنها مقوية للعامل. وأما دخولها على مفعول اسم الفاعل، نحو (وهو الحق مصدقا لما معهم) فيبدو أن دخولها لمعنى آخر، وذلك إن قولك (أنا مكرم محمدًا) يدل على الحال أو الاستقبال، فإن اسم الفاعل إذا نصب مفعولا كان دالا على الحال أو الاستقبال، قال تعالى: {إني خلق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 71 - 72]، فهو لم يخلقه بعد لانه قال: (فإذا سويته) فإذا أدخلت اللام فقلت (أنا مكرم لمحمد) كان ذلك يفيد الإطلاق وليس مختصا بالحال أو الاستقبال، كما تقول (أنت مهين لسعيد) أي أنت تعينه، وقد أهانه قبل القول بخلاف (أنت مهينٌ سعيدًا). وأما دخولها على مفعول اسم المبالغة فللاختصاص أيضا، نحو (مناع للخير) و (نزاعة للشوى) و (فعال لما يريد) فهو يخص منعه بالخير وكذلك ما بعده. أن دخول اللام على المفعول ظاهرة في بعض من اللغات السامية كالعبرية والآرامية والحبشية. جاء في (التطور النحوي): " واللام للمفعول كثيرا في العبرية والآرامية وخصوصا في الحبشية مثال ذلك Ua - la hedan tegazreu أي فاختنوا الولد. ومثل هذا نادر جدا في العربية مثاله في القرآن الكريم {إن كنتم للرءيا تعبرون} واقتصرت اللام للمفعول في العربية غالبا على مفعول المصدر وفاعل وإخواتها، فوضعت العربية قواعد تحدد الحالات التي يجوز فيها استعمال اللام .. ومن خصائص العربية انها قد تعمل بعض الأوصاف المتعلقة بالعمل غير (فاعل) وأخواتها عمل (فاعل) أيسضا ونادرًا ما ¬

_ (¬1) تفسير فتح القدير 2/ 238، قوله تعالى: {لربهم يرهبون}.

من

ينصب مفعولها نحو (إن الله سميع دعاء من دعاه) وكثيرا ما تدخل عليه اللام نحو {سماعون للكذب} [المائدة: 42]، أو أمقت الناس للشرع (¬1). فهذه الظاهرة ليست مختصة بالعربية بل ربما كانت سامية قديمة احتفظت بها العربية. ولا يمنع أن تكون العربية خصت اللام في نحو هذا بمعنى كالاختصاص. فإن العربية خصت كثيرا من الظواهر السامية بمعان (¬2). من لـ (من) معان أشهرها: ابتداء الغاية نحو سافرت من بغداد إلى الموصل، فيبغداد ابتداء السفر. وتقول: إذا كتبت كتابا: من فلان إلى فلان" (¬3). ومنه قولك: (هو أفضل من زيد) فقد جعلت زيدا الموضع الذي ارتفع منه، أو سفل منه في قولك: شر من زيد (¬4). والأحسن أن يقال هي للابتداء لا لابتداء الغاية، لأن ابتداء الغاية معناه أن الحدث ممتد إلى غاية معينة كقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1]، ونحو: (جئت من داري)، فإن الأسراء امتد من المسجد الحرام وانتهى بالمسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى هو الغاية. جاء في (شرح الرضى على الكافية): " كثيرا ما يجري في كلاهم أن من، لابتداء الغاية وإلى لانتهاء الغاية، ولفظ الغاية يستعمل بمعنى النهاية وبمعنى المدى .. والمراد بالغاية في قولهم ابتداء الغاية وانتهاء الغاية جميع المسافة، إذ لا معنى لابتداء النهاية وانتهاء النهاية (¬5). ¬

_ (¬1) التطور النحوي 102 - 103 (¬2) انظر التطور النحوي 105 (¬3) كتاب سيبويه 2/ 307، وانظر المقتضب 4/ 136 - 137 (¬4) كتاب سيبويه 2/ 307 (¬5) شرح الرضي 2/ 355

و (من) تستعمل فيما هو أعم من ذلك، إذ تستعمل للابتداء عموما، سواء كان الحدث ممتدا أم لا، نحو: (اشتريت الكتاب من خالد) فخالد مبتدأ الشراء، وهو ليس حدثا ممتدا، ونحو (أخرجت الدراهم من الكيس) و (أخذت الكتاب من المنضدة) و (شربت الماء من الكأس) و (رأيت الهلال من داري)، و (سمعت صوتك من داخل غرفتي). فهذه كلها لا تفيد ابتداء الغاية، بل تفيد ابتداء وقوع الحدث، فإن الحدث ليس ممتدا كالاسراء والمجيء ونحوهما. وعند سيبويه والبصريين أنها لا تكون لابتداء غاية الزمان، فلا يصح أن تقول: (سافرت من يوم الخميس) وعند الكوفيين وجماعة أنها تكون لابتداء غاية الزمان، وغيره واستدلوا بقوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} [التوبة: 108] (¬1). وفي الحديث (فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة) (¬2). والبصريون يتأولون ذلك. والأرجح أنها تكون للزمان وغيره، جاء في (شرح الرضي على الكافية)، و (من) للابتداء في غير الزمان عند البصرية. . وأجاز الكوفيون استعمالها في الزمان أيضا استدلالا بقوله تعالى: {من أول يوم}، وقوله تعالى: {نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]، وقوله: لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن شهر وأنا لا أرى في الآيتين معنى الابتداء، إذ المقصود من معنى الابتداء في (من) أن يكون الفعل المتعدى بـ (من) الابتدائية شيئا ممتدا كالسير والمشي ونحوهن ويكون المجرور بـ (من) الشيء الذي منه ابتداء ذلك الفعل نحو: سرت من البصرة، ويكون الفعل المتعدي بها أصلا للشي الممتد، نحو (بدأت من فلان إلى فلان) وكذا خرجت من الدار، لأن الخروج ليس شيئا ممتدا إذ يقال (خرجت من الدار) إذا انفصلت منها، ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 355، شرح ابن يعيش 8/ 10 (¬2) التصريح 2/ 8

ولو بأقل خطوة وليس التأسيس والنداء حدثين ممتدين، ولا أصلين للمعنى الممتد، بل هما حدثان واقعان فيما بعد من، وهذا معنى (في)، فـ (من) في الآيتين بمعنى (في) ذلك لأن (من) في الظروف كثيرا ما تقع بمعنى (في) نحو جئت من قبل زيد ومن بعده {ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5]، وكنت من قدامك .. وكذا الأقواء لم يبتديء من الحجج، بل المعنى من أجل مرور حجج وشهر، والظاهر مذهب الكوفيين إذ لا منع من مثل قولك (نمت من أول اليل إلى آخره) و (صمت من أول الشهر إلى آخره) وهو كثير الاستعمال (¬1). وفي هذا الكلام نظر، فنحن نخالفه في أن المقصود من معنى الابتداء في (من) أن يكون الفعل شيئا ممتدا أو يكون أصلا للممتد، فإن ذلك في ابتداء الغاية وليس في عموم الابتداء كما ذكرنا، فقوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} [التوبة: 108]، (من) فيه للابتداء فبدء التأسيس على التقوى أول يوم فهي لابتداء وقوع الحدث. وأما ما ذهب إليه في معنى (من) الداخلة على الظروف، فقد ذكرناه في بحث الظرف ورجحنا أنها للابتداء، فـ (من) في الآية {ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5]، ليست بمعنى (في) وإنما هي للابتداء، جاء في (الكشاف) في تفسير هذه الآية: فإن قلت، هل لزيادة (من) في قوله (من بيننا وبينك حجاب) فائدة؟ قلت: نعم، لأنه لو قيل بيننا وبينك حجاب، لكا المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة من فالمعنى أن حجابا ابتدأ ما، وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لإفراغ فيها (¬2). ومعنى الابتداء هو الغالب على من، حتى ادعي جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه (¬3). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 355 - 356 (¬2) الكشاف 3/ 64 (¬3) المغني 1/ 318

الغاية وهو غير ابتداء الغاية، تقول: (رأيت محمدًا من داره) فقد جعلته غاية رؤيتك فأنت لم تكن في داره وإنما هو كان في داره فجعلته غاية رؤيتك. جاء في (كتاب سيبويه): " وتقول: رأيته من ذلك الموضع فجعلته غاية رؤيتك كما جعلته غاية، حيث أردت الابتداء والمنتهى" (¬1). وجاء في الأصول لابن السراج: وحقيقة هذه المسألة أنك إذا قلت: رأيت الهلال من موضعي فـ من ذلك، وإذا قلت رأيت الهلال من خلال السحاب فـ من للهلال والهلال غاية لرؤيتك، فكذلك جعل سيبويه من غاية في قولك (رأيته من ذلك الموضع) وهي عنده ابتداء غاية إذا كانت إلى معها مذكورة أو منوية فإذا استغنى الكلام عن (إلى) ولم يكن يقتضيها جعلها غاية ويدل على ذلك قوله: (ما رأيته مذ يومين)، فجعلتها غاية كما قلت (أخذته من ذلك المكان) فجعلته غاية ولم ترد منتهى، أي لم ترد ابتداء له منتهى، أي استغنى الكلام دون ذكر المنتهى، وهذا المعنى أراد، والله أعلم. وهذه المسألة ونحوها إنما تكون في الأفعال المتعدية، نحو رأيت، وسمعت، وشممت وأخذت، تقول (سمعت من بلادي الرعد من السماء) ورأيت من موضعي البرق من السحاب، وشممت من داري الريحان من الطريق. فـ (من) الأولى للفاعل، ومن الثانية للمفعول، وعلى هذا جميع الباب لا يجوز عندي غيره، إنما جاز هذا لأن للفعول حصة من الفعل كما للفاعل (¬2). التبعيض نحو قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11] وقوله: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} [البقرة: 204]، وذهب بعضهم إلى أن كونها للتبعيض راجع إلى ابتداء الغاية (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 308، وانظر المغنى 1/ 322 (¬2) الأصول 1/ 501 - 502 (¬3) المقتضب 1/ 44

جاء في (شرح ابن يعيش): فإذا قلت: أخذت من الدراهم درهما، فإنك ابتدأت بالدرهم ولم تنته إلى آخر الدراهم، فالدرهم ابتداء الأخذ إلى أن لا يبقى منه شيء ففي كل تبعيض معنى الابتداء. (¬1). بيان الجنس: نحو قولك: عندي خاتم من ذهب وباب من ساج أي جنس الخاتم ذهب وجنس الباب ساج، ونحو (أخذت عشرين من الدراهم) فإذا كنت أشرت بالدراهم إلى دراهم معينة أكثر من عشرين، فمن مبعضة لأن العشرين بعضها، وإذا كانت الدراهم عشرين فهي مبينة، لأنك قصدت بالدراهم الجنس (¬2). ورجعه بعض النحاة إلى معنى الابتداء (¬3). ورجعه سيبويه إلى معنى التبعيض: قال: " وكذلك ويحه من رجل، إنما أراد أن يجعل التعجب من بعض الرجال، وكذلك لي ملؤه من عسل" (¬4). وهذا المعنى يكون رجعه إلى الابتداء، فقولك (عدي باب من ساج) معناه ابتداء الأخذ من الساج، كما يمكن رجعه إلى التبعيض كما ذكر سيبويه. التعليل: كقوله تعالى: {يتواري من القوم من سوء ما بشر به} [النحل: 59]، وقوله: {ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83]. البدل كقوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة: 38] وقوله {من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن}، [الأنبياء: 42]، أي: بدل الرحمن. " وأنكر قوم مجيء (من) للبدل فقالوا: التقدير في {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} أي بدلا منها. فالمفيد للبدلية متعلقها المحذوف، وأما هي فللابتداء (¬5). ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 13 (¬2) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 357 (¬3) شرح ابن يعيش 8/ 13 (¬4) كتاب سيبويه 2/ 307 (¬5) المغني 1/ 320 - 321

المجاوزة بمعنى عن: وجعلوا منه قوله تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} [الزمر: 22]، وقوله: {ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا} [الأنبياء: 97] (¬1). بدليل قوله تعالى: {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم} [النساء: 102]، وقيل هي فيهما ابتدائية. والراجح أنها في الآية الأولى للتعليل أي من أجل ذكر الله، لأنه إذا ذكر قست قلوبهم (¬2). وهي كقوله تعالى: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} [التوبة: 125]، وقوله: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} [الزمر: 45] فذكر الله سبب لاشمئزازهم. وأما الآية الثانية فليست بمعنى (عن) والله أعلم، فإن ثمة فرقا بين الايتين، فقوله تعالى: {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم} [النساء: 102]، يفيد أن الغفلة عارضة و (عن) للمجاوزة، وذلك أن هؤلاء في ساحة القتال، وهم متهيئون له، معهم أسلحتهم وأمتعتهم ولكن يود الذين كفروا غفلة عن الأسلحة والأمتعة فيميلون عليهم. وأما الفغلة في قوله تعالى: {ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا} [الأنبياء: 97]، فهي غفلة ابتدائية لازمة لا عارضة، أي هم في غفلة دائمة، فلم يستعدوا للآخرة كما استعد أولئك للقتال، فغفلة هؤلاء ابتدائية ملازمة، ومثله قوله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22]، ولم يقل (عن هذا) لأن الإنسان في غفلة من عالم الغيب ملازمة له من حيث ولادته إلى أن يموت، فينكشف عنه عند ذاك الغطاء وتزول الحجب فيبصر ما لم يكن يبصر، ويرى ما لم يكن يرى، فالغفلة ابتدائية وذلك أن بينهما حجابًا، ابتداء من هذا الأمر، أو ذاك. وقيل: هي في هذه الآية للابتداء، لتفيد أن ما بعد ذلك من العذاب أشد، كأن هذا ¬

_ (¬1) المغني 1/ 321 (¬2) المغني 1/ 321

القائل يعلق معناها بويل مثل: {فويل للذين كفروا من النار} [ص: 27] (¬1). مرادفة الباء، نحو قوله تعالى: {ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45]، قاله يونس والظاهر أنها للابتداء. (¬2). ويترجح عندي أنها للتبعيض أي ينظرون ببعض طرفهم، وهو المناسب لمشهد الذل الذي هم فيه. ومثله في حياتنا اليومية، أن يغضب أب على ابنه. في فعلة فينهره ويغلظ عليه والابن لا يستطيع مواجهة أبيه بكل طرفه، بل ينظر إليه ببعض طرفه. موافقة على وجعلوا منه قوله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا} [الأنبياء: 77]، وقيل هي على التضمين، أي منعناه بالنصر (¬3). وهو ارجح بدليل قوله تعالى: {وياقوم من ينصرني من الله إن طردتهم} [هود: 30]، وقوله: {فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا} [غافر: 29]، ولا يصح أن تكونا بمعنى على. وقد ذكرنا ذلك في موطن سابق. زائدة نحو (ما جاءني من رجل) و (ما رأيت من أحد) وهي تفيد الاستغراق والتوكيد. فقولك (ما جاءني رجل) يحتمل أنه لم يأتك أحد من الجنس، ويحتمل أنه لم يأتك رجل واحد بل أكثرمن ذلك (¬4). فإذا قلت (ما جاءني من رجلٍ) نفيت أن يكون جاءك أحد من الجنس، وصار النفي نصا في الجنس. جاء في (المقتضب): " وذلك قولك (ما جاءني رجل) فيجوز أن تعني رجلا واحدًا .. فإذا قلت: (ما جاءني من رجل)، لم يقع ذلك إلا للجنس كله" (¬5). ¬

_ (¬1) المغني 1/ 321 (¬2) المغني 1/ 321 (¬3) المغني 1/ 322 (¬4) كتاب سيبويه 1/ 27، المقتصب 4/ 420، الأصول 1/ 109، شرح الرضي 2/ 358 (¬5) المقتضب 4/ 420، الأصول 1/ 105

ولذا يصح أن تقول: ما جاءني رجل بل رجلان، ويمتنع أن تقول ما جاءني من رجل بل رجلان. (¬1). وهي عند سيبويه كأنها مأخوذة من معنى التبعيض قال: " وقد تدخل في موضع لو لم تدخل فيه كان الكلام مستقيما، ولكنها توكيد بمنزلة (ما)، إلا أنها تجر لأنها حرف إضافة وذلك قولك (ما أتاني من رجل) و (ما رأيت من أحد) لو أخرجت (من) كان الكلام حسنا ولكنه أكد بمن لأن هذا موضع تبعيض فأراد أنه لم يأته بعض الرجال والناس (¬2). وذهب بعضهم إلى أنها في هذا المعنى للابتداء، جاء في (شرح ابن يعيش): " وأما زيادتها لاستغراق الجنس في قولك (ما جاءني من رجل) فإنما جعلت الرجل ابتداء غاية نفي المجيء إلى آخر الرجال، ومن ههنا دخلها معنى استغراق الجنس (¬3). وذهب بعضهم إلى أنها ليست زائدة، لأنها تفيد معنى وهو الاستغراق (¬4). وعلى كل، فإن الذين يقولون بزيادتها، والذين لا يقولولن بها، متفقون على أنها تفيد معنى الاستغراق والتوكيد، فإن معنى الزيادة عندهم دخولها على مجرور يطلبه العامل بدونها (¬5). فقولك (ما جاءني من رجل) دخلت فيه على الفاعل، وقولك (هل من خالق غير الله يرزقكم) [فاطر: 3]، دخلت فيه على المبتدأ وليست زائدة في المعنى. ولزيادتها شروط هي: 1 - أن يتقدم عليها نفي أو شبهه، وشبه النفي هو النهي والاستفهام، كقوله تعالى: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} [يونس: 61]، ¬

_ (¬1) المغني 1/ 322 (¬2) كتابه سيبويه 2/ 307 (¬3) شرح ابن يعيش 8/ 13 (¬4) انظر المقتضب 1/ 45 (¬5) التصريح 2/ 8

وقوله: {هل يراكم من أحدٍ} [التوبة: 127]، ولا تضرب من أحد. 2 - أن يكون مجرورها نكرة كما مثلنا. 3 - أن يكون مجرورها فاعلا، أو نائب فاعل، أو مفعولا به، أو مبتدأ، وقيل مفعولا مطلقا أيضا (¬1). وذكر أنه أجاز الكوفيون زيادتها في الإيجاب، بشرط تنكير مجرورها مستدلين بما حكى عن بعض العرب (قد كان من مطر): " وأجيب بأنه على سبيل الحكاية كأنه سئل هل كان من مطر؟ فأجيب (قد كان من مطر) فزيدت لأجل حكاية المزيدة في غير الموجب، كما قال: دعني من تمرتان (¬2). ثم قيل أن المعنى يأباه في الموجب، فإن قولك (جاءني من رجل) معناه جاءك جميع جنس الرجال وهو محال، جاء في (شرح ابن يعيش): " ولذلك لا يرى سيبويه زيادة (من) في الواجب لا تقول (جاءني من رجل) كما لا تقول (جاءني من أحد)، لأن استغراق الجنس في الواجب محال، إذ لا يتصور مجيء جميع الناس ويتصور ذلك في طرف النفي (¬3). وأجاز الأخفش زيادتها في الواجب، كما أجاز دخولها على المعارف مستدلا بقوله تعالى: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} [البقرة: 271]، و {يغفر لكم من ذنوبكم} [نوح: 4]، بدليل أنه ورد في آية آخرى، {ويكفر عنك سيئاتكم} [الأنفال: 29]، {ويغفر لكم ذنوبكم} [الصف: 12]، من دون (من) والحق أنهما للتبعيض، قال ابن يعيش: وأما قوله تعالى: {ويكفر عنكم سيئاتكم} فإن (من) للتبعيض أيضا لأن الله ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 323 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 358 (¬3) شرح ابن يعيش 8/ 13

منذ ومذ

عز وجل وعد على عمل ليس فيه التوبة، ولا اجتناب الكبائر تكفير بعض السيئات، وعلى عمل فيه توبة واجتناب الكبائر تمحيص جميع السيئات، يدل على ذلك قوله تعالى في الآية الأخرى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخوفها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم} [البقرة: 271]، فجيء بـ (من) ههنا، وفي قوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} [النساء: 31]، لم يأت بـ (من) لأنه سبحانه وعد باجتناب الكبائر تكفير جميع السيئات، ووعد بإخراج الصدقة على ما حد فيها، تكفير بعض السيئات (¬1). وكذلك قوله تعالى: {يغفر لك من ذنوبكم} فهي للتبعيض أيضا وليست بمعنى (يغفر لكم ذنوبكم) فإن الموطن مختلف فهي في الأولى في قوم نوح، والثانية في الأمة المحمدية (¬2). وارى أنه لا يصح القول بأن هذه اللفظة بمعنى تلك بالاستدلال بآية على أخرى، حتى يتماثل الموطنان والسياقان، فإن القرآن دقيق غاية الدقة في المخالفة بين التعابير والألفاظ لاختلاف الموطن والسياق. منذ ومذ هذا الحرفان لفظاهما متقاربان، فقد تضمن (منذ) حرفي (مذ) مع زيادة النون، ولذلك قالوا بأن أحدهما أصل للآخر، فقد قالوا إن أصل مذ منذ، وذلك لتقارب لفظيهما، كما ذكرنا ولأنك إذا اضطررت فحركت الذال من (مذ) حركتها بالضم، فتقول (ما رأيته مذ اليوم) فترجعها إلى الأصل، ولأنك إذا صغرت (مذ) قلت (منيذ) وإذا كسرتها قلت (أمناذ) (¬3). فرجعت النون في التصغير والتكسير. ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 31 (¬2) حاشية الخضري على ابن عقيل 1/ 299 (¬3) انظر كتاب سيبويه 2/ 122، وأسرار العربية 270، شرح ابن يعيش 8/ 46

ويذكر النحاة أن (منذ) لغة أهل الحجاز، وأما (مذ) فلغة بني تميم، وغيرهم ويشاركهم فيها أهل الحجاز (¬1). وأكثر العرب يجرون ما بعد (منذ) مطلقا وأما (مذ) فيجرون بعدها الحاضر، ويرفعون بعدها الماضي فيقولون مثلا: ما رأيته منذ يوم الجمعة. وما رأيته منذ يومنا - بالجر، ويقولون في (مذ): ما رأيته مذ يومان - بالرفع في الماضي. وما رأيته مذ يومنا - بالجر في الحاضر، أي في يومنا. وهناك لغات أخرى، إلا أن هذه لغة أكثر العرب، جاء في (المغنى): " وأكثر العرب على وجوب جرهما للحاضر، وعلى ترجيح جر (منذ) للماضي على رفعه، وترجيح رفع (مذ) للماضي على جره" (¬2). فهم لم يستعملوهما متماثلين، بل خضوا (مذ) باستعمال (ومذ) باستعمال، ثم أنهم جعلوا (مذ) إذا رفع ما بعدها لمعنى، وإذا جر ما بعدها لمعنى آخر، وهو الموافق لطبيعة العربي في التخصيص، جاء في (المقتضب): " أما (مذ) فيقع الاسم بعدها مرفوعا على معنى، ومخفوضا على معنى، فإذا رفعت فهي اسم مبتدأ وما بعدها خبره، غير أنها لا تقع إلا في الابتداء لقلة تمكنها، وأنها لا معنى لها في غيره، وذلك قولك (لم آته مذ يومان) وأنا أعرفه مذ ثلاثون سنة، وكلمتك مذ خمسة أيام. والمعنى إذا قلت: (لم آته مذ يومان) أنك قلت: لم أره، ثم خبرت بالمقدار والحقيقة والغاية فكأنك قلت: مدة ذلك يومان. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 132 (¬2) الغنى 1/ 335، وانظر الجمل للزجاجي 150 - 151، شرح الرضي على الكافية 2/ 132، لسان العرب 5/ 46

والتفسير بيني وبين رؤيته هذا المقدار، فكل موضع يرتفع فيه ما بعدها فهذا معناه. وأما الموضع الذي ينخفض ما بعدها فإن تقع في معنى (في) ونحوها، فيكون حرف خفض، وذلك قولك (أنت عندي مذ اليوم) ومذ الليلة، وأنا أراك مذ اليوم يا فتى، لأن المعنى في اليوم أو في الليلة، وليس المعنى أن بيني وبين رؤيتك مسافة، وكذلك: رأيت زيدا مذ يوم الجمعة يمدحك، وأنا أراك مذ سنة تتكلم في حاجة زيد لأنك تريد: أنا في حال رؤيتك مذ سنة، فإن أردت رأيتك مذ سنة، أي غاية المسافة إلى هذه الرؤية سنة، رفعت، لأنك لو قلت رأيتك، ثم قلت: بيني وبين ذلك سنة، فالمعنى أنك رأيته ثم غبرت سنة لا تراه. وإذا قال: أنا أراك مذ سنة، فإنما المعنى أنك في حال رؤية لم تنقض، وأن أولها مذ سنة، فلذلك قلت: أراك، لأنك تخبر عن حال لم تنقطع (¬1). ومن هذا يتبين أن هناك فرقًا في المعنى بين الرفع والجر في (مذ) عند أكثر العرب فهي إذا جرت كانت للحاضر، وإذا رفع ما بعدها كانت للمضي، فقولك (أنا أمشى في حاجتك منذ شهر) بالجر، معناه أنك لا تزال تمشي، وقولك (مشيت في حاجتك مذ) شهر بالرفع، معناه أنك مشيت من ذلك الحين، وانقطعت عن المشيز وكذلك قولك: (أنا مكرمه مذ شهر) بالجر، معناه أنك لا تزال تكرمه، وقولك (أنا مكرمه منذ شهرٌ) بالرفع معناه أنك أكرمته، في ذلك الوقت وانقطع الإكرام. ونحوه أن تقول: (هو مُعانٌ مذ سنةٍ) بالجر و (هو مُعانٌ مذ سنةٌ) بالرفع، فمعنى الجر أنه لا يزال يُعان مذ سنة، ومعنى الرفع أنه أعين منذ سنة ثم انقطعت الإعانة. قالوا وهذان الحرفان لابتداء الغاية، بمعنى (من) إذا كان الزمان ماضيا نحو: (ما رأيته منذ يوم الخميس) وبمعنى (في) إذا كان الزمان حاضرًا، نحو: ما رأيته منذ يومنا، وبمعنى (من) و (إلى) جميعا إن كان معدودا، نحو (ما رأيته منذ ثلاثة أيام) (¬2). ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 30 (¬2) المغنى 1/ 335

والحق إن (إلى) مفهومة منهما مطلقًا، إذا كان الزمان ماضيًا، فقولك (ما رأيته منذ يوم الخميس) معناه إلى الآن. ولا يجوز وقوعهما للاستقبال (¬1). فلا تقول سأسافر منذ غد، ولا سأنقطع عن العمل منذ غد. والنحاة يفرقون بينهما إذا وقع بعدهما الاسم مرفوعا، أو مجرورًا، فهما اسمان ظرفان، إذا وقع بعدهما الاسم مرفوعا، وحرفا جر إذا وقع بعدهما الاسم مجرورا. ويعربونهما مبتدأ، وما بعدهما خبرا، في نحو (ما رأيته منذ يومان) على معنى أمد ذلك يومان، أو خبرين لما بعدهما، مقدمين على معنى بيني وبين رؤيته يومان، وقيل: هما ظرفان مضافان إلى جملة حذف فعلها وبقي فاعله، والأصل مذ كان يومان (¬2). وينبني على ذلك أمر آخر، وهو أنه إذا جاء الاسم بعدهما مجرورا، فالكلام جملة واحدة وإذا وقع بعدهما الاسم مرفوعا فالكلام جملتان، فقولك (ما رأيته منذ يومين) جملة واحدة، وقولك (ما رأيته منذ يومان) جملتان، الأولى (ما رأيته)، والثانية (مذ يومان) (¬3).، ومعنى ذلك أنك أخبرت بنفي الرؤية أولا، ثم بدا لك أن تخبر إخبارا ثانيا عن المدة فقلت: أمد ذلك يومان، قالوا وهي كالمفسرة، وقال السيرافي هي حالية أي متقدمًا (¬4). والصواب أنها استئنافية وإذا كانا حرفي جر، فمعنى ذلك أنك أخبرت أخبارا واحدا، وجعلت الكلام سردا واحدا. ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي 2/ 132، الأشموني 2/ 107 (¬2) انظر المغني 1/ 335، شرح الرضي على الكافية 2/ 136، شرح ابن يعيش 8/ 46 (¬3) شرح ابن يعيش 8/ 44، شرح الرضي 2/ 137، جواهر الأدب 225 (¬4) شرح الرضي على الكافية 2/ 137

الواو

ويترجح عندي أنهما اسمان مطلقا (¬1). سواء ورد بعدهما الاسم مجرورا أم مرفوعا وسواء وقع بعدهما اسم أم فعل، وهما مضافان إلى ما بعدهما، والله أعلم. الواو ونعنى بها واو القسم، وهي حرف جر يدخل على الأسماء الظاهرة، نحو قوله تعالى: {والتين والزيتون} [التين: 1] وقوله: {والليل إذا يغشى} [الليل: 1]، وقوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] ولا يدخل على الضمير، ولا يذكر معه فعل القسم، فلا تقول: أقسم والله كما تقول: أقسم بالله، ولا يتلقي بها القسم الاستعطافي والطلبي، فلا تقول: (والله هل فعلت) ولا (والله لا تفعل) كما في الباء، فإنك تقول فيه: (بربك هل فعلت) و (بربك لا تفعل). المعاني المشتركة تبين مما تقدم أن هناك معاني مشتركة تؤديها طائفة من حروف الجر، كالتعليل، والظرفية والبدلية والاستعلاء وغيرها. فالتعليل مثلا يؤدي باللام، وبـ (من) والباء، و (في) غيرها والظرفية تؤدي بـ (في)، والباء (وعلى) وغيرها، ونحو ذلك. فهل يكون المعنى المشترك متماثلا في هذه الأحرف؟ هل التعليل باللام، والباء و (من) واحد؟ وهل الظرفية بالباء، و (في) و (على) واحدة؟ وقل مثل ذلك في سائر المعاني. وقد ذكرنا قسما من هذه المعاني في مواطنها، وذكرنا فيها رأينا، والآن نذكر أشهر ما بقي منها. ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 45

التعليل

التعليل: يؤدي التعليل باللام كقوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء} [النحل: 5] وقوله: {ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون} [الروم: 44]، وقوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [هود: 18 - 19]. ويؤدي بالباء، نحو قوله تعالى: {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10]، وقوله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء: 160] ويؤدي بـ (من) كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} [الأنعام: 151]، وقوله: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} [نوح: 25]. ويؤدي بـ (في)، نحو قوله تعالى: {لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم} [النور: 14]، وقوله (ص)، دخلت امرأة النار في هرة حبستها .. )، وغير ذلك، فهل معنى التعليل في هذه الأحرف متماثل؟ الحق أنه غير متماثل، وإن كان المعنى العام واحدا، فالتعليل بالباء غيره باللام غيره بـ (من) و (في) فإن لكل حرف من حروف التعليل معنى خاصا، وإن كانت كلها تفيد التعليل، ولذا لا يصح إبدال حرف مكان آخر دوما، فلا يصح مثلا في قوله تعالى: {وإذ استسقي موسى لقومه} [البقرة: 60]، أن تقول: (وإذ استسقي موسى بقومه أو في قومه أو على قومه) لأداء المعنى نفسه، ولا يصح في قوله تعالى: {سخرها لكم} [الحج: 37]، أن تقول: (سخرها بكم أو فيكم أو منكم)، ولا يصح في قوله تعالى: {والأرض وضعها للأنام} [الرحمن: 10]، أن تقول: (والأرض وضعها على الأنام أو في الأنام أو بالأنام أو من الأنعام) لإرادة معنى التعليل، ولو كانت المعاني متماثلة لصح إبدال حرف بآخر. إن التعليل بالباء إنما هو بمقابل شيء حصل، تقول: (عاقبته بذنبه) فالعقاب مقابل الذنب الذي اقترفه صاحبه، وهو كأنه عوض عنه أو ثمن له جرى عليه بسببه،

قال تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} [البقرة: 88]، فاللعنة مقابل الكفر، وقال: {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10] فالعذاب مقابل كذبهم، وقال: {سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله} [آل عمران: 155]، أي مقابل ذلك، وقال: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} [يوم: 41]، فإن ظهور الفساد مقابل ما فعله الناس. وليست اللام كذلك، فإن اللام تفيد سبب حدوث الفعل، وليست مقابلا لشيء حصل فأنت تقول: (جئت للاستفادة) فالاستفادة ليست مقابل شيء، وتقول: (أرسلته لاختباره) فالاختبار ليس مقابلا لشيء، وإنما ذكرت سبب المجيء والإرسال، وتقول: (أرسلته لتجربته) و (أرسلته بتجربته) فقد أفادت الأولى أنه أرسله ليجربه، والثانية أرسله لأنه مجرب أي مقابل تجربته التي حدثت قبل إرساله. إن التعليل باللام يختلف عن التعليل بالباء، وذلك إن العلة المقترنة بالباء تكون حاصلة قبل حدوث الفعل في الغالب، وإن الفعل حصل مقابلا لها، أما العلة المقترنة باللام فقد تكون حاصلة قبل الفعل، وقد تكون مرادا تحصيلها، قال تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} [البقرة: 88]، فاللعن مقابل الكفر، والكفر حاصل قبل اللعن، وتقول: (جئت للاطلاع) فالاطلاع غير حاصل في أثناء المجيء وإنما يطلب تحصيله، وتقول (جئت لمعالجة فلان) فالمعالجة هي السبب الداعي للمجئ وهي غير حاصلة في أثناء المجيء، بل يراد تحصيلها، وقد يكون السبب موجودًا وهو الدافع للفعل، كقولك (عاقبته لاسائته إلى فلان) و (رسب لاهماله) فالإساءة هي سبب العقوبة وهي موجودة قبل العقاب، وكذلك الاهمال. ولذا لا يصح تعاقب الحرفين دوما. قال تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]، ولا تقول بذكري، وقال: {إنما نطعمكم لوجه الله} [الإنسان: 9]، ولا تقول بوجه الله، وقال {ينبت لكم به الزرع والزيتون} [النحل: 11]، ولا تقول: (ينبت بكم به الزرع). إن التعليل بالباء يفيد المقابلة، والثمن، بخلاف اللام التي تفيد الاختصاص والاستحقاق.

وأما التعليل بـ (من) ففيه معنى الابتداء، فعندما تقول (قتله من إملاق) يكون المعنى أن القتل صدر من الإملاق، وحصل منه فهو مبدأ الفعل، ونحوه: (بكي من الألم) و (عض أصبعه من الندم) بمعنى حصل البكاء، من الألم وصدر منه، وحصل العض من الندم وصدر منه، فالندم أسبق من العض، ومنه حصل العض، والألم أسبق من البكاء ومنه صدر البكاء، فالعلة بـ (من) أسبق وجودًا من الحدث. فـ (من) التعليلية تفيد الابتداء، والباء تفيد المقابلة، واللام تفيد الاستحقاق والاختصاص. تبين مما سبق أن العلة المسبوقة بالباء و (من) موجودة قبل الحدث، أما العلة المسبوقة باللام فقد تكون واقعة قبل الحدث، وقد تكون مرادا تحصيلها. وتبين لنا أن التعليل بالباء و (من) مختلفان، فالتعليل بالباء يفيد العوض والمقابلة، وأما التعليل بـ (من) فيفيد الابتداء، فقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} لا يصح فيه أن نقول بإملاق، وقولنا ((عض أصبعه من الندم) لا يصح أن نقول فيه بالندم. وقولنا (قعد من الجبن) لا يصح أن نقول فيه قعد بالجبن، لأنه ليس مقابلا للقعود، وإنما حصل منه القعود ونشأ منه. قال تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} [البقرة: 61]، فما حصل هو مقابل كفرهم. وقد تحسن معاقبة الباء و (من) في تعبير واحد، وكل على تقدير معنى، فمثلا قوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} [نوح: 25]، المعنى فيه أن الماء دخل عليهم من حطيئاتهم، أي جاءهم من هذا المكان، كأن الخطيئات ثغرة دخل منها الماء، فهي للابتداء، ولو قلت: (بخطيئاتهم أغرقوا) لكان المعنى أن الغرق مقابل للخطيئات، كأنهم أدوا ثمن الخطيئات وهو الغرق، وقال تعالى: {فأخذتهم الصاعقة بظلمهم} [النساء: 153]، أي هذا مقابل ذاك، فالصاعقة ثمن الظلم، ولو قال (من ظلمهم) لكان المعنى أن الصاعقة جاءتهم من موطن الظلم، فالباء تفيد المقابلة والعوض، و (من) تفيد الابتداء.

جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وقد تجيء - لا يعني من - للتعليل نحو (لم آتك من سوء أدبك) أي من أجله، وكأنها ابتدائية لأن ترك الاتيان حصل من سوء الأدب". (¬1). وأما التعليل بـ (على) ففيه معنى الاستعلاء، فإذا قلت: (كافأته على إحسانه) كان المعنى كأنك وضعت المكافأة على الإحسان، وإذا قلت (عاقبته على إساءته) كان المعنى كأنك جعلت العقوبة على الإساءة، أي وضعتها عليها، قال تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]، أي يكون التكبير على الهداية كما تقول (كبر على النصر) جعل النصر شيئا يكبر عليه، كما يكون التكبير على الذبيحة ونحوها. وأما (في) فتفيد الظرفية، فقوله تعالى: {لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم} [النور: 14]، معناه أنه جعل العذاب في الإفاضة فكأن هذه الإفاضة ظرف في داخله العذاب، ونحوه ان تقول (عذبته في فعلته) فكأن الفعلة فصلت فيها العذاب، وقد تضمنته واحتوته احتواء الظرف على ما في داخله، قال صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، والمعنى دخلت امرأة النار في هذه الفعلة على معنى أن هذه الفعلة ظرف احتوى المرأة وأدخلها النار. وقد تتعاقب الحروف كلها في تعبير واحد، وكل منها على تقدير معنى فمثلا نحن نقول: أخذته الصاعقة لظلمه وبظلمه ومن ظلمه وعلى ظلمه وفي ظلمه، وكل له معنى، فأما أخذته الصاعقة لظلمه، فمعناه ان ظلمه سبب استحقاق العذاب، أي استحق العذاب لهذا. وأما (بظلمه) فمعناه أنه مقابل ظلمه. وأما (من ظلمه) فكأن الصاعقة أخذته من ذلك المكان، أي جاءته ودخلت عليه من الظلم. وأما (على ظلمه) فكأن الصاعقة وقعت على ظلمه. وأما (في ظلمه) فمعناه أن الظلم تضمن الصاعقة واحتواها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 358

الظرفية

الظرفية: تستعمل (في) للظرفية نحو (محمد في الدار) و (الزيت في القارورة) ونحو قوله تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات} [فصلت: 16]. ويستعمل الباء للظرفية، أيضا نحو (ولد بالبصرة) ونحو قوله تعالى {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} [آل عمران: 123]، وقوله: {من يكلؤك بالليل والنهار من الرحمن} [الأنبياء: 42]. وقالوا: قد تستعمل (على) لذلك، نحو قوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} [القصص: 15]، أي في حين غفلة، ونحو قولنا: (كان ذلك على عهد الواثق) و (جمع المصحف على عهد أبي بكر). فما معنى الظرفية في كل حرف من هذه الأحرف؟ وهل هي ظرفية متماثلة؟ إن ظرفية (في) ظرفية تضمن واحتواء، وظرفية الباء ظرفية ملاصقة واقتران، نقول: (الماء في الحب) و (الزيت في القارورة) ولا نقول (الماء بالحب) ولا (الزيت بالقارورة) لأن الحب يحتوي الماء والقارورة تحتوي الزيت، ونقول (دفن في القبر) لأن القبر تضمنه واحتواه. قال تعالى: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور} [العاديات: 9 - 10]، ونقول (كان في السفينة) قال تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك} [يونس: 22]، لأن الفلك تضمنت من فيها ولا نقول (بالسفينة). ونقول: (أقام بالبصرة) على معنى الملاصقة والاقتران، فإن قلت (أقام فيها) فعل معنى تضمنته واحتوته، وتقول (ذهب في الناس) أي دخل فيهم، فهم احتووه وتضمنوه، ولا نقول: (دخل بهم) على هذا المعنى. ونقول: (أدخلت الخاتم في أصبعي، والقلنسوة في رأسي) ولا نقول: (بإصبعي) (برأسي) جاء في (الأصول): " واعلم أن العرب تتسع فيها - أي في حروف الجر - فتقيم بعضها مقام بعض إذا تقاربت المعاني، فمن ذلك الباء، تقول فلان بمكة وفي

مكة، وإنما جازا معا، لأنك إذا قلت (فلان بموضع كذا وكذا) فقد خبرت عن اتصاله والتصاقه بذلك الموضع، وإذا قلت (في موضع كذا) فقد خبر بـ (في) عن احتوائه إياه وإحاطته به" (¬1). فالباء للملاصقة والاقتران، و (في) للاحتواء، قال تعالى: {ينفقون أموالهم بالليل والنهار} [البقرة: 274]، وقال: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} [الأنعام: 60]، فجاء بالباء لأن الانفاق مقترن بوقت الليل والنهار، وكذلك التوفي، بخلاف قوله تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} [الحج: 61]، فإنه جاء بـ (في) لإرادة التضمن والاحتواء والدخول، فقد جعل النهار ظرفا لليل، والليل ظرفا للنهار، كأنه يحتويه، أي يدخل فيه فلما كان كذلك جاء بـ (في) بخلاف ما مر فإن التوفي لايدخل في الليل، ولا الانفاق، وإنما يقترن الفعل بهذا الوقت، فجاء بالباء لإرادة المصاحبة والاقتران وجاء بـ (في) للتضمن والاحتواء. ونقول: (نزل بالبئر) و (نزل في البئر) فالأولى على معنى أنه نزل بقربها كما تقول: أكلنا بالعين وشربنا بها أي أقمنا بقربها، فإن أردت النزول في داخلها فلا تقول إلا (نزل في البئر) فالباء للملاصقة و (في) للاحتواء. ونقول (هو ينفق الماء بالليل) و (هو ينفق المال في الليالي الحمراء) فإن معنى الأولى أن وقت الانفاق هو الليل، أي يقترن الحدث بهذا الوقت وبصاحبه، وأما الثانية فعلى معنى أنه يذهبه في الفسوق، فجعل الليالي وعاء يرمي فيه المال. فـ (في) تفيد الولوج والتضمن، وأما الباء فللاقتران، والمصاحبة والملاصقة. وأما (على) فقد جاءت للظرفية، في قوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} [القصص: 15] أي في حين غفلة كما يقول النحاة. ¬

_ (¬1) الأصول: 1/ 505 - 506

والحق أنها ليست بمعنى (في) تمامًا، فإن ثمة فرقا بين قولنا (جاءنا على غفلة)، و (جاءنا في غفلة) ألا ترى إنا نقول (هاجمه في وقت العفلة)، ولا نقول (هاجمه على وقت الغفلة) ونقول (دخل المدينة في وقت العصر)، ولا نقول (على وقت العصر)، ولو كانت بمعناها لصح ذلك. الذي يبدو أن قولنا (هاجمه في غفلة) معناه أنه هاجمه وهو ادخل في الغفلة، وكذلك (جاءه في غفلة) أي جاءه هو داخل في الغفلة، وإنما كان عليها أي لم تحتوه ولم تتضمنه، فقولك (هاجمه على غفلة) معناه أنه انتهز فرصة غفلة عرضت له وهاجمه. ومثله ما نقوله في الدراجة (جئت على أولها) و (جئت في أولها) و (جئت على أول الصلاة) و (جئت في أولها) فمعنى (جئت في أولها) أنك جئت وهم داخلون في أولها، وأما (جئت على أولها) فالمعنى أنك استعليت على أولها وشاهدته، فالمجيء أسبق. وتقول (جئت على حين قتل إسماعيل) و (جئت في حين قتل إسماعيل) فمعنى الأول إنك جئت مستعليا على الوقت، وشاهدت الفعلة، ومعنى الثانية إنك جئت وقد دخلت في هذا الوقت، فالمجيء الأول أسبق، وربما لم تشاهد الفعلة في الثانية، ومما يوضح هذا أنك تقول (جئت على سفر محمد) و (جئت في سفر محمد) فمعنى الأولى أنك جئت وهو متهي للسفر فشاهدت سفره، وأما قولك (جئت في سفر محمد) فمعناه أنك جئت وهو مسافر ولم تشاهده. وتقول: (دخلت الموصل في حين غرق بغداد) أي دخلتها في هذا الوقت، ولم تشاهد غرق بغداد، وأما (جئت على غرق بغداد) فمعناه أنك شاهدته. فـ (في) تفيد الدخول وعلى تفيد الاستعلاء وليس معناها الدخول وأما قولهم (كان ذلك على عهد فلان) فالظاهر، أنه يختلف عن قولهم، كان ذلك في عهده.

زيادة (ما)

فالذي يبدو أن قولهم (كان ذلك على عهده) معناه أن الحدث مختص بأمر من أمور الدولة، أو بما هو من شأنها، كأن تقول (جمع المصحف على عهد أبي بكر) و (بنيت البصرة على عهد عمر) و (فتحت عمورية على عهد المعتصم) كأن العهد حمل هذه الاعمال، وقام بها، ولا تقول (بنيت دارا على عهد الواثق) ولا (سافرت إلى البصرة على عهد المتوكل) لأن ذلك ليس من شأن الدولة. وأما (في) فهي لعموم الظرفية، فتقول: (بنيت دارا في زمن المتوكل) و (تزوجت في عهد فلان) و (انتصر الروم على الفرس في عهد الرسول وفي زمن الرسول) لأن الحدث ثم في ذلك الوقت، ولا تقول على عهده لأنه لم يفعله وهو ليس من شأن حكومته صلى الله عليه وسلم. فإن عهده لم يتحمل هذه المسألة. فـ (على) للاستعلاء وذلك أنها تفيد أن الحكم إضطلاع بالأمر أو هو من شأنه أن يفعله والله أعلم. زيادة (ما) تزاد ما بعد طائفة من حروف الجر، وزيادتها على ضربين: 1 - كافة عن الجر نحو: ربما سعيت إلى حتفك وأنت لا تعلم. 2 - غير كافة، نحو قوله تعالى: {عما قليل ليصبحن نادمين} [المؤمنون: 40]. ما الكافة. وتدخل على رب والكاف، ونحو قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كان مسلمين} [الحجر: 2]، ونحو (كن كما أنت) ونحو قوله: وأعلم أنني وأبا حميد ... كما النشوان والرجل الحليم.

وقوله: أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد ... كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه (¬1). ونحو قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) وهي في الحديث ليست مصدرية فإنه لم يقع التشبيه بالرؤية، وأنت لو صرحت بالمصدر ههنا، لم يكن كلاما صحيحا فإنه لو قيل: صلوا كرؤيتكم صلاتي، لم يكن مطابقًا للمعنى المقصود (¬2). ونحو قوله تعالى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف: 138]، قيل: وقد تدخل على (من) والباء نحو (إني مما افعل ذاك) ونحو قوله: وإنا لما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم وقوله: فلئن صرت لا تحير جوابا ... ليما قد ترى وأنت خطيب ويحتملان غير ذلك (¬3). والغرض من زيادة (ما) هذه أن تهيء الحرف للدخول على ما لم يكن يدخل عليه فيدخل على الأفعال وعلى الجمل الإسمية، فهي توسع دائرة استعمال الحرف، بعد أن كان منحصرًا في دائرة معينة، ف (رب) مثلا مختصة بالأسماء الظاهرة النكرة، فإذا دخلت عليها (ما) هذه وسعت دائرة استعمالها، فأصبحت تدخل على الأسماء الظاهرة والمضمرة، على النكرات والمعارف، على الأفعال والأسماء تقول (رب كلمة تهوي بصاحبها في النار) ولا يصح أن نقول (رب الكلمة) ولا (رب تهوى) فإن أدخلت عليها (ما) هذه صح كل ذلك فتقول: (ربما ألقت الكلمة صاحبها في النار) و (ربما الكلمة عادت على صاحبها بالوبال)، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) المغني 1/ 178، 309 (¬2) بدائع الفوائد 1/ 144 (¬3) انظر كتاب سيبويه 1/ 476، المغني 1/ 310

ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعتاجيج بينهن المهار فقد وسعت (ما) معنى التقليل والتكثير في (رب)، وقد التفت القدامى إلى وظيفة (ما) هذه جاء في تفسير الرازي، والنحويون يسمون ما، هذه الكافة يريدون أنها بدخولها كفت الحرف عن العمل الذي كان له، وإذا حصل هذا الكف فحينئذ تتهيأ للدخول على ما لم تكن تدخل عليه، ألا ترى أن (رب) إنما تدخل على الاسم المفرد نحو (رب رجل يقول ذاك) ولا تدخل على الفعل فلما دخلت (ما) عليها هيأتها للدخول على الفعل كهذه الآية (¬1). يعني قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا} [الحجر: 2]. وجاء في (لسان العرب) /: والفرق بين ربما، ورب، أن رب لا يليه غير الاسم، وأما ربما فإنه زيدت ما مع رب ليليها الفعل، تقول رب رجل جاءني، وربما جاءني زيد، ورب يوم بكرت فيه، ورب خمرة شربتها، ويقال ربما جاءني فلان، وربما حضرني زيد (¬2). وجاء في شرح الكافية للرضي: وأما ما التي بعد رب، .. فهي تكفها عن العمل فلا تطلب متعلقا. وتبقي رب للتقليل، أي لتقليل النسبة التي في الجملة الواقعة بعدها (¬3). ومثلها الكاف فإن الكاف لتشبيه مفرد بمفرد ظاهر، فتقول (هو كالبحر) وهي كاللؤلؤة، ولا تدخل على المضمر، ولا على فعل، فإن جئت بـ ما اتسع التشبيه بها، وصارت تدخل على الظاهر والمضمر، وعلى الأسماء والأفعال، وتستعمل لتشبيه مفرد بمفرد، ولتشبيه مضمون جملة بأخرى (¬4). وذلك نحو (كن كما أنت) فقد دخلت على ¬

_ (¬1) التفسير الكبير 19/ 152، وانظر المغنى 1/ 137، جواهر الأدب 219، بدائع الفوائد 1/ 144 (¬2) لسان العرب 1/ 393 (¬3) شرح الرضي 2/ 381 - 382 (¬4) انظر شرح الرضي 2/ 381

الضمير، ونحو (كما تكونون يولي عليكم) و (صلوا كما رأيتموني أصلي) و {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف: 138]، فقد وسعت ما دائرة التشبيه بالكاف. وقيل إن كما تفيد التشبيه والمماثلة الحقيقية، بخلاف كأن، تقول: (اضربه كما ضربك) والمعنى اضره ضربا مماثلا لضربه لك، بخلاف قولك (اضربه كأن قد ضربك) فإنه لا يفيد أنه ضربك، وتقول (إمدحه كما مدحك) والمعنى إمدحه مدحا مماثلا لمدحه لك، والمعنى أنه مدحك، ولو قلت (امدحه كأنه مدحك) لكان المعنى أنه لم يمدحك جاء في التطور النحوي: وكأن وكأن تفيدان فرض كون الشيء غير ما هو عليه في الحقيقة، وكما تفيد التشبيه والتمثيل الحقيقي، مثال ذلك {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} [الأعراف: 171]، والجبل لم يكن ظلة أو مثل ظلة، بل كان ضدها في المتانة والرسو، والمعنى لو كان الجبل كظلة، لكان نتفه، ورفعه، وزلزلته، قريبا من الاحتمال فلأنه لم يكن كظلة، كان نتفه من المعجزات. وكما مثل (آمنا كما آمن الناس) يعني إيماننا مثل إيمانهم (¬1). وذكروا كما معاني أخرى غير هذه منها: المبادرة نحو (سلم كما تدخل) أي بادر الدخول بالسلام، نحو: (صل كما يدخل الوقت) بمعنى بادر بالصلاة عند دخول الوقت. ومنها أن تكون بمعنى قران الفعلين في الوجود نحو قولك: (كما قام زيد قعد عمرو) فقد اقترن الفعلان في الوجود وفيها معنى المبادرة. قالوا: وقد تكون بمعنى (لعل) نحو (انتظرني كما آتيك) أي: لعلما آتيك، قال رؤية، لا تشتم الناس كما لا تشتم، فيكون قد تغير معنى الكلمة بالتركيب (¬2). ¬

_ (¬1) التطور النحوي 127 (¬2) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 381، المغني 1/ 179

ما غير الكافة

ويحتمل أن يكون معنى قول رؤبة (لا تشتم الناس كما لا تحب ان تشتم) وعلى أية حال فوظيفة (ما) هذه توسع دائرة الاستعمال، سواء أكانت مع حروف الجر أم مع غيرها، وذلك كما في الأحرف المشبهة بالفعل، فإنها إذا دخلت عليها (وما) هذه وسعت استعمالها فصارت تدخل على الأفعال والأسماء، بعد أن اكنت مختصة بالدخلو على الأسماء، وكما في (بعد) وبين، فهما مختصتان بالإضافة إلى الأسماء، فإذا دخلت عليهما (ما) هذه صح دخولها عن الجمل الفعلية والإسمية، تقول (بعد ما كان ملكا أصبح سوقة) قال الشاعر: أعلاقة أم الوليد بعدما ... افنان رأسك كالثغام المخلس وقيل (ما) مصدرية، ونحوه: بينما نحن بالأراك معا ... أذ أتى راكب على جمله وتقول: (بينما كنت سائرا، إذ طلع علي رجل مهيب الطلعة). وكما في طال، وكثر وقل، فهي مختصة بالاسماء، تقول: طال السفر وقل الزاد، فإن دخلت عليها ما هيأتها للدخول على الأفعال، تقول: طالما اجتمعنا وقلما اتفقنا. وقيل هي مصدرية (¬1). ما غير الكافة: تزاد ما غير كافة بعد طائفة من حروف الجر، وذلك بعد من، وعن، والباء ورب، والكاف فيبقي لها اختصاصها كما كان وذلك نحو قوله تعالى: {عما قليل ليصبحن نادمين} [المؤمنون: 40]، وقوله: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 13]، وقوله: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأخلوا نارا} [نوح: 25]، وقول الشاعر: ربما ضربة بسيف صقيل ... بين بصري وطعنة نجلاء ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي 2/ 382، المغني 1/ 311

وقوله: ماوي ياربتما غارة ... شعواء كاللدغة بالميسم وقوله: وننصر مولانا ونعلم أنه .. كما الناس مجروم عليه وجارم (¬1). وهي في هذا الموطن مؤكدة، قال تعالى: {عما قليل ليصبحن نادمين} فأكد أنه بعد قليل سيندمون، ألا ترى كيف قرن نون التوكيد معها لزيادة التوكيد، كما قرنها معها في غير هذا الموطن، قال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة} [الأنفال: 58]، فجمع بين (ما) ونون التوكيد لزيادة التوكيد، وكما يجمع بين اللام وإن، ونحو: {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [الأعراف: 167]، وكما يجمع بين القسم وإن لزيادة التوكيد نحو (والله إنك لمؤتمن) قال سيبويه: وأما قوله: عز وجل: {فيما نقضهم ميثاقهم} فإنما جاء لأنه ليس ما معنى سوى ما كان قبل أن تجيء به إلا التوكيد، ثمن ثم جاء ذلك إذا لم ترد به أكثر من هذا (¬2). وجاء في لسان العرب: وتجيء ما صلة يريد بها التوكيد كقول الله عز وجل: {فبما نقضهم ميثاقهم} المعنى: فبنقضهم ميثاقهم. وقال ابن الأنباري في قوله عز وجل {عمل قليل ليصبحن نادمين} قال يجوز أن يكون معناه: عن قليل وما توكيد، ويجوز أن يكون المعنى: عن شيء قليل وعن وقت قليل فيصبر (ما) اسما غير توكيد" (¬3). وهي تفيد التوكيد أيضا إذا زيدت في غير هذا الموطن، وذلك نحو ما ذكرنا من زيادتها بعد أدوات الشرط نحو: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} [الإسراء: 28]. ¬

_ (¬1) شرح ابن عقيل 1/ 234، جواهر الأدب 220، شرح الرضي على الكافية 2/ 368 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 92 (¬3) لسان العرب 20/ 363، وانظر المغنى 1/ 316، شرح ابن يعيش 8/ 30

ولذلك يكثر وصل نون التوكيد بالفعل بعدها، ونحو: {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110]، وكزيادتها بعد الأحرف المشبهة بالفعل، إذا لم تكن كافة نحو (ليتما محمد معنا)، جاء في (كتاب سيبويه): وتكون وتوكيد لغوا وذلك قوله (متى ما تأتني آتك) وقولك: (غضبت من غير ما جرم) وقال عز وجل: {فبما نقضهم ميثاقهم} فهو لغو في إنها لم تحدث إذا جاءت شيئا، لم يكن قبل أن تجيء العمل، وهي توكيد للكلام (¬1). وذهب الزمخشري في (الكشاف) إلى أنها تفيد القصر زيادة على معنى التوكيد فقد جاء فيه في قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159]. ما: مزيدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة الله ونحوه: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) (¬2). وجاء في قوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا} [نوح: 25]: " لبيان ان لم يكن أغراقهم بالطوفان فادخالهم النار إلا من أجل خطيئاتهم وأكد هذا المعنى بزيادة (ما) (¬3). وذهب هذا المذهب جماعة، منهم ابن القيم، فقد جاء في (بدائع الفوائد): " قول (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) أي ما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم، ونحو: (فبما رحمة من الله لنت لهم) أي: ما لنت لهم إلا برحمة من الله. ولا تسمع قول من يقول من النحاة أن ما زائدة في هذا الموضع فإنه صادر عن عدم تأمل. فإذا عرفت أن زيادتها مع إن واتصالها بها اقتضى هذا النفي والإيجاب، فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجر مع قوله تعالى: {فبما رحمة من لله لنت لهم} و (فبما نقضهم ميثاقهم) وتأمل كيف تجد الفرق بين هذا التركيب، وبين أن يقال (فبرحمة من الله). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 305 (¬2) الكشاف 1/ 357، وانظر 1/ 435 (¬3) الكشاف 3/ 237

و (فبنقضهم ميثاقهم) وأنك تفهم من تركيب الآية: ما لنت لهم إلا برحمة من الله، وما لعناهم إلا بنقضهم ميثقاهم" (¬1). والحق أنها لا تفيد القصر هنا، بل هي مؤكدة، أما معنى القصر الذي ذكر فهو متأت من التقديم، لا من زيادة (ما)، قال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} [النساء: 155]، فقدم نقض الميثاق والكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء لإفادة الحصر، والتقديم يفيد القصر، ـ كما مر في كثير من المواطن. أما (ما) فهي للتوكيد وناسب زيادتها ههنا أن الكلام قبل هذه الآية على الميثاق. قال تعالى: {ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله} [النساء: 154 - 155]، فلما تقدم الكلام على الميثاق، وأخذ الميثاق الغليظ منهم، ناسب ذلك زيادة (ما) لتوكيد النقض كما ناسب تقديمه على بقية الأسباب للاهتمام به في هذا الموطن. ونحوها قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعنانهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه} [المائدة: 13]، فالقصر متأت من التقديم لا من (ما)، أما (ما) فهي للتوكيد، وناسب زيادتها أن السياق هو في الكلام على الميثاق كآية النساء، قال تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة وأمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تتطلع على خائنة منهم إلا قليل منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به} [المائدة: 12 - 14]. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 2/ 150 - 151

فالكلام، كما ترى، على الميثاق، فناسب ذلك زيادة (ما) لتوكيد نقض الميثاق، وكذا الكلام في آية نوح، وهو قوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} [نوح: 25]، فإن القصر فيها متأت من التقديم. أما ما قاله ابن القيم فيمن قال من النحاة إنها زيادة فغلو عليهم، فهم لا يقولون بأنها زائدة لا فائدة منها، وإنما يقولون هي زائدة مؤكدة، فهي واردة لتأدية معنى، لا لغير معنى. وأما ما ذكره من أنها نظيرة (أن) فإن زيادتها مع إن اقتضي معنى النفي والإيجاب - يعني القصر - فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجر، فهذا مردود بأن التي تفيد القص هي الكافة فقط، أما غير الكافة فلا تفيده. ويؤيد ما ذهبنا إليه في أن ما غير الكافة المزيدة بعد حروف الجر، لا تفيد القصر بل التوكيد. 1 - إن ما إذا زيدت غير كافة في الأحرف المشبة بالفعل، كانت مؤكدة نحو (إنما محمدا قائم) وإذا زيدت كافة فهي للقصر، وللتهيئة للدخول على ما لم تكن تدخل عليه. جاء في شرح ابن يعيش: وقيل إنما زيدا منطلق، فيجوز في أن الإعمال والإلغاء فمن ألغي ورفع، وقال (إنما زيد منطلق) كانت ما كافة .. ومن أعمالها وقال: (إنما زيدا منطلق) كانت ملغاة والمراد بها التأكيد (¬1). 2 - إن ما غير الكافة الداخلة على الشرط أو غيره لا تفيد معنى القصر، وذلك نحو (وإما تخافن من قوم خيانة) ونحو (غضبت من غير ماحرم) بل تفيد التوكيد 3 - ليس هناك نصوص تقطع بأن غير الكافة تفيد القصر مع حروف الجر، بل الأولى أن تكون الكافة المزيدة بعد أحرف الجر هي التي تفيد القصر، إذا احتمل المعنى ذلك نظيره أن، وذلك نحو قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} [الحجر: 2]، فهو يحتمل أن المعنى: لا يود الذين كفروا كثيرا إلا هذا الأمر. ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 133

التقديم والتأخير

ولا يقال أن (رب) متقدمة فأفادت القصر، إذ هي ليس لها متعلق فتتقدم عليه، فلا يفيد تقديمها القصر، بل أفادته مع (ما). وكقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني اصلي)، إذ يحتمل أن المعنى لا تصلوا إلا كصلاتي فأفادت ما الكافة القصر. تبين من هذا أن ما تزاد على ضربين: 1 - كافة، والغرض منها توسع دائرة الاستعمال، وقد تكون للقصر إذا احتمل المعنى ذلك. 2 - غير الكافة وهي للتوكيد. التقديم والتأخير إن أغراض تقديم الجار والمجرور لا تكاد تختلف عن غيرها من أغراض تقديم المفعول والحال، والظرف ونحوها، ومدار الأمر في ذلك هو العناية والاهتمام. إن مواطن العناية والاهتمام متعددة كما سبق أن ذكرنا في أكثر من موطن، ومن ذلك: الحصر والاختصاص، وهو أشهر الأغراض، وأكثرها دورانا حتى حص بعضهم التقديم بهذا الغرض، جاء في الاتقان: " كاد أهل البيان يطبقون على أن تقديم المعمول يفيد الحضر سواء كان مفعولا أو ظرفا أو مجرورا، ولهذا قيل في {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، ومعناه نخصك بالعبادة والاستعانة، وفي {لإلي الله تحشرون} [آل عمران: 158]، معناه إليه لا إلى غيره" (¬1). والحق أن التقديم يفيد الحصر كثيرا، وقد يفيد غيره ¬

_ (¬1) الاتقان 2/ 51

ومما يفيد القصر قوله تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 122]، أي ليخصوا ربهم وحده بالتوكل (¬1).، فإنه لا يصح التوكل على غيره، وقوله: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} [الأعراف: 206]، فقدم الجار، والمجرور، في (له يسجدون) للقصر، أي يخصونه بالعبادة لا يشركون به أحدا (¬2). وكقوله تعالى: {ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى: 53]، " لأن المعنى أن الله تعالى مختص بصيرورة الأمور إليه، دون غيره، ونحو قوله تعالى: {إنا إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25، 26] (¬3). ومن ذلك قوله تعالى: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156]، فنحن نرجع إليه لا إلى غيره، وكقوله: {إليه يرد علم الساعة} [فصلت: 47]، فإنه مختص بعلم الساعة، وإليه يرد علمها لا إلى غيره، ومثله قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الأخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [البقرة: 94]، فقدم لكم للاختصاص، إذ قال لهم إن كانت لكم الدار الآخرة خالصة لكم وحدكم لا يشارككم فيها كما تزعمون فتمنوا الموت. ونحو قوله تعالى: {ونحن له مسلمون} [البقرة: 136]، و [نحن له عابدون] البقرة 138، ومنه قوله تعالى: {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} [الملك: 29]، فإنه أخر به عن آمنا فقال آمنا به، وقد عليه على توكلنا فقال وعليه توكلنا، وذلك أن الموطن الأول ليس موطن قصر، فالإيمان لا يقتصر على الإيمان بالله، بل يكون به وبملائكته وبكتبه، ورسله وباليوم الآخر، وغير ذلك، ولذا لم يقدم (به) ولو قدمه لأفاد القصر ولكان المعنى لا يؤمنون إلا به، وقدم الجار والمجرور، في وعليه توكلنا لأن التوكل لا يكون إلا عليه كما قال في موطن آخر (وعلى الله فليتوكل المؤمنون). ¬

_ (¬1) انظر الكشاف 1/ 358 (¬2) انظر الكشاف 1/ 594 (¬3) الطراز 2/ 70 - 71

فأخر وقدّم بحسب المعني جاء في (البرهان) في هذه الآية: (فإن الإيمان لما لم يكن منحصرًا في الإيمان بالله بل لابد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر مما يتوقف صحة الإيمان عليه بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده، لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين، قدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره، لأن غيره لا يملك ضرًا ولا نفعًا فيتوكل عليه) (¬1). وقد يكون التقديم لغير القصر بل للتعظيم، أو للتحقير، أو لتعجيل المسرة والمساءة، وغير ذلك من ضروب الاهتمام، وذلك نحو قوله تعالى: {والله بما تعملون خبير} [آل عمران: 180]، فهذا لا يفيد القصر لأن الله خبير بما نعمل، وبغير ذلك أيضا، ولا تختص خبرته بعملنا، بل أن خبرته مطلقة لا يحدها شيء ولكن لما كان الكلام علينا وعلى أعمالنا قدمها لنرتدع ونحذر، ومثله {إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء: 1]، وهذا التقديم لا يفيد القصر أيضا لأن رقابة الله لا تختص بنا، فهو رقيب على كل شيء، قال تعالى: {وكان الله على كل شيء رقيبا} [الأحزاب: 52]، ولكن لما كان الأمر يتعلق بأعمالنا قدم (عليكم) للتخويف والتحذير. ومن ذلك قوله تعالى: {والذين هم على صلاتهم يحافظون} [المعارج: 34]، فقدم الجار والمجرور على الفعل وهذا التقدي لا يفيد القصر أيضا، وذلك لأن المحافظة لا تقتصر على الصلاة بل هي لعموم حدود الله وفرائضه، قال تعالى {والحافظون لحدود الله} [التوبة: 112]، ولكنه قدم الصلاة لتعظيم أمرها. ومثله قوله تعالى: {وجعلنا السماء سقفا محفوظًا وهم عن آياتها معرضون} [الأنبياء: 32]، وأعراضهم لا يختص بآيات السماء، بل هم معرضون عن آيات الأرض والسماء. قال تعالى: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف: 105]، ولكن لما تقدم الكلام على السماء، خص آياتها بالذكر، فقال (وهم عن آياتها معرضون) فقدم الجار والمجرور للتعظيم. ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 414، وانظر التفسير الكبير 30/ 76

وقد يكون التقديم والتأخير لأداء معنى لا يفهم بدونه وذلك نحو قوله تعالى: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]، فإنه قدم (من آل فرعون) على الفعل (يكتم) لإفادة أن هذا الرجل هو من آل فرعون، ولو آخره، وقال (وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون) لما فهم أنه منهم (¬1). بل لاحتمال المعنى أن هذا الرجل يكتم إيمانه من آل فرعون، أي يخفيه منهم، والمعنى الأول هو المطلوب. ونحو ذلك قوله تعالى: {وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين} [يس: 20]، وقوله: {وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا يموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} [القصص: 20]، فإنه قدم (من أقصى المدينة) على (رجل) في آية يس وآخرها في آية القصص وذلك لأن المعنى مختلف فمعنى قوله تعالى {وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى} إن هذا الرجل جاء ساعيا من أقصى المدينة، فالمجيء كان من أقصى المدينة. أما في آية القصص، فالمعنى أن الرجل كان مسكنه في أقصى المدينة، كما تقول (تكلم رجل من أعلى القوم أو من أدناهم) فليس المقصود أنه كان جالسا في الأعلى، وتكلم من هناك، وإنما المعنى أنه من علية القوم فهو صفة وكذلك الآية. جاء في (درة التنزيل): " وأما الآية الأولى من سورة القصص [يعني قوله: وجاء رجل من أقصى المدينة] فإن المراد جاء من لا يعرفه موسى من مكان لم يكن مجاورا لمكانه فاعلمه ما فيه الكفار من ائتمارهم به (¬2). ويحتمل أيضا المعنى الأول فهو تعبير احتمالي. ونحو هذا أن تقول (قدم من القرية رجل) و (قدم رجل من القرية) فمعنى الأولى أن قدومه كان من القرية، وأما الثانية فتحتمل هذا المعنى وتحتمل أن الرجل قروي، أي هو من أهل القرية، وربما لم يكن قدومه هذا من القرية. ¬

_ (¬1) انظر درة التنزيل _ 390 (¬2) درة التنزيل 390

فإذا كان الكلام منفيا كان تقديم المجرور يفيد نفي وقوع الحدث على المتقدم، وإثباته لغيره، تقول (ما ذهبت إلى سعيد) و (ما إلى سعيد ذهبت) فالأولى تفيد أنك نفيت الذهاب إلى سعيد، ولم تفد أنك ذهبت إلى غيره، فربما كنت ذهبت أو لم تكن، أما في الثانية فإنك نفيت الذهاب إلى سعيد وأثبته إلى غيره، أي أذهب إلى سعيد وإنما إلى غيره ولذا يصح أن تقول: (ما ذهبت إلى سعيد ولا إلى غير)، ولا يصح أن تقول (ما إلى سعيد ذهبت ولا إلى غيره) لأنه تناقض، لأن قولك (ما إلى سعيد ذهبت) معناه أنك ذهبت إلى غيره فيكف تقول: ولا إلى غيره؟ جاء في (نهاية الإيجاز): " فإذا قلت (ما أمرتك بهذا) فقد نفيت عن نفسك امره بذلك، ولم يجب أن تكون قد أمرته بشيء آخر، وإذا قلت (ما بهذا امرتك) كنت قد أمرته بشيء غيره (¬1). أما تقديم الجار والمجرور على غير متعلقة فللعناية والاهتمام أيضا، وهذا الأمر جار في عموم رصف الكلمات، فأنت بما قدمته أعني، وتتدرج العناية والاهتمام مع الكلمات تدرجا تنازليا فما قدمته، أولا هو أهم، وهكذا إلى آخرها ذكرا، فقولك (ذهب إلى المسجد خالد) يفيد أن العناية بالجار والمجرور أكثر من قولك (ذهب خالد إلى المسجد) قال تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} [آل عمران: 151]، فقدم الجار والمجرور (في قلوب) على المفعول به (الرعب) وذلك لأن الأهم في هذا الموطن مكان الرعب، لا الرعب نفسه، إذ المهم أن تمتليء قلوب الكافرين بالرعب وليس المهم أن يوضع الرعب في مكان آخر. ثم أن الأهمية والعناية يحددها المقام، فقد تكون العناية في مقام تقتضي تقديم لفظ ما وقد تقتضي في مقام آخر تأخير ما قدمته، وذلك نحو: (مررت بخالد على القائد) و (مررت على القائد بخالد) فالاهتمام بخالد في الجملة الأولى أكبر، وفي الثانية بالعكس، وذلك كأن يكون الموطن في الأولى الاهتمام بأمر خالد وليس الدخول على القائد، والثانية بالعكس، قال تعالى: ¬

_ (¬1) نهاية الإيجاز 122

{وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} [آل عمران: 126]. وقال: {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبك وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم} [الأنفال: 10]. فقدم القلوب على الجار والمجرور في آل عمران فقال: (ولتطمئن قلوبكم به) وأخرها عنه في الانفال، فقال (ولتطمئن به قلوبكم) مع أن الكلام على معركة بدر في الموطنين، غير أن الموقف مختلف. ففي آل عمران، ذكر معركة بدر تمهيدًا لذكر موقعة أحد، وما أصابهم فيها من قرح وحزن والمقام مقام مسح على القلوب، وطمأنة لها من مثل قوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عران: 139 - 140]، إلى غير ذلك من آيات المواساة والتصبير، فقال في هذا الموطن {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به} [آل عمران: 126]، فذكر أن البشرى (لهم) وقدم (قلوبهم) على الأمداد بالملائكة فقال: {إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به} كل ذلك من قبيل المواساة والتبشير والطمأنة، ولما لم يكن المقام في الأنفال كذلك وإنما المقام ذكر موقعة بدر وانتصارهم فيها ودور الأمداد السماوي في هذا النصر، وقد فصل في ذلك أكثر مما ذكر في آل عمران، فقال {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشري ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم، إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين أمنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} [الأنفال: 9 - 12]. أقول لما كان المقام مختلفا خالف في السياق.

أنه لما كان المقام في الأنفال مقام الانتصار وإبراز دور الإمداد الرباني، قدم (به) على القلوب والضمير يعود على الإمداد، ولما كان المقام في آل عمران هو الطمأنة وتسكين القلوب قدمها على الإمداد فقال (ولتطمئن قلوبك به) وزاد كلمة (لكم) فقال (وما جعله الله إلا بشرى لكم) زيادة في المواساة والمسح على القلوب، فجعل كلا في مقامه. ونحو ذلك قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} [البقرة: 173]. وقوله: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب} [المائدة: 3]. وقوله: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} [الأنعام: 145]. فقد قال في آية البقرة (وما أهل به لغير الله) فقدم (به) على (لغير الله) ومعنى (ما أهل به) ما رفع الصوت بذبحه وهو البهيمة، وقال في آيتي المائدة والأنعام (وما أهل لغير الله به) فقدم (لغير الله) على (ربه) وذلك أن المقام في آية الانعام كان في الكلام على المفترين على الله ممن كانوا يشرعون للناس باسم الدين، وهم يفترون عليه فقال {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه} [الأنعام: 136 - 138].

إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أن ثمة ذوات غير الله تحلل وتحرم مفترية على الله وذوات يزعمون أنها شركاء لله، تعبد معه، ونصيبها أكبر من نصيب الله في العبادة، ولذا قدم إبطال هذه العبودات من غير الله على (به) فقال (أو فسقا أهل لغير الله به) لأنه هو مدار الاهتمام والكلام. والكلام في المائدة أيضا على التحليل والتحريم، ومن بيده ذلك ورفض آية جهة تحلل وتحرم من غير الله، فإن الله هو يحكم ما يريد، قال: {يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد يآيها الذين أمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضونا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام ان تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح لعلى النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب} [المائدة: 1 - 4]. فهو يجعل التحليل والتحريم بيده ويرفض أية جهة أخرى تقوم بذلك، لأن ذلك من الشرك الذي أبطله الإسلام، ولذا قدمه في البطلان فقال (وما أهل لغير الله به). ثم إنه جاء في الموطنين بذكر اسم الله على الذبائح، فذكر في آية الأنعام أن المشركين لا يذكرون اسم الله على بعض ذبائحهم تعمدًا، فقال: {وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها} [الأنعام: 138]ـ، وأمر في آية المائدة بذكر اسم الله، فقال: (واذكروا اسم الله عليه) فناسب ذلك تقديم بطلان ذكر غير الله.

تعلق الجار والمجرور

وأما في آية البقرة فليس المقام كذلك، فلم يذكر أن ثمة جهة أخرى تقوم بالتحليل والتحريم، وإنما الكلام على ما رزق الله عباده من الطيبات، فقال: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} وقال بعدها: {يأيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} [البقرة: 172 - 173]. فلما كان المقام الرزق والطعام والأمر بأكل الطيبات قدم (به) والضمير يعود على ما يذبح وهو طعام مناسبة للمقام، والله أعلم. تعلق الجار والمجرور يرى النحاة أن الجار والمجرور ومثله الظرف لابد أن يتعلق بفعلٍ، أو بما يشبه الفعل، أو ما هو بمعناه، فالمتعلق بالفعل نحو (سرت في الطريق) وشبه الفعل نحو (أنا سائر في الطريق) فهو متعلق باسم الفاعل وهو شبيه بالفعل، ومثله اسم المفعول وبقية المشتقات والمصدر، وما هو بمعنى الفعل نحو (أين أنت مني) لأن معنى (أين أنت) بعدت (¬1). ونحو (هو أسد في المعركة) أي شجاع (وهو فرعون على قومه) أي ظالم، وكقوله: وإن لساني شهدة يشتفي بها ... وهو على من صبه الله علقم فـ (على) متعلقة بعلقم لتأوله بصعب أو شاق، أو شديد. ومثال تعلق الظرف بالفعل (جلس بينكم) وتعلقه بشبهه، نحو (أنا متحدث معكم). ومثال تعلقه بما هو بمعناه قوله: أنا أبو المنهال بعض الأحيان ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 355

وقوله: أنا ابن ماوية إذ جد النقر ... وجاءت الخيل أثافي زُمَر فتعلق (بعض) و (إذ) بالاسمين العلمين، لما فيهما من معنى، قولك الشجاع أو الجواد (¬1). فإن لم يكن في الجملة ما يصح تعلقه به، قدر له متعلق مناسب، نحو (هو في الدار) أي كائن في الدار، ونحو (النفس بالنفس، والسن بالسن) أي النفس مقتولة بالنفس، والسن مقلوعة بالسن، ونحو (من لي بهذا) أي (من يتكفل لي بهذا؟ ). ومعنى التعلق الارتباط، ويكون التعلق بما فيه صحة المعنى (¬2). فقولك مثلا (شبهت خالدا وهو يجود بماله بالبحر) يكون فيه (بالبحر) متعلقا - أي مرتبطًا - بشبهت لا بيجود، إذ لو علقته بيجود لصار المعنى (يجود بالبحر) وهو فاسد. وإذا علقته بشبهت كان المعنى: شبهته بالبحر. وأما (بماله) فهو مرتبط بيجود لا بشبهت، لأن المعنى: يجود بماله إذ لو علقته بشبهت لكان المعنى (شبهت خالدًا بماله) وهو فاسد. ونحوه قوله تعالى: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة} [النساء: 95] فـ (بأموالهم) متعلق بالمجاهدين، لا بفضل، و (على القاعدين) متعلق بـ (فضل). ومثل ذلك قوله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} [المائدة: 3]، فارتباط (من دينكم) بيئس لا بـ (كفروا) لأن المعنى يكون على هذا (كفروا من دينكم) ولا معنى له والمراد يئسوا من دينكم. ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 433 - 435 (¬2) عند النحاة أمور لفظية تمنع من التعلق بالمذكور كان المعنى يقتضيه، فيقدرون له متعلقا محذوفا وذلك نحو {إني لك من الناصحين} [القصص: 20]، فلا يعلقون لك بـ الناصحين، وإن كان المعنى يقتضيه إذ المعنى إني من الناصحين لك لوجود ال الموصولة الداخلة على اسم الفالعل فهم يقدرون له محذوفا يفسره المذكور، أي: إني من النصاحين لك من الناصحين، وهذا الأمر لا يعنينا في هذا الموطن وإن كنا لا نقول به، ولا نراه، فنحن نبحث الآن في معنى التعلق وحقيقته.

ونحوه قوله تعالى: {لا يقدرون مما كسبوا على شيء} [إبراهيم: 18]، فـ (على شيء) مرتبط بـ (يقدرون) لا بـ (كسبوا) لأن المعنى يكون على هذا كسبوا على شيء، وهو فاسد، وإنما المعنى لا يقدرون على شيء. ومثله قوله تعالى: {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه} [يوسف: 21]، فتعلق (لامرأته) بـ (قال) لا بـ (اشتراه) لأنه يكون المعنى على هذا (اشتراه لامرأته) وهو غير مراد، ويبقي المقول له بعد ذلك مجهولا. ومثله قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة: 187]، فلا يصح تعلق ليلة الصيام بـ أحل لأنه يكون المعنى أن الرفث أحل ليلة الصيا، أي نزل تحليله في ليلة الصيام وليس المعنى على ذاك، وإنما المقصود أن الرفث حلال في ليلة الصيام، فهو متعلق بالرفث محذوفا أو مذكورا، فإن النحاة يقدرونه محذوفا، ذلك لأن المصدر الرفث يصح تقديره بأن والفعل أي أن ترفثوا وهذا النوع من المصدر لا يتقدم عليه معموله عندهم، وأنا لا ارى مانعًا من تعليقه بالمذكور. ونحوه قوله تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} [آل عمران: 161]، فلا يصح تعليق يوم القيامة، بغل أو بيغلل لأن المعنى يكون على ذاك غل يوم القيامة، وليس في يوم القيامة غلول بل هو قبله، وإنما هو متعلق بـ يأت، أي: يأت به يوم القيامة. ومثله قوله تعالى: {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} [آل عمران: 180]، فلا يصح تعلق يوم القيامة، ببخلوا، لأن المعنى يكون عند ذاك أنهم بخلوا يوم القيامة وهم لم يبخلوا يوم القيامة، وإنما بخلوا في الدنيا فهو مرتبط بـ (سيطوقون). ونحوه قوله تعالى: {فجآءته إحداهما تمشى على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} [القصص: 25]، إذا ربطت فيه (على استحياء) بتمشي، وهو الظاهر، كان المعنى أنها تمشي على استحياء، وإذا ربطته بـ (قالت) المتأخر كان المعنى أن القول على استحياء أي (على استحياء قالت)

فأنت ترى أن المعنى يتغير بحسب تقدير الارتباط. ثم إن التعلق أو الارتباط ليس مختصا بالجار والمجرور والظرف، وإن كان النحاة لا يذكرونه في غيرهما، بل هو جار في كثير من التعبيرات في الجملة العربية، لأنه لابد من ارتباط بين الكلمات أحيانا ليتضح المعنى المقصود. ومثال تعلق أو الارتباط في غير الظرف والجار والمجرور، قوله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية} [الرعد: 22]، فـ (سرًا وعلانية) مفعولان مطلقان أو حالان، وهما متعلقان بأنفقوا، لا يرزقناهم لأن المعنى على ذاك يكون رزقناهم سرًا وعلانية، وليس هو المراد، بل المراد أنهم ينفقون سرًا وعلانية. والنحاة يسمون هذا المتعلق به، عاملا فيقولون أن العامل في سرا وعلانية هو ينفقون. ونحوه قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها} [النساء: 19]، فكرها مفعول مطلق أو حال، وهذا المصدر بـ (ترثوا) لا يآمنوا، لأن المعنى يكون على ذاك (يأيها الذين أمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء) ولا بقوله يحل، لأن المعنى سيكون: لا يحل لك كارهين أن ترثوا النساء: ومقتضى هذا الأمر أنهم إذا لم يكونوا كارهين جاز لهم ذاك. لك لأن كرها سيكون حالا للمجرور وهذا المعنى فاسد. ونحو أن تقول (ما للذي أساء إلينا نائمًا بيننا؟ ) فلا يصح تعلق نائمًا وهو حال بـ أساء لأن المعنى سيكون أساء نائمًا، أي أساء وهو في حال نومه، وإنما متعلق بمحذوف أي ما حصل له نائمًا؟ ومن ذلك قوله تعالى: {وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن} [يونس: 66]، فشركاء مفعول به، وهو مرتبط بـ (يتبع) أي: مفعول لهذا الفعل أو معمول له، كما يقول النحاة لأن المعنى أنهم لم يتبعوا شركاء في الحقيقة،

الإضافة

ولا يصح ربطه بـ (يدعون) لأن الكلام على ذلك لا يتم، لأنه سيكون (وما يتبع الذين يدعون شركاء ولا ندري النفي عن أي شيء ولا ما يتبعون. ومن ذلك قوله تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} [هود: 81]، فامرأتك مستثنى يحتمل تعلقه بـ (أسر) فيكون المعنى: فأسر بأهلك إلا امرأتك ويحتمل تعلقه بـ (يلتفت) فيكون المعنى (ولا يلتفت منكم أحدا إلا امرأتك) وعلى هذا تكون مسرى بها معهم، ولكنها تلتفت، والراجح عندي الأول، والله أعلم. ومثل هذا أن تقول (ذهب الطلاب إلى المكتبة واستعاروا كتبا إلا خالدا) فإنك إذا علقت المستثني بـ (ذهب) كان المعنى: ذهب الطلاب إلى المكتبة إلا خالدا فهو لم يذهب، وإذا علقته بـ (استعاروا) كان المعنى: إن خالدا ذهب معهم إلى المكتبة ولكنه لم يستعر كتابًا. فالتعلق هو الارتباط المعنوي، سواء كان ذلك في الجار والمجرور والظرف، أم في غيرهما مما يقتضي الارتباط. الإضافة معنى الإضافة: الإضافة نسبة اسم إلى اسم آخر، واسناده إليه نحو: غلام هند، وكتاب خالد (¬1). وقد استقر الأمر مؤخرا عند النحاة على أن الإضافة، أما أن تكون بمعنى اللام، نحو: دار سالم، ومال محمد، أي دار لسالم، ومال لمحمد، أو تكون بمعنى من وذلك إذا كان المضاف إليه جنسا للمضاف، نحو ثوب صوف، وخاتم ذهب، أي ثوب من صوف وخاتم من ذهب، أو تكون بمعنى (في) وذلك إذا كان المضاف إليه ظرفا واقعًا فيه. ¬

_ (¬1) الإضافة عند النحاة اسناد اسم إلى اسم آخر على تنزيل الثاني من الأول منزلة تنوينه أو ما يقوم مقام تنوينه.

المضاف، نحو (شهيد الدار) أي في الدار و {بل مكر الليل والنهار} [سبأ: 33]، أي في الليل والنهار (¬1). ولا تخرج الإضافة عن هذا عندهم. وذهب بعض النحاة إلى أن الإضافة ليست على تقدير حرف اصلا، وإلا لزم أن غلام زيد يساوي غلام لزيد، وليس كذلك، فإن معنى المعرفة غير النكرة. وأجيب بأن قولنا غلام لزيد، ليس تفسيرا مطابقا من كل وجه، بل لبيان الملك او الاختصاص فقط (¬2). والحق فيما نرى أن الإضافة تعبير آخر ليس على تقدير حرف، فقد يصح تقدير حرف في تعبير، وقد يمتنع تقدير أي حرف في تعبير آخر، وما صح تقديره بحرف لا يطابق معناه معنى المقدر. فهي أعم من أن تكون بمعنى حرف، ومما يدل على ذلك أمور، منها: 1 - امتناع إظهار أي حرف من هذه الحروف في قسم من التعبيرات، نحو: (جئت مع خالد) و {من لدن حكيم عليم} [النمل: 6]، و {ولدينا مزيد} [ق: 35]، و {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل} [آل عمران: 93]، و {من كل زوج كريم} [الشعراء: 7]ـ و (عند خالد مال) و (خرج جميع القوم) و (يوم الأحد) و: غير مأسوف على زمن ... ينقضي بالهم والحزن ونحو ذلك كثير، مما يدل على أن الإضافة أوسع من أن تكون بمعنى حرف، وقد لاحظ النحاة ذلك، فحاولوا الخروج من هذا المأزق بقولهم: " ولا يلزم فيما هو بمعنى اللام أن يجوز التصريح بها بل يكفي إفادة الاختصاص الذي هو مدلول اللام، فقولك (طور سيناء) و (يوم الأحد) بمعنى اللام ولا يصح إظهار اللام في مثله (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ابن عقيل 2/ 3، شرح الرضي 1/ 298 - 299 (¬2) حاشية الخضري 2/ 3، وانظر الهمع 2/ 46 (¬3) شرح الرضي على الكافية 1/ 299

ونحن نقول: ومن أين لهم أن نحو طور سيناء، ويوم الأحد، وكل الرجال، وجميعهم فيه مدلول اللام الذي يفيد الاختصاص؟ 2 - اقر النحاة أن الإضافة غير المحضة (وهي إضافة اسم الفاعل، والمفعول والصفة المشبهة إلى معمولها) ليست على تقدير حرف، فقولك: (هو حسن الوجه) ليس على تقدير حرف فليس الوجه في مثل هذا " مضافا إليه (حسن) بتقدير حرف الجر، بل هو هو وكذا في ضارب زيد، لأن ضارب وإن كان مضافا إلى زيد، لكنه بنفسه لا بحرف الجر كما كان مضافا إليه من حيث المعنى حيث نصبه أيضا، ولم يحتج في إضافة إليه لا في حال الإضافة ولا قبلها إلى حرف جر (¬1). وذلك أن قولك (هو ضارب زيد) و {إنك جامع الناس} [آل عمران: 9]، مضاف بنفسه، لا بتقدر حرف لأن اسم الفاعل فيهما مأخوذ من متعد، وهو يتعدي بنفسه، فقولك (هو ضارب زيدا) تقديره: هو يضرب زيدا وليس التقدير: هو يضرب لزيد ولذا يقول النحاة في نحوه: (هو ضارب لخالد) إن اللام فيه زائدة مقوية، والأصل (هو ضارب خالد) بإضافة الوصف إلى معموله، وأصل التعبير (هو ضارب خالدا) ومثله {فعال لما يريد} [البروج: 16]ـ، فإن اللام فيه زائدة مقوية، والأصل: فعال ما يريد، فكيف ينقلب الزائد اصلا؟ فالتقدير يختص بالمحضة عندهم. 3 - ونحن نقول: إنه لا فرق بين المحضة وغيرها، فقد يمتنع التقدير في المحضة أيضا مما له شبه بغير المحضة من وجه وذلك نحو (إطعام مسكين) وكقوله: {كطي السجل للكتاب} [الأنبياء: 104]، وقوله: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [الأنبياء: 73]، وقوله: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97]، فهذه كلها إضافة محضة، لأن إضافة المصدر عندهم محضة، وهي ليست على تقدير حرف كما هو ظاهر، وذلك أن المصدر في هذه الأمثلة متعد، وقد أضيف إلى مفعوله، وهو يتعدى إليه في الأصل بلا تقدير حرف، كما في (ضارب خالد). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 1/ 297، وانظر الهمع 2/ 46

وممثله إضافة اسم الفاعل إذا كان ماضيًا، نحو (أنا مكرم محمد أمس) فهي محضة، وهي ليست على تقدير حرف في الراجح، لأنه متعد، وقد صرح بذلك ابن يعيش، قال: " وعندي أن إضافة اسم الفاعل إذا كان ماضيا من ذلك، ليس مقدرا بحرف مع أن إضافته محضة (¬1). وعلى هذا فلا يصح تقدير حرف في نحو هذا، وبذا يكون قد خرج قسم من المحضة من التقدير. 4 - إضافة اسم التفضيل في الغالب لا تفيد معنى حرف، ولا تدل عليه، وذلك نحو قوله تعالى: {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} [البقرة: 85]، فهذا نظير قولهم (حسن الوجه)، فلا يصح تقدير حرف فإن أشد هو العذاب كما ذكروا في الصفة المشبهة، ونحوه قوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} [البقرة: 243]، وقوله: {وما كان أكثرهم مؤمنين} [الشعراء: 67]، ونحو: (أكرمته أحسن الإكرام). وإضافة اسم التفضيل محضة عند الجمهور، فهذا خرج عن التقدير أيضا. 5 - ومما يدل على ضعف مذهبهم أن الأولى أن يكون التقدير أحيانا على غير ما ذهب إليه النحاة، وذلك نحو قوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} [البقرة: 19]، فهو على تقدير اللام عندهم، وتقدير (من) أرجح وأولى، أي: حذرا من الموت، وهم لا يقدرونه بـ (من) لأن المضاف إليه ليس جنسا للمضاف وكذلك (هربت خوف سعيد) فهو على تقدير اللام عندهم، وتقدير من أظهر في المعنى، أي: خوفا من سعيد، ونحوه قوله تعالى: {أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} [البقرة: 161]، فهم يقدرونه باللام وتقدير (من) أظهر في المعنى أي: لعنة من الله وهم يمنعون تقديره بـ (من) لأن المضاف إليه ليس جنسا للمضاف ومثله قوله: {غفرانك ربنا} [البقرة: 285]، ومعناه غفرانا منك، وليس غفرانا لك، ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 2/ 119

وكذلك قولنا (هو أكبر القوم) و (أفضل الطلاب) فإن تقدير (من) فيه أولى من اللام، أي أكبر من القوم وأفضل من الطلاب. فدل على ضعف المعنى في تقديرهم أحيانا. 6 - أن المعنى يتغير عند التقدير، فتصبح المعرفة نكرة، فلو قدرت (هذه دار محمد) باللام كان التقدير (هذه دار لمحمد) والأولى معرفة، والثانية نكرة، ونحو ذلك قوله تعالى: {يآدم أنبئهم بأسمائهم} [البقرة: 33]، فهو لا يساوي (بأسماء لهم) ومثله قوله تعالى: {لا تكلف إلا نفسك} [النساء: 84]، فهو لا يساوي (إلا نفسًا لك) إذ يقتضي أن له أكثر من نفس، وقوله: {يؤذن رسول الله} [التوبة: 61]، فهو لا يساوي (رسولا لله) وقوله {فاليوم ننجيك ببدنك} [يونس: 92]، لا يساوي (ببدن لك) إذ يقتضي أن له أكثر من بدن، وقوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} [الأنعام: 109]، لا يساوي (جهدا لأيمانهم) وليس له معنى. وقد أدرك النحاة ذلك، فقد ذهب أبو حيان تبعًا لابن درستويه، كما أسلفنا، إلى أن الإضافة ليست على تقدير حرف أصلا، وإلا لزم أن غلام زيد يساوي (غلام لزيد) وليس كذلك، فإن معنى المعرفة غير النكرة. وأجيب بأن قولنا غلام لزيد ليس تفسيرا مطابقا من كل وجه، بل لبيان الملك أو الاختصاص فقط (¬1). ورد النحاة عليه ليس متينا، فإنهم إن قدروا حرفا تغير المعنى واستحالت المعرفة إلى نكرة، فالأولى عدم التقدير للخلاص من هذا الأمر، جاء في (المقتضب): " وأما الأسماء المضافة إلى الأسماء بأنفسها فتدخل على معنى اللام، وذلك قولك: المال لزيد كقولك: مال زيد، وكما تقول: هذا أخ لزيد، وجار لزيد، وصاحب لزيد، فهذا بمنزلة قوله: جاره وصاحبه. ¬

_ (¬1) حاشية الخضري 2/ 3

فلا فصل بينهما، إلا أن اللام إذا حالت بين الاسمين، لم يكن الأول معرفة بالثاني من أجل الحائل. فإذا أضفت الاسم إلى الاسم بعده بغير حرف، كان الأول نكرة ومعرفة بالذي بعده. فإذا أضفت اسما مفردا إلى اسم مثله مفرد، أو مضاف صار الثاني من تمام الأول وصارا جميعا اسما واحدا وانجر الآخر بإضافة الأول إليه، وذلك قولك: هذا عبد الله، وهذا غلام زيد وصاحب عمرو .. ألا ترى أنك تقول: هذا غلام رجل فيكون نكرة، فإذا أردت تعريفه قلت: هذا غلام الرجل وهذا صاحب المال (¬1). فالمبرد - وإن كان يقدر تبعا للنحاة - ذكر الفرق بينهما، وأدرك أن كلا منهما تعبير خاص، وأن إضافة إسم إلى آخر، تصير الثاني من تمام الأول، وتجعلهما جميعا اسما واحدا. 7 - إن إضافة الشيء إلى الشيء قد تكون بأدنى ملابسة، وهي أعم من أن تكون بمعنى حرف مما يدل على أنها تعبير آخر، جاء في كتاب سيبويه: ألا ترى أنك تقول هذا حب رمان، فإذا كان لك قلت (هذا حب رماني) فأضفت الرمان إليك، وليس لك الرمان إنما لك الحب، ومثل ذلك هذه ثلاثة أثوابك، فكذلك يقع على جحر ضب ما يقع على حب رماني، تقول (هذا جحر ضبي) وليس لك الضب، إنما لك جحر ضب كما أضفت الجحر إليك مع إضافة الضب (¬2). وجاء في (شرح ابن يعيش): "وياضف الشيء إلى الشيء بأدنى ملابسة نحو قولك: لقيته في طريقي أضفت الطريق إليك لمجرد مرورك فيه، ومثله قول أحد حاملي الخشبة خذ طرفك، إضافة الطرف إليه لملابسته إياه في حال الحمل" (¬3). ¬

_ (¬1) المقتضب 4/ 143 - 144 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 217 (¬3) شرح ابن يعيش 3/ 8

نوعا الإضافة

ونحوه قوله تعالى: {عشية أو ضحاها} [النازعات: 46]، لما كانت العشية والضحى طرفي النهار صح إضافة أحدهما إلى الآخر، ونحو كوكب الخرقاء لسهيل (¬1). ومثل سعيد كرز وجبل الجودي وطور سيناء ومدينة الموصل وحق اليقين، قولهم (رجل صدق ورجل سوء) قال تعالى: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [الشعراء: 84]، وقال {أمطرت مطر السوء} [السوء: 40] و {إنهم كانوا قوم سوء فاسقين} [الأنبياء: 74]، فهذا كله ليس على تقدير حرف معين وتقدير أي حرف مفسد للمعنى. إن العرب قد تفيد المعاني - إذا أرادت - باللام أو (من) أو (في) أو غيرها، فإذا أرادت إطلاق المعاني حررتها من ذلك. فالإضافة تعبير آخر غير مقيد بحرف معين، إنه قد يحتمل تقدير حرف أحيانا، غير أن المعنيين لا يتماثلان، وقد يكون غير ذلك فلا يحتمل معنى حرف ولا تقديره. نوعا الإضافة: يقسم النجاة الإضافة على ضربين: محضة وغير محضة. فالمحضة: إضافة غير الوصف نحو (كتاب محمد) أو إضافة الوصف إلى غير معموله نحو (كريم مصر). وتفيد تعريفا أو تخصيصا بحسب المضاف إليه، فإذا كان المضاف إليه معرفة أفادت تعريفا وإذا كان نكرة افادت تخصيصا، فقولك (غلام محمد) معرفة، وأما قولك (غلام امرأة) فنكرة تفيد التخصيص. ومعنى التخصيص تقليل الاشتراك، فـ (غلام) أعم من (غلام امرأة) فبالإضافة قل الاشتراك بعد أن كان يشمل كل غلام. ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 1/ 299، الصبان 2/ 237

والتعريف بالإضافة كالتعريف بـ (أل)، قد يكون للعهد، وقد يكون للجنس، فمن تعريف العهد، قوله تعالى: {ولا تكلف إلا نفسك} [النساء: 84]، وقوله: {ربي الذي يحيى ويميت} [البقرة: 258]، وقوله: {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} [التوبة: 61]، وقوله: {هذه ناقة الله لكم آية} [الأعراف: 73]، وقوله: {فاليوم ننجيك ببدنك} [يونس: 92]، فهذا كله من تعريف العهد، لأنه يدل على واحد بعينه. ومن تعريف الجسن قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامي ظلما} [النساء: 10]، فأموال اليتامى تفيد الجنس، ومثله {إن كيد الشيطان كان ضعيفا}، [النساء: 76]، وقوله: {ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام} [النساء: 119]، قوله {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} [التوبة: 60] فكل هذا من تعريف الجنس، لأنه لا يراد به واحد بعينه بل هو لعموم الجنس، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " إذا قلت (غلام زيد راكب) ولزيد غلمان كثيرة فلابد أن تشير به إلى غلام من بين غلمانه له مزيد خصوصية بزيد، أما بكونه أعظم غلمانه أو أشهر بكونه غلاما له، دون غيره، أو يكون غلاما معهودا بينك وبين المخاطب، وبالجملة بحيث يرجع اطلاق اللفظ إليه دون سائر الغلمان .. ثم يقال (جاءني غلام زيد) من غير إشارة إلى واحد معين، وذلك كما أن ذا اللام في اصل الوضع لواحد معين ثم قد يستعمل بلا إشارة إلى معين كما في قوله: " ولقد أمر على اللئيم يسبني" وذلك على خلاف وضعه، فلا تظنن من اطلاق قولهم، في مثل (غلام زيد) أنه بمعنى اللام، إن معناه ومعنى (غلام لزيد) سواء، بل معنى (غلام لزيد) واحد من غلمانه غير معين، ومعنى (غلام زيد) الغلام من غلمانه، إن كان له غلمان جماعة، أو ذلك الغلام المعلوم لزيد إن لم يكن له إلا واحد (¬1). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 1/ 300

والمضاف يتعرف بالمضاف إليه، سواء أضيف إلى مفرد أم جملة، ومن الإضافة إلى الجملة قولنا (جئت يوم سافر محمد) أي جئت يوم سفر محمد، وهو معرفة. جاء في (المقتضب): " فإذا قلت: (هذا يوم يخرج زيد) فقد أضفته، إلى هذه الجملة فاتصل بالفعل لما فيه من شبهه وأتبعه الفاعل لأنه لا يخلو منه، وهو معرفة لأن قولك (هذا يوم يخرج زيد) هذا يوم خرج زيد في المعنى و {هذا يوم لا ينطقون} [المرسلات: 35]، هذا يوم منعهم من المنطق" (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " قال صاحب المغنى: يتعرف الظرف المضاف إلى الجمل فيصح أن يقال: جئتك يوم قدم زيد الحار أو البارد، على أن يكون صفة لليوم. قلت: ومع غرابة هذا الاستعمال وعدم سماعه، ينبغي أن لا يتعرف المضاف إذا كان الفاعل في الفعلية، أو المبتدأ في الإسمية، نكرة نحو يوم قدم أمير، ويوم أمير كبير قدم إذ المعنى يوم قدوم أمير" (¬2). وعلى هذا فالمضاف يتعرف أو يتخصص بحسب المضاف إليه، فإن كان معرفة عرف وإن كان نكرة خصص، جملة أو مفردًا. فإن قلت: ألا ترى أن (يوم) في نحو قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} {آل عمران: 106}، وقوله: {يوم لا ينفع مال ولا بنون} [الشعراء: 88]، معلوم مع تنكير الوجوه والمال، فكيف يكون نكرة؟ ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 176 (¬2) شرح الرضي 2/ 117، وانظر حاشية الصبان 2/ 239

الأسماء الموغلة في الإبهام

قلت: هو نكرة لا معرفة غير أنه معلوم لأنه معروف أن المقصود به يوم القيامة فهو كما تقول: (سيحاسبك الله في يوم عظيم) وهو لاشك نكرة، غير أنه معلوم لأنه معروف أن المقصود به يوم القيامة، ومثله قولك (إنه قادم على رب كريم فرب كريم) فرب كريم نكرة مع أن المقصود به الله تعالى، وذلك لأن هذا خصوصية له، ونحو قوله تعالى {سلام قولا من رب رحيم} [يس: 58]. فإن كان صاحب الجملة معرفة كان المضاف معرفة، وإن كان نكرة كان المضاف نكرة مخصصة. الأسماء الموغلة في الإبهام: يذكر النحاة أن ثمة أسماء موغلة في التنكير لا تتعرف بالإضافة إلى المعرفة، نحو غير ومثل وشبه وسوى، فقولك (مررت برجل غيرك) (غير) فيه نكرة، وكذلك: مررت برجل مثلك وشبهك، مثل وشبه فيه نكرتان وإن كانتا مضافتين إلى معرفة بدليل، إنك وصفت بهما النكرة قال تعالى: {أم لهم إله غير الله} [الطور: 43]، وقال: {حتى تنكج زوجا غيره} [البقرة: 230]، وقال: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم} [محمد: 38]، وقال: {بدلناهم جلودا غيرها} [النساء: 56]، فـ (غير) في هذه كلها نكرة لأنها وصفت بها النكرة، وكذلك (مثل) في نحو قولك (مررت برجل مثلك) ومررت برجل مثل الأسد. وسر ذلك أن هذه الكلمات تفيد العموم فقولك (مررت برجل غيرك) (غيرك) فيه عامة في كل الأشخاص الذين هم سواك، فقد يكون أنه مر بخالد أو بحسن أو سعد أو محمد أو رجل آخر غير معلوم، وهي بهذا المعنى نكرة ولا شك. وكذلك لو قلت (مررت برجل مثلك) فأوجه الشبه متعددة، فقد يكون مثلك في الطول، أو في اللون، أو في الذكاء، أو في القوة، أو في الجود، أو في غير ذلك من أوجه الشبه فلا ينحصر بشخص معين. فهذه كلمات تفيد العموم لا تنحصر فيها أوجه المغايرة والمشابهة فلذلك كانت نكرات.

وجاء في (المقتضب): " و (مررت برجل مثلك) فإن قال قائل، كيف يكون المثل نكرة وهو مضاف إلى معرفة؟ هلا كان كقولك: مررت بعبد الله أخيك! فالجواب في ذلك أن الإخوة محصورة، وقولك (مثلك) مبهم مطلق يجوز أن يكون مثلك في أنكما رجلان أو في أنكما أسمران، وكذلك كل ما تشابهتما به، فالتقدير في ذلك التنوين كأنه يقول: مرر برجل شبيه بك ومررت برجل مثل ذلك. فإن أردت بـ (مثلك) الإجراء على أمر متقدم حتى يصير معناه، المعروف بشبهك لم يكن إلا معرفة فتقول على هذا (مررت بزيد مثلك) كما تقول: مررت بزيد أخيك، ومررت بزيد المعروف بشبهك. ومثل ذلك في الوجهين مررت برجل شبهك، ومررت برجل نحوك، فأما مررت برجل غيرك، فلا يكون إلا نكرة لأنه مبهم في الناس أجمعين، فإنما يصح هذا ويفسد بمعناه (¬1). وجاء في (شرح ابن يعيش): " وقد جاءت اسما أضيفت إلى المعارف ولم تتعرف بذلك للإبهام الذي فيها وأنها لا تختص واحدا بعينه، وذلك غير، ومثل، وشبه، فهذه نكرات وإن كن مضافات إلى معرفة، وإنما نكرهن معانيهن وذلك، لأن هذه الأسماء لما لم تنحصر مغايرتها ومماثلتها لم تتعرف، ألا ترى أن كل من عداه فهو غيره، وجهة المماثلة والمشابهة، غير منحصرة فإذا قلت (مثلك) جاز أن يكون مثلك في طولك، وفي لونك، وفي عملك ولن يحاط بالأشياء التي يكون بها الشيء مثل الشيء، فلذلك من الإبهام كانت نكرات .. وقد تكون هذه الأشياء معارف إذا شهر المضاف، بمغايرة المضاف إليه، أو بمماثلته فيكون اللفظ بحاله والتقدير مختلف، فإذا قال القائل: مررت برجل مثلك، أو شبهك وأراد النكرة فمعناه بمشابهك أو مماثلك في ضرب من ضروب المماثلة والمشابهة، ¬

_ (¬1) المقتضب 4/ 286 - 288

وهي كثيرة غير محصورة، وإذا أراد المعرفة قال: مررت بعبد الله مثلك، فكان معناه المعروف بشبهك، أي الغالب عليه ذلك ونحوه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم}: [الفاتحة: 6، 7]. لأن المراد بالذين أنعمت عليهم، المؤمنون، والمغضوب عليهم، الكفار فهما مختلفان، ونحوه مررت بالمتحرك غير الساكن، والقائم غير القاعد (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " واعلم أن بعض الأسماء قد توغل في التنكير بحيث لا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة إضافة حقيقة نحو (غيرك) و (مثلك) وكل ما هو بمعناهما من نظيرك، وشبهك، وسواك وشبهها، وإنما لم يتعرف لأن مغايرة المخاطب ليست صفة تخص ذاتًا دون أخرى، إذ كل ما في الوجود إلا ذاته موصوف بهذه الصفة وكذا مماثلة زيد لا تخص ذاتًا، بل نحو (مثلك) أخص من غيرك، لكن المثلية أيضا يمكن أن تكون من وجوه من الطول والقصر والشباب والشيب والسواد والعلم وغير ذلك مما لا يحصى. قال ابن السري: إذا أضفت (غيرا) إلى معرف له ضد واحد فقد تعرف (غير) لانحصار الغيرية كقولك: عليك بالحركة غير السكون فلذلك كان قوله تعالى {غير المغضوب عليهم} صفة (الذين أنعمت عليهم) إذ ليس لمن رضي الله عنهم ضد غير المغضوب عليهم فيعرف غير المغضوب عليهم، لتخصصه بالمرضي عنهم، وكذا إذا اشتهر شخص بمماثلتك في شيء من الأشياء، كالعلم والشجاعة أو نحو ذلك. فقيل (جاء مثلك) كان معرفة إذا قصد الذي يماثلك في الشيء الفلاني. والمعرفة والنكرة بمعانيها فكل شيء خلص لك بعينه من سائر أمته فهو معرفة، وقدح ابن السراج، في هذا بقوله تعالى: {نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} [فاطر: 37]، مع أن معنى (غير الذي كنا نعمل) أي الصلاح لأن عملها كان فسادا، ويقول الشاعر إن قلت خيرا قال شرا غيره ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 2/ 125 - 126

والجواب أنه على البدل لا الصفة أو حمل (غير) على الأكثر مع كونه صفة، لأن الأغلب فيه عدم التخصيص بالمضاف إليه (¬1). وجاء في (الهمع): " ويعرف ما ذكر من (غير) وما بعده إن تعين المغاير والمماثل كأن وقع بين ضدين نحو: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغصوب عليهم ولا الضالين} وقولك: مررت بالكريم غير البخيل، والجامد غير المتحرك (¬2). فخلاصة ما ذهب إليه النحاة أن الأصل في (غير) و (مثل) ونظائرهما، ألا تتعرف بالإضافة وقد تتعرف، إذا شهر المضاف بالمغايرة والمماثلة، وأنكر آخرون تعريف (غير) مطلقا. وذهب بعضهم إلى أنها تتعرف إذا أضفتها إلى معرف له ضد واحد. ورد هذا القول بقوله تعالى: {نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} [فاطر: 37]، وقوله: {إن قلت خيرا قال شرًا غيره} (¬3). والتحقيق في هذا، أن غيرا ومثلا، قد تتعرفان بالإضافة، وذلك إذا تعين المغاير والمماثل. وإيضاح ذلك أنك تقول (نزلت بواد غير ذي زرع) و (نزلت بواد غير ذي الزرع) و (نزلت بالوادي غير ذي الزرع) فإن الثالثة معرفة بخلاف الأوليين. وذلك إن قولك (بواد غير ذي زرع) يكون فيه الوادي نكرة، وهو موصوف بأنه ليس بذي زرع كما تقول (نزلت بواد مزروع) وإما (بواد غير ذي الزرع) فالمقصود به أنه نزل بواد غير الوادي المزروع، فهناك واد ذو زرع معلوم للمخاطب، فهو لم ينزل بذلك الوادي بل نزل بواد آخر، فذو الزرع معرفة، ولكن (غيرا) بقيت نكرة لأن الوادي المنزول به نكرة لم يتعين. ¬

_ (¬1) شرح الرضي 1/ 300 - 301، وانظر الهمع 2/ 47 (¬2) الهع 2/ 47 (¬3) انظر المغنى 1/ 158، شرح الرضي 1/ 300 - 301

الإضافة غير المحضة

وأما قولك: (نزلت بالوادي غير ذي الزرع) فالوادي المنزول به معرفة والوادي المتروك معرفة، فهنا تكون (غير) معرفة لأن كلا من الواديين معلوم، ونحوه قولك (لقيت رجلا غير خائف ولا وجل) و (لقيت رجلا غير الخائف) و (لقيت الرجل غير الخائف). وأما (شبيهك) فتتعرف بالإضافة، بخلاف (مثلك) و (شبهك) و (نحوك) وإضرابها، وذلك لأن لفظ (شبيه) يفيد انحصار الشبه في جميع الوجوه، وذلك أنها على وزن (فعيل) وهي تفيد المبالغة كعليم، وسميع فدل على شدة المشابهة واتساعها، فإذا قلت (مررت بالرجل شبيهك) فكأنك قلت: مررت بالرجل الذي يشبهك من جميع الوجوه (¬1). بخلاف شبهك ومثلك، فإنه يفيد وجها من وجوه المشابهة الكثيرة المتعددة. وأما: حسبك، وهدك، وشرعك، وكفيك، وكافيك، وناهيك، وأخواتها فهي نكرات لأنها بمعنى الفعل، فقولك (حسبك درهم) معناه (يكفيك درهم) أو ليكفك، وقولك (مررت برجل حسبك من رجل) معناه يكفيك، أو كافيك، وكذا إخواته (¬2). الإضافة غير المحضة: وتشمل 1 - إضافة اسم الفاعل والمفعول إلى معمولهما إذا كانا دالين على الحال أو الاستقبال نحو (هو ضارب خالد الآن أو غدا) و (هو مضروب الأب الآن أو غدا) فإن كانا للمضي فإضافتهما محضة نحو (هو ضارب خالد أمس). 2 - إضافة صيغ المبالغة وإضافة الصفة المشبهة مطلقا إلى معمولها، نحو (هو ضراب الرؤوس) و (طويل القامة وحسن الوجه). 3 - ويلحق بهذه الصفات المنسوب إذا أضيف إلى مرفوعة، نحو (هو عراقي الوطن عربي النسب)، والمصادر إذا كان بمعنى إسم الفاعل أو المفعول، نحو (قيد الأوابد) أي مقيد الأوابد (¬3). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 1/ 301، شرح ابن يعيش 2/ 126، المقتضب 4/ 288 (¬2) المقتضب 4/ 288، شرح الرضي 1/ 301 (¬3) انظر شرح الرضي 1/ 304، شرح ابن يعيش 2/ 119 - 120

والمضاف إضافة غير محضة نكرة، وإن كان مضافًا إلى معرفة كقوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95]، فبالغ الكعبة نكرة، ولذا وصف بها النكرة، وكذا (مررت برجل طويل القامة) فطويل القامة نكرة ولذا وصفت بها النكرة. وهذه الإضافة لا تفيد تعريفا ولا تخصيصا، بخلاف المحضة. أما أنها لا تفيد تعريفا، فلأنا تصف النكرات، كقولك (مررت برجل حسن الوجه) وأما أنها لا تفيد تخصيصا، فلأن التخصيص كان قبل الإضافة، فقولك (هو ضارب خالدٍ) أصله (هو ضاربٌ خالدًا) ثم أضفته إلى مفعوله، وكذلك (هو حسن الوجه) أصله (هو حسن وجهه) ثم أضفته، فالتخصيص حاصل قبل الإضافة، وهي لم تكسبه تخصيصا جديدًا، وإنما هي تفيد التخفيف أو رفع القبح كما يقول النحاة. فقولك (هو ضارب خالدٍ) أخف من (هو ضارب خالدا) وذلك لحذف التنوين منه، وأما رفع القبح فنحو (هو حسن الوجه) فإنك أما تقولها برفع الوجه، أو نصبه او جره فإذا رفعت الوجه وقلت (محمد حسن الوجه) لم يكن ثمة ضمير في الخبر يعود على الموصوف (محمد) لأن الخبر أخذ مرفوعه الظاهر، وهو (الوجه) فلا يرفع ضميرًا وظاهرا، وإذا نصبته فقلت (محمد حسن الوجه) كنت أجريت الوصف القاصر، مجري المتعدي، وفي الجر تخلص من هذين (¬1). إضافة إلى التخفيف بحذف التنوين. والحق فيما نرى أن ليست الإضافة لأحد هذين الغرضين، وإنما هي لغرض آخر يختلف عن الأعمال، إذ لو كان التخفيف هو الغرض لاستعمال كذلك مطلقا، وامتنع الأعمال في حين نرى الاستعمالين جاريين: الإضافة والأعمال، قال تعالى {وما أنت بتابع قبلتهم} [البقرة: 145]، بالأعمال، وقال: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} [آل عمران: 9]، بالإضافة. ¬

_ (¬1) انظر الأشموني 2/ 241، حاشية الخضري 2/ 5

وقال: {ولا آمين اليت الحرام} [المائدة: 2] بالأعمال، وقال: {والمقيمي الصلاة} [الحج: 35]، و {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46]، بالإضافة. فلما لم يخفف دومًا ويقال كذلك بالنسبة إلى الصفة المشبهة في رفع القبح. والتحقيق أن لكل تعبير غرضا لا يؤديه الآخر، فالأعمال نص في الدلالة على الحال أو الاستقبال، والإضافة ليست نصا في ذلك، فإنك إذا قلت: (أنا ضارب محمدا) كان ذلك دالا على الحدث في الحال أو الاستقبال، قال تعالى: {إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 71 - 72]، فهو للاستقبال، أما الإضافة فليست نصا في هذا المعنى، بل تحتمل المضي والاستمرار والحال، والاستقبال، فإنك إذا قلت (أنا مكرم محمد) احتمل ذلك المضي والحال والاستقبال والاستمرار قال تعالى {فاطر السماوات والأرض} [إبراهيم: 10]، وهو ماض. وقال: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأني تؤفكون فالق الإصباح} [الأنعام: 95 - 96]، وهو استمرار. فالإضافة تعبير احتمالي، يحتمل أكثر من معنى، بخلاف الأعمال فإنه تعبير قطعي هذا من جهة. ومن جهة أخرى أنه في الأعمال يكون الوصف ملحوظًا فيه جانب الحدث، وقربه من الفعلية، في حين أنه في الإضافة يكون ملحوظًا فيه جانب الإسمية، وذلك أن الإضافة من خصائص الأسماء. أما أخذ الفاعل والمفعول، فالأصل فيه للفعل فانت تقول (هذا بائع السمك) بمعنى (يبيع) وتقول: (رأيت محمد آكلا التفاحة) بمعنى: (يأكلها)، فإذا قلت: (هذا بائع السمك وآكل التفاح) بالإضافة دل على الذات كما تقول: (مالك الدار). وإذا قلت: (هذا كاتب العقود) كان المعني يكتبها، أي يقوم بكتابتها الآن، أو سيقوم بكتابتها، بخلاف (هذا كاتب العقود) فإن المعنى هذا المخصص لها، والموظف فيها،

إضافة المترادفين والصفة والموصوف

ونحوه أن تقول: (هذا حارس المدرسة) و (هذا حارس المدرسة) فإن المعنى في الأولى أنه يقوم بحراستها أي يحرسها الآن، أما الثانية فمعناها أنه المكلف بحراستها وإن لم يقم بحراستها الآن. ومما يوضح ذلك أنك تقول: (حارس المدرسة ليس حارسا المدرسة) و (سائق السيارة ليس فيها). وتقول: (هذا ضراب الرؤوس) فتلحظ فيه معنى الفعلية، وتقول: (هذا بياع الفاكهة) فتلحظ جانب الإسمية كما تقول: هذا راوية الشعر وعلامة النحو. فدل ذلك على أن الأعمال له غرض والإضافة لها غرض، وليس المقصود بها مجرد التخفيف كما يذكر النحاة. إضافة المترادفين والصفة والموصوف. ذهب جمهور النحاة إلى أنه لا تجوز إضافة المترادفين كليث أسد و (قمح بر) فإن جاء ما ظاهره ذلك أول، وذلك كإضافة الاسم إلى اللقب كـ (سعيد كرز) و (خالد رأس) قالوا: لأنهما إسمان لمسمى واحد، وكإضافة العام إلى الخاص، كـ (يوم الخميس) و (علم النحو) قالوا: لأن الخميس يوم، والنحو علم، فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، فأولوا المضاف بمسمى أي مسمى كرز ومسمى الخميس. كما لا يجوز عندهم إضافة الموصوف إلى صفته وبالعكس، فلا يقال: (رجل قائم) ولا (غلام ضاحك)، وما ورد من ذلك مؤول على تقدير مضاف إليه محذوف، وهو الموصوف بتلك الصفة نحو قوله (حب الحصيد) و (دار الآخرة) و (جانب الغربي) فهو على تقدير حب الزرع الحصيد، ودار الحياة الآخرة، وجانب المكان الغربي. وأجاز الكوفيون إضافة كل ذلك بشرط اختلاف اللفظين فيقال: عندهم رجل جالسٍ وليث أسد ونحوهما (¬1). ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 1/ 315، ابن يعيش 4/ 10، ابن عقيل 2/ 6، الهمع 2/ 48 =

إكتساب المضاف التذكير والتأنيث من المضاف إليه

والحق فيما ذكروه من إضافة المترادفين أنه يجوز إضافة أحدهما إلى الآخر إذا كان بينهما أدنى اختلاف وكانت الإضافة تفيد معنى ما كإضافة الاسم إلى اللقب، والعام إلى الخاص، وما إلى ذلك، فكل ذلك جائز بلا تأويل، وعليه كلام العرب، فالعرب تقول (سعيد كرز) بإضافة الاسم إلى اللقب، ثم إن اللقب في الحقيقة غير الاسم، وليس مرادفا له، وإن كان المسمى واحدا فإن فيه من المدح والذم وغيرهما ما ليس في الاسم. وكذلك (يوم الخميس) و (شهر رمضان) و (علم النحو) فإن الخميس أخص من (يوم) وليس مرادفا له وكذا ما بعده، فهذا كله جائز وعليه كلام العرب فمنعه تعسف ولا داعي للتأويل فيه. ولا تمتنع الإضافة إلا إذا كان المتضايفان مترادفين حقا، ولا تحصل في الإضافة فائدة لكيث أسد ومدية سكين وقمح حنطة، وما ورد من ذلك يبقى مسموعا لا يقاس عليه (¬1). وأما إضافة الموصوف إلى صفته، فالراجح أنها لا تجوز إلا بتقدير مضاف إليه محذوف، فلا تقول: (رأيت غلام الضاحك) وتعني بالضاحك الغلام نفسه، بل على معنى رأيت غلام الرجل الضاحك، فالضاحك، غير الغلام، ولا تقول (رأيت بنت الجالسة) وتعني بالجالسة البنت، بل يصح على معنى رأيت بنت المرأة الجالسة، وكذلك لا تقول: (اشتريت كتاب الجديد) وتعني بالجديد الكتاب، بل على معنى اشتريت كتاب البحث الجديد، أو العلم الجديد، ونحو ذاك. إكتساب المضاف التذكير والتأنيث من المضاف إليه: قد يكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير، والتأنيث بشرط أن يكون المضاف صالحا للحذف، وإقامة المضاف إليه مقامه (¬2). أو أن يكون المضاف كل المضاف إليه أو بعضه أو كبعضه (¬3). نحو قوله (شرقت صدر القناة من الدم) فـ (صدر) مذكر، ¬

_ (¬1) انظر حاشية الخضري 2/ 6 (¬2) شرح ابن عقيل 2/ 7، شرح الرضي على الكافية 1/ 302 (¬3) الهمع 2/ 49، حاشية الخضري 2/ 7

غير أنه أكتسب التأنيث من المضاف إليه لأنه جزء منه، وقال تعالى: {فظلت أعناقهم لها خاضعين} [الشعراء: 4]، فأخبر عن الأعناق وهي مؤنثة بقوله {خاضعين} وكان القياس أن يقول (حاضعة) ولكنه عاملها معاملة المذكر، وذلك لأن المضاف إليه مذكر والأعناق جزء منهم. وقال جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سوء المدينة والجبال الخشع وقال العجاج: طول الليالي أسرعت في نقضي ... نقضن كلي ونقضن بعضي وقال الاخر إنارة العقل مكسوف بطوع هوي ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا وجاء في كلامهم (ذهبت بعض أصابعه) (¬1). فإن لم يكن المضاف صالحا للحذف، ولا كلا أو بعضا، أو كبعض لم يجز فلا تقول: (جاءت غلام زينب) ولا (ذهبت ابن فاطمة). وإنما يحسن ما ذكرناه إذا كان يؤدى معنى لا يؤديه الأصل. فما يؤديه التوسع في المعنى، وذلك أنه إذا أجرى حكم المضاف إليه على المضاف في التذكير والتأنيث، فإنه يريد بذلك أن ينتظمهما معا في الحكم، ولا يخص المضاف وحده به. فمن المعلوم أنك إذا قلت: (جاء غلام سعيد) كان الجيء للغلام وحده، ولكن إذا قلت: (أفنتنا تتابع السنين) كان في تأنيث الفعل إشارة إلى أنك تريد السنين أيضا فكأنك قلت: (أفتنا السنون وتتابعها) وهذا توسع في المعنى، لأنه كسب معنيين في تعبير واحد. ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه: 1/ 25 - 26، شرح الرضي على الكافية 1/ 302

الظروف المعرفة بالقصد

ومن ذلك قوله تعالى: {فظلت أعناقهم لها خاضعين} [الشعراء: 4]، فإنه ذكر ول يقل خاضعة، وذلك لأنه لا يريد خضوع الأعناق فقط، بل خضوع أصحابها أياض فقدم (الأعناق) للإسناد، ولكنه أخبر عن المضاف إليه فجمع المعنيين بذلك. وكذلك قول الشاعر (تواضعت سور المدينة) فإنه لم يقل (تواضع سور المدينة) ولا شك أن الشاعر مضطر إلى ذلك، لإقامة الوزن، لكن فيه معنى حسنا مع ذلك، وذلك أنه أراد أن المدينة كلها تواضعت وليس السور وحده، فذكر السور لأنه حصن المدينة وحماها وأنث الفعل لإرادة المدينة أيضا فجمع بين المعنيين. ونحوه قوله تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]، ولم يقل (قريبة) وذلك لكسب معنيين، وهما قرب رحمة الله وقربه هو أيضا وليست الرحمة وحدها قريبة وذلك كما قال الله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} [البقرة: 186]، فجمع المعنيين معا: قربه وقرب رحمته، فقدم الرحمة وأخبر عن الله. وهذا توسع في المعنى لا يؤديه الأصل فبدل أن يقول: أن رحمة الله قريبة والله قريب جمع ذلك من أخصر طريق وأوجزه فقال: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]، نعم قد يكون ذلك لإقامة وزن في شعر، وقد يرد من كلام العرب ما ليس على هذا القصد، ولكن البليغ لا يعدل من تعبير إلى تعبير إلا لقصد وغرض. وهذا باب كبير مر طرف منه في مواضع متقدمة، وذلك كما في قوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا} [المزمل: 8]، وقوله: {وادعوه خوفا وطمعا} [الأعراف: 56]، وغير ذلك. الظروف المعرفة بالقصد: وهي التي يسميها النحويون (الغايات) وهي: قبل، وبعد، وفوق، وتحت، وأمام، ووراء، وخلف، وأسفل، ودون، وأول، وعلى نحوها. ويذكر النحاة أن لها أربعة أحوال: 1 - ألا تضاف وهي في ذلك نكرات كقول الشاعر:

فساغ لي الشراب وكنت قبلا ... أكاد أغص بالماء الفرات فمعنى (قبلا): فيما مضى من الزمان. 2 - أن تضاف نحو: {من قبل صلاة الفجر} [النور: 58]، و (رجئت بعد محمد) و {قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: 144]، وتكون معرفة إذا أضيفت إلى معرفة، كقوله تعالى: {قد خلت من قبله الرسل} ونكرة إذا أضيفت إلى نكرة، نحو (جئت بعد سفر طويل). 3 - أن يحذف المضاف إليه وينوي لفظه، وهذا قليل كقوله: ومن قبل نادى كل مولى قرابة ... فما عطفت مولى عليه العواطف أي: ومن قبل ذلك، ويعامل المضاف كأن المضاف إليه مذكور. وهي في هذه الحالة المتقدمة معربة. 4 - أن يحذف المضاف إليه وينوي معناه، وتكون عند ذاك مبنية على الضم، نحو {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 4] (¬1).، وتكون في هذه الحالة معرفة، وهذا القسم الأخير هو الذي يسميه النحويون (الغايات) وهو مدار بحثنا ههنا، وهي التي آثرنا تسميتها الظروف المعرفة بالقصد، أو الظروف المقصودة. ونعنى بالظروف المقصودة أن هذه الظروف معلومة الزمان أو المكان، من دون معرف لفظي، وإنما هي معرفة بمعرف معنوي، وهو القصد إليها، فبنيت على الضم، لمخالفة حالاتها الإعرابية الأخرى التي تكون فيها نكرة أو معرفة بالإضافة. أما كونها معرفة فهو مما نص عليه النحاة، جاء في (المقتضب): " فأما الغايات فمصروفة عن وجهها، وذلك أنها مما تقديره الإضافة، تعرفها، وتحقق أوقاتها، فإذا حذفت منها وتركت نياتها فيها، كانت مخالفة للباب معرفة بغير إضافة، فصرفت عن جوهها، وكان حلها من الكلام أن يكون نصبا أو خفضًا. ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن عقيل 2/ 14

فلما أزيلت عن مواضعها ألزمت الضم، وكان ذلك دليلا على تحويلها، وإن موضعها معرفة. وإن كانت نكرة، أو مضافة لزمها الإعراب، وذلك قولك: جئت قبلك، وبعدك، ومن قبلك، ومن بعدك، وجئت قبلا، وبعدا، كما تقول: أولا وآخرا. فإن أردت قبل ما تعلم فحذفت المضاف إليه قلت: (جئت قبل وبعد) و (جئت من قبل ومن بعد) قال الله عز وجل {لله الأمر من قبل ومن بعد} وقال: {ومن قبل ما فرطتم في يوسف} [يوسف: 80]، وقال في الإضافة: {والذين من قبلهم} [آل عمران: 11]، و {من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24]. وكذلك جئت من علو، وصب عليهم من فوق ومن تحت يا فتى إذا أردت المعرفة وكذلك من دون يا فتى" (¬1). وجاء في (التصريح): " فإن نوى معنى المضاف إليه دون لفظه بنيا - يعني قبل وبعد - .. على الضم .. وهما في هذه الحالة معرفتان بالإضافة إلى معرفة منوية .. وقال الحوفي: إنما يبنيان على الضم إذا كان المضاف إليه معرفة، أما إذا كان نكرة فإنهما يعربان سواء نويت معناه أو لا" (¬2). وجاء في (شرح ابن يعيش): " فإذا أضيف إلى معرفة وقطع عن الإضافة وكان المضاف إليه مرادا منويا كان معرفة .. وإن قطع النظر عن المضاف إليه، كان معربا منكورا، وكذلك لو أضفته إلى نكرة، وقطعته، كان معربا أيضا لأنه منكور كما كان، فمعناه مع قطع الإضافة كمعناه مضافًا" (¬3). ¬

_ (¬1) المقتضب 2/ 174 - 175، وانظر الأمالي لابن الشجري 1/ 328 - 329 (¬2) التصريح 2/ 51 (¬3) شرح ابن يعيش 4/ 90

إن النحاة يقولون - كما مر آنفا - في هذه الظروف إن المضاف إليه حذف، ونوي معناه، ولم يوضحوا المقصود بقولهم (نوي معناه) توضيحًا شافيًا. فقد قال الصبان: " والذي يظهر لي أن معنى نية المضاف إليه، أن يلاحظ معنى المضاف إليه ومسماه، معبرًا عنه بأي عبارة كانت، وأي لفظ كان، فيكون خصوص اللفظ غير ملتفت إليه بخلاف نية المضاف إليه" (¬1). وجاء في (حاشية الخضري): " أشتهر أن المراد بذلك أن ينوي معنى الإضافة وهي نسبة الجزئية الخاصة في (بعد زيد) مثلا، وذلك المعنى هو نسبة البعدية إلى خصوص زيد، وأمانية اللفظ فهي أن يكون لفظ المضاف إليه ملحوظًا ومقدرًا في نظم الكلام كالثابت (¬2). والذي أراه أنه ليس ثمة مضاف إليه محذوف، كما ذهب إليه النحاة، وإنما هو في الحقيقة ظرف معرف بالقصد، أي ظرف معلوم للمتكلم، أو للخاطب فقوله تعالى: {ومن قبل ما فرطتم في يوسف} يدل على أن ذلك الزمان معلوم للمخاطبين. ومما يرجح ذلك: أنه قد يضعف تقدير مضاف إليه، وذلك كقوله تعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} [البقرة: 91]، فليس ثمة مضاف إليه محذوف بعد كلمة (قبل)، وإنما المراد بهذا الزمان زمان معين معلوم عند المخاطبين، ومعلوم إن المخاطبين لم يقتلوا أنبياء الله، وإنما المقصود به آباؤهم الأقدمون، غير أن الزمان معلوم. ومثله قوله تعالى: {أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} [البقرة: 108]، فإنه لا يحسن تقدير مضاف إليه، وإنما المقصود به زمان معين معلوم ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 2/ 268 (¬2) حاشية الخضري 2/ 16

غير محدود بإضافة. ونحوه: {قل يأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} [المائدة: 59]، وقوله: {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل} [المائدة: 77]، وقوله: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} [يوسف: 77]، وقوله: {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} [الأعراف: 101]، وقوله: {وخلفتك من قبل ولم تك شيئا} [مريم: 9]، وقوله: {أولم يكفروا بما أوتى موسى من قبل} [القصص: 48]. فإن زمان (قبل) ههنا معلوم مقصود، وليس مقيدًا بإضافة. وهذا يتضح فيما لا تصح إضافته، وهو (عل) فإن (عل) مما لا يضاف أصلا، وقد ذكروا أنه إذا كان المقصود به علوا معلومًا بنوه على الضم وإلا أعربوه. جاء في (شرح شذور الذهب): " ما الحق بـ (قبل) و (بعد) (من عل) المراد به معين كقولك: أخذت الشيء الفلاني من أسفل الدار، والشيء الفلاني من عل، أي من فوق الدار .. ولو أردت بـ (عل) علوا مجهولا غير معروف تعين الإعراب كقوله: كجلمود صخر حطه السيل من علِ أي من مكان عال (¬1). وجاء في (مغنى اللبيب) في (عل): " اسم بمعنى فوق التزموا فيه أمرين: أحدهما استعمال مجرورا بـ (من). والثاني استعماله غير مضاف، .. ومتى أريد به المعرفة كان مبنيا على الضم تشبيها له بالغايات .. ومتى أريد به النكرة كان معربًا كقوله: مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمودصخر حطه السيل من عل ¬

_ (¬1) شرح شذور الذهب 146 - 147

إذ المراد تشبيه الفرس في سرعته بمجلمود انحط من مكان عال، لا من علو مخصوص (¬1). وكذلك الأمر في سائر أخواتها، فإنها إذا كانت معلومة بالقصد لا بإضافة، كانت مبنية على الضم وإلا كانت معربة. ويشبهها في ذلك النكرة المقصودة في النداء، مثل (يا رجل) بخلاف (يا رجلا) فإن رجلا الأولى مقصودة، وهي معرفة بالقصد وتسمى النكرة المقصودة، بخلاف الثانية فإنها غير مقصودة، ولذا فهي نكرة، فالمعرفة بالقصد في النداء مبنية على الضم نظيرة تلك في الإضافة بخلاف النكرة والمضافة. جاء في (شرح ابن يعيش): .وقيل بنيت على الضم لشبهها بالمنادى المفرد، من نحو (يا زيد) ووجه الشبه بينهما أن المنادي المفرد متى نكر أو أضيف أعرب .. وإذا أفرد معرفة بني، وقد كان له حالة تمكن، وكذلك قبل وبعد، إذا نكر أو أضيف أعرب، وإذا أفرد معرفة بني (¬2). فعلى هذا يكون الأمر كما يأتي: إن هذه الظروف إذا لم تضف كانت نكرة لا تدل على زمان أو مكان معين، وإن أضفتها كانت مقيدة بذلك المضاف إليه تخصيصا أو تعريفا، وإن بنيتها على الضم كان المعنى أنك قصدت بها زمانا معينا أو مكانا معينا فأشرت إليه. فإذا قلت: {رأيته قبلا} كان المعنى إنك رأيته فيما مضى، وكذا إذا قلت: (أبدا بذا أولا) فإن المعنى أبدًا به مقدمًا ولم تتعرض للتقدم على ماذا (¬3). ¬

_ (¬1) مغني اللبيب 1/ 154، وانظر حاشية الخضري 2/ 16 (¬2) شرح ابن يعيش 4/ 86 - 87 (¬3) شرح ابن يعيش 4/ 88، شرح شذور الذهب 143

حذف المضاف

وإذا قلت: (رأيته قبل محمد) أو (قبل مدة طويلة) كان مقيدًا بقيد الإضافة، نكرة أو معرفة. وأما قولك: (رأيته قبل) فهو تعبير قليل، ولا يصح إلا إذا كان هناك لفظ معين قامت القرينة عليه فحذفته لذلك وأبقيت المضاف على حاله كأن المضاف إليه مذكور في الكلام. فإن قلت: (رأيته قبل) قصدت به زمنا معينا معلوما وهذا الزمن معرفة، وكذا أن قلت (سقط من عل) فإن المعنى أنه سقط من علو مخصوص، بخلاف ما لو قلت (سقط من عل) فإن المعنى سقط من مكان عال غير معلوم، والله أعلم. حذف المضاف: يحذف المضاف كثيرا في الكلام بدلالة القرائن الدالة عليه، ولحذفه أغراض أهمها: 1 - التجوز في الكلام والاتساع فيه، وذلك نحو قوله تعالى: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة: 177]، والمعنى عندهم، ولكن ذا البر من آمن بالله، أو ولكن البر بر من آمن بالله (¬1). قالوا وذلك لأن البر صدر و (من آمن) جثة، فلا يخبر بالذات عن المصدر (¬2). ومثله قوله تعالى: {ولكن البر من اتقى} [البقرة: 189]. والحق أنه ورد في اللغة الأخبار بالذات عن المصدر، وبالمصدر عن الذات لقصد التجوز والمبالغة، فمن الأول ما ذكرناه في قوله: {ولكن البر من اتقي} ونحوه، والقصد منه تجسيد المعاني وتحويلها إلى شخوص حية متحركة تراها العيون، فقوله تعالى {ولكن البر من آمن بالله} يفيد أن البر إذا تجسد كان شخصا مؤمنا بالله واليوم الآخر، فهو بذلك جعل البر شخصا يمشي على رجلين له سماته وصفاته. ومن الثاني أعني الأخبار بالمصدر عن الذات قوله تعالى: {إنه عمل غير صالح} [هود: 46]، فقد أخبر عن ابن نوح بقوله (عمل غير صالح)، والقصد منه تحويل الذات ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 108 (¬2) انظر شرح ابن يعيش 3/ 24

إلى حدث بعكس القسم الأول، والمعنى في الآية أن ابنك يا نوح تحول إلى عمل غير صالح ولم يبق فيه شيء من عنصر الذات. وهذا التحويل والتجوز لا يؤديه التقدير، فإنك إذا قدرت كما قدر النحاة (إنه ذو عمل غير صالح) أو (ذا البر من آمن) لم يبق فيه شيء من هذا المعنى، فلا داعي لتقدير مضاف أو نحوه، فإن لكل تعبير دلالته ومعناه. وهذا الباب قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} [البقرة: 93]، أي حب العجل (¬1). لأن العجل لا يشرب في القلوب. وهو نظير ما مر من إرادة التجوز، والمعنى أن قلوبهم كانما أشربت عجل الذهب حقيقة فكان في تكوينها وتركيبها، ولا يؤدي هذا المعنى تقدير كلمة (حب). ومنه قولهم (بنو فلان يطؤهم الطريق) وهو مجاز عقلي، والمعنى يطؤهم أهل الطريق ولكنه أسند الوطء إلى الطريق تجوزرا. جاء في (الكتاب): ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى: {وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها} [يوسف: 82]، إنما يريد أهل القرية فاختصر وعمل الفعل في القرية .. ومثل ذلك من كلامهم: بنو فلان يطؤهم الطريق، وإنما يطؤهم أهل الطريق (¬2). فهذا في الحقيقة تعبير مجازي، يؤدي معنى لا يؤديه المقدر، ولذا نحن لا نرى في هذا تقديرا لأنه يفسد الغرض الفني الذي صيغ من أجله. 2 - الحذف للاختصار، وذلك إذا دل عليه المعنى نحو قولهم: " هذه الظهر أو العصر أو المغرب، إنما يريد صلاة هذا الوقت، واجتمع القيظ يريد اجتمع الناس في القيظ، وقال الحطيئة: ¬

_ (¬1) شرح ابن عقيل 2/ 17 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 108 - 109

وشر المنايا ميت وسط أهله ... كهلك الفتى قد اسلم الحي حاضره. يريد منية ميت وقال الجعدي وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب يريد كخلالة أبي مرحب (¬1). ومن ذلك قوله الشاعر: المال يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسود غير السيد المال أي فقد المال يزري (¬2). ومنه قولك: (جئت طلوع الشمس)، أي وقت طلوع الشمس، و (انتظرني صلاة ركعتين) أي مقدار صلاة ركعتين، وهو مفهوم من الكلام. 3 - الاستغناء بدلالة المضاف المذكور على المحذوف إذا دلت عليه قرينة، وذلك نحو قولك: (أبو محمد وخالد حاضران) فإن المعنى أبو محمد، وأبو خالد حاضران بدليل قوله (حاضران) إذ لو لم يرد ذلك لقال (حاضر). فإنك إذا قلت: (أبو محمد وخالد حاضر)، كان المعنى أن أباهما حاضر، وإن قلت (حاضران) كان المعنى إن أبويهما حاضران فثنيت إشارة إلى أنهما أثنان لا واحد. ونحوه أن تقول: (كتاب سعيد وخالد ممزقان) فدل قولك (ممزقان) على أنهما كتابان لا كتاب واحد، والمعنى: كتاب سعيد وكتاب خالد، ولو قلت: (ممزق) لكان كتابا واحدًا يعود إليهما. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 109 - 110 (¬2) شرح ابن يعيش 3/ 24

حذف المضاف إليه

ومثله أن تقول: (ما مثل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك) فهذا لابد فيه من تقدير (مثل) أيضا فيكون التقدير ما مثل أخيك ولا مثل أبيك يقولان ذاك (¬1). لأنه لو كان المقصود بمثل أخيك وأبيك شخصا واحدا لأخبر عنه بـ (يقول) فعلم بقوله (يقولون) أنهما شخصان لا شخص واحد. فقد استغنيا بالمضاف المذكور عن المحذوف فقد دلت عليه القرينة. حذف المضاف إليه: قد يحذف المضاف إليه ويبقى المضاف على حاله كما لو كان المضاف إليه مذكورا، وأكثر ما يكون ذلك إذا أستغني بالمضاف إليه المذكور عن المحذوف. وذلك نحو: (أخذت كتاب وقلم خالد) وهذا يدل على أن الكتاب والقلم هما لخالد، بخلاف ما لو قلت (أخذت كتابا وقلم خالد) فيدل ذاك على أن القلم لخالد دون الكتاب. ونحو هذا التعبير كثير وذلك نحو قولهم (قطع الله يد ورجل من قالها) وقوله: سقى الأرضين الغيث سهل وحزنها أي سهلها وحزنها، وقوله: إلا علالة أو بدا ... هة قارح نهد الجزاره أي علالة قارح وبداهته (¬2). ونحن هنا لا نريد أن نذكر الخلاف العقيم في موطن المضاف إليه المحذوف، أو هل هذا من باب حذف المضاف، إليه أو أن الإسمين مضافان إلى مضاف إليه واحد، فهذا خلاف لا طائل فيه، لأن المهم المعنى، والمعنى واحد، سواء قلت بهذا أم بذاك. ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن يعيش 3/ 28 (¬2) انظر المقتضب 4/ 228، شرح ابن عقيل 2/ 18، التصريح 2/ 56 - 57

المصدر

المصدر المصدر هو الحدث المجرد، يستعمل أحيانا استعمال الفعل فيكون له فاعل، ومفعول به، وذلك كقوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة} [البلد: 14 - 15]، وقوله: {إنكم ظلمتم انفسكم باتخاذكم العجل} [البقرة: 54]، وقوله الشاعر: ضعيف النكاية اعداءه ... يخال الفراء يراخي الأجل وقد يستعمل استعمال الأفعال اللازمة نحو: {وما كيد فرعون إلا في تباب} [غافر: 37]. المصدر الصريح والمؤول: استعملت العربية نوعين من المصادر: مصادر صريحة ومصادر مؤولة، فمن المصادر الصريحة قولك (أعجبني انطلاقك) ومن المؤولة قولك (أعجبني أن تنطلق). وهناك اختلاف بينهما في المعنى، والاستعمال فقد يقع المصدر الصريح في مواطن لا يقع فيها المؤول وبالعكس، وقد يؤدي أحدهما معنى لا يؤديه الآخر. فمن الاختلاف في الاستعمال. 1 - أن المصدر المؤول قد يسد مسد المسند، والمسند إليه، ونحو (ظننت أنك ذاهب) و {أحسب الناس أن يتركوا} [العنكبوت: 2]، ولا يسد المصدر الصريح مسدهما وذلك أن المصدر المؤول في الأصل جملة لها معناها الحاصل من الإسناد، أوقعها الحرف موقع المفرد بخلاف المصدر الصريح فإنه مفرد أصلا. 2 - ان المصدر المؤول يسد مسد خبر فعل الرجاء (¬1). أو مسد فاعله نحو: {وعسى أن ¬

_ (¬1) نحن نرى أن (أنْ) ليست مصدرية في هذا الموطن كما ذكرنا

تكرهوا شيئا وهو خير لكم} [البقرة: 216]، و {عسى الله أن يتوب عليهم} [التوبة: 102]، ولا يسد ذلك المصدر الصريح. 3 - ينوب المصدر الصريح عن ظرف الزمان ولا ينوب عن ذلك المؤول، تقول (جئتك غروب الشمس) أي وقت غروبهما و (جئت قدوم الحاج) أي وقت قدومهم، ولا تقول (جئتك أن تغرب الشمس) ولا (جئت أن قدم الحاج). 4 - يكثر حذف حرف الجر مع أن وأن نحو {ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم} [المائدة: 2]، أي لأن صدوركم و (عجبت أن أخاك ناجح) أي من أن أخاك ناجح، وهذا قياس إذا اتضح المعنى، وليس الأمر كذلك مع المصدر الصريح. 5 - يصح وصف المصدر الصريح، ولا يصح وصف المصدر المؤول، تقول: يعجبني انطلاقك السريع، ولا يصح: يعجبني أن تنطلق السريع. (¬1). 6 - ينوب المصدر الصريح، عن فعله نحو (صبرًا آل ياسر) و (فضرب الرقاب) أي أصبروا واضربوا، ونحو (سقيا لك) و (اتوانيا وقد جد الناس)؟ ولاينوب عنه المصدر المؤول. 7 - يؤكد المصدر الصريح فعله (¬2). ويبين نوعه، وعدده، نحو (انطلقت انطلاقا) و (انطلقت الأنطلاق) و (انطلاق السهم) و (انطلاقتين) ولا يستعمل المصدر المؤول لذلك. إلى غير ذلك من أوجه الخلاف في الاستعمال. ثم إن لكل من المصدرين (الصريح والمؤول) غرضا لا يؤديه الآخر، فمن ذلك. 1 - أن المصدر المؤول يفيد الدلالة على الزمن، بخلاف المصدر الصريح، تقول (أعجبني أن قمت) و (أن تصبر خير لك) فهذا يفيد الدلالة على الماضي، او الحال، أو الاستقبال، بحسب الفعل بخلاف المصدر الصريح، فإنك إذا قلت (صبرك خير لك) ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 679، الهمع 1/ 151 - 152، الأشباه والنظائر 2/ 195 (¬2) حاشية الصبان 1/ 176

أحتمل المضي والحال والاستقبال لأنه ليس في صيغته ما يدل على تحديد زمن (¬1). ثم إضافة إلى أنه يستعمل للتمييز بين ما هو واقع، وما سيقع، يستعمل أيضا للدلالة على المأمور، أو المنهى عنه، أو المدعو به، وما إلى ذلك نحو (أشرت إليه بأن قم) أو بأن لا تقم وبأن حفظك الله وهذا يختلف عما سبق، أن ذكرناه من نيابة المصدر الصريح عن فعله فهذا ليس من باب النيابة، وإنما هذا مدلول المصدر المؤول، ولو أبدلت الصريح به لم يفهم المعنى نفسه. 2 - أن المصدر المؤول ولا سيما مع (أنْ) يدل على مجرد معنى الحدث دون احتمال زائد عليه، ففيها [يعني أن] تحصين من الإشكال، وتخليص له من شوائب الإجمال، بيانه أنك إذا قلت: (كرهت خروجك) و (أعجبني قدومك) احتمل الكلام معاني، منها أن يكون نفس القدوم هو المعجب لك دون صفة من صفاته، وهيآته، وإن كان لا يوصف في الحقيقة بصفات ولكنها عبارة عن الكيفيات، واحتمل أيضا أنك تريد أنه اعجبك سرعته أو بطؤه أو حالة من حالاته فإذا قلت: (اعجبني أن قدمت) كان [دخول] أن على الفعل بمنزلة الطبائع والصواب من عوارض الاجمالات المقصودة في الأذهان (¬2). وإيضاح ذلك أنك إذا قلت مثلا (يعجبني مشى محمد) فقد يفيد ذاك أن في مشيه صفة معينة هي التي تعجبك فيه، ويحتمل أيضا أنه يعجبك مجرد المشيء من دون قصد إلى صفة معينة، ولكن إذا قلت (يعجبني أن يمشى) كان ذلك لمجرد المشي، لا لشئ آخر أو صفة خاصة، ونحو ذلك قوله تعالى: {بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل} [الرعد: 33]، فإن قوله (زيد للذين كفروا مكرهم) يحتمل أن مكرهم إنما زيد لهم لما فيه من الدهاء والحيلة والاستدراج، ولو قال: (زيد للذين كفروا أن يمكروا) لكان المعنى أنه زين لهم أن يفعلوا مكرا، لا أن مكرهم له صفة معينة هي التي تزينه لهم. ومثله. يعجبهم علمهم، ويعجبهم أن يعلموا. ¬

_ (¬1) انظر بدائع الفوائد 1/ 92، وانظر المقتضب 3/ 214 (¬2) بدائع الفوائد 1/ 92 - 93: زيادة اقتضاها

3 - إن (أَنْ) والفعل قد تفيد الإباحة، ولا تفيد القطع بحصول الفعل، بخلاف المصدر الصريح، فإنه قد يفيد القطع بحصوله، وذلك نحو أن تقول: (له صراخ صراخ الثكلى) فهذا يختلف عن قولك: (له أن يصرخ صراخ الثكلى) فإن قولك (له صراخ) قطع بحصول الفعل، أي هو يصرخ، أما إذا قلت: (له أن يصرخ) فلا يفيد ذاك أن الصراخ حصل وإنما المعنى يحق له أن يصرخ (¬1). كما تقول (لك أن تذهب إلى البصرة) أي يحق لك. 4 - أن المصدر المؤول يبين الفاعل من المفعول من نائب الفاعل ولا يبين ذلك المصدر الصريح تقول (ساءني أن يعاقب محمد) محمد نائر فاعل و (ساءني أن يعاقب محمد) فمحمد فاعل و (ساءني أن يعاقب خالد محمدًا) فمحمدًا مفعول به. فإن قلت: ساءني معاقبة محمد أحتمل أن يكون محمد فاعلا ومفعولا، ولا يبين المصدر الصريح نائب الفاعل، فإذا أردت بيان نائب الفاعل، وجب أن تأتي بالمصدر المؤول تقول: عجبت من أن يضرب عمرو، فعمرو نائب فاعل، فإذا قلت: عجبت من ضرب عمرو تبادر إلى الذهن انه فاعل (¬2). إلا في تعبيرات محدودة. 5 - أن لكل حرف من الحروف المصدرية معنى خاصا به، فإذا جئت بالمصدر الصريح لم يتبين المقصود وذلك أن (ان) تفيد التوكيد و (أن) للاستقبال و (ما) للحال إذا دخلت على المضارع ولو للتمنى وكي للتعليل، فإذا جئت بالمصدر الصريح أنتفي التمييز بينها فعلى سبيل المثال أنك تقول: 1 - يسرني أن تهذب. 2 - يسرني أن ذهبت 3 - يسرني أنك ذاهب. ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 1/ 131، حاشية يس على التصريح 1/ 333 (¬2) حاشية الصبان 2/ 283

4 - يسرني أنك تذهب. 5 - يسرني أنك ذهبت. 6 - يسرني أنك ستذهب 7 - يسرني لو ذهبت. 8 - يسرني ما ذهبت. وهذه كلها تؤول. يسرني ذهابك 6 - التمييز بين الصيغ ومدلولاتها، فإنه في المصادر المؤولة تستطيع أن تأتي بالفعل واسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وصيغ المبالغة، واسم التفضيل، فتفيد كل صيغة دلالتها من حدوث، وثبوت وتكثير وتفضيل، وغيرها في حين لا يتأتي ذلك في المصادر الصريحة، فأنت تقول: (يعجبني أن محمدا ضارب، ومضروب، وضراب وأضرب من غيره) في حين أنها كلها تكون بلفظ واحد في المصدر الصريح، تقول: (يعجبني ضرب محمد) أو تتكلف تعبيرات أخرى لا تؤدي مؤدي الأصل نحو: يعجبني أفضلية ضرب محمد أو كثرته، ونحو ذلك ففي المصدر المؤول من التمييز بين المعاني ما ليس في المصدر الصريح. 7 - يؤتى بالمصدر المؤول فيما ليس له مصدر صريح من الأفعال، كالأفعال الجامدة نحو: {وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} [الأعراف: 185]، و {أن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]. 8 - قد يؤتى بالمصدر الصريح لإرادة الحدث وحده، دون إرادة صاحبه، أو إرادة زمنه نحو (الحمد لله رب العالمين) فإنه يراد بالحمد مجرد الحدث، لا صاحبه، ولا زمنه، ونحو: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) [البقرةك 229]، ونحو: {وهم في شقاق} [البقرة: 137]، و {ما يعدهم الشيطان إلا غرورا} [النساء: 120]، و {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} [غافر: 25]} فإمساك وتسريح، وشقاق وغرور،

وضلال أحداث مجردة فجيء بها مصادر صريحة، ولا يراد معها أصحابها، ولو قال: وما بعدهم الشيطان إلا أن يغرهم لتغيير المعنى، ولو قال (وما كيد الكافرين إلا في أن يضلوا) لم يكن لذلك معنى. 9 - إيقاع الجمل المختلفة بدلالاتها المتميزة موقع المصدر في المصدر المؤول ولا يتأتي ذلك في المصدر الصريح وذلك كالجمل الفعلية والإسمية الكبرى، والصغرى، المؤكدة بطرائق التوكيد المختلفة وغير المؤكدة، المثبتة والمنفية بأساليب النفي المختلفة، الشرطية وغيرها وما إلى ذلك من أنواع الجمل مما لا يتأتي في المصدر الصريح نحو {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} [الجن: 16]، و (اعلم أن لا إله إلا الله) و (علمت أن محمدا ذو مال كثير) و (علمت أن محمدا ماله كثير) و (علمت أن محمدًا ليس له مال) و (علمت أن محمدًا لا مال له) وغير ذلك. وإليك مثلا يوضح كيف أن المصادر المؤولة المختلفة ذات الدلالة المتعددة تؤول بلفظ واحد على تباينها: 1 - يسرني أن محمدا ضرب 2 - يسرني أن محمدا يضرب 3 - يسرني أن ضرب محمد 4 - يسرني أن قد ضرب محمد 5 - يسرني أن قد يضرب محمد. 6 - يسرني أن محمدٌ ضرب. 7 - يسرني أن محمدٌ يضرب 8 - يسرني أنه محمد ضرب. 9 - يسرني أنه محمد يضرب.

10 - يسرني أنه قد ضرب محمد 11 - يسرني أنه قد يضرب محمد 12 - يسرني أن محمدا سيضرب 13 - يسرني أن سيضرب محمد 14 - يسرني أنه سيضرب محمد 15 - يسرني أنه محمد سيضرب. 16 - يسرني أن محمدًا ضارب 17 - يسرني أنه محمد ضارب 18 - يسرني أنه ضارب محمد 19 - يسرني أن محمدٌ ضارب 20 - يسرني أن ضارب محمد 21 - يسرني أن محمدا إنه ضارب 22 - يسرني أن محمدا إنه لضارب 23 - يسرني أن محمدا أنه هو الضارب 24 - يسرني أن محمدا ضراب 25 - يسرني أنه محمد ضراب 26 - يسرني أن محمد ضراب 27 - يسرني أنه ضراب محمد 28 - يسرني أن ضراب محمد

الحروف المصدرية

29 - يسرني أن محمدا إنه ضراب 30 - يسرني أن محمدا إنه لضراب 31 - يسرني أن محمدا إنه هو الضراب 32 - يسرني أن محمدا أضرب 33 - يسرني أن محمد أضرب. 34 - يسرني أنه محمد أضرب 35 - يسرني أن محمدا أنه أضرب 36 - يسرني أن محمدا أنه لأضرب 37 - يسرني أن محمدا أنه هو أضرب 38 - يسرني أنه أضرب محمد 39 - يسرني أن محمدا مضروب 40 - يسرني أنه محمد مضروب ونكتفي بهذا القدر وهناك صور أخرى لهذا التعبير، وهذه كلها تؤول بتعبير واحد هو يسرني ضرب محمدٍ وبهذا يتضح لنا أن أحد المصدرين لا يغني عن الآخر، ولا يسد مسده بل لكل منهما خصائصه وغرضه. الحروف المصدرية في العربية حروف تسمى الحروف المصدرية، وهي: (أن)، وأن، وما، ولو، وكي، ووظيفة الحرف المصدري، إيقاع الجملة موقع المفرد، فتوقعها فاعلا، ومبتدأ ومفعولا به ومضافا إليه، ومجرورة بحرف الجر، وغير ذلك.

أن

تقول: (أن تعدل في حكمك خير لك من أن تجور) فأوقعت تعدل مبتدأ أخبرت عنه. وتقول: يسرني أن تفوز فجعلت فاعلا. وتقول: سررت بأنك فائز، فأوقعت أنت فائز، مجرورا بالحرف. وهكذا، ولا يتأتي ذلك لولا الحرف المصدري، وقد تقول: إذا كانت هذه الغاية من الحرف المصدري، فلماذا تعددت الحروف المصدرية؟ والجواب إن هذه الأحرف ليست متطابقة من حيث الوظيفة بل أن لكل حرف معنى ووظيفة قد تختلف عن الآخر. فـ أن: تدخل على الجمل الإسمية وتفيد التوكيد، نحو: {واعلموا أنكم ملاقوه} [البقرة: 223]، بخلاف أن الخفيفة الأصل فهي لا تفيد التوكيد، ولذا قالوا إذا وقعت أن المشددة بعد أفعال الرجحان أفادت العلم، نحو: {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} [البقرة: 249]، وإذا وقعت الخفيفة لم تفد ذلك تقول (أظن أن يأتي محمد). والمخففة من هذه حرف مصدري أيضا يدخل على مالا تدخل عليه المشددة، كالأفعال الجامدة والإنشائية وغيرها، نحو {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]، {وألو استقاموا على الطريقة} [الجن: 16]، وهي تفيد التوكيد أيضا كما أسلفنا في بابه. أن: وتدخل على الجملة الفعلية، وهي تدخل على المضارع فتصرفه إلى الاستقبال غالبا نحو: (أريد أن تأتيني) وتدخل على الماضي نحو {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله} [المائدة: 59]، وتدخل على الأمر نحو: {وإذا أنزلت سورة أن أمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولوا الطول منهم} [التوبة: 86]، ونحو قولك: (ناديتهم بأن أقدموا). وقد تفيد التعليل نحو {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس: 1، 2]، وقد ذكر برجشتراسر أنها تفيد التعليل. جاء في التطور النحوي: وأخرجوا أن عن كونها مصدرية محضة.

فإن قولي: (أريد أن تفعل ذلك) يتعدي قولي: أريد فعلك، ذلك في أن نصب الفعل يقرب أن من كي كأني قلت: أريد كي تفعل ذلك، أي غرض إرادتي فعلك ذلك كما جاء في القرآن الكريم: {إنما يريد الله ليعذبهم بها} [التوبة: 55]، فالجمل المصدرية النائبة عن مفعول فعل من أفعال الإرادة والطلب وما يشاكلها، تقترب من الجمل الغرضية في جوهر معناها (¬1). غير أني أخالفه في المثال الذي ذكره (أريد أن تفعل ذلك) فهذا لا يفيد التعليل، ولا شك أنه يعني بالغرض التعليل، خصوصا وأنه نظرها بـ (كي) أما إذا كان يقصد بقوله (غرض) المعنى العام فإن كثيرا من المفعول به غرض، فإذا قلت أريد كتابا كان الكتاب غرضا، وإذا قلت (أود لقاءه) كان اللقاء غرضا بهذا المعنى. وقد وردت أن للتعليل كثيرا في القرآن الكريم، وذلك نحو قوله: {ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} [المائدة: 2]، أي لأن صدوكم. وقوله: {تولوا وأعينهم تفيض من الدع حزنا ألا يجدوا ما ينفقوا} [التوبة: 92]، وقوله: {وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} [مريم: 90 - 91]. وقد تقول إن معنى التلعيل لم يأت من (أن) وإنما هو من الحرف المقدر اللام أو غيره. وأقول: إذا كان بالإمكان تقدير حرف يفيد التعليل في قسم من الأمثلة فقد يمتنع في قسم آخر، فمن الأول قوله تعالى: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس: 1 - 2] أي لأن جاءه. ومن الثاني: قوله تعالى: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]، فلا يصح إبدال كي أو اللام بها، فلا يصح للمعنى نفس أن تقول (أتقتلون رجلا كي يقول ربي الله) أو ليقول ربي الله، واللام عندهم على تقدير (أن)، فمعنى الآية: أتقتلونه لآنه يقول ربي الله، ومعناها باللام أو بـ (كي) أتقتلونه حتى يقولها. فمعناها بـ (أن) أنه يقولها ومعناها بـ (كي) وباللام أنه لا يقولها ¬

_ (¬1) التطور النحوي 126

ومثله: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} [الممتحنة: 1]، وهي كالآية السابقة. وقد تقول أنه يصح أن أقول: (أتقتلون رجلا لأن يقول ربي الله)، للمعنى نفسه أو قريب منه، فأقول أن ذكر (أن) يؤدي معنى لا يؤديه حذفها، وإبدال غيرها بها، فاللام عندهم على تقدير (أن) ومع ذلك إذا حذفت (أن) وجئت باللام تغير المعنى، في نحو هذا، فذكر (أن يفيد نوعا من التعليل لا يؤديه حذفها. وهي تستعمل للتعليل مع الفعل الماضي بدلا من (كي) أو اللام، لأن هذين الحرفين لا يباشران الفعل الماضي، وذلك نحو {أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين} [الزخرف: 5]، والنحاة يقدرون اللام في نحو هذا. وجاء في (المقتضب) أنها تكون علة لوقوع الشيء (¬1). والخلاصة أنها استعملت في التعليل كثيرًا، في الماضي، والمضارع من دون حرف يفيد العلة، ثم إن التلعيل بها قد يختلف عن التعليل بـ (كي) واللام. وهذا من ناحية التعليل. وأما من ناحية الزمن فإنها تصرفه لزمن الاستقبال غالبا، وذلك نحو: قوله تعالى {أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} [البقرة: 108]، فالسؤال مستقبل، ونحو قوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقوه} [الأنعام: 25]، وهذا ليس للتنصيص على الاستقبال بل يشمل الحال أيضا، وكقوله تعالى: {تولوا وأعينهم تفيض من الدع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92] وهم لا يجدون ما ينفقون في الحال، ونحوه، قوله: {فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز} [هود: 12]، فـ (أن يقولوا) ليس تنصيصا على الاستقبال، بل هو يفيد الحال، وما قبل الحال أيضا، لأن هذا القول صدر منهم قبل نزول الآية. وكقوله تعالى: {وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل: 15]، فقوله (أن تميد) غير متخصص بالاستقبال، بل هو يشمل الزمان المتطاول الممتد من قبل خلق الإنسان على الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقوله: {الذين أخرجوا من ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 214

ما

ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [الحج: 40]، وهم أخرجوا لأنهم قالوا ذلك ومستمرون على قوله أيضًا، وقوله: {فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض} [النمل: 24 - 25]، والمقصود بـ (ألا يسجدوا) الحال. ومثله قوله تعالى: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]، وقوله: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} [الممتحنة: 1]، وقوله: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} [البروج: 8]، وإن كل ذلك ليس فيه تنصيص على الاستقبال. ونحوه: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75]، وهو لم يسجد في الماضي وقوله: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25]، وهما قائمتان بأمره لم تزال ولا تزالان. غير أنه يمكن أن يقال إن أغلب ما ذكرنا من الأمثلة يفيد الاستمرار الذي منه الاستقبال فتكون دلت على الاستقبال ضمنا لا تنصيصا، ولا ينطبق هذا على نحو قوله تعالى: {ألا يجدوا ما ينفقون} فيما أحسب فإن هؤلاء قد يجدون في الاستقبال ما ينفقون، والله أعلم. ما: و (ما) تدخل على الفعل المتصرف في الغالب، ماضيًا كان أو مضارعًا، نحو قوله تعالى: {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26]، وقوله: {وأنا بريء مما تجرون} [هود: 35]، أي من إجرامكم، وقوله: {لتجزى كل نفس بما تسعى} [طه: 15]، أي بسعيها، وقد تدخل على غير ذلك قليلا، نحو (بقوا في الدنيا ما الدنيا باقية)، وقوله: أعلاقة أم الوليد بعدما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس وقيل (ما) كافة لـ (بعد) من الإضافة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 428، المغنى 1/ 311

وهي إذا دخلت على الفعل المضارع أفادت الحال (¬1). نحو {سبحانه وتعالى عما يصفون} [الأنعام: 100]، ونحو: {فذرهم وما يفترون} [الأنعام: 112]. وقد تكون زمانية نحو قوله تعالى: {إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها} [المائدة: 24]، أي مدة دوامهم فيها، وقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، أي مدة استطاعتكم. وقد ذكر برجشتراسر أن التطابق كثير بين (أنْ) و (أنّ) و (ما). قال: وإذا تساءلنا عن الفرق بين (أن) و (أن) وبين (ما) مع صرف النظر عن الحالات التي تفي فيها (أن) بوظيفة خاصة بها، فتعمل في نصب الفعل، وجدنا أن التطابق بينها كثير، مثاله من القرآن الكريم {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة} [الأنفال: 53]، و {ذلك بما عصوا} [البقرة: 61]، فـ (أن) و (ما) معناهما واحد، ومنه {من بعد ما جاءهم العلم} [الجاثية: 17]، و {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبن إخوتي} [يوسف: 100]، وعلى العموم فـ (ما) أندر كثيرًا من (أن) و (أن) ويقل استعمالها تدريجيا مع تطور اللغة العربية، غير أنها احتفظت بها في بعض الأحوال نحو (قل ما وجد مثل ذلك) و (طالما) و (بئس ما) .. وقد تميز العربية بين (أن) و (أن) وبين (ما) في المعنى، واشهر مثال لذلك هو الفرق بين (كأن) و (كأن) وبين (كما) فـ (كأن) و (كأن) تفيدان فرض كون الشيء غير ما هو عليه في الحقيقة و (كما) تفيد التشبيه والتمثيل الحقيقي، مثال ذلك: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} [الأعراف: 171]، والجبل لم يكن ظلة أو مثل ظلة، بل كان ضدها في المتانة والرسو، والمعنى لو كان الجبل كظلة لكان نتفه ورفعه وزلزلته قريبًا من الاحتمال فلأنه لم يكن كظلة كان نتفه من المعجزات، و (كما) مثل (آمنا كما آمن الناس) يعني إيمانيا مثل إيمانهم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر التصريح 2/ 62، الهمع 2/ 92 (¬2) التطور النحوي 126 - 127

والحق أنه ليس ثمة تطابق بين هذه الأحرف، فـ (أن) تفيد التوكيد، وأما (أن) و (ما) فبينهما أوجه اختلاف منها: 1 - أن (أن) تفيد الاستقبال في الغالب، و (ما) تفيد الحال، وذلك إذا دخلتا على الفعل المضارع، فمن ذلك قوله تعالى: {إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} [المائدة: 11]، فـ (يبسطوا) المقصود به الاستقبال، ولو قال (ما يبسطون) لكان للحال، وقوله: {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا} [الكهف: 66]، أي شريطة أن تعلمني، فالتعليم في المستقبل، ولو قال (على ما تعلمني) لكان المقصود به الحال. وقوله: {فذرهم وما يفترون} [الأنعام: 12]، و {وأنا بريء مما تجرمون} [هود: 35]، فهذه كلها للحال بعكس (أن). 2 - أن (ما) قد تكون ظرفية زمانية بخلاف (أن) وذلك نحو قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، وقوله: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} [مريم: 31]، وقولك: (أنت مفلح ما تفعل الخير) أي مدة فعلك الخير. 3 - أن (ما) تكون اسما موصولا وتكوف حرفًا مصدريا، وفي قسم من التعبيرات يحتمل الكلام المعنيين، فيكون من باب التعبير الاحتمالي الذي سبقت له نظائر، وذلك نحو: {ساء ما يعملون} [المائدة: 66]، فقد يحتمل المعنى ساء عملهم وساء الذي يعملونه، وقوله: {يآيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك} [الزخرف: 49]، فالمعنى يحتمل ادع ربك بعهده عندك، ويحتمل بالذي عهده عندك، ويحتمل بالذي عهده عندك، ونحوه قوله: {قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} [يس: 26 - 27]، فهذا يحتمل ياليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي، ويحتمل أنه ياليتهم يعلمون بالشيء الذي غفر لي به ربي. ونحوه أن تقول: (صبرت على ما كذبتني) فالمعنى يحتمل (صبرت على تكذيبي) ويحتمل صبرت على ما كذبتني به، أي الشيء الذي كذبتني به ونحوه أن تقول (صدق ما عاهد الله) فهذا يحتمل أنه صدق عهد الله، ويحتمل صدق ما عاهد الله عليه، أي صدق الشيء الذي عاهد الله عليه.

أما (أن) فلا تكون إلا مصدرية. وبذا قد تؤدي (ما) أكثر من معنى أحيانا. 4 - ولكون (ما) كذلك أي أنها قد تكون مصدرية، وقد تكون اسما موصولا وقد تحتمل المعنيين أحيانا يؤتى بـ (أن) إذا أريد التنصيص على المصدر، وبخاصة إذا كان مجيء (ما) قد يصرف الكلام إلى معنى آخر، وذلك نحو قوله تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} [البقرة: 105]، فلو أبدلت (ما) بـ (أن) لكان المعنى أنهم لا يودون ما ينزل عليكم، أي لا يودون الخير النازل عليكم من الله، وكقوله تعالى: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس: 1، 2]، أي لمجيء الأعمى، ولو قلت: عبس وتولى لما جاءه الأعمى أو بما جاءه الأعمى لكان المعنى: عبس للشيء الذي جاء به الأعمى ولم يأت الأعمى بشيء، وإنما عبس لمجيئه لا لشيء جاء به، ولو قال (عبس وتولى ما جاءه الأعمى)، لكان المعنى أنه عبس وتولى كلما جاءه الأعمى، وكلا المعنيين غير مراد. ونحوه قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} [التكوير: 29]، والمعنى أنكم لا تشاؤون إلا بمشيئة الله، أي إلا إذا شاء الله، ولو قيل (وما تشاؤون إلا ما يشاء الله) لكان المعنى أنكم لا تشاؤون إلا الشيء الذي يريده الله ويشاؤه. وهذا غير مراد ولا يصح. 5 - الأصل في مصدر (ما) أن يكون مخصوصًا، وفي مصدر (أن) أن يكون لإرادة مجرد الحدث، ـ وهذا فرق رئيس بين استعماليهما، ولذا لا يحسن وضع أحداهما، مكان الأخرى أحيانا، فمثلا قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65]، يصح فيه تأويل (مما قضيت) بمصدر فتقول: (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا من قضائك)، ولكن مع ذلك لا يحسن وضع (أن) مكان (ما) فلا تقول: (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا من أن قضيت) لأن المعنى سيكون عند ذلك: عليهم ألا يجدوا في أنفسهم حرجا من كونك تقضي، أو من مبدأ أنك تقضي، وليس هذا المقصود، وليس في أنفسهم

حرج من ذلك، بل المقصود أن عليهم أن يرضوا بما يقضي، ولو كان لا يوافق هواهم ورغبتهم، ليس في أنفسهم حرج من ذلك، لا من مجرد أنه يقضي، فيكون مصدر (ما) مخصوصا، وقد يراد بـ (ما قضيت) المقضي به أي اسم موصول. ونحوه قوله سبحانه: {سبحانه وتعالى عما يصفون} [الأنعام: 100]، فإنه يصح تأويل (عما يصفون) بـ (عن وصفهم) غير أنا لو أبدلنا (أن) بـ (ما) لوجدنا أن المعنى يختلف، فلو قلت: (سبحانه وتعالى عن أن يصفوا) لكان المعنى تنزيه الله عن مجرد الوصف، وليس هذا المقصود، إذ لا شك أن الله له الصفات العليا، وإنما المقصود تنزيهه عن الوصف الباطل والصفات التي لا تليق به سبحانه، ويحتمل أن تكون (ما) اسمًا موصولا، أي عما يصفونه به من الصفات الباطلة. ونحوه قوله: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} [الأعراف: 173]، وهذا يحتمل أن المعنى: أفتهلكنا بفعل المبطلين، ومع ذلك لا يصح إبدال (أن) بـ (ما) فلا تقول: أفتهلكنا بأن فعل المبطلون، فإن الأول فعل مخصوص، وهو الذي يؤدي إلى الإهلاك، وأما الثانية فيكون المعنى أتهلكنا لأن المبطلين فعلوا، ولا ندري ما فعلوا، فالفعل أولا مخصوص معلوم بخلاف مصدر (أن) ويحتمل أن تكون (ما) اسمًا موصولا أيضًا. ومثله قوله تعالى: {ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} [التوبة: 118]، والمعنى برحبتها. ولو قلت: (بأن رحبت) لكان المعنى أنها ضاقت عليهم بكونها رحبة، وهو معنى متناقض غير مراد. ونحوه قوله تعالى: {لا تؤاخذني بما نسيت} [الكهف: 73]، والمقصود به نسيان مخصوص وهو العهد الذي بينهما، ولو قال (بأن نسيت) لاحتمل المعنى أنه آخذه بمبدأ النسيان أي آخذه لكونه نسي، أي لمجرد حصول النسيان عنده.

ونحو قوله تعالى: {لتجزي كل نفس بما تسعى} [طه: 15]، أي بسعيها، ولو أبدلت (أن) بها فقلت (لتجزي كل نفس بأن تسعى) تغير المعنى، وأصبح أنها تجزي لأنها تسعى، فالأولى سعي مخصوص تجزي به أن كان خيرًا فخير، أو شرًا فشر. والثانية أنه مطلق السعي فهي تجزي لأنها تسعى وليس فيها المعنى الأول. ونحوه قوله تعالى: {ربكم أعلم بما لبثتم} [الكهف: 19]، أي: يلبثكم، والمقصود به زمن لبثكم ومدته، ولو قال: (ربكم أعلم بأن لبثتم) لكان المعنى أن ربكم يعلم بأنكم لبثتم، وهذا غير مراد، فالأولى لبث مخصوص بخلاف الثانية. فمصدر (ما) مخصوص محدود، بخلاف مصدر (أن) فإنه لمجرد الحدث، وهذا فرق رئيس بينهما كما ذكرت. 5 - إن (أنْ) تستعمل للتعليل كما ذكرنا بخلاف (ما) وهي تقوم مقام حرف التعليل مع الأفعال الماضية، وذلك نحو {وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} [مريم: 90، 91]، وقد تقول أن (ما) وردت للتعليل أيضا، نحو {لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26]، وقوله: {إني جزئتهم اليوم بما صبروا} [المؤمنون: 111]. والحق أن (ما) لم تأت للتعليل إلا مع حرف يفيد التلعيل، أما (أن) فهي حيث وردت للتعليل منزوعة من حروف التعليل في القرآن الكريم، إلا في نحو قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29]، وقد مر بنا هذا. 6 - ثم أنهما يختلفان من حيث التعليل، وذلك أن تقول مثلا (عاقبتك بما ذهبت إلى القرية) أي عاقبتك بسبب ذهابك، ولو قلت: (عاقبتك بأن ذهبت إلى القرية) احتمل هذا المعنى واحتمل أنه عاقبه بالذهاب، أي جعل ذهابه هو العقوبة. ونحوه أن تقول: (لقد جزاك الله بما كنت من المصلحين) و (جزاك الله بأن كنت من المصلحين) فالأولى معناها أنه جزاك بسبب كونك من المصلحين، والثانية تحتمل السببية، وتحتمل أنه جزاه أن جعله من المصلحين، فالجزاء هو جعله من المصلحين. 7

كي

- التشبيه بـ (ما) يختلف عن التشبيه بـ (أن) وذلك نحو قولك: (اضرب كما ضرب خالد) أي أن خالدا ضرب فاضرب أنت كضربه ولو قلت (اضرب كأن ضرب خالد) لكان المعنى: اضرب كأن خالدا ضرب، ولا يدل على أن خالد ضرب، فتريد أن يضرب مثله، وإنما المعنى إضرب كأن الضارب خالد، ونحوه قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112]، ولو قال (فاستقم كأن أمرت) لكان المعنى: استقم كأنك أمرت، ولم يقدر أنه مأمور حقيقة، إلى غير ذلك من أوجه الخلاف. كي ويفيد التعليل، نحو جئت كي استفيد، جاء في (لسان العرب): كي حرف من حروف المعاني ينصب الأفعال بمنزلة (أن) ومعناه العلة لوقوع الشيء، كقولك: جئت كي تكرمني .. الجوهري: وأما (كي) فجوابك لقولك: لم فعلت كذا؟ فتقول: كي يكون كذا، وهي للعاقبة كاللام (¬1). وعند بعضهم أنها لا تفيد التعليل، وإنما التعليل من اللام المقدرة، فإذا قلت: جئت كي استفيد فإذا قدرت (كي) مصدرية، وجب تقدير اللام قبلها، أي جئت لكي استفيد، واللام تفيد التعليل (¬2). والراجح أنها للتعليل، كما هي في الجارة، ولنا عودة إلى هذا الموضوع في بابه. لو: وهي للتمني، ولذا كثر وقوعها بعد ما يفيد التمنى، نحو (ود) وما في معناها، قال تعالى: {ودوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 6]، جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {ودوا لو تدهن فيدهنون}، فإن قلت لم رفع فيدهنون ولم ينصب باضمار، (أن) وهو جواب التمني؟ ¬

_ (¬1) لسان العرب 20/ 101 (¬2) انظر المغني 1/ 182

اسم المصدر

قلت: قد عدل به إلى طريق آخر (¬1). ولذا إذا لم يقصد معنى التمني بعد (ود) فلا يؤتى بها، قال تعالى: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت} [البقرة: 266]، وقال: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} [الأنفال: 7]، بخلاف قوله: {وودوا لو تكفرون} [الممتحنة: 2]، وقوله: {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا} [النساء: 42]. اسم المصدر ذهب النحاة إلى أن اسم المصدر هو ما ساوى المصدر في الدلالة على الحدث وخالفه بخلوه من بعض حروف فعله لفظًا وتقديرًا دون تعويض (¬2). وذلك كالعطاء والثواب والسلام والكلام والعشرة. وحق المصدر أن يتضمن حروف فعله بمساواة، نحو تعلم تعلمًا، أو بزيادة نحو أعلم إعلاما (¬3). فإن نقص عن حروف فعله دون عوض أو تقدير كان اسم مصدر، فاعطاء مصدر لأعطي، وأما العطاء فاسم مصدر لأنه خلا من الهمزة التي في أوله دون عوض. والتكلم مصدر تكلم، أما الكلام فهو اسم مصدر لتكلم لأنه خلا من التاء دون عوض، وقد تقول أن الألف قبل الآخر عوض عن التاء، غير أن النحاة لا يعدون المدة التي قبل الآخر عوضا لأن العوض يكون في الأول، أو في الآخر بدليل ثبوتها في المصدر دون. ¬

_ (¬1) الكشاف 3/ 257، وانظر جواهر الأدب 156 (¬2) انظر شرح الأشموني 2/ 287 (¬3) شرح الأشموني 2/ 287

تعويض كالإنطلاق والاكرام والاستخراج (¬1). والمصدر المعوض نحو (عدة) و (زنة) فإن فعليهما (وعد) و (ووزن)، فحذفت الواو وعوض عنها التاء في الآخر، ونحو تعليم وتسليم فإن فعليهما علم وسلم، فإن التاء عوض عن أحد اللامين (¬2). وعندي أن اسم الصدر أيضا ما خرج عن قياس المصدر فيما كان فيه المصدر قياسًا نحو عشرة وقبلة فإن (عشرة) اسم للمعاشرة، وفعله (عاشر) وقد حذف الألف منه، وعلى مقتضي قول النحاة ينبغي أن يكون مصدرًا وذلك لأنه عوض عن الألف المحذوفة بالتاء في آخره، ومثله الهجرة من هاجر وقبلة من قبل مع أنهم يقولون أنها أسماء مصادر (¬3). وليست مصادر. واسم المصدر يدل على الحدث عندهم كالمصدر، فالعطاء معناه الإعطاء، والقبلة معناها التقبيل، والعذاب معناه التعذيب، ولذا عمل عمل المصدر. قال الشاعر: بعشرتك الكرام تعد منهم ... فلا ترين لغيرهم الوفا أي بمعاشرتك، وقال الآخر: قالوا كلامك هندا وهي مصغية ... يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا أي تكليمك. وفي موطأ مالك عن عائشة رضي الله عنها (من قبلة الرجل زوجته الوضوء) أي تقبيل (¬4). ¬

_ (¬1) الصبان 2/ 287 (¬2) انظر الصبان 2/ 287 (¬3) انظر الأشموني 2/ 288، في العشرة والقبلة. (¬4) انظر شرح الأشوني 2/ 287 - 288

وقيل أيضا أن المصدر يدل على الحدث، واسم المصدر يدل على الشيء أو الذات، ونحو ذلك العطاء والإعطاء فالاعطاء هو الحدث، والعطاء اسم لما يعطي، والغسل فعل الغاسل، أي الحدث والغسل الماء يغتسل به (¬1). والتقبيل هو فعل المقبل، والقبلة اسم لذاك. وهو عند البصريين لا يعمل، لأن أصل وضعه لغير المصدر، بل للاسم، وأعماله رأي الكوفيين (¬2). وقد أخذ به النحاة المتأخرون. والذي يترجح عندي أن الأصل في اسم المصدر أن لا يدل على الحدث بل وضع الدلالة على الاسم، فالقرض ما سلفت، وأما الأقراض فمصدر أقرض وهو الحدث. والإمطار مصدر أمطر، والمطر بالسكون مصدر مطر، وأما المطر بالفتح فماء السحاب. والرزق بالفتح مصدر رزق وهو الحدث والرزق بالكسر ما ينتفع به. والحمل بالفتح مصدر حمل، والحمل بالكسر ما حل. والوقود بالضم المصدر، والوقود بالفتح الحطب. والتكليم المصدر والكلام اسم لما يخرج من الفم من اللفظ، وكان مفيدًا تاما، وهو لا يكون فقط بالحذف دون تعويض، بل يكون بتغيير الحركات ايضا، كالدهن والدهن والكحل والكحل، فالدهن مصدر دهن، والدهن الاسم، والكحل مصدر كحل والكحل اسم لما يكحل به، والحمل والحمل والغسل والغسل. ومما يدل على أن أسماء المصادر ليست للحدث في الأصل أننا نقول: السلام عليك ولا نقول: التسليم عليكم، لأن السلام اسم وهو الأمان. أما التسليم فهو الحدث، ¬

_ (¬1) انظر حاشية يس على التصريح 2/ 64، الأشموني 2/ 288 (¬2) انظر التصريح 2/ 64، شرح الأشموني 2/ 288

ومثله الكلام والتكليم. قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة: 6]، ولا يصح أن نقول (حتى يسمع تكليم الله أو تكلم الله) فإن كلام الله القرآن أما التكليم فهو الحدث، ولو كانا بمعنى واحد أن يستعمل أحدهما مكان الآخر. هذا هو الأصل في اسم المصدر، وقد يستعمل أحيانا للدلالة على الحدث، كما أن المصدر يستعمل للدلالة على الاسم، أحيانا وأصله الدلالة على الحدث. فكما يراد بالخلق أحيانا المخلوق، وبالقول المقول، وباللفظ الملفوظ، وبالنبت النبات وهي مصادر قد يراد على قلة بالدهن الدهن، وبالكحل الكحل، وبالقبلة التقبيل، وبالعذاب التعذيب. جاء في (الأصول): " وحكي قوم أن العرب قد وضعت الأسماء في مواضع المصدر، فقالوا: عجبت من طعامك طعاما، يريدون من أطعامك، وعجبت من دهنك لحيتك، يريدون من دهنك. قال الشاعر: أظليم أن مصابكم رجلا ... اهدي السلام تحية ظلم ومنه قوله: وبعد عطائك المائة الرتاعا أراد بعد أعطائك (¬1). فالراجح أن أسماء المصادر في الأصل لا تدل على الأحداث بل تدل على الأسماء وقد تستعمل أحيانا للدلالة على الحدث، كما تستعمل المصادر أحيانا في الدلالة على الذوات. ¬

_ (¬1) الأصول 1/ 165 - 166

الأتباع على محل المضاف إليه

الأتباع على محل المضاف إليه ذهب قسم من النحاة إلى أنه يجوز الاتباع على محل ما أضيف إليه المصدر، أو على لفظه، فمثلا يصح أن تقول: (عجبت من اكرام خالد ومحمد) أو (محمدا) وساءني إهانة خالد الكريم) أو (الكريمَ). وذهب سيبويه ومن تابعه من البصريين إلى أنه لا يجوز الاتباع على المحل، بل على التقدير (¬1). جاء في (كتاب سيبويه): " وتقول عجبت من ضرب زيد وعمرو، إذا أشركت بينهما كما فعلت ذلك في الفاعل، ومن قال (هذا ضارب زيد وعمرا) قال (عجبت له من ضرب زيد وعمرا) كأنه أضمر: ويضرب عمرا أو: وضرب عمرا (¬2). وجاء في (شرح ابن يعيش): " إذا عطفت على ما خفض بالمصدر جاز لك في المعطوف وجهان: أحدهما أن تحمله على اللفظ فتخفضه وهو الوجه. والآخر أن تحمله على المعنى، فإن كان المخفوض مفعولا في المعنى نصبت المعطوف، وإن كان فاعلا رفعته فتقول: (عجبت من ضرب زيد وعمرو) وإن شئت (وعمرا) فهو بمنزلة قولك: هذا ضارب زيد وعمرو وعمرا وإنما كان الوجه الجر لتشاكل اللفظين، واتفاق المعنيين. وإذا نصبت قدر المصدر بالفعل، كأنك قلت عجبت من أن ضرب، أو من أن يضرب ليحقق لفظ الفاعل والمفعول. ¬

_ (¬1) انظر الرضي على الكافية 2/ 219، شرح الأشموني 2/ 291 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 98

والنعت في ذلك كالعطف، في جواز الحمل على اللفظ والمعنى تقول فيه: " عجبت من ضرب زيد الظريف" بالخفض على اللفظ، والظريف بالرفع على المعنى (¬1). وخلاصة الأمر أنه يجوز العطف على غير اللفظ على كلا الرأيين، إلا أنه على مذهب سيبويه يكون بتقدير محذوف، وعلى غير مذهبه، يكون العطف، على المحل، فعلى مذهب سيبويه وغيره يصح أن تقول (ساءني ضرب محمد وعمرا)، غير أن التوجيه يختلف. والغرض من الاتباع على المحل إيضاح الفاعل من المفعول، فتقول (عجبت من إكرام خالد اللئيم أو اللئيم) فرفع اللئيم يدل على أن خالدا فاعل في الأصل، ونصبه يدل على أنه مفعول به. وتقول: (أعجبي إكرام خالد أخوك، أو أخاك) على البدل للغرض نفسه، وكذلك (عجبت من ضرب زيد، وخالدا أو خالد). ومقتضي ما ذهب إليه سيبويه أن الدلالة تختلف من وجه آخر، وذلك أنه يقدر فعلا محذوفا والفعل يدل على الحدوث بخلاف الإسم الذي يدل على الثبوت، فإن قولك (عجبت من ضرب زيد وعمرو) يدل على أن الضرب لهما واحد، من حيث الدلالة على الثبوت. وأما قولك (عجبت من ضرب زيد وعمرا) فإن قدرته (وأن تضرب عمرا) كان الضرب لعمرو في الاستقبال، وأن قدرته (وأن ضرب عمرا) كان الضرب له في الماضي بخلاف (عجبت من ضرب زيد) فإنه ليس نصا على زمن بعينه، بل هو يحتمل ذلك كما يحتمل الاستمرار والثبوت. ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 6/ 65 - 66

اسم الفاعل

اسم الفاعل اسم الفاعل كالفعل (¬1). لازم ومتعد فإذا كان لازمًا اكتفى بفاعله نحو: (أمسافرٌ الرجلان) وإن كان متعديا نصب مفعولا نحو: (أضارب محمود أخاك)؟ ويشترط النحاة لنصبه المفعول شرطين: الأول: الاعتماد على نفي او استفهام، أو أن يقع صفة، أو حالا، أو مسندًا أو يقع بعد حرف نداء. الثاني: أن يدل على الحال، أو الاستقبال، نحو (هو ضارب سعدا الآن أو غدا). ولا يشترطون لعمل الرفع، إلا الاعتماد، فلا يشترطون كونه للحال أو للاستقبال (¬2). فيصح أن تقول: (أحاضر الرجال أمس؟ ). هذا شأن المجرد من (أل) فإن كان محلي بـ (أل) عمل في جميع الأحوال، تقول: (هو المكرم أخاك أمس أو غدا) (¬3). يتبين من هذا أن اسم الفاعل لا يتعدي إلى مفعول، إلا إذا كان دالا على حال، أو استقبال فإن لم يكن كذلك لا ينصب مفعولا. تقول: (أنا مكرم أخاك) والمقصود به الآن أو في الاستقبال، ولا تقول ذلك إذا كان الإكرام ماضيا بل يجب أن تقول بالجر، أي (أنا مكرم أخيك). قال تعالى: {إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [الحجر: 28]، وقال: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30]، وقال: {وإنك لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} [الكهف: 8]، أي يوم القيامة، وقال: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون} [الواقعة: 51 - 52]، وهذه كلها للاستقبال. ¬

_ (¬1) بل هو فعل عند الكوفيين. (¬2) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 221 - 222، التصريح 2/ 65 - 66 (¬3) انظر المفصل 2/ 121

وقال: {قل الله أعبد ملخصا له ديني} [الزمر: 14]، وهو للحال. جاء في (الكتاب): " هذا باب من اسم الفاعل الذي جرى مجرى الفعل المضارع في المفعول في المعنى، فإذا أردت فيه من المعنى ما أردت في (يفعل) كان منونا نكرة، وذلك قولك: (هذا ضارب زيدا غدا) فمعناه وعمله (هذا يضرب زيدًا)، وإذا حدث عن فعل في حين وقوعه غير منقطع كان كذلك، وذلك قولك: (هذا ضارب عبد الله الساعة) فمعناه وعمله (هذا يضرب زيدًا الساعة) و (كان زيدا ضاربا أباك) فإنما يحدث أيضا عن اتصال فعلي في حين وقوعه، و (كان موافقا زيدا) فمعناه وعمله، كقولك (كان يضرب أباك ويوافق زيدا) فهذا كله أجرى مجرى الفعل المضارع في العمل والمعنى منونا" (¬1). وجاء في (معاني القرآن) في قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} [الأنبياء: 35]، " ولو نونت في (ذائقة) ونصبت (الموت) كان صوابا، وأكثر ما تختار العرب التنوين والنصب في المستقبل، فإذا كان معناه ماضيا لم يكادوا يقولون إلا بالإضافة فأما المستقبل فقولك (أنا صائم يوم الخميس) إذا كان خميسا مستقبلا، فإن أخبرت عن صوم يوم خميس ماض قلت: (أنا صائم يوم الخميس) فهذا وجه العمل" (¬2). وجاء في (كتاب الجمل) للزجاجي: " اسم الفاعل إذا كان بمعنى المضي كان مضافا إلى ما بعده وجري مجرى سائر الأسماء في الإضافة كقولك: (هذا ضارب زيد أمس) و (هذا شاتم اخيك أمس) وكذلك ما أشبهه، ولو قلت: (هذا ضارب زيد أمس) بالتنوين والنصب لم يجز عند أحد من البصريين والكوفيين إلا الكسائي. فإذا كان اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال كان لك فيه وجهان: أحدهما، وهو الأجود أن تنونه وتنصب ما بعده لأن ضارع الفعل المستقبل، وذلك قولك (هو ضارب زيدًا الساعة) و (هذا ضارب زيدًا غدًا) .. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 82 (¬2) معاني القرآن للفراء 2/ 202

إضافة اسم الفاعل

والوجه الآخر أن تحذف التنوين، وتخفض وأنت تريد الحال والاستقبال، فتقول: (هذا ضارب زيد غدا) (¬1). وجاء في (المفصل): " ويشترط في أعمال اسم الفاعل أن يكون في معنى الحال، أو الاستقبال، فلا يقال: (زيد ضارب عمرا أمس) ولا (وحشي قاتل حمزة يوم أحد) بل يستعمل ذلك على الإضافة" (¬2). وذكر: لو أن قائلا قال (هذا قاتل أخي) بالتنوين، وقال آخر: (هذا قاتل أخي) بالإضافة لدل التنوين على أنه لم يقتله، ودل حذف التنوين على أنه قتله (¬3). إضافة اسم الفاعل: ذكرنا آنفا أن اسم الفاعل لا يتعدى إلا إذا كان دالا على الحال أو الاستقبال، فإن لم يدل على الحال أو الاستقبا بأن كان ماضيا أضيف، تقول: (هذا ضارب محمد) إذا ضربه و (ضارب محمدا) إذا كان يضربه أو ينوي ضربه. جاء في (كتاب سيبويه): " فإذا أخبر أن الفعل قد وقع وانقطع، فهو بغير تنوين البتة .. وذلك قولك (هذا ضارب عبد الله وأخيه) وجه الكلام وحده الجر. لأنه ليس موضعا للتنوين، وكذلك قولك: (هذا ضارب زيد فيها وأخيه) وهذا قاتل عمرو أمس وعبد الله" (¬4). وجاء في (المقتضب): " تقول (هذا ضارب زيد أمس) و (هما ضاربا زيد) و (هم ضاربو عبد الله) .. كل ذلك إذا أردت به معنى الماضي لم يجز إلا هذا، لأنه اسم بمنزلة قولك (غلام زيد) و (أخو عبد الله). ¬

_ (¬1) الجمل 95 - 99، وانظر المقتضب 4/ 30 (¬2) المفصل 2/ 121 (¬3) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 11، وانظر في الأشباه والنظائر للسيوطي 3/ 224، المناظرة بين الكسائي والقاضي أبي يوسف (¬4) كتاب سيبويه 1/ 87

فإن جعلت اسم الفاعل في معنى ما أنت فيه ولم ينقطع أو ما تفعله بعد ولم يقع جرى مجرى الفعل المضارع في عمله وتقديره .. وذلك: (زيد آكل طعامك الساعة) إذا كان في حال أكل و (زيد آكل طعامك غدا) كما تقول: (زيد يأكل الساعة) إذا كان في حال أكل وزيد يأكل غدا (¬1). ولا يفهم من هذا أن الإضافة لا تصح إلا إذا كان اسم الفاعل دالا على المضي، بل الإضافة جائزة سواء كان اسم الفاعل دالا على المضي أم غيره، تقول (هو ضارب محمد أمس) و (هو ضارب محمد غدا) إلا أن النصب لا يصح إلا إذا دل على الحال أو الاستقبال (¬2). وقد مر بنا في باب الإضافة غير المحضة أن ما كان من اسم الفاعل دالا على الحال أو الاستقبال فاضافته غير محضة بخلاف ما إذا كان دالا على المضي. فالفرق بين الإضافة والنصب، ان النصب دلالته قطعية إذ هو لا يدل إلا على الحال أو الاستقبال، أما الإضافة فدلالتها إحتمالية فهي تحتمل. 1 - المضي كقوله تعالى: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض} [فاطر: 1]، وكقولك: (أنا ضارب خالد أمس). 2 - الحال والاستقبال كقوله تعالى: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} [آل عمران: 9]، وقوله: {إن الله جامع المنفقين والكافرين في جهنم جميعا} [النساء: 140] وقوله: {كل نفس ذائقة الموت} [العنكبوت: 57]، وقوله: {إنهم ملاقوا ربهم} [هود: 29]، وهذا كله إستقبال. وقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه} [الأنعام: 92]، وهذا حال. ¬

_ (¬1) المقتضب 4/ 148 - 149 (¬2) انظر كتاب سيبويه 1/ 83، الجمل 95 - 99، شرح ابن يعيش 2/ 119، شرح ابن عقيل: 2/ 27

3 - الدلالة على الاستمرار كقوله تعالى: {إن الله فالق الحب النوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأني تؤفكون فالق الإصباح} [الأنعام: 95 - 96]، فهو في كل حين يفلق الحب والنوى ويخرج الميت من الحي، وفي لك يوم يفلق الإصباح. 4 - ثم إن الإضافة قد تفيد تغليب جانب الذات على الحدث في اسم الفاعل، بخلاف النصب، فإنه يفيد دلالته على الحدث، فنحن نستعمل اسم الفاعل للدلالة على الحدث أحيانا، وأحيانا نقصد به الدلالة على الاسم، وذلك كالحارس والكاتب والسائق، فقد يراد بالحارس صفته. وقد يقصد به شخصه وكذلك الكاتب والسائق. جاء في (الكتاب): " هذا ما كان من ذلك عملا وذلك قلوك (مررت برجل ضارب أبوه رجلا) و (مررت برجل ملازم أبوه رجلا) .. فالمعنى فيه على وجهين. إن شئت جعلته يلازمه ويخالطه فيما يستقبل، وإن شئت جعلته عملا كائنا في حال مرورك، وإن القيت التنوين وأنت تريد معناه جري مثله إذا كان منونا. فإذا جعله اسما لم يكن فيه إلا الرفع على كل حال، تقول: (مررت برجل ملازمة رجل)، أي مررت برجل صاحب ملازمته رجل، فصار هذا كقولك (مررت برجل أخوه رجل) وتقول: على هذا الحد (مررت برجل ملازموه بنو فلان) فقولك (ملازموه) بذلك على أنه اسم ولو كان عملا لقلت: (مررت برجل ملازمه قومه) (¬1). فبالإضافة قد يراد الاسم، وأما النصب فالدلالة على الحدث فقط، وذلك لأن الإضافة من خصائص الأسماء تقول (هذا سائق السيارة) و (لا يحرس حارس المدرسة) وتقصد به شخصيهما ولو كان المقصود به الحدث لتناقض القول إذ كيف لا يسوق وهو يسوق، ولا يحرس وهو يحرس؟ ولكن المقصود به الشخص كما ذكرنا. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 226 - 228

العطف على المضاف إليه

العطف على المضاف إليه: قد يعطف على المضاف إليه الذي أضيف إليه اسم الفاعل بالجر، وبالنصب، فتقول (هذا ضارب محمدٍ وخالدٍ) و (هذا ضارب محمدٍ وخالدا). أما الأول فلا إشكال فيه وهو عند النحاة أجود (¬1). وأما العطف بالنصب فهو أما أن يكون المقصود به الزمن الماضي، فيكون على تقدير فعل ماض قبل النصوب عند سيبويه، ومن تابعه (¬2). ففي قولك (هو ضارب محمد وخالدا) يقدرون (وضرب خالدا) وأما أن لا يقصد به الماض فيقدرون له فعلا مضارعًا أو اسم فاعل منونًا، ففي قولك (هو ضارب محمد وخالدا غدًا) يقدرون (ويضرب خالدا) أو (وضاربٌ خالدا) (¬3). والذي يترجح عندي في تفسيره أنه إذا عطفت بالنصب على المجرور ولم تكن ثمة دلالة على أن المقصود به الماضي كان المضاف تعبيرا احتماليا والمنصوب تعبيرا قطعيا، فقولك (هو ضارب محمد وخالدًا) يدل على أن (ضرب محمد) يحتمل المضي والحال والاستقبال والاستمرار (وضرب خالد) يدل على الحال، أو الاستقبال قطعا ولا يحتمل غيرهما كما مر في تفسير المضاف والمنصوب. أما إذا كانت هناك دلالة تدل على أن ضربهما جميعا حصل في الماضي كقولك (هو ضارب محمدٍ وخالدا أمس) فهو على تقدير فعل ماض كما قدر سيبويه، ومقتضي هذا التقدير أن (ضرب محمد) يفيد الدلالة على الثبوت (وضرب خالد) يفيد الانقطاع ذلك لأن ذلك اسم الفاعل ليست كدلالة الفعل، فقولك (هو ضارب محمد) يحتمل ثبوت الضرب، وتكرر حصوله في الماضي، بخلاف الفعل الماضي، فإنه يدل على أنه حصل وانقطع، تقول (كان سعيد كذب) و (كان سعيد كاذبا) فالفعل الماضي (كذب) يدل على ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 89، شرح الرضي على الكافية 2/ 225 (¬2) انظر كتاب سيبويه 1/ 87، شرح الرضي 2/ 225 (¬3) انظر كتاب سيبويه 11/ 35، شرح ابن يعيش 6/ 69

أن سعيدًا وقع منه كذب، وأما اسم الفاعل (كاذب) فهو يدل على ثبوت هذه الصفة فيه في الماضي. ونحوه قولك (هو مجتهد وهو اجتهد) و (هو قائم بالأمر وقام بالأمر) و (هو شارب الخمر وهو شرب الخمر). جاء في (التفسير الكبير): " أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال: فلان شرب الخمر وفلان شارب الخمر، وفلان نفذ أمره، وفلان نافذ الأمر، فإنه لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ، ومن اسم الفاعل يفهم ذلك (¬1). فخلاصة الأمر أن قولك: (هذا ضارب محمد وخالد) يفيد أن الضرب لهما واحد من حيث الزمن والدلالة. وقولك: (هذا ضارب محمدٍ وخالدا) إذا لم يتعين أنهما للمضي يفيد أن ضرب محمد احتمالي الدلالة فهو يحتمل الماضي، والحال، والاستقبال والاستمرار، و (ضرب خالد) يدل على وقوعه في الحال والاستقبال. وإذا تعين أن ضربهما كان في الماضي جميعا، فضرب محمد يفيد الدلالة على الثبوت، وقد يحتمل الدوام والتكرار، وضرب خالد يفيد وقوعه وانقطاعه، وهذا الفرق متأت من الفرق بين الفعل واسم الفاعل. ¬

_ (¬1) التفسير الكبير للرازي 25/ 29

صيغ المبالغة

صيغ المبالغة المشهور أن الذي يتعدي منها ثلاثة هي (فعال) نحو (خواص إليها الكتائب) و (فعول) نحو (ضروب بنصل السيف سوق سمانها. و (مفعال) نحو (إنه لمنحار بوائكها) (¬1). وعند سيبويه يعمل أيضا (فعيل) و (فعل) (¬2). ولا يشترطي في أعمالها الدلالة على الحال، أو الإستقبال (¬3).، وهي فيما عدا ذلك كاسم الفاعل. اسم المفعول وما قيل في اسم الفاعل يقال في اسم المفعول من حيث الشروط (¬4). والدلالة، غير أنه للمفعول وذلك للفاعل. قال ابن مالك: وكل ما قرر لاسم فاعل ... يعطي اسم مفعول بلا تفاضل ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 224 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 56 - 58 (¬3) شرح الرضي 2/ 224 (¬4) انظر شرح ابن عقيل 2/ 28، شرح الأشموني 2/ 301 - 302

الصفة المشبهة

الصفة المشبهة استعملت الصفة المشبهة مع سببها استعمالات متعددة نحو: مررت برجل حسن وجهه - باتباع الصفة ورفع الوجه ومررت برجل حسن وجهه - برفع الصفة والوجه ومررت برجل حسن الوجه - بالإضافة ومررت برجل حسن وجهه أو الوجه - بنصب الوجه فيهما ومررت برجل حسن وجها وقد تقول: أيترتب على هذه الخلافات في الأوجه، اختلاف في المعنى، أمهي متطابقة والجواب إننا نعتقد أن لكل وجه معنى، والنحاة يذكرون بعضا من هذه التفسيرات وسنذكرها موضحين معناها: 1 - مررت برجل حسن وجهه - باتباع الصفة المشبهة لما قبلها ورفع الوجه، والصفة ههنا فيها جانب الحدث غالبا، وهي قريبة من الفعلية، ولذا ارتفع بها الفاعل كالفعل ونحوه أن تقول في غير السبي: أكريم المحمدان؟ وما حسن الخالدان. كأنك قلت: مررت رجل حسن وجهه وأكرم المحمدان؟ وما حسن الخالدان. ويدلك على ذلك أنها تستعمل في هذا الوجه استعمال الإفعال فهي تطابق ما بعدها من حيث التذكير والتأنيث، وأنها تكون مفردة مع مرفوعها، فتقول: (محمد حسن أمه) و (الرجلان حسن ابواهما) بخلاف الإضافة، مثلا إذ تقول (محمد حسن الأم) و (الرجلان حسنا الأبوين) لأن الإضافة فيها جانب الإسمية هو الغالب.

2 - مررت برجل حسن ابوه - برفع الصفة المشبهة وما بعدها، وهذا على التقديم والتأخير وأصل الكلام (مررت برجل أبوه حسن)، فحسن خبر مقدم وأبوه مبتدأ مؤخر، وقدمت الخبر للاهتمام. وليست الصفة هنا على إرادة تغليب الحدث فإنها لم تستعمل استعمال الإفعال. فهي تطابق المبتدأ فتقول: (مررت برجل حسنان أبوه) و (مررت برجل حسنون أباؤه) وأصل الكلام (ابواه حسنان) وآباؤه حسنون، لو أردت معاملتها معاملة الفعل لقلت: مررت برجل حسن ابواه وحسن آباؤه. 3 - مررت برجل حسن الوجه - بإضافة الصفة إلى الوجه، والصفة ههنا مراعي فيها جانب الإسمية أكثر من الحدث بخلاف التعبير الأول، وذلك لأن الإضافة من خصائص الأسماء، ثم ألا ترى أن الصفة هنا لا تعامل معاملة الفعل، بل هي تتبع ما قبلها أيا كان صاحبها الحقيقي، فتقول (مرت برجل حسن الأم) فتذكر الصفة وإن كانت (الأم) مؤنثة، وتقول (مررت برجلين حسني الآباء) فتثني الصفة اتباعا لما قبلها وإن كان (الآباء) جمعا بخلاف ما لو قلت (مررت برجل حسنة أمة) و (مررت برجلين حسن آباؤهما). 4 - مررت برجل حسن وجهه أو حسن الوجه - بنصب الوجه، وهذا عند النحاة للمبالغة من ناحيتين، وذلك أنك جعلت الحسن للرجل عمومًا، ثم خصصت وجهه فتكن قد مدحته مرتين، مرة لعموم شخصه ومرة لوجهه. هذا من ناحية ومن ناحية أن في هذا التعبير إيضاحا بعد الإبهام، فإنك عندما قلت (مررت برجل حسن) ونونت الصفة كنت كأنك أنهيت الكلام على الإبهام، ثم أوضحت جهة الحسن بعدما ابهمت، وللإيضاح بعد الإبهام مزية كما مر في بحث التمييز جاء في (شرح شذور الذهب): " زيد حسن وجهه بنصب الوجه والأصل (زيد حسن وجهه) بالرفع فـ (زيد) (مبتدأ) و (حسن) خبر، و (جهه) فاعل بـ (حسن) لأن الصفة تعمل عمل الفعل، وأنت لو صرحت بالفعل فقلت (حسن) بضم السين وفتح النون

لوجب رفع الوجه بالفاعلية فكذلك حق الصفة ان يجب معها الرفع، ولكنهم قصدوا المبالغة مع الصفة فحولوا الإسناد عن الوجه إلى ضمير مستتر في الصفة راجع إلى زيد ليقتضي ذلك أن الحسن قد عمه بجملته فقيل (زيد حسن) أي هو، ثم نصب وجه (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " أما حسن انتصاب المعمولين، في القياس فلأنك قصدت المبالغة في وصف الوجه بالحسن، فنصب (وجهًا) على التمييز، ليحصل له الحسن إجمالا وتفصيلا، ويكون أيضا أوقع في النفس للإبهام أولا ثم التفسير ثانيا (¬2). وليس كل التعبيرات فيها هذان الجانبان، بل ليس في بعضها إلا الإيضاح بعد الإبهام فلا يصح جعل الصفة فيها لجملة الموصوف، وذلك نحو قولك: (الفيل مدبب نابه) إذ لا يصح أن يقال (الفيل مدبب) (¬3).، ونحوه (كلبك كثيف شعره) و (أخوك قليل ماله) فلا يصح وصف الكلب بالكثافة والأخ بالقلة على جهة العموم، وإنما فيه إيضاح بعد إبهام فإنك إبهمت جهة الوصف، ثم بينتها. 5 - مررت برجل حسن وجها - وهذا التعبير كالذي قبله من حيث المبالغة والإبهام غير تنكير الوجه، والمعنى بالوجه وجه الرجل، والمعرفة والنكرة هنا يتقاربان، في الدلالة، فإنك إذا قلت: (محمد حسن الوجه) أو قلت: (محمد حسن وجها) فإن الوجه يعود إلى محمد عرفته، أو نكرته والفرق بينهما كالفرق بين قولك (الله خلقكم من ماء) و (الله خلقكم من الماء) فإن المعرف بـ (ال) الجنسية فيه من العموم ما يقر به من النكرة وإن كان لا يطابقه، وقد مر هذا في بابه. وقد يكون الاختلاف بين معنى هذين التعبيرين، أو بين هذه التعبيرات من وجه آخر، وذلك نحو قولك (هو كريم أبا) فـ (أبا) يحتمل الحال والتمييز، فهو يحتمل أنه كريم في حال أبوته، أي هو كريم إذا كان أبا ويحتمل أن أباه كريم، بخلاف قولك (هو كريم أبوه أو كريم الأب) بالإضافة فهو لا يحتمل إلا أن أباه كريم. ¬

_ (¬1) شرح شذور الذهب: 302 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 321 - 232 (¬3) هذه صفة مشبهة وإن كانت على صيغة اسم المفعول لأنها صفة دالة على الثبوت

النعت

وفي مثل هذا التعبير يتضح الفرق بين تنكير المنصوب، وتعريفه، فإن قولك (هو كريم الأب) بالتعريف لا يحتمل إلا أباه كريم لا يحتمل أنه كريم في حال أبوته، فهو لا يكون حالا، ونحوه أن تقول: (هو حسنا ضيفا) وحسن الضيف وحسن الضيف. وقد يكون الاختلاف على وجه آخر، وذلك نحو قولك (هو عظيم القوم) و (هو عظيم قوما) فالأول قد يكون على معنى أنه عظيم في القوم كقولك (هو رئيس القوم وكبيرهم) وقد يكون على معنى أن قومه عظماء. فإن قلت: (هو عظيم قومًا) كان المعنى أن قومه عظماء لا غير، فتبين من هذا أنه ليس ثمة تطابق وإنما لكل تعبير معنى. النعت النعت هو التابع المكمل متبوعه، بيان صفة من صفاته، نحو: (مررت برجل كريم) أو ببيان صفة من صفات ما تعلق به، هو ما يسمى بالنعت السببي، نحو (مررت برجل كريم أبوه (¬1).) ونحو قوله تعالى: {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} [النساء: 75]. ويأتي لأغراض أهمها: 1 - التخصيص: ومعنى التخصيص تقليل الإشتراك الحاصل في النكرات (¬2). نحو (مررت برجل طويل) وذلك أن كلمة (رجل) عامة تشمل كل واحد من أفراد الجنس، فإن قلت (طويل) فقد قللت الإشتراك بإخراجك القصار، وغير الطوال عمومًا، فإن قلت (مررت برجل طويل أسمر) زدته تخصيصا، بتقليلك الإشتراك أكثر، فإنك أخرجت غير السمر من الرجال الطوال، فإن قلت: (مررت برجل طويل أسمر أعرج) زدته تخصيصا وهكذا. ¬

_ (¬1) شرح ابن عقيل 2/ 51، التصريح 2/ 108 (¬2) انظر شرح الرضي على الكافية 1/ 331، شرح ابن يعيش 3/ 47، الهمع 2/ 116

2 - التوضيح: ومعنى التوضيح إزالة الإشتراك الحاصل في المعارف (¬1) وذلك نحو قولك: (مررت بمحمدٍ الخياط) فقد يكون اكثر من شخص مسمى بمحمد، فإن قلت الخياط أزلت الإشتراك وتعين المقصود، ونحو: إشتريت من الخباز الأعرج فقد يكون أكثر من خباز ويذكرك الأعرج أزلت الاشتراك فتعين المقصود. 3 - الثناء والمدح، وذلك إذا كان الموصوف معلومًا عند المخاطب (¬2). لا يحتاج إلى توضيح، وذلك كقوله تعال: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، فإنه ليس ثمة رب أسفل فتميزه منه بكلمة (الأعلى) فهو لا يحتاج إلى توضيح، وإنما ذكرت الصفة للثناء عليه وتعظيمه. ونحوه قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 96]، ونحو قولك: (جاء خالد القائد المظفر) ولست تقصد بذلك توضيحه وفصله من خالد آخر، وإنما تذكر ذلك للتعظيم والثناء. وقد يكون المدح والثناء في النكرات، كما يكون في المعارف، وذلك نحو قوله تعالى: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين} [التكوير: 19 - 20]. 4 - الذم والتحقير، وذلك إذا كان الموصوف معلومًا عند المخاطب، لا تقصد تمييزه من شخص آخر (¬3).، نحو (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ونحو: (مررت بمسيلمة الكذاب)، ونحو (لا تسمع إلى سالم الخبيث اللئيم) لا تقصد بذلك تمييزه من شخص آخر مسمى بهذا الإسم، وإنما ذكرت هذه الصفات لذمة وتحقيره. وقد يكون الذم والتحقير في النكرات أيضا، وذلك نحو قوله تعالى: {وما هو بقول شيطان رجيم} [التكوير: 25]، إذ ليس ثمة شيطان غير رجيم ففصل الرجيم منه، ونحو (دونكم رجلا خائنا لئيما). ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 1/ 331، شرح ابن يعيش 3/ 47، الهمع 2/ 116، التصريح 2/ 108 (¬2) شرح الرضي على الكافية 1/ 331 (¬3) شرح الرضي 1/ 331، الهمع 2/ 116، شرح ابن يعيش 3/ 74

5 - الترحم (¬1). نحو (مررت بعباس البائس) ونحو (ياويح إبراهيم المسكين) ونحو (ارحموا هذا الرجل الفقير الضائع). ويكون في النكرات أيضا، نحو (أرحموا رجلا بائسا مضيعا). 6 - التأكيد (¬2). نحو: (أمس الدابر لا يعود) فإن كل أمس دابر، ونحو قوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} [الحاقة: 13]، فإن (واحدة) مفهمومة من قوله (نفخة) وقوله: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} [النحل: 51]، فإن (اثنين) صفة مؤكدة لالهين، ونحو (إن غدا القابل قريب) فإن كل غد قابل. 7 - التعميم: نحو (إن الله يرزق عباده الطائعين والعاصين) و (إن الله يحشر الناس الأولين والآخرين (¬3).) و (يقبل الله من عباده صالح الأعمال الكثير والقليل) ونحو: (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم) [التوبة: 121] 8 - التفصيل (¬4). نحو (مررت بثلاثة رجال، كاتب وشاعر وفقيه، ومررت برجلين عربي وعجمي، ورأيت رجلين طويلا وقصيرا 9 - الإبهام (¬5).: وذلك كأن تقول لصاحبك (أتصدقت بقليل أم كثير؟ فيقول: تصدقت بصدقة قليلة، أو كثيرة، ونحو (هل كتبت له رسالة حسنة) فيقول: (كتبت له رسالة حسنة أو سيئة) يريد إبهامها عليك. 10 - ثم أن النعت قد يؤتى به لاعلام المخاطب بأن المتكلم عالم بحال المنعوت كأن يقول لك صاحبك هل رأيت خالدا فتقول: نعم رأيت خالدا البائغ داره والمفارق أهله) تريد أن تعلم صاحبك بأنك عالم بأحواله التي يخفيها عليك. ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 1/ 331، الهمع 2/ 116، التصريح 2/ 109 (¬2) شرح الرضي 1/ 331، شرح ابن يعيش 3/ 48، التصريح 2/ 109 (¬3) التصريح 2/ 109، الهمع 2/ 116 (¬4) الهمع 2/ 116، التصريح 2/ 109 (¬5) التصريح 2/ 109

النعت الجامد

جاء في (حاشية الصبان) أنه " نقل عن ابن الخباز أن النعت يجيء لإعلام المخاطب بأن المتكلم عالم بحال المنعوت، كقولك (جاء قاضي بلدك الكريم الفقيه) إذا كان المخاطب يعلم اتصاف القاضي بذلك، ولم تقصد مجرد المدح، بل قصدت أعلام مخاطبك بأنك عالم بحال الموصوف (¬1). النعت الجامد الأصل في النعت أن يكون مشتقا نحو: (مررت برجل ضاحك) و (مررت برجل طويل) وقد ينعت بالجامد كثيرا كالمنسوب، نحو: (مررت برجل بصري) والموصول، نحو مررت بالشخص الذي فاز، والمقادير والاعداد، نحو (أقبل رجال مائة) وأقبل رجال سبعة، واشتريت حريرا ذراعين (¬2). ومنه النعت بـ (مثل) ونحوها مما يفيد التشبيه، نحو: (مررت برجل مثلك وضربك وشبهك ونحوك (¬3).) ومنه النعت بـ (ذي) نحو: رأيت رجلا ذا علم. ومنه النعت بـ (أي) نحو: (مررت برجل أي رجل وأبما رجل) وهي التي تسمى ايا الكمالية، ويراد بها التعجب والمبالغة في المدح، وتنعت بها النكرة جاء في كتاب سيبويه: " ومن النعت أيضا مررت برجل أيما رجل فـ (أيما) نعت للرجل في كماله وبذه غيره كأنه قال: مررت برجل كامل (¬4). وعند قسم من النحاة أن أصلها استفهام، ثم استعيرت لوصف الشيء بالكمال. ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 3/ 59 (¬2) شرح الرضي 1/ 334 (¬3) انظر كتاب سيبويه 1/ 210 (¬4) كتاب سيبويه 1/ 210، وانظر شرح ابن يعيش 3/ 48، الكليات 89

جاء في (شرح الكافية للرضي): " والذي يقوى عندي أن (أي رجل) لا يدل بالوضع على معنى في متبوعه بل هو منقول عن (اي) الاستفهامية وذلك أن الإستفهامية موضوعة للسؤال عن التعيين، وذلك لا يكون إلا عند جهالة المسؤول عنه، فاستعيرت لوصف الشيء بالكمال في معنى من المعاني والتعجب في حاله، والجامع بينهما أن الكامل البالغ غاية الكمال بحيث يتعجب منه يكون مجهول الحال بحيث يحتاج إلى السؤال عنه (¬1). وجاء في (بدائع الفوائد): " وأما وقوعها نعتًا لما قبلها نحو: (مررت برجل أي رجل) فـ (أي) تدرجت إلى الصفة من الاستفهام كان الأصل (أي رجل هو)؟ على الاستفهام الذي يراد به التفخيم والتهويل، وإنما دخله الفتخيم لأنهم يريدون إظهار العجز، والإحاطة لوصفه، فكأنه مما يستفهم عنه يجهل كنهه، فأدخلوه في باب الاستفهام الذي هو موضوع لما يجهل. وكذلك جاء (القارعة ما القارعة والحاقة ما الحاقة) أي أنها لا يحاط بوصفها، فلما ثبت هذا اللفظ في باب التفخيم والتعظيم للشئ قرب من الوصف، حتى أدخلوه في باب النعت وأخروه في الإعراب عما قبله (¬2). ومنه النعت بـ (كل) و (جد) و (حق) مضافة إلى مثل متبوعها لفظًا، ومعنى، نحو قولك (مررت بالرجل كل الرجل وحق الرجل وجد الرجل) والمقصود بها المبالغة في الكمال وبلوغ الغاية (¬3). قال الرضي: " معنى (كل الرجل) إنه اجتمع فيه من خلال الخير ما تفرق في جميع الرجال، ومعنى (جد الرجل) أي كأن ما سواك هزل. و (حق الرجل) أي أن من سواك باطل. وهما من باب (جرد قطيفة). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 1/ 332 (¬2) بدائع الفوائد 1/ 159 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 223 - 224، شرح ابن يعيش 3/ 48

ويقال أيضا في الذم (أنت اللئيم جد اللئيم وحق اللئيم) وأنت لئيم جد لئيم، وحق لئيم (¬1). ومنه قولهم: (ما شئت) في نعت النكرات، نحو (رأيت رجلا ما شئت من رجل) (¬2). أي رجلا يسد مشيئتك وإرادتك. ومنه قولهم: (مررت برجل حسبك من رجل وشرعك من رجل وهمك من رجل وناهيك من رجل وهدك) من رجل وكفيك من رجل بلفظ واحد للمذكور والمؤنث المفرد والمثنى والجمع فتقول: (مررت بامرأة هدك من امرأة، وامرأتين هدك من امرأتين، ونساء هدك من نساء)، وبعضها يطابق كـ (ناهيك) لأنها اسم فاعل، وبعضها استعمل فعلا أيضا نحو (هدك) و (هدتك) و (هداك (¬3).) ومعانيها متقاربة في معنى الكفاية (¬4). فمعنى حسبك كافيك من أحسبني الشيء بمعنى كفاني، ومنه قوله تعالى: {فإن حسبك الله} [الأنفال: 62]، أي كافيك، ولعل أصلها من (حسب) والهمزة للسلب أي أزال حسابك وأبعده كـ (اصرخ) و (أقسط) أي أزال الصراخ والقسط وهو الظلم فقولك: (أحسب الشيء) معناه أزال حسابه، فلا يفكر في شيء بعد من قولك: هو يحسب للأمر حسابه، فـ (أحسبه) أزال ذلك الحساب بكفايته وإغنائه. ومعنى (همك) مقصودك كما تقول (كل همي أن أحصل على كذا) أي همتي ومقصودي. جاء في (شرح ابن يعيش)، " فقولهم (همك من رجل) بمعنى حسبك، وهو من الهمة واحدة الهمم، أي هو ممن يهمك طلبه (¬5). ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 1/ 333 (¬2) انظر كتاب سيبويه 1/ 210 - الأصول 2/ 33 (¬3) انظر كتاب سيبويه 1/ 210 (¬4) انظر كتاب سيبويه 1/ 210 (¬5) شرح ابن يعيش 3/ 50

وجاء في (شرح الرضي): " وقولهم (همك من رجل) مصدر بمعنى المفعول أي مهمومك أي مقصودك أو من (همه) أي أذابه يذيبه، أي يذيبك وصف محاسنه (¬1). ومعنى (ناهيك) ينهاك عن طلب غيره لما فيه من الكفاية والمطلوب ومعنى (هدك) يثقلك عد محاسنه جاء في (شرح ابن يعيش): " وأما هدك فهو من معنى القوة يقال (فلان يهد) على ما لم يسم فاعله، إذا نسب إلى الجلادة والكفاية (¬2). وجاء في (شرح الرضي): " هدك أي يثقل عليك عد مناقبه، من هدته المصيبة، أي أوهنته وكسرته (¬3). وجاء في (لسان العرب): " ومررت برجل هدك من رجل، أي حسبك وهو مدح، وقيل معناه أثقلك وصف محاسنه" (¬4). ومعنى شرعك مطلوبك وبغيتك من شرع في الشيء طلبه. جاء في (لسان العرب): " مررت برجل شرعك .. والمعنى أنه من النحو الذي تشرع فيه وتطلبه، وأشرعني الرجل أحسبني، ويقال: شرعك هذا أي حسبك (¬5). وجاء في (شرح ابن يعيش): " وكذلك (شرعك) بمعنى حسبك من شرعت في الأمر إذا خضت فيه أي هو من الأمر الذي تشرع فيه وتطلبه، وفي المثل (شرعك ما بلغك المحل) يضرب في التبليغ باليسير (¬6). ومن النعت بالجامد تكرار الموصوف، وإضافته، إلى نحو (صدق) و (سوء) نحو قولك: (مررت برجل رجل صدق). ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 1/ 334 (¬2) شرح ابن يعيش 1/ 334 (¬3) شرح الرضي 1/ 334 (¬4) لسان العرب (هد)، 4/ 444 (¬5) لسان العرب شرع/ 10/ 44 (¬6) شرح ابن يعيش 3/ 50

جاء في (شرح الرضي): " ومن المقيس أيضا أن تكرر الموصوف، وتضيفه إلى نحو (صدق) و (سوء) نحو عندي رجل رجل صدق، وحمار حمار سوء، والمراد بالصدق في مثل هذا المقام مطلق الجودة، لا الصدق في الحديث، وذلك لأن الصدق مستحسن جيد عندهم، حتى صاروا يستعملونه في مطلق الجودة فيقال" (ثوب صدق) و (خل صادق الحموضة) .. ويجوز أن يكون الثاني بدلا من الأول (¬1). وجاء (في كتاب سيبويه): " ومنه مررت برجل رجل صدق، منسوب إلى الصلاة كأنك قلت: مررت برجل صالح، وكذلك (مررت برجل رجل سوء) كأنك قلت: مررت برجل فاسد لأن الصدق صلاح والسوء فساد، وليس الصدق ههنا بصدق اللسان لو كان كذلك لم يجز لك أن تقول: هذا ثوب صدق وحمار صدق، وكذلك السوء ليس في معنى سؤته (¬2). ومنه الوصف باسم الجنس، والوصف به على ضروب منها أن تصفه باسم جنس مشهور بمعنى من المعاني نحو: (مررت برجل أسد) أي جريء وبرجل حمار، أي بليد وبأمرأته كلبه أي دنية (¬3). ومنها أن يكرر لفظ الجنس على إرادة معنى الكمال، نحو: (مررت برجل رجل) أي كامل. جاء في (شرح الرضي): وثانيها جنس يوصف به ذلك الجنس فيكرر اللفظ بمعنى الكامل نحو (مررت برجل رجل) أي كامل في الرجولة، ورأيت أسدا أسدا أي كاملا (¬4). ومنه الوصف بالجواهر نحو: مررت بصحيفة طين خاتمها، ومررت برجل فضية حلية سيفه، ومررت برجل صوف تكته، وأشهر معنى لهذا التعبير هو التشبيه، ¬

_ (¬1) شرح الرضي 1/ 334، وانظر شرح ابن يعيش 3/ 49 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 213 - 214 (¬3) شرح الرضي على الكافية 1/ 334 - 335، شرح ابن يعيش 5/ 31 (¬4) شرح الرضي 1/ 335، شرح ابن يعيش 5/ 31

النعت بالمصدر

أي مفضضة حلية سيفه، وخشنة تكته و (بسرج خز صفته) أي لينة (¬1).، فإذا أردت حقيقة هذه الأشياء فالأجود الرفع، بل يوجبه بعض النحاة فتقول: (مررت برجل فضة حلية سيفه وخز صفته). جاء في (شرح السيرافي): " قال أبو سعيد: أما قولك (مررت بسرج خز صفته) إلى آخر ما مثل به فإنك إن أردت حقيقة هذه الأشياء لم يجز غير الرفع، لأن هذه جواهر، ولا يجوز النعت بها، وإن أردت المماثلة والحمل على المعنى، اختير فيها ما حكي عن العرب فقد سمع منهم: (هذا خاتم طين) أي مطين وإذا سمع منهم (خز صفته) يحمل على لينة كأنه قال هو لين (¬2). وقد مر بنا هذا باب التمييز والذي رجحناه أن الأشهر في الاتباع أن يراد به معنى التشبيه، وإذا أردنا الجوهر حقيقة رفعنا، وقد يراد بالاتباع الجوهر، أيضا وهو لغة (¬3). وقد مر بنا هذا فلا داعي لتكراره ومن النعت بالجامد: النعت بالمصدر نعت العرب بالمصدر كثيرا نحو قولهم: (هو رجل عدل ورجل فضل وزور) أي عادل وفاضل وزائر، ورجل صوم، أي صائم، قال تعالى: وجاءو على قميصه بدم كذب [يوسف: 18]. ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 331، شرح السيرافي 1/ 228، الخصائص 3/ 272، المقتضب 3/ 259 (¬2) شرح السيرافي بهامش كتاب سيبويه 1/ 228، وانظر المقتضب 3/ 259، منثور الفوائد 15 (¬3) انظر كتاب سيبويه 1/ 231، 230، شرح الرضي على الكافية 1/ 335

وإذا نعت بالمصدر التزم أفراده وتذكيره، أيا كان المنعوت نحو: أقبل رجلان عدل ورجال عدل وفضل وزور (¬1). والنحاة في توجيه ذلك على ثلاثة آراء: أما أن يكون المصدر على التاويل بالمشتق، نحو (هو رجل زور) أي: زائر و (عدل) أي: عدل ورضا أي: مرضي، وهذا رأي الكوفيين وإما على تقدير مضاف أي ذو عدل، وذو زور، وذو كذب، وهو رأي البصريين. وقيل: لا تأويل ولا حذف، بل هو على جعل العين نفس المعني، مبالغة (¬2). وهذا الأخير هو الأولى، فإن قولهم مررت برجل عدل، معناه أنه مر برجل هو العدل، أي لكثرة ممارسته إياه وإتصافه به، أصبح هو العدل نفسه. وقد جاء وصف الذات بالمصدر، أو الإخبار بالمصدر عن الذات كثيرا، وإن لم يجعله النحاة قياسا وكله فيما نرجح على قصد المبالغة، على معنى أن الذات تحولت إلى معنى. جاء في (شرح الرضي): " والأولى أن يقال: أطلق اسم الحدث على الفاعل والمفعول مبالغة كأنها من كثرة الفعل تجسما منه (¬3). وجاء في (شرح ابن يعيش): " فهذه المصادر كلها مما وصف بها للمبالغة، كأنهم جعلوا الموصوف لك المعنى: لكثرة حصوله منه، وقالوا: (رجل عدل ورضي وفضل) كأنه لكثرة عدله، والرضي عنه، وفضله جعلوه نفس العدل والرضي والفضل (¬4). وجاء في الخصائص: : إذا وصف بالمصدر صار الموصوف كأنه في الحقيقة مخلوق من ذلك الفعل، وذلك لكثرة تعاطيه له واعتياده إياه، ويدل على أن هذا معنى ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 113، شرح ابن يعيش 3/ 50 (¬2) التصريح 2/ 113، وشرح الرضي 1/ 334 (¬3) شرح الرضي على الكافية 1/ 334 (¬4) شرح ابن يعيش 3/ 50

لهم ومتصور في نفوسهم قوله: ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل ... وضنت علينا والضنين من البخل أي كأنه مخلوق من البخل لكثره ما يأتي به منه، ومنه قول الآخر: وهن من الإخلاف والولعان وأصل هذا الباب عندي قول الله عز وجل: {خلق الإنسان من عجل}. وقولك (رجل دنف) أقوى معنى لما ذكرناه، كأنه مخلوق من ذلك الفعل، وهذا معنى لا تجده ولا تتمكن منه مع الصفة الصريحة (¬1). وقال: (فهذا كقولك: هو مجبول من الكرم، ومطين من الخير، وهي مخلوقة من البخل .. ، وأقوى التأويلين في قولها: (فإنما هي إقبال وأدبار) أن يكون من هذا أي كأنها مخلوقة من الإقبال والإدبار، لا على أن يكون من باب حذف المضاف، أي ذات إقبال وذات إدبا، ويكفيك من هذا كله قول الله عز وجل: {خلق الإنسان من عجل}، [الأنبياء: 37]، وذلك لكثرة فعله إياه واعتياده له" (¬2). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {وجاءو على قميصه بدم كذب} [يوسف: 18]، " ذي كذب، أو وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب وعينه، كما يقال للكذاب: هو الكذب بعينه والزور بذاته ونحوه: فهن به جود وأنتم به بخل (¬3). وجاء فيه في قوله تعالى: {وقولوا للناس حسنا} [البقرة: 83]، : " حسنا قولا هو حسن في نفسه لافراط حسنه" (¬4). ¬

_ (¬1) الخصائص 3/ 259 - 260، وانظر 3/ 189 (¬2) الخصائص 2/ 203 (¬3) الكشاف 2/ 127 (¬4) الكشاف 1/ 250، وانظر الكشاف 2/ 101، قوله تعالى: {إنه عمل غير صالح} 1/ 270، قوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم}.

الوصف بالجملة

الوصف بالجملة قد توصف النكرة بالجملة، وذلك كقوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} [الأنعام: 92]، فـ (أنزلناه) نعت لـ (كتاب) أي منزل، وكقوله: {فإذا هي حية تسعى} [طه: 20]، فـ (تسعى) صفة لحية، أي: ساعية. ولا توصف بها المعرفة ذلك، لأن الجملة تؤول بنكرة فتصف النكرة، فقولك: (رأيت طفلا يبكي) تؤول فيه (يبكي) بـ (باكيا). ويشترط النحاة في الجملة التي يوصف بها أن تكون خبرية، فلا يصح أن يقال (رأيت رجلا أضربه) ولا (رأيت رجلا هل تكرمه؟ ) فإن جاء ما ظاهره ذلك، أول على إضمار قول محذوف هو الصفة، كما في قول رؤية: حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاؤا بمذق هل رأيت الذئب قط قالوا: التقدير جاؤا بمذق مقول فيه ذلك، أي جاؤوا بلبن مخلوط بالماء حمل رائيه أن يقول لمن يريد وصفه: هل رأيت الذئب في حياتك فهو مثله في اللون (¬1). وقال ابن عمرون: " الأصل بمذق [مثل] (¬2). لون الذئب هل رأيت الذئب؟ يقولون: مررت برجل مثل كذا هل رأيت كذا؟ وفي الحديث (كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: نعم يارسول الله. قال فإنها مثل شوك السعدان)، ثم حذف (مثل لون الذئب) وبقي (هل رأيت الذئب) وتأولوه: (مقول) عند رؤيته هذا الكلام" (¬3). ويبدو لي أن هذا الرأي مسوغ، لأن المقصود بهذا القول التشبيه، وهذا التعبير مستعمل كثيرا في لغتنا، فإنك قد تقول لصاحبك: (أكلت فاكهة هل ذقت التمر) أي هي ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن يعيش 3/ 53، والإيضاح في علم البلاغة 50، التصريح 2/ 112 (¬2) زيادة اقتضاها السياق (¬3) التصريح 2/ 112

النعت المقطوع

مثل طعمه، والقصد تشبيها به، وتقول (اشتريت عقدا هل رأيت حب الرمان) أي يشبهه، وتقول: اشتريت قماشا هل لمست الحرير غير أنه ليس بحرير أي مثله في الملمس، وكل ذلك على معنى أكلت مثل التمر. هل ذقت التمر، واشتريت عقدا مثل حب الرمان، هل رأيت حب الرمان ونحو ذلك، فإن النعت في الحقيقة محذوف هو مثل واستغني بالجملة عنها لأن القصد معلوم. والراجح فيما أرى أن يكون الوصف بالجملة الإنشائية التي يراد بها التشبيه قياسا على هذا التأويل والله أعلم. النعت المقطوع في العربية ظاهرة جديرة بالالتفات إليها وهي ظاهرة (القطع)، ونعنى بها مغايرة النعت للمنعوت في الإعراب، وذلك بأن يكون المنعوت مرفوعًا ونعته منصوبًا، وقد يكون المنعوت منصوبا، ونعته مرفوعا، وقد يكون المنعوت مجرورا فيقع نعته مرفوعا، أو منصوبا نحو: (مررت بحمد الكريمُ أو الكريم َ). ويقع القطع في النعت كثيرا، وقد يقع أيضا في العطف، نحو قوله تعالى: {وموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء} [البقرة: 177]، فعطف بالنصب على المرفوع ومثله قوله تعالى: {والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة} [النساء: 162]، فعطف بالنصب على المرفوع، ثم عاد إلى الرفع. وقد اختفت هذه الظاهرة من التعبير منذ زمن بعيد. ويستعمل القطع لأداء معنى لا يتم بالاتباع، فهو يلفت نظر السامع إلى النعت المقطوع ويثير انتباهه، وليس كذلك الاتباع، وذلك لأن الأصل في النعت أن يتبع المنعوت، فإذا خالفت بينهما نبهت الذهن وحركته إلى شيء غير معتاد، فهو كاللافتة أو المصباح الأحمر في الطريق، يثير انتباهك ويدعوك إلى التعرف على سبب وضعه.

فهذا التعبير يراد به لفت النظر، وإثارة الانتباه إلى الصفة المقطوعة، وهو يدل على أن اتصاف الموصوف بهذه الصفة بلغ حدا يثير الانتباه. جاء في (حاشية يس على التصريح): " قال السعد في حواشي الكشاف: فإن قلت: ما وجه دلالة مثل هذا النصب أو الرفع على ما يقصد به من مدح أو ذم أو ترحم؟ قلت: إن في الافتنان لمخالفة الاعراب وغير المألوف زيادة تنبيه، وإيقاظ للسامع وتحريك من رغبته في الاستماع سيما مع التزام حذف الفعل، أو المبتدأ، فإنه أدل دليل على الاهتمام (¬1). وجاء في (إرشاد العقل السليم إلى مزيا الكتاب الكريم) في قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3]، " قال أبو علي: إذا ذكرت صفات المدح، وخولف في بعضها الإعراب فقد خولف للافتنان، .. الموجب لإيقاظ السامع وتحيكه إلى الجد في الإصغاء فإن تغيير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصرفه عن سنن السلوك، ينبيء عن اهتمام جديد شأنه من المتكلم، ويستجلب مزيد رغبة فيه من المخاطب (¬2). وجاء في معترك الاقران: قطع النعوت في مقام المدح والذم أبلغ من أجرائها قال الفارسي: إذا تكررت صفات في معرض المدح، أو الذم فالاحسن أن يخالف في إعرابها لأن المقام يقتضي الاطناب فإذا خولف في الاعراب كان المقصود أكمل، لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن، وعند الاتحاد تكون نوعا واحدا (¬3). وذكر الفراء أن العرب تقصد بمخالفة الصفة للموصوف في الحركة أن تجدد له وصفا جديدا غير متبع ولا وله، جاء في (معاني القرآن): " والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذم فيرفعون إذا كان الاسم رفعا وينصبون بعض المدح فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدح مجدد غير متبع لأول الكلام .. ¬

_ (¬1) حاشية يس على التصريح 2/ 117 (¬2) إرشاد العقل السليم. (¬3) معترك الاقران 1/ 354، وانظر التفسير الكبير للرازي 5/ 49، البرهان 2/ 446

وقال بعض الشعراء: إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم وذا الرأي حين تغم الأمور ... بذات الصليل وذات اللج فنصب (ليث الكتيبة) و (ذا الرأي) على المدح والاسم قبلهما مخفوض (¬1). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنك إذا قطعت فإنك تعني أن المخاطب يعلم من اتصاف الموصوف بهذه الصفة، ما يعلمه المتكلم، فإن القطع يدل على أن الموصوف مشتهر بهذه الصفة، معلوم بها عند السامع، كما عند المتكلم ولست تريد ان تعلمه بها، فإذا قلت (مررت بمحمد الكريم) كان المعنى: مررت بمحمد المعروف بالكر المشتهر به بخلاف قولك (مررت بمحمد الكريم) فإنك قد تريد بذلك أن تميزه عن غيره، وتبينه به، فالقطع لا يكون إلا إذا كان الموصوف مشتهرا بالصفة، معلوما بها حقيقة أو ادعاء أي تدعي أنه مشهور بهذه الصفة، فإذا مدحته بالقطع ادعيت أنه معروف بهذه الصفة مشتهر بها فيكون أمدح له. وإذا ذممته كنت ادعيت أنه مشهور بهذه الخصلة الذميمة معلوم بها، فإنك قلت (مررت بخالد الدنيء) لم ترد أن تعلم المخاطب بأن خالدا دنيء لأن المخاطب لا يجهل ذلك، وإنما أردت ذكره بأمر يعلمه كل أحد فيكون اهجي له، وأذم، قال تعالى: {وامرأته حمالة الحطب} [المسد: 4]، فنصب لأنه لم يرد أن يخبر بأمر مجهول، وإنما ذكرها بأمر مشهور يعرفه كل أحد إضافة إلى الذم بصيغة المبالغة فهو ذمها بصيغة المبالغة أولا ثم بالقطع بأن جعل هذا أمرًا معلوما لا يخفى على أحد ولهذا إذا كانت الصفة لقصد التوضيح والتبيين، وتييز الموصوف من غيره، لا يصح قطعا " إذ لا قطع مع الحاجة" فالموصوف إذا احتاج إلى مائة صفة ليتميز من غيره لم يصح قطع واحدة منها، قال ابن مالك: وإن نعوت كثرت وقد تلت ... فتقرا لذكرهن أتبعت ¬

_ (¬1) معاني القرآن 1/ 105

وذلك كأن تقول (مررت بمحمد التاجر الشاعر الكاتب) فإنك إذا أردت أن تميزه من ثلاثة آخرين كل واحد اسمه محمد أحدهم تاجر شاعر والثاني تاجر كاتب والثالث شاعر كاتب، كان عليك أن تميز الآخر منهم بقولك، (مررت بمحمد التاجر الشاعر الكاتب) فإنك إذا حذفت أية صفة ألتبس بمحمد آخر، ففي نحو هذا لا يجوز القطع لأن هذه الصفات لقصد تمييزه من غيره، فإن كانت له صفة أخرى مشهورا بها معلومة للمخاطبين كأن يكون فقيها جاز لك القطع على قصد أنه معلوم بها فتقول: (مررت بمحمد التاجر الشاعر الكاتب الفقيه) فتتبع النعوت الأولى وجوبا ويجوز في النعت الآخر القطع. جاء في التصريح: وأن لم يعرف مسمى المنعوت إلا بمجموعها وجب أتباعها كلها للمنعوت لتنزيلها منه منزلة الشيء الواحد، وإليه أشار الناظم بقوله: وإن نعوت كثرت وقد تلت ... مفتقرا لذكرهن أتبعت وذلك كقولهم (مررت بزيد التاجر الفقيه الكاتب) إذا كان زيد هذا الموصوف بهذه الصفات يشاركه في اسمه ثلاثة من الناس اسم كل واحد منهم زيد وأحدهم تاجر كاتب والآخر فقيه كاتب فلا يتعين زيد الأول من الأخيرين، إلا بالنعوت الثلاثة فيجب اتباعها كلها. وإن تعين ببعضها جاز فيما عدا ذلك البعض الذي تعين به الأوجه الثلاثة الاتباع والقطع إلى الرفع أو إلى النصب أو الجمع بينهما بشرط تقديم المتبع على الأصح. وإذا كان المنعوت نكرة تعين في الأول من نعوته الأتباع لأجل التخصيص بخلاف ما إذا كان معرفة فإنه غني عن التخصيص وجاز في الباقي من نعوته القطع عن المتبوع (¬1). فالقطع إنما يكون للدلالة على أن الموصوف مشهور بالصفة المقطوعة جاء في (شرح الرضي على الكافية): " اعلم أن جواز القطع مشروط بأن لا يكون النعت للتأكيد نحو (أمس الدابر) .. ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 117، وانظر شرح الأشموني 3/ 68، الهمع 2/ 119

والشرط الآخر إن يعلم السامع من اتصاف المنعوت بذلك النعت ما يعلمه المتكلم لأنه إن لم يعلم فالمنعوت محتاج إلى ذلك النعت ليبينه ويميزه، ولا قطع مع الحاجة، وكذا إذا وصفت الموصوف بوصف لا يعرفه المخاطب، لكن ذلك الوصف يستلزم وصفا آخر فلك القطع في ذلك الثاني. اللازم، نحو (مررت بالرجل العالم المبجل) فإن العلم في الأغلب مستلزم للتبجيل (¬1). وجاء في (التصريح): " إذا لم تتكرر النعوت وكان المنعوت معلومًا بدون النعت حقيقة أو ادعاء جاز أتباعه وقطعه ما لم يكن لمجرد التوكيد، نحو: (نفخة واحدة) أو ملتزم الذكر نحو (جاؤا الجماء الغفير) أو جاريا على مشار إليه نحو (بهذا الرجل) (¬2). وجاء في شرح قطر الندى: ويجوز قطع الصفة المعلوم موصوفها حقيقة أو ادعاء رفعا بتقدير هو ونصبا بتقدير أعني أو أمدح، أو أذم، أو ارحم (¬3). وجاء في الكامل: إذا قال (جاءني عبد الله الفاسق الخبيث) فليس يقول إلا وقد عرفه بالخبث والفسق، فنصبه بـ (أعني) وما أشبهه من الأفعال، نحو (اذكر) وهذا أبلغ في الذم أن يقيم الصفة مقام الاسم وكذلك المدح (¬4). وجاء في الكتاب: هذا باب ما ينتصب في التعظيم والمدح، وإن شئت جعلته صفة فجري على لأول وإن شئت قطعته فابتدأته وذلك قولك: الحمد صلى الله عليه وسلم الحميد هو والحمد لله أهل الحمد والملك له أهل الملك، ولو ابتدأته فرفعته كان حسنا، كما قال الأخطل نفسي فداء أمير المؤمنين إذا ... أبدي النواجذ يوم باسل ذكر الخائض الغمر والميمون طائره ... خليفة الله يستسق به المطر ¬

_ (¬1) شرح الرضي 1/ 346 (¬2) التصريح 2/ 116 (¬3) شرح قطر الندي 288، وانظر الكليات لأبي البقاء 220 (¬4) الكامل 2/ 748

زعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس، ولا من تخاطبه بأمر جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت فجعلته ثناء وتعظيما، ونصبه على الفعل كأنه قال: (اذكر أهل ذاك) و (أذكر المقيمين) ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره، وهذا شبيه بقوله: (أنا بني فلان نفعل كذا) لأنه لا يريد أن يخبر من لا يدري أنه من بني فلان ولكنه ذكر ذلك افتخارا وابتهاء (¬1). وجاء فيه أيضا: " هذا باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم وما أشبهه، وذلك قولك: أتاني زيد الفاسق الخبيب لم يرد أن يكرره، ولا يعرفك شيئا تنكره، ولكنه شتمه بذلك .. وقال عروة الصعاليك: سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كب وزور إنما شتمهم بشيء قد استقر عند المخاطبين، .. وقد يجوز (مررت بقومك الكرام) إذا جعلت المخاطب كأنه قد عرفهم (¬2). وجاء في شرح السيرافي، بهامش الكتاب: قال أبو سعيد: يحتاج التعظيم إلى إجتماع معنيين في المعظم: أحدهما أن يكون الذي عظ به فيه مدح وثناء ورفعة: والآخر أن يكون المعظم قد عرفه المخاطب وشهر عنده بما عظم أو يتقدم من كلام المتكلم ما يتقرر به عند المخاطب حال مدح وتشريف في المذكور يصح أن يورد بعدها التعظيم (¬3). فهذه حقيقة القطع وغرضه. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 248 - 250 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 252 (¬3) شرح السيرافي 1/ 252

ثم أنه يقطع مع المرفوع إلى النصب، ومع المنصوب إلى الرفع، ومع المجرور إلى الرفع، أو النصب، فتقول: (مررت بخالد العظيم، أو العظيم) ويبدو أن القطع إلى الرفع أثبت وأشهر، وذلك لأنه في النصب بتقدير جملة فعلية، نحو: (أعني العظيم أو أمدح) وفي الرفع بتقدير اسم أي (هو العظيم) والاسم أثبت وأقوى وأدوم من الفعل كما مر في قوله تعالى: {قالوا سلاما قال سلام} [هود: 69]. فقولك (مررت بمحمد العظيم) بالاتباع قد يراد منه تمييزه من غيره الذي هو حقير أو يراد مدحه بهذه الصفة. وقولك (مررت بمحمد العظيم) بالنصب، تريد تنبيه السامع على هذه الصفة كما تعني أن محمدا مشهور بهذه الصفة معلوم بها للمخاطب يعلمه كل أحد. وقولك (مررت بمحمد العظيم) بالرفع يدل على أن محمدًا معلوم أتصافه بهذه الصفة مشهور بها، غير أن اتصافه بهذه الصفة واستقرارها ورسوخها فيه وتمكنها منه أكثر وأشد مما قبلها. وورد القطع في العطف أيضا للدلالة على أهمية المقطوع من بين المعطوفات، جاء في الكشاف، في قوله تعالى: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء} [البقرة: 177]، وأخرج الصابرين منصوبا على الاختصاص والمدح إظهار لفضل الصبر في الشدائد، ومواطن القتال على سائر الأعمال (¬1). وجاء في شرح شذور الذهب، في قوله تعالى: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليه وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة} [النساء: 162]، إن المقيمين نصب على المدح، وتقديره وامدح المقيمين، وهو قول سيبويه والمحققين وإنما قطعت هذه الصفة عن بقية الصفات لبيان فضل الصلاة على غيرها (¬2). ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 252 (¬2) شرح شذور الذهب 54، وانظر الكشاف 1/ 438

تعاطف النعوت

تعاطف النعوت يجوز عطف النعوت بعضها على بعض متبعة كانت أو مقطوعة تقول: (مررت برجل كريم شاعر خطيب) ويجوز أن تقول (مررت برجل كريم وشاعر وخطيب) قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 1 - 4]، وقال الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم (¬1). وتعطف النعوت بالواو كما مر، وإذا دلت على ترتيب وتعقيب عطفت عند ذاك بالفاء، قال تعالى: {والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا} [المرسلات: 1 - 5]، وقال: {والصافات صفا فالزاجرت زجرا فالتاليات ذكرا} [الصافات: 1 - 3]. قال أبو حيان: " ولا يجوز - أي العطف - بالفاء إلا أن دلت على أحداث واقع بعضها على أثر بعض، نحو: مررت برجل قائم إلى زيد فضاربه فقالته" (¬2). وإن دلت الأحداث على ترتيب وتراخ عطفت بـ (ثم) فتقول: (مررت برجل قائم إلى زيد ثم ضاربه ثم قاتله) وتقول: (مررت برجل أعانني ثم أكرمني) ومنه (مررت برجل راكب ثم ذاهب) فبين أن الذهاب بعده وأن بينهما مهلة غير متصل به (¬3). إلى غير ذلك من حروف العطف الأخرى كالعطف بـ (أو) أو بـ (لا) بحسب المعنى المقصود (¬4). ويجب العطف في الصفات إذا تعددت لتعدد الموصوفين، بها نحو (مررت برجال كاتب وشاعر وفقيه) أي كل رجل منهم له صفة من هذه الصفات. ¬

_ (¬1) انظر الهمع 2/ 119، شرح الرضي 1/ 107 - 108 (¬2) الهمع 2/ 119، كتاب سيبويه 1/ 213 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 213 (¬4) انظر كتاب سيبويه 1/ 213

أما إذا تعددت الصفات وصاحبها واحد " فالأحسن أن تباعد معنى الصفات العطف نحو {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3]، وإلا تركه نحو {ولا تطع كلا حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم} [القلم: 10 - 13] (¬1). وقد يؤتي بالواو للاهتمام. جاء في تفسير الرازي، في قوله تعالى: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} [التوبة: 112]، " وفي إدخال الواو على هؤلاء (والناهون) وذلك لأن كل ما سبق من الصفات عبادات يأتي بها الإنسان لنفسه ولا يعلق لشيء منها بالغير أما النهي عن المنكر فعبادة متعلقة بالغير، وهذا النهي يوجب ثوران الغضب وظهور الخصومة وربما أقدم ذلك المنهي على ضرب الناهي، وربما حاول قتله، فكان النهي عن المنكر أصعب أقسام العبادات والطاعات، فأدخل عليها الواو تنبيها على ما يحصل فيها من زيادة المشقة والمحنة (¬2). وقال تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول} [غافر: 3]، ففصل بالواو بين غافر الذنب، وقابل التوب، للاهتمام بالتوبة ههنا، ويدل على ذلك قوله تعالى فيما بعد هذه الآيات: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} [غافر: 7]. ثم إن العطف بالواو قد يؤتى به لتحقيق إجتماع الصفات في الموصوف، وذلك كأن تقول لشخص ينكر أو يستبعد إتصاف الموصوف بصفة واحدة من صفات الكمال، فضلا عن عدة صفات (هو كاتب وخطيب وشاعر) فتأتي بالواو لتحقيق اجتماع هذه الصفات فيه ¬

_ (¬1) الاتقان 2/ 70 (¬2) التفسير الكبير 16/ 205

حذف النعت

جاء في (بدائع الفوائد): " إن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم وتقريره في الكلام متضمنا لنوع من التأكيد من مزيد التقرير. وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة إلى ما نحن فيه، إذا كان رجل مثلا له أربع صفات هي (عالم وجواد وشجاع وغني) وكان المخاطب لا يعلم ذلك أو لا يقر به ويعجب من إجتماع هذه الصفات في رجل فإذا قلت (زيد عالم) وكان ذهنه استبعد ذلك فتقول: (وجواد) أي وهو مع ذلك جواد، فإذا قدرت استبعاده لذلك قلت (وشجاع) أي وهو مع ذلك شجاع وغني فيكون في العطف مزيد تقرير وتوكيد لا يحصل بدونه تدرأ به توهم الإنكار " (¬1). حذف النعت يجوز حذف النعت إذا علم وذلك كقوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} [الكهف: 79]، أي كل سفينة صالحة فحذف النعت وأبقى المنعوت فإنه أن لم يقدر ذلك فلا فائدة في خرقها. ومنه قول المرقش الأكبر: ورب أسيلة الخدين بكر ... مهفهفة لها فرع وجيد فحذف النعت وأبقي المنعوت أي فرع فاحم أو نحو ذلك وجيد طويل وإلا فكل امرأة لها فرع وجيد أن قصد بذلك مطلق الفرع والجيد (¬2). فلا فائدة في التشبيب. وقد تحذف الصفة وتدل عليها حال المتكلم، وللنغمة الصوتية أثر في إيضاحها، ولك كأن تقول (هو رجل) فتقوى اللفظ وتطيل الصوت وتفخمه، فتدل بذلك أنه رجل عظيم ونحو ذلك، وتقول (عنده مال) فتفخم كلمة (مال) وتمد صوتك بها فتغني أنه عنده مال كثير، وتقول (عنده مال) وتزوي وجهك وتغير النعمة، فيدل ذلك على أن عنده شيئا قليلا من المال ونحو ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 1/ 191 (¬2) انظر التصريح 2/ 119 (¬3) انظر الخصائص 2/ 370 - 371

البدل

البدل يعرف النحويون البدل بأنه التابع المقصود بالحكم بلا واسطة، ومعنى ذلك أنك إذا قلت مثلا (أقبل أخوك محمد) فالمقصود فيه بالحكم (هو محمد) وهو المهم وأما أخوك، فقد ذكر تمهيدا لذكر العلم، فالبدل هو المهم، وهو المقصود بالحكم، وأما المبدل منه فإنما يذكر تمهيدًا وتوطئة لذكر البدل. ويذهب النحويون إلى أن البدل على نية إحلاله محل المبدل منه، وأما المبدل منه فعلى نية السقوط. جاء في المفصل أن البدل هو الذي يعتمد بالحديث، وإنما يذكر الأول لنحو من التوطئة وليفاد بمجموعها فضل تاكيد وتبيين لا يكون في الأفراد (¬1). وقال السيرافي أعلم أن البدل إنما يجيء في الكلام على أن يكون مكان المبدل منه كأنه لم يذكر (¬2). ولا يعنون بذلك أن المبدل منه لا فائدة فيه، وليس له غرض، بل على معنى أن البدل مستقل بنفسه وإن العامل كأنما باشر البدل. جاء في (شرح السيرافي): وقول النحويين أن التقدير فيه تنحية المبدل منه ووضع البدل مكانه ليس على معنى الغائه وإزالة فائدته، بل على أن البدل قائم بنفسه غير مبين للمبدل منه، تبيين النعت للمنعوت، إذ لو كان على الإلغاء لكان نحو قولك (زيد رأيت أباه عمرا) في تقدير (زيد رأيت عمرا) وهذا فاسد محال (¬3). ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 3/ 66 (¬2) شرح السيرافي بهامش الكتاب 1/ 75 (¬3) المصدر السابق 1/ 75

أقسام البدل

وجاء في المقتضب، ولو كان البدل يبطل المبدل منه لم يجز أن تقول (زيد مررت به أبي عبد الله) لأنك لو لم تعتد بالهاء فقلت (زيد مررت بأبي عبد الله) كان خلفا لأنك جعلت زيدا ابتداء، ولم ترد إليه شيئا، فالمبدل منه مثبت في الكلام وإنما سمى البدل بدلا لدخوله لما عمل فيه ما قبله على غير جهة الشركة .. والمعنى الصحيح أن البدل والمبدل منه موجودان معا لم يوضعا على أن يسقط أحدها إلا في بدل الغلط فإن المبدل منه بمنزلة ما ليس في الكلام (¬1). وقال الرضي: ولا كلام أن المبدل منه ليس في حكم الطرح لفظا لوجوب عود الضمير إليه في بدل البعض والاشتمال (¬2). فقولك أعجبني محمد علمه، فيه علمه بدل من محمد فلو كان محمد على نية السقوط لكان القول أعجبني علمه، فلا يعود الضمير على شيء وهو غير صحيح أقسام البدل البدل على أقسام هي: 1 - البدل المطابق ويسمى أيضا بدل كل من كل وذلك نحو: {وقال موسى لأخيه هارون} [الأعراف: 142]، وقوله {إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} [إبراهيم: 1، 2]، فالعزيز الحميد هو الله. وفائدة هذا البدل الإيضاح والتبيين ويؤدي البدل والمبدل منه بإجتماعهما معنى لا يؤدي بانفراد أحدهما عن الآخر، فقد يكون الألو مبهما يوضحه الثاني، وذلك نحو قوله تعالى: {وإذا نجيناك من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [البقرة: 49]، فقوله {يسومونكم سوء العذاب} مبهم يحتمل أمورا كثيرة فأوضحه البدل {يذبحون ابناءكم ويستحيون نساءكم} ونحو قوله تعالى: {وعلى الذين ¬

_ (¬1) المقتضب 4/ 399، 400 (¬2) شرح الرضي على الكافية 1/ 375

يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184]، فالفدية مبهمة ويوضحها (طعام مسكين) وقد يكون الثاني مبينا حقيقة الأول، كقوله تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار} [الأعراف: 148]، فحقيقة العجل المتخذ ليست عجلا حقيقا وإنما هو جسد له خوار، ولو ذكرت البدل أو المبدل منه على انفراد لم يتضح الأمر كما أوضحه إجتماعهما. وقد يكون أحد الطرفين أعني البدل أو المبدل منه متصفا بصفة دالة على المدح أو الذم أو غيرهما، وذلك نحو قوله تعالى: {إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} فقوله العزيز الحميد، صفتان لله تعالى دالتان على المدح، ونحوه أن تقول: (مررت بالرجل العالم سالم) فالمبدل منه موصوف بصفة العلم والاكتفاء بإحدهما لا يؤدى معنى الجمع. ومنه قوله تعالى: {إنك بالواد المقدس طوي} [طه: 12]، فلو قال: {إنك بالواد طوي} لم يعلم أنه مقدس، ولو قال (إنك بالوادي المقدس) ولم يذكر اسمه لم يعلم أي واد هو؟ ونحوه قوله تعالى: {لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة} [العلق: 15 - 16]، فبين صفة الناصية المسفوعة. وقد يكون الأول عاما والثاني مخصصا له، وذلك نحو قوله تعالى: } إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب {[الصافات: 6]، فالزينة عامة، وقد خصصت بالكواكب، ونحوه قوله تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، } [البقرة: 26]، وقوله {ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة} [الإنسان 15 - 16]، فبين جنس القوارير، وقوله: ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا [آل عمران: 154]. وقد يأتي للتفصيل، وذلك نحو قوله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة} [مريم: 75]، ففصل (ما يوعدون).

وقد يكون للتفخيم وذلك كقوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} [الحجر: 66]، فإنه أبهم الأمر أولا، ثم أوضحه وللإيضاح بعد الإبهام وقع في النفس ليس كما إذا جعل الكلام سردا واحدا. جاء في الطراز: أعلم أن المعنى المقصود إذا ورد في الكلام مبهما فإنه يفيده بلاغة ويكسبه إعجابا وفخامة، وذلك لأنه إذا قرع السمع على جهة الإبهام فإن السامع له يذهب في إبهامه كل مذهب، ومصداق هذه المقالة، قوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر} ثم فسره بقوله (إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) وهكذا في قوله تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما} فأبهمه أولا ثم فسره بقوله (بعوضة فما فوقها) .. ألا ترى أنك إذا قلت: هل أدلك على أكرم الناس أبا وأفضلهم فعلا، وحسبا وأمضاهم عزيمة وأنفذهم رأيا؟ ثم تقول: فلان، فإن هذا وأمثاله يكون أدخل في مدحته مما لو قلت: فلان الأكرام الأفضل الأنبل (¬1). وجاء في شرح الرضي على الكافية، وقد يكون الثاني لمجرد التفسير بعد الإبهام مع أنه ليس في الأول فائدة ليست في الثاني وذلك لأن للإبهام أولا، ثم التفسير ثانيا وقعا وتأثيرا ليس للاتيان بالمفسر أولا، وذلك نحو (برجل زيد) فإن الفائدة الحاصلة من (رجل) تحصل من (زيد) مع زيادة التعريف لكن الغرض ما ذكرنا (¬2). وقد يفيد البدل التوكيد وذلك إذا دل على الإحاطة والشمول (¬3). نحو (جاءوا كبارهم وصغارهم) ونحو قوله تعالى: {تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا} [المائدة " 114]. جاء في كتاب سيبويه: فالبدل أن تقول: ضرب الله ظهره وبطنه وضرب زيد الظهر والبطن، وقلب عمرو ظهره وبطنه، ومطرنا سهلنا وجبلنا، ومطرنا السهل والجبل. وإن شئت كان على الاسم بمنزلة أجمعين توكيدا .. ¬

_ (¬1) الطراز 2/ 78 - 79، وانظر البرهان 2/ 455 (¬2) شرح الرضي 1/ 370 (¬3) انظر ابن الناظم 229

فإن قلت: (ضُرب زيدٌ اليدُ والرجل) جاز على أن يكون بدلاً، وأن يكون توكيدًا (¬1). فسيبويه يجوز أن يعربها بدلا أو توكيدًا فإذا أعرب بدلا أفاد معنى التوكيد لما فيه من الإحاطة. ثم أن قولك: (أقبل أبوك خالد) فيه توكيد لأن أباك هو خالد، غير أنه ذكر مرة فرابته ومرة اسمه، وقد تقول: ولم لا يكون توكيدًا؟ والجواب أن الإسمين ليسا متطابقين تماما، والتوكيد يفيد المطابقة، فإن قولك (أبوك) يفيد القرابة و (خالد) الإسم. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " قوله (فالأول مدلوله مدلول الأول) فيه تسامح إذ مدلول قولك (أخيك) في (بزيد أخيك) لو كان عين مدلول (زيد) لكان تأكيدًا و (أخوك) يدل على أخوه المخاطب ولم يكن يدل عليها (زيد) لكن مراده أنهما يطلقان على ذات واحدة وإن كان أحدهما يدل على معنى فيها لا يدل عليه الآخر (¬2). وجاء في شرح ابن يعيش: " وأعلم أنه قد اجتمع في البدل ما افترق في الصفة والتأكيد لأن فيه إيضاحا للمبدل ورفع لبس كما كان ذلك في الصفة، وفيه رفع مجاز وإبطال التوسع الذي كان يجوز في المبدل منه. ألا ترى أنك إذا قلت (جاءني أخوك) جاز أن تريد كتابه أو رسوله، فإذا قلت (زيد) زال ذلك الإحتمال كما لو قلت (نفسه) أو (عينه) فلذلك قال صاحب الكتاب: وليفاد بمجموعهما فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الأفراد، يعني أنه حصل بإجتماع البدل والمبدل منه من التأكيد ما يحصل بـ (النفس) و (العين) ومن البيان ما يحصل بالنعت ولو انفرد كل واحد من البدل والمبدل منه لم يحصل ما حصل بإجتماعهما كما لو أنفرد التأكيد والمؤكد أو النعت والنعوت لم يحصل ما حصل باجتماعهما (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 79 - 80 (¬2) شرح الرضي 1/ 371 - 372 (¬3) شرح ابن يعيش 3/ 66

وذهب النحاة إلى أن نحو (رأيتك إياك) و (رأيته إياه وفعلت أنت) بدل (¬1). ولا شك أنه يفيد التوكيد، وقد ذهب آخرون إلى أنه توكيد لا بدل (¬2). وذكر بعض النحاة أن التأكيد متأت أيضا من أن البدل على نية تكرار العامل، فإن قولك (جاء أخوك خالد) معناه جاء أخوك، جاء خالد، فكأنك كررت (جاء) مرتين، ومن هنا جاء التأكيد. فالتأكيد حاصل في المجيء. قال ابن الناظم: أعلم أن الغرض من الإبدال أن يذكر الإسم مقصودا بالنسبة كالفاعلية والمفعولية والإضافة بعد التوطئة، لذكره بالتصريح بتلك النسبة، لإفادة توكيد الحكم، وتقريره لأن الإبدال في قوة إعادة الجملة، ولذلك تسمع النحويين يقولون: البدل في حكم تكرار العامل (¬3). وجاء في الإتقان: والقصد به الإيضاح بعد الإبهام، وفائدته البيان والتأكيد، أما الأول فواضح أنك إذا قلت: (رأيت زيدا أخاك) بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير، وأما التأكيد فلأن على نية تكرار العامل فكأنه من جملتين ولأنه دل على ما دل عليه الأول (¬4). والذي يبدو لي أن ليس ثمة توكيد في الحكم، وأن العامل غير مكرر، وإنما قد يحصل التوكيد من إجتماع البدل والمبدل منه، كأن يكون البدل دالا على الإحاطة والشمول فيفيد معنى الجميع، أو كأن يكون الإسمان يطلقان على ذات واحدة، فيفيد إجتماعهما فضل توكيد، قوله تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون} [البقرة: 87]، فعيسى هو ابن مريم. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 393، شرح ابن يعيش 3/ 69 (¬2) شرح الرضي 1/ 373 (¬3) شرح ابن الناظم 226 (¬4) الاتقان 2/ 70

2 - بدل بعض من كل نحو قوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} [البقرة: 251]، وقوله: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]، فـ (من استطاع) هو بعض الناس ونحو (أعجبني خالد وجهه) و (أكلت الرغيف ثلثه). 3 - بدل اشتمال: وهو ما دل على معنى في متبوعه وذلك نحو: (أعجبني خالد علمه) ونحو قوله تعالى: {يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه} [البقرة: 217]، وقوله: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا} [مريم: 16]، فـ (إذ) بدل اشتمال من مريم، وقوله: {قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود} [البروج: 4 - 5] فـ (النار) بدل اشتمال من (الأخدود) لأن الأخدود أشتمل على النار. ولابد في هذين البدلين أعني البدل الذي هو بعض، وبدل الاشتمال، من ضمير يربطهما بصاحبهما ظاهر أو مقدر، فالظاهر نحو قولك (أعجبني محمد علمه) والمقدر نحو (النار ذات الوقود) أي النار فيه (¬1). ولا يشترط في البدل الواقع في الاستثناء ضمير، وذلك نحو (ما أقبل الرجال إلا خالد) وفائدة هذين البدلين هو الإيضاح بعد الإبهام. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " والفائدة في بدل البعض والاشتمال البيان بعد الإجمال والتفسير بعد الإبهام لما فيه من التأثير في النفس. وذلك أن المتكلم يحقق بالثاني بعد التجوز والمسامحة بالأول تقول (أكلت الرغيف ثلثه) فتقصد بالرغيف ثلث الرغيف ثم تبين ذلك بقولك (ثلثه)، وكذا في بيان الاشتمال، فإن الأول فيه يجب أن يكون بحيث يجوز أن يطلق ويراد به الثاني نحو (أعجبني زيد علمه) و (سلب زيد ثوبه) فإنك قد تقول (أعجبني زيد) إذا أعجبك علمه و (سلب زيد) إذا سلب ثوبه على حذف المضاف ولا يجوز أن تقول: (ضربت زيدا) وقد ضربت غلامه (¬2). ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 506، شرح الرضي 1/ 374 (¬2) شرح الرضي 1/ 371

4 - البدل المغاير: وهو بدل الغلط والإضراب والنسيان: فبدل الغلط نحو قولك (أقبل محمدٌ خالدٌ) فإنك عندما قلت (أقبل محمد) تبني لك أنك غلطت بذكر (محمد) وإنما أردت (خالدا) فجئت بكلمة (خالد) صححت بها غلطك فهي بدل الغلط أي جئت بها مكان الغلط لا أنها غلط. وأما الاضراب فيكون إذا ذكرت شيئا، ثم بدا لك أن تضرب عنه، بذكر آخر بدله كأن تقول: (سأذهب إلى المقهى الكلية) فحين ذكرت أنك سيذهب إلى المقهي بدا لك أن تترك ذهابك إليها وأن تذهب إلى الكلية بدلها. قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون} [النحل: 73]، فأخبر أولا أنهم لا يملكون رزقا، ثم أضرب عن ذلك، فقال: بل لا يملكون شيئا، والذي عليه النحاة أن (شيئا) مفعول به لـ (رزقا) وكل صواب فيما أرى. وأما بدل النسيان فيكون بأن تنسى فتذكر أمرا على غير حقيقته ثم تتذكر الأمر المنسي فتذكره بدل الأول كأن تقول: (زارني سعدٌ إبراهيم) فإن الذي زارك هو إبراهيم لا سعد، ولكنك نسيت فذكرت سعدا، ثم تذكرت الشخص الذي زارك وهو إبراهيم. جاء في الكتاب: هذا باب المبدل من المبدل منه، والمبدل يشرك المبدل منه في الجر وذلك قولك: (مررت برجل حمار) فهو على وجه محال وعلى وجه حسن. فأما المحال فأن تعني أن الرجل حمار، وأما الذي يحسن، فهو أن تقول (مررت برجل) ثم تبدل الحمار مكان الرجل، فتقول (حمار) أما أن تكون غلطت أو نسيت فأستدركت، وأما أن يبدو لك أن تضرب عن مرورك بالرجل وتجعل مكانه مرورك بالحمار، بعد ما كنت أردت غير ذلك، ومثل ذلك قولك: (لا بل حمار)، ومن ذلك قولك: (مررت برجل بل حمار) وهو على تفسير (مررت برجل حمار)، ومن ذلك (ما مررت برجل بل حمار) وما مررت برجل ولكن حمار أبدلت الآخر من الأول، وجعلته مكانه" (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 218 - 219

وبدل الغلط والنسيان لا يكون في قرآن ولا شعر. جاء في (المقتضب): " فهذا البدل لا يكون مثله في قرآن ولا شعر ولكن إذا وقع مثله في الكلام غلطا أو نسيانا فهكذا إعرابه" (¬1). وقد يقع في الشعر على سبيل ادعاء الغلط أو النسيان كقول: (ألا إنما هند عصا خيزرانةٌ) فذكر أولا أنها عصا، ثم بين أنه غلط بقوله هي عصا فصحح غلطه وذكر أنها خيزرانة. جاء في (شرح الرضي على الكافية) وهذا الذي يسمى بدل الغلط على ثلاثة أقسام: أما بداء وهو أن تذكر المبدل منه عن قصد، وتعمد ثم توهم أنك غلطت لكون الثاني أجنبيا وهذا يعتمده الشعراء كثيرا للمبالغة والتفنن، في الفصاحة، وشرطه أن يرتقي من الأدنى إلى الأعلى كقولك (هند نجم بدر شمس) كأنك وإن كنت معتمدا لذكر النجم تغلط نفسك، وترى أنك لم تقصد في الأول، ألا تشبيهها بالبدر، وكذا قولك: بدر شمس. وأما غلط صريح محقق كما إذا اردت مثلا أن تقول (جاءني حمار)، فسبقك لسانك إلى رجل ثم تداركت الغلط فقلت (حمار). واما نسيان .. ولا يجيء الصرف ولا بدل النسيان، في كلام الفصحاء، وما يصدر عن روية وفطانة، فلا يكون في شعر أصلا، وإن وقع في كلام فحقه الإضراب عن الأول المغلوط فيه، بـ (بل) (¬2). ¬

_ (¬1) المقتضب 1/ 28 (¬2) شرح الرضي 1/ 372 - 373

5 - بدل كل من بعض، وأنكره الجمهور واستدل المثبتون له بقوله تعالى: {فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن} [مريم: 60 - 61]، قالوا: (جنات عدن) بدل كل من (الجنة)، وهي بعض والجمهور على أنها بدل مطابق، لأن الجنة فيها جنات. واستدل المثبتون أيضا بقول الشاعر: رحم الله أعظمنا دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات فـ (طلحة) كل (والأعظم) بعض، والآخرون على أن (طلحة) مفعول به لفعل محذوف تقديره (أعني). واستدل المبثبتون بنحو قولهم (لقيته غدوة يوم الجمعة) كل، والغدوة بعض وبقوله: كأني غداة البين يوم تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل فاليوم كل، والغداة والآخرون على أن (يوم) في البيت بمعنى (وقت) (¬1). والقول بهذا البدل لابد منه في نحو قولهم (ما قام إلا زيد القوم) إذ لا يكون إلا بدل كل من بعض. جاء في (شرح ابن عقيل): " وقد روى رفعه فتقول (ما قام إلا زيد القوم). قال سيبويه حدثني يونس أن قوما يوثق بعربيتهم يقولون (مالي إلا أخوك ناصر) وأعربوا الثاني بدلا من الأول على القلب" (¬2). ويقصدون بالقلب أن اصل الكلام (مالي ناصرٌ إلا أخوك) فـ (أخوك) بدل بعض من كل ثم قدم البدل على المبدل منه فصار بدل كل من كل (¬3).، لأن المقصود بالناصر أخوك غير أن هذا لا ينطبق على مثال ابن عقيل، (ما قام إلا زيد القوم) إذ لا يمكن عد زيد عاما والقوم خاصا، فعلى مذهب من يجيز هذا التعبير يجب قبول هذا النوع من البدل. ¬

_ (¬1) انظر الهمع 2/ 127، الصبان 3/ 126، حاشية الخضري 2/ 69 (¬2) شرح ابن عقيل 1/ 205 - 206 (¬3) شرح الأشموني 2/ 148، التصريح 1/ 355، حاشية الخضري 1/ 206

البدل وعطف البيان

البدل وعطف البيان عطف البيان عند النحاة، تابع يوضح، أو يخصص مبتوعه، غير مقصود بالنسبة لا يكون مشقا، ولا مؤولا بالمشتق، نحو (أقبل أبو محمد خالد) و (أقسم بالله أبو حفص عمر (¬1).) ونحو: {ويسقى من ماء صديد} [إبراهيم: 16]، وقوله: {أو كفارة طعام مساكين} [المائدة: 95]. فالغرض من عطف البيان توضح المتبوع أو تخصيصه، فالمتبوع على هذا اهم لأنه إنما جيء بالبيان لقصد إيضاحه. جاء في (شرح ابن يعيش): " عطف البيان مجراه مجرى النعت يؤتى به لإيضاح ما يجري عليه، وإزالة الإشتراك الكائن فيه من تمامه، كما أن النعت من تمام المنعوت نحو قولك (مررت بأخيك زيد) بينت الأخ بقولك (زيد) وفصلته من أخ آخر ليس بزيد كما تفعل الصفة في قولك (مررتب أخيك الطويل) تفصله من أخ آخر ليس بطويل ولذلك قالوا إن كان له أخوة فهو عطف بيان وإن لم يكن له اخ غيره فهو بدل (¬2). فهو شبيه بالبدل المطابق، غير أنهم يفرقون بينهما، بأن المهم في البدل هو الثاني، وأما المهم في البيان فهو الأول، وإنما ذكر الثاني إيضاحا للأول وتفسيرا له، فإذا قلت: (أقبل أخوك محمد) وكان اهتمامك بالثاني أعرب بدلا، وإن كان اهتمامك بالإخوة أعرب الثاني عطف بيان. وفرقوا بينهما فروقا أهمها: إن عطف البيان لا يكون ضميرا، ولا تابعا لضمير بخلاف البدل وإن البيان لا يخالف متبوعه في تعريفه وتنكيره، ولا يختلف في جواز ذلك في البدل. ¬

_ (¬1) شرح ابن الناظم 212، شرح شذور الذهب 515 (¬2) شرح ابن يعيش 3/ 71

وأنه لا يكون جملة، ولا تابعا لجملة، بخلاف البدل. وانه لا يكون فعلا، ولا تابعا لفعل، بخلاف البدل ثم إن البيان ليس على نية احلاله محل الأول بخلاف البدل، ولهذا امتنع البدل وتعين البيان في نحو: (يا زيد الحارث) لأنك لا تقول: (بالحارث) وامتنع البدل وتعين البيان في نحو (يا سعيد كرز) بالرفع أو (كرزا) بالنصب بخلاف (يا سعيد كرز) بالضم فإنه بدل. وفي نحو (أنا الضارب الرجل زيد) لأنك لا تقول (أنا الضارب زيد) عند الجمهور، وفي نحو (زيد أفضل الناس الرجال والنساء) لأن اسم التفضيل إذا قصد به الزيادة على من أضيف إليه يشترط أن يكون منهم، فلا يصح أن تقول (زيد أفضل النساء) ففي كل ذلك يتعين البيان ويمتنع البدل، وكذلك إذا قلت: (يا أخانا خالدا) كان عطف بيان بخلاف ما إذا قلت (يا أخانا خالد) بالضم فإنه بدلا لأنه على نية أحلاله محل الأول ثم إن عطف البيان ليس في التقرير من جملة أخرى بخلاف البدل، ولهذا امتنع أيضا البدل وتعين البيان، في نحو قولك (هند قام عمرو أخوها) لأن البدل على تقدير (هند قام عمرو قام أخوها) فتكون جملة الخبر بلا رابط وهو لا يجوز (¬1). وقد أجازوا أعراب عطف البيان، بدل كل من كل، إذا لم يكن ثمة مانع من الموانع المذكورة. والحق فيما أرى أن هذا ضرب من التعسف، ولا أرى عطف البيان إلا البدل، ولا داعي لادعاء الفروق بينهما، ويمكن الاكتفاء بباب واحد هو البدل أو البيان، وكل ما قيل في البدل يمكن أن يقال في البيان وبالعكس، واصطلاح البدل أولى، وذلك لتعدد أنواعه، بدل بعض واشتمال، وبدل أضراب وغلط ونسيان، فإن كلمة (بدل) أدل على المعنى من كلمة (بيان) ولا سيما في البدل المغاير وإن كان يمكن أن يطلق عليه (بيان) بتأول. ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 455، شرح ابن يعيش 3/ 72، التصريح 2/ 133

جاء في (شرح الرضي على الكافية): "وأنا إلى الآن لم يظهر لي فرق جلي بين بدل الكل وبين عطف البيان، بل لا أرى عطف البيان إلا البدل كما هو ظاهر قول سيبويه، فإنه لم يذكر عطف البيان (¬1). بل قال: أما بدل المعرفة من النكرة فنحو مررت برجل عبد الله كأنه قيل: بمن مررت؟ أو ظن أن يقال له ذلك، فأبدل مكانه ما هو أعرف منه .. قالوا: الفرق بينهما أن البدل هو المقصود بالنسبة دون متبوعه، بخلاف عطف البيان فإنه بيان، والبيان فرع المبين فيكون المقصود هو، الأول. والجواب أنا لا نسلم ان المقصود بالنسبة في بدل الكل، هو الثاني فقط، ولا في سائر الإبدال إلا الغلط، فإن كون الثاني فيه هو المقصود بها دون الأول ظاهر، وإنما قلنا ذلك لأن الأول في الإبدال الثلاثة منسوب إليه في الظاهر، ولابد أن يكون في ذكره فائدة لم تحصل لو لم يذكر كما يذكر في كل واحد من الثلاثة صونا لكلام الفصحاء عن اللغو، ولا سيما كلامه تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم فادعاء كونه غير مقصود بالنسبة مع كونه منسوبا إليه في الظاهر وإشتماله على فائدة يصح أن ينسب إليه لأجلها دعوى خلاف الظاهر (¬2). وقال: " قالوا والفرق الآخر أن البدل في حكم تكرير العامل، ولو سلمنا ذلك فيما تكرر العامل فيه ظاهرا فبأي شيء يعرف المخاطب ذلك فيما لم يتكرر فيه؟ ولنا أن ندعي ذلك فيما سموه عطف البيان، مع التسليم في البدل. وفرقوا أيضا بينهما بعدم وجوب توافق البدل والمبدل منه تعريفا، وتنكيرا، بخلاف عطف البيان. والجواب تجوير التخالف في المسمى عطف بيان أيضا، هذا الذي ذكرت هو الذي يقوي عندي (¬3). وعلى كل فالاكتفاء بباب واحد وهو البدل أولى كما ذهب إليه الرضي، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الصواب أن سيبويه ذكر عطف البيان في عدة مواضع في كتاهب، ينظر على سبيل المثال 1/ 305، 306، 304 (¬2) شرح الرضي 1/ 369 - 370 (¬3) شرح الرضي 1/ 371

العطف

العطف حروف العطف الواو: وهي لمطلق الجمع، فإذا قلت (حضر محمدٌ وخليلٌ) فليس فيه دلالة على أن محمدًا حضر قبل خليل، فقد يكون حضر محمد قبله، ويحتمل أنه حضر بعده، كما يحتمل أنهما حضرا معا. جاء في (كتاب سيبويه): " وليس في هذا دليل على أنه بدأ بشيء قبل شيء، ولا بشيء مع شيء، لأنه يجوز أن تقول (مررت بزيد وعمرو) والمبدوء في المرور عمرو، ويجوز أن يكون زيدًا، ويجوز أن يكون المرور وقع عليهما في حالة واحدة. فالواو يجمع هذه الأشياء على هذه المعاني. فإذا سمعت المتكلم يتكلم بهذا أجبته على أيها شئت لأنها قد جمعت هذه الأشياء (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " قوله (فالواو للجمع مطلقا): معنى المطلق أنه يحتمل أن يكون حصل من كليهما في زمان واحد، وأن يكون حصل من زيد أولا، وأن يكون حصل من عمرو أولا، فهذه ثلاثة احتمالات عقلية، لا دليل في الواو على شيء منها، هذا مذهب جميع البصريين والكوفيين. ونقل بعضهم عن الفراء، والكسائي، وثعلب، والربعي، وابن درستويه، وبه قال بعض الفقهاء أنها للترتيب، ودليل الجمهور استعمالها فيما يستحيل فيه الترتيب، نحو (المال بين زيد وعمرو) و (تقاتل زيد وعمرو) وفيما الثاني فيه قبل الأول كقوله: أو جونة قدحت وفض ختامها ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه: 1/ 218، وانظر 2/ 304

وقوله تعالى: {واسجدى واركعي} [آل عمران: 43]، وقوله تعالى: {نموت ونحيا} [المؤمنون: 37]، والأصل في الاستعمال الحقيقة، لو كانت للترتيب لتناقض قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} [البقرة: 58]، وقوله في موضع آخر: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} [الأعراف: 161]، إذ القصة واحدة" (¬1). والحق أنها لا تفيد الترتيب، بدليل قوله تعالى: {قولوا أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب} [البقرة: 136]، ولا شك أن ما أنزل إلى محمد متأخر عما أنزل إلى إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء، ونحوه قوله تعالى: {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله} [الشورى: 3]، فلو كانت الواو تفيد الترتيب، لكان الوحي إليه قبل الوحي إلى الذين من قبله، وهو غير صحيح. وقد تقول إنها وردت للترتيب أيضا في القرآن الكريم، وذلك كقوله تعالى: {وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى} [البقرة: 136]، وهؤلاء مذكورون على الترتيب، وكما في آية الوضوء، وهي قوله تعالى: {إذ قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6]، فالأعضاء مذكورة بحسب الترتيب. فنقول: ليس معنى قولنا أنها لا تفيد الترتيب، إنها لا تأتي للترتيب البتة، بل قد تأتي للترتيب وتأتي لغيره، فقد يصح أن يكون المعطوف بعد المعطوف عليه، كما يصح أن يكون قبله أو مصاحبا له، فهي قد تأتي للترتيب ولا مانع من ذلك، وإنما ردنا على الذين يزعمون انها لا تكون إلا للترتيب، ولذا نرى في القرآن الكريم تقديم الشيء على الشيء في موضع ثم قد يتأخر المتقدم في موضع آخر، وذلك كتقديم الضرر والنفع، فهو مرة يقول: {ما لا ينفعهم ولا يضرهم} [الفرقان: 56]، ومرة يقول: {ما لا يضرهم ولا ينفعهم} [يونس: 18]. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 403، وانظر المغنى 2/ 354، المفصل 2/ 197، الجمل للزجاجي 31

وكتقدم اللعب واللهو، فمرة يقدم اللعب، وذلك كقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} [الأنعام: 32]، وقوله: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} [محمد: 36]، ومرة يقدم اللهو، وذلك كقوله تعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب} [العنكبوت: 64]. وكتقديم السماء والأرض، فهو مرة يقدم السماء على الأرض، وذلك كقوله تعالى: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض} [سبأ: 3]، ومرة يقدم الأرض على السماء، كما في قوله تعالى: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} [يونس: 61]. وكتقديم السجود والركوع، فهومرة يقدم الركوع على السجود، كما في قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم} [الحج: 77]، وقوله تعالى: {والركع السجود} [البقرة: 125]، ومرة يقدم السجود على الركوع، كما في قوله تعالى: {يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43]. وربما قدم شيئا في موطن، وأخره في موطن آخر والقصة واحدة، وذلك كما في قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} [البقرة: 58]، وقوله: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} [الأعراف: 161]، فقد قدم السجود على القول في البقرة، وقدم القول على السجود في الأعراف والقصة واحدة، ولا تناقض في هذا، إذ لو كانت الواو تفيد الترتيب لتناقض القولان. إن التقديم والتأخير بالواو، يدخل في عموم موضوع التقديم والتأخير، فالتقديم، إنما يكون للاهتمام والعناية بالمتقدم، وتختلف العناية باختلاف المواطن، فقد يعني المتكلم في موطن بأمر فيقدمه، وقد يكون العناية في موطن آخر بأمر فيقدم ذلك الشيء. وكلمة العناية والاهتمام عامة، ومظاهرها ومواطنها متعددة متشعبة، ولا يحسن الاكتفاء بأن تقول: إن ما قدم ههنا إنما قدم للعناية والاهتمام، دون أن نبين وجه الاهتمام، فإنك إذا قلت مثلا إنما قدم السماء على الأرض في سورة سبأ للعناية بالسماء وقدم الأرض على السماء في سورة يونس للعناية بالأرض، قيل لك: ولم كانت العناية هناك بالسماء وهنا بالأرض؟

وإذا قلت: إنما قدم السجود على القول في البقرة، للعناية والاهتمام بالسجود، وقدم القول على السجود في الأعراف للعناية بالقول، قيل: ولم كانت العناية بالقول أهم من السجود ههنا؟ فهذا كلام عام لا يتبينه كثير من الناس، وقد يصبح ستارا يخفي تحته الجهل، وعندئذ يكون هذا القول عبارة عن لكمة عامة مبهمة، لا معنى واضحا تحتها، بل لا معنى لها إلا التحكم المحض، لذا سنضرب أمثلة لطرف من أوجه العناية والاهتمام، تكون مراقاة لما فوقها، وهذا الموضوع - وإن كان يدخل في موضوع التقديم والتاخير - فيه فائدة كبيرة ههنا فيما أحسب لأنه ذو مساس باستعمال الواو. إن التقديم والتأخير تكون له أسباب متعددة يقتضيها السياق، فقد يكون السياق متدرجا حسب القدم والأولية في الوجود، فيترتب ذكر المعطوفات على هذا الأساس، وذلك نحو قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، فخلق الجن قبل الإنس، بدليل قوله تعالى: {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} [الحجر: 27]، ونحو {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255]، لأن السنة، وهي النعاس تسبق النوم. وقد يكون الكلام متدرجا من القلة إلى الكثرة، فترتب المذكورات بحسب ذلك، وذلك نحو قوله تعالى: {طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: 125]، فكل طائفة هي أقل من التي بعدها، فتدرج من القلة إلى الكثرة، فالطائفون أقل من العاكفين، لأن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة، والعكوف يكون في المساجد عموما، والعاكفون أقل من الراكعين لأن الركوع أي الصلاة تكون في كل أرض طاهرة، أما العكوف فلا يكون إلا في المساجد، والراكعون أقل من الساجدين، وذلك لأن لكل ركعة سجدتين، ثم إن كل راكع لابد أن يسجد، وقد يكون سجود ليس له ركوع، كسجود التلاوة وسجود الشكر، فهو هنا تدرج من القلة إلى الكثرة، ولهذا التدرج سبب اقتضاه المقام، فإن الكلام على بيت الحرام، قال تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: 125]، فالطائفون هم ألصق

المذكورين بالبيت، لأنهم يطوفون حوله فبدأ بهم، ثم تدرج إلى العاكفين في البيت، أو في بيوت الله عمومًا، ثم الركع السجود الذين يتوجهون إلى هذا البيت في ركوعهم، وسجودهم، وهم في كل الأرض (¬1). ونحوه قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج: 77]، فبدأ بالركوع وهو أقل المذكورات، ثم السجود وهو أكثر، ثم عبادة الرب وهو أعم، ثم فعل الخير، ولهذا سببه وذلك أنه لما قال قبل هذه الآية: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور} فبدأ بما هو أقرب إليهم وهو (ما بين أيديهم) ثم بما هو أعم وأكثر، وهو (ما خلفهم) جاء بالكلام على نسق ذلك، فتدرج من الأقل إلى الأكثر، ويمكن أن يقال أيضا، أنه بدأ بما هو من فعل العبد مع نفسه وربه، ثم تدرج إلى ما بينه وبين العباد، فبدأ بالركوع والسجود ثم عبادة الرب عمومًا، ثم فعل الخر متدرجا في ذلك بحسب الكثرة والعموم، والله أعلم. وقد يكون الكلام بالعكس فيتدرج من الكثرة إلى القلة، وذلك نحو قوله تعالى: {يامريم اقنتى لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43]، فتدرج من الكثرة إلى القلة، فبدأ بالقنوت وهو عموم العبادة، ثم السجود وهو أقل وأخص، ثم الركوع، وهو أقل وأخص (¬2). أو لملاحظ أخرى غير ما ذكرناها، كأن يكون السياق يعني بأمر أكثر من آخر، وذلك كتقديم الضرر على النفع، او بالعكس. جاء في (البرهان): " وحيث تقدم النفع على الضر فلتقدم ما يتضمن النفع (¬3). وكقوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} [البقرة: 58]، وقوله: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} [الأعراف: 161]. ¬

_ (¬1) انظر بدائع الفوائد: 1/ 65 (¬2) بدائع الفوائد 1/ 80 (¬3) البرهان: 1/ 122

وسبب تقديم السجود على القول في البقرة، هو أن السياق اقتضي ذلك، فقد جاءت هذه القصة في عقب الأمر بالصلاة، قال تعالى: {وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين، أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون، واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 43 - 45]، والسجود من أركان الصلاة، ثم أن المقام في البقرة مقام تعديد النعم، على بني إسرائيل، فقد بدأ هذه القصة بقوله تعالى: {يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} [البقرة: 47]، والسجود أفضل من قول حطة، فناسب ذلك تقديم السجود وكلا الأمرين مرفوع في الأعراف. ومنه تقديم السماء على الأرض في قوله تعالى: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض} [سبأ: 3]، وتقديم الأرض على السماء. في قوله: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} [يونس: 61]. وسر ذلك والله أعلم، أن الكلام في آية يونس على أهل الأرض وأحوالهم وسؤونهم وأن الله عالم بهم، قال تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} [يونس: 61]، في حين أن الكلام في سورة سبأ على الساعة والاتيان بها، والساعة إنما تأتي من السماء وتبدأ بأهل السماء، ولذا قدم السماء على الأرض، قال تعالى: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض} [سبأ: 3]. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {وما يعزب عن ربك من مثقال في الأرض ولا في السماء}: " فإن قلت: لم قدمت الأرض على السماء بخلاف قوله في سورة سبأ {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض}؟ قلت: حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته، على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله (لا يعزب عنه) لاءم ذلك أن قدم الأرض على السماء" (¬1). ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 79

وجاء في (بدائع الفوائد): " وأما تقديم الأرض عليها، أي السماء في قوله: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} وتأخيرها عنها في (سبأ) في ضمن قول الكفار: {لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض}، كيف قدم السماوات هنا لأن الساعة إنما تأتي من قبلها، وهي غيب فيها، ومن جهتها تبتديء وتنشأ، ولهذا قدم صعق أهل السماوات على أهل الأرض عندها، فقال تعالى: {ونفخ في الصورة فصعق من في السماوات ومن في الأرض} [الزمر: 68]. وأما تقديم الأرض على السماء في سورة يونس، فإنه لما كان السياق سياق تحذير وتهديد للبشر، وإعلامهم انه سبحانه عالم بأعمالهم، دقيقها وجليلها، وأنه لا يغيب عنه منها شيء، اقتضي ذلك ذكر محلهم، هو الأرض قبل ذكر السماء (¬1). ومنه قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} [الإسراء: 31]، وقوله: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} [الأنعام: 151]، فقدم رزق الأولاد على الآباء في الآية الأولى {نحن نرزقكم وإياكم}، وقدم رزق الآباء على الأولاد في الثانية، نحو {نرزقكم وإياهم} وسبب ذلك والله أعلم، أنه في الآية الأولى أنهم يقتلون اولادهم خشية الفقر، لا أنهم مفتقرون في الحال فقال: لا تقتلوهم فإنا نرزقهم وإياكم، أي أن لله جعل معهم رزقهم، فهم لا يشاركونكم في الرزق، فلا تخشوا الفقر. وأما في الآية الثانية فهم يقتلون أولادهم من الفقر الواقع بهم، لا أنهم يخشونه فهم في حاجة إلى الرزق الآتي السريع، ليعولوا أولادهم فعجل لهم ذاك فقال: {نحن نرزقكم وإياهم}. جاء في (بديع القرآن): " قوله تعالى في الأولى (من إملاق) ليشير إلى الخطاب للفقراء دون الأغنياء، فأوجبت البلاغة تقديم عدتهم بالرزق، وتكميل العدة برزق الأولاد .. وقال في الآية الثانية (خشية إملاق) ليشير إلى أن الخطاب للأغنياء، دون الفقراء، الذين يخافون أن تسلبهم كلف الأولاد ما بأيديهم من الغنى فوجب تقديم العدة برزق الأولاد .. فيأمنوا ما خافوه من الفقر (¬2). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 1/ 74 (¬2) بديع القرآنل 261، تحرير التحبير 561

إلى غير ذلك من موجبات التقديم التي يقتضيها السياق. فتبين من هذا أن الواو لمطلق الجمع، وليست للترتيب، غير أنه لا ينبغي أن يفهم من قولنا (أنها لمطلق الجمع) أنه يؤتى بها بين المتعاطفين، أو بين الحكمين بلا مناسبة بينهما ولا رابط، بل لابد من رابط بينهما، لا يصح أن تقول: رأيت محمدا وجبلا، ولا رأيت خالدا ونملة، بل لابد من رابط بين المتعاطفين، ولا سيما في الجمل: " والجامع بين الجملتين يجب أن يكون باعتبار المسند إليه في هذه، والمسند إليه في هذه، وباعتبار المسند في هذه، والمسند في هذه جميعا، كقولك يشعر زيد، ويكبت، ويعطي ويمنع، وقولك (زيد شاعر وعمرو كاتب) و (زيد طويل وعمرو قصير) إذا كان بينهما مناسبة كأن يكونا أخوين أو نظيرين بخلاف قولنا (زيد شاعر وعمرو كاتب) إذا لم يكن بينهما مناسبة، وقولنا (زيد شاعر وعمرو طويل) كان بينهما مناسبة أو لا (¬1). فلا يصح أن تربط بين مسند إليهما، ليس بينهما علاقة، ولا رابط فلا تقول (محمد شاعر وخالد كاتب) وليس بين محمد وخالد مناسبة البتة، ولا تقول (محمد شاعر وأخوك أحول) لأنه لا مناسبة بين الحكمين. جاء في (دلائل الإعجاز): " وذلك أن لا تقول (زيد قائم وعمرو قاعد) حتى يكون عمرو بسبب من زيد، وحتى يكونا كالنظيرين، والشريكين، وبحيث إذا عرف السامع حال الأول، عناه أن يعرف حال الثاني، يدلك على ذلك أنك إن جئت فعطفت على الأول شيئا ليس منه بسبب، ولا هو يذكر بذكره، ويتصل حديثه بحديثه، لم يستقم، قلو قلت: (خرجت اليوم من داري) ثم قلت (وأحسن الذي يقول بيت كذا) قلت ما يضحك منه ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله: لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم وذلك لأنه لا مناسبة بين كرم أبي الحسن ومرارة النوى، ولا تعلق لأحدهما بالآخر، وليس يقتضي الحديث بهذا الحديث بذاك. واعلم أنه كما يجب أن يكون المحدث عنه في إحدي الجملتين بسبب من المحدث ¬

_ (¬1) "الإيضاح" للقزويني 1/ 161 - 162

عنه في الأخرى كذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يرجي مجرى الشبيه، والنظير أو النقيض للخبر عن الأول، فلو قلت (زيد طويل القامة، وعمرو شاعر) كان خلفا لأنه مشاكلة ولا تعلق بين طول القامة وبين الشعر، وإنما الواجب أن يقال: (زيد كاتب وعمرو شاعر) و (زيد طويل وعمرو قصير). وجملة الأمر: أنها لا تجيء حتى يكون المعنى في هذه الجملة لفقا لمعنى في الأخرى، ومضاما له، مثل أن زيدا وعمرا كانا أخوين، أو نظيرين أو مشتبكي الأحوال على الجملة، كانت الحال التي يكون عليها أحدهما من قيام أو قعود أو شاكل ذلك مضمومة في النفس إلى الحال التي عليها الآخر من غير شك وكذا السبيل أبدًا. والمعاني في ذلك كالأشخاص، فإنما قلت مثلا (العلم حسن والجهل قبيح) لأن كون العلم حسنا مضموم في العقول إلى كون الجهل قبيحًا (¬1). ثم إنه قد يؤتى بالواو للدلالة على التأكيد والاهتمام بما بعدها، فقد تزاد الواو للتأكيد وجعل منه قولهم (ما من أحد إلا وله طمع وحسد) و (ما من أحد إلا وله نفس أمارة).جاء في الكليات لأبي البقاء: " قد يزاد بعد إلا لتأكيد الحكم المطلوب إثباته، إذا كان في محل الرد والإنكار نحو (ما من أحد إلا وله طمع وحسد (¬2).) وجاء في الكليات أيضا: وقالوا إذا دخلت على الشرط بعد تقديم الجزاء، يراد به تأكيد الوقوع بالكلام الأول، وتحقيقه كقولهم (أكرم أخاك وإن عاداك) أي أكره بكل حال (¬3). ومر بنا ما ذهب إليه الزمخشري من أنه يؤتى بالواو، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف وذلك في قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية من قرية إلا ولها كتاب معلوم} [الحجر: 4] ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 1/ 172 - 174 (¬2) الكليات 415 (¬3) الكليات 367

وقوله: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} [الكهف: 22]، فقد ذكر أن فائدة الواو تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر (¬1). وقد ذكرنا في واو الحال أنها قد تأتي للتأكيد والاهتمام، كما ذكرنا ذلك في باب عطف الأخبار والصفات. جاء في (بدائع الفوائد): " إن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم، وتقريره، يكون في الكلام متضمنا لنوع من التأكيد من مزيد التقرير، وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة إلى ما نحن فيه، إذا كان لرجل مثلا أربع صفات، هو عالم وجواد وشجاع، وغني وكان المخاطب لا يعلم ذلك، أو لا يقر به ويعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل، فإذا قلت (زيد عالم) وكان ذهنه استبعد ذلك فتقول: (وجواد) أي وهو مع ذلك جواد، فإذا قدرت استبعاده لذلك قلت: (وشجاع) أي وهو مع ذلك شجاع، وغني، فيكون في العطف مزيد تقرير توكيد، لا يحصل بدونه تدرأ توهم الإنكار" (¬2). جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17]، " الواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منهما" (¬3). وقد يأتي بالواو لقصد الدلالة على المغايرة، وذلك إذا كان طرحها يؤدي إلى أن يكون الثاني مفسرا للأول، وذلك نحو قوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [البقرة: 49]، فقال (يذبحون) بلا واو. وقال في سورة إبراهيم: {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم: 6]، فإن طرح الواو في الآية الأولى دل على أن التذبيح هو سوء العذاب، ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 255 (¬2) بدائع الفوائد 1/ 191 (¬3) الكشاف 1/ 313

والواو في الثانية أفادت المغايرة، فجعلت التذبيح غير سوء العذاب، وسر هذه المغايرة هو أن قوله تعالى: {يذبحون أبناءكم} بلا واو، وفي (إبراهيم) بالواو" لأن الأولى من كلامه تعالى لهم، فلم يعدد عليهم المحن تكريما في الخطاب، والثانية من كلام موسى فعددها عليهم" (¬1). جاء في (معاني القرآن): " فمعنى الواو أنهم يمسهم العذاب غير التذبيح، كأنه قال: يعذبونكم بغير الذبح والذبح. ومعنى طرح الواو كأنه تفسير لصفات العذاب، وإذا كان الخبر من العذاب أو الثواب مجملا في كلمة، ثم فسرته فاجعله بغير الواو، وإذا كان أوله غيره فبالواو، فمن المجمل قول الله عز وجل: {ومن يفعل ذلك يلق أثاما} [الفرقان: 68]، فالأثام فيه نية العذاب قليلة وكثيره، ثم فسره بغير الواو، فقال: {يضاعف له العذاب يوم القيامة} [الفرقان: 69] ولو كان غير مجمل لم يكن ما ليس به تفسيرا له، ألا ترى أنك تقول: عندي دابتان بقل وبردون، ولا يجوز عندي دابتان وبغل وبرذون، وأنت تريد تفسير الدابتين بالبغل والبرذون (¬2). وقد يؤتي بها للتنصيص على جمع حكمين، وذلك إذا كان طرحها يحتمل الاضراب عن الحكم الأول، كما تقول (ضربت محمدا وخالدا) فإنك دللت بالواو أنك ضربتهما جميعا، فإن طرحت الواو دل على أنك ضربت خالدا، وأضربت عن الحكم السابق. جاء في دلائل الإعجاز: " واعلم أنه إذا كان المخبر عنه في الجملتين، واحدا كقولنا: هو يقول ويفعل ويضر وينفع، ويسيء، ويحسن، ويأمر وينهى، ويحل ويعقد، ويأخذ، ويعطي ويبيع ويشتري ويأكل ويشرب وأشباه ذلك ازداد معنى الجمع في الواو قوة وظهورا، وكان الأمر حينئذ صريحا، وذلك أنك إذا قلت: هو يضر وينفع كنت قد أفدت بالواو، أنك أوجبت له الفعلين جميعا، وجعلته يفعلهما معا، ولو قلت (يضر ينفع) من غير واو لم يجب ذلك، بل قد يجوز أن يكون قولك (ينفع) رجوعا عن قولك (يضر) وإبطالا له" (¬3). ¬

_ (¬1) الاتقان 2/ 115، وانظر معترك الاقران 1/ 78 - 88 (¬2) معاني القرآن 2/ 68 - 69 (¬3) دلائل الإعجاز 174

أحكام الواو

وقد يؤتى بالواو للدلالة على الاستمرار والتكثير، وذلك في الأفعال خاصة وذلك نحو: هو يركض ويركض، أي مستمر على ذلك، وأخذ يدور ويدور، أي يكثر من ذلك، وهو مستمر عليه. أحكام الواو: ذكر النحاة أن الواو تنفرد بأحكام أشهرها: 1 - إقترانها بإما نحو (خذ إما درهما، وإما دينارا) 2 - إقترانها بـ (لكن)، نحو (ما جاء محمد ولكن خالد). 3 - اقترانها بـ (لا) إن سبقت بنفي، نحو (ما جاءني محمد ولا سعيد) " ليفيد أن الفعل منفي عنهما في حالة الإجتماع والافتراق .. إذ لو لم تدخل (لا) لاحتمل أن المراد نفي المجيء عند الاجتماع، دون الافتراق" (¬1). فأنت إذا قلت (ما جاءني محمد وسعيد) احتمل أن المراد لم يحضرا معا، وقد يكون كل منهما حضر على حدة، فجئت بـ (لا) لنفي مجيئتهما على كل حال. 4 - عطف العقد على النيف، إذا وقعا دفعة واحد كأحد وعشرين (¬2). فإن تأخر وقوع العقد، جاز أن تقول (قبضت ثلاثة فعشرين، أو ثم عشرين) (¬3). 5 - عطف ما لا يستغني عنه، قال ابن عقيل: " اختصت الواو من بين حروف العطف بأنها يعطف بها حيث لا يكفي بالمعطوف عليه، نحو (اختصم زيد وعمرو) ولو قلت (اختصم زيد) لم يجز، ومثله (اصطفى هذا وابني) و (تشارك زيد وعمرو)، ولا يجوز أن يعطف في هذه المواضع بالفاء، ولا بغيرها من حروف العطف (¬4). ¬

_ (¬1) الهمع 2/ 129 (¬2) المغنى 2/ 355 - 357 (¬3) الصبان 3/ 92 (¬4) شرح ابن عقيل 2/ 61

وأما قولك (اختصم الزيدون فالخالدون، أو ثم الخالدون) فيدل على الزيدين اختصموا أولا، فيما بينهم، ثم تبعهم الخالدون فاختصموا بينهم أيضا (¬1). فإن أردت اختصام الزيدين والخالدين معا، لم يجز إلا أن تقول: اختصم الزيدون، والخالدون. ومن هذا قوله تعالى: {وما يستوي الأعمي والبصير} [غافر: 58]، لأن الفعل (استوي) يقضي أمرين، وأما قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} [فصلت: 34]، فقالوا فيه: إن (لا) الثانية زائدة لأمن اللبس، وكذا قوله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور} [فاطر: 19، 20] (¬2). وذهب آخرون إلى أن المعنى، أن الحسنات لا تستوي فيما بينها، وكذلك السيئات فحسنة أعظم من حسنة، وسيئة أكبر من سيئة، فجيء بـ (لا) لهذا المعنى. جاء في (البرهان): " وأما قوله: {ولا تستوى الحسنة ولا السيئة} فمن قال: المراد أن الحسن لا تساوي السيئة، فـ (لا) عنده زائده، ومن قال أن جنس الحسنة لايستوي أفراده وجنس السيئة لا يستوي افراده - وهو الظاهر من سياق الآية - فليست زائدة الواو عاطفة جملة على جملة (¬3). وقد ورد هذا الفعل في نحو هذا التعبير في خمسة مواطن من القرآن الكريم، هي قوله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات} [فاطر: 18 - 22]. وقوله: {وما يستوي الأعمى والبصير والذين أمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء} [غافر: 58]. وقوله: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن} [فصلت: 34]. ¬

_ (¬1) انظر التصريح 3/ 136، حاشية يس على التصريح 2/ 136 (¬2) الهمع 2/ 129 (¬3) البرهان 4/ 357

وكل هذه المواطن تحتمل أن يكون قصد الاستواء في الجنس نفسه، فيمكن أن يقال أن الظلمات لا تستوي فيما بينها، والنور لا يستوي فقد تكون الظلمات بعضها أشد من بعض وكذلك النور، وكذلك قوله: (ولا الظل ولا الحرور) فإن الظل لا يستوي في جنسه والحرور أيضا، ونحو قوله: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} فإن الأموات لا يستوون وكذلك الأحياء، وكذلك ما بعده، فالمؤمنون لا يستوون والمسيئون لا يستوون، والحسنة لا تستوي والسيئة لا تستوي، كل هذا ممكن لغة. ويحتمل أيضا زيادة (لا) والمقصود نفي الاستواء بين المتعاطفين. وعلى هذا فإنه يمكن أن يقال: إذا ورد بـ (لا) احتمل أن يكون معناه نفي استواء الجنس فيما بينه، كما يحتمل نفي الاستواء بين المتعاطفين، اللهم إلا فيما لا يمكن أن يكون جنسا، كما إذا ورد نحو قولنا (ما يستوي محمد ولا خالد) فإنه في نحو هذا تتعين زيادة (لا) لأمن اللبس، و (لا) تزاد كثيرا للتوكيد عند أمن اللبس، وذلك نحو قوله تعالى: {قال ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12]، أي ما منعك أن تسجد؟ فإن لم يرد التعبير بـ (لا) تعين أن المقصود نفي الاستواء بين المتعاطفين. 6 - عطف الشيء على نفسه، أو على مرادفه بشرط زيادة فائدة في المعطوف ليست في المعطوف عليه، فإن لم تكن فائدة لم يصح العطف، وذلك نحو قوله تعالى، {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل واسحاق إلها واحدا} [البقرة: 133]، فإله آبائه هو الهه ولذا قال (الها واحدا) وصح العطف، لأن في الثاني زيادة فائدة ليست في الأول. ومنه: {فلله الحمد رب العالمين ورب الأرض رب العالمين} [الجاثية: 36]، وقوله: {تلك آيات الكتاب وقرءان مبين} [الحجر: 1]، ونحوه أن تقول (هذا صديقك وصديق خالد). جاء في الأصول: " تقول مررت بزيد أنيسك وصاحبك، فإن قلت: مررت بزيد أخيك فصاحبك والصاحب زيد لم يجز" (¬1). ¬

_ (¬1) الأصول في النحو 2/ 77

فهذا كله من باب عطف الشيء على نفسه لزيادة فائدة. ومن عطف الشيء على مرادفه قولك: (هذا كذب وافتراء) والافتراء كذب، ومنه قول الشاعر: والفى قولها كذبا ومينا. والمين كذب، وجعلوا منه قوله تعالى: {إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله} [يوسف: 86]، وقوله: {فلا يخاف ظلما ولا هضما} [طه: 112]، وقوله: {لا تخف دركا ولا تخشى} [طه: 77]، وقوله: {لا ترى فيها عوجا ولا أمتا} [طه: 107]، وقوله: {لا تبقى ولا تذر} [المدثر: 28] (¬1). وكل ذلك لزيادة فائدة في الثاني ليست في الأولى، فإن لم تكن فائدة في المعطوف فلا يصح العطف، فلا تقول (هذا بر وحنطة) و (هذه مدية وسكين). جاء في (بدائع الفوائد): " القاعدة أن الشيء لا يعطف على نفسه .. فإذا وجدت مثل قولهم (كذبا ومينا) فهو لمعنى زائد في اللفظ الثاني وإن خفي عنك، ولهذا يبعد جدا أن يجيء في كلامهم (جاء عمر وأبو حفص) .. فإن الواو إنما تجمع بين الشيئين لا بين الشيء الواحد، فإذا كان في الاسم الثاني فائدة زائدة على معنى الاسم كنت مخيرا في العطف وتركه (¬2). وقيل: إن عطف أحد المترادفين على الآخر يقصد منه التأكيد (¬3).، والتأكيد غير عزيز في كلامهم. 7 - عطف العام على الخاص، وذلك نحو قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم} [الحجر: 87]، وقوله: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى ¬

_ (¬1) الاتقان 2/ 71، وانظر المغنى 2/ 357 (¬2) بدائع الفوائد 1/ 189 (¬3) الاتقان 2/ 71

الفاء

إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم [البقرة: 136]، وقوله: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} [نوح: 28]. وأما عطف الخاص على العام، نحو قوله تعالى: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} [البقرة: 98]، وقوله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238]، فلا تختص الواو بها، بل قد يشاركها فيه غيرها، وذلك نحو مات الناس حتى الأنبياء (¬1). الفاء وتفيد الترتيب والتعقيب ومعنى الترتيب أن المعطوف بها يكون لاحقا لما قبلها، فإذا قلت: (جاء محمد فخالد) كان المعنى أن مجيء محمد كان قبل مجيء خالد. جاء في (الكتاب): " ومن ذلك قولك (مررت بزيد فعمرو) و (مررت برجل فامرأة) فالفاء اشركت بينهما في المرور وجعلت الأول مبدوءا به (¬2). وربما لا تفيد ترتيبا، بل قد تكون لعطف مفصل على مجمل وهو ما يسميه النحاة الترتيب الذكري، وذلك نحو قوله تعالى: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة} [النساء: 153]، فقوله: (أرنا الله جهرة) تفصيل لقوله (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) فالسؤال مجمل بينه بقوله (أرنا الله جهرة). ومنه قوله تعالى: {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي} [هود: 45]، فقوله: {فقال رب إني ابني من أهلي} تفصيل للنداء، ومنه قوله: {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} [الزخرف: 55]، فالإغراق تفصيل للانتقام، ومنه قوله: {وكم من ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 138 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 218

قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون} [الأعراف: 4]، ونحوه قولهم: (توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه) فقوله (غسل وجه .. إلخ) تفصيل للوضوء ونحوه " أجبته فقلت لبيك" (¬1). وأما التعقيب فمعناه أن وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه بغير مهلة أو بمدة قريبة. جاء في (كتاب سيبويه): " والفاء تضم الشيء إلى الشيء كما فعلت الواو، غير أنها تجعل ذلك متاسقا بعضه في أثر بعض وذلك قولك: مررت بعمرو فزيد فخالد، وسقط المطر بمكان كذا وكذا فمكان كذا وكذا" (¬2). وجاء في (المقتضب): " وهي توجب أن الثاني بعد الأول وإن الأمر بينهما قريب (¬3). جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {فانطلقا حتى إذا لقيا غلما فقتله قال أقتلت نفسا} [الكهف: 74]: " فإن قلت: لم قيل {حتى إذا ركبا في السفينة خرقها} بغير فاء، و {حتى إذا لقينا غلاما فقتله} بالفاء؟ قلت: جعل (خرقها) جزاء للشرط وجعل (قتله) من جملة الشرط، معطوفا عليه، والجزء (قال اقتلت). فإن قلت: فلم خولف بينهما؟ قلت: لأن خرق السفينة لم يتعقب القتل لقاء الغلام (¬4). ثم أن تعقيب كل شيء بحسبه " ألا ترى أنه يقال تزوج فلان فولد له، إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل، وإن كانت متطاولة، و (دخلت البصرة فبغداد) إذا لم تقم في البصرة ولا بين البلدين (¬5). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 404، المغنى 1/ 161 (¬2) كتاب سيبويه 2/ 304 (¬3) المقتضب 1/ 10، الجمل 31 (¬4) الكشاف 2/ 66 (¬5) المغني 1/ 161 - 162

جاء في (شرح قطر الندى): " وتعقيب كل شيء بحسبه، فإذا قلت (دخلت البصرة فبغداد)، وكان بينهما ثلاثة أيام، ودخلت بعد الثالث، فذلك تعقيب في مثل هذا عادة فإذا دخلت بعد الرابع أو الخامس، فليس بتعقيب ولم يجز الكلام" (¬1). وفي شرح ابن يعيش: أن معنى قولك (دخلت الكوفة فالبصرة). " إن البصرة داخلة في الدخول، كالكوفة على سبيل الاتصال، ومعنى ذلك أنه لم يقطع سيره الذي دخل به الكوفة حتى اتصل بالسير الذي دخل به البصرة من غير فتور ولا مهلة (¬2). غير أن في لزوم إفادة الفاء التعقيب بحثا فقد ورد في القرآن الكريم التعبير بالفاء في غير ما يفيد التعقيب، وذلك نحو قوله تعالى: {والذي أخرج المرعي فجعله غثاء أحوى} [الأعلى: 4 - 5]، فجعله غثاء أسود لا يعقب خروج المرعي، بل يكون بعده بمدة بدليل قوله تعالى في آية أخرى {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما} [الزمر: 21]، فعبر عن جعله حطاما بـ (ثم)، ونحوه ما جاء في سورة الحديد: {كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما} [الحديد: 20]. ومن ذلك قوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} [البقرة: 22]، فاخراج الثمرات لا يعقب نزول الماء بل بينهما مهلة ومدة، ونحوه قوله تعالى: {خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين} [النحل: 4]، وخصومة الإنسان لا تعقب كونه نطفة، بل إن الإنسان ينتقل في أطوار حتى يبلغ الرشد، قال تعالى: {يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم} [الحج: 5]، فعبر عما دون ذلك وأقرب منه بـ (ثم). ¬

_ (¬1) شرح قطر الندى 302 (¬2) شرح ابن يعيش 8/ 95

وللنحاة في ذلك تخريجات منها أن الفاء نابت عن (ثم)، ومنها أن في الكلام حذفًا يقتضيه المعنى إذ التقدير في آية الأعلى " والذي أخرج المرعى فمضت مدة فجعله غثاء (¬1). ومثل هذا الحذف كثير في القرآن الكريم فإنه - أي القرآن - يذكر ما يريد ذكره وما هو محط العناية والاهتمام ويطوي ما عدا ذلك، فلا يذكره وذلك نحو قوله تعالى: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} [البقرة: 60]، أي فضربه فانفجرت فحذف الفعل، (فضربه) لأنه مفهوم من السياق، ولأنه لا يتعلق غرض بذكره، فقوله {فانفجرت} في عقب الفعل المحذوف لا في عقب (فقلنا اضرب). ونحوه قوله تعالى: {فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا} [الفرقان: 36]، فإن التقدير: فذهبا إلى أولئك القوم فدعوا هم إلى عبادة الله وأرياهم آياته فكذبوهما فدمرناهم تدميرا، فقوله: {فدمرناهم تدميرا} ليس في عقب (فقلنا اذهبا) وإنما في عقب المحذوف وهو التكذيب بالآيات الذي هو مفهوم من السياق. وهناك توجيه آخر، وهو أن الأصل في الفاء أن تكون للتعقيب، وهذا التعقيب قد يكون حقيقا، وذلك كما في قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره} [عبس: 21]، وقوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس} [البقرة: 34]. وقد يكون التعقيب مجازيا كما في قوله تعالى: {والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوي} ومعنى التعقيب المجازي أن المقام يقتضي المتكلم تقصير المدة الطويلة فيأتي بالفاء وقد يقتضيه العكس فيأتي بـ (ثم)، فيقال مثلا في مقام: (الدنيا طويلة)، وفي مقام يقال: (الدنيا قصيرة)، ألا ترى إنك تقد تقول مهددا خصمك: (الأيام طويلة وأنا لك بالمرصاد) وفي مقام تقول: (الدنيا قصيرة وسنلتقي عند أحكم الحاكمين). ¬

_ (¬1) حاشية الخضري 2/ 6

ثم ألا ترى أنك قد تكون في مقام تريد فيه أن تبين طول الدنيا وتقلبها، فتقول: (إن هذه الدنيا طويلة تغر الحليم وتغير النفوس، وكثيرا ما تتغير الطباع بتبدل الدهر وطول الزمان وتغير الحدثان) وتقول: (إن الصبر قد ينفد في هذا العمر الطويل، والنفس لا تحتمل مثل هذه المشقة، والمرارة طوال أيام العمر). وقد تكون في مقام تريد فيه النهي عن الانصراف إلى الدنيا، فتقصرها في عين الرائي فتقول: (إنها سريعة الفناء والزوال، وكثيرا ما شاهدنا أناسا ذوي سطوة وجاه، زالوا في أسرع من لحظة العين، فاللبيب اللبيب من شمر للآخرة، وسعى لها سعيها ولا يغتر بهذه الدنيا الخداعة). فإذا كان المقام مقام تطويل، جئت بـ (ثم)، وإذا كان المقام مقام تقصير، جئت بالفاء فتقول مثلا: (ألا ترى إلى فلان كيف نشأ من أبوين فقيرين، ثم كبر ثم ساد، ثم انتزع الملك من بني فلان، وحكم ما شاء الله له ان يحكم، وبقي أولئك يتربصون به ويستعدون ويجمعون عليه الأنصار، ثم انقضوا عليه فأهلكوه). فإذا أردت أن تقصر ذلك، قلت: (ألا ترى إلى فلان كيف ساد وملك، فإذا هو بعد مرة كأن لم يكن فأصبح أثرا بعد عين وغيبا بعد شهود). ولكل مقام مقال. وقد تفيد الفاء الدلالة على السبب، وذلك كقوله تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه} [القصص: 15]، ونحو قولك (أغضب خالد أباه فأهانه) و (أكل فشبع)، و (تعب فنام) فيؤتي بالفاء لإرادة السببية، ومن ذلك قوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} [البقرة: 22]، فالفاء أفادت السبب، فإذا أردنا السبب لم يصح الإتيان بـ (ثم)، لأنها لا تفيده، بل تأتي بالفاء وإن كان ثمة تراخ، فإن فاء السبب لا تفيد التعقيب دوما، بل هي قد تفيده، كما في قوله تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه} وربما لا تفيده نحو: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم}.

جاء في (الأمالي النحوية) لابن الحاجب في قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} [الحج: 63]، " الفاء للتعقيب من غير مهلة، وإصباح الأرض مخضرة بعد الإنزال إنما يكون بمهلة، أن هذه الفاء فاء السببية، وفاء السببية لا يشترط فيها ذلك وإنما شرطها أن يكون ما بعدها مسببا عن الأول كما لو صرح بالشرط، ألا ترى إلى صحة قولك: (أن يسلم زيد فهو يدخل الجنة) مع العلم بالمهملة العظيمة بينهما" (¬1). ويمكن أن يكون من ذلك قوله تعالى: {خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين} [النحل: 4]، فإنه يمكن أن يخرج على أن القصد إسراع الإنسان في الخصومة فليس بين كونه نطفة، وكونه خصيما إلا فترة النمو، فهو من قبيل (تزوج فلان فولد له)، ويمكن حمل ذلك على السببية أي كان عاقبة خلقه من نطفة، والإحسان إليه خصومته لربه فكأنما خلقه كان سببا للخصومة. وذلك أنك تقول: (مدحني فكافأته، وأسديت له معروفا فشكرني) فالمدح سبب المكافأة، وإسداء المعروف سبب الشكر، وقد يكون الجزء على عكس المؤمل والمرجو كما تقول (أحسنت إليه فأساء إلي، ودفعت عنه فشتمني) أي كان إحساني إليه سببا للإساءة إلي ودفعني عنه كان سببا لشتمي، وعلى هذا يمكن حمل قوله تعالى {خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين} أي هو بدل أن يكون شاكرا لربه عارفا له حقه كان خصما له، جاحدًا لنعمه، كما تقول: (غذوته وربيته فإذا هو عدو لي أي أن غذائي وتربيتي إياه كان سببا لعداوتي. ولا تؤدي (ثم) هذا المعنى. والفاء العاطفة لا تفيد السبب دومًا، بل هي قد تفيد، كما في قوله تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه}، وربما لم تفده كما في قوله تعالى: {فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم} [الذاريات: 26، 27] (¬2). ¬

_ (¬1) الأمالي النحوية: 4 (¬2) المغني 1/ 163

الفاء مع الصفات

الفاء مع الصفات: ذكر الزمخشري أن للفاء مع الصفات ثلاثة أحوال. "أحدها أن تدل على ترتيب معانيها في الوجود كقوله: يالهف زيابة للحارث الصـ ... ـــابح فالغانم فالآيب أي: الذي صبح فغنم فآب. ونحوه أن تقول: (مررت برجل خادع صاحبه فقاتله) أي خدعه فقتله، فالخداع قبل القتل. والثاني أن تدل على ترتيبها من بعض الوجوه، نحو قولك: خذ الأكمل فالأفضل واعل الأحسن فالأجمل". ونحو ذلك أن تقول: إبدأ بالأسهل فالأصعب، واحفظ السور القصار فالطوال. " والثالث أن تدل على ترتيب موصوفاتها في ذلك، نحو (رحم الله المحلقين فالمقصرين (¬1). فالمحلقون أفضل من المقصرين فبدأ بهم بحسب ترتيبهم في الفضل، ونحو ذلك، أن يقال: (يتقدم الأقرأ فالأسن) فالأقرأ أفضل من الأسن. وهي في كل ذلك تفيد الترتيب، سواء كان الترتيب في الحدوث أم غيره. ثم: حرف عطف يفيد الترتيب والتراخي، ومعنى التراخي المهلة، فإذا قلت (أقبل محمد ثم خالد) كان المعنى أنه أقبل محمد أولا وبعده بمهلة أقبل خالد. جاء في (كتاب سيبويه): " ومن ذلك: مررت برجل ثم امرأة، فالمرور ههنا مروران وجعلت (ثم) الأول مبدوءا به، وأشركت بينهما في الجر (¬2). ¬

_ (¬1) المغني 1/ 163 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 218

وجاء في (المقتضب): " وثم مثل الفاء إلا أنها أشد تراخيا (¬1). وجاء في (جواهر الأدب) أن (ثم) حرف " يفيد الترتيب كالفاء مع المهلة والتراخي لأنها أكثر حروفاً منها" (¬2). قال تعالى: {أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره} [عبس: 21 - 22]، فعقب بالفاء بعد (أماته) لأن الإقبار في عقب الموت، وراخي بعد ذلك لأن النشور يتأخر (¬3). وقال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون} [يس: 37]، فجاء بالفاء لأن الليل يعقب النهار (¬4). وقال: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} [الروم: 20]، فجاء بـ (ثم) لأن البشر المنتشر متراخ عن كونه ترابا، وبينهما مهلة. جاء في (تفسير الرازي) في قوله: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} وقوله: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 25]، " قال ههنا (إذا أنتم تخرجون) وقال في خلق الإنسان أولا (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) فنقول هناك يكون خلق وتقدير وتدريج وتراخ، حتى يصير التراب قابلا للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر، وأما في الإعادة لا يكون تدرج وتراخ بل يكون نداء وخروج، فلم يقل ههنا (ثم) (¬5). وخالف قوم في اقتضائها الترتيب والتراخي، واستدلوا على عدم الترتيب بقوله تعالى {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها} [الزمر: 6]، فإن خلق الزوج ليس بعد خلقهم من نفس واحدة، وبقول الشاعر: ¬

_ (¬1) المقتضب 1/ 10، وانظر للزجاجي 31، المفصل 2/ 197 (¬2) جواهر الأدب 216 (¬3) انظر التصريح 2/ 140 (¬4) انظر روح المعاني 23/ 10 (¬5) التفسير الكبير 25/ 116

إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده فسيادة الأب ليست بعد سيادة الابن. واستدلوا على عدم التراخي بقولهم (أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب " لأن (ثم) في ذلك لترتيب الإخبار، ولا تراخي بين الإخبارين (¬1). وبقوله: كهز الرديني تحت العجاج ... جرى في الأنابيب ثم اضطرب " إذا الهز متى جرى في أنابيب الرمح، يعقبه الإضطراب ولم يتراخ عنه (¬2). وأجيب عن ذلك بإجابات: منها: أنه في الآية الكريمة أراد أن يذكر بدء خلق الإنسانن فذكر أنه خلقهم من نفس واحدة، خلق منها زوجها، وليس القصد أنه جعل زوجها بعد خلقهم من النفس الواحدة. ومنها أن الترتيب مخصوص بالمفردات، " مستدلين بعدم الترتيب في قوله تعالى: {فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على مايفعلون} [يونس: 46]، وقوله تعالى: {استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} [هود: 52]، .. ورد بأن الترتيب للأخبار لا للمخبر عنه، كقولهم: زيد عالم كريم ثم هو شجاع (¬3). ومنها أنها لمجرد الترتيب في الذكر جاء في (شرخ الرضي على الكافية): " وقد تجيء (ثم) لمجرد الترتيب في الذكر والتدرج في درج الإرتقاء وذكر ما هو الأولى، ثم الأولى من دون اعتبار التراخي والبعد ¬

_ (¬1) المغني 1/ 118 (¬2) المغني 1/ 119 (¬3) جواهر الأدب 216

بين تلك الدرج، ولا أن الثاني بعد الأول في الزمان، بل ربما يكون قبله كما في قوله: إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده فالمقصود ترتيب درجات معالي الممدوح فابتدأ بسيادته، ثم بسيادة أبيه، ثم بسيادة جده، وإن كان سيادة الأب مقدمة في الزمان على سيادة نفسه .. وقد تكون (ثم) والفاء أيضا لمجرد التدرج في الارتقاء، وإن لم يكن الثاني مرتبا في الذكر على الأول، وذلك إذا تكرر الأول بلفظه، نحو بالله، ووالله، ثم والله، وقوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الإنفطار: 17 - 18]، وقوله تعالى: {كلا سيوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} [التكاثر: 3 - 4]، وقوله {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: 82]، أي ثم بقي على ذلك الهدى من التوبة والإيمان والعمل الصالح، كما قيل في {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]، أي أبقنا عليه، فاستعمل (ثم) أما نظرا إلى تمام البقاء أو استبعادا لمرتبة البقاء عليها من مرتبة ابتدائها، لأن البقاء عليها أفضل" (¬1). وأما التراخي فقد أجيب عنه، أن (ثم) واقعة موقع الفاء في قوله: {جرى في الأنابيب ثم أضطرب}. (¬2). والحق أنه ليس المقصود بالتراخي المهلة الزمانية فقط، بل عموم البعد والتباين سواء كان ذلك في الزمان أم في الصفات أم في غيرهما، وذلك أن هذه اللفظة تفيد البعد عمومًا، فهي بفتح الثاء (ثم) إشارة إلى المكان البعيد، ويضم الثاء للتراخي في الزمان والبعد في الصفات والأحوال، يدل على ذلك استعمالها الكثير في فصيح الكلام. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وقد تجيء في الجمل خاصة لاستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها، وعدم مناسبته له، كما ذكرنا في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 407 (¬2) المغني 1/ 118 - 119

{ثم أنشأناه خلقا آخر} [المؤمنون: 14]، وكقوله تعالى: {خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} [الأنعام: 1]، فالإشراك بخالق السماوات والأرض مستبعد غير مناسب، وهذا المعنى فرع التراخي ومجازه" (¬1). وجاء في (البرهان): " قال ابن بري: قد تجي (ثم) كثيرا لتفاوت ما بين رتبتين في قصد المتكلم فيه تفاوت ما بين مرتبتي الفعل مع السكوت عن تفاوت رتبتي الفاعل كقوله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} فـ (ثم) هنا لتفاوت رتبة الخلق والجعل، من رتبة العدل مع السكوت عن وصف العادلين. ومثله قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} [البلد: 11]، إلى قوله: {ثم كان من الذين امنوا} [البلد: 17] (¬2). دخلت لبيان تفاوت رتبة الفك والإطعام من رتبة الإيمان .. وذكر غيره في قوله: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} أن ثم دخلت لبعد ما بين الكفر وبين خلق السماوات والأرض. وعلى ذلك جرى الزمخشري في مواضع كثيرة من الكشاف .. قوله: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت: 30]، قال: كلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في جاء زيد ثم عمرو، أعني أن منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه لأنها أعلى منها وأفضل .. والحاصل أنها: للتراخي في زمان وهو المعبر عنه بالمهلة. ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 406 (¬2) يعني الآيات: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين أمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} [البلد: 11 - 17]

وتكون للتباين في الصفات وغيرها من غير قصد مهلة زمانية، بل ليعلم موقع ما يعطف بها وحاله، وأنه لو انفرد لكان كافيا فيما قصد فيه، ولم يقصد في هذا ترتيب زماني، بل تعظيم الحال فيما عطف عليه وتوقعه وتحريك النفوس لاعتباره (¬1). وجاء في (الكشاف) في قوله: {كتاب أحكمت أياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود: 12]، فإن قلت: ما معنى ثم؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول هي محكمة أحسن الأحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفصل (¬2). وجاء فيه في قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} [السجدة: 22]، " ثم في قوله (ثم أعرض عنها) للإستبعاد والمعنى لأن الأعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وأنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمي بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل، كما تقول لصاحبك: (وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها) استبعادا لتركه الانتهاز ومنه (ثم) في بيت الحماسة: لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها أستبعد أن يزور غمرات الموت بعد ان رآها واستيقنها وأطلع على شدتها (¬3). قال تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17]، فلو كان المقصود بـ (ثم) التراخي في الزمان لتناقض ذلك مع قوله تعالى: {ثم يتوبون من قريب} ولكنها دخلت لبعد ما بين الحالين: عمل السوء والتوبة من قريب. وقال صلى الله عليه وسلم: " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل" ¬

_ (¬1) البرهان 4/ 266 (¬2) الكشاف 2/ 90 (¬3) الكشاف 2/ 526

حتى

فليس ههنا تراخ في الزمان بين الابتلاء، وإنما التراخي في الوصف فجاء بعد الانبياء بـ (ثم) وذلك لأن التفاوت كبير بين الأنبياء وغيرهم، وجاء فيمن بعدهم بالفاء لأنهم قد يتقاربون في الأمثلية. وأما قوله تعالى: {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} [التكاثر: 3 - 4]، فقالوا فيه إنها داخلة للتوكيد، وقيل بل أن العلم الأول في القبر، والعلم الثاني في الآخرة، وكذلك قالوا في قوله: {لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين} [التكاثر: 6 - 7]. وهي للتوكيد في نحو قولنا: (والله إنه لكاذب، ثم كاذب، ثم كاذب) ولعل القصد إيغاله بعيدا في هذه الصفة الذميمة، وهي كذلك في قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الإنفطار: 17 - 18]، ولعلها لتبعيد المعرفة، أو استبعادها. ويبدو لي أنها تدخل على التوكيد اللفظي للايغال في التوكيد. حتى: حتى عطف يفيد الغاية نحو (يمرض الناس جميعا حتى الأطباء) وشرط معطوفها أن يكون بعضا من المعطوف أو كبعضه، ففي المثال السابق الأطباء جزء من الناس ونحوه (نجح الطلاب حتى الكسالى) فالكسالى جزء من الطلاب، ونحو (أكلت السمكة حتى رأسها) و (حطمت التمثال حتى قدمه) فالرأس جزء من السمكة، وكذلك القدم جزء من التمثال، ولا تقول: (حضر الرجال حتى النساء) ولا (أكلت الفاكهة حتى السمك) لأن النساء لسن جزءا من الرجال والسمك ليس جزءا من الفاكهة. ومثال ما هو كالحزء قولك: (أعجبني خالد حتى حلمه) فالحلم كالجزء من خالد، و (راعتني حديقتك حتى تنظيمها) و (أعجبتني الجارية حتى حديثها) (¬1). كما يشترط في المعطوف بها أن يكون غاية لما قبلها في زيادة أو نقص، ومعنى الغاية في الزيادة والنقص، أن المعطوف بها يكون آخر الأجزاء " إذا رتبت الأجزاء الأقوى ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 127، حاشية الخضري 2/ 62، شرح ابن يعيش 8/ 16

فالأقوى فإذا ابتدأت بقصدك من الجانب الأضعف مصعدا كان آخر الأجزاء أقواها نحو (مات الناس حتى محمد عليه الصلاة والسلام) بالعطف وليس هو صلى الله عليه وسلم آخرها حسبا، ولا دخولا بل هو آخرهم قوة وشرفا، وإذا ابتدأت بعنايتك من الجانب الأقوى منحدرا كان آخر الأجزاء أضعفها نحو (قدم الحاج حتى المشاة) عطفا، ويجوز أن يكونوا قادمين قبل الركبان أو معهم" (¬1). وجاء في (الأصول): " وإنما يذكر - أي الاسم بعد (حتى) - لتحقير أو تعظيم أو قوة أو ضعف وذلك قولك (ضربت القوم حتى زيد) فـ (زيد) من القوم وانتهى الضرب به فهو مضروب مفعول، ولا يخلو أن يكون أحقر من ضربت أو أعظمهم شأنا وإلا فلا معنى لذكره، وكذلك المعنى إذا كانت عاطفة كما تعطف الواو، تقول (ضربت القوم حتى عمرا) فـ (عمرو) من القوم، به انتهى الضرب (وقدم الحاج حتى المشاة والنساء) فهذا في التحقير والضعف. وتقول: (مات الناس حتى الأنبياء والملوك) فهذا في التعظيم والقوة (¬2). وهذا هو الغالب وليس لازما، فإنه قد يكون العطف بها أو الجر يفيد الغاية، فحسب من دون تعظيم أو تحقير، وذلك نحو قولك (قرأت القرآن حتى سورة الناس) عطفا أو جرا، فهذا للغاية في كون سورة الناس آخر القرآن، وليس لتحقير أو تعظيم، ونحو قولك (قرأت الكتاب حتى الصفحة الأخيرة). وهي تعطف المفردات ولا تعطف الجمل (¬3). فهي في قولك (أكرمت أخاك حتى قمت على رأسه)، وقوله: فما زالت القتلى تمج دماءها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 361 (¬2) الأصول 1/ 516 - 517، وانظر المفصل 2/ 197 (¬3) انظر المغنى 1/ 127، التصريح 2/ 141، حاشية الخضري 2/ 62

ابتدائية: وحتى العاطفة لا تفيد ترتيبا، بل هي كالواو، فإذا قلت (حضر رجال الكلية حتى العميد) لم يدل ذلك على أن العميد آخرهم حضورا، بل قد يكون أولهم، وكذا إذا قلت (أكلت السمكة حتى رأسها) (¬1). جاء في (شرح الرضي على الكافية): " واعلم انه لا يلزم أن يكون ما بعد حتى العاطفة آخر أجزاء ما قبلها حسا، ولا آخرها دخولا في العمل، بل قد يكون كذلك وقد لا يكون" (¬2). وجاء في (شرح الخضري): " حتى العاطفة لمطلق الجمع كالواو لا للترتيب، في الحكم فيجوز (مات كل أب لي حتى آدم) بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس) إذ لا يتأخر تعلق القضاء والقدر بهما عن غيرهما (¬3). والفرق بين العاطفة والجارة. إن المعطوف بـ (حتى) ينبغي أن يكون جزءا مما قبله، أو كجزئه كما ذكرنا نحو (ضربت القوم حتى خالدا) ولا يشترط ذلك في المجرور، بل قد يكون المجرور بها متصلا بالآخر، وليس بعضا مما قبله، نحو (صمت رمضان حتى يوم الفطر)، ونمت البارحة حتى الصباح (¬4). ثم أن المحور بـ (حتى) يكون حكمه الدخول غالبا في حكم ما قبله، إلا إذا دل على عدم الدخول دليل، وأما العاطفة فالمعطوف بها داخل في حكم ما قبلها ولا بد وذلك أنك إذا قلت (صمت رمضان حتى يوم الفطر) كانت (حتى) جارة وليست عاطفة لأن يوم الفطر غير داخل في الصوم، إذ لو كانت عاطفة لدخل ما بعدها في الصوم. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد: 1/ 197 (¬2) شرح الرضي 2/ 361، وانظر 2/ 408 (¬3) حاشية الخضري 2/ 63 (¬4) انظر الرضي 2/ 359

أم

جاء في (شرح ابن يعيش): " وربما أستعملت غاية ينتهي الأمر عندها كما تكون (إلى) كذلك، وذلك نحو قولك (أن فلانا ليصوم الأيام حتى يوم الفطر) والمراد أنه يصوم الأيام إلى يوم الفطر، ولا يجوز فيه على هذا إلا الجر، لأن معنى العطف قد زال لاستعمالها استعمال إلى، فلا يجوز أن ينتصب يوم الفطر لأنه لم يصمه فلا يعمل الفعل فيما لم يفعله، وكذلك إذا خالف الإسم الذي بعدها ما قبلها (¬1). أم: أم على ضربين: متصلة ومنقطعة. فالمتصلة تنحصر في نوعين: الأول: أن تتقدم عليها همزة يطلب بها وبـ (أم) التعيين، نحو: (أخاك عندك أم محمد؟ ) أي أيهما عندك؟ والمتكلم يعلم أن واحدا منهما عنده، لا بعينه، ويطلب بسؤاله التعيين وهذا الهمزة بمعنى (أي) ونحو (أضربت أخاك أم زوجته) أي: أي ذلك فعلت؟ فإن كان الأمر على غير دعواه فالجواب في الأولى: ليس عندي واحد منهما، وفي الثانية: لم أفعل واحدا منهما، أو تقول: عندي محمد، أو كلاهما عندي، وفي الثانية: فعلت كليهما. جاء في (كتاب سيبويه): " وذلك قولك: أزيد عندك أم عمرو؟ و (أزيدا لقيت أم بشرا؟ ) فأنت الآن مدع أن عنده أحدهما .. ألا أن علمك قد استوى فيهما (¬2). الثاني: أن تتقدم عليها همزة التسوية، وهي الواقعة، بعد (سواء)، و (ما أبالي) وما في معناها، نحو {سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم} [البقرة: 6]، ونحو (ما أبالي أأقبلت أم أدبرت) (¬3). ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 16، وانظر الأصول 1/ 519، الصبان 3/ 97 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 482 - 483 (¬3) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 413، المقتضب 3/ 286 ـ، المغني 1/ 41

وإنما سميت هذه الهمزة متصلة لأن ما قبلها لا يستغني عما بعدها، وذلك أنها وقعت بين شيئين، أو أشياء لا يكفي بأحدها، فإن طلب التعيين لا يتحقق إلا بأكثر من واحد وكذلك التسوية. وتسمى (معادلة) لمعادلتها الهمزة في التسوية أو الإستفهام (¬1). والمنقطعة: وتقع بين جملتين مستقلتين وتفيد الإضراب عن الكلام الأول، ومعناها في الغالب (بل) والهمزة الاستفهامية نحو (أن هذا القادم محمد أم خالد) أي بل أهو خالد؟ وذلك أنك كنت ترى أن القادم محمد، ثم ظهر لك أنه غير محمد، فظننت أنه خالد فقلت مستفهما (أم هو خالد)؟ أي: بل أهو خالد؟ فصدر الكلام يقين وآخره سؤال. والاستفهام الذي تفيده (أم) قد يكون حقيقيا كما في المثال السابق، وقد يكون غير حقيقي بل يراد به الإنكار والتوبيخ والتعجب، ونحو ذلك، وذلك نحو قوله تعالى: {أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون} [الطور: 37]، وقوله: {أم له البنات ولكم البنون} [الطور: 39]، أي بل أله البنات ولكم البنون منكرا عليهم أعتقادهم هذا، ونحو {أم تسئلهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين} [المؤمنون: 72]، والمعنى أنك لا تسألهم مالا على هدايتهم، ونحوه قوله تعالى: {أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون} [القلم: 46]. جاء في (المقتضب): " والموضع الثاني أن تكون منقطعة مما قبلها خبرا كان أو إستفهاما وذلك قولك فيما كان خبرا: (أن هذا لزيد أم عمرو يا فتى) وذلك أنك نظرت إلى شخص فتوهمه زيدا فقلت على ما سبق إليك، ثم أدركك الظن أنه عمرو فانصرفت عن الأول فقلت (أم عمرو) مستفهما، فإنما هو أضراب عن الأول على معنى (بل) إلا أن ما يقع بعد (بل) يقين وما يقع بعد (ام) مظنون مشكوك فيه وذلك أنك تقول (ضربت زيدا) ناسيا أو غالطا ثم تذكر أو تنبه فتقول (بل عمرا) مستدركا مثبتا للثاني، ¬

_ (¬1) المغني 1/ 41، حاشية الخضري 2/ 63

تاركا للأول. فـ (بل) تخرج من غلط إلى استثبات ومن نسيان إلى ذكرن و (أم) معها ظن أو استفهام واضراب عما كان قبله .. فأما قول الله عز وجل: {ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه} [السجدة: 1 - 3]، وقوله: {أم تسألهم أجرا} وما كان مثله نحو قوله عز وجل: {أم اتخذ مما يخلق بنات} [الزخرف: 16]، فإن ذلك ليس على جهة الاستفهام، لأن المستخبر غير عالم، إنما يتوقع الجواب فيعلم به، والله عز وجل منفي عنه ذلك، وإنما تخرج هذه الحروف في القرآن مخرج التوبيخ والتقرير (¬1). وجاء في (شرح ابن يعيش): " فإنما قيل لها منقطعة، لأنها انقطعت مما قبلها خبرا كان او استفهاما إذا كانت مقدرة بـ (بل) والهمزة على معنى (بل كذا) وذلك نحو قولك فيما كان خبرا (إن هذا لزيد أم عمرو) كأنك نظرت إلى شخص فتوهمته زيدًا فأخبرت على ما توهمت. ثم أدركك الظن أنه عمرو فانصرفت عن الأول، وقلت (أم عمرو) مستفهما على جهة الإضراب، ومثل ذلك قول العرب (أنها لإبلٌ أم شاء) أي (بل أهي شاء)، فقوله (انها لإبلٌ) أخبار وهو كلام تام وقوله (أم شاء) استفهام عن ظن وشك عرض له بعد الأخبار. فلابد من إضمار هي لأنه لا يقع بعد (أم) هذه إلا الجملة لأنه كلام مستأنف إذ كانت (أم) في هذا الوجه تعطف جملة على جملة إلا أن فيها إبطالا للأول، وتراجعا عنه من حيث كانت مقدرة بـ (بل) والهمزة على ما تقدم، فـ (بل) للإضراب عن الأول والهمزة للاستفهام عن الثاني وليس المراد أنها مقدرة بـ (بل) وحدها ولا بالهمزة وحدها لأن ما يقع بعد (بل) متقق وما بعد (أم) مشكوك فيه مظنون، ولو كانت مقدرة بالألف وحدها لم يكن بين الألو والآخر علقة، والدليل على أنها ليست بمنزلة (بل) مجردة من معنى الإستفهام قوله تعالى: {ام اتخذ مما يخلق بنات} [الزخرف: 16]، وقوله تعالى: {أم له البنات ولكم البنون} [الطور: 39]، إذ يصير ذلك متحققا تعالى الله عن ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 288 - 292 (¬2) شرح ابن يعيش 8/ 98

وقد تكون بمعنى (بل) فقط من دون استفهام، وجعلوا منه قوله تعالى: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} [الزخرف: 52]، قالوا لأنه لا معنى للاستفهام هنا، وكذا إذا جاءت بعدها أداة استفهام، نحو: {قل هل يستوي الأعمي والبصير أم له يستوي الظلمات والنور} [الرعد: 16]، ونحو: {أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا} [النمل: 61]، وقوله: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن} [الملك: 20] (¬1). لأن الاستفهام لا يدخل على الاستفهام. جاء في (المغنى): ومعنى: (أم) المنقطعة - الذي لا يفارقها - الإضراب. ثم تارة تكون له مجردًا وتارة تتضمن مع ذلك أستفهاما طلبيا، فمن الأول: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء} أما الأولى فلان الاستفهام لا يدخل على الاستفهام، وأما الثانية فلأن المعنى على الأخبار عنهم باعتقاد الشركاء، ومن الثاني {أم له البنات ولكم البنون} إذ لو قدرت للأضراب المحض لزم المحال. ومن الثالث قولهم (أنها لإبل أم شاء) التقدير (بل أهي شاء) (¬2). والذي يبدو لي أن (أم) لا تستعمل إلا في الاستفهام. جاء في (المقتضب): فأما أم فلا تكون إلا استفهاما (¬3). وهي أما أن تفيده بنفسها أو تقترن به ولا تكون كـ (بل) لليقين والتقرير. قال تعالى: {وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم} [الرعد 33]، فجاء بـ (أم) للاستفهام الإنكاري، وفي التقرير والإثبات بـ (بل)، ومثله قوله تعالى: {أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} [المؤمنون: 70]، وقوله: {ام يقولون افتراه بل هو الحق من ربك} [السجدة: 3]، وقوله: {أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون} [الطور: 33]، وقوله: {أم خلقوا ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 414 (¬2) المغنى 1/ 44 - 45 (¬3) المقتضب 3/ 286 - وانظر الجمل 31، كتاب سيبويه 1/ 482

أو

السموات والأرض بل لا يوقنون} [الطور: 36]، فجاء للاستفهام بـ (أم) وللتقرير بـ (بل). وأما قوله: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} [الزخرف: 52]، فليست (أم) فيه بمعنى (بل) فيما أرى، وأنت تحس أن ثمة فرقا بين قولك (بل أنا خير من هذا الذي هو مهين) وقوله (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين) فالأول كلام تقريري يقرر فيه فرعون الأمر، وأما الثاني ففيه معنى التعجب والتهكم، وفيه طلب مشاركة السامعين، في ذلك، ثم هي تحتمل الإتصال جاء في (الكشاف) في هذه الآية (أم) هذه متصلة لأن المعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون. إلا أنه وضع قوله (أنا خير) موضع (تبصرون) لأنهم إذا قالوا له: (أنت خير) فهم عنده بصراء وهذا من إنزال السبب منزلة السبب. ويجوز أن تكون منقطعة على (بل أأنا خير)، والهمزة للتقرير وذلك أنه قدم تعديد أسباب الفضل والتقدم عليهم من ملك مصر وجري الأنهار تحته، ونادى بذلك، وملأ به مسامعهم ثم قال: أنا خير كأنه يقول: أثبت عندكم واستقر أني أنا خير وهذه حالي (¬1). ويحتمل أن (أم) متصلة حذف المعطوف عليه وبقي المعطوف والمعنى: أموسى خير أم أنا خير منه (¬2). أو: وهي لأحد الشيئين، أو الأشياء ذكر لها المتأخرون معاني عدة أشهرها: 1 - الشك، وذلك إذا كان المتكلم شاكًا في الأمر نحو قوله تعالى: {لبثنا يوما أو بعض يوم} [الكهف: 19]، ونحو (رأيت محمدًا أو خالدًا) إذا كان شاكًا فيمن قد رأيته منهما. ¬

_ (¬1) الكشاف 3/ 100 (¬2) انظر بدائع الفوائد 1/ 206 - 207

2 - الإبهام، وذلك إذا كنت عالما بالأمر ولكن أردت أن تبهمه على السامع، نحو (تصدقت بصدقة قليلة أو كثيرة) إذا كنت تريد أن تبهم ذلك على السامع، ونحو (كلمت محمد أو سعيدًا) جوابًا لمن قال لك: أسعيدًا كلمت أم محمدًا؟ فالمثال الواحد قد يصلح للشك والإبهام فإذا كان المتكلم شاكًا في الأمر غير متيقن منه فهو الشك وإذا كان المتكلم عارفا بالأمر ولكنه يريد إبهامه على المخاطب فهو للإبهام. 3 - التخيير، وهي الواقعة بعد الطلب، نحو (تزوج سعاد أو أختها) و (خذ قلما أو دفترا). 4 - الإباحة (¬1). نحو (جالس العلماء أو الزهاد) و (تعلم الفقه أو النحو) والفرق بين الإباحة والتخيير أن التخيير لا يبيح الجمع بين الشيئين أو الأشياء والإباحة تبيحه (¬2).، فإذا قلت (خذ قلما أو دفترا) لم يجز له أخذهما جميعا، وإذا قال (جالس العلماء أو الزهاد) جاز له أن جالسهم جميعا، إذ المقصود جالس هذا الضرب من الناس. جاء في (المقتضب): " والباب الذي يتسع فيه قولك: إئت زيدًا أو عمرا أو خالدا لم ترد ائت، واحدا من هؤلاء ولكنك أردت: إذا أتيت فائت هذا الضرب من الناس، كقولك إذا ذكرت فاذكر زيدا أو عمرا أو خالدا" (¬3). وإذا دخلت (لا) الناهية على التخيير، او الإباحة امتنع فعل الجميع، فإذا قلت: (جالس خالدا أو أخاه) جاز لك أن تجالسهما أو تجالس واحدا منهما فإذا قلت: (لا تجالس خالدا أو أخاه) أمتنع مجالسة أي واحد منهما أو مجلستهما معا. جاء في (المغنى): " وإذا دخلت (لا) الناهية امتنع فعل الجميع نحو {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} [الإنسان: 24]، إذ المعنى لا تطع أحدهما فأيهما فعله فهو أحدهما (¬4). ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 62، شرح ابن عقيل 2/ 64 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 410 (¬3) المقتضب 3/ 301 (¬4) المغني 1/ 62

وجاء في (المقتضب): " فإذا نهيت عن هذا قلت: لا تأت زيدا أو عمرا، أو خالدا أي لا تأت هذا الضرب من الناس، كما قال عز وجل: {ولا تطع منهم آثما او كفروا}. والفصل بين (أو) وبين الواو أنك إذا قلت: (أضرب زيدا وعمرا) فإن ضرب أحدهما فقد عصاك، وإذا قلت (أو) فهو مطيع لك في ضرب أحدهما، أو كليهما. وكذلك إذا قال (لا تأت زيدا وعمرا) فأتي أحدهما فليس بعاص وإذا قال: (لا تأت زيدا أو عمرا) فليس له أن يأتي واحدا منهما فتقديرها في النهي: لا تأت زيدا ولا عمرا، وتقديرها في الإيجاب: ائت زيدا وإن شئت فائت عمرا معه" (¬1). وذكر أن معنى الإباحة او التخيير، متأت من فعل الطلب، وليس من (أو) وإنما (أو) لأحد الشيئين (¬2). 5 - الإضراب كـ (بل) نحو (سأزور خالدا اليوم أو سأمكث) إذا كنت قررت الزيادة أولا ثم أضربت عن ذلك، فقررت المكث أي بل سأمكث، ونحو قول جرير: ماذا ترى في عيال قد برمت بهم ... لم أحص عدتهم إلا بعداد كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية ... لولا رجاؤك قد قتلت أولادي أي بل زادوا ثمانية، ومثله: بدت مثل قرن الشمس ف رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح أي: بل أنت أملح. جاء في (التصريح): " وللاضراب كـ (بل) مطلقا عند الكوفيين وأبي علي الفارسي وابن برهان نحو (أنا أخرج) ثم تقول (أو أقيم) أضربت عن الخروج، ثم أثبت الإقامة فكأنك قلت (لا بل أقيم). ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 301 - 301 (¬2) المغني 1/ 67، وانظر شرح الرضي 2/ 410

حكى الفراء: أذهب إلى زيد أودع ذلك فلا تبرح اليوم (¬1). وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات 147]، قيل: المعنى بل يزيدون. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وكذا في قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} أي بل يزيدون وإنما جاز الإضراب بـ (بل) في كلامه تعالى لأنه أخبر عنهم بأنهم مائة ألف بناء على ما يحرز الناس من غير تعمق، مع كونه تعالى عالما بعددهم، وأنهم يزيدون ثم أخذ تعالى في التحقيق، فأضرب عما يغلط فيه غيره بناء منهم، على ظاهر الحرز، أي أرسلناه إلى جماعة يحرزهم الناس مائة ألف وهم كانوا زائدين على ذلك (¬2). وقيل: بل هي في الآية للإبهام، وقيل هي للتخيير أي إذا رآهم الرائي تخير بين أن يقول هم مائة ألف أو يقولون هم أكثر (¬3). وجاء في (الخصائص): " فأما قول الله سبحانه: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} فلا يكون فيه (أو) على مذهب الفراء بمعنى (بل) ولا على مذهب قطرب في أنها بمعنى الواو، لكنها عندنا على بابها في كونها شكا، وذلك أن هذا الكلام أخرج حكاية من الله عز وجل قلول المخلوقين، وتأويله عند أهل النظر: وأرسلناه إلى جمع لو رأيتموه لقلتم أنتم فيه: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون (¬4). وهو تأويل مقبول 6 - التقسيم نحو (الكلمة اسم أو فعل أو حرف) ونحو: (الناس مسلم أو كافر) و (المادة صلبة أو سائلة أو غازية). ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 145 - 146، وانظر المغنى 1/ 64 - 65، شرح الرضي 2/ 409 (¬2) شرح الرضي 2/ 409 (¬3) المغنى 1/ 64 (¬4) الخصائص 2/ 461

7 - أن تكون بمعنى الواو ومنه قوله توبة: وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها قيل: ومن أحسن شواهده حديث (اسكن حرا فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد (¬1).). وجاء في (شرح الرضي على الكافية) أن مجيئها بمعنى الواو متأت من استعمالها بمعنى الإباحة التي لا تمعن الجمع. قال: "ولما كثر استعمال أو في الإباحة التي معناها جواز الجمع جاز استعمالها بمعنى الواو، قال: وكان سيان ان لا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها وأغبرت السوح فإن سيان بمعنى مستويان وهو بين الشيئين (¬2). وجاء في (المغني) أن التحقيق في ذلك أن أو موضوعة لأحد الشيئين، وهو الذي يقوله المتقدمون، وقد تخرج إلى معنى بل وإلى معن الواو، وأما بقية المعاني فمستفادة من غيرها (¬3). أما خروجها إلى الإضراب فلا يخرجها عن أنها لأحد الشيئين، فإنك إذا أضربت عن شيء إلى شيء كنت أستعملتها لأحد الأمرين. وأما ما ذكروه من أنها بمعنى الواو، فلست أرى أنها كالواو تماما، بل هي لأحد الشيئين أو الأشياء أيضا وليست للجمع فقوله صلى الله عليه وسلم: اسكن حرا فما عليك ألا نبي أو صديق أو شهيدا) ليست او فيه بمعنى الواو وإنما هي لأحد الأشياء ومعناه واحد نبي وواحد صديق، وواحد شهيد، ولو قيل بالواو لاحتمل التعبير أنه شخص واحد، اجتمعت فيه هذه الصفات كقولك: هو شاعر وكاتب وفقيه. ¬

_ (¬1) الهمع 2/ 134، المغنى 1/ 62 - 64 (¬2) شرح الرضي 2/ 410 (¬3) المغني 1/ 67

أم وأو

ثم إن المعنى بـ (أو) إن عليك إما نبيا وإما صديقا وإما شهيدًا، وكل واحد من هؤلاء له من الفضل والشرف ما ينبغي أن تسكن له. وبالواو يحتمل المعنى أن السكون ينبغي أن يكون لاجتماع الثلاثة، لا أن كل واحد منهم ينبغي أن يتطامن له الجبل. ونحو ذلك أن تقول: (ابتعد عنه فإنه لا يجالسه إلا لئيم أو مخادع) ومعنى ذلك أنه يجالسه هذان الصنفان من الناس وكل صنف منهما ينبغي أن يبتعد عنه، وإذا قلت ذلك بالواو احتمل أن يكون الذي يجالسه صنفا واحدًا اجتمعت فيه هاتان الخلصتان، واحتمل أن النهي كان لاجتماع الصنفين، لا أن كل صنف ينبغي أن يبتعد عنه فلو كان معه صنف واحد لما كان هذا النهي. ونحوه قولك: (أصبحنا فإنه ليس معنا إلا فقيه أو ناسك) أي وكل صنف ينبغي أن يصحب، ولو جاء بالواو لاحتمل أنه شخص واحد أجتمع فيه الفقه والنسك، واحتمل أيضا أن يكون معهم شخصان فقط أحدهما فقيه والآخر ناسك. وأما بـ (أما) فالمعنى أنهم كلهم ما بين فقيه وناسك، واحتمل أيضا أن الصحبة، إنما حسنت لاجتماع الصنفين ولو تفرد صنف لم يكن ثمة أمر بالصحبة، وهذا ظافر، فهي ليست بمعنى الواو تماما. أم وأو: يستعمل الناس اليوم، حتى المتأدبون منهم (أم) و (أم) بمعنى واحد، فيقولون (أحضر محمد أو خالد) بمعنى (أحضر محمد أم خالد)؟ ويجيبون عن الاثنين بالتعيين فيقولون: (حضر محمد) أو (حضر خالد) وهذا غير صحيح، وذلك لأن السؤال بـ (أم) يقصد به التعيين ولا يقصد بـ (أو) ذلك، فإنك إذا قلت (أمحمد عندك أم خالد) كان المعنى أيهما عندك؟ ويكون الجواب (محمد) مثلا، وذلك أن السائل يعلم، أن أحدهما عنده ولكن لا يعلم من هو؟

وإذا قال: (أمحمد عندك أو خالد) كان المعنى: أعندك واحد منهما؟ فيكون الجواب (نعم) أو (لا)، وهكذا أبدا يكون تقدير (أم) بـ (أيهما) و (أو) بـ (أحدهما). قال تعالى: {هل ينصرونكم أو ينتصرون} [الشعراء: 93]، وقال: {له تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} [مريم: 98]، وقال: {قال هل يسمعونك إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون} [الشعراء: 72، 73]، والجواب (لا)، وهكذا أبدًا. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " واعلم أن الفرق بين (أو) و (أم) المتصلة في الاستفهام أن معنى قولك (أزيدا رأيت أم عمرا)؟ أأحدهما رأيت؟ وجوابه: (لا) أو نعم). ومعنى قولك (أريدا رأيت أم عمرا) أيها رأيت؟ وجوابه بالتعيين، كما تقول: (زيدا) أو تقول: (عمرا). وحيت أشكل عليك الأمر في (أول) و (أم) المتصلة في الاستفهام، فقدر (أو) بـ (أحدهما)، و (أم) بـ (أيهما) تقول: (الحسن أو الحسين أفضل أم ابن الحنفية)؟ والمراد: أأحدهما أفضل من ابن الحنفية، أم ابن الحنفية أفضل من أحدهما؟ والمعنى أيهما أفضل من احدهما وابن الحنفية؟ والجواب أحدهما (¬1). وجاء في (شرح ابن يعيش): " والفصل بين (أو) و (أم) في قولك (أزيد عندك أو عمرو) و (أزيد عندك أم عمرو) أنك في الأول لا تعلم كون أحدهما عنده، فأنت تسأل عنه، وفي الثاني تعلم ان أحدهما عنده، إلا أنك لا تعلمه بعينه فأنت تطالبه بالتعيين .. فقد تبين أن السؤال بـ (أو) معناه (أأحدهما) وبـ (أم) معناه (أيهما) فإذا قال: (أزيد عندك أو عمرو) فأجبت بـ (نعم) علم أن عنده أحدهما، وإذا أراد التعيين وضع مكان (أو) (أم) واستأنف بها السؤال وقال: أزيد عندك أم عمرو؟ فيكون حينئذ الجواب (زيد) أو (عمرو)؟ (¬2). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 418 (¬2) شرح ابن يعيش 8/ 98، وانظر الجمل 334، كتاب سيبويه 1/ 487

لكن

وجاء في (المقتضب): " وتقول: ما أدري أزيدًا أم عمرا ضربت أم خالدا؟ لم ترد أن تعدل بين زيد وعمرو ولكنك جعلتهما جميعا عدلا لخالد في التقدير، والمعنى ما أدري أحد هذين ضربت أم خالد؟ (¬1). وجاء في (الخصائص): " قولهم (ما أدري أأذن أو أقام) إذا قالها بـ (أو) لا (أم) فهو أنه لم يعتد أذانه أذانا ولا إقامته أقامة، لأنه لم يوف ذلك حقه. فلما وني فيه لم يثبت له شيئا منه .. ولو قال: (ما أدري أأذن أم أقام) بـ (أم) لأثبت له احدهما لا محالة (¬2). لكن: تفيد الاستدراك، وتعطف بعد نفي أو نهي، بشرط أفراد معطوفها، نحو: (ما أقبل محمد لكن خالد) ولا (تضرب خالدا لكن سالما) فإن وليتها جملة فهي ليست عاطفة، وإنما هي حرف ابتداء يفيد الاستدراك، نحو (ما جاءني خالد لكن جاءني عمرو) وتدخل عند ذاك بعد الموجب وغيره، نحو: (اقبل سعيد لكن عامر لم يقبل) (¬3). بل: حرف اضراب يدخل على المفردات والجمل. فإن دخلت على جملة كان معنى الاضراب أما إبطاليا، او انتقاليا فالاضراب الإبطالي هو أن تأتي بجملة تبطل معنى الجملة السابقة، وذلك نحو قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 26]، فقوله: (بل عباد مكرمون) إبطال للكلام الأول، ونحو قوله تعالى: {أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق} [المؤمنون: 70]، وقوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64]، وهو رد على القول الأول. ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 303 (¬2) الخصائص 2/ 169، وانظر 2/ 266، 267 (¬3) المغني 1/ 292، التصريح 146 - 147

وأما الاضراب الانتقالي فهو ان تنتقل من غرض إلى غرض آخر، مع عدم أرادة إبطال الكلام الأول، وذلك نحو قوله تعالى: {قد أفلح من تزكي وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقي} [الأعلى: 14 - 17]، فجملة (بل تؤثرون الحياة الدنيا) ليست إبطالا للجملة الأولى بل هي انتقال من غرض إلى غرض آخر، ومثله قوله: {ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة} [المؤمنون: 63] (¬1).، وقوله: {أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} [البقرة: 100]، وقوله: {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} [الزخرف: 58]. وإن دخلت على مفرد فهي عاطفة بشرط أن يتقدمها إيجاب، أو أمر أو نفي أو نهي. فإذا وقعت بعد إيجاب أو أمر نحو (جاء محمد بل خالد) و (أكرم سالما بل خالدا) فهي للاضراب وذلك أنها تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه، فقولك (جاء محمد بل خالد) يعني أن الذي جاء هو خالد، وأما محمد فيجوز أنه جاء، ويجوز أنه لم يجيء، وقولك (أكرم سالما بل خالدا) اضربت فيه عن الكلام الأول وأمرت بإكرام خالد، وأما (سالم) فمسكوت عنه. وليست (بل) ناهية عن إكرام سالم. جاء في (المغني): " وإن تلاها مفرد فهي عاطفة ثم أن تقدمها أمر أو إيجاب كقولك: (اضرب زيدا بل عمرا) و (قام زيد بل عمرو) فهي تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه فلا يحكم عليه بشيء وإثبات الحكم لما بعدها" (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " فإن جاءت بعد إيجاب أو أمر نحو: (قام زيد بل عمرو) فهي لجعل المتبوع في حكم المسكوت عنه منسوبا حكمه إلى التابع، فيكون الإخبار عن قيام زيد غلطا، يجوز أن يكون قد قام وأن لم يقم، أفدت بـ (بل) أن ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 112، شرح الدماميني على المغنى 1/ 232، حاشية الخضري 2/ 65، شرح ابن يعيش 8/ 105 (¬2) المغنى 1/ 112، شرح ابن عقيل 2/ 66

تلفظك بالاسم المعطوف عليه كان غلطا عن عمد أو سبق لسان (¬1). وإذا وقعت بعد نفي أو نهي، نحو: (ما أقبل محمد بل خالد) و (لا تضرب محمدا بل خالدا) فجمهور النحاة على أنها في المعنى كـ (لكن) فمعنى الأول أن محمدا لم يقبل وإنما الذي أقبل هو خالد، ومعنى الثانية أنك منهي عن ضرب محمد ومأمور يضرب خالد. جاء في (شرح ابن عقيل): " يعطف بـ (بل) في النفي والنهي فتكون كـ (لكن) في أنها تقرر حكم ما قبلها وتثبت نقيضه لما بعدها نحو: (ما قام زيد بل عمرو) و (لا تضرب زيدا بل عمرا) فقررت النفي والنهي السابقين وأثبت القيام لعمرو وأملا بضربه (¬2). وجاء في (التصريح): " ومعناها بعد الأخيرين وهما النفي والنهي تقرير حكم ما قبلها من نفي أو نهي على حاله وجعل ضده لما بعدها، (لكن) كذلك كقولك: (ما كنت في منزل ربيع بل أرض لا يهتدى بها) .. فتقرير نفي الكون في منزل الربيع عن نفسك وتثبت لها الكون في أرض لا يهتدي بها. و (لا يقم زيد بل عمرو) فتقرر نهي زيد عن القيام وتأمر عمرا بالقيام (¬3). وأجاز المبرد أن تكون بعد النفي والنهي للاضراب أيضا، فتكون ناقلة معنى النفي والنهي إلى ما بعدها، وعلى هذا يكون معنى (ما أقبل محمد بل خالد) ما أقبل محمد بل ما أقبل خالد، فإقبال محمد حكمه كالمسكوت عنه، يحتمل أنه يكون أقبل، أو لم يكن أقبل وما بعدها منفي، وكذلك المعنى في النهي نحو (لا تضرب محمدا بل خالدا) فالمعنى عنده لا تضرب محمدا بل لا تضرب خالدا. ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 419، وانظر 2/ 420 (¬2) شرح ابن عقيل 2/ 66، المغني 1/ 112 (¬3) التصريح 2/ 148

جاء في (المغني): " وأجاز المبرد وعبد الوارث أن تكون ناقلة معنى النفي والنهي إلى ما بعدها وعلى قولها فيصح: ما زيد قائما بل قاعدا، وبل قاعد ويختلف المعنى (¬1). إذ القعود منفي على التقدير الأول مثبت على التقدير الثاني (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وإذا عطفت بـ (بل) مفردا بعد النفي، أو النهي فالظاهر أنها للاضراب أيضا، ومعنى الاضراب جعل الحكم الأول موجبا كان، أو غير موجب، كالمسكوت عنه بالنسبة إلى المعطوف عليه، ففي قولك (ما جاءني زيد بل عمرو) أفادت (بل) أن الحكم على زيد بعدم المجيء، كالمسكوت عنه يحتمل أن يصح هذا الحكم فيكون غير جاء، ويحتمل أن لا يصح فيكون قد جاءك كما كان الحكم على زيد بالمجيء في (جاءني زيد بل عمرو) احتمل أن يكون صحيحا وأن لا يكون وهذا الذي ذكرنا ظاهر كلام الأندلسي. وقال ابن مالك: بل بعد النفي والنهي كـ لكن بعدهما وهذا الاطلاق منه يعطي أن عدم مجيء زيد في قولك (ما جاءني زيد بل عمرو) متحقق بعد مجيء (بل) أيضا كما كان ذلك في (ما جاءني زيد لكن عمرو) بالاتفاق .. وهذا كله حكم (بل) بالنظر إلى ما قبلها، وأما حكم بعد (بل) بعد النفي أو النهي فعند الجمهور أنه مثبت فعمرو جاءك في قولك (ما جاءني زيد بل عمرو) فكأنك قلت: (بل جاءني عمرو) فـ (بل) أبل النفي والاسم المنسوب إليه المجيء .. وعند المبرد أن الغلط في الاسم المعطوف عليه فقط، فيبقي الفعل المنفي مسندا إلى الثاني فكأنك قلت (بل ما جاءني عمرو) كما كان في الاثبات الفعل الموجب مسندا إلى الثاني (¬3). ¬

_ (¬1) المغني 1/ 112 (¬2) شرح الدماميني على المغنى 1/ 234 (¬3) شرح الرضي 2/ 419، وانظر شرح ابن يعيش 8/ 105، الهمع 2/ 136

والظاهر صحة رأي الجمهور وذلك أنه هو الذي يشهد له استعمال العرب، فمن ذلك قوله: لو اعتصمت بنا لم تعتصم بعدا ... بل أولياء كفاة غير أوكال فلا يصح أن يقال (بل لم تعصم بأولياء) لأنه للفخر، وكذلك قوله: وما أنتميت إلى خور ولا كشف ... ولا لئام غداة الروع أوزاع بل ضار بين بحسك البيض أن لحقوا ... شم العرانين عند الموت لذاع (¬1). وظاهر أنك إذا أردت المعنى الذي ذكره المبرد كررت العامل، نحو (ما جاءني محمد بل ما جاءني خالد) و (لا تضرب خالدا بل لا تضرب محمدا). وكذلك يؤدي المعنى الذي ذهب إليه المبرد الاضراب بغير الأداة، وأعني به بدل الاضراب، فإنك إذا قلت (لا تكرم سالما سعدا) كان المعنى أنك نهيت عن اكرام سالم أولا، ثم أضرب عن ذلك فنهيت عن اكرام سعد فصار كأنك قلت: لا تكرم سعدا. وكذا في النفي، فأنت إذا قلت (ما جاءني محمد خالد) كان المعنى: ما جاء محمد ثم أضربت عن ذلك فقلت: بل ما جاء خالد. ومما يؤيد ذلك أن البدل على نية تكرار العامل عندهم. ويجوز ما ذكره المبرد فيما دل عليه دليل نحو (ما محمد كاتبًا بل شاعرا) وذلك أن نصب (شاعر) يدل على أن النفي مكرر، وذلك أن (ما) لا ينتصب الخبر بعدها إذا كان موجبا. وربما كان المعنى قديما كما ذكر المبرد وذلك أن الأصل أن يكون لكل أداة معنى ثم تطور الاستعمال إلى ما ترى، وتطور الدلالة كثير في اللغة والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن الناظم 222، الهمع 2/ 136

لا بل

لا بل: قد يضم إلى (بل) (لا) فتفيد توكيد الاضراب، وذلك بعد الإيجاب، والأمر، والنفي، والنهي، نحو (جاء محمد لا بل خالد)، ومعناها نفي المجيء عن محمد وإثباته لخالد. فالفرق بين قولنا (جاء محمد بل خالد) و (جاء محمد لا بل خالد) أن مجيء محمد في الأول صار كالمسكوت عنه، فإنه يجوز أنه حصل ويجوز أنه لم يحصل، وفي الثاني نفينا المجيء عن محمد وأثبتناه لخالد. قال الشاعر: وجهك البدر لا بل الشمس لو لم ... يقض للشمس غيبة وأفول وكذا في الأمر، فإنك إذا قلت (أضرب محمدا لا بل خالدا) كان المعنى لا تضرب محمدًا وإنما آمرك بضرب خالد، ولو قال (أضرب محمدا بل خالدا) لكان الأمر بضرب محمد كالمسكوت عنه، يجوز أن يوقعه وألا يوقعه، وكذلك في النفي والنهي نحو (ما جاء محمد لا بل خالد) فنفي المجيء عن محمد مؤكد بـ (لا) مثبت لخالد، وكذلك نحو (لا تضرب محمدًا لا بل خالدا). جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وإذا ضممت (لا) إلى (بل) بعد الإيجاب أو الأمر نحو (قام زيد لا بل عمروا) و (اضرب زيدا لا بل عمرا) فمعنى (لا) يرجع إلى ذلك الإيجاب والأمر المتقدم لا إلى ما بعد بل، ففي قولك (لا بل عمرو) نفيت بـ (لا) القيام عن زيد وأثبته لعمرو بـ (بل) ولو لم تجيء بـ (لا) لكان قيام زيد كما ذكرنا في حكم المسكوت عنه يحتمل أن يثبت وأن لا يثبت، وكذا في الأمر نحو (اضرب زيدا لا بل عمرا) أي لا تضرب زيدا بل اضرب عمرا ولولا (لا) المذكورة، لاحتمل أن يكون امرا بضرب زيد، وأن لا يكون مع الأمر بضرب عمرو، وكذا (لا) الداخلة على (بل) بعد النهي والنفي، راجعة إلى معنى ذلك النهي والنفي مؤكدة لمعناها (¬1). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 419 - 420، وانظر المغنى 1/ 113، الهمع 2/ 136

أحرف الأضراب

أحرف الأضراب تقدم ان الإضراب معنى يؤدي بعدة أحرف، فله حرف رئيس هو (بل)، وقد يؤدي بـ (أم) المنقطعة وبأو أيضا، فما الفرق بين هذه الأحرف في الدلالة على الاضراب؟ والجواب أن الاضراب بـ (بل) هو الأصل وذلك: 1 - أن الإضراب بـ (بل) يكون في المفردات والجمل، نحو (رأيت محمدًا بل سعيدًا) ونحو: (بل افتراه بل هو شاعر). أما الإضراب بـ (أم) فلا يكون إلا في الجمل كما مر، ولا يكون في المفردات، وكذا الاضراب بـ (أو) نحو (سأسافر اليوم أو أقيم فلا أسافر). جاء في (شرح الرضي): " وتجيء (أو) أيضا للاضراب بمعنى (بل)، فلا يكون إذن بعدها إلا الجمل فلا يكون حرف عطف، بل حرف استئناف (¬1). 2 - أن (أم) لا تستعمل إلا في الاضراب الانتقالي، ولا تستعمل في الاضراب الإبطالي، وأما (أو) فبالعكس فلا تكون إلا للإبطال، و (بل) تكون لهما جميعا كما ذكرنا فهي أوسع استعمالا منهما. 3 - الأصل في (أو) ألا تكون للاضراب، وإنما هي لأحد الشيئين، ولذا كان استعمالها في الاضراب مقيدًا، وعن سيبويه أنها لا تكون للاضراب إلا بشرطين: تقدم نفي أو نهي. وأعادة العامل نحو (ما قام زيد أو ما قام عمرو) و (لا يقم زيد أو لا يقم عمرو) (¬2). وعن آخرين أنه لا يشترط تقدم ذلك عليها. والأصل في (أم) أن تستعل استفهامًا أو مع استفهام، فيكون إضرابها مصحوبًا بإنكار ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 409 (¬2) المغني 1/ 64

لا

أو توبيخ أو استفهام حقيقي، وأما (بل) فتستعمل للتقرير واليقين، وذلك نحو قوله تعالى: {أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون} [الطور: 33]، وقوله: {أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك} [السجدة: 3]. ولذا لا يحسن استعمال الواحدة مكان الأخرى، في مواطن كثيرة، فلا يحسن أن تقول في قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء} [البقرة: 154]، (أم أحياء). ولا يحسن في قوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64]، أم يداه مبسوطتان ولا أو يداه. ولا يحسن في قوله: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} [البقرة: 170]، (أم نتبع) ولا (أو نتبع). وكذا لا يصح في قوله تعالى: {أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} [البقرة: 108]، أن يقال (بل تريدون)، ولا في قوله: {أم له البنات ولكم البنون} [الطور: 39]، أن يقال: بل له البنات، ولا في قوله: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35]، أن يقال بل خلقوا من غير شيء. ولو كانت (أم) و (أم) كـ (بل) في إفادة الإضراب لم يمتنع ذلك. لا: وتفيد النفي وتعطف بثلاثة شروط: الأول: أن يتقدمها أثبات، نحو (أقبل محمد لا خالد)، أو أمر، نحو (أهِنْ خالدًا لا سعدًا) أو دعاء نحو (غفر الله لبكر لا زيد) أو تخصيص، نحو (هلا تكرم محمدًا لا سالمًا) أو تمن نحو (ليت لي ولدًا لا بنتًا). قال سيبويه: أو نداء نحو (يا محمد لا خالد). الثاني: أن لا تقترن بعاطف، فإذا قلت: (ما جاء محمد ولا خالد) كانت الواو هي العاطفة و (لا) زائدة لتوكيد النفي.

العطف على اللفظ والمعنى

الثالث: أن يتعاند متعاطفاها نحو (أقبل رجل لا امرأة) بخلاف (أقبلت هند لا امرأة) لأن هندا امرأة (¬1). العطف على اللفظ والمعنى: الأصل أن يعطف على اللفظ، نحو (أقبل محمد وخالد)، وقد يعطف على المعنى ويدخل تحت هذا ما يسميه النحاة العطف على النحو والعطف، على التوهم، فمن الأول قولهم (ليس زيد بقائم ولا قاعدا) قالوا: إن (قاعدا) معطوف على محل (قائم) وذلك أنه خبر (ليس) وحقه النصب. ومن الثاني قوله: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب الا ببين غرابها عطف (ناعب) على توهم وجود الباء في خبر (ليس) (مصلحين) لأنه يكثر دخولها على خبرها. والحق أن هذا كله من باب العطف على المعنى، فقولنا (ليس زيد بقائم ولا قاعدا) المعطوف فيه ليس على أرادة الباء، ومعنى ذلك أن الخبر مؤكد والمعطوف غير مؤكد فإنك نفيت القيام نفيا مؤكدا، ونفيت القعود نفيا غير مؤكد، فإذا جررت المعطوف فقلت (ليس محمد بقائم ولا قاعد) كان نفي القعود مؤكدا أيضا كنفي القيام. ومن العطف على المعنى قولنا: (إن محمدًا حاضر وأخوه) وقوله تعالى: {إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} [المائدة: 69]، وسبب رفع المعطوف أنه على غير إرادة (أن) ومعنى لك أن الاسم مؤكد والمعطوف غير مؤكد، ولو نصبنا المعطوف فقلنا (أن محمدًا حاضر وأخاه) لكان مؤكدا أيضا كتأكيد المعطوف عليه. ومثله (ما كان محمد قاعدا ولا أخوه نائم) فإن الثانية على غير إرادة (كان) فيكون زمن الأولى المضي بخلاف زمن الثانية. ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 241 - 242، الهمع 2/ 137

المتعاطفان

جاء في الكتاب: " وتقول: (ما عبد الله خارجًا ولا معنٌ ذاهبٌ) ترفعه على ألا تشرك الإسم الآخر في (ما) ولكن تبتدئه كما تقول: (ما كان عبد الله منطلقا ولا زيد ذاهب) إذا لم تجعله على (كان) وجعلته غير ذاهب الان" (¬1). ومنه ما يسميه النحاة العطف على التوهم، نحو (ما زيد قائمًا ولا قاعد) فقاعد مجرور على توهم الباء في خبر (ما) وهو في الحق عطف على المعنى، وذلك أن الخبر غير مؤكد والمعطوف مؤكد. وجعلوا من هذا الضرب قوله تعالى: {فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} [المنافقون: 10]، عطف (أكن) المجزوم على (أصدق) المنصوب هو عطف على المعنى، وذلك أن المعطوف عليه يراد به السبب، والمعطوف لا يراد به السبب فإن (أصدق) منصوب بعد فاء السبب، وأما المعطوف فليس على تقدير الفاء ولو أراد السبب لنصب، ولكنه جزم لأنه جواب الطلب، نظير قولنا (هل تدلني على بيتك أزرك) كأنه قال: إن تدلني على بيتك أزرك، فجمع بين معني التعليل والشرط، ومثل ذلك أن أقول لك: (احترم أخاك يحترمك) و (احترم أخاك فيحترمك) فالأول جواب الطلب والثاني سبب وتعليل، وتقول في الجمع بين معنيين: (أكرم صاحبك فيكرمك ويعرف لك فضلك) وهو عطف على المعنى وليس توهمًا بمعنى الغلط (¬2). المتعاطفان: المتعاطفان يكونان على أقسام هي: 1 - عطف الشيء على مغايره، وهو الأصل نحو: (رأيت محمدًا وخالدًا). 2 - عطف الشيء على مرادفه، نحو: (هذا كذب وافتراء) و (عملك غي وضلال). 3 - عطف العام على الخاص كقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87]، فالقرآن العظيم عام عطف على الخاص وهو السبع المثاني، ونحو ذلك أن تقول (أشتريت رمانا وفاكهة). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 29 (¬2) البرهان 4/ 112، وانظر الهمع 2/ 142، الاتقان 1/ 199

4 - عطف الخاص على عام، كقوله تعالى: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} [البقرة: 98]، فجبريل وميكال خاص عطف على عام، وهو الملائكة، وذلك للاهتمام بما أفرد ذكره. 5 - عطف الشيء على نفسه لزيادة فائدة، نحو {نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسماعيل} [البقرة: 133]، فاله آبائه هو إلهه. 6 - عطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد، نحو (مررت برجل فقيه وشاعر وكاتب) وكقوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 1 - 4]. 7 - عطف الاسم على الفعل وبالعكس: الأصل أن يعطف الاسم على الاسم نحو: (هو لبيب وحذر) والفعل على الفعل نحو: (هو يهين ثم يندم). وقد يعطف الاسم المشبه للفعل كاسم الفاعل، ونحوه على الفعل وبالعكس، ونحو قوله تعالى: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} [الملك: 19]، فعطف الفعل (يقبضن) على (صافات) ونحو قوله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي} [الأنعام: 95]، فعطف اسم الفاعل (مخرج) على (يخرج)، وقوله: {فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا} [العاديات: 3، 4]، وهذه المغايرة سببها اختلاف الدلالة وذلك أن دلالة الفعل غير دلالة الاسم فالفعل يدل على الحدوث، والتجدد والاسم يدل على الثبوت كما ذكرنا في أكثر من موضع، فإذا اقتضي المقام الحدوث جيء بالفعل، وإذا اقتضي الثبوت جيء بالاسم، فجاء بـ (صافات) في قوله: (صافات ويقبض) على صيغة الإسم للدلالة على الثبوت، وذلك أن الطير يصف جناحه عند الطيران، وهي الحالة الثابتة، وجاء بـ (يقبضن) على الفعل لأن القبض حالة ليست ثابتة، ثم أن (القبض) حالة حركة وتجدد والصف حالة ساكنة، ثابتة فجاء بالقبض على صيغة الفعل الدالة على الحركة والتجدد، وجاء بـ (صافات) على صيغة الاسم الدالة على الثبوت. ونحوه قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي} فجاء بقوله [يخرج الحي] على صيغة الفعل لأن من إبرز صفات الحي الحركة والتجديد فجاء بالفعل

حذف أحد المتعاطفين

الدال على الحركة والتجدد، وجاء بـ (مخرج الميت من الحي) على الاسم لان الميت لا حركة فيه ولا تجدد فجاء اسم الفاعل الدال على الثبوت. وقد تقول: ولم قال إذن في مكان آخر: {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي} [آل عمران: 27]، بصيغة الفعل فيهما؟ والجواب أن المقام يقتضي ذلك، وإليك الآية: {قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} [آل عمران: 26، 27]، فإن المقام كله تغيير، وتبديل، وحركة، وتجدد من تغير الملوك، وإدالة الدول، وتعاقب الليل والنهار، وأمور الموت والحياة، وغيرها فالمقام كله حركة تغيير وتبديل بخلاف الآية الأولى، التي تبدأ بقوله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأني تؤفكون} [الأنعام: 95]. فالمقامان مختلفان، فجاء في كل مقام بما يناسبه، والله أعلم. حذف أحد المتعاطفين: قد يحذف أحد المتعاطفين للدلالة عليه، وذلك نحو قوله تعالى: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} [البقرة: 60]، أي فضرب فانفجرت (¬1) .. فحذف المعطوف عليه لدلالة ما بعده عليه، فإنه لو لم يضرب لم تنفجر بالماءـ، ونحوه قوله تعالى: {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى} [البقرة: 73]، أي فضربوه فأحياه الله كذلك يحيى الله الموتى، ونحوه قوله تعالى: {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [البقرة: 243]، أي فماتوا ثم أحياهم، ومثله قوله: {فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرنامهم تدميرا} [الفرقان: 37]، أي فذهبا فكذبوهما فدمرناهم. ¬

_ (¬1) المغني 2/ 628

حذف حرف العطف

وهذا في القرآن كثير فإن القرآن قد يطوي بعض المشاهد التي تفهم بالقرائن، والتي لا يتعلق غرض بذكرها، ويعرض المشاهد التي يتعلق بذكرها الغرض. ومن هذا الباب قولهم (راكب الناقة طليحان) (¬1). والطليح المتعب، والمعنى: راكب الناقة والناقة متعبان فالمعطوف عليه محذوف، وهو مفهوم من القرينة، لأنه لا يخبر عن المفرد بالمثنى. حذف حرف العطف: قد يحذف حرف العطف للدلالة، وذلك نحو (ذهبت إلى السوق فاشتريت خبزا لحماً فاكهة) والمعنى: فأشتريت خبزا ولحما وفاكهة، ويحتمل نصب اللحم والفاكهة على أنه بدل أضراب أيضا، أي فأشتريت خبزا بل لحما بل فاكهة، فيكون الخبز واللحم كالمسكوت عنهما يحتمل أنه اشتراهما ويحتمل أنه لم يشترهما. فهو تعبير احتمالي يحتمل كلا المعنيين، وقد تعين القرينة أحدهما دون الآخر، ومنه قولك (جالس محمدا سعدا إبراهيم) والمعنى: جالس محمدا أو سعدا أو إبراهيم، والمقصود بذلك الإباحة، ويحتمل بلد الاضراب أيضا، فإنه إذا ذكر الحف فقد تعينت دلالة التعبير وإن لم يذكر الحرف، كان التعبير مطلقا يحتمل أكثر من معنى. جاء في (المغني): " حكى أبو زيد (أكلت خبزا لحما تمرا) فقيل على حذف الواو وقيل على بدل الاضراب. وحكى أبو الحسن (أعطه درهما درهمين ثلاثة) وخرج على إضمار (أو) ويحتمل الدل المذكور (¬2). ¬

_ (¬1) شرح ابن عقيل 2/ 67 (¬2) المغني 2/ 635، وانظر شرح الرضي على الكافية 1/ 357

العدد

العدد أن وضع العدد مع المعدود له قواعد معلومة محدودة في العربية إجملها بإيجاز: 1 - أن الأعداد من الثلاثة إلى العشرة تضاد المعدود، تذكر مع المؤنث، وتؤنث مع المذكر، وتمييزها جمع مجرور بالإضافة، تقول سبعة رجال وسبع نسوة، وهذه القاعدة قديمة سامية الأصل (¬1). غير أنها إذا وقعت بعدها المائة أفردت ولم تجمع، تقول: ثلاثمائة وأربعمائة، وكان القياس أن يقال ثلاث مئات، وأربع مئات. وقد يؤتى بلفظ (مئات) للتنصيص على معنى معين، تقول مثلا: (عندي مئات كثيرة أعطيته أربع مئات منها) فإن قلت (أعطيته أربعمائة منها) أحتمل أن يكون المعنى أعطيته أربعمائة منها واحتمل المعنى الأول أيضا بخلاف التعبير الأول، فإنه لا يحتمل إلا معنى واحدا، ويقال لك: كم مائة أخذت؟ فتقول: سبع مئات، فإن قلت: سبعمائة، أحتمل سبعمائة مائة، واحتمل المعنى الأول أيضا. وقد يؤتى بلفظ (مئات) للدلالة على معنى آخر، وذلك كأن تقول (هذه ثلاث مئات الرجال) والمعنى أن الثلاث تعود لمئات الرجال، فإنك لم تنص على أن عدد الرجال ثلاثمائة، بل ذكرت إنهم مئات وهذه الثلاث تعود لهم، فقد تكون هذه الثلاث نوفا أو أفراسًا أو غيرها فمعدود الثلاث محذوف للعلم به، ونحوه أن تقول (هذه خمسة ألف الرجل) والمعنى أن هذه الخمسة تعود لالف الرجل، وليس المعنى أنهم خمسة آلاف رجل. 2 - يكون المعدود مع الأعداد المركبة مفردا منصوبًا، ويتطابق الجزءان تذكيرا وتأنيثًا في أحد عشر واثنى عشر، ويخالف صدر العدد المركب المعدود ويطابقه عجزه، تقول: ستة عشر رجلا، وست عشرة امرأة. ¬

_ (¬1) انظر التطور النحوي 80، تاريح العرب قبل الإسلام 7/ 115

ويذكر النحاة أن أصل العدد المركب أن يكون بالواو فخمسة عشر أصلها خمسة وعشرة " فحذفت الواو وركب العددان اختصارا ودفعا لما يبتادر من العطف، أن الإعطاء دفعتان قاله الدماميني (¬1). والحق أنه إذا فك التركيب وجيء بحرف العطف اختلف المعنى بحسب الحرف، فإذا قلت (جاء خمسة فعشرة رجال) أو جاء (خمسة ثم عشرة رجال) دل ذلك على أن مجيء الخمسة سبق مجئ العشرة بتعقيب أو بمهلة بحسب الحرف بخلاف مفهوم التركيب. وإذا جيء بالواو فقد ذكروا أن المعنى يختلف أيضا فقولك (أعطيتك خمسة عشر كتابا) يختلف عن قولك (أعطيتك خمسة وعشرة كتب) وذلك أن العطف يحتمل أن الإعطاء دفعتان لا دفعة واحدة ويحتمل أنه أعطاه دفعة واحدة، ومعنى هذا أن التركيب يفيد أن الإعطاء كان دفعة واحدة. والحق أن التركيب قد يحتمل أكثر من دفعة أيضا غير أن هناك فرقا بين التركيب والعطف بالواو غير ما ذكروا وذلك: 1 - أن قولك (أعطيتك خمسة عشر كتابا) معناه أن مجموع ما أعطيته خمسة عشر كتابًا فقد يكون ذلك بدفعة أو بدفعتين أو بدفعات، فقد يكون أعطاه مرة أربعة، ومرة ثمانية، ومرة ثلاثة فيكون المجموع خمسة عشر، وأما العطف بالواو فهو يحتمل أنه أعطاه إياها دفعة واحدة أو دفعتين فقط، دفعة بخمسة كتب، ودفعة بعشرة كتب، وقد تكون العشرة سابقة للخمسة، أو العكس، ولا يحتمل أنه أعطاه إياها على دفعات، بخلاف التركيب فإنه يفيد المجموع الكلي. ب - إن العطف بالواو يحتمل معنى آخر يختلف عن التركيب، فإن التركيب في قولك (أعطيتك خمسة عشر كتابا) يفيد أن المعطي هو كتب، ليس غير، وأما العطف فيحتمل ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 4/ 68

أكثر من معنى، وذلك أنك إذا قلت مثلا: (أعطيته خمسة، وعشرة كتب) بتنوين (خمسة) أحتمل أن الخمسة ليست كتبا، وإنما قد تكون أقلاما بخلاف ما إذا قلت: (أعطيته خمسة وعشرة كتب) بلا تنوين فإنها تعني أن المعطي كتب فقط. وتقول: (أعطيته خمسا وعشرة كتب) فيكون معدود الخمس مؤنثا، بخلاف معدود العشرة، ونحوه، أن تقول (أقبل خمس وعشرة رجال) فمعدود الخمس مؤنث، بخلاف معدود العشرة، فقد يكون الخمس نسوة أو نحوهن. 3 - يكون المعدود بعد ألفاظ العقود مفردا منصوبا، تقول (أقبل عشرون رجلا) و (رأيت ثلاثة وأربعين غلاما). قالوا: " ولا يجوز تركيب النيف مع العشرين وبابه بل يتعين العطف فتقول: خمسة وعشرون، ولا يجوز خمسة عشرين ولعله للالباس في نحو (رأيت خمسة عشرين رجلا) فإنه يحتل خمسة لعشرون رجلا، وقيل غير ذلك (¬1). ومعنى ذلك أنك إذا ركبت فقلت مثلا (رأيت خمسة عشرين رجلا) أحتمل المعنى أن الخمسة ليست رجالا وإنما قد يكون المعدود شيئا آخر، كأن تكون خمسة كتب تعود لعشرين رجلا ونحو ذلك، فالخمسة ملك للعشرين وليست رجالا. وقد تقول: أولا يفهم هذا من الإعداد المركبة، في نحو قولنا: (خمسة عشر رجلا)؟ والجواب: لا، وذلك لأمور منها أنه لو كانت الخمسة ليست رجالا وإنما هي ملك لهم لقلنا (خمسة عشرة رجال) لأن معدود العشرة جمع مجرور، والمعنى خمسة جمال تعود لعشرة رجال. ثم إن البناء على فتح الجزءين ينفي هذا المعنى، فإنك إذا أردت الإضافة جررت لعشرة بالإضافة فتقول: خمسة عشرة رجال، بجر العشرة. 4 - يكون المعدود بعد المائة والألف مفردا مجرورا، نحو (مائة عامٍ) و (ألف سنةٍ). ¬

_ (¬1) شرح الأشموني 4/ 69

أحد وواحد

5 - من الملاحظ أنه في التركيب نستعمل لفظة (أحد) و (إحدى)، فتقول: أحد عشر وإحدى عشرة، ولا نستعمل لفظة (واحد) أو (واحدة)، وكذلك قبل ألفاظ العقود فتقول: أحد وعشرون، وإحدى وعشرون، وقد تقول واحد وعشرون، وواحدة وعشرون على قلة، فما أختلاف لفظة (أحد) عن لفظة (واحد)؟ أحد وواحد: تدل الأبحاث الحديثة على أن لفظة (أحد) أسبق وجودا من (واحد). في اللغات السامية وهي بمعنى الواحد، جاء في (التطور النحوي): " فأحد سامية الأصل وواحد مشتقة منها (¬1). ويقال للواحد المذكر في العربيات الجنوبية (أحد) وللمؤنث (أحدث) (¬2).، وفي اللحيانية أحد للواحد المذكر، و (إحدى) للواحدة (¬3).، وفي لغة النبط (حد) بمعنى " أحد وبمعنى الأول والواحد" (¬4). فلفظة (أحد) أقدم من (واحد) غير أن العربية خصصت لكل منهما معنى واستعمالا جاء في (التطور النحوي): " والفرق في المعنى بين (أحد) و (واحد) معروف وهو مثال ما قلناه من ان العربية تميل إلى التخصيص، فإستفادت من وجود شكلين للكلمة، فلم تستعملها مترادفين، بل فرقت بينهما وخصصت كل واحد منهما بمعنى ووظيفة، غير ما لصاحبه (¬5). إن لفظه (أحد) كما يرى النحاة على ضربين: الأول أن يراد بها عموم العقلاء، فتلزم الأفراد والتذكير، وتقع بعد النفي، والنهي، والاستفهام، والشرط، وفي غير الموجب عمومًا (¬6).، تقول (ما في الدار أحد) أي ما ¬

_ (¬1) التطور النحوي 79 (¬2) تاريخ العرب قبل الإسلام 7/ 115 (¬3) تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 169 (¬4) تاريخ العرب قبل الإسلام 7/ 315 (¬5) التطور النحوي 79 (¬6) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 163 - 164

فيها شخص عاقل، قال تعالى: {هل يراكم من أحدٍ} [التوبة: 127]، وقال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} [التوبة: 6]، وقال: {إن تصعدون ولا تلون على أحد} [آل عمران: 153]، والذي يدل على وقوعها بلفظ واحد في المفرد وغيره قوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 47]، وقوله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285]، فهذا جمع لأن (بين) لا تقع إلا على اثنين فما زاد (¬1). وقال تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} [الأحزاب: 32]، فأوقعها على المؤنث. ويرى كثير من النحاة أن همزة (أحد) هذه أصلية وليست بدلا من الواو، ويرى آخرون أنها كصاحبتها الأخرى مبدلة همزة عن الواو (¬2).، وهذا الذي يترجح عندي. وقد تقول أن لفظة (واحد) قد تفيد العموم أيضا، في النفي وشبهه، تقول: (ما زارني واحد منهم) و (هل زارك واحد منهم) جاء في (شرح الرضي على الكافية): " ويستعمل واحد، أيضا لعموم العقلاء في غير الموجب، لكن يؤنث نحو (ما لقيت واحد منهم ولا واحدة منهن (¬3). والحق أنهما مختلفان في الدلالة على العموم، وذلك أن لفظة (أحد) تفيد العموم في النفي، سواء اقترنت بها (من) الدالة على الاستغراق أم لم تقترن، فإذا اقترنت أفادت التوكيد، فإنك إذا قلت (لم أر أحدا في الدار)، دل ذلك على أنك لم تر أي شخص، واحدا أو أكثر، فإن قلت (لم أر من أحد) أكدت نفي العموم. أما إذا قلت (لم أر واحدا) فإنه يحتمل أنك لم تر أحدًا، ويحتمل أنك لم تر واحدا فقط بل رأيت اكثر من واحد. والضرب الآخر من ضربي (أحد) أن يراد بها معنى (واحد)، وأجمعوا على ان همزتها منقلبة عن واو وأصلها وحد (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب 4/ 461 - 462، شرح الرضي على الكافية 2/ 163، شرح ابن يعيش 6/ 31 - 17 (¬2) شرح الرضي 2/ 164 (¬3) شرح الرضي 2/ 164 (¬4) شرح ابن يعيش 6/ 31، 6/ 16، شرح الرضي 2/ 164

والحق أنها ليست بمعنى (واحد) في الضرب الثاني أيضا، وذلك من وجوه منها: 1 - أن الواحد اسم وضع لمفتتح العدد (¬1). وهو ما يقابل الاثنين تقول (جاءني منهم واحد) أي لم يجئني اثنان ولا تقول (جاءني منهم أحد) قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ولا ما من إله إلا إله واحد} [المائدة: 73]، قبل والواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه، فإذا قلت لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان بخلاف قولك لا يقاومه أحد (¬2). 2 - أن أحدا إذا أضيفت تكون بمعنى (واحد)، غير أنها تكون بعضا من المضاف إليه فأحد القوم واحد منهم، وهو بعضهم، قال تعالى: {فابعثوا احدكم بورقكم هذه إلى المدينة} [الكهف: 19]، أي واحدا منكم، وقال: {قالت إحداهما يأبت استئجره} [القصص: 26]، أي واحد منهما فأنت ترى أن المضاف بعض المضاف إليه. جاء في (لسان العرب): " وتقول: هو أحدهم وهي إحداهن، فإن كانت امرأة مع رجال لم يستقم أن تقول هي إحداهم، ولا أحدهم ولا إحداهن، إلا أن تقول: هي كأحده، أو هي واحدة منهم (¬3). أما كلمة واحد إذا أضيفت فلا تؤدي هذا المعنى، فإذا قلت (هو واحدهم) لم يفد أنه أحدهم بل يكون المعنى أنه المتقدم فيهم، جاء في لسان العرب: ورجل واحد متقدم في بأس، أو علم، أو غير ذلك، كأنه لا مثل له (¬4). وجاء فيه: والواحد بني على انقطاع النظير وعوز المثل (¬5). فأنت ترى أن أحد القوم ليس بمعنى واحد القوم، وإنما بمعنى واحد من القوم، ¬

_ (¬1) لسان العرب (وحد) 4/ 461 (¬2) تفسير فتح القدير للشوكاني 5/ 502 (¬3) لسان العرب 4/ 460 (¬4) لسان العرب 4/ 460 (¬5) لسان العرب 4/ 461

وواحد أمه معناه ليس معه غيره، وليس بمعنى أحد أمه، ولا يصح هذا التعبير. 3 - يأتي الواحد بمعنى المماثلة، وعدم المخالفة والمغايرة، تقول " الجلوس والقعود واحد وأصحابي، وأصحابك واحد (¬1). قال تعالى: وإلهنا وإلهكم واحد [العنكبوت: 46]، ولا تستعمل كلمة (أحد) كذلك. 4 - تستعمل (أحد) وصفا في الإثبات بلا إضافة، ولا تبيين بمن، فتختص بالله وحده، لا يشركه فيها غيره، قال تعالى: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1]، جاء في (لسان العرب): " قال الأزهري: وأما اسم الله عز وجل (أحد) فإنه لا يوصف شيء بالأحدية غيره، لا يقال رجل أحد، ولا درهم أحد، كما يقال رجل وحد، لأن أحدًا صفة الله عز وجل التي استخلصها لنفسه، ولا يشركه فيها شيء (¬2). وجاء في (تفسير ابن كثير) في قوله تعالى: {قل هو الله أحد}: " يعني هو الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات، إلا على الله عز وجل، لأنه الكامل في جميع صفاته وأعماله (¬3). وأما (وَحَد) التي هي أصل لأحد، فيوصف بها الإنسان وغيره، تقول رجل وحد، ودرهم وحد، بخلاف كلمة أحد، فلا يقال رجل أحد، ولا درهم أحد، فالأبدال كان لغرض أداء معنى جديد، واستعمال جديد، فالوحد من الوحش المتوحد، ومن الرجال الذي لا يعرف نسبه ولا أصله (¬4). فليس (وحد) كأحد، ولا (أحد) كواحد. ¬

_ (¬1) لسان العرب 4/ 460 (¬2) لسان العرب 4/ 464 (¬3) تفسير ابن كثير 4/ 570 (¬4) لسان العرب 4/ 464

اسم الفاعل من العدد

اسم الفاعل من العدد: يصاغ من العدد من لفظ اثنين فصاعدا إلى عشرة اسم فاعل على وزن فاعل، فيقال ثان وثالث ورابع ونحوها، ويستعمل على أحد معنيين: أحدهما: أن يكون المراد به (واحدا) فتستعله مع أصله الذي صيغ منه تقول: هو ثاني اثنين، أي هو أحد اثنين، وثالث ثلاثة أي هو أحد ثلاثة، ورابع أربعة، أي هو أحد أربعة. والمعنى الآخر أن يراد به معنى الجعل والتصيير، فيستعمل مع مادون أصله بمرتبة واحدة فيقال: هو رابعٌ ثلاثةً، أي يجعل الثلاثة أربعة، وسادس خمسة، أي جعل الخمسة ستة، بأن يدخل فيهم. وللمعنى الأخير استعمالان.: أما أن نون اسم الفاعل وننصب ما بعده، فنقول: هو رابع ثلاثة، وسادس خمسة، وهو أما على معنى المضي، أي جعلهم وصيرهم، وإما على معنى الحال، والاستقبال، كما مر في اسم الفاعل. (¬1). وإذا أردنا أستعمال الواحد والواحدة استعمال اسم الفاعل في التنييف بعد العشرة، أو بعد ألفاظ العقود، فإننا نستعملها بلفظ الحادي، والحادية، على القلب، كما يقول النحاة فنقول الحادي والعشرون، والحادي عشر، ولهذا القلب والتغيير سببه، فإنه إذا نطقنا بلفظ (الواحد) لم يفهم منه الدلالة على اسم الفاعل، وإن كان على وزن فاعل، لأن الواحد اسم بني على لفظ مفتتح العدد، فإنك إذا قلت مثلا (أقبل الواحد والعشرون) ولم يكن وزن آخر لاسم الفاعل - لم يفهم منه أنهم أقبلوا جميعا، أو أقبل واحد منهم، ألا ترى أنك تقول (الواحد والعشرون حضروا) وتقول (الحادي والعشرون حضر)؟ ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن يعيش 6/ 36، وشرح الرضي على الكافية 2/ 177، التصريح 2/ 276، الأشموني 4/ 74

تمييز العدد

وكذلك الحادي عشر، والواحد عشرة تقول هذا واحد عشرة رجال، أي واحد من عشرة، أما الحادي عشر فلمعنى آخر معلوم. تمييز العدد: مر بنا أن تمييز العدد من ثلاثة إلى عشرة، جمع مجرور بالإضافة، وبعد الاعداد من أحد عشر إلى تسعة وتسعين، مفرد منصوب، وبعد المائة والألف مفرد مجرور، غير أن هناك أمورًا يجدر بنا التنبيه عليها منها: 1 - أن الإضافة تحتمل التمييز، والإضافة إلى المالك، فقولك (رأيت خمسة الرجال) يحتمل أن الخمسة هم الرجال، ويحتمل أن الخمسة ملك للرجال، كما تقول: هذه ثلاثتك وهذه ثلاثة محمد، وهذا يكون في الاعداد المركبة وألفاظ العقود وغيرها، تقول: (هذه خمسة عشر خالد) أي هي له (وهي عشرو خالد) بحذف النون، وهذه مائة محمد، وألف سعيد، على معنى التملك، جاء في (المقتضب): اعلم أنك إذا أضفت عددا حذفت منه النون والتنوين، أي ذلك كان فيه فتقول: هذه عشروك، وثلاثوك، وأربعوك، ورأيت ثلاثيك وأربعيك، وهذه مائتك وألفك" (¬1). وجاء في (حاشية الخضري): " العدد مطلقا تجوز إضافته إلى غيره تمييزه، نحو عشروك وثلاثة زيد، وحينئذ يستغني عن التمييز، فلا يذكر أصلا، لأنك لا تقول ثلاثة زيد، إلا لمن عرف جنسها (¬2). 2 - إن المفرد المنصوب، قد يختلف عن الجمع، في أنه قد يراد بالجمع المنصوب الحال أحيانا، تقول (أقبل خمسة عشر راكبا) وتقول: (أقبل خمسة عشر راكبين) فالثانية حال (¬3). والأولى تمييز، وتقول (ما أقبل ستة عشر رجلا) و (ما أقبل ستة عشر رجلا) فالأولى تمييز، والثانية تحتمل الحال، أي يمشون على ارجلهم، وتقول (أقبل أربعون ¬

_ (¬1) المقتضب 2/ 178، وانظر شرح ابن يعيش 6/ 20 - 21، شرح الرضي على الكافية 1/ 236، ملا جامي 155 (¬2) حاشية الحضري 2/ 138، وانظر التصريح 2/ 175، شرح ابن عقيل 2/ 138 (¬3) مذهب سيبويه يجيز مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كما مر

فارسا) و (أربعون فرسانًا) فالأولى تمييز، والثانية حال، و (رأيت خمسة مشاةٍ، وخمسةً مشاةً) و (مائة ماشٍ، ومائةً مشاةً) فالأولى تمييز مجرور بالإضافة، والثانية حال. 3 - ثم إن التمييز المفرد قد يختلف عن الجمع، من ناحية أخرى، وذلك أنه قد يراد بالجمع أن كلا من التمييز جمع لا مفرد، تقول: (عندي عشرون سمكة)، و (عندي عشرون سمكا) فمعنى الأولى مفهوم، ومعنى الثانية أن عنده عشرين نوعا من السمك، وقولك (خمسة عشر صفا) يختلف عن قولك (خمسة عشر صفوفا) فإن الثانية تفيد أن كلا من الخمسة عشر هو مجموعة صوف، لا صف واحد. جاء في (حاشية الخضري): " في قوله تعالى: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما} [الأعراف: 160]، : قال بعضهم: إذا كان كل واحد من المعدود جمعا، جاز جمع التمييز فإن المعدود هنا قبائل، وكل قبيلة أسباط لا سبط واحد، فوقع أسباط موقع قبيلة فتدبر (¬1). وجاء في (شرح ابن يعيش): " فإن قلت (عندي عشرون رجالا) كنت قد أخبرت أن عندك عشرين كل واحد منهم جماعة رجال (¬2). وجاء فيه أيضا: وأما قوله تعالى: {ثلاث مائة سنين} [الكهف: 25]، فإن (سنين) نصب على البدل من ثلاثمائة، وليس بتمييز، وكذلك قوله {اثنتي عشرة أسياطا أمما} نصب {أسباطا} على البدل، هذا رأبي أبي إسحاق الزجاج قال: ولا يجوز أن يكون تمييزا، لأنه لو كان تمييزا لوجب أن يكون أقل ما لبثوا تسعمائة سنة، لأن المفسر يكون لكل واحد من العدد وكل واحد سنون وهو جمع والجمع أقل ما يكون ثلاثة، فيكونون قد لبثوا تسعمائة سنة وأجز الفراء أن يكون (سنين) تمييزا" (¬3). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وتقول (عشرون ضروبا)، بمعنى اختلاف أنواع آحاده، لأن الأعداد لا يثني تمييزها المنصوب، ولا يجمع" (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية الخضري 2/ 138 (¬2) شرح ابن يعيش 6/ 21 (¬3) شرح ابن يعيش 6/ 24 (¬4) شرح الرضي 1/ 238

وقال ابن الناظم: " وقد تميز بجمع صادق على الواحد منها، فيقال (عندي عشرون دراهم) على معنى عشرون شيئا كل واحد منها دراهم، ومنه قوله تعالى: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما} المعنى والله أعلم وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة، كل فرقة منهم أسياطا (¬1). 4 - فإن جررت التمييز بمن، أحتملت (من) أن تكون للجنس، وأن تكون للبعض، وذلك نحو (أقبل مائة من الرجال) فهو يحتمل أن المقصود بالرجال هم الجنس، أي أقبل مائة رجل، ويحتمل التبعيض، أي أن ثمة رجالا أكثر من مائة، أقبل منهم مائة، فأل على هذا تكون للعهد. 5 - أن المفرد المنصوب نص على التمييز، وهو المبين للعدد نحو أربعين سنة، وخمسة عشر رجلا. يتبين من هذا أن قولك: 1 - رأيت خمسة عشر رجلا- نص على التمييز، أي رأيت خمسة عشر شخصا، كل شخص هو رجل. 2 - رأيت خمسة عشر رجلٍ، معناه أن الخمسة عشر تعود إلى رجل، وهي ملكة وليست كلمة (رجل) هي المعدود. 3 - رأيت خمسة عشر رجالا - تفيد الحالية، والوصفية أي رأيت خمسة عشر شخصا، يمشون على أرجلهم كما تقول (أقبل خمسة عشر راكبين). وتحتمل أيضا أن كل واحد من الخمسة عشر هو مجموعة رجال لا رجل واحد. 4 - رأيت خمسة عشر من الرجال - تحتمل الجنسية، بمعنى خمسة عشر رجلا وتحتمل البعضية فتكون (ال) للعهد، أي هناك رجال يزيدون على خمسة عشر، رأي خمسة عشر منهم. ¬

_ (¬1) شرح ابن الناظم 302

الممنوع من الصرف

الممنوع من الصرف في العربية أسماء تمنع من التنوين، تسمى الأسماء الممنوعة من الصرف، والمقصود بالصرف التنوين، نحو أحمد وفاطمة، وقد وضع النحاة لهذه الأسماء ضوابط تبين متى يمنع الإسم من الصرف. سبب المنع من الصرف: ذهب النحاة إلى أن سبب المنع من الصرف هو مشابهة الإسم للفعل، وليس المقصود بالمشابهة بينهما اتفاق الإسم والفعل في المادة اللغوية، نحو قدوم وقادم، وإنما تكون المشابهة، في أوجه مخصوصة، تتبعها النحاة، متى وجد قسم منها في الاسم حرف التنوين، فـ (بغداد) و (إبراهيم) يشبهان الفعل من تلك الأوجه، بخلاف (منطلق) و (انطلاق) مثلا. ومدار الأمر يقوم عندهم على الخفة والثقل، وذلك أن الفعل عندهم أثقل من الاسم، فما شابه الفعل في الثقل حرم التنوين، وما لم يشابهه كان خفيفا متصرفا. ويستدلون على أن الفعل أثقل من الإسم، بكون الإسم أكثر دورانا في الكلام من الفعل، بدليل أن الإسم قد يستغني عن الفعل في الكلام، فنقول (الله ربنا) و (خالد غلامنا) ولا يستغني الفعل عن الإسم، وإذا كثر اللفظ في الكلام، كان ذلك دالا على أي خفته لأن الناس يستحبون الخفيف. ومن الدلالة على ثقل الفعل أيضا، أنه يدخله الحذف والسكون، فقد يحذف أوله، وأوسطه وآخره، نحو يعد، وقم، واشترِ، وتقول لم يذهب واكتب وذلك أن الثقيل قد يتخفف منه بالحذف. ومن الدلالة على ثقل الفعل وخفة الإسم أيضا أن بناء الإسم أكثر من بناء الفعل، فالإسم المجرد، ثلاثي ورباعي وخماسي، نحو قمر، ودرهم وسفرجل، والفعل المجرد ثلاثي ورباعي نحو ذهب ودحرج.

والاسم المزيد، رباعي، وخماسي وسداسي، وسباعي، نحو إستقبال، والفعل المزيد لا يتعدى السداسي نحو أستقبل. وأوزان الأسماء أكثر من أوزان الأفعال، فقد ذكروا أن أبنية الأسماء تبلغ ألف مثال ومائتي مثال، وعشرة أمثلة (¬1).، أما الفعل الثلاثي، فله ثلاثة أوزان فعل، فعِل، وفِعل، وفعُل، والرباعي المجرد له وزن واحد، هو فعلل والثلاثي المزيد أوزانه إثنا عشر، والرباعي المزيد له ثلاثة أوزان، والمبني للمجهول معلوم، والمللحقات قليلة، فدل ذلك على أن الإسم أخف من الفعل، ولما كان الاسم أخف من الفعل، احتمل زيادة التنوين عليه، لأن الخفيف يحتمل الزيادة بخلاف الثقيل. جاء في (الكتاب): " واعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض، فالأفعال أثقل من الأسماء لأن الأسماء هي الأول، وهي أشد تمكنا، فمن ثم لم يلحقها تنوين، ولحقها الجزم والسكون، وإنما هي من الأسماء، ألا ترى أن الفعل لابد له من الإسم، وإلا لم يكن كلاما، والإسم قد يستغني عن الفعل، تقول: الله إلهنا، وعبد الله أخونا (¬2). وقد تقول كيف يكون الفعل أثقل من الاسم، مع أن وزنهما قد يكون واحدا، بل أن لفظهما قد يكون واحدا؟ فإن (ضَرَب) مثلا قد يكون فعلاً. وقد يكون اسمًا بمعنى (العسل) و (حجر) قد يكون فعلا بمعنى (حسن) وقد يكون اسما، وهو معروف، فكيف يكون (ضرب) الفعل أثقل من (ضرب) الإسم ولفظهما واحد، وكذلك (حجر)؟ والجواب: أن ما يقتضيه الفعل في الكلام من متعلقات هو الذي يفضي إلى الثقل، فإنه يصح أن تقول (هذا ضرب) أي (هذا عسل) ويتم الكلام ولا يقتضي (ضرب) ههنا شيئا، ولكن إذا قلت (هذا ضرب) فإن (ضرب) ههنا يقتضي فاعلا قد يكون مستترا. ¬

_ (¬1) المزهر 2/ 4 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 6

وقد يكون ظاهرًا، نحو (هذا ضرب أخوه)، وقد يقتضي مفعولا علاوة على ذلك، نحو (هذا ضرب أخوه عامرا) ولابد من هذا الإقتضاء، هذا علاوة على ما يتضمنه أو يقتضيه من الظروف وغيرها، نحو (هذا ضرب أخوه أمس) في حين لا يقتضي الإسم شيئا من ذلك، فإن الكلام قد يتم بالإسم، ولكن الفعل يقتضي في الأقل لفظا آخر وهو الفاعل، فدل ذلك على أن الفعل أثقل من الإسم في اللفظ، لأنه يقتضي لفظًا آخر علاوة على لفظه. جاء في (شرح ابن يعيش): " ولابد من بيان ثقل الأفعال، فإن مدار هذا الباب على شبه مالا ينصرف الفعل في الثقل، حتى جرى مجراه فيه، ولذلك حذف التنوين مما لا ينصرف لثقله حملا على الفعل، وإنما قلنا أن الأفعال أثقل من الأسماء لوجهين: أحدهما: أن الإسم أكثر من الفعل من حيث أن كل فعل لابد له من فاعل اسم، يكون معه، وقد يستغني الإسم عن الفعل، وإذا ثبت أنه أكثر في الكلام كان أكثر استعمالا، وإذا كثر استعماله خف على الألسنة لكثرة تداوله، ألا ترى أن العجمي إذا تعاطي كلام العرب ثقل على لسانه، لقلة استعماله له وكذلك العربي إذا تعاطى كلام العجم، كان ثقيلا عليه لقلة استعماله له. الوجه الثاني: أن الفعل يقتضي فاعلا ومفعولا، فصار كالمركب منهما إذ لا يستغني عنهما، والإسم لا يقتضي شيئا من ذلك (¬1). وقد تقول: ألأن الاسم أكثر في الكلام، دل ذلك على خفته، أم لأن الإسم خفيف كثر في الكلام؟ وبتعبير آخر: هل الخفة سبب الكثرة، أم الكثرة سبب الخفة؟ والجوا [: كلاهما، فإن اللفظ إذا كثر في الكلام استخفه الناس ولم يشعروا بثقله، ألا ترى أن هناك جملا وعبارات تصنع لتمرين اللسان، يستثقلها الناطق باديء ذي بدء، حتى إذا أكثر من النطق بها خفت على لسانه، فلا يشعر بما فيها من ثقلها، كما أن الشيء الخفيف يستحبه الناس فيدور على ألسنتهم. ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 1/ 57

وعلى أي حال فالنحاة يرون أن الإسم أخف من الفعل، ولذا احتمل التنوين الذي يسمى تنوين التمكين، فهذا التنوين دليل على خفة الإسم كما يقول النحاة، قال سيبويه: " فالتنوين علامة للأمكن عندهم، والأخف عليهم وتركه علامة لما يستثقلون" (¬1). وجاء في (شرح ابن يعيش): " إن الأفعال إنما يمتنع منها تنوين التمكين، وهو الدال على الخفة (¬2). وجاء في (فلما كانت النكرة أخف عليهم الحقوها التنوين، دليلا على الخفة ولذلك لم يلحق الأفعال لثقلها (¬3). وذكر ابن الناظم المنصرف فقال، أنه " يدخله التنوين للدلالة على خفته، وزيادة تمكنه (¬4) .. فما كان مشابها للفعل في ثقله، حرم التنوين لأن الفعل لا ينون، وحر الجر بالكسرة لأن الفعل لا يجر أصلأ، وقيل بل حرم الجر بالكسرة، " لئلا يتوهم أنه مضاف إلى ياء المتكلم، وأنها حذفت واجتزيء بالكسرة، وقيل: لئلا يتوهم أنه مبنى، لأن الكسرة لا تكون إعرابا إلا مع التنوين، أو الألف واللام، أو الإضافة، فلما منع الكسر حمل جره على نصبه فجر بالفتحة. (¬5). ولذا قسم النحاة الأسماء المعربة إلى قسمين: قسم ثقيل، وهو غير المنصرف، والآخر منصرف، وهو الذي يحتمل زيادة التنوين (¬6). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 7 (¬2) شرح ابن يعيش 1/ 64 (¬3) شرح ابن يعيش 1/ 57 (¬4) شرح ابن الناظم 257 (¬5) الهمع 1/ 24 (¬6) انظر الأشموني 3/ 229، ابن الناظم 258، حاشية يس على التصريح 2/ 209 - 210

وتعليلات النحاة تذكر أن سبب المنع من الصرف، هو وجود علتين فرعيتين في الإسم يشبه الاسم بهما الفعل، أو علة تقوم مقامهما، وذلك أن الفعل - كما يرون - فرع على الإسم من ناحيتين: الأولى أن الفعل مشتق من المصدر الذي هو اسم فالاسم، أصل للفعل فهو إذن اول، أي أقدم من الفعل. والثانية: أن الفعل يحتاج إلى الاسم في الكلام. فما شابه من الأسماء الأفعال في علتين فرعيتين، أو واحدة تقوم مقام علتين، منع من الصرف، وقد ذكر سيبويه هاتين الفرعيتين فقال: " فالأفعال أثقل من الأسماء لأن الأسماء هي الأول .. وإنما هي من الأسماء ألا ترى أن الفعل لا بد له من الإسم، وإلا لم يكن كلاما، والإسم قد يستغني عن الفعل (¬1). ومعنى قوله أن الأسماء هي الأول، أنها مقدمة في الرتبة على الأفعال، لأنها أصل الأفعال (¬2). وجاء في (التصريح): " ثم المعرب أن أشبه الفعل في فرعيتين من تسع، أحداهما من جهة اللفظ، والثانية من جهة المعنى، أو في واحدة تقوم مقامهما، وذلك لأن في الفعل فرعية عن الإسم في اللفظ، وهي اشتقاقه من المصدر، وفرعية في المعنى، وهي إحتياجه إلى الإسم في الإسناد، منع الصرف (¬3). وعلل الممنوع من الصرف فرعية، كما يقول النحاة فالتعريف فرع على التنكير لأن التنكير أصل، والجمع فرع على الواحد، لأن الواحد أصل، والتأنيث فرع على التذكير وهكذا. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 6 (¬2) شرح السيرافي بهامش الكتاب 1/ 6 (¬3) التصريح 2/ 209، وانظر شرح الرضي على الكافية 1/ 38

جاء في (الكتاب): " واعلم أن النكرة أخف عليهم من المعرفة، وهي أشد تمكنا لأن النكرة أول، ثم يدخل عليها ما تعرف به، فمن ثم أكثر الكلام ينصرف في النكرة. واعلم أن الواحد أشد تمكنا من الجمع، لأن الواحد الأول، ومن ثم لم يصرفوا ما جاء من الجمع على مثال، ليس يكون الواحد نحو مساجد ومفاتيح. وأعلم أن المذكر أخف عليهم من المؤنث، لأن المذكر أول، وهو أشد تمكنا، وإنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن (الشيء) يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم، أذكر هو أو أنثى، والشيء مذكر (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): وأما فرعية هذه العلل فإن العدل فرع إبقاء الإسم على حاله، والوصف فرع الموصوف، والتأنيث فرع التذكير، والتعريف فرع التنكير إذ كل ما نعرفه كان مجهولا في الأصل عندنا، والعجمة في كلام العرب فرع العربية، إذ الأصل في كل كلام أن لا يخالطه لسان آخر، فيكون العربية إذن في كل العجم فرعا، والجمع فرع الواحد، والتركيب فرع الإفراد، والإلف والنون فرع الفي التأنيث. . ووزن الفعل في الإسم فرع ووزن الاسم إذا كان خاصا بالفعل، أو أوله زيادة كزيادة الفعل، لأن أصل كل نوع لا يكون فيه الوزن المختص بنوع غيره (¬2). كما أن تعليلات النحاة تشير إلى أن ما يكثر في الكلام يكون منصرفا، وما لا يكثر يكون غير منصرف، لأنه أشبه الفعل في هذه الناحية، والأسماء غير المنصرفة بالقياس إلى المنصرفة قليلة. فمدار كل ذلك على الخفة والثقل الذي مداره على الكثرة والقلة، فالمعارف أقل من النكرات، لأن النكرات أصل ثم يدخلها التعريف بأل وغيرها، ثم إن الممنوع من الصرف يتعلق بالعلم، ولا مدخل له مع غيره من المعارف، فإن الضمائر وأسماء ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 6 - 7 (¬2) شرح الرضي 1/ 39 - 40

الإشارة، والأسماء والموصولة، والمعرف بالنداء، وهو النكرة المقصودة مبنية، ومنع الصرف متعلق بالمعربات، وأن المعرف بأل، والمضاف يجران بالكسرة، ولا ينونان أصلا، فلا مدخل لها بالمنع من الصرف، فهو إذن متعلق بالعلم وحده من المعارف، ولا شك أن أسماء الأجناس أكثر بكثير من العلم، يطلق على واحد من أفراد الجنس، فكلمة (نهر) أكثر من (دجلة) أو (النيل) لأن كلمة (دجلة) خاصة بواحد من الأنهار، وكلمة (رجل) أكثر بكثير من كلمة (محمد) أو (إبراهيم)، فإنه يصح أن تطلق كلمة (رجل) على كل واحد من أفراد الجنس، بخلاف كلمة (محمد) فإنها تطلق على واحد من أفراد الجنس، فكل واحد اسمه (محمد) أو غير محمد يصح أن نطلق عليه كلمة (رجل) ولا يصح أن نطلق (محمدا) على كل رجل. وكذلك بقية الأعلام، فثبت بذلك قلة الإعلام بالنسبة إلى النكرات، وعلى هذا تكون المعرفة اثقل من النكرة. والصفات اقل من الجوامد، ذلك أن الصفات تصاغ من الأفعال، أو قل هي مرتبطة بها فإذا أثبتت قلة الأفعال، ثبت بذلك قلة الصفات، فنحو رجل وشجرة أكثر من نحو قائم وكريم، فالصفة أثقل من الأسماء الجامدة، هذا علاوة على أن كل صفة إنما تجري على موصوف، فدل ذلك على قلة الصفات، فإن كان مع هذا الثقل ثقل آخر إزداد ثقلا فالعلم إذا كان معه ما يقلله في الكلام، كالتركيب المزجي، والعدل، ووزن الفعل والعجمة وغيرها، إزداد ثقلا فحرم التنوين، ذلك أن المركب أقل من المفرد، فنحو حضر موت وبعلبك، أقل من نحو خالد، وسالم. والمعدول أقل من غير المعدول، فنحو عمر وزفر قليل في الكلام، وقد جمع النحاة الإعلام المعدولة على وزن (فعل)، فما وجدوها تزيد على أربعة عشر علما، أو خمسة عشر (¬1). ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 27، وهي: عمر وزفر ومضر وثعل وهبل، وزحل، وعصم، وقزح، وجشم، وقثم، وجمح، وجحا، ودلف، وبلغ، وفي التصريح 1/ 244، وفي حاشية الصبان 3/ 264: هذل أيضا

والأعجمي أقل من العربي، وما كان على وزن خاص بالفعل أقل من غيره، والمؤنث أثقل من المذكر لأن التذكير هو الأصل، فالمؤنث يؤخذ من المذكر، تقول قائم وقائمة. ثم ألا ترى أن المذكر ليس له علامة تذكير، لأنه أصل بخلاف المؤنث؟ جاء في (الكتاب): " واعلم أن المؤنث أخف عليهم من المؤنث، لأن المذكر أول، وهو أشد تمكنا وإنما يخرج التأنيث من التذكير (¬1).، وأيضا لأن المذكر أكثر دورانا على الألسنة من المؤنث، فإن العرب تنسب إلى الإباء فتقول فلان بن فلان، وفلانة بنت فلان، ولا تقول فلان بن فلانة، ولا فلانة بنت فلانة، فدل ذلك على كثرة تردد المذكر دون المؤنث، جاء في كتاب (المذكر والمؤنث) لأبي بكر بن الأنباري: " فإن قال: لم صار التأنيث يثقل الإسم؟ ولم صارت الأسماء المؤنثة أثقل من المذكرة قيل له: العلة في هذا أن العرب تكثر استعمال الرجال وترددها في الكتب والأنساب فيقولون: فلان بن فلان ولا يقولون: فلان بن فلانة بنت فلان، لصيانتهم أسماء النساء وقلة إستعمالهم لها، فلما كان ذلك كذلك، كان الذي يكثرون استعماله أخف على ألسنتهم من الذي يقلون استعماله هذا مذهب الفراء (¬2). وهكذا بقية شروط العلم التي تمنع من الصرف. وإذا اقترن بالصفة ما يقللها في الكلام، كانت ثقيلة فحرمت التنوين، وذلك نحو أفعل الذي مؤنثه فعلاء، وفعلان الذي مؤنثه فعلى، وسبب ذلك أن الأصل في الصفات أن تؤنث بتاء التأنيث، وهو الكثير فيها، نحو عالم عالمة، وكبير وكبيرة، وصبار وصبارة، فلما خرجت هذه الصفات عن الكثرة والأصل، قلت في الكلام فدل ذلك على ثقلها فحرمت التنوين ولذا ما كان داخلا في الكثرة صرف، فأفعل إذا أنث على (أفعلة) صرف، نحو أرمل وأرملة، و (فعلان)، إذا أنث على (فعلانة) صرف، نحو عريان عريانة، وندمان ندمانة، وذلك لأنه دخل في الشيء العام الكثير. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 7 (¬2) المذكر والمؤنث - رسالة دكتوراه مقدمة إلى جامعة بغداد لطارق عبد عون - مكتوبة بالآلة الكاتبة - القسم الثاني 40 - 41

ثم إن ما يؤنث بالتاء يكرر مرتين مرة في التذكير، ومرة في التأنيث، ففي نحو قائم وقائمة يكرر لفظ (قائم) في التذكير وفي التأنيث، ولا يختلف لفظ المؤنث عن المذكر إلا بزيادة التاء، وكذلك نحو جميل وجميلة وأرمل وأرملة، وسيفان وسيفانة، فيكون تردده أكثر مما لا يؤنث بالتاء، ألا ترى أن لفظ (عطشان) لا يتردد في التأنيث بل يكون للمؤنث بناء برأسه بناء آخر وهو (عطشى)، بخلاف (سفيان) و (أحمر) لا يتردد في التأنيث بل يكون للمؤنث بناء برأسه وهو (حمراء) بخلاف أرمل؟ فما يؤنث بالتاء يكون تردده أكثر في الكلام، لأنه يتردد في المؤنث وفي المذكر بخلاف مالا يؤنث بالتاء، ولذا كان ما يؤنث بالتاء منصرفا، لأنه كثير أما مالا يؤنث بالتاء فإنه يكون أقل، فيكون قد شابه الفعل من هذه الناحية. جاء في (الكتاب): " هذا باب ما لحقته نون بعد ألف، فلم ينصرف في معرفة ولا نكرة، وذلك نحو عطشان، وسكران، وعجلان، وأشباهها .. وهاتان الزائدتان قد اختص بهما المذكر، ولا تلحقه علامة التأنيث، كما أن (حمراء) لم تؤنث على بناء المذكر، ولمؤنث (سكران) بناء على حدة كما كان لمذكر (حمراء) بناء على حده (¬1). وجاء في (المقتضب): " أن كل ما فيه الهاء ينصرف فيه النكرة، وما كان فيه الف التأنيث لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. فإن قال قائلأ: ما باله ينصرف في النكرة، وما كانت فيه ألف التأنيث لا ينصرف في معرفة ولا نكرة؟ قيل: أن الفصل بينهما، إن ما كان فيه الهاء فإنما لحقته، وبناؤه، بناء المذكر، نحو قولك (جالس)، كما تقول (جالسة)، و (قائم) ثم تقول (قائمة)، فإنما تخرج إلى التأنيث من التذكير والأصل التذكير. ¬

_ (¬1) سيبويه 2/ 10

وما كانت فيه الألف فإنما هو موضوع للتأنيث، على غير تذكير خرج منه، فامتنع من الصرف في الموضعين لبعده عن الأصل. ألا ترى أن حمراء على غير بناء أحمر، وكذلك عطشى، على غير بناء عطشان (¬1). وما فيه ألفا التأنيث نحو ذكرى وصحراء، أقل مما فيه التاء نحو مدرسة وكريمة، ولذا كان المختوم بألف التأنيث ممنوعا من الصرف، بخلاف ما فيه تاء التأنيث، فإنه لا يمنع من الصرف إلا أن يكون علما. وصيغتا منتهى الجموع قليلتان كذلك، لا نظير لهما في المفرد، نحو قبائل وطواحين وضابط هاتين الصيغتين أنه كل جمع أوله مفتوح وثالثه ألف بعدها حرفان أو ثلاثة بينها أوسطها ساكن، وسميت هاتان الصيغتان منتهى الجموع، لأنهما تنتهي عندهما جموع التكسير، فإنه إذا جمع الإسم على هاتين الصيغتين أمتنع جمعه مرة اخرى، وذلك أن الإسم يجمع ثم قد يجمع هذا الجمع مرة أخرى، فإن كان على صيغة منتهى الجمع استقر على ذلك، نحو كلب وأكلب، فإن جمعت (أكلبا) قلت (أكالب) فهذا جمع الجمع وهو على صيغة منتهى الجموع فلا يجمع بعد جمع تكسير. جاء في (الأصول): " في هذا الجمع: " وهو الذي ينتهي إليه الجموع، ولا يجوز أن يجمع وإنما منع الصرف لأنه جمع جمع لأجمع بعده، ألا ترى أن أكلبا جمع كلب، فإن جمعت (أكلبا) قلت (أكالب) فهذا قد جمع مرتين .. فإن أدخلت الهاء على هذه الجمع انصرف، وذلك نحو (صياقلة) لأن الهاء قد شبهته بالواحد فصار كمدائني لما نسبت إلى (مدائن) انصرف، وكان قبل التسمية (¬2). لا ينصرف (¬3). وقالوا أن هذا الجمع لا نظير له في الآحاد (¬4). فليس في الآحاد نظير مفاعل ومفاعيل، إلا ما ندر، مثل حضاجر، وسراويل، وقيل هما جمع مما يدل على قلة هذا الوزن. ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 319 - 320، وانظر الأصول 2/ 84 (¬2) كذا في المطبوع ولعله (النسبة) وهو المناسب (¬3) الأصول 2/ 92 (¬4) كتاب سيبويه 2/ 15 - 16

وقد تقول أن (أفعُلا) و (أفعالا) لا نظير لهما في الواحد أيضا، وهما منصرفان فليس مثل أكلب، وأنفس، وأقلام، وإجمال في الواحد. وقد رد النحاة على ذلك بما يأتي: الأول جواز وصف المفرد بهذين الجمعين، نحو برمة أعشار، ونطفة أمشاج (¬1).، قال تعالى: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} [الإنسان: 2]. والثاني أن هذين الجمعين أعني (أفعالا) و (أفعُلا) قد يجمعان جمعا ثانيا، فهما نظير المفرد في قبولهما الجمع، وذلك نحو أقوال، وأقاويل، وأعراب وأعاريب، وأيد وأياد فهذه الأحرف تخرج إلى مثال مفاعل، ومفاعيل إذا كسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر، فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا، لأن هذا البناء هو الغاية، فلما ضارعت الواحد صرفت (¬2). وقال السيرافي: " فإذا قيل: إذا كانت تمنع الصرف في الجمع الذي لا نظير له في الواحد، فينبغي ألا تصرف (أكلبا)، قيل: لم يرد سيبويه ما ذهب إليه المعترض وإنما أراد على مثال لا يجمع جمعا ثانيا، فإن ما على مثال يتأتي فيه جمع ثان، فهو بمنزلة الواحد (¬3). الثالث أنهما يصغران على لفظهما، كالآحاد، نحو أكليب، وانيعام، تصغير أكلب، وأنعام، بخلاف (مفاعل) و (مفاعيل) فإنهما يردان إلى المفرد ثم يصغران، وذلك نحو مساجد فإن تصغيرها مسيجدات، ومصابيح فإن تصغيرها (مصبيحات)، فعومل (أفعل) و (أفعال) كالمفرد. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 1/ 42، وانظر كتاب سيبويه 2/ 17 (¬2) كتاب سيبويه 2/ 16 - 17 (¬3) شرح السيرافي بهامش الكتاب 1/ 7

الرابع أن كلا من (أفعال) و (أفعُل) له نظير في الآحاد، يوازنه في الهيئة وعدد الحروف فـ (أفعال) نظيره (تفعال) نحو تجوال وتطواف، و (فَعلان) نحو صلصال وثرثار، وأفعُل نظيره تنقل ومكرم (¬1). فدل ذلك على قلة هذه الجمع فأمتنع من الصرف ألا ترى أنه إذا الحقت به التاء صرف نحو صياقلة وصيارفة، وذلك لأن هذا الوزن له نظير في الاحاد، نحو طواعية وكراهية بخلاف ما ليس فيه التاء؟ فخلاصة ما ذهب إليه النحاة ان الممنوع من الصرف ثقيل بخلاف المنصرف، وليس أثقل متأتيا عن كثرة في حروف الاسم، ولا عن ثقل في النطق، فقد يكون الإسم قليل الحروف، وهو ممنوع من الصرف، وقد يكون على أطول الأبنية فينصرف، ألا ترى أنك تصرف نحو مستعصم واستبسال علمين ولا تصرف سقر؟ بل ربما كانت الزيادة في الحروف سببا من أسباب الصرف، فأنت تمنع (صيارف) فإن زدت عليها التاء فقلت (صيارفة) صرفته، وتمنع (ينبع) علما، فإن زدت عليه حرفا فقلت (ينبوع) صرفته. وقد يكون الاسم ثقيل النطق فتصرفه وقد يكون خفيفا فلا تصرفه، فأنت تصرف (استشزارا)، ولا تصرف (عمر) مع أن عمر أخف كثيرا من (استشزار). وكذلك كونه على بناء معين لا يستدعي المنع من الصرف دائمًا، فأنت تصرف أفعل مرة وتمنعه من الصرف مرة أخرى، وتصرف (فعلان) مرة وتمنعه من الصرف مرة أخرى فأنت تصرف (أرملا) ولا تصرف (أكبر) مع أنهما وصفان على وزن واحد، وتصرف (ندمانا) ولا تصرف (عطشان) وهما وصفان على وزن واحد. بل الكلمة الواحدة تصرفها مرة وتمنعها الصرف مرة أخرى، فأنت تصرف (راجحة) وصفا وتمنعها الصرف علما، وتصرف (صباحا) علما لمذكر وتمنعها الصرف علما ¬

_ (¬1) الأشموني 3/ 244، وانظر حاشية على شرح ابن عقيل 2/ 97

رأي الأستاذ إبراهيم مصطفى

لانثى فدل على أن المقصود بالثقل هو أوصاف معينة، وشروط خاصة، متى كان قسم منها في الاسم عد ثقيلا بسببه، فحرم التنوين. رأي الأستاذ إبراهيم مصطفى: وقد ذهب الأستاذ إبراهيم مصطفى مذهبا آخر، هو أن التنوين علامة للتنكير فالأسماء التي نون فيها جانب من التنكير والتي تحرم التنوين معارف. إن النحاة قسموا التنوين على أقسام معلومة أشهرها: تنوين التمكين الذي هو دليل الخفة وهو اللاحق للأسماء المعربة المنصرفة مثل تنوين محمد ورجل ورام. تنوين التنكير، وهو اللاحق لقسم من الأسماء المبنية، فرقا بين معرفتها ونكرتها نحو صهٍ وسيبويهٍ. تنوين المقابلة وهو اللاحق لجمع المؤنث السالم نحو مسلمات تنوين العوض وهو اللاحق لكل وبعض وأي وإذ. غير أن الأستاذ إبراهيم مصطفى ذهب إلى أن التنوين علامة على التنكير مطلقا، ولم يفرق بين أنواع التنوين قال: " ومعنى التنوين غير خفي فهو علامة التنكير" (¬1). ومن هنا كان منطلق الإستاذ في تفسير الأسماء المنصرفة والممنوعة من الصرف، فما لحقه التنوين كان له نصيب من التنكير علما كان أو صفة أو غيرهما. وإليك رأيه في ذلك: العلم: ذهب الأستاذ إبراهيم إلى أن العلم حقه أن لا ينون: " كما ينون غيره من المعارف، ولا يدخله علم التنكير حتى يكون فيه نصب من معنى التنكير (¬2). وقال: " إن الأصل في ¬

_ (¬1) إحياء النحو 165 (¬2) المصدر السابق 189

العلم إلا ينون إلا أن يدخله شيء من التنكير (¬1). وقال أيضا: " وتمام هذه الأدلة أن العلم إذا عين تمام التعين وأمتنع أن يكون فيه معنى العموم، لم يجز أن يدخله التنوين وذلك حين يردف بكلمة (ابن) وينسب إلى أبيه مثل: علي بن أبي طالب .. وقد آن أن نقرر القاعدة التي نراها في تنوين العلم، وأن نقررها على غير ما وضع جمهور النحاة، بل على عكس ما وضعوا وهي: الأصل في العلم ألا ينون، ولك في كل علم ألا تنونه، وإنما يجوز أن تلحقه التنوين، إذا كان فيه معنى من التنكير وأردت الإشارة إليه (¬2). وفيما قاله الأستاذ نظر: فنحن نرى الاسم معينا تمام التعيين، وليس فيه حظ من التنكير، ثم يكون منصرفا ونرى اسما آخر ليس فيه ذلك التعيين، ويكون ممنوعا من الصرف، فمثلا (محمد) الذي هو رسول الله معين تمام التعيين، ومع ذلك هو منصرف، قال تعالى: {ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم} [الأحزاب: 40]، وقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29]، في حين نرى علم الجنس الذي يدل على العموم، قد يكون ممنوعا من الصرف نحو (أسامة) علما على الأسد. ونحن نرى في الآية الواحدة جملة أعلام بعضها منصرف، وبعضها ممنوع من الصرف وذلك نحو قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} [النساء: 163]، فهل يصح أن يقال إن بعضهم منكر وبعضهم معرف؟ هل يصح أن يقال أن (نوحا) نكرة، لا يراد به واحد معين، و (إبراهيم) و (إسماعيل) معرفتان؟ ¬

_ (¬1) المصدر السابق 189 (¬2) المصدر السابق 179

وقال تعالى: {وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم} [العنكبوت: 38]، فهل (ثمود) معرفة بخلاف (عاد). ومن أسماء الصدر الأول على سبيل المثال، محمد، وعمر، وعثمان، وعلي، فمحمد وعلى منصرفان، وعمر وعثمان ممنوعان من الصرف، فهل معنى ذلك أن محمدا وعليا نكرتان بخلاف عمر وعثمان، وهل يمكن أن يقال أن محمدا أو عليا غير معين بخلاف عمر وعثمان. ثم أنه ورد من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم محمد، وأحمد فـ (محمد) منصرف و (أحمد) ممنوع من الصرف، كما هو معلوم قال تعالى: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6]، فهل محمد نكرة، وأحمد معرفة، وهما علمان لشخص واحد ومحمد أشهر من أحمد؟ ثم لننظر في أسماء البقاع، نلاحظ خلاف ما قرره قال تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} [آل عمران: 123]، بتنوين بدر، وقال: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم} [التوبة: 25]، فهل مكان بدر نكرة لا يراد به التعيين؟ وقل مثل ذلك عن (حنين). جاء في كتاب (النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة): إن معاني الإعلام المصروفة مثل معاني الإعلام غير المصروفة فالإعلام المنونة في القرآن كنوح ولوط مثلا ليس المراد منها نوحا من نوحين، ولوطا من لوطين، وإنما المراد منها الذات المعينة كبقية أعلام الأنبياء التي لم تنون {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين} [الأنعام: 83 - 86].

هذه آيات من كتاب الله الكريم، جمعت أعلاما لطائفة من أنبياء الله، بعضها منون وبعضها غير منون، ولا يشك ناظر فيها أنها في درجة واحدة من التعريف، سواء منها مانون وما لم ينون. ولا يشك أحد أنه لم يقصد بما نون كنوح ولوط التنكير، وانه قصد بما لم ينون كإسحاق وإبراهيم التعريف .. وإذا جارينا المؤلف على دعواه أن الإعلام التي ترك تنوينها قصد منها التنكير، لم تكن الإعلام التي وردت في القرآن منونة دالة على ذوات معروفة للسامعين، بل كان المراد منها واحدا من أمة له هذا الاسم، وهذا له خطره في فهم القرآن الكريم، وكفي بهذا القول خطلا أنه يؤدي إلى أن يكون المراد من محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار) واحدا غير معين لا يعرفه السامعون، وإنما هو واحد من أمة له هذا الاسم" (¬1). أما ما ادعاه من أنه إذا عين العلم " تمام التعيين وأمتنع أن يكون فيه معنى العموم، لم يجز أن يدخله التنوين، وذلك حين يردف بكلمة ابن وينسب إلى أبيه مثل علي بن أبي طالب" فهذا مردود بأنه لا يتعين العلم تمام التعيين، إذا ذكر الأب، بل يحتمل أن يكون فيه معنى العموم، وذلك نحو قاسم بن محمد، وعلى بن حسين، وحسين بن علي، ومحمد بن محمد فكثير من الناس يحملون هذه التسميات قديما وحديثا. ويرده أيضا أنك قد تأتي بصفة تعين ذلك العلم بعد أن كان يحتمل عدة أشخاص، فتوقعها بعده فيلزم تنوينه، ولو كان كما قال لتعين ذهاب تنوينه مثل أقبل سعيد الكاتب ابن علي، أو أقبل سعيد القصير بن خالد، فيلزم تنوين سعيد ولو قلت أقبل سعيد بن علي، للزم حذف تنوينه، ولا شك أن الجملة الأولى أدل على التعيين، فدل ذلك على أنه ليس كما ذهب إليه. ¬

_ (¬1) النحو والنحاة 213 - 214

أما حذف التنوين في نحو ما ذكر فللفرق بين الوصف وغيره، فإنك إذا قلت (محمد ابن سعيد) بتنوين (محمد) كنت أخبرت عن (محمد) بأنه ابن سعيد، وذلك إذا كان المخاطب يجعل اباه، بخلاف ما إذا قلت (محمد بن سعيد) بغير تنوين فإن السامع يعلم أنه ابن سعيد، فالأولى جملة تامة بخلاف الثانية، فإنها ليس جملة، يقال: ابن من سعيد؟ فنقول (سعيد ابن إبراهيم) بتنوين (سعيد) ولا تقول (سعيدُ بن إبراهيم) بحذف التنوين لأن حذف التنوين معناه أن السامع يعلم أنه ابن إبراهيم، ولا يكون الكلام تاما أيضا. قال تعالى: {وقالت اليهودُ عزيرٌ ابن الله} [التوبة: 30]، بتنوين عزير فليس المعنى أن عزيرا نكرة، ولا هو غير معين تمام التعيين، بل أراد أن يخبر عن أبيه في معتقدهم بخلاف ما لو قال (عزيرُ بن الله) بلا تنوين، أذن لكان إقرارا من الله بأنه ابنه تعالى الله عن ذلك، ويكون الكلام غير تام ايضا، بل ينتظر الخبر، فإن قولك (محمدٌ ابن سعيد) مبتدأ وخبر وأما (محمدُ بن سعيد) بلا تنوين، فمحمد مبتدأ (وابن) صفة، وليس في الجملة خبر فيكون الكلام غير تام. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية إن قسما من الباحثين المحدثين رجحوا أن التنوين ربما كان في الأصل علامة للتعريف - على عكس ما ذهب إليه - وبقيت هذه العلامة في قسم من الإعلام تشير إلى أصلها القديم، جاء في (التطور النحوي): وحقيقة الأمر أن التنوين وإن كان علامة على التنكير في كل ما بقي من مستندات اللغة العربية، فربما كان في الأصل علامة للتعريف، فقد ذكرنا أن أصل التنوين هو التمييم، وأنا نرى للتمييم آثارا من معنى التعريف في الأكدية العتيقة .. أنه من الممكن أن يكون التنوين قد كان في الأصل أداة للتعريف، ثم ضعف معناه المعرف فقام مقامه الألف واللام، فصار علامة للتنكير، فإذا كان الأمر كذلك فهمنا سبب وجود التنوين في كثير من الإعلام القديمة نحو عمرو وزيد، ونفهم أيضا سبب انعدامه في بعضها، نحو عمر وطلحة، وهند فإن العلم معرف في نفسه لا يحتاج إلى علامة للتعريف، وإن أمكن أن تلحق به .. ولو كان التنوين علامة للتنكير في الأصل لكان الحاقه ببعض الأعلام صعب الفهم جدًا (¬1). ¬

_ (¬1) التطور النحوي 77 - 78

الصفات

وهذا الترجيح له ما يدعمه، فاللغة السبئية واللهجات العربية الجنوبية، كانت تستعمل النون للتعريف وتضعها في آخر الكلمة، المراد تعريفها (¬1). وهذا يراد ما ذهب إليه الإستاذ إبراهيم. وقد حاول توجيه الأمر توجيها ثانيا، وهو أن ما ينون قد يلمح فيه الوصف قال: " ووجه آخر آكد عندنا منه وهو أن العلم كثيرا ما يلمح فيه الوصف، فإذا استعملت العلم ترمي إلى الدلالة على هذه الصفة، فقد جنحت به إلى استعمال الصفات تنكرها مرة بالتنوين، وتعرفها أخرى بأل فتقول: فضل والفضل وزيد والزيد (¬2). وهذا مردود إن من المعلوم أن لمح الأصل غير قياس، فلا يصح أن ندخل (ال) الدالة على لمح الأصل على جميع الإعلام المنقولة فلا يصح أن نقول المحمد والعلي، وإنما يقتصر على ما ورد. ومن ناحية أخرى لم يقل أحد أن لك أن تنون الممنوع من الصرف، لمحًا للوصف، فلو سميت رجلا بـ (غضبان)، لم يصح أن تقول (أقبل غضبانٌ) بالتنوين لمحا لصفة الغضب، ولا (أقبلت عائشة) بتنوين عائشة لمحا لوصف العيش. الصفات ورأيه في الصفات الممنوعة من الصرف لا يختلف عن الأعلام، فقد ذهب إلى أن الصفة الممنوعة من الصرف معرفة قال: " والشطر الثاني أن الصفة تنون ولا تحرم من التنوين، إلا إذا كان فيها نصيب من التعريف (¬3).، فـ (اسمر) في قولك (مررت برجل اسمر) معرفة على رأيه. ¬

_ (¬1) تاريخ العرب قبل الإسلام 7/ 73 (¬2) إحياء النحو 177، ومعلوم أن هذين العلمين ليسا وصفين بل هما مصدران فلو استعمل تعبير لمح الأصل بدل لمح الوصف لكان أجود (¬3) إحياء النحو: 189

وهذا باطل من وجوه: منها أنها توصف بها النكرة، كما في المثال ونحو (مررت أفضل منك) ومنها أنها يصح تعريفها فتقول (مررت بالرجل الأسمر) و (مررت بالطالب الأفضل) قال تعالى {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145]، فعرفها وصرفها، ولو كانت معرفة لم يصح تعريفها. ثم ما الفرق بين (حمق) و (احمق) حتى يكون (حمق) نكرة في قولنا (هو حمق) و (أحمق) معرفة في قولنا (هو أحمق) ومثله عم وأعمى وجرب وأجرب، وغاضب وغضبان. وعند النحاة أن سبب منع (أفعل) من الصرف، أنها وصف على وزن الفعل مما لا يؤنث بالتاء، ويؤيده أنه إذا زال وزن الفعل صرف مع بقاء المعنى على ما هو عليه نحو خير وشر جاء في (الأصول): " وافعل منك لا ينصرف، نحو أفضل منك، وأظرف منك لأنه على وزن الفعل، وهو صفة فإن زال وزن الفعل انصرف ألا ترى أن العرب تقول: (هو خير منك وشر منك) لما زال بناء (أفعل) صرفوه؟ (¬1) وجاء في كتاب (النحو والنحاة): " أن التعليل الأول ينقضه أن قولنا زيد خير من عمرو وبكر شر من خالد في معنى زيد أخير من عمرو، وبكر أشر من خالد، وخير وشر منونتان وأخير وأشر ليستا منونتين فلو كان عدم التنوين للتعريف والتنوين للتنكير، لكان خير وأخير وشر وأشر، أما منونات، وإما غير منونات لأن المعنى واحد، ولا اختلاف إلا باللفظ (¬2) .. وقد ذهب في الصفة المزيدة ألفا ونونا مذهبا غريبا قال: أما زيادة الألف والنون فقد اشترط في منعها من الصرف شروط منها: أن تكون في زنة (فعلان) مذكر (فعلى)، ¬

_ (¬1) الأصول 2/ 83 (¬2) النحو والنحاة 225

التأنيث

وألا يكون مؤنثا على فعلانة، وبعض العرب، وهو بنو أسد يجيزون أن يكون لكل فعلان مؤنث على فعلانة فهي على هذا جائزة التنوين أبدًا، وإنما يحذف تنوينها أحيانا وعلى قلة رعاية لزيادة الألف والنون (¬1). وهذا قلب للقاعدة فإن قال " فهي على هذا حائزة التنوين أبدا وإنما يحذف تنوينها أحيانا وعلى قلة: فجعل كلام بني أسد أو بعض بني أسد هو القاعدة العامة، وجعل كلام سائر العرب قليلا في حين أن كلام سائر العرب عدم الصرف وبه ورد التنزيل العزيز، قال تعالى: {فرجع موسى إلى قومه غضبان آسفا} [طه: 86]، وقال: {كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران} [الأنعام: 71] فمنع صرف غضبان وحيران. التأنيث: وقد ذهب في المختوم بالفي التأنيث مذهبا مغايرا لما قرره، فقد ذهب إلى أن المختوم بألف التأنيث المقصودة، إنما حرم التنوين لأن التنوين يستدعي حذف ألفه، ولذا منع من الصرف قال: " أما ألف التأنيث المقصودة فالتنوين يستدعي حذفها، وقد أتت لغرض يهتم به العرب، ويعنون به فوق عنايتهم بالتعريف والتنكير وهو التأنيث .. فهذا واضح في الألف المقصودة والألف الممدودة، وهي من المقصورة فاستصبحت حكمها (¬2). فإنه لما لم يستطع أن يقول أن نحو ذكرى، وجرحى، وعلماء معارف ذهب هذا المذهب، فإن التأنيث على حد قوله مهم، وهو أهم من التعريف والتنكير، فإذا لحق التنوين ما فيه ألف التأنيث المقصورة حذفت ألفه، ولذا حرم التنوين كي ينطق بالألف، وهذا مردود من وجوه منها: ¬

_ (¬1) إحياء النحو: 187 - 188 (¬2) إحياء النحو 189 - 191

1 - أنه لماذا لا يخشى حذف الألف من بقية الأسماء المقصورة نحو هدى وفتى ومصطفى، وذه الحروف هي أصول بخلاف ألف التأنيث التي هي زائدة؟ 2 - أن كثيرا من الأسماء المقصورة إذا حذفت الفها التبست بألفاظ أخرى صحيحة، ولم يمنعهم ذلك من الحذف وذلك نحو مرسى ومرسا، ومجرى ومجرا، ومهدى ومهدا. 3 - أن اللبس لا يحصل دوما بالتنوين، فقد تكون الكلمة مفهومة مع تنوينها شأن كثير من الأسماء المقصورة فإذا قلت حبلى ودنيا بقي المعنى مفهوما، وقد وردت كلمة (دنيا) منونة وبقيت معلومة مفهومة، قال الشاعر: إني مقسم ما ملكت فجاعل ... جزءا لآخرتي ودنيا تنفع فسقوط ألف دنيا بالتنوين لم يبلبس المعنى. 4 - أن ألف الإلحاق إنما ألحقت لغرض أيضا ومع ذلك هي تنون ولم يخشوا على ألفها السقوط نحو دفلى ومعزى وارطى 5 - ثم أن التنوين لا يسقط علامة التأنيث في الممدود، فلماذا حرموها الصرف نحو بطحاء وصحراء؟ قال لأن الألف الممدودة من المقصورة، وهذا مردود إذ التنوين إنما دخل لأداء معنى كما ذكر فلماذا أهدروا هذا المعنى بلا موجب؟ والحق أنه لما لم يستطع أن يجد تعليلا آخر يقوم على التعريف والتنكير، اضطر إلى هذا التعليل الذي لا يقوم على أساس المعنى. ونحن بالمقابل نستطيع أن نقول أن التنوين قد يفوق التأنيث أهمية، على خلاف ما ذهب إليه وذلك أن التأنيث قد يكون بغير علامة، نحو عين، وساق وذراع، وكأس، وسماء وشمس وأرض، وجهنم، وإنما يعرف ذلك من استعمال العرب لها، وقد يغلط الناس في ذلك فيخلطون بين المذكر والمؤنث، لأنه لا علامة فاصلة بينهما.

منتهى الجموع

ثم أن ما فيه علامة التأنيث ليس مؤنثا دائما، بل قد يكون مذكرا، وذلك نحو حمامة ذكر، وبطة ذكر، وكصيغ المبالغة نحو علامة وراوية، والجمع نحو صياقلة، وصيارفة، أو علما لمذكر مثل طلحة وحمزة. وكذلك ما فيه ألف التأنيث نحو أسرى، وجرحى وحمقي، وسكارى، وعطاشي وأنبياء وعلماء فلو كانوا يهتمون بالتأنيث، هذا الإهتمام الكبير لوضعوا لكل مؤنث علامة، حتى لا يغلط الناس فيه، ولكان ما فيه علامة التأنيث مؤنثا دائمًا. فدل ذلك على أن التأنيث لا يثير أهتمامهم كثيرا بخلاف التنوين الذي ألزموه كل اسم متمكن، فدل ذلك على أن اهتمامهم بالتنوين أكبر من اهتمامهم بالتأنيث، وهذا فقط من قبيل الحجاج، وليس من قبيل الحقائق اللغوية. منتهى الجموع: وذهب إلى أن عدم صرف منتهى الجموع سببه تعريف هذا الجمع، فسنابل وطواحين معرفة على رأيه، قال: " وإنما حذف التنوين منه - يعني منتهى الجموع - عندنا لما فيه من معنى التعريف، وقد بينا من قبل أن العرب تريد بالمنكر الفرد الشائع، والواحد من المتعدد، فإذا قصدت إلى الإحاطة والشمول جعلته من مواضع التعريف، وهذا واضح في الجمع، إذا أريد به الاستغراق، وشمول جميع الأفراد، والنحاة يقولون أن هذه صيغة منتهى الجموع، ففيها معنى الاستغراق وتمام الإحاطة. والذي نرى هنا انه إذا قصد بالجمع الاستغراق، والدلالة على الإحاطة منع التنوين لما فيه من معنى التعريف على طبيعة العربية ومجراها في التعريف والتنكير فإذا لم يقصد إلى الاستغراق والإحاطة فالاسم منون" (¬1). ¬

_ (¬1) إحياء النحو 191 - 192

وهذا باطل من وجوه منها: 1 - أن ينبغي على حد قوله أن يكون كل ما يدل على الإحاطة والشمول مفردًا، أو غيره معرفة، وعليه يجب منعه من الصرف، وليس أعم من كلمة (شيء) فهي أعم كلمة ومع ذلك هي منصرفة قال تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشوري: 11]، وقال: {ندمر كل شيء بأمر ربها} [الأحقاف: 25]. ومثل ذلك ألفاظ العموم، نحو أحد، وعريب، وديار، نحو (ما فيها أحد)، وكل ما يفيد العموم نحو (قوة خير من ضعف)، و (جِد خير من عبث) فهذا كله يدل على الإحاطة فينبغي أن يمنع من الصرف 2 - ثم من قال أن صيغة منتهى الجموع تدل على الإحاطة والشمول والإستغراق؟ أن النحاة ذكروا أن القصد بمصطلح (منتهى الجموع) أنه نهاية جمع التكسير، فلا يكسر هذا الجمع مرة أخرى، وأنه جمع لا نظير له في الواحد، كما ذكرنا، ولم يقل أحد إن المقصود به الإحاطة، يدل على ذلك جعله تمييزا لأدني العدد، قال تعالى: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} [البقرة: 261] وقال: {سبع طرائق} [المؤمنون: 17]، وتقول (ثلاثة مساجد) فكيف يكون دالا على الإحاطة والشمول؟ 3 - ويرد ذلك استعمال العرب والتنزيل العزيز، قال تعالى: {سيروا فيها ليالي وأياما آمنين} [سبأ: 18]، فمنع صرف الليالي وصرف الأيام، فهل أراد استغراق الليالي دون الأيام؟ وقال: {لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد} [الحج: 40]، فمنع صرف الصوامع والمساجد وصرف البيع، فهل أراد استغراق الصوامع والمساجد دون الصلوات والبيع؟ ثم من يقول أنه أراد هدم جميع المساجد والصوامع، على سبيل الاستغراق؟ وقال: {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} [الحجرات: 13]، فصرف الشعوب دون القبائل، فهل أراد استغراق القبائل دون الشعوب؟

الغرض من التنوين

4 - ثم هي توصف بالنكرة، تقول (رأيت مساجد عامرة بالمسلمين) وتقول (قاسيت ليالي مرة) قال تعالى: {ومساكن طيبة في جنات عدن} [التوبة: 72]، فلو كانت معرفة لم يصح وصفها بالنكرة. 5 - ثم لو كانت صيغة منتهى الجموع معرفة، لم يصح تعريفها في حين أنه يصح تعريفها بإجماع، فتقول المساجد والسنابل والليالي، قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن: 18]، وقال: {ولا الهدي ولا القلائد} [المائدة 2]. فدل ذلك على بطلان ما ذهب إليه. الغرض من التنوين: في العربية أسماء منونة، وأسماء لا تنون، ذكر النحاة ضوابطها، وقد عرفنا أن النحاة ذهبوا إلى أن التنوين علامة الخفة، وذهب بعض الباحثين الحدثين إلى أن التنوين علامة على التنكير وأن الأسماء التي لا تنون معارف. ومن الواضح أننا إذا قلنا أن التنوين علامة على التنكير بإطراد، اصطدمنا بالإعلام المنونة مثل محمد وخالد، وإذا قلنا أن عدم التنوين علامة على التعريف اصطدمنا بنكرات كثيرة لا تقبل التنوين، نحو أحمر، وعطشان ومساجد. ولكن الحق الذي لا مرية فيه، أن التنوين في طائفة من الأسماء وعدمه في طائفة أخرى يهدينا إلى أمور لغوية قد تغيب عنا، لولا هذه العلامة، فهو قد يدلنا مثلا على هوية الكلمة واشتقاقها، ومعرفة هي أم نكرة، فهو علامة يحملها الإسم، تدل على أصله وهويته سواء قلنا أنه علامة على الخفة، أم لا. فالتنوين يبين لنا أمورًا عديدة في طبيعة الكلمة، منها على سبيل المثال: 1 - أنه يميز بين المعرفة والنكرة، فإنه إذا لحق علما حقه إلا ينون أفاد أنه نكرة، نحو (رأيت إسماعيلا) والمعنى رأيت شخصا ما اسمه إسماعيل، بخلاف قولك (رأيت إسماعيل) فإنه يعني شخصا معلومًا، ومثله (مررت بخالدة وخالدة أخرى)

وتقول (رأيت أحمدًا طويلا) قال تعالى: {اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم} [البقرة: 61]، أي بلدة من البلدان ولو قال (مصر) بلا تنوين، لكان يعني البلد المعروف، قال تعالى: {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} [يوسف: 99]، جاء في (المقتضب): " ويحتجون بأن مصر غير مصروفة في القرآن لأن اسمها مذكر عنيت به البلدة، وذلك قوله عز وجل {أليس لي ملك مصر} [الزخرف: 51]، فأما قوله عز وجل {اهبطوا مصرا} فليس بحجة عليه، لأنه مصر من الأمصار وليس مصر بعينها (¬1). ومثل ذلك: سحر، وغدوة، وبكرة، وعشية. فهي إذا نونت كانت نكرات، قال تعالى: {نجيناهم بسحر} [القمر: 34]، وقال: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} [مريم: 62]، وإذا لم تنون فهي معارف، أي سحر يوم معين، وغدوة يوم بعينه، وبكرة يوم بعينه. 2 - يبين لنا أصل الكلمة، وذلك نحو حسان، وريان، وسمان، وغيان، فإنه إذا نون العلم أفاد أن النون من أصل الكلمة وإن لم ينون أفاد أنها زائدة، فحسان إذا نون كان من الحسن وإن لم ينون فهو من الحس، وريان منونا من الرين، وغير منون من الري، وهكذا الباقي. ومثل نهشل، علما فهو إذا نون علينا أن النون أصلية وأنه على وزن فعلل، كجعفر وليس من الهشل، وإذا لم ينون فهو من الهشل، والنون زائدة، وسبب منعه من الصرف أنه على وزن الفعل، مثل نعمل والمعنيان مختلفان. ومثله (تولب) علما فإنه بوروده منونا علمنا أن التاء أصلية، وليست زائدة، ومعناه الجحش وليس من (ولب) بمعنى (دخل)، إذ لو كان كذلك لكان ممنوعا من الصرف. ومثله (أولق) فإه بوروده منونا، علمنا أن همزته أصلية، وليس من (ولق)، ولو كان كذلك لكان ممنوعًا من الصرف، والمعنيان مختلفان وهكذا. ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 351 - 352، وانظر معاني القرآن للفراء 1/ 42

3 - يبين لنا المقصود بالاسم، أهو معناه الوضعي أم يراد به العلمية، وذلك نحو صفوان وسلطان، فإنه إذا نون أريد به معناه الوضعي، فصفوان هو الحجر الأملس والسلطان معروف، وإذا لم ينون أريد به العلمية، فإذا قلت (هذا صفوان) ولم تنون، كان المعنى هذا رجل اسمه صفوان، وإذا نونت كان المعنى هذا حجر. ونحو ذلك المنتهى بتاء التأنيث، نحو ساهرة، وخالدة، وناجحة، وزهرة، فإذا نونت لم تكن أعلاما، نحو هذه زهرة وناجحة، وإن لم تنونها كانت اعلاما، نحو (هذه زهرة)، ومثله (هذه ناجحة)، فإنك إذا نونتها كان المعنى أنها نجحت، وإن لم تنونها كان المعنى أن اسمها ناجحة. 4 - يميز لنا بين الوصف وغيره، نحو (أول) فإن نونتها لم تكن وصفا، نحو (أفعل هذا أولاً) وإذا لم تنون كانت وصفا، نحو جئت عام أول، ونحو أولق. 5 - يدلنا على هوية الكلة فقد تكون الكلمة ذات مادة إشتقاقية ذات معنى معين في العربية، وهي موافقة لكلمة أعجمية في لفظها، والذي يقطع بأصلها ومعناها في الاستعمال التنوين، وذلك نحو (إبليس) فإن له مادة لغوية في العربية، وهي إبليس أي يئس قال تعالى: {فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44]، وبوروده غير منون في القرآن الكريم، عرفنا أنه ليس عربيا وأنه ليس من هذه المادة اللغوية، قال تعالى: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} [سبأ: 20]، وقال: {إلا إبليس} [البقرة: 24]، ومثله (يعقوب) فإن معنى (يعقوب) في العربية ذكر الحجل، وهو منصرف علما، وغير علم، مثل يعفور ويحمور وينبوع، وقد ورد علما غير منصرف في القرآن الكريم وغيره، فدل ذلك أنه ليس منقولا عن هذا المعنى، وإنما هو اعجمي. ومثله (قارون) فإنه إذا كان منصرفا، فهو على وزن (فاعول)، من قرن وإذا كان غير منصرف فهو أعجمي. 6 - يبين لنا الكلمة أمؤنثة هي أم مذكرة، فإذا قلت - مثلا - (أقبل اليوم صباح) بلا تنوين، كان علما لأنثى وإذا نونتها كان مذكرا.

7 - النص على معنى معين، وذلك نحو (ندمان) فهي بالتنوين من المنادمة، ومؤنثها ندمانة، وبالمنع من الصرف هي من الندم ومؤنثها ندمى، ونحو (خبلان) فهي بالتنوين الممتليء غضبا، ومؤنثها حبلانة، وبعدمه الممتليء من الشراب، ومؤنثها (حبلى) بفتح الحاء. 8 - يميز لنا بين المعاني المختلفة في المادة اللغوية الواحدة وذلك نحو (ذكرا) وذكرى وريا وريا وقربا وقربي وحرا وحرى، مؤنث حران وموتا وموتى وأسرا وأسرى. فإنها لو كانت جميعها منونة لالتبس بعضها ببعض، وكذلك لو لم تكن منونة، غير أنه بتنوين بعضها، وترك تنوين بعضها الآخر اتضح معنى كل منها. إلى غير ذلك من المعاني التي يبينها لنا التنوين.

الفعل

الفعل يقسم جمهور النحاة الفعل على ثلاثة أقسام: الفعل الماضي، والمضارع والأمر. الفعل الماضي أزمنته: يستعمل الفعل الماضي للدلالة على أزمنة متعددة أشهرها: 1 - الماضي المطلق: وهو الزمن الذي مضى قبل زمن التكلم، قريبا كان أو بعيدا وهو ما كان على فعل، فمن القريب قوله تعالى: {قال إني تبت الآن} [النساء: 18]، وقوله: {الآن جئت بالحق} [البقرة: 71]، ونحو قولك (استيقظ الطفل). ومن البعيد، قوله تعالى: {خلق الله السماوات والأرض} [العنكبوت: 44]. إن هذه الفعل يصلح لجميع الأزمنة، فإذا قلت (حضر أخوك) أحتمل أن يكون الحضور قريبا أو بعيدا، وليس مختصا بزمن معين، جاء في (شرح ابن يعيش): وذلك أنك تقول (قام) فيصلح لجميع ما تقدمك من الأزمنة (¬1). 2 - الماضي المنقطع: ومعنى الانقطاع أنه حصل مرة، ولم يتكرر، وذلك إذا وقع الفعل الماضي خبرًاـ، لكان نحو (كان كذب) أي حصل مرة منه الكذب، ونحو (كنت كتبت له في هذا الأمر) قال تعالى: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل} [الأحزاب: 15]. وأما الفعل الماضي المجرد من كان، فهو قد يفيد الانقطاع، نحو قوله تعالى: {خلق الله السماوات والأرض} [العنكبوت: 44]، وكقوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات} [البقرة: 29]، ونحو مات فلان، وذهبت إلى محمد، ويحتمل أن يكون ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 110، وانظر 8/ 147

قد تكرر، كما في قوله تعالى: {لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} [الأعراف: 93]، فمن المرجح أن النصيحة قد تكررت، ومثله قوله تعالى: {منه من كلم الله} [البقرة: 253]، فقد يكون الكلام تكرر، ونحو قوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا} [الأنعام: 99]، ولا شك أن الله يفعل ذلك باستمرار، فإن إنزال الماء وإخراج النبات مستمران. ونحو قوله تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى} [البقرة: 57]، فهذا قد تكرر أيضا طوال بقائهم في التيه. 3 - الماضي القريب: وذلك إذا صدر بقدر نحو (قد حضر خالد) وذلك أن قولك (حضر خالد) يدل على القريب والبعيد، فإذا قلت (قد حضر خالد) أفاد القرب من الحال جاء في (شرح ابن يعيش): " قد حرف معناه التقريب، وذلك أنك تقول (قام زيد) فتخبر بقيامه فيما مضى من الزمن، إلا أن ذلك الزمان قد يكون بعيدًا، وقد يكون قريبا من الزمان الذي أنت فيه، فإذا قرنته بـ (قد) فقد قربته مما أنت فيه، ولذلك قال المؤذن: قد قامت الصلاة، أي قد حان وقتها في هذا الزمان" (¬1). ويذكر النحاة لـ (قد) الداخلة على الفعل الماضي ثلاثة معان هي: التحقيق والتوقع والتقريب. أما التحقيق فمعناه التوكيد، ومعناه أيضا تحقق حصول الحدث في الماضي، فإن الفعل (فَعَل) قد يحتمل غير المضي، وذلك كقوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات} [الزمر: 68]، فإذا جيء بقد، تعين كونه للماضي، ولا يجوز أن يصرف إلى الاستقبال بحال من الأحوال، ولذا لا يجوز أن تلى (قد) أداة الشرط، لأن أداة الشرط تصرف الفعل إلى الاستقبال، وذلك نحو قولك (إذ جاءك محمد فاكرمه) ومعناه إذا يجيء ولا يصح أن تقول (إذا قد جاء محمد) لأن معناه سيكون على هذا أنه ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 147

قد جاء فعلا، ولذا لا يصح أيضا أن يؤتى بها في الدعاء، فأنت تقول (غفر الله لك) أي تدعو له بالمغفرة، ولا تقول (قد غفر الله لك) فإن معنى (قد غفر الله لك) أن المغفرة تحققت، وأنت أخبرت بحصولها، وليس المعنى أنك تدعو له بالمغفرة، جاء في (المقتضب): تقول أما أن غفر الله لك، وإن شئت أما أن على ما فسرت لك في أما، أنها تقع للتنبيه وتقع في معنى قولك (حقا) فالتقدير. أما أنه وأما أنه غفر الله لك. فإن قلت: فكيف جاز الإضمار والحذف بغير غوض؟ فإنما ذلك لأنك لا تصل إلى قد لأنك داع ولست مخبرًا (¬1). ومعنى التوقع أن الحدث كان متوقعا قبل حدوثه، نحو قولك (قد حصر الأستاذ) لقوم كانوا ينتظرون حضوره، جاء في (الكتاب): وأما قد فجواب لقوله لما يفعل فتقول: قد فعل، وزعم الخليل أن هذا الكلام لقوم ينتظرون الخبر (¬2). وجاء في شرح ابن يعيش: وفيها معنى التوقع، يعني لا يقال قد فعل، إلا لمن ينتظر الفعل ويسأل عنه (¬3). وأما التقريب فهو لتقريب الحدث من الحال كما ذكرت، جاء في شرح الرضي على الكافية: هذا الحرف إذا دخلت على الماضي أو المضارع، فلابد فيها من معنى التحقيق ثم أنه ينضاف في بعض المواضع إلى هذا المعنى في الماضي التقريب من الحال، مع التوقع أي يكون مصدره تموقعا لمن يخاطبه واقعا عن قريب، كما تقول لمن يتوقع ركوب الأمير قد ركب أي حصل عن قريب ما كنت تتوقعه، ومنه قول المؤذن قد قامت الصلاة، ففيه أذن ثلاثة معان مجتمعة التحقيق، والتوقع والتقريب، وقد يكون مع التحقيق التقريب فقط، ويجوز أن تقول (قد ركب) لمن لم يكن يتوقع ركوبه (¬4). ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 9 (¬2) كتاب سيبويه 2/ 307، وانظر المغني 1/ 172 (¬3) شرح ابن يعيش 8/ 147 (¬4) شرح الرضي على الكافية 2/ 429، وانظر المغني 1/ 172

وهذه المعاني قد تجتمع وقد تفترق، فمن اجتماعها قولك (قد حضر الأستاذ) وقد خرج الأمير، إذا كان متوقعا ذلك، ومنه قوله تعالى: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} [آل عمران: 143]، فقوله (قد رأيتموه) أجتمع فيه التحقق والتوقع والتقريب، وكقوله: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} [آل عمران: 123]، فهم كانوا يتوقعون النصر، لأن الرسول وعدهم ذلك، كما قال تعالى {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} [الأنفال: 7]. وقد يتخلف بعض هذه المعاني غير أن المعنى الذي لا يفارقها هو التحقيق فإن التحقيق لا يفارق (قد) البتة، واما التوقع والتقريب، فقد يتخلفان أو يتخلف أحدهما. فمن ورود قد لغير التوقع قوله تعالى: {قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا} [مريم: 27]، وهو غير متوقع منها - هو لم يقع - بدليل قولهم (يأخت هارون ما كان أبوك أمرا سوء وما كانت أمك بغيا) [مريم: 28]، وقوله: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} [البقرة: 247]، وهو غير توقع، بدليل قولهم (أني يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه) [البقرة: 247]، وقوله: {يبني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا} [الأعراف: 26]، وهو ما كانوا يتوقعون إنزاله. ومن تخلف التقريب قوله تعالى: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك} [آل عمران: 184]، وقوله: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} [المؤمنون: 17]، وهذا لاشك موغل في القدم، كما أنه ليس فيه معنى التوقع، لأنهم لم يكونوا يتوقعون خلق السماوات وقد خلقت قبل أن يخلق البشر، بل فيه معنى التحقيق فقط. ومن ذلك قوله تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين} [الحجر: 10]، وقوله: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون} [الحجر: 26]، فإنه ليس فيها توقع ولا تقريب. 4 - الدلالة على حدث ماض بالنسبة إلى حدث ماضي قبله، وذلك كما إذا وقع الفعل الماضي في جملة حالية قبلها فعل ماض، نحو (دخلت وقد نام الناس) فنوم الناس

قبل الدخول ونحو (فجئت وقد نضت لنوم ثيابها) والمعنى أنه سبق نزع الثياب المجيء، جاء في كتاب (الفعل زمانه وابنته): " وتتصدر (قد) بناء (فعل) لتفيد أن الحدث ماض بالنسبة لفترة ماضية نحو: ثم قمت إلى الوطن وقد ضربه برد الشجر (¬1). 5 - الدلالة على الحال: وذلك إذا قصد به الإنشاء، كبعت، واشتريت، وغيرهما من ألفاظ العقد، إذا هو عبارة عن إيقاع معنى بلفظ يقارنه في الوجود (¬2). إن ثمة فرقا بين قولنا (بعت) الخبري، وبعت الإنشائي، وكذلك (اشتريت) وغيرهما من ألفاظ العقود، فقولك (بعت داري) معناه أنه سبق أن بعت دارك أي حصل هذا الفعل منك في المضي. وأما بعت الإنشائي فليس معناه ذلك بل معناه إني ماوفق على البيع، وذلك نحو أن تتابعا على سلعة، فتقول له بعتك فيقول لك: قبلت فالبيع لم يتم إلا بقبول المشتري، وكذلك قوله (زوجتك ابنتى) فالفرق بين الخبري والإنشائي في هذا التعبير أن الخبري معناه سبق أن حصل التزويج منى، وتم، وأما الإنشائي فمعناه الموافقه على التزويج باللفظ، وأعلانها ولم يحصل تزويج فعلا إلا بقبول المزوج، فيقول (قبلت تزويجك) فليس معنى زوجتك أنها صارت زوجك، ولا سبق أن تم ذاك، وإنما هذا قول يقوله الذي يديد أن يزوج ابنته وتتم الصفقة بالقبول بقوله: قبلت. وفي الحقيقة أن هذا الفعل ليس معناه الدلالة على الحال أيضا، فهو لا يشبه المضارع الدال على الحال، وإنما هذا تعبير خاص، فقولك (بعت) ليس كمعنى (أبيع) ولا زوجت كمعنى ازوج. فقولك (أنا أبيع سلعتي) معناه إني قائم بالبيع الآن مستمر على البيع في الحال، كما تقول: أقرأ كتابي، وأحفظ قصيدتي وليس معناه الاستقبال أيضا. جاء في شرح الرضي على الكافية: والفرق بين بعت الإنشائي، وأبيع ¬

_ (¬1) الفعل زمانه وأبنيته 30 (¬2) الهمع 1/ 9

المقصود به الحال، أن قولك (أبيع) لابد له من بيع خارج حاصل بغير هذا اللفظ، تقصد بهذا اللفظ مطابقته لذلك الخارج، فإن حصلت المطابقة المقصودة، فالكلام صدق وإلا فهو كذب فلهذا قيل أن الخبر محتمل اللفظ من حيث دلالته عليه، والكذب محتمله، ولا دلالة للفظ عليه. واما (بعت) الإنشائي، فإنه لا خارج له تقصد مطابقته، بل البيع يحصل في الحال بهذا اللفظ، وهذا اللفظ موجد له فلهذا قيل إن الكلام الإنشائي لا يتحمل الصدق والكذب، وذلك لأن معنى الصدق مطابقة الكلام للخارج والكذب، عدم مطابقته فإذا لم يكن هناك خارج فكيف تكون المطابقة وعدمها (¬1). والمحققون على أن هذا الأفعال ليس لها زمان معين، بل هي مجردة عنه (¬2). وهذا هو الحق، إذ هي أفعال إيقاعية يراد بها إمضاء الحدث وإجراؤه، ولا تدل على مضي الحدث ولا على أنه يحدث الآن. 6 - الدلالة على الاستقبال: وينصرف إلى ذلك في مواطن منها: أ - الإنشاء المقصود به الطلب (¬3). وذلك كالدعاء له أو عليه نحو (غفر الله لك) أي ليغفر الله لك، ونحو (ناشدتك الله إلا فعلت) و (عزمت عليك إلا فعلت) (¬4). و (لما فعلت) أي: أفعل، جاء في (الكليات): " الأفعال الواقعة بعد (إلا) و (لما) ماضية في اللفظ مستقبلة في المعنى لأنك إذا قلت: (عزمت عليك لما فعلت) لم يكن قد فعل وإنما طلبت فعله وأنت تتوقعه (¬5). ب - الوعد أو الوعيد، نحو: {إنا كفيناك المستهزءين} [الحجر: 95]، ومن ذلك ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 249 (¬2) المغنى 1/ 227 (¬3) الهمع 1/ 9، شرح الرضي 2/ 249 (¬4) الهمع 1/ 9 (¬5) الكليات 338

الإخبار عن الإحداث المستقبلة مع قصد القطع بوقوعها (¬1). وذلك نحو قوله تعالى {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض} [الزمر: 68]، وقوله: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} [الزمر: 73]، و {نادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا} [الأعراف: 44]. والقصد من لك أن هذه الأحداث متحققة الوقوع مقطوع بحصولها بمنزلة الفعل الماضي، فكما أنه لا شك في حدوث الفعل الماضي الذي تم، وحصل، كذلك لاشك في حدوث هذه الأفعال، إذ هي بمنزلة الماضي في تحقق الوقوع. ج - دخول أداة الشرط عليه كـ (إن) و (إذا) نحو: {إذا جاء نصر الله} [النصر: 1]، و {إن عدتم عدنا} [الإسراء: 8]، وقوله: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} [آل عمران: 85]. وقد يبقى على مضيه قليلا نحو {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين} [يوسف: 26]، ونحو (إن كنت الممت بذنب فتوبي واستغفري الله) وسيأتي لذلك بيان في باب الشرط. د - دخول ما الظرفية، نحو: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} [مريم: 31] أي مدة دوامي حيا، وهذا يشمل المستقبل أيضا، ونحو (لا أكلمك ما طلع نجم وغرب) أي يطلع ويغرب، وهذا التعبير أدل على الاستمرار. جاء في (شرح الرضي على الكافية) أن الفعل الماضي ينقلب إلى المستقبل بدخول ما النائبة عن الظرف المضاف نحو ما ذر شارق وما دامت السماوات لتضمنها معنى (إن) أي أن دامت قليلا أو كثيرا، وقد يبقي معها على المضي كقوله تعالى: {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم} [المائدة: 117] (¬2). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 250 (¬2) شرح الرضي 2/ 250

هـ ـ وينصرف إلى الاستقبال أيضا إذا كان منفيا بـ (لا) أو (إن) في جواب القسم، نحو (والله لا كلمتك أبدًا) ونحو {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} [فاطمة: 41]، أي ما يسكهما ونحو: ردوا فوالله لازدناكم أبدا و: والله لا عذبتهم بعدها سقر فلا يلزم تكرير (لا) هنا، كما يلزم في الماضي المعنى (¬1). فإن الفعل الماضي لا ينفي بـ (لا) إلا إذا كررت، نحو (لا ذهبت ولا رجعت) ونحو (فلا صدق ولا صلى) [القيامة: 31]، فإن كان مستقبل المعنى لم يلزم تكرار (لا). 8 - إحتمال المضي والاستقبال وذلك في مواطن منها: أ - بعد همزة التسوية: نحو قوله تعالى: {سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الوعظين} [الشعراء: 136]، ونحو {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} [إبراهيم: 21]، ونحو سواء علي أقمت أم قعدت، إذا يحتمل أن يراد ما كان منك من قيام أو قعود أو ما يكون من ذلك (¬2). ب - بعد حرف التخصيص نحو: هلا فعلت، وإلا ذهبت إليه، ونحو قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقوا في الدين} [التوبة: 122]، فهذا يحتمل المضي والاستقبال (¬3). جاء في شرح ابن يعيش: فأما قوله تعالى: {لولا أخرتني إلى أجل قريب} [المنافقون: 10]، فقد وليه الماضي إلا أن الماضي هنا في تأويل المستقبل كما يكون بعد ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي 2/ 250، الهمع 1/ 9 (¬2) الهمع 1/ 9، وانظر شرح الرضي 2/ 250 (¬3) شرح الرضي 2/ 250، الهمع 1/ 9، شرح ابن يعيش 8/ 144

حرف الشرط كذلك لأنه في معناه والتقدير: إن أخرتني أصدق (¬1). ج - في الأحكام نحو قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم} [البقرة: 235]، فإنه يحتمل المضي والاستقبال. د بعد (حيث): فالماضي نحو {فائتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة: 223]ـ، والاستقبال نحو {ومن حيث خرجت فول وجهك} [البقرة: 149] (¬2). هـ ـ بعد كلما، فالمضي نحو {كل ما جاء أمة رسولها كذبوه} [المؤمنون: 44]، والاستقبال نحو: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} [النساء: 56] (¬3). وهذا في الحقيقة يدل على الاستمرار، ولكن قد يكون الاستمرار في الماضي، كما في الآية الاولى، ونحو قولك كلما جئتك عاتبتني، وقد يكون في المستقبل كما في الآية الثانية. و- إذا وقع صلة: فالمضي نحو: الذين قال لهم الناس [آل عمران: 173]، والاستقبال نحو: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة: 34]ـ، وقد أجتمعا في قوله: إني لآتيكم بذكر ما مضى واستيجاب ما كان في غد (¬4). ونحو قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيانات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم} [البقرة: 159 - 160]، فقوله تعالى (تابوا وأصلحوا وبينوا) يراد به الاستقبال لأن يكتمون، فعل مضارع وهذا بعده، فالتوبة بعد الكتمان. ز - إذا وقع صفة لنكرة عامة: فالمضي نحو (رب رفد هرقته ذلك اليوم). ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 144 (¬2) الهمع 1/ 9 (¬3) الهمع 1/ 9، وانظر شرح الرضي 2/ 250 (¬4) الهمع 1/ 9

والاستقبال كحديث (نضر الله امرءا سمع مقالتي) فوعاها فأداها كما سمعها أي يسمع لأنه ترغيب لمن أدرك حياته في حفظ ما يسمعه منه (¬1). 9 - توقع الحدث في الماضي: أي أن الحدث كان متوقعا حصوله في الماضي، وذلك كأن يقع الفعل المضارع المقترن بالسين خبرا لكان، نحو (كان محمد سيكتب لك في هذا الأمر) أي كان متوقعا منه أن يكتب لك في الماضي، أو بمعنى أنه كان ينوي فعله في الماضي، جاء في (الخصائص): " كان زيد سيقوم امس أي كان متوقعا منه القيام فيما مضي (¬2). 10 - الدلالة على الاستقبال في الماضي: وذلك نحو قولك (كان من الأفضل أن تخبره) و (اكان من الحسن بمكان أن تدعوه) وهذا يدل على المستقبل في الماضي وإيضاح ذلك أنك تقول (من الخير أن تخبره) و (الأولى أن تسافر) فأخباره مستقبل بالنسبة إلى الحال التي أنت فيها، والسفر مستقبل أيضا، فإذا سبق بمكان أفاد المصدر المؤول الاستقبال في المضي. ويوضح ذلك أنك تقول (كان من الأفضل أن أخبرته) و (كان من الحسن بمكان أن دعوته) فأخباره ودعوته ماضيان، فاتضح بذلك أن هذا التعبير يفيد الدلالة على الاستقبال في الماضي. قال متم بن نويرة: وفقد بني أم تفاتوا فلم أكن ... خلافهم أن أستكين وأسرعا فقوله (لم أكن) ماض، و (أن أستكين) أستقبال، فهو نظير ما مر من الأمثلة، ومن هذا الضب نحو قولنا (أراد أن يوبخه) فـ (أراد) يفيد المضي، و (أن يوبخه) أستقبال بالنسبة إلى فعل الإرادة فهو استقبال في الماضي، كما هو ظاهر. ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 9، وانظر شرح الرضي 2/ 25 (¬2) الخصائص 3/ 332

10 - الماضي الحاصل في المستقبل: ويكثر ذلك إذا سبق الفعل الماضي بفعل الكون مضارعا نحو (اذهب إليه فتكون قد سبقته بالفضل). والمعنى: أنك إذا ذهبت إليه كنت قد سبقته بالفضل، أي حصل سبقك بالفضل. ونحوه أن تقول: (اذهب إليه فعسى أن يكون قد أنجز المعاملة) فالإنجاز ماض ولكنه واقع في المستقبل، وذلك أن خبر (عسى) استقبال، وهي تفيد رجاء وقوع الفعل فقولك، (عسى خالد أن يحضر) مثلا يفيد رجاء حصول الفعل في المستقبل، وكذلك قولك (عسى أن يكون قد أنجز المعاملة) فقولك (عسى أن يكون) يفيد ترجى وقوع الفعل في المستقبل و (قد انجز المعاملة) يفيد المضي فهو ماض واقع في المستقبل، ومنه قوله تعالى: {وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} [الأعراف: 185]، وقوله: {عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون} [النمل: 72]. وذكر الدكتور إبراهيم السامرائي أنه ياتي بناء فعل مسبوقا بفعل الكون المضارع، فيتأتي من هذا المركب إعراب عن المستقبل في زمان ماض، وهو ما يدعى في الفرنسية future - anterirur نحو: ما ذاك من شيء أكون اجترمته، وكقول المعربين في هذا العصر مثلا: واقر اللص أن يكون سرق أثاث الدار (¬1). والحق أن ذلك لا يختص بفعل الكون، فهو قد يقع بعد غيره، وذلك نحو قولك (لا تخرج إليه إلا وقد أعددت للأمر عدته) و (لا تدخل عليه إلا وأنت أعددت جوابا عن كل سؤال قد يسأله لك) فالخروج يكون بعد الإعداد، فالإعداد سابق وهو ماض، بالنسبة إلى الخروج، وهو واقع في المستقبل، وكذلك الدخول في الجملة التالية. ويقع أيضا بعد فعل الأمر، وذلك نحو قولنا (اذهب إليه وقد حزمت أمرك) أي أذهب بعد حزم الأمر، فالذهاب يكون بعد الحزم، فالحزم ماض واقع في المستقبل. ويقع أيضا بعد غير ذلك، مما يفيد هذا المعنى، وذلك نحو قولك (إياك أن تخرج ¬

_ (¬1) الفعل زمانه وأبنيته 30

إليه إلا وقد حزمت أمرك) و (إياك أن تدخل اللجة إلا وأنت أحسنت السباحة) فكل من حزم الأمور، وإحسان السباحة، حدث ماض واقع في المستقبل، كما هو واضح. 11 - الماضي المستمر، وذلك إذا دخلت كان على الفعل المضارع كان يفعل وذلك نحو قوله تعالى: {وكا يأمر أهله بالصلاة} [مريم: 55]، أي كان مستمرا على ذلك. ونحو {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه} [آل عمران: 143]، ونحو {كانوا قليلا من الليل ما يجعهون} [الذاريات: 17]. فهذا يفيد الدلالة على الاستمرار أو الاعتياد، جاء في البرهان: ومن هذا الباب الحكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ (كان يصوم) و (كنا نفعل) وهو عند أكثر الفقهاء والأصولين، يفيد الدوام، فإن عارضه ما يقتضي عدم الدوام مثل أن يروي: كان يمسح مرة ثم نقل عنه أنه يمسح ثلاثا فهذا من باب تخصيص العموم (¬1). وقد سبق أن ذكرنا في باب كان أن سبق الفعل المضارع بـ (كان) قد يفيد الدلالة على اعتياد الأمر في الماضي ووقوعه بصورة متكررة، نحو {وكان يأمر أهله بالصلاة} [مريم: 55]، أي كان مستمرًا على هذا الفعل. وقد يفيد أنه وقع مرة ولكن على أنه ماض مستمر في أثناء وقوعه، وليس معناه تكرر الحدث، نحو (كنت اقرأ، ذات مرة في كتابي، فجاءني خالد) أي كنت مستمرا على القراءة وفي هذا الأثناء جاءني خالد، ونحو (كنت أسبح في النهر فطاردني تمساح) فليس في هذا ما يدل على تكرر الحدث. فسبق الفعل المضارع بـ (كان) له دلالتان: تكرر الحدث ووقوعه أكثر من مرة، والدلالة الأخرى أن الحدث كان مستمرا في ذلك الأخبار. وقد تفيد (كان) الاستمرار، إذا كان خبرها شرطا، نحو قولنا: (كان محمد إذا سئل أعطي) ومنه قوله تعالى: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} [الصافات: 35]. ¬

_ (¬1) البرهان 4/ 125

12 - الماضي المستمر المنقطع: وذلك نحو قولنا (كان لا يزال يلهو)، وكان ما يزال يكتب له، ومعنى ذلك أنه كان مستمرا على اللهو، ثم انقطع عنه، وكذلك المثال الثاني فإن معناه أنه كان مستمرا على الكتابه له، ثم انقطع بخلاف الماضي المستمر، فإنه لا يفيد الانقطاع. 13 - استمرار الفعل واتصاله بزمن الاخبار: وذلك إذا دخل على المضارع فعل يفيد الاستمرار نحو ما زال، وما برح وما فتي، وما انفك، وبقي وما إلى ذلك نحو: ما زال أخوك يكتب، وبقي يدرس، أي هو بدا بالفعل في الماضي، ولا يزال الفعل مستمرا لم ينقطع حتى زمن التكلم. غير أن هناك فرقا بين الاستمرار في (ما زال) و (بقي) فلا يصح إبدال أحد الفعلين بالآخر دوما، وذلك أن (مازال) وأخواتها تفيد توقع الانقطاع في الغالب، بخلاف (بقي) وذلك أنك تقول لولدك مثلا مازلت صغيرا، ومعناه أنك ستكبر، بخلاف ما لو قلت بقيت صغيرا، فإنه لا يفهم منه الانقطاع، وإنما هو إلى معنى الثبات والدوام على ما هو عليه اقرب. وكذلك في الماضي فإن قولنا (لا يزال صغيرا) يختلف عن قولنا (يبقي صغيرا) فإن الجملة الأولى يفهم منها أنه سيتغير ويكبر، بخلاف الثانية كما هو ظاهر. 14 - مقاربة حصول الفعل وذلك إذا سبق الفعل المضارع بفعل يدل على المقاربة، كـ كاد وأوشك، نحو كاد يغرق أي قرب من الغرق، ولم يغرق. 15 - رجاء حصلو الفعل: وذلك سبق الفعل المضارع بفعل دال على الرجاء، نحو {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض} [محمد: 22]، ونحو (حرى أن ينقشع). 16 شروع القيام بالفعل أي بدء القيام به نحو أخذ يكتب وشرع يدرس 17 تلبس حصول الفعل بوقت من الأوقات نحو: أصبح يهذي، وأمسى يستطيع الحركة.

استعمالاته

18 - قد تؤخذ من ألفاظ الأوقات أفعال للدلالة على الدخول في زمن معين وذلك نحو أفجر بمعنى دخل في الفجر وأصبح بمعنى دخل في الصباح وأظهر بمعنى ودخل في الظهر بمعنى دخل في العصر واسحر بمعنى دخل في السحر وأنهر بمعنى دخل في النهار والليل بمعنى دخل في الليل وغير ذلك. 19 - تقليل حصول الفعل وذلك إذا سبق الفعل بما يفيد التقليل نحو ربما وقلما نحو ربما راجعه في شأن من شؤونه، ونحو: ربما من الفتى وهو المغيظ المحقق، ونحو قلما زرته، وربما أفاد لفظ القلة النفي، نحو قلما صدت، بمعنى لم أصد كما سيأتي بيان ذلك. استعمالاته 1 - الأصل أن يستعمل الفعل للدلالة على معناه الأصلي كقولنا (حضر محمد وجاء خالد). 2 - وقد يستعمل الفعل ويراد به الإنشاء، كقولنا: بعت واشتريت، وكقولنا غفر لله لك. ومن ذلك ما يراد به الأمر، نحو (أجزأ امروء فداني بنفسه) و (أجاد امرؤ أحسن إليك) أي ليحسن إليكن و (فقه امرؤ رغب عنك) أي ليرغب عنك، ومنه قول الإمام علي رضي الله عنه: (أجزأ امرؤ قرنه آسي أخاه بنفسه) (¬1). أي ليواس أخاه. ومن ذلك ما يراد به الاغراء، وذلك نحو قولهم (كذب عليك العسل) أي الزم العسل. جاء في أمالي ابن الشجري، ومما جاء فيه لفظ الخبر، بمعنى الاغراء قول عمر رضوان الله عليه (أيها الناس كذب عليكم الحج والعمرة) معناه عليكم بالحج، والعمرة، ومثله قول معقر بن حمار البارقي: وذبيانية أوصت بنيها ... بأن كذب القراطف والقروف ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 249 - 250

أي عليكم بالقراطف، وهي القطف وبالقروف، فاغنموها. والقروف أوعية من آدم يتخذ فيها الخلع، وهو لحم يقطع صغارا، ويحمل في السفر .. ومثله: كذب العتيق وماء شن بارد ... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي كذب العتيق أي عليك بالعتيق، وهو التمر، والشن القربة الخلق (¬1). 3 - قد يطلق الفعل ويراد به مقاربته ومشارفته نحو (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) [البقرة: 231]، أي فشارفن انقضاء العدة (¬2). 4 - وقد يطلق الفعل والمقصود به إرادته وأكثر ما يكون ذلك بعد أداة الشرط نحو {فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله} [النحل: 98]، {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6]، {إذا قضى امرا فإنما يقضي له كن} [آل عمران: 47]، {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42] .. وفي الصحيح: إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل (¬3). والمعنى إذا أردت قراءة القرآن فاستعد بالله، وإذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلو وجوهكم، وإلا كان الغسل بعد القيام إلى الصلاة، والاستعاذة بعد قراءة القرآن، وهو غير مراد، ولا يصح. 5 - قد يجمد الفعل الماضي للدلالة على معنى معين، كالاستثناء كما في خلا وعدا، وللدلالة على النفي، نحو (قلت سرت) وقد يراد بذلك السير القليل، وقد يراد به نفي السير (¬4). والتعجب كما في قوله تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} [الكهف: 5]، والمدح والذم، نحو نعم وبئس وساء، وغير ذلك من المعاني. ¬

_ (¬1) أمالي ابن الشجري 1/ 260 - 261 (¬2) مغني اللبيب 2/ 688 (¬3) مغني اللبيب 2/ 689 (¬4) انظر الأصول لابن السراج 2/ 176

الفعل المضارع

الفعل المضارع معنى المضارعة المشابهة، ويعنون بالمضارعة مشابهة الفعل المضارع للأسماء، فالمقصود بالفعل المضارع، الفعل المشابه للاسم ويعقد النحاة بينهما أوجها من المشابهة لسنا بصدد ذكرها الآن. أزمنته: يدل الفعل المضارع على أزمنة متعددة، أشهرها: 1 - الدلالة على الحال والاستقبال نحو (هو يكتب) و (هو يقرأ) فقد يحتمل أن يقصد به الحال والاستقبال جاء في (المقتضب): زيد يأكل فيصلح أن يكون في حال أكل وإن يأكل فيما يستقبل (¬1). وجاء في المفصل: ويشترك فيه الحاضر والمستقبل. (¬2). 2 - دلالته على الحال تنصيصا: وذلك في مواطن منها: أ - إذا اقترن بظرف يدل على الحال كالآن والساعة والحين (¬3).، نحو (هو يقرأ الآن) و (هو يكتب الساعة). ب - إذا دخلت عليه لام الابتداء: نحو قوله (إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغني)، [العلق: 6، 7]، وهذا رأي الكوفيين وذهب إليه الأكثرون (¬4). ¬

_ (¬1) المقتضب 2/ 2 (¬2) المفصل 2/ 137 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 256 ـ، الهمع 1/ 8 (¬4) شرح الرضي على الكافية 2/ 251، وانظر الهمع 1/ 8، المغني 1/ 228

واعترض ابن مالك على ذلك بقوله تعالى: {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة} [النحل: 124]، وقوله: {إني ليحزني أن تذهبوا به} [يوسف: 13]، فالفعلان يفيدان الاستقبال. وأجيب أنه نزل المستقبل منزلة الحاضر الشاهد (¬1). وهو نحو ما مر في تنزيل المستقبل منزلة الماضي، نحو: {وسق الذين كفروا} [الزمر: 71]، و {نفخ في الصور} [الزمر: 68]. ويبدو لي أنها تفيد التوكيد كما يقول البصريون، أما تخصيصها المضارع بالحال ففيه نظر لما ورد في القرآن الكريم من دلالته على الاستقبال معها. وصرفه إلى الحال في الآية يحتاج إلى دليل، وكما هو الحال في دخلولها على المستقبل مع غير الفعل المضارع، نحو قوله تعالى: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} [الكهف: 8]، وقوله: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدًا جرزا} [الكهف: 8]، وقوله: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم} [الواقعة: 51 - 52]. ج - نفيه بـ ليس أو ما، أو إن، عند الإطلاق نحو (ما خالد يكتب) وليس علي يقرأ (¬2).، فإذا كانت هناك قرينة تصرف الفعل المضارع إلى غير الحال، كان ذلك بحسبها نحو: وليس يكون الدهر ما دام يذبل (¬3). وما محمد يسافر غدا، ومثله في غير المضارع (ليس خلق الله مثله)، و {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} [هود: 8]، وقوله: {وما هم عنها بغائبين} [الانفطار: 16]. 3 - دلالته على الاستقبال تنصيصا، وذلك في مواطن منها: ¬

_ (¬1) المغني 1/ 228 (¬2) انظر الهمع 1/ 8، شرح الرضي على الكافية 2/ 256 (¬3) الهمع 1/ 8

أ - إذا اقترن بظرف يدل على المستقبل (¬1). نحو غدا أو بعد يومين ويوم القيامة نحو (يقضي الله بين عباده يوم القيامة). ب - النصب، فإن الناصب يصرف الفعل إلى الاستقبال نحو (ارغب في أن تزورني) جاء في الهمع، ومن شأن الناصب أن يخلص المضارع إلى الاستقبال (¬2). وجاء فيه: النواصب من مخلصات المضارع للاستقبال (¬3). وجاء في المقتضب: أن حروف النصب إنما معناهن مالم يقع (¬4). وقال ابن الناظم: فلو كان المضارع بمعنى الحال، وجب رفعه لأن فعل الحال لا يكون إلا مرفوعا (¬5). وليس معنى هذا أن كل فعل مرفوع هو يدل على الحال، ولا كل فعل مستقبل يكون منصوبا، بل قد يكون المرفوع لغير الحال، وقد يكون الفعل المستقبل غير منصوب، نحو (سيحاسب الله الخلق). ج ـ إذا دخل عليه حرف تنفيس (¬6). وهو السين او سوف نحو: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا} [النساء: 56]، وقوله: {والذين أمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار} [النساء: 57]. د - إذا دخلت عليه نونان التوكيد (¬7). كقوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} [الفتح: 27]، وقوله: {لنسفعًا بالناصية} [العلق: 15]. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 256، الهمع 1/ 8 (¬2) الهمع 2/ 6 (¬3) الهمع 2/ 9 (¬4) المقتضب 2/ 11 (¬5) شرح ابن الناظم 276 (¬6) شرح الرضي 2/ 257، الهمع 1/ 8 (¬7) شرح الرضي 2/ 257، الهمع 1/ 8

هـ - إذا دخلت عليه أداة شرط (¬1). نحو: {إن يشأ يرحمكم} [الإسراء: 54]، (إن تزرني أكرمك) إلا (لو) الشرطية (¬2). فإنها موضوعة للشرط في الماضي نحو (لو زارني لأكرمته). وهذا هو الغالب. ون غير الغالب قوله تعالى: {لو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23]، وقوله: {لو نشاء جعلناه أجاجا} [الواقعة: 70]، فهذا يحتمل المضي والاستقبال. و- بعد (لو) المصدرية، نحو قوله تعالى: {ودوا لو تدهن} [القلم: 9] (¬3). وذهب بعضهم إلى أنه لا يختص المضارع بالاستقبال، بدليل قوله تعالى: {يود أحدكم لو يعمر ألف سنة} [البقرة: 96] (¬4). ز - بعد (هل): وهي تخصص المضارع بالاستقبال غالبا: نحو (هل تسافر) بخلاف الهمزة نحو (أتظنه قائمًا) (¬5). ومن غير الغالب قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9]، وقوله: {قل يأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله} [المائدة: 59]. ح - إذا اقتضي طلبا كالأمر والنهي والدعاء والتحضيض والتمنى والترجي (¬6). نحو: {لينفق ذو سعة من سعته} [الطلاق: 7]، و (لاتخبره) و (ليتني أجده) و {لعلي أبلغ الأسباب} [غافر: 36]، و {لولا تستغفرون الله} [النمل: 46]، و {يغفر الله لكم} [يوسف: 92]، و {الوالدت يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة: 233]، أي ليرضعن. ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 257، الهمع 1/ 8 (¬2) شرح الرضي 2/ 257 (¬3) شرح الرضي 2/ 257 (¬4) انظر الهمع 1/ 8 (¬5) المغنى 2/ 350، الإيضاح للقزويني 1/ 132 (¬6) شرح الرضي 2/ 257، الهمع 1/ 8

ط - إذا اقتضى وعدا أو وعيدًا، نحو: {يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء} [المائدة: 40]، وكقولك واعدًا (أكرمك وأحسن إليك) (¬1). و (أفعل ذلك). ي - إذا أسند إلى متوقع (¬2).، نحو (يحاسب الله عباده)، و {أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون} [الزمر: 46]، و (تقوم القيامة). وغير ذلك من الصوارف إلى الاستقبال. 4 - الدلالة على حدث مستقبل بالنسبة إلى حدث مستقبل قبله وذلك نحو قولك (سأذهب إليه وقد امتلأ المجلس بالحضور، وأرد عليه) فالذهاب يكون بعد إمتلاء المجلس، وكلاهما مستقبل. 5 - دلالته على المضي وذلك في مواضع منها: أ - إذا اقترن بـ (لم) أو (لما) (¬3). نحو: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} [الأنفال: 17]، وقوله: {ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]، وقد أجتمعتا في قوله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله}] يونس: 39 [. ب - إذا دخلت عليه (لو) الشرطية، نحو: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمه ما ترك عليها من دابة} [النحل: 61] وهو الغالب (¬4). ج - إذا دخلت عليه إذ (¬5). نحو: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه} [الأحزاب: 37]، أي قلت: وقوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} [الأنفال: 30]. أي مكر. ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 257، الهمع 1/ 8 (¬2) شرح الرضي 2/ 256 (¬3) شرح الرضي 2/ 257، الهمع 1/ 8 (¬4) شرح الرضي 2/ 257، الهمع 1/ 8 (¬5) شرح الرضي 2/ 257، الهمع 1/ 8

د - إذا دخلت عليه (قد) التقليلة، نحو (قد أترك القرن مصفرًا أنامله) بخلاف ما إذا لم تكن للتقليل (¬1). وقد تأتي لغير المضي نحو (قد يشفي المريض). هـ - إذا دخلت عليه (ربما): يقول النحاة لأنها مختصة بالدخول على الفعل الماضي فإذا دخلت على المضارع صرفت معناه إلى المضي، وذلك كقول الشاعر (¬2). ربما تكره النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال وجعلوا من ذلك قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} [الحجر: 2] والظاهر أنها ليست مختصة بالمضي، بل قد تدخل على المضارع في المعنى (¬3). فقوله ربما تكره النفوس، ليس نصا في المضي، بل هو يحتمل الاستمرار والدلالة على الحقيقة، وكذلك قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا} يحتمل الإستقبال والله أعلم. و- إذا وقع المضارع حالا عامله فعل ماض (¬4). نحو (اقبل خالد يضحك) ونحو (فقدم الملك آنذاك يسعى الغلمان بين يديه). ز - حكاية الحال الماضية، : والمقصود بحكاية الحال الماضية أن تعبر عن الحدث الماضية بما يدل على الحاضر استحضارا لصورته في الذهن، كأنه مشاهد مرئي في وقت الأخبار، وذلك نحو قوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم} [البقرة: 49]، فسوم فرعون بني إسرائيل سوء العذاب وتذبيح الأبناء أحداث ماضية، غير أنه عبر عنها بالفعل الذي يدل على الحال، وهو المضارع فقال (يسومونكم) و (يذبحون) وذلك لقدص احضار مشهد التعذيب أمام العين، فكأنك تشاهد آل فرعون بأيديهم المدى يذبحون الأبناء. ¬

_ (¬1) الهمع 1/ 8، وانظر الغنى 1/ 174، البيت قد أترك القرن، عنده للتكثير وهو أولى (¬2) شرح الرضي 2/ 257، الهع 1/ 8 (¬3) انظر المغنى 1/ 137 (¬4) الهمع 1/ 9

ومثله قوله تعالى: {قلم فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} [البقرة: 91]، فالقتل حصل فيما مضي ألا ترك إلى قوله: {من قبل} ولكنه عبر عنه بالفعل الضارع أستحضارا لهذه الصورة الشنيعة من قتل أنبياء الله، فخلع على المشهد صورة الحياة والحركة بجعله ماثلا أماما عين الرائي. جاء في المغنى: أنهم يعبرون عن الماضي والآتي كما يعبرون عن الشيء الحاضر قصدا لاحضاره في الذهن حتى كأنه مشاهد حالة الأخبار .. ومثله: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا} [فاطر: 9]، قصد بقوله سبحانه وتعالى: {فتثير} [احضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب تبدو أولا قطعا، ثم تتضام متقلبة بين أطوار، حتى تصير ركاما (¬1). وجاء في البرهان: قوله: {ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59]، أي (فكان) استحضارا لصورة تكونه. وقوله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102]، أي ماتلت .. وقوله {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} أي فلم قتلتم (¬2). وجاء في الكشاف في قوله تعالى: {ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87]. فإن قلت: هلا قيل: وفريقا قتلتم؟ قلت: هو على وجهين: أن تراد الحال الماضية، لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب. وإن يراد وفريقا تقتلونهم بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم (¬3). ¬

_ (¬1) المغنى 2/ 690 (¬2) البرهان 3/ 373 (¬3) الكشاف 1/ 226

ونحو قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} [الحج: 63]، " فعبر بالماضي ثم قال: {فتصبح الأرض مخضرة} فعدل عنه إلى المضارع إرادة لتصوير اخضرارها في النفس، وعليه قول ابن معد يكرب يصور شجاعته وجرأته: فإني قد لقيت القرن أسعى ... بسهب كالصحيفة صحصحان فآخذه فأضربه فيهوي ... صريعا لليدين وللجران (¬1). ح - وربما أفاد المضارع المضي في غير ذلك، وذلك نحو قوله: أن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عارا عليك ورب قتل عار فقوله (أن يقتلوك) يفيد المضي، وذلك أن هذاالشعر قيل في رثاء يزيد بن المهلب، ونحوه قوله: فإن يهلك بني فليس شيء ... على شيء من الدنيا يدوم فقوله (أن يهلك) يفيد المضي، لأنهم قد هلكوا بدليل قوله: كأن الليل محبوس دجاه ... فأوله وآخره مقيم لمهلك فتية تركوا أباهم ... واصغر مابه منهم عظيم ومن دلالته على المضي في غير الشرط، قول فارعة بنت شداد ترثى أخاها مسعودًا (¬2). يا عين بكي لمسعود بن شداد ... بكاء ذي عبرات شجوه بادي من لا يذاب له شحم السديف ولا ... يجفو العيال إذا ما ضن بالزاد ولا يحل إذا ما حل منتبذا ... يخشى الرزية بين الماء والباد ¬

_ (¬1) حاشية ابن المنير على الكشاف 1/ 226، وانظر دلائل الإعجاز 160 (¬2) انظر الأمالي للقالي 2/ 324

هو الفتى يحمد الجيران مشهده ... عند الشتاء وقد هموا باخماد وكل هذه الأفعال تفيد المضي. ومن دلالته على المضي في غير ما مر، نحو قوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} [النساء: 97]، فهم لم يهاجروا، وقوله: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلوب بها} [الحج: 46]، فهم لم يعقلوا بقلوبهم، فزمن (تهاجروا) و (تكون لهم قلوب) وهو الماضي غير أنه لا يصح إبدال الفعل الماضي بهذين الفعلين، لأن المعنى سيتغير ذلك أن المعنى في المضارع ههنا عدم الحصول، والمعنى في الماضي يفيد الحصول، فإنه لو قال (الم تكن أرض الله واسعة فهاجرتم) لكان معنى ذلك أن الهجرة حصلت، وكذلك لو قال (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب) [الحج: 46]، لكان المعنى أنهم ساروا وكانت لهم قلوب يعقلون بها. ونظير ذلك قوله تعالى: {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين} [الجاثية: 31]، فإنه أثبت لهم الاستكبار، وكذلك قوله تعالى: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون} [المؤمنون: 105]، / فقد أثبت لهم التكذيب، ونحوه قوله تعالى: {ألم نربك فينا وليدًا ولبثت فينا من عمرك سنين} [الشعراء: 18]، فقد أثبت التربية واللبث فيهم. لو عطف بالفعل المضارع، لكان أيضا تقريرا معناه الأثبات، وذلك نحو قوله تعالى: {ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين} [النساء: 141]، فالاستحواذ والمنع كلاهما حاصلان، وقوله {ألم نهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} [الأعراف: 22]، فالنهي والقول حاصلان. وقوله: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم}، [الروم: 9]، فهم ساروا ونظروا عاقبة الذين من قبلهم، ونحوه أن تقول (أل تشمتمني فتضربني) بالعطف فإن الضرب والشتيمة حاصلان، وعلى ذلك يكون معنى قولك (ألم يعنك فتعينه) بالنصب أن الإعانة بعد الفاء لم تحصل، فإن أحدهما أعان والآخر لم يعن، وإن معنى قولك (ألم يعنك فأعنته) أن الإعانة حصلت

منهما جميعا، وكذلك إذا قلت (ألم يعنك فتعنه) بالعطف وهذه الأزمنة كلها ماضية. 6 - الاستمرار التجددي: وذلك كقوله تعالى: {والله يقبض ويبصط} [البقرة: 245]، وكقوله: {ربي الذي يحي ويميت} [البقرة: 258]، وقوله: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق} [البقرة: 258]، وقوله: {قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع اللك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} [ال عمران: 26]، فهذه الأحداث تتكرر باستمرار. 7 - الدلالة على الحقيقة من حيث هي غير مقيدة بزمن، وذلك كقوله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء} [البقرة: 74]، وكقوله {فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشى على أربع} [النور: 45]، وقوله: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} [البقرة: 204]، وقوله: {الله ولي الذين أمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} [البقرة: 257]، ونحو قولنا (الإنسان يعجز) و (الحي يهرم) ونحو ذلك. 8 - الدلالة على أن الفعل حاصل وهو مستمر لم ينقطع، وذلك إذا سبق بفعل دال على الاستمرار نحو (لا يزال) و (لا يبرح) نحو: (لا يزال يكتب) أي هو يكتب وهو مستمر على ذلك ونحو قوله تعالى: {ولا يزالون يقتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة: 217]، أي هم قاتلوكم وسيبقون كذلك (حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) ونحو (هو يبقى يدرس) وقد بينا الفرق في باب الفعل الماضي بين لا يزال ويبقى في الدلالة على الاستمرار فلا داعي لاعادته. 9 - مقاربة حصول الفعل: وذلك نحو قولهم (يكاد المريب يقول خذوني) وقوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء} [النور: 35]، وقوله: {يكادون يسطون} [الحج: 72]، وقوله: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم} [القلم: 51]، وقول الشاعر:

استعمالاته

يوشك من فر من منيته ... في بعض غراته يوافقها 10 - تلبس حصول الفعل بوقت من الأوقات، نحو (يمسى العامل متعبا ويصبح مستريحا). 11 - الدلالة على الدخلول في زمن معين، وذلك نحو قوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون} [الروم: 17 - 18]، فمعنى (تصبحون) تدخلون في وقت الصبح ومعنى (تظهرون) تدخلون في وقت الظهر. 12 - تقليل حصول الفعل، وذلك إذا سبق الفعل المضارع بما يدل على التقليل وذلك نحو قولك (قد يصدق الكذوب) ونحو (قلما أراه). استعمالاته: 1 - يستعمل الفعل المضارع للدلالة على معناه، وهو وقوع الحدث في الحال، أو في الاستقبال، وهذا هو الأصل نحو: (ادرس كل يوم) و (أنا أقوم بواجبي). 2 - قد يخرج إلى الإنشاء وذلك كما في الدعاء، نحو {يغفر الله لكم} [يوسف: 92]، ويرحمك الله والأمر، نحو {والمطلقات يتربص بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] أي ليتربص: {الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة: 233]، أي ليرضعن، وقد أخرج الأمر مخرج الخبر للدلالة على أنهن يفعلن ذلك امتثالا لأمر الله، وهذا شأنهن، وهو أبلغ من صريح الأمر، ونظير هذا قولنا (تذهب إلى فلان وتخبره كذا وكذا) على معنى أذهب إليه، وهو ألطف من الأمر الصريح، إذ لا يراد أحيانا المواجهة بالأمر بل يخرج مخرج الخبر تلطفا بالسامع أو إكراما له جاء في شرح شذور الذهب: في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن} [البقرة: 228]، وقوله: {والوالدات يرضعن} [البقرة: 233]، وهذان الفعلان خبريان لفظا، طلبيان معنى، ومثلهما يرحمك الله

وفائدة العدول بهما عن صيغة الأمر التوكيد، والأشعار بأنهما جديران بأن يتلقيا بالمسارعة فكأنهن امتثلن فهما مخبر عنهما بموجودين (¬1). والنهي: نحو قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لاتسفكون دماءكم} [البقرة: 84]، بمعنى لا تسفكوا، ونحو (لا يكره المرء في الدين) بالرفع، ومعناه النهي أي لا تكرهوا، وقد أخرج مخرج الخبر للدلالة على أن هذا هو الوضع الطبيعي، وإن هذا هو الذي يحصل، جاء في الكشاف في قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله} [البقرة: 83]، " لا تعبدون أخبار في معنى النهي كما تقول: تذهب إلى فلان تقول له كذا، تريد الأمر وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه (¬2). جاء في البرهان: وقال النووي في شرح مسلم في باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه، هكذا هي في جميع النسخ (ولا يسوم) بالواو (ولا يخطب) بالرفع وكلاهما لفظ الخبر والمراد به النهي، وهو أبلغ في النهي، لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافه، والنهي قد يقع مخالفته، فكأن المعنى: عاملوا هذا النهي معاملة خبر الحتم (¬3). 3 - يستعمل للدلالة على مشارفة وقوع الفعل، كما مر في الماضي نحو قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم} [البقرة: 240]، أي والذين يشارفون الموت، وترك الأزواج يوصون وصية (¬4). 4 - إرادة الفعل نحو (متى تقم إلى الصلاة فتوضأ) والمعنى متى أردت القيام إلى الصلاة وإلا كان الوضوء بعد القيام إلى الصلاة، ونحو (متى تقرأ القرآن فاستعذ بالله) أي إذا أردت ذلك. ¬

_ (¬1) شرح شذور الذهب 69، وانظر البرهان 2/ 320 (¬2) الكشاف 1/ 224 (¬3) البرهان 3/ 352 (¬4) المغني 2/ 688

حروف النصب

حروف النصب أن وهي حرف مصدري (¬1). يدخل على الفعل الماضي، نحو {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين} [الزخرف: 5]، وعلى الأمر، نحو (ناديته بأن احضر) ويدخل على الفعل المضارع فينتصب بعده ويصرفه إلى الاستقبال (¬2). شأن النواصب الأخرى. (¬3). جاء في المقتضب: فمن هذه الحروف - يعني الحروف التي تنصب الأفعال أن وهي والفعل بمنزلة مصدره، إلا أنه مصدر لا يقع في الحال إنما يكون لما لم يقع إن وقعت على مضارع، ولما مضى إن وقعت على ماض (¬4). وجاء فيه أيضا: " ولا تقع مع الفعل حالا، لأنها لما لم يقع في الحال، ولكن لما يستقبل (¬5). تقول: (كتبت إليه أن لا تقل ذاك، وكتبت إليه أن لا يقول ذاك، وكتبت إليه أن لا تقول ذاك، فأما الجزم فعلى الأمر، وأما النصب فعلى قولك لئلا يقول ذاك، وأما الرفع فعلى قولك، لأنك لا تقول ذاك، أو بأنك لا تقول ذاك، تخبره بأن ذا قد وقع من أمره (¬6). ¬

_ (¬1) سبق أن رجحنا أنها في نحو عسى محمد أن يقدم، ليست مصدرية بل هي للاستقبال فقط. (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 262 (¬3) انظر الهمع 2/ 6، 2/ 9، الرضي على الكافية 2/ 75 (¬4) المقتضب 2/ 6 (¬5) المقتضب 2/ 30 (¬6) سيبويه 1/ 481

وجاء في معاني القرآن للفراء، في قوله تعالى: {آياتك ألا تكلم الناس} [آل عمران: 41]، " إذا أردت الاستقبال المحض نصب (تكلم) وجعلت (لا) على غير معنى (ليس): وإذا أردت: آيتك أنك على هذه الحال ثلاثة أيام رفعت فقلت: أن لا تكلم الناس، ألا ترى أنه يحسن أن تقول: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا (¬1). وتقع بعد لفظ دال على معنى غير اليقين (¬2). نحو أرجو، وأخاف، وأخشى، وأطمع، وذلك نحو قوله تعالى: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} [الشعراء: 82]. أما الداخلة بعد أفعال اليقين والمنزلة منزلتها، في أن المخففة من الثقيلة نحو (عملت أن لا يقدم) برفع يقدم، ولا يصح نصبه، لأنها بعد فعل دال على اليقين. جاء في (الكتاب) وذلك قد علمت أن لا يقول ذاك، وقد تيقنت أن لا تفعل ذاك كأنه قال أنه لا يقول وأنك لا تفعل، وليست أن التي تنصب الأفعال تقع في هذا الموضع لأن ذا موضع يقين وإيجاب (¬3). وجاء في (المقتضب): " أما ما كان من العلم فإن (إنْ) لا تكون بعده إلا ثقيلة لأنه شيء قد ثبت واستقر وذلك قولك: (قد علمت أن زيدًا منطلق) فإن خففت، فعلى إرادة التثقل والإضمار، تقول: قد علمت أن سيقوم زيد ترد أنه سيقوم زيد (¬4). وقد تجيء الناصبة بعد العلم، على أن لا يراد به اليقين، وذلك نحو قولك: (ما على إلا أن تخبره) بالنصب، أي لا أرى ألا أن تخبره. ¬

_ (¬1) معاني القرآن 1/ 213 (¬2) المغنى 1/ 27 - 28، الهمع 2/ 2، وانظر سيبويه 1/ 481 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 481 (¬4) المقتضب 3/ 7، 2/ 30، وانظر المغنى 1/ 30، التسهيل 228، الهمع 2/ 2

فإذا قلت (ما أعلم إلا أن تخبره) بالرفع كان المعنى أنا أعلم أنك تخبره، فبالنصب يكون المعنى أنك ترى ضرورة أخباره، وبالرفع يكون المعنى أنك تعلم أنه يخبره أي هو قائم بإخباره فعلا، فبالنصب هو لم يخبره، وبالرفع هو يخبره. قال سيبويه: " وتقول: ما علمت إلا أن تقوم وما أعلم إلا أن تأتيه إذا لم ترد أن تخبر أنك قد علمت شيئا كائنا البتة، ولكنك تكلمت به على وجه الإشارة كما تقول: أرى من الرأي أن تقوم، فأنت لا تخبر أن قياما ثبت كائنا، أو يكون فيما يستقبل البتة، فكأنه قال: لو قمتم. فلو أراد غير هذا المعنى لقال: ما علمت إلا أن سيقومون (¬1). غير أن الذي يبدو لي أنها تصرف زمن الفعل المضارع إلى الاستقبال غالبا، كما سبق أن قلت في موطن سابق، وقد تأتي لغير الاستقبال، وذلك نحو قوله تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} [البروج: 8]، فإنهم مؤمنون في الحال، ولا يراد به الاستقبال: ونحو قوله: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]، وهو بقولها مستديما لها. ونحو قوله: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} [الممتحنة: 1]، وقوله: {تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92]، وهم لا يجدون في الحال، وقد يجدون في المستقبل، وغير ذلك من الآيات الكثيرة. وقد ذهب قسم من النحاة إلى أنها قد تأتي للتعليل، نحو قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282]، وقوله: {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176]، وقوله: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل: 15]. جاء في (المقتضب): " والحذف مع (أن) وصلتها مستعمل في الكلام لما ذكرت لك من أنها علة لوقوع الشيء" (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 482، وانظر الجمل للزجاجي 206 (¬2) المقتضب 3/ 214

وجاء في الهمع، في قوله تعالى: {ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق} [العنكبوت: 33]، وقال الأستاذ أبو علي دخلت (يعني أن) منبهة على السبب، وأنا لإساءة كانت لاجل المجيء، لأنها قد تكون السبب في قولك (جئت أن تعطي) أي للاعطاء. قال أبو حيان وهذا الذي ذهب إليه لا يعرف كبراء النحويين (¬1). وقد ذكر الزركشي في البرهان من حروف العلة اللام وكي وأن (¬2). والجمهور لا يرون أنها تأتي للتعليل بل يتأولون ذلك. وللنحاة فيما ورد منها للتعليل، ثلاث طرائق مشهورة. الأولى: رأي البصريين وهو تقدير محذوف، نحو كراهة، أو مخافة، أو حذار، وما إلى ذلك مما يستقيم به المعنى، ففي قوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176]، يقدرون كراهة أن تضلوا وكذلك في نحو قوله: {وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل: 15]. الثانية: رأي الكوفيين وهو أنها تكون بمعنى (لئلا) وذلك نحو قوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176]، أي لئلا تضلوا، وقوله: {وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل: 15]، أي لئلا تميد بكم. أو يكون ذلك على تقدير لام محذوفة قبل (أن) و (لا) بعدها (¬3). الثالثة: تقدير لام التعليل ن وذلك في نحو: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} [الممتحنة: 1]، وقوله: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} [البروج: 8]، وقوله: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28] (¬4). ¬

_ (¬1) الهمع 2/ 18 (¬2) البرهان 3/ 92 - 96 (¬3) انظر المغني 1/ 36، الهع 2/ 19، البرهان 3/ 97 (¬4) انظر المغني 1/ 36، الكشاف 3/ 51 - 3/ 219

والحق أنها تأتي للتعليل، وذلك لأن ذكرها يؤدي في التعليل معنى لا يؤديه حذفها واستبدال غيرها بها أحيانا، وأنه قد يضعف أحيانا تخرجها على الطرائق المشهورة، وذلك نحو، قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282]، ونحو قولهم: (أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه بها). فإنه لا يصح تقدير (كراهة أن تصل أحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)، وذلك لأن (تذكر) معطوف على (أن تضل) فيكون المعنى على هذا كراهة التذكير أيضا، لأن المعنى (كراهة الضلال فالتذكير) ومثل ذلك قولك: (إني أكره أن تأتيني فأردك) أي تكره إتيانه فرده، ومعنى ذلك أنك تكره الاتيان والرد جميعا. ومثل هذا قولهم (اعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه بها) فإذا قدرت: مخافة أن يميل الحائط فادعمه بها، كان المعنى مخافة ميلان الحائط والدعم، فالميلان مخوف والدعم مخوف أيضا لأنه معطوف عليه. والزمخشري قدرها (إرادة أن تضل أحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) فيكون الضلال على هذا مرادا، وقد اعتذر الزمخشري عن ذلك بقوله: (لما كان الضلال سببا للإذكار والاذكار مسببا عنه وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما كانت إرادةا لضلا المسبب عنه الاذكار إرادة للاذكار، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر أحداهما الأخرى أن ضلت، ونظيره قولهم، (أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه)، و (أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه) (¬1). وجعل الضلال مرادا لله لا ينفك عن ضعف، ثم أنه لا يؤدي شيء آخر مؤداها في التعليل فإنك إذا أبدلت المصدر الصريح بها على تقدير الزمخشري، رأيت أنه لا يؤدي المعنى المقصود، فلو قلت (لإرادة الضلال فالتذكير) لم يؤد المعنى كما هو ظاهر. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 304

وكذا إذا قدرت (لئلا) فإن المعنى يكون غير مستقيم أيضا فإذا قلت (لئلا تضل أحداهما فتذكر أحداهما الأخرى)، كان المعنى أن سبب التذكير عدم الضلال، لأن الضلال منفي، وكذا قولهم (أعددت هذه الخشبة لئلا يميل الحائط فأدعمه بها) فإن المعنى يكون على ذلك أن سبب الدعم عدم الميل، أي حتى إذا لم يمل دعمته، وهو عكس المعنى المراد في حين أن المعنى أنك تخشى ميلان الحائط، فأعددت له الخشبة حتى إذا مال دعمته بها. جاء في (المقتضب): " أعددت هذا أن يميل الحائط فأدعمه، ولم يعدوه طلبا لأن يميل الحائط ولكنه أخبر بعلة الدعم، فاستقصاء المعنى إنما هو: أعددت هذا، لأن أن مال الحائط دعمته (¬1). أو يكون العطف بقصد النفي، كالمعطوف عليه، نحو قولك: (لئلا تنهاه وتزجره) أي ولئلا تزجره فيكون المعنى غير مستقيم أيضا، لأن الفعلين منفيان فيكون المعنى في الاية لئلا تضل فلا تذكر، وهو عكس المراد. وعلى هذا فالتوجيهان باطلان أو ضعيفان. جاء في (البرهان): " فإن قيل: كيف يستقيم الطريقان في قوله: " أن تضل أحداهما فتذكر أحداهما الأخرى" فإنك إذا قدرت لئلا تضل أحداهما، لم يستقم عطف (فتذكر) عليه. وإن قدرت (حذار أن تضل أحداهما) لم يستقم العطف أيضا لأنه لا يصح أن تكون الضلالة علة لشهادتهما. قيل: بظهور المعنى يزول الإشكال فإن المقصود اذكار أحداهما الأخرى إذا ضلت ونسيت، فلما كان الضلال سببا للأذكار، جعل موضع العلة. تقول: (أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه بها) فإنما أعددتها للدعم لا للميل، وأعددت هذا الدواء أن أمرض فأداوي به ونحوه" (¬2). ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 215، وانظر سيبويه 430 (¬2) البرهان 3/ 97 - 98

زيادة (لا) بعدها

والطريقة الثالثة: تقدير لام التعليل، وذلك في نحو قوله تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} [الممتحنة: 1]، و {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]، أي لأن تؤمنوا ولأن تؤمنوا ولأن يقول ربي الله. وهذا التقدير صحيح مع ذكر (أن)، ولكن لا يصح تقدير اللام وحدها من دون ذكر أن، فلا يصح أن تقول (يخرجون الرسول وإياكم لتؤمنوا بالله ربكم) ولا (أتقتلون رجلا ليقول ربي الله) مع أن اللام عندهم على تقدير (أن) (¬1). فإن قولنا (جئت لاستفيد) تقديره عند النحاة (جئت لأن أستفيد) فمعنى قولنا: (يخرجون الرسول وإياكم لتؤمنوا أن المخاطبين والرسول غير مؤمنين وأنهم يخرجون حتى يؤمنوا فمعناها باللام أنهم غير مؤمنين ومعناها بـ (أن): أنهم مؤمنون. وكذلك قوله: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]، فإنه لا يصح أن تقول للمعنى نفسه (أتقتلون رجلا ليقول ربي الله) مع أن اللام على تقدير أن وأن من الجائز إظهارها كما يقول النحاة. فإن المعنى بـ (أن): أتقتلونه لأنه يقول ربي الله: أي أن سبب القتل وهو قوله (ربي الله) ومعناها باللام انهم يقتلونه حتى يقولها، فمعناها بأن، أنه يقولها، ومعناها باللام، أنه لا يقولها. فأنت ترى أن ذكر (أن) يؤدي معنى في التعليل لا يؤديه حذفها وإبدال غيرها بها. فالذي يترجح أنها للتعليل والله أعلم، وقد سبق شيء من هذا في موطن سابق. زيادة (لا) بعدها: تزاد (لا) بعد (أن) توكيدا، قال سيبويه: " وأما لا فتكون كـ ما في التوكيد واللغو، قال الله عز وجل: {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29]، أي لأن يعلم" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 210 (¬2) كتاب سيبويه 2/ 306

ولا تأتي توكيدا إلا في الموطن الذي يؤمن اللبس فيه. جاء في (الأصول): " ولا تكون توكيدا إلا في الموضع الذي لا يلتبس فيه الإيجاب بالنفي من أجل المعنى" (¬1). ومن ورودها زائدة مؤكدة في القرآن الكريم: قوله تعالى: {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري} [طه: 92 - 93]، والمعنى ما منعك أن تتبعني؟ لو لم تقدرها زائدة للتوكيد، لكان المعنى: ما منعك من عدم اتباعي؟ أي هو يحاسبه على اتباعه في حين أن المعنى: ما منعك من اتباعي، أي لم لم تتبعني؟ فـ (لا) زائدة للتوكيد، ومثله قوله تعالى: مخاطبا إبليس: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} [الأعراف: 12]، والمعنى ما منعك أن تسجد؟ وإلا كان إبليس ساجدًا ويكون محاسبا على سجودهـ، لأنه سيكون المعنى: ما منعك من عدم السجود؟ أي لم سجدت، ؟ في حين أن المعنى هو: ما منعك من السجود أي: لم لم تسجد؟ يدل على ذلك قوله تعالى في سورة (ص): {قال يإبليس ما منعك أن تسجد لماخلقت بيدي} [ص: 75]، من دون (لا). فزيدت (لا) في الأعراف توكيدا، ولم تزد في (ص) وذلك أن المقام يقتضي أن يكون كل في موضعه، وسياق كل من القصتين يوضح ذلك. قال تعالى في سورة الأعراف: {ولقد خلقناك ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، قال فاخبط نها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراط المستقيم ثم لأتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا يجد أكثرهم شاكرين قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ويآدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} [الأعراف: 11 - 19]. ¬

_ (¬1) الأصول 2/ 220

وقال في سورة ص: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} [ص: 71 - 85]. وبالنظر في سياق كل من السورتين يتضح سبب زيادة (لا) في الأعراف، دون سورة (ص) فإن التوكيد في سورة الأعراف بقوله (ولقد خلقناكم) و (لقد) مؤكدان هما اللام و (قد)، وهي أعني (لقد) جواب قسم عند النحاة، والقسم توكيد بخلاف القصة في (ص) فإنها تبدأ بقوله: (وإذ قلنا). ثم إن المؤكدات في قصة الأعراف أكثر (لقد، وزيادة (لا)، أنك من الصاغرين أنك من المنظرين، لأقعدن لآتينهم لأملأن جهنم منكم أجمعين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) فناسب ذلك المجيء بـ (لا) الزائدة المؤكدة. ثم إن مقام السخط والغضب في قصة الأعراف أكبر، فناسب ذلك الزيادة في التوكيد والغلظة في القول، ويدل على ذلك أمور منها: أنه طوي إسمه فلم يذكره في الأعراف، فقال (قال ما منعك ألا تسجد) في حين ذكر إسمه في ص، فقال: (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد). ويدل على ذلك صيغة الطرد في الأعراف قال (فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج أنك من الصاغرين) فقد كرر الطرد مع الصغار، (فاهبط) (فاخرج أنك من الصاغرين) وكرر الطرد مرة أخرى في الآية 18 قائلا (قال أخرج منها مذؤوما مدحورا).

وليس كذلك في سورة ص، فإنه قال (قال فأخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين). ومما يدل أيضا على ان مقام السخط في قصة الأعراف أكبر، وهو عدم التبسط مع إبليس في الكلام، بخلاف آيات ص، وإن عدم التبسط في الكلام مما يدل على السخط الكبير يدل على ذلك، أنه قال في الأعراف قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [الأعراف: 12]. وقال في ص: {قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من الغالين} [ص: 38]، / وقال في الأعراف: {قال إنك من المنظرين} [الأعراف: 15]، وقال في ص: {قال فإنك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم} [ص: 80 - 81]، فزاد الفاء وزاد إلى يوم الوقت المعلوم. وقال في الأعراف: {قال أنظرني إلى يوم يبعثون} [الأعراف: 14]، وقال في ص: {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} [الأعراف: 79]، فزاد رب والفاء. فإنه لما كان المقام مقام تبسط في الكلام، تبسط هو أيضا بخلاف آية الأعراف، فإنه لما كان مقام سخط كبير، حذف التبسط، وجعل الكلام على أوجز صورة، ولكل مقام مقال. ثم إن القصة في الأعراف أطول مما هي في ص، فناسب ذلك زياد لا أيضا فيها دون ص. وهناك جانب فني آخر حسن زيادة لا في الأعراف دون ص، وهو أن سورة الأعراف تبدأ بـ (المص)، وقد أنتبه القدامي إلى أن الحروف المقطعة التي تبدأ بها السور يكثر ترديدها في السورة بصورة أكثر وأوضح من غيرها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر بدائع الفوائد 3/ 173

فناسب زيادة (لا) وهي لام وألف مع السورة التي تبدأ بألف ولام، دون التي لم تبدأ بهما والله أعلم. ثم أن جو السورة في الأعراف، يختلف عنه في ص، مما حسن تأكيد السجود في الأعراف دون ص، فإنه من الواضح لدارس القرآن أن لكل سورة من سوره جوا معينا يسيطر عليها، ولعل الله ييسر لها فرصة البحث في هذا الموضوع. فإن مشتقات السجود كالمسجد، والساجدين، ونحوها تردتت في سورة (الأعراف) تسع مرات بخلاف سورة ص، فإنها لم تذكر إلا ثلاث مرات. فقد جاءت مشتقات السجود في الأعراف في المواطن الآتية: 1 - {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين} [الأعراف: 11]. 2 - {قال ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12]. 3 - {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} [الأعراف: 29]. 4 - {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]. 5 - {وألقي السحرة ساجدين} [الأعراف: 120]. 6 - {وادخلوا الباب سجدا} [الأعراف: 161]. 7 - وختم السورة بقولة: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} [الأعراف: 206]. في حين لم ترد مشتقات السجود في سورة (ص) إلا في هذا الموطن، وهي قوله: 1 - {فقعوا له ساجدين} [ص: 72]. 2 - {فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس استكبر} [ص: 73 - 74].

إذن

3 - {ما منعك أن تسجد} [ص: 75]. فقد ترددت مشتقات السجود في الأعراف في هذه القصة وحدها أربع مرات، وفي سورة (ص) ثلاث مرات. فناسب ذلك أن يؤكد السجود في الأعراف دون (ص) والله أعلم. إذن إذن جواب وجزاء (¬1). يقول الرجل: سأزورك، فتقول: إذن أحسن إليك، فأنت أجبته وجعلت إحسانك إليه جزاء لزيارته، فالإحسان مشروط بالزيادة، فكانت (إذن) هنا جوابا وجزاء. جاء في (المفصل): " يقول الرجل: أنا آتيك، فتقول: أذن أكرمك، فهذا الكلام، قد أجبته به وصيرت أكرامك جزاء له على إتيانه. وقال الزجاج: تأويلها أن كان الأمر كما ذكرت فإني أكرمك (¬2). وقد تتمحض للجواب فلا يكون فيها مجازاة، وذلك نحو أن يقال لك: أنا أحبك، فتقول: إذن أظنك صادقا، فلا مجازاة هنا (¬3). وينتصب بعدها الفعل المضارع بشرط تصديرها واستقباله واتصالها بالفعل (¬4). ومعنى التصدير أن تقع في اول الجملة، نحو قولك لمن قال لك: سأزورك، إذن أكرمك، بالنصب لا غير لأنها وقعت في أول الكلام، وكان الكلام مبنيا عليها. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 312 (¬2) المفصل 2/ 216 (¬3) المغنى 1/ 20 (¬4) انظر المغني 1/ 21

فإذا لم يعتمد الكلام عليها، بل كان ما بعدها من تمام من قبلها الغيت، وذلك في ثلاثة مواضع (¬1). الأول: أن يكون ما بعدها خبرا لما قبلها، نحو (أنا إذن أكرمك) و (إني إذن أحسن إليك) فهنا يجب رفع الفعل لفوات التصدير، وذلك أن الفعل فيهما معتمد على ما قبلها فهو خبر لهما، ووقعت (إذن) معترضة بين المبتدأ والخبر (¬2). كأنك قلت: أنا أكرمك إذن. الثاني: أن يكون جزاء للشرط الذي قبلها، نحو (إن تأتني إذن أكرمك) فأكرمك مجزوم لأنه جواب الشرط، وهي معترضة بين الشرط والجواب، وليس الكلا معتمدا عليها. الثالث: أن يكون جوابا للقسم الذي قبلها، نحو (والله إذن لأخرجن) فـ (لأخرجن) جواب القسم وهي معترضة بين القسم والجواب، وقد بني الكلام على القسم، وكذلك قولك (والله إذن لا أخرج) بالرفع فلا يجوز النصب هنا لأنه جواب للقسم بخلاف ما إذا قدمتها فقلت (إذن والله أكرمك) فإن الفعل ينتصب بعدها، وذلك لأن الكلام مبني عليها، وكان اليمين معترضا. جاء في (كتاب سيبويه): " ومن ذلك أيضا قولك (إن تأتني إذن آتك) لأن الفعل ههنا معتمد على ما قبل (إذن) .. ومن ذلك أيضا (والله إذن لا أفعل) من قبل أن (أفعل) معتمد عى اليمين، و (إذن) لغو وليس الكلام ههنا بمنزلته، إذا كانت (إذن) في أوله لأن اليمين ههنا الغالبة، ألا ترى أنك تقول إذا كانت إذن مبتدأة (إذن والله أفعل) لأن الكلام على إذن، و (والله) لا يعمل شيئا. ولو قلت: (والله إذن أفعل) تريد أن تخبر أنك فاعل، لم يجز كما لا يجوز (والله أذهب إذن) إذا أخبرت أنك فاعل، فقبح هذا يدلك على أن الكلام معتمد على اليمين (¬3). ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 264 - 265، المفصل 2/ 216 (¬2) انظر شرح شذور الذهب 290 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 411 - 412

وجاء في (المقتضب): "والموضع الذي لا تكون فيه عاملة البتة قولك: (إن تأتني إذن آتك) لأنها داخلة بين معمول ومعمول فيه. وكذلك إن كانت في القسم، بين المقسم به والمقسم عليه، نحو قولك (والله إذن لا أكرمك، ) لأن الكلام معتمد على القسم، فإن قدمتها كان الكلام معتمدا عليها، فكان القسم لغوا نحو (إذن والله أضربك) لأنك تريد (إذن أضربك والله). فالذي تلغيه لا يكون مقدما، إنما يكون في أضعاف الكلام، ألا ترى أنك لا تقول (ظننت زيد منطلق) لأنك إذا قدمت الظن، فإنما تبني كلامك على الشك (¬1). فهي - كما ترى - نظيرة (ظننت) وأخواتها، فكما أن (ظننت) إذا أعتمد الكلام عليها، أعملت، وإذا لم يبن الكلام عليها ألغيت كذلك (إذن) إذا اعتمد الكلام عليها اعملت، وإذا لم يعتمد الكلام عليها الغيت. فإذا وقعت في أول الكلام، كان الكلام مبنيا عليها، وإذا توسطت أو تأخرت، كانت معترضة ملغاة. جاء في (المقتضب): " اعلم أن (إذن) في عوامل الأفعال كـ (ظننت) في عوامل الأسماء، لأنها تعمل وتلغى كـ (ظننت) ألا ترى أنك تقول: (ظننت زيدًا قائمًا) و (زيد ظننت قائم) إذا أردت: زيد قائم في ظني، وكذلك (إذن) إذا أعتمد الكلام عليها نصب بها، وإذا كانت بين كلامين أحدهما في الآخر عامل الغيت، ولا يجوز أن تعمل في هذا الموضع، كما تعمل (ظننت) إذا قلت (زيدا ظننت قائمًا) لأن عوامل الأفعال لا يجوز فيها التقديم والتأخير، لأنها لا تتصرف (¬2). فإن كان ما قبلها واوا أو فاء، جاز نصب الفعل بعدها ورفعه باعتبارين مختلفين، وذلك نحو قولك (أنا أزورك وإذن أنفعك) فهنا يجوز في (أنفعك) الرفع والنصب، ¬

_ (¬1) المقتضب 2/ 11 (¬2) المقتضب 2/ 10، وانظر كتاب سيبويه 1/ 410 - 411

فالرفع على أنه معطوف على (أزورك) الذي هو الخبر وكانت (إذن) معترضة كأنك قلت: أنا أزورك، وأنفعك إذن، أو على أنك تنفعه الآن في المستقبل أي أنك قائم بنفعه، لأنها لا ينتصب الفعل بعدها إلا إذا كان مستقبلا. والنصب على أنه جملة مستأنفة وليست خبرا، بل هي جملة مصدرة بإذن تنوي، بها نفعة في المستقبل. جاء في (شرح ابن يعيش): " أن يكون ما قبلها واوا أو فاء فيجوز أعمالها والغاؤها وذلك قولك (زيد يقوم وإذن يذهب) فيجوز ههنا الرفع والنصب باعتبارين، مختلفين، وذلك أنك إن عطفت (وإذن يذهب) على (يقوم) الذي هو الخبر، الغيت (إذن) من العمل وصار بمنزلة الخبر، لأن ما عطف على شيء صار واقعا موقعه، فكأنك قلت (زيد إذن يذهب) فيكون قد اعتمد ما بعدها على ما قبلها لأنه خبر المبتدأ، وإن عطفته على الجملة الأولى كانت الواو كالمستأنفة، وصار في حكم ابتداء كلام، فأعمل لذلك ونصب به (¬1). ونحوه قولك: (إن تأتني آتك وإذن أكرمك) فإن شئت رفعت (أكرمك)، وإن شئت نصبته وإن شئت جزمته وذلك بحسب المعنى والقصد فالجزم على أنه معطوف على الجواب فهو جواب مثله، والمعنى أن تأتني آتك وأكرمك، إذن فالاتيان والإكرام مشروطن باتيانه هو، وإن نصبت فليس على أنه عطف على الجواب، بل على أنه جملة مستقلة، والعنى أنه سيكرمه في المستقبل، وليس ذلك متربطا بالجواب، والمعنى أنك أن تأتني آتك، ثم أخبرته بأنك ستكرمه في المستقبل ونحوه أن تقول: (من يعن ذا حاجة يعنه الله وإذن أعينك) فـ (إذن أعينك) لا تصلح جوابا للشرط، إذ لا يصح أن يقال: من يعن ذا حاجة إذن أعينك، فهي مستأنفة، وحكم الفعل بعدها النصب، ونحوه (خالد سيأتي وإذن أصرفك) لأن (أصرفك) لا يصح أن يكون خبرا عن (خالد). ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 7/ 16

ونحوه (كلما زرته أحسن وفادتي وإذن أكرمه) فإن جملة (إذن أكرمه) فإن جملة (إذن أكرمه) لا تصلح جوابا لكلما لأن جوابها ماض، والمعنى ليس عليها أيضا. والرفع على أنها ملغاة والمعنى (أن تأتني آتك وأنا أكرمك إذن) فليس هو من باب العطف على الجواب، بل هو استئناف، ونظيره قوله تعالى: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} [آل عمران: 111]، فلم يجزم (ينصرون) لأنه ليس معطوفا على الجواب، بل هو إخبار جديد، ليس مشروطا بالمقاتلة فكأنه قال: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون أو يكون على إرادة الحال، لا إستقبال، والمعنى أنا قائم بإكرامك الآن. جاء في (الكتاب): " ويقول (إن تأتني آتك وإذن أكرمك) إذا جعلت الكلام على اوله ولم تقطعه وعطفته على الأول، وإن جعلته مستقبلا نصبت، وإن شئت رفعته على قول من ألغي وهذا قول يونس وهو حسن لأنك إذا قطعته من الأول فهو بمنزلة قولك (فإذن أفعل) إذا كانت مجيبا رجلا" (¬1). وجاء في (المقتضب): " واعلم أنها إذا وقعت بعد واو او فاء صلح الأعمال فيها والإلغاء لما أذكره لك، وذلك قولك (أن تأتني آتك وإذن أكرمك) إن شئت رفعت، وإن شئت نصبت، وإن شئت جزمت. أما الجزم فعلى العطف على آتك والغاء (إذن) والنصب على إعمال (إذن) والرفع على قولك (وأنا أكرمك) ثم أدخلت (إذن) بين الابتداء والفعل فلم تعمل شيئا (¬2). ومعنى استقباله أن الفعل المضارع لا ينتصب بعدها إلا إذا كان مستقبلا، شأن بقية النواصب، فإن كان للحال لم ينتصب، وذلك نحو (إذن أكتب) إذا كانت الكتابة في الحال و (إذن أظنك صادقا). جاء في (كتاب سيبويه): " وتقول إذا حدثت بالحديث (إذن أظنه فاعلا) و (إذن أخالك كاذبا) وذلك لأنك تخبر أنك تلك الساعة في حال ظن وخيلة، فخرجت من باب ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 412 (¬2) المقتضب 2/ 11 - 12

(أن) و (كي) لأن الفعل بعدهما غير واقع وليس في حال حديثك فعل ثابت .. ولوقلت (إذن أظنك) تريد أن تخبره أن ظنك سيقع لنصبت، وكذلك (إذن يضربك) إذا أخبرت أنه في حال ضرب لم ينقطع (¬1). وجاء في (المقتضب): " وقد يجوز أن تقول (إذن أكرمك) إذا أخبرت أنك في حال إكرام لأنها إذا كانت للحال خرجت من حروف النصب لأن حروف النصب إنما معناهن مالم يقع (¬2). وجاء في (الأصول) لابن السراج: " فإن كان الفعل الذي دخلت عليه (إذن) فعلا حاضرا، لم يجز أن تعمل فيه لأن أخواتها لا يدخلن إلا على المستقبل، وذلك إذا حدثت بحديث فقلت: إذن أظنه فاعلا وإذن أخالك كاذبا، ولك لأنك تخبر عن الحال التي أنت فيها في وقت كلامك، فلا تعمل إذن لأنه موضع لا تعمل فيه أخواتها (¬3). وقال ابن الناظم: " فلو كان المضارع بمعنى الحال، وجب رفعه لأن فعل الحال لا يكون إلا مرفوعا، وذلك قولك لمن قال: أنا أحبك، إذن أصدقك (¬4). والمقصود باتصالها بالفعل إلا يفصل بينهما فاصل، فلو قلت (إذن عبد الله يكرمك) ارتفع الفعل ولم يجز نصبه (¬5). وأجيز الفصل بين إذن والفعل المضارع المنصوب بالقسم، نحو (إذن والله أكرمك) والدعاء نحو (إذن رحمك الله أكرمك) والنداء نحو (إذن يازيد أكرمك (¬6).) ولا النافية (¬7) نحو (إذن لا أذهب) وقريء (وإذن لا يلبثوا خلافك إلا قليلا) (¬8). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 412 (¬2) المقتضب 2/ 13 (¬3) الأصول 2/ 153 - 154 (¬4) شرح الألفية 276 (¬5) انظر كتاب سيبويه 1/ 412 (¬6) شرح الرضي على الكافية 2/ 263 (¬7) المغني 1/ 20 (¬8) المفصل 2/ 216

كي

كي ومعناها السببية، قال تعالى: {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن} [القصص: 13]، وعند النحاة أنها إذا سبقت باللام، فليست حرف تعليل، بل التعليل مستفاد من اللام، وذلك نحو {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} [الحديد: 23]، لأنها لو كانت حرف تعليل لم يدخل عليها حرف تعليل (¬1). ويبدو لي أنها تعليلية على كل حال، سواء أفردت أم سبقت باللام، يدل على ذلك أنها لا تستعمل إلا في مقام التعليل، أما قولهم إن حرف التعليل لا يدخل على حرف التعليل فلا أراه سليما، وذلك أن اللفظين اللذين يفيدان معنى واحدا قد يقترنان كما في التوكيد، نحو قوله تعالى، {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} [الحجر: 30]، فـ (كلهم) توكيد و (أجمعون) توكيد، ونحو (جاء أخوك بنفسه) فالباء زائدة للتوكيد و (نفسه) توكيد، ونحو (جئت أنا نفسي)، ونحو (لا لا أذهب)، وكما في التشبيه نحو (ليس كمثله شيء) فـ (الكاف) للتشبيه و (مثل) للتشبيه في قول، ونحو قول الشاعر: فصيروا مثل كعصف مأكول وكقولنا (هي كمثل البدر)، وهذا مثله. ويدل على ذلك أيضا أن كلا من (كي) واللام مستعمل في التعليل في اللغات السامية والعربية الجنوبية. فيقابل (كي) في العبرية ki (¬2) . والكاف في العربية الجنوبية (¬3). وكذلك اللام فهي تدخل على المضارع في اللهجة الثمودية، وفي العربية الجنوبية لتبين العلة. (¬4). ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 182، الهمع 2/ 5 (¬2) التطور النحوي 131/ 132 (¬3) تأريح العرب قبل الإسلام 7/ 136 (¬4) تاريخ العرب قبل الإسلام 7/ 207 - 136

لام التعليل

فالراجح أنها للتعليل كـ (اللام). وعلى آية حال هي لا تستعمل إلا في مقام السببية، سواء قلنا أنها للتعليل أم لان أما الخلاف النحوي في أنها جارة أو ناصبة، فهذا لا يعنينا هنا. لام التعليل وهي أوسع استعمالا من (كي) فهي تدخل على الفعل المضارع وغيره، لبيان العلة وذلك نحو قوله تعالى: {إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} [القصص: 25]. ونحو (جئت لطلب العلم). وعند النحاة أنه يفيد التعليل، سواء اتقترن بـ (كي) أم لم يقترن، أما (كي) فلا تكون حرف تعليل إلا إذا لم تقترن باللام - كما أسلفنا -. وعند جمهور النحاة أن لام التلعيل تكون بعدها (إن) مضمرة، تنصب الفعل، يجوز إظهارها وإضمارها في غير لام الجحود، فإنها مضمرة وجوبًا نحو {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]، وفي غير الفعل المسبوق بـ (لا) فإنها تظهر وجوبًا، نحو: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} [البقرة: 150] (¬1). غير أن الذي يظهر أن التعليل باللام وحدها قد يختلف عنه إذا ذكرت معها (أن) أحيانا، وذلك نحو قولنا (ما قتل إلا لأن يقول ربي الله) و (ما قتل إلا ليقول ربي الله) فالأولى تفيد أنه كان يقولها، وما قتل إلا لأنه كان يقولها، ونحو ذلك قولهه تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [الحج: 40]، أي لأنهم يقولونها/ وباللام يفهم أنه قتل ليقولها أي أنه لا يقولها، وهو عكس المعنى الأول. ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 407، شرح ابن يعيش 7/ 28، الهمع 2/ 17

ونحو ذلك أن تقول (أتضرب رجلا يعبد الله) و (أتضرب رجلا ليعبد الله) فالأولى تفيد أنه يضربه، لأنه يعبد الله والثاني يضربه حتى يعبده أي أنه لا يعبده، ونظير ذلك قوله تعالى: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]، أي لأنه يقولها، ولو قال {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]، أي لأنه يقولها، ولو قال (أتقتلون رجلا ربي الله) أنعكس المعنى وصار أتقتلون حتى يقولها؟ بل الذي يبدو على وجه التدقيق، أن التعليل بـ (أن) وحدها قد يختلف عن التعليل باللام وحدها، ويختلف عن التعليل بـ (أن) مع اللام في أحيان كثيرة. فقولك: أتقتله أن يعبد الله؟ يختلف عن قولك: أتقتله ليعبد الله؟ ويختلف عن قولك: أتقتله لأن يعبد الله؟ فالأولى تفيد نصا، أنه يعبد الله وأنه يقتله بسبب عبادته له، نظير قوله تعالى: {أتقتلون رجلا ان يقول ربي الله}. وباللام وحدها تفيد نصا أنه لا يعبد الله، وإنما تفيد أنه يقتله حتى يعبد الله. وباللام مع أن نحو (أتقتله لأن يعبد الله) يحتمل المعنيين: المعنى الأول أنه يعبده، وأنه يقتله بسبب عبادته له، والآخر أنه لا يعبده، وأنه يقتله لأجل أن يعبده. فجمع اللام مع (أن) دلالة على جمع المعنيين، فحمل كل من اللام وأن معناه، وهو من التعابير الإحتمالية الكثيرة في العربية. وهذا يدل على أنها ثلاثة أساليب مختلفة، وليست أسلوبا واحدًا كما يفهم من قول النحاة.

التعليل بـ (كي) واللام

التعليل بـ (كي) واللام: قد يرد سؤال على الذهن يحتاج إلى إنعام نظر وهو: ما الفرق بين اللام، و (كي).؟ وهل التعليل بهما متطابق. الحقيقة أنه لا يبدو هناك فرق واضح بينهما في التعليل، فهما متقاربان جدًا، غير أن الذي يبدو لي أن الأصل في (كي) أن تستعمل لبيان الغرض الحقيقي، واللام تستعمل له ولغيره، فاللام أوسع أستعمالا من (كي) وهذا ما نراه في الاستعمال القرآني، فقد وردت (كي) في القرآن في عشرة مواطن هي: 1 - {فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم} [آل عمران: 153]. 2 - {وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا} [طه: 32 - 34]. 3 - {فرجعنك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن} [طه: 40]. 4 - {ومنكم من يتوفي ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} [الحج: 5]. 5 - {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق} [القصص: 13] 6 - {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج} [الأحزاب: 37]. 7 - {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج} [الأحزاب: 50]. 8 - {وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [الحديد: 22 - 23].

9 - {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا} [النحل: 70]. 10 - {وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر: 7]. ووردت اللام في مواطن كثيرة جدًا، وبموازنة الاستعمال القرآني بينهما نرى أن القرآن خص (كي) بالتعليل الحقيقي، وأما اللام فقد استعملها له ولغيره، فمن ذلك مثلا: 1 - أن اللام وردت للتعليل المجازي في القرآن الكريم، وذلك نحو قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} [القصص: 8]، وهو الذي يسميه النحاة لام العاقبة، فإن هذا تعليل مجازي، وذلك أن آل فرعون لم يتلقطوه لذلك، بل لينفعهم كما قال تعالى على لسان امرأة فرعون: {قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} [القصص: 9]. ولكن عاقبة التقاطه أن أصبح لهم عدوا وحزنا، فكأنهم التقطوه لذلك، وهذا كما تقول (علمتك الرماية لترميني وعلمتك الشعر لتهجوني) أي كان ذلك عاقبة أمرك، ولم يرد تعليل مجازي بـ (كي) في القرآن الكريم، فلم يقل مثلا: (التقطه آل فرعون كي يكون لهم عدوًا وحزنا). 2 - وقريب من ذا قوله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم} [الأنعام: 144]، فهذا قريب من التعليل المجازي إذ من المحتل أنه لم يكن غرض المفترى إضلال الناس، بدليل قوله تعالى (بغير علم) وبدليل قوله تعالى: {وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم} [الأنعام: 119]، ولكن المفترى على الله يضل الناس يقينا، ولا تشفع له نيته في ذلك، أيا كانت بدليل قوله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} [الكهف: 103 - 105]، فهؤلاء، لا يشفع لهم أعتقادهم أنهم يحسنون صنعا.

فاستعمل التعليل هنا باللام ولم يستعمله بـ (كي)، وذلك أنه لو قال (أفترى على الله كذبا كي يضل الناس) كان المعنى أنه افترى الكذب لهذا الغرض. ونحو هذا أن تقول (سعى ليفسد في الأرض من دون أن يعلم) لأنه بـ (كي) يكون المعنى إن غرض السعي الذي سعاه هو الإفساد، فكيف يصح أن يقال: من دون أن يعلم؟ ويجوز ذلك في اللام لأنها للغرض عموما. 3 - وقريب من ذا أيضا قوله تعالى: {وليعلم الله الذين أمنوا} [آل عمران: 140]. وقوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول} [البقرة: 143]، ولا شك أن الله يعلم ذلك ابتداء، والمقصود هنا العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب، وليس مجرد العلم، فجعل التعليل باللام ولم يجعله - بـ (كي) ولو قال (كي نعلم) لكان المقصود العلم لذاته، ومعنى ذلك أن الأمر مجهول له سبحانه، ولم يأت نحو هذا التعبير بـ (كي) في القرآن الكريم. 4 - والظاهر من الاستعمال القرآني أن (كي) تستعمل للغرض المؤكد، والمطلوب الأول، يدل على ذلك قوله تعالى: {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق} [القصص: 13]، فقد جعل التعليل الأول بـ (كي) (كي تقر عينها) والثاني باللام (ولتعلم أن وعد الله حق). والأول هو المطلوب الأول، والمقصود الذي تلح عليه الأم بدليل اقتصاره عليه في آية طه، قال تعالى: {فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن} [طه: 40]. فالمطلوب الأول للأم هو رد ابنها إليها في الحال، أما جعله نبيا مرسلا، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {ولتعلم أن وعد الله حق} [القصص: 13]، فهو غرض بعيد، إذ هي محترفة لرد ابنها الرضيع إليها. وهذا غرض كل أم سلب منها ابنها، أعني أن يعاد إليها أولا، سواء كانت الأم مؤمنة،

أم كافرة، بل هو مطلوب للامات من الحيوان، ولذا عللها في الموطنين بـ (كي) ولم يعلله باللام. ثم أن أم موسى تعلم أن وعد الله حق لا يتخلف، وقد وعدها ربها بأنه سيرده إليها ويجعله من المرسلين، {إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7]. فقوله تعالى: {ولتعلم أن وعد الله حق} [القصص: 13]، معناه الاطمئنان، لا مجرد العلم، ولو قال (كي تعلم أن وعد الله حق) لكان المعنى أنها تجهل أن وعد الله حق وأنه رده إليها لتعلم هذا الأمر. ونظير هذا قوله تعالى: {وكذلكأعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} [الكهف: 21]، وهذا في أصحاب الكهف، وهم يعلمون أن وعد الله حق، ولا شك وكيف لا وهم فارقوا قومهم لإيمانهم بالله تعالى؟ فلو قال (كي يعلموا) لكان المعنى أن هذا هو الغرض الحقيقي وقد كانوا يجهلون ذاك. وأم قوله (كي تقر عينها ولا تحزن) فهذا غرض حقيقي لا يتحقق إلا برد طفلها إليها، وهذا أشبه بما مر في النقطة السابقة. 5 - ومن أوجه الخلاف بينهما في الاستعمال أن اللام تستعمل مع كان المنفية وهي التي تسمى لام الجحود، نحو قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]، وقوله: {لم يكن الله ليغفر لهم} [النساء: 137]، ولا يصح استعمال (كي) هنا. فلا تقول (ما كان الله كي يعذبهم) ولا (لم أكن كي أحضر). ومن الجدير بالذكر أن (كي) غير المقترنة بنفي لم ترد في التعليل، إلا في ثلاثة مواطن هي: 1 - {فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن} [طه: 40]. 2 - {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن} [القصص: 3]. 3 - {وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا} [طه: 33 - 34].

لن

وهي كما ترى كلها في بني إسرائيل، واحدة في كلام موسى لربه، واثنتان في رجعه إلى أمه. ومن المعلوم أن (كي) حرف تعليل عبري ki فتخصيص استعماله في القرآن الكريم لهؤلاء القوم تخصيص فني جميل، كأنه إشارة إلى الحديث بلغتهم القدمى. وهذا أمر جدير بالنظر فيه في دراسة التعبير القرآني، فإنه كثيرا ما يستعل اللفظ الذي أصله غير عربي مع القوم الذين كانوا يستعملونه، كاستعمال المنسأة والسري وغيرهما. يتبين مما مر أن (كي) تستعمل للغرض الحقيقي أما اللام فهي أوسع استعمالا منها، وأن الجمع بينهما يفيد التوكيد والله أعلم. لن تدخل على الفعل المضارع، فتخلصه للاستقبال، وتنفيه نفيا مؤكدا " تقول: لا أبرح اليوم مكاني، فإذا وكدت وشددت قلت: لن أبرح اليوم مكاني" (¬1). وهي نقيضة (سوف)، فإذا قلت (سوف أفعل) فنفيه (لن أفعل (¬2).) فسوف للإثبات و (لن) للنفي ولا يجمع بينهما، فلا يقال (سوف لن أفعل) ولا (سوف لا أفعل) كما هو شائع اليوم. وذهب بعضهم أن نفيها يفيد التأبيد (¬3). قال تعالى: {فلن يخلف الله عهده} [البقرة: 80]، وقال: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} [الحج: 73]، وقال: {ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا} [النساء: 52]. والحق أنها لا تفيد وإنما هي للاستقبال، وهذا الاستقبال قد يكون بعيدا متطاولا، وقد يكون قريبا منقطعا، بدليل قوله تعالى: {فلن أكلم اليوم إنسيا} [مريم: 26]. ¬

_ (¬1) المفصل 2/ 200، وانظر شرح الرضي على الكافية 2/ 260 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 460، وانظر المقتضب 2/ 6، شرح ابن يعيش 7/ 15 (¬3) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 260، البرهان 2/ 420

لن ولا

فقد قيدها بيوم واحد وهو ينافي التأبيد (¬1).، وقوله تعالى: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} [آل عمران: 124]، فهي هنا موقوتة بالمعركة. لن ولا: ذهب أكثر النحاة إلى أن (لا) كـ (لن) من حيث تخليصها المضارع للاستقبال، إلا أن (لن) آكد منها: وخلاصة ما يذكره النحاة فيهما: 1 - أن (لا) تخلص الفعل المضارع للاستقبال، كـ (لن) عند الأكثرين وخالفهم ابن مالك لصحة قولنا (جاء زيد لا يتكلم) فإن جملة (لا يتكلم) حال مع الاتفاق على أن الجملة الحالية لا تصدر بدليل استقبال (¬2). 2 - أن في (لن) توكيدًا لا تفيده (لا)، تقول " لا أبرح اليوم مكاني فإذا وكدت وشددت قلت: لن أبرح اليوم مكاني (¬3). وجاء في الكشاف في قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} [البقرة: 24] " فإن قلت: ما حقيقة (لن) في باب النفي؟ قلت: (لا) و (لن) اختان في نفي المستقبل، إلا أن في لن توكيدا وتشديدا، تقول لصاحبك: لا أقيم غدا، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غدا، كما تفعل في أنا مقيم وإني مقيم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 284 (¬2) المغنى 1/ 244 (¬3) المفصل 2/ 200 (¬4) الكشاف 1/ 192، وانظر 1/ 574، في قوله تعالى (لن تراني).

وذهب ابن عصفور إلى أن هذا القول دعوى بلا دليل " بل قد يكون النفي بـ (لا) آكد من النفي بـ (لن) لأن المنفي بـ (لا) قد يكون جوابًا للقسم، نحو (والله لا يقوم زيد) والمنفي بـ (لن) لا يكون جوابا له، ونفي الفعل إذا أقسم عليه آكد منه إذا لم يقسم (¬1). 3 - إن النفي بـ (لا) أطول من النفي بـ (لن) أي أن (لن) تنفي المستقبل القريب بخلاف (لا) فإنها تنفي المستقبل المتطاول. جاء في (البرهان) أن بعضهم ذهب إلى أن النفي بـ (لا) أطول من النفي بـ (لن) لأن آخرها ألف وهو حرف يطول فيه النفس، فناسب طول المدة بخلاف (لن). ولذلك قال تعالى: {لن تراني} [الأعراف: 143]، هو مخصوص بدار الدنيا، وقال {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] (¬2). وهو مستغرق لجميع أزمنة الدنيا والآخرة، وعلل بأن الألفاظ تشاكل المعاني ولذلك اختصت (لا) بزيادة مدة. وهذا ألطف من رأي المعتزلة، ولهذا أشار ابن الزملكاني في (البيان) بقوله: (لا) تنفي ما بعد (ولن) تنفي ما قرب، وبحسب المذهبين أولوا الآيتين في قوله تعالى: {ولن يتمنوه أبدا} [البقرة: 95]، و {لاتمنونه أبدًا} [الجمعة: 7]. قلت: والحق أن (لا) و (لن) لمجرد النفي عن الأفعال المستقبلة، والتأبيد وعدمه يؤخذان من دليل خارج (¬3). وجاء في (بدائع الفوائد) أن (لن) تنفي ما قرب ولا يمتد معنى النفي فيها، كامتداد معنى النفي في حرف (لا) إذا قلت: لا يقوم زيد أبدًا .. وتأمل حرف (لا) كيف تجدها لاما بعدها ألف يمتد بها الصوت، مالم يقطعه ضيق النفس، فآذن امتداد لفظها بامتداد، معناا (ولن) بعكس ذلك، فتأمله فإنه معنى بديع، ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر 3/ 9 - 10 (¬2) والمقصود بالادراك الاحاطة (¬3) البرهان 2/ 420 - 421، وانظر الهمع 2/ 4

وانظر كيف جاء في أفصح الكلام كلام الله (ولا يتمنونه أبدًا) بحرف (لا) في الموضع الذي أقترن به حرف الشرط بالفعل، فصار من صيغ العموم، فانسحب على جميع الأزمنة وهو قوله عز وجل: {إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت} .. وقال في سورة البقرة (ولن يتمنوه) فقصر من سعة النفي، وقرب، لأن قبله (قل إن كانت لكم الدار الآخرة) لأن (أن) و (كان) هنا ليست من صيغ العموم (¬1). قيل: وهذا ايضا باطل، بل أن كلا منهما يستعمل حيث يمتد النفي وحيث لا يمتد فمن الأول في لن: {إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا} [الجاثية: 19]: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} [البقرة: 24]. و (لا) {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى} [طه: 118]. ومن الثاني في (لن) [فلن أكلم اليوم إنسيا] [مريم: 26]، وفي (لا) (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام) [آل عمران: 42] (¬2). على أنه قيل بالعكس، فقد ذهب جماعة إلى أن (لن) تفيد التأبيد، بخلاف (لا) كما أسلفنا. 4 - وذهب بعضهم إلى أن العرب تنفي المظنون بـ (لن)، والمشكوك فيه بـ (لا)، أي أنه إذا كان الشيء ممكنا عند المخاطب مظنونا وقوعه، نفي بـ (لن) وإذا كان مشكوكا في وقوعه كان تقول: أيكون أم لا يكون؟ قلت في نفيه: لا يكون (¬3). هذا أبرز ما قيل في التفريق بينهما. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 1/ 95 - 96 (¬2) الأشباه 2/ 9 - 10 (¬3) انظر الاتقان 1/ 12 - بدائع الفوائد 1/ 97

ونقول: أما أن (لا) تأتي للاستقبال فهذا ما لا شك فيه، قال تعالى: {واتقوا يوما لا تجري نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} [البقرة: 48]، وهذا استقبال. وقال: {فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} [البقرة: 86]. وقال: {ولا تسئلون عما كانوا يعملون} [البقرة: 134]. وقال: {ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم} [البقرة: 174]. وقال: {يآيها الذين أمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله يقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} [المائدة: 54]. وهذا كله استقبال: وأما تخليصها الفعل المضارع للاستقبال، وأنها لا تنفي الحال، فهذا موضع نظر نازع فيه بعضهم مستدلا بصحة قولنا (جاء زيد لا يتكلم) وبصحة قولنا (أتحبه أم لا تحبه) و (أتظن ذلك أم لا تظن) ولا ريب أن ذلك بمعنى الحال، وبقولهم: مالك لا تقبل، وأراك لا تبالي، وبنحو قول الله تعالى {ومالنا لا نؤمن بالله} [المائدة: 84]، و {مالكم لاترجون لله وقارا} [نوح: 13]، و {مالي لا أرى الهدهد} [النمل: 20]، و {مالي لا أعبد الذي فطرني} [يس: 22] (¬1). وهذا كله يفيد الحال. والحق الذي لا مرية فيه أنها تأتي للحال، كما تأتي للاستقبال، وليست هي من مخلصات الفعل للمستقبل كما يذهب إليه الجمهور، يدل على ذلك الاستعمال الفصيح الكثير في القرآن الكريم وغيره. قال تعالى: {صم بكم عمي فهم لا يعقلون} [البقرة: 171]. وقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 4/ 191

وقال: {والله يعلم وأنتم لاتعلمون} [البقرة: 232]، وهذا للحال ولو أبدلت (لن) بها فقلت (والله يعلم وأنتم لن تعلموا) أنقلب المعنى إلى الاستقبال. وقال: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجال أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا} [البقرة: 273]. وقال: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا} [النساء: 11]، وقال: {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} [المائدة: 25] وهذا كله واضح في الحال، ولو قال مثلا (لن أملك إلا نفسي)، لتخلص الفعل للاستقبال. وقال: {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} [المائدة: 58]. وقال: {فإنهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33]. وقال: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا اقول لكم إني ملك} [الأنعام: 50]. وقال: {عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا} [الأعراف: 148]. وقال: {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها} [الأعراف: 179]. وقال: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [الأعراف: 198]. وقال: {إني أرى ما لا ترون} [الأنفال: 48]. وقال: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} [النحل: 78]، ولو قال (لن تعلموا شيئا) لأفاد ذلك المستقبل وهو لا يصح.

وقال: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]. وقال: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} [المطففين: 4 - 5]، أي ألا يظنون الآن؟ وغير ذلك وغيره مما لا يدع مجالا للشك في أنها تأتي للحال. ويدل على ذلك أيضا قولنا (أنا لا افهم ما تقول) أي الآن، فإذا قلت: (لن افهم) كان كان نفي الفهم في المستقبل، وقولنا (مالك لا تتكلم) قال تعالى: {مالكم لا تنطقون} [الصافات: 92]. وتقول: (أنا لا احب هذا الطعام) و (أنا لا أشتهي الآن أن آكل) مخبرا عن نفسك في الحال، وتقول (أنا لا أظن أنه مسافر) خبرا عن ظنك في الحال وغير ذلك. وعلى هذا لا يصح قول الجمهور أنها تخلص الفعل للاستقبال، بل هي تأتي للحال والاستقبال. والحق أنها تنفي الفعل المضارع مطلقا بكل أزمانه، الحال والاستقبال، المنقطع وغيره. فالحال نحو (مالي لا أرى الهدهد) [النمل: 20]. والاستقبال نحو: {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} [البقرة: 174]. والمنقطع نحو: {آياتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} [آل عمران 42]. والمستمر نحو {فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} [البقرة: 81]. ونحو: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40]. وقوله: {ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم} [الجمعة: 7].

وتأتي مع الفعل الدال على الحقيقة نحو {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]، ونحو: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 232]، و {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255]. وما إلى ذلك. فالخلاصة أن (لا) تنفي كل أزمنة المضارع فهي لا تختص بزمن دون زمن. وأما من حيث دلالة (لن) على التوكيد، فالأمر كذلك، تقول (لا أكلمك) فإن شددت وبالغت قلت (لن أكلمك) قال تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} [مريم: 26]، وقال: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55]، وقال: {قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} [هود: 81]. وهذا كله مقام توكيد. أما ما ذهب إليه ابن عصفور من أن النفي بـ (لا) قد يكون آكد من النفي بـ (لا) لأن النفي بـ (لا) قد يكون جوابا للقسم بخلاف المنفي بـ (لن)، فالجواب عنه أن ذلك لا ينفي التوكيد عن لن، فإن عدم وقوع لن جوابا للقسم لا يعني أنها غير مؤكدة، إذ ليس شرطا أن تقع المؤكدات كلها في جواب القسم، فمن المعلوم مثلا أن (أن) المفتوحة الهمزة مؤكدة عند النحاة غير أنها لا تقع جوابا للقسم، فلا تقول (والله أن محمدًا حاضر) بفتح الهمزة وذلك لأن جواب القسم يكون جملة و (أن) المفتوحة الهمزة مؤكدة عند النحاة، غير أنها لا تقع جوابا للقسم، فلا تقول (والله أن محمدًا حاضر) بفتح الهمزة وذلك لأن جواب القسم يكون جملة و (أن) وما بعدها في تأويل مفرد، ولا ينفي ذلك كونها مؤكدة، وكذلك (لن) فإنها لا تقع جوابا للقسم، لسبب وهو أنها جواب لسوف و (سوف) لا تقع جوابا للقسم (¬1). وكذلك منفيها. ¬

_ (¬1) أي وحدها من دون اللام وإلا فهي تقع معها نحو {ولسوف يعطيك ربك فترضى}.

والسبب الآخر في وقوع (لا) جوابًا للقسم دون (لن) إن (لن) مختصة بالاستقبال و (لا) نفيها عام مطلق لا يختص بزمن دون زمن فتقول مثلا: (هو والله لا يفقه) وتقول (والله لا أحبه) ولا تصلح (لن) هنا، لأن هذا الحال، و (لن) لا تكون للحال فكون (لا) مطلقة لجميع الأزمنة، هو الذي جعلها يتلقي بها القسم دون (لن). ولا يعني هذا أن ننفي عن (لا) التوكيد إذا وقعت جوابا للقسم، فقد تكون مؤكدة إذا وقعت جوابًا للقسم. ولا تقل كيف يكون الحرف مؤكدا في موضع دون موضع؟ فإن هذا له نظائر في كلام العرب وفي كلام النحاة. فإن (لا) إذا وقعت جوابًا للقسم كان لها صدر الكلام وإذا لم تقع جوابا للقسم لم يكن لها الصدارة عنهم، فاختلف حكمها إذا وقعت جوابًا للقسم عنه إذا لم تقع جوابا للقسم. و(إذا) تكون شرطية ظرفية معا، وقد تكون ظرفية غير شرطية، و (ما) تكون مصدرية ظرفية، وقد تكون مصدرية غير ظرفية. والباء قد تكون مؤكدة، وقد تكون غير مؤكدة فكذلك (لا). وتعليل ذلك أن (لا) أقدم حرف نفي في العربية، وكل حروف النفي الأخرى أحدث (منها) (¬1). وعلى هذا فهي كانت مستعملة في جميع الحالات، فلا عجب أن تستعمل في التوكيد وفي غيره بحسب ما يقتضيه المقام. وأما قولهم: إن النفي بـ (لا) أطول من النفي بـ (لن) فهذا يحتاج إلى إيضاح، فإنهم إذا كانوا يقصدون أن النفي بـ (لا) يكون دوما أطول من النفي بـ (لن) فهذا مردودة، قد يكون النفي بـ (لن) طويلا أيضا، كما في قوله تعالى: {لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} [الحج: 73]. ¬

_ (¬1) انظر التطور النحوي 115

فالحق أن كلا منهما يستعمل حيث يمتد النفي، وحيث لا يمتد، كما قال ابن عصفور. ولكن مما لا شك فيه أن النفي بـ (لا) أوسع من النفي بـ (لن)، كما أوضحنا، فإن (لن) مختصة بالاستقبال، أما (لا) فنفيها عام مطلق ينفي جميع الأزمنة، المستقبل وغيره، بل هي تنفي الفعل الماضي أيضا، نحو قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31]، ونحو قولنا (لا ذهب ولا رجع) وتستعمل معه في الدعاء، نحو (لا أهلكه الله) و (لا فض الله فاك) وتستعمل مع الأسماء نحو (لا رجل) ولابد من ذلك، وفي نفي النعوت، نحو قوله تعالى: {وظل من يحموم لا بارد ولا كريم} [الواقعة: 43 - 44]، ونحو قوله: (بقرة لا ذلول) [البقرة: 71]. فهي كما ترى أوسع نفيا من (لن)، وسبب ذلك كما ذكرت يعود إلى أنها أقدم حرف نفي في العربية. جاء في (التطور النحوي): " ونرى (لا) مستعملة في كل الحالات إلا الماضي. وإذا راعينا أن (لم) ليست إلا (لا) بزيادة (ما) قلنا أن (لا) مستعملة في الجميع والسبب في ذلك أنها أقدم حروف النفي العربية، فكانت عامة ابتداء، والباقية كلها أحدث وأخص (¬1). بل لم يرد من أدوات النفي في الكتابات اللحيانية سوى لفظ (لا) (¬2). وأدوات النفي التي نعرفها من الكتابات العربية الجنوبية هي (ال) و (لم)، وتدخل (لم) على الفعل المضارع غير أن ذلك نادر، ومعنى (ال) (لا) ويرد بعد الفعل سواء أكان ماضيا أم مضارعا (¬3). ¬

_ (¬1) التطور النحوي 115 (¬2) تاريخ العرب قبل الإسلام 7/ 179 (¬3) تاريخ العرب قبل الإسلام 7/ 137

فلا عجب أن تكون (لا) ممتدة النفي بهذا المعنى وبذلك تكون الملاحظة الطريفة في أن النفي بـ (لا) أطول من النفي بـ (لن) لأن آخرها ألف، وهو حرف يطول فيه النفس فناسب طول المدة بخلاف (لن) ملاحظة صحيحة. وأما اختلاف النفي في الآيتين الكريمتين اللتين سبق ذكرهما في ورود إحداهما بـ (لن) والأخرى بـ (لا) فهذا له سبب اقتضاه المقام، والآيتان هما: 1 - {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يمنوه أبدًا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} [البقرة: 94 - 95]. 2 - {قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدًا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} [الجمعة: 6 - 7]. فنفي الأول بـ (لن) (ولن يتمنوه) والثانية بـ (لا) و (ولا يتمنونه)، وسبب ذلك أن الكلام في الأولى على الآخرة {قل إن كانت لكم الدار الآخرة} [البقرة: 94]، وهي استقبال فنفي بـ (لن) وهو حرف خاصة بالاستقبال. وإن الكلام في الثانية عام لا يختص بزمن دون زمن {إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس} [الجمعة: 6]، فهذا امر مطلق فنفي بـ (لا)، وهو الحرف الذي يفيد الإطلاق والعموم، والله أعلم. أما ما ذهب إليه بعضهم من أن العرب تنفي المظنون بـ (لن) والمشكوك فيه بـ (لا) فهذا كلام لا يقوم عليه دليل، فقد قال تعالى: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} [الحج: 73]، ولم يظن أحد أنهم يتمكنون من خلق ذبابة، وكذلك بالنسبة لـ (لا)، فقد قال تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [البقرة: 255]، وقال: {ولا يؤده حفظهما} [البقرة: 255]، وهذا ليس مشكوكا فيه، وقال {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 232]، وقال: {إن الله لا يخلف الميعاد} [آل عمران: 9]، وقال: {إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة: 190]، وليس في هذا شك. فهذه - كما قلت - دعوى لا يقوم عليها دليل.

حروف أخرى ينتصب بعدها الفعل

حروف أخرى ينتصب بعدها الفعل وهي (أو) و (حتى) وفاء السببية، وواو المعية، وهذه الأحرف ليست حروف نصب عند الجمهور، بل هي حروف عطف (وحتى) حرف جر، ولذا يقولون أن النصب بـ (أن) مضمرة بعد هذه الأحرف، فقولنا (لا تأكل وتضحك) مثلا فيه الفعل (تضحك) منصوب بـ (ان) مضمرة بعد الواو، والواو عاطفة و (ان) والفعل في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد قبله، أي لا يكن منك أكل وضحك، وكذا قولنا: (أين بيتك فأزورك) يقدرون قبل الفاء مصدرا متوهما يعطفون المصدر عليه، والتقدير لتكن منك دلالة على بيتك فزيارة مني، وكذلك (لزمتك أو تقضيني حقي) أي ليكونن لزوم مني أو قضاء منك لحقي (¬1). وبهذا التقدير يزول قصد التنصيص على المعية والسببية وتحقيق الوقوع بعد (أو)، فقولنا (لا يكن منك أكل وضحك) ليس فيه تنصيص على المعية، بل يحتمل المعية وغيرها فقد يكون النهي عنهما مجتمعين أو مفترقين، بخلاف قولنا: (لا تأكل وتضحك) فإن فيه تنصيصا على المعية، وكذلك (لا تأكل كثيرا فتتخم) فإن فيه نصًا على السبب بخلاف قولنا: (لا يكن منك أكل كثيرا فتخمة) فإن هذا التعبير يختلف عن التعبير الأول. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " ولو جعلنا الواو عاطفة للمصدر على مصدر متصيد من الفعل قبله، كما قال النحاة، أي ليكن منك قيام وقيام منى (¬2). لم يكن فيه نصوصية على معنى الجمع كما لم يكن في تقديرهم في الفاء معنى السببية (¬3). وقد ذهب قسم من النحاة إلى أن العامل هي هذه الأحرف، وذهب آخرون إلى أن العامل هو الخلاف أي مخالفة الفعل الثاني للأول، وذلك أنه لا يصح عطفه عليه من ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 480، ابن الناظم 278، التصريح 2/ 236 - 237 (¬2) يعني في المثال: قم وأقوم (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 273

أو

حيث إنه لم يكن له شريكا في المعنى فانتصب لذلك، وهذا القول أقرب إلى المعنى من القولين الأولين كما هو ظاهر. أو الأصل في (أو) أن تكون لأحد الشيئين، أو الأشياء نحو (هو يقرأ أو ينام) أي يفعل أحد هذين الشيئين، وهي حرف عطف يتبع المعطوف بها المعطوف عليه، نحو (لن أذهب إليه أو أخبره) أي لن أفعل أحد هذين الشيئين. وينصبون بعدها الفعل على إرادة معنى آخر غير معنى الأول، من حيث إنه لم يكن له شريكًا في الشك، بل على إرادة انه محقق الوقوع أو راجحه تقول: (سألزمه أو يكتب لي في امري)، فإن معنى هذه العبارة بالعطف، سيكون أحد هذين الأمرين، ومعناها بالنصب، سألزمه حتى يكتب لي في امري أي تبقي ملازمتي له حتى تحصل الكتابة. وهم يقدرون معناها إذا انتصب الفعل بعدها بـ (حتى) و (إلا أن) نحو: (لا لزمتك أو تقضيني حقي) و (لأضربنك أو تسبقني) فالمعنى لا لزمتك إلا أن تقضيني حقي ولأضربتك إلا ان تسبقني (¬1). ومنه قوله: وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما أي: ألا أن تستقيم، ولا يصح تقدير (حتى) في البيت. ومما يقدر بـ (حتى) قوله: لاستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... فما إنفادت الآمال إلا لصابر أي حتى أدرك المنى (¬2). ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 427، شرح الأشموني 3/ 294 - 295 (¬2) شرح الأشموني 3/ 295

ويجوز رفع الفعل بعدها على الاستئناف، نحو (لن أذهب إليه أو أخبره) بالرفع، أي: (أو أنا أخبره)، والمعنى أنك نفيت الذهاب إليه، وأثبت الأخبار، فأضرب عن الأول وذكرت أنك تخبره. جاء في (المفصل): " وقال سيبويه في قول امرئ القيس: فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا ولو رفعت لكان عربيا جائزا على وجهين: على أن تشرك بين الأول والآخر، كأنك قلت إنما نحاول ملكًا إو إنما نموت، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعا من الأول يعني أو نحن ممن يموت (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " إن معنى (أو) في الأصل أحد الشيئين أو الأشياء نحو (زيد يقوم أو يقعد) أي يعمل أحد الشيئين، ولابد له من أحدهما، فإن قصدت مع إفادة هذا المعنى الذي هو لزوم أحد الأمرين التنصيص على حصول أحدهما عقيب الآخر، وإن الفعل يمتد إلى حصول الثاني، نصبت ما بعد (أو)، فسيبويه يقدره بـ (إلا) وغيره بـ (إلى) والعنيان يرجعان إلى شيء واحد (¬2). وقال ابن الناظم: فإن قلت: فلم نصبوا الفعل بعد (أو)، حتى أحتاجوا إلى هذا التأويل؟ قلت: ليفرقوا بين (أو) التي تقتضي مساواة ما قبلها لما بعدها في الشك فيه، وبين (أو) التي تقتضي مخالفة ما قبلها لما بعدها في ذلك، فإنهم كثيرا ما يعطفون الفعل المضاع على مثله بـ (أو) في مقام الشك في الفعلين تارة، وفي مقام الشك في الثاني منهما أخرى ففط، فإذا أرادوا بيان المعنى الأول رفعوا ما بعد (أو)، فقالوا (أفعل كذا ¬

_ (¬1) المفصل 2/ 140، وانظر كتاب سيبويه 1/ 427، وليس في النسخة المطبوعة عبارة " كأنك قلت: إنما نحاول ملكا أو إنما نموت" (¬2) شرح الرضي 2/ 276

أو أترك) ليؤذن لرفع بأن ما قبل (أو) مثل ما بعدا في الشك، وإذا أردوا بيان المعنى الثاني نصبوا ما بعد (أو) فقالوا: (لا نتظرنه أو يجيء) و (لأقتلن الكافر أو يسلم) ليؤذن النصب بأن ما قبل (او) ليس مثل ما بعدها، في الشك لكونه محقق الوقوع أو راجحه (¬1). وجاء في (معاني القرآن) للفراء: " ومن العرب من ينصب ما بعد (أو) ليؤذن نصبه بالإنقطاع عما قبله وقال الشاعر: لتقعدن مقعد القصي ... مني ذي القاذورة المقلي أو تحلفي بربك العلي ... أني أبو ذيالك الصبي فنصب (تحلفي) لأنه أراد إلا أن تحلفي .. وأنت قائل في الكلام (لست لأبي أن لم أقتلك أو تسبقني في الأرض) فتنصب (تسبقني) وتجزمها، كأن الجزم في جواب: لست لأبي أن لم يكن أحد هذين، والنصب على أن آخره منقطع عن أوله، كما قالوا: (لا يسعني شيء ويضيق عنك) فلم يصلح أن ترد (لا) على (ويضيق) فعلم أنها منقطعة من معناها (¬2). من هذا يتبين أن ما بعد (أو) له ثلاثة أحوال: 1 - العطف وهو أن يكون ما بعد (أو) مثل ما قبلها في الشك أي هما بمنزلة واحدة، وحكمه الاتباع نحو (لست لأبي إن لم أضربك أو أشتمك أمام الناس)، أي لست لأبي إن لم أفعل أحد هذين، ونحو (لا أضربك أو أشتمك) أي: لا أفعل أحد هذين الشيئين. فالفعلان منفيان. 2 - مخالفة ما بعدها لما قبالها فلا يشتركان في الشك بل يكون معنى (أو) (إلا أن) أو (حتى) وحكم الفعل بعدها النصب نحو (سأهجرك أو تكلمه في أمري) والمعنى سيستمر هجري لك حتى تكلمه في أمري، فقد جعلت الكلام سببا لعدم الهجر، ¬

_ (¬1) شرح ألفية ابن مالك 278 (¬2) معاني القرآن 2/ 70 - 71

حتى

ولو قلت (ستكلمه في أمري أو أهجرك) بالنصب تغير المعنى وصار: ستكلمه في أمري حتى أهجرك، أي: سيستمر تكليمه في أمري إلى وقت الهجر. جاء في (شرح ابن يعيش): " إذا قلت: (ستكلم زيدًا أو يقضي حاجتك) فتنصب (يقضي) على معنى إلا أن يقضي فقد جعلت قضاء حاجتك سببا لكلامه. وإذا عطفت فإنما تخبر بأنه سيقع أحد الأمرين، من غير أن يدخله هذا المعنى. ويوضح ذلك لك أن الفعلين اللذين في العطف نظيران أيهما شيئت قدمته فيصح به المعنى فتقول: سيقضي حاجتك زيد زيد أو تكلمه إذا عطفت، فأيهما قدمت كان كان المعنى واحدا، وإذا نصبت اختلف المعنى فدل على السبب كما بينت لك، ولا يصح على هذا (سيقضي حاجتك زيد أو تكلمه) إلا أن تريد أن تجعل الكلام سببا لابطال قضاء حاجته، فيجوز حيئنذ كأنه يكره كلامه فهو يقضي حاجته أن سكت وأن كلمه لم يقضها" (¬1). 3 - استئناف ما بعدها وقطعه من الأول وحكمه الرفع وهو على تقدير مبتدأ محذوف عند النحاة نحو (لا تكلمه أو تخبره بما حصل) برفع (تخبره) ومعنى العبارة أنه ينهاه عن تكليمه ثم استأنف حكما آخر فقال (أو أنت تخبره بما حصل) أي أنك ممن يخبره، ولو عطف لكان منهيا عن التكليم والإخبار. حتى تدخل (حتى) على الفعل المضارع فينتصب بعدها ويرتفع، وهو ينصب بعدها إذا كان مستقبلا، ولا ينتصب إلا إذا كان كذلك (¬2).، نحو (أطلع الله حتى يدخلك الجنة) ونحو (أنا سائر حتى أدخل البصرة)، ولها في هذه الحالا ثلاثة معان: ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 7/ 22 (¬2) المغني 1/ 126، وانظر كتاب سيبويه 1/ 416، شرح الرضي 2/ 269، الهمع 2/ 9

1 - انتهاء الغاية بمعنى (إلى أن) نحو (سأسير حتى تطلع الشمس) ونحو قوله تعالى: {قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [طه: 91]. 2 - التعليل، مثل كي نحو (كلمته حتى يأمر لي بشيء) و (أطلع الله حتى يدخلك الجنة) ونحو قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} [المنافقون: 7] (¬1). 3 - مرادفة (إلا أن) في الاستثناء نحو قوله: ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل وقوله: والله لا يذهب شيخي باطلا ... حتى أبير مالكا وكاهلا (¬2). أي: إلا أن تجود إلا أن أبير. ويرتفع الفعل بعدها إذا كان حالا ولا يرتفع إلا إذا كان كذلك (¬3). وذلك نحو قولك (سرت حتى أدخل المدينة) إذا قلت ذلك وأنت داخل فيها، وكذا أن كان الدخول قد وقع وقصد به حكاية الحال الماضية، نحو (كنت سرت حتى أدخلها) (¬4). وكقولهم (مرض فلان حتى لا يرجونه) أي فهو الآن لا يرجى و (ضرب أمس حتى لا يستطيع اليوم أن يتحرك) ونحو (شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه) أي: فهو الآن يجر بطنه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 413، المقتضب 2/ 38، شرح ابن يعيش 7/ 30، المغنى 1/ 125 (¬2) المغنى 1/ 125 (¬3) المغنى 1/ 126، وانظر أمالي ابن الشجري 1/ 374 (¬4) شرح ابن عقيل 2/ 114 (¬5) انظر سيبويه 1/ 413، المقتضب 2/ 39 - 40، شرح ابن يعيش 7/ 30

جاء في (شرح الرضي على الكافية): " إذا أردنا أن نبين متى يرفع المضارع بعدها ومتى ينصب؟ قلنا ذاك إلى قصد المتكلم فإن قصد الحكم بحصول مصدر الفعل الذي بعد (حتى) أما في حال الأخبار أو في الزمن المتقدم عليه، على سبيل حكاية الحال الماضية، وجب رفع المضارع، .. وإن قصد المتكلم أن مضمون ما بعد حتى سيحصل بعد زمان الأخبار، وجب النصب (¬1). وجاء في كتاب (الجمل) للزجاجي: " تقول (سرت حتى أدخل المدينة) بالنصب والرفع فللنصب وجهان: أحدهما: أنك أردت سرت إلى أن أدخل المدينة فجعلت دخولك غاية سيرك، والآخر أن تريد معنى (كي) كأنك قلت: سرت كي أدخلها. وللرفع أيضا وجهان: أحدهما أن يكون السير والدخول قد وقعا معا، كأنك قلت: سرت فدخلت فكل موضع صلح لك أن تقدر الفعل الذي بعد (حتى) بالماضي والفاء جميعا فارفعه. والوجه الثاني، أن يكون السير قد وقع وأنت تقول: أنك الآن تدخل كأنك قلت: سرت حتى أدخلها الآن لا أمنع، ومنه (مرض حتى لا يرجونه) أي: حتى هو الآن لا يرجى. وإذا كان الفعل منفيا غير موجب لم يجز فيما بعد حتى إلا النصب، كقولك: ما سرت حتى ادخل المدينة (¬2). فخلاصة المسألة أنه إذا كان الفعل مستقبلا بعد حتى نصبت، وإذا كان حالا رفعت، فقولك (أسير حتى أدخل البصرة) إذا لم يتم الدخول نصبت الفعل فيه، وإذا حصل الدخول رفعت. ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 268 - 269 (¬2) الجمل 201 - 202

فاء السببية

فاء السببية ينتصب الفعل المضارع بعد فاء السببية بشرطين: الأول: أن تكون نصا في السبب. الثاني: أن يتقدمها نف طلب كالأمر، والنهي، والاستفهام، والتمنى، وما إلى ذلك نحو: (ما تأتينا فنكرمك) ونحو (لا تأكل كثيرا فتمرض). ويذكر النحاة للفعل المنصوب بعد فاء السبب في نحو قولهم (ما تأتينا فتحدثنا) معنيين يجمعهما التنصيص على السبب: أحدهما: ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي: أنك لا تأتينا، ولهذا لا تحدثنا، ولو أتيتنا لحدثتنا. الثاني: أنك تأتينا ولكن لا تحدثنا أي: ما تأتينا إلا لم تحدثنا، والعنى أنه يقع منك اتيان كثير ولا حديث منك (¬1). وعلى الوجه الأولن جاء قوله تعالى: {لا يقضي عليهم فيموتوا} [فاطمة: 36]، أي: فيكيف يموتون، ويتنع أن يكون على الوجه الثاني إذ يمتنع أن يقضي عليهم ولا يموتون (¬2). ويجز رفع الفعل بعدها على معنيين: العطف أي ما تأتينا فما تحدثنا، ونحو: (لا اذهب إليه فاشتمه) أي: لا اذهب إليه فلا اشتمه. والاستئناف: أي: أنك ما تأتينا، ولكنك تحدثنا، ونحوه: (أعطني فاشكرك) أي: فأنا ممن يشكرك على كل حال، والمعنى: أنك قائم بشكرك، وبالنصب يكون المعنى (أعطني لأشكرك) أي: أنت لاتشكره الآن، وإنما يكون الشكر مسببا عن العطاء. ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 418، المقتضب 2/ 16، الجمل 202 - 203 (¬2) المغني 2/ 480

والخلاصة أن الفعل بعد الفاء له ثلاثة أحوال: 1 - النصب وذلك إذا قصد التنصيص على السبب نحو قلوه تعالى: {ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما} [النساء: 73]، و {لا يقضي عليهم فيموتوا} و (لا تضرب خالدا فيهنيك). وفي هذه الحال يكون معنى الفعل مخالفا لما قبلها، فقولنا (لم تزرنا فنكرمك) بالنصب معناه أنك لم تزرنا فكيف نكرمك، والمقصود أنك لو زرتنا لأكرمناك، ولو ابتع لكان الفعلان منفيين، ولكان المعنى أنك لم تزرنا فلم نكرمك، ونحوه (هل يأتيك خالد فيعلمك) بالنصب والمعنى هل يجيئك ليعلمك؟ وقد يراد بالاستفهام النفي / أي: هو لا يأتيك فكيف يعلمك؟ وبالاتباع يكون الاستفهام عن الاتيان والتعليم جميعا أي فهل يعلمك؟ قال سيبويه: " تقول (لاتأتيني فتحدثني) لم ترد أن تدخل الآخر فيما دخل فيه الأول فتقول (لا تأتيني ولا تحدثني) ولكنك لما حولت المعنى عن ذلك تحول إلى الاسم كأنك قلت: ليس يكون منك اتيان فحديث (¬1). وجاء في (الأصول) لابن السراج: اعلم أن الفاء عاطفة في الفعل، كما يعطف في الاسم .. فإذا قلت (زيد يقوم فيتحدث) فقد عطفت فعلا موجبًا على فعل موجب، وإذا قلت (ما يقوم فيتحدث) فقد عطفت فعلا منفيا على منفي، فمتى جئت بالفاء وخالف ما بعدها ما قبلها لم يجز ان تحمل عليه، فحيئنذ تحمل الأول على معناه، وينصب الثاني بإضمار (أن) وذلك قولك: (ما تأتيني فتكرمني) و (ما أزورك فتحدثني) لم ترد ما أزورك وما تحدثني، ولو أردت ذلك لرفعت ولكنك لما خالفت في المعنى، فصار (ما أزورك فكيف تحدثني) وما أزورك إلا لم تحدثني حمل الثاني على مصدر الأول، وأضمر (أن) كي يعطف اسمًا على اسم (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 418 (¬2) الأصول 2/ 159، وانظر المقتضب 2/ 14 - 15

2 - العطف وذلك إذا كان الثاني بمعنى الأول فيتبعه في إعرابه نحو: (لا تأتيني فتحدثني) أي أنت لا تأتيني فلا تحدثني، ونحو (أتأتيني فتحدثني) والمعنى: أنك تستفهم عن الاتيان والحديث (وأريد أن تأتيني فتحدثني) أي تريد الاتيان والتحديث، ونحو (لا تقم فتصرب محمدا)، أي: لاتقم ولا تضرب محمدًا، ولو نصبت لكان المعنى لا تقم لأنك أن قمت ضربته، فإذا أردت هذا المعنى نصب، (¬1).، ونحو (لم يدرس فينجح) أي: هو لم يدرس فلم ينجح، ولو قلت (لم يدرس فينجح) بالنصب لكان المعنى أنه لم يدرس فكيف ينجح؟ 3 - الاستئناف وحكم الفعل بعدها الرفع ومعناه يختلف عن المعنيين السابقين إذ هو على تقدير مبتدأ محذوف عندهم وذلك نحو (لا تكرم خالدا فيشتمك) أي فهو يشتمك والمعنى أنه يشتمك على كل حال أي هو قائم بشتمك، فلا تعطه ونحو (أتعطيني فأشكرك) بالرفع أي: أنا قائم بشكرك على كل حال، ولو نصبته لكان المعنى أنك أن أعطيتني شكرتك فتجعل العطاء سببا للشكر، و (أعطني فأشكرك) أي: أنا ممن يشكرك، فالشكر ثابت سواء أعطاك أم لم يعطك، ولو قلتها بالنصب لكان الشكر غير حاصل وإنما يكون بعد العطاء، ويوضح هذا أنك تقول (ما زيد قاسيا فيعطف على عبده) أي فهو لانتفاء القسوة عنه يعطف على عبده (¬2). ولو قلت (ما زيد قاسيا فيضرب عبده) بالنصب لكان المعنى: ليس هو قاسيا فكيف يضرب عبده أي هو لا يضربه، ولا يصح الرفع لأن المعنى سيكون ما هو قاسيا فهو يضربه دوما. وتقول: (حسبته شتمني فأثب عليه) إذا لم يقع الوثوب ومعناه: لوشتمني لو ثبت عليه، وإن كان الوثوب قد وقع فليس إلا الرفع (¬3). ¬

_ (¬1) انظر المقتضب 2/ 15 (¬2) شرح شذور الذهب 370 (¬3) الرد على النحاة 147

ومثله (ما تأتينا فتجهل أمرنا) أي: أنك لا تأتينا ولذا تجهل أمرنا والمقصود أنك تجهل أمرنا، ونحو (لم تقرأ فتنسى) والمعنى أنك لم تقرأ فأنت تنسي (¬1). ومنه قوله: غير أنا لم تأتنا بيقين ... فنرجى ونكثر التأميلا " كأنه قال فنحن نرجى، فهذا في موضع مبني على المبتدأ .. وقال: ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق لم يجعل سببا للآخر ولكنه جعله ينطق على كل حال كأنه قال: فهو مما ينطق كما قال (ائتني فأحدثك) فجعل نفسه ممن يحدثه على كل حال" (¬2). وتقول: (أريد أن تأتيني فتشتمني) لم يرد الشتيمة ولكنه قال: كلما أردت اتيانك شتمتني، هذا معنى كلامه فمن ثم انقطع من (أنْ)، قال رؤبة: يريد أن يعربه فيعجبه أي فإذا هو يعجبه (¬3). ولو عطف لكان المعنى في الأول أنه يريد أن يأتيه ويشتمه. ونحو (ما أنت بصاحبي فأكرمك) فالرفع على معنى، أنك لست بصاحبي، لكن أكرك، أي: أنت قائم بإكرامه، مع أنه ليس صاحبك ¬

_ (¬1) المغني 2/ 480 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 419 - 422 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 430

والنصب على معى: أنك لست بصاحبي فكيف أكرمك؟ أي: أنت لا تكرمه ولا يجوز لأنه ليس قبله ما يصح عطفه عليه (¬1). قال تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} [الحج: 63]، " فإن قلت: فما له رفع، ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ قلت: لو نصب لأعطي ما هو عكس الغرض، لأن معناه أثبات الاخضرار، فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت فتشكر؟ إن نصبته ناف لشكره، شاك تفريطه فيه. وإن رفعت فأنت مثبت للشكر، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الاعراب وتوقير أهله (¬2). فاتضح بهذا أن لكل تعبير معنى، فقولك (لم تؤده فيرهبك) بالجزم معناه أنك لم تؤده فلم يرهبك، فالفعلان منفيان ماضيان في المعنى. وبالنصب، معناه أنك لم تؤذه، فكيف يرهبك؟ أي ليس ثة سبب لرهبتك فإنك لم تؤذه. وبالرفع معناه انك لم تؤذه وهو مع ذلك يرهبك أي هو يرهبك على كل حال. وقد يدل الاستئناف على السبب قليلا نحو قوله: فلقد تركت صبية مرحومة ... لم تدر ما جزع عليك فتجزه أي لو عرفت الجزع لجزعت، ولكنها لم تعرفه فلم تجزع، وهذا أحد وجهي النصب وهو انتفاء الثاني لانتفاء الأول (¬3). وكقوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات: 36]، فهذا يحتمل السبب. ¬

_ (¬1) انظر المقتضب 2/ 17 (¬2) الكشاف 2/ 354 (¬3) المغنى 2/ 480، وانظر شرح الرضي 2/ 272 - 274 - 275

واو المعية

وبذلك يكون التعبير بالرفع تعبيرا احتماليا، أي قد يحتمل أحيانا السببية، وقد يحتمل غيرها، أما النصب فهو تعبير قطعي في الدلالة على السبب، وهذا شبيه بقولنا (أقبل محمد وخالد) فإنه بالرفع يحتمل المصاحبة وغيرها، وبالنصب يكون نصا في المعية وشبيه بقولنا (لا رجل في الدار) فإنه بالرفع يحتمل نفي الجنس والوحدة، وبالفتح هو نص في نفي الجنس. واو المعية ينتصب الفعل المضارع بعد الواو، للدلالة على المعية نصا، نحو (لا تأكل وتضحك) أي لا تجمع بين الأكل والضحك ونحو قوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم أي لا تجمع بينهما: ويصح الاتباع على معنى آخرـ هو النهي عن كل واحد منهما على حدة، فيكون معنى المثال الأول ولا تأكل ولا تضحك، ومعنى البيت (لا تنه عن خلق ولا تأت مثله) وهو غير مراد لأنه ليس المراد أن ينهاه عن أن ينهي عن خلق بل المراد أن يقول له: إذا نهيت عن خلق فلا تفعل مثله. ويجوز الرفع على قصد الاشتئناف، فإذا رفعت (تضحك) كان المعنى أنك أثبت له الضحك، أي (أنت تضحك) فهو ينهاه عن الأكل، ثم يقول له (انت تضحك) أي هذا شأنك، أو على معنى إباحة الضحك له، أو على معىن آخر سنذكره في موطنه. وإذا رفع (تأتي) كان المقصود أنه يفعل مثل ذلك الخلق، فيكون المعنى أنه ينهاه عن أن ينهي عن خلق، مع أنه مستمر على فعله. ومنه المثال النحوي المشهور (لا تأكل السمك وتشرب اللبن) بنصب (تشرب) والمقصود النهي عن الجع بينهما، وإباحة أن يأكل السمك على حدة، وأن يشرب اللبن

على حدة، وإذا جز كان المقصود النهي عن كل واحد منهما سواء، كانا منفردين أم مجتمعين، أي لا تأكل السمك، ولا تشرب اللبن. جاء في (الكتاب): " ومنعك أن تجزم في الأول لأنه إنما أراد أن يقول له، لا تجمع بين السمك واللبن، ولا ينهاه أن يأكل السمك على حدة، ويشرب اللبن على حدة، فإذا جزم فكأنه نهاة أن يأكل السمك على كل حال، أو يشرب اللبن على كل حال (¬1). وأما الرفع فعلى النهي عن أكل السمك وإباحة شرب اللبن على كل حال (¬2). وعلى هذا فإن ما بعد الواو ثلاثة أحوال: 1 - الاتباع: ويكون حكمه حكم الأول أثباتا ونفيا وغير ذلك، نحو: (لا تضرب محمدًا وتشتم خالدا) أي لا تضرب محمدًا، ولا تشتم خالدًا، ونحو: (هل يأتي أخوك ويسافر أبوك)؟ إذا استفهمت عنهما جميعا، ونحو قول جرير: ولا تشتم المولى وتبلغ إذاته ... فإنك أن تفعل تشفه وجهل جاء في (المقتضب): " اعلم أن الواو في الخبر بمنزلة الفاء، وكذلك كل موضع يعطف فيه ما بعدها على ما قبلها فيدخل فيما دخل فيه، وذلك قولك: (أنت تاتيني وتكرمني) و (أنا أزورك وأعطيك) و (لم آتك وأكرمم) و (هل يذهب زيد ويجيء عمرو؟ ) إذا استفهمت عنهما جميعا، وكقولك (أين يذهب عمرو وينطلق عبد الله) و (لا تضربن زيدا وتشتم عمرا) لأن النهي عنهما جميعا. فإن جعلت الثاني، جوابا فليس له في جميع الكلام إلا معنى واحد، وهو الجمع بين الشيئين، وذلك قولك (لا تأكل السمك وتشرب اللبن) أي: لا يكون منك جمع بين هذين (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 425، وانظر المقتضب 2/ 25، الأصول 2/ 159 (¬2) التصريح 2/ 241 (¬3) المقتضب 2/ 25

2 - النصب: ويفيد التنصيص على المصاحبة، نحو (ادع إلى الخير وافعله، ولا تنه عن الشر وتفعله) أي اجمع بين الأولين ولا تجمع بين الأخيرين. وهذه الواو نظيرة الواو التي ينتصب بعدها الاسم، في نحو (مشيت والجدار) أعني واو المعية، إن لم تكن إياها إذ يفيد كل منهما التنصيص، على مصاحبة ما بعده الواو لما قبلها. جاء في (معاني القرآن) للفراء: تأتي بالواو معطوفة على كلام في أوله حادثة لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليه ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله كقوله الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ألا ترى أنه لا يجوز إعادة (لا) في (تأتي مثله). فلذلك سمي صرفا إذا كان معطوفا ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله، ومثله من الأسماء التي نصبتها العرب وهي معطوفة على مرفوع قولهم (لو تركت والأسد لأكلك) و (لو خليت ورأيك لضللت) تهيبوا أن يعطفوا حرفا لا يستقيم فيه ما حدث في الذي قبله (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وكذلك تقول في الفعل المنصوب بعد واو الصرف أنهم لما قصدوا فيها معنى الجمعية نصبوا المضارع بعدها، ليكون الصرف عن سنن الكلام المتقدم مرشدًا من أول الأمر أنها ليست للعطف، فهي إذن أما واو الحال وأكثر دخولها على الجملة الاسمية، فالمضارع بعدها في تقدير مبتدأ محذوف الخبر وجوبا فمعنى (قم وأقوم) أي قم وقيامي ثابت، أي في حال ثبوت قيامي، وأما بمعنى (مع) وهي لا تدخل إلا على الاسم، قصدوا ههنا مصاحبة الفعل للفعل، فنصبوا ما بعدها فمعنى (قم وأقوم) أي قم مع قيامي، كما قصدوا في المفعول معه مصاحبة الاسم، للاسم فنصبوا ما بعد الواو (¬2). ¬

_ (¬1) معاني القرآن 1/ 34 (¬2) شرح الرضي 2/ 273

3 - الرفع على الاستئناف: نحو (لم تأتني وأكرمك)، والمعنى أنك لم تأتني وأنا أكرمك على كل حال، أي أنني أكرمك وأنت لم تأتني، فأكرامك له ثابت وبذا يكون المعنى نفي الاتيان وإثبات الاكرام. ولو جزم لكان الاتيان والاكرام منفيين، ولو نصب لكان نفي الجمع بين الاتيان والاكرام، وقد يكون اتيان ولا اكرام أو أكرام، ولا اتيان. ومثله (دعني ولا أعود): " أي فأني ممن لا يعود، فإنما يسأل الترك وقد أوجب على نفسه أن لا عودة له البتة ترك، أو لم يترك، ولم يرد أن يسأل أن يجتمع له الترك، وأن لا يعود .. وتقول: (زرني وأزورك) أي: أنا ممن قد أوجب زيارتك على نفسه، ولم ترد أن تقول: لتجتمع منك الزيارة وأن أزورك تعني لتجتمع منك الزيارة فزيارة مني ولكنه أراد أن يقول: زيارتك واجبة على كل حال، فلتكن منك زيارة (¬1). قال تعالى: {لنبين لكن، ونقر في الأرحام ما نشاء} [الحج: 5]، أي نحن ونقر في الأرحام (¬2). ولم يرد العطف على التعليل. وربما جاء الرفع للدلالة على معنى المعية (¬3). نحو: (قم ولا أقوم) ونحو (لا تأكل وتضحك) وهو قليل، فيكون النصب للدلالة على المصاحبة نصا بخلاف الرفع فإنه ليس نصا في المصاحبة، وهو نظير قولنا في الأسماء (أقبل محمد وسعيد)، فهذا يحتمل المصاحبة وعدمها، بخلاف النصب فإنه للتنصيص على المصاحبة. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 426 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 430 (¬3) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 275

جزم المضارع

جزم المضارع يجزم المضارع بعد أدوات ظاهرة، وهي: لم، ولما، ولام الأمر، ولا الناهية، وبعد أدوات الشرط، وقد يجزم بغير أداة ظاهرة، نحو: {قل لعبادي الذين أمنوا يقيموا الصلاة} [إبراهيم: 31]. وإذا لاحظنا أدوات الجزم وجدناها على ثلاثة أقسام: 1 - القسم الأول: ما يقلب زمن المضارع إلى ماض، وهي لم ولما. 2 - القسم الثاني: ما يقلبه إلى الأمر، وهي لام الأمر، ولا الناهية، إذ إن لا الناهية أمر بالترك فقولنا (افعل) أمر بالفعل، و (لا تفعل) أمر بالترك. 3 - القسم الثالث: أدوات الشرط، وهي أدوات تقوم بربط الجمل، لغرض تعليق حصول شيء بحصول شيء آخر، نحو: (إن تأتني أذهب معك) فذهابك معلق بإتيانه. جاء في (نحو الفعل) للدكتور أحمد الجواري: " وإنما يكون الجزم في المضارع إذا تعين لواحد من المعاني الآتية: 1 - معنى المضي، وذلك إذا دخلت عليه لم، ولما، فإنهما تقلبان معناه، إلى معنى الفعل الماضي، كـ (لم يذهب ولما يذهب). 2 - معنى الطلب، وذلك إذا تقدمته لام الأمر، نحو (ليذهب زيد) .. أو لا الناهية، نحو (لا تذهب). 3 - معنى الشرط: والشرط صيغة فعلية مستقلة تخالف باقي الصيغ في مدلول الفعل، وهو الحدث والزمن، لأن الفعل في جملة الشرط معلق حدوثه، أو وقوعه فهو إذن ليس تام الدلالة، ففي قولك: (إن تذهب أذهب) تعلق ذهابك على ذهاب المخاطب فأنت لم يقع منك الذهاب، والمخاب كذلك لم يقع منه،

ذلك وإنما علقت ذهابك على ذهابه بأداة الشرط" (¬1). ونحن نخالفه في القسم الثاني وهو معنى الطلب، إذ معنى الطلب عام يدخل فيه الاستفهام، والتمنى، والترجي، والعرض، والتحضيض وغير ذلك، وهو لا يجزم في كل هذه المواطن، بل يجزم إذا أدى معنى الأمر فعلا، أو تركا. يتبين من هذا أن أدوات الجزم - عدا أدوات الشرط - تخرج المضارع عن حقيقته إلى فعل آخر، ماضيا أو آمرا. ومما مر من دراسة الفعل المضارع تبين، لنا أن: 1 - النصب يفيد الدلالة على الاستقبال في الغالب، أو للعدول إلى معنى المصاحبة والسببية تنصيصا. 2 - الجزم للدلالة على المضي أو الأمر - فيما عدا الشرط. 3 - الرفع للدلالة على الزمن العام المطلق، حالا، واستقبالا، ومضيا، فالحال نحو (يرزق الله مخلوقاته) ونحو (هو يقرأ الآن). والاستقبال نحو: {وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14]، ونحو: {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجًا} [النبأ: 18]. والمضي، كقوله تعالى: {ويصنع الفلك} [هود: 38]، وقوله: {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} [الكهف: 18]، وذلك في حكاية الحال. ونترك الشرط إلى باب الأساليب فهو ألصق به. ¬

_ (¬1) نحو الفعل 48 - 49

الأدوات التي يجزم بعدها الفعل

الأدوات التي يجزم بعدها الفعل لام الأمر وتلزم فعل غير المخاطب للدلالة على الأمر، وذلك أمر المتكلم لنفسه، نحو: (لأذهب إليه)، ونحو قوله صلى الله عليه وسلم: " قوموا فلأصل بكم" ومنه قوله تعالى: {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12]. وأمر الغائب، نحو (ليخبره خالد بما حدث) وكقوله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك} [النساء: 102]. ومن هذا الأخير المبني للمجهول، نحو: (لتخبر بما حدث) ونحو: (لأعط حقي) فإن الفاعل غائب. وقد وردت قليلا في أمر المخطاب، فإن الأصل في المخاطب أن يؤمر بفعل الأمر، لا باللام، وذلك نحو قوله صلى الله عليه وسلم: لتزره ولو بشوكة" وقوله: " لتقوموا إلى مصافكم" وهذا في الشعر أكثر نحو قوله: لتقم أنت يا ابن خير قريش ... فتقضي حوائج المسلمينا (¬1). وقد يخرج المجزوم بلام الأمر إلى معنى آخر، كما يخرج الأمر عن معناه إلى معنى أخر، وذلك كالدعاء نحو (ليغفر الله لك). والتهديد: نحو: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. والخبر نحو: {من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا} [مريم: 75]، أي فيمد (¬2). ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 279 - 280 (¬2) المغنى 1/ 223، الهمع 1/ 7

لا الناهية

لا الناهية وهي موضوعة لطلب الترك (¬1). نحو: {لا تفتروا على الله كذبا} [طه: 61]، و {ولا تبغ الفساد في الأرض} [القصص: 77]. ومن أساليب العربية أن ينهي الفاعل والمراد غيره، نحو: (لا أرينك ههنا) فقد جاءت (لا) لنهي المتكلم، والمنهي في الحقيقة هو المخاطب، أي لا تكن ههنا حتى لا أرك (¬2). ونحو: {ولا تعجبك أموالهم} [التوبة: 85]، فالنهي للأموال، إذ أسند الإعجاب إليها، والمنهي في الحقيقة هو المخاطب، أي لا تعجب يا محمد بأموالهم (¬3). نحو قوله تعالى: {لا يفتننكم الشيطان} [الأعراف: 27]، فقد نهى الشيطان والمنهى في الحقيقة هم المخاطبون، وكذلك قوله تعالى: {فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [فاطر: 5]، فالنهي موجه لفظا للدنيا، وللغرور وهو الشيطان والمنهي في الحقيقة هم المخاطبون. والتمنى ومنه مخاطبة ما لا يعقل، نحو: (لا تخني أيها الصبر) و (يا عيني لا تجمدا) وغير ذلك من المعاني. لم تختص بنفي المضارع وتقلب زمنه ماضيا، نحو (لم أذهب أمس) قال تعالى: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} [الأنفال: 17] وهي لنفي (فَعَل) (¬4). فإذا قلت (حفظ) فنفيه (لم يحفظ). ¬

_ (¬1) المغني 1/ 246 (¬2) شرح الرضي 2/ 280، وانظر الأصول 1/ 83 (¬3) أمالي ابن الشجري 1/ 148 (¬4) كتاب سيبويه 1/ 460

لما

والمنفي بها قد يكون منقطعًا، نحو قوله تعالى: {لم يكن شيئا مذكورا} [الإنسان: 1]ـ، ونحو قولنا (لم يقم خالد أمس)، وقد يكون متصلا بالحال، نحو: {ولم أكن بدعائك رب شقيا} [مريم: 4]، يعني إلى الآن، ونحو قوله تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا} [التوبة: 4]، وقد يكون مستمرا نحو قوله تعالى: {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 3 - 4] (¬1). وقوله: {وأنهار من لبن لم يتغير طعمه} [محمد: 15]. لما وتختص بنفي المضارع أيضا، وتقلب زمنه ماضيا، نحو قوله تعالى: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]، وقوله: {بل لما يذوقوا عذاب} [ص: 8]، وقولنا: (لما يأت خالد)، وهي لنفي (قد فعل) فإذا قلت (قد حضر) فنفيه لمّا يحضر (¬2). والفرق بين (لم) و (لما) من أوجه هي: 1 - أن المنفي بـ (لم) قد يكون منقطعًا، وقد يكون مستمرًا، في حين أن المنفي بـ (لما) مستمر النفي إلى حين التكلم، فإذا قلت (لما يحضر خالد) فمعناه أنه إلى الآن لم يحضر، في حين أن قولك (لم يحضر خالد) يحتمل أنه لم يحضر إلى الآن، ويحتمل أنه لم يحضر، في حين أن قولك (لم يحضر خالد) يحتمل أنه لم يحضر إلى الآن، ويحتمل أنه لم يحضر في وقت من أوقات المضي ثم حضر، ولذا يصح أن يقال (لم ينجح محمد في العام الماضي، وقد نجح هذا العام) ويمتنع أن يقال (لما ينجح ثم نجح) لأن قولنا (لما ينجح) يفيد استمرار النفي إلى وقت التكلم، وتقول (لم يق ثم قام) ويمتنع أن نقول (لما يقم ثم قام) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر شرح شذور الذهب 26، المغنى 1/ 279 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 460 (¬3) انظر المغنى 1/ 278، شرح قطر الندى 83 - 84 الأشباه والنظائر 2/ 223، 228، التصريح 2/ 247

جاء في (شرح الرضي على الكافية): " واختص (لمّا) أيضا بامتداد نفيها، من حين الانتفاء إلى حال التكلم، وهذا هو المراد بقوله (بالاستغراق) .. وأما (لم) فيجوز انقطاع نفيها دون الحال نحو: (لم يضرب زيد أمس لكنه ضرب اليوم) (¬1). 2 - إن منفي (لما) لا يكون إلا قريبا من الحال، ولا يشترط ذلك في منفي (لم)، فقد يكون منفيها قريبا أو بعيدا، تقول: (لم يكن زيد في العام الماضي مقيما) ولا يجوز (لما يكن) (¬2). وذلك أن (لم) لنفي (فعل) وهذا الفعل يحتمل القرب والبعد، فمن البعيد قوله: {خلق الله السماوات والأرض} [العنكبوت: 44]، وقوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف: 11]، ومن القريب قولنا: (حضر الآن محمد)، وقوله: {إني تبت الآن} [النساء: 18]، في حين أن (لما) لنفي (قد فعل) و (قد) تفيد القرب كما سبق تقريره. 3 - إن المنفي بـ (لما) فيه معنى التوقع، وليس كذلك المنفي بـ (لم)، فقولنا (لما يحضر خالد) معناه أنه لم يحضر، وهو متوقع حضوره، وليس في قولنا (لم يحضر خالد) معنى التوقع، قال تعالى: {بل لما يذوقوا عذاب} [ص: 8]، ومعناه أنهم لم يذوقوه إلى الآن، وأن ذوقهم له متوقع (¬3). وذلك أن (لما) لنفي (قد فعل)، و (قد) فيها معنى التوقع (¬4).، و (لم) لنفي (فعل) وليس فيه معنى التوقع، فقولك (قد حضر محمد) معناه أنه كان متوقعًا حضوره فحضر و (لما يحضر) معناه أنه لم يحضر، وهو متوقع حضوره. قال في (المغنى): " وهذا الفرق بالنسبة إلى المستقبل، فأما بالنسبة إلى الماضي فهما سيان في نفي المتوقع وغيره، مثال المتوقع أن تقول: (مالي قمت ولم تقم). ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 278 (¬2) المغنى 1/ 279 (¬3) المغنى 1/ 279، التصريح 2/ 247، شرح الرضي على الكافية 2/ 278 (¬4) كتاب سيبويه 2/ 307

أو (ولما تقم). ومثل غير المتوقع أن تقول ابتداء: لم تقم أو لما تقم (¬1). وجاء في (شرح الرضي): " وقد تستعمل في غير المتوقع أيضا نحو: (ندم ولما ينفعه الندم) (¬2). وذلك أن (قد) ربما جاءت في غير المتوقع كما أسلفنا. 4 - أن (لما) لا تقترن بأداة الشرط بخلاف (لم)، قال تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67]، وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45]، ولا يقال: (أن لما تفعل)، ولا (من لما يحكم). وذلك " لأن الشرط يليه مثبت (لم)، تقول: (إن قام زيد قام عمرو) ولا يليه مثبت (لما) لا تقول: أن قد قام زيد (¬3). وسبب ذلك أن (لما) إذا نفت الفعل صرفته إلى المضي، ولا يحتمل أن يكون لغير المضي، مثل (قد) في الإثبات فإن (قد) إذا دخلت على الفعل الماضي تعين أنه للمضي، ولا يصح صرفه إلى الاستقبال، بخلاف (لم) فإنه يصح صرفه ما بعدها إلى الاستقبال كما في مثبتها، فإن فعل للمضي وقد يحتمل الدلالة على الاستقبال بقرينة نحو قوله تعالى: {ونفخ في الصور} [الزمر: 68]، ومنفيه أعنى (لم يفعل) كذلك فهو للمضي، وقد يحتمل الدلالة على الاستقبال، كقوله تعالى: {لم يدخلوها وهم يطمعون} [الأعراف: 46]، وهذا في أصحاب الأعراف وهو من مشاهد القيامة. ولذا جاز اقتران (لم) بأداة الشرط، كما جاز اقتران مثبتها بها، لأن الشرط يصرف الفعل إلى الاستقبال، تقول: (إن زرتنا أكرمناك وإن لم تزرنا لم نكرمك)، ولم يجز اقتران (لما) بها كما لم يجز اقتران مثبتها بها، فلا تقول: (إن قد قام)، ولا (إن لما يقم). ¬

_ (¬1) المغني: 1/ 279 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 278 (¬3) التصريح 2/ 247

جواب الطلب

5 - يجوز الاستغناء بـ (لما) عن ذكر منفيها إذا دل عليه دليل، تقول: (قاربت البلد ولما) أي: ولما أدخله، ولا يجوز حذف الفعل بعد (لم) فلا يقال: (قاربت البلد ولم (¬1).) وذلك أن (قد) يستغني بها فلا يذكر ما بعدها قال: أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد (¬2). أي وكأن قد زالت. جواب الطلب ذكرنا أن الفعل المضارع قد يجزم بعد أدوات ظاهرة، وقد يجزم بغير أداة ظاهرة وهو الذي يسميه النحاة جواب الطلب نحو: (زرني أزرك) و (أين بيتك ازرك) و (ليتني أعرف بيتك أزرك) والمعنى كما يقول النحاة، أن تزرني أزرك، وإن دللتني على بيتك أزرك. جاء في (الكتاب): " هذا باب من الجزاء، ينجزم فيه الفعل إذا كان جوابًا لأمر، أو نهي، أو استفهام، أو تمن، أو عرض" فأما ما انجزم بالأمر فقولك (ائتني آتك) وما انجزم بالنهي فقولك (لا تفعل يكن خيرا لك) وأما ما انجز بالاستفهام فقولك (ألا تأتيني أحدثك) و (أين بيتك أزرك) وأما ما انجزم بالتمني فقولك (ألا ماء أشربه) و (ليته عندنا يحدثنا) وأما ما انجزم بالعرض، فقولك (ألا تنزل تصب خيرًا) وإنما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب (إن تأتني) بأن تأتني، لأنهم جعلوه معلقا بالأول، غير مستغن عنه، إذا أرادوا الجزاء كما أن (إن تأتني) غير مستغنية عن (آتك). وزعم الخليل أن هذه الأوائل كلها فيها معنى (إن) فلذلك انجزم الجواب، لأنه إذا قال (ائتني آتك) فإن معنى كلامه: إن يكن منك اتيان آتك، وإذا قال (أين بيتك أزرك) فكأنه قال: إن علم بيتك أزرك، لأن قوله (أين بيتك) يريد به (أعلمني)، وإذا قال ¬

_ (¬1) المغني 1/ 279، شرح قطر الندى 84 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 279

(ليته عندنا يحدثنا) فإن معنى هذا الكلام: (إن يكن عندنا يحدثنا) وهو يريد ههنا إذا تمنى ما أراد في الأمر. وإذا قال (لو نزلت) فكأنه قال أنزل (¬1). وهذا الأسلوب كما هو ظاهر أسلوب شرطي، فيه جزاء مترتب على ما قبله، ومرتبط به ارتباط الجزاء بالشرط فقولك (زرني أكرمك) معناه أن أكرامك له، مرتبط بزيارته لك ارتباطا شرطيا، وكذلك (ألا تأتيني أحدثك) فإن التحديد مسبب عن الاتيان، ومرتبط به ارتباط الجزاء بالشرط، فإذا لم يترتبط الفعل بما قبله هذا الارتباط لم يجزم قال تعالى: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني} [القصص: 34]، بالرفع ولم يجزم، لأنه ليس على إرادة معنى الشرط، إذ ليس معناه أن ترسله يصدقني، وإنما المعنى: أرسله ردءا فإنه يصدقني، ولذا ارتفع ولو أراد معنى الشرط لجزم، ونحوه، أن تقول (زرني أزورك) فإنك لم تقصد فيه ترتيب زيارتك على زيارته، وإنما المقصود أنا أزورك، فزرني، أي أنا ممن يزورك. ومثله قولك (دعه يضربه) و (دعه يضربه) فبالجزم معناه أن تدعه يضربه، وبالرفع معناه: دعه ضاربا له، فالضرب بالجزم غير حاصل وبالرفع هو حاصل، أو يكون على الاستئناف على معنى دعه إنه يضربه، وتقول: (تعال ينادك) و (تعال يناديك) فبالجزم معناه إن تأت ينادك، والمعنى أنه لا يناديك الآن، وإنما إذا جئت ناداك، وبالرفع معناه: أنه يناديك فتعال، ومعنى ذلك أن المناداة حاصلة. قال سيبويه: " وتقول (ائتني آتك) فتجزم على ما وصفنا، وإن شئت رفعت على أن لا تجعله معلقا بالأول، ولكن تبتدئه، وتجعل الأول مستغنيا عنه، كأنه يقول: ائتني أنا آتيك. مثل قول الشاعر: (وهو الأخطل): وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف امريء يمضي لمقدار ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 449

وقال الأنصاري: يا مال والحق عنده فقفوا ... تؤتون فيه الوفاء معترفا كأنه قال أنكم تؤتون فيه الوفاء معترفا .. وتقول: (ذره يقل ذاك)، (ذره يقول ذاك) فالرفع من وجهين: فأحدهما الابتداء، والآخر على قولك ذره قائلا ذاك .. وتقول (قم يدعوك) لأنك لم ترد أن جعل دعاء بعد قيامه، ويكون القيام سببا له ولكنك أردت: قم أنه يدعوك. وإن أردت ذلك المعنى جزمت. (¬1). وجاء في (المفصل): " وإن لم تقصد الجزاء فرفعت كان المرفوع على أحد ثلاثة أوجه: إما صفة كقوله تعالى: {فهب لي من لدنك ولي يرثني} [مريم: 5 - 6]، أو حالا كقوله تعالى: {فذرهم في طغيانهم يعمهون} (¬2). أو قطعا واستئنافا كقولك (لا تذهب به تغلب عليه) و (قم يدعوك) ومنه بيت الكتاب: وقال ائدهم أرسوا نزاولها ومما يحتمل الأمرين الحال والقطع قولهم (ذره يقول ذاك) و (مرة يحفرها) وقول الأخطل: كروا إلى حرتيك تعرونهما وقوله تعالى: {فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف دركا ولا تخشى} [طه: 77] (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 450 - 451، وانظر المقتضب 2/ 82 (¬2) ليس ثمة آية بهذا النص وإنما هي {ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 110] وليس فيها شاهد، وإنما الشاهد في قوله تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام: 91]. (¬3) المفصل 2/ 146 - 147

ويدلك على معنى الجزاء أنه إذا تخلف معنى الشرط لا يصح جزمه وذلك واضح في النهي، نحو (لا تدن من النار تحترق) فإنه لا يصح جزم (تحترق) هنا لأنه لا يصح أن تقول (إن لا تدن من النار تحترق) بخلاف قولك (لا تدن من النار تسلم) فإنه يصح القول (أن لا تدن من النار تسلم) ولذا يجزم الفعل (تسلم) ولا يجزم (تحترق). جاء في (شرح الأشموني): " وشروط جزم بعد نهي، فيما مر أن يصح أن تضع أن الشرطية قبل (لا) النافية، دون تخالف في المعنى يقع، ومن ثم جاز (لا تدن من الأسد تسلم) وامتنع (لا تدن من الأسد يأكلك) بالجزم (¬1). " ولكنك ترفع على القطع، كأنك قلت: لا تدن منه فإنه يأكلك" (¬2). ومثاله من غير النهي قولك (اقتل العقرب تلدغك) فإنه لا يصح جزم (تلدغك) لأنه لا يصح تقدير الشرط، فلا تقول (إن تقتل العقرب تلدغك) بخلاف قولك (اقتل العقرب تنج منها) فإنه يصح جزمه، ونحو (تجنب النار تحرقك) فإنه لا يصح فيه الجزم، لأنه لا يصح تقدير الشرط وإنما هو مرفوع على القطع، أي أنها تحرقك بخلاف (تجنب النار تنج) فإنه يجزم. ومثله (هلا تحفظ ترسبُ) فإن هلا يصح الجزم فيه، بخلاف قولك: (هلا تحفظ دروسك تنجح) ونحو: (ليتني أجد ماء يهلكني العطش) فإنه لا يجوز فيه الجزم، لأنه لا يصح تقدير الشرط بل هو على تقدير أنه يهلكني العطش، بخلاف قولنا (ليتني أجد ماء أعطش) فإن الفعل فيه مجزوم لأنه مقدر بالشرط. ويدلك على ذلك أيضا - أي على معنى الجزاء - أن ما نصب بعد فاء السببية في الطلب إذا اسقطت منه الفاء جزمت، وذلك نحو قولك: (أين بيتك فأزورك) فإذا أسقطت الفاء منه، وبقي في الجملة معنى السبب جزمت، وهذا يدلك على أن معنى الجزم هو أن يكون الثاني مسببا عن الأول، وهو المقصود من الشرط. ¬

_ (¬1) شرح الأشموني 3/ 311 (¬2) المفصل 2/ 146

جاء في (التصريح): " وإذا سقطت الفاء من المضارع الواقع بعد الطلب المحض وقصد بالفعل الذي سقطت منه الفاء معنى الجزاء (¬1). للطلب السابق عليه، جزم الفعل، والمراد بقصد الجزاء، أنك تقدره مسببا عن ذلك الطلب المتقدم، كما أن جزاء الشرط مسبب عن فعل الشرط (¬2). وهنا يبرز سؤال وهو؟ ما الفرق بين سقوط الفاء وبقائها في المعنى؟ ما الفرق مثلا بين قولك (هل تزورني أكرمك) و (هل تزورني فأكرمك)؟ المعنى واحد أم مختلف. الذي يبدو أنهما أسلوبان متغايران معناهما مختلف، وذلك أن التعليل بالفاء إنما هو لبيان السبب فقط، وليس الارتباط بها ارتباطا شرطيا، ولذا يصح أن تأتي بالفاء أحيانا ولكن لا يجوز اسقاطها وجزم الفعل بعدها، لأن معنى الشرط لا يصح، وذلك نحو قولنا (لا تدن من الأسد فيأكلك) فإن هذا التعبير صحيح، وهو بيان لعلة عدم الاقتراب من الأسد، بخلاف ما لو قلنا (لا تدن من الأسد يأكلك) فإنه لا يصح فيه الجزم، لأنه لا يصح تقدير الشرط فيه، إذ لا يقال: (إن لا تدن من الأسد يأكلك). قال تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} [الأعراف: 19]، فأنت ترى أنه لا يصح اسقاط الفاء والجزم على الطلب، لأنه لا يصح في المعنى (إن لا تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين)، فالفاء لبيان علة النهي عن الاقتراب من الشجرة، ولكن ليس ارتباط ما قبلها بما بعدها اربتاطا شرطيا. ومثله قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} [الأنعام: 108]، وقوله: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} [الأعراف: 73]، وقوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46]، وقوله: {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين} [يونس: 95]، وقوله: {لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا} [يوسف: 5]. ¬

_ (¬1) في الأصل (معنى الجزم)، وهو غلط مطبعي كما هو ظاهر وكما يدل عليه ما بعده والحاشية. (¬2) التصريح 2/ 241، وانظر شرح الأشموني 3/ 308

فأنت ترى في هذا ونحوه أنه لا يصح إسقاط الفاء منه وجزمه، لأنه لا يصح تقدير الشرط إذا حذفت. وكذلك النفي، فإنه لا يصح اسقاط الفاء فيه والجزم (¬1).، لأنه لا يحتمل جعله أسلوبا شرطيا، فلا يصح في نحو (ما تأتينا فتحدثنا) (ما تأتينا تحدثنا) ولا في نحو قوله تعالى: {لا يقضي عليهم فيموتوا} [فاطر: 36]، (لا يقضي عليهم يموتوا) لأن المعنى لا يصح، إذ لا يصح (أن لا يقض عليهم يموتوا). وبذلك يتضح الفرق بين ذكر الفاء واسقاطها، فالفاء إنما هي لمجرد بيان السبب، وأما إسقاطها فعلى إرادة الشرط والجزاء. هذا من ناحية، ون ناحية أخرى يكون الفرق بينهما في المعنى من غير هذا السبيل وذلك نحو قوله تعالى: {ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [غافر: 36 - 37]، فأنت ترى أنه لا يحسن اسقاط الفاء من (فأطلع) والقول (لعلي أبلغ الأسباب أطلع) لأن المعنى سيختلف، وذلك أن الترجي في الاية مستمر إلى ما بعد الفاء، والمعنى لعلي اطلع، بخلاف ما لو جزمت وقلت (أطلع) لأن المعنى سيكون (إن بلغت الأسباب أطلعت إلى إله موسى) وهذا غير مراد ولا يصح لأن فرعون ينكر أن يكون لموسى إله غيره، قال: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]، فأنت ترى أن الجزم يختلف عن النصب بالفاء. ونحوه قوله تعالى: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148]، فأنت ترى أنه لا يحسن إسقاط الفاء والقول (تخرجوه لنا) لأن المعنى سيتغير، وذلك أن الاستفهام مستمر إلى ما بعد الفاء، بخلاف ما لو جزمت فإن الاستفهام سينقطع قبلها، ويصبح أسلوبا شرطيا، فيكون (إن كان عندكم علم تخرجوه لنا) وهو مخالف للمقصود، وكذلك قوله تعالى: {لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم} [البقرة: 167]، فإن التمني مستمر ¬

_ (¬1) انظر المفصل 2/ 146، الأشموني 3/ 309

إلى ما بعد الفاء، فما بعد الفاء داخل في التمنى، وقوله: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} [النساء: 97]، فإن الإنكار مستمر إلى ما بعد الفاء ولا يصح إسقاط الفاء والقول (الم تكن أرض الله واسعة تهاجروا فيها) لأن المعنى سيتغير، ثم لا يصح أن يقال: إن كانت واسعة تهاجروا فيها على المعنى السابق. وكذلك قوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} [الحج: 46]، فالاستفهام مستمر بخلاف ما لو اسقطت الفاء وجزمت، فإن المعنى لا يصح. ويوضحه أيضا قوله تعالى: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88]، فأنت ترى أنك إذا أسقطت الفاء فقلت (يؤمنوا) تغير المعنى تغيرا كبيرا، وذلك أن قوله تعالى: {فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} داخل في الدعاء وأن المقصود طلب عدم إيمانهم حتى يروا العذاب الأليم، بخلاف ما لو اسقطت الفاء فقلت (ربنا اطمس على أموالهم .. لا يؤمنوا) فعند ذلك يخرج قولك (لا يؤمنوا فتكون نتيجة الطمس عدم الإيمان، وليس فيه تنصيص على أن ذلك مراد له، وإنما هو تقرير حقيقة فقط. يتبين من ذا أن ثمة فرقا كبيرا بين ذكر الفاء واسقاطها، والجزم على الطلب، فإن لكل معنى، قال تعالى: {وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} [المنافقون: 10]، فأنت ترى أنه نصب الفعل بعد الفاء (فأصدق) ثم عطف عليه بالجزم، (وأكن من الصالحين)، والسبب، والله أعلم، أن قوله (وأكن من الصالحين) ليس على إرادة الفاء بل على نية اسقاطها، فيكون الثاني جزاء كأنه أراد (إن اخرتني أكن من الصالحين) فأسقط الفاء على إرادة الشرط، ولو عطف لكانا شيئا واحدا.

ولا تقل كيف يصح عطف الجزاء على ما ليس جزاء، فهذا كثير فإنه معلوم أنه يصح العطف بفاء السبب، وواو المعية على الشرط والجزاء (¬1). فنقول: (إن تأتني فتكرمني أشكر لك صنيعك) وتقول: (من يزرني أكرمه فأشكر له صنيعه) وتقول (من يزرني أكرمه وأشكر له صنيعه) فهذا عطف سبب على جزاء، وذاك عطف جزاء على سبب. فاتضح بهذا أن ما يسمى بجواب الطلب، إنما هو إسلوب شرطي، غير أن هذا الأسلوب يختلف عن أسلوب الشرط المشهور، وهو الذي تذكر فيه أداة الشرط وفعله، وجزاؤه نحو (إن تزرني أزرك) وذلك أن الارتباط هنا ليس بأداة شرط، بل الارتباط بمعنى الجزاء، وأن الشرط في الإسلوب الشرطي المشهور يكون فعلا ماضيا، أو مضارعا، بخلاف هذا الإسلوب فإن الشرط فيه يكون طالبا دائما. ثم إن هذا التعبير يؤدي معنى لا يؤديه الأسلوب الشرطي المشهور، فمثلا أن قوله تعالى: {فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض} [البقرة: 61]، لا يؤديه قولنا (إن تدع لنا ربك يخرج) وذلك أن قوله (ادع لنا ربك) يفيد أن الدعاء مطلوب مراد للقائلين بخلاف قولنا (إن تدع لنا يخرج) فإنه لا يدل على أن الدعاء مطلوب لهم، ومثله قوله تعالى: {نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون} [النمل: 41]، فهذا يختلف عن قولنا (إن تنكروا لها عرشها ننظر) فإن قوله تعالى: {نكروا لها عرشها} يفيد أن التنكير مأمور به مطلوب، بخلاف قولنا (إن تنكروا لها عرشها ننظر) فإن معناه إذا فعلتم ذلك نظرنا، ولا يفيد ان التنكير مطلوب. ومثله قوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} [التوبة: 14]، فإنه يدل على أن القتال مطلوب، بخلاف ما لو قلنا (إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) فإنه لا يفيد ان القتال مطلوب صراحة، وكذلك قوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]، يختلف عن قولنا (إن تدعوني استجب لكم) فإنه في الآية يفيد أن الدعاء مطلوب من العبد، ¬

_ (¬1) انظر شرح الأشموني 4/ 24

مراد لله تعالى بخلاف الثانية، وكذلك قوله: {ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل} [إبراهيم: 44]، فإن التأخير مطلوب لهم مراد بخلاف ما لو قلنا: (إن تؤخرنا نجب دعوتك) فإنه لا يفهم هذا المعنى بل هو أسلوب اشتراطي مع الله سبحانه وهو كما ترى يختلف عن الأول. وكذلك بقية أنواع الطلب، فالجزاء هنا يكون جوابا للتمنى، والاستفهام، والعرض والتحضيض، والنهي، مما لا يمكن أن يؤدي بالشرط، تقول (ليت محمدا هنا يدافع عني) فيدافع جواب للتمنى، ولا يؤدي هذا المعنى بالشرط فيما إذا قلت (أن يكن محمد هنا يدافع عني) إذ ليس في هذا معنى التمنى، وكذلك قولنا (ألا تأتينا تصب خيرا) فإن هذا عرض (وتصب) جواب العرض، ولا يؤدي هذا المعنى بالشرط فيما إذا قلنا (إن تأتنا تصب خيرا) لأنه ليس فيه عرض. جاء في (بدائع الفوائد) أن الفرق بين قولنا (قم أكرمك) و (إن تقم أكرمك) أنه " في قوله: (قم أكرمك) فائدتان ومطلوبان: أحدهما جعل القيان سببا للإكرام، ومقتضيا له اقتضاء الأسباب لمسبباتها. والثاني كونه مطلوبا للآمر مرادا له، وهذه الفائدة لا يدل عليها الفعل المستقبل فعدل عنه إلى لفظ الأمر تحقيقا له، وهذا واضح جدًا (¬1). ففي الشرط فائدة واحدة، وهو اقتضاء الأسباب لمسبباتها، وفي هذا التعبير فائدتان هما فائدة الشرط المذكورة، والثانية إفادة معنى الطلب من أمرن ونهي، واستفهام، وتمن، ونحوه مما لا يتحقق بالشرط. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 1/ 105

إضمار اللام

إضمار اللام: ذهب بعض النحاة إلى أن لام الأمر قد تضمر بعد قول هو أمر، نحو قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} [الإسراء: 53]، وقوله: {قل لعبادي الذين أمنوا يقيموا الصلاة} [إبراهيم: 31]، والعنى: قل لهم ليقولوا وليقيموا (¬1). وذهب الجمهور إلى أن الجزم هو مثله في قولنا (ائتني أكرمك) أي على تقدير إن تقل لهم يقيموا الصلاة " وابطل ابن مالك بالآية أن يكون الجزم في جواب شرط مقدر لأن تقديره يستلزم أن لا يتخلف أحد من المقول له ذلك، عن الامتثال ولكن التخلف واقع وأجاب ابنه بأن الحكم مسند إليهم على سبيل الاجمال، لا إلى كل فرد فيحتمل، أن الأصل (يقم أكثرهم) ثم حذف المضاف وأنيب عنه المضاف إليه، فارتفع واتصل بالفعل، وباحتمال أنه ليس المراد بالعباد الموصوفين بالإيمان مطلقا بل المخلصين منهم. (¬2). والذي يبدو لنا أن الرأي الأول أصوب، لأن العنى على تقدير الشرط قد يبعد بخلاف تقدير اللام فقولنا (قل له يحفظ القصيدة) معناه: قل له ليحفظها، وليس معناه (إن تقل له يحفظها) وقد أبطل ذلك ابن مالك. وأما جواب ابنه ففيه نظر، وذلك أنه قد يؤتى بهذا التعبير فيما لا يصح فيه الشرط، فقد نقول هذا التعبير عمن لم نتيقن من استجابته، فيصح أن نقول عن شخص لم نتيقن من استجابته (قل له ينته عن الخمر) فلا يصح تقدير: (إن تقل له ينته عن شرب الخمر) وكذلك أن تقول (قل له ينته عن القول بالرجعة) وأنت تعلم أنه لا ينتهي، أو غير متيقن من استجابته، وأن تقول (قل لهم يكفوا عن التخريب) لمن لا تعلم أنهم سينتهون بمجرد القول، فلا يصح تقدير (إن تقل لهم يكفوا عن التخريب) بخلاف تقدير اللام، فإنه موافق للقصد. ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 225، شرح الرضي 2/ 279، الهمع 2/ 55 (¬2) المغني 1/ 226

وليس معنى ذلك أنه بعد كل قول هو أمر يكون المحذوف لامًا، بل قد يكون أسلوبا شرطيا، فإن المعنى هو الحاكم ففي قولك (قل الحق يعصمك الله) معناه أن تقل الحق يعصمك الله، وليس معناه ليعصمك الله، ونحوه قوله تعالى: {يآيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم} [الأحزاب: 70 - 71]، فإن معناه الشرط، وليس الأمر. وقد يحتمل التعبير المعنيين، الشرط والأمرن وذلك نحو قولنا (قل له يفعل ذاك) فهذا يحتل الأمر، ويحتمل الشرط، فإذا أردت أنك إن تقل له يفعل ذاك، كان شرطا، وإلا كان أمرًا، كما أن حذف اللام ليس محصورا بالقول، بل قد يكون مع غيره حسبما يقتضي المعنى وذلك نحو قوله: {ادعوا ربك يخفف عنا يوما من العذاب} [غافر: 49]، فإن المعنى الأظهر له (ادعوا ربكم ليخفف عنا يوما من العذاب)، وليس (إن تدعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب). وكذلك قوله تعالي: {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها} [البقرة 69]، فالأرجح أنه على تقدير أدع ليبين لنا ما لونها، وليس على تقدير إن تدع يبين. ونحوه قوله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم} [المنافقون: 5] فإنه ليس المعنى إن تأتوا يستغفر لكم، رسول الله، إذ ليس الاستغفار حاصلا من مجرد الاتيان، بل الراجح أن المعنى تعالوا ليستغفر لكم رسول الله. ومثله قوله تعالى: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين أمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} [الحديد: 13]، فإنه ليس المقصود: إن تنظرونا نقتبس من نوركم، بل هو طلب النظر لاقتباس النور، أي على معنى (انظرونا لنقتبس من نوركم) ومثله: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143]، فإن الراجح أن المعنى أرني لأنظر إليك، وليس: إن ترني أنظر إليك. وربما احتمل بعض هذه التعبيرات الشرط من وجه بعيد إلا أن تقدير اللام أظهر.

ولو قال قائل إن المعنى على تقدير لام التعليل في نحو قوله تعالى: {تعالوا يستغفر لكم رسول الله} وقوله: {انظرونا نقتبس من نوركم} لكان أشبه بالمعنى والله أعلم. وقد تقول: ما الفرق بين التصريح باللام وإضمارها، فما الفرق بين قولنا (قل له يفعْل) و (قل له ليفعْل)؟ الذي يبدو أن ثمة فرقًا بين التعبيرين، وذلك أن القائل استغنى بفعل الأمر عن أمر جديد باللام، وهذا ألطف إذ لا يحسن أحيانًا مواجهة المعنى بالأمر الصريح، فتستغني عنه بالأمر السابق الموجه إلى المخاطب، لا إلى الشخص المطلوب منه الفعل، فقوله: {فادع لنا ربك يخرج لنا} [البقرة: 61]، يختلف عن قولنا (ادع لنا ربك ليخرج لنا) فإن المخاطب في التعبير الأول موسى عليه السلام فاستغني بخطابه عن ذكر لام الأمر مع الله تعالى في حين أنه في العبارة الثانية تكون لام الأمر صراحة لله تعالى. أنه بذكر اللام يكون الشخص المعنى مأمورا صراحة بخلاف إضمارها وهذا أرق وألطف، فقولك (قل له يفعل) أرق وألطف من قولك (قل له ليفعل) لما في اللام من تنصيص على الأمر، وهذا نظير قولنا ((تذهب إلى فلان وتخبره)) بمعنى اذهب إليه وأخبره فهذا ألطف من (اذهب إلى فلان وأخبره) لأنك عدلت عن لفظ الأمر الصريح إلى الخبر إذ لا تريد أن تجعل هذا الشخص مأمورا لك صراحة. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية أن المعنى بإضمارها قد يتسع، ويحتمل أكثر من وجه بخلاف ذكرها فإن ذكرها تنصيص على الأمر، بخلاف حذفها، فإنه يحتمل الأمر والشرط وربما التلعيل، وذلك نحو قولنا ((قل له يحفرها) فهذا يحتمل الأمر، أي قل له ليحفرها ويحتمل الشرط، أي إن تقل له يحفرها، بخلاف قولنا (قل له ليحفرها) فهذا نص في الأمر. وقد يكون المعنيان صحيحين مرادين للمتكلم، فيكون قد كسب معيين بتعبير واحد فيكون الحذف أولى، وذلك نحو قوله تعالى: {قل للذين أمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} [الجاثية: 14]، فإن هذا يحتمل الشرطن أي: إن قلت لهم فعلوا ذلك.

وهو تهييج لطاعة ربهم، وامتثال أوامره، لما فيه من حسن الظن بهم، تعالى الله عن الظن، ويحتمل الأمر أي قل لهم ليفعلوا، ففي هذا التعبير فائدتان: الأمر والشرط، فإنه بدل أن يقول لهم (قل لهم ليغفروا، فإنك إن قلت لهم يغفروا) قال: (قل لهم يغفروا) فأفاد المعنيين من أوجز طريق وأيسره، بخلاف ذكر اللام فإنه لا يفيد إلا معنى واحدا. ونحوه قوله تعالى: {انظرونا نقتبس من نوركم} [الحديد: 13]، فإن هذا قد يحتمل الشرط، ولو من وجه بعيد أي إن تنظرونا نقتبس من نوركم، ويحتمل التعليل أي: (انظرونا لنقتبس من نوركم)، وربما احتمل الأمر من وجه أبعد، والمعنى (لنقتبس) فيكونون قد أمروا أنفسهم بالاقتباس. ونحوه قوله تعالى: {فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض} [البقرة: 61]، فإن هذا قد يحتمل الشرط، والمعنى إن تدع ربك يخرج لنا بخلاف ما لو دعوناه نحن، والمعنى: أنه يستجيب لك ولا يستجيب لنا، ويحتمل التعليل، أي ادعه ليخرج لنا مما تنبت الأرض، والمعنى: ادعه لهذا الغرض، ويحتمل الأمر، أي: ليخرج ولكنه حذف اللام إكبارا وإجلالا للذات العلية من أن يصرح معها بلام الأمر، وهذا شأن كثير مما حذف فيه اللام والله أعلم.

حرفا الاستقبال

حرفا الاستقبال السين وسوف من المناسب بحث حرفي الاستقبال سوف والسين هنا، لاختصاصهما بالفعل المضارع، إن سوف والسين حرفا استقبال (¬1). قال تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا} [النساء: 56]، وقال: {سأصليه سقر} [المدثر: 26]. ولفظ (السوف) يدل على البعد عمومًا، فمن معانيه الموت، ومثله السواف، ومنه قولهم: ساف المال يسوف إذا هلك، ويقال: رماه الله بالسواف أي الموت، والسوف الصبر. ومنه المسافة والسيفة وهو بعد المفازة والطريق (¬2). والسوف الشم، وقيل بل هو لشم رائحة ما ليس حاضرًا. جاء في (بدائع الفوائد): " وأما سوف فحرف، ولكنه على لفظ السوف الذي هو الشم لرائحة ما ليس بحاضر، وقد وجدت رائحته كما أن سوف هذه تدل، على أن ما بعدها ليس بحاضر، وقد علم وقوعه وانتظر إيابه، ولا غرو أن يتقارب معنى الحرف من معنى الاسم المشتق المتمكن في الكلام (¬3). فلفظ السوف عموما يفيد البعيد. وحرف الاستقبال (سوف) موافق للفظ السوف، ومعناه فإن الاستقبال بـ (سوف) فيه بعد وتراخ، وربما أخذ منه وجرد لمعنى الاستقبال، كما أخذ حرف (على) من العلو، وحرف (خلا) من الخلو. ¬

_ (¬1) انظر "المغني" 1/ 138، كتاب سيبويه 2/ 311، شرح الرضي على الكافية 2/ 248 (¬2) انظر لسان العرب - سوف: 11/ 65، تاج العروس / سوف 6/ 147 (¬3) بدائع الفوائد 1/ 91 - 92

قالوا: و (سوف) أكثر تنفيسا من السين: فإن لفظها أكثر فهو يؤذن بالبعد. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وسوف أكثر تنفيسا من السين .. وقيل أن السين منقوص من سوف دلالة بتقليل الحرف على تقريب الفعل (¬1). وقال ابن أياز في (شرح الفصول) أن التراخي في سوف أشد منه في السين، بدليل استقراء كلامهم، قال تعالى: {وسوف تسئلون} [الزخرف: 44]، وطال الأمد والزمان، وقال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ماولاهم} [البقرة: 142]، فتعجل القول (¬2). وقال: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا} [النساء: 56]. قال: {وسف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائد: 54]، وقال: {ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم} [النساء: 91]، وقال: {سنراود عنه أباه} [يوسف: 61]، وقال: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} [الكهف: 78]. فاستعمل (سوف) للبعيد، والسين للقريب. ومما يدل على ذلك قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام لابنائه: {قال سوف استغفر لكم ربي} [يوسف: 98]، وقوله على لسان إبراهيم عليه السلام لأبيه: {سأستغفر لك ربي إنه كان بي} [مريم: 47]، فجاء بوعد يعقوب بسوف، ووعد إبراهيم بالسين، لأن وعد يعقوب أطول من وعد إبراهيم، وذلك لما فعلوه به وبأخيهم يوسف، فهو وعدهم بالاستغفار في المستقبل حين طلبوا ذلك منه، قال تعالى: {قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} [يوسف: 97 - 98]، بخلاف آية إبراهيم فإنه دعاه أباه إلى الإسلام، فلم يستجيب وفي نهاية الحديث قال له: {سلام عليك سأستغفر لك ربي} [مريم: 47]، فجاء بالسين الدالة على القرب، يدل على ذلك بدؤه بقوله: {سلام عليك} فالفرق واضح. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 248، وانظر الكليات 204 (¬2) الأشباه والنظائر 2/ 274

ومما يدل على إفادة (سوف) للبعد والتراخي، أنه يؤتى بها للتبعيد، وذلك نحو قوله تعالى: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} [الأعراف: 143]، وهذا في طلب موسى عليه السلام، من ربه أن يريه ذاته: {قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} فجاء بـ (سوف) ولم يأت بالسين الدالة على القرب، للدلالة على بعد هذا الأمر، وأن وقوعه بعيد المنال مستحيل الحصول. ونحوه قوله تعالى: {ويقول الإنسان أءنا ما مت لسوف أخرج حيا} [مريم: 66]، وهذا للتبعيد، وذلك أن هذا القائل يعتقد أن الحياة بعد الموت أمر بعيد الوقوع، لا يكون فجاء بـ (سوف) الدالة على البعد، ولم يأت بالسين. وقالوا هما حرفان مؤكدان، إذا دخلا على فعل أفادا أنه واقع لا محالة. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} [النساء: 1552]، " معناه إن ايتاءها كائن لا محالة وإن تأخر، فالغرض به توكيد الوعد وتثبيته، لا كونه متأخرًا (¬1). وجاء فيه في قوله: {أولئك سيرحمهم الله} [التوبة: 71]، " السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد في قولك: (سأنتقم منك) تعني أنك لا تفوتني وأن تباطأ ذلك (¬2). وجاء فيه في قوله تعالى: {فسيكفيكهم الله} [البقرة: 137]، " ضمان من الله لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة، وإن تأخر إلى حين" (¬3). والذي يبدو أن (سوف) أكثر توكيدًا من السين، لزيادة حروفها عليها، ويدل على ذلك الاستعمال القرآن لها، قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} [النساء: 10]. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 434 (¬2) الكشاف 2/ 48 (¬3) الكشاف 1/ 241، وانظر المغنى 1/ 138 - 139، التفسير الكبير للرازي 16/ 131

وقال: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا} [النساء: 29 - 30]، فجاء بـ (سوف) هنا بخلاف آية الايتام، وذلك أن المقام يقتضي الزيادة في التهديد، لأنه في عقوبة قتل النفس عدوانا وظلما، بخلاف الآية السابقة فإنها في كل أموال اليتامى، والقتل أشد ولا شك، فزاد لهم في التهديد والتوكيد لما زاد الفعل سوءا ونكرا، ثم إنه لما قال (عدوانا وظلما) فزاد العدوان على الظلم، زاد لهم التهديد، فجاء بـ (سوف) التي هي آكد من السين، ونسب الاصلاء إلى نفسه فقال (فسوف نصليه نارا) بخلاف الآية السابقة فإنه قال (وسيصلون سعيرا) فنسبه إليهم. ومن الطريف أن يؤتى بلفظ (السوف) الذي يفيد الهلاك والموت مع فعلة القتل بخلاف آية الايتام. ونحو ما مر قوله تعالى: {فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله} [غافر: 44]. وقوله: {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون، إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، في الحميم ثم في النار يسجرون} [غافر: 70 - 72]. وذلك أنه في الآية الأولى لم يزد التهديد على ما ذكر، وهو قوله: {فستذكرون ما أقول لكم أما في الآيات التالية فإ التهديد يطول ويستمر إلى الآية 76}، فلما طال التهديد، وازداد جاء بـ (سوف) التي هي أطول من السين، وأكثر توكيدًا. وقد يكون المقام مقام إطالة فيؤتى بـ (سوف)، أو مقام إيجاز فيؤتى بالسين، وذلك لزيادة حروف الأولى على الثانية، فمن ذلك قوله تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا} [النساء: 56]، وقوله: {والذين أمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار} [النساء: 57]. فجاء في الأولى بـ (سوف) وفي الثانية بالسين وذلك أن المقام يقتضي أن يكون كل

في موضعه، فإن الآيات التي قيلت في الكافرين تسع آيات. تبدأ بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48 - 56]، بخلاف آية المؤمنين، فإنها آية واحدة وهي الآية المذكورة، فجاء في مقام اللإطالة بـ (سوف) وفي مقام الإيجاز بالسين. ونحوه قوله تعالى: {ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيما} [النساء: 74]. وقوله: {فأما الذين أمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} [النساء: 175]. فأنت ترى أنه في الآية الأولى قال (فسوف نؤتيه) وفي الثانية قال: (فسيدخلهم في رحمة منه) وذلك للسبب نفسه، فإن الآية الأولى في سياق القتل والشهادة الذي يبدأ بالإيماء إلى الشهادة في قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول .. والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69]. ويستمر بالتحريض على القتال: {يأيها الذين أمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} [النساء: 71]، وتستمر آيات القتال، ومقدارها عشر آيات، بخلاف آية المؤمنين فإنها آية واحدة وهي الآية المذكورة وتأتي بعدها آية المواريث. فاقتضي المقام أن يؤتي بـ (سوف) الكثيرة الحروف في مقام الإطالة، والسين في مقام الإيجاز. وقد يكون القصد إظهار أن ما يدعدون به قريب فيؤتى لذلك بالسين وذلك نحو قوله تعالى: {سأصليه سقر} [المدثر: 26]، وقوله: {سندع الزبانية} [العلق: 18]، وقوله: {سنفرغ لكم أية الثقلان} [الرحمن: 31]، فجاء بالسين للدلالة على أن ذلك قريب الوقوع وهو نظير قوله تعالى: {إنا أنذرناكم عذابا قريبًا} [النبأ: 40]، وقوله: {أتي أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1]. فأنت ترى أنه يستعمل كلا منهما حسبما يقتضيه المقام.

فعل الأمر

فعل الأمر وهو طلب الفعل بصيغة مخصوصة (¬1).، وصيغته (افعل) نحو (اذهب)، ويكون بحذف حرف المضارعة من الفعل المضارع، ولا يكون بصيغته المعلومة إلا للمخاطب، وإما غير المخاطب فيؤمر باللام نحو {ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77]، و (لأذهب معكم). وقد يخرج الأمر عن معناه الحقيقي إلى المجاز، ومن أشهر معانيه المجازية: 1 - الإباحة، نحو: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2]. 2 - الدعاء، نحو: {رب اغفر لي ولوالدي} [نوح: 28]. 3 - التهديد، نحو: {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40]، وكأن تقول لابنك مهددا (العب ولا تدرس). 4 - التوجيه والإرشاد، نحو: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]، و (احفظ الله يحفظك). 5 - الإكرام، نحو: {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر: 46]. 6 - الإهانة، نحو: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49]. 7 - الاحتقار، نحو: {فاقض ما أنت قاض} [طه: 72]. 8 - التسوية: نحو: (افعل أو لا تفعل) ونحو قوله: {فاصبروا أو لا تصبروا} [الطور: 16]. 9 - الامتنان، نحو: (كل مما أنفق عليك)، ونحو: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [الملك: 15]. ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 7/ 58

زمنه

10 - العجب، نحو: (انظر ماذا يصنع)، و {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} [الإسراء: 48]. 11 - التكذيب، نحو: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها} [آل عمران: 93]، إذ القصد إظهار كذب ادعائهم. 12 - التعجيز، نحو: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23]، إذ ليس المراد طلب ذلك منهم، بل إظهار عجزهم، ونحو قوله: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} [البقرة: 31]. 13 - الإذلال، نحو: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65]، فليس المخاطب مكلفا أن يفعل شيئا. 14 - اظهار القدرة وفي هذا يكون المخاطب غير مأور بأن يحدث فعلا، نحو: {قل كووا حجارة أو حديدًا} [الإسراء: 50]، : " يعني لو كنتم حجارة أو حديدًا، لأعدناكم، الم تسمع إلى قوله حاكيا عنهم، ومجيبا لهم (فسيقولون من يعيدنا؟ قل الذي فطركم أول مرة) فهذا يبين لك أن لفظ الأمر في هذا الموضع، تنبيه على قدرته سبحانه" (¬1). إلى غير ذلك من المعاني. زمنه: يقول النحاة: " والأمر مستقبل أبدًا، لأنه مطلوب به حصول ما لم يحصل، أو دوام ما حصل نحو: {يأيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1]. قال ابن هشام: إلا أن يراد به الخبر، نحو: (إرم ولا حرج)، فإنه بمعنى رميت، والحالة هذه وإلا لكان أمرًا بتجديد الرمي وليس كذلك (¬2). ¬

_ (¬1) أمالي ابن الشجري 1/ 270، وانظر الاتقان 2/ 81 (¬2) الهمع 1/ 7

من هذا القول يتبين أن زمن فعل الأمر كما يرى النحاة، هو الاستقبال، وقد يراد به دوام ما حصل. والحق أن تحديد زمن فعل الأمر بما هو مذكور في هذا القول فيه نظر، إذ هو أوسع من ذلك. 1 - فقد يكون فعل الأمر دالا على الاستقبال المطلق، سواء كان الاستقبال قريبًا أم بعيدًا، فمن المستقبل القريب أن تقول مثلا (أغلق النافذة) و (افتح الباب) وكقوله تعالى: {فافعلوا ما تؤمرون} [البقرة: 68]، وقوله: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94]. ومن البعيد قوله تعالى: {ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما} [الفرقان: 65]، وقوله: {وآتنا ما وعدتنا على رسلك} [آل عمران: 194]، وكقولك: (رب ادخلني الجنة). 2 - وقد يكون دالا على الحال وذلك نحو قوله تعالى: {ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 48 - 49]، فزم الذوق مصاحب لصب الحميم، ومثله قوله تعالى: {يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} [الذاريات: 13 - 14]، فزمن الذوق هو زمن تعذيبهم في النار. ومثله قوله تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر} [القمر: 48]. وهذا كله واضح في أنه للحال، ونحو ذلك أن تقول لمن لا يعلم ماذا خبئ لع، وماذا يراد به وهو يضحك ويصخب (أضحك قبل أن تبكي) ونحوه قوله تعالى: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} [التوبة: 82]، فالضحك للحال، والبكاء في الاستقبال. 3 - الأمر الحاصل في الماضي، وذلك نحو قوله تعالى: {فلما دخلوا على يوسف آوي إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} [يوسف: 99]، فقوله: (ادخلوا مصر) كان بعد دخولهم إياها فهو أمر يفيد المضي.

ونحوه قوله تعالى: {إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر: 45 - 46]، فقوله (ادخلوها) كان بعد دخلوهم الجنة، يدل على ذلك قوله {إن المتقين في جنات وعيون}. ونحو ذلك قوله تعالى: {ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر} [القمر: 38 - 39]، فقوله: (فذوقوا عذابي ونذر كان بعد تصبيحهم العذاب وذوقه. وهذا له نظائر في الكلام، فقد تقول لشخص قتل بسبب فعلة سوء فعلها: (ذق عاقبة ما فعلت) وتقول: (اشرب من الكأس التي جرعتها لغيرك). وهذا كله أمر واقع في الزمن الماضي. ومن ذلك قول المنصور بعد ما قتل أبا مسلم. اشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم زعمت أن الدين لا يقتضي ... كذبت فاستوف أبا مجرم ومن دلالة فعل الأمر على المضي قوله صلى الله عليه وسلم لشخص رمي في الحج بعد الذبح (ارم ولا حرج) فليس القصد امره بالمرمي في المستقبل، لأن الرمي قد حصل في الماضي وإنما المعنى هو الموافقة على ما فعل، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: رميت بعدها أمسيت، (افعل ولا حرج) فهذا من باب الاقرار على ما حصل، والموافقة عليه، وليس من باب طلب القيام بالفعل مرة أخرى، فقد دل فعل الأمر على المضي كما هو ظاهر. ونحو هذا أن يقول لك شخص: إني هجوت فلانًا وسببته. فتول له: اهجه وسبه، موافقا على ما فعل، وليس القصد تكرار الهجاء والسبب، ومثله قولك لمن شرب دواء أو شرابا: (اشرب بالهناء والشفاء) وهو قد شربه، فالفعل دل ههنا على المضي وليس القصد الأمر بالشرب.

ومن دلالة فعل الأمر على المضي أن تقول: (كن قد اطعت وسمعت لفلان) و (كن قد نفذت وصيتي) و (لتكن قد فعلت الخير) فهذا كله من باب الأمر الواقع في الزمن الماضي وهو مقابل النهي عن امر حدث في الزمن الماضي في نحو قولك: (لا تكن قد أسألت إليه) و (لا تكن قد غششت أحدًا). والحق أنه ليس في يدي شاهد على نحو قولنا (كن قد أطعت له) ولكن مؤدي قول النحاة جواز ذلك، فإنهم جوزوا وقوع الفعل الماضي خبرا لكان، وشواهده كثيرة من القرآن وغيره، وذلك نحو قوله تعالى: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل} [الأحزاب: 15]، وقوله: {عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون} [النمل: 72]، وقوله: {وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} [الأعراف: 185]، وقوله: {لا ينفع نفسا إيمانها لو تكن آمنت من قبل} [الأنعام: 158]، وقوله: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء: 23]. قال امرء القيس: وإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ولم يستثنوا وقوعه خبرا لأمر " كان"، مع أنهم ذكروا ما لا يصح وقوعه خبرا للأفعال الناقصة، فقد ذكروا أن خبر الأفعال الناقصة لا يكون جملة طلبية، ولا يكون خبر صار وما بمعناها ماضيا (¬1). وعلى آية حال فالشواهد كثيرة على دلالة الأمر على الماضي، وذكرنا ما فيه الكفاية. 4 - الأمر المستمر: وذلك نحو قوله تعالى: {وقولوا للناس حسنا} [البقرة: 83]، قوله: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135]، وقوله في معاملة الأبوين: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقما: 15]، وقوله: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [الملك: 15] وقوله: {وأوحي ربك إلى النخل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما ¬

_ (¬1) انظر الهمع 1/ 13

يعرشون} [النحل: 68]، وقوله: {فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم} [طه: 53 - 54]، فهذا الأمر كله مطلوب استمراره والعمل به على وجه الدوام. وقد يكون الأمر مستمرًا إلى أجل، أو مشروطًا بشرط، وذلك نحو قوله تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} [التوبة: 4]، وقوله: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7]، فالاستقامة لهم مشروطة باستقامتهم هم، ونحو قوله صلى الله عليه وسلم: " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله" فالسمع والطاعة مشروطان بإقامة كتاب الله. والأمر المستمر له صورتان: أ - الأمر باستمرار ما هو حاصل، وذاك نحو قوله تعالى: {يأيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1]، فالمطلوب هو الاستمرار على التقوى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم متقٍ الله قبل نزول الآية. ونحو قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136]، فقد طلب منهم الاستمرار والثبات على الإيمان لا أن يحدثوا إيمانا جديدًا لم يكن في قلوبهم، فإنهم مؤمنون قبل نزول هذه الآية، ألا ترى أنه خاطبهم بقوله (يا أيها الذين آمنوا)؟ ونحوه قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238]، فإنهم مقيمون للصلاة محافظون عليها قبل نزول هذه الآية، ومثله قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} [هود: 112]، وقوله: {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم} [الأحزاب: 43]، وقوله: {يا أيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 72]، فقد طلب منهم الاستمرار على اختيار الطيبات من الرزق، فإنهم ولا شك كانوا يأكلون مما رزقهم الله قبل نزول هذه الآيةن وإلا فمن أي شيء كانوا يأكلون؟ فهذا كله من باب الأمر بالاستمرار على ما هو حاصل وطلب الثبات والمداومة عليه. وقد يكون الأمر تهديدا لمن كان على حالة غير مرضية، وذلك نحو قوله تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} [الحجر: 3]، وقوله: {فذرهم في غمرتهم حتى حين} [المؤمنون: 54]، فيقول له: اترك هؤلاء مستمرين على ما هم عليه فسوف يرون جزاءهم.

ب - الأمر بفعل لم يكن حاصلا وطلب الاستمرار عليه، وذلك نحو قولك: (حافظ على ما سأعطيك ولاتفرط فيه أبدًا)، ونحو قولك (اكتم ما سأخبرك به ولا تخبر به أحدا) قال تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125]، فقد طلب الله من المسلمين أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وليس ذلك موقوتا بزمن، بل الأمر مستمر لا ينقطع، ونحوه قوله: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144]، وهذا الأمر مستمر من حيث الأمر به إلى قيام الساعة، ونحو قوله: {يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 278]، فقوله: {وذروا ما بقي من الربا} أمر بالانتهاء عن الربا بصورة دائمة، ونحوه قوله: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90]، وقوله: {قال أنظرني إلى يوم يبعثون} [الأعراف: 14]، وقوله: {يآيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر} [المدثر: 1 - 5]. فقد أمره بالإنذار على وجه الدوام. فكل ذلك مما يفيد طلب الفعل في المستقبل، ثم الاستمرار والمداومة عليه. ثم إن الأمر المستمر له صورتان تعبيريتان شائعتان: أحدهما: أن يؤمر بالفعل نفسه، نحو ما مر من قوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} وقوله: {قم فأنذر}. والأخرى: أن يؤتى بأمر (كان) ويؤتى بالخبر اسما للدلالة على طلبه الانصاف بالحدث على وجه الثبوت، وذلك نحو قولنا (كن حافظًا للعهد) ونحو قوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} فالفرق بين قولك (احفظ العهد) و (كن حافظا للعهد) هو ما مر من الفرق بين الاسم والفعل من أن الفعل يفيد الحدوث والتجدد والاسم يفيد الثبوت، فمعنى (كن حافظا للعهد) لتكن هذه صفتك الثابتة، واظنك ترى الفرق واضحا بين قولنا (اطلع) و (كن مطلعا) و (تعلم) و (كن متعلما) وقد مر في مثل هذا ما فيه الكفاية.

والقياس يجيز أن يكون خبر أمر (كان) فعلا مضارعًا، نحو (كونوا تحافظون عل العهد) و (كونوا تقولون الحق) وهو نوع من أنواع الأمر المستمر، غير أني لم أحفظ شاهدًا عليه. وقد ورد خبر النهي فعلا مضارعًا، والنهي مقابل للأمر، وذلك نحو قول المغيرة ابن جبناء: خذ من أخيك العفو واغفر ذنوبه ... ولا تكفي كل الأمور تعاتبه فإذا جاز وقوع خبر النهي فعلا مضارعا جاز وقوع خبر الأمر مضارعًا أيضا. وأما الأخبار عن أمر (كان) بأمر، فقد منعه النحاة وشذذوا ما ورد من نحو قوله: وكوني بالمكار ذكريني فقد ذكروا أن خبر الأفعال الناقصة لا يكون جملة طلبية كما أسلفنا. 5 - وربما كان فعل الأمر مطلقا غير مقيد بزمنن لكونه دالا على الحقيقة أو لكونه دالا على التوجيه والحكم أو لغير ذاك، وذلك كقوله: كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك محموده عن النسب فهو لا يأمرك بأن تكون ابن من شئت على وجه الحقيقة، فليس بمقدورك ذاك وإنما القصد أن يأمرك باكتساب الأدب ولا يهم بعد ذلك أن تكون ابن من ممن خلق الله. فقوله (كن ابن من شئت) لا يدل على زمن ما وإنما هو ذكر لحقيقة من حقائق الحياة، وهي أن الأدب يغني عن النسب، ونحوه قوله (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) فهذا لا يقصد به التعرف إلى الله والالتجاء إليه في وقت دون وقت، وإنما هو من باب التوجيه للالتجاء إليه في كل وقت، إذ من المعلوم أن أغلب الناس تبطرهم الراحة وينسيهم الرخاء، فهم لا يلتجئون إلى الله إلا في وقت الشدة والضيق، ونزول المكروه، فيقول لهم إذا أردتم ان يعينكم الله ويخلصكم مما تقعون فيه من محن وكروب، فالتجئوا إليه واعرفوا له حقه في كل وقت.

ومن باب الحقائق أن تقول مثلا: (احترم الناس يحترموك وتواضع لهم يرفعوك) فهذه قاعدة عامة وحقيقة مطلقة غير مقيدة بزمن، فمن احترم الناس احترموه، ومن تواضع لهم رفعوه. وقد يكون فعل الأمر غير مطلوب حصوله، بل إنما يذكر للتحذير منه، وذلك كأن تقول: (تواضح للناس يحبوك واستعل عليهم يبغضوك) فانت لا تأمره بالاستعلاء على الناس، وإنما تحذره منه فتقول له: إذا استعليت على الناس أبغضوك، ونحوه أن تقول: (اكذب مرة تفقد ثقة الناس ولو صدقت بعدها ألف مرة)، فأنت لا تأمره بالكذب وإنما تحذره منه. ونحوه أن تقول: (اعمل خيرا تلق خيرا، واعمل شرا تلق شرا) وأن تقول: (ازرع شوكا تجن شوكا) ومنه المثل المشهور (سمن كلبك يأكلك). فأنت لا تأمره بعمل الشر، ولا بزرع الشوك وإنما أنت تحذره من مغبة فعل السوء، وهذا كله من باب الحقائق المطلقة غير المقيدة بزمن. وقد يكون استعمال فعل الأمر في الدلالة على الحقيقة على نحو آخر، وذلك نحو ما روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي رجلا مبيضا (¬1). يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كن أبا خيثمة) فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري. فقوله صلى الله عليه وسلم: (كن أبا خيثمة) ليس أمرا بأن يكون الشخص على غير حقيقة، بل أراد أن يكون هذا الشخص القادم هو من ذكر، أو وقع في روعه ذاك. ونظير هذا أن تقول على جهة الحدس، أو التمنى، أو نحوهما (كن فلانا) أو (كن كذا وكذا) فتطلب أن يصدق حدسك أو متمناك وذلك كأن تسمع خشخشة شخص، أو حركة ويقع في نفسك أنه (محمود) مثلا، فتقول: (كن محمودا) فأنت لا تأمر الشخص أن يكون على غير حقيقته، وإنما تطلب أن يصدق حدسك وما وقر في نفسك. ¬

_ (¬1) أي: لابس البياض

وقد تقوله على جهة التمنى، فقد تسمع حركة أو نأمة، وتتمنى أن يكون صاحب هذه الحركة، خالدا فتقول (كن خالدا) ونحوه أن تري شخصا قادمًا من بعيد، وأنت جائع عطشان، فتقول: (كن شخصا يحمل الماء والطعام)، وقد يأتي أحد أقاربك بظرف مليء فتتمني أن يكون ما فيه عسلا مثلا، فتقول (كن عسلا) أو ليكن ما فيه عسلا، تقول ذلك متمنيا. فهذا ونحوه ليس أمرًا بشيء، وإنما تطلب أن تكون الحقيقة على ما تذكر. وقد نستعمل فعل الأمر بطريقة اخرىن فقد تقول مثلا (أخفق ثم أخفق، ولكن لا تيأس) فأنت ههنا لا تأمره بالإخفاق، ولا تحذره منه، ولكنك تقول إذا أخفقت فلا تيأس، فأنت توجهه إلى عدم اليأس عند الاخفاق. وهو كما ترى أيضا خال من الدلالة على زمن معين. قد تبين أن زمن الفعل الأمر لا ينحصر فيما ذكره النحاة.

أسماء الأفعال

أسماء الأفعال وهي ألفاظ تؤدي معاني الأفعال، ولا تقبل علاماتها وليست هي على صيغها فسماها النحاة أسماء الأفعال. وهي عند جمهور النحاة أسماء لأن قسما منها يقبل بعض علاماته، كالتنوين وذلك نحو صهٍ وأفٍّ والألف واللام، نحو (النجاءك) وليست هي عند النحاة بمنزلة بين الأسماء والأفعال أي قسما رابعا من أقسام الكلام، ولذلك سموها بأسماء الأفعال، كما ذهب إليه بعضهم (¬1). بل هي أسماء حقيقية (¬2). عندهم. قال سيبويه: "واعلم أن هذه الحروف التي هي أسماء للفعل، لا تظهر فيها علامة المضمر، وذلك لأنها أسماء (¬3). وقال ابن مالك: والأمر إن لم يك للنون محل ... فيه هو اسم نحو صه وحيهل وسميت (أسماء الأفعال) بهذا الاسم، لأنها أسماء تؤدي معاني الأفعال، كما تؤدي المصادر أحيانا معاني الأفعال، في نحو قولك (سكوتا) بمعنى (اسكت) و (انكفافا) بمعنى (انكف)، و (صبرا) بمعنى (اصبر) غير أن هذه مصادر معربة وأسماء الأفعال مبنية غير متصرفة، وذلك نحو (صه) اسم للفعل اسكت، فهو بمعنى (سكوتا) و (مه) اسم للفعل (انكفف)، بمعنى (انكفافا). وهكذا بقية أسماء الأفعال، والذي حملهم على أن قالوا إن هذه الكلمات وأمثالها ليست بأفعال، مع تأديتها معاني الأفعال، أمر لفظي وهو أن صيغها مخالفة لصيغ الأفعال، وأنها لا تتصرف تصرفها ويدخل اللام على بعضها والتنوين في بعض، وظاهر كون بعضها ظرفا وبعضها جارا ومجرورًا (¬4). ¬

_ (¬1) في النحو العربي 140 (¬2) حاشية الخضري على شرح ابن عقيل 2/ 89 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 123، وانظر المقتضب 3/ 302 (¬4) شرح الرضي على الكافية 2/ 73

التنوين الداخل عليها

وذهب الكوفيون إلى أنها أفعال، لدلالتها على الحدث والزمان، وذهب ابن صابر إلى أنها قسم رابع زائد على أقسام الكلام الثلاثة سماه الخالفة (¬1). ومذهب الكوفيين بعيد، في نحو (رويد خالدا) و (بله زيدا) و (النجاءك)، ومكانك وعليك، فإن رويد وبله مصدران معلومان يستعملان مصدرين، نحو (رويد خالد) و (بله محمد) يجر ما بعدها. ويستعملان اسمي فعل، نحو (رويد خالدا) و (بله محمدا) بنصب ما بعدهما (¬2). و(النجاءك) مصدر محلي بأل، ومكانك ظرف، وعليك جار ومجرور، فجعل أسماء الأفعال أفعالا فيه نظر. وعلى أي حال لا خلاف بين النحاة في أنها تؤدي معاني الإفعال سواء قلنا باسميتها أم بفعليتها. التنوين الداخل عليها: يدخل التنوين على قسم من هذه الألفاظ، وذلك نحو صهٍ وايهٍ وافٍ، وهذا التنوين عند الجمهور يفيد التنكير، فإذا قلت (صه) بالتسكين كان أمرا له بالسكوت عن حديث معين وإذا قلت (صهٍ) بالتنوين كان أمرًا له بالسكون عن كل حديث، فيكون معنى (صه) السكوت، و (صهٍ) سكوتا، وهكذا (إيهِ) و (إيهٍ) فإن (إيهِ) بلا تنوين طلب الاستزادة من حديث معين (وايهٍ) طلب الاستزادة من أي حديث يشاء المتكلم، ومعنى (مهٍ) بالتنوين انكفافا، ومعنى (مهْ) بالتسكين الانكفاف. قال سيبويه: وزعم - أي الخليل - أن بعضهم قال (صهٍ) ذلك أرادوا النكرة، كأنهم قالوا سكوتًا" (¬3). ¬

_ (¬1) همع الهوامع 2/ 105 (¬2) شرح ابن الناظم 250 (¬3) كتاب سيبويه 2/ 53

وجاء في (الأمالي الشجرية): " ومن نونه أراد به التنكير، لأن تنوين هذا الضرب علم للتنكير كقولهم في المسزادة من الحديث (إيهٍ) إذا أرادوا حدثني حديثا ما، و (ايهِ) من حديث يعرفه المحدث، والمحدث ومثله صهٍ وصه، ومهٍ ومه، فمن نون فكأن قال: افعل سكوتا واكفا، ومن لم ينون فكأنه قال افعل السكوت وكذلك من قال (اف) فنون أراد أتضجر تضجرا، ومن لم ينون فهو بمنزلة اتضجر التضجر المعروف (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأما التنوين اللاحقة لبعض هذه الأسماء فعند الجمهور للتنكير، .. فصهٍ بمعنى سكوتا، وايه بمعنى زيادة فيكون المجرد من التنوين مما يلحقه التنوين كالمعرف، فمعنى (صه) اسكت السكوت المعهود المعين، وتعيين المصدر بتعيين متعلقه أي المسكوت عنه، أي إفعل السكوت عن هذا الحديث المعين، فجاز على هذا أن لا يسكت المخاطب عن غير الحديث المشار إليه، وكذا (مه) أي كف عن هذا الشيء و (ايه) أي هات الحديث المعهود، فالتعريف في المصدر راجع إلي تعريف متعلقه. وأما التنكير فكأنه للإبهام والتفخيم، كما في قوله: ألا أيها الطير المربة بالضحى ... على خالد لقد وقعت على لحم أي لحم وأي لحم، فكان معنى صه اسكت سكوتا، واي سكوت، أي سكوتا بليغا أي اسكت عن كل كلام (¬2). وذهب ابن السكيت والجوهري إلى أن التنوين فيما يدخل عليه منها، دليل الوصول وحذفه دليل القطع، فإذا وصلت في الكلام نونت، وإذا وقفت حذفت، فتقول صه صه بتنوين الأول وسكون الثاني (¬3). ¬

_ (¬1) الأمالي الشجرية 1/ 391 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/*77 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 77

وذهب الرضي إلى التنوين الداخل عليها تنوين الحاق، وتنوين مقابلة، كما قيل في تنوين مسلمات، قال: ونستريح إذن بما تكلفناه لتوجيه التنوين (¬1). وقال الدكتور سليم النعيمي: " ولا نعتقد أن لديه دليلا يؤيد ما يقولون من أن (صه) بلا تنوين تدل على طلب السكوت عن حديث معين، وأن (صه) بالتنوين تدل على طلب السكوت عن كل حديث وأن الذي يقول (اف) بغير تنوين يريد التضجر المعروف ومن يقل (افٍّ) بالتنوين يريد تضجرا غير معروف. بل الذي نراه أن (صهٍ) بالتنوين أبلغ في الزجر وطلب السكوت، من التي لم تنون لزيادة لفظها، وكذل الذي يقول (افٍّ) بالتنوين، فإنه يعبر عن ضجر بلغ في نفسه درجة يحتاج للترفيه عنها صوتا أطول من صوت (اف) غير منونة" (¬2). وما ذهب إليه النحاة في التفريق بينهما مقبول من ناحية مردود، من ناحية، وذلك أن التنوين هنا يفيد العموم والشمول، فما نون يكون اعم وأشمل مما لم ينون، فإذا قلت صه أردت السكوت التام المطبق، وكذلك أيه فإنه يراد به الحديث العام الشامل لأن التنكير قد يفيد العموم نحو (عنده مال) و (هو ذو علم ومعرفة ونشاط وقوة). أما قولهم أن (صهٍ) معناه سكوتا، و (صه) معناه السكوت، وكذلك الباقي فهذا مردود ومغاير لتفسيرهم، فإن السكوت ليس معناه: اسكت عن حديث معين، وإنما هو تعريف للسكوت لا للمسكوت عنه، أي اسكت السكوت المعهود، فقولك (افعل سكوتا) لا يفيد نصا أن المسكوت عنه عام، ولا (افعل السكوت) يدل على أن المسكوت عنه خاص، بل يصح أن يقال (سكوتا عن هذه المسألة) فيكون خاصا، كما يصح أن يقال (السكوت عن كل حديث) فيكون عامًا. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 90 - 91 (¬2) اسم الفعل دراسة وطريقة تيسير - بحث في مجلة المجمع العلمي - المجلد السادس غير ص 68

فائدتها

ثم إننا لا نقول - كما يقولون - إن كل ما لم يدخله التنوين يكون معرفة فيكون نزال معرفة وهيهات معرفة، إذ لا معرفة لتعريف نزال وهيهات وأشباههما، وإنما نقول فقط أن ما دخله التنوين منها يفيد العموم والشمول، بخلاف ما لم يدخله والله أعلم. فائدتها إن فائدة أسماء الأفعال الدالة على الطلب هي المبالغة والتوكيد، فـ (صه) مثلا آكد وأبلغ في الزجر من (اسكت) و (مه) آكد وأبلغ من انكفف، و (حي) آكد وأبلغ من (أقبل) وذلك لأنه يراد بها الحدث المجرد، ألا ترى أنها لا تتصل بالضمائر صاحبة الحدث، فلا يقال صها ولا صهوا، كما يقال اسكتا واسكتوا، بل يقال بلفظ الأفراد دوما وذلك اكتفاء بالحدث. ويدل استعمالنا لها في اللغة الدارجة على ذلك، فـ (اص) أو (هص) مقلوب (صه) أبلغ في الزجر من اسكت وأشد، وقد نستعملها في المواقف التي تستوجب الصمت المطبق كأن يكون موقف رعب، أو موقف يستدعي الصمت لسماع شيء مهم. وكذلك (مكانك) أبلغ من (اثبت مكانك) و (عليك نفسك) أبلغ من (الزم عليك نفسك) لما فيه من الاختصار والسرعة. وما كان بمعنى الخبر يفيد التعجب إضافة إلى المبالغة والتوكيد، وذلك نحو (هيهات الأمل) أي ما أبعده، قال تعالى: {هيهات لما توعدون [المؤمنون: 36]} وشتان زيد وخالد أي ما أشد الافتراق بينهما و (وي لخالد) أي ما أعجب أمره. واستعمالنا في الدارجة يؤكد هذا المعنى، فنحن نقول هيهات لما كان بعيدًا جدًا، ونستعمل (وي) مكررة ومفردة للتعجب، فنقول (وي وي) إذا كان ثمة أمر يدعو إلى العجب، ونستعمل (اف) للتضجر الشديد.

قال ابن يعيش: " والغرض منها الإيجاز والاختصار ونوع من المبالغة .. ووجه الاختصار فيها، مجيئها للواحد والواحدة، والتثنية، والجمع، بلفظ واحد وصورة واحدة، ألا ترى أنك تقول في الأمر للواحد: صه يا زيد، صه يا زيدان، وفي الجماعة صه يا زيدون، وفي الواحدة: صه يا هند وصه يا هندان وصه يا هندات. ولو جئت بمسمى هذه اللفظة وهو اسكت، واسكتا للاثنين، واسكتوا للجماعة، واسكتي للواحدة المخاطبة، واسكتن لجماعة المؤنث، فتركهم اظهار علامة التأنيث والتثنية والجمع .. دليل على ما قلناه من قصد الإيجاز والاختصار. وأما المبالغة فإن قولنا (صه) أبلغ في المعنى من اسكت وكذلك البواقي (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): ومعاني أسماء الأفعال، أمرًا كانت أو غيره أبلغ وآكد من معاني الأفعال التي يقال أن هذه الأسماء بمعناها. أما ما كان مصدرًا في الأصل، والأصوات الصائرة مصادر ثم أسماء الأفعال فلما تبين في المفعول المطلق فيما وجب حذف فعله قياسا. وأما الظروف والجار والمجرور، فلأن نحو أمامك، ودونك زيدًا بنصب (زيدًا) كان في الأصل: أمامك زيد ودونك زيد فخذه فقد أمكنك، فاختصر هذا الكلام الطويل لغرض حصول الفراغ منه بالسرعة، ليبادر المأور إلى الإمتثال قبل أن يتباعد عنه. وكذا كان أصل (عليك زيدا) وجب عليك أخذ زيد، و (إليك عني) أي ضم رحلك وثقلك إليك واذهب عني، و (وراءك) أي تأخر وراءك، فجرى في كلها الاختصار لغرض التأكيد. وكل ما هو بمعنى الخبر ففيه معنى التعجب، فمعنى هيهات أي ما أبعده، وشتان أي ما أشد الافتراق، وسرعان ووشكان أي: ما أسرعه، وبطآن أي ما أبطأه، والتعجب هو التأكيد المذكور (¬2). ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 4/ 25 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 76 - 82 - 83، وانظر الصحاح للجوهري 1/ 36 - 37 بطآن

أقسامها

أقسامها يقسم النحاة أسماء الأفعال إلى مرتجلة ومنقولة: فالمرتجلة ما وضع من أول الأمر كذلك، نحو صه، ومه، ووي، وره، وحي. والمنقولة: ما نقل عن ظرف أو جار ومجرور، أو مصدر، نحو مكانك، بمعنى اثبت، وإليك، بمعنى ابتعد، ورويدك بمعنى أمهل (¬1). وأسماء الأفعال على أقسام، منها ما هو أصوات تشير إلى أحداث، وذلك نحو (صه، ومه واف (¬2). ووى، وآه، وايه، وبس) فهذه في الحقيقة أصوات تشير إلى أحداث معينة فالمتكل يصدر هذه الأصوات يرمز بها إلى حدث متعارف عليه، ومنها ما هو ظرف وجار ومجرور، كان في الأصل يستعمل مع متعلقه، أو جزءا من جملة وبكثرة الاستعمال حذف متعلقه أو الجزء الآخر، وأصبح الاكتفاء به يدل على معنى معين، وذلك العنى هو معنى الفعل. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأما الظروف والجار، فلأن نحو أمامك ودونك زيدا بنصب زيدا، كان في الأصل: أمامك زيد ودونك زيد، فخذه فقد أمكنك، فاختصر هذا الكلام الطويل لغرض حصول الفراغ منه بالسرعة ليبادر المأمور إلى الإمتثال قبل أن يتباعد عنه. وكذا كان أصل (عليك زيدًا) وجب عليك أخذ زيد، وإليك عني، أي ضم رحلك وثقلك إليك واذهب عني، ووراءك أي تأخر وراءك، فجرى في كلها الاختصار لغرض التأكيد (¬3). ¬

_ (¬1) انظر التصريح 2/ 197 (¬2) جاء في (مفردات الراغب الأصفهاني) ص 19 أن: أصل الأف كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراها. ويقال ذلك لكل مستخف استقذارا له نحو (اف لكم ولما تعبدون من دون الله) وقد اففت لكذا إذا قلت ذلك استقذارا له ومن قيل للضجر من استقذار شيء أفف فلان" (¬3) شرح الرضي 2/ 76

فعال

ومنها ماله مادة لغوية معلومة، سواء كانت مصدرا أم غيره، فالمصدر نحو (رويد) تصغير (إرواد) تصغير ترخيم ومعناه الإمهال، ونحو (حذرك) بمعنى احذر، و (بله) بمعنى دع (والنجاءك) بمعنى انج، و (فرطك) بعنى تقدم. وغير المصدر نحو (بطأن) من البطء، و (سرعان) من السرعة، و (شتان) من الشت، وهو التفرق والتباعد. وقسم منها مختلف في أصله ومادته، أو مجهول، وذلك نحو (هيت وهلم، وآمين وهيهات) (¬1). وأيا كان الأصل فهي تؤدي معاني معلومة. فعال يصاغ من الفعل الثلاثي على وزن (فَعالِ) بفتح الفاء وكسر اللام، قياسا عند بعضهم، وسماعا عند بعضهم (¬2). لقصد الأمر نحو (سَماعِ) بمعنى اسمع (وكَتابِ) بمعنى اكتب و (حَفاظِ) بمعنى احفظ، و (حذار) بمعنى احذر. وهذه الصيغة يراد بها التوكيد والمبالغة (¬3). فـ (سماع) آكد من اسمع، و (حذار) آكد وأبلغ في الأمر من احذر، يدلك على ذلك أن هذه الصيغة تدل على المبالغة عمومًا في اسم الفعل، أو في غيره نحو (يا خباث) ويا (فساقِ) ونحو (حَلاقِ) للمنية، و (أَزامِ) للسنة، و (صَرامِ) للحرب، وغيرها. والخلاف في هذه الصيغة في كونها فعلا أو اسمًا، هو الخلاف في عموم أسماء الأفعال، وعلى آية حال فدلالتها معلومة، سواء قلنا هي اسم أم فعل. ¬

_ (¬1) جاء في رسالة (أسماء الأفعال والأصوات - دراسة ونقد) لعبد الهادي الفضلي أن أصل (آمين) (هبت) سريانية وعبرانية، و (هيت) قبطية ص 198 (¬2) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 85، التصريح 2/ 196 (¬3) انظر شرح الرضي على الكافية: 2/ 85، شرح ابن يعيش 4/ 50، المخصص 17/ 65 - 66

أسماء الأصوات

وعلى هذا يكون للأمر أربع صيغ: 1 - فعل الأمر، نحو اذهب، وقم. 2 - الفعل المضارع المتصل بلام الأمرن نحو ليقم وليذهب. 3 - أسماء الأفعال، سواء ما كان منها قياسيًا، وهو ما كان على وزن (فعال) بفتح الفاء وكسر اللام، أم ما كان مسموعًا، نحو صه، ومه، وحي، وهي كلها تفيد المبالغة والتأكيد (¬1). 4 - المصدر النائب عن فعل الأمر نحو صبرا وإقدامًا وهو يفيد المبالغة أيضًا. وقد يفيد الخبر الدلالة على الأمر، كما مر في قوله تعالى: {والوالدت يرضعن أولادهن} [البقرة: 223]، أي ليرضعن أولادهن. أسماء الأصوات أسماء الأصوات هي كل لفظ حكي به صوت، أو صوت به للبهائم، ولما لا يعقل عموما، فالأول نحو (قب) حكاية وقع السيف، و (طق) لوقع الحجارة، والثاني كـ (عدس) لزجر البغل، و (هيد) لزجل الإبل (¬2). وهي كما نرى مما مر على قسمين. الأول: حكاية صوت صادر عن الحيوانات أو عن الإنسان أو عن الجمادات وشرطها أن تكون مشابهة للمحكي فمن ذلك (غاق) حكاية صوت الغراب، و (ماء) صوت الظبية إذا دعت ولدها، و (طيخ) حكاية صوت الضاحك، و (عيط) حكاية صوت ¬

_ (¬1) انظر بحث: اسم الفعل - دراسة وطريقة تيسير للدكتور سليم النعيمي، مجلة المجمع العلمي العراقي 89 (¬2) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 89، شرح الألفية لابن الناظم 251

الفتيان إذا تصايحوا في اللعب، و (طق) حكاية صوت وقع الحجارة بعضها على بعض، و (قب) لوقع السيف (وقاش ماش) للقماش كأنه سمي باسم صوته (¬1). ونحوه (طب) حكاية لوقع الكرة على الأرض، و (دُم) حكاية صوت الطبل، و (قيق) حكاية صوت الدجاجة. الثاني: أصوات يصوت بها للحيوانات، عند طلب شيء منها، أما المجيء وأما الزجر نحو (عاه) و (هاب) لزجر الإبل، و (عوه) و (عه) للضأن والجحش، أو لأمر آخر كالشرب والتسكين والأمر بالسين وذلك كـ (سأ) للشرب، و (هدع) للتسكين (¬2). وعندنا في عامية أهل العراق (هوش) لتسكين الحمار، و (ده) لأمره بالسير. وأصلها: أن الشخص كان يقصد انقياد بعض الحيوانات لشيء من هذه الأفعال، فيصوت لها، إما بصوت غير مركب من الحروف، كالصفير للدابة عند إيرادها الماء وغير ذلك، إما بصوت معين مركب من حروف معينة لا معنى تحته، ثم يحرضه مقارنًا لذلك التصويت على ذلك الأمر، إما بضربه وتأديبه وإما بايناسه وإطعامه .. فلما كان الأفعال المطلوبة من الحيوانات مختلفة، أرادوا اختلاف العلامات الدالة عليها (¬3). وذكر الرضي من أسماء الأصوات قسمًا ثالثا، وهي الأصوات الخارجة عن فم الإنسان غير موضوعة وضعا، بل دالة طبعا على معان في أنفسهم، كـ (أف) و (تف) فإن المتكره لشيء يخرج من صدره صوتا شبيها بلفظ (اف)، ومن يبزق على شيء مستكره يصدر منه صوت شبيه بـ (تف). وكذلك (آه) للمتوجع، أو المتعجب، فهذه وشبهها أصوات صادرة منهم طبعا، كـ (اح) لذي السعال، إلا أنهم لما ضمنوها كلامهم لاحتياجهم إليها، نسقوها نسق ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 89 - 91، شرح الألفية لابن الناظم 251، كتاب سيبويه 2/ 63 (¬2) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 89 - 92، شرح ابن الناظم 251 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 89 - 90

التنوين الداخل عليها

كلامهم وحركوها تحريكه وجعلوها لغات مختلفة، كما مر من لغات (أ) و (اوه) (¬1). التنوين الداخل عليها: ذهب الجمهور إلى أن التنوين الداخل عليها، تنوين تنكير، فما نون منها نكرة، وما لم ينون معرفة. جاء في (الكتاب): " وزعم الخليل أن الذين يقولون غاق غاقِ، وعاء وحاءِ، فلا ينونون فيها ولا في أشبهاهها، أنها معرفة وكأنك قلت في عاءِ وحاءِ الاتباع، وكأنه قال الغراب هذا النحو، وأن الذين قالوا عاءٍ وحاءٍ جعلوها نكرة (¬2). وجاء في (شرح ابن يعيش): " وكذلك إذا قلت في حكاية صوت الغراب (غاق غاق) إذا نونت كان نكرة، ومعناه بعدًا بعدًا، أو فراقا فراقا لأن صوت الغراب يؤذن بالفراق عندهم، ولذلك سموه غراب البين، وكأنهم فهموا ذلك من لفظه، إذ كان الغراب من الغربة والاغتراب، وإذ أريد به المعرفة ترك منه التنوين نحو غاق وغاق (¬3). وقال الرضي أن التنوين الداخل عليها تنوين الحاق ومقابلة، قال في شرحه على الكافية: " والتنوين فيما دخلته تنوين الحاق ومقابلة، كما قيل في تنوين (مسلمات) وليس ما قاله بعضهم من أن تنوين غاق للتنكير بشيء إذ لا معنى للتعريف والتنكير فيه (¬4). ولعل التنوين الداخل عليها للوصل، فإذا وقف قطع نحو قولك غاق غاق وعاء وحاء والله أعلم. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 89 (¬2) كتاب سيبويه 2/ 53، وانظر المقتضب 3/ 180 (¬3) شرح ابن يعيش 4/ 71 (¬4) شرح الرضي على الكافية 2/ 90

الأساليب

الشرط

الشرط معنى الشرط أن يقع الشيء لوقوع غيره (¬1). أي أن يتوقف الثاني على الأول (¬2). فإذا وقع الأول وقع الثاني، وذلك نحو: (إن زرتني أكرمك) فالاكرام متوقف على الزيارة، ونحو قوله تعالى: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191]، وقوله: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 230]، وقوله: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280]. هذا هو الأصل، وقد يخرج الشرط عن ذلك فلا يكون الثاني مسببا عن الأول، ولا متوقفًا عليه، وذلك نحو قوله تعالى: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} [الأعراف: 176]، فلهث الكلب ليس متوقفًا على الحمل عليه، أو تركه، فهو يلهث على كل حال، وإنما ذكر صفته فقط، ونحو قوله: {فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} [آل عمران: 32]، والله لا يحب الكافرين سواء تولوا أم آمنوا، فليس الثاني مشروطا بالأول ولا مسببا عنه، ونحو قوله تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرا} [النساء: 19]، وقوله: {قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله} [يونس: 104]، فهو لا يعبد غير الله سواء شكوا أم آمنوا، وقوله: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} [النحل: 37]، وقوله: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} [فاطر: 14]، فهم لا يسمعون الدعاء سواء دعوهم أم لم يدعوهم، وقوله: {فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} [فصلت: 24]، والنار مثواهم صبروا أم لم يصبروا، وقوله: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك} [البقرة: 97]، وهو قد أنزله على قلبه سواء عادوه أم والوه، وقوله: {وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما} [النساء: 127]. وهو عليم بالأفعال خيرًا أو شرًا. ¬

_ (¬1) المقتضب 2/ 46 (¬2) البرهان 2/ 354

فليس الشرط على هذا، من باب السبب والمسبب دومًا، وإنما الأصل فيه أن يكون ذلك. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " قد لا يكون مضمون الشرط والجزاء متعقبا لمضمون الشرط، بل يكون مقارنا له في الزمان نحو: (إن كان هناك نار كان احتراق) و (إن كان احتراق فهناك نار) و (إن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق) لكن التعقب المذكور هو الأغلب" (¬1). وجاء في (حاشية الصبان): " الجزاء قسمان: أحدهما: أن يكون مضمونه مسببا عن مضمون الشرط، نحو (إن جئتني أكرمتك). والثاني: أن لا يكون مضمون الجزاء مسببا عن مضمون الشرط، وإنما يكون الإخبار به مسببا نحو (إن تكرمني فقد أكرمتك أمس) والمعنى إن اعتددت علي بإكرامك إياي، فأنا أيضا أعتد عليك بإكرامي إياك (¬2). وجاء في (البرهان): " وققال صاحب المستوفي: اعلم أن المجازاة لا يجب فيها أن يكون الجزاء موقوفا على الشرط أبدًا، ولا أن يكون الشرط موقوفا على الجزاء أبدًا بحيث يمكن وجوده، ولا أن تكون نسبة الشرط دائما إلى الجزاء نسبة السبب إلى المسبب، بل الواجب فيها أن يكون الشرط بحيث إذ فرض حاصلا لزم مع حصوله حصول الجزاء، سواء كان الجزاء قد يقع لا من جهة وقوع الشرط كقول الطبيب (من استحم بالماء البارد احتقنت الحرارة باطن جسده) لأن احتقان الحرارة قد يكون لا عن ذلك، أو لم يكن كذلك كقولك: (إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجودًا). وسواء كان الشرط ممكنا في نفسه، كالأمثلة السابقة، أو مستحيلا كما في قوله تعالى {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81]. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 1/ 272 (¬2) حاشية الصبان 4/ 22

فعل الشرط

وسواء كان الشرط سببًا في الجزاء ووصلته إليه، كقوله تعالى: {وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم} [محمد: 36] أو كان الأمر بالعكس، كقوله تعالى: {ما أصابك من حسن فمن الله} [النساء: 79]، أو كان لا هذا ولا ذاك، فلا يقع إلا مجرد الدلالة على اقتران أحدهما بالآخر، كقوله تعالى: {وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدًا} [الكهف: 57]، إذ لا يجوز أن تكون الدعوة سببا للضلال ومفضية إليه، ولا أن يكون الضلال مفضيا إلى الدعوة (¬1). فاتضح بهذا أن الشرط والجواب، ليسا دائمًا بمنزلة السبب والمسبب ولا ارتباطهما بهذه المنزلة دومًا. فعل الشرط يقع فعل الشرط ماضيا ومضارعًا، نحو قوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} [إبراهيم: 19]، وقوله: {وإن عدتم عدنا} [الإسراء: 8]. قالوا والماضي يفيد الاستقبال في الشرط، نحو قوله تعالى: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191]، ونحو: (إن زرتني أكرمتك) والمقصود أن تزرني. ومن المعلوم أن الفعل الماضي يخرج إلى الاستقبال في غير باب الشرط، كما أسلفنا في باب الفعل كما يخرج المضارع إلى المضي، فإنه قد يؤتى بالماضي مرادا به الاستقبال وذلك نحو قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله} [الزمر: 68]، وقوله: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} [الزمر: 73]. وقد يؤتى بالفعل المضارع مرادا به المضي، نحو قوله: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت} [فاطر: 9]، وقوله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102] أي ما تلت. ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 355 - 356

ومن المعلوم أن الفعل المضارع المسبوق بـ (لم) و (لما) يفيد المضي، فخروج الفعل من باب إلى باب آخر غير منكور في اللغة. وهو في الشرط كذلك فإن الماضي في الشرط يفيد الاستقبال كثيرا واستعمال الفعل الماضي في الشرط للدلالة على المستقبل، ليس مختصا بالعربية وحدها بل هو كثير في اللغات السامية أيضا، كالاكدية، والعبرية والحبشية، وأكثر اللغات السامية تستعمل الماضي في الشرط والحاضر أو المستقبل في الجزاء (¬1). غير أن العربية تستعمل الماضي والمضارع للشرط والجواب. وقد ذهب النحاة إلى أن القصد من مجئ الشرط ماضيا، وإن كان معناه الاستقبال، هو إنزال غير المتيقن منزلة المتيقن، وغير الواقع منزلة الواقع وهذا ما فسروا به التعبير عن الأحداث المستقبلة بأفعال ماضية، في غير الشرط أيضا، نحو قوله تعالى: {ونفخ في الصور} وقوله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدًا} [الكهف: 47]، قالوا جيء بهذه الأفعال على صيغة الماضي، وإن كانت مستقبلة للدلالة على أنها متيقنة الحصول، وأنها بمنزلة الفعل الماضي في التحقق. فهو تفسير عام للتعبير عن الأحداث المستقبلة بأفعال ماضية. جاء في (الخصائص): " وكذلك قولهم (إن قمت قمت) فيجيء بلفظ الماضي والمعنى معنى المضارع وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى، فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ الماضي المقطوع بكونه، حتى كأن هذا قد وقع واستقر، لا أنه متوقع مترقب، وهذا تفسير أبي علي عن أبي بكر وما أحسنه (¬2). قالوا وقد يكون ذلك لأسباب أخرى، كالتفاؤل أو لاظهار الرغبة في وقوعه نحو (إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام) فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر يكثر تصوره إياه فربما يخيل إليه حاصلا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر التطور النحوي 133 (¬2) الخصائص 3/ 105، وانظر شرح الرضي على الكافية 2/ 293 (¬3) الإيضاح للقزويني 93، وانظر البرهان 2/ 358، مختصر المعاني للتفتازاني 63

أو يكون للتعريض " بأن يخاطب واحدا ومراده غيره، كقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] (¬1). وذهب الدكتور مصطفى جواد إلى أن الفعل إذا كثر عبر عنه بالمضي، بخلاف ما لم يكثر، قال: " إن الفعل المعبر عنه بلفظ الشرط إذا كثر حدوثه استعمل الماضي، وإذا قل حدوثه استعمل المضارع، فالماضي أولي بالكثير لأنه كالحادث، والمضارع أولى بالقليل لأنه لم يحدث، فهما متشابهان، تقول (من صبر ظفر) و (من سار وصل)، و (من جد وجد) و (من يكذب منكم يعاقب) و (من يفعل كذا وكذا أكافئه مكافأة حسنة) و (من يخالف منهم يطرد) و (إن تكن وزيرا تكن كبيرا) ورغبة القائل كالكثرة (¬2). ويبدو أن استعمال الشرط بصيغة الماضي أو المضارع قد يكون لغير ذلك. 1 - فإن التعبير بالفعل الماضي قد يفيد افتراض حصول الحدث مرة، في حين أن المضاعر قد يفيد افتراض تكرر الحدث وتجدده، قال تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]، فجاء بالفعل المضارع وذلك لأن هذه الأحداث تتكرر وتتجدد. وقال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: 230]. فجاء بالفعل الماضي، وذلك لأن الطلاق لا يتكرر تكرر الصدقات، وقال: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء} [البقرة: 236]. {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237]، لما ذكرت. وقال تعالى: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} [لقمان: 12]، فجاء بـ (يشكر) بصيغة المضارع و (كفر) بصيغة المضي، وذلك لأن الشكر ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 358، وانظر الإيضاح 93 (¬2) المباحث اللغوية في العراق 48

يتجدد ويكثر، وليس كذلك الكفر، فإن الكفر يحصل ابتداء ويبقى صاحبه عليه إلا إذا شاء الله، فالشكر عمل يومي متجدد بخلاف الكفر الذي هو الاعتقاد. جاء في (تفسير الرازي) في هذه الآية: " قال في الشكر (ومن يشكر) بصيغة المستقبل وفي الكفران (ومن كفر فإن الله غني) وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر، فنقول فيه إشارة إلى أمر هو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع، فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران، ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله، بل ابدا يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر ادخاله في الوجود كما قال: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك} [النمل: 19]، وكما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل: 18]، فأشار إليه يصيغة المستقبل تنبيها على أن الشكر بكماله لا يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام قال بصيغة الماضي (¬1). وقال تعالى: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه} [البقرة: 270]. وقال: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} [البقرة: 272]. وقال: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} [البقرة: 272]. وقال: {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} [البقرة: 273]. فإنه جاء في الاية الأولى بالفعل الماضي، (وما أنفقتم .. ). والآيات الأخرى بالمضارع، وذلك لأن الآية الأولى إخبار بأن ما فعلته أو نذرته فقد علمه الله، أي ما حصل منك فقد علمه الله. وقال: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 112]. ¬

_ (¬1) التفسير الكبير 25/ 145

وقال: {فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} [الجن: 14]. وقال: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى} [لقمان: 22]. فقد جاء في الآيتين الأوليين بالفعل الماضي (أسلم) والأخيرة بالمضارع (يسلم) وذلك لأن (أسلم) في الآيتين الأوليين معناه الدخول في الإسلام، يدلك على ذلك في الاية الأولى موازنته باليهودية والنصرانية، قال تعالى قبل هذه الآية: {وقالوا لن تدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم} [البقرة: 111]، فرد عليهم الله بقوله [بلى من أسلم وجهه لله .. ] أي بلي من يدخل الجنة المسلم، وكذلك الآية الثانية. في حين أن قوله: {ومن يسلم وجهه إلى الله.} معناه الخضوع والانقياد لله، وهو عمل يومي يفيد الاستمرار والتجدد، بخلاف الآيتين الأوليين اللتين معناهما الدخول في الإسلام. وقال تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92]، وقال: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} [النساء: 93]. فجاء في القتل الخطأ بالفعل الماضي، لأنه خطأ لا يتكرر، وهو قليل بخلاف القتل العمد هو الاصرار على قتل المؤمن، فقد جاء به بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار والتجدد لأنه يتكرر وقوعه. وقال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} [الإسراء: 19]. وقال: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الاخرة نؤتها منها} [آل عمران: 145]. وذلك لأن إراد الآخرة أمر واحد، فجاء بالفعل الماضي بخلاف (إرادة الثواب)، فإن إرادة الثواب تتجدد، لأن الثواب يتجدد بخلاف الآخرى فإنها واحدة، وهذا السر في إنه قال (ومن أراد الآخرة) بالفعل الماضي، لكنه قال (ومن يرد ثواب الآخرة) بالمضارع.

وكذلك بالنسبة إلى الدنيا، فإرادة الثواب مستمرة متجددة، فكل عمل له ثواب. وقال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11]. وقال فيمن يفعل الزنى: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء: 16]. فجاء بالآيتين بالفعل الماضي، لأن المقصود بالتوبة هي التوبة العامة، فالتوبة الأولى معناها الدخول في الإسلام، والثانية معناها الإنخلاع عن الفاحشة. في حين قالك: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4]، والكلام موجه إلى زوجي النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود بالتوبة هنا التوبة الجزئية العارضة التي يتكرر أمثالها من الوقع في اللمم والصغائر. وقال: (وإن تعودوا نعد) [الأنفال: 19]. وقال: {وإن عدتم عدنا} [الإسراء: 8]. فجاء في الآية الأولى بالمضارع (تعودوا) وفي الآية الثانية بالماضي عدتم وذلك أن الآية الأولى نزلت بعد معركة بدر في كفار قريش، وهو تهديد للمشركين وإشعار للمؤمنين بأن المشركين سيكررون العودة إلى القتال وهو ما حصل، وأخبرهم بأن الله سيعود إلى نصر المؤمنين ومحق باطل الكافرين. وأما الأية ففي بني إسرائيل، وقد ذكر أنهم يفسدون في الأرض مرتين، فأخبر بأن لهم عودة بعد تلك المرة. فجاء بالمضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد، بخلاف الثانية. وقال: {يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة: 278 - 279].

فجاء بالشرط ماضيا (فإن لم تفعلوا) و (إن تبتم) وذلك لأنه خروج عن الربا والخروج عنه يكون دفعة واحدة، في حين قال: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم} [التوبة: 39]، فجاء الشرط مضارعا {إلا تنفروا} وذلك لأنه في الجهاد هو ماض إلى يوم القيامة، يتكرر حصوله فجاء في الربا بالفعل الماضي {فإن لم تفعلوا} وذلك لأن لم والمضارع يفيدان المضي، وجاء في الجهاد بالفعل المضارع. ونحوه قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا اله واحد وإن لم تنهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 73]. وذلك لأن الانتهاء هنا دفعة واحدة لكنه قال في الجهاد والتناصر بين المؤمنين {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال: 73]. فلما كان التناصر مستمرا متجددا، جعله بصيغة المضارع بخلاف ما قبله. وقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير} [الأنفال: 39]. وقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة: 193]. فجاء بالفعل الماضي في الآيتين (فان انتهوا) وذلك لأن القصد هنا الانتهاء الكامل عن الحرب والدخول في الإسلام بدليل قوله {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} وذلك يكون بالانتهاء الكامل، والكف التام عن القتال، لكنه قال: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد} [الأنفال: 19]. فقال (إن انتهوا) بخلاف الآيتين السابقتين وذلك لأن الانتهاء هنا ليس انتهاء عاما بل قد تتكرر الحروب بينهما بعد، كما حصل فعلا، فجاء بالمضارع للدلالة على التجدد، وهذه الآية نزلت بعد وقعة بدر.

وقال: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} [الكهف: 76]، لأنه سيحصل الفراق بعد سؤال واحد. وقال: {إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} [محمد: 37]. وهذا في سؤال الأموال وهو يتجدد بتجددها فجاء في المتجدد بالفعل المضارع، وفي غيره بالفعل الماضي، والله أعلم. 2 - وقد يؤتى بالفعل الماضي مع الشرط للدلالة على وقوع الحدث جملة واحدة، وإن كان مستقبلا، ويؤتى بالمضارع لما كان يتقضي ويتصرم شيئا فشيئا، أي مستمرا وذلك نحو قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى} [البقرة: 196]، أي إذا حصل هذا ولذا عبر عنه بالماضي، بخلاف قوله تعالى: {ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} [البقرة: 220]، وذلك أن المخالطة مستمرة متطاولة ليست كالاحصار فعبر عنها بالمضارع. ونحو قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]، أي لا تؤاخذنا إذا حصل منا نسيان، أو خطأ، أي وقع. وقوله: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم} [البقرة: 239]ـ فإن معناه إذا وقع الخوف أو إذا حصل الأمن، بخلاف قوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة} [الأنفال: 58]، فإن فيه معنى الاستمرار والتحسب، بخلاف ما قبلها ونحو قوله تعالى: {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} [الكهف: 17]. فالطلوع والغروب يقعان جملة واحدة، فعبر عنهما بالماضي، بخلاف قوله تعالى: {والليل إذا يسر} [الفجر: 4]، فإنه يفيد الاستمرار والتطاول. ونحو قوله تعالى: {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ماينذرون} [الأنبياء: 45]، أي وإن تطاول عليهم الانذار وتكرر واستمر، بخلاف قوله تعالى: {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} [النمل: 80]، أي إذا ادبروا عنك.

هل يأتي الشرط للمضي

وقال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل: 18]، ولا يحسن في هذا (إن عددتم) وذلك لأن هذا الفعل لا يفرغ منه، لأن نعم الله كثيرة فجاء فيه بالفعل المضارع، لأنه متطاول. وقال: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله} [آل عمران: 135]، أي إذا صدر منهم هذا الأمر، ولا يحن (إذا يفعلون فاحشة) لأن فيه معنى الاستمرار وعدم الانتهاء بعد من الفاحشة، فيكون المعنى أنهم يذكرون الله حين يفعلون ذلك. فإن أردت انقضاء الحدث وتمامه جئت بالفعل الماضي، وإن كان الحدث مستقبلا وإن لم تقصد ذلك جئت بالمضارع. 3 - ويكثر التعبير بالفعل الماضي عن الحكم الثابت القائم على المشاهدة والتجربة الماضية، وهو ما يكون في الحكم ونحوها، نحو (من تهور ندم ومن حذر سلم) ونحو (من صبر ظفر)، ومن (رام العلا سهر الليالي) و (من خاف أدلج) بخلاف ما لم يكن كذلك نحو (من يعمل يأكل) فهذه قاعدة تضعها للمستقبل، فلا يحسن فيها (من عمل أكل). ويمكن رجع هذه إلى النقطة السابقة. 4 - وقد يؤتى بالشرط ماضيا، للدلالة على الزمن الماضي، نحو (إن كنت ضربته فأخبرني) و (إن كنت عصيت ربك فتب) و (إن كنت رأيته قبل هذه المرة فلا شك في أنك ستعرفه الآن)، وهو أمر ينكره جمهور النحاة. هل يأتي الشرط للمضي: ذهب النحاة إلى أن الشرط يفيد الاستقبال، وإن كان فعله ماضيا، فإن هذه الأدوات تقلب الماضي إلى الاستقبال (¬1). وذلك نحو قوله تعالى: {فإن قاتلوك فاقتلوهم} [البقرة: 191]، وقوله: {أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران: 144]، ولا يفيد الشرط المضي، وما ورد من ذلك مؤول. ¬

_ (¬1) انظر التصريح 2/ 249، حاشية الخضري 2/ 122، حاشية الصبان 4/ 16

والصواب أن الشرط قد يأتي للمضي، يدل على ذلك الاستعمال الفصيح بما لا يقبل التأويل. فقد يأتي الشرط للدلالة على المضي، وذلك إذا كان بلفظ (كان) بعدها فعل ماض، نحو قوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلته فقد علمته} [المائدة: 116]. والمعنى أنك تعلم ذلك، إذا كان قد صدر منى، والنحاة يؤولون ذلك على أنه: إن ثبت إني كنت قلته، أو إن يثبت في المستقبل أني كنت قلته، في الماضي فأنا أعلم أنك علمته (¬1). وهو تأول بعيد، فكيف يقول لربه أن يثبت في المستقبل وهو في خطاب الله عز وجل، وهل الله جاهل ذلك وقت الخطاب، حتى يثبت له في المستقبل؟ وكذلك قوله تعالى: {وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت} [يوسف: 27]، والنحاة يتأولون ذلك كما أسلفنا. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " ثم أعلم أن (إنْ) يكون شرطها في الأغلب مستقبل المعنى فإن أردت معنى الماضي جعلت الشرط لفظ (كان)، كقوله تعالى: {إن كنت قلته} و (إن كان قميصه). ثم إن (كان) إذا كان شرطا، قد يكون بمعنى فرض الوقوع في الماضي، نحو: {إن كنت قلته} {وإن كان قميصه} وقد يكون متحقق الوقوع فيه نحو: زيد وإن كان غنيا إلا أنه بخيل (¬2). وجاء في (بدائع الفوائد): " قال تعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {إن كنت قلته فقد علمته} فهذا شرط دخل على ماضي اللفظ وهو ماضي المعنى قطعا، لأن المسيح ¬

_ (¬1) انظر التصريح 2/ 249، حاشية الخضري 2/ 122، حاشية الصبان 4/ 16 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 293، وانظر الكليات 78

إما أن يكون صدر هذا الكلام منه بعد رفعه إلى السماء أو يكون حكاية ما يقوله يوم القيامة، وعلى التقديرين فإنما تعلق الشرط وجزاؤه بالماضي .. وليت شعري ما يصنعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت الممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه) هل يقول عاقبل أن الشرط هنا مستقبل؟ وإنه لم يقصد أنه إن يثبت في المستقبل أنك أذنبت في الماضي فتوبي، ولا قصد هذا المعنى، وإنما المقصود المراد ما دل عليه الكلام: إن كان صدر منك ذنب فيما مضى فاستقبليه بالتوبة (¬1). وهذا هو الحق، قال تعالى: {وإن كان كبر عليك اعراضهم فإن استطعت ان تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية} [الأنعام: 55]. فهل المعنى: أن يثبت أنه كبر عليك إعراضهم؟ ونحوه قوله: {ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيت اللهف فعلي الله توكلت} [يونس: 71].فهل المعنى: أن يثبت في المستقبل أنه كان كبر عليكم مقامي؟ ونحوه قوله: {وإن كان طائفة منكم أمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا} [الأعراف: 87]. ونحوه أن تقول لصاحبك: (إن كنت عاهدته على ذلك فافعل) وليس المقصود أن يثبت أنك عاهدته فافعل بل هو ماضي المعنى قطعا. وربما دل الشرط على المضي بغير (كان). جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وقد يستعمل الماضي في الشرط متحقق الوقوع، وإن كان بغير لفظ (كان) لكنه قليل بالنسبة إلى (كان) كقوله: ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 1/ 45

أتغضب إن أذنا أذينه حزتا ونحو قولك (أنت وإن أعطيت مالا بخيل) و (أنت وإن صرت أميرا لا أهابك) (¬1). وهذا هو الحق، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: {قل إن افتريته فعلى إجرامي} [هود: 35]، وو ماضيا لمعنى، وقال: {قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا} [الأحقاف: 8]، وقال: {قالوا طائركم معكم أين ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} [يس: 19]، وهذا رد على أحاب القرية: {إنا تطيرنا بكم} بعد ان ذكروهم بالله، فهو ماضي المعنى. وقال: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} [آل عمران: 152]، وهذا في معركة أحد، وهو ماضي المعنى. وقال: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ماأحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92]، وهذه الآية نزلت بعد وقوع الحادثة وقال في فرعون: {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله الذي آمنت به بنو إسرائيل} [يونس: 90]. وقال: {حتى إذا ركبنا في السفينة خرقها} [الكهف: 71]. وقال: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} [الجمعة: 11]، والآية نزلت بعد وقوع الحادثة. وقد أخرج بعض النحاة (إذا) المسبوقة بـ (حتى) من الشرطية (¬2). والصواب أنها شرطية، بدليل اقتران جوابها بالفاء، قال تعالى: {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق} [محمد: 4]. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 293 (¬2) البرهان 4/ 197

وقال: {حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا} [مريم: 75]. وقال: {حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6]. ومما يدل على المضي مع غير (إن) و (إذا) من أدوات الشرط، قوله تعالى: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} [آل عمران: 166.] وقوله تعالى: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} [سبأ: 47]. وقوله: {ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا من النار} [ص: 61]. وقوله: {ما قطتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} [الحشر: 5]، بل قد يرد فعل الشرط دالا على المضي، وإن لم يكن فعلا ماضيا مع فعل الكون وغيره فمن ذلك أن يرد خبر (يكون) فعلا ماضيا وذلك نحو قوله: فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلى فقد عادت لهن ذنوب وقول الأبيرد بن المعذر الرياحي يرثي أخاه بريدا: فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فقد عذرتنا في صحابته العذر وقول حريث بن سلمة: إن تك درعي يوم صحراء كلية ... أصيبت فماذا كم علي بعار وقول امريء القيس: وإن تك قد ساءتك منى خليقة ... فسلي ثيابك من ثيابك تنسل فهذا كله يفيد المضي ولا شك. ومن وردوه دالا على المضي مع غير فعل الكون قول عمارة بن عقيل: فإن تصبح الأيام شيبن مفرقي ... وأذهبن أشجاعي وفللن من غربي.

دلالته على الحال

فيا رب يوم قد شربت بمشرب ... شفيت به غيم الصدى بارد عذب وقول العتبي يرثي نيه: فإن يهلك بني فليس شيء ... على شيء من الدنيا يدوم وقول ثابت بن قطنة يرثي يزيد بن المهلب. إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عارا عليك ورب قتل عار وهذا كله يفيد المضي. فهل هناك دليل أوضح من ذلك على أن الشرط قد يأتي للمضي بـ (كان) وبغيرها بلفظ الماضي وغيره؟ دلالته على الحال: وقد يدل الشرط على الحال فمن ذلك قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23]، وهذا افتراض لحالتهم آنذاك. ونحو قوله تعالى: {قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله} [يونس: 104]. وقوله: {يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب} [الحج: 5]. وقوله: {أريت الذي ينهى عبدا إذا صلى أريت إن كان على الهدى} [العلق: 9 - 11]، ومما يفيد الحال كثيرا أسلوب الالهاب والتهييج، نحو قوله تعالى: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 93]. وقوله: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة: 111]. وقوله: {واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} [البقرة: 172]. وقوله: {قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} [آل عمران: 118].

معاني أدوات الشرط

معاني أدوات الشرط إن تستعمل (إنْ) في المعاني المحتملة الوقوع والمشكوك في حصولها، والموهومة والنادرة (¬1). والمستحيلة وسائر الافتراضات الأخرى، فهي لتعليق أمر بغيره عمومًا. فمن المعاني المحتملة الوقوع، قوله تعالى: فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191]، وقوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230]، وقوله: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}. [المائدة: 6]. ومن المعاني المشكوك في حصولها نحو قوله تعالى: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} [الأعراف: 143]. ومن المعاني المفترضة التي لا وقوع لها في المشاهدة، قوله: {قل أرءيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء} [القصص: 71]، وقوله: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطًا يقولوا سحاب مركوم} [الطور: 44]. ومن المعاني المستحيلة قوله: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81]، وقوله: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33]، ونحو قولنا: (إن استطعت فاخرج من ملك الله). جاء في (الكليات): " (إنْ) الشرطية تقتضي تعليق شيء، ولا تستلزم تحقق وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلا، كما في قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81]، وعادة كما في قوله تعالى: {فإن استطعت ان تبتغي نفقا في الأرض} [الأنعام: 35] (¬2). ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن يعيش 9/ 4، الاتقان 1/ 149 (¬2) الكليات 407

وجاء في (شرح ابن يعيش): " ولا تستعمل (إنْ) إلا في المعاني المحتملة المشكوك في كونها، ولذلك قبح (إن أحمر البسر كان كذا)، و (إن طلعت الشمس آتك)، إلا في اليوم المغيم (¬1). وربما ورد بعدها المتيقن قليلا، وذلك نحو قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23] وقوله: {أفأين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران: 144]، وهو ميت لا محالة. جاء في (شرح ابن يعيش): " وتقول من ذلك: (إن مت فاقضوا ديني) وإن كان موته كائنا لا محالة فهو من مواضع (إذا)، إلا أن زمانه لما لم يكن متعينا، جاء إستعمال (إن) فيه، قال تعالى: {أفأين مات او قتل أنقلبتم على أعقابكم} [آل عمران: 144] (¬2). وجاء في (الطراز) في (إن) " لا تقع إلا في المواضع المحتملة المشكوك فيها، قال الله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال: 61]، وقال تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} [فاطر: 4]. فإن استعملت في مقام القطع، فأما أن يكون على جهة التجاهل، وأنت قاطع بذلك الأمر ولكنك ترى أنك جاهل به، وأما على أن المخاطب ليس قاطعا بالأمر، وإن كنت قاطعًا به، كقولك لمن يكذبك فما تقوله وتخبر به: (إن صدقت فقل لي ماذا تفعل؟ ) وأما لتنزيل المخاطب منزلة الجاهل، لعدم جريه على موجب العلم، وهذا كما يقول الأب لابن لا يقوم بحقه: (إن كنت أباك فاحفظ لي صنيعي فيك) (¬3). وجاء في (مختصر المعاني) للتفتازاني: " وقد تستعمل (إن) في مقام الجزم بوقوع الشرط تجاهلا، كما إذا سئل العبد عن سيده هل هو في الدار، وهو يعلم أنه فيها فيقول: ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 9/ 4، وانظر شرح الرضي على الكافية 2/ 282، المقتضب 2/ 56 (¬2) شرح ابن يعيش 9/ 4 (¬3) الطراز 3/ 298 - 299

إذا

(إن كان فيها أخبرك) يتجاهل خوفا من السيد، أو لعدم جزم المخاطب، بوقوع الشرط فيجري الكلام على سنن اعتقاده، كقولك لمن يكذبك (إن صدقت فماذا تفعل؟ ) مع علمك بأنك صادق. أو تنزيله، أي لتنزيل المخاطب العالم بوقوع الشرط منزلة الجاهل، لمخالفته مقتضي العلم، كقولك لمن يؤذي أباه: إن كان اباك فلا تؤذه. أو التوبيخ .. أو تغليب غير المتصف به، أي بالشرط على المتصف به، كما إذا كان القيام قطعي الحصول لزيد، غير قطعي لعمرو، فتقول: إن قمتما كان كذا (¬1). وجاء في (الإيضاح) للقزويني: " ومجيء قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23]، بـ (إن) يحتمل أن يكون للتوبيخ على الريبة لاشتمال المقام على ما يقلعها عن أصلها، ويحتمل أن يكون لتغليب غير المرتابين منهم، فإن كان فيهم من يعرف الحق وإنما ينكر عنادًا (¬2). إذا الأصل في (إذا) أن تكون للمقطوع بحصوله، وللكثير الوقوع، فمن المقطوع بحصوله قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} [البقرة: 180]، فإن كل واحد منا سيحضره الموت، وقوله: {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} [آل عمران: 25]، وقوله: {حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا} [النساء: 6]، وقوله: {وإذاا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2]، فإن المحرم لا بد أن يتحلل، وقوله: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34]، وقوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5]، فإنه لابد أن تنسلخ الأشهر الحرم، وقوله: {وقالوا أءذا كنا عظما ¬

_ (¬1) مختصر المعاني 60 - 61 (¬2) الإيضاح 91

ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا} [الإسراء: 49]، وقوله: {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} [الكهف: 17]، وقوله: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا} [النور: 59]، وقوله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10]، فإن الصلاة لابد أن تنقضي. وأما ما يقع كثيرا، فنحو قوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282]. وقوله: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء: 86]. وقوله: {وإذا قريء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف: 204]. وقوله: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما} [يونس: 12] , والنحاة يفرقون بين إن وإذا بما ذكرنا فيقولون إن الأصل في (إنْ) أن تستعمل للمشكوك فيه و (إذا) للمقطوع بوجوده. وذكر سيبويه أن (ذا) تاجيء وقتا معلومًا، ألا ترى أنك لو قلت: آتيك إذا احمر البسر كان حسنا، ولو قلت: (آتيك إن احمر البسر) كان قبيحا، فـ (إن) أبدا مبهمة، وكذلك حروف الجزاء (¬1). وجاء في (المقتضب): " وإنما مع (إذا) من أن يجازي بها (¬2). لأنها مؤقتة وحروف الجزاء مبهمة، ألا ترى أنك إذا قلت: (إن تأتني آتك) فأنت لا تدري أيقع منه إتيان، أم لا؟ وكذلك: من أتاني أتيته، إنما معناه، أن يأتني واحد من الناس، آته. فإذا قلتك (إذا اتيتني .. ) وجب أن يكون الاتيان معلوما ألا ترى إلى قوله الله عز وجل: {إذا السماء انقطرت} [الانفطار: 1]، و (إذا الشمس كورت) [التكوير: 1]، و {إذا السماء انشقت} [الإنشقاق: 1]، إن هذا واقع لا محالة؟ ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 433 (¬2) يجازي بها أي: يجزم بها

ولا يجوز أن يكون في موضع هذا (إنْ) لأن الله عز وجل يعلم، و (إنْ) إنما مخرجها الظن والتوقع فيما يخبر به المخبر، لويس هذا مثل قوله: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]، لأن هذا راجع إليهم. وتقول: (آتيك إذا احمر البسر) ولو قلت (آتيك إن احمر البسر) كان محالا، لأنه واقع لا محالة (¬1). وجاء في (الاتقان): " تختص (إذا) بدخولها على المتيقن، والمظنون، والكثير الوقوع، بخلاف (إنْ) فإنها تستعمل في المشكوك والموهوم والنادر، ولهذا قال تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6]، ثم قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6]، فأتى بـ (إذا) في الوضوء، لتكرره وكثرة أسبابه، وبـ (إنْ) في الجنابة لندرة وقوعها بالنسبة إلى الحدث. وقال تعالى: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه، وإن تصبهم سيئة يطيروا} [الأعراف: 131]، {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} [الروم: 36]، أتى في جانب الحسنة بـ (إذا) لأن نعم الله على العباد كثيرة ومقطوع بها، و (إنْ) في جانب السيئة لأنها نادرة الوقوع، ومشكوك فيها (¬2). وجاء في (شرح ابن يعيش): " وحق ما يجازي به أن لا تدري أيكون أم لايكون، فعلى هذا تقول: (إذا احمر البسر فائتني). وقبح: (إن احمر البسر)، لأن احمرار البسر كائن، وتقول: (إذا أقام الله القيامة عذب الكفار)، ولا يحس: (إن أقام الله القيامة، لأنه يجعل ما أخبر الله تعالى بوجوده مشكوكا فيه) (¬3). ¬

_ (¬1) المقتضب 2/ 55 - 56 (¬2) الاتقان 1/ 149 (¬3) شرح ابن يعيش 9/ 4

وجاء في (الإيضاح) للقزويني: " أما (إنْ) و (إذا) فهما للشرط في الاستقبال، لكنهما يفترقان في شيء وهو أن الأصل في (إن) أن لا يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه، كما تقول لصاحبك (إن تكرمني أكرمك) وأن لا تقطع بأنه يكرمك. والأصل في (إذا) أن يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه، كما تقول (إذا زالت الشمس آتيك) ولذلك كان الحكم النادر موقعا لـ (إن) لأن النادر غير مقطوع به في غالب الأمر (¬1). وجاء في (التفسير الكبير) للرازي في قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض} [الزلزلة: 1]. " قالوا كلمة (إن) في المجوز، و (إذا) في المقطوع به، تقول: (إن دخلت الدار فأنت طالق) لأن الدخول يجوز، أما إذا أردت التعليق بما يوجد قطعا لا تقول (إنْ) بل تقول (إذا) نحو: إذا جاء غد فأنت طالق، لأنه يوجد لا محالة، هذا هو الأصل، فإن استعمل على خلافه فمجاز، فلما كان الزلزال مقطوعا به قال (إذا زلزلت) (¬2). وجاء في (الطراز) إن (إنْ) إنما يكن ورودها في الأمور المحتملة المشكوك في وقوعها، كقوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أغرض عنهم} [المائدة: 42]. وأما (إذا) فإنما تستعمل في الأمور المحققة، كقوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} وقوله: {إذا الشمش كورت} .. فهذه الأمور كلها محققة، فلهذا حسن دخول (إذا) فيها (¬3). وقال الدكتور علي فودة: " أن (إذا) تستعمل في معظم الحالات لمعنى غير المعنى الذي تستعمل له (إن)، أنها تستعمل في الأمور المتيقنة، أو التي يكثر وقوعها على حين تستعمل (إنْ) فيما يحتمل الوقوع وعدمه، أو في الذي يحدث قليلا، وخير ما يؤيد ذلك ¬

_ (¬1) الإيضاح 1/ 88 - 89، وانظر مختصر المعاني 60 - 61 (¬2) التفسير الكبير 32/ 57، وانظر الصبان 4/ 13، الأشباه والنظائر 2/ 230 (¬3) الطراز 3/ 277 - 278

هو الآيات التي اجتمعت فيها (إنْ) و (إذا) معا، فقد اجتمعتا في آيات يدرك القاريء لها بحسه وضوح هذه الحقيقة في أكثرها (¬1). وما ذكره النحاة صحيح على وجه العموم، فإن (إذا) تستعمل للمقطوع بحصوله والكثير الوقوع بخلاف (إنْ) التي أصلها الشك والابهام أو ما هو أقل مما يستعمل بـ (إذا) ويبدو ذلك واضحا في استعمال القرآن الكريم، ولا سيما الآيات التي اجتمعت فيها (إن) و (إذا) معا، كما ذكر الدكتور علي، وذلك نحو قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي .. فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] وذلك لأن الاحصار طاري عارض، والأمن هو الأصل فجاء فيما هو الأصل بـ (إذا)، بخلاف ما هو عارض طاريء. وقال في الحفاظ على الصلاة: {فإذا خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم} [البقرة: 239]، فجاء في حالة الخوف بـ (إن) وهي حالة طارئة، بخلاف حالة الأمن، فإنه جاء فيها بـ (إذا) وهي نظيرة الآية السابقة. وقال: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء: 101]، فجاء بـ (إذا) في الضرب في الأرض وهو السفر، لأنه كثير بخلاف الفتنة فإنها قليلة. وقال: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة} [التوبة: 5]، فإن انسلاخ الأشهر الحرم محتوم، فجاء فيه بـ (إذا) بخلاف التوبة، فإنها مشكوك فيها فجاء فيها بـ (إنْ). وقال: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت ¬

_ (¬1) الشرط بأن وإذا في القرآن الكريم" ص 60 - بحث في مجلة كلية الآداب بجامعة الرياض - المجلد الرابع - السنة السابعة.

به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [البقرة: 229 - 230]. فجاء في ذلك بـ (إنْ) لأنه أندر حالات الطلاق، وهو الطلاق الثالث، ثم زواج المطلقة من شخص آخر ثم طلاقها منه، وقال بعد هذه الآية: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن} [البقرة: 231]. وقال: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} [البقرة: 232]. فإن هاتين الحالتين هما حالتا الطلاق العادي، بخلاف الحالتين الأوليين. وقال: {وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفي خلق جديد} [الرعد: 5]، فإن صيرورتهم ترابا أمر محتوم، بخلاف العجب، فإن الأمور التي تستدعي العجب نادرة على العموم. وقال: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} [البقرة: 180]، فجاء في حضور الموت بـ (إذا) لأنه واقع ولابد، وأما ترك الخير وهو المال فهو أقل فجاء معه بـ (إن). وقال: {يأيها الذين أمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه .. وليملل الذي عليه الحق .. فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا} [البقرة: 282]. فإن حالات الاستدانة أكثر من الحالة التي بعدها، وهي أن يكون المدين سفيها أو ضعيف العقل. وقال: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25]، وهذا في الإماء، فإن كل أمة أو غير أمة تبلغ الإحصان، أي البلوغ، فجاء فيه باذا لأنه مقطوع بحصوله، أما إتيان الفاحشة فهو قليل فجاء فيه بـ (إن). يدلك على ذلك أيضا أن (إذا) على كثرة استعمالها في القرآن الكريم - فقد وردت في أكثر من ثلاثمائة وستين موضعا - لم ترد في موضع واحد غير محتمل الوقوع، بل هي كلها إما مقطوع بوقوعها، أو كثير الوقوع بخلاف (إنْ).

قالوا ولما كانت (إذا) تفيد الجزم بالوقوع، غلب معها لفظ الماضي، لكونه أدل على الوقوع باعتبار لفظه، بخلاف (إنْ) التي تستعمل في المعاني المحتملة، والمشكوك فيها، فإن غلب معها الفعل المضارع (¬1). والملاحظ في الاستعمال ان (إذا) يكثر معها الفعل الماضي حقا، إذا ما قيست بـ (إنْ). وقد عمل الدكتور علي فودة إحصاء (¬2). لاستعمال الفعل الماضي والمضارع مع إن الشرطية في القرآن الكريم، وقد كانت نتيجة الإحصاء أن استعمال (إنْ) الشرطية مع الفعل الماضي، أكثر من استعمالها مع المضارع، فقد ذكر أنها وردت في القرآن الكريم في (554) أربعة وخمسين وخمسمائة موضع، جاء فيها بصيغة الماضي في نحو (370) سبعين وثلاثمائة موضع، ومعنى ذلك أنه استعمل الماضي معها أكثر من المضارع. وعندنا على إحصاء الدكتور ملاحظتان: الأولى: إن الشرط بـ (إنْ) ورد في القرآن الكريم محذوف الجواب، في زهاء مائتي موضع، لقسم أو لغيره، ويتحتم في هذه الحالة أن يكون الشرط ماضيا، نحو قوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 91] {إن كنتم صادقين} [البقرة: 23]، {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم} [الحشر: 12]، فهذا ينبغي أن يسقط من الاحصاء لأنه لا اختيار فيه فتكون نتيجة الاحصاء ما يأتي: 184 موضع، استعمل معها المضارع 170 موضع، استعمل معها الماضي. فيكون استعمال المضارع أكثر من الماضي ¬

_ (¬1) انظر البرهان 2/ 362، مختصر المعاني 60 - 61، الإيضاح 1/ 88 (¬2) الشرط بـ (إن) و (إذا) في القرآن الكريم 60 وما بعدها.

وأما الملاحظة الثانية، فإنه لم يحص مواضع ورود الفعل الماضي والمضارع مع (إذا) حتى يتبين صدق قول النحاة أو عدمه، فإنهم قالوا إن (إذا) يستعمل معها المضارع أكثر من (إنْ). وملاحظة النحاة هذه صحيحة، فقد وردت (إذا) في القرآن الكريم - شرطية وظرفية - في 362 اثنين وستين وثلاثمائة موضع، منها ثمانية عشر موضعا فقط، وردت بالفعل المضارع، والبقية وردت بالفعل الماضي، مما يؤيد ملاحظة النحاة. ولعله يدور في خلدك أن هذا يخالف ما ذكرناه في بحث (فعل الشرط)، وهو إنه إذا كان الشرط وقع فعلا ماضيا، فإنه قد يفيد افتراض حصول الحدث مرة، أو وقوعه جملة، في حين أن المضارع قد يفيد افتراض تكرر الحدث، أو يفيد تطاول الحدث. والحق أنه لا تناقض فيما ذهبنا إليه هنا، وهاك، فإن الأمر الذي ذكرناه هناك ينطبق هنا. فمثلا قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230]، فقد ذكرنا فيه أنه جاء بالفعل الماضي، لأن الطلاق لا يتكرر كثيرا كسائر الأعمال اليومية، أو لأن معناه: إذا حصل الطلاق، أي تم. وعندما جاء بـ (إذا) فقال: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} [البقرة: 231]، فقد جاء بها لأن حالات الطلاق الأخيرة أكثر، والفعلان ماضيان. وعندما قال: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية} [البقرة: 180]، فإن الحدثين لا يتكرران، لا حضور الموت، ولا ترك الميراث، ولكن حضور الموت أمر واقع ولابد، فجاء فيه بـ (إذا) بخلاف ترك المال، فإنه أقل وقوعا، فجاء فيه بـ (إنْ) والفعلان ماضيان. وقوله: {وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا} [الرعد: 5]، فجاء بـ (إنْ) مع الفعل المضارع (تعجب)، لأن العجب يتكرر في الحياة، أو لأنه حدث لم ينقطع بعد،

وجاء بـ (إذا) مع الفعل الماضي، (كنا ترابا) لأنه يكون مرة واحدة وهو واقع ولابد. أو قد يفيد المضارع مع (إذا) تكرر الحدث أو استمراره، وتطاوله، كما ذكرنا ذلك في موضعه، وذلك نحو قوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله} [يونس: 15]، فالتلاوة تتطاول، وهي تنقضي شيئا فشيئا، بخلاف قوله تعالى: {فإذا جاء رسولهم} [يونس: 47] وقوله: {إذا جاء أجلهم} [يونس: 49]، وقوله: {وإذا أراد الله بقوم سوءا} [الرعد: 11]. فجاء بالفعل المضارع لما يحدث تدريجيا، ويقع جزءا جزءا، بخلاف ما جاء بالفعل الماضي. وقد تقول ألم يرد في القرآن الكريم: {وإذا تليت عليهم آياته} [الأنفال: 2]، بالماض]؟ والجواب أنه ورد، ولكن القصد مختلف، فإذا أردت وقوع الحدث جملة، جئت بالماضي وإذا أردت أن الحدث مستمر لم ينقطع جئت بالمضارع، فقوله تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} [الأنفال: 2]، معناه إذا قرئت عليهم، فهو يشير إلى انقضاء الحدث وتمامه، بخلاف الآيات التي وردت بالمضارع نحو قوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرءان غير هذا أو بدله} [يونس: 15]، فإن معناها أنهم في اثناء القراءة يقولون: ائت بقرآن غير هذا، يقولون ذلك والقراءة لم تكتمل بعد، لضيق ذرعهم بسماعه، والله أعلم. إذ ما هي إذ و (ما) ركبتا، فأصبحتا أداة شرط، تقول: (إذ ما تقم أقم) و (إذ) وحدها ظرف زمان يفيد المضي غالبا، قال تعالى: {واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} [الأعراف: 86]، وأما (إذ ما) فهي حرف عند الأكثرين يفيد الشرط وغيرته (ما) من المضي إلى الاستقبال (¬1)، تقول إذ ما تأتني آتك، واستدل النحاة بتغير زمانها على حرفيتها (¬2). ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 248 (¬2) التصريح 2/ 248

وذهب قسم من النحاة إلى أنها باقية على ظرفيتها، غير أن (ما) كفتها عن الإضافة (¬1)، فإذا لم تنضم إليها (ما) لم تكن حرف جزاء (¬2). وأنا لا أرى حرفيتها، بل لا تزال ظرفا وأن زمانها لم يتغير، بل تخصص بـ (ما)، وذلك أن (إذ) للمضي كثيرا، وقد تكون للاستقبال، كقوله تعالى: {فسوف تعلمون إذ الأغلال في أعناقهم} [غافر: 70 - 71]، وقوله: {وجائ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} [الفجر: 23]، بل هي قد تكون للاستقبال، مع دخولها على الفعل الماضي، وذلك نحو قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة} [مريم: 39]، وهذا يكون يوم القيامة، فعند دخول (ما) عليها جعلتها شرطية، وخصتها بالاستقبال، وأما كفها عن الإضافة، فهذا أمر قاله النحاة بسبب أنهم يرون أن أداة الشرط لابد أن تكون مبهمة (¬3). فإذا كانت موقتة أي معلومة لم تجزم، وهذا هو سبب عدم الجزم بإذا وذلك لأنها مضافة إلى ما بعدها، فتعرفت. أو تخصصت به، فليس فيها إبهام فلم تجزم. جاء في (الكتاب): " وسألته عن (إذا) ما منعهم أن يجازوا بها؟ فقال: الفعل في (إذا) بمنزلة في (إذ)، إذا قلت (أتذكر إذ تقول) فـ (إذا) فيما يستقبل بمنزلة (إذ) فيما مضى، ويبين هذا، أن (إذا) تجئ وقتا معلوما، ألا ترى أنك لو قلت (آتيك إذا احمر البسر) كان حسا، ولو قلت: (آتيك إن احمر البسر) كان قبيحا، فـ (إنْ) أبدًا مبهمة، وكذلك حروف الجزاء، و (إذا) توصل بالفعل، فالفعل في (إذا) بمنزلته في: حين (¬4). ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 281 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 432 (¬3) انظر الأشباه والنظائر 1/ 97 (¬4) كتاب سيبويه 1/ 433

أنى

وعلى أية حال، فالذي نراه أن (إذ ما) أداة شرط، وهي ظرف و (ما) خصصتها بالاستقبال بعد أن كانت تستعل للمضي كثيرا، وللاستقبال قليلا. وقد تعامل (إذ) من دون (ما) معاملة أدوات الشرط، فتقترن بجوابها الفاء، وذلك نحو قوله تعالى: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} [الأحقاف: 11]، وقوله: {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة} [المجادلة: 13] وقوله: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور: 13]. أنى وهي ظرف للمكان (¬1). يفيد العموم، نحو (أنى تذهب أذهب) ويبدو أنها أكثر عموما من (اين) لمكان المدة فيها، فإن إطلاق الألف قد يدل على سعة المكان فيها، والملاحظ في العربية أن الكلمة يتقارب معناها ومبناها فـ (لا) مثلا أوسع في النفي من (لن)، أي أن زمنها أطول لأنها تكون للحال، والاستقبال والمضي، نحو: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31]، و (لن) مختصة بنفي المستقبل، و (لا) مطلقة، أي أن صوتها محدود، و (لن) مقيدة بالسكون. و(إذا) أوسع زمنا من (إذ) فإنها تكون ظرفا للاستقبال، وزمنه أطول من المضي لأن المستقبل دائما أطول وأفسح من الماضي الذي انتهى، وتكون للاستمرار والمضي أيضا نحو: {حتى إذا أدركه الغرق} [يونس: 90]، و (إذا) مطلقة. و(منْ) مخصصة بالعقلاء، استفهاية، أو شرطية، أو موصولة، أو غيرها، وما لغير العقلاء، من ذوات ومعان، وهم أكثر من العقلاء، وتكون لصفة من يعقل أيضا نحو {فانكحوا ماطاب لكم من النساء} [النساء: 3]، و (من) مقيدة، و (ما) مطلقة. فمدة الألف في (أني) تطلق المكان إطلاقا بعيدًا، بخلاف (أين) التي لا يمتد الصوت بها امتدادا بعيدًا. ¬

_ (¬1) الهمع 2/ 57، الأشموني 4/ 12

أيان

أيان ظرف زمان، يستعمل فيما يراد تفخيم أمره وتعظيمه (¬1). قال الرضي: " وأيان مختص بالأمور العظام نحو قوله تعالى: {أيان مرساها} [النازعات: 42]، و {أيان يوم الدين} [الذاريات: 12]، ولا يقال: أيان نمت (¬2). وقد يستعمل للاستبعاد نحو قوله تعالى: {يسئل أيام يوم القيامة} [القيامة: 6]. وهذا كما هو ظاهر في الاستفهام، والراجح انها في الشرط كذلك ولفظها يوحي بذلك، وذلك لمكان مدة الألف فيها، نحو (أيان تهرب أهرب معك). أين ظرف مكان مبهم، نحو (أين تذهب أذهب) وقد تنظم (ما) إليها فتزيديها إبهامًا (¬3) وعموما، قال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت} [النساء: 78] , وقال: {أينما يوجهه لا يأت بخير} [النحل: 76]، وقال: {أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} [الأحزاب: 61]. أي وهي أكثرهن إبهامًا، إذ هي بحسب ما تضاف إليه، تقول (أي رجل تكرم أكرم) و (أي كتاب تأخذ آخذ) و (أي مذهب تقل به أقل به) و (أي وقت تسافر أسافر). وقد تضم إليها (ما) فتزيدها إبهاماً، قال تعالى: {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110] ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 4/ 106 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 130 (¬3) شرح ابن يعيش 4/ 105

حيثما

حيثما اسم مكان مبهم، جاء في (المقتضب): " وحيث اسم من أسماء المكان مبهم يفسره ما يضاف إليه .. فلما وصلتها بـ (ما) امتنعت من الإضافة، فصارت كـ (إذ) إذا وصلتها بماء (¬1). وتلزمها (ما) إذا استعملت للشرط. جاء في (الأشباه والنظائر): " باب الشرط مبناه على الابهام، وباب الإضافة مبناه على التوضيح، ولهذا لما أريد دخول (إذ) و (حيث) في باب الشرط، لزمتهما (ما) لأنهما لا زمان للإضافة، والإضافة توضحهما، فلا يصلحان للشرط حينئذ، فاشترطنا (ما) لتكفهما عن الإضافة فيبهمان، فيصلح دخولهما في الشرط حينئذ (¬2). قال تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144]. والفرق بين (حيثما) و (أينما) كما يبدو، أن (أينما) أكثر إبهاما وعموما، وسبب ذلك أن (أين) أكثر إبهاما من (حيث)، وذلك أن (حيث) لازمة للإضافة، فهي مخصة أو معرفة بما بعدها، تقول: (أجلس حيث جلس أخوك) أي في مكان جلوسه، ولذا لا تكون جزاء إلا إذا ضمت إليها (ما) لتكون مبهمة. قال سيبويه: وإنما منع (حيث) أن يجازي بها أنك تقول (حيث تكون أكون) فـ (تكون) وصل لها كأنك قلت: المكان الذي تكون فيه أكون .. فإذا ضممت إليها (ما) صارت بمنزلة (إنْ) وما أشبهها، ولم يجز فيها ما جاز فيها قبل أن تجيء بـ (ما) (¬3). وأما (أين) فلا تضاف أصلا، ولذلك فهي مبهمة، فإذا دخلت عليها (ما) زادتها إبهاما وعمومًا، وإذا دخلت على (حيث) أبهمتها، وذلك أن (ما) تفيد الابهام والعموم في غير الشرط ايضا، قال تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} [البقرة: 26]، وتقول: (دعوتك لأمر ما). ¬

_ (¬1) المقتضب 2/ 54 (¬2) الأشباه والنظائر 1/ 97 - 98، وانظر المقتضب 2/ 47، شرح ابن يعيش 7/ 46 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 432 - 433

فـ (أينما) أكثر إبهاما وعموما من (حيثما) يدلك على ذلك الاستعمال القرآني علاوة على القياس، فقد وردت (حيثما) في تعبير واحد تردد في مكانين، وهو قوله تعالى {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144، 150]. وترددت (أينما) في أربعة مواضع، هي قوله تعالى: {أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا} [البقرة: 148]. وقوله: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء: 78]. وقوله: {أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} [الأحزاب: 61]. وقوله: {وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير} [النحل: 76] فأنت تحس بالشمول والعموم مع (أينما) أكثر من (حيثما)، وذلك أنها استعملت لمقدار قوة الله، وأنه لا يعجزه شيء {أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعًا} ولامتداد يد الموت وسطوته إلى كل مكان لا يحجزه عن شيء: {أينما تكونوا يدرككم الموت}. ويوضح ذلك أيضا الآية الأخيرة {أينما يوجهه لا يأت بخير} [النحل: 76]، فلو قال: {حيثما يوجهه لا يأت بخير} لتعين ذلك في المكان المادي المحسوس، ولكن قوله: {أينما يوجهه} [الأحزاب: 76]، يوحي بالسعة والشمول وهو يشمل الوجهات المادية والمعنوية. ثم أن قوله {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144]، ليس فيه شمول للأمكنة، فهناك أماكن لا تصح فيها الصلاة، وأزمنه لا يصح فيها الصلاة، أيضا وهناك حالات لا يصح فيها استقبال البيت الحرام، بخلاف ما ورد في (أينما) فإنها تستغرق الحالات المذكورةن فدل ذلك على أن الشمول والعموم في (أينما) أوسع من (حيثما) والله أعلم.

كيفما

كيفما وهي لبيان الحال، نحو (كيفما تصنع أصنع) و (كيف تفعل أفعل)، ولا تلزمها (ما) في الشرط، واستعمالها في الشرط قليل. ما وهي نوعان: غير زمانية: نحو: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} [البقرة: 110]، وقوله: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} [آل عمران: 166]. وزمانية: نحو قوله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7]، أي استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، ونحو قولنا: (ما تجلس أجلس) أي ما تجلس من الزمان أجلس (¬1). وهي أعم من (مَنْ) كما سبق أن ذكرنا، فإنها مطلقة و (مَنْ) مقيدة إن (مَنْ) مختصة بالعقلاء قال تعالى: {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب} [البقرة: 211]، ولا تكون لغيرهم، إلا أن يكونوا مختلطين بالعقلا. وأما (ما) فهي لغير العاقل، نحو (ما تصنع أصنع) قال تعالى: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه} [آل عمران: 115]. ولصفات العقلاء في الشرط، نحو قوله: {فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن} [النساء: 24]، وفي غير الشرط، نحو قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3]، وقوله: {إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني} [آل عمران: 35]. ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 302، شرح الرضي 2/ 280

متى

جاء في (المقتضب): " و (ما) تكون لغير الآدميين، نحو (ما تركب أركب)، و (ما تصنع أصنع) فإن قلت: (ما يأتني آته) تريد الناس لم يصلح .. لأن (ما) تكون لذوات غير الآدميين، ولصفات الآدميين، تقول: من عندك؟ فيقول: زيد، فتقول: ما زيد؟ فيقول: جواد أو بخيل، أو نحو ذلك، فإنما هو لسؤال عن نعت الآدميين (¬1). وجاء في (الكتاب): " و (ما) مثلها - يعني مثل من - إلا أن (ما) مبهمة تقع على كل شيء (¬2). متى وهي ظرف زمان، تقول: (متى تأتني آتك). ويفرق النحاة بين (إذا) و (متى)، فيقولون: إن (إذا) للوقت المحدود، و (متى) للوقت المبهم (¬3). وهذا التفريق ناتج عن قولهم إن (إذا) مضافة إلى شرطها، فهي معينة و (متى) غير مضافة، فهي إذن مبهمة. قال سيبويه: إن (إذا) تجيء وقتا معلومًا، ألا ترى أنك إذا قلت: (آتيك إذا أحمر البسر) كان حسنا ولو قلت: (آتيك إن احمر البسر)، كان قبيحا، فـ (إنْ) أبدًا مبهمة وكذلك حروف الجزاء (¬4). ومتى من حروف الجزاء (¬5). وقالوا أيضا في التفريق بينهما أن (إذا) تقع شرطًا في الأشياء المحققة الوقوع، ونحوها. وأما (متى) فلما يحتمل الوجود والعدم (¬6). ¬

_ (¬1) المتقضب 2/ 52 (¬2) كتاب سيبويه 2/ 309 (¬3) المفصل 2/ 66 (¬4) كتاب سيبويه 1/ 433 (¬5) كتاب سيبويه 1/ 432 (¬6) الأشباه والنظائر 2/ 225

من

جاء في (الأشباه والنظائر): " قال الخوارزمي: الفرق بينهما، الواجبة الوجود وما جرى ذلك المجرى مما علم أنه كائن، و (متى) لما لم يترجح بين أن يكون وبين أن لا يكون، تقول: (إذا طلعت الشمس خرجت) ولا يصح فيه (متى). وتقول: (متى تخرج أخرج) لمن لم يتيقن أنه خارج (¬1). ويفرق بينها وبين (إن) أن (إنْ) أداة تعليق لا زمن فيها، و (متى) زمان. جاء في كتاب (النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة) إن قولنا (إن أكرمتني أكرمتك) معناه تعليق الإكرام على الإكرام، وقولنا (متى أكرمتني أكرمتك) تعليق الاكرام على زمان يقع فيه الاكرام " فـ (متى) تدل على الزمان بدليل أنه إذا قيل: (متى أجيئك) صح أن يقال في الجواب متى أكرمتني، ولا يصح أن يقال (إن أكرمتني) لأن (إن) لا تدل على الزمان والسؤال عن الزمان، وإنما يصح أن يجاب بها إذا سئل عن الفعل فقيل: هل أجيئك؟ (¬2). وإذا لحقتها (ما) زادتها إبهاما وعموما. جاء في (الكليات): " و (متى ما) أعم من ذلك وأشمل [يعني من متى] وربما يجري في (متى) من التخصيص ما لا يجري في (متى ما) (¬3). من وتكون شرطا للعاقل، قال تعالى: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]. قال سيبويه: (مَنْ): وهي للمسألة عن الأناسي، ويكون بها الجزاء للأناسي، ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر 2/ 230، ضوابط الفنون فصل الألف والذال / إذا (¬2) النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة 59 (¬3) الكليات 337

مهما

وتكون بمنزلة (الذي) للأناسي (¬1). ولو قال للعقلاء، أو لذوي العلم لكان أجود، فإنها تستعمل لغير الأناسي من العقلاء، فقد تستعمل للملائكة، قال تعالى: {ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172]. واستعمالها للجن: قال تعالى: {فمن يستمع الآن يجد لها شهابا رصدا} [الجن: 9]. وجاء في (المقتضب): " تقول في (من) (من يأتني آته) فلا يكون ذلك إلا لما يعقل فإن أردت بها غير ذلك، لم يكن. فإن قال قائل: فقد قال الله عز وجل: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشى على بطنه} [النور: 45]، فهذا لغير الآدميين، وكذلك {ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشي على اربع} [النور: 45]، قيل إنما جاز هذا، لأنه قد خلط مع الآدميين غيرهم بقوله: {والله خلق كل دابة من ماء} وإذا اختلط المذكوران جرى على أحدهما ما هو للآخر إذا كان في مثل معناه" (¬2). مهما قالوا هي بمعنى (ما) وقيل أعم منها (¬3)، وقد ذكر أن أصلها (ما) ألحقت بها (ما) على وزن (كيفما) و (أينما). قال سيبويه: " وسألت الخليل عن (مهما) فقال: هي (ما) أدخلت معها (ما) لغوا بمنزلتها مع (متى) إذا قلت: (متى ما تأتني آتك) وبمنزلتها مع (إنْ) إذا قلت: (إنْ ما تأتني آتك)، وبمنزلتها مع (أين) كما قال سبحانه وتعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت} [النساء: 78]. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 309 (¬2) المقتضب 2/ 50 - 51 (¬3) الهمع 2/ 57

لو

وبمنزلتها مع (أيّ) إذا قلت: {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110]، ولكنهم استقبحوا أن يكرروا لفظا واحدا، فيقولون (ماما) فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى، وقد يجوز أن يكون (مه) كـ (إذن) ضم إليها (ما) (¬1). وجاء في (التطور النحوي): " وقد تضاعف (ما) لتأدية معنى الابهام والتنكير فتصير (مهما) بدل mama وتلحق (ما) بغيرها أيضا، مثل (أيما) و (متى ما) و (كيفما) و (أينما) و (حيثما) (¬2). لو وهي من أدوات الشرط، ثم هي قد تكون: 1 - امتناعية: نحو: قوله تعالى: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159]، وقوله: {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} [المائدة: 48]. وتسمى حرف امتناع لامتناع، ومعناه امتناع وقوع الجزاء لامتناع الشرط، نحو (لو زرتني لأكرمتك) فامتنع الاكرام لامتناع الزيارة. 2 - شرطية غير امتناعية نحو، قوله تعالى: {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23]، إذ لا يصح أن يقال: امتنع التولي لامتناع الاسماع، بل هم متولون على كل حال أسمعهم أم لم يسمعهم، وقوله {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} [لقمان: 27]، وقوله: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق} [الإسراء: 100]، وقوله: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83]، ونحو قولنا: (لز أتيته بالدنيا أجرها بحذافيرها لزهد فيها). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 433 (¬2) التطور النحوي 123

3 - وقد تأتي للتمني وذلك نحو قوله تعالي: {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا} [البقرة: 167]، وقوله: {قال لو أن لي بكم قوة أو اءوى إلى ركن شديد} [هود: 80]. وقال بعضهم: هي قسم برأسه، ليست شرطية ولا تحتاج إلى جواب، وذهب آخرون إلى أنها هي (لو) الشرطية أشربت معنى التمنى (¬1). والحق أنها قد تكون شرطية مشربة معنى التمنى فيكون لها جواب، نحو: (لو أن لنا رجالا أمثال صلاح الدين إذن ما ضاعت فلسطين) تقول ذلك متمنيا، ونحو قوله: (¬2): فلو نبش المقابر عن كليب ... فيخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعثمين لقر عينا ... وكيف لقاء من تحت القبور وقد تكون للتمنى برأسها نحو قوله تعالى: {لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا} [البقرة: 167]، وقوله: {لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} [الزمر: 58]. 4 - قالوا وقد تأتي بمعنى (إنْ) نحو قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} [يوسف: 17]. والحق أنها لا تطابق (إن) فإن شرط (لو) بعيد الوقوع، وهو أبعد من (إنْ). جاء في الكليات: والأصل في فرض المحالات كلمة (لو)، دون (إنْ) لأنها لما لا جزم بوقوعه، ولا وقوعه، والمحال مقطوع بلا وقوعه (¬3). ويدل على ذلك الاستعمال، قال تعالى: {لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لأصفطى مما يخلق ما يشاء} [الزمر: 4]. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 267، الهمع 2/ 66 (¬2) المغني 1/ 267 (¬3) كليات أبي البقاء 51

وقال صلى الله عليه وسلم: " لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري .. " وتقول: (لو كلمة الموتى لم يؤمن) و (لو أجريت الأرض له ذهبا لرغب عني) ولا تحسن (إن) لذلك، ونحوه ما ذكروا أنها بمعنى (إنْ). فإن قوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء: 78]، جاء فيه بـ (لو) دون (إن) لأن الإنسان قصارى ما يستطيع حفظ نفسه، أن يكون في برج مشيدة فجاء بـ (لو) الدالة على البعد. وكذلك قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135]، جاء فيه بـ (لو) التي تفيد البعد، لأن الإنسان أبعد شيء عن أن يشهد على نفسه. وقوله تعالى: {ما كان للنبي والذين أمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى} [التوبة: 113] / فأولو القربى هم أولى بالاستغفار من غيرهم فإذا كان منهيا عن ذلك معهم، فالنهي مع غيرهم أولى، وهذا أبعد شيء في النهي. وهكذا كل ما ذكر على أنه أولى من غيره. فهي لا تطابق (إنْ) في ذلك تمامًا. 5 - وذكر أنها تأتي لمعنى التقليل، نحو: (تصدقوا ولو بظلف محرق) (¬1). ومعنى التقليل، إنما جاء مما ذكرناه آنفا، وهو أن شرطها بعيد الوقوع، فقوله صلى الله عليه وسلم (تصدقوا ولو بظلف محرق) يعلمنا ألا نحقر من المعروف شيئا، فالظلف المحرق أبعد شيء عن أن يتصدق به، لكونه قليلا مرغوبا عنه، ومع لك علينا ألا نحقر الصدقة به. ونحوه: (تصدق ولو بترة)، فإن التمرة بعيدة عن أن يتصدق بها، لزهادتها. ونحوه (التمس ولو خاتمًا من حديد) فخاتم الحديد أبعد شيء عن ان يكون مهرًا لامرأة لزهادة قيمته، ومن هنا دخلها معنى التقليل. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 276، الهمع 2/ 66

وقوع اللام في جوابها

وقوع اللام في جوابها تقع اللام في جواب (لو)، وذلك نحو قوله تعالى: {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا} [الفتح: 25]، وقوله: {ولو يشاء الله لانتصر منهم} [محمد: 4]. وهذه اللام تلحق جوابها المثبت كثيرًا، وأما المنفي بـ (لم) فلا تلحقه والنفي بـ (ما) يجوز أن تلحقه إلا أنه قليل (¬1). ولم ترد في القرآن لاحقة لجوابها المنفي. واختلف في هذه اللام على أقوال: 1 - فقسم ذهب إلى أنها تفيد التسويف. جاء في (التصريح): " قال ابن عبد اللطيف ف باب اللامات: هذه اللام تسمى لام التسويف، لأنها تدل على تأخير وقوع الجواب، من الشرط، وتراخيه عنه، كما إن استقاطها يدل على التعجيل، لأن الجواب يقع عقيب الشرط بلا مهلة، ولهذا دخلت في {لو نشاء لجعلناه حطاما} [الواقعة: 65]، وحذفت في {لو نشاء جعلناه أجاجا} [الواقعة: 70]، أي لوقته في المزن من غير تأخير والفائدة في تأخير جعله حطاما وتقديم جعله أجاجا تشديد العقوبة، أي إذا استوى الزرع على سوقه وقويت به الأطماع، جعلناه حطاما كما قال الله تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} [يونس: 24]، الآية: أهـ. (¬2). 2 - وقسم ذهب إلى أنها لتأكيد ارتباط إحدى الجملتين بالأخرى (¬3). 3 - وقسم ذهب إلى أنها اللام الواقعة في جواب القسم فقولك: (لو زرتني لأكرمتك)، في تقدير (والله لو زرتني لأكرمتك) (¬4). ¬

_ (¬1) شرح ابن الناظم 292، المغنى 1/ 271 - 272 (¬2) التصريح 2/ 260، البرهان 4/ 337 (¬3) المفصل 2/ 220، وانظر شرح ابن يعيش 9/ 22 (¬4) شرح ابن يعيش 9/ 22، المغنى 1/ 235

4 - وقسم ذهب إلى أنها زائدة مؤكدة وذلك لجواز سقوطها (¬1). أما التسويف فلا اراه صحيحا بدليل عدم صحة تقديره في تعبيرات كثيرة، من ذلك قوله تعالى: {ولو أمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} [آل عمران: 110]، وليس في هذا معنى التسويف. وقوله: {ولو أنهم إذ ظلموا انفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} [النساء: 64]، وهو تواب رحيم، في الحال والاستقبال والمضي ولا يراد به تسويف التوبة عليهم. ونحوه: {ولو أن أهل الكتاب أمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم} [المائدة: 65]، وليس المقصود تسويف التكفير. ونحوه: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} [الأنعام: 9]. وقوله: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} [الأنعام: 35]، وقوله: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الأنفال: 31]. وقوله: {ولو أرادوا الخروجلأعدوا له عدة} [التوبة: 46]. وقوله: {لو شئت لتخذت عليه أجرًا} [الكهف: 77]. وقوله: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض} [المؤمنون: 71]. فهذا كله لا يحتل التسويف. وكونها جوابا للقسم، رده ابن هشام بقوله: لو كانت اللا بعد لو أبدا في جواب قسم مقدر، لكثر مجيء الجواب بعد لو جملة إسمية: نحو (لو جاءني لأنا أكرمه) كما يكثر ذلك في باب القسم (¬2). ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 9/ 23 (¬2) المغني 1/ 235

والذي يبدو أنها مؤكدة، ويدل على ذلك أن اللام التي تفيد التوكيد تقع في الأثبات ولا تقع في النفي، إلا نادرا وذلك نحو لام الابتداء، سواء كانت وحدها، أم مع (إنّ)، واللام الواقعة في جواب القسم، وهي لا تدخل على المنفي. وهذه كذلك تدخل في الاثبات، ولا تدخل على المنفي إلا قليلا. ويدل على ذلك أيضا الاستعمال القرآني، فالمنزوع اللام اقل توكيدًا من المذكورة فيه وذلك نحو قوله تعالى: {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} [الأعراف: 155]، بلا (لام)، وقوله: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149]، باللام، وذلك لأن هداية الناس أجمعين أصعب وأعسر من الإهلاك، فاهلاك الألوف، والوف الألوف، ممكن بوسائل الفتك والتدمير، والظواهر الطبيعية، ولكن هادتيهم عسيرة، فجاء باللام لما هو شاق عسير ونزعها مما هو أيسر. ونحوه قوله تعالى: {أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم} [الأعراف: 100]، وهذه نظيرة الآية السابقة، بخلاف قوله تعالى: {لو نشاء لجعلنا منكم ملائكة} [الزخرف: 60]. فالفرق واضح بين الافتراضين. وقوله تعالى: {لو شاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون} [يس: 67]، وهكذا. والخلاصة أن اللام مؤكدة، فإذا أردت أن تؤكد شيئا ما، جئت بها وإلا تدخلها عليه. وهذا القول ليس بعيدًا عن قول من قال، هي واقعة في جواب القسم، فكلتاهما تفيد التوكيد فإن القسم توكيد، وجوابه مؤكد. وهي في قول الزمخشري أيضا لا تخلو من التوكيد.

ما الزائدة

ما الزائدة تدخل (ما) بعد أدوات الشرط، نحو (إذا ما) و (إما) و (متى ما) وقد ذهب النحاة فيها إلى أنها تؤدي غرضين: الأول: إفادة الإبهام اولعموم - كما سبق أن ذكرنا - فإذا قلت مثلا: (سأزورك إذا جن الليل)، فالراجح أن يكون القصد ليل يومكم ذاك، فإذا قلت: (سأزورك إذا ماجن الليل) فإنه لا يتعين ليل ذلك اليوم، بل أصبح الكلام يحتمل الليالي الأخرى القابلة، وذلك لأن ما أبهمتها. جاء في (المفصل): " تقول (متى كان ذاك؟ ) و (متى يكون؟ ) و (متى تأتني أكرمك) و (أين كنت؟ ) و (أين تجلس أجلس) ويتصل بهما (ما) المزيدة فتزيدهما إبهاما (¬1). وجاء في (الكليات): (إذا ما) فيه إبهام في الاستقبال ليس في (إذا) بمعنى انك إذا قلت (آتيك إذا طلعت الشمس) فإنه ربما يكون لطلوع الغد حتى يستحق العتاب بترك الاتيان في الغد، بخلاف (إذا ما طلعت) فإنه يخص (¬2). ذلك ولا يستحق العتاب (¬3). وكذلك بقية أدوات الشرط، مثل (إذ ما) و (حيثما) و (أينما) غير أن (ما) في (حيثما) و (إذ ما) ليست زائدة عند النحاة، كالداخلة على (أين) و (متى) و (إذا) و (أي) وغيرها، بل هي في (إذ ما) و (حيثما) لازمة لا يكونان للمجازاة إلا بها (¬4). وذلك لأنهما من دون (ما) ظرفان يضافان إلى الجمل، فهما مخصصان بسبب الإضافة، فدخلت عليهما (ما) فكفتهما عن الإضافة، ليكونا مبهمين، فأصبحت (إذ ما) حرفا في رأي، وإسما مبهما في رأي آخر، وأصبحت (حيثما) ظرفا مبهما أبهمتها (ما) كماسبق أن ذكرنا. ¬

_ (¬1) المفصل 2/ 66، وانظر الكليات 337 (¬2) كذا والراجح أن الأصل لا يخص ذلك كما هو ظاهر. (¬3) الكليات 27 (¬4) المقتضب 2/ 48

جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأما (حيثما) فنقول (ما) فيها كافة لـ (حيث) عن الإضافة، لا زائدة كما في (متى ما) و (إما) وذلك أن (حيث) كانت لازمة للإضافة، فكانت مخصصة بسبب المضاف إليه، فكفتها (ما) عن طلب الإضافة لتصير مبهمة كسائر كلمات الشرط (¬1). وجاء في (الأشباه والنظائر): " باب الشرط مبناه على الابهام، وباب الإضافة مبناه على التوضيح، ولهذا لما أريد دخول (إذ) و (حيث) في باب الشرط لزمتهما (ما)، لأنهما لازمان للإضافة، والإضافة توضحهما، فلا يصلحان للشرط حينئذ، فاشترطنا (ما) لتكفهما عن الإضافة، فيبهمان فيصلح دخولهما في الشرط حينئذ (¬2). ثم إن (ما) هذه لا تختص بأسماء الشرط، بل قد تدخل على أسماء غيرها فتعطيها إبهاما وعموما أيضا، وذلك نحو قولك: (حدثني حديثا ما) أي أيا كان الحديث. جاء في (الكليات): (ما) في مثل (اعطني كتابا ما) إبهامية، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما، وزادته شياعا، وعموما، أي (أي كتاب كان) (¬3). والخلاصة أن (ما) تدخل على أدوات الشرط، فتبهم ما ليس مبهما وتزيد إبهاما ما كان مبهما. الغرض الثاني إفادة التوكيد: جاء في (الكتاب): " وتكون [يعني ما] توكيدًا لغوا وذلك قولك (متى ما تأتني آتك) وقولك (غضبت من غير ما حرم) وقال الله عز جل: {فبما نقضهم ميثاقهم} [النساء: 155]، فهي لغو .. وهي توكيد للكلام (¬4). وجاء في (المقتضب): " فـ (ما) تدخل على ضربين: ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 281، المقتضب 2/ 47 (¬2) الأشباه والنظائر 1/ 97 - 98 (¬3) الكليات 366 (¬4) كتاب سيبويه 2/ 305

أحدهما أن تكون زائدة للتوكيد، فلا يتغير الكلام بها عن عمل ولا معنى فالتوكيد ما ذكرته في هذه الحروف سوى (حيثما) و (إذ ما). واللازم ما وقع فيهما ونظيرهما قولك: (إنما زيد أخوك) منعت (ما) (إن) عملها" (¬1). وجاء في (شرح ابن يعيش): " قد تزاد (ما) مع (إنْ) الشرطية مؤكدة، نحو قولك: (إما تأتني آتك) والأصل: إن تأتني آتك، زيدت (ما) على (إنْ) لتأكيد معنى الجزاء، ويدخل معها نون التوكيد، وإن لم يكن الشرط من مواضعها، لأن موضعها الأمر والنهي، وما أشبههما، مما كان غير موجب، وذلك نحو قوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى} [البقرة: 38]، وقال سبحانه: {فإما ترين من البشر أحدا} [مريم: 26]، وقال: {وإما تعرضن عنهم} [الإسراء: 28]. والعلة في دخولها أنها لما لحقت أول الفعل بعد (إن) اشبهت اللام في (والله ليفعلن) فجامعتها نونا التوكيد، كما تكون مع اللام في (ليفعلن) وجهة التشبيه بينهما أن (ما) هنا حرف تأكيد، كما أن اللام مؤكدة .. وقد يجوز أن لا تأتي بهذه النون مع فعل الشرط، وذلك نحو قولك: إما تأتني آتك (¬2). وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم} [فصلت: 20]، " فإن قلت: (ما) في قوله (حتى إذا ما جاؤها) ما هي؟ قلت: مزيدة للتأكيد، ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة، أن يكون وقت الشهادة عليه، ولا وجه لأن يخلو منها، ومثله قوله تعالى: {أثم إذا ماوقع آمنتم به} [يونس: 51]، أي لابد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به (¬3). ¬

_ (¬1) المقتضب 2/ 54 (¬2) شرح ابن يعيش 9/ 5، وانظر الهمع 2/ 63 (¬3) الكشاف 3/ 69

والظاهر من أقوال النحاة أن (ما) تؤدي معني الإبهام والتوكيد معا، وإن كان يصرح أحيانا بالإبهام، وأحيانا بالتوكيد، وقد جمع بينهما ابن يعيش فقال: " وقد تدخل (ما) (أين ومتى) للجزاء، زائدة مؤكدة، نحو متى ما تقم أقم، وأينما تجلس أجلس معك. قال الشاعر: متى ما ير الناس الغني وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد. وقال الله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت} [النساء: 78]، وقال: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]، فإذا دخلت عليهما (ما) زادتهما إبهاما وازدادت المجازاة بهما حسنا" (¬1). فذكر أنها زائدة مؤكدة، ثم قال: زادتهما إبهاما. ومعنى التوكيد أظهر من الابهام في الاستعمال القرآني، والاستعمال العربي، فإنا لا أرى إبهاما في قوله تعالى: {حتى إذا ماجاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم} [فصلت: 20]، وتخصيصا في قوله: {حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها} [الزمر: 17]، فالكلام في الحالتين على أهل النار، ومجيئهم إياها، فلم كانت (إذا) الأولى مبهمة، والثانية غير مبهمة. وكذلك قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحلهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92]، فهذه الآيات نزلت في جماعة مخصوصين، في حادثة معينة مخصوصة، فكيف تكون (إذا) ههنا مبهمة؟ أما التوكيد فهو ظاهر واضح يدل عليه الاستعمال والقياس، فإن (ما) تزاد غير كافة تزاد كافة، وذلك نحو زيادتها بعد الأحرف المشبهة بالفعل، وبعد طائفة من حروف الجر وبعد المضاف، نحو (غضبت من غير ما جرم) فهي إذا زيدت غير كافة كانت للتوكيد في كل مواطنها، وقد مر بنا هذا في أكثر من موطن. ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 4/ 105 - 106

وإذا كانت كافة كان لها غرض آخر، كما سبق أن ذكرنا في بحث الأحرف المشبهة بالفعل وحروف الجر. وهي هنا زيدت غير كافة، ولا مغيرة من طبيعة الأداة، فهي مؤكدة، ويدل على ذلك أيضا الاستعمال القرآني، فحيثما زيدت (ما) مع (إنْ) الشرطية أكد شرطها بالنون، ولم يتخلف من ذلك موطن واحد، وقد وردت في أربعة عشر موضعا، وذلك نحو قوله تعالى: {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى} [الأنعام: 68]. وقوله: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58]. وقوله: {وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك} [الرعد: 40]. وهذا التوكيد كثير غالب في كلام العرب، وهذا يدل على أنها تفيد التوكيد، ألا ترى أن (إنّ) لما كانت مؤكدة قد يؤتى معها باللام زيادة في التوكيد، وأن القسم لما كان مؤكدا كان جوابه أيضا مؤكدا، فهو قد يجاب بـ (إنّ) واللام، أو يجاب باللام ونون التوكيد في الفعل المضارع، او يجاب باللام و (قد) في الفعل الماضي. فهذا دليل ظاهر على أنها تفيد التوكيد، إذ لم يؤكد شرطها مع (ما)، ولا يؤكد من دونها؟ ثم إن مواطن الاستعمال تدل على التوكيد. جاء في (درة التنزيل وغرة التأويل) للخطيب الإسكافي: قوله تعالى: {حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم} وجلودهم بما كانوا يعملون} [فصلت: 20]، وقال في سورة الزخرف: {حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} [الزخرف: 38]، وقال قبله: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} [الزمر: 71]، يعني أبواب جهنم، وقال بعدها: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} [الزمر: 73] يعني أبواب الجنة.

للسائل أن يسأل عن زيادة (ما) بعد (إذا) في سورة السجدة (¬1) وحذفها من الموضع الاخر. الجواب أن يقال: أنه إذا قصد توكيد معنى الشرط الذي تضمنته (إذا) لقوة معنى الجزاء، استعملت (ما) بعدها فقوله تعالى: {حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم} شهادة السمع وسائر الجوارح، من المعاني القوية التي لا يقتضيها الشرط الذي هو المجيء، ألا ترى استنكارهم لها حتى قالوا لجلودهم (لم شهدتم علينا) فأجابوا بأن قالوا: {أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} وليس كذلك: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} لأن المجيء يقتضي فتح الأبواب .. وكذلك: {حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك} [الزخرف: 38]، أي قال الآدمي لقرينه من الجن اللذين اشتركا في الدنيا في معصية الله، ثم اشتركا في العذاب في الاخرة: ليتني لم أتبعك وكان بعد ما بين المشرقين بيني وبينك. وهذا أيضا مما يتوقع كونه منهما، ثم يتبرى بعض من بعض، فليس في الجزاء ما يوجب قوة الشرط الذي لا يتوقع، ولا يستفاد إلا به ومنه (¬2). ثم إن شهادة السمع والأبصار والجلود أمر مستغرب، بخلاف فتح الأبواب ونحوه فأكده لذلك. وقال تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا مادعوا} [البقرة: 282]، زيدت (ما) مؤكدة على الشهداء حضور الشهادة عند الدعوة إليها، بخلاف قوله تعالى: {إذ تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282]، وقوله: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282]، وذلك لأن الشهيد قد يتباطأ، ويتكاسل، أو ينكص، عن الشهادة، لأنه ليست له مصلحة خاصة به أو قد تلحق به ضررا فحتاج إلى التوكيد. ¬

_ (¬1) يعني سورة فصلت (¬2) درة التنزيل وغرة التأويل 417 - 418

وقال تعالى: {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون} [الأنبياء: 45]، أي وإن تطاول الإنذار وتكرر، وأكد، بخلاف قوله تعالى: {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} [النمل: 80]، فتوليتهم مدبرين، لا تحتاج إلى توكيد كالانذار. وقال: {أث إذا ما وقع آمنتم به} [يونس: 51]، أي أنهم لا يؤمنون إلا إذا حل العذاب يقينا، لا حدسا، ولا تخمينا، ولا استنتاجًا يدل على ذلك سياق الآية، قال تعالى: قبل هذه الآية: {قل أريتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون، أثم إذا ما وقع آمنتم به آلان وقد كنتم به تستعجلون} [يونس: 50 - 51]. وقال تعالى: {ليس على الذين أمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأمنوا ثم اتقوا وأحسنوا} [المائدة: 93]، فزاد (ما) بعد (إذا) توكيدًا للتقوى، يدلك على ذلك تكرارها ثلاث مرات في الآية {إذا ما اتقوا .. ثم اتقوا وأمنوا ثم اتقوا وأحسنوا}. وهكذا كل ما ورد واضح فيه معنى التوكيد. وكذلك زيادتها بعد (إنْ) قال تعالى: {فإما ترين من البشر أحدًا فقولي إني نذرت للرحمن صوما} [مريم: 26]، واحتمال الرؤية احتمال قوي جدًا، فأكدها وقت وقعت. وقال: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما ياتينكم مني هدي فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقي} [طه: 123]، وهذا الكلام في آدم وإبليس، واحتمال إنزال الهدى، أي الرسالات السماوية مؤكد، فأكده وقد حصل. وقال: {قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين} [المؤمنون: 93 - 94]. واحتمال إراءته ما يوعدون احتمال قوى فأكده، وقد أراه الله ذلك فيما بعد في بدر وغيرها. وهكذا سائر ما ورد من الآيات مما يدل على ان (ما) إنما زيدت للتوكيد، والله أعلم.

تقديم الاسم على فعل الشرط تقول العرب (إذاجاءك محمد فأكرمه)، وتقول: (إذا محمد جاءك فأكرمه)، قال تعالى: {إن ترك خيرًا الوصية} [البقرة: 180]، وقال: {إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} [النساء: 176]، وقال: {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار: 1 - 2]. وهذا عند الجمهور من باب حذف فعل الشرط، الذي يفسره الفعل المذكور بعده، والتقدير: إن هلك امرؤ هلك، وإذا انفطرت السماء انفطرت، وذلك لأن أداة الشرط لا تليها إلا الأفعال (¬1). وعند الكوفيين أنه مرفوع بالفعل بعده، وهو فاعل متقدم على فعله (¬2). أو مبتدأ خبره ما بعده (¬3). إن تقدير الجمهور بعيد عن المعنى، مفسد لصحة الكلام، مؤد إلى ركة بالغة فيه، إذ ما الغرض من هذا الحذف، والذكر مع العلم بأن المفسر والمفسر لفظ واحد بعينه، لا يزيده إيضاحا ولا بيانا ولا تفسيرا؟ فلو كان المفسر يعطينا معنى زائدا على المفسر، وإيضاحا لم يكن فيه، لكان مقبولا، ولكن الفعل المذكور هو نفس المحذوف، فما الغرض إذن من الذكر والحذف؟ إن التفسير مقبول في نحو قوله تعالى: {وأسروا النجوي الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: 3]، فإنه فسر النجوى، ووضحها بقوله: (هل هذا إلا بشر مثلكم) وفي قوله: {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 283، المقتضب 2/ 74، الهمع 2/ 66 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 283 (¬3) انظر شرح ابن عقيل 2/ 11، حاشية الصبان 2/ 59

وأنفسكم} [الصف: 10، 11] ففسر التجارة بقوله: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}. ولكن أين الإيضاح في قولنا: (إذا جاءك محمد جاءك فأكرمه)؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه بموجب هذا التقدير لا فرق بين قولنا (إذا جاءك محمد فأكرمه) و (إذا محمد جاءك فأكرمه) وقوله (إذا السماء انشقت) و (إذا انشقت السماء) فيكون تقديم الاسم وتأخيره واحدًا، ولا غرض لذلك سوى التقدير المفسد لجمال التعبير وفصاحته. كان ينبغي للنحاة أن يقولوا: إنه قد يلى الفعل أداة الشرط في كلام العرب، نحو: {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1]، وقد يليها الاسم ثم فعل الشرط، نحو: {إذا السماء انفطرت} [الانفطار: 1]، والفرق بين التعبيرين في المعنى هو كذا وكذا. وهذا أمثل من التقدير الذي يفسد المعنى ويضيعه ويذهب بجمال الكلام وفصاحته. وعلى أي حال فالمعنى في التعبيرين مختلف ولا شك. وإن تقديم الاسم على فعل الشرط إنما هو للعناية والاهتمام الذي هو الغرض من التقديم عمومًا، وتختلف أوجه العناية هذه، فقد يكون التقديم للتخصيص، وهو أهم غرض للتقديم، وذلك نحو قولنا (إذا محمد جاءك فأكرمه) و (إذا جاءك محمد فأكرمه) فإن الجملة الأولى تفيد التخصيص، ومعناه أن الاكرام مختص بمحمد دون غيره، فإذا جاءك غيره فلا تكرمه، أما الثانية فهو طلب الاكرام لمحمد من غير تخصيص له به والمعنى أكرم محمدًا عند مجيئه، هو أي الخاطب، غير منهي عن إكرام غيره، وهو كقولنا (أكرم محمدا) و (محمدا أكرم) فإن في الثانية تخصيصا دون الأولى. ومن هذا الباب قوله تعالى: {لو أنتم تملكون خزائن رحمةِ ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق} [الإسراء: 100]. جاء في (الكشاف) في هذه الآية: " إن (تملكون) فيه دلالة على الاختصاص، وإن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ، ونحوه قول حاتم، (لو ذاتُ سوار لطمتني)

وقول المتلمس: ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر (¬1). وقد يكون التقديم للتهويل، وذلك نحو قوله تعالى: {إذا السماء انشقت} [الإنشقاق: 1]، وقوله: {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت} [الانفطار: 1 - 4]. فهذه من مواطن التهويل، وذلك أن انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار وبعثرة القبور، كل ذلك مما يؤدي إلى الهول الكبير والرعب، فقدمها لهذا الغرض، ألا ترى أنه قال: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} [الزلزلة: 1]، فلم يقدم الاسم وذلك لأن مشهد الزلازل واقع متكرر على الأعوام والأيام، وإن كانت هذه الزلزلة أعظم منها جميعا بخلاف المشاهد التي ذكرها، فإنه لم يحدث أن انشقت السماء، أو انفطرت أو انتثرت النجوم أو تفجرت البحار، فالهول والفزع ههنا أكبر، وأكبر، فقدم ما قدم للتهويل. وقد يكون للتعظيم، نحو: (إذا الحبر أفتى بذاك، فقد كفانا مؤونة البحث والتنقير) و (إذا ابن حجر صحح الخبر فكيف نرده) ونحو ذاك. وقد يكون لتعجيل المسرة أو المساءة، نحو (إذا الحبيب حضر وهبت لك ما تريد) و (إذا ولدك عاد من سفره فماذا تعطيني) أو تقول: (إذا السفاك ملك البلاد، فلا خير في الحياة).وقد يكون للتحقير، نحو (إذا الجاهل الغبي أصبح سيدا علينا فبطن الأرض خير لنا من ظاهرها) و (إذا هذا الجبان الذليل أهانك فتعسا لك) إلى غير ذلك من أغراض التقديم الأخرى. ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 247، وانظر التفسير الكبير 21/ 63

اقتران جواب الشرط بالفاء وإذا الفجائية اقترانه بالفاء

اقتران جواب الشرط بالفاء وإذا الفجائية اقترانه بالفاء قد يرتبط جواب الشرط بالفاء نحو قوله تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [الحج: 18]، ويجب ذلك إذا كان الجواب لا يصلح أن يقع شرطًا، فإن صلح وقوعه شرطا فلا يجب ربطه بالفاء، ويذكر النحاة المواطن التي يجب فيها اقتران الجواب بالفاء، وهي على وجه الإيجاز: 1 - أن يكون الجواب فعلا مقترنا بـ (قد) أو كان زمنه ماضيًا، وإن لم يقترن بـ (قد) لفظًا نحو قوله تعالى: {وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت} [يوسف: 27]، وقوله: {إن كنت قلته فقد علمته} [المائدة: 116]. فإذا دل على وعد أو وعيد، جاء ارتباطه بالفاء، وذلك على تنزيل المستقبل منزلة الماضي، لأنه محقق الوقوع، وذلك كقوله تعالى: {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} [النمل: 90]، أي كأن الأمر قد حصل. 2 - أن يكون طلبيا، نحو قوله تعالى: {فإذا استئذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} [النور: 62]. 3 - أن يكون جامدًا، نحو: {إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك} [الكهف: 39 - 40]. 4 - أن يكون مقترنا بحرف استقبال كالسين وسوف نحو قوله: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم} [المائدة: 54]. 5 - أن يكون مقترنا بـ (لن) أو (لما) نحو: (إن جاءني فلن أفرط في حقه). 6 - أن يكون جملة إسمية، نحو قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم} [البقرة: 234]، ونحو: (من جد فالمستقبل له) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر التصريح 2/ 249، شرح الرضي على الكافية 2/ 291

هذه أهم المواطن التي تقترن بها الفاء. هذه المواطن لا يصح أن تقع شرطًا، فإذا وقعت جوابًا اقترنت بالفاء. وسبب اختيار الفار للربط، هو أنها (أي الفاء) تفيد السبب عموما في الشرط وغيره، تقول: (الطفل يبكي فيضحك أخوه) و (يقوم خالد فيقوم محمد)، قال تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر} [الكوثر: 1، 2]، فجيء بها في الشرط للدلالة على السبب. جاء في (التصريح): " وخصت الفاء بذلك لما فيها من معنى السببية (¬1). وقال أبو حيان: " وهذه الفاء هي فاء السبب الكائنة في الإيجاب، في نحو قولك: (يقوم زيد فيقوم عمرو)، وكما يربط بها عند التحقيق يربط بها عند التقدير (¬2). وقال ابن يعيش: " فأتوا بالفاء لأنها تفيد الاتباع، وتؤذن بأن ما بعدها مسبب عما قبلها" (¬3). وليست هذه مهمة الفاء فقط، بل هي قد تفيدنا أيضا في تعيين الجزاء، وإيضاح المعنى وإن حذفها قد يؤدى إلى الالباس، أو على عدم اكتمال المعنى في تعبيرات عديدة، وذلك نحو قولنا: (من أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها) ألا ترى أنا لو حذفنا الفاء وقلنا (من أحسن لنفسه) كان (لنفسه) متعلقا بـ (أحسن)، وبقي الكلام غير تام، فلما جئنا بالفاء اتضح القصد وتم المعنى. ونحو قوله تعالى: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} [البقرة: 272]، فلو قلت: (وما تنفقوا من خير لأنفسكم) لم يكتمل المعنى، لأن المجرور ارتبط بالشرط فأصبح في حيزه ولم يصبح في حيز الجزاء، وكذا لو قلت: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم} [الشوري: 48]، كان الجزاء (فبما قدمت أيديهم)، وكان المعنى أنه إذا أصابتهم سيئة، ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 250 (¬2) الهمع 2/ 60 (¬3) شرح ابن يعيش 9/ 2

فإنه بسبب ما اكتسبته أيديهم، ولو حذفنا الفاء لم يتم المعنى. ومثله (إذا استعنت فبالله) أي فاستعن بالله، ولو حذفت الفاء لم يتم المعنى، لأن المجرور يرتبط بالفعل. ثم إن المعنى قد يتغير بتغير موضع الفاء في الجملة، وذلك نحو قوله تعالى: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} [البقرة: 233]، فإذا قلت (فإن ارادا فصالا فعن تراض منهما) كان المعنى أنهما إذا أرادا الطلاق فإنما أراداه عن تراض، أي أن التراض على الطلاق، وقع وحصل. وانظر إلى قولنا: (إن تركه لك عن طيب نفس تأخذه) فإن الجوابهو: (تأخذه) والمعنى إذا تركه طيبة نفسه أخذته، ولكن لو قلنا (إن تركه لك فعن طيب نفس تأخذه) كان المعنى أنه إذا تركه فأخذك له عن طيب نفس، أو يكون: إن تركه لك، فقد تركه عن طيب نفس (وتأخذه) استئناف أي أنت تأخذه، ولو قلنا (إن تركه فلك عن طيب نفس تأخذه) كان المعنى إذا تركه فهو لك، تأخذه عن طيب نفس. ونحو ذلك أن تقول: (إن أكرمت كريما أعاده عليك بخير مما فعلت) فالجواب هنا (أعاده)، ولكن إذا قلت (إن أكرمت فكريما أعاده عليك بخير مما فعلت) كان المعنى: إن أكرمت فقد أكرمت كريمًا، وجملة (أعاده عليك) صفة، ولو قلت (إن أكرمت كريما أعاده عليك بخير فمما فعلت) كان المعنى إذا أكرمت كريما هذه صفته فهذا من فعلك. ونحوه: (إذا مشيت إلى مكرمة فلي أجرها) و (إذا مشيت فإلى مكرمة لي أجرها) فالجواب في الثانية (إلى مكرمة) و (لي أجرها) نعت لها، والجواب في الأولى (فلى أجرها). وانظر إلى قوله تعالى: {إن كان قميصه قد من قبل} [يوسف: 26]، فلو قلت (إن كان قميصه قد فمن قبل) كان المعنى أن قميصه قد من قبل. وكذا قوله تعالى: {إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا} [هود: 88]، والجواب في الآية محذوف، ولو قلت (إن كنت على بينة فمن ربي) كان المعنى أنى إذا

دخول الفاء جوازا على الجواب

كنت على بينة، فذاك من ربي، وكان (فمن ربي) هو الجواب. وتقول: (إذا أرسلنا لهم قاضيًا بينهم بالعدل)، فالجواب: (قضى) فإذا جئت بالفاء كان الجزاء حيثما وضعتها فيه، فإن قلت: (إذا أرسلنا لهم قاضيا قضى بيهم فبالعدل) كان الجواب (بالعدل) أي بالعدل كان حكمه، أو فبالعدل فعلنا، وتقول: (إذا أرسلنا لهم فقاضيا قضي بينهم بالعدل) أي إذا أرسلنا أحدًا، فإنا أرسلنا قاضيا، وكان (قاضيا) هو الجزاء وجملة (قضى بينهم) نعت له. ونحوه أن تقول (إذا قضيت أمرًا فلا راد له)، والجواب (فلا راد له)، ولو قلت (إذا قضيت فأمر لا راد له) كان المعنى فقضاؤك أمر لا راد له، وكانت (لا راد له) صفة، أو تقول (فأمرًا) أي فقد قضيت أمرًا. وانظر إلى هذه الجملة كيف يتغير المعني بتغير موضع الفاء: إذا رأيت إبراهيم حاد عني. إذا رأيت إبراهيم حاد فعني. إذا رأيت فإبراهيم حاد عني. فالفاء ليست لمجرد الربط، بل لها غرض آخر، لا يتضح المعنى إلا بها أحيانا. دخول الفاء جوازا على الجواب: قد يقترن جواب الشرط بالفاء جوازا، وذلك إذا كان الفعل ماضيًا وقصد به وعد أو وعيد، وذلك نحو قوله تعالى: {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} [النمل: 90]، أو كان مضارعًا مجردًا، أو منفيًا، بـ (لا) وقيل بـ (لم) أيضًا (¬1). وذلك نحو قوله تعالى: {ومن كفر فأمتعه قليلا} [البقرة: 126]، وقوله: {فإن طلقها فلا تحل له} [البقرة: 230] ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن الناظم 288، التصريح 2/ 249

أما الماضي الذي قصد به وعد أو وعيد، فاقترانه بالفاء يدل على أنه نزل منزلة ماضي المعنى مبالغة في تحقق وقوعه (¬1)، أي كأن الأمر حصل وتم. وأما المضارع المجرد أو المنفي بلا، فهو عند الأكثرين على تقدير مبتدأ بعد الفاء قالوا ولذا يرتفع الفعل بعدها. جاء في (الهمع): " ويرفع الجواب وجوبًا إن قرن بالفاء سواء كان فعل الشرط ماضيا نحو: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95]، أم مضارعًا، نحو: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا} [الجن: 13]، رفع لأنه حينئذ من جملة إسمية، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه، فهو لا يخاف (¬2). وقال الرضي: " مذهب سيبويه تقدير المبتدأ في الأخير، ليكون جملة إسمية في التقدير، وقال المبرد لا حاجة إليه .. وإن ثبت نحو قولك: (إن غبت فيموت زيد) لم يكن لمذهب سيبويه وجه، إذ لا يمكن في مثله تقدير مبتدأ إلا ضمير الشأن، ولا يجوز إلا بعد المخففة قياسًا، وبعد إن وأخواتها ضرورة (¬3). وهذا الافتراض الذي ذكره الرضي ثابت في فصيح الكلام، ولا داعي للتوقف فيه، قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} [القصص: 84]، فلا يصح تقدير مبتدأ ههنا. والذي يبدو لي أن هذه الفاء لها غرض في الكلام، وليس دخلوها كخروجها. أما دخولها على الفعل الماضي، فقد ذكر النحاة الغرض منه، وهو الاشعار بأن الحدث وقع فعلا، أو هو بمنزلة الواقع تحقيقا وتأكيدًا له. ¬

_ (¬1) شرح الأشموني 4/ 23، حاشية الصبان 4/ 23 (¬2) همع الهوامع 2/ 60، وانظر التصريح 2/ 249 - 250، كتاب سيبويه 1/ 437 - 438 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 292

وأما في المضارع فالذي يبدو أنها تفيد التوكيد، فقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230]، آكد من قولنا (فإن طلقها لا تحل) بلا (فاء). وقوله: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} [طه: 112]، آكد من قولنا (لا يخف ظلما ولا هضما). ويدل على ذلك أمور منها: إن الفاء قد تكون زائدة للتوكيد. جاء في (المغنى) في معاني الفاء: " الثالث أن تكون زائدة دخولها في الكلام كخروجها" (¬1). وجاء في (حاشية الدسوقي على المغنى) تعليقا على هذا القول: " فلا ينافي أنها تفيد توكيد المعنى وتقويته لقولهم: إن زيادة الحرف تدل على زيادة المعنى، وقد ينضم لذلك تزيين اللفظ تحسينه، وإلا كان ذلك عبثا" (¬2). ويدل على ذلك استعمالها في غير الشرط، فهي قد تفيد التوكيد، قال تعالى: {وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر} [المدثر: 3 - 5]. يذكر النحاة أن الفاء دخلت هنا لمعنى الشرط " كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره" (¬3). والحق أنا لا نشم رائحة للشرط هنا، بل هو زيادة في التأكيد والتخصيص، فقدم المفعول للتخصيص، وجاء بالفاء زيادة في التوكيد، ونحوه قوله تعالى: {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} [الزمر: 66]، وقوله: {وإياي فارهبون} [البقرة: 40]، فجاء بالفاء زيادة في التوكيد. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 177 (¬2) حاشية الدسوقي 1/ 177 (¬3) الكشاف 3/ 285

وقد ذهب أبو الفتح إلى أنها زائدة، في نحو (وربك فكبر) ونحوه أن يقال: زيدًا فاضرب وعمرًا فاشكر (¬1). والفاء لا تزال تستعمل عندنا في لغتنا الدارجة في العراق لتوكيد الكلام، تقول: (والله ما أروح) فإذا أكدناه قلنا (والله فلا أروح). وإذا كانت تستعمل في الفعل الماضي، للدلالة على تأكيد وقوع الفعل، فما المانع من أن تكون كذلك في المضارع؟ ويدلك على ذلك الاستعمال القرآني، فقد جاءت الفاء في المواطن التي فيها زيادة في التوكيد، قال تعالى: {إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون} [يونس: 49]. وقال: {فإذا جاء أجلهم لا يستخرون ساعة ولا يستقدمون} [النحل: 61]، وقال في سورة الأعراف أيضا: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34]. فأنت ترى أنه أتى بالفاء في آية يونس، ولم يأت بها في الآيتين الأخريين، وسبب ذلك - والله أعلم - إن الموطن في سورة يونس آكد، يدل على ذلك سياق الآيات: قال تعالى في سورة يونس قبل هذه الآية: {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرًا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون} [يونس: 47 - 49]. وقال في سورة الأعراف: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 33 - 34]. ¬

_ (¬1) انظر التفسير الكبير 30/ 191، في قوله تعالى: {وربك فكبر}.

وقال في سورة النحل: {للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون} [النحل: 60 - 61]. فالكلام في سورة يونس هو في آجال الأمم وحسابها يوم القيامة، فقد ذكر أن كل أمة إنما تدعي وتحاسب بأجلها المحدد لها، والمشركون ينكرون هذا ويسخرون منه قائلين، {أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} [ق: 3]، ويقول بعضهم لبعض: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} [سبأ: 7] وفي هذا الموطن أيضا يسخرون قائلين: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48]، فأنكارهم هذا يستدعي التوكيد، ولذا قال بعد هذه الآيات: {ويستنبئونكأحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين} [يونس: 53]، فيأمر الرسول أن يقسم لهم على ذلك، فموطن التوكيد واضح في آية يونس، بخلاف المواطنين الآخرين. أما آية الاعراف فإذا ذكر الأجل يأتي فيها عرضا كما هو ظاهر من السياق. وآية النحل كذلك، فإنها جاءت تعليقا على معتقدهم بأن الملائكة بنات الله مع أنهم يكرهونهن لأنفسهم، قال: {ويجعلون الله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتواري من القوم من سوء ما بشر به ايمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} [النحل: 57 - 59]، فرد الله عليهم بقوله: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} [النحل: 60]. ثم قال: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم .. الآية} [النحل: 61]، أي أن هؤلاء ظلموا وجاروا في قولهم فنسبوا إلى الله ما لا يليق به، فلو يؤاخذهم بذلك لعجل لهم العذاب، ولكنه يؤخرهم إلى أجل مسمى لا يتعدونه، ثم يعود بعد هذه الآية إلى حكاية معتقدهم الباطل، فيقول: {ويجعلون لله ما يكرهون} أي البنات لأنهم يكرهونهن، كما حكي عنهم ذلك.

فأنت ترى أن ذكر الأجل جاء عرضا في اثناء الكلام على الاعتقادات الباطلة، وليس كذلك الأمر في سورة يونس، فإن السياق فيها إنما هو في آجال الأمم وحسابها في اليوم الآخر، الذي ينكره المتحدث عنهم من الكفرة، فاحتاج الكلام إلى زيادة توكيد بخلاف المواطنين الآخرين. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} [الجن: 13]، " فلا يخاف -فهو لا يخاف أي فهو غر خائف، ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبره دخلت الفاء ولولا ذاك لقيل (لا يخف). فإن قلت: أي فائدة في رفع الفعل، وتقدير مبتدأ قبله، حتى يقع خبرا له، ووجوب إدخال الفاء، وكان ذلك كله مستغني عنه بأن يقال: لا يخف؟ قلت: الفائدة فيه، أنه إذا فعل ذلك، فكأنه قيل فهو لا يخاف، فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة، وأنه هو المختص بذلك دون غيره (¬1). فقد ذكر أن الفاء دلت على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة، ولكنه لم يخرج من دائرة النحاة في تقدير مبتدأ ليكون الكلام من باب التخصيص، وهذا ما لا داعي له، ولا يصدق على كثير من التعبيرات، فأين التخصيص في قوله تعالى مثلا: {قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا} [الأحقاف: 8]. فإن تقديره كما يذهب النحاة (فأنتم لا تملكون لي من الله شيئا) وعلى هذا التقدر يفيد الكلام تخصيصا، ولكن المعنى يأباه، فهم لا يملكون له من الله شيئا، كما لا يملك غيرهم له من الله شيئا فليسوا هم مختصين بهذا الأمر. ويرد هذا ايضا أنه لا يصح تقدير مبتدأ أحيانا بعد الفاء، كما ذكرنا فينتفي هذا المعنى، إن صاحب الكشاف لو اقتصر على معنى التحقيق، لكان كلامه اسلم، ومذهبه أسد، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الكشاف 3/ 270

اقترانه بـ إذا الفجائية

وجاء في (أنوار التنزيل) في قوله تعالى: {فمن اتقي وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف: 35 - 36]، قوله: " وإدخال الفاء في الخبر الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد" (¬1). فقد ذكر أن ادخال الفاء أفاد المبالغة في الوعد، ومعنى المبالغة ههنا التوكيد، بخلاف عدم ذكرها، فدل ذلك على صحة ما ذكرناه، والله أعلم. اقترانه بـ إذا الفجائية قد يقترن جواب (أنْ) و (إذا) من بين أدوات الشرط بـ (إذا) الفجائية، وذلك إذا كان الجواب فيه شروط معينة يذكرها النحاة. جاء في (التصريح): " ويجوز أن تغني (إذا) الفجائية عن الفاء في الرابط، لأنها أشبهت الفاء في كونها لا يبتدأ بها، ولا تقع إلا بعد ما هو معقب بما بعدها، فقامت مقامها إن كانت الأداة الجازمة (أن) .. أو كانت الأداة غير الجازمة (إذا) الشرطية، لأنها تشبه (إن) في كونها إم باب الشروط غير الجوازم، والجواب فيها جملة إسمية موجبة غير طلبية، وغير مقرونة بـ (إن) التوكيدية (¬2). وعلى هذا فإن الجواب ليصلح اقترانه بـ (إذا) الفجائية، يجب أن تكون فيه الشروط الآتية: 1 - أن يكون جملة إسمية، فإن كان فعلية، لم يجز اقترانها به، فلا يجوز اقترانها في نحو (إن كان قميصه .. فصدقت). 2 - أن تكون الجملة مثبتة فإن كانت منفية، لم يصح اقترانه بها، فلا يجوز (أن يسافر إذا ما أنا مسافر). ¬

_ (¬1) أنوار التنزيل 204 (¬2) التصريح 2/ 251، وانظر الأشموني 4/ 23، الهع 2/ 60

3 - أن تكون الجملة خبرية فإذا كانت غير خبرية لم يصح اقترانه بها، فلا يجوز (إن عصيت إذا ويل لك). 4 - أن تكون غير مقرونة بـ (أن) المؤكدة فلا يصح أن تقول: (إن تذهب إذا إني معك). ومثال ما اجتمعت فيه الشروط، قوله تعالى: {وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} [الزمر: 45]، وقوله: {إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا انتم تخرجون} [الروم: 25]. وهناك شرط أغفله النحاة، وهو أن يحتمل الكلام معنى المفاجأة، وإلا لم يحسن دخولها وإن وجدت الشروط، فلا يحسن مثلا أن يقال في نحو قوله تعالى: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]، (إذا هو خير لكم) فإنه ليس فيها معنى المفاجأة. ولا يحسن في نحو قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282]، أن يقال: (إذا رجل وامرأتان) أو (إذا هما رجل وامرأتان) ولا في نحو قوله تعالى: {وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء: 11]، أن يقال (إذا لها النصف) ولا في نحو قوله: {إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما} [النساء: 135]، أن يقال (إذا الله أولى بهما) ولا في قوله: {وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} [الأنعام: 17]، أن يقال: (إذا هو على كل شيء قدير). بل لابد من توفر عنصر المفاجأة، ليصح الكلام، وذلك نحو قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإنأعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} [التوبة: 58]، أي يسخطون فجأة، وقوله: {إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 25]، أي تخرجون فجأة استجابة لأمر الله.

فلا يسن وضع (إذا) في المواطن التي يذكرها النحاة، إذا لم يكن الموطن صالحًا للمفاجأة. إن الفاء تفيد السبب، ولا تفيد المفاجأةن وهناك فرق بين السبب والمفاجأة، ألا تحس فرقا في المعنى بين قوله {وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} والقول (فهم يسخطون)؟ ألا ترى أن في الأول سرعة تغير ومفاجأة في الموقف، وأما الثاني فسبب محض وليس فيه معنى المفاجأة. تقول: (من سلم فله الجنة) (ومن فتن المؤمنين في دينهم فله عذاب شديد) فالفاء أفادت السبب ولم تفد المفاجأة والسرعة، فالعذاب قد يكون في الآخرة. وعلى هذا فإن (إذا) لا تغني عن الفاء، ولا الفاء تغني عن (إذا) ـ، بل لكل منهما غرض ومعنى. قالوا: " وقد يجمع بين الفاء وإذا الفجائية تأكيدًا، خلافا لمن منع ذلك، قال تعالى: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء: 79]. قال الزمخشري: (إذا) هذه هي الفجائية وقد تقع في المجازاة سادة مسد الفاء، فإذا جاءت الفاء معها، تعاونتا على وصل الجزاء، فيتأكد ولو قيل: إذا هي شاخصة، أو (فهي شاخصة) كان سديدًا. أهـ (¬1). ولا شك أنه قد يجمع بينهما كما ورد في القرآن الكريم، ولكن ليس توكيدا إذ ليسا هما بمعنى واحد، حتى يفيد اجتماعهما التوكيد، بل لجع معني الفاء و (إذا) فيراد باجتاعهما السببية والمفاجأة، قال تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين} [الأنبياء: 96 - 97]، فجمع بين الفاء و (إذا) لإرادة معنى السبب والمفاجأة، وليس حذف أحدهما يغني الآخر عن ذكره، كما هو ظاهر كلام الزمخشري، بل إذا حذف أحدهما لم يؤد الآخر معناه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 251

رفع جواب الشرط بغير الفاء

رفع جواب الشرط بغير الفاء إذا وقع جواب الشرط مضارعًا، والشرط ماضيًا، جاز في جواب الشرط وجهان: الرفع والجزم، نحو (إن جئتني أزرك) و (إن جئتني أزورك) (¬1). قال تعالى: {وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدًا} [آل عمران: 30]، فما الفرق بين التعبيرين في المعنى؟ الذي يبدو ان رفع الفعل اقوى وأدل على الامضاء من جزمه، وذلك لأن أصل الكلام في الرفع تقديم المتأخر والتقدير في الجملة السابقة (أزورك إن جئتني) فيكون الكلام في الرفع قد بني على امضاء الحدث، ثم أدرك المتكلم الشرط مؤخرا (¬2). وأما في الجزم فقد بني الكلام على الشرط ابتداء، ولذلك جزم الجواب. قال سيبويه: وقد تقول (إن آتيتني آتيك) أي آتيك إن أتيتني .. ولا يحسن أن تأتني آتيك من قبل أن (إن) هي العاملة (¬3). فبالحزم يكون الكلام مبنيا على الشرط، وبالرفع يكون الكلام مبنيا على الامضاء ولو كان مبنيا على الشرط لجزم. العطف على الشرط والجواب إذا جئت بفعل مضارع مقرون بالواو أو الفاء بعد فعل الشرط، جاء فيه وجهان: الجزم على الاتباع، والنصب، تقول: (إن تضرب خالد وتهنه اغضب عليك) وتقول: (إن تضرب خالدا وتهينه اغضب عليك) فالجزم على العطف والنصب على المعية. ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 290، شرح ابن الناظم 287، شرح الأشموني 4/ 17 (¬2) انظر الأصول لابن السراج 2/ 196 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 463

اجتماع الشرط والقسم

وتقول: (إن تعنف أخاك فتغضبه لا أكلمك) بالجزم، تقول: (إن تعنف أخاك فتغضبه با أكلمك) بالنصب على السببية. فإن جئت بالفعل بعد الجواب، جاز فيه الرفع على الاستئناف زيادة على الوجهين السابقين (¬1). نحو (إن تكرم سالما أكرمك وأساعدك) فالجزم على العطف، والنصب على المعية، والرفع على الاستئناف، ومعنى الاستئناف أنك تساعده، سواء فعل ذلك أم لا. فمعنى الجزء أنك تساعده أن أكرم سالمًا، ومعنى الرفع أنك تساعده على كل حال وليست مساعدتك له مرتبطة بالشرط ومثله قوله تعالى: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} [آل عمران: 111]، فجاء بالفعل مرفوعا، والمعنى أنهم لا ينصرون وليس ذلك مشروطًا بالقتال، وإنما هو أخبار مستأنف، ولو جزم لكان مشروطا بالقتال. اجتماع الشرط والقسم إذا اجتمع شرط وقسم، فالجواب للسابق منهما، فإن تقدمهما ذو خبر، جاز جعل الجواب لأي منهما (¬2). وذلك لأن المتقدم يكون الكلام مبنيا عليه، فإذا قلت (والله إن زرتني لأكرمنك) فقد بنيت الكلام على القسم، وكان الشرط مقيدًا له، وإن قلت (إن زرتني والله أكرمك) كنت بنيت الكلام على الشرط وجعلت القسم عترضا. جاء في (أمالي ابن الشجري): " والله إن قمت لأقومن - لأقومن جواب القسم والشرط معترض .. وإن تقدم الشرط كان القسم معترضا، والجواب للشرط، مثل: إن قمت والله قمت (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الأشموني 4/ 24 - 25، التصريح 2/ 251 (¬2) التصريح 2/ 253، شرح ابن الناظم 790، شرح ابن عقيل 2/ 126 (¬3) أمالي ابن الشجري 1/ 240، وانظر شرح الرضي على الكافية 2/ 284، كتاب سيبويه 1/ 444

فإن تقدمهما ذو خبر نحو (إنا والله إن تأتني أكرمك) جاز جعل الجواب للقسم أو للشرط، باعتبار أن الكلام بني على اسم متقدم غير الشرط والقسم، وهو يحتاج إلى خبر فيمكن جعل كل من القسم أو الشرط معترضا، فإذا قلت: (أنا والله إن تاتني آتك) جعلت القسم اعتراضا بين المبتدأ والخبر، وإن قلت (أنا والله إن اتيتني لآتينك) جعلت الشرط قيدًا للقسم. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يبدو أن اطلاق لفظ (معترض)، أو (اعتراض) على الشرط غير موفق أحيانا، لأنه قد يفهم أن أهميته ثانوية في الكلام، في حين أنه قد يكون الكلام قسما على الشرط وذلك نحو قوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} [البقرة: 145]، فإنه ليس من السداد أن تقول: إن أصل الكلام: والله إنك لمن الظالمين ثم اعترض بالشرط، كيف وقد أقسم الله على الشرط ونحوه قوله تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121]، فإن القسم مضمر عند النحاة، وتقدير الكلام (ولئن أطعتموهم) بدليل أن الجواب للقسم، ولم يقترن بالفاء. جاء في (الكتاب): " فلو قلت: (إن اتيتني لأكرمتك) وإن لم تأتني لأغمنك. جاز لأنه فيمعنى لئن أتيتني لأكرمنك، ولئن لم تأتني لأغمنك، ولابد من هذه اللام مضمرة أو مظهرة، لأنها لليمين كأنك قلت: والله لئن اتيتني لأكرمتك (¬1). وهو كما ترى قسم على الشرط، فالشرط هو المقصود بالكلام، وقد أقسم الله عليه، فتسميه الشرط معترضا، في نحو هذا تسمية غير موفقة، لا تناسب أهميته في الكلام، ولا في أداء المعنى، وعلى أي حال فهو مصطلح نحوي، وهو نظير التسمية بالفضلة، مع أن المعنى يتوقف عليها أحيانًا، فإذا حذفت ذهب معنى الكلام، وذلك نحو قوله تعالى: ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 436، وانظر المغنى 2/ 640

حذف جواب الشرط

{ولا تمش في الأرض مرحا} [لقمان: 18]، وقوله: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [النساء: 142]، وقوله: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} [الأنبياء: 16]، وقوله الشاعر: إنما الميت من يعيش كئيبا ... كاسفًا باله قليل الرجاء ونحو (ضربي العبد مسيئا) فإذا حذفت الفضلة في نحو هذا، اختل الكلام وفسد المعنى ومع ذلك فالمنصوبات ههنا تسمى فضلة في الاصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح. حذف جواب الشرط أ - حذفه وجوبا: يحذف جواب الشرط وجوبًا، وذلك إذا تقدم عليه أو اكتنفه ما يدل علىه، وكان فعل الشرط ماضيا، نحو: (أزورك إن زرتني) ونحو: (أنت مفلح إن صدقت) و (أنت إن صدقت مفلح) قال تعالى: {وإنا إن شاء الله لمهتدون} [البقرة: 70] (¬1). وعند الكوفيين إن جواب الشرط هو المتقدم، ففي نحو (أزورك إن زرتني) (أزورك) هو الجواب عندهم (¬2). وقد رد البصريون ذاك، بأنه لو كان الجواب هو المتقدم، لجزم إذا كان فعلا، وللزمته الفاء إذا كان جملة إسمية (¬3). فكان يصح أن يقال (أزرك إن رزتني) و (فأنت مفلح إن صدقت) ويرده أيضا أننا نقول (إذا أمطرت السماء نبت الزرع) ولا تقول: نبت الزرع إذا أمطرت السماء" بل تقول (ينبت الزرع)، وتقول: (إذا فارقته الحمي خرج)، ولا تقول: (زرتك إن زرتني) بل نقول (أزورك) فدل على أن المتقدم ليس جوابا للشرط. ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 647 (¬2) انظر شرح الأشموني 4/ 15 (¬3) انظر شرح ابن يعيش 9/ 7

وذهب جماعة من البصريين إلى أن ثمة فرقا في المعنى بين التقديم والتأخير، فإن قولنا (أزورك إن زرتني) الكلام فيه مبني على الوعد غير المشروط، ثم بدا للمتكلم أن يشترط بخلاف ما إذا بدأ بالشرط، فقال (إن زرتني زرتك) فإنه بناه على ابتداء على الشرط. قال ابن السراج" " فأما قولهم (أجيئك إن جئتني) و (آتيك إن تأتني) فالذي عندنا إن هذا الجواب محذوف كفي عنه الفعل المقدم، وإنما يستعمل هذا على جهتين: أما إن يضطر إليه شاعر، فيقدم الجزاء للضرورة، وحقه التأخير. وأما إن تذكر الجزاء بغير شرط، ولا نية فيه، فتقول: (أجيئك) فيعدك بذلك على كل حال، ثم يبدو له إلا يجيئك بسبب، فتقول: إن جئتني، ويستغني عن الجواب بما قدم (¬1). قيل: وليس كذلك بل الكلام مبني على الشرط وإن تأخر. جاء في (البرهان): " ففي التقدم بني الكلام على الخبر، ثم طرأ التوقف، وفي التأخير بني الكلام من أوله على الشرط، كذا قاله ابن السراج وتابعه ابن مالك وغيره. ونوزعا في ذلك، بل مع التقديم مبني على الشرط، كما لو قال: (له على عشرة إلا درهما) فإنه لم يقر بالعشرة، ثم أنكر درهما، ولو كان كذلك لم ينفع الاستثناء. ثم زعم ابن السراج أن ذلك لا يقع إلا في الضرورة، وهو مردود بوقوعه في القرآن، كقوله: {واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} [البقرة: 172] (¬2). أما قوله: أن ابن السراج زعم أن ذلك لا يقع إلا في الضرورة، فهو وهم على ابن السراج، فإنه لم يقل ذاك، وإنما قال: إن هذا التعبير إما أن يقع في ضرورة شعر، وإن الشاعر لم يقصد منه ما يقصد في اختيار الكلام، وإما أن يكون على نية ذكر الجزاء بغير شرط، ثم بدا له أن يذكر الشرط فيما بعد، وهذا حق. ¬

_ (¬1) الأصول 2/ 196 (¬2) البرهان 2/ 366 - 367

وأما ما ذكره صاحب البرهان، فلا أراه ينهض دليلا على رد ابن السراج، فهناك فرق بين القولين، فقولهم (له علي عشرة إلا درهما) جملة واحدة، والجملة الواحدة، تؤخذ بكل قيودها، وأما (أجيئك إن جئتني) فجملتان. وأيا كان الأمر فإنه يبدو على كل حال، أن الحدث المتقدم آكد وأكثر تحقيقا من المتأخر، فعلى ما ذكره ابن السراج أن الكلام مبني على الوعد واليقين، ولم يبن على الشرط ولو بناه على الشرط لجزمه. وعلى مذهب الكوفيين أن هذا مقدم من تأخير فقدم للاهتمام والعناية، ومعنى ذلك أن حدوثه آكد وأقوى. وأما إذا اكتنفه ما يدل عليه، نحو قولنا (أنت إن درست ناجح) فالشرط في نحوه اعتراض من غير شك، فأنت بنيت كلامك على اليقين، ثم اعتراضك الشرط قبل أن تتم الكلام، ونحوه (حمد ظننت مسافر) فإنك أردت أن تخبر عن سفر محمد باليقين ثم اعتراضك الظن. وعلى هذا نحن نقول: إن درست فأنت ناجح أنت إن درست ناجح أنت ناجح إن درست فالجملة الأولى مبنية على الشرط ابتداء، والثانية مبنية على اليقين، والشرط معترض، والثالثة مبنية على اليقين، حتى إذا مضى الكلام على اليقين، أدركك الشرط، فاستأنفته في الكلام، فالنجاح في الجملة الأخيرة آكد، لأن الأخبار مضى على اليقين، أما الشرط فمتأخر، ثم الثانية لأن الشرط اعترض الخبر، ثم الأولى، لأن الكلام فيها مبني على الشرط ابتداء.

ب - حذفه جوازا

أما الاشتراط للحذف، أن يكون فعل الشرط ماضيا في كل ما مر مع القسم، أو مع غيره فإنه يبدو أن العرب لا تجزم بعد أداة الشرط إلا إذا أرادت بناء الكلام على الشرط فإن الجزم بها يعني أن الكلام مبني على الشرط فلا تحذف لأن الكلام سيتناقض إذ كيف يكون الكلام مبنيا على الشرط، واليقين في وقت واحد؟ فإنك إذا قلت (أزورك إن تزرني) كان الكلام مبنيا على الشرط، بدلالة الجزم، وكان مبنيا على اليقين، بدلالة ما تقدم عليه وارتفاعه، إذ لو كان جوابا لجزم فيكون الكلام مبنيا على الشرط واليقين في آن واحد، وهو باطل. قال سيبويه: " وقبح في الكلام أن تعمل (إنْ) أو شيء من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمه في اللفظ ثم لا يكون لها جواب ينجزم بما قبله، ألا ترى أنك تقول (آتيك إن أتيتني) ولا تقول (آتيك إن تأتني) إلا في شعر (¬1). وهذا يؤيد ما ذهب إليه ابن السراج ب - حذفه جوازاً: وهو على ضربين: الأول: أن يحذف اختصارا، نحو قوله تعالى: {قالوا طائركم معكم أين ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} [يس: 19]، أي (تطيرتم) بدليل قوله تعالى: {قالوا إنا تطيرنا} ونحو قوله: {وإذا قيل لهم أتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون} [يس: 45]، أي (أعرضوا) (¬2). جاء في (المقتضب): " فأما حذف الخبر، فمعوف جيد، من ذلك قوله: {ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا} [الرعد: 31]. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 436 (¬2) انظر الإيضاح للقزويني 1/ 187، البرهان 3/ 183، الهمع 2/ 62، الاتقان 2/ 57

قال الراجز: لو قد حداهن أو الجودي يرجز مستحنفر الروي مستويات كنوي البرني لم يأت بخبر لعلم المخاطب، ومثل هذا الكلام كثير، ولا يجوز الحذف حتى يكون المحذوف معلومًا بما يدل عليه من متقدم خبر أو مشاهدة حال (¬1). الثاني: للدلالة على التفخيم والتعظيم. جاء في (البرهان): " قالوا: وحذف الجواب يقع في مواقع التفخيم والتعظيم، ويجوز حذفه لعلم المخاطب به وإنما، يحذف لقصد المبالغة السامع مع أقصى تخيله، يذهب منه الذهن كل مذهب، ولو صرح بالجواب لوقف الذهن عند المصرح به، فلا يكون له ذلك الوقع، ومن ثم لا يحسن تقدير الجواب مخصوصا، إلا بعد العلم بالسياق (¬2). وجاء في (الإيضاح) للقزويني: " أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن، فلا يتصور مطلوبا، أو مكروها، إلا يجوز أن يكون الأمر أعظم منه، ولو عين شيء اقتصر عليه، وربما خف امره، كقوله: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فاخلوها خالدين} [الزمر: 73]، وكقوله: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} [الأنعام: 27]، {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} [الأنعام: 30]، {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم} [السجدة: 12] (¬3). وقال ابن يعيش: " وقال أصحابنا إن حذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى أنك إذا قلت لعبدك: (والله لئن قمت إليك) وسكت عن الجواب ¬

_ (¬1) المقتضب 2/ 81، وانظر كتاب سيبويه 1/ 453 (¬2) البرهان 3/ 183 (¬3) الإيضاح 1/ 187 - 188

ذهب فكره إلى أشياء من أنواع المكروه، فلم يدر أيها يبقي، ولو قلت: لأضربتك فأتيت بالجواب، لم تبق شيئا غير الضرب (¬1). وجاء في (الاتقان): " إنما يحسن الحذف لقوة الدلالة عليه، أو يقصد به تعديد أشياء فيكون في تعدادها طول وسآمة، فيحذف ويكتفي بدلالة الحال، وتترك النفس تجول في الأشياء المكتفي بالحال عن ذكرها، قال ولهذا القصد يؤثر في المواضع التي يراد بها التعجب والتهول على النفس، ومنه قوله في وصف أهل الجنة: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} [الزمر: 73]، فحذف الجواب إذا كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهي، فجعل الحذف دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه، وتركت النفوس تقدر ما شاءته، ولا تبلغ مع ذلك كنه ما هنالك، وكذا قوله: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} [الأنعام 27]، أي لرأيت أمرًا فظيعًا لا تكاد تحيط به العبارة" (¬2). قال تعالى: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم} [الزمر" 71]. وقال: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا، حتى إذا جاءوها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} [الزمر: 73] فقال في أهل جهنم: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} فجعل جواب الشرط (فتحت أبوابها) وقال في أهل الجنة: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} فجاء بالواو (وفتحت) وحذف الجواب. قالوا: لأن جهنم سجن لأصحابها، والسجون مغلقة الأبواب، لا تفتح إلا لداخل فيها أو خارج منها، كما قال تعالى: {إنها عليهم مؤصدة} [الهمزة: 8]، في حين قال في أهل الجنة (وفتحت أبوابها) لأن أبوابها مفتحة، لأنها دار الكرامة، قال تعالى: {جنات عدن ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 9/ 9 (¬2) الاتقان 2/ 57

مفتحة لهم الأبواب} [ص: 50]، وحذف الجواب، لأن الكلام يضيق عن وصف الكرامة التي أعدتلهم. جاء في (الكشاف): في هذه الأية: " وإنما حذف [يعني الجزاء] لأنه في صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف .. وقيل أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها، بدليل قوله: {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} فلذلك جيء بالواو، وكأنه قيل حتى إذا جاؤها، وقد فتحت أبوابها (¬1). وجاء في (البرهان): في هذه الآية أن أبا علي قال: " إنما تركت الواو في النار لأنها مغلقة، وكان مجيئهم شرطًا في فتحها، فقوله (فتحت) فيه معنى الشرط، وإما قوله (وفتحت) في الجنة فهذه واو الحال، كأنه قال: جاؤها وهي مفتحة الأبواب أو هذه حالها. وهذا الذي قاله أبو علي هو الصواب ويشهد له أمران: أحدهما: إن العادة مطردة شاهدة في إهانة المعذبين بالسجون، من إغلاقها حتى يردوا عليها، وإكرام المنعمين بإعداد فتح الأبواب لهم مبادرة واهتماماً. والثاني: النظير في قوله: {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} (¬2). ومن الحذف للدلالة على التهويل والتعظيم، قوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} [الأنعام: 27]، وقوله: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم} [الأنعام: 3]، ويقولون: لو رأيت فلانا والسياط تأخذ منه، قالوا: وهذا الحذف أفخم وأعظم، لأن على هذا التقدير يذهب خاطر المخاطب إلى كل ضرب من الوعيد، فيكون الخوف على هذا التقدير أشد مما إذا كان عين له ذلك الوعيد (¬3). ¬

_ (¬1) الكشاف 3/ 41، وانظر التفسير الكبير 27/ 23 (¬2) البرهان 3/ 189 - 190، وانظر بدائع الفوائد 2/ 174 - 175 (¬3) التفسير الكبير للرازي 4/ 235 - 236، وانظر الكشاف 1/ 249، قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب}.

تشبيه الاسم الموصول بالشرط

تشبيه الاسم الموصول بالشرط قد يشبه الاسم الموصول بالشرط فتدخل في جوابه الفاء، نحو (الذي يدخل الدار فله مكافأة) فإن دخول الفاء معناه أن المكافأة تترتب على دخول الدار، ترتب الجزاء على الشرط، فيكون دخول الدار سببا للحصول على المكافأة وأما حذفها فيحتمل السببية وغيرها، أي يحتمل أن المكافأة مترتبة على الدخول كالجملة السابقة، ويحتمل أن المكافأة ليست مترتبة على الدخول، بل هي له قبل أن يدخل، كأنك تقول: انظر إلى ذلك الذي يدلخل الدار، فإن له مكافأة فليس دخول الدار سببًا للحصول عليها. وعلى هذا فدخول الفاء يفيد التنصيص على السبب، وحذفها لا يفيد التنصيص على شيء، بل يحتمل السببب وغيره. جاء في (الكامل) في قولهم (الذي يأتيني فله درهم) " فدخلت الفاء، لأنه استحق الدرهم بالاتيان، فإن لم ترد هذا المعنى قلت: الذي يأتيني له درهم" (¬1). وقال سيبويه: " وسألته عن قوله (الذي يأتيني فله درهمان) لم جاز دخول الفاء ههنا و (الذي يأتيني) بمنزلة (عبد الله) وأنت لا يجوز لك أن تقول (عبد الله فله درهمان؟ فقال: إنما يحسن في (الذي)، لأنه جعل الآخر جوابًا للأول، وجعل الأول به يجب له الدرهمان، فدخلت الفاء ههنا، كما دخلت في الجزاء إذا قال (إن يأتني فله درهمان)، وإن شاء قال (الذي يأتيني له درهما)، كما تقول: (عبد الله له درهمان) غير أنه إنما دخل الفاء لتكون العطية مع وقوع الاتيان، فإذا قاله (له درهمان) فقد يكون أن لا يوجب ذلك بالاتيان، فإذا أدخل الفاء فإنما يجعل الاتيان سبب ذلك، فهذا جزاء، وغن لم يجزم لأنه صلة (¬2). ولا يفيد حذف الفاء تنصيصا على عدم السبب، كما ذهب إليه المبرد وجماعة من النحاة. جاء في (المقتضب): " ألا ترى أنك تقول: (الذي يأتيك فله درهم) فلولا أن الدرهم يجب الاتيان، لم يجز دخول الفاء كما لا يجوز (زيد فله درهم) و (عبد الله فمنطلق) .. فإذا ¬

_ (¬1) الكامل 2/ 642 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 453 وانظر الخصائص 3/ 324، شرح ابن يعيش 1/ 100 - 101

قلت (الذي يفتح الصندوق له خمسة دراهم) - لا وفاء - فإن قولك هذا يحتمل السببية وغيرها، أي يحتمل أن الحصول على الدراهم يكون بسبب فتح الصندوق، ويحتمل أن الشخص الذي يفتح الصندوق له مبلغ خمسة دراهم، وليست هذه الدراهم يستحقها بسبب فتح الصندوق، بل هي له قبل أن يباشر فتح النصدوق، فكأنك قلت: انظر إلى هذا الشخص الذي يفتح الصندوق، فإن له خمسة دراهم. ولكن إذا قلت (الذي يفتح الصندوق فله خمسة دراهم) فقد جعلت استحقاق الدراهم بسبب فتح الصندوق. قال ابن هشام: " كما تربط الفاء الجواب بشرطه، كذلك تربط شبه الجواب بشبه الشرط، وذلك في نحو (الذي يأتيني فله درهم) وبدخولها فهم ما أراده المتكلم من ترتب لزوم الدرهم على الاتيان، ولو لم تدخل احتمال ذلك وغيره (¬1). وهذا ما أشار إليه سيبويه في قوله الذي ذكرناه " غير أنه إنما أدخل الفاء لتكون العطية مع وقوع الاتيان، فإذا قال (له درهمان) فقد يكون أن لا يوجب ذلك بالاتيان" أي يحتمل ذلك وغيره. قال تعالى: {والآتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء: 15]، فالاستشهاد مترتب على اتيان الفاحشة. وقال: {والذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16]، فالايذاء مترتب على اتيان الفاحشة ترتب الجزاء على الشرط. ويبدو لي أن الفاء ليست لمجرد السبب، بل تفيد التوكيد أيضا، كما ذكرنا ذلك سابقا يدلك على ذلك الاستعمال القرآني. قال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 262]. وقال: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 274]. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 165، وانظر شرح الرضي 1/ 109، التصريح 1/ 174

فجاء في الثانية بالفاء دون الأولى، وذلك لأن الحالة الثانية أمثل، وأكمل من الأولى، يدلك على ذلك كثرة الانفاق وعمومه، والإخلاص فيه في الثانية، فقد قال: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} ولم يقل مثل ذلك في الأولى، فهؤلاء أمثل ممن قبلهم، فأكد لهم الجزاء وربطه بالفاء. وقال: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} [آل عمران: 90]. وقال: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} [آل عمران: 91]. فجاء في الثانية بالفاء دون الأولى، وذلك لما في الثانية من توكيد، وذلك أنهم ماتوا وهم كفار بخلاف الأولى. ومثله قوله تعالى: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم} [محمد: 32]. وقوله: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم} [محمد: 34]. وهو نظير ما مر، فقد جرد الأولى من الفاء، وجاء في الثانية بالفاء توكيدًا، وذلك لأنهم ماتوا وهم كفار. وقال: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} [البروج: 10]. وقال: {إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير} [البروج: 11]. فجاء في الأولى بالفاء دون الثانية، وذلك لأن المقام والسياق يقتضيان توكيد الأولىن وذلك أنها جاءت تعقيبا على الذين فتنوا المؤمنين عن دينهم وجعلوهم في الأخاديد وأضرموا عليهم النار {قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود} [البروج: 4 - 6].

فأكد لهم العذاب بسبب فتنتهم المؤمنين عن دينهم. ويحتمل أن يكون حذف الفاء من أصحاب الجنة إشارة إلى أن دخول الجنة ليس بالعمل وحده، بل هو برحمة من الله، وفضل كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن العمل الصالح لا يبلغ أن يكون مقابلا للجنة، فيكون دخولها برحمة الله واقتسامها بالعمل، قال صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل، فحذف الفاء في أهل الجنة، لأنها ليست السبب للدخول وجاء بها في أهل النار، لأن أعمالهم هي السبب في دخولها والله أعلم. وأما قوله تعالى: {إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} [التين: 6]، فإنه ورد بالفاء، لأن الإيمان والعمل الصالح هما سبب الأجر، فالفرق بين هذه الآية، والتي قبلها، أن تلك في الجنة والعمل ليس مقابلا للجنة، وهذه في الأجر وهو سبب له، والله أعلم. ولا يقتصر التشبيه بالشرط على الاسم الموصول، بل النكرة الموصوفة إذا كانت صفتها جملة فعلية، أو ظرفا بشرط قصد العموم، فقد تتضمن معنى الشرط، ويكون في جوابها الفاء نحو (كل رجل يأتيني فله دينار) و (كل رجل في الدار فله درهم) (¬1). و (رجل يسألني فله أجر) و (رجل في المسجد فله بر) (¬2). وكذلك المبتدأ أو اسم (أن) إذا كان معرفة موصوفا بالاسم الموصول نحو قوله تعالى: {والقواعد من النساء التي لا يرجون نكاحًا فليس عليهن جناح} [النور: 60]، وقوله: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} [الجمعة: 8]، (السعي الذي تسعى فستلقاه) (¬3). وغير ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) المفصل 1/ 80، وانظر كتاب سيبويه 1/ 453 (¬2) انظر شرح الأشموني 1/ 224 - 225 (¬3) انظر الهمع 1/ 109، شرح الأشموني 1/ 224 - 225 (¬4) انظر الهمع 1/ 109

التوكيد

التوكيد التوكيد يفيد تقوية المؤكد وتمكينه في ذهن السامع وقلبه، جاء في (المفصل): " وجدوى التأكيد أنك إذا كررت فقد قررت المؤكد، وما علق به في نفس السامع، ومكنته في قلبه وأمطت شبهة ربما خالجته، أو توهمت غفلة وذهابا عما أنت بصدده فأزلته (¬1). والعرب تؤكد كل شيء تراه في حاجة إلى التوكيد، فهي قد تؤكد الحكم كله أو تؤكد جزءا منه، وقد تؤكد لفظة بعينها، أو تؤكد مضمون الحكم، أو مضمون اللفظة أو غير ذلك، فتقول (إن محمدًا مريض) و (محمد مريض محمد مريض) فهذا تأكيد للحكم. وتقول: (محمد نفسه مريض) فهذا تأكيد لكلمة واحدة. وتقول: (محمد ساع إلى الخير سعيا) فهذا تأكيد للحدث الذي تضمنه اسم الفاعل. وتقول: (أدلجت ليلا) فهذا تأكيد للزمن الذي تضمنه الدلج، لأن الدلج هو السير في الليل خاصة، قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} [الإسراء: 1] فـ (ليلا) تأكيد للزمن الذي تضمنه الإسراء. وتقول (لك علي مائة دينار اعترافا) فهذا تأكيد لمضمون الجملة، لأنه اعتراف بالدين ولو لم تقل (اعترافا). وقد أفتنت العرب في ذلك افتنانا واسعا، فجاءت بالتوكيد على صور متعددة فهناك: 1 - ألفاظ تفيد التوكيد حيثما وقعت، مثل أن ولام الابتداء ونوني التوكيد الثقيلة والخفيفة. 2 - ألفاظ تفيد التوكيد في مواطن دون أخرى، وهي الحروف الزائدة مثل: ما، ولا، والباء، وإن، وذلك نحو قوله: {حتى إذا ما جاءوها} [فصلت: 20]، و {عما قليل ليصبحن ¬

_ (¬1) المفصل 2/ 4، وانظر شرح ابن يعيش 3/ 40

نادمين} [المؤمنون: 40] فـ (ما) هنا حرف زائد أفاد التوكيد ونحو: {قال ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12] فـ (لا) هنا حرف زائد، أي ما منعك أن تسجد وهي تفيد التوكيد، وكالباء في الخبر، نحو: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]. 3 - ثم قد يكون التوكيد على صور إعرابية وتركيبية مختلفة، فقد يكون على صورة مفعول مطلق، سواء كان مؤكدا لمصدر عاملة، نحو: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164]، أم كان مؤكدا لمضمون الجملة، وهو المؤكد لنفسه أو لغيره نحو {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} [آل عمران: 145]، و (أنت أخي يقينا). وقد يكون بصورة ظرف مؤكد لزمن عامله، نحو: {سبحان الله أسرى بعبده ليلا} [الإسراء: 1] و (تكلم حينا) فإن التكلم لا يكون إلا في حين. وقد يكون على صورة حال، نحو (أقبل الطلاب كافة). و {ولي مدبرًا} [القصص: 31]. وقد يكون على صورة نعت، نحو (أمس الدابر لا يعود) لأن كل أمس دابر، ونحو: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} [الحاقة: 13]، و (أقبل رجلان اثنان). وقد يكون على صورة معطوف، نحو (هذا كذب وافتراء) و (هذا ضلال وغي). وقد يكون على صورة جار ومجرور، نحو قوله تعالى: {فخر عليهم السقف من فوقهم} [النحل: 26] لأن السقف لا يكون إلا فوقا، ونحو: {ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]، والطيران لا يكون إلا بالجناحين. وغير ذلك من الصور. 4 - ثم قد يكون بصورة تابع متجرد للتوكيد، وهو الذي يسميه بعضهم التوكيد الصناعي (¬1). وأكثر ما ذكرت مر في بابه الذي هو ألصق به. ثم إن العرب لم تكتف بمؤكد واحد، بل هي تتكلم على حسب الحاجة، فإذا كان ¬

_ (¬1) انظر البرهان 2/ 385

المخاطب لا يحتاج إلى توكيد تركت توكيد الكلام، وإذا كان يحتاج إلى مؤكد واحد جاءت له بمؤكد واحد، وإذا احتاج إلى أكثر جاءت له على قدر حاجة المخاطب إليه، وقد تسفع ذلك بالقسم زيادة في التوكيد، فتقول (محمد سابق)، فإذا كان المخاطب في شك من ذلك قالت (إن محمدا سابق)، فإذا كان منكرا لهذا الخبر، جاءت باللام زيادة على إن، فتقول (إن محمدًا لسابق) وقد تأتي بالقسم مع كل ذلك فتقول (والله إن محمدًا لسابق) جاء في (الإيضاح): " وإذا كان غرض المخبر بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين، فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة. فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر، والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم، كقولك (جاء زيد وعمرو ذاهب) فيتمكن في ذهنه لمصادفته إياه خاليًا. وإن كان متصور الطرفين، مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبا له حسن تقويته بمؤكد كقولك (لزيد عارف) أو (إن زيدًا عارف). وإن كان حاكمًا بخلافه، وجب توكيده بحسب الإنكار، فتقول (إني صادق) لمن ينكر صدقك، ولا يبالغ في إنكاره و (إني لصادق) لمن يبالغ في إنكاره (¬1). وجاء في (الاتقان): " ويتفاوت التأكيد بحسب قوة الإنكار وضعفه، كقوله تعالى حكاية عن رسل عيسى إذ كذبوا في المرة الأولى: {إنا إليكم مرسلون} [يس: 14]، فأكد بأن واسمية الجملة، وفي المرة الثانية: {ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون} [يس: 16]، فأكد بالقسم و (إن) واللام، واسمية الجملة، لمبالغة المخاطبين في الإنكار، حيث قالوا: {ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون} [يس: 15] (¬2). ¬

_ (¬1) الإيضاح 1/ 18، وانظر البرهان 2/ 390 - 391، ودلائل الإعجاز 242 (¬2) الاتقان في علوم القرآن 2/ 64

أغراض التوكيد

أغراض التوكيد التوكيد على قسمين: أ - التوكيد المعنوي. ب - التوكيد اللفظي. التوكيد المعنوي. يعرف النحاة التوكيد المعنوي بأنه التابع الرافع احتمال غير إرادة الظاهر (¬1).، أو هو التابع الرافع احتمال تقدير إضافة إلى المتبوع، أو إرادة الخصوص بما ظاهره العموم (¬2). ويظهر من الحد أن للتوكيد المعنوي غرضين هما: 1 - رفع احتمال إرادة مضاف، أو بعبارة أخرى رفع احتمال إرادة غير المذكور، فترفع هذا الاحتمال بذكر النفس والعين ومشتقاتهما، مضافين إلى ضمير المؤكد وذلك كما إذا قلت (رضيت البنت بالمهر) فقد يحتمل أن المراد: رضي أبوها أو وكيلها أو نحو ذلك. فإذا قلت (رضيت البنت نفسها بالمهر) فقد رفعت كل احتمال آخر عدا البنت، وكان المعنى أن البنت هي التي رضيت بالمهر، فكلمة (نفس) هنا أزالت احتمال إرادة غير المذكور وقررت أن المذكور هو المعنى بالحكم، ونحو (حد القاضي السارق) فهذا يحتمل أن غلام القاضي هو الذي حد السارق بأمر القاضي فإذا قلت (حد القاضي نفسه السارق) فقد دل ذلك على أن القاضي هو الذي قام بالحد، وليس شخصا آخر، قال ابن الناظم: تقول: (جاء زيد نفسه) فترفع بذكر النفس احتمال كون الجائي رسول زيد، أو خبره، أو نحو ذلك، ويصير به الكلام نصا على ما هو الظاهر منه، وكذا إذا قلت: لقيت زيدًا عينه (¬3). ¬

_ (¬1) شرح الأشموني 3/ 73 (¬2) شرح ابن الناظم 206 (¬3) شرح الألفية 206

ألفاظه

وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " والثاني أن يظن السامع به تجوزا في ذكر المنسوب إليه المعين، فربما نسب الفعل إلى الشيء، والمراد ما يتعلق بذكر المنسوب إليه كما تقول (قطع الأمير اللص) أي قطع غلامه بأمرهن فيجب أذن إما تكرير لفظ المنسوب إليه نحو (ضرب زيد زيد) أي ضرب هو لا من يقوم مقامه، أو تكريره معنى وذلك بالنفس والعين ومتصرفاتهما لا غير (¬1). ألفاظه: ذكرنا أن ألفاظ هذا التوكيد هي (النفس) و (العين) ومشتقاتهما مضافة إلى ضمير المؤكد، ويستعمل في التثنية والجمع وزن (أفعل)، فتقول (حضرت البنتان أنفسهما) (وحضرت البنات أعينهن) و (حضر الطالبان أنفسهما أو أعينهما) و (حضر الطلاب أنفسهم أو أعينهم). والمقصود بلفظ (النفس) و (العين) حقيقة الشيء (¬2). جاء في (بدائع الفوائد): " وأما النفس فعلى أصل موضوعها، إنما هي عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد (¬3). " والعين: يراد بها حقيقة الشيء المدركة بالعيان، أو ما يقوم مقام العيان. وليست اللفظة على أصل موضوعها، لأن أصلها أن يكون مصدرا وصفة لمن قامت به ثم عبر عن حقيقة الشيء بـ (العين) كما عبر عن الوحش بـ (الصيد)، وإنما (الصيد) في أصل موضوعه مصدر من صاد يصيد، ومن ههنا لم يرد في الشريعة عبارة عن نفس الباري سبحانه وتعالى: لأنه نفسه سبحانه غير مدركة بالعيان في حقنا اليوم (¬4). وجاء في (لسان العرب): " والعين عند العرب حقيقة الشيء .. وعين الشيء نفسه ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 1/ 360 - 361، وانظر شرح شذور الذهب 508 - 509، شرح ابن يعيش 3/ 40 - 41 (¬2) انظر شرح عمدة الحافظ 555 (¬3) بدائع الفوائد 2/ 6 (¬4) المصدر السابق 2/ 2

وشخصه وأصله والجمع (أعيان)، وعين كل شيء نفسه وحاضره وشاهده، وفي الحديث: أوه عين الربا أي ذاته ونفسه، ويقال: هو هو عينا وهو هو بعينه، وهذه أعيان دراهمك، ودراهمك بأعيانها .. ويقال: إن فلان لكريم عين الكرم، ولا أطلب أثرًا بعد عين أي بعد معاينة" (¬1). وإذا اجتمعت النفس والعين قدمت النفس على العين، فتقول (قدم محمد نفسه عينه) وليس العكس، قالوا لأن الأصل في الإطلاق على الحقيقة هي النفس، والعين منقولة إليها: (جاء في شرح الرضي على الكافية): " وأما تقديم النفس على العين فلأن النفس لفظ وضوع لماهيتها حقيقة ولفظ العين مستعار لها مجازًا من الجارحة المخصصة كالوجه في قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88]، أي ذاته (¬2). ويبدو أن لفظ (العين) أطلق تجوزًا على حقيقة الشيء، فأام أن يكون لفظ (العين) في الأصل مصدرًا أطلق على (المعين) أي المرئي، وهو الذي تدركه العين كما ذكر ابن القيم ثم اتسع استعمالها لغير المرئي فتقول (هو الربا بعينه) و (هو عين الحق) أو (الحق بعينه) و (هو عين الكذب) أو (الكذب بعينه) والربا والحق والكذب ونحوها مما لا يدرك بالعين. أو تكون في الأصل مستعارة من العين التي هي الجارحة، فأطلق الجزء على الذات كما ذكر الرضي، وكما نقول الآن في لغتنا الدارجة (أقبل أخوك برأسه) و (أقبل بعينه) فالرأس هو جزء وكذلك العين، وقد أطلقا على الكل، ثم أصبح المقصود بالرأس والعين الذات، أو الحقيقة. ثم توسع في الاستعمال فأصبح التعبير يطلق على ما ليس جارحة، وعلى أي حال فهي تستعمل في التوكيد بمعنى حقيقة الشيء وذاته. ¬

_ (¬1) لسان العرب / عين. (¬2) شرح الرضي على الكافية 1/ 368

ويبدو أن الرأي الثاني أرجح، إذ أن هناك نظيرا لهذا الاستعمال في اللغات السامية الأخرى فبعضها يستعمل (الرأس) بمعنى الشخص، جاء في (التطور النحوي) " وتقارب النفس في العربية العين، وهي تضاف أكثر مما تبدل نحو (عين الأمر) وقد تؤخر مع الحاق الباء نحو (الأمر بعينه)، وهي في هذا المعنى خاصة بالعربية. ويوجد في سائر اللغات السامية أسماء أخر مرادفة لها، نحو (الرأس) أو gnoma في السريانية ومعناها (الشخص) (¬1). ولا تزال في لغتنا الدارجة نستعمل الرأس للتوكيد، فتقول (رأيته برأسه) أو (حتى يأتيني هو برأسه) أي بنفسه. وتختص (النفس) و (العين) بجواز جرهما بالباء الزائدة، زيادة في التوكيد، نحو (أقبل الأمير بنفسه) و (أقبلت هند بعينها) ولا يجوز ذلك في غيرهما من ألفاظ التوكيد (¬2). ويبدو أن هذه الباء ليست زائدة، بمعنى أن حذفها وذكرها سيان، فليس قولنا (أقبل أخوك بنفسه) مثل (أقبل أخوك نفسه) وإنما تفيد الباء أن المؤكد فعل ذلك، وما كان متوقعًا منه أن يفعل، أو بعارة أخرى أنها يؤتى بها للاهتمام الزائد، فقولك (أقبل أخوك بنفسه) معناه أقبل وما كان متوقعًا أن يقبل، أما لأن أخاك بمنزلة عالية لا تناسب مجيئه أو لغير ذلك. ولا نزال نحن نستعمل هذه الباء، فنقول (ذهبت إليه بنفسي فلم يفعل) بمعنى أن هذا أقصى ما أستطيع أن أفعله، وتقول (كلمته أنا بنفسي فرد كلامي). ومثله ما تقوله العامة (ذهب إليه برجلي) وهو كناية عن الاهتمام الكثير بالشيء. 2 - والغرض الثاني هو رفع الاحتمال عدم إرادة الشمول، وذلك نحو أن تقول، ¬

_ (¬1) التطور النحوي 98 - 99 (¬2) انظر شرح عمدة الحافظ 561، الهمع 2/ 122، شرح الأشموني 3/ 77

كل

(أقبل الطلاب) فإن هذا القول يحتمل أن المقبلين هم أكثر الطلاب، وليس فيه تنصيص على قصد العموم، والإحاطة، فإذا أردت التنصيص على قصد العموم، رفعت هذا الاحتمال فتقول: جاء الطلاب كلهم أو جميعهم، أو أجمعون، أو نحو ذلك فيفيد الإحاطة والشمول. ألفاظ هذا التوكيد: يؤكد لهذا الغرض بالألفاظ الدالة على العموم، وأشهرها هي: كل: وهو اسم يفيد الاستغراق والإحاطة بالأفراد والإجزاء، تقول (كل ظالم مبغوض) فإنه يفيد الاستغراق أفراد الظالمين، قال تعالى: {كل أمريء بما كسب رهين} [الطور: 21]، فهذا استغراق وإحاطة بجميع الأفراد وتقول: (كل البشر محاسب) فهذا استغراق لأفراد البشر. فإذا أضيفت إلى نكرة أفادت استغراق كل فرد الجنس، وإذا أضيفت إلى معرفة، فإن كانت المعرفة عامة استغرقت كل الأفراد، كما في قولنا (كل البشر محاسب) وإذا كانت معهودة استغرقت كل الأفراد المعهودين، نحو (أقبل كل الطلاب) فهو استغراق لطلاب مخصوصين. وقد تستغرق الإجزاء نحو قولك (أكلت كل تفاحتك) أي كل أجزائها، فإذا قلت (أكلت كل تفاحك) كان المعنى أنك أكلت كل أفراده. جاء في (المغنى) في هذه اللفظة " اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكر، نحو {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185]، والمعرف المجموع نحو: {وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا} [مريم: 95]، وإجزاء المفرد نحو (كل زيد حسن) فإذا قلت (أكلت كل رغيف لزيد) كانت لعموم الأفراد، فإن أضفت الرغيف إلى زيد صارت لعموم أجزاء فرد واحد (¬1). ¬

_ (¬1) المغني 1/ 193

و (كل) تضاف إلى النكرات وإلى المعارف، وقد تقطع عن الإضافة لفظا وينوي معناها فإذا أضيفت إلى نكرة روعي معناها، إن كان مؤنثا أو مذكرا مفردا أو غيره، تقول (كل رجل اهداني كتابا) فعاد الضمير عليها مفردًا مذكرا (وكل امرأة أهدت قرطا) فعاد الضمير عليها مفردًا مؤنثا، وتقول (كل رجلين ذهبا في طريق) و (كل فريق ذهبوا في واد). جاء في (المغني): " واعلم أن لفظ (كل) حكمه الأفراد والتذكير، وأن معناها بحسب ما تضاف إليه، فإن كانت مضافة إلى منكر وجب مراعاة معناها، ولذلك جاء الضمير مفردًا مذكرا في نحو {وكل شيء فعلوه في الزبر} [القمر: 52]، {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} [الإسراء: 13] .. ومفردا مؤنثا في قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38]. ومجموعا مذكرا في قوله تعالى: {كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53] (¬1). وإذا أضيفت إلى معرفة فقالوا يصح مراعاة اللفظ والمعنى، فتقول (كل أخوتك ذاهب) والمعنى كل منهم ذاهب. (وكل أخوتك ذاهبون) جاء في (المخصص): " إن (كلا) لفظ واحد ومعناه جميع، ولهذا يحمل مرة على اللفظ ومرة على المعنى، فيقال كلهم ذاهب وكلهم ذاهبون (¬2). وقيل بلا يعود الضمير عليها من خبرها إلا مفردًا مذكرًا (¬3). فإن قطعت عن الإضافة لفظًا جاز مراعاة اللفظ والمعنى، قال تعالى: {كل آمن بالله} [البقرة: 285]، وقال: {كل كذب الرسل} [ق: 14]، وقال: {كل له قانتون} [البقرة: 116]، وقال: {وكل في فلك يسبحون} [يس: 40]، فأفرد مراعاة للفظ (كل)، وجمع مراعاة لمعناها قال ابن هشام: " والصواب أن المقدر يكون مفردا نكرة، ¬

_ (¬1) المغني 1/ 196 - 197 (¬2) المخصص 17/ 131 (¬3) المغني 1/ 199

فيجب الأفراد كما لو صرح بالمفرد، ويكون جمعًا معرفًا فيجب الجمع وإن كانت المعرفة لو ذكرت لوجب الأفراد، ولكن فعل ذلك تنبيها على حال المحذوف فيهما، فالأول، نحو: {كل يعمل على شاكلته} [الإسراء: 84]، {كمن آمن بالله} [التوبة: 19]، {كل قد علم صلاته وتسبيحه} [النور: 41]، إذ التقدير كل أحد. والثاني نحو {كل له قانتون} [البقرة: 116]، {كل في فلك يسبحون} [الأنبياء: 33]، و {وكل أتوه داخرين} [النمل: 87]، {وكل كانوا ظالمين} [الأنفال: 54]، أي كلهم (¬1). وجاء في (بدائع الفوائد) أن الأخبار بالجمع معناه أنهم مجتمعون في الحدث، وإن الأفراد معناه أن كل واحد قام به على انفراد، فإذا قلت (كل حضر) كان المعنى أن كل واحد منهم حضر، وإذا قلت (كل حضروا) كان المعنى أنهم اجتمعوا في الحضور، وكذا إذا كانت مضافة لفظًا نحو (كلهم حضروا) و (كلهم حضر) غير أنه في الجملة الأولى، أي (كلهم حضروا) أفاد التعبير احتمال اجتماعهم في الحضور، واحتمال حضورهم فرادي، بخلاف الثانية، فإنها تفيد حضور كل واحد منهم على رسله، جاء في (بدائع الفوائد): " (كل أخوتك ضربني) يقتضي أن أكل واحد منهم ضربك، فلو قلت (كل أخوتك ضربوني) و (كل القوم جاؤوني) أحتمل ذلك، واحتمل أن يكونوا اجتمعوا في الضرب والمجيء، لأنك أخبرت عن جملتهم بخبر واقع عن الجملة، بخلاف قولك (كل أخوتك جاءني) فإنما هو إخبار عن كل واحد منهم، وإن الأخبار بالمجيء عم مجيئهم. فتأمل على هذا قوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته} [الإسراء: 84]، كيف أفرد الخبر، لأنه لم يرد اجتماعهم فيه، قال تعالى: {كل إلينا راجعون} [الأنبياء: 93]، فجمع لما أراد الاجتماع في المجيء .. ولا يرد على هذا قوله تعالى: {وله من في السماوات والأرض كل له قانتون} [الروم: 26]، بل هو تحقيق له وشاهد، لأن القنوت هنا هو العبودية العامة التي يشترك فيها أهل السماوات والأرض، ولا يختص بها بعضهم ¬

_ (¬1) المغني 1/ 200

عن بعض .. وهذا بخلاف قوله تعالى: {كل من عليها فان} [الرحمن: 26]، أفرد لما لم يجتمعوا في الفناء .. ومما جاء مجموعًا لإجتماع الخبر، قوله تعالى: {وكل في فلك يسبحون} [يس: 40]، وما أفرد لعدم اجتماع الخبر، قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} [ص: 12 - 14]، فأفرد، لما لم يجتمعوا في التكذيب (¬1). وذكروا مسألة أخرى في (كل) وهي أنها إذا وقعت في حيز النفي، أفادت ثبوت الفعل لبعض الأفراد، وإذا لم تقع في حيزه أقتضي النفي عن كل فرد، فإذا قلت (لم يجيء كل الطلاب) كان معناه أنه جاء قسم منهم، وإذا قلت (كل الطلاب لم يجيء) كان المعنى أنه لم يأت منهم أحد. قيل: وقد يخرج عن هذا نحو قوله تعالى: {والله لا يحب كل كفار أثيم} [البقرة: 276]، وأجيب عن ذلك، بأن ذلك حاصل إذا لم يدل دليل على خلافه، فإن دل دليل كان بحسبه. جاء في (المغنى): " قال البيانيون: إذا وقعت (كل) في حيز النفي كان النفي موجهًا إلى الشمول خاصة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد، كقولك (ما جاء كل القوم) و (لم آخذ كل الدراهم) وكل الدراهم لم آخذ، وقوله: ما كل رأي الفتي يدعو إلى رشد وقوله: ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن وإن وقع النفي في حيزها، أقتضى السلب عن كل فرد، كقوله عليه الصلاة والسلام لما قال ذو اليدين: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ كل ذلك لم يكن. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 2/ 214 - 215

وقول ابن النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... على ذنبا كل لم أصنع وقد يشكل على قولهم في القسم الأول قوله تعالى: {والله لا يحب كل مختار فخور} [الحديد: 23]. والجواب عن الآية أن دلالة المفهوم، إنما يعول عليها عند عدم المعارض، وهو هنا موجود إذ دل الدليل على تحريم الأختيال والفخر مطلقًا (¬1). وهذا كله إذا لم تقع تأكيدًا. فإن وقعت تأكيدًا أضيفت لفظًا إلى الضمير المؤكد، نحو (الطلاب كلهم حاضرون) فإذا كان المؤكد جنسا عامًا كان التوكيد يشمل كل أفراد الجنس، نحو (الخلق كلهم عيال الله) و (الناس كلهم ميتون)، وإذا كان معهودًا كان يشمل كل أولئك الأفراد المعهودين نحو (حضر طلاب الصف كلهم). جاء في (بدائع الفوائد): " (إن كلا) إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس، وإذا تأخرت وكانت توكيدًا اقتضت الإحاطة بالمؤكد خاصة، جنسًا شائعًا كان أو معهودًا (¬2). وقد تقول: ما الفرق بينها إذا تقدمت، أو كانت مؤكدة، نحو (كل الطلاب حضر) أو (حضر الطلاب كلهم)؟ والجواب هو أنها إذا تقدمت أفادت العموم ابتداء، ولم تدع احتمالا لغير الإحاطة، وإذا تأخرت وكانت مؤكدة احتمل الكلام العموم وغيره، ثم جئت بما يرفع احتمال عدم العموم. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 200 - 201، وانظر دلائل الإعجاز 215 وما بعدها (¬2) بدائع الفوائد 1/ 212 - 213

جميع

ثم أنها مع التقدم يمكن التعبير بها للدلالة على الإحاطة والشمول بصورة أوسع مما تقع مؤكدة، فإنها إذا وقعت مؤكدة أفادة العموم في المعارف فقط، أما إذا تقدمت، فإنها تفيد العموم، في النكرات والمعارف، مفردًا أو غيره مما لا يصح أن يقع مؤكدًا، وذلك نحو قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38]، ولا يقال: (نفس كلها بما كسبت رهينة)، وقال: {تدمر كل شيء بأمر ربها} [الأحقاف: 25]، ولا يقال (تدمر شيئا كله) وقال: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} [النحل: 111]، ولا يقال: (يوم تأتي نفس كلها). وحتي إذا قيل نحو ذلك على مذهب الكوفيين، فإن المعنى يختلف، فإنه يصح على مذهب الكوفيين أن تقول (صمت شهرًا كله) لأن النكرة محدودة (¬1). ولكن إذا قدمت (كلا) وقلت (صمت كل شهر) تغير المعنى، وأصبحت تفيد أستغراق الشهور. جميع: وهي مأخوذة من الإجتماع، وتستعمل لعدة معان: فقد يكون بمعنى مجتمع يوصف بها المفرد، يقال (هو رجل جميع)، بمعنى مجتمع الخلق أي قوي ورجل جميع السلاح أي مجتمع السلاح (¬2). ويوصف بها الجمع فيقال (هؤلاء جميع) أي مجتمعون، قال تعالى: {وإنا لجميع حذرون} [الشعراء: 56]ـ، أي مجتمعون، وقال {أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 44 - 45]، أي مجتمعون، وقال: {وإن كل لما جميع لدينا محضرون} [يس: 32]، ومعناها كلهم مجموعون، جاء في (الكشاف) في هذه الآية: " والمعنى أن كلهم محشورون مجموعون محضورن للحساب يوم القيامة، وقيل محضرون معذبون. ¬

_ (¬1) انظر شرح الأشموني 3/ 77، التصريح 2/ 124 - 125 (¬2) انظر لسان العرب / جمع

فإن قلت: كيف أخبر عن (كل) بـ (جميع) ومعناها واحد.؟ قلت: ليس بواحد، لأن (كلا) يفيد معنى الإحاطة، وإن لا يتفلت منهم أحد، والجميع معناه الإجتماع، وإن الحشر يجمعهم، والجميع (فعيل) بمعنى (مفعول) يقال: حي جميع وجاؤا جميعا" (¬1). وقال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا} [النور: 61]، أي مجتمعين أو متفرقين، وقال: {تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى} [الحشر: 14]، أي تحسبهم مجتمعين، وهم متفرقون. وأما (جميع) المضاف إلى الضمير فتكون توكيدًا بمعنى (كل) فإذا قلت (أقبل الرجال جميعهم) كان المعنى أقبلوا كلهم، وليس معناه أقبلوا مجتمعين، فقد يكونون مجتمعين أو متفرقين. فهناك فرق بين قولنا (أقبل الرجال جميعا) و (أقبل الرجال جميعهم)، فـ (أقبل الرجال جميعا) تحتمل معنيين: الأول أن يكون معناه أقبلوا كلهم، وذلك نحو قوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعًا} [النور: 31]، والمعنى توبوا كلكم، وليس معناه توبوا مجتمعين، وقوله: {قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا} [الأعراف: 158]، أي كلكم، وليس معناه مجتمعين: الثاني: أن يكون معناه أقبلوا مجتمعين، كقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا} [النور: 61]. وأما (أقبل الرجال جميعهم) فلا يكون إلا بمعنى كلهم. (¬2). والخلاصة أن الفرق بين (جميع) إذا اتصلت بالضمير (جميعهم، جميعنا .. ) ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 587 (¬2) انظر كتاب سيبويه 1/ 189

و (جميع) المفردة أن المتصلة به، لا تكون إلا توكيدًا بمعنى (كل)، والمفردة قد تكون بمعنى (كل) وقد تكون بمعنى (مجتمع). وقد تحتمل العنيين معًا، وذلك نحو قوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعًا} [الأنعام: 22]، فهذا يحتمل معنيين: الأول: أن يكون بمعنى (كل) فيكون المعنى: ويوم نحشرهم كلهم. والثاني: أن يكون بمعنى (مجتمع) فيكون المعنى، ويوم نحشرهم مجتمعين. وقد يراد المعنيان معًا، أي يحشرهم كلهم مجتمعين، فبعدوله إلى المفردة كسب المعنيين معًا، ولو قال (ويوم نحشرهم جميعهم) لأفاد معنى واحدًا فقط. فـ (جميع) المفردة أوسع استعمالا ومعنى من المضافة، إلا ترى أنك لو قلت: (اللهم اكفني شر مخلوقاتك جميعا) كان المعنى محتملا جميع الشر، وجميع المخلوقات ولو قلت (أكفني شر مخلوقاتك جميعه) لكان نصا في الشر، ولو قلت (جميعها) لكان نصا في المخلوقات. وهذا من أوجه الفرق بين (كل) و (جميع) فإن (كلا) تفيد العموم حيث وقعت، وكيفما كانت وليست كذلك (جميع). وفرقوا بين (كل) و (جميع) أيضا، فقالو: " أن (كل) تدل على كل فرد بطريق النصوصية، بخلاف (جميع) فإنه يدل على كل الأفراد، وهو الذي يراد من قولهم، وإن (جميع) للعموم الأحاطي. وفرقت الحنفية بينهما، بأن (كل) تعم الأشياء على الانفراد، و (جميع) تعمها على سبيل الاجتماع، ومثلوا لذلك بقولهم: إن القائد إذا قال لجنده: (من دخل هذا الحصن فله ألف دينار) فدخل واحد أستحق الألف وإن دخله جماعة لم يستحق أحد منهم شيئا، وإذا قال (كل من دخل هذا الحصن أولا فله ألف دينار) فدخله واحد أستحق الألف وإن دخله جميعًا استحق كل واحد منهم ألفا.

أجمع

وإذا قال لهم: (جميع من دخل هذا الحصن أولا فله ألف دينار) فدخله واحد أستحق الألف وإن دخله جماعة أستحقوا ألفا فقسم بينهم (¬1). أجمع: وهي من لفظ (الإجتماع) أيضًا: ولها استعمالات عدة: فقد تكون اسم تفضيل، نحو (رأيك أجمع للشمل)، و (هذا الحد أجمع من غيره) وقد تكون صفة مشبهة بمعنى (مجتمع) على وزان (أفعل) الذي مؤنثه (فعلاء) مثل أحمر حمراء، فيقال: (أجمع جمعاء) و (أجمع) معناه مجتمع، ومعنى (جمعاء) مجتمعة فيقال فرع أجمع، وبهيمة جمعاء، أي مجتمعة الخلق، جاء في (عمدة الحافظ): " وفي الحديث (كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء) أي مجتمعة الخلق وعلى هذا يتخرج قول الراجز: يرمي عليها وهي فرع أجمع ... وهي ثلاث أذرع وأصبع فـ (أجمع) هنا صفة لـ (فرع) بمعنى مجتمع كما كانت (جمعاء) صفة لهيمة" (¬2). وقد تكون من ألفاظ الإحاطة فتستعمل توكيدًا بمعنى (كل)، تقول: جاء الرجال أجمعون ومعناها: جاءوا كلهم، وهذه ليست اسم تفضيل ولا صفة مشبهة، بل هي وصف مرتجل للتوكيد. يدلك على أنها ليست اسم تفضيل أن تأنيثها على وزن (فعلاء) أي جمعاء، واسم التفضيل تأنيثه (فعلى) مثل كبرى وصغري. ثم إن اسم التفضيل يضاف ويحلي بـ (أل)، فيقال أحسنهم، والأحسن، وهذه لا تضاف ولا تحلي، بـ (أل)، فلا يقال أجمعه، ولا أجمعهم، ولا الأجمع، تقول (قضيت ¬

_ (¬1) أصول البزودي ج 2 ص 9، التوضيخ 1/ 60 (¬2) عمدة الحافظ وعدة اللافظ 575

الشهر أجمع) ولا تقول أجمعه، لأنها هي معرفة (¬1). من غير إضافة ولا حرف تعريف. ويدلك على أنها ليست صفة مشبهة، أن (أفعل فعلاء) لا يجمع جمع مذكر سالما، بل تجمع على (فعل)، وهذه يجمع مذكرها جمع مذكر سالما، فيقال (أجمعون) قال تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} [الحجر: 30]، ويجمع مؤنثها على (فعل)، فيقال (جُمَع) مثل جمع اسم التفضيل نحو الكبر والصغر، ثم أن (أفعل فعلاء) نكرة وهذه معرفة. فهي صفة جمعت شيئا من اسم التفضيل، وشيئا من الصفة المشبهة، وتمحضت للتوكيد. فتأنيثها كالصفة المشبهة، وجمعها كاسم التفضيل، وتباعدت عنهما معا، بإنها لا تضاف ولا تعرف بـ (أل) ولا يستعمل منها إلا جمع المذكر السالم، فلا يقال الأجامع، كالأكابر والأصاغر، بل لا يقال إلا (أجمعون). ويدلك على أنها صفة أنها لا تنصرف، ولو كانت أسما غير وصف لانصرفت مثل أرنب وأفعى. فهي إذن وصف استعمل للإحاطة، بمعنى (كل)، والفرق بينهما أن (أجمع) من لفظ الجماعة، والمجموع والإجتماع، و (كلا) للدلالة على كل فرد حتى تستغرق جميع الأفراد، فقولك (رضوا بذلك أجمعون) يفيد أن مجموعهم رضي بذلك، وأما قولك (رضوا بذلك كلهم) فيفيد أن أفرادهم رضوا بذلك، والنتيجة واحدة لأنه إذا رضي كل أفرادهم فقد رضي مجموعهم، فـ (أجمعون) تشير إلى العموم ابتداء، و (كل) تشير إلى الأفراد حتى تستغرقهم، و (كلهم أجمعون) للجمع بين المعنيين فتكون زيادة في التوكيد. ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 2/ 5، المقتضب 3/ 342

وقد ذهب بعض النحاة إلى أنها تفيد الإتحاد في الوقت (¬1). فيكون معنى قولنا: (جاء الرجال أجمعون) جاءوا مجتمعين. والحق أنها لا تفيده، قال تعالى: {ولأغوينهم أجمعين} [الحجر: 39] (¬2). ومعناها (كلهم) وليس معناها (مجتمعين) وقال: {أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} [البقرة: 161]، ومعناها (كلهم) وليس معناها مجتمعين. قال ابن يعيش: " واعلم أنه قد ذهب قوم إلى أن في (أجمع) فائدة ليست في (كل) وذلك إنك إذا قلت (جاءني القوم كلهم)، جاز ان يجيئوك مجتمعين، ومفترقين، فإذا قلت (أجمعون) صارت حال القوم الإجتماع لا غير، وذلك ليس بسديد، والصواب أن معناها واحد من قبل أن أصل التأكيد، أعاده اللفظ وتكراره، وإنما كرهوا تواليهما بلفظ واحد، فأبدلوا من الثاني لفظًا يدل على معناه، فجاءوا بـ (كل) و (أجمع) ليدلوا بهما على معنى الأول، ولو كان في الثاني زيادة فائدة، لم يكن تأكيدًا، لأن التأكيد تمكين معنى المؤكد .. مع هذا لو أريد معنى الإجتماع لوجب نصبه، لأنه يكون حالا لأن التقدير فعل ذلك في هذه الحال" (¬3). وظاهر أن (أجمع) لا يفارقها معنى الإحاطة البتة، ولا تفيد غيره، أما إذا احتمل الكلام الاتحاد في الوقت، إضافة إلى الإحاطة كما في قوله تعالى: {وأتوتي بأهلكم أجمعين} [يوسف: 93]، وقوله: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} [الحجر: 15]، فهذا لا يستفاد من (أجمع) بل أن الكلام يحتمله، ولو لم تذكر (أجمع)، ألا ترى أنه يجوز أن يكون هذا الإحتمال مع (كل) أيضًا؟ فإذا قلت (جاء أفراد الإسرة كلهم) أحتمل أن يكونوا جاؤا مجتمعين، وأحتمل غير ¬

_ (¬1) انظر شرح الأشموني 3/ 77 (¬2) انظر شرح الأشموني 3/ 77 (¬3) شرح ابن يعيش 3/ 41، وانظر شرح الرضي على الكافية 1/ 369

الأعداد من ثلاثة إلى عشرة إذا أضيفت إلى ضمير ما تقدمها

ذلك وكذلك بالنسبة للآية، فقد يحتمل أنهم سجدوا في وقت واحد، ولكن (أجمعون) لا تدل عليه ولا تفيده، بل الآمر كما ذكرنا آنفا في معنى (كل) و (أجمع). ويدلك على ذلك أيضا أنه يجوز أن تقول (يموت الناسكلهم أجمعون) وليس معناه أنهم يموتون في وقت واحد. فهي تختلف عن (جميع) فإن جميعا قد تتجرد للدلالة على الاجتماع، فلا يراد بها معنى الإحاطة، وأما هذه فلا تتجرد لهذا المعنى، ولا يفارقها معنى العموم والشمول. الأعداد من ثلاثة إلى عشرة إذا أضيفت إلى ضمير ما تقدمها: تقول العرب (أقبل الرجال ثلاثتهم) و (رأيت الأولاد خمستهم) وفيها لغتان: لغة الحجاز، وهي النصب ولغة تميم وهي الأتباع، قال سيبويه: " هذا باب ما جعل من الأسماء مصدرا كالمضاف في الباب الذي يليه) وذلك قولك (مررت به وحده) و (مررت بهم وحدهم) و (مررت برجل وحده). ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز (مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم) وكذلك إلى العشرة وزعم الخليل أنه إذا نصب (ثلاثتهم) فكأنه يقول: مررت بهؤلاء فقط، ولم أجاوز هؤلاء كما إذا قال (وحده) فإنما يريد مررت به فقط لم أجاوزه. وأما بنو تميم فيجرونه على الاسم الأول، إن كان جرا فجرا، وإن كان نصبا فنصبا، وإن كان رفعًا فرفعًا. وزعم الخليل أن الذين يجرون كأنهم يريدون أن يعملوا كقولك: مررت بهم كلهم أي لم أدع منهم أحدًا (¬1). وظاهر من كلام سيبويه أن النصب يكون على الحالية، والاتباع على التوكيد (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 187، وانظر المقتضب 3/ 239 (¬2) انظر الهمع 1/ 239، شرح الرضي 1/ 362

ومع أنهما لغتان فمعنى النصب لا يطابق معنى الاتباع، فإن الاتباع يفيد الإحاطة والشمول، فإذا قلت (أقبل الرجال ثلاثتهم) بالرفع، كان المعنى: أقبلو كلهم، وذلك إذا كان العدد معلومًا. وإن النصب يفيد اجتماعهم، في المجيء، أي أقبلوا مجتمعين، فكأنك قلت: أقبوا حال كونهم ثلاثة، وقد يفيد النصب ما يفيده الاتباع من شمول، فيكون من باب الحال المؤكدة كما تقول (أقبل الطلاب جميعهم وجميعًا). وقد مر بنا في (جميع) أن الإتباع يفيد الإحاطة والنصب، يحتمل الإجتماع، ويحتمل الإحاطة، وهذا شبيه بذاك. فالإتباع يكون للدلالة على الإحاطة والشمول من غير نظر إلى اجتماعهم، أو عدمه والنصب يحتمل معنى الاجتماع والإحاطة قال الرضي: وهذه الأسماء الثمانية (يعني من الثلاثة إلى العشرة) إذا أضيفت إلى ضمر ما، تقدم منصوبة عند أهل الحجاز على الحال، لوقوعها موقع النكرة، أي (مجتمعين في المجيء) وبنو تميم يتبعونها ما قبلها في الإعراب على أنها توكيد (¬1). وقال: " وبعضها يستعمل مرة تابعًا على التأكيد، ومرة حالا، وذلك من الثلاثة فما فوقها كما مر في باب الحال، نحو: (جاءني القوم ثلاثتهم) و (جاءووني ثلاثتهم). ولا يؤكد بـ (ثلاثة) وأخواتها إلا بعد أن يعرف المخاطب كمية العدد، قبل ذكر لفظ التأكيد وإلا لم يكن توكيدًا بخلاف الوصف، في نحو: جاءني رجال ثلاثة (¬2). والظاهر أن تميم تريد بهذا الاستعمال الدلالة على الإحاطة، مثل (كل) و (أجمع) من دون نظر إلى افتراق، أو اجتماع، فاتبعت لذلك. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 1/ 220 (¬2) شرح الرضي على الكافية 1/ 362

التوكيد اللفظي

وأما الحجازيون فيستعملونه حالا مؤكدة، مثل (كافة)، و (قاطبة) في قولنا (أقبل أهل البلد كافة). وإذا أريدت الدلالة على اجتماع العدد، فلابد من نصبه، ولا يصح الاتباع لأنه سيكون حالا والحالة هذه. التوكيد اللفظي ويكون بإعادة اللفظ الأول أو تقويته بمرادفة معنى (¬1). وقد يؤتى بموازنة مع اتفاقهما في الحرف الأحير ويسمى أتباعًا. (¬2). فمن أعادة اللفظ الأول قولنا (أقبل محمد محمد) و (أقبل أقبل محمد) ويحتمل أن يكون منه قوله تعالى: {كلا إذا دكت الأرض دكادكا} [الفجر: 21]. ومن تقويته بمرادفه معنى، قولنا (جاء قدم محمد) ومنه قوله تعالى: {فجاجا سبلا} [الأنبياء: 31]، لأن الفجاج هي السبل، وقوله: {وغرابيب سود} [فاطر: 27] (¬3). لأن معنى (غرابيب) سود، ومفردها غربيب، أي أسود فكأنه قال: سود سود. ومن الإتيان بموازنة لفظا قولهم: جائع نائع، عطشان نطشان، حسن بسن، ويسمى أتباعا سواء كان للكلمة المتبعة معنى أم لم يكن (¬4). جاء في (تأويل مشكل القرآن): " وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانية، لأنها كلمة واحدة، فغيروا منها حرفا، ثم أتبعوا الأولى كقولهم: عطشان نطشان، كرهوا أن يقولوا: عطشان عطشان، فأبدلوا من العين نونا، وكذلك قولهم، حسن بسن كرهوا أن يقولوا: حسن حسن فأبدلوا من الحاء باء، وشيطان ليطان في أشباه له كثيرة (¬5). ¬

_ (¬1) شرح الألفية لابن الناظم 210، الهمع 2/ 125، شرح الأشموني 3/ 80 (¬2) شرح الرضي على الكافية 1/ 365، فقه اللغة للثعالبي 566 (¬3) انظر البرهان 2/ 385 (¬4) انظر شرح الرضي على الكافية 1/ 365 (¬5) تأويل مشكل القرآن 183

الغرض من هذا التوكيد

وجاء في (فقه اللغة) للثعالبي: " وهو - أي الإتباع - من سنن العرب، وذلك أن تتبع الكلمة الكلمة على وزنها ورويها إشباعًا وتوكيدًا كقولهم: جائع نائع، وساغب لأغب وعطشان نطشان (¬1). وهذا التوكيد أي التوكيد اللفظي أوسع أستعمالا من التوكيد المعنوي، لأنه يكون في الأسماء النكرات والمعارف، ويكون في الأفعال والحروف والجمل، بخلاف التوكيد المعنوي، فإنه يكون في الأسماء المعارف فقط، تقول (قتل قتل رجل) و (هرب سجين سجين) و (أقبل محمد محمد) و (أن محمدًا أن محمدا مسافر) و (أن محمدًا فاز أن محمدًا فاز) وفي الحديث (والله لأغزون قريشًا) ثلاث مرات (¬2). وقد تقترن الجملة المؤكدة بعاطف، نحو: (والله ثم والله) ونحو قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 188]، فقوله (فلا تحسبنهم) توكيد لقوله (لا تحسبن) (¬3). ويجب ترك العاطف " عند إيهام التعدد نحو (ضربت زيدًا ضربت زيدًا) ولو قيل (ثم ضربت زيدًا) لتوهم أن الضرب تكرر منك مرتين، تراخت أحداهما عن الأخرى، والغرض أنه لم يقع منك إلا مرة واحدة (¬4). الغرض من هذا التوكيد: أهم أغراض التوكيد اللفظي وهي: 1 - أن يدفع المتكلم ضرر غفلة السامع أو عدم الإصغاء، فإذا ظن المتكلم أن السامع غافل عن سماع اللفظ، فلابد من أن يكرر له اللفظ ليدفع هذا الضرر، ولا ينفع هنا التوكيد المعنوي، فإذا قلت (أقبل محمد) وكان المتكلم غافلا من سماع لفظة (محمد)، أو لم يكن مصغيا فلا ينفع أن تقول (نفسه) أو عينه، لأنه لم يسمع الكلمة المؤكدة نفسها، فلابد من أن تعيد له اللفظة ليسمعها. ¬

_ (¬1) فقه اللغة 566 (¬2) شرح الأشموني 3/ 81 (¬3) انظر شرح الرضي على الكافية 1/ 365، شرح ابن الناظم 210 (¬4) شرح الأشموني 3/ 81 - 82

2 - أن يدفع عن السامع ظنه بالمتكلم الغلط: فإذا كان المتكلم ظن أن السامع يعتقد أن المتكلم قد غلط في ذكر اللفظ، فقد ذكر (خالدًا) مثلا وهو يريد (محمدًا) فلابد من أن يكرر اللفظ ليزيل هذا الظن من ذهن السامع، ولا ينفع هنا التوكيد المعنوي أيضا وذلك كما إذا قلت لمحدثك (زارنا خالد الليلة) ثم سبق إلى ظنك أن المخاطب يعتقد أنك غلطت في ذكر خالد، وأنك تاعني (محمدًا) لأسباب كأن يظن أن خالدًا لا يزورك، أو هو غير موجود في البلد، أو نحو ذلك، فلابد لرفع هذا الوهم من التكرار اللفظي. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " فإذا قصد المتكلم أحد هذين الأمرين فلابد أن يكرر اللفظ الذيظن غفلة السامع عنه، أو ظن أن السامع ظن به الغلط فيه، تكريرًا لفظيا نحو (ضرب زيد زيد) و (ضرب ضرب زيد) ولا ينجح ههنا التكير المعنوي، لأنك لو قلت (ضرب زيد نفسه) فربما ظن بك أنك أردت (ضرب عمرو) فقلت (نفسه) بناء على أن المذكور (عمرو). وكذا إن ظننت به الغفلة عن سماع لفظ (زيد) فقولك (نفسه) لا ينفعك، وربما يكرر غير المنسوب والمنسوب إليه، لظنك غفلة السامع أو لرفع ظنه بك الغلط، أما في الحرف نحو (أن أن زيدًا قائم) أو في الجملة نحو قوله تعالى: {فإن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرا} [الشرح: 5 - 6] (¬1). وليس من ذلك ما ذكره الرضي في قوله تعالى: {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} [الإنشراح: 5 - 6]، إذ لا يريد الله سبحانه من التكرير رفع غفلة السامع، ولا دفع ظن الغلط عن نفسه، تعالى الله عن ذلك، وإنما هو لتقوية الحكم وتمكينه في نفوس المؤمنين وتطمينهم به. 3 - الغرض الثالث أن يدفع المتكلم ظن التجوز: فقد يذكر المتكلم حكما فيظن السامع أن المتكلم لم يقصد الحكم حقيقة، وإنما أراده تجوزًا ومبالغة، فيكرر اللفظ ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 1/ 360

لإزالة هذا الظن، وليثبت في ذهنه أن الحكم كما ذكر ليس فيه تجوز، وذلك كما إذا قلت (عدا الأمير) فربما ظن السامع أن الأمير مشي سريعًا، فسميته عدوًا فلابد في نحو هذا من إزالة التجوز تكرير اللفظ، أو بالمجيء بالمصدر، فتقول (عدا عدا الأمير) أو (عدا الأمير عدوا) جاء في (شرح الرضي على الكافية): " والغرض الثالث أن يدفع المتكلم عن نفسه ظن السامع به تجوزًا وهو ثلاثة أنواع: أحدهما: أن يظن به تجوزًا في ذكر المنسوب، فربما تنسب الفعل إلى شيء مجازًا وأنت تريد المبالغة لا أن عين الفعل منسوب إليه، كما تقول (قتل زيد) وأنت تريد (ضرب ضربًا شديدًا) أو تقول (هذا باطل) وأنت تريد (غير كامل) فيجب أيضا تكرير اللفظ حتى لا يبقى شك في كونه حقيقة، نحو قوله عليه السلام: (أيما امرأة نكحت بغير أذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل) (¬1). 4 - وقد تكون المقصود تقوية الحكم وتمكينه في ذهن السامع وقلبه، كما في قوله تعالى: {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا}. 5 - وقد يكون للتهويل والتعظيم، وذلك نحو قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17 - 18]، فقد كرر الآية لتهويل ذلك اليوم، وتفخيمه ومثله: {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} [التكاثر: 3 - 4]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا أخبركم بأكبر الكبائر) فعد من ذلك الشرك بالله وعقوق الوالدين، قال الراوي: وكان متكئا فجلس فقال: (ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور) وظل يكررها حتى قلنا: ليته سكت أو كما قال فهنا التكرار قصد به تفظيع أمر شهادة الزور. 6 6 - ثم إن طال الكلام وخشى المتكلم على السامع نسيان أوائل الكلام كرر له اللفظ ليجعل ذلك اللفظ قائمًا في نفسه متمكنًا من ذهنه، لئلا ينسيه ذلك طول الكلام، وذلك نحو قولك: (لا تظني أنني إذا ذهبت إلى قوم في امر وردوني ردًا غير جميل، ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 1/ 360

توكيد الفعل بالنون

لا تظن أنني عائد إليهم) فكررت (لا تظن أنني) خوفًا على السامع من أن ينسى أول الكلام، ولذا يحسن إذا طال الكلام توكيد أوله توكيدًا لفظيًا، لتمكين الحكم في ذهنه وعدم فتوره عنه قال تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا أنكم مخرجون} [المؤمنون: 35]، فأكد (أنكم) لما طال الكلام لتقويته في ذهن السامعين. وقال: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحيبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 188]، فأكد (لا تحسبن) بقوله (فلا تحسبنهم) لأن الكلام قد طال وأراد تمكين الحكم وتقريره في أذهان المخاطبين، والله أعلم. توكيد الفعل بالنون يؤكد الفعل المضارع، وفعل الأمر، بنوني التوكيد الثقيلة والخفيفة، نحو: (لأقومن بواجبي) و (لأقومن بواجبي) قال تعالى: {لينبذن في الحطمة} [الهمزة: 4]، وقال: {لنسفعا بالناصية} [العلق: 15]، ويدل على أنهما حرفا توكيد انه يجاب بهما القسم، قال تعالى: {تالله لتسئلن عما كنتم تفترون} [النحل: 56]. ويبدو أن النون حرف يؤكد الأسماء والأفعال، غير أنها تدخل في أول الإسم، آخر الفعل فـ (أن) هي نون ثقيلة مسبوقة بالهمزة، ولما كانت تدخل في أول الإسم، بدئت بهمزة توصلا إلى النطق بالساكن، وجعلت الهمزة من بناء الكلمة. وهناك تشابه بين (أن) والنون، فكلتاهما حرف توكيد، غير أن إحداهما تؤكد الأسماء والأخرى تؤكد الأفعال، وكلتاهما ثقيلة وخفيفة، وكلتاهما تدخل الفتح على ما دخلت عليه فـ (أن) تدخل على الأسماء وتنصبها، والنون تدخل على الفعل وتبنيه على الفتح. تقول: (أن محمدًا ليسافرن)، وكلتاهما يجاب بها القسم في الإثبات، تقول: (والله لأذهبن) و (والله إني لمعكم) قال تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57]، وقال: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} [الذاريات: 23].

وتلزم النون الفعل إذا كان جوابا لقسم مثبتا مستقبلا، غير مفصول عن لامه بفاصل (¬1). نحو (والله لأسعين في الخير) قال تعالى: {فوربك لنحشرنهم} [مريم: 68]. وذكر الخليل أن الثقيلة آكد من الخفيفة جاء في (الكتاب): " وزعم الخليل أنهما توكيد كما التي تكون فصلا، فإذا جئت بالخفيفة فأنت مؤكد، وإذا جئت بالثقيلة فأنت اشد توكيدًا" (¬2). وذلك لأن تكرير النون بمنزلة تكرير التأكيد (¬3). وقد اجتمعتا في قوله تعالى: {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين} [يوسف: 32]، فجاء بالثقيلة في قوله: {ليسجنن} [يوسف: 32]، وبالخفيفة، في قوله: {وليكونا من الصاغرين} [يوسف: 32]، قالوا لأن " امرأة العزيز كانت أشد حرصا على سجنه من كونه صاغرا (¬4). فأكدت السجن لذلك بالثقيلة بخلاف الصغار. ونون التوكيد تخلص الفعل للاستقبال فلا تدخل على فعل للحال قال تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} [الفتح: 27]، فإذا كان الفعل للحال، لم تدخل عليه النون نحو (والله لأحسبك كاذبا). جاء في (الكتاب): " وإن كان الفعل قد وقع وحلفت عليه لم تزد على اللام وذلك قولك والله لفعلت .. فالنون لا تدخل على فعل قد وقع وإنما تدخل على غير الواجب (¬5). وجاء في (شرح ابن يعيش): " اعلم أن هاتين النونين الشديدة والخفيفة، من حروف المعاني، والمراد بهما التأكيد، ولا تدخلان إلا على الأفعال المستقبلة خاصة، وتؤثران فيها تأثيرن: تأثيرا في لفظها وتأثيرا في معناها، فتأثير اللفظ اخراج الفعل إلى البناء، ¬

_ (¬1) شرح الأشموني 3/ 215، التصريح 2/ 203، شرح ابن الناظم 252 (¬2) كتاب سيبويه 2/ 149، وانظر شرح الأشموني 3/ 212 (¬3) شرح ابن يعيش 9/ 37 (¬4) حاشية الصبان 3/ 212 ـ وانظر التصريح 2/ 203 (¬5) كتاب سيبويه 1/ 454

بعد أن كان معربًا، وتأثير المعنى اخلاص الفعل للاستقبال، بعد أن كان يصلح لهما (¬1). "إذ لو قلت (إن زيدا لقوم) جاز أن يكون للحال والاستقبال، بمنزلة مالا لام فيه، فإذا قلت (إن زيدًا ليقومن)، كان هذا جواب قسم والمراد الاستقبال لا غير" (¬2). وهذه النون كثيرا ما تدخل على الشرط المسبوق بـ (ما) الزائدة، ولا سيما شرط (إنْ) نحو قوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58]، وقوله: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} [الإسراء: 28]، وذلك لأن (ما) للتوكيد فجيء بالنون التي هي للتأكيد أيضا ولذلك قالوا أن دخولها هنا قريب من الواجب (¬3). ولم ترد في القرآن الكريم إلا مؤكدة. قال سيبويه: ومن مواضعها حروف الجزاء إذا وقعت بينها وبين الفعل (ما) للتوكيد وذلك لأنهم شبهوا (ما) باللام التي في (لتفعلن) لما وقع التوكيد قبل الفعل، الزموا النون آخره، كما ألزموا هذه اللام وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء بها، فأما اللام فهي لازمة في اليمين فشبهوا (ما) هذه إذ جاءت توكيدًا قبل الفعل بهذه اللام التي جاءت لأثبات النون فمن ذلك قولهم: إما تأتني آتك" (¬4). فذكر أن (ما) شبيهة بلام القسم في التوكيد. وتدخل كثيرا أيضا على الطلب، كالأمر والنهي والاستفهام والتمنى، وما إلى ذلك (¬5). قال تعالى: {فلا تكونن من الممترين} [البقرة: 147]. وقال الأعشى: وهل يمنعني ارتيادي البلا ... دمن حذر الموت أن يأتين ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 9/ 37، وانظر شرح ابن الناظم 252 - 253 (¬2) شرح ابن يعيش 9/ 39 (¬3) التصريح 2/ 204 (¬4) كتاب سيبويه 2/ 152 (¬5) انظر التصريح 2/ 204، شرح الأشموني 3/ 213 وما بعدها.

القسم

القسم الغرض من القسم توكيد الكلام وتقويته (¬1). فإذا أقسمت على شيء فقد أكدته ويطلق على القسم اليمين والحلف أيضا، ولفظهما يفيد معنى القوة فاليمين: من معانيه القوة والقدرة، جاء في (لسان العرب): واليمين القوة والقدرة وفي التنزيل العزيز: {لأخذنا منه باليمين} [الحاقة: 45]. قال الزجاج: أي بالقدرة" (¬2). فلعل اليمين التي هي القسم أخذت من هذا المعنى، لأنها تقوية للكلام، وقيل بل سميت اليمين يمينا لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل امريء منهم يمينه على يمين صاحبه .. وقال بعضهم: قيل للحلف يمين باسم يمين اليد وكانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا وتحالفوا وتعاقدوا وتبايعوا (¬3). وفي هذا المعنى أيضا معنى القوة، لأن يمين الإنسان أقوى من شماله. الحلف: وأما الحلف فلا يخلو معناه من القوة أيضا، فمن هذه المادة اللغوية نفسها (الحِلْف) بالكسر وهو " العهد يكون بين القوم، وقد حالفه أي عاهده، وتحالفوا أي تعاهدوا .. قال ابن الأثير: " أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق" (¬4). فالمعاقدة، والمعاهدة، والمحالفة قوة ولا شك، ولعل الحلف الذي هو القسم مأخوذ من هذا المعنى لأنه تقوية للكلام. وقيل بل المخالفة التي هي المعاهدة مأخوذة من (الحلف) الذي هو (اليمين)، ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 454، شرح ابن يعيش 9/ 90 (¬2) لسان العرب / يمن (¬3) لسان العرب/ يمن (¬4) لسان العرب، حلف

فقد قال الليث: " حالف فلان فلانا فهو حليفه، وبينهما حلف، لأنهما تحالفا بالأيمان أن يكون أمرهما واحدًا بالوفاء، فلما لزم ذلك عندهم في الأحلاف التي في العشائر والقبائل صار كل شيء لزم شيئا فلم يفارقه، فهو حليف حتى يقال: فلان حليف الجود وفلان حليف الإكثار وفلان حليف الإقلال (¬1). وجاء في (أساس البلاغة): " حلف بالله على كذا حلفا .. وحالفه على كذا وتحالفوا عليه واحتلفوا عليه .. ومن المجاز: بينهم حلف أي عهد. وهم حلفاء بني فلان وأحلافهم، وهذا حليفي وهذا حليف الندى، وحليف السهر (¬2). فجعل الحلف بالله هو المعنى الأول ونقل منه معنى الحلف الذي هو العهد والمخالفة نحوها. وأيا كان الأمر، ففي الحلف معنى التقوية، إذ كلش شيء يدخله الحلف يكون قوة له. وكذلك القسم، فمن اشتقاقه ما يعطي بمعنى معنى القوة، فالقسم بفتح فسكون هو " أن يقع في قلبك الشيء، فتظنه ثم يقوي ذلك الظن فيصير حقيقة (¬3). وأما لفظ (القسم) فيدل على أن أصله من القسم وهو النصب، وذلك أن الشخص كان يحلف على قسمه، أي نصيبه فأخذه، فكان القسم باديء بدء يستعمل في الحلف على النصيب خاصة، ثم عم استعماله في كل موضع والله أعلم. جاء في (لسان العرب) " وأقسمت حلفت وأصله من القسامة .. والقسامة الذين يحلفون على حقهم ويأخذون .. والقسامة الجماعة يقسمون على الشيء أو يشهدون" (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب / حلف (¬2) أساس البلاغة / حلف، 191/ 192 (¬3) القاموس المحيط / قسم: 4/ 164 (¬4) لسان العرب: قسم

أنواع القسم

وقيل أن كل قسم ورد في القرآن الكريم بلفظ (الحلف) ففيه معنى الحنث أو الحلف الكاذب، والأمر كما ذكر، قال تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة: 89]، وهو في حنث اليمين: وقال {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} [المجادلة: 14]، وقال {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون} [التوبة: 107]. وأما القسم، فهو عام استعمله القرآن في الكذب والصدق، قال تعالى على لسان إبليس: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 21]، وهو كذب، وقال: {أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال} [إبراهيم: 44]، وقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة} [النور: 53]. وهذا كله حنث وكذب. وأما ما ورد في غير ذلك، فنحو قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} [الواقعة: 75 - 76]. وقال: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون} [المعارج: 40]. أنواع القسم القسم نوعان: أ - ظاهر أو صريح: ويستدل عليه بحرف القسم، مثل قوله تعالى: {والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف} [الذاريات: 7، 8]، أو يستدل عليه بفعل القسم كقول الشاعر: وأقسم لا أنساك ما ذر شارق ... وما هب آل في ملمعة قفر أو يستدل عليه بالحرف والفعل معا، كقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} [الأنعام: 109]. أو يستدل عليه بلفظ من ألفاظ القسم، اسما كان أو مصدرًا، كقول امريء القيس:

أحرف القسم

فقلت يمين الله أبرح قاعدًا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (¬1). ب - مضمر أو غير صريح: وهو ما دلت عليه اللام، نحو: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم} [آل عمران: 186]، ونحو: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم} [الحشر: 12]، وقوله: {ولقد صدقكم الله وعده} [آل عمران: 152]. جاء في (الكتاب): " وسألته [يعني الخليل] عن قوله (لتفعلن) إذا جاءت مبتدأة ليس قبلها ما يحلف به، فقال، إنما جاءت على نية اليمين، وإن لم يتكلم بالمحلوف به (¬2). أو دل عليه المعنى، نحو {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] (¬3). وكقولهم: (علم الله) و (شهد الله) و (عمرك الله) و (عاهدت الله) لأفعلن، و (عليّ عهد الله لأفعلن) (¬4). أحرف القسم أشهر أحرف القسم: الواو والباء والتاء واللام. الواو: وهي أكثرهن استعمالا في القسم (¬5). وهي والتاء تختصان به من بين حروف الجر. ولا يذكر فعل القسم معها فلا يقال: أقسم والله، ولا تدخل على الضمير فلا يقال: وك يقال: بك (¬6). ¬

_ (¬1) أساليب القسم في اللغة العربة - كاظم فتحي الراوي 32 - 33، وانظر الكليات لأبي البقاء 290 (¬2) الكليات لأبي البقاء 290، أساليب القسم في اللغة العربية 36 - 39 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 455 (¬4) انظر كتاب سيبويه 3/ 147، الهمع 2/ 44 - 45، شرح الرضي على الكافية 2/ 378 (¬5) كتاب سيبويه 2/ 143 (¬6) انظر الرضي على الكافية 2/ 370

الباء

وتدخل على كل مقسم به: قال تعالى: {والفجر وليال عشر} [الفجر: 1 - 2]، وقال: {والليل إذا يغشى} [الليل: 1]، ولا تختص بلفظ الله تعالى. الباء: ويجوز ذكر فعل القسم معها وحذفه، تقول: أقسم بالله لأقولن الصدق، قال تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرءان كريم} [الواقعة: 75 - 77]، {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن} [النور: 53]. وتقول: (بالله لأقولن الصدق). قال تعالى: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} [ص: 82]، وقال الشاعر: بربك هل ضممت إليك ليلى وتدخل على الظاهر والمضمر، فتقول: (بالله عليك أفعل هذا ولا تفعل هذا) و (هل فعلت هذا؟ ) و (إلا فعلت هذا) ولا يجوز ذلك في غيرها، فلا تقول: (والله أفعل هذا أو لا تفعل هذا أو هل فعلت هذا). جاء في (الهمع): " إختص بها [أي باء القسم] الطلب والاستعطاف، فلا يقسم فيهما بغيرها نحو بالله استخبرني؟ وبالله هل قام زيد؟ أي أسألك بالله مستحلفا (¬1). التاء: وتكاد تختص بلفظ الله تعالى/ ولم ترد في القرآن الكريم إلا معه، قال تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57]، وقال: {تالله إن كدت لتردين} [الصافات: 56]. وفيها معنى التعجب والتفخيم. قال تعالى على لسان أخوة يوسف لأبيهم: {تالله إنك لفي ضلالك القديم} [يوسف: 95]، متعجبين من بقاء أبيهم على حاله لم يتغير ولم يتبدل مع طول العهد، وقال أيضا على لسان أخوة يوسف لأخيهم يوسف: {تالله لقد آثرك الله علينا} [يوسف: 91]، متعجبين مما حصل له، من علو منزلة ورفعة مكانة وما جرت له فعلتهم من الخير على غير ما كانوا يتوقعون ويؤملون. ¬

_ (¬1) الهمع 2/ 38، وانظر ابن يعيش 9/ 100

اللام

جاء في (الكشاف): في قوله تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57]، " فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: إن الباء هي الأصل، والتاء بدل من الواو المبدلة منها، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده، وتأتيه لأن ذلك كان أمرًا مقنوطًا منه لصعوبته وتعذره (¬1). ومن التفخيم قوله تعالى: {تالله لتسئلن عما كنتم تفترون} [النحل: 56]، وقوله: {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} [النحل: 63]. ويبدو أن القسم بها آكد وأفخم من الواو، لاختصاصها باسم الله سبحانه. اللام: وهي مختصة بلفظ (الله) تعالى، ولا تستعمل في القسم إلا إذا أريد به معنى التعجب، قال سيبويه: " ولا يجيء إلا أن يكون فيه معنى التعجب، قال أمية بن عائذ: لله يبقى على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " قوله وبمعنى (الواو) في القسم للتعجب، نحو (لله لا يؤخر الأجل) قولهم (في التعجب) يعنون في الأمر العظيم الذي يستحق أن يتعجب منه، فلا يقال: لله لقد قام زيد، بل يستعمل في الأمور العظام، نحو: لله لتبعثن (¬3). وقال أيضا: ولام الجر تجيء بمعنى الواو، كما ذكرنا مختصة أيضا بلفظ (الله) في الأمور العظام (¬4). ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 331، وانظر 2/ 147، في قوله تعالى: {تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض}. (¬2) كتاب سيبويه 2/ 144 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 370، وانظر شرح ابن يعيش 2/ 98 (¬4) شرح الرضي على الكافية 2/ 370، وانظر شرح ابن يعيش 2/ 98

وقد يعوض عن النطق بحرف القسم مع اسم الله تعالى (ها) التنبيه أو همزة الاستفهام فيقال (ها الله ذا) أي (والله ذا) و (لاها الله ذا) " فإذا جئت بها التنبيه بدلا، فلابد أن تجيء بلفظة (ذا) بعد القسم به، نحو: (لاها الله ذا) (¬1). وفي (ذا) قولان. القول الأول: أنها من جملة المقسم به صفة الله تعالى: والمعنى (لا والله الحاضر) لحضوره في لك مكان أو على تقدير (هذا قسمي). والقول الثاني: أنها من جملة الجواب أي: الأمر ذا. والقول الأول أرجح، لأن الجواب يؤتى به بعد (ذا) فيقولون (ها الله ذا لأفعلن) ولو كان جوابا لاكتفي به (¬2). وقد يعوض عنه بهمزة الاستفهام منكرًا أو مستفهما، فتقول (آلله كان كذا؟ ) جاء في (شرح الرضي على الكافية) " وأما همزة الاستفهام فأما أن تكون للإنكار كقول الحجاج في الحسن البصري رحم: آلله ليقومن عبيد من العبيد فيقولون كذا وكذا؟ أو للاستفهام كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود (رض) لما قال: هذا رأس أبي (آلله الذي إله غيره)؟ فإذا دخلت همزة الاستفهام على (الله) فإما أن تبدل الثانية ألفا صريحة وهو الأكثر، أو تسهل كما هو القياس، في (الرجل) ونحوه" (¬3). وربما أسقط حرف القسم مع لفظ (الله) تعالى من غير تعويض نحو (الله لأفعلن) أي (بالله) فينتصب المقسم به، قال الشاعر: إلا رب من قلبي له الله ناصح (¬4). ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 371 (¬2) انظر شرح ابن يعيش 9/ 105 - 106، شرح الرضي على الكافية 2/ 372 (¬3) شرح الرضي 2/ 372 - 371، وانظر كتاب سيبويه 2/ 145، شرح ابن يعيش 9/ 105 - 106 (¬4) انظر شرح ابن يعيش 9/ 102 - 103، شرح الرضي 2/ 364، كتاب سيبويه 2/ 144

ألفاظ تستعمل في القسم

ألفاظ تستعمل في القسم لعمرك: هذا اللفظ يستعمل في القسم ومعنى (العَمْر) الحياة، وهو (العُمْر) و (العُمٌر) شي واحد، يقال قد طال عمره وعمره، ويستعمل في القسم المفتوح ليس غير فيقال: (¬1). (لعمرك) ولا يقال: (لُعمرك)، ولا يقال (لُعمرك) واللام الداخلة عليه هي لام الابتداء، فمعنى لعمرك: لحياتك، فهو مبتدأ وخبره محذوف تقديره: (قسمي)، فيكون الكلام حياتك قسمي والمراد أقسم بحياتك. وكذلك (لعمر الله) أي أقسم ببقاء الله ودوامه (¬2). قال تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحجر: 72]، فأقسم بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم. أيمن الله: تستعمل (أيمن الله) في القسم، يقال: (أيمن الله لا ردن عليه قوله) وهمزتها همزة وصل وقد اختلف في (أيمن) هذه فقيل " هو مفرد مشتق من (اليمين) وهو البركة، أي بركة الله يمين (¬3). وعند الكوفيين هو جمع (يمين) جعلت همزة القطع فيه وصلا، لكثرة الاستعمال (¬4). وقد تصرفوا بهذه الكلمات لكثرة الاستعمال، فقالوا: (أيمن الله) و (أيم الله) بحذف النون و (مُ الله) و (من ربي) وغير ذلك لأن كثرة دوران الكلمة على الألسنة مدعاة إلى التصرف فيها تخفيفا. ¬

_ (¬1) انظر لسان العرب عمر 9/ 279 - 280 (¬2) لسان العرب 9/ 290 - عمر (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 373، شرح ابن يعيش 9/ 92 (¬4) شرح الرضي 2/ 373، شرح ابن يعيش 9/ 92

عمرك

جاء في (شرح ابن يعيش): " اعلم أن اللفظ إذا كثر في السنتهم وأستعمالهم، آثروا تخفيفه، وعلى حسب تفاوت الكثرة يتفاوت التخفيف، ولما كان القسم مما يكثر استعماله ويتكرر دوره، بالغوا في تخفيفه من غير جهة واحدة (¬1). عمرك الله: هذا التعبير يستعمل قسما وغير قسم، فمن استعماله في القسم قولك (عمرك الله) لأفعلن بفتح الهاء، وقد يستعمل في قسم السؤال، فيقال (عمرك الله لا تفعل) قال: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني (¬2). قالوا: ومعنى - عمرك الله، استحلفك بتعميرك الله، أي: باقرارك له بالبقاء (¬3). فيكون (العمر) على هذا مصدرا والأصل عمرك الله تعميرا، فحذفت الزوائد من المصدر. وقد يكون على غير هذا المعنى، فلا ينتصب على المصدر، ولا يكون قسما، وذلك نحو قولك: (عمرك الهل ما فعل فلان) فيكون التقدير في نحو هذا (اسأل عمرك الله) أي أسأل الله أن يعمرك، فيكون (عمرك) مفعولا أول، و (الله) مفعولا ثانيا، والمعنى (اسأل الله أن يطيل عمرك). جاء في (لسان العرب): " وقول عمر بن أبي ربيعة: عمرك الله كيف يجتمعان. يريد سألت الله أن يطيل عمرك (¬4). ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 9/ 94 (¬2) شرح الرضي على الكافية 1/ 127 - 128 (¬3) انظر لسان العرب عمر، 9/ 280، شرح الرضى على الكافية 1/ 127 - 128، شرح ابن يعيش 9/ 91 (¬4) لسان العرب / عمر، 9/ 280، شرح الرضي 1/ 128، شرح ابن يعيش 9/ 91، الهمع 2/ 45

قعدك الله

وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وعلى تأويلهما [يعني عمرك الله وقعدك الله] بـ (أسأل تعميرك وتقعيدك) ليس معنى القسم ظاهرا فيهما، مع أنهما لا يستعملان إلا في القسم كما ذكرنا، إلا أن يقال: لما كانا للدعاء للمخاطب جريا مجرى قسم السؤال، لأنه قد يبتدأ السؤال بالدعاء للسمؤول، كأنه قيل: طول الله عمرك أفعل لي كذا وكذا (¬1). وربما قيل (عمرك الله) بضم الهاء فيكون لفظ الجلالة فاعلا، أي: عمرك الله تعميرًا (¬2). والذي يبدو لي أنه دعاء على كل حال على المعنى الثاني، أي الدعاء باطلة العمر ولكنه قد يضمن معنى القسم فيستعمل استعماله، كما في (علم الله) و (على عهد الله) ونحو ذلك، أولا يضمن بل يراد به الدعاء المحض. قعدك الله: يستعمل هذا في القسم فيقال: (قعدك الله لتفعلن) ويقال أيضا: (قعيدك الله) وقد اختلف في معنى (قعدك الله) فقيل إن معناها اسألك بحق قعدك الله، أي بحق نسبتك إياه إلى القعود أي الدوام والتمكن. وقيل: المعنى (اسألك بحق قعيدك الذي هو الله) ومعنى (قعدك) قعيدك، أي: " ملازمتك، العالم بأحوالك، وهو الله، فـ (الله) عطف بيان لقعدك، ويؤيد هذا التأويل قولهم: (قعيدك الله) بمعناه فالقعد والقعيد، بمعنى المقاعد، كالحلف والحليف (¬3). وقيل معنى (قعدك الله وقعيدك): الله معك، أي رقيب عليك وحفيظ، وقيل: مقاعدك، وهو بمعناه وضمن معنى القسم، قال في الصحاح: على معنى يصاحبك الله الذي هو صاحب كل نجوى، وقيل هما مصدران بمعنى المراقبة، والتقدير: ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 1/ 128 (¬2) شرح الرضي 1/ 128 (¬3) شرح الرضي على الكافية 1/ 128

أقسم بمراقبتك الله، ونصب الجلالة في الجميع على إسقاط الجار (¬1). وجاء في (لسان العرب): " وقيل (قعدك الله) و (قعيدك الله) أي كأنه قاعد معك يحفظ عليك قولك، وليس بقوي. قال أبو عبيد: قال الكسائي: يقال قعدك الله أي الله معك .. وقال ثعلب: قعدك الله وقعيدك الله نشدتك الله .. والقسم قعيدك الله لأكرمنك .. قال الجوهري: هي يمين للعرب، وهي مصادر استعملت منصوبة بفعل مضمر، والمعنى يصاحبك الذي هو صاحب كل نجوي، كما يقال: نشدتك الله (¬2). وقيل إن معناها أسأل الله قعدك، كما في (أسأل الله عمرك) أي: أسأله تقعيدك وتمكينك، فلا تكون على هذا قسما، بل هي كما ذكر الرضي فيها، وفي (عمرك الله) " لما كانا للدعاء للمخاطب جريا مجرى قسم السؤال لأنه قد يبتدأ السؤال بالدعاء للمسؤول كأنه قيل: طول الله عمرك افعل لي كذا وكذا (¬3). والذي يبدو أن معنى (قعدك الله): (قعيدك الله) أي: (الله مقاعدك، وملازمك، ورقيب عليك) ثم يضمن هذا التعبير معنى القسم أحيانًا، فيكون حلفا، أو استحلافا بمراقبة الله له وملازمته إياه، فتقول (قعدك الله لتفعلن) على معنى استحلفك برقابة الله عليك، وحضوره معك لتفعلن، وتقول: (قعدك الله لأفعلن) على معنى أحلف بمراقبة الله وحضوره معك فأنت لست وحدك الآن، بل الله معك مطلع على ما أقول لأفعلن ونصب لفظ الله أما على عطف البيان من قعدك، كما ذكر الرضي، أي أستحلفك قعيدك الله، أي: أستحلفك قعيدك الذي هو الله. ¬

_ (¬1) همع الهوامع 2/ 45 (¬2) لسان العرب / قعد، 4/ 365 - 366 (¬3) شرح الرضي على الكافية 1/ 128

وقوع (لا) قيل القسم

وأما على المفعول به، أي: أجعل الله قعيدك، أي: تذكر أن الله معك، كما يقال في الدارجة: (أجعل الله بين عينك إذا تكلمت) فيكون الغرض من هذا التعبير، تحذير المخاطب وتخويفه الله الذي لا يفارقه، وليس مرادا به القسم. هذا إذا كانا منصوبين. أما إذا كانا مرفوعين، أي (قعدك الله) و (قعيدك الله) فهما مبتدأ وخبر، والمعنى: الله مقاعدك، وهذا دعاء محض، ليس فيه قسم، والمعنى: جليسك الله، أي الله قاعد معك يحفظك ويرعاك. جاء في (القاموس المحيط): " وقعدك الله ويكسر، وقعيدك الله ناشدتك الله وقيل كأنه قاعد معك بحفظه عليك أو معناه بصاحبك، الذي هو صاحب كل نجوي (¬1). أو قد يكون أخبارا القصد منه تحذيره المخاطب، وتخويفه الله الذي لا يفارقه، فيكون المعنى: الله معك، وهو مقاعدك، فراقبه فيما تقول: أو تفعل، على ما ذكرناه في النصب، والله أعلم. وقوع (لا) قيل القسم: تقع (لا) قبل فعل القسم كثيرا وحصوصا قبل الفعل (أقسم) فيقال (لا أقسم) قال تعالى: {فلا أقسم بالشفق} [الأنشقاق: 16]، وقال: {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1]، كما تقع قبل القسم من غير فعل القسم، وذلك كقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} [النساء: 64]. وحيثما أقسم الله في القرآن الكريم ذاكرا فعل القسم (أقسم)، جاء بـ (لا) قبله فلم يقل مرة: أقسم بكذا، بل كل ما ورد (لا أقسم) قال تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرءان كريم} [الواقعة: 75 - 77]. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط (قعد): 1/ 329

وقال: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم} [الحاقة: 38 - 40].وقال: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين} [المعارج: 40 - 41]. وقال: {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة} [القيامة: 1 - 2]. وال: {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم} [التكوير: 15 - 19]. وقال: {فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبقٍ} [الإنشقاق: 16 - 19]. وقال: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} [البلد: 1 - 2]. وأما بغير فعل القسم فلم يرد ذلك إلا في قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء: 64]. والنحاة في ذلك على مذاهب: فمنهم من ذهب إلى أن (لا) قبل القسم زائدة، تفيد التوكيد، فمعنى (لا أقسم بيوم القيامة): أقسم بيوم القيامة. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة} "ادخال (لا) النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم. قال امرؤ القيس: لا وأبيك أبنة العامري ... لا يدعى القوم أني افر وقال غوية بن سلمى: ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما بالي وفائدتها توكيد القسم، وقالوا أنها صلة مثلها في {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29].

وفي قوله: في بئر لا حور سرى وما شعر وأعترضوا عليه بأنها تزاد في وسط الكلام لا في أوله. وأجابوا بأن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض. والاعتراض صحيح، لأنها لم تقع مزيدة، ألا في وسط الكلام، ولكن الجواب غير سديد ألا ترى إلى امريء القيس كيف زادها في مستهل قصيدته (¬1). وقيل إنها زيدت على نية الرد على المكذبين. جاء في (تأويل مشكل القرآن): " وأما زيادة (لا) في قوله: {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة} [القيامة: 1 - 2]. وقوله: {فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق} [الأنشقاق: 16]، فإنها زيدت في الكلام على نية الرد على المكذبين، كما تقول في الكلام: (لا والله ما ذاك كما تقول) ولو قلت: (والله ما ذاك كما تقول) لكان جائزا أن (إدخالك) (لا) في الكلام، أولا، أبلغ في الرد (¬2). وقيل: أن (لا) نافية، واختلفوا في هذا النفي، فمنهم من ذهب إلى أنه يفيد نفي أمر سابق قبل القسم، ففي قوله: {لا أقسم بيوم القيامة} [القيامة: 1]، كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا، أي: ليس الأمر على ما ذكرتم ثم قيل: اقسم بيوم القيامة (¬3). وفي قوله: {فلا وربك لا يؤمنون} [النساء: 65]، : والتقدير ليس الأمر كما يزعمون، أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، ثم استأنفت القسم (¬4). ¬

_ (¬1) الكشاف 3/ 291 - 292، وانظر في 1/ 45، قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون. [النساء: 65]. (¬2) تأويل مشكل القرآن 191 - 192، وانظر التفسير الكبير للرازي في 10/ 163، قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون}: [النساء: 65]. (¬3) الكشاف: 3/ 292 (¬4) التفسير الكبير للرازي 10/ 163

وذهب الزمخشري إلى أنها للنفي، والمقصود بذلك إعظام المقسم به، فكأنه قال: أنا لا أعظمه بالقسم، فهو معظم بغير القسم، قال: والوجه أن يقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له، يدلك عليه قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} [الواقعة: 75 - 76] فكأنه بغدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بأقسامي به كلا إعظام يعني أن يستأهل فوق ذلك (¬1). وقيل: إنها لتوكيد النفي الذي جاء فيما بعد (¬2). جاء في (الكشاف): " فإن قلت: قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} [النساء: 65]، والأبيات التي أنشدتها المقسم عليها فيها منفي، فهلا زعمت أن التي قبل القسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف هنا منفيا، كقولك: لا أقسم بيوم القيامة لا تتركون سدى. قلت: لو قصر الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ولكنه لم يقصدر، ألا ترى كيف لقي: {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1]، بقوله: {لقد خلقنا الإنسان} [البلد: 4]، وكذلك {فلا أقسم بمواقع النجوم} بقوله: أنه لقرآن كريم (¬3). وجاء في (بدائع الفوائد) أن (لا): " أقحمت أول القسم إيذانا بنفي المقسم عليه وتوكيدًا لنفيه كقول الصديق (لاها الله لا تعمد إلى أسد من أسد الله) الحديث" (¬4). وقال محمد عبده في تفسير جزء عم: " أن (لا أقسم) عبارة من عبارات العرب في القسم، يراد بها تأكيد الخبر، كأنه في ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم، ويقال إنه يؤتي ¬

_ (¬1) الكشاف 3/ 292 (¬2) انظر التفسير الكبير 10/ 163 (¬3) الكشاف 3/ 292، وانظر 1/ 405، ـ في قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} [النساء: 65] (¬4) بدائع الفوائد 1/ 101

بها في القسم إذا أريد تعظيم المقسم به، كأن القائل يقول: إني أعظمه بالقسم لأنه عظيم في نفسه (¬1). وذهبت بنت الشاطئ إلى أن القصد من ذلك التأكيد " والتأكيد عن طريق النفي ليس بغريب من مألوف استعمالنا، فأنت تقول لصاحبك: لا أوصيك بفلان تأكيدًا للوصية ومبالغة في الاهتمام بها كما تقول: لن ألح عليك في زيارتنا، فتبلغ بالنفي، مالا تبلغه بالطلب المباشر الصريح (¬2). ولابد هنا من أن نفرق بين ذكر (لا) مع فعل القسم (لا أقسم) وذكرها من دون فعل القسم (لا والله) فإنهما ليسا أمرًا واحدا خلافا للزمخشري فقد عدهما أمرًا واحدًا. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {فلا وربك لايؤمنون} [النساء: 65]: " إن قلت: قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} [النساء: 65]، والأبيات التي أنشدتها المقسم عليها منفي فهلا زعمت أن (لا) التي قبل القسم زيدت موطئة للنفي بعده، ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف هنا منفيا كقولك: لا أقسم بيوم القيامة لا تتركون سدى. قلت: لو قصر الأمر على النفي دون الأثبات لكان لهذا القول مساغ ولكنه لم يقصر، ألا ترى كيف لقي {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1]، بقوله: {لقد خلقنا الإنسان} [البلد: 4]، وكذلك، {فلا أقسم بمواقع النجوم} [الواقعة: 75]، ـ بقوله: إنه لقرآن كريم" (¬3). فرد على من قال إن (لا) في قوله تعالى: (فلا وربك) إنما زيدت لتظاهر النفي فيما بعد، أي (لا يؤمنون) بأن ذلك مردود باستواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله، {فلا أقسم} [الواقعة: 75]، فرد بما فيه الفعل على ما لا فعل فيه. وهذا فيما نرى غير سديد، فإن الاستعمال يدل على أنهما مختلفان. ¬

_ (¬1) أساليب القسم في اللغة العربية 150، وانظر تفسير جزء عم لمحمد عبده - سورة البلد (¬2) أساليب القسم في اللغة العربية 150 - 151 (¬3) الكشاف 1/ 405

أما (لا والله) فتستعمل على ضربين: الأول: أن تكون ردًا لكلام سابق، مثبتا أو منفيا، أو طلبا، وذلك نحو قولك لمن قال لك (أراك قد ملت إليه)، لا والله ما ملت إليه. ونحو قولك لمن قال لك: (لا أراك ذاهبا معه) لا والله ليس الأمر كما ترى بل إني ذاهب معه. وكقولك لمن قال لك: (أكرم فلانا) ـ، لا والله لا أكرمه وكقولك لمن قال لك: (ألا تذهب إليه) لا والله لا أذهب إليه. وقد يكون جوابها مثبتا، فتقول لمن قال لك: (أرى فلانا كاذبا). لا والله إنه لصادق. والضرب الآخر، وهو المقصود أن تقع ابتداء من غير كلام سابق، والغرض من هذا النفي، الإيذان بنفي المقسم عليه، وتوكيد النفي الذي يجيء فيما بعد، وذلك نحو قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} وكقول امريء القيس: لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر فلا يكون جوابها إلا منفيا، والأمر فيها كما قال، من قال إنها إيذان بالنفي، وتوكيد له، وأما (لا أقسم) فالأمر فيها مختلف، فإن جوابها يكون مثبتا ومنفيا، ولم يرد في القرآن الكريم إلا مثبتا. وهذا التعبير- أي القسم - لون من ألوان الأساليب في العربية، تخبر صاحبك عن أمر يجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي لأن أحلف لك على هذا، أو لا أريد أن أحلف لك أن الأمر على هذه الحال، ونحوه مستعمل في الدراجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن الأمر كيت وكيت، أو ما أحلف لك بالله، لن الحلف بالله عظيم أن الأمر على غير ماتظن، أو ما أكول والله إن الأمر كذا وكذا (أي لا أقول والله).

جواب القسم

فأنت تخبره بالأمر، وتقول له لا داعي للحلف بالمعظمات، على هذا الأمر، فأنت أخبرته ما أردت أن تخبره به، وعظمت له ما أردت أن تعظمه، مما يستحق أن يقسم به، ثم تقول له: إنني لا أريد أن أقسم لك بما هو عظيم على هذا الأمر. فهذا من هذا الضرب، والله أعلم. جواب القسم. جملة جواب القسم، أما إسمية، أو فعلية، فإن كانت إسمية أجيب القسم في الإثبات باللام المفتوحة، أو (إن) واللام، أو (إن) وحدها مشددة أو مخففة (¬1). تقول: (والله لهو أفضل منك) أو (إنه أفضل منك) أو (إنه لأفضل منك) قال تعالى: {فورب السماء والأرض إنه لحق} [الذاريات: 23]. وقال: {حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: 1 - 3]. وقال: {قال تالله إن كدت لتردين} [الصافات: 56]. وقال: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة: 107]. وإذا كان الجواب جملة فعلية، فعلها مضارعن كان باللام المفتوحة مع النون، أو من دون نون، قال تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57]، وقال: {ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون} [آل عمران: 158]. وذلك إنه إذا كانت جملة الجواب مصدرة بفعل مضارع، مثبت، مستقبل، غير مفصول عن لامه، بفاصل وجب توكيد بالنون (¬2). وإن فقد شرط واحد من هذه الشروط إمتنعت النون. ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 274، الهمع 2/ 41 (¬2) شرح الأشموني 3/ 215، التصريح 2/ 203، الهمع 2/ 42

فإن كانت الجملة منفية، امتنعت النون، قال تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل: 38]، وقال: {فلا وربك لا يؤمنون} [النساء: 65]. وإن كان الفعل للحال، امتنعت النون أيضا، وذلك لأن نون التوكيد تخلص الفعل للاستقبال، فلا تدخل على ما كان للحال، تقول: (والله لأذهب إليه الآن)، وتقول: (لعمرك لأحسبه صادقا) فتكتفي باللام وتمتنع النون (¬1). ومن هنا فرقوا بين قولهم: (إن محمدًا ليضربن خالدا) و (أن محمدا ليضرب خالدا) فقالوا إن ما فيه نون التوكيد مخصوص بالاستقبال، وما فيه اللام وحده ليس كذلك، بل ذهب أكثرهم إلى أنه مخصوص بالحال، لأن لام الابتداء تخلص الفعل المضارع للحال عند الأكثرين (¬2). وقد بحثنا هذا في باب (إن وأخواتها) ورجحنا أنها لا تخلص المضارع للحال، بل قد تفيده، وتفيد الاستقبال، قال تعالى: {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة} [النحل: 124]، وعلى هذا. فالتعبير بالنون مخصوص بالاستقبال، والتعبير باللام يحتمل الحال والاستقبال، وهو للحال برجحان، إلا إذا دل على غير ذلك دليل. جاء في (شرح ابن يعيش): "فإذا قلت: (إن زيدًا ليضربن عمرا) كان تقديره: إن زيدًا والله ليضربن عمرا، فاللام واقعة موقعها لأنها جواب للقسم فهي بعده، وإذا قلت: (إن زيدًا ليضرب عمرا) فهذه اللام تقديرها أن تكون داخلة على (أن) فبين هذه اللام واللام التي معها النون فصل من وجهين: أحدهما أن اللام التي معها النون لا تكون إلا للمستقبل، والتي ليس معها النون تكون للحال وقد يجوز أن يراد بها المستقبل. والوجه الآخر أن المفعول به لا يجوز تقديمه على الفعل الذي فيه النون، ويجوز تقديمه على الذي لا نون فيه (¬3). ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 376 (¬2) انظر المغنى 1/ 228 (¬3) شرح ابن يعيش 9/ 96، وانظر كتاب سيبويه 1/ 456

وتمتنع النون أيضا، إذا فصل اللام عن الفعل، تقول: (والله لسوف أكرمك) قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5]. وعلى آية حال لابد من اللام مع المضارع المثبت. أما إذا كانت جملة الجواب مصدرة بفعل ماض غير جامد، فيكون الجواب باللام مع قد، كقوله تعالى: {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا} [يوسف: 91]، وربما حذفت اللام، إذا كان في الكلام طول، قال تعالى: {والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقوها قد أفلح من زكاها} [الشمس: 1 - 9] (¬1). وقيل بل هو ليس بجواب القسم، بل هو تابع لقوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} على سبيل الاستطراد (¬2). وهو الراجح فيما هو ظاهر. وأما الفعل الجامد فيجاب باللام دون (قد) لأن (قد) لا تدخل إلا على المتصرف، تقول: (والله لنعم الرجل أنت). قال: يمينا لنعم السيدان وجدتما (¬3). وأما في النفي فيجاب القسم بـ (ما)، أو (لا)، أو (إنْ) في الجمل الإسمية، أو الفعلية، قال تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا} [التوبة: 74]، وقال: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23]، فتلقاه بـ (ما). وقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل: 38]. وقال: {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى} [المائدة: 107]، فتقلاه بـ (لا). وقال: {ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} [فاطر: 41]. ¬

_ (¬1) انظر الهمع: 2/ 42 (¬2) انظر الكشاف 3/ 342 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 376

حذف (لا) النافية من جملة الجواب

وقال: {ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقا} [النساء: 62]، فتلقاه بـ (أن) النافية. وتقول في الجمل الإسمية (والله ما محمد سافرًا) أو إن محمدٌ مسافر. قال تعالى: {والسماء والطارق وماأدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ} [الطارق: 1 - 4]، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ. وتقول: والله لا أحد في الدار، أو والله لا إبراهيم ولا محمود في الدار (¬1). وأما في القسم الطلبي والإستعطافي، فيتلقي بالأمر والنهي والاستفهام، تقول: (بالله عليك أرحم ضعفي) وتقول: (بالله عليك لا تردني خائبًا) وقال: بربك هل ضممت إليك ليلى ويجاب بإلا (ولما) تقول: (بالله عليك ألا فعلت ولما فعلت) (¬2). حذف (لا) النافية من جملة الجواب: يجوز حذف (لا) النافية من جواب القسم قياسًا، إذا كان فعلا مضارعًا، تقول: (والله أرغب عنك) أي لا أرغب عنك، فإذا أريد الإثبات جيء باللام، ولابد إذ لا يجوز أن يتلقي القسم في الإثبات بغير اللام، فإن لم تذكر اللام علمت أنه منفي لا محالة، قال تعالى: {تالله تفتؤا تذكر يوسف} [يوسف: 85]، والمعنى لا تفتأ، ولو أريد الاثبات لقيل (لتفتأن) في الاستقبال أو (لتفتأ) إذا أريد الحال. قال الشاعر: آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس أي: لا أطعمه .. وقال: فقلت يمين الله أبرح قاعدًا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 375 (¬2) انظر الهمع 2/ 41 - 42، شرح الرضي على الكافية 2/ 374

أي: لا أبرح. وقال: تالله يبقى على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس (¬1). وقال صفوان بن أمية في الخمر: رأيت الخمر صالحة وفيها ... مناقب تفسد الرجال الكريما فلا والله أشربها حياتي ... ولا أشفي بها أبدًا سقيما أي: لا أشربها. وقال عمر بن الظرب فيها أيضا: سآلة للفتي ما ليس في يده ... ذهابة بعقول القوم والمال أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرق ترب القبر أوصالي مورثة القوم أضغانا بلا أحن ... مزرية بالفتي ذي النجدة الحالي أي: لا أسقيها ولا أشربها جاء في (الكتاب): " وقد يجوز ذلك وهو من كلام العرب أن تحذف (لا) وأنت تريد معناها وذلك قولك (والله أفعل ذاك أبدًا) تريد: والله لا أفعل، وقال فحالف فلا والله تهبط تلعة ... من الأرض إلا أنت للذل عارف (¬2). وجاء في (معاني القرآن) للفراء في قوله تعالى: (تالله تفتأ): " (تالله تفتأ): معناه لا تزال تذكر يوسف و (لا) قد تضمر مع الإيمان، لأنها إذا كانت خبرًا لا يضمر فيها (لا) لم تكن إلا بلام. ألا ترى أنك تقول: (والله لآتينك) ولا يجوز أن تقول: (والله آتيك) إلا أن تكون تريد (لا)، فلما تبين موضعها وقد فارقت الخبر أضمرت" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الهمع 2/ 43، شرح الرضي على الكافية 2/ 377 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 454 (¬3) معاني القرآن 2/ 54

الاستغناء بالجواب عن القسم

الاستغناء بالجواب عن القسم: يقول النحاة إنه قد يستغني بجواب القسم عن القسم، فيكون الجواب دليلا على القسم المحذوف، وذلك كأن يؤتى باللام الواقعة في جواب القسم، كقولك: (لأذهبن إليه) وقولك (لقد رددت عليه) فاللام واقعة في جواب قسم محذوف، والتقدير: والله لأذهبن إليه، أو لقد رددت عليه، قال تعالى: {كلا لينبذن في الحطمة} [الهمزة: 4]، وقال: {ولقد صدقكم الله وعده} [آل عمران: 152]. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " ويستغني كثيرا عن القسم بجوابه، إن أكد بالنون نحو: (لأضربنك) (¬1). وجاء في (الكتاب): " وسألته - يعني الخليل - عن قوله (لتفعلن) إذا جاءت مبتدأة ليس قبلها ما يحلف به، فقال: إنما جاءت على نية اليمين، وإن لم يتكلم بالمحلوف به" (¬2). وقد يؤتى باللام الموطئة للقسم قبل الشرط للتنبيه، على القسم المحذوف، كقولك (لئن لم تأتني لأقطعن عنك العون) أي: والله إن لم تأتني. قال تعالى: {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن} [يوسف: 32]، وقال: {لئن لم تنته لأرجمنك} [مريم: 46]، فهذه اللام نبهت على القسم المقدر. وربما حذفت اللام الموطئة قبل الشرط (¬3).، واكتفي بجواب القسم للدلالة على القسم المحذوف، وذلك نحو قوله تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121] فثمة قسم مقدر قبل الشرط والتقدير: لئن أطعتموهم بدلالة الجواب، إذ لو كان الجواب للشرط لقيل (فإنكم مشركون) فالجواب ههنا دليل على القسم المقدر، ونحو قوله تعالى: {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23]، فهنا قسم مقدر قبل ¬

_ (¬1) شرح الرضي 2/ 387، الهمع 2/ 44 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 455 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 377، المغنى 2/ 640

الشرط بدلالة الجواب (لنكونن) ولو لم يكن جوابًا للقسم لقيل (نكن من الخاسرين) كما قال تعالى في موطن آخر: {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [هود: 47]. والذي يبدو لي أن ليس ثمة قسم مقدر، وإنما هو توكيد، كتوكيد القسم، وهو نظير قولنا (إنه لمنطلق) فهذا ليس بقسم، ولكنه مؤكد كتوكيد القسم، إذ لو أقسمت فقلت (والله أنه لمنطلق) لم يختلف التوكيد في الجملتين، مع إن الأولى ليست قسمًا، كما هو رأي الجمهور. وكذلك قولك (لقد ذهبت إليه) أو (لأذهبن إليه) ليس بقسم، وإنما هو توكيد للإثبات، ونحوه قوله تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} [آل عمران: 152]. وقوله: {ولقد كنتم تمنون الوت من قبل أن تلقوه} [آل عمران: 143]. وقوله: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} [البقرة: 65]. وقوله: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} [التوبة: 25]. وقوله: {ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها} [الفرقان: 40]. فهذا كله ليس بقسم فيما أرى، وإنما هو توكيد فحسب، وهل يحتمل المعنى القسم في قوله تعالى: {ولقد كنتم تمنون الموت} والمخاطبون يعلمون ذلك مقرون به وليسوا منكرين له؟ وهل يحتمله قوله تعالى: {ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء} وهم يأتونها في أسفارهم وليسوا منكرين لذلك؟ يخيل: إلي أن المعنى على التوكيد وحسب، والله أعلم. وكذلك ما فيه نون التوكيد، نحو قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} [المائدة: 94].

وقوله: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} [الأعراف: 88]، فهل في قوله تعالى: {أو لتعودن في ملتنا} قسم؟ وهل يستقيم الكلام إذا قلت: والله لتعودن في ملتنا؟ وهل يدل ذلك على المعنى المراد؟ وكذلك قوله تعالى: {ثم بدا لهم من بعدا ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} [يوسف: 35]، فمن هذا الذي أقسم على ذلك؟ وهل نحس في هذا معنى القسم؟ أفيصح التقدير: ثم بدا لهم من بعد ما رأو الآيات والله ليسجننه حتى حين؟ أترى أن ذلك موافق للمعنى؟ ونحوه قوله تعالى: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} [التوبة: 107]، فهذا على مقتضي قول النحاة حلف على الحلف، لأن (ليحلفن) عندهم جواب لقسم مقدر، وهو حلف أيضا جوابه إن أردنا إلا الحسنى. ونحوه قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين} [الإسراء: 4]، فإن هذا ليس حلفا بل وعدا وحسب والله أعلم. والحق أن هذا توكيد للإثبات فقط، وليس بقسم، فإنك كما تؤكد الأمر والنهي والاستفهام، والنفي بالنون، تؤكد الأثبات، وذلك نحو قوله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102]، وقوله: {هل يذهبن كيده ما يغيظ} [الحج: 15]، وقوله: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25]، وإلا فكيف نؤكد الأثبات من دون قسم إذا أردنا ذلك؟ ألا ترى أننا نؤكد الجملة الإسمية المثبتة من دون قسم، فنقول: (إن محمدًا قادم) و (أنه لقادم) وكذلك يقتضي القياس أن نؤكد الجملة الفعلية من دون قسم، نحو (لأذهبن إليه) و (لقد ذهبت إليه). وليس كل ما يصلح أن يقع جوابًا لقسم يكون جوابا للقسم بالضرورة، ألا ترى أن النحاة لا يقولون أن قولنا: (لا أذهب إليه) جواب قس مع أنه يصح أن يقع جوابًا للقسم فتقول (والله لا أذهب إليه). قال تعالى: {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان

ذا قربى} [المائدة: 106]، فلماذا يكون المثبت جوابا للقسم دائما، ولا يكون النفي كذلك؟ فإننا نقول في الاثبات (والله لأذهبن إليه) ونقول في النفي: (والله لا أذهب إليه) فالثانية نفي للأولى فلماذا يجعلونها في المثبت قسما دائمًا، ولا يجعلونها في النفي كذلك؟ ألا ترى أنه تمحل فحسب؟ ومثل ذلك ما فيه اللام التي يسمونها موطئة فهي ليست قسما فيما أرى بل هي لزيادة التوكيد فحسب، فليس ثمة قسم فيما أحسب في قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87]، إذ هو لا يحتاج إلى قسم فيما يبدو، ومثله قوله: {لئن أكله الذئب ونحن عصبة} [يوسف: 64]، وقوله: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة: 65]. وهل في قوله: {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله} [العنكبوت: 63]، قسم؟ وهل هو في حاجة إلى قسم؟ إن هذا زيادة في التوكيد فحسب، فما جاءت فيه اللام الموطئة مع الشرط آكد مما لم تكن فيه اللام فقولك (لئن جاءني لأكرمنه) آكد من قولك (إن جاءني لأكرمنه) بإضمار اللام، وآكد منهما القسم الصريح، فإذا قلت (والله إن جاءني لأكرمنه) كان آكد من قولك (إن جاءني لأكرمنه) أو (لئن جاءني لأكرمنه) يدلك على ذلك الاستعمال القرآني. قال تعالى: {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [هود: 47]، من دون توكيد وقال: {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين} [الأعراف: 23]. وقال: {لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 149]، بتوكيد الجواب وباللام الموطئة قبل الشرط. فالثالثة آكد من الثانية، والثانية آكد من الأولى، ويدلك على ذلك السياق، قال تعالى: في سياق الآية الثالثة: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 149].

وهذا في بني إسرائيل بعد ما عبدوا عجل الذهب، واتخذوه إلها لهم، وهو كفر صريح وضلال مبين، ولذلك عند توبتهم أكدوا قولهم باللام الموطئة، زيادة على توكيد الجواب: {لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}. وأما الآية الثانية التي هي (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) فهي على لسان آدم وزوجه، بعد ما أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنها. وهذه المعصية أقل من معصية بني إسرائيل، فإن معصية قوم موسى كفر، لأنها عبادة لغير الله، ولم يفعل مثل ذلك آدم، بل هو مقر بربوبية الله، ومقر بعبوديته لربه، وإنما هي لحظة ضعف أدركته، كما تدرك الكثير من الناس من غير أن تخرجهم عن دينهم، ثم يتوبون عنها. ألم ترى كيف وصف بني إسرائيل بالضلال فقال: (ورأو أنهم قد ضلوا) ولم يصف آدم بذلك. فلما كانت المعصية أقل، حذف اللام الموطئة التي تفيد التوكيد، فالأولى آكد لأن المعصية أكبر، فالتوبة وطلب المغفرة يكونان على قدر المعصية. وأما الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} فهي على لسان نوح عليه السلام، وذلك أنه سأل ربه أن ينجي ابنه من الغرق، لأن الله وعده ان ينجي معه أهله فقال: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} فقال له الله: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46]. فطلب نوح من ربه بالمغفرة، والعفو لسؤاله هذا، فقال: {قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} فهذا ليس بمعصية كمعصية آدم، وإنما فهم نوح أن ابنه يدخل مع أهله الناجين، فبين له الله أنه ليس من أهله لأنه كافر، فطلب من ربه المغفرة لما سأل، ولذلك لم يأت الكلام مؤكدا، فأنت ترى أن التوكيد يتناسب هو وحجم المعصية، فلما لم يكن سؤال نوح معصية، لم يؤكد ترى أن التوكيد يتناسب هو وحجم المعصية، فلما لم يكن سؤال نوح معصية، لم يؤكد كلامه، ولما كان فعل آدم معصية لربه أكده بالنون، ولما كان فعل بني إسرائيل كفرًا

وضلالا أكده بالنون وباللام الموطئة، فالخسران إنما يكون على قدر المعصية ولاشك. ونحو ذلك قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصاري حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 120]، فجاء باللام الموطئة، في حين قال: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121]. فقال في الأولى: {ولئن اتبعت أهواءهم}، وقال في الثانية: {وإن أطعتموهم}. فأكد الأولى باللام الموطئة، أما الثانية فلم يذكر فيها اللام، وذلك لأن الأولى تستدعي قدرا زائدًا من التوكيد، فإنها تحذير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ملة الإسلام وأتباع اليهود، أو النصارى وهو من أكبر المعاصي، إذ كيف يصح من رسول يتنزل عليه الوحي من ربه أن يترك أمر الله إلى ملة أخرى لا يرضاها ربه؟ فأحتاج ذلك إلى قدر من الوعيد أكبر. وأما الثانية فهي في الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وقد جاء الشرط تعقيبًا على ذلك، فأنت ترى أن المعصية الأولى أكبر وأكبر لأنه تحذير من انسلاخ رسول من رسل الله ينزل عليه الوحي عن الدين الذي ارتضاه له ربه وأتباع ملة ضالة، فأحتاج ذلك إلى قدر من التوكيد أكبر. فإن سبق الكلام بقسم صريح، كان آكد لأنك بدأت بذكر ما تعظمه، قاطعًا على نفسك أنك ستفعل أو لا تفعل، وقد ذكرت هذا المعظم تقوية للعهد والميثاق، ففي القسم الصريح توكيد وزيادة بخلاف ما لم يذكر فيه القسم الصريح. وعلى أية حال فإن القسم الصريح يختلف عن المؤكد بالنون، أو باللام الموطئة من نواح أهمها: 1 - إن ما ذكر فيه القسم الصريح آكد مما لم يذكر فيه القسم صراحة، وذلك لأنه توكيد وزيادة كما أسلفنا.

حذف جواب القسم

2 - إنه في القسم الصريح يقصد لفظ المقسم به، ويراد كما يقصد جوابه فالقول (والله) أو (ورب الكعبة) أو (والضحى) أو (والذاريات) أو (والمرسلات) وغير ذلك مما يقسم به، يراد لفظ المقسم به لأمور بلاغية، أو تعظيمية، أو غيرها كما يراد جوابه. وأما ما لم يذكر القسم به فالمراد منه هو الجملة المؤكدة فحسب. 3 - ينبني على ذكر المقسم به صراحة أحكام شرعية، كالبر، والحنث، والصحة والبطلان، مما لا يكون فيما يسمونه بالقسم المضمر، فالقسم بغير الله باطل، ومن أقسم بالله ولم يبر بقسمه فهو حانث، وعليه كفارة اليمين، بخلاف المؤكد توكيد القسم، فإنه لا يجري عليه حكم اليمين، فإذا قلت: والله لأزورنه الليلة، ثم لم تزره كنت حانثا في يمينك، وعليك كفارة اليمين، وإن قلت: لأزورنه الليلة ولم تزره، لم تلزمك الكفارة وإنما أكدت الوعد توكيد اليمين. فتبين مما ذكرت أن ما أكد باللام أو ما سبق باللام الموطئة، ليس قسمًا والله أعلم. حذف جواب القسم يحذف جواب القسم وجوبا وجوازا. فيجب حذفه إذا تقدم القسم أو أكتنفه ما يدل عليه (¬1). فمن الأول قولك: (أنت مخلص والله) ومن الثاني قولك: (أنت والله مخلص). ففي الجملة سبق ما يغني عنه، وقد بني الكلام على غير القسم ابتداء، حتى إذا انتهي الكلام جيء بالقسم بعد ذلك. وأما في الجملة الثانية فقد اعترض القسم بين الكلام، فقد بني الكلام ابتداء على غير القسم ثم رأيت أن تقسم في أثناء الكلام، فلا يحتاج القسم إلى جواب لأن الكلام في ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 645، شرح الرضي 2/ 377، شرح ابن يعيش 9/ 93

كلتا الحالتين غير معقود عليه، وقد أغني عن الجواب الكلام المتقدم على القسم، أو المكتنف له. وهذا نظير حذف جواب الشرط إذا تقدمته أو أكتنفه ما يدل على عليه. وأما إذا وقع القسم ابتداء فلابد له من جواب ظاهر أو مقدر، لأن الكلام مبني عليه. جاء في (معاني القرآن) للفراء: " وكذلك اليمن يكون لها جواب إذا بديء بها فيقال: والله إنك لعاقل، فإذا وقعت بين الاسم وخبره قالوا: أنت والله عاقل، وكذلك إذا تأخرت لم يكن لها جواب لأن الابتداء بغيرها (¬1). وقد يحذف جواب القسم جوازًا إذا كان في الكلام ما يدل عليه، وذلك نحو قولك: لمن قال لك: (أذهبت إليه)؟ : (نعم والله)، أو (لا والله) أي نعم والله لقد ذهبت إليه، أو لا والله ما ذهبت إليه. ويحذف أيضا جوازا، إذا كان بعده ما يدل عليه، وذلك نحو قوله تعالى: {والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرًا يوم ترجف الراجفة} [النازعات: 1 - 6]، والتقدير لتبعثن بدليل ما بعده (¬2). وقد يكون القصد من حذف الجواب، أن لا يراد جواب بعينه، وإنما يراد كل ما يحتمله السياق والمقام من جوابات. فقد يكون الجواب مقصودًا بعينه، وذلك نحو قوله تعالى: {فوربك لنحشرنهم والشياطين} [مريم: 68]، وقد يكون غير مقصود بعينه، وإنما يتسع لكل ما يحتمله المقام فلا نصرف الذهن إلى شيء بعينه، بل يدعه يذهب كل مذهب مما يحتمله سياق ¬

_ (¬1) معاني القرآن 2/ 338 (¬2) انظر المغنى 2/ 646، تأويل مشكل القرآن 173، العمدة 2/ 277 - 278، الطراز 2/ 115

الكلام ومقامه فيكون كله مرادا أو محتملا مراده، وذلك نحو قوله تعالى: {ق والقراءن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} [ق: 1 - 4] فيحتمل الجواب أن يكون (إنك لمنذر) بدليل قوله: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} (¬1). ويحتمل أن يكون (ليبعثن) بدليل: {أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد}، ويحتمل أن يكون {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} ويحتمل غير ذلك، مما يتناسب هو والمقام. ونحو قوله تعالى: {ص والقرءان ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كما أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ص: 1 - 5]. فيحتمل أن يكون الجواب (لنهلكنهم) بدليل قوله تعالى: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} ويحتمل أن يكون (لقد عجبوا من إنذارك) أو (ليعجبن) بدليل قوله: {وعجبوا ان جاءهم منذر منهم}، ويحتل أن يكون الجواب (إنه لذكر لهم) أي شرف لهم، بدليل قوله (والقرآن ذي الذكر) ويحتل أن يكون الجواب (ما الذي كفروا نازلين على حكم الحق بل الذين كفروا في عزة وشقاق) كل ذلك يحتمله السياق، ويحتمل غيره. وهذه المعاني كلها مرادة، أو محتملة المراد فيكون المعنى قد اتسع بحذف الجواب وشمل أبعادا لم يكن يشملها بالذكر. وعلى هذا فالغرض من الذكر، هو القصد إلى جواب بعينه. وأما الحذف فيحتمل أن يكون الراد منه الإيجاز، ويحتمل أن يكون المراد منه سعة المعنى وشموله وذهاب الذهن كل مذهب، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 646

النفي

النفي أدوات النفي سبق لنا أن بحثنا أدوات النفي في أماكن متفرقة، فقد بحثنا (ليس، وما، ولا، وإن، ولات) في بحث (ليس والمشبهات بها)، وبحثنا: (لم، ولما، ولن، ولا) في نصب الفعل المضارع وجزمه وسنتعرض لها الآن تعرضا موجزا. لم: تنفي الفعل المضارع وتجزمه، وتقلب زمنه إلى المضي وهي لنفي (فعل) (¬1). فإذا قلت: (حضر محمد) فإن نفيه (لم يحضر)، وقد يكون النفي بها منقطعًا أي انتفي حدوث الفعل في وقت ما، ثم انقطع النفي، وذلك نحو قولك: (لم يحفظ محمد القصيدة أمس وإنما حفظها اليوم) وقد يكون النفي متصلا إلى زمن المتكلم، نحو (لم يعد خالد من سفره إلى اليوم) وقد يكون مستمرًا لم ينقطع ولا ينقطع وذلك نحو قوله تعالى: {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 3 - 4]، وكقوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه} [محمد: 15]. لما: وهي تنفي الفعل المضارع وتجزمه، وتقلب زمنه إلى المضي المتصل بالحال، وذلك نحو (لما يحضر سعيد) أي لم يحضر إلى وقت المتكلم، وهي لنفي (قد فعل (¬2). فإذا قلت (قد رجع) فإن نفيه (لما يرجع). ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 460 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 460

لن

والفرق بينها، وبين (لم) أن النفي بـ (لم) يكون متصلا ومنقطعًا في حين أن النفي بـ (لما) لا يكون إلا متصلا بزمن التكلم، وأن المنفي بـ (لما) فيه معنى التوقع، وذلك لأنها نفي لـ (قد فعل) و (قد) فيها معنى التوقع، وكذلك منفيها، فإنك إذا قلت (لما يحضر) فإن المعنى: لما يحضر بعد وهو متوقع حضوره، وأما (قد حضر) فإن معناه كان متوقعًا منه الحضور فحضر. وقد سبق الكلام عليها وعلى (لم) بما فيه الكفاية، فلا داعي لإعادته ههنا. لن: تدخل على الفعل المضارع فتنفيه نفيا مؤكدا وتخلصه للاستقبال، تقول: (لن أكلمه بعد اليوم)، وهي نفي لـ (سوف يفعل) أو سيفعل (¬1).، فإذا قلت (سوف أذهب إليه) أو (سأذهب إليه) ولا يجمع بينهما، فلا يقال: (سوف لن أذهب إليه) فإن (سوف) للإثبات و (لن) للنفي. وهي لا تفيد التأبيد، بدليل قوله تعالى: {فلن أكلم اليوم إنسيا} [مريم: 26]، فقد قيد عام الكلام بيوم واحد، وهو ينافي التأبيد (¬2). ليس: تدخل على الجمل الإسمية فتنفيها، وتكون لنفي الحال عند الإطلاق، نحو: (ليس أخوك حاضرا) أي الآن، وإن قيدت كانت بحسب ذلك القيد (¬3).، وقد تكون للمضي نحو (ليس أخي قد سافر أمس) وقد تكون للاستقبال، وذلك نحو قولك: (لست ذاهبًا إليه غدا) قال تعالى: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} [هود: 8]. وقد تكون للاستمرار، وذلك كقوله تعالى: {وأن الله ليس بظلام للعبيد} [آل عمران: 182]. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 460 - 1/ 68 (¬2) انظر المغنى 1/ 284 (¬3) انظر شرح ابن عقيل 1/ 111، شرح الأشموني 1/ 227

ما

وقد تكون للحقيقة غير مقيدة بزمن، وذلك نحو قوله تعالى: {وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران: 36]، وقوله: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]. ما: تنفي الجمل الإسمية والفعلية. فإذا دخلت على الجمل الإسمية كان نفيها للحال عند الإطلاق، وإذا قيدت كانت بحسب القيد، تقول (ما هو مسافرًا) أي الآن، وتقول (ما هو مسافرا غدا) قال تعالى: {وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 167]، أي في الاستقبال. وقد تكون للمضي نحو (ما سعيد ظلمني حقي بل خالد). وقد تكون للحقيقة غير مقيدة بزمن، كقوله تعالى: {ما هن أمهاتهم} [المجادلة: 2]. وهي آكد من (ليس) فإنها تقع جوابًا للقسم، تقول: (والله ما هو بمنطلق) بخلاف (ليس) وقد ذكرنا ذلك في بحث (ليس) والمشبهات بها. وهي أوسع استعمالا منها أيضا، فـ (ليس) مختصة بنفي الجمل الإسمية، وأما (ما) فتنفي الجمل الفعلية والإسمية. وإذا دخلت على الفعل المضارع خلصته للحال عند الجمهور (¬1). قال تعالى: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول} [هود: 9]. قال سيبويه: " وإذا قال (هو يفعل) أي هو في حال فعل فإن نفيه (ما يفعل)، وإذا قال (هو يفعل) ولم يكن الفعل واقعًا فنفيه (لا يفعل) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر المفصل 2/ 199، المغني 1/ 302 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 460

فذكر أنها لنفي الحال إذا دخلت على المضارع، ورد ابن مالك ذلك بقوله تعالى: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقائ نفسي} [يونس: 15]، وأجيب بأن شرط كونه للحال انتفاء قرينة خلافه (¬1). وهذا هو الحق فإنها تكون للحال كثيرا، وقد تكون لغير الحال أيضًا، فقد تدل على الاستمرار وذلك نحو قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 7]، وقوله: {وما الله يريد ظلما للعالمين} [آل عمران: 108]، وقوله: {وا يعدهم الشيطان إلا غرورا} [النساء: 120]، وقوله: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} [الأنعام: 59]. وهي تنفي الفعل الماضي نحو: (ما ذهبت إليه) وقد ذكر أنها عند ذاك تكون لنفي الماضي القريب من الحال (¬2). والحقيقة أن الكثير فيها أن تكون كذلك، وقد تأتي لنفي الماضي البعيد، قال تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} [الأنبياء: 16]، وقال: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا} [آل عمران: 191]، وقال: {وماقتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157]. وقد تكون للاستقبال في جواب الشرط أو غيره قليلا، قال تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم} [النساء: 66]، وقال: {ولو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم} [المائدة: 36]، وقال: {ولئت أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} [البقرة: 145]. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 303 (¬2) المفصل 2/ 199

الفرق بين ما ولم

وفيها توكيد، فقد ذكر سيبويه أنها نفي لـ (لقد فعل) قال سيبويه: " وإذا قال (لقد فعل) فإن نفيه (ما فعل) لأنه كأنه قال: (والله لقد فعل) فقال: (والله ما فعل) (¬1)، فهي آكد من (لم). جاء في (الاتقان): " ومقتضي كلام سيبويه أن فيها معنى التأكيد لأنه جعلها في النفي جوابًا (¬2). لقد (كذا) فكما أن (قد) فيها معنى التأكيد، فكذلك ما جعل جوابا لها (¬3). وقد ذكرنا في بحث (لا النافية للجنس) أن (ما) قد تأتي ردًا على قول أو ما نزل هذه المنزلة، قال تعالى: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157]. الفرق بين ما ولم: تدخل (لم) على المضارع فتقلب زمنه إلى ماض، كما ذكرنا (وما) تنفي الفعل الماضي فتقول (لم أذهب) و (ما ذهبت) فيفيدان الدلالة على المضي، ولكن ثمة فروقا بينهما من نواح أهمها: 1 - ان الماضي المنفي بـ (ما) يكون في الغالب لنفي الماضي القريب من الحال، وأما (لم) فليست مقيدة بزمن من أزمنة المضي. 2 - إن (ما) آكد من (لم) وذلك أنها تقع جوابًا للقسم كما ذكرنا بخلاف (لم). قال تعالى: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23]. وقال: {يحلفون بالله ماقالوا} [التوبة: 74]، والقسم توكيد وكذلك جوابه. ويدل على ذلك أيضا أن منفيها كثيرا ما يقترن بـ (من) الإستغراقية المؤكدة، وهي التي يسميها النحاة زائدة، وذلك نحو قوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} [ق: 38]. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 460 (¬2) الصواب لـ: لقد (¬3) الاتقان 1/ 176

وقوله: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله} [المؤمنون: 91] وقوله: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} [الأحزاب: 4]. وأنا لا أذكر آية واحدة يمكن أن يقترن منفيها بـ (من)، ثم لم يقترن بها بخلاف (لم) فإنها لم يقترن منفيها بـ (من) ثم لم يقترن بها بخلاف (لم) فإنها لم يقترن منفيها بـ (من) ولو مرة واحدة على كثرة ما ترددت في القرآن الكريم، فدل ذلك دلالة واضحة على قوة نفي (ما) دون (لم). والظاهرة الجديرة بالتسجيل أنه لا ينافس (ما) في اقتران منفيها بـ (من) إلا (أن) النافية فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مقترنة بـ (من)، حيث أمكن ذلك في اللغة. وأما (لا) النافية فإن منفيها لم يرد مقترنا بـ (من) هذه إلا في موطن واحد على كثرتها المستفيضة في القرآن، وهو قوله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج} [الأحزاب: 52]، قال تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} [البقرة: 48]. 3 - إن (ما) كثيرا ما تكون ردًا على كلام أو ما نزل هذه المنزلة، وذلك كأن يقول لك قائل: (لقد ذهب سالم إلى سعيد) فتقول له: (ما ذهب إليه)، قال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} فكان الجواب {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} [المائدة: 116 - 117]، وجاء على لسان النسوة في سورة يوسف ردًا على التهمة التي ألصقتها به امرأة العزيز {حاش لله ما علمنا عليه من سوء} [يوسف: 51]، وجاء على لسان المكذبين ردًا على قول رسلهم، {إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء} [يس: 14 - 15]. وهذا يقع أيضا في غير الجمل الفعلية، فقد جاء ردًا على قول المنافقين {إن بيوتنا عورة} قوله تعالى: {وما هي بعورة} [الأحزاب: 13]، وعلى قولهم: {قالوا آمنا} قوله: {وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8].

وهذا كثير وليس مطردًا. 4 - يخيل إلي أن هناك فرقا بين دخول (ما) على الماضي، ودخول (لم) على المضارع من ناحية أخرى، وهي أن الماضي يدل على أن الأمر قد انقضي، وأما المضارع فإنه قد يدل على التكرار، والتجدد والتطاول، فقولك (كتب) يدل على انتهاء الحدث، وانقضائه وقولك (يكتب) يدل على تجدد الحدث واستمراره، فإذا دخلت (ما) على الماضي دل على انتفاء الحدث بصيغة المضي، وإذا دخلت (لم) على المضارع دل على انتفاء الحدث في المضي، لكن بصيغة التجدد والاستمرار، فدخلو (لم) يدل على أن الحدث لم يحصل في الماضي على تطاول المدة واستمرارها، قال تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38] .. وقال: {قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا} [مريم: 20]. فقال في الآية الأولى (وما مسنا) وفي الثانية (ولم يمسسني). والسبب والله أعلم أن الآية الأولى رد على اليهود الذين يقولون إن الله تعب من خلق السماوات والأرض فاستراح في اليوم السابع (¬1).، تعالى الله عما يقولون، فرد عليهم بـ (ما) وجاء بـ (من) الاستغراقية للدلالة على أنه لم يحصل شيء من ذلك، بخلاف الثانية فإنها ليست ردًا على من قال إنها مسها بشر، ولكن إخبار عن نفسها بذلك. والأمر الثاني وهو الذي يعنينا هنا، أنه في الآية الأولى جاء بصيغة الماضي، لأن الأمر حدث وانقضي مرة واحدة، وهو خلق السماوات والأرض، وأما الآية الثانية فهي في مس الرجال للنساء، وهو أمر قد يتكرر ويتجدد حصوله، فذكرت أن ذلك لم يحصل فيما انقضي من عمرها، فثمة اختلاف بين الأمرين فإنه في الثانية كان من الممكن أن يتكرر المس في الماضي بخلاف التعب الذي يعقب العمل فإنه موقوت بذلك العمل، ¬

_ (¬1) انظر سفر التكوين - الاصحاح الثاني الاية 2، 3 و (سفر الخروج 31 - الاية 17).

فما كان شأنه التجدد والاستمرار نفاه بـ (لم) مع المضارع، وما حدث مرة واحد نفاه بـ (ما) مع الماضي. وقال: {حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا} [الكهف: 90]، ولم يقل (وما جعلنا لهم) لأن ذلك متكرر متطاول، إذ كل يوم تطلع عليهم الشمس وليس لهم ستر دونها، فجاء بالفعل المضارع مع (لم) بخلاف قوله تعالى: {وما جعلنا الرءيا التي أريناك إلا فتنة للناس} [الإسراء: 60]، فجاء بالفعل الماضي مع (ما) لأن الرؤيا وقعت مرة واحدة، ثم إن الآية هذه رد على الكفرة الذين سخروا من رؤياه بخلاف الآية الأولى، فإنها إخبار لا رد، فجاء في الأولى بـ (لم) والثانة بـ (ما) والله أعلم. ونحوه قوله تعالى: {في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 40 - 44]، فجاء بـ (لم) مع المضارع للدلالة على التكرر والتجدد، فإن الصلاة تتكرر وإطعام المسكين يتكرر. ويمكن أن يقال أيضا أنه قد ينفي بـ (ما) مع الماضي إذا أريد نفي الحدث بصورته المنقضية التامة، وينفي بـ (لم) مع المضارع إذا أريد نفي الحدث في الماضي بصورة التغير والتجدد فيشخص في الذهن بصورته المتجددة، ثم ينفيه بهذه الصورة في الماضي، فإذا قلت مثلا (ما استجاب لك خالد) أفاد نفي الاستجابة في الماضي بصورتها النهائية التامة، وإذا قلت (لم يستجب لك خالد) أفاد نفي الاستجابة في الماضي بصورتها التجددية، قال تعالى: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} [البقرة: 259]، فجاء بـ (لم) وذلك لأن تغير الشراب والطعام يحصل تدريجيا ويستمر وليس دفعة واحدة فجاء بـ (لم) للدلالة على أنه لم يحصل شيء من ذلك، ولو جاء بـ (ما) وقال (ما تسنه) لأفاد نفي التسنه وهو التغير بصورته النهائية التامة. وقال: {ويوم يقوم نادوا شركاءي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} [الكهف: 52]، فهنا أفاد نفي الاستجابة بصورة التجدد والتطاول، ولو قال (ما استجابوا لهم) لأفاد نفي الاستجابة بصورتها المنقضية التامة.

ويبدو لي أن قوله تعالى: {ورءا المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا} [الكهف: 53]، يفيد تكرار البحث، وإدامة النظر للخروج من النار، فكأننا نراهم يبحثون غير أنهم لم يجدوا على كثرة ما بحثوا، ولو قال (ما وجدوا) لأفاد انتفاء الحدث بصورته المنقضية، لا بصورة البحث والتفتيش. والذي دعاني إلى هذا الفهم، هو صورة المضارع مع (لم)، وصورة الماضي مع (ما) وهما صورتان مختلفتان. 5 - إذا عطف على المنفي بـ (لم) بالماضي، كان إثباتا للمعطوف، وإذا عطفت على المنفي بـ (ما) احتمل النفي والاثبات، وذلك نحو قولك: (لم اعط محمدًا واعطيت خالدا) فهذا نفي لاعطاء محمد وإثبات لاعطاء خالد، ولو قلت (ما أعطيت محمدا وأكرمت خالدًا) لا حتمل نفي اعطاء محمد ونفي إكرام خالد أي: وما أكرمت خالدا وأحتمل الاستئناف أيضا، أي نفي الإعضاء وإثبات الأكرام فلا يكون عطفاً. وقد تقول هذا مردود بقوله تعالى: {ألم يجدك يتيما فأوي ووجدك ضالا فهدى} [الضحي: 6 - 7]، فقد عطف (وجدك) على (ألم يجدك). والثاني مثبت، والأول منفي، ومعناهما واحد. والحق أنهما ليسا مختلفين، فإن الآية الأولى تقرير، أي إثبات وليس نفيا، فقوله تعالى {ألم يجدك يتيما} معناه: أنه وجدك يتيما، ونحو قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك} [الإنشراح: 1، 2]، فالمعنى أنه شرح له صدره ووضع عنه وزره، فهما ليسا مختلفين. 6 - قد يحتمل أشتراك (ما) مع ما يشبه لفظها من اسم موصول، أو من حرف مصدري فيحتمل التعبير أكثر من معنى، ولا يكن ذلك مع (لم)، وذلك نحو قولك: (تركتهم وما يعبدون إلا الله) فقد يحتمل أن يكون المعنى، أنه تركهم وهم لا يعبدون إلا الله، أي تركهم يعبدون الله. ويحتمل أن يكون المعنى تركتهم وعبادتهم إلا الله، أي:

من خصوصيات الاستعمال القرآني

ألا عبادة الله، فتكون (ما) مصدرية، وقد تحتمل الموصولية أي تركتهم والذي يعبدون إلا الله، وهذا المعنى الأخير نظير قوله تعالى: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله} [الكهف: 16]. ونحو (ما أخبرتك ما أريد) فقد يحتمل أن تكون (ما) الأولى نافية، أي لم أخبرك الذي أريده، وقد يحتمل أن تكون اسما موصولا أي: الذي أخبرتك به هو الذي أريده. ولا يكون نحو هذا في (لم). من خصوصيات الاستعمال القرآني: 1 - لم يستعمل القرآن الكريم الاستفهام التقريري بـ (ما) قط، بل استعمل (لم) لذلك، قال تعالى: {ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130]، وقال: {ألم نشرك لك صدرك} [الإنشراح: 1]، وقال: {ألم نربك فينا وليدًا} [الشعراء: 18]. 2 - لم يرد جواب (لو) منفيا بـ (لم)، بل بـ (ما) فقط، قال تعالى: {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} [فاطر: 14]، وقال: {لو شاء الله ما اقتتل} [البقرة: 253]، وقال: {لو أطاعونا ما قتلوا} [آل عمران: 168]. 3 - لم تقع (ما) النافية بعد الأسماء الموصولة، أي في صدر الصلة، وقد وقع غيرها من أدوات النفي، مثل (لم) و (لا) و (ليس)، قال تعالى: {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة: 151]، وقال: {والذين لا يؤمنون بالآخرة} [الأنعام: 150]، وقال: {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار} [هود: 16]. إن: تدخل على الجمل الإسمية والفعلية مثل (ما) فإن دخلت على الجمل الإسمية كانت لنفي الحال عند النحاة (¬1). ¬

_ (¬1) الفصل 2/ 200، الهمع 1/ 124

والحق أنها تكون لغير الحال أيضًا، فهي للحال عند الإطلاق، ومن ورودها لغير الحال قوله تعالى: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة} [الإسراء: 58]، وقوله: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71]، وقوله: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا} [مريم: 93]، فهي هنا للاستقبال. وقد تكون للحقيقة غير مقيدة بزمن، وذلك كقوله تعالى: {وإن أمهاتهم إلا التي ولدنهم} [المجادلة: 2]، وقوله: {إن الكافرون إلا في غرور} [الملك: 20]. وقد تكون للمضي وذلك نحو قوله تعالى في عيسى عليه السلام: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} [الزخرف: 59]ـ، وقوله: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24]، وقوله: {إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} [ص: 14]. وقد تكون للاستمرار، وذلك نحو قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]. فهي لنفي الحال عند الإطلاق، وإن قيدت كانت بحسب ذلك القيد. وتدخل على الفعل المضارع والماضي، فإن دخلت على الفعل المضارع كانت في الغالب لنفي الحال، وذلك كقوله تعالى: {إن تتبعون إلا الظن} [الأنعام: 148]، وقوله: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} [الأنبياء: 109]. وقد تكون لغير الحال، وذلك نحو قوله تعالى: {بل إن يعد الظالمين بعضهم بعضا إلا غرورا} [فاطر: 40]، فهي هنا للاستمرار. وتدخل على الفعل الماضي فتكون لنفي الماضي القريب من الحال في الغالب، وذلك نحو قوله تعالى: {إن أردنا إلا إحسنا وتوفيقا} [النساء: 62]، وقوله: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه} [الأحقاف: 26]. وقد تكون لغير ذلك قليلا، نحو قوله تعالى: {بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا} [فاطر: 40]، فهي هنا للاستمرار. وتدخل على الفعل الماضي فتكون لنفي الماضي القريب من الحال في الغالب، وذلك نحو قوله تعالى: {إن اردنا إلا إحسانا وتوفيقا} [النساء: 62] وقوله: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه} [الأحقاف: 26]. وقد تكون لغير ذلك قليلا، نحو قوله تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]، وقوله: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن

زالتا إن أمسكهما من أحدمن بعده} [فاطر: 41]، فالفعل للاستقبال في الآيتين. وهي آكد من (ما) يدل على ذلك اقترانها الكثير بـ (إلا) وهذا يعطيها قوة وتأكيدًا، فإن في القصر قوة، وذلك نحو قوله تعالى: {إن أنتم إلا بشر مثلنا} [إبراهيم: 10]، وقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44]. وذهب بعضهم أنها لا تأتي إلا وبعدها (إلا) أو (لما) المشددة التي بمعناها، كقوله تعالى: {إن لك نفس لما عليها حافظ} [الطارق: 4] (¬1). والصواب أنها قد تأتي بدونها (¬2). قال الراغب في (إن) هذه: " وأكثر ما يجيء يتعقبه (لا) نحو: {إن نظن إلا ظنا} [الجاثية: 32]، {إن هذا إلا قول البشر} [المدثر: 25]، {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 54] (¬3). وقد وردت (أن) النافية في القرآن الكريم في عشرة ومائة موضع، كلها مقترنة بـ (إلا) أو (لما) عدا سبع آيات، هي قوله تعالى: {إن عندكم من سلطان بهذا} [يونس: 68]. وقوله: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} [الأنبياء: 109]. وقوله: {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين} [الأنبياء: 111]، وقوله: {ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} [فاطر: 41]. وقوله: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه} [الأحقاف: 26]. وقوله: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} [إبراهيم: 46]، على رأي من جعلها نافية هنا. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 23 (¬2) المغني 1/ 23 (¬3) مفردات الراغب 27

وقوله: {قل إن أدري أقريب ما توعدون} [الجن: 25]. وورد في ثلاثة مواضع مع (لما) المشددة التي بمعنى (إلا) وهي قوله تعالى: {وإن كل لما جميع لدينا محضرون} [يس: 32]. وقوله: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} [الزخرف: 35]. وقوله: {إن كل نفس لما عليها حافظ} [الطارق: 4]. وليست (ما) ولا غيرها من حروف النفي كذلك، فدل على هذا قوتها في النفي. ومما يدل على ذلك أيضا الاستعمال القرآني، فإنه يستعمل (إن) فيما فيه زيادة توكيد في النفي. قال تعالى: {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلوك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام: 25]. وقال: {والذي قال لوالديه اف لكما أتعدانني ان اخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا اساطير الأولين} [الأحقاف: 17]، فقال في الآية الأولى: {إن هذا إلا أساطير الأولين} وقال في الثانية: {ما هذا إلا أساطير الأولين} والأولى آكد، يدل على ذلك السياق فقد قال فيها: 1 - وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه. 2 - وفي آذانهم وقرا 3 - وذكر أنهم إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها. فأنت ترى أن درجة التكذيب أشد مما في الآية الأخرى، لأن الصفات التي تستدعي قوة التكذيب والإنكار كانت في المكذبين الأولين، أشد أكثر، ولذلك أكد النفي فيها بأن بخلاف الثانية.

وقال تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية: 24]. وقال: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم ياكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرًا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنك إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون. هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين} [المؤمنون: 33 - 38]. فقال في الآية الأولى: {ما هي إلا حياتنا الدنيا}. وقال في الثانية: {إن هي إلا حياتنا الدنيا}. وواضح أن التكذيب في الآية الثانية أشد وأقوى من وجوه: 1 - فقد أسند التكذيب والإنكار في الآية الأولى إلى ضمير الكفرة (وقالوا) وأما في الثانية فقد أسنده إلى الكفرة صراحة، ضفيا عليهم صفات تزيد في تكذيبهم وإنكارهم {الذين كفروا وكذوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا} فهذه صفات تزيد في قوة التكذي بخلاف الآية الأولى التي قال فيها (وقالوا). 2 - المجادلة في صدق الرسل: فقد ذكر هؤلاء الكفرة أن الرسل إنما هم بشر مثلهم يأكلون كما يأكل الناس، ويشربون كما يشربون، فلا ينبغي أن يطاعوا البتة. 3 - السخرية من الوعد بالحياة الآخرة: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون}. 4 - الاستعباد المؤكدة في قولهم: {هيهات هيهات لما توعدون}. 5 - ثم ختموا تكذيبهم وإنكارهم بقولهم: {إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين}.

فكان طبيعيا أن يكون إنكارهم أشد وآكد مما في الآية الأولى، ولذا جاء بإن وإلا وهو المناسب للسياق، بخلاف الآية الأخرى، فإنه جاء بـ (ما) و (إلا) لأنه أقل توكيدًا، فدل ذلك على أن (إنْ) آكد من (ما). وقال تعالى: {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا يكم إن أتبع إلا ما يوحي إلى وما أنا إلا نذير مبين} [الأحقاف: 9]. وقال: {قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يانوح لتكون من المرجومين قال رب إن قومي كذبون} [الشعراء: 111 - 121]. فقال في الآية الأولى: {وما أنا إلا نذير مبين} وقال في الثانية: {إن أنا إلا نذير مبين}. ومن الواضح أن الآية الثانية في مقام المحاربة والمجادلة والجهاد في القول، والتنقيص من المؤمنين، بخلاف الآية الأولى، فإنها في مقام الدعوة الهادئة المبينة بالحجة، يدل على ذلك في الآية الثانية. 1 - وصفهم المؤمنين بالأرذلين. 2 - طلبوا طردهم فرد عليهم بقوله: {وما أنا بطارد المؤمنين}. 3 - تحذيرهم نوحا، والطلب إليه الكف عن الدعوة، وإلا رجموه، {لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين}. وأنت ترى أن المقام في الآية الأولى يختلف عنه في الثانية، فجاء في الثانية بـ (إن) و (إلا) وجاء في الأولى بـ (ما) و (إلا) فدل ذلك على أن (إن) آكد من (ما). ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9].

لا

وقوله: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} [الأنبياء: 109]، وقوله: {قل أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدًا} [الجن: 25 - 26]. فجاء بنفي الدراية الأولى بـ (ما) ونفي الدراية الثانية وما بعدها بـ (إن)، وذلك لأن الآية الثانية والثالثة أبعد في علوم الدراية، وأقعد من الأولى، فقد أطلع الله رسوله فيما بعد على ما سيفعله به، وبهم في الدنيا والآخرة، فقد وعده بالفتح والنصر والمغفرة، وكسر شوكة الكفر في الدنيا وأطلعه على ما سيفعل به وبهم في الآخرة، ولذلك قيل الاية منسوخة (¬1). في حين لم يطلع الله سبحانه رسوله ولا أحدًا من خلقه على موعد يوم القيامة، فإن هذا مما أختص الله به نفسه، ولم يظهره لأحد غيره، فأكد عدم العلم بالساعة بـ (إن)، والآخر بـ (ما)، وهذا واضح، وأظن أن في هذا كفاية، فدل ذلك على أن (إن) آكد في النفي من (ما) والله أعلم. لا: أقدم حروف النفي في العربية (¬2). تدخل على الأسماء والأفعال. فمما يدخل على الأسماء (لا) النافية للجنس، نحو: (لا ريب فيه)، و (لا رجل في الدار) وهي تفيد التنصيص على نفي الجنس، وهي آكد من العاملة عمل ليس أو المهملة كما سبق ذكره. ومنها (لا) المشبهة بـ (ليس)، وغير العاملة أصلا نحو (لا رجل حاضرا) و (لا رجل حاضرٌ) وهما لنفي الجنس برجحان، وقد يراد بهما نفي الواحد. وتدخل على المعارف فيجب إهمالها وتكرارها، وذلك نحو قوله تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار} [يس: 40]، ونحو (لا محمد حاضر ¬

_ (¬1) انظر الكشاف 3/ 118 (¬2) التطور النحوي 115

ولا خالد مسافر) وذلك لأنها عند ذاك لا يراد بها ألا أشراك أكثر من طرف في النفي، كأن يقول لك قائل (خالد كاتب وإبراهيم شاعر) فتقول (لا خالد كاتب ولا إبراهيم شاعر). وهذا من باب دخولها على الجمل. وقد تخل على الأسماء المفردة لا الجمل، وهي (لا) العاطفة، نحو: (جاء محمد لا خالد). والداخلة على الخبر: نحو: (هو لا شاعر ولا كاتب). والنعت نحو قوله تعالى: {وظل من يحموم لا بارد ولا كريم} [الواقعة: 43 - 44]، وقوله: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} [الواقعة: 32، 33]. والحال نحو (جئت لا مسرعا ولا مبطئًا) (¬1). ولا يقع غير (لا) من حروف النفي في هذه المواضع الأخيرة أعني كونها عاطفة أو داخلة على الخبر، أو النعت، أو الحال، فلا يقال: (محمد ما حاضر) ولا (جاء محمد ما خالد) ولا غير ذلك من الصور التي ذكرناها. وإذا دخلت على الخبر أو النعت أو الحال وجب تكرارها، لأنه يراد عند ذاك إشتراك أكثر من حالة في النفي، فيراد نفي أكثر من خبر أو نعت أو حال، ولا يصح نفي خبر واحد بها، أو نعت واحد، أو حال واحدة، وإذا أريد ذلك نفي بـ (غير) فقط، فتقول (هو ير مجيد) وتقول: (هو رجل غير كريم) وتقول: (رأيت محمدا غير راكب). وقد تقول: ولماذا (غير) فقط؟ ألا ينفي الخبر بـ (ليس) أيضًا، فيقال: (هو ليس كريما أو مجيدًا؟ ). والجواب أن (ليس) لم تنف الخبر وحده، وإنما نفت الجملة المؤلفة من الضمير المستتر الذي هو اسمها والخبر المنصوب الذي هو خبرها، ومن المعلوم أن (ليس) لا تنفي المفردات وإنما تنفي الجمل. ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 237 - 242

وتدخل (لا) على الفعل المضارع، فلا تقيده بزمن على الأرجح، وإن كان النحاة يرون أنها تخلصه للاستقبال. قال سيبويه: " وإذا قال (هو يفعل) ولم يكن الفعل واقعًا فنفيه (لا يفعل) وإذا قال (ليفعلن) فنفيه (لا يفعل) كأنه قال: (والله ليفعلن) فقلت: (والله لا يفعل) (¬1). والحق أنها قد تكون للحال كقوله تعالى: {ما لكم لا تنطقون} [الصافات: 92]، و {مالي لا أرى الهدهد} [النمل: 20]. وقد تكون للاستقبال، نحو قوله تعالى: {ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم} [البقرة: 174]. وقد تكون للاستمرار، وذلك نحو قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255]، وقوله: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء: 148]. وتقع جوابًا للقسم، كما ذكر سيبويه في النص الذي نقلناه عنه آنفا، قال تعالى: {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى} [المائدة: 106]، وقال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء: 65]. وتدخل على الفعل الماضي فيجب تكرارها نحو قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31]، ونحو قولك: (لا جلب خيرا ولا دفع ضرا) إلا إذا كان دعاء، نحو: (لا فض الله فاك) أو الماضي الذي يراد به الاستقبال، كقولك: (والله لأفعلت ذاك أبدًا). والخلاصة أنه يجب تكرار (لا) في المواضع الآتية: 1 - إذا تقدم الخبر على المبتدأ، نحو: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} [الصافات: 47]. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 460

2 - إذا دخلت على جملة إسمية صدرها معرفة كقوله تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار} [يس: 40]. وقد استثني من ذلك قولهم (لا نولك أن تفعل كذا) أي لا ينبغي أن تفعل كذا. 3 - أذا دخلت على المفرد خبرا، أو حالا أو نعتا، نحو (هو لا طويل، ولا قصير) {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} [الواقعة: 32 - 33]، و (جئت لا مسرعا ولا مبطئا). 4 - إذا دخلت على ماضي اللفظ، والمعنى نحو (لاقرأ ولا كتب) (¬1). ومن أقسام (لا) النافية (لا) المعترضة بين الجار والمجرور، نحو: (جئت بلا زاد) و (غضبت من لا شيء) والجمهور يسمونها زائدة، وهي ليست زائدة في المعنى عندهم، بل في الإعراب، لأنها وقعت بين العامل والمعمول، ولذا لا يصح إسقاطها لأنها تفيد النفي. وهي عند الكوفيين اسم بمعنى (غير) (¬2). والحق أنها لا تطابق (غيرا) فإن استعمال (غير) يمكن أن يعطينا أكثر من معنى، بخلاف استعمال (لا) فأنت تقول مثلا (جئت بلا سلاح) أي لا سلاح معك عند مجيئك وتقول: (جئت بغير سلاح) وهذا يحتمل معنيين: المعنى الأول: هو نفي وجود السلاح معك كالأولى، وهو نظير قوله تعالى: {ليضل الناس بغير علم} [الأنعام: 144]. والمعنى الآخر: أنك جئت بسلاح آخر غير ذلك السلاح. فالتعبير بـ (لا) لا يحتمل إلا معنى واحدًا، وأما التعبير بـ (غير) فقد يحتمل أكثر من معنى. ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 242 - 244، شرح الرضي على الكافية 1/ 282 (¬2) انظر التصريح 1/ 237 ـ، المغنى 1/ 245

ثم أن (لا) في نحو هذا لا تدخل إلا على النكرات، فلا تقول (جئت بلا السلاح) أي (بغير السلاح)، وأما (غير) فتدخل على المعارف والنكرات، وذلك كقوله تعالى: {فاستكبروا في الأرض بغير الحق} [فصلت: 15]. وسنعرض للخلاف بين (لا) و (غير) في بحث (غير) إن شاء الله تعالى: ومن أقسام (لا): المقترنة بحرف العطف، نحو (ما أقبل محمد ولا خالد) ويسميها النحاة زائدة، لأنها إذا أسقطت بقي معنى النفي، فإذا قلت (ما أقبل محمد وخالد) نفيت إقبالهما جميعًا، غير أن المعنى يختلف في ذكرها عنه في إسقاطها، فإذا اسقطتها احتمل المعنى نفي إقبالهما على كل حال مجتمعين أو متفرقين، واحتمل المعنى أيضا أنهما لم يقبلا مجتمعين، بل أقبل كل منهما على انفراد، فإذا جئت بـ (لا) صار الكلام نصا على المعنى الأول. جاء في (المغني): " وكذلك (لا) المقترنة بالعاطف في نحو (ما جاءني زيد ولا عمرو) ويسمونها زائدة، وليست بزائدة البتة، ألا ترى أنه إذا قيل (ما جاءني زيد وعمرو) احتمل أن المراد نفي مجي كل منهي على كل حال، وأن يراد نفي اجتماعهما في وقت المجيء فإذا جيء بـ (لا) صار الكلام نصا في المعنى الأول. نعم هي في قوله سبحانه: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} [فاطر: 22]، لمجرد التوكيد وكذا إذا قيل: لا يستوي زيد ولا عمرو (¬1). وجاء في (بدائع الفوائد) في قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} أن المراد من زيادة (لا) " المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كل نوع بمفرده، فلو لم يذكر (لا) وقيل (غير المغضوب عليهم والضالين) أو هم أن المراد ما غاير المجموع المركب من النوعين، لا ما غاير كل نوع بفرده، فإذا قيل (ولا الضالين) كان صريحا في أن المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء، وبيان ذلك أنك إذا قلت (ما قام زيد وعمرو). ¬

_ (¬1) المغني 1/ 245، وانظر الأشباه والنظائر 1/ 212 - 213

ألا تفعل وألست تفعل

فإنما نفيت القيام عنهما، ولا يلزم من ذلك نفيه عن كل واحد منهما بمفرده" (¬1). ومن أقسامها أن تقع جوابا مناقضًا لنعم، ويكثر حذف الجمل بعدها، نحو (أحضر محمد.؟ ) فتقول: (لا)، والأصل: لا لم يحضر؟ (¬2). مما تقدم يتبين لنا أن (لا) تنفي الجمل الإسمية، والفعلية المصدرة بفعل ماض، أو مضارع، وتقع جوابا مناقضا لنعم، وتنفي المفرد من خبر أو حال أو صفة، وتدخل بين الجار والمجرور، وبين المتعاطفين، كائنة حرف عطف، أو غير عاطفة، نحو (أقبل محمد لا خالد) و (ما أقبل محمد ولا خالد) ولا يقع غيرها من حروف النفي في المواقع الأخيرة، أعني نفي المفرد، من خبر، أو حال، أو صفة، أو الدخول بين الجار والمجرور، والتوسط بين المتعاطفين. ألا تفعل وألست تفعل: إن ثمة فرقًا بين قولنا (ألا تفعل) و (ألست بفعل) أي في دخول (لا) النافية على المضارع، ودخول (ليس) عليه بعد همزة الاستفهام، وذلك أن قولك (ألا تفعل) عرض للقيام بالفعل، نحو (ألا تذهب معي) ونحو قوله تعالى: {ألا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم} [التوبة: 13]، وقد تكون للاستفهام المجرد من العرض، نحو (ألا تنوي أخباره بما حدث)؟ وأما (ألستَ تفعل) فمعناه تحقق القيام بالفعل، وذلك نحو قولك: (ألست تذهب إليه)؟ أي أنك تذهب إليه، إلا ترى أنك تقول: (ألا أخبره أباه بما حصل) مستفهما ولا يحسن أن تقول: (ألست أخبره أباه بما حصل؟ ) على هذا المعنى. جاء في (تفسير الرازي): في قوله تعالى: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} " حكي الواحدي عن أهل المعاني أنهم قالوا: إذا قلت: (ألا تفعل كذا) فإنما يستعمل ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 2/ 34 - 35 (¬2) انظر المغني 1/ 242

لات

ذلك في فعل مقدر وجوده، وإذا قلت: (ألست تفعل) فإنما تقول ذلك في فعل تحقق وجوده، والفرق بينهما أن (لا) ينفي بها المستقبل، فإذا دخلت عليها الألف صار تخصيصا على فعل ما يستقبل، و (ليس) إنما تستعمل لنفي الحال، فإذا دخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال (¬1). وقد ذكرنا سابقا أن (ليس) تكون لنفي الحال عند الإطلاق، وأما (لا) فليست مقيدة بزمن على الأرجح. لات: تستعمل لنفي الحين خصوصا، كقوله تعالى: {ولات حين مناص} [ص: 3]، وكقول الشاعر: ندم البغاة ولات ساعة مندم وقد مر الكلام عليها بما فيه الكفاية. غير: اسم يفيد المغايرة يقع استثناء بمعنى (إلا) ويقع نفيا، وقد يكون اسما لمعنى المغايرة بلا دلالة على نفي أو استثناء. فمن دلالته على الاستثناء، قولك (أقبل الرجال غير رجل واحد). ونحو قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدين في سبيل الله} [النساء: 95]، في قراءة النصب، وقد مر هذا في باب الاستثناء. ومن دلالته على المغيرة فحسب، من غير دلالة على استثناء أو نفي، قوله تعالى: {لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82]، وقوله: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} [البقرة: 173]. ¬

_ (¬1) التفسير الكبير 15/ 235

وقد يكون اسما يفيد النفي، ينفي المضاف إليه، ويقع في المواطن الإعرابية المختلفة فيقع مبتدأ كقوله: غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شادي وقوله: غير مأسوف على زمن ينقضي بالهم والحزن. وصفه، كقوله تعالى: {ذلك وعد غير مكذوب} [هود: 65]. وخبرًا، كقوله تعالى: {وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف: 18]. وحالا، كقوله تعالى: {أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة} [النور: 60]، وقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} [الأنعام: 145]. وفاعلا: نحو: (رماك غير رام وهجاك غير شاعر). ومفعولا: نحو: (خاصمت غير كفء)، و (هجرت غير مستحق)، و (رميت غير عدوك). ومجرورًا بالحرف، كقوله تعالى: {الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} [الأعراف: 146]. وظرفا كقوله تعالى: {فمكث غير بعيد} [النمل: 2]، وغير ذلك. إن (غيرا) كما ترى مختصة بنفي الاسم، وهي وظيفة تنفرد بها (غير) عن سائر أدوات النفي. وقد تقول: إن لا قد تشاركها في بعض المواضع، و (ما) أيضا، فما الفرق بينها وبينهما؟ والجواب: أن غيرا أوسع استعمالا في نفي الأسماء من (لا) أو (ما) أو غيرهما.

وذلك أن (ما) تنفي الأفعال، وتنفي الجمل الإسمية، ولكنها لا تنفي الاسم المفرد، إلا بقيود وذلك أن لها صدر الكلام، فلا يصح أن تقول مثلا (محمد ما حاضر) ولا (أقبل محمد ما مسرعا) ولا (أكرمت ما محمدًا) بل تقدم (ما) مع منفيها إلى صدر الكلام، فتقول (ما حاضر محمد) و (ما مسرعا أقبل محمد) و (ما محمدًا أكرمت) والمعنى في التقديم يختلف عنه في التأخير، وأما (غير) فيصح تقديمها وتأخيرها، فتقول (محمد غير قائم) و (غير قائم محمد) و (أكرمت غير محمد) و (غير محمد أكرمت). ولا يمكن نفي الصفة مثلا بـ (ما) لأن الصفة لا تتقدم في أول الكلام كما هو معلوم. وكذلك (لا) فإنها تنفي الأفعال وتنفي الجمل الإسمية، وقد تنفي الاسم المفرد، ولكن لا تنفيه إلا بقيد أيضا، فهي لا تنفي الخبر المفرد، ولا الصفة، ولا الحال، إلا بشرط تكرارها كما مر، وذلك لأنه يراد بها إشراك أكثر من جهة في النفي، بخلاف (غير) فإنه لا يشترط أن تتكرر كما هو واضح من الأمثلة، فوظيفة (لا) تختلف عن وظيفة أدوات النفي الأخرى هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن (غيرا) اسم يفيد المغايرة، فقولك (غير محمد) يعني شخصا آخر مغايرا لمحمد، وأما (ما محمد) فيعني النفي عن محمد، ولا يعني شخصا آخر مغايرا لمحمد، وأما (ما محمد) فيعني النفي عن محمد، ولا يعني شخصا آخر، فإذا قلت مثلا (ما محمد حضر) فإنك نفيت الحضور عن محمد خصوصا، ولكن إذا قلت: (غير محمد حضر) فإنك أثبت الحضور لشخص آخر غير محمد. وكذلك إذا قلت (ما محمدًا أكرمت) فإنه يفيد نفي الإكرام عن محمد خصوصا، وينفي هذا الخصوص عن محمد، يدل التعبير استنتاجًا عن أنك أكرمت غير محمد، وأما قولك (غير محمد أكرمت)، فإنه يفيد إثبات الإكرام لشخص غير محمد، وبلفظ المغايرة دل التعبير على نفي الإكرام لمحمد، فهما طريقتان مختلفتان في النفي والإثبات، فالأولى أعني بالحرف هو نص على النفي، وقد يستفاد الإثبات لغير المنفي استنتاجًا.

قل وقلما وأقل

وأما النفي، بـ (غير) فهو يفيد الإثبات لغير المذكور، ويفيد النفي، عن المذكور، بلفظ المغايرة، فقولك (ما محمدا أكرمت) يفيد نفي الإكرام عن محمد خصوصا، وإثبات الإكرام لغيره استنتاجًا، وقولك (غير محمد أكرمت) يفيد إثبات الإكرام لغير محمد، وينفي عن محمد بلفظ المغايرة، والمعنى في التعبيرين نفي الاكرام عن محمد، ولكن بطريقتين مختلفتين. إن الأصل كما يبدو من لفظ (غير) أنها كانت تستعمل للمغايرة إطلاقا، وبتطور الدلالة اقتربت المغايرة من معنى الإستثناء، حتى أصبحت استثناء كما مر في باب الاستثناء. واقتربت من معنى النفي، عن طريق الإثبات لما غاير المذكور، حتى صارت نفيا عن المذكور، وربما أنمحى معنى المغايرة من الذهن في الاستثناء، والنفي فلا يفهم إلا بالتأويل والتأمل، فقولك (ما حضر غير علي) مثلا يفهم منه (ما حضر إلا علي) ولا يفهم منه أن الشخص الذي هو غير علي لم يحضر، وكذلك قوله تعالى: {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} [الذاريات: 36]، فإن معنى المغايرة أنمحي أوكاد من هذا التعبير، ولم يفهم إلا بالتأويل وأعمال الفكر، لعقد الصلة بين الإستثناء والمغايرة. وكذلك النفي في نحو قوله تعالى: {ويقتلون النبين بغير حق} [آل عمران: 21]، وقوله: {إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10]، فإنه لا يفهم منه إثبات غير الحق، وإثبات غير الحساب، إلا تأولا وتأملا، وإنما يفهم نفي الحق، ونفي الحساب بداهة وابتداء. قل وقلما وأقل: هذه ألفاظ تفيد القلةن والأصل أن تفيد وقوع الشيء قليلا، وقد تستعمل للنفي أي عدم وقوع الشيء، تقول (قلما رددت عليه) إذا عنيت أنك رددت عليه قليلا وقد يراد بها عدم الرد أي ما رددت عليه. وتقول: (أقل رجل يفعل ذاك) على معنى (مارجل يفعل ذاك).

جاء في (الكتاب): وتقول (أقل رجل يقول ذاك إلا زيد) لأنه صار في معنى: ما أحد فيها إلا زيد (¬1). وقال: (قلما) نفي لقوله (كثر ما) (¬2). وجاء في (الأصول) لابن السراج: اعلم إن (قل) فعل ماضي، و (أقل) اسم، إلا أن (أقل رجل) قد أجروه مجرى (قل رجل)، فلا تدخل عليه عليه العوامل، وقد وضعته العرب موضع (ما) لأنه أقرب شيء إلى المنفي القليل .. وتقول (قلما سرت حتى أدخلها) من قبل أن (قلما) نفي لقوله (كثر ما) كما أن (ماسرت) نفي لقوله (سرت) .. وتقول (قلما سرت) إذا عنيت سيرا واحدًا، أو عنيت غر سير، كأنك تنفي الكثير من السير الواحد كما تنفيه من غير سير (¬3). وجاء في (معاني القرآن) للفراء في قوله تعالى: {فقليلا ما يؤمنون} [البقرة: 88]: " فيه وجهان من العربية: أحدهما ألا يكونوا آمنوا قليلا ولا كثيرا، ومثله مما تقوله العرب بالقلة على أن ينفوا الفعل كله قولهم (قل ما رأيت مثل هذا قط). وحكي الكسائي عن العرب: مررت ببلاد قل ما تنبت إلا البصل والكراث، أي ما تنبت إلا هذين .. والوجه الآخر أن يكونوا يصدقون بالشيء قليلا، ويكفرون بما سواه (¬4). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 361 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 415 (¬3) الأصول 2/ 174 - 176 (¬4) معاني القرآن 1/ 59

نفي الفعل

نفي الفعل مر بنا هذا في بحث الفعل وسنعرض له الآن بصورة موجزة. 1 - فَعل: نفيه (لم يفعل) فإذا قلت (حضر محمد) فإن نفيه: (لم يحضر) وذلك أن (فعل) غير مخصوص بزمن معين من أزمنة الماضي، ونفيه كذلك. 2 - قد فعل: نفيه (لما يفعل) فإذا قلت (قد حضر محمد) فإن نفيه (لما يحضر محمد) وذلك إن (قد فعل) يفيد القرب من زمن التكلم، ويفيد التوقع والتحقيق، ونفيه كذلك فإن: (لما يحضر) متصل النفي بزمن التكلم، فلا يصح أن يقال (لما يحضر ثم حضر) بخلاف (لم يحضر) فإنه يصح أن يقال (لم يحضر ثم حضر)، ويفيد التوقع فإن (قد حضر) معناه أنه كان متوقع الحضور فحضر، وأما (لما يحضر) فإن معناه: لم يحضر وهو متوقع حضوره، ويفيد التحقيق وذلك أن الفعل الماضي المسبوق بـ (قد) لا ينصرف إلى المستقبل، لأنه تحقق وقوعه، وكذلك منفيه بخلاف المنفي بـ (لم)، فإنه قد ينصرف إلى الاستقبال كقولك (إن لم تأتني لم أكرمك). 3 - لقد فعل: نفيه (ما فعل): قال سيبويه: لأنه كأنه قال: (والله لقد فعل) فقال: (والله ما فعل) (¬1). 4 - يفعل: إذا كان للحال، فإن نفيه (ما يفعل) وإذا كان للاستقبال فإن نفيه (لا يفعل)، قال سيبويه: " وإذا قال (هو يفعل) أي هو في حال فعل، فإن نفيه (ما يفعل)، وإذا قال (هو يفعل)، ولم يكن الفعل واقعا فنفيه (لا يفعل) (¬2). 5 - ليفعلن: نفيه (لا يفعل) فإذا قلت (ليحضرن خالد) فنفيه: (لا يحضر خالد). قال سيبويه: وإذا قال (ليفعلن) فنفيه (لا يفعل) كأنه قال: (والله ليفعلن) فقلت: (والله لا يفعل). (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 460 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 460 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 460

دلالات النفي

6 - سوف يفعل أو سيفعل: نفيه (لن يفعل) (¬1). وذلك أن السين و (سوف) للاستقبال ومنفيهما كذلك، ثم إن السين (وسوف) يفيدان توكيد حصول الفعل في المستقبل (¬2). ومنفيهما كذلك فإن لن تفيد توكيد النفي في المستقبل (¬3). ولا يجمع بينهما فلا يقال سوف لن أفعل لأن سوف لتوكيد الإثبات في المسقبل و (لن) لتوكيد النفي في المستقبل. 7 - كان سيفعل: نفيه (لم يكن ليفعل) فإذا قلت (كان سيحضر) أو (كان سوف يحضر)، فإن نفيه (لم يكن ليحضر) (¬4). وذكر سيبويه أن نفيه (ما كان ليفعل (¬5).) والصواب الأول، وذلك أن ما كان نفي لقولنا لقد كان كما ذكر سيبويه نفسه. دلالات النفي 1 - نفي العمدة: قد تنفي العمدة، وهي المسند أو المسند إليه، فمن نفي المسند، قولك (ما حضر خالد بل سافر)، وقولك (ما مسافر أخوك) فقد نفيت الحضور في الأولى، والسفر في الثانية، وهما مسندان وكقولك (هو لا كاتب ولا شاعر). وقد ينفي المسند إليه، نحو قوله تعالى: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 38] فنفي الخوف، وقوله: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} [البقرة: 249]، فنفي الطاقة. ¬

_ (¬1) كتاب سيببويه 1/ 460، 1/ 68 (¬2) انظر الكشاف 1/ 241، قوله {فسيكفيكهم الله} 1/ 434، {أولئك سوف يؤتيهم أجورهم}. (¬3) المفصل 2/ 200، شرح الرضي على الكافية 2/ 260 (¬4) كليات أبي البقاء 78 (¬5) كتاب سيبويه 1/ 408، وانظر شرح ابن يعيش 7/ 29، الأشباه والنظائر 2/ 252

2 - نفي القيد

وقد ينفي المسند إليه عن طريق إثباته، وذلك كأن تقول (شاعركم لا يحسن القول) فظاهر هذا، أن لهم شاعرا لا يحسن القول، وقد يراد بذالك أن ليس لهم شاعر أصلا، ونحو قولك: (شعرك أحسن من نثره) فظاهر هذا الكلام أن له شعرًا أحسن من نثر الغائب، وقد يقال هذا التعبير وليس للمخاطب شعر أصلا، فيراد به أنه لو كان لك شعر لكان أحسن من نثره، أو يقال على سبيل التهكم، ومنه قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48]، والمعنى أنهم لا شافعين لهم أصلا فتنفعهم شفاعتهم، وليس المعنى أن الشافعين يشفعون لهم، ولكن لا تنفعهم شفاعتهم. ومنه قول الشاعر: على لا حب لا يهتدي بمناره أي على طريق لا منار به، فيهتدي به وليس المراد أن في الطريق منارا لا يهتدي به (¬1). ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصف مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنثي فلتاته. أي لا تذاع سقطاته، فظاهر هذا اللفظ أنه كان ثم فلتات غير أنها لا تذاع، وليس المراد أنه لم يكن ثم فلتات فتنثى (¬2). فظاهر التعبير إثبات المسند إليه، غير أن المقصود نفيه أصلا. 2 - نفي القيد: قد ينفي القيد من مفعول، أو متعلق أو حال، أو صفة، أو غير ذلك من القيود كقولك (ما أكرمت محمدًا) و (ما رأيت خالدًا يوم الجمعة) و (ما أقبل خالد راكبًا) ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) انظر الخصائص 3/ 165، البرهان 3/ 394 ـ، المثل السائر 2/ 65 - 67 (¬2) المثل السائر 2/ 65

ونفي القيد له دلالات متعددة: أ - فقد يدل نفي القيد على أن القيد لم يحصل، أما ما عداه فلا يدري أحصل أم لا، وذلك نحو قولك (ما أكرمت محمدًا) فإنك نفيت الإكرام عن محمد، وسكت عن غيره فقد تكون أكرمت غيره، أو لا تكون. ومثله (ما رأيت محمدًا يوم الجمعة) فإنك نفيت رؤيته يوم الجمعة، وسكت عن رؤيته في الأيام الأخرى، فقد تكون رأيته في غير يوم الجمعة، ويحتمل أنك لم تره لا في يوم الجمعة ولا في غيره. ونحوه (ما ذهبت إلى خالد) فأنت نفيت الذهاب إلى خالد، وسكت عن الذهاب إلى غيره، فقد تكون ذهبت إلى غيره، أو لا تكون. ومثله الحال نحو (لم أسمع الطفل باكيا) فأنت نفيت سماعك الطفل باكيا، أما سماعه غير باك فأنت سكت عنه، فقد تكون سمعته أو لا تكون. وقد يدل نفي القيد على رجحان حدوث الأصل، نحو قولك (ما شر بنا اليوم ماء باردًا) فالراجح في نحو هذا أنك شربت ماء غير بارد، وقد يراد به أنك لم تشرب شيئا وذلك كأن يكون المتكلم صائمًا وقد كان معتادا على شرب الماء البارد، فيقول (ما شربنا اليوم ماء باردًا). ونحوه قولك (ما جاء اليوم أخوك راكبًا) فالراجح في نحو هذا أنه جاء غير راكب وإن كان من المحتمل أيضا احتمالا مرجوحًا، بأنه لم يجيء راكبا ولا غير راكب، وذلك كأن يكون من المعتاد أن يجيء أخوه راكبًا، فنفي هذه الهيئة بأكملها. ب - الدلالة على نفي القيد وحده مع القطع بحدوث الأصل، وذلك إذا علم حدوث الأصل، نحو قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} [الأنبياء: 16]، فهذا إثبات لخلق السماء والأرض ونفي للعيب، ونحو قولك: (ما ماشي عمر على الأرض مختالا) فإنه أثبت المشيء ونفي الاختيال، ومنه في غير النفي.

قوله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحا} [لقمان: 18]، فإنه نهي عن الاختيال، ولم ينه عن المشي أصلا. وقد يفيد نفي القيد الدلالة على حدوث الأصل، وذلك بتقديم القيد على عامله نحو (ما محمدًا أكرمت) فإن هذا التعبير يفيد نفي الإكرام لمحمد خاصة، وإثباته لغيره، بخلاف ما لو قلت (ما أكرمت محمدًا) فإنه يفيد الإكرام عن محمد، أما بالنسبة إلى غير محمد، فهو سكوت عنه، ونحو قولك (ما إلى خالد ذهبت) فإنه يفيد نفي الذهاب إلى خالد خاصة، وإثبات الذهاب إلى غيره، بخلاف قولك: (ما ذهبت إلى خالد) فإنه يفيد نفي الذهاب إلى خالد، أما الذهاب إلى غيره فهو مسكوت عنه (¬1).، كما ذكرنا آنفا. ج - وقد يذكر القيد، والمراد نفي الأصل، وذلك نحو قوله تعالى: {لا يستئلون الناس إلحافا} [البقرة: 273]، والمراد نفي السؤال أصلا بالحاف، أو بغيره، ومنه قوله تعالى: {لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا} [آل عمران: 199]، والمقصود نفي الشراء بآيات الله أصلا، لا ثمنا قليلا، ولا كثيرا، لأن كل ثمن هو قليل بالنسبة إلى آيات الله. جاء في (البرهان): "ومنه نفي الشيء مقيدا، والمراد نفيه مطلقا، وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة في النفي، وتأكيده كقولهم (فلان لا يرجى خيره) ليس المراد أن فيه خيرًا لا يرجي، وإنما غرضهم أنه لا خير فيه على وجه من الوجوه. ومنه {ويقتلون النبيين بغير حق} [آل عمران: 21]، فإنه يدل على أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق، ثم وصف القتل بما لا بد أن يكون من الصفة، وهي وقوعه على خلاف الحق .. وقوله تعالى: {لا يسئلون الناس إلحافا} فإن ظاهرة نفي الإلحاف في المسألة والحقيقة نفي المسألة البتة .. ومثله قوله تعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} [غافر: 18]، ليس المراد نفي الشفيع بقيد الطاعة، بل نفيه مطلقًا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر دلائل الإعجاز 98 (¬2) البرهان 3/ 396 - 397، الكليات 355

ومنه قوله: لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها بنجحر أي لا أرنب بها فتفزعها أهوالها (¬1)، وليس المقصود أن بها أرنبا لا تفزعها الأهوال، وكذلك قوله (ولا ترى الضب بها ينجحر) " فإن ظاهر المعنى من هذا البيت أنه كان هناك ضب، ولكنه غير منجحر، وليس كذلك، بل المعنى أنه لم يكن هناك ضب أصلا" (¬2). وجاء في (دلائل الإعجاز): " أنه من حكم النفي، إذا دخل على كلام، ثم كان في الكلام تقييد على وجه من الوجوه، أن يتوجه إلى ذلك التقييد وأن يقع له خصوصا. تفسير ذلك، أنك إذا قلت (أتاني القوم مجتمعين) فقال قائل: (لم يأتك القوم مجتمعين) كان نفيه ذلك متوجهًا إلى الإجتماع الذي هو تقييد في الإتيان، دون الاتيان نفسه، حتى أنه أراد أن ينفي الاتيان، أصله كان من سبيله أن يقول، أنهم لم يأتوك أصلا، فما معنى قولك مجتمعين؟ هذا مما لا يشك فيه عاقل .. فإذا قلت: (جاءني زيد راكبا) و (ما جاءني زيد راكبا) كنت قد وضعت كلامك، لأن نثبت مجيئه راكبا أو تنفي ذلك، لا لأن تثبت المجيء وتنفيه مطلقا هذا ما لا سبيل إلى الشك فيه (¬3). والصواب ما ذكرنا، ، فإن نفي القيد قد يفيد حصول الأصل، وقد يفيد نفي الأصل أيضا كما أوضحنا. د - وإذا تعددت القيود، احتمل أن يكون المراد نفي القيد الأخير، واحتمل أن يراد نفي القيود كلها، واحتمل أيضا أن يكون المراد نفي الأصل أيضا، فإذا قلت مثلا (ما رأيت رجلا غريبا طويلا) احتمل أن تكون رأيت رجلا غريبا فقط، وليس طويلا، وقد تكون رأيت رجلا لا غريبا ولا طويلا. ¬

_ (¬1) الخصائص 3/ 165 (¬2) المثل السائر 2/ 66 (¬3) دلائل الإعجاز 216 - 217

وإذا قلت (ما جعلت مالي نصفين، وأعطيت محمدًا نصفا وخالدًا نصفا) احتمل أنك جعلت مالك نصفين، وأعطيت محمدًا نصفا، ولكنه لم تعط خالدا نصفا، واحتمل أيضا أنك جعلت مالك نصفين، غير أن لم تعط محمدًا نصفا، واحتمل أيضا أنك جعلت مالك نصفين غير أنك لم تعط محمدًا ولا خالدًا، أو أنك أعطيتهما غير النصف، ومن المحتمل أيضا أنك لم تفعل هذا الأمر أصلا لم تقسم مالك ولم تعط شيئا ونحوه قولك (ما ذهبت إلى محمد وخالد وقلت لهما: أنا معكما) فهذا يحتمل نفي القول، وإثبات الذهاب إليهما، ويحتمل أنك ذهبت إلى واحد منهما فقط، ويحتمل أنك نفيت الأمر كله، أي أن هذا الأمر لم يحصل كله ولا شيء منه. ونحوه أن تقول (ما أقبل محمد راكبا ضاحكا صباحا اليوم) فقد يراد بذلك نفي القيد الأخير، وهو صباح اليوم وإثبات ما قبله، وقد يراد بذلك نفي القيود كلها وقد يراد أن شيئا من ذلك لم يحصل، أي تنفي الهيئة كلها. هـ - التنصيص على نفي القيد دون غيره: إذا أردت التنصيص على نفي شيء من الأسماء أو القيود، وإثبات ما عداه نصا، جئت بـ (غير) أو (لا) أحيانًا، فتقول مثلا (أقبل محمد راكبًا غير ضاحك) و (أقبل محمد راكبًا لا ضاحكًا) إذا نفيت الضحك وحده وأثبت الإقبال، وتقول (اقبل محمد غير راكب ولا ضحك) إذا نفيت الركوب والضحك وأثبت الأقبال. وتقول (شربت الماء غير بارد) و (رأيت رجلا غير غريب ولا طويل) فإنك ههنا نصصت على ما أردت إثباته ونفيه، ففي الجملة الأولى أعني (أقبل محمد راكبًا غير ضاحك) نصصت على مجيء محمد راكبا، ونصصت على نفي الضحك، وهكذا شأن الجمل الأخرى. يتبين لنا من هذا أن النفي مع القيود يكون نفيا احتماليا في الغالب، وإن كان الأظهر أنه يفيد نفي القيد وحده، فإذا أردت التنصيص على نفي جئت بـ (غير) مع الإسم، وربما صح الاتيان بـ (لا) أيضا كما أسلفنا.

3 - نفي الشيء والمراد عدم كماله

3 - نفي الشيء والمراد عدم كماله: قد ينفي الشيء أصلا، وليس المراد ذلك، بل المراد أنتفاء كماله، أو يكون المراد أنه لا ينبغي أن يوصف بهذا الوصف، وذلك كقولك (أن فلان ليس بحي) والمقصود أن حياته التي هو فيها لا ينبغي أن تسمى حياة، ونحو هذا قول الشاعر: ما عاش من عاش مذموما خصائله ... ولم يمت من يكن بالخير مذكورا ونحو هذا قوله تعالى في أهل النار: {لا يموت فيها ولا يحيى} [طه: 74] " فنفي عنه الموت لأنه ليس بموت صريح، ونفي عنه الحياة، لأنها ليس بحياة طيبة ولا نافعة (¬1). ونحوه أن تقول لزائرك وقد هم بالانصراف (لم نرك بعد) أي لم تتم رؤيتنا لك فقد نفي الرؤية والمقصود عدم كمالها. 4 - التقديم والتأخير: وله صورة أبرزها: أ - تقديم الاسم على الفعل، فمن ذلك. تقديم المسند إليه على الفعل نحو (ما أنا أخبرته بهذا) فهذا يفيد أن الأخبار حصل ولكن لم تفعله أنت، بل فعله غيرك بخلاف ما لو قلت: (ما أخبرته بهذا) فهذا نفي للاخبار عن نفسك، أما بالنسبة لي غيرك فقد يكون أخبره أو لم يخبره. ومثله (ما ذهب إليه) والمقصود نفي الذهاب عن نفسك، أما بالنسبة إلى غيرك، فقد سكت عنه، فقد يكون ذهب أو لم يذهب، فإذا قدمت المسند إليه فقلت (ما أنا ذهبت إليه) أفدت نفيه عن نفسك، وإثباته لغيرك، ولذا لا يصح أن يقال (ما أنا ذهبت إليه ولا أحد غيري) فإن قولك (ما أنا ذهبت إليه) يعني أن غيرك ذهب إليه، فإذا قلت (ولا أحد غيري) ناقض آخر الكلام أوله. ¬

_ (¬1) البرهان 3/ 395

تقديم القيد على الفعل

جاء في (دلائل الإعجاز): " إذا قلت (ما فعلت) كنت نفيت عنك فعلا لم يثبت أنه مفعول، وإذا قلت: (ما أنا فعلت) كنت نفيت عنك فعلا ثبت أنه مفعول .. وكذلك إذا قلت (ما ضربت زيدًا) كنت نفيت عنك ضربه، ولم يجب أن يكون قد ضرب، بل يجوز أن يكون قد ضربه غيرك، وأن لا يكون قد ضرب أصلا، وإذا قلت: (ما أنا ضربت زيدًا) لم تقله إلا وزيد مضروب، وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب. وههنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق، ويصير العلم به كالضرورة: أحدهما أنه يصح لك أن تقول: (ما قلت هذا ولا قاله أحد من الناس) و (ما ضربت زيدًا ولا ضربه أحد سواي) ولا يصح ذلك في الوجه الآخر، فلو قلت (ما أنا قلت هذا ولا قاله أحد من الناس) و (ما أنا ضربت زيدًا ولا ضربه أحد سواي) كان خلفا من القول (¬1). ومن ذلك: تقديم القيد على الفعل: نحو تقديم المفعول به، والجار والمجرور، والظرف وغير ذلك وهو يفيد ما أفاده الأول من الإثبات والنفي، وذلك نحو قولك: (ما خالدًا أكرمت) فإنه يفيد نفي الإكرام لخالد خاصة، وإثباته لغيره، بخلاف ما لو قلت: (ما أكرمت خالدًا) فإنه يفيد نفي الاكرام لخالد ولم تعرض لغيره بإثبات أو نفي، فقد تكون أكرمته اولا تكون، ولذا يصح، أن تقول (ما أكرمت خالدًا ولا غيره) ولا يصح أن تقول (ما خالدا أكرمت ولا غيره) لأن تقديم المفعول به أفاد إثبات الفعل، وهو الإكرام فكيف تنقضه؟ وكذلك الجار والمجرور نحو (ما إلى جاء) فإنه نفي المجيء إليه، وأثبت المجيء إلى غيره، بخلاف ما لو قال (ما جاء إلي) فإنه نفي المجيء إليه، ولم يعرض للمجيء إلى غيره فقد يكون حصل أو لم يحصل. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 96 - 97

ب - وقوع الفعل في حيز النفي وعدمه

ونحوه الظرف، نحو (ما بين الإشجار، وجدت الكرة) فإنه يفيد أثبات وجدان الكرة، لكن نفي كونها بين الأشجار بخلاف ما لو قال: (ما وجدت الكرة بين الأشجار) فإنه نفي وجودها بين الأشجار، أما وجودها في محل آخر فلم يعرض له، فقد يكون وجودها أو لم يجدها، ونحو (ما يوم الجمعة سافر خالد) و (ما سافر خالد يوم الجمعة) وهكذا. جاء في (دلائل الإعجاز): " ويجيء لك هذا الفرق على وجهه في تقديم المفعول وتأخيره، فإذا قلت: (ما ضربت زيدا) فقدمت الفعل كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد، ولم تعرض في أمر غيره لنفي ولا إثباتن وتركته مبهما محتملا، وإذا قلت (ما زيدا ضربت) فقدمت المفعول كان المعنى على أن ضربا وقع منك على إنسان، وظن أن ذلك الإنسان زيد، فنفيت أن يكون إياه، فلك أن تقول في الوجه الأول (ما ضربت زيدًا ولا أحدًا من الناس) وليس لك في الوجه الثاني، فلو قلت (ما زيدًا ضربت ولا أحدًا من الناس) كان فاسدًا على ما مضى في الفاعل. وحكم الجار مع المجرور في جميع ما ذكرنا، حكم المنصوب فإذا قلت: (ما أمرتك بهذا) كان المعنى على نفي أن تكون قد أمرته بذلك، ولم يجب أن تكون قد أمرته بشيء آخر، وإذا قلت (ما بهذا أمرتك) كنت قد أمرته بشيء غيره (¬1). ب - وقوع الفعل في حيز النفي وعدمه، إذا وقع الفعل في حيز النفي كان منفيا، وإن لم يقع في حيزه كان مثبتًا، وذلك نحو (عرفت أنه ليس مسافرًا) و (ما عرفت أنه مسافر) فالجملة الأولى إثبات للمعرفة، والثانية نفي لها، فقد عرف في الجملة الأولى أنه ليس بمسافر، وأما في الثانية، فقد معرفته بذلك فلم يعلم أنه مسافر: ونحو (سمعت أنك لم تترك عملك) و (ما سمعت أنك تركت عملك) فالأولى إثبات للسماع، والثانية نفي له، ونحو قولك: (قلت: إنه ليس بشاعر) و (ما قلت إنه شاعر) فقد أثبت القول في الأولى ونفاه في الثانية، فقد قال في الأولى (إنه ليس بشاعر) وفي الثانية لم يقل أنه شاعر. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 98

ج - وقوع (كل) في حيز النفي وعدمه

ونحو قولنا: (يجب أن لا تخبره بذلك) و (لا يجب أن تخبره بذلك) ففي الأولي أوجب عليه عدم الإخبار، وفي الثانية نفي وجوب إخباره، بل أجاز له أن يخبره وأن لا يخبره، ونحو (يجب أن لا تحضر) و (لا يجب أن تحضر) ففي الأولى ألزمه بعدم الحضور، وفي الثانية لم يوجب عليه الحضور، بل أجاز له الحضور وعدم الحضور، ومثله (يجوز أن لا تفعل) و (لا يجوز أن تفعل) ففي الجملة الأولى جوز له عدم الفعل، وجوز له الفعل، وفعله أولى، وفي الثانية منعه من الفعل، أي لم يجوز له الفعل. ونحو (أدركت أنه ليس غبيا) و (ما أدركت أنه غبي) ففي الأولى أدركت عدم غبائه وفي الثانية لم يدرك غباءه. ونحوه قولك (ما أصبحت تملك عقارًا) و (أصبحت لا تملك عقارًا) ففي الجملة الأولى لم يصبح وفي الثانية أصبح ومعنى العبارة الأولى أن المخاطب كان يأمل أن يكون من أصحاب العقار، ولم يتيسر له ذاك، وأما الثانية فتقولها لمن كان يملكه وهو الأن لا يملكه، فالعبارة الأولى لا تدل على أنه كان يملك العقار بخلاف الثانية. ونحوه قولك: (ما أصبحت تملك زرعا ولا ضرعا) و (أصبحت لا تملك زرعا ولا ضرعا) فالعبارة الأولى تفيد أنه يريد ذاك فلم يتحقق له ما أراد، والثانية تفيد أنه كان يملكها ففقدها، وهكذا. والخلاصة أنه إذا وقع الفعل في حيز النفي تسلط عليه، وإن لم يقع حيزه كان مثبتا ولم يتسلط عليه. ج - وقوع (كل) في حيز النفي وعدمه: قد مر بنا هذا في باب التوكيد، وذكرنا ثم أنه إذا وقعت (كل) في حيز النفي، أفادت الثبوت لبعض الأفراد، وإذا لم تقع حيزه اقتضي ذلك النفي عن كل فرد، فإذا قلت مثلا (ما أعانني كل الطلاب) كنت اثبت الإعانة لبعضهم، فلم يعنك كلهم، بل أعانك بعضهم، وإذا قلت (كل الطلاب لم يعينوني) نفيت الإعانة عن كل الطلاب.

جاء في (دلائل الإعجاز) في قول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعى ... علي ذنبا كله لم أصنع برفع كل " أنه أراد أنها تدعى عليه ذنبا لم يصنع منه شيئا البتة، لا قليلا ولا كثيرا، ولا بعضا ولا كلا، والنصب يمنع من هذا المعنى، ويقتضي أن يكون قد أتى من الذنب الذي أدعته بعضه وذلك أنا إذا تأملنا وجدنا أعمال الفعل في (كل) والفعل منفي لا يصلح أن يكون إلا حيث أن يراد أن بعضا كان، وبعضا لم يكن، تقول: ((لم ألق كل القوم))، و (لم آخذ كل الدراهم) فيكون المعنى: أنك لقيت بعضا من القوم، ولم تقل الجميع، وأخذت بعضا من الدراهم وتركت الباقي، ولا يكون أن تريد أنك لم تلق واحدًا من القوم، ولم تأخذ شيئا من الدراهم. . وإذ قد بان لك من حال النصب أنه يقتضي أن يكون المعنى، على أنه قد صنع من الذنب بعضا، وترك بعضا، فاعلم أن الرفع على خلاف ذلك، وأنه يقتضي نفي أن يكون قد صنع منه شيئا، وأتي منه قليلا أو كثيرا، وإنك إذا قلت: (كلهم لا يأتيك)، و (كل ذلك لا يكون) و (كل هذا لا يحسن) كنت نفيت أن يأتيه واحدٌ منهم، وأبيت أن يكون أو يحسن شيء مما أشرت إليه" (¬1). وقيل: وقد يشكل على الشق الأول من هذا القول نحو قوله تعالى: {إن الله لا يحب كل مختال فخور} [لقمان: 18]، وقوله: {والله لا يحب كل كفار أثيم} [البقرة: 276]، إذ يقتضي ذلك أن يحب الله بعض هؤلاء. وأجيب " أن دلالة المفهوم إنما يعول عليها عند عدم المعارض، وهو ههنا موجود إذ دل الدليل على تحريم الاختيال والفخر مطلقا" (¬2).، وتحريم الكفر والإثم ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 215 - 215 (¬2) المغنى 1/ 200 - 201

5 - تكرير الفعل في النفي

5 - تكرير الفعل في النفي: تقول (ما مررت بمحمد وخالد) وتقول: (ما مررت بمحمد وما مررت بخالد) وقد فرق قسم من النحاة بين التعبيرين فقالوا: إذا نفيت مرورا واحدًا قلت (ما مررت بمحمد وخالد)، وإذا نفيت مرورين منقطعًا أحدهما عن الآخر، (ما مررت بمحمد وخالد) احتمل أنك مررت بهما مرورا واحدًا، واحتمل أنك مررت بكل واحد منهما مرورًا منقطعًا عن الآخر، واحتمل أن يكون مرورك بخالد أولاً، أو بمحمد أولاً، لأن الواو لا تفيد الترتيب على الأرجح. قال سيبويه: " يجوز أن تقول: (مررت بزيد وعمرو) والمبدوء به في المرور عمرو ويجوز أن يكون زيدًا، ويجوز أن يكون المرور وقع عليهما في حالة واحدة، فالواو يجمع هذه الأشياء على هذه المعاني .. وقد تقول: (مررت بزيد وعمرو) تعني أنك مررت بهما مرورين، وليس في لك دليل على المرور المبدوء به، كأنه يقول: ومررت أيضا بعمرو، فنفي هذا (ما مررت بزيد وما مررت بعمرو) (¬1). فتبين من قول سيبويه أنه إذا كان مر مرورين، فنفيه يكون بتكرير العامل (ما مررت بزيد وما مررت بعمرو) أما إذا كان المرور واحدًا فلا يتكرر العامل. قال سيبويه: " قولك (مررت برجل وحمار قبل) فالواو أشركت بينهما في الباء فجريا عليه، ولم تجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه، يكون بها أولى من الحمار، كأنك قلت: (مررت بهما) فالنفي في هذا أن تقول: (ما مررت برجل وحمار) أي ما مررت بهما" (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 218 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 218

وجاء في (الكليات) لأبي البقاء: " إذا دخل حرف النفي في مثل (رأيت زيدًا وعمرا) فإن كانت الر ؤية واحدة تقول (ما رأيت زيدًا وعمرًا) وإن كانت قد مررت بكل منهما على حدة تقول: (ما مررت بزيد ولا مررت بعمرو) (¬1). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأما لو كررت العامل فقلتك (ما جاءني زيد وما جاءني عمرو) فهو عند سيبويه نفي للمجيئين المنقطع. أحدهما عن الاخر. كأن المخاطب توهم أنه حصل مجيء كل واحد منهما، لكن منقطعًا عن مجيء الآخر، فرفعت بهذا الكلام وهمه. وعن المازني هو أيضا نفي للاحتمالات الثلاث (كذا) كما كان من دون تكرر العامل، وهذا القول أقرب، ويكون فائدة تكرير الفعل المنفي كفائدة زيادة (لا) بعد الواو وأكثر" (¬2). ويبدو لي أن رأي المازني أرجح، فتكرار الفعل في نحو هذا يفيد التوكيد، ويفيد نفي احتمال الاجتماع في المجيء، فإذا قلت: (ما حضر محمد وخالد) احتمال أنك أردت نفي اجتماعهما في الحضور، أي حضر أحدهما ولم يحضرا كلاهما، واحتمل أنه لم يحضر محمد ولا خالد، فإذا قلت (ما حضر محمد وما حضر خالد) نفيت أن يكون حضر أي واحد على أي حال. وكذلك الأثبات، فإنك إذا قلت (حضر محمد وحضر خالد) فإنه يحتمل حضورهما معا، ويحتمل حضورهما منقطعًا أحداهما عن الآخر، كقولك (حضر محمد وخالد)، وإلا أن تكرار الفعل فيه تأكيد، والله أعلم. 7 ¬

_ (¬1) الكليات 408 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 404

6 - نفي النفي

6 - نفي النفي. من العلوم أن نفي النفي إثبات، نحو (ماما محمد قائم) والمعنى: (محمد قائم) فهذا نفي للنفي، وذلك أن قائلا قال: (ما محمد قائم) فرددت عليه كلامه قائلا: (ما ما محمد قائم) أي ليس نفيك صحيحًا. وليس من نفي النفي قولنا (لا لم أذهب) و (لا لا أذهب) فإن هذا توكيد للنفي، لا نفض له، وذلك أن (لا) الأولى حرف جواب نقيض نعم، كأن يقال لك (أذهبت إلى سعيد؟ ) فتقول: (لا لم أذهب) أو (أتذهب إلى سعيد)؟ فتقول (لا لا أذهب) فليس هذا نقضا للنف، بل هو توكيد له. ومن نفي النفي قولنا: (لا أريد أن لا أذهب)، والمعنى أريد أن أذهب، لأن قولك (أريد أن لا أذهب) معناه تريد عدم الذهاب، فإن نفيت هذه الإرادة فقلت: (لا اريد أن لا أذهب) كان المعنى لا تريد عدم الذهاب، ونحوه أن تقول (لا أمانع ألا يحضر) والمعنى انك تمانع حضوره، لأن قولك (أمانع ألا يحضر) معناه أنك تمانع عدم حضوره، فهذا نفي للنفي، فكان إثباتا. وقريب من هذا ما هو نفي في المعنى، نحو (ما معنك أن لا تعتذر)؟ وهذا يدل على أنه اعتذر فقال له سائلا: ما منعك من عدم الاعتذار؟ ذلك لأن قولك (ما منعك أن تعتذر؟ ) معناه أنه لم يعتذر فقال له: ما منعك من الاعتذار؟ ثم نفي هذا المنفي، فقال: (ما منعك أن لا تعتذر)؟ أي: ما منعك من عدم الاعتذار؟ ونحوه قوله تعالى: {قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75]، أي: ما منعك من السجود؟ وأما قوله تعالى: {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} [الأعراف: 12] فـ (لا) زائدة ولابد، لأنها لو لم تكن زائدة، لكان المعنى أنه سجد، فحاسبه على السجود، وسيكون المعنى عند ذاك: ما منعك من عدم السجود؟ بعكس المعنى الأول وهذا باطل، وقد مر بحث

أسماء وظروف مختصة بالنفي

هذا في باب الفعل، فلا داعي لتكراره. ومن هذا الضرب قولنا (أبي أن لا يحضر) والمعنى: أبي عدم الحضور، أي أراد الحضور، بعكس (أبي أن يحضر) ومعنا: أبي الحضور، وليس من هذا الضرب قولنا (أبي إلا أن يحضر) بمعنى أراد الحضور. فإن هذا انتقاض للنفي بـ (إلا)، كما تقول (ما محمد إلا شاعر) و (ما حضر إلا خالد) وليس نفيا للنفي، والنتيجة واحدة في كليهما، وهي الإثبات غير أن النقض بإلا يفيد الحضر، بخلاف نفي النفي، فإنه يفيد مجرد الإثبات بلا دلالة على القصر. أسماء وظروف مختصة بالنفي من الأسماء المختصة بالنفي، ولا تستعمل في الإيجاب (أحد) و (عريب) و (ديار) و (كراب) و (طوري) وكلها بمعنى واحد (¬1). تقول: (ما بالدار ديار) و (ما فيها عَريب) بمعنى ما فيها أحد. وقد مر بحث (أحد) في العدد، فلا نعيده ههنا. ومن الظروف المختصة بالنفي (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء المضمومة، و (عَوض) فالأولى لاستغراق الزمان الماضي، تقول: (ما رأيته قط) أي ما رأيته فيما مضى من عمري، ولا يقال: (لا أكلمه قط). والثانية لاستغراق الزمن المستقبل، مثل (أبدًا) إلا أنه لا يستعمل في الإثبات، بخلاف (أبدًا) فإنها تستعمل في النفي والإثبات قال تعالى: {ولا يتمنونه أبدًا بما قدمت أيديهم} [الجمعة: 7]، وقال: {خالدين فيها أبدًا} [المائدة: 119]. ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 303، شرح الرضي على الكافية 2/ 164، الكشاف 3/ 273 قوله تعالى: {من الكافرين ديارا}.

الحروف المؤكدة للنفي

وأما (عَوض) فهي مختصة بالنفي، ولا تقع في الإثبات، تقول: (لا أفعله عوض) أي لا أفعله أبدًا، وهو ظرف مبني على الضم، وإذا أضيف أعرب، تقول: (لا أفعله عوض العائضين) أي دهر الداهرين، ومعنى الداهر، أو العائض، الذي يبقى على وجه الدهر، فيكون المعنى: لا أفعله ما بقي في الدهر داهر، أي ما بقي على وجه الدهر باق. وربما أستعمل (عوض) لمجرد الزمان، لا لاستغراق الزمن المستقبل، وذلك كقوله: فلولا نيل عوض في خطاي واوصالي أي: فلولا نيلي الزمان مني (¬1). وقد مر بحث (قط) و (عوض) في باب الظرف، وحسبنا ههنا ما ذكرناه الآن عنهما. الحروف المؤكدة للنفي يؤكد النفي بحروف أشهرها الباء و (من) و (إن) و (لا) الزائدات، فالباء نحو (ما هو بمنطلق) ونحو {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} [البقرة: 267]. و(من) نحو {وما من إله إلا الله} [آل عمران: 62]، ونحو: {وما مسنا من لغوب} [ق: 38]. و(إن) نحو: (ما إن أخوك معنا) وكقوله: بني غدانة ما إن أنتم ذهب ... ولا صريف ولكن أنت الخزف و(لا) نحو: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن}. [فصلت: 34]. وقد مر بحثها كلها في مواضعها، فلا نعيد القول فيها مرة أخرى. ¬

_ (¬1) انظر المغني (1/ 175)، (1/ 105)، الهمع 1/ 213، شرح الرضي على الكافية 2/ 139، القاموس المحيط 2/ 33

الاستفهام

الاستفهام أدوات الاستفهام 1 - الهمزة الهمزة أوسع أدوات الاستفهام استعمالا: فهي تستعمل للتصور والتصديق. والتصور هو ما يجاب عنه بالتعيين، نحو (أمحمد عندك أم خالد) فتجيب (محمد) أو (خالد). والتصديق هو ما يجاب عنه بـ (نعم)، أو (لا) نحو: (أحضر القاضي)؟ فتجيب بـ (نعم) أو (لا) بخلاف أدوات الاستفهام الأخرى، فإنها تستعمل للتصور خاصة، إذ هي لا يجاب عنها بـ (نعم) أو (لا) بل بالتعيين، تقول: من حضر؟ فيقال: سعيد، وتقول: كيف أصبحت؟ فيقال: بخير، ما عدا (هل) و (أم) المنقطعة فإنها تستعملان للتصديق خاصة (¬1). ولا تستعملان للتصور، تقول: هل أعددت الطعا؟ فيقال: نعم، ولا يجوز أن يقال: هل محمد مسافر أم خالد؟ قد تخرج الهمزة عن الاستفهام الحقيقي إلى معان أخرى أشهرها: 1 - التسوية: نحو قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6]، وقوله: {سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} [الأعراف: 193]. ولا تختص بها الهمزة الواقعة بعد كلمة (سواء) " " بل كما تقع بعدها تقع بعد (ما أبالي) و (ما أدري) و (ليت شعري)، ونحوهن، والضابط أنها الهمزة الداخلة على جملة، ¬

_ (¬1) انظر المغني 2/ 349، همع الهوامع 2/ 69

يصح حلول المصدر محلها، نحو: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} [المنافقون: 6]، ونحو: (ما أبالي أقمت أم قعدت) (¬1). وهمزة التسوية لا يراد بها الاستفهام الحقيقي، بل هي وما بعدها على معنى الخبر، لا الإنشاء، فإنك إذا قلت: (سواء علي أحضرت أم غبت) كان المعنى سواء علي حضورك وغيابك، فهي لا تستحق جوابًا" لأن المعنى معها ليس على الاستفهام، وأن الكلام معها قابل للتصديق والتكذيب لأنه خبر" (¬2). والذي يبدو لي أن ثمة فرقا في المعنى، بين قولنا (سواء علي أحضرت أم غبت) و (سواء علي حضورك وغيابك)، وأنهما لا يتطابقان تماماً، فإن قولك (سواء علي أحضرت أم غبت) معناه أنك لا تهتم بجواب هذا الاستفهام، ولا تعني به، فإن الجواب بأحد الأمرين مستو عندك، ونقيضه بخلاف قولك (سواء علي حضورك وغيابك) فإنك ذكرت الاستواء على سبيل الخبر أيضا. فما بعد همزة التسوية خبر تأولا لا نصا لأنه تساوي عندك جواب الأمرين، ومن هنا دخل معنى الخبر، وأما الثانية فهي خبر نصا، لأنها أخبار بتساوي الأمرين أنفسهما، ونحوه قولك (لا أبالي أفاز أم خسر) أي أنك لا تبالي بجواب هذا الاستفهام على آية حال كان فلا داعي للإجابة عنه. ولا يصح وقوع (أو) بعد همزة التسوية، بل لا تقع إلا (أم) (¬3). فلا تقول (سواء علي أحضرت أو غبت) بل لابد أن تقول (سواء علي أحضرت أم غبت). قال تعالى: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} [إبراهيم: 21] وذلك لأن المعنى يقتضي (أم) لا (أو)، وذلك أن جواب قولك: (أكتب أو قرأ؟ ) هو: (نعم) أو (لا)، والمعنى أفعل أحدهما؟ ¬

_ (¬1) المغني 1/ 17 (¬2) المغني 1/ 41 (¬3) المغني 1/ 43

وجواب (أكتب أم قرأ) هو التعيين، فتقول: (كتب) أو تقول: (قرأ). وبهذا تعلم أن في قولنا (أكتب أم قرأ) أمرين متعادلين يسأل عنهما. وأما قولك (أكتب أو قرأ).؟ فليس فيه أمرانن بل هو أمر واحد يسأل عنه أي أفعل أحدهما؟ والتسوية لا تكون إلا بين أمرينن لا في أمر واحد، ولذا أمتنع أن يساوي بـ (أو) بعد الهمزة. 2 - الإنكار: وذلك كقوله تعالى: {أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا} [الإسراء: 40]، والإنكار الواقع بعد الهمزة على قسمين: إنكار إبطالي وهو إنكار على من ادعى وقوع الشيء، والحق أنه غير واقع، وذلك كالآية السابقة، فإنهم ادعوا أن الملائكة بنات الله، فأنكر ذلك عليهم وأبطل قولهم، ونحوه قوله تعالى: {فاستفتهم الربك البنات ولهم البنون} [الصافاتك 149]. الثانية: الإنكار التوبيخي: ويقتضي أن الخاطب، فعل فعلا يستلزم توبيخه عليه وتقريعه، فالأمر واقع في الإنكار التوبيخي، بخلاف الإبطالي، ومن الإنكار التوبيخي قوله تعالى: {أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95]، {أتأتون الذكران من العالمين} [الشعراءك 165]. وهذان الإنكار مختصان بالهمزة. 3 - التقرير: وهو أثبات المستفهم عنه، قيل ويختص بالوقوع بعد النفي، " سواء كان بما، أو لم، أو ليس، أو لما" (¬1). نحو: {أل أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} [الكهف: 75]، {أل يجدك يتيما فأوي} [الضحى: 6]، {أليس الله بكاف عبده} [الزمر: 36]. ¬

_ (¬1) جواهر الأدب 14

وقيل لا يختص بالنفي، بل يقع بعد الإثبات والنفي، لأن المقصود بالتقرير " حملك المخاطب على الإقرار، والاعتراف بأمر قد استقر ثبوته، أو نفيه (¬1). فالنفي نحو ما ذكرنا، والإثبات نحو (أضربت محمدًا)؟ أو (أأنت ضربته؟ ) إذا استقر عندك أنه الضارب. 4 - التهكم: نحو قوله تعالى: {أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} [هود: 87]. 5 - الأمر: نحو قوله تعالى: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم} [آل عمران: 20]، أي: أسلموا. 6 - التعجب: وذلك نحو قوله تعالى: {قالت ياويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب} [هود: 72]، وقوله: {أجعل الآلهة إلاها واحدا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5]. 8 - الاستبطاء: نحو: قوله تعالى: {ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد: 6] (¬2). 8 - الاستبعاد: وذلك نحو قوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75]. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 18 (¬2) انظر لهذه المعاني: المغنى 1/ 17 - 18، الهمع 2/ 69، جواهر الأدب 14 - 15

9 - التحذير وذلك كقوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلتا من قبله الرسل أفاين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران: 144]. 10 - التنفير. نحو قوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} [الحجرات: 12]. 11 - التشكيك: وذلك كقوله تعالى: {أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري} [ص: 8] يدلك على ذلك قوله تعالى: {بل هم في شك من ذكري}. 12 - التشويق: كقوله تعالى: {قل أونبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات} [آل عمران: 15]. 3 - النفي: كقوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} [ق: 15]، أي لم نعي به، وقوله: {أفإين مت فهم الخالدون} [الأنبياء: 34]، وقوله: {أنؤمن كما آمن السفهاء} [البقرة: 13] أي لا نؤمن كما آمنوا. وهي ليست للنفي المحض، بل مشوبة بإنكار أو تعجب ونحوه، إلى غير ذلك من المعاني.

حذف الهمزة

حذف الهمزة يجوز حذف همزة الاستفهام إذا دل عليها دليل، وذلك نحو قول عمر بن أبي ربيعة: فوالله ما أدري وإن كنت داريًا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان أي: أبسبع رمين الجمر. وقول الكميت: طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ... ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب أراد: أوذو الشيب يلعب (¬1). ومنه قوله تعالى: {قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين} [الأعراف: 113 - 114] أي: أإن لنا لأجرا. وقد صرح بالهمزة في موطن آخر، فقال: {قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين} [الشعراء: 41 - 42]. وقد تقول: ولم حذف الهمزة في آية الأعراف، وذكرها في آية الشعراء؟ والجواب أن سياق كل من السورتين يقتضي ما فعل، ومن عادة القرآن في التعبير أن يرصد للسياق كل ما هو إليق به، وإليك إيضاح ذلك: إن الموقف في سورة الشعراء موقف تحد كبير، ومحاجة شديدة طويلة، أشدوأطول مما هي في سورة الأعراف، فقد سأل فرعون موسى فيها عن رب العالمين، وأجابة جوابا طويلا ثم رمي فرعون فيها موسى بالجنون، قائلا: {إن رسولك الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27]، وهدده بالسجن قائلا: {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} [الشعراء: 29]. وليس الأمر كذلك في سورة الأعراف. ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن يعيش 8/ 154، المغنى 1/ 14 - 15

ومن نماذج الإختلاف في التعبير بين السياقين: 1 - أنه قال في سورة الأعراف: {قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم} [الأعراف: 109]، فنسب القول إلى ملأ فرعون، في حين نسب هذا القول في سورة الشعراء إلى فرعون نفسه: {قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم} [الشعراء: 34]. ومن المحتمل أن كلا منهم قال ذلك، فقد قاله فرعون وملؤه، ولكن نسبة القول إلى فرعون نفسه في هذا الموقف دلالة على ضيق فرعون وبرمه، بصورة أشد مما في الموقف الأول. 2 - قال في سورة الأعراف: {يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون} [الأعراف: 110]. وقال في سورة الشعراء: {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون} [الشعراء: 35] فزاد لفظ (بسحره). 3 - قال في سورة الأعراف: {يأتوك بكل ساحر عليم} [الأعراف: 112]، بصيغة اسم الفاعل (ساحر). وقال في سورة الشعراء: {يأتوك بكل سحار عليم} [الشعراء: 37]، بصيغة المبالغة (سحار)، وذلك لأحتدام الموقف وشدته، وللمبالغة في الخصومة والمحاجة. 4 - قال في سورة الأعراف: {وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين} [الأعراف: 113]. وقال في الشعراء: {فلما جاء السحرة قالوا لفرعون ائن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين} [الشعراء: 41]، فلم يصرح في الآية الأولى أنهم قالوا لفرعون، وفي الثانية صرح بأنهم قالوا لفرعون، ثم إنه في الأولى حذف همزة الاستفهام، وفي الثانية ذكرها (أإن لنا لأجرا) مما يدل على قوة الاستفهام، وشدة اللهفة إلى استماع الجواب من فرعون نفسه.

ولما كان المقام مقام إطالة، ومبالغة في المحاجة، جيء بهمزة الاستفهام لتشترك في الدلالة على قوة الاستفهام، والتصريح به. ففي الآية الأولى أضمر المقول له، وأضمر همزة الاستفهام، وفي الثانية صرح بالمقول له وبهمزة الاستفهام. 5 - قال في سورة الأعراف: {قال نعم وإنكم لمن المقربين} [الأعراف: 114]، وقال في سورة الشعراء: {قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين} [الشعراءك 42]، بإضافة (إذن) إلى الجواب، وهي إضافة مناسبة للجو والسياق. 6 - قال في سورة الشعراء: {فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} [الشعراء: 44]، فأقسموا بعزة فرعون، وهو ما لم يذكر في الأعراف، وذلك لأن الموقف إعزاز لفرعون صراحة، فأنت ترى أن كل لفظة في سياقها تسهم في تصوير الجو المناسب للموقف. 7 - قال في سورة الأعراف: {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون} [الأعراف: 123]. وقال في سورة الشعراء: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون} [الشعراء: 49]، بزيادة اللام على سوف فلسوف زيادة في التوكيد في الوكيد، وهي نظيرة ذكر الهمزة ههنا، وحذفها ثم. 9 - قال في سورة الأعراف: {قالوا إنا إلى ربنا منقلبون} [الأعراف: 125]، وقال في سورة الشعراء: {قالوا لا ضير لنا إلى ربنا منقلبون} [الشعراء: 50]، بزيادة (لا ضير) زيادة في التبكيت، وعدم الاهتمام بعذاب فرعون، وهذه الزيادة تناسب الجو والسياق. هذه نماذج من الفروق بين السياقين، فأنت ترى أن ذكر الهمزة في آية الشعراء هو المناسب لسياقها، وحذفها من الأعراف هو المناسب لسياقها، فسياق الشعراء سياق إطالة، وتحد ومحاجة، ومبالغة في الخصومة، أكثر مما هو في الأعراف، فرصد لكل سياق ما يناسبه من الألفاظ. 2

2 - هل

2 - هل وهي مختصة بالتصديق، فيجاب عنها بنعم، أو لا، كما سبق ذكر ذلك، وتخرج (هل) عن الاستفهام الحقيقي إلى معان أخرى أشهرها: 1 - الأمر، نحو: قوله تعالى: {هل أنتم منتهون} [المائدة: 91]، أي انتهوا، والأمر هنا ليس أمرا محضا، بل هو أمر مصحوب باستفهام، أي: ألا يكفي ذلك لأن تنتهوا ففيه تهييج للانتهاء، ونحو: {فهل أنتم مسلمون} [هود: 14]. 2 - التمني: نحو: {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} [الأعراف: 53]، {فهل إلى خروج من سبيل} [غافر: 11]. 3 - العرض: نحو قوله تعالى: {قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرءاه في سواء الجحيم} [الصافات: 54 - 55]، بمعنى: ألا تطلعون. ونحو {هل لك إلى أن تزكى} [النازعات: 18]، ونحو: {هل أتبعك على أن تعلمن ما علمت رشدًا} [الكهف: 66]. 4 - التشويق: نحو: {هل أدلك على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10]. 5 - التعليم والإرشاد: نحو: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [الكهف 103 - 104]. 6 - التبكيت: نحو {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا} [الأعراف: 44]، ونحو: {فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} [الحج: 15].

7 - الالزام، نحو: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148]، ونحو (هل من خالق غير الله يرزقكم) [فاطر: 3]. 8 - النفي: نحو: {هل كنت إلا بشرا رسولا} [الإسراء: 93]، و {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]. وسنتكلم عن النفي بـ (هل) عما قريب. 9 - التهويل والتعظيم، نحو: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية]، و {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} [ق: 30]. 10 - التحذير: نحو: هل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم [محمد: 22]، ونحو {قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} [البقرة: 246]. 11 - بمعنى قد: نحو قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} [الإنسان: 1]، وسنتكلم على هذا المعنى بعد قليل. إلى غير ذلك من المعاني. ونود أن نذكر هنا أن هذه المعاني ليست معاني مجردة من الاستفهام، بل يشوبها كلها معنى الاستفهام، فالتمنى والنفي والأمر، وغير ذلك من المعاني، مشوبة بالاستفهام، فلا تكون للنفي المجرد، أو الأمر المجرد، أو التمنى المجرد، وسنعرض لبعض المعاني موضحين الفرق بين المعنى الأصلي، والمعنى المشوب باستفهام.

هل والهمزة

هل والهمزة: تفترق (هل) عن الهمزة من وجوه، أهمها: 1 - اختصاصها بالتصديق في حين أن الهمزة تكون للتصور والتصديق، وعلى هذا لا تأتي (أم) المعادلة مع (هل) بخلاف الهمزة، فلا تقول (هل محمد مسافر أم خالد)؟ بل (امحمد مسافر أم خالد؟ ). 2 - اختصاصها بالاثبات، فلات تدخل على النفي، تقول: (هل حضر أخوك؟ ) و (هل أخوك مسافر؟ ) ويمتنع أن تقول (هل لم يحضر أخوك) و (هل ليس أخوك حاضرا) بخلاف الهمزة، قال تعالى: {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض} [البقرة: 33]، وقال: {أليس منكم رجل رشيد} [هود: 78]، وقال {ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم} [آل عمران: 142]، وقال: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}. [الملك: 14]. 3 - تخصيصها الفعل المضارع بالاستقبال، نحو (هل تسافر؟ ) ويمتنع أن تقول: (هل يقرأ الآن)؟ و (هل تظنه قائمًا) لأن ذلك للحال، بخلاف الهمزة، فإنها تكون للحال والاستقبال تقول (أيكتب الآن؟ ) و (أتظنه قائمًا)؟ و (أيسافر غدًا؟ ). 4 - أنها لا تدخل على الشرط، فلا تقول (هل إن سافر سافرت معه؟ ) بخلاف الهمزة فإنه يصح أن تقول (أإن سافر سافرت معه)؟ قال تعالى: {أفإين مات أو قيل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران: 144]، وقال: {أءذا كنا ترابا أءنا لفي خلق جديد} [الرعد: 5]، وقال: {أين ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} [يس: 19]. 5 - أنها لا تدخل على (أن) فلا تقول (هل أنه شاعر؟ ) بخلاف الهمزة، قال تعالى: {أءنك لأنت يوسف} [يوسف: 90]، وقال: {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى} [الأنعام: 18].

النفي بـ (هل)

6 - أنها لا تدخل على اسم بعده فعل اختيارا، فلا تقول (هل خالد يرجع؟ ) و (هل خالدًا أكرمت؟ ) بخلاف الهمزة، قال تعالى: {قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59]، وقال: {أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون} [يونس: 12]، وقال: {أفغير دين الله بغون} [آل عمران: 183]. 8 7 - أنها تقع بعد العاطف لا قبله، تقول (وهل) أو (فهل) أو (ثم هل)، قال تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} [يونس: 102]، بخلاف الهمزة فإنها تقع قبل العاطف، قال تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} [البقرة: 75]، وقال: {أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا} [المائدة: 104]، وقال: {أثم إذا ما وقع آمنتم به} [يونس: 51]. 9 - أنها تأتي نافية، ولذلك تقع بعدها (إلا) قال تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله} [الأعراف: 53]، أي ما ينظرون إلا تأويله: وقال: {هل يهلك إلا القوم الظالمون} [الأنعام: 47]، و {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]، أي: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، بخلاف الهمزة فإنها لا تأتي لهذا المعنى، فلا يقال: (أحضر إلا محمد). النفي بـ (هل): وهنا مسألة جديرة بالبحث وهي: هل تكون (هل) حرف نفي كبقية أدوات النفي وهل قوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} مماثل لقولنا {ما جزاء الإحسان إلا الإحسان} أنمح فيه عن (هل) معنى الاستفهام وأصبحت الجملة خبرًا؟ الذي يبدو راجحًا أن معنى النفي المستفاد، من (هل) لا يطابق النفي بحرف النفي، بل المعنى مختلف من جهتين: الأولى: أن النفي بـ (هل) ليس نفيا محضا بل هو استفهام أشرب معنى النفي، فقد يكون مع النفي تعجب أو استنكار، أو غير ذلك من المعاني، فقوله تعالى مثلا: {هل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنين} [التوبة: 52]، يختلف عن قولنا (ما تربصون بنا

إلا إحدى الحسنين) فإن الأولى ليست نفيا خالصا، فإن فيها من التحدي والإستخفاف ما لا يؤديه النفي المحض، ونحوه قوله تعالى ردًا على طلب الكفار حين طلبوا من الرسول أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا، أو يسقط السماء كسفا، أو أن يأتي بالله والملائكة وما إلى ذلك، فقال: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولا} [الإسراء: 93]ـ، فأنت ترى أن المعنى مختلف عن النفي المحض، وأنه لو جاء بالنفي فقال (قل سبحان ربي ما كنت إلا بشرًا رسولا) ما كان يؤدي ما أداه الاستفهام من استنكار قولهم، والتعجب من طلبهم، فهو يسألهم (هل كنت إلا بشرًا رسولا) وسيكون الجواب حتما (لا لست إلا بشرًا) ومن هنا يكون التعجب والإستنكار، وهو أنه إذا كنتم تعلمون إني بشر فكيف تطلبون مني مثل هذا؟ ونحوه قوله تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} [يونس: 102]، فهو يختلف عن قولنا (فما ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) فأنت ترى أن النفي بطريق الاستفهام ليس نفيا محضا، بل هو مشوب بمعان أخرى لا يؤديها النفي المحض. والجهة الثانية: أن النفي الصريح إنما هو اقرار من المخبر، فإذا قال: (ما جزاء الإحسان إلا الإحسان) أو قال (ما على الرسول إلا البلاغ) كان هذا إخبارًا من المتكلم. أما إذا قال ذلك بطريق الاستفهام. فإن المقصود أشراك المخاطب في الأمرن فهو يريد الجواب منه، فإذا قال مثلا (هل على الرسول إلا البلاغ) كان المخاطب مدعوا لأن يجيب، وسيكون جوابه المنتظر: لا ليس على الرسول إلا البلاغ. وإذا قال: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) كان المخاطب مدعوا لأن يجيب وسيكون جوابه: لا، ما جزاء الإحسان إلا الإحسان. فالنفي ابتداء يفيد أن المتكلم يقول الأمر من نفسه، وأما في الاستفهام فإنه يدع ذلك للمخاطب ليقوله.

ونحو هذا قوله تعالى: {وهل نجزي إلا الكفور} [سبأ: 17]، فإن عرض المسألة بصيغة النفي معناه أن المتكلم يقررها ابتداء، وإن عرضها بصورة الاستفهام معناه أن المخاطب هو الذي يصدر الحكم، فإذا قلت مثلا (ما نعاقب إلا المعتدي) كنت أنت الذي ذكرت الأمر وقررته بنفسك، ولكن إذا قلت (هل يعاقب إلا المعتدي؟ ) فأنت تريد منه الجواب، تريد منه أن يصدر الحكم، على نفسه هو، فهناك فرق واضح بين الأمرين. 10 - أنها تأتي بمعنى (قد) بخلاف الهمزة وجعلوا منه قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} [الإنسان: 1] (¬1). وقد احتلفوا في تقريرها هذا المعنى. فقد ذكر سيبويه أنها بمنزلة (قد) قال: " وكذلك (هل) إنما تكون بمنزلة (قد) ولكنهم تركوا الألف إذ كانت (هل) لا تقع إلا في الاستفهام (¬2). يعني أن أصل الاستعمال (أهل) ولكنهم تركوا ألف الاستفهام لأن (هل) لا تقع إلا في الاستفهام. وذهب الزمخشري إلى أنها بمعنى (قد) على معنى التقدير والتقريب، جاء في الكشاف في قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر}: " هل بمعنى قد، في الاستفهام خاصة، والأصل (أهل) بدليل قوله: أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم فالمعنى (أقد) على التقرير والتقريب جميعا، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب حين من الدهر (¬3). ¬

_ (¬1) انظر لهذه المعاني مغني اللبيب 2/ 349 - 353، الهمع 2/ 77 - 78، شرح الرضي على الكافية 2/ 430 - 432، جواهر الأدب 168، الإيضاح للقزويني 132، شرح المختصر للتفتازاني 91 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 492 (¬3) الكشاف 3/ 295

وذهب بعضهم إلى أنها بمعنى (قد) على معنى التحقيق، وقال بعضهم: معناها التوقع. وذهب آخرون إلى أنها لا تأتي بمعنى (قد) أصلا (¬1). قال ابن هشام " وهذا هو الصواب عندي" (¬2). وهذا هو الصواب فيما أحسب، فغنها ليست بمعنى (قد) تمامًا بل هي لا تزال استفهامية فلا يصح أن نبدلها بـ (قد) وأن نبدل (قد) بها، فلا يصح أن تقول مثلا في قوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك} [المجادلة: 1]، هل سمع الله قول التي تجادلك، ولا في {رب قد آتيتني من الملك} [يوسف: 101]، (رب هل آتيتني من الملك)، ولكنها قد تخرج إلى معنى قريب من الأخبار. إن المقصود من أمثال هذا التعبير أشراك المخاطب في الأمر، ليقرر ويجيب بنفسه في حين لو ذكره بصورة الخبر لكان إخبارا من قبل المتكلم نفسه، فقوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} يشرك المخاطبين في الأمر ويطلب منهم الإجابة عن هذا السؤال، ولو أجابوا لقالوا: نعم أتي ذلك على الإنسان فالفرق بين (قد أتي على الإنسان حين من الدهر) و (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) أن المتكلم في الأولى قرر هذا الأمر ابتداء وأخبر به، وفي الثانية عرضه بصيغة السؤال ليقرره المخاطب بنفسه، فبدل أن يقولها المتكلم ابتداء، يكون المخاطب مشاركا في إصدار الحكم. ونحو هذا أن تقول لمخاطبك (هل أكرمتك يا فلان؟ هل أعطيتك ما وعدتك؟ ) وأنت كنت فعلت ذلك له، فيقول: نعم قد أكرمتني وأعطيتني، فبدل أن تقول ذلك بصورة الخبر تقولها مستفهما لتسمع الجواب منه، فيكون أبلغ في التقرير. وهذا الضرب من التعبير شبيه بما مر من مجيء (هل) نافية، فالتكلم ثم يجيب بالسلب، وههنا يجيب بالإيجاب. ¬

_ (¬1) المغني 2/ 352 (¬2) المغني 2/ 352

10 - أن الهمزة تكون للإنكار بخلاف (هل)، وقد مر بنا هذا في باب الهمزة وذلك نحو قوله تعالى: {أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95]، وكقوله لمن ضرب أخاه: أتضربه وهو أخوك؟ فليس المقصد هو الاستفهام الحقيقي، بل المقصود توبيخ المخاطب على فعله والإنكار عليه، فهذا الضرب من الاستفهام مخصوص بالهمزة ولا يصح بـ (هل). جاء في (المغنى): " وقد يكون الإنكار مقتضيا لوقوع الفعل .. وذلك إذا كان بمعنى: ما كان ينبغي لك أن تفعل نحو: أتضرب زيدًا وهو أخوك؟ (¬1). وذكر أن هذا النوع من الإنكار مختص بالهمزة. وقال سيبويه: وذاك أن (هل) ليست بمنزلة ألف الاستفهام، لأنك إذا قلت (هل تضرب زيدًا) فلا يكون ان تدعي أن الضرب واقع، وقد تقول: (أتضرب زيدًا) فأنت تدعى أن الضرب واقع، ومما يدلك على أن الألف ليست بمنلزتها أنك تقول: أطربا وأنت قنسري فقد علمت أنه قد طرب، ولكن قلت لتوبخه، أو تقرره، ولا تقول هذا بعد (هل) (¬2). فهو يبين أنك إذا قلت (أتضرب زيدًا؟ ) فمعناه ان الضرب واقع، وأنت تنكر عليه ضربه، ونحوه قوله (أطربا وأنت قنسري) فالشاعر ينكر عليه طربه، وذلك يقتضي أنه طرب فأنكر عليه طربه، ثم ذكر أن ذلك لا يكون بـ (هل). فالفرق بين قولك (أتضرب محمدًا)؟ و (هل تضرب محمدًا) أن الضرب في الأولى واقع، وأنت تنكر عليه ضربه له، وأما الثانية فهي استفهام محض، أي: (أستضرب محمدًا؟ ولا يدل على أن الضرب واقع. 11 - وهناك فارق آخر بين الهمزة و (هل)، فقد ذكر أنه يستفهم بالهمزة إذا هجس في النفس إثبات ما يستفهم عنه، بخلاف (هل) فإنه لا ترجح عنده بنفي ولا إثبات، ¬

_ (¬1) المغني 2/ 351 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 485 - 486

"فإذا قلت: (أعندك زيد؟ ) فقد هجس في نفسك أنه عندك فأردت أن تستثبته بخلاف (هل) (¬1). وإذا سبق إلى ظنك أن خالدًا حضر، وأردت أن تستوثق من ظنك قلت: أحضر خالد؟ وإذا لم يقع في نفسك شيء، وإنما أردت الاستفهام المجرد قلت: هل حضر خالد؟ وقد ألمح سيبويه إلى أن الاستفهام بالهمزة إنما يكون لما توقع فيه الإثبات بخلاف (هل) فإنها ليست كذلك. قال سيبويه في (باب الحروف التي لا يليها إلا الفعل) " فمن تلك الحروف (قد) لا يفصل بينها وبين الفعل بغيره، وهو جواب لقوله (أفعل؟ ) كما كانت (ما فعل) جوابًا لـ (هل فعل) إذا أخبرت أنه لم يقع ولما يفعل وقد فعل إنما هما لقوم ينتظرون شيئا؟ (¬2). فذكر أن (أَفَعل؟ ) جوابه (قد فعل) و (قد) للتوقع والإنتظار، ومعنى ذلك أن السائل كان يتوقع حصول الشيء، فجاء الجواب بـ (قد) بخلاف (هل) فإذا قلت: (اكتب خالد في هذا الأمر)؟ فإن السائل كان يتوقع انه كتب أو هجس في نفسه ذلك، وجوابه إذا كان إيجابًا (نعم قد كتب)، وإذا قلت: (هل كتب خالد في هذا الأمر؟ ) فإن السائل لم يكن يتوقع أنه كتب، بل ربما كان عدم الكتابة أقرب إلى ذهنه، وذكر برجشتراسر أن (هل) تشير إلى أن السائل كان يتوقع الجواب بالنفي. جاء في (التطور النحوي): " فأدوات الاستفهام عن الجملة العربية اثنتان: (هل) والهمزة، ولا توجدان في غير العربية من اللغات السامية إلا أن ha في العبرية والآرامية العتيقة تقارب الهمزة العربية، والهمزة هي المألوفة الكثيرة الاستعمال، أو (هل) أشد قوة في الاستفهام وقد ترمز إلى أن السائل يتوقع الجواب بـ (لا)، ولذلك قد تقع بعدها (من) الخاصة بالسلب، مثاله من القرآن الكريم (هل من مزيد) فكأن معناها: ما من مزيد. ¬

_ (¬1) البرهان 4/ 433، 2/ 348 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 458 - 459

فتقارب هل لـ nam اللاتينية التي لا يستفهم بها إلا إذا توقع السائل النفي، نحو venitre أي أجاء يعني، لا أعرف أجاء، أم لم يجيء، و namvenil أي هل جاء؟ يعني: أظن أنه لم يجيء وإن كان على ضد ذلك فخالفني؟ (¬1). والذي يبدو ان الكثير في جواب (هل) أن يكون لما يتوقع أن يجاب بالنفي، وليس ذلك على سبيل الإطلاق، قال تعالى: {قل هل يستوي الأعمى والبصير} [الأنعام: 50]، والجواب متوقع أن يكون بالنفي، وقال: {هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148]، وقال: {نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد} [التوبة: 127]، وقال: {مثل الفريقين كالأعمي والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا} [هود: 24]، وقال: {فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء} [إبراهيم: 21] وقال: {هل تعلم له سميا} [مريم: 65]، وقال: {هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} [الروم: 40]، وقال: {هل من خالق غير الله يرزقكم} [فاطر: 3]، وقال: {فهل ترى لهم من باقية} [الحاقة: 8]، وكلها مما يتوقع جوابه بالنفي. إلا أنه قد يكون السائل بها لا يتوقع الجواب بالنفي، وذلك نحو قوله تعالى: {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا} [الكهف: 66]ـ، وقوله: {هل أدلكم على من يكفله} [طه: 40]، وقوله: {وقيل للناس هل أنتم مجتمعون} [الشعراء: 39]. ويمكن أن يقال في كل ذلك إنه خرج عن الاستفهام الحقيقي إلى العرض. وعلى أيه حال فإن كثيرا من جواب (هل) لما يتوقع جوابه بالنفي، بخلاف الهمزة فإن الأصل فيها أن يكون لما توقع حصوله. 12 - إن (هل) أقوى وآكد من الهمزة، وقد ذكر ذلك برجشتراسر قال: " وهل أشد قوة في الاستفهام" (¬2). ¬

_ (¬1) التطور النحوي 109 (¬2) التطور النحوي 109

وهذا صحيح، يدل على ذلك اقترانها بـ (من) الزائدة المؤكدة الدالة على الاستغراق نحو: {فهل من مدكر} [القمر: 17]، {هل من خالق غير الله يرزقكم} [فاطر: 3]، بخلاف الهمزة، فإنها لا تقترن بها. ويشهد لذلك الاستعمال القرآني: قال تعالى: {أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا} [الحج: 72]، وقال: {هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله} [المائدة: 60]. وقال: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم} [الشعراء: 221 - 222]. وقال: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} [الكهف: 103]. فأستعمل الهمزة و (هل) مع الفعل (نبأ)، وعند النظر في الاستعمالين نرى أن (هل) أقوى وآكد في الاستفهام من الهمزة، ويبين ذلك السياق. قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأننبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير} [الحج: 72]. فأستعمل الهمزة. وقال: {يآيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينك هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لايعقلون قل يأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أننبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل} [المائدة: 57 - 60]، وما بعدها. فاستعمل هل.

والفرق واضح بين السياقين، فأنت ترى أن السياق الثاني قوة وتبكيتا لا تجده فيما قبله، فذكر أن الكفار اتخذوا الدين والنداء والصلاة هزوا ولعبا، وقد وصفهم بالفسق وعدم العقل، وأنهم لعنهم الله وغضب عليهم، ومسخ منهم قردة وخنازير، وأنهم عبدوا الطواغيت، ثم قال (أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل)، ويمضي في تبكيتهم ووصفهم بأقبح الوصف. وليس الأمر كذلك في الآية التي قبلها، ولذا جاء في الأولى بالهمزة، (قل أفأنبئكم بشر من ذلك) وفي الثانية بـ (هل) (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عندالله)؟ ونحوه ما جاء في آية الشعراء: {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون} [الشعراء: 210 - 212]، إلى أن يقول: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 221 - 232]. فأنت ترى في السياق قوة، وشدة بالغة في الرد على الكفرة المفترين، فأستعمل لذلك هل. ونحوه ما جاء في سورة الكهف، فقال قال: {وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخوا آياتي ورسلي هزوا} [الكهف: 100 - 106]. فإن قوة التبكيت، وشدة التقريع واضحة في السياق، فأستعمل لذلك (هل) ولم يستعمل الهمزة. ومن هذا الباب قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10 - 13]، فإن فيها من شدة التشويق والرحمة بالمؤمنين، والأخذ بيدهم ما ليس في حاجة إلى بيان.

أم وأو

ونحوه قوله تعالى على لسان أخت موسى: {هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون} [القصص: 12]، فإن فيها من اللهفة في العرض، ما لا يخفي، فدل ذلك على أن (هل) أقوى من الهمزة، والله أعلم. أم وأو: مر هذا البحث في باب العطف، وسنذكر منه الآن بصورة موجزة ما يتعلق بالاستفهام: تقول: (أمحمد عندك أم خالد؟ ) والجواب يكون بالتعيين فتقول (محمد)، أو تقول: (خالد)، وتقول: (أمحمدٌ عندك أوخالد)؟ فتجيب بـ (نعم) أو (لا)، والمعنى: أعندك أحدهما؟ ومن هنا يتبين أنه لا يجوز استعمال (أم) المعادلة بعد لأنها لا تستعمل للتصور بخلاف (أو)، فإنه يجوز استعمالها بعدها وبعد الهمزة، قال تعالى: {هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا} [مريم: 98]، والجواب: لا، وقال: {هل ينصرونكم أو ينتصرون} [الشعراء: 93]، والجواب: (لا). جاء في (كتاب سيبويه): " يقول " ألقيت زيدًا أو عمرًا أو خالدًا؟ أو تقول: (أعندك زيد أو خالد، أو عمرو؟ ) كأنك قلت: أعندك أحد من هؤلاء، وذلك لأنك لما قلت: أعندك أحدُ هؤلاء، لم تدع أن أحدًا منهم ثم ألا ترى أنه إذا أجابك قال: (لا) كما يقول إذا قلت: أعندك أحد من هؤلاء .. فإذا قلت: (أزيد أفضل أم خالد) لم يجز ههنا إلا (أم) لأنك إنما تسأل عن صاحب الفضل، ألا ترى أنك لو قلت: (أزيد أفضل) لم يجز كما يجوز: (أضربت زيدًا؟ ) فذلك يدلك أن معناه: أيهما (¬1). و(أم) خاصة بالعربية، ابتدعتها لهذا المعنى، بخلاف (أو) كما ذكر برجشتراسر (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه: 1/ 487 (¬2) التطور النحوي 109 - 110

3 - أم

ومن الاستعمالات المختلفة بين (أم) و (أو) قولك (ما أدري أأكل أم شرب) و (ما أدري أأكل أو شرب) فإن معنى الأولى أنك لا تدري أيهما فعل، وأما الثانية فمعناها أنك لا ترى فرقا بين أكله وشربه، والمعنى أنه أكل وشرب، لكنه لم يستكمل واحدًا منهما فلا يصح أن يعد أكله أكلا ولا شربه شربًا. جاء في (الكتاب): " وتقول (ما أدري أقام أم قعد) إذا أردت: ما أدري أي ذاك كان. وتقول (ما أدري أقام أو قعد) إذا أردت أنه لم يكن بين قيامه وقعوده شيء كأنه قال: لا أدعي أنه كان منه في تلك الحال قيام ولا قعود، أي لم أعد قيامه قيامًا، ولم يستن لي قعوده بعد قيامه، وهو كقوله الرجل: (تكلم ولم يتكلم) (¬1). ومنه قولهم: (ما أدري أأذن أو أقام) (اوما أدري أأذن أم أقام) فإذا قالها بـ (أو) كان معناه أنه فعلهما، ولم يستكمل واحدا منهما، وإذا قالها بـ (أم) فإنك لا تدري ماذا فعل (¬2). وأما (أم) المنقطعة فتقع بعد (هل) نحو قوله تعالى: {قل هل يستوي الأعمي والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور} [الرعد: 16]، ومعناها ههنا (بل)، وقد مر بحثها في باب العطف فلا داعي لاعادته. 3 - أم ونعني بها ههنا (أم) المنقطعة، وقد مرت في باب العطف، وسنوجز القول فيها هنان (أم) المنقطعة تفيد الإضراب على أية حال، ثم هي قد تتجرد له، وذلك نحو قوله تعالى: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور} [الرعد: 16]، والمعنى: بل هل تستوي الظلمات والنور. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 483 (¬2) انظر الخصائص 2/ 169، 2/ 266 - 267

4 - أنى

وقد تتضمن معه استفهامًا فتكون بمعنى (بل) والهمزة (¬1). وهذه التي تعنينا هنا، ومن هذا الضرب قوله تعالى: {أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون} [الطور: 37]، والمعنى: بل أعندهم خزائن ربك، وقوله: {أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة} [القلم: 39]، والمعنى: بل ألكم أيمان علينا. وقد يكون الاستفهام بها حقيقا، ولك كقولك: (هذا المنطلق أحمد أم هو إبراهيم) فقد ذكرت اولا أنه أحمد غير شاك في ذلك وقد بنيت كلامك على اليقين، ثم أدركك الشك، فأضربت عن كلامك الأول وسألت: بل هو إبراهيم؟ وقد يكون الاستفهام بها غير حقيقي، فيراد به الإنكار والتوبيخ ونحوهما، وذلك نحو قوله تعالى: {أم له البنات ولكم البنون} [الطور: 39]، وقوله: {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} [الطور: 41]. وللزومها معنى الإضراب، لا تكون في أول الكلام مثل بقية أدوات الاستفهام، بل لابد أن يسبقها كلام، فلا تقول ابتداء (أم أنت فقير)، ولا (أم فعل هذا)، بل لابد أن يكون المتكلم ابتدأ بشيء، ثم أضرب عنه إلى شيء آخر، وذلك نحو قوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون} [القلم: 35 - 37]. 4 - أنّى لها معنيان: المعنى الأول: أن تكون بمعنى (من أين) وذلك نحو قوله تعالى: {قال يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله} [آل عمران: 37]، أي: من أين لك هذا؟ وقوله {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 165]. والمعنى: من أين هذا؟ ولذلك كان الجواب: هو من عند أنفسكم. والمعنى الآخر: أن تكون بمعنى (كيف)، وذلك نحو قوله تعالى: {قال أني يحي ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 44 - 45

هذه الله بعد موتها} [البقرة: 259]، والمعنى: كيف يحييها بعد موتها، وقوله: {قال رب أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} [آل عمران: 40]، والمعنى: كيف يكون لي غلام وهذه حالي؟ وهي تختلف عن (من أين) و (كيف) لأنها لاشتراكها في أكثر من معنى، قد تحتمل عدة معان في آن واحد، وذلك نحو قوله تعالى: {أني لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون} [الدخان: 13 - 14]، فإنها تحتمل أن يراد بها (من أين لهم الذكرى) وتحتمل أن يراد (كيف لهم الذكرى) أي كيف لهم أن يتذكروا؟ أستعبادا لحالتهم عن التذكر، واحسب أن المعنيين مرادان، فإنه يراد السؤال عن الموضع الذي تأتي منه الذكري، وعن حالتهم التي هي فيها، وكلاهما استفهام غير حقيقي، ولو قال (من أين لهم الذكرى) أو (كيف لهم الذكرى) أو (كيف لهم الذكرى) لأدي ذلك معنى وحدًا فجاء بـ (أني) ليجمع المعنيين معا. وهي كذبك في غير الاستفهام، فقد قالوا في قوله تعالى: {نساؤكحرث لكم فأتوا حرثكمأنى شئتم} [البقرة: 223]، أنه يحتمل عدة معان، فقد يحتمل أن المراد: من أين شئتم ومتى شئتم (¬1). والمراد والله أعلم جميع هذه المعاني، فلك أن تأتي إمرأتك من أين شئت، وكيف شئت، ومتى شئت مادام ذلك لا يخالف شرع الله. فالغرض من العدول إلى (أنى) توسيع المعنى، وزيادته فبدل أن يكرر عدة تعبيرات لإفادة هذه المعاني جميعها جمعها بلفظ واحد والله أعلم. ويبدو لي أنها تختلف عن كيف وأين، من ناحية أخرى، هي القوة في الاستفهام وبناؤها اللغوي يوحي بذلك، فالتشديد، الذي فيها والمدة الطويلة التي في آخرها يجرحان ذلك، وقد لوحظ في كثير من الألفاظ في العربية أن بناءها اللغوي مشاكل لمعناها، ¬

_ (¬1) الكليات لأبي البقاء 1/ 328 طبعة دمشق 974 منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي

5 - أين

وذلك كما مر في (من)، و (ما)، و (لن)، و (لا) فـ (من) مقيدة، و (ما) مطلقة، وقد عرفنا أن (ما) أوسع استعمالا من (من) لأن (من) تكاد تكون مختصة بالعقلاء، و (ما) تكون لغير العقلاء ولصفات من يعقل، كما مر تقرير ذلك، و (لن) مقيدة و (لا) مطلقة، وقد عرفنا أن (لا) أطول زمنا من (لن) و (أنى) في آخرها مدة طويلة، بخلاف (أين) و (كيف) وقد عرفنا أنها أوسع استعمالا منهما، فهي تجمع معنييهما، وربما زادت على ذلك معنى (متى) أو غيره، وهي أقوى استفهاما منهما، فإن في قوله تعالى: {أنى لك هذا} من العجب ما ليس في قولنا (من أين لك هذا) وفي قوله تعالى: {أنى يكون لي غلام} من التعجب ما ليس في (كيف). وعلى هذا فهمي تختلف عن (من أين) و (كيف) من ناحيتين هما: 1 - السعة في أدائها المعنى. 2 - القوة في الاستفهام. والله أعلم 5 - أين للسؤال عن المكان سواء كان استفهامًا حقيقا، نحو (أين أخوك)؟ أم مجازيًا، وذلك نحو قوله تعالى: {أين شركاءى الذين كنتم تزعمون} [القصص: 74]، فإنه لا يسأل عن مكانهم حقيقة وإنما هو لتبكيتهم. 6 - أي وهي بحسب ما تضاف إليه، فإن أضيفت إلى مكان كانت مكاناً، وإن أضيفت إلى زمان كانت زمانا، وإن أضيفت إلى غيرهما كانت بحسب ما أضيفت إليه، وذلك نحو قوله تعالى: {أيكم زادته هذه إيمانا} [التوبة: 124]، وقوله: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} [لقمان: 34]، وقوله: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227]، ونحو (أي يوم سافر خالد) وما إلى ذلك

7 - أيان

7 - أيّان يسأل بها عن الزمان المستقبل بمعنى (متى) غير أن (متى) تستعمل للماضي والمستقبل، وأيان تختص بالإستقبال (¬1). يقال: متى قدمت؟ ولا يقال أيان قدمت؟ وأيان لا تستعل إلا للتفخيم والتعظيم، جاء في (شرح ابن يعيش): " وأيان لا تستعمل إلا فيما يراد تفخيم أمره وتعظيمه، نحو قوله تعالى: {أيان مرساها} [النازعات: 42]، أي: متى مرساها؟ وقال تعالى: {يسئل أيان يوم القيامة} [القيامة: 6] (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأيان مختص بالأمور العظام، نحو قوله تعالى: {أيان مرساها} و {أيام يوم الدين} [الذاريات: 12]، ولا يقال: أيان نمت" (¬3). 8 - كم للسؤال عن العدد، نحو (كم يوما قضيت في مصر؟ ) ونحو قوله تعالى: {قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم} [البقرة: 259]. 9 - كيف هي للسؤال عن الحال، نحو (كيف أنت) وكيف جئت؟ قال سيبويه: " وكيف على أي حال" (¬4). والنحاة يعربونها خبرًا للمبتدأ، في نحو (كيف أنت) وخبرًا للفعل الناقص في نحو (كيف كنت)، ومفعولا ثانيًا في نحو (كيف ظننت محمدًا)، وفيما عدا ذلك يعربونها حالا نحو: (كيف جئت) (¬5). و (كيف نمت). ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي 2/ 130، كليات أبي البقاء 90 (¬2) شرح ابن يعيش 4/ 106 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 130 (¬4) كتاب سيبويه 2/ 311، انظر حاشية التصريح 1/ 176 (¬5) انظر المغني 1/ 205

قال: ابن هشام: " وعندي أنها تأتي في هذا النوع مفعولا مطلقا، أيضا، وإن منه (كيف فعل ربك) إذ المعنى أي فعل فعل ربك؟ ولا يتجه أن يكون حالا من الفاعل (¬1). إن ابن هشام يبدو مصيبا في اعتراضه، فإنه يبدو من المستبعد أن تعرب (كيف) حالا في كثير من التعبيرات، وذلك نحو قولك (كيف تضربه وهو أخوك) ونحو قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1]، وقوله: {انظر كيف يفترون على الله الكذب} [النساء: 50]، وقوله: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله} [الأنعام: 81]، وقوله: {فكيف آسى على قوم كافرين} [الأعراف: 93]، وقوله: {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا} [نوح: 15]، فالظاهر أنه لا يسأله في نحو هذا عن حال الفاعل. غير أنه مما يرد ابن هشام أننا نستطيع أن نذكر المفعول المطلق مع (كيف) في نحو هذا التعبير، فتقول مثلا (ألا ترى كيف يضرب خالد أخاه ضربًا موجعًا) فلا يصح أن يقال أن المعنى: أي ضرب يضرب خالد أخاه ضربا موجعًا، إلا إذا فزعنا إلى التقدير فنقدر فعلا محذوفا فيكون تقدير الكلام: ألا ترى كيف يضرب خالد أخاه يضربه ضربا موجعا هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، أننا لو أبدلنا المصدر بـ (كيف)، لم نجده يطابق المعنى المقصود، فقوله تعالى: {انظر كيف يفترون على الله الكذب} لا يطابق، (انظر أي افتراء يفترون على الله الكذب) فالقول الأول تعجب من حالهم، ومعناها انظر كيفية افترائهم في حين يكون معنى القول الثاني: انظر نوع الافتراء الذي يفترونه، فهو تعجب من نوع الفعل لا من كيفيته. وقوله تعالى: {وكيف أخاف ما أشركتم} لا يطابق (أي خوف أخاف ماأشركتم) فالأول أستبعاد هذه الحال عن نفسه، وأما الآخر فهو سؤال عن نوع الخوف الذي يخافه ¬

_ (¬1) المغني: 1/ 205 - 206

أهو خوف شديد أم قليل أم غير ذلك، وقد تقول: هذا استبعاد أيضا، والجواب نعم هو استبعاد لكنه استبعاد لنوع الخوف لا لحالة الخوف. وقوله تعالى: {كيف يهدي الله قومًا كفروا} [آل عمران: 86]، لا يطابق (أي هدى يهدي الله قومًا كفروا) فالأول استبعاد هذه الحالة، وأما الثاني فهو سؤال عن نوع الهدى، وإذا قيل هو استعباد أيضا فالجواب: نعم هو استبعاد ولكن ثمة فرق بين الاستبعادين، فالأول استبعاد لهذه الحالة، وأما الثاني فو استبعاد لأنواع الهدي. وقوله تعالى: {أل تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} لا يطابق (ألم تر أي فعل فعل ربك) فالأول تعجب من الحال التي فعلها ربنا، تعجب من الكيفية التي فعله ربنا، وأما الثاني فهو سؤال عن نوع الفعل الذي فعله، وقد يكون معناه تعجبا غير أنه تعجب من نوع الفعل لامن كيفية الفعل وحالته. ونحوه أن تقول (كيف أعطيك وسلاحي علي) فهو لا يطابق (أي عطاء أعطيك وسلاحك علي) فالأول استنكار لهذه الحال، أو تعجب منها، أو استعباد لأنواع العطاء الذي يعطي له. والذي قارب بين الأداتين ههنا هو خروج الاستفهام عن معناه الحقيقي الي أغراض أخرى كالتعجب والاستنكار وغيرها، فتبدو الأداتان متقاربتين، والحقيقة هي اقتراب الأغراض، فالتعجب بالهمزة قريب من التعجب بغيرها، فقول المرأة: (أألد وأنا عجوز عقيم)، يقارب القول (كيف ألد وأنا عجوز عقيم) ولكن الهمزة غير (كيف) وقولك: (أتكفر بالله وقد خلقك) قريب من قولك (كيف تكفر بالله وقد خلقك) وهكذا مع أن لكل أداة معناها واستعمالها. ولو كان الاستفهام في نحو هذا حقيقيا، وقدر لك أن تجيب عن كل سؤال، لاختلف الجواب مع (كيف) ومع (أي) فلو سألت حقيقة (كيف يفترون على الله الكذب)؟ لاحتمل أن يكون الجواب: يفترونه مزينين هذا الكذب، أو يفترونه جاعليه في صورة الصدق، أو تقول: يلوون ألسنتهم بالحديث، ليحسبه السامع صدقا وما إلى ذلك.

ولو سألت (أي افتراء يفترون على الله الكذب) لاحتمل أن يكون الجواب: أنهم يفترون افتراء كبيرا، أو افتراء بينا، أو افتراء البائع لدينه بثمن بخس، أو افتراء المكذبين بيوم الدين وما إلى ذلك. فالجواب يختلف مع (كيف) و (أي). وبهذا يبدو أن رأي الجمهور أقرب إلى الصواب والله أعلم. وقد تخرج (كيف) عن الاستفهام الحقيقي إلى أغراض أخرى منها: 1 - التعجب، نحو قوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28]، وقوله: {انظر كيف يفترون على الله الكذب} [النساء: 50]. 2 - التوبيخ، نحو قوله تعالى: {ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 36]. ونحو قولك لمن ضرب أخاه (كيف تضرب أخاك الأكبر)؟ 3 - النفي، نحو قوله تعالى: {كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم} [آل عمران: 86]، والمعنى: لا يهدي الله قومًا كفروا وقوله: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله} [الأنعام: 81]، ومعناه: لا أخاف ما أشركتم. 4 - التحذير، كقوله تعالى: {فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} [آل عمران: 137]. 5 - النهي، كقوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء: 21]. 6 - التنبيه، كقوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} [الإسراء: 21]. 7 - التهكم، كقوله تعالى: {كيف نكلم من كان في المهد صبيا} [مريم: 29]. 8 - الاستبعاد، كقوله تعالى: {كيف يكون للمشركين عهد} [التوبة: 7]، وقوله: {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا} [الكهف: 68].

10 - ما

9 - التعظيم والتهويل، كقوله تعالى: {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} [آل عمران: 25]، وقوله: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: 41] (¬1). إلى غير ذلك من المعاني. وغني عن البيان أن هذه المعاني التي تخرج إليها (كيف) مشوبة بالاستفهام، وليست نفيا خالصا أو نهيا خالصا، كما سبق تقرير ذلك. 10 - ما تكون للسؤال عن ذوات ما لا يعقل، وأجناسه، وصفاته، وللسؤال عن صفة من يعقل (¬2). فمن الأول قولك (ما عندك؟ ) فيقال: كتاب، وتقول: ما في الدار؟ فيقال: ثعبان، أو فرس، وتقول: (مالونه؟ ) فيقال: أسود. قال تعالى: {وما تلك بيمينك ياموسى} [طه: 17]، وقال: {ماولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142]. وتكون لصفات من يعقل، كأن تقول: (ما محمد)؟ فيقال: كاتب أو شاعر. جاء في (شرح ابن يعيش): فإذا قلت: ما في الدار؟ فجوابه: ثوب أو فرس ونحو ذلك مما لا يعقل، وإذا قلت: ما زيد؟ فجوابه: طويل أو أسود أو سمين، فتقع على صفاته (¬3). وللسؤال عن حقيقة الشيء، قال تعالى: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} [الفرقان: 60]، وقال: {قال فرعون وما رب العالمين} [الشعراء: 23]، فهذا سؤال عن حقيقته سبحانه. ¬

_ (¬1) انظر لبعض هذه المعاني: البرهان: 4/ 330 - 338 (¬2) انظر المقتضب 2/ 52، البرهان 4/ 402، شرح ابن يعيش 4/ 5 (¬3) شرح ابن يعيش 4/ 5، الكليات لأبي البقاء 336، حاشية التصريح 1/ 176

وإذا جرت حذف الفها (¬1). قال تعالى: {فيم أنت من ذكراها} [النازعات: 43]، وقال: {لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف: 2]، وقال: {عم يتساءلون} [النبأ: 1]. وقد تخرج (ما) عن الاستفهام الحقيقي إلى معان أخرى منها: 1 - التعظيم والتفخيم، كقوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة} [الحاقة: 1، 2]، وكقوله {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} [الواقعة: 27]، ونحو قولك (محمد ما محمد)؟ جاء في (الكشاف): " ونحوه (ما) في قولك (زيد ما زيد) جعلته لانقطاع قرينه، وعدم نظيره، كأنه شيء خفي عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه، وتفحص عن جوهره كما تقول: ما الغول وما العنقاء؟ تريد أي شيء هو من الأشياء؟ هذا أصله ثم جرد للتفخيم (¬2). 2 - التحقير نحو (ما أنت والشعر) و (ما أنت والمجد) قال الشاعر: ما أنت ويب أبيك والفخر (¬3). 3 - الحث نحو قوله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله} [النساء: 75]. 4 - الانكار نحو قوله تعالى: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142]. 5 - الالزام، نحو قوله تعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء من قبل إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 91]. 6 - الاستبعاد: نحو قوله تعالى: {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه} [هود: 8]، ونحو قوله: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} [النساء: 147]. ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 298، شرح ابن يعيش 4/ 8 (¬2) الكشاف 3/ 304، وانظر حاشية التصريح 1/ 165، التصريح 1/ 166 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 59

ماذا

وغير ذلك من المعاني: ماذا تأتي في العربية على أوجه: أحدها: أن تكون (ما) استفهامية و (ذا) اسم إشارة، نحو (ماذا) أي: (ما هذا) ونحو (ماذا السكوت) و (ماذا التواني) والعنى: ما هذا السكوت؟ وما هذا التواني؟ الثاني: أن تكون (ما) استفهامية و (ذا) موصولة بمعنى الذي، نحو (ماذا فعلت) أي: ما الذي فعلت؟ وكقول لبيد: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضي أم ضلال وباطل أي: ما الذي يحالو، فـ (ما) مبتدأ بدليل إبداله المرفوع (نحب) منها، و (ذا) اسم موصول بديل افتقاره إلى الجملة، ولو كانت (ماذا) اسما واحدًا، لكانت مفعولا مقدما للفعل (يحاول) ولأبدل منها النصب. الثالث: أن تكون (ماذا) كلها كلمة واحدة مركبة تفيد الاستفهام (¬1). كقولك (ماذا أكلت أفاكهة أم لحما) فـ (ماذا) ههنا كلمة واحدة وهي مفعول به مقدم، بدليل الإبدال منها بالنصب. فتبين من هذا أنك إذا قلت (ماذا صنعت؟ ) أحتمل أن تكون (ماذا) مركبة من كلمتين: (ما) الاستفهامية و (ذا) الموصولة والمعنى: ما الذي صنعت؟ واحتمل أن تكون (ماذا) كلها كلمة مركبة واحدة والمعنى: ما صنعت؟ فإذا جعلتها اسمين أبدلت من (ما) بالرفع، فتقول (ماذا صنعت أخاتم أم سوار)؟ وذلك لأن (ما) مبتدأ محله الرفع و (ذا) خبره، والبدل من المرفوع مرفوع. ¬

_ (¬1) انظر المغني 1/ 300 - 301، الأشموني 1/ 159، التصريح 1/ 138

وإن جعلتها اسما واحدا أبدلت بالنصب، فقلت (ماذا صنعت أخاتما أم سوارا) وذلك لأن (ماذا) مفعول به مقدم، محله النصب والبدل من المنصوب منصوب. وجوابها مختلف أيضا، فالأصل في جواب الأولى أن يكون: الذي صنعته سوار وجواب الثاني أعني المركبة (صنعت سوارا) وكذلك إذا قلت (ماذا تفقد؟ ) على غير معنى التركيب، فإن جوابه (الذي أفقده كتاب) لأن معنى السؤال: ما الشيء الذي تفقده؟ وعلى معنى التركيب: (أفقد كتابا) لأن المعنى: أي شيء تفقد؟ فهما عبارتان مختلفان. وههنا يبرز سؤال، وهو: ما الفرق في المعنى بين (ماذا) و (ما)؟ ما الفرق مثلا بين قولك (ماذا فعلت؟ ) و (ما فعلت؟ ) الذي يبدو أن الفرق بينهما من ناحيتين: الأولى: إن (ذا) تفيد التنصيص على الاستفهام فيما يحتمل الاستفهام وغيره، وذلك كقوله تعالى: {فأروني ماذا خلق الذين من دونه} [لقمان: 11]، فإن (ذا) أفادت التنصيص على الاستفهام ولو حذفت لاحتمل المعنى الاستفهام والموصولية، أي فأروني الذي خلقه الذين من دونه، ألا ترى أنك إذا قلت، (أنا أعلم ما تريد) يحتمل الخبر والاستفهام، ولو قلت (ماذا) أفادك الاستفهام نصا؟ الناحية الثانية: إن في (ماذا) قوة ومبالغة في الاستفهام، ليست في (ما) ففي قولنا (ماذا فعلت) قوة ليست في (ما فعلت)؟ ولعل ذلك يعود إلى زيادة حروفها. قال تعالى: {يسئلونك ماذا ينفقون} فجاء بـ (ماذا) وهذا يدل على المبالغة في الاستفهام ولذلك، والله أعلم، كرر السؤال مرتين، فقال: {يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} [البقرة 215]، ثم قال: {ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} [البقرة: 219]، فمرة أجاب عن السؤال ببيان أوجه الاتفاق المشروعة، ومرة أجاب عنه

بنوع المال االذي ينفق، فكرر السؤال مرتين، وأجاب عنه مرتين لأهمية السؤال، ولذا جاء به بـ (ماذا) بدل (ما). ونحوه قوله تعالى على لسان فرعون بعد أن عجز عن مواجهة موسى عليه السلام بالحجة فقال: {إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون} [الشعراء: 34 - 35]، فجاء بـ (ماذا) للدلالة على المبالغة في الاستفهام، وذلك لأن الموقف يتطلب جوابا يخلصه من مواجهة موسى وتحديه، فإن موسى يهد الوهية فرعون وتجبره، بخلاف قوله تعالى مثلا: {قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا} [يوسف: 65]، فجاء بـ (ما) دون (ماذا) لأن الموقف لا يتطلب ذاك. ولذا يؤتى بماذا في مواقف التحدي والقوة قال تعالى: {قل أرءيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله اروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينت منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا} [فاطر: 40]، فهو يتحدى المشركين تحديا لا يمكنهم الافلات منه فيقول لهم: هؤلاء شركاؤكم أروني ماذا خلقوا من الأرض؟ اذكروا لي شيئا خلقوه، وإن هان وحقر، فجاء بـ (ماذا) في التحدي، وهو أبلغ وأقوى من (ما) وحدها يدلك على ذلك السياق. ويوضح ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الصافات على لسان إبراهيم عليه السلام: {إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون} [الصافات: 83 - 87]. وقوله في سورة الشعراء: {قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين} [الشعراء: 69 - 71]. فجاء في الأولى بـ (ماذا): (ماذا تعبدون) وفي الثانية بما (ما تعبدون)، وذلك لأن الأولى موقف تحد ظاهر، ومجابهة قوية، بخلاف الثانية، يدلك على ذلك السياق، فإن المقام في الأولى ليس مقام استفهام، وإنما هو مقام تقريع، ولذلك لم يجيبوه عن سؤاله، بل مضى يقرعهم بقوله: {أئفكا آلهة دون الله تريدون}.

وأما في الثانية فهو مقام استفهام المحاجة إذ قال لهم: {ما تعبدون} فأجابوه: {قالو نعبد أصناما فظل لها عاكفين}. فسألهم: {قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون} [الشعراء: 72 - 73]. فأجابوه قائلين: {بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون} [الشعراء: 74]. فانت ترى أن المقام مقام محاجة، بخلاف الأولى فإنه مقام تحد وتقريع ومجابهة، ويوضح ذلك نهاية السياقين. ففي آية الشعراء قال: {أفرئيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 75 - 77]. وأما في آية الصافات فانتهي السياق بتحطيم الأصنام وتحريقه بالنار، فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعبدون قالوا ابنوا له بنينا فألقوه في الجحيم} [الصافات: 91 - 97]. فثمة فرق كبير بين النهايتين، وبين السياقين، فجاء في مقام المجابهة وشدة التحدي بـ (ماذا) دون المقام الآخر الذي جاء فيه بـ (ما). جاء في (درة التنزيل) في هاتين الآيتين: " للسائل أن يسأل عن زيادة (ذا) في قوله (في الصافات) (ماذا تعبدون) وإخلاء (ما) في (الشعراء) منها: والجواب ان يقال: إن قوله (ما تعبدون) معناه أي شيء تعبدون؟ وقوله (ماذا) في كلام العرب على وجهين: أحدهما أن تكون (ما) وحدها إسما (وذا) بمعنى (الذي) والمعنى: ما الذي تعبدون، و (تعبدون) صلة لها. والآخر: أن تكون (ما) مع (ذا) اسما واحدًا بمعنى (أي شيء) وهو في الحالين أبلغ من (ما) وحدها إذا قيل، ما تفعل؟

11 - متى

فما تعبدون في سورة الشعراء أخبار عن تنبهه لهم، لأنهم أجروا مقاله مجرى مقال المستفهم، فأجابوه وقالوا: {نعبد أصناما فنظل لها عاكفين} فنبه ثانيا بقول: {هل يسمعونكم أذ تدعون}. وأما {ما تعبدون} في سورة الصافات فإنها تقريع وهو حال بعد التنبيه، ولعلمهم بأنه يقصد توبيخهم وتبكيتهم، لم يجيبوا كأجابتهم في الأول، ثم أضاف تبكيتا إلى تبكيت ولم يستدع منهم جوابًا فقال: {أئفكا آلهة دون الله تريدون، فما ظنكم برب العالمين}. فلما قصد في الأول التنبيه كانت (ما) كافية، ولما بالغ وقرع استعمل اللفظ الأبلغ وهو (ماذا) التي إن جعلت (ذا) منها بمعنى (الذي)، فهو أبلغ من (ما) وحدها، وإن جعلا اسما كان أيضا أبلغ وأوكد مما إذا خلت من ذا (¬1). 11 - متى للسؤال عن الزمان نحو (متى السفر)؟ وقد يخرج عن الاستفهام الحقيقي إلى معان أخرى، كالاستبطاء نحو قولك (متى يؤوب أبي) مستبطئا عودته، والاستعباد نحو قوله تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48]، وغير ذلك من المعاني. 12 - من للسؤال عمن يعقل نحو: (متى حضر؟ ) فتقول: خالد، قال تعالى: {ومن أصدق من الله قيلا} [النساء: 122]، وقال: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [البقرة: 130]. وقد يخرج (من) عن الاستفهام الحقيقي إلى أغراض أخرى كالنفي نحو قوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران: 135] (¬2). ¬

_ (¬1) درة التنزيل 330 - 331 (¬2) انظر المغنى 1/ 327

والدهشة والتعجب، نحو قوله تعالى: {من بعثنا من مرقدنا} [يس: 52]. والإلزام، نحو: {من خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء} والتشويق والترغيب، نحو: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} [البقرة: 245]. إلى غير ذلك من المعاني. وقد تلحقها (ذا) كما مر في (ما) فتكون (من) اسم استفهام، و (ذا) اسم اشارة، وذلك نحو (من ذا؟ ) و (من ذا واقفًا؟ ). وقد تكون اسما موصولا نحو (من ذا أكرمت أمحمد أم خالد) وقد تكون كلمة واحدة مركبة بمعنى (من) نحو (من ذا أكرمت أمحمدًا أم خالدا؟ ). ويحتمل هذا المعنى قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} [البقرة: 245]، ويحتمل أيضا أن تكون (من) استفهاما و (ذا) اسم إشارة بمعنى (من هذا الذي يقرض الله) كما في قوله تعالى: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم} [الملك: 20] (¬1). ويبدو أنه إذا قرن اسم الإشارة بـ (ها التنبيه) كان آكد وأقوى وذلك لأن فيه زيادة تنبيه، فقولك (من هذا الذي فعل) آكد وأقوى من قولك (من ذا الذي فعل) وذلك أن السائل في العبارة الأولى كأنه يجتهد في الاستخفاف بالفاعل، نحو أن تقول (من هذا الذي يستطيع أن يرد علي) أو تعظيمه كأن تقول (من هذا الذي اقتحم النار وأنقذ الطفل؟ ). ويدل على ذلك الاستعمال القرآني أيضا، قال تعالى: {وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} [آل عمران: 160]، وقال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255] فلم يجيء بـ (ها) التنبيه. ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 65، المغنى 1/ 327

وقال: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور} [الملك: 20، 21]، فجاء بـ (ها) التنبيه، وسبب ذلك - والله أعلم - أن التحدي في الآيتين الأخيرتين أشد وأقوى وهو واضح من السياق. فالآية الأولى خطاب للمؤمنين قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 159 - 160]. والثانية في الكلام على الكافرين في سياق التخويف من قدرة الله وبطشه: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرين إلا في غرور} [الملك: 16 - 31]. فالسياق والجو مختلف في الآيتين: فالأولى مقام رحمة ومسح على جراح المؤمنين ومقام عفو ومغفرة بعد معركة أحد، وأما الثانية فمقام ترهيب وإنذار وتخويف وتحذير فجاء بـ (ها) التنبيه زيادة في التحذير والتنبيه وهو ما يقتضيه المقام. وأما الفرق بين (من) و (من ذا) فإنه نظير الفرق بين (ما) و (ماذا) فلا داعي لتكرار القول فيه. مما تقدم يتبين أن مراحل التعبير من حيث قوته وتوكيده تتدرج كما يأتي: من فعل؟ من ذا فعل؟ من ذا الذي فعل؟ من هذا الذي فعل؟

تقديم المستفهم عنه

تقديم المستفهم عنه مر بنا هذا في مواضع عدة، في باب المبتدأ والخبر، والمفعول به، وغيرها، وذلك أنكتقول؛ أضرب محمدا؟ أأنت ضربت محمدًا؟ و (أحضر محمد) و (أمحمد حضر)؟ ونحو ذلك، ولا نريد أن نعيد الكلام على ذلك بصورة موسعة بل سنوجز القول فيه. 1 - تقديم الفعل، إذا قدمت الفعل كنت مستفهما عن أصل الحدث، فإذا قلت: أحضر محمد؟ كنت مستفهما عن حضور محمد، وكذا إذا قلت: (أجاءك رجل) كنت مستفهما عن مجيء أحد من الرجال إليه. 2 - تقديم المسند إليه على الفعل: فإذا قلت (أحمد حضر؟ ) كنت تعلم أن شخصا ما حضر ولكنك تسأل أهو محمد؟ فالفرق بين قولنا: (أحضر محمد) و (أمحمد حضر) إننا في الأولى نسأل عن حضور محمد، وليس في التعبير دلالة على أننا نعلم أن أحدًا حضر، وأما في الثانية فإننا نعلم أن شخصا ما حضر ولكننا لا نعلم من هو. وكذا قولك: (أجاءك رجل؟ ) و (أرجل جاءك؟ ) ففي الأولى أنت تسأل " هل كان مجيء أحد من الرجال إليه، فإن قدمت الاسم فقلت: أرجل جاءك؟ فأنت تسأل عن جنس من جاءه: أرجل هو أم امرأة، ويكون هذا منك إذا علمت أنه قد آتاه آت، ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي (¬1). ومن هذا قوله تعالى: {أأنت فعلت هذا بآلهتنا يإبراهيم} [الأنبياء: 62]، فهم لا يسألونه عن وقوع الفعل، لأنهم يعلمون أن الفعل وقع وقد شاهدوه، ولكنهم يسألونه عن الفاعل. جاء في (دلائل الإعجاز): " وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها، وترك تقديمه، ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة، فإن موضع الكلام على انك إذا قلت: أفعلت؟ فبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز 109

وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده، وإذا قلت: أأنت فعلت؟ فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو؟ وكان التردد فيه، ومثال ذلك أنك تقول: أبنيت الادر التي كنت على أن تنبيها؟ أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ تبدأ في هذا ونحوه بالفعل لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه، لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل، وانتفائه مجوز أن يكون قد كان، وأن يكون لم يكن. وتقول: أأنت بنيت هذه الدار؟ أأنت قلت هذا الشعر؟ أأنت كتبت هذا الكتاب؟ فتبدأ في ذلك كله بالاسم، ذلك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان كيف وقد أشرت إلى الدار مبنية، والشعر مقولا، والكتاب مكتوبًا؟ وإنما شككت في الفاعل من هو؟ فهذا من الفرق لا يدفعه ادفع ولا يشك فيه شاك، ولا يخفي فساد أحدهما في موضع الآخر" (¬1). 3 - تقديم المفعول به: وذلك نحو (أمحمدًا أكرمت)؟ فالسائل يعلم أن المخاطب أكرم شخصا فهو يسأل: أهو محمد؟ بخلاف ما لو قال: أأكرمت محمدًا؟ فإنه يسأل عن أصل الإكرام، وليس فيه دلالة على أن السائل يعلم أنه وقع إكرام أم لا؟ 4 - تقديم الظرف والجار والمجرور: وحكمهما حكم المنصوب فإذا قيل: (أيوم الجمعة سافر خالد) فالسائل يعلم أن خالدًا سافر، ولكنه يسأل أذلك كان يوم الجمعة بخلاف ما لو قال: (أسافر خالد يوم الجمعة)، فإنه لا يفيد ذاك بل هو يسأل عن خالد أسافر يوم الجمعة أم لم يسافر. ونحوه: (أقبض على محمد في دارك؟ ) و (أفي دارك قبض على محمد)؟ و (أإلى الموصل سافرت؟ ) و (أسافرت إلى الموصل) في الجملة الأولى يعلم السائل أن المخاطب سافر، ولكنه يسأله عن جهة سفره أهي الموصل، وأما في الثانية فإنه يسأله عما إذا سافر إلى الموصل أم لا. وقس ما لم يذكر من القيود على ما ذكرت كالحال ونحوها. ¬

_ (¬1) دلائل الإعحاز 87

الجواب

الجواب جواب الهمزة: يكون جواب الهمزة وحدها إذا كان السؤال مثبتا بـ (نعم) أو (لا) نحو: أحضر محمد؟ فيجاب: نعم قد حضر محمد (¬1). أو لا لما يحضر محمد. وكذلك إذا كانت مع (أو) نحو (أمحمد عندك أو خالد) فجوابه في الإثبات: نعم عندي محمد، أو نعم عندي خالد، أو لا ليس عندي واحد منهما. وتجاب مع (أم) المعادلة بالتعيين، نحو (أمحمد عندك أم خالد) والجواب: عندي محمد، أو عندي خالد. وتجاب الهمزة إذا كان السؤال منفيا بـ (بلى) في الإيجاب و (لا) في النفي نحو قوله تعالى: {ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير} [الملك: 8، 9]، و {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172]، والنفي نحو ألم يحضر محمد؟ والجواب: لا لم يحضر محمد، وإذا قلت: نعم فمعناه اقرار النفي، والمعنى: نع لم يحضر محمد، ولذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى}: " لو قالوا نعم لكفروا" (¬2). جواب هل: ويكون جواب (هل) بـ (نعم) أو (لا). يقال (هل حضر محمد؟ ) فتقول في الإيجاب: نعم حضر محمد، وف النفي: لا لم يحضر محمد (¬3). قال تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم} [الأعراف: 44]. ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 458 - 459 (¬2) انظر المغنى 1/ 113، شرح الرضي على الكافية 2/ 424 (¬3) انظر كتاب سيبويه 1/ 458

جواب أسماء الاستفهام

وكذلك مع (أو) نحو (هل حضر محمدًا أو خالد؟ ) وجوابه: (نعم) أو (لا) لأن المعنى: هل حضر أحدهما؟ قال تعالى: {هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} [مريم: 98]، وقال: {قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون} [الشعراء: 72 - 73]، ولو أجيب عن ذلك لقيل: (لا). جواب أسماء الاستفهام يكون جواب أسماء الاستفهام بالتعيين، وذلك بحسب اسم الاستفهام، نحو: من حضر؟ فيقال: (حضر محمد) ويجوز أن يقال (محمد حضر) بحسب القصد، قال تعالى: {قال من يحي العظام وهي رميم قل يحيها الذي أنشأها أول مرة} [يس: 78، 79]. وقال: {قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير} [التحريم: 3]، فأجاب بالجملة الفعلية. وقال: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} فأجاب: {قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب} [الأنعام: 63 - 64]، فأجاب بالجملة الإسمية. ومن هنا يظهر أن القول بأن: جواب (من قام)؟ (قام زيد) لا (زيد قام (¬1).) فيه نظر. وذلك أن الجواب يكون بحسب القصد، فيقدم ويؤخر على حسب ذلك. ويقال: ما خالد؟ فيقال: فقيه أو شاعر. وتقول: ماذا أعطيت؟ فيقال (كتابا) على معنى: أعطيت كتابًا. ويصح أن يقال: (كتاب) بالرفع على معنى: الذي أعطيته كتاب، قال تعالى: {ويسئلونك ماذا نفقون قل العفو} [البقرة: 219]، وقال: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} [النحل: 30]. وقال: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} [النحل: 24]، فأجاب في الأولى بالنصب على معنى: أنزل خيرًا، وفي الثانية بالرفع أي (هو أساطير الأولين) ¬

_ (¬1) كليات أبي البقاء 416

حروف الجواب

ولا يصح أن يكون بالنصب، لأنه ليس على معنى (أنزل أساطير الأولين)، وذلك أنهم لا يقرون بإنزال الله القرآن، وإنما المعنى: هذا الكلام هو أساطير الأولين. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " فقوله تعالى (أساطير الأولين) ليس جواب لقوله للكفار: ماذا أنزل ربكم، إذ لو كان جوابا له لكان المعنى: هو أساطير الأولين، أي الذي أنزله ربنا أساطير الأولين. والكفار لا يقرون بالانزال، فهو إذن كلام مستأنف، أي ليس ما تدعون أنزاله منزلا بل هو أساطير الأولين .. فقوله تعالى: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} أي أنزل خيرًا وإنما الزم ههنا النصب ليكون مخالفا لجواب الكفار، لأن النصب تصريح بكون (أنزل) مقدرا والرفع يحتمل استئناف الكلام كما ذكرنا في (أساطير الأولين) ويحتمل تقدير الموصول المذكور ف السؤال مبتدأ (¬1). وهكذا بقية أسماء الأستفهام، فجواب (متى) تعيين الزمان، وجواب كم تعيين العدد و (كيف) للسؤال عن الحال وهكذا. حروف الجواب نعم: حرف تصديق ووعد واعلام. فالتصديق يكون بعد الخبر، نحو (قد زارك محمد) فتقول: نعم. أو (ما زارك محمد) فتقول: نعم. مصدقا قوله إثباتا أو نفيا. والوعد يكون بعد الأمر والنهي، وما في معناها، نحو (زرنا قريبا) أو (لا تخبره بما حدث) فتقول: نعم. واعدا بأنك ستجز طلبه. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 65 - 66

بلى

قال سيبويه: " وأما نعم فعدة وتصديق، تقول: قد كان كذا وكذا، فيقول: نعم" (¬1). والإعلام يكون بعد الاستفهام، نحو (أحضر خالد؟ ) فتقول له: (نعم) (¬2). بلى: مختصة بإبطال النفي، سواء كان خبرا ام استفهاما، فهي تنقض النفي على آية حال، فمن وقوعها بعد الخبر قولك (لم يزرك خالد) فتقول: (بلى) قال تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قلى بلى وربي لتبعثن} [التغابن: 7]، وقال: {ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون} [النحل: 28]. ومن وقوها بعد الاستفهام قوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172] وقوله: {ألم يأتكم نذير قالوا بلى} [الملك: 8، 9] (¬3). ومن هنا يتبين أن (بلى) لا تقع إلا بعد النفي. أجل: حرف جواب يقع بعد الخبر كثيرا، فيكون تصديقا له، نحو (زارك خالد) أو (لم يزرك خالد) فتقول: أجل. أي تصديق قوله إذا كان إثباتا أو نفيا. وذهب قوم من النحاة إلى أنها مختصة بالخبر، فلا تقع بعد الاستفهام، أو الأمر، أو غيرهما. وقيل: بل وقوعها بعد الخبر أكثر. وقيل: هي بعد الخبر أحسن من (نعم) و (نعم) بعد الاستفهام أحسن منها. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 312 (¬2) انظر المغنى 2/ 345، شرح الرضي على الكافة 2/ 422 - 423، المفصل 2/ 203 (¬3) المغنى 1/ 76، الهمع 2/ 71، المفصل 2/ 203

إن

وقيل: هي مثل نعم تكون تصدقا للخبر، ووعدا وإعلاما للمستخبر (¬1). والظاهر أن الكثير وقوعها بعد الخبر. إن: حرف جواب بمعنى (نعم) قال الشاعر: بكر العواذل في الصبا ... ح يلمنني وألومهنه ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت: إنه أي (نعم). وقال ابن الزبير لمن قال له: لعن الله ناقة حملتني إليك: " إن وراكبها" (أي نعم ولعن راكبها (¬2).) قال سيبويه: وأما قول العرب في الجواب (إنه) فهو بمنزلة أجل، وإذا وصلت قلت: إن يافتي وهي التي بمنزلة أجل (¬3). وهي قليلة الاستعمال. قال برجشتراسر: هي أقدم أدوات الإيجاب، وهي في العبرية hen وفي الآرامية en (¬4) . إي: بكسر الهمزة وسكون الياء، وهي مثل (نعم) غير أنها لا تقع إلا قبل القسم، فتكون تصديقا للمخبر، ووعدا للطالب، وإعلاما للمستفهم، يقال: قد زارك إبراهيم فتقول: إي والله. ¬

_ (¬1) انظر المفصل 2/ 203، شرح الرضي على الكافية 2/ 425، المغنى 1/ 20، الهمع 2/ 71، كليات أبي البقاء 364 (¬2) المغنى 1/ 76، الهمع 2/ 71، المفصل 2/ 203 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 474 (¬4) التطور النحوي 110

جلل

ويقال: زرنا كثيرا، فتقول: إي لعمري. ويقال: هل جاء محمد؟ فتقول: إي وربي قال تعالى: {ويسنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق} [يونس: 53]. فالفارق بينها وبين (نعم) إن (إي) لا تكون إلا قبل القسم، و (نعم) تكون مع القسم وغيره (¬1). قال برجشتراسر: و (إي) من الأصوات (¬2). جلل: حرف بمعنى نعم، واسم بمعنى عظيم، أو يسير (¬3). جير بفتح الجيم وكسر الراء، وقد تفتح قليلا، حرف إيجاب بمعنى: (أجل) و (نعم) وهو أكثر ما يستعمل مع القسم (¬4). وقيل هي كلمة تحلف بها العرب، فتقول: جبر لأفعلن (¬5). وجاء في (شرح الرضي على الكافية) أنها تقوم مقام الجملة القسمية (¬6). ويبدو أن فيها توكيدًا، ولذا قامت مقام جملة القسم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المغني 1/ 76، الهمع 2/ 71، / المفصل 2/ 203 (¬2) التطور النحوي 110 (¬3) المغني 1/ 120 (¬4) شرح ابن يعيش 8/ 124، المغنى 1/ 120 (¬5) الجمل للزجاجي 263 (¬6) شرح الرضي على الكافية 2/ 387

التعجب

التعجب التعجب له عبارات كثيرة في العربية غير منحصرة، والنحاة يقسمونه على قسمين: 1 - التعجب غير المبوب له عند النحاة، مثل قولهم (سبحان الله). وفي الحديث (سبحان الله المؤمن لا ينجس) و (لله دره) و (يلمه مسعر حرب) و {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28]، و (ما رأيت كاليوم رجلا) و (أي رجل هو؟ ) و (قاتله الله من شاعر) و (ناهيك به رجلا) وما إلى ذلك. وإنما لم يبوب له، لأن هذه التعبيرات لا تدل على التعجب وضعا، بل بالقرينة (¬1). 2 - التعجب المبوب له، وهو عند النحاة صيغتان: ما أفعله وأفعل به، وقد بوب لهما النحاة لأنهما يطردان في كل معنى يصح التعجب منه (¬2). فهاتان الصيغتان هما للتعجب وضعا، وأما غيرهما فهو في الأصل لغير التعجب ثم نقل إلى التعجب. والتعجب في الحقيقة له أكثر من هاتين الصيغتين المطردين، ويمكن أن نقسم عباراته على أقسام أشهرها: 1 - ما أفعله: وهو أن تأتي بـ (ما) التي تفيد التعجب، ثم بـ (أفعل) المفتوحة الآخر، وبعدها الاسم المتعجب منه منصوبا نحو (ما أعذب الماء) وكقوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} [البقرة: 175]، وقوله: {قتل الإنسان ما أكفره} [عبس: 17]. والنحاة يحللون (ما أفعل) هذا إلى أصول متعددة بعيدة في جملتها عن معنى التعجب ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 86، الهمع 2/ 62، شرح الرضي على الكافية 2/ 340 (¬2) شرح ابن الناظم 186

فأكثرهم يجعل (ما) اسما بمعنى (شيء) و (أفعل) فعلا ماضيا، والمتعجب منه مفعوله، وتقدير الكلام في (ما أحسن عبد الله) شيء أحسن عبد الله (¬1). أي شيء جعل عبد الله حسنا، ثم نقل إلى معنى التعجب، وانمحي معنى الجعل (¬2). وقال آخرون: أن (ما) موصولة، والجملة بعدها صلتها، والخبر محذوف، أي: الذين أحسن عبد الله موجود. وقال آخرون: (ما) استفهامية، وما بعدها خبرها (¬3). والأقرب إلى الصواب أن يقال: أن هذه عبارة تفيد التعجب، والتعجب معلوم، ثم أن التعجب انفعال قديم في نفس البشر، والأظهر أنه وضعت له صيغته ابتداء، لأن الإنسان محتاج إلى التعبير عنه قبل كثير من التعبيرات، ولا داعي للدخول في تحليلات تفسد المعنى والذوق. ولعل الذي ألجأهم إلى هذا هو الاعراب، فالنحاة يرون ضرورة أعراب كل تعبير، ولو الجأهم إلى مسخ التعبير وإفساده. ونحن نرى أنه لا داعي لاعراب كل تعبير، فهناك تعبيرات لا داعي لإعرابها، بل يكتفي بوصفها وهذا منها، أو يعرب على صورة أخرى ليس فيها مثل ها التمحل (¬4). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 37 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 341 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 341 (¬4) أمامنا أكثر من خيار في إعراب جملة التعجب هذه، من دون تأويل مفسد للمعنى، ومن هذه الخيارات: 1 - ما: أداة تعجب؛ أفعل: متعجب منه. زيدا: متعجب منه. 2 - ما: حرف تعجب، وقد قلنا بحرفيته لأن الأصل في المعاني عند النحاة أن يعبر عنها بالحروف كالاستفهام والخطاب، والتعجب عند النحاة معنى حقه أن يؤدي بالحرف وقد قلنا بالأصل تخلصا =

أفعل التعجب

أفعل التعجب: يصاغ أفعل التعجب من كل فعل ثلاثي، تام، مثبت، متصرف، مبني للمعلوم قابل للتفاوت ليس الوصف منه على أفعل نحو (ما أسرعه) و (ما أعدله) وإذا أريد التعجب بفعل لا يصح بناؤه على أفعل، فيؤتى بمصدر ذلك الفعل مسبوقا بـ (أشد) ونحوها فتقول متعجبا من حمرة الورد مثلا (ما أشد حمرة الورد) ومن انطلاق خالد (ما أسرع انطلاق خالد) وإذا كان الفعل مبنيا للمجهول، أو منفيا يؤتى بمصدره مؤولا نحو (ما أجمل أن يكافأ المخلص) (ما أقبح ألا أساعده). ولا شك أن الكلمة التي تسبق المصدر تحدد المقصود بتعجبك، فقولك مثلا (ما أشد حمرة الورد) يختلف عن قولك (ما أجمل) حمرة الورد يختلف عن قولك: (ما أجمل حمرة الورد) فالأولى تتعجب فيها من شدة الحمرة، والثانية تتعجب فيها من جمال حمرته، وكذلك قولك (ما أسرع انطلاقك) و (ما أكثر انطلاقك) و (ما أقل انطلاقك) _____ = مما قد يجره القول باسميتها من التأويلات البعيدة، أفعل: اسم منصوب متعجب به - وهذا الاسم إذا اتصل بياء المتكلم جيء بنون الوقاية معه فتقول مما افقرني شأن اسماء الافعال نحو قدني وقطني وعليكي ودراكني. زيدا - متعجب منه منصوب. 3 - ما - حرف تعجب. أفعل: فعل التعجب مبني على الفتح وهذا الفعل لا يحتاج إلى فاعل شأن أفعال الاستثناء، نحو جاء الرجال خلا واحدا، ولا داعي لتقدير فاعل لا يقتضيه المعنى، وقد قال بخلو أفعال الاستثناء هذه من الفاعل قسم من النحاة ينظر الهمع: 1/ 232 - 233، زيد: متعجب منه 4 - ما: اسم تعجب لا محل له من الاعراب، وهذا قال به الكسائي، ونظره من الأسماء أسماء الأفعال، وأل الموصلة وضمير الفصل عند قسم من البصريين وغير ذلك مما ليس له محل من الاعراب من الاسماء، افعل زيدا يختار فيهما اعراب مما ذكرناه.

التعجب من أمر ماض

فالتعجب في الأولى يكون من سرعة الانطلاق، وفي الثانية من كثرته، والأخرى من قلته، فهو ليس بمعنى واحد. من هذا يتبين أن ما سبق المصدر من فعل تعجب لا يؤدي المعنى المأخوذ من الفعل على صيغة (أفعل) يدلك على ذلك أنك قد تسبق الفعل القابل لأن يتعجب منه، بما يخصص تعجبك، فيمكنك مثلا أن تصوغ من الفعل (مشى) على وزن أفعل للتعجب فتقول (ما أمشاه) ويمكن أن تسبق المشي أيضا بفعل تعجب يخصص تعجبك من مشيه فتقول: ما أسرع مشيه وما أحسن مشيه وما أبطأ مشيه فيكون المشي متعجبا منه، يدلك على ذلك أيضا أن قولك (ما أعدله) لا يماثل في المعنى (ما أشد عدله)، وما أحسنه لا يماثل (ما أشد حسنه) و (ما أمشاه) لا يماثل: ما أشد مشيه. ومن هذا يتبين أنه لا يمكن أن تؤدي ايه صيغة ثانية، مؤدى بناء الفعل نفسه للتعجب. التعجب من أمر ماض: يؤتي بـ (كان) بين (ما) و (أفعل) للدلالة على ان الصفة المتعجب منها كانت في الماضي، نحو (ما كان أكرم خالدا) و (ما كان أعلمه بالناس). جاء في (الكتاب): " وتقول: (ما كان أحسن زيدًا) فتذكر (كان) لتدل أنه فيما مضى (¬1). وحكى (ما أصبح أبردها وما أمس أدفأها (¬2).) ودخول أصبح وأمسى يفيد تعيين وقت البرد والدفء كما كان دخول (كان) لتعيين الماضي. ما أفعلني له، وما أفعلني إليه تقول: (ما أبغضني إليه) و (ما أحب خالدًا لبكر) و (ما أحب خالدًا إلى بكر)، فتأتي باللام إذا كان المتعجب منه فاعلا، وتأتي بإلى إذا كان المتعجب منه مفعولا. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 37 (¬2) شرح ابن يعيش 7/ 150

2 - أفعل به

فمعنى (ما أبغضني له) أنك تبغضه، ومعنى (ما أبغضني إليه) أنه يبعضك. وتقول: (ما أحب خالدًا لعمرو) إذا كان خالد يحب عمرا، وتقول: (ما أحب خالد لى عمرو) إذا كان عمرو يحب خالدا. جاء في (الكتاب): " تقول (ما أبغضني له) و (ما أمقتني له) و (ما أشهاني لذلك) إنما تريد أنك ماقت، وأنه مبغوض، وأنك مشته، فإن عنيت غيرك قلت (ما أفعله) فإنما تعني به هذا المعنى، وتقول: ما أمقته وما أبغضه إلي، إنما تريد أنه مقيت، وأنه مبغض إليك، كما أنك تقول: ما أقبحه وإنما تريد أنه قبيح في عينك (¬1). فإن أفهم فعل التعجب علما أو جهلا تعلق بالباء، تقول: (ما أعلمه بالشعر) و (ما أعرفه بالفقه) و (ماأجهله بالانساب). والخلاصة أن فعل التعجب إذا كان يتعدى في الأصل إلى المفعول بنفسه، تعدى إليه الآن باللام، نحو (ما أبغض خالدًا لسالم) و (ما أضرب محمدًا لخالد) لأن الأصل أبغض خالد سالمًا، وضرب محمد خالدًا، فسالم مفعول به لأبغض، وخالد مفعول به لضرب فتعدي إليه الان باللام. وإذا كان الفعل يفهم علما أو جهلا تعدى إلى مفعوله بالباء نحو: ما أبصره بالفقه وما أجهله بالشعر. وإن لم يكن متعديا بنفسه بل بحرف جر، بقي ذلك الحرف نفسه، نحو: (ما أرغب خالدا في الخير) و (ما أعزه علي) و (ما أسرعه إلى العون) (¬2). 2 - أفعل به. الصيغة الثانية من صيغ التعجب (أفعل به) (افعل) بفتح الهمزة، وكسر العين، وسكون الآخر نحو (أكرم بمحمد) قال تعالى: {أسمع بهم وأبصر} [مريم: 38]. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 2/ 251 - 252 وانظر الهمع 2/ 91 (¬2) انظر الهمع 2/ 91، شرح الأشموني 3/ 25

ويصاغ هذا البناء، من كل فعل توفرت فيه الشروط المذكورة في البناء السابق. وقد حلل النحاة هذه العبارة كما فعلوا في (ما أفعله) فذهب أكثرهم إلى أن (أفعل) هذا فعل ماضي على صورة الأمر، والباء زائدة في الفاعل، فمعنى قولهم (أكرم بمحمد): أكرم محمد، أي: صار ذا كرم، وكأغد البعير أي: صار ذا غدة وأورقت الشجرة بمعنى صارت ذات ورق، ثم غيرت صيغة الماضي إلى صورة الأمر، فصارت (أكرم محمد) فقبح إسناد صيغة الأمر إلى الاسم الظاهر، فزيدت الباء في الفاعل (¬1). للدلالة على التعجب لأن الباء كثيرا ما تزاد مع المتعجب منه، نحو (كفى بالله شهيدًا)، و (ناهيك بخالد رجلا) وحسبك به شاعرًا. وذهب الفراء والزمخشري وابن خروف إلى أن أفعل ههنا فعل أمر حقيقة، وأنه أمر لكل واحد، بأن يصفه بالصفة المذكورة، فقولك (أكرم بمحمد) أمر لكل واحد، بأن يصف محمدًا بالكرم، والباء مزيدة في المفهوم، أو هي للتعدية داخلة على المفعول به. جاء في (المفصل): وعندي أن أسهل منه مأخذا أن يقال إنه أمر لكل أحد، بأن يجعل زيدا كريمًا، أي بأن يصفه بالكرم، والباء مزيدة مثلها في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]، للتأكيد والاختصاص، أو بأن يصيره ذا كرم والباء للتعدية، هذا أصله ثم جرى مجرى المثل، فلم يغير عن لفظ الواحد في قولك: يا رجلان أكرم بزيد، ويارجال أكرم بزيد (¬2). وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " فقال الفراء وتبعه الزمخشري وابن خروف أن (أحسن) أمر لكل أحد بأن يجعل زيدا حسنا، وإنما يجعله حسنا كذلك، بأن يصفه بالحسن، فكان قيل: صفة بالحسن كيف شئت، فإن فيه كل ما يمكن أن يكون في شخص" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر التصريح 2/ 88، شرح الرضي على الكافية 2/ 343، المفصل 2/ 169 - 170 (¬2) المفصل 2/ 169 - 170 (¬3) شرح الرضي على الكافية 2/ 344، وانظر التصريح 2/ 88

وقد رد هذا الرأي بوجوه أهمها: 1 - أنه لو كان أمرا للزم ضميره، فلا يقال بصورة واحدة للمفرد، والمثنى والجمع المذكر، والمؤنث. ورد هذا القول بأنه أجرى مجرى المثل، والأمثال لا تغير، ألا ترى أن (نعم) فعل ماض ولا تستند إلى ضمير رفع بارز، فلا يقال: نعمت، ولا نعموا، ولا نعمن، وكذلك (حبذا) فلا يقال: حبذي هند ولا حب أولاء؟ 2 - أنه لو كان أمرًا لم يكن الناطق به متعجبا كما لا يكون الآمر بالحلف ونحوه حالفا. وهذا مردود بأنه لا يقصد به حقيقة الأمر، وإنما حول إلى إنشاء التعجب، كما في ألفاظ العقود والقسم، فقولك (أقسم بالله) أصله خبر تقول: (هو يقسم بالله على أقل من ذلك وأنا لا أقسم على هذا) ثم يحول القصد إلى القسم، فيكون قسمًا حقيقة نحو: (أقسم بالله أنه مخلص)، وكذلك (بعت) و (أشتريت) ونحوهما من ألفاظ العقود. 3 - أنه لو كان مسندًا إلى ضمير المخاطب لم يله ضمير المخاطب، نحو (أحسن بك). وقد ذهب بعضهم إلى أن الضمير ليس للمخاطب، وإنما هو للمصدر المأخوذ من الفعل، ففي قولك (أحسن بك) الضمير المستتر للحسن المدلول عليه بأحسن، كأنه قيل: أحسن يا حسن بزيد أي دم به وألزمه. وقال آخرون: الضمير المستتر في (أفعل) للمخاطب المستدعي منه التعجب. وهذا أقوى مأخذ على هذا الرأي، إذ كيف يؤمر المخاطب بأن يصف نفسه بصفة ما بقصد التعجب؟ إلا إذا قيل أنه ليس المقصود منه أمر المخاطب حقيقة، بل هو تجوز فيقوله (أعدل بك) على معنى: صف نفسك بالعدل، كيف شئت فأنت عادل

وقد ذهب الزمخشري وجماعة كما ذكرنا، إلى أنه أمر لكل أحد، بأن بصفه بالصفة المتعجب منها، ولم يقولوا هو أمر للمخاطب، والأمر ليس مقصورًا على المخاطب، بل هو قد يكون للمتكلم، نحو (لأذهب إليه) والغائب، والغائبة، وغيرهم، قال {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} [الحشر: 18]. 4 - إنه لو كان أمرًا لوجب له من الإعلال ما وجب لأقم وابن (¬1). وهذا مردود بأنه لم يحصل فيه إعلال، لئلا يلتبس بالأمر الحقيقي، وقد أهملت العرب الاعلال في موطن عديدة منعا للبس، من ذلك اسم التفضيل نحو (أسير) و (ألوم) و (وأبين) والصفة المشبهة نحو (أسود) و (أبيض)، واسم الآلة نحو (مخيط) و (مرود). بل أن العرب تعل أحد الفعلين، ولا تعل الآخر، أمنا للبس نحو باض، وبيض، وساد وسود وعار وعور. ومن ذلك أهمالهم الاعلال في فعل التعجب (ما أفعله) نحو ما أسيره، وما أبينه. ولو أخذنا بهذا الاعتراض لقلنا ردا على هؤلاء، أنه لو كان الفعل في (ما أفعله) فعلا ماضيا، لحصل فيه إعلال كما في أقام، وأجاد وأبان. وقيل في تفسير هذه الصفة ايضا " أن قولك (أكرم بزيد) يفيد أن زيدًا بلغ ف الكرم إلى حيث كأنه في ذاته، صار كرما، حتى لو أردت جعل غيره كريما، فهو الذي يلصقك بمقصود: ، ويحصل لك غرضك كما أن من قال (اكتب بالقلم) فمعناه ان القلم هو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك (¬2). والذي يبدو ان هذه الصيغة أمر بالمشاركة في التعجب، فالفرق بين قولك (ما أحسن محمدا) و (أحسن بمحمد) أن الأولى تعجب انفرادي يقوله المرء متعجبا من حسن ¬

_ (¬1) انظر التصريح 2/ 88 - 89 الهمع 2/ 90، شرح ابن يعيش 7/ 148 (¬2) التفسير الكبير للرازي 21/ 221

3 - التعجب إلى صيغة (فعل)

محمد، وأما (أحسن بمحمد) فهو دعوة إلى التعجب من حسن محمد، فأنت تدعو غيرك ليشاركك في هذا التعجب، يدلك على ذلك تحويله إلى صورة الأمر، كما يقول الأولون أو هو أمر حقيقة، كما يقول الآخرون. والباء في المتعجب منه قد تكون زائدة جيء بها للدلالة على التعجب، فمعنى (أكرم بمحمد) (أكرم محمدًا) أي صفة بالكرم، ولزمت الباء للدلالة على معنى التعجب، لأن الباء كثيرا ما يؤتى بها للدلالة على التعجب، وقد تكون للالصاق فقولك (أحسن بمحمد) معناه ألصق الحسن بمحمد، مرادا منه التعجب. 3 - التعجب إلى صيغة (فَعُل). من صيغ التعجب ما حول من الأفعال إلى (فَعُل) بضم العين سواء كان مضموم العين أصلا كظرف، ولؤم أم محولا من ثلاثي مفتوح العين، أومكسورة، نحو فقه، وقضو، وعدل بشرط تضمينه معنى التعجب، فتقول: (قضو محمد) أي ما أقضاه و (عدل خالد) أي ما أعدله و (ظرف سعيد) أي ما أظرفه. وذلك أن الأصل في (فَعُل) أن يدل على الطبائع والسجايا، كقبح وحسن وقد يحول الفعل إلى هذه الصيغة لأغراض متعددة، منها الدلالة على التحول في الصفات، ومعناه أن الفعل أصبح سجية في صاحبه، أو كالسجية فيه، وذلك نحو فقه، وفقه تقول (فِقه محمد المسألة) إذا فهمها، وتقول (فقُه محمد) أي صار فقيها، بمعني أنه لكثرة ممارسته الفقه اصبح الفقه له سجية أو كالسجية، وتقول (خطب خالد) بفتح الطاء إذا ألقي خطبة، فإن قلت (خطب) بضم الطاء كان المعنى أنه صار خطيبا، أي تحولت الخطابة فيه إلى سجية، فلك أن تحول كل فعل ثلاثي إلى هذه الصيغة للدلالة على تمكن الوصف في صاحبه. ومنها الدلالة على التعجب، نحو (كرم الرجل سعيد) بمعنى (ما أكرمه) و (حسن) بمعنى (ما أحسنه) (¬1). قال تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} [الكهف: 5]. ¬

_ (¬1) انظر الهمع 2/ 88، شرح الرضي على الكافية 2/ 352، شرح ابن يعيش 7/ 129

جاء في (الكشاف) في هذه الآية: " وكلمة بالنصب على التمييز، والرفع على الفاعلية والنصب أقوى وأبلغ، وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أكبرها كلمة (¬1). وقد كثر انجرار فاعل هذا الفعل المحول إلى التعجب بالباء، لأن الباء تأتي كثيرا في التعجب، نحو (أكرم به) و (كفي به) و (حسبك به) فتقول: ظرف بمحمد، وقبح بخالد بمعنى ما أظرفه وما أقبحه. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " ولهذا كثر انجرار فاعل هذا الملحق بالباء وذلك لكونه بمعنى (أفعل به) نحو ظرف بزيد أي أظرف به (¬2). وجاء في (التصريح): " يجري (فعُل) المضموم العين في المدح. والذم مجري (فعل) الدال على التعجب، فلا يلزم فاعله ال أو الإضمار وهو الصحيح، وعلى هذا يجوز لك في فاعل (فعل) المذكور أن تأتي به اسما ظاهرا أو مجردًا من (أل)، وأن تجره بالباء الزائدة تشبيها بفاعل (أفعل) في التعجب، وأن تأتي به ضميرًا مطابقًا لما قبله، فالظاهر المجرد من أل نحو: (فهم زيد) حملا على: ما أفهم زيدًا، والمجرور بالباء، وهو الأكثر نحو: (حسن بزيد) حلا على أحسن بزيد، وسمع من العرب (مررت بأبيات جاد بهن أبياتا وجدن أبياتا) حكاه الكسائي بزيادة الباء في الفاعل، أولا وتجرده منها ثانيا، وأصل (جاد بهن أبياتا) جدن أبياتا من جاد الشيء، جودة إذا صار جيدًا. ومثال الضمير المطابق ما قبله: (الزيدان كرما رجلين) و (الزيدون كرموا رجالا) حملا على ما أكرمهما رجلين، وما أكرمهم رجالا" (¬3). ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 250، التفسير الكبير 21/ 18 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 352 - 353 (¬3) التصريح 2/ 98 - 99، وانظر حاشية الخضري 2/ 54

دخول الباء على المتعجب منه

دخول الباء على المتعجب منه: تدخل الباء على المتعجب منه كثيرا من ذلك دخولها دخولا لازمًا بعد صيغة (أفعل) فيقال (أكرِم بخالد)، ولولا هذه الباء لم يعرف أن المقصود به التعجب، فلو قيل: أكرم خالدًا لم يكن فيه معنى التعجب، فالباء عينت أن المقصود به التعجب. وتدخل كثيرا في صيغ اخرى من صيغ التعجب، فقد تدخل على فاعل (فعُل) المحول إلى التعجب نحو (حسن بخالد) و (كرم به) ودخولها على الفاعل في نحو هذا يدل على أن المقصود بالفعل التعجب، فإذا حذفت أحتمل الكلام التعجب وغيره. وتدخل في فاعل (كفي) فيفيد الفعل التعجب نصًا، نحو: {وكفى بالله وكيلا} [الأحزاب: 48] {كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا} [الإسراء: 14]، / أي ما أكفاها، ولو حذفت الباء لم يكن الفعل نصا في التعجب، فإذا قلت: (كفاك محمد) و (كفاك الماء) و (كفيك الأمر) لم يكن تعجبا، وكذا إذا قلت: (كفي الزمن واعظًا) لم يكن الفعل نصا في التعجب بل يحتمل التعجب وغيره، ونحوه قول الشاعر. كفي الشيب والإسلام للمرء ناهيا وهذا لا يكون في (كفى) وحدها، بل في غيرها أيضا، فيقال" نهاك بمحمد رجلا (¬1). على معنى التعجب. وقد تدخل هذه الباء في أساليب أخرى تفيد التعجب، نحو (ناهيك به رجلا) و (حسبك به رجلا) فإذا قلت (حسبك درهم) لم يكن فيه معنى التعجب، وكذا إذا زدت الباء في (حسب) فقلت (بحسبك درهم) فإنه ليس تعجبا، بل هي مزيدة للتوكيد ومنه الأثر (بحسب ابن آدم من الدنيا لقيمات يقمن صلبه) فإذا دخلت على الخبر كان الكلام تعجبا نصا نحو (حسبك بخالد شاعرًا). ¬

_ (¬1) انظر معاني القرآن للفراء 2/ 119 - 120

الفرق بين فعل وما أفعل وأفعل به

وقد تقول: قد يفيد الكلام التعجب بدونها، نحو (ناهيك محمد) و (حسبك خالد) فنقول: قد يكون ذلك ولكن الكلام عند ذاك ليس نصا في التعجب، بل هو متحتمل للتعجب وغيره، فإذا جئت بالباء كان للتعجب نصًا. الفرق بين فعل وما أفعل وأفعل به: تقول: ما أكرم خالدًا، وأكرم بخالد، وكرم خالد، وكرم بخالد، فما الفرق بين هذه التعبيرات؟ أما الفرق بين: ما أكرم خالدًا، وأكرم بخالد، فقد مر. وأما (كرم خالد) فيدل على التحول في الصفة، فالتعجب بـ (فعل) معناه أن الوصف تحول في صاحبه وتمكن منه إلى درجة يتعجب منها، فقولك (ما أحسن خالدًا) معناه أنك تتعجب من حسن خالد، وأما (حسن خالد) فمعناه أن خالدًا اتصف بالحسن، وتمكن منه الوصف إلى درجة يتعجب منها، ففي (فعُل) معنى التحول بخلاف (ما أفعل) فإن (ما أفعل) للتعجب من الأمر كما هو الآن من دون نظر إلى الماضي، أما (فعُل) فيفيد التحول إلى درجة التعجب، فالمتعجب بهذا الفعل ينظر إلى الأصل الذي بدأ منه الفعل ثم بلغ هذا المبلغ. تقول: (ما أكبر هذه الكلمة) تصفها بالكبر الآن، فإذا قلت (كبرت كلمة) كان معناها أن هذه الكلمة قيلت، فبلغت من الكبر درجة عظيمة يتعجب منها، قال تعالى: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم} [الكهف: 4، 5]، أي أن هذه الكلمة خرجت من أفواههم، واتسعت وأضلت خلقا كثيرين فتعجب من هذه الكلمة كيف بلغت هذا الكبر. ونحوه قولك: (ما أبشع هذه الفعلة) و (بشعت هذه الفعلة) فإن العبارة الأولى تصف الفعلة بالبشاعة الآن، وأما الثانية فإنها تفيد أن الفعلة أخذت بالبشاعة ازديادا حتى وصلت إلى حد فظيع يتعجب منه.

4 - التعجب بالنداء

فصيغة (ما أفعل) تصف الحال وصيغة (فعل) تصف تطور الحال وتحوله، يدلك على ذلك أن صيغة (فعُل) لا يزال فيها معنى الحدث، وأن الفعلية لم تنمح كما انمحت من صيغة (ما أفعل) وإن الفعل لا يزال يستند إلى فاعل مرفوع، وإنه تتصل به تاء التأنيث الساكنة، ويرفع الضمير مما يدل على أن الحدث لا يزال واضحا في هذا الفعل. وتفيد صيغة (فعل) أيضا التعجب على وجه الاستمرار والثبات، وذلك أن (فعُل) يدل على الثبوت أصلا أو تحويلا، فقولك (ما أحسن هذا المكان) يصف المكان بالحسن في وقت تعجبك، وأما (حسن هذا المكان) فإنه يفيد التعجب من هذا الحسن، فهي حسنة على وجه الدوام قال تعالى: في وصف الجنة: {حسنت مستقرا ومقامًا} [الفرقان: 76]. فهي حسنة على وجه الدوام، وقال يصف رفقة اهل الجنة: {وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69]، يصفهم بالحسن على وجه الدوام والاستمرار. أما إذا قلت (كبر بها كلمة) و (حسن به مقاما) كانت العبارة تنصيصا على معنى التعجب وتأكيدًا له، ولا يبعد فيما أرى أن يقال إن الباء تفيد الالصاق على معنى التصق الكبر بالكلمة فهو لا يفارقها، والتصق الحسن بالمقام، تقول (صبر بمحمد) ومعناه التصق الصبر بمحمد فهو لا يفارقه، وتقول في غير هذا الباب (كفي بالزمن واعظًا) أي التصقت الكفاية بالزمن، والله أعلم. 4 - التعجب بالنداء يتعجب بالنداء وذلك بإدخال لام جر مفتوحة على المتعجب منه، مسبوقة بحرف النداء (يا) نحو بالماء! ياللهول! يا للعجب! يالله! يالك شاعرًا! وقد تحذف اللام فيجاء بألف في آخر المتعجب منه، فيقال: يا عجبا يا هولا والتعجب بالنداء على وجهين: أحدهما: أن ترى أمرا عظيما فتتعجب منه بندائه، فتقول مثلا: يا للماء! إذا تعجبت من كثرته. وياللهول! إذا رأيت هولا عظيما فتتعجب من فظاعته.

جاء في (شرح ابن يعيش): " وأما دخول اللام للتعجب، فنحو قولهم: (يا للماء) كأنهم رأوا عجبا وماء كثيرا، فقالوا تعال يا عجب، ويا ماء، فإنه من أبانك ووقتك، وقالوا: (يا للدواهي) أي تعالين، فإنه لا يستنكر لكن لأنه من أحيانكن (¬1). والوجه الآخر أن ترى أمرًا تستعظمه، فتنادي من له نسبة إليه أو مكنة فيه، نحو يا للعلماء (¬2). وذلك كأن ترى جهازًا علميًا يبهرك فتنادي العلماء للاطلاع عليه، أو تناديهم متعجبا من عملهم وصنعهم، وكأن تسمع قصيدة تهزك فتقول يا للشعراء، متعجبًا من فعلهم أو تدعوهم لسماع هذا الشعر متعجبًا منه. والتعجب بالنداء قياس مطرد. فإذا حذفت اللام جئت بالألف في آخره نحو: يا عجبا! يا اسفا! والفرق بين هذه الصورة وما قبلها أن في الآخيرة مدا للصوت زيادة في التعجب وإظهاره، فإذا قلت (يا أسفا) كنت مادا صوتك بالأسف، بخلاف قولك (يا للاسف) وذلك نحو قوله تعالى: {يأسفى على يوسف} [يوسف: 84]، فإن فيه مد الصوت بالألف للدلالة على شدة الأسف وتمكنه من نفس قائله، ونحو قوله تعالى: {ياويلتي ليتني لم اتخذ فلانا خليلا} [الفرقان: 28]، فإنه أبلغ من (يا للويل) لما في مد الصوت بالويل من دلالة على فظاعة الويل، ومثله قوله تعالى: {ياويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي} [المائدة: 31]، وهذا أشبه شيء بالندبة وما فيها من مد للصوت، إظهارا للحسرة والتوجع نحو (واعمراه) (واكبداه) ويجوز التعجب بـ (وا) (¬3). نحو: (واأسفا) لما بينهما من الاقتراب. ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 1/ 131، وانظر كتاب سيبويه 1/ 320 (¬2) الهمع 1/ 180، التصريح 2/ 81 (¬3) المغني 1/ 106

ويبدو أن التعجب بزيادة الألف في الآخر أكثر ما يكون فيما كان فيه عاطفة قوية عميقة، فيمد الصوت إظهارا لذلك نحو: يا حسرتاه يا فرحتاه، قال تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 56]، وهذا مقام حسرة لا يعدلها حسرة، والله أعلم. وقد يخلو المتعجب منه من اللام والألف، نحو (يا عجب) (¬1). قال تعالى: {يا حسرة على العباد} [يس: 30]، وقال: {يا ويلنا هذا يوم الدين} [الصافات: 20]، وقال: {يا بشرى هذا غلام} [يوسف: 19]. وهذا تعجب بالنداء أي (يا للحسرة على العباد) ومعناه: أقبلي أيتها الحسرة، فهذا أوانك. جاء في (الكشاف): في قوله تعالى: {يا حسرة على العباد}: " نداء للحشرة عليهم كأنما قيل لها تعالى يا حسرة، فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل، والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون، ويتلهف على حالهم المتلهفون، أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين، ويجوز أن يكون من الله تعالى على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ومحنوها به، وفرط إنكاره له وتعجبه منه" (¬2). والتعجب بالنداء على هذه الصورة الأخيرة مستعمل في الدراجة كثيرا، نحو (يا روحي) (يا خسارة) (يا فضيحة) (يا عيوني) (يا فرحة ما دامت) (ياسلام) بمعنى يا للخسارة! يا للفضيحة، يا للفرحة التي لم تدم وهكذا، وهي تعبيرات عربية فصيحة مراد بها معنى التعجب ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 181 (¬2) الكشاف 2/ 586

5 - التعجب بتعبيرات معينة

5 - التعجب بتعبيرات معينة. قد يتعجب بتعبيرات معينة أشهرها: أ - التعجب بـ (كفى) وما بمعناها. ويكون ذلك إذا زيد على مرفوعها الباء، نحو (كفي بمحمد شاعرًا) و (كفي بالشيب واعظًا) أي يكفيك وعظ الشيب عن غيره، والمعنى: ما كافي الشيب واعظا، وما أكفي محمدًا شاعرًا. وذهب الزجاج إلى أن الباء زيدت في فاعل (كفى) لتضمنه معنى (اكتف) (¬1). وهو قريب من معنى التعجب. قال ابن هشام: " لا تزاد الباء في فاعل كفى التي بمعنى أجزأ، وأغني ولا التي بمعنى (وقي) والأولى متعدية لواحد كقوله: قيل منك يكفني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل والثانية متعدية لاثنين، كقوله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب: 25، ] .. ووقع في شعر المتنبي زيادة الباء في فاعل (كفى) المتعدية لواحد قال: كفى ثعلا فخرا بأنك منهم ... ودهر لأن أمسيت من أهله أهل ولم أر من انتقد عليه ذلك، فهذا أما لسهو عن شرط الزيادة، أو لجعلهم هذه الزيادة من قبيل الضرورة" (¬2). وقد تزاد في مفعول (كفى) المتعدية لواحد، دالة على التعجب أيضا، ومنه الحديث (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع) وقوله: ¬

_ (¬1) المغني 1/ 106 (¬2) المغني 1/ 107

ب - التعجب بـ (أي) الكمالية

فكفى بنا فضلا على ما غيرنا ... حب النبي محمد إيانا (¬1). ومثل (كفى) ما هو في معناها نحو (حسبك بمحمد رجلا) و (ناهيك بخالد عالما) و (نهاك بسالم معينا) وهي قريبة المعنى من (كفى). ب - التعجب بـ (أي) الكمالية وذلك نحو (مررت برجل أي رجل) و (بشاعر أي شاعر) و (بخالد أي رجل) فيؤتى بـ (أي) للدلالة على وصف الشيء بالكمال في معنى من المعاني، والتعجب من حاله، وأي الكمالية لا تضاف إلا إلى نكرة، وتقع وصفا لنكرة وحالا من معرفة (¬2). قال سيبويه: " ومن النعت أيضا مررت برجل، أيما رجل، فـ (أيما) نعت للرجل في كماله وبذه غيره كأنه قال: مررت برجل كامل" (¬3). ويبدو أن أصلها الاستفهام. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " والذي يقوي عندي أن (أي رجل) لا يدل بالوضع على معنى في متبوعه بل هو منقول عن (اي) الاستفهامية، وذلك أن الاستفهامية موضوعة للسؤال عن التعيين، وذلك لا يكون إلا عند جهالة المسؤول عنه، فاستعيرت لوصف الشيء بالكمال، في معنى من المعاني والتعجب في حاله، والجامع بينهما أن الكامل البالغ غاية في الكمال، حيث يتعجب منه، يكون مجهول الحال، بحيث يحتاج إلى السؤال عنه (¬4). ج - التعجب بادخال (ربّ) على الضمير من أساليب التعجب إدخال (ربّ) على ضمير الغائب، وتفسيره بتمييز، ¬

_ (¬1) المغني 1/ 109 (¬2) انظر شرح ابن عقيل 1/ 12 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 210 (¬4) شرح الرضي على الكافية 1/ 332

د - لله دره

نحو (ربه رجلا لقيت) و (ربه امرأة لقيت) والمعنى لقيت رجلا أي رجل، أي لقيت رجلا عظيما، وهذا الضمير يكون مفردًا، مذكرًا، مفسرًا بتمييز مطابق للمعنى، فنقول: ربه رجلا، وربه امرأة، وربه رجالا وربه نساء، وهذا" يفعلونه عند إرادة تعظيم الأمر، وتفخيمه فيكنون عن الاسم قبل جري ذكره ثم يفسرونه بظاهر بعد البيان" (¬1). د - لله دره وهي عبارة استعملت في التعجب، نحو (لله دره فارسًا) و (لله دره شاعرًا) ومعنى (الدر) اللبن، ومعنى الجملة في الأصل: لله لبنه، أي أن الله سقاه لبنا خاصا، فأصبح فارسا بطلا أو شاعرا مجيدًا، ثم ضمن معنى التعجب، فأصبح يستعمل في التعجب وقريب من هذا قولهم: (لله أبوه) و (لله أنت). هـ - التعجب بلام القسم لا تأتي لام القسم إذا إذا أريد بها التعجب (¬2)، وهي لا تدخل إلا على لفظ (الله) نحو (لله لا يؤخر الأجل) وهي مختصة بالأمور العظام (¬3). وقد مر بنا ذكرها في باب القسم. و- تعبيرات غير منحصرة تستعمل في التعجب. وهناك تعبيرت غير منحصرة تستعمل في التعجب، وذلك كأن يخرج الاستفهام إلى التعجب، نحو: {أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا} [هود: 72]، ونحو (سبحان الخالق المبدع) إذا تعجبت من صورة جميلة و (لا إله إلا الله) و (قاتله الله من رجل) و (العظمة لله) وما إلى ذلك. وهي تعبيرات غير منحصرة، وإنما تكو بكل ما يؤدي معنى التعجب. ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 28 (¬2) انظر كتاب سيبويه 2/ 144 (¬3) انظر شرح الرضي على الكافية 2/ 365

المدح والذم

المدح والذم أستعمل العرب للمدح والذم (نعم وبئس) وما حول إلى معناهما من الأفعال، فتقول: (نعم الرجل محمود) و (بئس الرجل سالم). و (نعم) و (بئس) فعلان ولهما استعمالان: أحدهما ان يستعملا فعلين متصرفين، مثل سائر الأفعال فيكون لهما فعل مضارع وأمر واسم فاعل، وغيرها، وهما إذ ذاك للأخبار بالنعمة والبؤس (¬1). تقول: (نعم الرجل بمعيشته) - بكر العين - ينعم فهو ناعم، قال تعالى: {وجوه يومئذ ناعمة} [الغاشية: 8]. وبئس بها - بكسر العين، يبأس فهو بائس قال تعالى: {وأطعموا البائس الفقير} [الحج: 28]. والاستعمال الثاني أن يستعملا لانشاء المدح والذم، وهما في هذا الاستعمال جامدان، لا يتصرفان. وهذا القسم الثاني هو مدار بحثنا. تستعمل نعم وبئس للمدح العام، والذم العام، تقول (نعم الرجل محمد) و (بئس الرجل سعيد) فتكون قد مدحت محمد مدحا عامًا، وذممت سعيدًا ذما عامًا، ولم يذكر خصلة معينة من خصال المدح والذم. قال سيبويه: " وأصل نعم وبئس، نعم وبئس، وهما الأصلان اللذان وضعا في الرداءة والصلاح، ولا يكون منهما فعل لغير هذا المعنى (¬2). ¬

_ (¬1) حاشية الصبان 3/ 26، وانظر التصريح 2/ 94، كتاب سيبويه 1/ 301 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 301 - 302، وانظر شرح ابن الناظم 193

استعمالهما في المدح والدم

وقد تذكر خصلة معينة من خصال المدح والذم، إذا أردت ذلك، فتقول مثلا (نعم خطيب القوم أحمد) و (نعم شاعرًا حسان) (¬1). استعمالهما في المدح والدم لك أن تستعمل (نعم) و (بئس) في المدح والذم بعدة طرائق: 1 - أن تأتي بالفعل ثم الفاعل، ثم المخصوص بالمدح والذم، فتقول مثلا: (نعم العبد سلمان) و (نعم الصديق الكتاب) و (بئس الخلق الكذب) 2 - أن تأتي بالمخصوص بالمدح والذم، أولا ثم تأتي بعده بالفعل والفاعل، فتقول: (محمد نعم الرجل) و (الخيانة بئس الخلق). 3 - أن تأتي بالفعل وتضمر الفاعل، وتأتي بتمييز يفسر الفاعل، ثم تأتي بالمخصوص فتقول: (نعم رجلا محمد). 4 - أن تبدأ بالمخصوص ثم الفعل، ثم التمييز، فتقول: (محمد نعم رجلا). 5 - إذا كان في الكلام ما يدل على المخصوص بالمدح والذم، جاز لك أن تستغني عن ذكره وذلك كقوله تعالى: {واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} [الحج: 78]، أي الله، وكقوله تعالى: {والأرض فرشناها فنعم الماهدون} [الذاريات: 48]، أي نحن (¬2). ولايجوز الاكتفاء بالفعل وفاعله، من دون ذكر مخصوص أو إشارة إليه فليس لك أن تقول: (نعم الرجل) ولا (بئس الفاكهة). ¬

_ (¬1) انظر حاشية الصبان 3/ 27 - 28، وشرح ابن يعيش 7/ 130 (¬2) شرح ابن يعيش 7/ 135

عناصر الأسلوب في المدح والذم

فعناصر الأسلوب في المدح والذم هي: 1 - فل المدح والذم. 2 - الفاعل. 3 - المخصوص بالمدح والذم. وبهذا يختلف فعل المدح والذم عن سائر الأفعال، فإن الأفعال قد تكتفي بمرفوعها وهذه لا تكتفي به، بل لابد من تعيين ممدوح أو مذموم. عناصر أسلوب المدح والذم 1 - الفعل. ذكرنا أن الأصل أفعال المدح والذم هما (نعم) و (بئس) فـ (نعم) للمدح العام، ويجوز تحويل كل فعل من الأفعال الثلاثية مستوفية لشروط التعجب إلى (فعل) بقصد المدح سواء كان مضموم العين أصالة كـ (شرف) و (لؤم) أم تحويلا كـ (فهم) و (قضو) بمعنى أجاد القضاء كما مر في باب التعجب، فيستعمل أستعمال (نعم) و (بئس) فيقال: (خبث الرجل سالم) و (كرم الرجل سعيد) فيكون بعد تحويله جامدًا، بعد أن كان متصرفا ولازما إن كان قبل تحويله متعديا، ومن ذلك ساء المستعمل في الذم، نحو قوله تعالى: {فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين} [الصافات: 177]، وقوله: {ألا ساء ما يزرون} [الأنعام: 31]، فأصله (ساء يسوء) وهو فعل متصرف متعد، تقول: (ساءني هذا الأمر) و (يسوؤني ما تفعل) ثم حول إلى (فعُلَ) بقصد الذم فأصبح لازمًا جامدًا. جاء في (الهمع): وألحق بهما: أي: بـ (نعم) في المدح، و (بئس) في الذم عملا فعل بضم العين، وضعا كلؤم، أو شرف، أو مصوغا محولا من ثلاثي مفتوح أو مكسور كعقل ونجس (¬1). ¬

_ (¬1) الهمع 2/ 87، وانظر شرح ابن يعيش 7/ 129

2 - فاعل نعم وبئس

" ومن أمثلته (ساء) .. فإنه في الأصل (سوَأ) بالفتح من السوء ضد السرور، من (ساءه الأمر يسوؤه) إذا أحزنه فهو متعد متصرف، فحول إلى (فعُل) بالضم فصار قاصرًا، ثم ضمن معنى (بئس) فصار جامدًا قاصرًا محكومًا له، ولفاعله با ذكرنا في بئس (¬1). وهذا الأفعال تكون للمدح الخاص، أو للذم الخاص بخلاف (نعم) و (بئس) فإنهما للمدح العام، والذم العام فإذا قلت مثلا: (كرم الرجل سعيد) كنت مدحته بالكرم، وإذا قلت: (شرف) كنت مدحته بالشرف، وإذا قلت: (لؤم) كنت ذممته باللؤم، وإذا قلت (بخُل) كنت ذممته بالبخل (¬2). 2 - فاعل نعم وبئس. يكون فاعل نعم وبئس على ضربين: الضرب الأول: أن يكون اسما ظاهرا معرفا بـ (ال) أو مضافا إلى معرف بـ (أل) فمن الأول قوله (نعم الأدام الخل) وقوله تعالى: {نعم المولى ونعم النصير} [الأنفال: 40]، ومن الثاني قوله تعالى: {فنعم عقبى الدار} [الرعد: 24]، وما ورد بغير هاتين الصورتين قليل. واختلف في (أل) هذه، فقال الجمهور هي للجنس، واختلف القائلون بذلك على رأيين: أحدهما أنها للجنس حقيقة فإذا قلت (نعم الرجل خالد) كان الجنس كله ممدوحا، ثم خصصت خالدا بالذكر، فتكون قد مدحته مرتين، مرة مع عموم الجنس، ومرة أفردته بالذكر وحده. ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 98 (¬2) انظر حاشية الخضري 2/ 45

جاء في (كتاب سيبويه): " إذا قلت (عبد الله نعم الرجل) فإنما تريد أن تجعله من أمة كلهم صالح، ولم ترد أن تعرف شيئا بعينه بالصلاح بعد نعم (¬1). الثاني: أنها للجنس مجازا، وذلك لأنك لم تقصد إلا مدح معين، ولكنك جعلته جميع الجنس مبالغة، فقولك (نعم الرجل خالد) معناه أن خالدًا هو الجنس كله، أي هو المتصف بصفات الرجولة الكاملة، أو اجتمع فيه ما تفرق في غيره من صفات الرجولة. وقال آخرون: هي للعهد، واختلف هؤلاء على قولين. الأول: كونها للعهد الذهني، أي تشير بها إلى شيئ معهود في الذهن، كما تقول: (دخلت السوق) فأنت لا تقصد به الجنس، كما لا تقصد به سوقا معينا تقدم ذكره، ونحو قولك (اشتريت اللحم) وكذلك قولك (نعم الرجل خالد) فـ (الرجل) معهود ذهني، ولا يقصد به شخص تقدم ذكره. والقول الآخر أنها للعهد الشخصي، والمعهود هو الشخص الممدوح أو المذموم، فإذا قلت (نعم الرجل محمد) فكأنك قلت: (نعم هو) (¬2). الذي يبدو أن القول بأن (أل) تفيد الجنس أرجح، وذلك أنك تقول (نعم الفاكهة التفاح) فـ (الفاكهة) جنس عام، و (التفاح) خاص منه. وتقول: (نعم الأدام الخل)، فالأدام عام (والخل) خاص، و (نعم الشراب الماء) فـ (الشراب) جنس عام، و (الماء) قسم منه، وخصه من بينه بالمدح فـ (أل) ههنا جنسية كما هو واضح. ومما يدل على أن (أل) للجنس لا للعهد، أنك لا تمدح الشيء بـ (نعم) إذا لم يكن معه فرد من جنسه، فلا تقول مثلا (نعم مؤلف المفصل الزمخشري) ولا (نعم مؤلف لسان العرب ابن منظور) ولا (نعم الخارج من الجنة آدم)، ولا (نعم أبو البشر آدم). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 301، وانظر شرح ابن عقيل 2/ 42 (¬2) انظر التصريح 2/ 95، الهمع 2/ 85

لأن مؤلف المفصل واحد هو الزمخشري، ومؤلف لسان العرب واحد هو ابن منظور، لكن يصح أن تقول: (نعم المؤلف الزمخشري) لأن المؤلف جنس، ولا يصح كذلك أن تقول: (نعم الخليفة بعد أبي بكر عمر) لأن الخليفة بعد أبي بكر واحد، ولكنك تقول (نعم الخليفة عمر، ولا تقول: (نعم الرشيد هرون) ولا (نعم الجاحظ عمرو بن بحر) ولا (نعم المبرد محمد بن يزيد) ألا إذا قصدت الوصف، وكان المقصود بالرشيد من اتصف بالرشد، والمقصود بالجاحظ من اتصف الجحظ، عمومًا وبالمبرد من اتصف بالتبريد. ثم ألا ترى أنك لا تقول (نعم الهلال هذا) ولا (نعمت الشمس هذه) لأن ليس هناك جنس تخصه من بينها، إلا إذا أردت مدح حال من أحوالها كأن تكون الشمس مشرقة، أو دافئة ونحو ذلك. فاتضح بهذا أن فاعل (نعم)، و (بئس) جنس، و (آل) فيه جنسية، وأما المخصوص بالمدح والذم فقد يكون فرعا من هذا الجنس، وقد يكون فردًا تقول: (بئس الحيوان الذئب)، فأنت ذممت جنس الذئب من بين جنس الحيوان، فـ (الحيوان) عام، و (الذئب) خاص منه، وتقول (بئس الرجال عبيد الشهوات) فـ (الرجال) جنس عام، و (عبيد الشهوات) جزء منهم، وتقول (نعم العبد خالد) فـ (العبد) عام و (خالد) واحد من هذا الجنس. فتبين من هذا أن الفاعل أعم من المخصوص دائما وليس العكس فلا تقول (نعم الماء الشراء) ولا (بئس الذئب الحيوان). وليس المقصود من هذا التعبير أنك تمدح الجنس كله، ثم تخص فردا أو قسما منه بالذكر فتكون قد مدحته مرتين، ولا المقصود اجتماع خصال الجنس في الممدوح، فيكون هو الجنس مبالغة، وإنما المقصود تخصيص شيء من بين الجنس بالمدح، فقولك (نعم الشراب الماء) ليس المقصود منه أنك تمدح الشراب كله، ثم تخص الماء منه بالذكر فتكون قد مدحته مرتين، وإنما المقصود أن تمدح الماء من بين الشراب، وكذلك قولك (نعم الرجل خالد) فليس المقصود منه مدح الجنس كله وتخصيص خالد بالذكر

ولا المقصود اجتماع خصال الجنس فيه وإنما المقصود تخصيص خالد بالمدلح من بين أفراد الجنس، ولو كان المعنى على ما قاله الأولون لتناقض القولان (نعم الرجل محمد) و (بئس الرجل خالد) فإنك في الأولى مدحت جنس الرجال كله، ثم خصصت محمدًا منهم بالذكر، وفي الثانية ذممت الرجال كلهم وخصصت خالدا منهم بالذم فتكون قد مدحت الجنس مرة، وذممته مرة أخرى، ونحوه قولك: (نعمت التفاحة هذه) و (بئس التفاحة هذه) فمرة تكون مدحت الجنس كله، ومرة تكون ذممت الجنس كله، ومثله (نعن الخلق الصدق) و (بئس الخلق الكذب) فتكون مرة مدحت الخلق ومرة ذممته. ثم أنك على هذا تدخل في المدح مالا خير فيه من الجنس، وتدخل في الذم مالا سوء فيه فيدخل في قولك (بئس الرجال خالد) ذم الأنبياء والرسل، ويدخل في قولك (نعم الشراب الماء) و (نعم الطعام اللحم) مدح الغسلين، والغساق والزقوم، وما شاكله من طعام أهل النار، وشرابهم مما ليس فيه شيء يمدح. فهذا التفسير غير صحيح فيما أحسب، وكذلك التفسير الثاني وهو اجتماع خصال الجنس في شيء واحد، فهذا لا يصح أيضا، ألا ترى أنه في قولك: (بئس الخلق الظن) لا يصح أن يقال اجتمع في الظن كل الخلق، السيء، وإنما المقصود كما ذكرت أنك تمدح شيئا تخصه من بين جنسه أو تذمه. والضرب الثاني من فاعل نعم أن يكون ضميرا مستترا، مفسرا بتمييز مطابق للمعنى، نحو (نعم رجلا خالد) و (نعم رجالا أنتم) قال تعالى: {بئس للظالمين بدلا} [الكهف: 50]، ولا يجوز أن يكون المرفوع فاعلا لـ (نعم)، إذ لو كان كذلك ما صح أن يقال (نعم رجلا أنت) بل لاتصل بالفعل، لأنه لا يصح أن يقال (طاب نفسا أنت) بل يقال (طبت نفسا) ولأن المرفوع يدخل عليه الناسخ نحو (نعم رجلا كان محمد) (¬1). ولو كان فاعلا لم يدخل عليه ناسخ، وتقدير الكلام (نعم الرجل رجلا أنت) ولا يجتمع الفاعل والتمييز معا وقد اجتمعا قليلا ومن ذلك قوله: ¬

_ (¬1) شرح الأشموني 3/ 33

نعما وبئسما

نعم الفتاة فتاة هند لو بذلت ... رد التحية نطقا أو بإيماء ومن النثر ماحكي من كلامهم (نعم القتيل قتيلا، أصلح بين بكر وتغلب) (¬1). ويدل إضمار الفاعل وتفسيره بالتمييز على أن الفعل خرج من الخبر إلى معنى آخر، كالتعجب أو إنشاء المدح والذم، تقول (حسن شعرًا قاله محمد) و (فشلت خطة وضعها سالم) فهذا يفيد التعجب، بمعنى (ما أحسن شعرًا قاله محمد) و (ما أفشل خطة وضعها سالم) أو يفيد إنشاء المدح والذم، ولا يفيد الأخبار بحسن الشعر، وفشل الخطة ولو صرحت بالفاعل بدل التمييز، فقلت (حسن شعر قاله محمد) و (فشلت خطة وضعها سالم) لاحتمل أن يكون إخبارا بذلك، أي يكون إخبارا بأن شعرًا قاله محمد قد حسن، وإن خطه وضعها سالم قد فشلت واحتمل المعنى الأول أيضا. فالتمييز الذي يفسر الفاعل، ينقل الفعل من دلالة الأخبار، إلى دلالة الإنشاء. وقد مر شيء من هذا في باب الفاعل. نعما وبئسما: تتصل بـ (نعم) و (بئس) (ما) فيقال: (نعم ما) و (بئس ما) وقد تدغم ميم (نعم) في ميم (ما) فيقال: (نعما) قال الله تعالى: {إن الله نعما يعظكم به} [النساء: 58]، وقال: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} [البقرة: 90]، وقال: {بئسما يأمركم به إيمانكم} [البقرة: 93]. واختلف في (ما) هذه على قولين: الأول: أنها تمييز بمعنى (شيء)، فقوله تعالى: {إن الله نعما يعظكم به} معناه: نعم شيئا يعظكم به. ¬

_ (¬1) انظر التصريح 2/ 95، شرح الأشموني 3/ 43

3 - المخصوص بالمدح والذم

والآخر أنها فاعل، وهي اسم موصول، أو معرفة تامة بمعنى الشيء، أي: نعم الشيء يعظكم به. وعلى آية حال فإن (ما) كلمة مبهمة يؤتى بها لأغراض متعددة فقد يكون الغرض من الاتيان بها الابهام على السامع، نحو أن تقول: (بئسما فعلت) فلا تذكر ما فعل، لأنك لا تريد أن يعلم أحد بما فعل عدا المخاطب. أو قد يكون الأمر معلومًا، فلا تريد أن تعيد ذكره فتكتفي بالإشارة إليه. أو قد يكون ذكره يتطلب كلاما كثيرا، فلا تريد أن تطيل الكلام به، بل توجز القول بوضح كلمة (ما) وذلك نحو قوله تعالى: {إن الله نعما يعظكم به} [النساء: 58]، ولم يعد الوعظ ليجعله فاعلا لـ (نعم)، بل جاء بـ (ما) للدلالة على أن كل ما يعظ به ربنا ممدوح. 3 - المخصوص بالمدح والذم. يؤتى بالمخصوص بالمدح والذم مرفوعا بعد الفعل، وفاعله، أو بعد التمييز إن وجد فيقال: (نعم الرجل خالد) و (نعم رجلا خالد) وقد يؤتى به مقدمًا على الفعل فتقول: (خالد نعم الرجل)، وقد يحذف للدلالة عليه كقوله تعالى: {حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173]، أي، هو وقوله: {ولقد نادينا نوح فلنعم المجيبون} [الصافات: 75]، أي: نحن. وقد اختلف في إعراب المخصوص بالدح والذم، على ثلاثة أوجه. 1 - أنه مبتدأ خبره ما قبله. 2 - أنه خبر لمبتدأ محذوف وجوبا، تقديره (هو) أي الممدوح أو المذموم. 3 - أنه بدل من الفاعل (¬1). ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 7/ 134، شرح الأشموني 3/ 37

حبذا

والراجح الأول، لأنه لا يختلف إعرابه تقدم أو تأخر، فإذا قلت (نعم الرجل محمد) أو (محمد نعم الرجل) كان إعرابه واحدًا. ولأنه تدخل عليه النواسخ مقدمًا ومؤخرا، فتقول: (نعم الرجل كان محمد) و (كان محمد نعم الرجل) فـ (محمد) اسم (كان) و (نعم الرجل) خبرها تقدم أو تأخر، واسم كان مبتدأ في الأصل فدل ذلك على أن المخصوص مبتدأ، ولو كان المخصوص خبرا لانتصب بـ (كان) بل لم تدخل عليه (كان) لأنها لا تدخل على المبتدأ اللازم الحذف (¬1). وتقول: (نعم الرجل ظننتك) و (ظننتك نعم الرجل) قال (¬2). يمينا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم وأصل الكلام (لنعم السيدان أنتما) ثم أدخل عليه الفعل الناسخ (وجد) مبنيا للمجهول فارتفع الضمير على انه نائب فاعل، وهذا يدل على أن الضمير كان مبتدأ، وذلك أنك تقول (ظننت محمدًا قادمًا) فـ (محمد) في الأصل مبتدأ، فإذا بنيته للمجهول جعلت المفعول الأول نائب فاعل، وأبقيت الفعول الثاني منصوبا، فتقول (ظن محمد قادمًا) فدل ذلك على أن الضمير في البيت، وهو المخصوص كان في الأصل مبتدأ. وبذلك يرد قول من قال إنه بدل، فلو كان بدلا لم تدخل عليه النواسخ، ثم أنه " لازم وليس البدل بلازم" (¬3). حبذا من أفعال المدح (حبذا) تقول: (حبذا خالد) وهذه الكلمة مركبة من (حب) و (ذا) و (حب) فعل متصرف في الأصل، تقول (حبه يحبه حبا)، وتقول: (حب إلي هذا الشيء حبا وحببه إلي جعلني أحبه) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر التصريح 1/ 183 - 184 (¬2) شرح الرضي على الكافية 2/ 348، الهمع 2/ 87 (¬3) شرح الأشموني 3/ 37 (¬4) القاموس المحيط / حب، 1/ 50

وحبذا الأمر أي هو حبيب (¬1). جاء في (الهمع): " أن (حبذا) "كنعم في العمل وفي المعنى، مع زيادة أن الممدوح بها محبوب للقلب، و (حبذا) وأصله حبب بالضم أي صار حبيبا لا من حبب بالفتح ثم أدغم فصار حب" (¬2). وجاء في (شرح ابن يعيش) " اعلم أن (حبذا) تقارب في المعنى (نعم) لأنها للمدح كما أن نعم كذلك، إلا أن حبذا تفضلها بأن فيها تقريبا للمذكور من القلب، وليس كذلك نعم .. و (حب) فعل متصرف لقوله منه: حبه حبه .. ولما نقل إلى فُعل لأجل المدح والمبالغة كما قالوا، قضوا الرجل ورمو إذا أحذق القضاء، وأجاد الرمي منع التصرف لمضارعته بما فيه من المبالغة والمدح باب التعجب و (نعم) و (بئس) و (حبذا) لزم طريقة واحدة وهو لفظ الماضي وفاعله (ذا) وهو من أسماء الإشارة (¬3). وإما (ذا) فهو إسم إشارة، قيل جيء به ليدل على الحضور في القلب (¬4). وقيل خلع منه الإشارة لغرض الإبهام فـ (حبذا) بمعنى: حب الشيء وقيل: (ذا) زائدة (¬5). وقيل غير ذلك. و(ذا) هذا لا يتصرف ولا يتغير، بل هو بلفظ الأفراد والتذكير، أيا كان المخصوص فتقول: (حبذا أحمد)، و (حبذا عائشة) و (حبذا الرجلان القادمان) و (حبذا الرجال القادمون) وقد تركبت هاتان اللفظتان، فأصبحتا لفظة واحدة. تفيد المدح، وتدل على أن الممدوح قريب من القلب، فإذا أردت الذم قلت: (لا حبذا). ¬

_ (¬1) القاموس المحيط 1/ 50 (¬2) الهمع 2/ 88 (¬3) شرح ابن يعيش 7/ 138 - 139 (¬4) شرح الأشموني 3/ 40 (¬5) شرح الرضي على الكافية 2/ 353

المخصوص بالمدح

إن طريقة التعبير بهذه اللفظة محددة، ليس لك العدول عنها، فلابد أن تأتي بالفعل (حب) فـ (إذا) ثم المخصوص، وليس لك أن تفصل بين حب وذا، فلا تقول: حب اليوم ذا خالد، وليس لك أن تقدم المخصوص، فلا تقول (خالد حبذا) وليس لك أن تؤنث الفعل أو تثنية أو تجمعه، كما أنه ليس لك أن تغير (ذا) فلا تؤنثه ولا تثنيه، ولا تجمعه فهو أشبه شيء بالمثل كما يقول النحاة (¬1). إن هذه اللفظة لفظة مركبة فقد فيها كل من عصري التركيب خصائصه، فليس في (حب) خصائص الفعل، ولا في (ذا) خصائص اسم الإشارة وذلك أنه: 1 - لا يجوز تأنيث (حب) إذا كان المخصوص مؤنثا، فلا تقول: حبت ذي هند. 2 - تدخل عليه (لا) النافية إذا أردت الذم فتقول (لا حبذا) و (لا) النافية لا تدخل على الفعل الماضي، إلا إذا تكرر أو أريد به الدعاء، ولا تدخل على فعل جامد، وهذا فعل ماض جامد ومع ذلك قد دخلت عليه (لا). 3 - إن اسم الإشارة (ذا) لا يتغير بتغير المخصوص، فلا يؤنث، ولا يثني، ولا يجمع. 4 - لا يفصل بين الفعل و (ذا). من هذا يتبين أن (حب) و (ذا) كلمتان تركبتا لإفادة المدح، ويؤتى بالمخصوص بعدهما. المخصوص بالمدح: يؤتى بالمخصوص بعد حبذا نحو قوله: يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 302

ولا يجوز أن يتقدم المخصوص على الفعل، فلا تقول (محمد حبذا) كما لا يجوز أن يدخل عليه فعل ناسخ، فلا تقول (بحذا كان محمد) كما يقال؛ (نعم الرجل كان محمد) (¬1). وقد يستغني عنه إذا دل عليه دليل نحو قوله: ألا حبذا لولا الحياء وربما ... منحت الهوى من ليس بالمقارب وقوله: فحبذا ربا وحب دينا ويجوز أن يقع اسم الإشارة فيقال: (حبذا هذا القادم) و (حبذا هذا المسافر). قال: فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل وقال: ألا حبذا يا عز ذاك التساتر ((¬2). وهذا يدل على أن (ذا) خلع عنها معنى الإشارة، إذا لو كانت باقية على معنى الإشارة لكان التعبير ضعيفا سمجا. وقد يؤتى قب المخصوص، أو بعده، باسم نكرة منصوب مطابق له في المعنى نحو: (حبذا رجلين الخالدان) و (حبذا الخالدان رجلين)، وقد اختلف في هذا الإسم النكرة فقيل: هو تمييز مطلقا وقيل: حال مطلقا: إن كان مشتقا فهو حال، وإن كان جامدًا فهو تمييز، وقال أبو حيان: " المشتق إن أريد تقيد المدح به حال. وغيره وهو الجامد. والمشتق الذي لم يرد به ذلك، بل تبيين حسن المبالغ في مدحه تمييز. ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن يعيش 7/ 139، التصريح 2/ 99 (¬2) الهمع: 2/ 89

حب

مثال الأول ولا يصح دخول (من) عليه (حبذا هند مواصلة) أي في حال مواصلتها. والثاني: وتدخل عليه (من): حبذا زيد راكبا" (¬1). والحق أنه بحسب المعنى، فقد يكون تمييزا وقد يكون حالا، وليس للجمود والإشتقاق دخل في ذلك. تقول: (حبذا الماء باردا) وقيل: (حبذا المال مبذولا بلا سرف) فهذا حال ولا يصح أن يكون تمييزا بحال. وتقول: (حبذا ذهنك سوارًا) و (حبذا قمحك خبزا) و (حبذا تارك رمادا) فالمنصوب ههنا حال وإن كان جامدًا لأن المقصود أن الأمر محبوب في هذه الحال. وتقول: (حبذا أخوك رجلا) و (حبذا هند امرأة) وهذا تمييز، وقد تدخل عليه (من): حبذا أخوك من رجل قال: ياحبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا وقد يحتمل في بعض التعبيرات، الحالية والتمييز، فإن أردت تقييد المدح به فهو حال، وإن لم ترد كان تمييزا وذلك نحو (حبذا أخوك راكبًا) فإذا أردت أن تمدحه في حال ركوبه كان حالا، وإن لم ترد تقييد المدح في حال الركوب، كان تمييزا على معنى (حبذا أخوك من راكب) أي هو راكب جيد، ونحوه (حبذا خالد أبا) فإن أردت مدحه في حال أبوته كان خالا، وإذا أردت أنه أب جيد، أي حبذا هو من أب، كان تمييزا. حب: قد تفرد (حب) عن (ذا) فتقول: حب خالد، وحب الشعر. وهذا من باب تحويل الأفعال إلى (فعُل) بقصد المدح، نحو بلغ، وعظم ويجوز عند ذاك فتح حائها وضمها، فتقول: (حب سعيد) و (حُب سعيد) بفتح الحاء وضمها أما إذا ركبت فلا يجوز فيها إلا الفتح (¬2). ¬

_ (¬1) الهمع 2/ 89 (¬2) انظر شرح ابن يعيش 7/ 141، شرح الرضي على الكافية 2/ 353، التصريح 2/ 100 =

ويجوز جر فاعلها بالباء الزائدة تشبيها بفاعل أفعِل في التعجب، تقول: " حب بفلان أي ما أحبه" (¬1). قال الشاعر: فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها ... وحب بها مقتولة حين تقتل وقال: حب بالزور الذي لا يرى ... منه إلا صفحة أو لمام (¬2). أي أحبب بالزور والخلاصة: إنه إذا أفرد الفعل (حب) من (ذا) جاز فيه فتح حائه وضمها وجاز فيه جر فاعله بالباء الزائدة وعدمه أما إذا ركبت، فلا يجوز فيه إلا فتح الحاء، ولا يجوز جر فاعله بالباء الزائدة. وإن الجر بالباء الزائدة يفيد التعجب، وعدم الجر يحتمل المدح ويحتمل التعجب، كما سبق تقرير ذلك في مكانه. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط / حب / 1/ 50 (¬2) انظر التصريح 2/ 99، شرح الرضي على الكافية 2/ 353

اسم التفضيل

اسم التفضيل يفاضل بين الشيئين أو الأشياء باسم التفضيل الذي يصاغ على وزن (أفعل) بشروط معينة (¬1). نحو (أكرم) و (أحسن) وقد سقطت الهمزة من كلمتي (خير وشر) والأصل: أخير وأشر، قال تعالى: {أنا خير منه} [الأعراف: 12]، وقيل في (أحب) (حب) قليلا. ويدل اسم التفضل على الزيادة في أصل الفعل غالبا (¬2). ولا يخلو المفضل عليه من مشاركة المفضل في المعنى في الغالب، كقولك: (خالد أفضل من عباس) فإن في كليهما فضلا، غير أن خالدًا يزيد فضله على فضل عباس، ومثله قولك (سيبويه أنحى من الكسائي) " فالكسائي مشارك لسيبويه في النحو، وإن كان سيبويه قد زاد عليه في النحو" (¬3). وقد تكون المشاركة تقديرية لا حقيقة، وليس ثمة مشاركة بين المفضل عليه في أصل الوصف كقول القائل، وقد خير بين أن يقتل بالسيف، أو أن يحرق بالنار (لأن أقتل بالسيف أحب إلي من أن أحرق بالنار) وليس في أحدهما استحباب حقيقة، ولكنه اختيار شيء مكروه على شيء أكره إليه، يعني أنه إذا كان لابد من اختيار إحدى التقلتين فتلك أحب إلي أو أقل بغضا إلي. جاء في (الهمع): (والمراد بقولنا ولو تقديرا مشاركته بوجه ما، كقولهم في البغيضين): (هذا أحسن من هذا) وفي الشريرين: (هذا خير من هذا) وفي الصبعبين (هذا أهون من هذا) وفي القبيحين (هذا أحسن من هذا) وفي التنزيل: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} [يوسف: 33]. ¬

_ (¬1) يصاغ اسم التفضيل من كل فعل ثلاثي تام متصرف مثبت مبني للمعلوم ليس الوصف منه على أفعل فعلاء قابل للتفاوت، وهي الشروط التي مرت في صوغ فعل التعجب. (¬2) انظر حاشية الخضري 2/ 46 (¬3) الهمع 2/ 104

وتأويل ذلك: هذا أقل بغضا وأقل شرًا وأهون صعوبة وأقل قبحًا (¬1). قال تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلا} [الفرقان: 24]، وليس ثمة اشتراك في الخير بين المستقرين، فليس عند أصحاب النار خير، بل هو شر محض. ومن هذا القبيل ما يستعمل في التهكم نحو قولك (هو أخطب من الأخرس) و (هو أنطق من الجدار وأعلم من الحمار) فليس ثمة مشاركة بين المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف، ولكنه يراد بذلك التهكم لأنه يعلم أن الصفة منتفية عن المفضل عليه أصلا. جاء في (شرح الكافية) للرضي: " ويقال في التهكم (أنت أعلم من الحمار) فكأنك قلت: أن أمكن أن يكون للحمار علم فأنت مثله مع زيادة، وليس المقصود بيان الزيادة بل الغرض التشريك بينهما في شيء معلوم انتفاؤه عن الحمار" (¬2). وقد يكون التفضيل على وجه آخر، وهو أن تفضل شيئا في كمال اتصافه بصفته على شيء آخر متصف بصفة أخرى، مغايرة لتلك الصفة كقولهم (العسل أحلى من الخل) وليس الخل مشاركًا للعسل في الحلاوة، وإنما المعنى أن اتصاف العسل بالحلاوة أكثر من اتصاف الخل بالحموضة، ومنه قولهم (الصيف أحر من الشتاء) أي أن اتصاف الصيف بالحرارة أشد من اتصاف الشتاء بالبرودة. جاء في (كليات أبي البقاء): " وقد يستعمل (أفعل) لبيان الكمال والزيادة في وصفه الخاص، وإن لم يكن الوصف الذي هو الأصل مشتركا، وعليه قولهم (الصيف احر من الشتاء) أي الصيف أكمل في حرارته من الشتاء في برودته (¬3). ¬

_ (¬1) الهمع 2/ 104 (¬2) شرح الرضي 2/ 239، وانظر الكليات أبي البقاء 39 (¬3) كليات أبي البقاء 39، وانظر الهمع 2/ 104

قالوا وقد يأتي اسم التفضيل لغير قصد المفاضلة، وذلك نحو قوله تعالى: {وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27]، " فإنما تأويله وهو عليه هين لأنه لا يقال: شيء أهون عليه من شيء" (¬1). وأرى أن في هذا مفاضلة أيضا، وذلك لأن الإعادة أسهل من الابتداء، بالنسبة إلى عقولنا، وأن لم يكن شيء أهون من شيء عليه سبحانه غير أن الكلام جاء على سبيل المحاجة فإنهم كانوا يستبعدون البعث حتى قال قائلهم: {من يحي العظام وهي رميم} [يس: 78]، فقال لهم إن الإعادة أسهل من البدء، فهو الذي بدأ الخلق وإعادته أهون وأيسر في حكم العقل، فلماذا تستبعدون البعث بعد الموت؟ قالوا وقد يقصد باسم التفضيل " تجاوز صاحبه وتباعده عن الغير في الفعل، لا بمعنى تفضيله بالنسبة إليه بعد المشاركة في أصل الفعل، بل بمعنى أن صاحبه متباعد في أصل الفعل متزايد إلى كماله فيه على وجه الاختصار فيحصل كمال التفضيل (¬2). وهذا الكلام فيه حق فإن اسم التفضيل قد يستعمل لا لتفضيل شيء على شيء آخر معين، بل قد يراد به مجرد الزيادة في أصل الوصف، وذلك كقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} [الأنعام: 152]، فليس المقصود هنا التفضيل على شيء معين، بل المقصود أن يقربوا مال اليتيم بمزيد الحسن، ومثله قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} [الإسراء: 53]، وقوله: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} [المؤمنون: 96]، وقوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]، فإن المراد من كل ذلك الزيادة في الحسن. ولا يمتنع تقدير مفضل عليه، كأن تقول (وجادلهم بالتي هي أحسن من غيرها) ونحو ذلك، غير أن ما ذكرناه أظهر وأوضح، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 245 (¬2) الكليات 39

ومما جاء في التفضيل قولهم: (هو أعقل من أن يكذب) و (هو أعلم من أن يجهل) و (أنت أكرم على من أن أضربك) و (هو أبخل من أن يجود). وظاهر هذا التعبير مشكل لأننا إذا أولنا أن والفعل بالمصدر، صار الكلام (هو أعقل من الكذب، وأعلم من الجهل، وأكرم من الضرب، وأبخل من الجود)، ولا معنى له، وقد قدر له سيبويه مضافا محذوفا هو (صاحب) فالمعنى عنده (أنت أكرم من صاحب الضرب) و (أنت أحلم من صاحب الجهل). جاء في (كتاب سيبويه): " ومثله في السعة: (أنت أكرم علي من أن أضربك) و (أنت أنكد من أن تتركه) إنما تريد أنت أكرم علي من صاحب الضرب، وأنت أنكد من صاحب تركه، لأن قولك (أن أضربك وأن تتركه) هو الضرب، والترك لأن (أن) اسم (وتتركه وأضربك) من صلته كما تقول: يسؤوني أن أضربك، أي يسؤوني ضربك، وليس يريد أكرم علي من الضرب ولكن أكرم علي من الذي أوقع به الضرب (¬1). وهو بعيد لأن قولك (هو أحلم من صاحب الجهل) أو (أحلم من صاحب جهله) و (أعقل من صاحب الكذب) و (أبخل من صاحب الجود) لا يعطي المعنى المراد كما أنه لا مدح فيه فهو تفضيل على الناقص. وقيل المقصود بالمصدر الوصف فالمقصود بقولك (أنت أكرم علي من أن أضربك) أنت أكرم علي من المضروب، وكذلك: (أنت أحلم من الجاهل) و (أعقل كم الكاذب) و (أبخل من الجواد) وهو تفضيل على الناقص أيضا (¬2). في غير الأخيرة ولا يؤدي المعنى. والمقصود من هذا التعبير بعد المفضل عن الشيء المذكور بسبب وصفه، فقولك (أنت أعقل من أن تكذب) معناه أنت بعيد من الكذب بسبب عقلك، وقولك (أنت أحلم من أن تجهل) معناه أنت بعيد من الجهل بسبب حلمك، و (من) هذه ليست تفضيلية بل ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 109 (¬2) انظر حاشية الصبان 3/ 50

هي لمجرد المجاوزة وأصلها ابتداء الغاية كقولك (خرج من الدار) فإن معناه أنه فارقها وتركها بخروجه وكان ابتداء خروجه منها، وكذلك (هو أعقل من أن يكذب) معناه أنه فارق الكذب بسبب عقله، وفارق الجهل بسبب حلمه، وليس المقصود تفضيل شيء على شيء وإنما جيء بالوصف على صيغة (أفعل) لبيان الزيادة في الوصف. جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأما نحو قولهم: (أنا أكبر من الشعر) و (أنت أعظم من أن تقول كذا) فليس المقصود تفضيل المتكلم على الشعر، والمخاطب على القول بل المراد بعدهما عن الشعر والقول. وأفعل التفضيل يفيد بعد الفاضل من المفضول، وتجاوزه عنه فـ (من) في مثله ليست تفضيلة بل هي مثل ما في قولك (بنت من زيد وانفصلت منه) تعلقت به (أفعل) المستعمل بمعنى متجاوز وبائن بلا تفضيل، فمعني قولك (أنت اعز علي من أن أضربك) أي بائن من أن أضربك من فرط عزتك علي. وإنما ذلك لأن (من) التفضيلة يتعلق بأفعل التفضيل بقريب من هذا المعنى ألا ترى أنك إذا قلت (زيد أفضل من عمرو) فمعناه زد متجاوز في الفضل عن مرتبة عمرو. فـ (من) فيما نحن فيه كالتفضيلية، ألا في معنى التفضيل، ومنه قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه (ولهي بما تعدك من نزول البلاء بحسنك والنقص في قوتك أصدق وأوفى من أن تكذبك أو تغرك) أي هي متجاوزة من فرط صدقها عن الكذب (¬1). ويجوز فيما أرى أن أصله (أنت أعقل من أن تكون شخصا يكذب) و (هم أحلم من أن يكون شخصا يجهل) فحذف ما حذف فصار (أنت أعقل من أن تكذب وهو أحلم من أن يجهل) فيبقى التفضيل على حاله ومعناه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) شرح الرضي على الكافية 2/ 239

تعديه إلى المفعول

تعديه إلى المفعول: إن اسم التفضيل لا يتعدي بنفسه إلى المفعول، بل يتعدى بواسطة حرف الجر، فهو يتعدى إلى المفعول به عمومًا باللام، تقول (هو أطلب للثأر، وأضرب منك لزيد) وأصله يطلب الثأر ويضرب زيدًا، قال تعالى: {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} [الكهف: 12]، وأصله: يحصى ما لبثوا. فإن اكن من فعل دال على علم أو جهل، عدي بالباء، تقول (هو أعرف به وأدري بكم وأجهل به) أي يعرفه ويدريكم ويجهله، قال تعالى: {ربكم أعلم بكم} [الإسراء: 54]، وأصله يعلمكم، وهذه الباء قد تستعمل مع مفعول هذه الأفعال، فأنت تقول (هو يعلم به ويجهل به ويدري به). قال تعالى: {ألم يعلم بأن الله يرى} [العلق: 14]. وإن كان اسم التفضيل من فعل دال على الحب والبغض، عدي باللام إلى ما هو مفعول في المعنى وبـ (إلى) إلى ما هو فاعل في المعنى، تقول: (هم أحب الناس إلى خالد) أي أن خالدًا يحبهم. وتقول: (هم أحب الناس لخالد) أي هم يحبون خالدًا. قال تعالى: {والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165]، أي يحبون الله، ونقول (هم أبغض الناس إلى سعيد) أي أن سعيدًا ببغضهم، وتقول: (هم أبغض الناس لسعيد) أي هم يبغضونه. وإن كان من فعل يتعدى إلى ثنين، عدي إلى أولهما باللام، وترك الثاني منصوبا نحو (هو أكسى الناس للفقراء الثياب). وإن كان من فعل يتعدى بحرف جر عدي اسم التفضيل بذلك الحرف نفسه تقول: (هو أزهد في الدنيا وأسرع إلى الخير) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر شرح الأشموني 3/ 56، شرح الرضي 2/ 244، الهمع 2/ 102

أوجه التفضيل

أوجه التفضيل يستعمل اسم التفضيل على أحد ثلاثة أوجه: 1 - أن يكون مجردًا من (أل) ومن الإضافة، فيكون مفردًا مذكرا، وتتصل به (من) لفظا نحو (محمد أفضل من بكر) أو تقديرًا، نحو قوله تعالى: {أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} [الكهف: 34]، أي منك (¬1). وإذا كان اسم التفصيل يفيد مجرد الزيادة في أصل الوصف لا تفضيل شيء على شيء، لم تقترن به (من) كما سبق ذكره. 2 - أن يكون مضافا وهو على ضربين: أ - أن يكون مضافا إلى نكرة، فيلزم الأفراد والتذكير، نحو: (محمد أفضل رجل) و (عائشة أفضل امرأة) ويلزم المضاف إليه أن يطابق الموصوف، نحو (المحمدان أفضل رجلين) و (المحمدون أفضل رجال) و (الهندات أفضل نسوة). ب - أن يكون مضافا إلى معرفة، وتجوز فيه المطابقة وعدمها، نحو: (هند أفضل النساء أو فضلى النساء) و (المحمدان أفضل الرجال أو أفضلا الرجال) - قال تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} [البقرة: 96]، فأفرد. وقال: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} [الأنعام: 123]، فطابق. وثمة فرق بين المطابقة والأفراد، فإن الأفراد يقصد به التفضيل تنصيصا، وأما المطابقة فهي تحتمل أن المراد باسم التفضيل مجرد الزيادة في الوصف وتحتمل التفضيل أيضا كما تحتمل أن المقصود به الذات لا الوصف، قال تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس عل حياة} [البقرة 96]، وقال: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين أمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 82]، وقال: {أولئك هم خير البرية} [البينة: 7]، وقال: {أولئك هم شر البرية} [البينة: 6]، فأفرد في كل ذلك والمقصود به التفضيل نصا. ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن عقيل 2/ 46 - 47، شرح ابن عقيل 6/ 96 - 97

وقال: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} [الأنعام: 123]، وقال: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} [هود: 27]، فطابق، وقد يقصد بذلك التفضيل وقد يقصد به الأشخاص الموصوفون بهذه الصفات، أي الذوات بمعنى هذا الصنف من الناس، وقد يكون المقصود به الزيادة في الوصف. فإنك قد تقول مثلا (هذا أحسن العراق) ولا تقصد به التفضيل على العراق، وإنما تقصد هذا هو الأحس الذي في العراق أو الأحسن العائد إلى العراق، فإن قصدت نحو هذا المعنى وجبت المطابقة لأنك لم تقصد به المفاضلة، فتقول: (هؤلاء أحاسن العراق) أي الأحاسن العائدون إلى العراق. فالإفراد يدل على التفضيل نصا وأما المطابقة فهي تحتمل التفضيل وعدمه. جاء في (شرح الأشموني): " وما لمعرفة أضيف ذو وجهين منقولين عن ذي معرفة هما المطابقة وعدمها، هذا إذا نويت بـ (أفعل) معنى (من) أي التفضيل على ما أضيف إليه وحده .. وإن لم تنو بأفعل معنى (من) بأن لم تنويه المفاضلة أصلا، أو تنويها لا على المضاف إليه وحده، بل عليه وعلى كل ما سواه، فهو طبق ما به قرن وجها واحدا كقولهم (الناقص والأشج أعدلا بني مروان) أي عادلاهم، ونحو: (محمد صلى الله عليه وسلم أفضل قريش) أي أفضل الناس من بني قريش، وإضافة هذين النوعين لمجرد التخصيص، ولذلك جازت إضافة (أفعل) فيهما إلى ما ليس هو بعضه، بخلاف المنوي فيه معنى (من) فإنه لا يكون إلا بعض ما أضيف إليه، فلذلك يجوز (يوسف أحسن إخوته) أن قصد الأحسن من بينهم أو قصد حسنهم، ويمتنع إن قصد أحسن منهم" (¬1). ولا يضاف (أفعل) إذا قصد به التفضيل إلى شيء إلا وهو بعضه، كقولك: (خالد أفضل الرجال) فإن خالدًا رجل ولا يصح أن نقول (خالد أفضل النساء)، وتقول: (أبو بكر أفضل بني تميم) أي هو منهم، ولا يصح أن تقول (أبو بكر أفضل بني مخزوم) لأنه ليس منهم بل يجب أن تقول بـ (من) إذا أردت ذلك فتقول: (أبو بكر أفضل من بني مخزوم) و (فاطمة أفضل من كثير من الرجال)، فإن التفضيل بـ (من) لا يشترط أن يكون المفضل من جنس المفضل عليه. ¬

_ (¬1) شرح الأشموني 3/ 48 - 49، وانظر التصريح 2/ 105

جاء في (المقتضب): " ولا يضاف (أفعل) إلى شيء إلا وهو بعضه، كقولك: (الخليفة أفضل بني هاشم)، ولو قلت الخليفة أفضل بني تميم كان محالا، لأنه ليس منهم .. وكذلك تقول (الخليفة أفضل من بني تميم) لأن (من) دخلت للتفضيل وأخراجتهم من الإضافة" (¬1). وقد تقول: ما الفرق بين قولك: (محمد أفضل رجل)، و (محمد أفضل الرجال).؟ والجواب أن قولك (محمد أفضل الرجال) يقصد به تفضيل محمد على جميع الرجال، أي هو الرجال الذي لا أفضل منه. وأما قولك (محمد أفضل رجل) فمعناه أن محمدًا فيه صفات الرجل الأفضل، أي إنك إذا عرفت كيف يكون الرجل الفاضل في أعلى صفاته، وفضله، فذلك الرجل الفاضل جدًا هو محمد. جاء في كتاب (التطور النحوي): " فإضافة الوصف إلى مفرد منك كـ (أفضل رجل) خاصة بالعربية فنكروا المضاف إليه بدل تعريفه، فأشاروا بذلك إلى أن الرجل ليس بالأفضل الذي لا أفضل منه بين الرجال البتة، بل واحد من الأفاضل، وأفردوا المضاف إليه بدل جمعه، لأنهم لو قالوا (أفضل الرجال) لكان المعنى: الأفضل الذي لا أفضل منه بين بعض الناس، وهذا غير المراد، فالإضافة في (أفضل رجل) قريبة منها في (مدينة بغداد) ومثلها أي تبيينية فكما أن (مدينة بغداد) معناها المدينة التي هي بغداد فكذلك (أفضل رجل) معناها فضل كثير الفضل هو رجل. والإضافة في (أفضل الرجال) تخالف تلك، فهي إضافة البعض إلى الكل، فينتج من الفرق في طبيعة الإضافة بين العبارتين فرق في المعنى، زائد على ما ينتج من تنكير الرجل وإفراده في (أفضل رجل)، وذلك أن معنى (أفضل رجل) لا يكاد يزيد على: رجل فاضل جدًا" (¬2). ¬

_ (¬1) المقتضب 3/ 38، وانظر شرح ابن يعيش 6/ 96 (¬2) التطور النحوي 101

النداء

3 - أن يكون معرفا بـ (أل)، وتلزم فيه المطابقة، ولا تذكر معه (من) التفضيلية تقول: (محمد الأفضل) و (خديجة الفضلى). وهذه الصفة تستلزم أن يكون الموصوف بها في أعلى درجات المفاضلة، قال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139]، وقال: {ولله الأسماء الحسنى} [الأعراف: 180]، وقال: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} [التوبة: 40]، وقال: {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60]، وقال: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} [الكهف: 103]، وقال: {لا تخف إنك أنت الأعلى} [طه: 68]، وقال: {فأولئك لهم الدرجات العلى} [طه: 75]، وقال: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 16]. فالتفضيل بـ (أل) هو أعلى وأعم درجات المفاضلة. النداء المنادى هو المطلوب إقباله بحرف نداء ظاهر أو مقدر (¬1). وحروف النداء هي: يا، وأي، وهيا، وآ، وأي، والهمزة، وذلك نحو قوله تعالى: {يآدم أنبئهم بأسمائهم} [البقرة: 33]، وقول الشاعر: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تحزن على ابن طريف وقوله: فقلت: هيا رباه ضيف ولا قري ... بحقك لا تحرمه تا الليلة اللحما ¬

_ (¬1) المنادي عند النحاة هو المطلوب إقباله بحرف نائب مناب ادعو لفظا أو تقديرا شرح الرضي على الكافية 1/ 141

وقوله: أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملى وأشهرهن (يا) ولم يرد من حروف النداء في القرآن الكريم غيرها. وأما، أيا، وهيا، فها ليسا إلا (يا) مسبوقة بالهمزة أو بالهاء. وقد ذهب قسم من النحاة إلى أن ما عدا الهمزة من أحرف النداء، وهي: يا، وأيا، وهيا، وآ، وأي. تكون لنداء البعيد، أو من هو بمنزلته، وأما الهمزة فللقريب. جاء في (الكتاب): " إلا أن الأربعة غير الألف (¬1). قد يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخي عنهم، أو للإنسان المعرض عنهم، الذي يرون أنه لا يقبل عليهم إلا باجتهاد أو النائم المستثقل. وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف، ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها (¬2). وذهب آخرون إلى أن: يا، وأيا، وهيا للبعيد، ومن هو بمنزلته وأي والهمزة للقريب (¬3). وقيل إن: أيا وهيا = للبعيد، وأي والهمزة = للقريب، ويا لهما، ، وقيل إن أي للمتوسط. (¬4). والحق أن أي لا تكون للبعيد، لأن البعيد يحتاج إلى مد الصوت لندائه وأي ليس فيها مد بخلاف يا وأخواتها. ¬

_ (¬1) لم يذكر سيبويه الألف الممدود آوقد ذكرها ابن مالك، انظر شرح ابن عقيل 2/ 71 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 325، وانظر شرح ابن عقيل 2/ 71 (¬3) المفصل 2/ 302 (¬4) شرح الأشموني 3/ 134

حذف حرف النداء

جاء في (شرح ابن يعيش): " وأي والهمزة تستعملان إذا كان صاحبك قريبًا، وإنما كان كذلك من قبل أن البعيد والمتراخي والنائم والمستثقل والساهي يفتقر في دعائهم إلى رفع صوت ومده، وهذه الأحرف الثلاثة التي هي يا وأيا وهيا، أواخرهن ألفات والألف ملازمة للمد، فاستعملت في دعائهم لا مكان امتداد الصوت، ورفعه وليست الياء هنا في (أي) كذلك، لأنها ليست مدة، والهمزة ليست من حروف المد، فاستعملت للقريب (¬1). وقد ينادي القريب بما هو للبعيد، كقولك (يا أخي) مع أنه قريب منك قال تعالى: {قالوا يآبانا ما لك لا تأمنا على يوسف} [يوسف: 12] وقال: {يا صاحبي السجن} [يوسف: 39]. حذف حرف النداء: يجوز حذف حرف النداء، نحو قوله تعالى: {يوسف أعرض عن هذا} [يوسف: 29]، وقوله: {اعملوا آل داود شكرا} [سبأ: 13]، ويلزم ذكر حرف النداء مع (الله) ومع اسم الجنس، سواء كان نكرة مقصودة، أم غير مقصودة، واسم الإشارة، فإذا ناديت (الله) قلت: يا الله، وكذا اسم الجنس، واسم الإشارة، نحو (يا رجل) و (يا هذا) وليس لك أن تحذف حرف النداء، وشذ (أصبح ليل) أي ياليل (افتد مختوق) أي يا مخنوق و (أطرق كرا) أي يا كروان، ويلزم الحرف في الاستغاثة والتعجب والندبه (¬2). نحو يالخالد، ويا للهول، ووامحمداه. ويبدو أن للحذف اغراضا، وخصوصا في الكلام الفني ومن ذلك: 1 - الحذف للعجلة، والإسراع بقصد الفراغ من الكلام بسرعة، نحو قولك (خالد احذر) وكقولك (أحمد أحمد انتبه) ¬

_ (¬1) شرح ابن يعيش 8/ 111 (¬2) انظر شرح الرضي على الكافية 1/ 172، شرح الأشموني 3/ 135

2 - وقد يكون الحذف للإيجاز، وذلك لأن المقام قد يكون مقام إيجاز واختصار، لا مقام تبسط وإطالةن وذلك نحو قوله تعالى في سورة الأعراف: {قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} [الأعراف: 150]، فحذف حرف النداء (يا) من المنادى (ابن أم) في حين قال في سورة طه. {قال يابنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} [طه: 94]، بذكر (يا). والسبب والله أعلم، أن السياق في سورة الأعراف سياق إيجاز واختصار، بخلاف آيات طه وإليك كلا من السياقين: قال تعالى في سورة الأعراف: {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن آدم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} [الأعراف: 150 - 151]. وقوله في سورة طه: {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد ام أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري} [طه: 86 - 87]. ثم ذكر موقف هارون: {ولقد قال لهم هارون من قبل يا يقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري} [طه: 90]، ثم توجه باللوم إلى هارون: {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري} [طه: 92 - 93]. فأجابه هارون: {قال يابنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بيني إسرائيل ولم ترقب قولي} [طه: 94]، ويستمر الكلام. فالكلام في سورة الأعراف كان مختصرا موجزا، وكان الموقف موقف عجلة واسراع ولا نقول موقف تسرع، فقد جاء موسى غضبان آسفان والقي الألواح وأخذ برأس أخيه

يجره إليه من دون سؤال، أو استفهام فحذف (يا) النداء تمشيا مع هذا الحذف والاختصار. وأما في سورة طه، فالسياق سياق إطالة وسؤال، وأخذ ورد، ولوم، فجاء بـ (يا) وكأن هارون في الآية الأولى أراد الإسراع في تبيين الأمر لموسى، إذ لا مجال للإطالة وقد أخذ موسى برأسه يجره إليه، فحذف (يا) حتى أن القرآن لم يذكر هنا قول هارون (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) تمشيا مع الإيجاز في الكلام، وهو المناسب لموقف العجلة التي اتسم بها السياق. وأما في آيات طه فالسياق سياق إطالة وتبسط في الكلام، فقد جاء موسى غضبان آسفا وسأل قومه موبخا لهم على فعلتهم قائلا: يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا. فأجابوه قائلين: (ما اخلفنا موعدك بملكنا، ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقدفناها .. ) ثم ذكر موقف هارون منهم، فقال: (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به .. وجواب قومه له: (قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى). ثم توجه بالسؤال واللوم إلى هارون: (قال يا هارون ما منعك إذ رايتهم ضلوا ألا تتبعن؟ .. ) فأجابه هارون موضحا له الأمر: (قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي .. ) فجاء بـ (يا) متوددًا محاولا كسر حدة غضبه. فحذف (يا) من آية الأعراف هو المناسب لسياق الإيجاز والعجلة، وذكرها في سورة طه، هو المناسب لسياق التبسط في الكلام والإيضاح والتبيين. ومن الحذف للإختصار قوله تعالى: {يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك} [يوسف: 29]، فقد أرادوا ستر المسألة والكف عن الخوض فيها، فقالوا ذلك بأخصر طريق، حتى أنهم لم يذكروا حرف النداء، فحذف حرف النداء، تمشيا مع هذا الاختصار والتستر. 4

اللهم

- قد يكون ذكر (يا) للزيادة في التنبيه وللزيادة في التقريع وذلك نحو قوله تعالى: {قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض} [الأعراف: 158]، وقوله: {يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} [الحج: 1]، وقوله: {يأيها الناس ضرب مثل فاستعمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا زبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} [الحج: 73]، وقوله: {يآيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك} [الانفطار: 6 - 7]، بخلاف قوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا} [النساء: 133]، ففي الآيات الأولى من الزيادة في التنبيه ومد الصوت للإسماع ما ليس في الأخيرة وهو واضح. 4 - قد يكون الحذف لقرب المنادى من المنادى، سواء كان القرب حقيقا ماديا، أم معنويا فكأن المنادي لقربه لا يحتاج إلى واسطة لندائه، ولو كان حرف نداء كأن تقول لمن تناديه وهو قريب منك: (خالد أتدري ماذا حل بفلان)؟ ونحو قوله تعالى: {رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود: 73]، وقوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33]، وقوله: {اعملوا آل داود شكرا} [سبأ: 13]، فهذا للقرب المعنوي، بخلاف قوله تعالى: {يأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم} [آل عمران: 65]. اللهم: نداء لله تعالى ولا يذكر معه (يا)، قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك} [آل عمران: 26]. وعند البصريين أن أصله (يا الله)، والميم بدل من (يا) بدليل أنك لو أسقطت الميم لوجب ذكر (يا) فتقول: (يا الله).

وعند الكوفيين أن الميم مقتطعة من جملة (أمنا بخير) (¬1). وقد دلت الدراسات الحديثة على أن أصلها عبرى، هو (ألوهيم)، ومعناها (الآلهة) وهم يريدون به الواحد وإنما جعلوه للتعظيم. وقد تخرج اللهم عن النداء فيستعمل في وجهين آخرين: أحدهما: أن يذكرها المجيب تمكينا للجواب في نفس السامع، يقول لك (أزيد قائم) فتقول: (اللهم نعم)، أو (اللهم لا). الثاني: أن تستعمل دليلا على الندوة، وقلة وقوع المذكور كقولك: (أنا لا أزورك اللهم إلا أن تدعوني) ألا ترى أن وقوع الزيادة مقرونة بتقدم الدعاء قليل؟ (¬2). والظاهر في هذا ونحوه أن أصله نداء ثم انمحى عنه معنى النداء، وذلك أن قولك لمن قال لك (أزيد قائم)؟ (اللهم نعم) هو إشهاد لله على جوابك فكأنك قلت: يا الله أشهد على ما أقول: وهذا الإشهاد تمكين للجواب في نفس السامع، وكذلك ما بعده وهو كونها دليلا على الندرة، نحو قولك (أنا لا أزورك، اللهم إلا ان تزورني) فهذا إشهاد لك على قولك كالأولى، وأما الندرة فهي مفهومة من العبارة، ولو لم تذكر (اللهم)، والمعنى على النداء، ويدلك على ذلك أننا في الدارجة نستعمل (يارب) في نحو هذا فتقول مثلا (أنا لا أذهب إليه يارب إلا إذا جاء واعتذر إلي) وهذا نداء كما ترى غير أنه انمحى منه الاحساس بالنداء في التعبير. ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 310، شرح الرضي على الكافية 1/ 157، الهمع 1/ 178، التصريح 2/ 172 (¬2) التصريح 2/ 172، وانظر شرح الأشموني 3/ 147

المنادى

المنادى المنادى إذا كان مفردًا معرفة بني على ما يرفع به، نحو يا خالد ويا رجل بلا تنوين. ويدخل في المفرد المعرفة العلم المفرد، والنكرة المقصودة، نحو (يا رجل) وذلك لأنك تقصد به واحدًا بعينه، وغيرهما (يا هذا). ومن المعلوم أن المراد بالمفرد هنا ما ليس مضافا، ولا شبيها بالمضاف، فيدخل فيه المثنى والجمع، فقولك (يا رجلان) و (يا رجالُ) منادى مفرد. وإذا كان مضافا أو شبيها بالمضاف أو كان نكرة غير مقصودة فهو منصوب، فالمضاف نحو يا عبد الله وبائع الصحف. والشبيه بالمضاف هو ما اتصل به شيء من تمام معناه، بعمل أو عطف قبل النداء. والعمل أما رفع أو نصب، أو جر بالحرف، فالرفع نحو (يا حسنا) وجهه و(يا مضروبًا أخوه). والنصب نحو (يا مهينا أباه) (يا سائرا فوق الخشبة). والجر نحو (يا مارًا بخالد) (يا رؤوفا بالعباد). والعطف قبل النداء نحو (ثلاثة وثلاثين) فيمن سميته بذلك قبل النداء، وذلك نحو أن تضع أرقامًا للأفراد فتناديهم بأرقامهم: يا خمسة، يا ستة، يا سبعة عشر، يا ثلاثة وثلاثين، فهذا يجب نصبه للطول: " وإن ناديت جماعة هذه العدة عدتها، فلا يخلو أما أن تكون معينة أولا، فإن كنت غير معينة نصبتها أيضا، أما الأول فلأنه اسم نكرة غير مقصودة، وأما الثاني فلأنه معطوف على منصوب، وإن كانت معينة ضممت الأول لأنه نكرة مقصودة، معرفة بالقصد، والإقبال، وعرفت الثاني بـ (أل) ونصبته، أو رفعته بالعطف على المحل أو اللفظ، كما في قولك: (يا زيد والضحاك) (¬1). ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 167 - 168

وكذا إذا ناديت رجلا وامرأة، فإن كانا نكرتين غير مقصودتين قلت: (يا رجلا وامرأة) بنصبهما، وإن كانا مقصودين، قلت: (يا رجل والمرأة) بضم الرجل، ورفع المرأة ونصبها وتعريفها بـ (أل) وقيل يجوز (يا رجل وامرأة) (¬1). والنكرة غير المقصودة، نحو قولك (يا غافلا والموت يطلبه أفق، وكقول الأعمى: (يا مارا خذ بيدي) ولايقصد به واحدًا بعينه. فالفرق بين النكرة المقصودة، وغير المقصودة أن المنادى في الأولى معين، وفي الثانية غير معين. ويتبن من هذا. 1 - أن المنادى المضموم معرفة دوما نحو قولك (يا رجلُ) و (يا قائم) (يا خالدُ) جاء في (كتاب سيبويه): " إن كل اسم في النداء مرفوع معرفة، وذلك أنه إذا قال يا رجل ويا فاسق فمعناه كمعنى يا أيها الفاسق ويا أيها الرجل" (¬2). وقد حذف منه التنوين للدلالة على التعريف جاء في (الكتاب): " ومما يقوى أنه معرفة تركُ التنوين فيه" (¬3). وقالوا إن سبب بنائه على الضم أنه لو بني على الكسر لالتبس بالمنادى المضاف إلى ياء المتكلم، عند حذف يائه اكتفاء بالكسرة، فإذا قلت (يا غلام) دل ذلك على أنه مضاف إلى ياء المتكلم بمعنى يا غلامي، قال تعالى: {قال رب ارجعون} [المؤمنون: 99]. ولا بني على الفتح لالتبس به عند حذف الفه اكتفاء بالفتحة (¬4). فقولك (يا غلام) معناه (يا غلامي)، قال تعالى: {يبنؤم لاتأخذ بلحيتي ولا برأسي} [طه: 94]، اي: (يابن أمي). ¬

_ (¬1) انظر حاشية الصبان 3/ 141 (¬2) كتاب سيبويه 1/ 310 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 311 (¬4) حاشية الصبان 3/ 137، وانظر حاشية الخضري 2/ 72

نداء المعرف بـ (آل)

وسواء كان هذا اختيارا مقصودًا من العرب الأوائل، أم لا فإنه لا شك أن معنى الضم غير معنى النصب والكسر. 2 - أن المنادى النكرة منصوب، نحو (يا رجلا) (يا مارا). جاء في (الكتاب): " وقال الخليل، إذا أردت النكرة فوصفت، أو لم تصف فهذه منصوبة" (¬1). 3 - المنادى المضاف، والشبيه بالمضاف، منصوب نحو (يا عبد الله) (يا طيبًا أصله) وعلى هذا فقولك: 1 - يا غلامُ - هو نداء لغلام معين. 2 - يا غلامِ - هو نداء لغلامك بمعنى يا غلامي. 3 - يا غلامَ - هو نداء لغلاك بمعنى يا غلامي. 4 - يا علامًا - نداء لأي غلام كان أي نكرة غير مقصودة. 5 - يا غلامَ محمد- نداء لغلام محمد. نداء المعرف بـ (آل): يتوصل إلى نداء المعرف بـ (أل) بـ (أي) ويؤتي بالمنادى مرفوعا، فيقال (يا أيها الرجل) قال تعالى: {يأيها النبي حسبك الله} [الأنفال: 64]، وقال: {قال يأيها الكافرون} [الكافرون: 1]، فالنبي في الحقيقة هو المنادى وليس (أيا)، وكذلك ما بعده وإنما جيء بـ (أي) توصلا لنداء ما فيه (أل). وقد ذهب النحاة إلى أن معنى المنادى المعرف بـ (أل) والنكرة المقصودة واحد لأنهما معرفة فقولك (يارجل) كقولك (يا أيها الرجل). ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 311 - 313

قال سيبويه: " إذا قال يا رجل، ويا فاسق، فمعناه كمعنى، يا أيها الفاسق، ويا أيها الرجل" (¬1). والحقيقة أنه ليس معناهما واحدًا، فإن المنادى في قولك (يا رجل) نكرة في الأصل فقصدته بندائك له، وأما المعرف بـ (أل) فهو معرفة، قبل قصده بالنداء، فـ (أل) هذه قد تكون (أل) الجنسية، أو العهدية. فثمة فرق بين قولك (يانبي)، و (يا أيها النبي) و (يا رسول) و (يا أيها الرسول) و (يا ملك) و (يا أيها الملك). فـ (نبي) نكرة في الأصل، ثم قصدته بالنداء، وكذلك (رسول)، و (ملك)، وأما (النبي) في (يا أيها النبي) فمعرفة وهو معين قبل ندائه فناديت هذه المعرفة. ومن هذا الباب قوله تعالى: {يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6]، فالذي نزل عليه الذكر معرفة قبل ندائه. أن الفرق بين هذين المناديين، كالفرق بين قولك (يا رجل)، و (يا خالد) فرجل نكرة قبل ندائه، وقد قصدته بالنداء، وأما (خالد) فهو معرفة قبل ندائه، فناديته. وقد يؤتى بـ (أي) للتعظيم، نحو: (يا أيها الملك) (يا أيها العزيز) بخلاف ما لو قلت (يا ملك) (يا عزيز) فإنه ليس في هذا تعظيم. جاء في (تفسير الرازي): " قول القائل (يا رجل) يدل على النداء، وقوله (يا أيها الرجل) يدل على ذلك أيضا، وينبي عن خطر المنادى له، أو غفلة المنادى" (¬2). وقد يتوصل إلى نداء المعرف بـ (ال) باسم الإشارة أيضا، نحو (يا هذا الرجل) و (يا هذه المرأة) فيكون في الرجل والمرأة الرفع فحسب. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 310 (¬2) التفسير الكبير 25/ 189

ويصح في نحو هذا أن تنادي اسم الإشارة، وتجعل ما بعده تابعًا له، فيكون فيه الرفع والنصب. والخلاصة أن المعرف بـ (أل) أما أن يتوصل إلى ندائه بـ (اي)، وأما أن يتوصل إلى ندائه باسم الإشارة، فيقال (يا أيها الرجل) و (يا هذا الرجل) ويكون فيه الرفع فحسب في الحالتين. غير أن يصح أن تنادي اسم الإشارة مفردًا أو متبوعًا، بتابع فتقول (يا هذا) و (يا هذا الرجل) و (يا هذه) و (يا هذه المرأة) و (يا هؤلاء) (يا هؤلاء الرجال) فيكون ما بعده تابعًا له فيه الرفع والنصب (¬1). في حين أنه لا يصح الاكتفاء بنداء (أي)، فلا يقال: (يا اي) ولا (يا أيها). فقولك (يا أيها الرجل) هو نص في نداء الرجل، وأما قولك (يا هذا الرجل) فهو يحتمل نداء اسم الإشارة. ومن هذا يتضح أن الفرق بين نداء (أي) واسم الإشارة، من أوجه أهمها: 1 - أنه لا يجوز الاكتفاء بـ (أي)، ويجوز الاكتفاء باسم الإشارة، فلا تقول (يا أيها) ويصح أن تقول: (يا هذا). 2 - أن قولك (يا أيها الرجل) هو نص في نداء الرجل، وأما قولك (يا هذا الرجل) ففيه احتمالان: نداء اسم الإشارة ونداء المعرف بـ (أل). 3 - أنه لا يجوز غير الرفع في تابع (أي) ويجوز الرفع والنصب في تابع اسم الإشارة. 4 - إن قولك (يا هذا الرجل) - بنصب الرجل - نص في نداء اسم الإشارة. 5 - إن في النداء - بـ (أي) من التعظيم ما ليس في الإشارة، ففي قولك (يا أيها الملك) من التعظيم ما ليس في قولك (يا هذا الملك) والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 306 - 307، شرح ابن يعيش 2/ 7 - 8، التصريح 2/ 174 - 175، شرح الأشموني 3/ 150 - 153

المنادى المضاف إلى ياء المتكلم

المنادى المضاف إلى ياء المتكلم فيه لغات، أجودها حذف الياء، والاكتفاء بالكسرة، نحو قوله تعالى: {رب ابن لي عندك بيتا في الجنة} [التحريم: 11]. والثانية: أثبات الياء نحو (يا أخي) و (يا صديقي). والثالثة: أن تفتح الياء نحو (يا غلامي) قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53]، وقد تقلب الياء ألفا نحو (يا غلاما). وهناك لغة أخرى، وهي حذف الألف، والاكتفاء بالفتحة نحو (يا غلامَ)، وبهذا تكون اللغات في نداء المضاف إلى ياء المتكلم على النحو الآتي: 1 - يا غلامِ 2 - يا غلامي. 3 - يا غلامي 4 - يا غلاما. 5 - يا غلامَ. ولما كانت هذه لغات، لم يكن الاختلاف فيها لأمر يتعلق بالمعنى، فمن العرب من يقول: (يا غلامِ)، وهي أشهر اللغات، ومنهم من يقول: (يا غلامي)، وهكذا (¬1). تابع المنادى وأحواله قائمة على اختلاف اللغات أيضا، فمن العرب من يقول مثلا (يا أخانا خالدًا) ومنهم من يقول (يا أخانا خالد)، ومنهم من يقول (يا خالد والنضر) ومنه من يقول (يا خالد والنضر) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 316 - 317، شرح ابن يعيش 2/ 11 (¬2) انظر كتاب سيبويه 1/ 304، 1/ 305

وهذا لا يتعلق به اختلاف معنى، لأنه أمر يقوم على اختلاف اللغات، وهو نظير قول الحجازيين (ما محمد حاضرا) وقول التميميين (ما محمد حاضرٌ) لا يتعلق باختلاف الحركة اختلاف معنى. غير أن الاختلاف يكون تابعا للمعنى، إذا كان الأمر متعلقا بالتنكير والتعريف، نحو (يا خالد ورجلا) و (يا خالد ورجلُ) فـ (رجلا) المنصوبة نكرة (ورجل) بالضم معرفة. (¬1). وقد ذكرنا في المشبه بالمضاف أنه إذا عطف على المنادى نكرة مقصودة، وجب تعريفه بـ (ال) فتقول (يا رجل والمرأة) وأجاز بعضهم (يا رجل وامرأة). ويبدو لي أن كليهما جائز، وأن المعنى مختلف بين إدخال (أل) وحذفها، وذلك أن المعرف بـ (أل) هو معرفة قبل دخول (يا) عليه فناديته، وأما النكرة المقصودة فهو نكرة غير أنك عرفته بالقصد، وقد مر تبين ذلك بما فيه الكفاية. وعلى هذا يصح أن نقول: 1 - يا رجل وامرأة - فيكون الرجل معرفا بالقصد وتكون المرأة نكرة. 2 - يا رجلا وامرأة - المنادى نكرة غير مقصودة، والمعطوف معرف بالقصد. 3 - يا رجلا وامرأة - كلاهما نكرة غير مقصودة. 4 - يا رجل وامرأة - كلاهما معرف بالقصد. 5 - يا رجل والمرأة - الأول معرف بالقصد، والثاني معرف قبل دخول حرف النداء عليه، وأما حركة المعطوف المعرف بـ (ال) ففيها لغتان: الرفع والنصب ولا ينبني عليهما اختلاف في المعنى. ¬

_ (¬1) انظر شرح الرضي على الكافية 1/ 146

الترخيم

الترخيم وفيه لغتان (¬1): لغة من ينتظر، ولغة من لاينتظر، فتقول (يا أحمَ) في نداء (أحمد) على لغة من ينتظر، و (يا أحمُ) على لغة من لا ينتظر، ولا يتعلق بذلك أثر في المعنى لأنهما لغتان، واللغة الأولى أكثر استعمالا (¬2). أما الغرض من الترخيم: 1 - فقد يكون للفراغ من النداء بسرعة، للإفضاء إلى المقصود وهو المنادى له، جاء في (شرح الرضي على الكافية): " الترخيم في المنادى دون غيره لكثرته ولكون المقصود في النداء هو المنادى له فقصد بسرعة الفراغ من النداء الأفضاء إلى المقصود بحذف آخره اعتباطًا" (¬3). 2 - إظهار أن المتكلم عاجز عن إتمام بقية المنادى لضعفه، عن ذلك بمرض، أو نحوه فيقول مثلا (يا خال) مناديا (خالدًا)، كأنه لا يستطيع اتمام بقية الاسم، وهذا يحصل كثيرا في حياتنا اليومية، فأننا نسمع المريض أحيانا ينادي أبنه او أخاه، أو صديقه فلا يتم اسمه كأنه يعجز عن ذلك. 3 - قد تقتضي الضرورة الشعرية هذا الحذف ليستقيم الوزن كقوله: أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزير أخاك بشرا وقوله: أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل ¬

_ (¬1) انظر كتاب سيبويه 1/ 329 - 333، شرح ابن يعيش 2/ 21، الهمع 1/ 184، التصريح 2/ 188 (¬2) انظر الهمع 1/ 184، التصريح 2/ 188 (¬3) شرح الرضي على الكافية 1/ 160

الاستغاثة

الاستغاثة الاستغاثة هي نداء من يخلص من شدة، أو يعين على مشقة (¬1). والغالب في نداء المستغاث أن يجر مفتوحة وجوبًا، نحو (يا لخالد) إذا دعوته ليعينك، وغير الغالب أن يحذف حرف الجر، ويؤتى في آخر المستغاث بألف نحو (يا خالداه). وعناصر الاستغاثة هي: 1 - المستغاث: ويسمى أيضا المستغاث به، نحو (يا لله) وقد ذكرنا أنه يجر بلام مفتوحة إلا إذا كان المستغاث ياء المتكلم، فإنه يجر باللام المكسورة، نحو (يالي)، وكذا إذا كان معطوفا ولم تعد معه (يا) فإن أعدت (يا) وجب فتح اللام، تقول (يا لخالد ولسعيد) بفتح اللام في خالد وكسرها في سعيد، فإن كررت (يا) فتحت اللام الداخلة على سعيد أيضا فتقول (يا لخالد ويا لسعيد). 2 - المستغاث له: ويجر بلام مكسورة، فتقول (يالله للمسلمين)، و (يا لمحمد لسعيد) فـ (محمد) مستغاث به، وسعيد مستغاث له (¬2). وإذا قلت يا لمحمد بكسر اللام علم أنه مستغاث (¬3) له، وليس مستغاثا به. قال سيبويه: " هذا باب ما تكون فيه اللام مكسورة لأنه مدعو له ههنا وهو غير مدعو)، وذلك قول بعض العرب: يا للعجب ويا للماء، وكأنه نبه بقوله (يا) غير الماء للماء" (¬4). ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 180 (¬2) انظر كتاب سيبويه 1/ 391 - 321، التصريح 2/ 180 - 181، شرح الأشموني 3/ 165، شرح ابن يعيش 1/ 131 (¬3) انظر شرح ابن يعيش 1/ 131 (¬4) كتاب سيبويه 1/ 320

3 - المستغاث (¬1): منه وهو المستنصر عليه، ويجر بـ (من) (¬2)، فتقول: (يا لَمحمد من خالد) إذا استنصرت بمحمد على خالد، وتقول: (يا لِمحمد من خالد) بكسر اللام إذا دعوت لنصرة محمد من خالد، وتقول: (يا لمحمد لِسالم من خالد) إذا استغثت بمحمد لأن ينصر سالما من خالد، وتقول: (يا الله من ألم الفراق)، و (يا لِي من النوى) للمعنى نفسه. 4 - المنادى المهدد يجر باللام المفتوحة، نحو قولك (يا لزيد لأقتلنك) فأنت تهدده وتتوعده. وقال سيبويه في قول الشاعر: يا لبكر انشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار " فاستغاث بهم لأن ينشروا له كليبًا، وهذا منه وعيد وتهدد، وأما قوله: (يا لبكر أين أين الفرار) فإنما أستغاث بهم، لهم، أي لم تفرون استطالة عليهم ووعيدًا" (¬3). وجاء في (شرح الرض على الكافية): " وقد تدخل اللام المفتوحة على المنادى المهدد نحو (يا لزيد لأقتلنك) قال مهلهل: يا لبكر أنشروا لي كليبًا ... يا لبكر أين أين الفرار وقولهم إن هذه لام الاستغاثة كأنه استغاث بهم لنشر كليب، وأستغاث بهم للفرار تكلف، ولا معنى للإستغاثة ههنا حقيقة ولا مجازًا" (¬4). ¬

_ (¬1) يسمي النحاة المستغاث من: المستغاث من اجله والمستغاث له، وآثرت هذه التسمية لأنها أدل على المعنى لوأظهر. انظر شرح الأشموني 3/ 165، شرح الرضي على الكافية 1/ 144 (¬2) انظر شرح الرضي على الكافية 1/ 144، شرح الأشموني 3/ 165، حاشية الصبان 3/ 165 (¬3) كتاب سيبويه 1/ 318 - 319 (¬4) شرح الرضي على الكافية 1/ 144

التعجب بإسلوب الإستغاثة

5 - يجوز أن تحذف لام الجر من المستغاث، ويختم حينئذ بالألف، فتقول: (يا محمد اه) أي (يا لمحمد)، و (يا عجبا) أي (يا للعجب). جاء في (الكتاب): وزعم الخليل أن هذه اللام بدل من الزيادة التي تكون في آخر الاسم إذا أضفت نحو قولك (يا عجباه) و (يا بكراه) إذا استغثت أو تعجبت، فصار كل واحد منهما يعاقب صاحبه" (¬1). ويبدو أن الاتيان بالألف ينبيء عن استغاثة اقوى وأشد، لما فيها من مد الصوت. فالمستغيث بالألف يمد صوته طالبًا النجدة، فقوله: (يا بكراه) أشد استغاثة من (يا لبكر).وقد أشرنا إلى ذلك في باب التعجب. وقد يؤتي بالألف لكون المستغاث بعيدًا حقيقة، أو تجوزًا فيمد صوته لإسماعه. التعجب بإسلوب الإستغاثة: علمنا في باب التعجب أنه قد يتعجب بأسلوب الاستغاثة فيقال: (يا للماء) (يا للداهية) وعلمنا أيضا أنه قد تحذف اللام ويؤتى في آخر المتعجب منه بالألف فتقول: (يا عجبا) فلا نعيد ما سبق ذكره. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1/ 320، وانظر الهمع 1/ 181، شرح الأشموني 3/ 166

الندبة

الندبة المندوب هو المتفجع عليه، أو المتوجع منه، ويكون مسبوقًا بـ (وا) أو (أيا) فالأول نحو: (وامحمداه) والثاني نحو: (واكبداه) (¬1). وتلحق آخر المندوب ألف، إلا إذا أوقع في لبس، فلك أن تجعل المد مجانسًا لحركة ما قبله نحو (وا أباكيه) و (وا أبا هوه) في ندبة (أبيكِ) و (أبيه). ويصح أيضا أن تعامله معاملة المنادى فلا تمده فتقول (يا عمر)، و (وا محمد) (¬2). غير أن إلحاق ألف الندبة أظهر تفجعًا أو توجعًا لما فيه من مد الصوت. وتندب المعرفة فقط، ولا تندب النكرة، ولا المبهم، فلا يقال: (وا رجلاه) ولا (وا هذاه) (¬3). والحمد لله رب العالمين في البدء والختام ¬

_ (¬1) التصريح 2/ 181، شرح الأشموني 2/ 167 (¬2) انظر كتاب سيبويه 1/ 321، شرح الأشموني 3/ 168 (¬3) انظر كتاب سيبويه 1/ 324، شرح ابن عقيل 2/ 82

§1/1